دروس للشيخ ياسر برهامي

ياسر برهامي

إبراهيم عليه السلام والدعوة إلى الله

إبراهيم عليه السلام والدعوة إلى الله إن إبراهيم عليه السلام أمة وحده، اجتهد وجاهد في الدعوة إلى الله، دعا أباه وقومه إلى طريق النجاة بتوحيد رب الأرض والسماوات، خالطهم وصبر على أذاهم، ثم اعتزلهم وجفاهم بعد أن قذفوه في النار، فنجاه العزيز القهار، ولما تبين له أن باه عدو لله تبرأ منه، فإبراهيم أسوة حسنة لكل من جاء بعده لاسيما الدعاة إلى الله.

جهود إبراهيم عليه السلام في دعوة أبيه إلى الله

جهود إبراهيم عليه السلام في دعوة أبيه إلى الله إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أما بعد: فيقول الله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا * وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} [مريم:41 - 50]. فإذا اتخذت إلى الله سبحانه وتعالى سبيل الأنبياء والدعوة إلى الله عز وجل، فلا بد وأن تكون سائراً بطريقتهم وعلى منهاجهم، ومستعداً لعدم قبول دعوتك؛ فإن القلوب لا يملكها إلا الله، فهذا الخليل إبراهيم عليه السلام استعمل أرفع الأساليب، واستعمل الحجج العقلية، والمؤثرات الوجدانية التي تربط بين الابن وأبيه، وأحسن الأدب مع أبيه، وترفق به أعظم ترفق، وترقق له وأحسن إليه، وأبوه آزر يصد عن ذلك كله، وقلبه مغلق لم ينفتح لأي حجة عقلية، كما في قوله: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم:42]. ولا لوجدانية عاطفية لما قال له: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} [مريم:45]، يذكره برحمة الله، ويخوفه من عقاب الله، يرجيه ويخوفه ومع ذلك لا يتذكر، يخوفه من عاقبة طاعته للشيطان وعبادته له، وألا يقترب منه فيكون له ولياً، وبذلك يشقى الشقاء الذي لا سعادة معه ولا بعده أبداً. إن القلوب بيد الله سبحانه وتعالى يقلبها كيف يشاء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، فأيما قلب يريد أن يقيمه أقامه، وأيما قلب يريد أن يزيغه أزاغه). فليس بالضرورة أن تظهر ثمرة الدعوة في استجابة المدعو مباشرة، ولا حتى بعد حين، ولو كان حتى من الأقربين، فالنور الذي عند إبراهيم عليه السلام يكفي لهداية البشرية، وقد امتد نوره عبر الزمان والمكان، وانتشرت دعوة التوحيد التي جعلها الله عز وجل منسوبة إليه، {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:123] ومع ذلك لم يصل هذا النور إلى قلب أبيه، ولله سبحانه وتعالى الحكمة البالغة في ذلك، وكم من حكمة بالغة في عدم إيمان أبي إبراهيم؛ وذلك ليعلم العباد أن الله عز وجل يهدي من يشاء ويضل من يشاء.

قطع إبراهيم لعلاقات الولاء مع أبيه

قطع إبراهيم لعلاقات الولاء مع أبيه القلوب بيد الله سبحانه وتعالى يصرفها كيف يشاء، وأنه لا ينفع نسب ما لم يكن عمل، (فمن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه)، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وكما قال: (ألا إن آل فلان ليسوا بأوليائي إن وليي الله والملائكة وصالح المؤمنين). وكذلك لتتحقق عقيدة الولاء والبراء اعتقاداً وعملاً وسلوكاً في موقف إبراهيم عليه السلام من البراءة من أبيه في الدنيا والآخرة، كما قال عز وجل: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة:114]. وفي الآخرة يتبرأ منه أيضاً كما ثبت في صحيح مسلم (أن إبراهيم يلقى أباه آزر فيقول: يا أبت ألم أكن أنهك؟ فقال: يا بني إني لا أعصيك اليوم، فيقول إبراهيم: يا رب! إنك وعدتني أن لا تخزني يوم يبعثون، وأي خزي أخزى من أب أبعد، فيقول الله عز وجل: يا إبراهيم إني حرمتها على الكافرين -أي: حرم الجنة على الكافرين- فينظر إليه فإذا هو ذيخ متلطخ -أي: فإذا هو قد مسخ ضبعاً متلطخاً بعذرته- فيؤخذ بقوائمه الأربع فيلقى في جهنم)، فيتبرأ إبراهيم عليه السلام من أبيه في الآخرة كما تبرأ منه في الدنيا، ولقد جعل الله عز وجل صورة أبيه المعذب في صورة ضبع متلطخ بنجاسته حتى لا يتأذى إبراهيم بصورة أبيه الذي يعرفه وهو يعذب في النار، نسأل الله العافية. فالله عز وجل أعلم بالمهتدين، ولقد قدر الله عز وجل أن يوجد في أسر كثير من الأنبياء من لا يؤمن، حتى تتحقق هذه القضية وغيرها من الحكم، فقضى سبحانه وتعالى بحكمته ألا يؤمن ابن نوح رغم أنواع الدعوة التي استعملها معه نوح عليه السلام من الترفق له والدعوة باللين، والتذكير بالبنوة التي تربطه به، وتذكيره بالآخرة، ورؤيته للآيات الباهرة المعجزة الحسية الظاهرة، بالإضافة إلى الأدلة العقلية القاهرة لعقل أي مشرك معاند، ومع ذلك ما آمن ابن نوح وهو أحد أعمام هذه البشرية التي توجد الآن على ظهر الأرض؛ ومع ذلك فالكل يتبرأ منه، بل نوح عليه السلام استغفر ربه من سؤاله عنه. وقدر الله عز وجل أيضاً وجود امرأة نوح وامرأة لوط في أسرتين من أسر أنبياء الله عز وجل، وقدر سبحانه وتعالى ألا يؤمن أبو لهب وأبو طالب عما النبي صلى الله عليه وسلم. وقدر الله عز وجل أن يكون كثير من أقارب أهل الإيمان من الكافرين؛ لتنفصل الروابط الدنيوية وتبقى رابطة الدين، فإن الله سبحانه ما أذن لهم حتى في الاستغفار لذويهم، قال عز وجل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة:113 - 114]، وانفصلت وانقطعت وزالت روابط الأسرة الواحدة وبقي الإحسان. هذه الروابط التي تنفصل هي روابط المودة والموالاة، وهذه إنما تكون على الدين وطاعة الله واتباع أمره، وأما إذا لم يكن هناك هذا الدين الواحد الذي افترض الله على الخلق جميعاً أن يتبعوه؛ فلا بد من العداوة والبغضاء. قال عز وجل: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4].

تهديدات الكافرين للدعاة إلى الله

تهديدات الكافرين للدعاة إلى الله قال سبحانه وتعالى: {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ} [مريم:46]، بعد أن أعرض عن كل الحجج، بل صار منكراً على إبراهيم عليه السلام، اندفع يستنكر عليه: كيف يرغب عن آلهته التي يصنعها، وكان فيما يذكرون ينحت هذه الأصنام لقومه والعياذ بالله. فإبراهيم كان راغباً عن الآلهة التي تعبد من دون الله، والرغبة في الله لا تحصل إلا بالرغبة عن آلهة المشركين، وتوحيد الله عز وجل لا يحصل إلا بالكفر بما يعبد من دون الله والبراءة منه، كما قال عز وجل: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:256]، فلا يبنى الإسلام إلا على أنقاض الجاهلية والشرك، فلا بد أن تهدم هذه الجاهلية وهذه العقائد الفاسدة في النفوس كما تهدم في الواقع؛ ذلك أنه لا تتحقق دعوة التوحيد في قلب إنسان وهو يقر بعبادة غير الله. {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف:26 - 27]، وليس ولوده على ملة أخرى بمقتضٍ لصحة منهجه طالما كان يعتقد صحته كما يقول الزنادقة والمنافقون الذين يصححون مللاً غير ملة الإسلام، ويرونها حقاً كما أن الإسلام حق، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، يقول الله: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]، ويقول: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85]. فهم أبو إبراهيم وأيقن أن إبراهيم راغب عن آلهته، فصار يتوعده ويتهدده: {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ} [مريم:46]. قيل: لأشتمنك، وقيل: لأرجمنك بالحجارة، وهو أقرب إلى ظاهر اللفظ؛ ذلك أنه كان يؤذيه بالكلام، فالظاهر أنه كان يريد أن يزيد على تلك الأذية بالفعل، قال: {لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ} [مريم:46]، كما قالها قوم نوح عليه السلام لنوح عليه السلام حتى يترك الدعوة إلى الله عز وجل، وكما يقولها كثير من الآباء والأقارب وأهل القوم والوطن والجيران والمعاملين لمن يدعو إلى الله عز وجل: {لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ} [مريم:46] {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} [الشعراء:116]، وقالها قوم لوط: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ} [الشعراء:167]، وقالها قوم شعيب لشعيب عليه السلام: {لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [إبراهيم:13]، وقالتها الأقوام لرسلهم، فدائماً كانوا يهددونهم بالإخراج من الأرض، وغير ذلك من أنواع التهديد، وقالها فرعون لموسى حين قال له: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء:29]، فلابد أن يتوقع الداعي إلى الله سبحانه وتعالى أنواع التهديد إذا استمر في طريق الدعوة، ولكن هذا لا يثنيه ولو فعلوا ما فعلوا؛ فإنه صاحب رسالة يؤديها، وهو متبع للأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ويدعو إلى الله سبحانه وتعالى بكل ما استطاع، وبكل ما أمكنه، ولا يؤثر فيه هذا التخويف؛ لأنه يركز فكره في يوم القيامة، ويخاف وعيد الله عز وجل أكثر مما يخاف وعيد الناس. {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم:13 - 14]. فهذا التهديد والوعيد لا يوقف الداعي إلى الله سبحانه وتعالى، وإن كان استعماله لوسائل الدعوة ولانتقائه للشخص والمكان قد يختلف، فقد يعرض عن قوم وينشغل بغيرهم، ويرحل عن بلد فيتجه إلى بلد أخرى، كما هاجر إبراهيم عليه السلام وذهب إلى ربه، فأبدله الله سبحانه وتعالى خيراً من قومه، قال تعالى: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات:99]. واعتزلهم بعد حين بعد أن بلغ دعوة الحق، وهكذا هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، وتولى عنهم فما هو بملوم، كما أمره الله فقال: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} [الذاريات:54]. فمن أعرض عن ذكر الله سبحانه وتعالى، وأصر على الإعراض، وذكر مرة بعد أخرى، فلينشغل الداعي إلى الله عز وجل بغيره، وليبحث عن مكان آخر ينشر فيه دعوته إلى الله، إن عجز أن يقيمها وأن ينشرها في مكان ما. قال: {لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم:46] أي: اهجرني طويلاً طالما بقيت على ذلك.

التلطف في الدعوة مع المدعوين

التلطف في الدعوة مع المدعوين أوذي إبراهيم باللسان مع التهديد بالأذى بالفعل، ولم يكن من إبراهيم عليه السلام رد عليه، وهكذا يوطن الداعية نفسه أن لا ينتصر لنفسه {قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ} [مريم:47]، ليس هذا من باب التحية ولكن من باب مقابلة الإساءة بالإحسان. أي: ستسلم مني وأنت مني في سلام، وليس معنى ذلك: التحية ولا أنه قصد التحية التي لا يشرع أن يبدأ بها الكافر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام). وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا راسل ملوك الكفار لم يبدأهم بتحية، وإنما يقول: سلام على من اتبع الهدى، وليست هذه بتحية لهم لأنهم ليسوا ممن اتبع الهدى، لأن التحية إكرام والكافر ينبغي أن يهان، بمعنى: ألا يعظم ولا يبجل ولا يوصف بالأوصاف التي فيها الثناء والتعظيم والمدح، وإنما يبين حقارة مذهبه، وبطلان طريقته، ولا يكون له التبجيل والتوقير، وإنما ذلك لأهل الإيمان؛ فلا يبدأ الكافر بالتحية، وإن بدأ هو بالتحية ردت عليه كما شرع الله عز وجل: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:86]، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم). أما أن يبدأهم بالتحية فلا، ولذا لم يكن هذا من باب التحية من إبراهيم، وإنما معنى الكلام جملة يخبر فيها إبراهيم أن أباه سيسلم منه، فلن يرد الأذى بأذى، ولن يرد الكلمة السيئة بكلمة مثلها، ولن يرد التهديد بالتهديد. وهكذا لا بد أن تفهم أيها الداعي إلى الله عز وجل طريقك في الدعوة إلى الله، قال تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:34 - 35]. فهذه منزلة لا يلقاها ولا يوفق لها إلا ذو حظ عظيم، وهي أن يقابل الإساءة بالإحسان، وكما قال ربنا سبحانه وتعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} [المؤمنون:96]، حتى يشرع الله عز وجل الانتصار لدينه، ويمكن المؤمن من القيام بالحق الذي أمر الله عز وجل به بالقوة التي شرعها الله سبحانه وتعالى، فعند ذلك ينتصر لله لا لنفسه، وأما قبل ذلك فإنه يشرع الصبر والاحتساب، يشرع أن يصبر وأن يقابل الإساءة بالإحسان، وأن يقول لمن أساءوا إليه: سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين، كما قال عز وجل عن مؤمني أهل الكتاب: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:55]، وقال سبحانه: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63]. فينبغي لك أيها المسلم أن تعامل الناس بذلك، وهذا من أعظم ما يكسبك قبول دعوتك الحق؛ بالسلوك الطيب في الناس، فإنك إذا واجهت كل إساءة لك بإساءة مثلها، وعاقبت دائماً بمثل ما عوقبت به لم يكن لك فضل على الناس، ولم يكن لك فيهم قبول مثل قبول من صبر واحتسب، {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى:43]. وقال لقمان لابنه وهو يعظه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [لقمان:17]. فالله عزم على عباده المؤمنين في ذلك، وأكد عليهم، وأمرهم سبحانه وتعالى بالصبر والعفو والصفح، وجعل لهم في الأنبياء الأسوة الحسنة حتى يقتدوا بهم؛ في ألا يقابلوا الإساءة بالإساءة، ولكن يعفو ويصفح. ووصف النبي صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدمة: (ولا يجزي السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح). ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم هكذا حتى مع الكفرة قبل أن يسلموا، يعفو ويصفح صلى الله عليه وسلم عنهم، فكيف بالمسلم، وكان ذلك من أسباب إسلام كثير منهم؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم لمشركي مكة وقد تمكن منهم، وهم الذي قاتلوه وجرحوه، وقتلوا أصحابه، وقتلوا أولياء الله عز وجل وخيرة أهل الأرض، ومع ذلك فلما تمكن منهم قال: (اذهبوا فأنتم الطلقاء)، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين). وكان من أسباب إسلام ثمامة بن أثال سيد بني حنيفة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أحسن إليه، ومن عليه حين أسرته خيل المسلمين، وربطه النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد ثلاثة أيام متتابعة، (فقال: ما عندك يا ثمامة؟!) فقال: عندي يا محمد خير، إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تمنن تمنن على شاكر، وإن تسأل المال تعط منه ما شئت، فيتركه النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام متتالية، ثم بعد ذلك يقول: (أطلقوا ثمامة)، فيطلق ثمامة وقد تحول وتغير وصار إنساناً آخر، فينطلق وهو سيد قومه، ومن حقه أن ينصرف إلى ما كان يريد، وإلى وجهته، فينطلق إلى أقرب بئر في حديقة، فيغتسل ويرجع، فيشهد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول: والله يا رسول الله ما كان من وجه أبغض إلي من وجهك، وقد أصبح أحب الوجوه إلي، وما كان من دين أبغض إلي من دينك، وقد أصبح أحب الدين إلي، وما كان من بلد أبغض إلي من بلدك، وقد أصبح أحب البلاد إلي. فانظر كيف يثمر الإحسان، وكيف يثمر العفو والصفح عن الناس، وكيف تثمر هذه المعاملة الحسنة الطيبة في أن تقد القلوب إلى الإيمان بفضل الله عز وجل، ويتأكد ذلك تأكيداً شديداً مع الوالدين، وذلك أنه لا يشرع في الإنكار على الوالدين التغليظ والتعنيف؛ فإن الله عز وجل قال: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء:23]، وهذا عام، ولذلك خصص العلماء به أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقالوا: لا يتجاوز مع الوالدين إلى درجة التعنيف والتغليظ، بل لا يزال في الدرجة الأولى من التعريف والنصح، والتخويف بالله سبحانه وتعالى. وقال سبحانه وتعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15]، فلم يجعل سبحانه وتعالى الكفر سبباً لنسخ الأمر بالإحسان بل الأمر بالإحسان للوالدين باق ومستمر حتى مع كفر الوالدين فضلاً عن فسقهما؛ فليعلم كل ابن وبنت وجوب بر الوالدين على الدوام، ووجوب الإحسان إليهما حتى ولو كانا كافرين أو فاسقين، أو أمرا بمنكر؛ فإنك لا تستجيب لهما طاعة لله عز وجل وتعظيماً لأمره، ولكن في نفس الوقت لا تسيء المعاملة بل تحسن إليهما {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:23 - 24].

حكم الاستغفار للمشركين

حكم الاستغفار للمشركين قال الله تعالى: {قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} [مريم:47]، فلم يجابه السيئة بالسيئة بل بالحسنة، وزاد أنه استغفر له، ويجوز الاستغفار للكافر طالما كان حياً، وذلك أن الله إنما يغفر له بأن يهديه، ولذا قال إبراهيم: سأستغفر لك، وظل يستغفر له إلى أن مات على الكفر، كما قال ربنا سبحانه: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ} [التوبة:114] أي: بأن مات كافراً؛ {تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة:114]. فهذا ليس فيه الأسوة في الاستغفار للمشركين؛ لأن قول إبراهيم لأبيه كان عن موعدة وعدها إياه، وكان في فترة حياته، فكان وفاءً للوعد، وكان في فترة الحياة، ويجوز الاستغفار لغير الأب من المشركين والكافرين كما حكى النبي صلى الله عليه وسلم: (أن نبياً من الأنبياء ضربه قومه حتى أدموه، وجعل يمسح الدم عن وجهه ويقول: اللهم اغفر لقومي؛ فإنهم لا يعلمون). فيجوز الدعاء للكفار وإن آذوا الأنبياء، وإن جرحوهم، وذلك من سعة الرحمة التي جعلها الله عز وجل في قلوب الأنبياء، وهذا الاستغفار لا يحصل نفعه للكافر إلا إذا تاب وهداه الله عز وجل؛ فإنما يغفر للكافر بأن يتوب من الشرك، وأن يرزقه الله عز وجل الدخول في الإسلام، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]. فأما إذا مات مشركاً لم يجز الاستغفار، ولم يجز الاسترحام له، ولا يشرع طلب الرحمة له وهو على كفره، وإنما ورد الاستغفار كما ثبت في الحديث الصحيح: (أن اليهود كانوا يتعاطسون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجاء أن يشمتهم بقوله: يرحمكم الله، فكان يقول: يهديكم الله ويصلح بالكم). والاستغفار بمعنى طلب الهداية؛ ولذلك لا يشرع طلب الرحمة للكافر حال كفره ولو كان حياً، وإنما تطلب له المغفرة، لأن ذلك فيه إقرار بأنه على ذنب عظيم، وفيه تبيين أنه على خلاف الهدى، ولذا يدعى له بالهداية وبالمغفرة بأن يتوب الله عز وجل عليه. ومن هذا قول إبراهيم عليه السلام: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم:36]. قال الله تعالى: {قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم:47]، نجد في هذه الآية الكريمة استشعار إبراهيم عليه السلام لمعاني صفة الله عز وجل، واستحضاره لنعمه عليه خاصة. وقال: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} [مريم:47]، ولم يقل: ربك، أو ربنا، أو رب العالمين، وإنما قال: ربي، لشعوره بهذه الخصوصية بينه وبين الله سبحانه وتعالى. هذه الخصوصية بهذه العبودية الخاصة، وأنه كان به حفياً، أي: عوده الإجابة، والمؤمن إذا تذكر إجابة الله عز وجل لدعواته التي دعا بها كان ذلك من أسباب مزيد الرجاء، وطلب مزيد الفضل من الله سبحانه وتعالى، فإنه عز وجل حفي بعباده المؤمنين، وهو سبحانه حفي بأنبيائه أعظم من غيرهم، فقد عودهم أن يجيبهم، وأن يصلح شأنهم وأمرهم، وأن يتولى أمرهم بنفسه سبحانه وتعالى، فهو سبحانه وتعالى الذي امتن على عباده المؤمنين بذلك قال: {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم:47]. وهذا الاستحضار لمعاني الأسماء والصفات من أعظم أسباب إجابة الدعاء، وختم الدعاء بأسماء الله وصفاته في أدعية الكتاب والسنة من أعظم ما يبين لك أهمية هذه المسألة، وهو أن يكون العبد متعلقاً بأسماء الله الحسنى وصفاته العلى، متذكراً نعمته، مثنياً عليه سبحانه، مستحضراً خصوصية عبوديته لله عز وجل، وأن بينه وبين الله ما لا يعلمه الناس، كما قالها يعقوب عليه السلام: {وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:62]. وهكذا يتكرر هذا المعنى كثيراً في أدعية الأنبياء؛ لأنهم يعلمون من الله عز وجل ما لا يعلمه الناس، ويستحضرون من معاني أسمائه وصفاته ما يحضر قلوبهم بين يديه سبحانه وتعالى، مستشعرين عظمته وقوته، وتدبيره لهذا الكون، ولكل ما فيه علويه وسفليه، ظاهره وباطنه، غيبه وشهادته، ويستحضرون أن الأمر من عنده لا من عند الناس، {قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم:47]. سبحانك اللهم وبحمدك. اللهم اغفر لنا ولإخواننا، وللمؤمنين والمؤمنات. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه.

العزلة وضوابطها

العزلة وضوابطها الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم. أما بعد: قال سبحانه وتعالى عن إبراهيم عليه السلام: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} [مريم:48]، عندما تصل الدعوة إلى الله عز وجل إلى مداها بأن تبلغ البعيد والقريب والقاصي والداني، وتقام الحجج ويستمر الكفرة على إعراضهم -وإبراهيم عليه السلام دعا إلى الله عز وجل حتى وصل إلى هذه الغاية- فعند ذلك يشرع الاعتزال. قال: ((وَأَعْتَزِلُكُمْ)) أي: يفارقهم، وكان ذلك بعد أن ألقوه في النار ونجاه الله عز وجل منها، فإبراهيم دعا أباه وقومه، وبين لهم، وأقام عليهم الحجج، وما وجد منهم إلا التكذيب والأذى، والاضطهاد الفظيع، وألقوه في النار فعلاً، فكانت نجاته بأمر الله سبحانه وتعالى. فلما اكتمل هذا الأمر هاجر إبراهيم عليه السلام، واعتزال أهل الباطل واعتزال باطلهم سنة ماضية طالما وصلت الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى إلى غايتها، وظلوا على إعراضهم، وهذه العزلة يجب منها قدر معين في كل وقت على كل مسلم، وهو ما يلزمه من اعتزال فعل الباطل وعقائده وسلوكه. فهذا قدر واجب على مر الزمن، فلا تبيح له قرابته، ولا مواطنته، ولا قوميته لقومه أن يشاركهم في باطلهم، وإنما أباح الله عز وجل موافقة ظاهرة لأهل الباطل عند الإكراه فقط، وما أباح ذلك لمصلحة ولا لمداهنة ولا لأمور متوهمة، ولا لمجرد علاقات عائلية، أو روابط وطنية أو قومية أو غير ذلك، فما أجاز الله أن يوافق الإنسان على الكفر والباطل والمعاصي إلا لمن أكره وقلبه مطمئن بالإيمان. قال سبحانه وتعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل:106]. فلا يجوز لمسلم أن يوافق أهل الباطل بزعم أنه يعيش وسطهم، وأن من عاش وسط قوم فلا بد أن يحترم قوانينهم، أو أوضاعهم، أو عاداتهم أو تقاليدهم، لا يجوز ذلك إلا عند الإكراه المعتبر شرعاً، وليس مجرد وجود الإنسان في مكان يجعله مضطراً لذلك إذا قرروا ذلك، بل لا بد أن يكون هناك إكراه مادي معتبر؛ بأن يوجد تهديد بقتل، أو قطع عضو من الأعضاء، أو تعذيب أو حبس وقيد أو إتلاف مال، أو نحو ذلك، مع تفاوت ما يكره عليه، فليس الإكراه المعتبر في نطق كلمة الكفر، كالإكراه المعتبر في قبول هدية أو نحوها. وإنما يعتبر ذلك بالنظر في أدلة الكتاب والسنة، فلا يعتبر السجن مثلاً إكراهاً على الزنا في حق الرجل ولا في حق المرأة، فلو حبس سنين على أن يزني مثلاً ما كان ذلك معتبراً شرعاً، وأما القتل والتهديد به، وغلبة الظن بحصوله، أو التعذيب الشديد، كما وقع لـ عمار فمبيح لذلك، فهذا قدر واجب من العزلة. فإذا لم يستطع أن يقيم دينه إلا بأن يفارق أهل الباطل ودارهم، وجب عليه ذلك، وكذا مفارقتهم حتى لا يتأثر بهم في سلوكه وعمله، فصحبة أهل الشر والسوء تجلب على الإنسان موافقتهم ومشابهتهم فيما هم فيه، وهذا واقع مشهود في كثير من الناس، فإن مصاحبته للكفرة والظلمة والعصاة والفسقة والمجرمين تهيئه وتقوده إلى فعل أفعالهم، وإلى موافقتهم من باطنه قبل أن يكون من ظاهره، والعياذ بالله من ذلك. فكثير من الناس يحب أهل الباطل لكثرة معاشرتهم، فمن وجد نفسه تقوده في خلطته لقرناء السوء إلى موافقتهم؛ وجب عليه فوراً مفارقتهم، بل لا يجوز له أن يقيم وسطهم إلا مع الإنكار عليهم، ودعوتهم إلى الله سبحانه وتعالى. ولهذا أقام الأنبياء في بلاد الكفر يدعون إلى الله عز وجل، وينكرون الشرك والكفر والفسوق والعصيان، ولا يجوز لمسلم أن يقيم في أرض يفعل فيها الكفر والفسوق والعصيان إلا لغرض شرعي صحيح، كالإنكار عليهم، أو إنقاذ مسلم من هلكة، أو لمصلحة شرعية أخرى، وأما أن يكون مقيماً لأجل دنيا يصيبها، أو أهل أو مال أو ولد، فهذا ممن يقال له: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء:97]. طالما كان عاجزاً عن إقامة دينه متأثراً بحالهم، وهو لا شك يتأثر، فإن الإنسان إنما يتأثر بأصحابه وأصدقائه أعظم التأثير، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل). وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي)، والصداقة من معاني الموالاة فلا تصح لكافر، بل لا يجوز أن يصادق الفسقة والفجرة والظلمة، ولا يسكت عليهم حين يجلس معهم في مجالسهم، قال سبحانه وتعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء:140]، وقال سبحانه وتعالى: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} [هود:116]، فأنجى الله الذين ينهون عن السوء، {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف:165]، ومن لم يتمعر وجهه في الله وهو يرى المنكرات أمامه، ولا يقيم لغرض شرعي صحيح، فهذا الذي يبدأ به، فإنه لم يتمعر ولم يتغير وجهه في الله سبحانه وتعالى، ولا يكون صالحاً، وإن كان يظهر الصلاح، أو يفعل في نفسه الصلاح؛ فليوطن كل مسلم نفسه على أن يعتزل الباطل وأهله، يعتزل الباطل، فلا يفعله ولا يعتقده ولا يرضى به ولا يقره، وكذلك لا يصاحب أهله، ويعتزل أهله فيفارقهم إلا لغرض شرعي صحيح.

جلب الدعاء لأسباب السعادة

جلب الدعاء لأسباب السعادة {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [مريم:48] أي: ما يدعون من دون الله من آلهة باطلة، {وَأَدْعُو رَبِّي} [مريم:48]، أفرده بالدعاء الذي هو العبادة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الدعاء هو العبادة). قال تعالى: {عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} [مريم:48]، والدعاء من أعظم أسباب السعادة، فمن دعا الله عز وجل، بأن دعاه إلهاً واحداً لا شريك له، ودعاه لقضاء حوائجه، وأثنى عليه بما هو أهله، فهذا يسعد في الدنيا والآخرة، وعسى: محققةٌ من الله تعالى، وهي على ألسنة أنبيائه منه سبحانه وتعالى. فلذا قال: {عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} [مريم:48]، وكما قالها زكريا عليه السلام: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} [مريم:4]، فلا يشقى إنسان مع الدعاء، فالدعاء من أعظم أسباب الراحة والنجاة والسعادة والفوز والفلاح، فلا يتركه إلا جاهل، وهو السلاح الأعظم الذي ننتصر به، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وهل تنصرون إلا بضعفائكم؟!). أي: بدعائهم، وتضرعهم، وانكسارهم، ومن حكم تقدير الله عز وجل بالبلاء على المؤمنين: أن تنكسر قلوبهم له، ويستشعرون فقرهم وعجزهم وحاجتهم إلى الله سبحانه وتعالى، فيكثرون من الدعاء، وهم مستشعرون أن ليس لهم إلا الله، ولا سبيل لهم إلا بالتوجه إليه سبحانه وتعالى، وأن ليس لهم من دونه من ولي ولا نصير، وأنه سبحانه وتعالى مولاهم، ولا يوجد لهم مولى سواه، وأهل الأرض جميعاً قد تركوهم، بل قد اجتمعوا عليهم، ورموهم عن قوس واحدة، فقدر الله ذلك لتلتجئ القلوب إلى الله، وتصعد الأدعية إلى الله، ولا يشقى مع الدعاء أحد إلا من حرمه الله، ونسأل الله ألا يحرمنا دعاءه وإجابته بفضله سبحانه وتعالى. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين. ربنا اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم نج المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم انصر المجاهدين والدعاة إليك في كل مكان، اللهم مكن لكتابك ودينك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم وعبادك المؤمنين. ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم إنا نسألك بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق أحيينا ما علمت الحياة خيراً لنا، وتوفنا ما علمت الوفاة خيراً لنا، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الفقر والغنى، ونسألك نعيماً لا ينفد، ونسألك قرة عين لا تنقطع، ونسألك برد العيش بعد الموت، ونسألك الرضا بعد القضاء، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة. اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين، اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر. اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا. اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا.

اجتماع الأحزاب

اجتماع الأحزاب يقف الكفار من دين الله تعالى موقف العداء والبغض والحقد على اختلاف ألسنتهم وألوانهم ومللهم، ويسعون جاهدين للمجادلة بالباطل ليدحضوا به الحق، وهم على مر الزمن لا يجدون فرصة للقضاء على دين الله إلا انتهزوها، بل لقد همت كل أمة منهم برسولهم ليأخذوه، والله تعالى لهم بالمرصاد، وهو ناصر دينه ومعز أوليائه، ولذا كان على المسلم أن لا يغتر بفتنهم وسلطانهم وتحركهم في الأرض، فإن ذلك كله بلاء، والمعتصم بربه مهدي إلى صراط مستقيم.

تعريف الله تعالى عباده ببعض صفاته العلى

تعريف الله تعالى عباده ببعض صفاته العلى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فيقول الله تعالى: {حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ * مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ} [غافر:1 - 4]. إنه لا بد أن ينتبه أهل الإيمان إلى أن الله عز وجل أثنى على نفسه، بأنه غافر الذنب وقابل التوب، وأنه سبحانه وتعالى شديد العقاب، لكي يرغب العباد إليه ويرهبوه. وأخبر سبحانه وتعالى أنه أنزل الكتاب من عنده، وأنه هو العزيز العليم سبحانه وتعالى. ورغب العباد في رحمته ومغفرته وتوبته عليهم إذا تابوا إليه، ورهبهم من عقابه، وامتن عليهم بفضله ومنه، لا إله إلا هو، أي لا معبود بحق سواه، فلا يعبد في الأرض ولا في السماء بحق سواه، {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:84] وهو العزيز العليم سبحانه وتعالى، إليه مصير هذه الدنيا بأسرها، ومصير العباد كائن إليه عز وجل ليحاسبهم، فمن أيقن بلقاء الله عز وجل عمل لهذا اليوم.

مجادلة الكفار في آيات الله ونهي الله عباده عن الاغترار بهم

مجادلة الكفار في آيات الله ونهي الله عباده عن الاغترار بهم ثم بين الله سبحانه وتعالى أن الكفار يجادلون في آيات الله، فهم يريدون رفضها وعدم العمل بها وعدم انتشارها. فالذين يحاربون الإسلام هم الكفرة المعرضون الذين يمنعون ظهور القرآن ولا يحبون انتصار آياته البينات، ويكرهون أن يعلو أمر الله عز وجل في بقعة من الأرض، وأن يظهر أهل الإيمان الذين إذا مكنهم الله عز وجل أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر. ما أكثر من يكره التمكين لدين الله عز وجل! فيكره أن تقام الصلاة وأن تؤتى الزكاة، وأن يؤمر بالمعروف، وأن ينهى عن المنكر! فبين عز وجل أن هؤلاء يتقلبون في البلاد، فلا يجوز أن يغتر الإنسان بهم، قال تعالى: {فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ} [غافر:4]. فلا يغررك تمكنهم وسلطانهم أيها العبد المكلف، والخطاب كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في مكة حين لم يظهر الإسلام في أرض من البلاد، ولم يتكون بعد ذلك المجتمع المسلم الذي تعلوه شريعة الله سبحانه وتعالى ويعظم فيه أمره وكلامه، ويقدم فيه هدي رسوله صلى الله عليه وآله وسلم. فما أكثر من يغتر بتقلب الكفار في أنواع النعم في مشارق الأرض ومغاربها! وما أكثر من يرى الدولة لهم فيتابعهم على باطلهم فيكون -والعياذ بالله- واحداً منهم بموالاته لهم، ورضاه عنهم، ورغبته في ظهور كلمتهم، أو بمجرد متابعته لهم في المجادلة في آيات الله سبحانه وتعالى، نعوذ بالله من ذلك. والذين يغترون بسلطان الكفار وتقلبهم في البلاد هم الذين خبثت قلوبهم، فأراد الله عز وجل أن يميز الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعاً فيجعله في جهنم، كما قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ * لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأنفال:36 - 37]. هكذا قدر الله سبحانه وتعالى بعلمه وحكمته أن يميز أهل الإيمان وإن كانوا في فترة من الفترات فيما يبدو للناس لا يملكون الدفع عن أنفسهم، ولا يملكون أرضاً من البلاد يعلون فيها منهجهم ويظهرون فيها دينهم ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. وهو ابتلاء من الله سبحانه وتعالى يقدره لكي يغتر من يغتر ولكي ينتبه من ينتبه {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ} [غافر:4].

تكذيب الأمم السابقة لرسلهم

تكذيب الأمم السابقة لرسلهم يقول الله تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ} [غافر:5]. هؤلاء الأحزاب اجتمعوا وتألبوا وكانوا طوائف مختلفة، فاتفقت كلمتهم على محاربة دين الله سبحانه وتعالى، فقوم لوط وقوم عاد وثمود والمؤتفكات هؤلاء الأحزاب اجتمعوا على رسلهم، وهكذا في كل زمان يقدر الله عز وجل اجتماع أحزاب من أحزاب الكفر والضلال لكي يحاربوا دين الله سبحانه، وجعل رءوسهم من اليهود والنصارى والمشركين والمنافقين رغم اختلافاتهم الكثيرة، ورغم كونهم من ملل شتى ومن قوميات شتى وأجناس شتى، يجتمعون ويتحزبون.

تجمع الأحزاب لحصار الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه

تجمع الأحزاب لحصار الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه ما أشبه الليلة بالبارحة! فانظر إلى الحصار الذي فرضه المشركون من قريش وغطفان ومن تابعهم من القبائل العربية المختلفة ومن ظاهرهم من يهود بني قريظة، ومن بقي من يهود بني النضير في خيبر ومن دعا منهم في جمعه هؤلاء الأحزاب، حتى اجتمعوا جميعاً لحصار المسلمين في المدينة وجاءوهم من فوقهم ومن أسفل منهم، جاءوا حول المدينة من جهاتها، وعند ذلك اشتد الكرب ونجم النفاق وظن الناس الظنون المختلفة، فظن المنافقون أن الإسلام مستأصل، وأن الإسلام يزول، وظن المؤمنون بالله عز وجل أن ينجز لهم وعده سبحانه وتعالى، وأن يفي بوعده لهم ولنبيه عليه الصلاة والسلام، كما قال تعالى: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22]. اجتمع هؤلاء الأحزاب بمؤامرة اليهود كما اجتمعت الأحزاب من قبلهم على رسلهم، اجتمع هؤلاء الأحزاب رغم كونهم قبل ذلك كانوا لا يتفقون على رأي، بل كان بعضهم يقاتل بعضاً ويسبي بعضهم بعضاً، حتى اليهود كانوا قبل الإسلام يتقاتلون ويتحاربون، كما قال عز وجل عنهم فيما بين من فضائحهم بعد ذكر أخذ ميثاقهم: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:84 - 85]. فبين سبحانه وتعالى أنهم كانوا يتقاتلون فيما بينهم، ولكن عندما جاء الإسلام اجتمعوا على حربه، وهكذا المشركون ما كان لبعضهم على بعض سيادة ولا إمارة، بل كانت العرب متفرقة على الدوام متقاتلة متحاربة؛ لكن عندما ظهر الإسلام اجتمعوا على حربه! وهكذا إذا نظرت فإنك تجد اليهود والنصارى أعداء على مر العصور، ولكنهم في زماننا يجتمعون وينفق بعضهم على بعض، ومعهم من لا دين لهم كذلك من بقايا الشيوعيين والمشركين عباد الأوثان، وعباد الشياطين والعياذ بالله من ذلك، فاجتمعوا كلهم على حرب الإسلام، ومعهم المنافقون، فكلهم أعداء، ومع ذلك يجتمعون إذا ظهر الإسلام. ألم تكن طوائف من المنافقين تتفاخر عبر عشرات السنين بأنها حرب على اليهود وعلى الاستعمار وعلى الغرب، ثم بعد ذلك تنحني الجباه وتركع الرءوس، وربما سجدوا لأعداء الله سبحانه وتعالى أو كادوا يفعلون، والعياذ بالله من ذلك. هكذا تجتمع الأحزاب ضد الإسلام وأهله، وتنفق الأموال ببذخ وسخاء، وتخرج الخزائن من هذه الأموال ممن لا يجدون طعاماً يأكلونه ولا ملابس يلبسونها، فإذا وجه أعداء الله رصاصهم وقنابلهم لأهل الإسلام أغدقت الأموال بما لا يحصيه أحد منا، ولا يراه، وإنما يحصيه رب العباد سبحانه وتعالى. فهكذا تتحزب الأحزاب وهكذا يكذبون الرسل. وقد قدر الله سبحانه وتعالى أن يكون هذا الاجتماع لحرب الدين يكاد يصل إلى غايته، ففي يوم الأحزاب أوشك الكفار أن تتم خططهم بنقض يهود بني قريظة العهد وباتفاقهم معهم على أن يقتحموا المدينة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون كانوا ثلاثة آلاف في أول حفر الخندق، ولكنهم نقصوا حتى وصلوا إلى سبعمائة بعد ذلك، وانسحب من في قلبه النفاق الأكبر، أو في قلبه شعبة منه، حتى وصف حذيفة رضي الله عنه ليلة الأحزاب بأنها أشد ليلة عندما كانوا ثلاث مائة مقاتل مع النبي عليه الصلاة والسلام، فانخفض عدد المسلمين الثابتين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العشر.

قصة ليلة الأحزاب

قصة ليلة الأحزاب يقول حذيفة رضي الله عنه: نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلينا واحداً واحداً في ليلة ما رأيت أظلم منها ولا أبرد منها قط، والريح شديدة حتى كان أحدنا لا يكاد يرى أصبعه. قال حذيفة: فتقاصرت في الأرض كراهية أن أقوم. فلا يريد أن يظهر لكي يكلفه النبي صلى الله عليه وسلم بعمل لشدة الجوع وشدة البرد، يقول: ليس علي ما أتقي به البرد إلا برد لامرأتي لا يبلغ ركبتي. وأرسل عثمان بن مظعون ابن أخته عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم إلى الحصون ليأتي لهم من هناك بطعام وثياب، فيأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن من لقيت من أصحابي فأمرهم فليرجعوا، يقول عبد الله بن عمر: فما رأيت أحداً إلا أمرته بالرجوع، فلا يلوي أحد منهم عنقه. أي: كانوا لا يلتفتون إلى كلام عبد الله ولا يسمعونه، بل كل متجه إلى بيته لا يريد أن يكون مع الرسول عليه الصلاة والسلام. فعشر المسلمين فقط هم الذين ثبتوا وهم الذين بقوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه هي الخلاصة التي أعز بها الله عز وجل الدين في المشارق والمغارب. وبعد ذلك صلى النبي عليه الصلاة والسلام صلاة طويلة ثم قال: (قد حدث في القوم حدث، فمن يأتيني بخبر القوم وله الجنة) فضمن له صلى الله عليه وسلم الرجوع ووعده بالجنة. ونحن نعلم حب الصحابة الشديد لرسول الله صلى الله عليه وسلم وامتثالهم لما يرغب فيه قبل أن يأمر، ولكن كانت القلوب قد بلغت الحناجر، وكان الخوف والبرد الشديد والحصار والكرب في غايته، وكاد المشركون أن يصلوا إلى غايتهم، {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ} [غافر:5]. فلما طلب النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيه رجل بخبر القوم على أن يكون رفيقه في الجنة ما قام رجل، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم هوياً من الليل ثم قال: (من يأتيني بخبر القوم ويكون رفيقي في الجنة) فلم يقم أحد ثم كرر الثالثة، ثم قال: (قم يا حذيفة) وذلك لثقته به، لأنه يعلم أنه لن يعصي له الأمر المباشر، وإن كان الأمر المستحب يحتمل أن يكون متروكاً عندهم. قال حذيفة: فما كان من طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم بد، قال: (اذهب فأتني بخبر القوم ولا تحدث شيئاً حتى تأتيني)، وفي رواية مسلم: (فلا تذعرهم علي). فذهب حذيفة رضي الله عنه، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد دعا له بقوله: (اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته). قال: (فكأنما أمشي في حمام، وما خلق الله في قلبي من الخوف والقر قد خرج فلا أجد منه شيئاً). فدخل المعسكر ونظر إلى أبي سفيان يدفئ يده ويضعها على خاصرته ويقول للناس: لينظر كل أحد منكم من جليسه. وكأنه توقع أن يوجد في القوم من ليس منهم، فأخذ حذيفة رضي الله عنه بيد جليسه وقال: (من أنت؟ فقال: فلان بن فلان فترك يده)، وذلك لكي لا يسبقه الرجل بقوله: من أنت. فقال لهم أبو سفيان: ما أنتم بدار مقام، إني مرتحل فارتحلوا. وذلك حين رآهم والريح تفعل بهم ما تفعل لا تترك لهم ناراً، ولا يستقر لهم قدر، ولا تقوم لهم خيمة، وجنود الله عز وجل تفعل بهم ما ذكر الله سبحانه في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:9 - 11].

والعاقبة للمتقين

والعاقبة للمتقين وصلت المحنة إلى أن المشركين كادوا أن يفتكوا بالإسلام كله، كما قال تعالى: {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ} [غافر:5]، وهكذا يقدر الله سبحانه وتعالى أن تجتمع أحزاب الكفر من المشارق والمغارب حتى ظن الكثيرون أن الإسلام مستأصل، وأن الدعوة إلى الله والجهاد في سبيل الله ومن يهفوا إلى نصرة الدين مستأصل ذاهب لا يمكن أن تقوم له قائمة بعد ذلك اليوم ولكنها اللحظات التي تسبق نقطة التحول.

منازلة اليهود من حصونهم

منازلة اليهود من حصونهم إن هذا الابتلاء وتلك الزلزلة كانت هي اللحظات التي تسبق نقطة التغير التام، ففي تلك الليلة انصرف المشركون وانصرفت قريش وانصرفت غطفان وبقي يهود بني قريظة في الخوف والرعب، فأتاهم النبي صلى الله عليه وسلم وحاصرهم، ثم أنزلهم الله من حصونهم على أمره فقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم ونساءهم وأخذ أموالهم وأرضهم. وقال النبي عليه الصلاة والسلام بعد انهزام الأحزاب (الآن نغزوهم ولا يغزوننا) وقد كان الأمر كما قال عز وجل: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا * وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا} [الأحزاب:25 - 26] فريقاً تقتلون من الرجال المقاتلين وتأسرون فريقاً من النساء والصبيان {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا} [الأحزاب:27]. فمن كان يظن أن أهل المدينة في يوم من الأيام سيدخلون حصون بني قريظة المنيعة وسيطئون هذه الأرض مالكين لها؟! فذلك بفضل الله عز وجل بسبب الغدر وبالتألب والتحزب الذي كان. إن الله سبحانه يجعل الكفرة ينقضون العهود والمواثيق التي عاهدوا المؤمنين عليها، كل ذلك يقدره الله بالحق، ويتركهم سبحانه يؤذون المؤمنين وينتهكون حرماتهم ويسفكون دماءهم وهي عند الله عز وجل غالية وذات حرمة عظيمة، لكنه يتركهم يفعلون ذلك بعلمه وحكمته وتحت سلطانه وقدرته، وهو عز وجل الملك، وهو الشهيد على ما يفعلون؛ وذلك لكي يزدادوا إثماً ويستحقوا أنواع العقاب بقدرته عز وجل. وما أكثر ما كان يثني النبي صلى الله عليه وسلم على الله عز وجل بهزيمته الأحزاب وحده، فكان يقول: (وهزم الأحزاب وحده)، حيث إنه لم يتحرك المؤمنون لقتال يومئذ، وعندما رجع حذيفة رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع إليه القر والبرد والخوف كما كان، فوضعه بين رجليه وغطاه ببرد بعض نسائه عليه الصلاة والسلام الذي كان يصلي فيه، فأخبره بخبرهم ورحيلهم.

مقاصد أهل الباطل ونتائج أعمالهم

مقاصد أهل الباطل ونتائج أعمالهم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وأشهد أن لا إله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم. أما بعد: فيقول الله عز وجل: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ * وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر:5 - 6]. يظن أكثر الناس أن الحق هو القوة، فيرون الباطل حقاً لأنه قوي ويرون الحق باطلاً لأنه ضعيف في نظرهم، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق من مكانه الذي يستحقه ويناسبه في الظهور. فيريدون إزهاق الحق وإبطاله، فاستعملوا كل الوسائل المادية، وكذا الإعلام، والجدال بالباطل ليصدوا الناس، وهموا بأن يأخذوا رسلهم ويزيلوا الحق بأخذ الرسول الداعي إلى الله عز وجل، وكذلك بالجدال بالباطل والكذب والزور وأنواع الشبهات الباطلة، فعندهم السلطان وعندهم من الشبهات ما يخدعون به من هو صال الجحيم، كما قال عز وجل: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ * مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} [الصافات:161 - 163]. لا يفتنون إلا من كتب الله عليه أن يصلى الجحيم، ولا يهلك على الله إلا هالك، ولا يزيغ عن المحجة البيضاء في ظلمات الليل إلا هالك، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم تركنا على الصراط المستقيم وعلى المحجة البيضاء ليلها كنهارها. ويظهر الحق في فترات النور والانتصار والتمكين، فالحق واضح لمن طلبه والمجاهدون بالباطل يجاهدون ليدحضوا به الحق فيأخذهم الله، كما قال تعالى: {فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [غافر:5]. ولقد كان عقابه تعالى شديداً لمن خالفه وحاربه وحارب رسله وأولياءه وحارب دينه والحق الذي أنزله، وهكذا في كل زمان تتكرر هذه السنة، {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} [غافر:6]، فبالحق نزل بهم عذاب الله، وبالحق نفذ فيهم قدر الله، وبالحق نفذت كلمته سبحانه وتعالى. وكلماته الشرعية هي الحق، وكلماته القدرية هي التي تكون بها الأشياء {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، وهي -أيضاً- الحق الذي لا باطل فيه ولا مرية فيه، {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر:6]. وجبت هذه الكلمة بالحق، فبأعمالهم دخلوا النار، وبحصاد ألسنتهم وأيديهم كبوا على وجوههم، وصاروا من أصحاب النار بما جنت أيديهم وبما كانوا يكسبون، {مَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [آل عمران:117].

الواجب على المسلمين في زمن الأحداث

الواجب على المسلمين في زمن الأحداث قال تعالى: {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر:6] فلنتعظ من ذلك، والمسلمون اليوم يواجهون حصاراً معنوياً وعسكرياً، ويواجهون عدواً كثيفاً متألباً متحزباً في كل مكان ليس فقط في الشيشان أو في فلسطين أو في كشمير، بل في مشارق الأرض ومغاربها، وهي عداوة شديدة لأهل الإسلام. بل إنَّ تحزب الأحزاب في زماننا ربما لم يسبق له مثيل في زمن العولمة الذي صار فيه العالم كقرية صغيرة، ربما لم يسبقه ذلك التحزب في الاجتماع والتخطيط اليهودي الماكر في المشارق والمغارب، والتعاون الوثيق على الإثم والعدوان، ذلك كله قبل نقطة التحول وقبل نقطة التغيير بإذن الله إلى ما فيه مصلحة المسلمين، وإذا كان من كانوا مع النبي عليه الصلاة والسلام قد صاروا إلى العشر فما ظنك بمن هم دون ذلك وليس مجتمعهم كذاك المجتمع النقي الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم. فالثبات الثبات عباد الله، فهو عز وجل الذي يثبت القلوب والأقدام، وإنما يلجأ إليه عز وجل في الشدائد، وقد كان خير الخلق عليه الصلاة والسلام يقول في دعائه: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) ويقول: (يا مصرف القلوب صرف قلبي على طاعتك). فهو عز وجل الذي يثبت الأقدام ويثبت القلوب على الصراط المستقيم، كما يثبت على الصراط يوم القيامة أقدام المؤمنين ويجعلهم في زمرة الناجين بفضله ورحمته سبحانه وتعالى. وأما من غرته الحياة الدنيا بأن اشتغل فيها وغرق في فتنها ومشاغلها التي لا تنتهي وظل يسوف كل يوم فليعلم أن المشاغل لا تنتهي، ولا يخرج العبد منها إلا بأن يصير القلب أبيض مثل الصفا مستنيراً قوياً ثابتاً، لا تضره فتنة مادامت السماوات والأرض، وأما من يسوف الالتزام ومن يسوف العمل ومن يسوف العلم ويقول: غداً أفعل حين تنتهي مشاغلي، ويسوف الدارس إلى حين الفراغ من دراسته، والراغب في الزواج إلى حين الفراغ منه، ومن ليس عنده أولاد إلى أن يكون عنده أولاد، ومن عنده أولاد إلى حين تربية الأولاد، ومن كان عنده أولاد إلى رؤية أولاد الأولاد، فإن المشاغل لن تنتهي. وهذه طبيعة الدنيا، فمشاغلها لا تتوقف، فلا بد من المبادرة والمسابقة في كل لحظة من اللحظات، فبادر قبل أن يفوت الأوان، ففي الحديث: (بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل) هكذا أخبر نبيكم صلى الله عليه وسلم، فنعوذ بالله أن نبيع ديننا بعرض من الدنيا! اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اليهود والنصارى والمنافقين وسائر الكفرة والملحدين. اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين. ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين. ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم انصر المسلمين في كل مكان، اللهم انصر المسلمين في الشيشان وثبت أقدامهم، اللهم سدد رميهم، اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم. اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر. اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

استعينوا بالله واصبروا

استعينوا بالله واصبروا استحضار عظمة الله عز وجل تجعل المؤمن واثقاً من نفسه؛ لأنه وضع عظمة الباري نصب عينيه فتلاشت واضمحلت كل أنواع عظمة المخلوقين، وهذا هو سبب ثبات الأنبياء والصالحين أمام أئمة الكفر والطغيان والعناد. وهذا الاستحضار لا يكون إلا بالإيمان بقضاء الله جل وعلا وقدره، فبهذا الإيمان وبهذا اليقين تهون المصائب، وتذل العقبات في سبيل نصرة هذا الدين وإعلاء رايته.

الحكمة من تسليط الله الكافرين على المؤمنين في بعض الأوقات

الحكمة من تسليط الله الكافرين على المؤمنين في بعض الأوقات إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد: فقد قضى الله عز وجل بعدله وحكمته أن جعل الأيام بين الناس دولاً فقال تعالى: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:140 - 141]، وجعل الله عز وجل الأيام يتناوب الناس فيها باليسر والعسر، والعز والذل، والتمكين والاستضعاف، وقدر سبحانه وتعالى لأنبيائه ورسله وهم صفوته من خلقه، وقدر على أوليائه من أتباعهم أن تمر عليهم فترات من المحن والشدائد، وأن تمر عليهم فترات يستضعفون فيها في الأرض، ويكونون قلة أذلة، قال تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال:26]. فقدر الله سبحانه وتعالى ذلك مع كونه عز وجل لا يحب الظالمين، ولا يحب الكافرين، وإنما سلطهم مدة وجيزة من الزمن على عباده المؤمنين ليستخرج من عباده المؤمنين أنواعاً من العبودية التي يحبها، ولا يمكن أن تظهر هذه الأنواع لو هدى الناس جميعاً، ولو شاء عز وجل لهدى الناس جميعاً، وأمره سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى تكرار وتثنية، قال سبحانه: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ} [القمر:50] مرة واحدة {كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر:50] فيقع ما أمر به سبحانه وتعالى، وهو عز وجل لا يعجزه أن يجعل الناس أمة واحدة على الإيمان، حتى أشد الناس كفراً وعداوة لله عز وجل قادر أن يقلب قلوبهم ويجعلها على الهدى، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} [هود:118] لكنه قدر ذلك للحكم البالغة: {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} [القمر:5]، فله الحمد سبحانه وتعالى عليها. لذلك عندما يجد المؤمن المسلمين يصابون بأنواع المصائب والمحن، ويضطهدون بأنواع الاضطهاد، ويجد الفساد ينتشر في مشارق الأرض ومغاربها، ويرى البلاء والمحن، ويرى أنواع الشدائد؛ فيجب أن يحمد الله سبحانه وتعالى، ولا بد أن تقع في قلبه معان إيمانية ضرورية لكي يستفيد من هذه المرحلة التي قدرها الله عز وجل ليظهر منه الخير، وليخرج سبحانه وتعالى من قلوب أوليائه ما يحب من الاستعانة به، والصبر على طاعته سبحانه وتعالى، وعلى ما يصيب الإنسان في سبيله، وعلى ما يصيب الإنسان بسبب مخالفته لأهل الفساد والكفر والنفاق، وكذلك ليوقن المؤمنون بوعد الله سبحانه وتعالى، ويستحضروا أن الله هو الذي أعطى، وهو الذي منّ، وهو الذي آوى؛ لأنهم سوف تأتي عليهم فترات يملكون فيها الناس، ويكونون فوق الخلق، ويتحكمون فيهم فيما يبدو لهم، فهل يكونون في ذلك كملوك الدنيا وأهل الدنيا يتحكمون فيهم لأنفسهم ولهواهم ويقولون: صنعنا، وانتصرنا، وغلبنا، وقهرنا، كقول قارون: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} [القصص:78] ونحو ذلك مما قص الله علينا من كلام الكفرة والفسقة والفاجرين؟ أو أنهم سيعلمون أن الله سبحانه هو الذي أورثهم الأرض بمشيئته سبحانه وتعالى لا بقدرتهم، ولا بتخطيطهم، ولا بإعدادهم.

معان إيمانية

معان إيمانية وهناك معان إيمانية لا بد أن يستحضرها المؤمن عندما يمر بظروف تشبه الظروف التي مر بها أنبياء الله سبحانه وتعالى من قبل، وأول هذه المعاني: أن يشهد المؤمن قضاء الله عز وجل وقدره وحكمته وعدله سبحانه وتعالى، ويشهد أن الأمور كلها بقضائه سبحانه، قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]، وهذا من أعظم ثمرات الإيمان. وأن يشهد خلق الله عز وجل لأفعال العباد، وأنه هو سبحانه وتعالى الذي جعلهم كذلك؛ ليستحضر عظمة ملك الله، وليستحضر عزته وقهره عز وجل، فانظر وتأمل في قول موسى صلى الله عليه وسلم وهو يدعو ربه عز وجل: {رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس:88] فإن موسى عليه الصلاة والسلام لم يستحضر في هذه اللحظة أن فرعون عنده كذا وكذا من المال والجنود والملك والسلطان، وإنما استحضر أن الله آتاه فقال: (ربنا إنك آتيت) فلم يستحضر إلا أن فرعون آلة لنفوذ قضاء الله وقدره، وهذا من أعظم الأمور أهمية، وهو أن يرى العبد أن من يواجهه من الكفرة والظلمة وأعداء الإسلام أضعف وأذل من أن يرجوهم أو يخافهم، أو أن يظن أن الأمور بأيديهم، وعدم استحضار هذا المعنى يجعل الناس يسيرون في ركب الظالمين، ويداهنون الكافرين، ويوالونهم، وقد ذكر الله عز وجل عن المنافقين ذلك؛ لأنهم يخشون أن تكون الدولة للكافرين والظالمين، وأن تكون الغلبة لهم، ويخشون أن تكون هناك مرحلة أخرى فهم يعدون العدة لذلك، وحينما يكون الأمر للكفرة والظلمة فإن أكثر الناس يتبعونهم؛ وذلك لأنهم استحضروا أن الملك لهؤلاء كما قال عز وجل: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ} [النساء:138 - 139] فقد فضحهم الله عز وجل وبين حقيقة ما في قلوبهم، فهم يتولون الذين كفروا؛ لأنهم يبتغون عندهم العزة، ويعاونونهم على الفساد؛ لأنهم يريدون من المفسد مكانة ومنزلة، ولو استحضروا أن الملك لله، وأن الله هو الذي آتى فرعون وملأه {زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس:88]، وأنه سبحانه هو الذي قدر أن يوجد من يضل عن سبيله، وفي قدرته أن يمحوهم في لحظة، وفي قدرته سبحانه وتعالى أن يزيلهم من على وجه الأرض، ومع ذلك قدر أن الكافرين يضلون عن سبيله؛ لأن هناك قلوباً خبيثة، وهناك نفوساً قبيحة، فلا بد أن يخرج ما فيها من الخبث، كالمغناطيس يجذبها إلى أمثالها كما قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ * لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأنفال:36 - 37]. فالله عز وجل جعل الكفار ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله، مع أن إنفاقهم سيكون بعد ذلك عليهم ((فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ)) أي: يتحسرون؛ لأنهم لا يجدون ثمرة لما يفعلون، بل يجدون عكس ما يريدون من صد الناس عن سبيل الله، وفي نهاية الأمر ((ثُمَّ يُغْلَبُونَ)) وتأمل ذكر (ثم) في هذا الموضع وهي للتراخي؛ ولكي لا تستعجل، ولكي تطمئن ويسكن قلبك، وتعلم أن الأمور كلها بمقدار، وأن لها موعداً محدداً، ولا تقل: لماذا لم يأخذهم الله الآن؟ لماذا تركهم الله يفسدون في الأرض؟ ((ثُمَّ يُغْلَبُونَ)) فسوف يأتي زمن يطول أو يقصر؛ ولذلك قال الله لنبيه عليه الصلاة والسلام: {وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف:35] فإياك أن تستعجل، واعلم أن كل شيء قُدر لحكمة من الله عز وجل الملك الحق المليك المقتدر سبحانه وتعالى. فهو عز وجل الذي آتى ((فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)) ثم قال: ((لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ)) ولكي يستجيب أصحاب القلوب الفاسدة كما بين سبحانه وتعالى ذلك في آيات كثيرة ومن ذلك قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام:112 - 113] فتأمل هذه الكنوز القرآنية. ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا)) فالله الذي جعل، وهو أول ما ينبغي أن تلحظه في هذه الآية فقال: ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا)) ولم يقل: كذلك كان لكل نبي، وإنما قال: ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا)) فالله هو الذي خلق في قلوبهم ذلك: ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ)) وبدأ بشياطين الإنس قبل شياطين الجن؛ لأن خطر شياطين الإنس أشد؛ ولأنهم يضلون الناس أكثر من شياطين الجن. ((يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ)): يشير بعضهم على بعض، ويأمر بعضهم بعضاً، وينصح بعضهم بعضاً بالفساد والكفر والنفاق. ((زُخْرُفَ الْقَوْلِ)) وهو القول المزخرف الذي يحسبه سامعه حقاً وهو باطل، وأكثر الناس ليس عندهم التمييز والقدرة العلمية على معرفة النافع من الضار. ((زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا)) أي: ليغروهم به. ((وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ)) واستحضر هذه جيداً، وهو أن هذا الأمر حدث بمشيئته في قوله: ((وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ)) إذاً: بإذنه تم ذلك، ولحكمته وقع ما أراد سبحانه وتعالى، فهو الذي قدر وجود الأعداء، وكيد الأعداء، وكل ذلك لهوانهم عليه؛ ولذلك قال لنبيه عليه الصلاة والسلام: ((فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ)) وهذا نوع احتقار، أي: لا تعبأ بهم، ولا تقلق، ولا تضطرب منهم، والخطاب في حقيقة الأمر لكل مؤمن؛ ولذلك قال عز وجل: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ} [آل عمران:196] فهم أهون على الله سبحانه وتعالى من أن يجعل لهم منزلة وقدراً، قال صلى الله عليه وسلم: (لو كانت الدنيا -بأسرها- تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء) ولو أن الدنيا بأسرها كانت تساوي عند الله شيئاً ما مد عمر إبليس بطول عمر الدنيا منذ خلق الله آدم وأمر ملائكته بالسجود وأبى إبليس ذلك، وإبليس مخلوق قبل آدم، وقد طلب ذلك إبليس فأجابه الله له. انظر لتعرف حقارة وتفاهة هذه الدنيا؛ وذلك لأن الله أعطاها لإبليس اللعين حين سأله إياها؛ لأنها أتفه ما يكون؛ ولذلك استحضر أن ذلك بمشيئته سبحانه وتعالى: ((وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ)) هم يكيدون كيداً والله عز وجل يكيد كيداً {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} [الطارق:17]. قال عز وجل: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ} [القلم:44 - 45] أي: يمد لهم عز وجل، لكنهم مربوطون فيما أراد الله عز وجل أن يكونوا فيه، فهم مقيدون بمشيئته {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [القلم:45] لمتانة كيده عز وجل أملى لهم، وفتح عليهم أبواب كل شيء. قال عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:42 - 45]. قال الله سبحانه وتعالى: ((وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ)) أي: لزخرف القول الغرور ((وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ)) فمن حكمته سبحانه وتعالى أنه جعل قلوباً تميل إلى هذا الباطل، وتقبله، وتحبه، وترضاه، وتعين وتساعد عليه، وتسعى إلى نشره في الأرض، وهو باطل مر قبيح ولكن كثير جداً من النفوس تميل إليه بسبب انعدام الإيمان ((وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ)) أي: لتميل إلى هذا القول المزخرف الغرور الباطل، وهي قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة ((وَلِيَرْضَوْهُ)) أي: وليرضوا بالباطل ((وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ)) أي: ليكتسبوا ما هم مكتسبون، ولتكون نهايتهم وعاقبتهم كما كانت عاقبة من قبلهم؛ لذلك إذا استحضرنا أن الله هو الذي آتى، وأن الله هو الذي قدر أن يوجد من يضل عن سبيله، فستعرف أن الله سبحانه وتعالى يجعل هذا في النهاية مطموساً، ولا يثمر الثمرة التي رجاها أصحابه منه؛ ولذا دعى موسى عليه السلام ربه: أن يطمس على أموال آل فرعون قائلاً: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} [يونس:88 - 89] وبعض أ

مراتب الناس في الاستعانة

مراتب الناس في الاستعانة وقد جعل الله عز وجل الناس مراتب وأنواعاً في هذا: فمنهم من يستعين بالله سبحانه على قضاء مصلحة دنيوية فهو يتوكل على الله في أمر الرزق، وفي أمر الأولاد، وفي أمر الوظيفة، وفي أمر العمل وغير ذلك، وهذا وإن كان حسناً إلا أنه ليس هو المطلوب فقط. وكثير من الناس يستعين بالله عز وجل ويدعوه لنيل المحرم والعياذ بالله، فهو يتوجه إلى الله وليس في باله أن يطيع الله عز وجل، فربما وجدت من يخرج لأكل الربا ويقول: توكلت على الله، وما أكثر ذلك، وهناك من يخرج لظلم الناس ويقول: توكلت على الله، وتجده فعلاً يسأل الله التوفيق في ذلك العمل؛ لأنه حصل له الجهل المركب والعياذ بالله ولم يعبأ ببحثه عن الشرع، ولم يتعلم شرع الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك ظن الجاهل أنه يتوكل على الله في نيل معصيته وربما حصل له ذلك، فإبليس لم يتوجه لغير الله في طلب المد في عمره قال: {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الحجر:36] فقد سأل ربنا سبحانه وتعالى، وأعطاه الله ما سأل، لكي يستعين إبليس بهذا العمر الطويل على إضلال الناس ومحاربة الله، أفيظن أن الله لا يدري، ولا يعلم ما في نفسه؟! حتى إنه كتم هذا الأمر إلى أن تأكد أن الله أنظره، ثم قال: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر:39 - 40]، لكنها نوعية عجيبة وغريبة من المخلوقات، فهي تستعين بالله على الكفر به ومعاداته ومعصيته، وتطلب منه ما تستعين به على ذلك، لكنها موجودة بالفعل. وأعلى الناس قدراً في أمر الاستعانة هو من يستعين بالله على عبادته، وعلى طاعته؛ لأنه يعلم أنه لا يقدر على الطاعة إلا بتوفيق الله سبحانه وتعالى.

مقام الصبر وأنواعه

مقام الصبر وأنواعه ثم ينتقل بعد ذلك إلى مقام الصبر بأنواعه الثلاثة، وهي مجتمعة فيمن يطيع الله في فترات الشدة والمحن؛ لأن الصبر: صبر على الطاعات، وهو أعلى أنواع الصبر. وصبر عن المعاصي وحبس النفس عنها. وصبر على أقدار الله المؤلمة. والإنسان قد تصيبه أشياء مؤلمة على أي الأحوال، فالحياة لا تخلو من الألم، فمنذ نزول آدم عليه السلام والإنسان يشقى، كما قال عز وجل: {فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه:117] هي الدنيا ضنك، وألم لابد منهما، ولكن من الناس من يجري عليه الألم وهو في معصية الله. وهناك من يجري عليه الألم بغير طاعة ولا معصية، وإنما هي مصيبة تصيبه. وهناك من يجري عليه الألم وهو من الكفار فتصيبهم آلام يعذبون بها وهم في الكفر والعياذ بالله، أترون مثلاً من يحاربون المسلمين في كل المشارق والمغارب، ألا يصيبهم من الجراح والقتل والمتاعب والشقاء الشيء الكثير؟ ومع ذلك فهم على ما هم عليه من الكفر. يقول لي أحد الإخوة: كنت أعرف رجلاً من قبل شهر ونصف في كمال القوة والعافية، وكان من عادته أن يظلم كثيراً من الناس فيقول: مررت به الأسبوع الماضي وقد أصيب بورم سرطاني، فأُخذت حنجرته كلها، وأصبح في هزال شديد، وهذا كله في خلال شهر ونصف فقط. وهكذا أي إنسان، حتى لو كان إنساناً طيباً وعلى حاله ولا دخل له بشيء فإنه يصيبه المرض، فمن ذا الذي لا يصيبه المرض؟ بل قد يقوم الواحد من النوم فيجد شيئاً يؤلمه، فالآلام لا بد أن توجد. لكن هناك من يجيء له الألم بسبب طاعته لله سبحانه وتعالى، وهذا في الحقيقة في حلاوة. وأنواع الصبر الثلاثة: الصبر على الطاعة، والصبر عن المعصية، والصبر على أقدار الله المؤلمة مجتمعة فيمن يطيع الله عز وجل في فترات الشدة؛ لأن الطاعة أثناء الشدة تحتاج إلى صبر مضاعف، فالكل يريد أن يبعدك عن الطاعة، وقد يقال لك: ابتعد عن هذه الطاعة حتى تسير حياتك بسهولة، لا والله! الحياة لا تسير بسهولة بغير طاعة، وإن ظن الناس أنهم يعيشون حياة سهلة. وانظر إلى متاعب الناس الذين ابتعدوا عن الإسلام، وابتعدوا عن الدين: هل يعيشون حياة سهلة أم ضنكا؟ والله أنهم يعيشون حياتهم في ضنك وشقاء بأنواعه حتى الأغنياء منهم، وحتى الملوك والرؤساء والكبراء، وحتى السادة المبرزين والمشهورين، فإن حياة الضنك لا تفارقهم كما توعد الله عز وجل فقال: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:132 - 126]. ولو لم يكونوا في ضنك فلماذا يشربون الخمر؟! ولماذا يدخنون المخدرات؟! ولماذا يريدون أن يسيحوا في الأرض وينطلقوا بحثاً عن اللذات؟! فلو أن هذا الإنسان سعيد لما بحث عن مصادر السعادة الأخرى، ولما أراد أن يغيب عقله بالمسكرات أو المخدرات. فشعوب الغرب والشرق لا تستغني عن الخمر لحظة، ولابد أن يشربوها كل يوم، فشرب الخمر عندهم كشرب الماء عندنا، والمرفهون عندنا يضعون المياه الغازية، وعندهم يضعون الخمرة، حتى في احتفالاتهم وبروتوكولاتهم فلابد من الخمرة، فلا يستغنون عنها، فلو أنهم سعداء في حياتهم فلماذا يشربونها؟! ولماذا يريد الإنسان أن يغيب عنه العقل؟ لماذا يريد أن يعيش في حياة أخرى غير التي يعيشها؟ A لأنه تعيس في حياته، وانتشرت فيهم المخدرات بأنواعها المختلفة وهم الذين يصدرونها لنا، ويسعون في نشرها للناس. فمن أراد النزهة الحقيقية فليذهب للصلاة أو العمرة، أو ليصم يوماً، أو ينفق في سبيل الله، أو يطعم مسكيناً، فسيحس بفسحة فعلاً في صدره، لأن الانشراح والضيق شيء في داخل قلب الإنسان قبل أن تكون من خارجه؛ ولذلك سوف يستريح بهذه الأعمال، وربما كان يراه الناس في ضيق، فضلاً أن أكثر شعوب الأرض تعيش في ضيق دنيوي أيضاً، فوعد ربنا: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه:124] والعياذ بالله من ذلك. ولذلك نقول: إن الصبر على الطاعة في فترات الشدة يكون أعظم؛ لإنك تجد الناس يقولون: ابتعد عن الطاعة حتى تعيش حياة سهلة، وهم لا يعيشون أيضاً حياة سهلة، ولكن أكثر الناس يستجيبون لذلك، فلذلك كان الصبر على الطاعة في فترات الشدة أهم وأوجب وأعظم. أما الصبر عن المعاصي فالكل يدعوك إلى المعاصي، وانتشار الفساد يجعل المعصية سهلة، ويجعل المعاصي في متناول كل إنسان. فإذا أراد شاب مثلاً أن ينال من فتاة شيئاً، فهل يصعب ذلك عليه في وسط هذا الكم الهائل من المعاصي؟! ولذلك فالصبر في هذا المقام أعظم من الصبر عن هذه المعصية في مجتمع مسلم كل الفتيات فيه محجبات، والرجال فيه رجال يمنعون نساءهم من الاختلاط المحرم الفاسد، ويمنعون بناتهم وأخواتهم من ذلك، والمجتمع كله يذم من يزني، ويذم من ينظر، ويذم من يعاكس ويتوعده بالعقاب، أي الصبرين أعظم؟ مع أنه لو صبر في المجتمع المسلم وهو مأمور بالصبر لكان ثوابه عظيم، فكيف لو صبر في وسط الفساد المنتشر في الأرض، والمبثوث في كل مكان الذي يسهل معه أن ينال ما يريد إذا لم يتقِ الله سبحانه وتعالى؟ أما الصبر على أقدار الله المؤلمة فإنما يعيبه بسبب طاعته؛ لأنه يتوعد ويخوف كما قال تعالى: {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [الزمر:36] وقد يصيبه من ذلك ما يصيبه، ويحتسب عند الله سبحانه وتعالى، ويصبر ويكون بذلك قد حصل أعظم أنواع الصبر قال تعالى: {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا} [الأعراف:128]. فإن الله سبحان وتعالى يورث الله سبحانه وتعالى الأرض لعباده المتقين، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] فاليقين بوعد الله سبحانه وتعالى، والصبر على دينه في فترات الشدائد، كل ذلك من أعظم الواجبات، واليقين بوعد الله من أعظم مقامات العبادة والإيمان، فتوقن: {إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [الأعراف:128] وتوقن أن العاقبة للمتقين، فلا تغتر بما ترى من بدايات؛ وأن الموازين لصالح أهل الكفر، وأن القوة في العالم بأسره بأيدي المشركين، فوالله أن ذلك اختبار لك؛ لكي تستحضر ما أخبر الله سبحانه وتعالى به من أن المؤمنين هم المنتصرون، وتتذكر ذلك لتزداد يقيناً بوعد الله، هذه الآية الكريمة من المبشرات، قال تعالى: {إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128]، وقد قال عز وجل في معنى هذه الآية آيات كثيرة لكي نستيقن بوعد الله سبحانه وتعالى، قال عز وجل: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء:105 - 106]. ((وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ)) أي: في جنس الكتب المنزلة على الأنبياء وهي الكتب التي تزبر، أي: -تكتب- ((مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ)) أي: من بعد الكتابة في اللوح المحفوظ: ((أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ)). إذاً: فعليك أن تحقق الصلاح، وتجتهد في العبودية لكي تكون ممن يرث الأرض: (إن في هذا لبلاغاً لقوم عابدين) إذاً: فنحتاج في هذا المقام إلى الاجتهاد في العبادة، إلى أن نكثر من الصلاة والصيام والدعاء والتضرع لله سبحانه وتعالى، وخصوصاً إذا خوفت كما قال عز وجل: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:173 - 175] ولذلك أنت تحتاج إلى أن تتبع رضوان الله، فافعل ما يرضي الله، وأكثر من الطاعة، وأكثر من العبادة، ومن الذكر، ومن الدعاء فإن ذلك من أعظم ما يعينك على الثبات على دين الله سبحانه وتعالى. ومن أعظم ما يحتاج إليه المؤمن في الإعانة على الثبات كذلك: أن يكون مع إخوانه في الله، يوثق علاقته بهم، ويتعاون معهم على نصرة الدين وإقامة شرع الله سبحانه وتعالى في الأرض ولا يبتعد عنهم. فنحن كركاب السفينة الكبيرة التي غرقت وبقيت قوارب نجاة يجتمع فيها بعض الركاب، وأسماك القرش في البحر المتلاطم الأمواج تحيط بقوارب النجاة من كل جانب وتنهش في جوانبه، وهي قوارب ليست كالسفينة في شدتها بل هي مطاطية، فأسماك القرش ربما تأخذ من جوانبها وتفزع كل من فيها، ومع ذلك أتظنون أن عاقلاً يقول: إن أسماك القرش تحيط بالقارب فسأنقذ نفسي بإلقائها في البحر، أيكون مثل هذا عاقلاً؟! فهذا الذي يلقي بنفسه إلى أسماك القرش ويترك قارب النجاة الوحيد لا شك أنه هالك. وأما العاقل فهو يسعى إلى سد ثغرات القارب، ونزح المياه التي تأتي إليه من البحر، وهناك أشياء يأتي منها الخطر فلا بد أن نسدها، ولا بد أن نتعاون على حفظ القارب سليماً. المجتمع الذي كان في يوم من الأيام مجتمعاً مثالياً يعيش الناس فيه بالإسلام منذ مئات السنين غرق تدريجياً إلى أن صار بعيداً عن حقيقة الالتزام بالإسلام، وبقيت فيه قوارب النجاة وهي من يدعو إلى الله عز وجل من أهل المساجد، ومن أهل الخير، وممن يسعون إلى إقامة دين الله فهؤلاء هم قوارب النجاة، وأسماك القرش التي من حولك هم دعاة الفتن الذين يقولون لك: ابتعد عن هؤلاء

حياة القلوب فيما أنزل الله

حياة القلوب فيما أنزل الله وصية أخرى نختم بها كلامنا: وهي أن أعظم ما يحيي القلوب هو ما أنزله الله روحاً من عنده وهو كتاب الله سبحانه وتعالى، فلا بد أن نستمد منه الحياة كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} [الشورى:52 - 53] ولا أعني بذلك مجرد تصحيح اللسان وحفظ الحروف والكلمات، وإن كان ذلك هو الخطوة الأولى اللازمة، لكن لا بد له من تدبر وإمرار على القلوب قال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص:29] وليكن تصحيحك للحروف والكلمات وسيلة إلى تدبر قلبك لها كما قال أبو موسى الأشعري للنبي صلى الله عليه وسلم: (لو علمت أنك تستمع لحبرته لك تحبيراً) لزينت لك القرآن بصوتي تزييناً، فأنت إنما تريد بتصحيح الكلمات والحروف أن تتفهم القرآن أكثر؛ لأن من لا يحسن القراءة ربما يفوت عليه خير كثير من التدبر بسبب عدم إتقانه له. وأنا أقول لكم كتجربة شخصية: إن السورة التي أبذل مجهوداً في مراجعتها ولا أحسن حفظها؛ لأني حفظتها على كبر، إذا وقفت لأصلي بها أو أتلوها أظل مشغولاً بألفاظها وحروفها فيضيع معظم التدبر، أما ما حفظته صغيراً فهو مستقر في النفس فأجد السبيل إلى التدبر أسهل وأيسر مفتوحاً بإذن الله تبارك وتعالى. فنصيحتي إلى إخواني الشباب وأبنائي الشباب أن يستغلوا هذه الفرصة، فأنت في مرحلة التمكن من الحفظ، ولكن لا يكن همك أنهم سيقولون عليك: متقن، أو ستعطى إجازة تفتخر بها وتعلقها على الجدران، أو تعمل بها في أوقات تحتاج إلى العمل بها، لكن اجعل ذلك وسيلة إلى الغاية المقصودة؛ فإنما أنزله الله للتدبر قال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص:29]. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم، ونسأل الله مقلب القلوب أن يثبت قلوبنا على دينه، اللهم! يا مصرف القلوب! صرف قلوبنا على طاعتك.

إصلاح القلوب

إصلاح القلوب إن أول صفة يجب على المكلف أن يحرص عليها هي: سلامة القلب من أمراض الشرك والكبر والعجب والغرور وغيرها من الأمراض التي تفسد القلب، وخير علاج للقلوب المريضة هو مداواتها بمراقبة الله، وإخلاص العبادة له، وتوحيده وتذكر الموقف بين يديه سبحانه وتعالى.

إصلاح القلوب سبب للتمكين وللنجاة يوم القيامة

إصلاح القلوب سبب للتمكين وللنجاة يوم القيامة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد: يقول الله تعالى: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ * قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ * بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ * أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ * وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ * كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ * أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ * وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ * وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ * وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ * أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ * قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ * قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ * يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ * وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ * وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ * وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ * فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ * وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ * إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ * يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق:1 - 45]. عباد الله! لقد خوفنا الله سبحانه تعالى بوعيده، وأخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقرب الساعة، فقال: (بعثت أنا والساعة كهاتين، وإن كادت لتسبقني). فقد بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يدي الساعة، فهل أعددنا لهذه الساعة العمل الذي يناسبها؟ وهل أعددنا العمل الذي أمرنا الله سبحانه وتعالى به؟ وهل هربنا من وعيد الله عز وجل وخفنا من عقابه؟ اعلموا أنه لا ينجو بين يدي الله يوم القيامة إلا من أتى الله بقلب سليم، قال الخليل إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام في دعائه: {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:87 - 89]، فسلامة القلب هي أول صفة يجب على المكلف أن يحرص عليها، والحقيقة أن الإيمان الكامل الواجب لا يكون إلا مع سلامة القلب مما لا يحبه الله ولا يرضاه من أمراض الشبهات والشهوات، تلك الأمراض التي أمر الله العباد أن يعالجوا ويداووا أنفسهم منها، حتى لا تستفحل فتقضي على ما في القلب من إيمان. فالشرك -والعياذ بالله- من أعظم الأمراض خطراً، وكذا الكبر والعجب والغرور، وسائر أمراض النفس التي ينشأ عنها الصراعات بين الناس، وينشأ عنها الشرك والعناد، وينشأ عنها الكفر والنفاق، وسبب ذلك أن الإنسان لم يداوِ نفسه، ولم يسعَ إلى علاج ذنبها وظلمها، فالإنسان ظلوم جهول إلا من علمه الله سبحانه وتعالى، فجعل في قلبه العدل بدل الظلم، والعلم بدل الجهل. وقد أمر الله سبحانه وتعالى عباده بأن يداووا أنفسهم، وأخبرهم سبحانه وتعالى بأنه هو الذي يشفي هذه القلوب، وأنه هو الذي يحييها بعد موتها، وهو سبحانه وتعالى يفعل ذلك بأسباب يبذلها العبد، كما هو الحال في كل قضاء قدره، فأمر العباد أن يزكوا أنفسهم، وأن يداووا أمراضهم وهم موقنون مع ذلك أن الله وحده هو الشافي، وأنه لا شفاء إلا شفاءه، فيجب علينا أن نسعى في الأرض وأن نأخذ بالأسباب في علاج أمراض النفوس، وفي تسليم القلوب لله سبحانه وتعالى مع اليقين وبأن فضل الله أكبر، وأنه سبحانه وتعالى هو الذي يزكي نفوسنا، وهو خير من زكاها، وقد كان عليه الصلاة والسلام -وهو العبد الشكور- يقول في دعائه: (اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها). إن الله عز وجل هو الذي يزكي النفوس، وقد أفلح من زكى الله نفسه، وخاب من دس الله نفسه، وهذه التزكية والدرس هما محض عدل من الله عز وجل أو فضل، ففضل الله سبحانه يناله الذين اصطفاهم الله سبحانه وتعالى لذلك، وعدل الله عز وجل يقع على من يستحقه، نسأل الله سبحانه وتعالى العفو والعافية. إذاً: يجب علينا أن نسعى إلى سلامة القلوب وإصلاحها، وذلك لا يكون إلا بفضل وعون من الله سبحانه وتعالى، وسلامة القلوب وصحتها من الأمراض سبب لنجاة العبد يوم القيامة، وسبب في تمكين الله للطائفة المؤمنة في الأرض، فإن الله عز وجل إنما يغير موازين الكون وسننه التي يسير عليها من أجل الطائفة المؤمنة القليلة المستضعفة، هذه الطائفة التي ليس عندها من أسباب القوة أو العُدَد والعدة، وذلك لا يتحقق إلا إذا سلمت قلوبها، فالله عز وجل سوف يعطيهم رقاب العباد والبلاد، وأما إذا كانت النفوس لم تتزك بعد، ولم تصبر بعد، فإنها إذا تمكنت أوشكت أن تجعل العباد عبيداً لها من دون الله، وترى في ذلك كمال عزها مجدها، وهذا الذي صنعته لنفسها يضمحل معه سعيها في سبيل الله؛ لأن الله عز وجل لا يقبل من السعي إلا ما كان خالصاً لوجهه، وأما ما كان من عجب وغرور وكبر -والعياذ بالله- وما كان من عمل لغير وجهه فإنه مضمحل باطل لا يقبله الله سبحانه وتعالى، فإذا تمكنت هذه النفوس وهي لم تزل بعد متعلقة

الإخلاص دليل سلامة القلب

الإخلاص دليل سلامة القلب فالغاية المقصودة: أن يعبد الناس ربهم سبحانه وتعالى وحده لا شريك له، وهذا هو الإخلاص لله عز وجل -وهو علامة سلامة القلب- وهو الذي أُمرت به الأمم من قبلنا، قال عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ} [البينة:5]، وقال عز وجل لنبيه عليه الصلاة والسلام: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي * فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الزمر:14 - 15]. والإخلاص عزيز ونادر لا بد للإنسان أن يحرص عليه، وفي نفس الوقت لا بد أن يعلم أنه لا ينال إلا بالمجاهدة المستمرة، ولا ينال إلا بمراقبة نفسه ونيته، فلا يتركها هكذا بغير مراقبة؛ لأن أيسر شيء على الشيطان هو الدخول على النية، وأيسر شيء عليه أن يغير الأمر بعد استقراره، وهذا أمر عظيم الخطر، فلا بد للإنسان إذاً أن يراقب نفسه على الدوام، ومن هنا فاز السابقون، وانتصر المجاهدون على أنفسهم، وكان لهم عند الله سبحانه وتعالى المنازل العالية بالمراقبة الدائمة، ومحاسبة النفس على ما أرادت، ولماذا عملت؟ وكيف أدت هذا العمل؟ قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر:18 - 19].

نسيان الله تعالى دافع إلى الأمراض والآفات

نسيان الله تعالى دافع إلى الأمراض والآفات إن نسيان الله عز وجل إنما يحصل إذا انشغل الإنسان بحظ نفسه ونصيبها، وهذا الذي يدفعه إلى مراقبة الناس، فينسى ربه وينسى نفسه والعياذ بالله، فلا بد أن يكون وراء كل عمل يعمله، وأن يكون في فكره دائماً موقفه بين يدي الله عز وجل، وبما سوف يجيبه على ما سيسأله ربه سبحانه وتعالى. نسأل الله عز وجل ألا نناقش الحساب؛ فإنه من نوقش الحساب عذب كما أخبر بذلك الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ولذلك نقول: إن العبد الذي يكون مع الله سبحانه وتعالى هو العبد المخلص الذي يراقب نفسه ولا يتركها تطمح وتطمع فيما عند الناس وفيما يقوله الناس، فهذا هو الذي ينجو بإذن الله تبارك وتعالى، وهو الذي لا ينظر إلى مدح الناس وذمهم، ومدح الناس هو الذي يسعى إليه أكثر الخلق إلا من رحم الله، ومن هنا كان هلاكهم نعوذ بالله من ذلك. وهذا الذي دفع أناساً إلى الحسد، وإلى الكفر، وإلى العناد، رغم علمهم بأنه هو الحق، فما الذي دفع كفار قريش إلى أن يكفروا بمحمد عليه الصلاة والسلام؟ ألم يكن ذلك ما يقوله المشركون: أن بني هاشم سبقوا بأن كان فيهم نبي، فمن أين يكون لنا نبي؟ ولذلك قالوا: {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31]، فهذا هو الذي يخافون منه ويرجونه، ألم يكن سبب كفر فرعون هو الكبر والعياذ بالله، ورؤية كمال النفس التي هي في الحقيقة من أفقر وأضعف المخلوقات، ولكن الشيطان هو الذي يغذي هذا الأمر في نفس كل إنسان، فمن قاوم هذا الداء أفلح ونجح، ومن ترك نفسه على ما يغذيها به الشيطان كأن يقول له: إنك أنت الأفضل، وأنت الأحسن، وأنت الأعلى، فهذا الذي يغلبه شيطانه، وهو الذي دفع كبر فرعون إلى أن يقول لقومه: {يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:51 - 52]، فهذه هي المشكلة الواضحة عند فرعون، وهي: هل هو أفضل أم موسى؟ والعقدة في نفسه أن موسى أفضل منه أم هو أفضل؟ فكان كفره بسبب هذا الكبر والعياذ بالله، ولذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر). والكبر هو الذي أدى بإبليس إلى الكفر والعياذ بالله {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [ص:76]، والنظر إلى النفس بعين الكمال ينافي حال الأنبياء والصالحين، فكيف ينظر إنسان عاقل إلى نفسه على أنه الأكمل وعلى أنه الأحسن، وهو يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أكمل الخلق على الإطلاق، وأعلاهم عند الله منزلة، ومن كمال خلقه أنه يقول في دعائه: (اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي جدي وهزلي، وخطأي وعمدي وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت)، فهو يستشعر التقصير في السر والعلن، ويستشعر ذلك فيما قدم وفيما أخر من النقص والذنب والخطيئة، وبعد هذا كله يقول: (وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير). فإذا كان هذا هو حال رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل للناس: (يا أيها الناس! توبوا إلى الله واستغفروه فإني أتوب إلى الله في اليوم أكثر من سبعين مرة)، وهو المعصوم عليه الصلاة والسلام، الذي لا يتعمد مخالفة أمر الله عز وجل ومعصيته عمداً بإصرار أو بمعرفة قبل ذلك، وإنما ذنبه عليه الصلاة والسلام خطأ أو نسيان، أو ترك لبعض الأولى، أو فتور عن بعض المستحب، وهو مع ذلك يقول هذا الكلام، فكيف بمن هو دونه؟ وهذه نظرة المؤمن دائماً إلى نفسه، أن يرى أنه هالك إلا أن يرحمه الله عز وجل، وليس عنده عمل يستحق أن يُقبل إلا أن يتفضل الله عز وجل عليه، ولسان حاله يقول في خطابه لربه: {مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ} [يوسف:88]. فما الذي أطمع إخوة يوسف في أن يطلبوا من يوسف هذا الطلب وهي البضاعة المزجاة، أي: البضاعة البائرة التي لا تروج ولا تقبل، ومع ذلك كانوا طامعين في كرمه، وقالوا له: {قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} [يوسف:88]، فهم يرجون مع بضاعتهم المزجاة كرمه، وأن يوفي لهم الكيل، ولسان حال المؤمن في معاملته لربه عز وجل أن يكون على هذا الحال، وأن يرى نفسه أنه هو المقصر الذي لا يستحق أن يقبل له عمل، ولكنه يطمع في فضل الله وفي رحمته، ألم يقل النبي عليه الصلاة والسلام: (واعلموا أنه لن يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته)؟ فانظروا فيما كان الرجاء؟ وعلى ما كان التوكل؟ وبم تكون الاستعانة؟ ليس بالعمل -مع كونه في غاية الكمال بالنسبة إلى البشر- ولكنه فيما بينه وبين الله عز وجل، وهذا لكمال النقص في الحقيقة؛ ولأنها حققت ما ينبغي أن يكون عليه العبد من العبودية والذل، والاستكانة والإنكسار بين يدي الله، فهو لكمال هذه العبودية رأى النقص والتقصير، ورأى أنه لم يحقق ما عليه. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من عباده المخلصين.

كيفية مداواة القلوب

كيفية مداواة القلوب لا شك أن هذه القلوب تحتاج دائماً إلى مداواة لأمراضها، وهذا ينبني على تذكر الموقف بين يدي الله، وعلى معرفة الآخرة، وعلى معرفة صفات الله سبحانه وتعالى، ومعرفة الكمال فيها، ومعرفة عجز البشر ونقصهم وضعفهم وخطيئتهم وذنوبهم، وأنه مهما كان حال العبد فإنه لا يمكن أن يصل إلى ما ينبغي عليه أن يكون، فإن الله عز وجل لو عذب أهل سمواته وأرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً لهم من عملهم، وهذا عدل منه عز وجل. نسأل الله عز وجل أن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

بالإخلاص تقبل الأعمال

بالإخلاص تقبل الأعمال الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم. أما بعد: فالله عز وجل أغنى الأغنياء، كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن ربه عز وجل: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه). ولذا كان العمل الذي يكون فيه نية إرادة الناس مع إرادة وجه الله عز وجل غير مقبول عند الله، كما سئل النبي عليه الصلاة والسلام: (أرأيت الرجل يقاتل يلتمس الأجر والذكر؟ قال: لا شيء له) فالله عز وجل هو الغني الكريم، وهو الغني الحميد، ومن غناه سبحانه وتعالى أنه لا يقبل إلا ما كان خالصاً لوجهه، ولا يقبل شريكاً معه في عمل من الأعمال، ولذا كان على الإنسان أن يراقب نيته، وأن يكون مع الله سبحانه وتعالى دون النظر إلى الناس، وعندما ينظر إلى نفسه بعين التقصير والنقص سوف يكون في معاملته مع الناس، وكذلك لا يرى لنفسه حقاً على الناس، ولا شك أن هذا من علامات كمال النفس، وأنها استغنت بالله عز وجل أن يكون الإنسان في معاملته للناس لا يرى نفسه صاحب حق، ولا صاحب منزلة، ولا يرى نفسه أكمل منهم، وأنهم لا بد أن يعطوه حقه، وأن هذا فضل الله سبحانه وتعالى عليه، فليس له من الخير نصيب، وإنما هو سبحانه وتعالى الذي يجري على ألسنتهم أو أيديهم ما يكون فيه مصلحته وخيراً له، فكيف يطلبه منهم؟ فيكون العبد بهذا عنده من الجود والكرم والسماحة ما يستغني به عن الانتقام لنفسه كما قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: (وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لنفسه قط، إلا أن تنتهك حرمة من حرمات الله فينتقم لله عز وجل). فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في معاملته مع الناس لا يراعي حق نفسه، والله عز وجل لم يضعه أبداً، ولم يجعل أحداً من الناس يناله بالسوء والأذى، فقال: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67]، بل جعل قلوب أصحابه أسبق شيء إلى معرفة قدره، وإلى تعظيم حقه، ومراعاة منزلته عليه الصلاة والسلام، مع أنه هو عليه الصلاة والسلام لم ينتقم لنفسه قط، وما طلب لنفسه حقاً، وإنما جعل الله قلوب الناس هي التي تفيء إليه بالحق، وهي التي تعطيه هذا الحق امتثالاً لأمر الله من غير طلب منه، وهذا هو الجود والكرم. فالإنسان الذي لا يرى لنفسه حقاً، ولا يرى أنه قد قصر في حقه هذا هو الذي قد استغنى بالله عز وجل، فكان مع الخْلق بلا نفس يراعي حظها ويراعي نصيبها، وأصبح لا يطالبهم بما له عندهم، ولذلك كان هذا من المرحومين، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا اقتضى)، وقال عليه الصلاة والسلام: (كان فيمن كان قبلكم رجل كان من خلقه الجواز، وكان يعامل الناس، وكان يدينهم، فكان يقول لصبيانه أو لغلمانه: يسروا على الموسر، وأنظروا المعسر -أو ضعوا عن المعسر- فقال الله عز وجل: نحن أولى بذلك منه، تجاوزوا عنه)، ولم يكن له من عمل صالح كما قال عليه الصلاة والسلام إلا الجواز، إلا أنه من خلقه التجاوز والتسامح والعفو والصفح، وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

الغني من استغنى بالله

الغني من استغنى بالله ألم تعلموا وتسمعوا قصة ابن عم النبي عليه الصلاة والسلام وهو الحارث بن عبد المطلب، والذي كان من أشد الناس عداوة للنبي عليه الصلاة والسلام، ومن أشد الناس تحريضاً عليه، وكان ينبغي له أن يكون من أشد الناس حرصاً على النبي عليه الصلاة والسلام، فلما فتح الله لنبيه مكة وأسلم الحارث كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض عنه؛ لما كان يتذكر من أذاه له، ومن شدته عليه حال الجاهلية، فاشتكى إلى علي رضي الله تعالى عنه ما يجد من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: ائته من قبل وجهه، وقل له: تالله لقد آثرك الله علينا، وإن كنا لخاطئين، فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن مردوداً منه، فجاءه من قبل وجهه وقال له: تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين، فالتفت إليه النبي عليه الصلاة والسلام وقال: (((لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ))). وبهذا كان أحسن مردوداً كما كان يوسف عليه السلام؛ وهذا لأنه استغنى بالله عز وجل، واستغنى بعبوديته لله سبحانه، فاضمحل ما في يد الناس في نظره، ولم يلتفت إليهم قط، فإن عملوا شيئاً فهم يعاملون الله به، وإن قصروا في شيء لم يشعر بهذا التقصير ولم يلتفت إليه، فكان الجود والخلق الحسن من أخلاق النبيين، وكان عليه الصلاة والسلام يحسن استقباله بعد ذلك ويرى فيه بديلاً عن حمزة رضي الله تعالى عنه، فمن استغنى بالله عز وجل بافتقاره إليه دون سواه أغناه الله عز وجل عن كل ما سواه، وجعل نفسه كريمة فيها الجود والسماحة وسهولة التعامل، وهكذا تضمحل الأمراض الأخرى مثل: الحسد، والتباغض، والتنافس على الدنيا، وحب الشهرة والرئاسة على الخلق، والملك والسلطان، وهل ترون العالم كله يسعى إلى الدمار وإلى الهلاك وإلى الحرب وإلى القتل وسفك الدماء وانتهاك الحرمات إلا من أجل ذلك؟ فمن استغنى بالله عز وجل أغناه وجعله في غنى عن الناس، وفي غنى عن أن يطلب منهم شيئاً، ومن افتقر إلى الخلق أفقره الله عز وجل؛ لأن النفس خلقت فقيرة إلى الله وحده، فهي تميل إلى أن تذل وتخضع لله وحده، فمن كان فقره إلى الله عز وجل كان أسعد السعداء، ومن ظن أنه يستغني بشيء من المخلوقات مالاً كان أو جاهاً أو سلطاناً أو وجاهة عند الخلق فإنه لا يزال في فقر ولا يزال في ضنك وضيق؛ لأنه لم يخلص لله عز وجل، فالقلوب إذا سلمت لله سبحانه وتعالى وأخلصت له عز وجل استغنت به عما سواه، وتذللت وانكسرت.

العبودية الكاملة لله تعالى لا تحصل إلا بالانكسار والذل والخضوع له تبارك وتعالى

العبودية الكاملة لله تعالى لا تحصل إلا بالانكسار والذل والخضوع له تبارك وتعالى إن الانكسار بين يدي الله، والشعور بالعجز والضعف، وضيق ذات الحال، وأن الإنسان لا يملك شيئاً هو من أعظم أسباب حب الله سبحانه وتعالى، فالعبد الذي ينكسر لله، ويرى نعمه عليه، ويرى عجزه وضعفه هو أقرب إلى أن يحب الله سبحانه وتعالى ثم ينال درجة المحبوبية، وهل العبودية إلا حب وانكسار، وبذلك يرتفع الإنسان، ويعلو شأنه، ويكون قد حقق التوحيد وأخلص لله، ولم يشرك بالله شيئاً، فيستحقون إن كانت طائفة أن يمكن الله عز وجل لها: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55]. فهذه العبودية الكاملة لله عز وجل لا تحصل إلا بالانكسار والذل والخضوع لله عز وجل، ولا يحصل ذلك مع العجب والكبر والرياء وطلب مدح الناس أو الخوف من ذمهم. اللهم اجعلنا من عبادك المخلصين، اللهم ارزقنا الإخلاص في أعمالنا كلها، واجعل أعمالنا كلها صالحة، واجعلها لوجهك خالصة، ولا تجعل لأحد فيها شيئاً. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اليهود والنصارى والمنافقين، وسائر الكفرة والملحدين، أصحاب الضلال ودعاة السوء. اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين. اللهم انصر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم انصر المسلمين في فلسطين، اللهم انصر المسلمين في البوسنة والهرسك، اللهم انصر المسلمين في كل مكان. اللهم نج المستضعفين من المؤمنين والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم اجعل بأس الظالمين عليهم، وكف بأسهم عن المسلمين فأنت أشد بأساً وأشد تنكيلاً، ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.

اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو

اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو إنَّ من ثمار الإيمان بالله واليوم الآخر معرفة أن هذه الدنيا حقيرة وفانية، وأن مآل الإنسان إما إلى جنة وإما إلى نار، فالمؤمن يسابق إخوانه في فعل الطاعات، وهو بذلك يرجو مغفرة الله سبحانه وجنة عرضها السماوات والأرض. والمؤمنون الصادقون متفاوتون في درجاتهم في الجنة حسب درجات إيمانهم، فتراهم مؤمنين بقضاء الله وقدره، فلا يجزعون عند المصيبة، ولا يفرحون بما أعطاهم الله من فضله، بخلاف ذلك المتكبر المختال ضعيف الإيمان الذي يبخل ويأمر الناس بالبخل.

تأثير إيمان المؤمن وعلمه في فهمه لحقيقة الدنيا وحقارتها

تأثير إيمان المؤمن وعلمه في فهمه لحقيقة الدنيا وحقارتها الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. قال الله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ * سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ * مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [الحديد:20 - 24]. إن نظرة المؤمن إلى حقيقة الحياة وإلى صغر مدتها إنما تنبع من إيمانه بالبداية والنهاية التي بينها لنا ربنا سبحانه وتعالى، وإنَّ هداية هذا الخلق بيد الله عز وجل الذي قدر وجوده، وكتب مقادير الخلائق قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وهو سبحانه وتعالى جعل وجودنا على الدنيا مروراً عابراً، فنأتي على ظهر الأرض سنوات، ثم نبقى ما شاء الله عز وجل في باطنها، ثم بعد ذلك نبعث ليوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم بعد ذلك نهاية في نعيم أبداً أو في عذاب أبداً، قال تعالى: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7]، فنظرة المؤمن لحقيقة هذه الحياة التي نعيشها على ظهر الأرض وصغرها وحقارتها، وما أخبر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنها: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)، يؤثر ذلك في سلوكه تأثيراً بالغاً في سلم أولوياته في الحياة، وما يقدم وما يؤخر، وما يعظم وما يحقر، وما ينفق فيه الوقت والعمر، وما يبخل به، وما يبخل بالوقت والعمر عن أن ينفقه فيه، وكذلك يؤثر على سلوكه فيما يسابق إليه وينافس عليه، وفيما يسعى إلى التقدم فيه، وكذلك يؤثر على سلوكه فيما يصيبه من مصائب ومحن، ويؤثر على سلوكه في معاملته لغيره، وأصل ذلك الإيمان والعلم بما أمرنا الله عز وجل أن نعلمه، قال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ} [الحديد:20].

النهي عن التفاخر وضرره على إيمان المسلم

النهي عن التفاخر وضرره على إيمان المسلم إن هذه الشهوات نوع من اللهو اللعب، قال تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [الأنعام:32]، فهذه الحياة التي من أجلها ينفق الناس كل أوقاتهم، ومن أجلها يسفكون دماءهم ويستحلون محارمهم، ومن أجلها كفر من كفر، ونافق من نافق، وظلم من ظلم، والعياذ بالله من ذلك كله، هي لعب ولهو وزينة، فهي زينة يتزين الناس بعضهم أمام بعض فيها، ويفتخرون بما يتزينون به، ومن أجل ذلك عبدوا الدراهم والدنانير والقطيفة والخميصة، فتعسوا في هذه الحياة مصداقاً لما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام: (تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميلة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، إن كان في الساقة كان في الساقة، وإن كان في الحراسة كان في الحراسة، إن استأذن لم يؤذن له وإن شفع لم يشفع)، فهذا الذي زهد في أعظم ما يتنافس الناس فيه من التفاخر في الدنيا والوجاهة فيها، هذا عبد زاهد. (طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله)، فإن أمر أن يكون في الساقة -وهي مؤخرة الجيش- لم يأب ذلك، بل كان فيها مؤدياً دوره، ولا يقول: إن لم تصدروني في الصفوف الأول، وإن لم تعطوني صدور المجالس؛ فلا أكون معكم، ولا أنفذ ما تأمرونني به، وإنما هو مغمور في وسطهم، مذكور عند الله عز وجل في الملأ الأعلى، لا يعرفه أهل الأرض ولكن يعرفه أهل السماء، وهو إن كان في الحراسة -أي: أمر بأن يكون في الحراسة- كان في الحراسة، فلا يستنكف أن يكون حارساً لغيره ممن له عند الناس منزلة أكبر، وتكون حياته أهم من حياة هذا الحارس، فلا يستنكف عن ذلك طالما أن ذلك في سبيل الله، فهو يبذل ولا يشترط منزلة معينة ولا مكانة معينة، وعلامة ذلك أنه إن استأذن لم يعرف، ولذلك لا يؤذن له، ولا منزلة له عند الناس تجعلهم إذا شفع يشفعونه، قال صلى الله عليه وسلم: (إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع)، فطوبى لهذا العبد، بخلاف ذاك العبد الأول الذي عبد الدرهم والدينار، وعبد المظاهر وتفاخر بها، وعبد القطيفة والخميلة والخميصة، وعبد الوجاهة لدى الناس، ومن الناس من يكون في عبوديته هذه مشركاً بالله الشرك الأكبر، ومنهم من يكون على أدنى من ذلك -أي: مشركاً شركاً أصغر- على حسب تعظيمه لهذه الشهوات، فمن عبد الدرهم والدينار والقطيفة والخميلة والخميصة بحيث يبيع دينه بالكلية من أجلها، فهو مستعد لأن يبيع دينه بعرض من الدنيا، فإذا أمسى مؤمناً وعرض عليه في الليل شيئاً من الدنيا على أن يبيع دينه باع فيصبح كافراً، وإذا أصبح مؤمناً وعرض عليه في أثناء يومه أن يبيع دينه بشيء من هذه الدنيا باع فيمسي كافراً والعياذ بالله. فهذه فتن مظلمة تطغى على هذا العبد، وإن سعى إلى السعادة في ظنه فهو تعيس لخبر النبي صلى الله عليه وسلم، أو أن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا عليه بالتعاسة، فهو مستجاب الدعوة عليه الصلاة والسلام، سواء كان خبراً أو دعاء فهو على أي الوجهين شقاوة ما بعدها شقاوة. وأما إذا كان يقدم هذه الشهوات على طاعة الله لكن لا يقدمها على توحيده، لا يقدمها على الدين كله، ولا على إيمانه، فإنه يكون فيه من عبودية هذه الأشياء ما يجعله مشركاً شركاً أصغر، وإن لم يصل إلى الشرك الأكبر والعياذ بالله، والحديث يشمل النوعين، فالتفاخر هذا الذي يسعى أكثر الناس إليه ويحرصون عليه نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال: (إن الله أوحى إلي أن تواضعوا؛ حتى لا يبغي أحد على أحد، ولا يفخر أحد على أحد)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في تحقيق التواضع: (الناس لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى)، وإن كان الإنسان من ذوي النسب والشهرة والمنزلة، فليس له عند الله عز وجل إلا عمله الذي يستحقُّ به مرضات الله، قال صلى الله عليه وسلم: (ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه)، فالتفاخر الذي يكون بالوجاهة لدى الناس وبالرئاسة والملك ذلك الذي يتنافس الناس فيه ومن أجله تقام الحروب، ومن أجله يقتل الملايين، ومن أجله تنتهك الحرمات، وتنفق الأموال، وتسفك الدماء فهذا حذرنا القرآن منه، فنعوذ بالله أن يفخر بعضنا على بعض.

التكاثر لا يغني عن الإنسان شيئا بعد موته

التكاثر لا يغني عن الإنسان شيئاً بعد موته وأما التكاثر: فهو أن يكون أكثر من غيره، كالذي قال الله تعالى فيه: {فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} [الكهف:34]، وشعور الإنسان بالكثرة ينافي حقيقته وقد خلق وحيداً، وقد خلق في بطن أمه لا يشعر بشيء مما حوله، ثم يدفن وحيداً يوم يوضع في قبره، فأي نفع بالكثرة وقد خلا كل إنسان ممن مضى في قبره الآن بالشقوة والسعادة، فحتى أقرب المقربين إليك ممن كنت تحبه وما زلت تحبه ممن رحل عن هذه الحياة، هل تستطيع أن تبقى حتى إلى جوار قبره ساعتين أو ثلاث ساعات من يومك؟ فأحسننا حالاً من يزوره كل مدة من الزمن؛ ليسلم عليه في دقائق أو ثوان ويدعو بدعوات ثم ينصرف، وكان ولم يزل حبيباً إلى القلب بلا شك، ولكنه خلا بما قدم وما أسلف. وهكذا في عموم جنس الإنسان كل منا يخلو وحده بعد ذلك، فما أحراه في حال الحياة أن يكون كذلك باحثاً عما يقدمه لنفسه، منفرداً يعامل ربه وحده، ولا يجعل كثرة المال والولد غاية مقصودة، ولا يجعل مكاثرته لهذه الدنيا هدفه المنشود، قال تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر:1 - 2]، فقد كانوا من كثرة تفاخرهم وتكاثرهم يذهبون إلى المقابر؛ ليعدوا أمواتهم؛ وليفتخروا بهم على عادة العرب في الجاهلية، وقيل: ((زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ)) معناه: أن الإنسان يبقى فيها مدة، ثم يرتحل عنها إلى الآخرة، فكأنها زيارة، والذي يظهر -والله أعلم- هو الأول، فإن عادة العرب التكاثر بمن مات، ولو كانوا من أزمنة بعيدة، وكان ذلك من عاداتهم المعروفة، قال تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} [التكاثر:1 - 5] أي: لما فعلتم ذلك؛ ولو علمتم علم اليقين لآثرتم الآخرة وتركتم الدنيا، {لَتَرَوُنَ الْجَحِيمَ} [التكاثر:6]، فأكد الله عز وجل أن من ألهاه التكاثر فسوف يرى الجحيم، ثم يعذب به بعد ذلك، قال تعالى: {ثُمَّ لَتَرَوْنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر:7 - 8].

تشبيه الدنيا بغيث ينبت زرعا ثم يصير حطاما

تشبيه الدنيا بغيث ينبت زرعاً ثم يصير حطاماً والله سبحانه وتعالى حين يخبرنا أن حقيقة الحياة التكاثر بينكم: {وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} [الحديد:20]، يرشدنا إلى ما ينبغي أن نعاملها به من التحقير، وعدم الاهتمام، والتضحية بها، وعدم الانشغال بها كمثل مطر أدى إلى إنبات الأرض، قال تعالى: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} [الحديد:20]، أي: أعجب الزراع نباته، فوصفهم في هذا الموضع بالكفار للمشابهة بينهم وبين من تعجبه الدنيا، فمن تعجبه الدنيا وينشغل بها هم الكفار الذين لم يشكروا نعمة الله عز وجل بالإيمان، وإن كان في المثل المضروب: الكفار هم الزراع، لكن ما يراد به المثل هم الكفار الذين كفروا ولم يشكروا نعمة الله عز وجل عليهم بالإيمان وبتوحيده عز وجل وببعثة رسله، فأشركوا بالله عز وجل، وكفروا برسله قال: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا} [الحديد:20]. فهكذا الدنيا مثالها واضح، وإن كانت تأخذ في عمر الزرع أشهراً، وفي عمرنا نحن تأخذ سنوات طالت أو قصرت، ولكن في نهاية الأمر لابد من أن يكون الإنسان حطاماً، ويكون ما جمعه حطاماً، قال تعالى: {وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ} [الحديد:20]، فهذا الذي يجب أن يعمل له المؤمن أن يفر من العذاب، ويطلب المغفرة والرضوان، قال تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُور} [الحديد:20]، أي: المتاع الذي يغر ويخدع، فلا تنخدعوا به.

الأمر بالمسابقة والمنافسة على فعل الطاعات

الأمر بالمسابقة والمنافسة على فعل الطاعات ثم بين عز وجل ما ينبغي أن تكون فيه المسابقة والمسارعة والمنافسة، قال تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد:21]، وسابق بمعنى: أن تقصد أن تكون الأسبق، وأن تكون الأول وأن تأتي في المقدمة، وتستشعر أن هناك من يريد أن يسبقك وأنت تبذل كل ما في وسعك لكي تصل إلى الله سبحانه وتعالى، وهذه المسابقة من أجل الآخرة هي علاج أنواع الأمراض القلبية التي يثمرها التنافس والتكاثر والتفاخر على الدنيا، إنَّ هذه الأمراض التي حقيقتها الكبر والحسد، والبغضاء، والكراهية تؤدي إلى أن ينقسم ذلك المجتمع أنواع الانقسامات، والتنافس على الدنيا يؤثر سلبياً على العلاقة بين أفراد المجتمع بأن يبغض بعضهم بعضاً، ويعتدي بعضهم على بعض بالألسنة والأيدي، في الأعراض والأموال والدماء، فيظل الناس في صراعاتهم إلى أن يموتوا والعياذ بالله.

الشح سبب من أسباب التنافس الذي أهلك الأمم والأفراد

الشح سببٌ من أسباب التنافس الذي أهلك الأمم والأفراد إن الشح -وهو: الحرص على ما في أيدي الناس أن يضمه إلى ما في يده- حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم، (أهلك من كان قبلكم) كما قال النبي عليه الصلاة والسلام، فالتنافس على الدنيا يزيد البغضاء والشحناء في القلوب، وأما التنافس على الآخرة فهو يزيد الود والحب رغم أنه تنافس. إن الإنسان يحرص على أن يكون هو المقدم، وهذا إذا كان في طاعة الله، ولم يخدع الشيطان صاحبه حتى يجعل له الدنيا وقد ألبسها صورة الطاعة، وهو ينافس على الدنيا في الحقيقة وإن كان بستار ولباس الدين، فإنه إذا كان التنافس على الآخرة حقيقة زاد الأمر وداً وحباً، وإذا وجدت التنافس يؤدي إلى البغضاء والكراهية فبالقطع واليقين أنَّ هذا ليس الذي أمر الله به؛ لأن ما أمر الله به يؤدي إلى ما يحبه ويرضاه، وهو لا يحب البغضاء حالقة الدين، كما أخبر بذلك النبي عليه الصلاة والسلام، فإذا كان يؤدي إلى الحسد فالله لا يحبه ولا يشرعه، كيف وقد هلك إبليس به، وهلك ابن آدم الأول به، نعوذ بالله. إذاً: إذا وجدت البغضاء والكراهية والحسد وإن كان فيما يبدو تنافساً على الدين فأيقن أنه ليس كذلك، وأيقن أن هذا ليس تنافساً على الدين، بل دخلت الدنيا حتماً واستقرت في القلوب، ثم لبست لباس الدين وفيما أُظهر الناس أنهم يتنافسون على مرضاة ربهم والحقيقة أنهم يتنافسون على المنازل في قلوب العباد وفي نظرهم نعوذ بالله من ذلك، وذلك كله راجع إلى شدة الانشغال بالدنيا والتكاثر فيها، ونسيان المغفرة والجنة، فكلما أكثرت الفكر في يوم القيامة، وفي الجنة التي عرضها كعرض السماء والأرض، وكلما تفكرت في الموقف، وفي الحساب والحشر وصفة القيامة، وكلما صغرت الدنيا في عينيك وفي قلبك، وكلما تنافست فعلاً على الآخرة، وهان عليك أن تخذل من الدنيا، وهان عليك وسهل أن تكون سمحاً في معاملتك، غير بخيل ولا آمرٍ الناس بالبخل، فلا بد أن تعرف أن طاعة الله لا تأتي إلا بالخير، ولذلك كان السباق على الآخرة لابد أن يأتي بالخير، فإذا وجدنا شراً فلنتهم أنفسنا، فإن الله عز وجل لا يخلف الميعاد.

أمثلة في المسابقين إلى طاعة الله

أمثلة في المسابقين إلى طاعة الله إن الله سبحانه وتعالى قد ضرب لنا الأمثلة في المسابقين إلى طاعته، والمتنافسين في مرضاته فيما جعل من أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم من حبهم بعضهم لبعض مع تنافسهم على الطاعة، فهذا عمر يقول حين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالنفقة: اليوم أسبق أبا بكر، فأتى بنصف ماله صدقة لله عز وجل، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم لما سأله: (ما أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم مثله، وعندما جاء أبو بكر بماله كله قال: ما أبقيت لأهلك؟ قال أبقيت لهم الله ورسوله، فيقول عمر: لا أسابقك إلى شيء أبداً)، ومع ذلك يظل على الحب والود، ويظل الناصح الأمين المخلص، وربما اختلف معه، لكن يظل الوئام والحب صادقاً في قلوبهم بين بعضهم بعضاً؛ ولهذا ولما حاول البعض أن يوقع بينهما عندما أمضى أبو بكر أمراً وكتب لبعض الناس به صكاً أو نحو ذلك، فقابل عمر فقطع ذلك الصك أو تلك الورقة، فذهب إلى أبي بكر يقول: أنت الأمير أم هو؟! فقال: هو لو أراد. فانظر إلى هذا الفقه العظيم! وكيف كان تنافسهم على الطاعة لا يثمر حقداً ولا ضغينة ولا بغضاء، هذا أبو بكر يوم السقيفة يقول للأنصار، وقد أرادوا أن يجعلوا أميراً منهم بالإضافة إلى أمير المهاجرين، وبين لهم أن هذا الأمر لا يصلح إلا لهؤلاء الملأ من قريش قال: وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين: عمر أو أبا عبيدة، وإذا بـ عمر يطلب من أبي بكر أن يبسط يده ليبايعوه، فيؤاثر ولا يؤثر إلا ما يعلم أنه الحق وأنه النصح للأمة، وأبو بكر كان صادقاً فيما نصح، وهو قد رضي لهم ذلك، وإن كان هو الأفضل رضي الله تعالى عنه، وعمر رضي الله عنه له فضل عظيم في تقديم أبي بكر لهذه الأمة رضي الله تعالى عنهم أجمعين. فهكذا كان السباق على الآخرة يؤدي إلى مزيد الحب ومزيد الود، وهكذا طبيعة حقيقة التنافس على مغفرة الله؛ لأن الإنسان المؤمن إنما يحب في الله، وهو إذا ظهرت طاعته في الأرض أحب ذلك حباً لله عز وجل، وحباً لظهور دينه، فكيف يمكن أن يكره ظهور الطاعة في الأرض لأجل أنها ظهرت على غير يديه، أو لأنها ظهرت من غيره، وأي عمل يعمله في الحياة إلا أنه يريد أن تظهر عبودية الله في الأرض، وأن يعبد الله سبحانه وتعالى، فأما إذا كان يريد كبراً وعلواً فهذا الذي يشرق إذا ظهرت الطاعة على يد غيره، ولا يقبل ذلك ولا يستسيغ ذلك، فتجد الدنيا من وراء ستار الدين، نعوذ بالله من ذلك.

تفاوت الناس في الإيمان وتفاوت درجاتهم في الجنة

تفاوت الناس في الإيمان وتفاوت درجاتهم في الجنة قال الله عز وجل: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} [الحديد:21]، فالدنيا صغيرة ضيقة لا تحتمل أن يكون الجميع فيها ملوكاً ولا رؤساء، ولذا كان التنافس على رئاستها أشقى أنواع التنافس؛ لأن الأرض لا تتسع إلا لعدد محدود من الكبراء والرؤساء والملوك، وأما الجنة فعرضها كعرض السماء والأرض، وأصحابها كلهم ملوك، قال عز وجل: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا} [الإنسان:20]، وأدنى أهل الجنة منزلة من يسير في ملكه ألفي عام، فهو ملك الله عز وجل، وجعل أصحاب الجنة ملوكاً، وجعل لهم ملكاً كبيراً، فأدناهم منزلة: من له مثل عشرة أضعاف ملك من ملوك الدنيا، بل في الروايات الصحيحة أن له عشرة أضعاف الدنيا بأسرها، وهي لا تتحقق لملك من ملوكها. فانظر إلى هذا الملك العظيم، فهي جنة {كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} [الحديد:21]، فتحقيق الإيمان هو الذي يهدف له المؤمن، وهو الذي يسعى له بكل طريق؛ ليكون مؤمناً حقاً كما وصف الله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:2 - 4]. فالله سبحانه وتعالى جعل من المؤمنين من هو مؤمن حقاً، فدل ذلك على أن هناك من يقول: أنا مؤمن وليس مؤمناً حقاً كمسلمة الأعراب الذين قال عز وجل فيهم: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14]. فذلك أن الإيمان قول وعمل، ظاهر وباطن، وليس مجرد كلمة تقال، ولا إعلان يعلن، والالتزام حقيقة في الباطن والظاهر، وفي السلوك والعمل والعقيدة، فلابد أن يكون الإنسان مجتهداً في تحقيقه من جميع جوانبه؛ ليفوز بهذه الجنة، قال تعالى: {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21]، فاعلموا إذاً أنكم لن تنالوا ذلك إلا بالله عز وجل، واعلموا أنكم لن تنالوا هذا الفضل إلا من ذي الفضل العظيم وبمشيئته، فأيقنوا بقدره، وفروا من الله عز وجل إليه، والجأوا إليه سبحانه وتعالى في أن يفضلكم على من سواكم من الخلق، فإن الله عز وجل جعل اصطفاءه واختياره لأهل الجنة من عباده واحداً في الألف، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى لآدم يوم القيامة: (يا آدم أخرج بعثا النار؟ فيقال: من كل كم؟ فيقال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون)، فحتى تكون أنت الواحد في الألف الذي ينجو إلى الجنة فاعلم أن ذلك لن تناله إلا بتوفيق الله عز وجل، فاضرع إليه سبحانه وتعالى أن يمن عليك بفضله، وأن يرزقك طاعته، وأن يعينك على عبادته، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.

من ثمار الإيمان: الرضا بقضاء الله وقدره وعدم الجزع عند المصيبة أو الفرح غرورا وكبرا

من ثمار الإيمان: الرضا بقضاء الله وقدره وعدم الجزع عند المصيبة أو الفرح غروراً وكبراً إن من أعظم آثار الإيمان بحقيقة الحياة وأنها لهو ولعب وزينة، والإيمان بالآخرة وتحقيق الإيمان بالله ورسله من أعظم ثمار ذلك وآثاره في سلوك المؤمن في حياته عندما تصيبه المحن، وتصيبه المصائب فهو لا يجزع عند المصيبة، ولا يفرح عندما تأتيه الدنيا فرح الغرور والكبر، ولا فرح البطر والأشر الذي ينسب إلى نفسه الفضل، قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22]، وذلك يتحقق بالنظر فيما قدر الله عز وجل من المقادير، وهذا هو ثمرة الإيمان بالقدر، وثمرة الإيمان بما كتب الله عز وجل من مقادير الخلائق قبل خلق السموات والأرض، قال النبي صلى الله عليه وسلم (إن أول شيء خلقه الله القلم، فقال: اكتب، فقال: ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة)، فجرى في تلك الساعة فيما هو كائن. وفي حديث أبي هريرة (يا أبا هريرة! جف القلم بما أنت لاق)، أي: جف القلم على علم الله سبحانه وتعالى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشي قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف). فاللوح المحفوظ قد جف قلمه، وطويت صحفه، وأما الكتب الأخرى فهي نسخ تقبل المحو والإثبات، أما اللوح المحفوظ فلا محو فيه ولا إثبات، قال تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39]، قال ابن عباس: الكتاب كتابان. فالله سبحانه وتعالى جعل في نفس المؤمن الإيمان بالقدر؛ لكي لا يأسى على ما فات، قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:22]، أي: من قبل أن نبرأ الأرض، أو من قبل أن نبرأ النفوس، أو من قبل أن نبرأ المصيبة، أي: نخلقها، أو من قبل أن نبرأ الخليقة كلها، فيشمل التقديرات كلها، وهذا أحسن التفسيرات في هذا المقام، فقبل أن يبرأ الله كل ذلك، وقبل أن يوجده، قدر الله هذه المقادير، وذلك أن الذي يترك التنافس على الدنيا سوف يفوته منها، وأن الذي ينافس ويسابق على الآخرة سوف يصيبه من أنواع البلايا والمحن ما يصيبه، فلابد إذاً أن يكون مهيأ النفس مستعداً لتحمل ذلك بغير شقاء ولا تعاسة. إن المصائب تشقي الناس إذا لم يؤمنوا بالقدر، وإذا لم ينظروا إلى البداية والنهاية، وأما إذا أيقنوا بالنهاية هانت عليهم المصيبة، وإذا أيقنوا بالبداية نظروا إلى حكمة الله الذي علم وقدر وكتب، وأعطى كل شيء خلقه ثم هدى، ووضع الأشياء في مواضعها، وله الحكمة والملك والحمد، يحيي ويميت وهو على شيء قدير، فليس فقط له الملك بغير حمد حتى يتصرف في ملكه كما يتصرف أهل الدنيا ممن أعطاهم الله الملك؛ للشهوات والرغبات الدنيئة التي يستحقون عليها الذم، كما أنه ليس له حمد بغير ملك بل هو سبحانه وتعالى مع كمال ملكه يستحق أكمل أنواع الحمد، قال تعالى: {لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ} [التغابن:1]، وأكثر الخلق إذا كان ملكاً تصرف على هواه، وكثير ممن له حكمة يتصرف بها لا يكون قادراً، ولا يكون ملكاً متصرفاً ليمضي الحكمة في مواضعها، والله عز وجل له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير. فإذا نظر الإنسان إلى البداية والنهاية فعند ذلك تهنأ نفسه بالحياة وتستقر، ويستقر قلبه ويسكن ولا يجزع عند المصائب، قال عز وجل: {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22] أي: كتابة كل مقادير الخلائق على الله يسير، وفيه إثبات قدرة الله، وفيه إثبات أسمائه وصفاته ومعرفة علمه وفعله عز وجل بالكتابة، حيث كتب المقادير وأمر بكتبها، ومعرفة مشيئته وقدرته، ومعرفة خلقه لأفعال عباده، هكذا أخبر الله عز وجل، قال تعالى: {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} [الحديد:22 - 23] أي: من الدنيا، فأنت إذا نافست على الآخرة فاتتك الدنيا وإذا زهدت في الدنيا، فاتك بالتأكيد من شهواتها، ومع ذلك لا تحزن ولا تأسَ ولا تغضب من أجلها، إنها تافهة يسيرة، إنها أقل من أن تغضب من أجلها أو تحزن على فواتها، قال تعالى: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ٍ} [الحديد:23]، وقرئت (بما أتاكم) أي: ما آتاكم من الدنيا، وأما قراءتنا ((آتَاكُمْ ٍ)) أي: بما أعطاكم الله منها. وأما هذا الفرح المذموم فليس مجرد السرور الذي يحصل للإنسان طبعاً وفطرة عند حصول ما يوافقه من أهل أو مال أو ولد، ولكن ذلك الفرح الذي حذر الصالحون من قوم قارون منه، حيث قال: {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص:76]، فليس الفرح هو السرور، ولكن الفرح الذي هو الكبر والبطر والغرور بالنفس وأن يقول: هذا لي، كما قال قارون: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78]. فهذا الذي ينسب لنفسه الفضل، ويرغي ألسنة الناس بذلك مباشرة وبغير مباشرة، كأن يأمرهم أن ينادوا وأن يقولوا كما نادى فرعون في قومه: {قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:51 - 52]، فأراد أن ينادي بذلك في أرجاء مملكته كما يفعل أكثر ملوك الأرض حين يسخرون من ينادون في الناس بملكهم وحكمهم، والثناء عليهم بفضائل ليست لهم، فسبحان الله هذا هو الفرح إذا فرح، فالإنسان لما أعطي فعلاً فرح الكبر والبطر، ومدح النفس والثناء عليها، وظن أن فضل هذا ليس من الله كان ذلك فرحاً مذموماً، فكيف بمن يفرح بما لم يؤت وبما لم يأته: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران:188]. فالله سبحانه وتعالى لام من ينسب لنفسه الفضل فيما أُتي من الخير والحسنات، فكيف بمن ينسب لنفسه فضلاً ليس له؟ قال: ((لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ))، وهذا من أسباب الشقاء في الحياة.

الاختيال والفخر سببان في بغض الله سبحانه

الاختيال والفخر سببان في بغض الله سبحانه قال تعالى: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد:23]، الاختيال: هو الفخر، وهو من أعظم الأمراض التي تحصل للإنسان بسبب حصول شيء من الدنيا، فيفتخر على غيره ويختال، فينسب الخير لنفسه، ويتكبر به على من حوله، ثم هو لنظرته المعظمة للدنيا يبخل بها، ولكونه يشعر أنه هو الذي أتى بها يقول: جهدي ومالي كيف أعطيه لغيري؟! فهو يبخل، ولكي لا يذمه الناس في البخل وحده ويقال عنه بخيل يأمر الناس بالبخل؛ ليكون الناس كلهم كذلك، قال تعالى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} [النساء:37]. فتأمل كيف انتظمت عقيدة القدر والإيمان بالله ورسله علاج كل هذه الأمراض القلبية المشقية للإنسان في دنياه وأخراه: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد:23]، {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} [النساء:37]. فهذه ستة أمراض: مرض الأسى والحزن على الدنيا، ومرض الإعجاب بالنفس والثناء عليها، ومرض الاختيال، ومرض الفخر، ومرض البخل، ومرض أمر الناس بالبخل والعياذ بالله، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [الحديد:24]، فهو سبحانه وتعالى الغني الحميد، فله الغنى التام وعباده كلهم فقراء إليه، وله الحمد التام سبحانه وتعالى لا يحصي الخلق ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه، فهذا الإيمان بأسماء الله وصفاته هو الذي يريح الإنسان أعظم راحة، وإذا تحقق هذا الإيمان في قلبه بمعرفة معاني أسماء الله وصفاته، والتعبد له عز وجل بها؛ اكتمل إيمانه بإذن الله، فجميع أركان الإيمان نابعة من معرفة الله والإيمان به، ومحبته عز وجل بمقتضى أسمائه وصفاته. نسأل الله عز وجل أن يرزقنا الإيمان، وأن يوفقنا لما يحب ويرضى، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين ودمر اليهود والنصارى والمنافقين، وسائر الكفرة والملحدين أصحاب الضلالة وبضاعة السوء. اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين! اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم انصر المسلمين في فلسطين وفي الشيشان، اللهم احفظ المسجد الأقصى ورده إلى المسلمين. اللهم انصر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم ألف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، وانصرنا على عدوك وعدونا. اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط بذنوبنا من لا يرحمنا ربنا اغفر لنا ذنوبنا. وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه أجمعين.

آلام المسلمين

آلام المسلمين البلاء والمصائب والآلام النازلة بالمسلمين تصب كلها في قالب إظهار حكم الله تعالى في هذا الوجود، ويترتب على ذلك كله من المصالح ما الله به عليم، وعلى المسلم أن يعلم أنه يجب عليه يومها أن لا يفصل نفسه عن ذلك الجسد المبتلى، بل عليه أن يعيش قضايا إخوانه وهمومهم وكروبهم، وعليه أن يعلم أنه لن يخرجه الصراع والبلاء عن العمل لدينه، وحينها يلزمه أن ينهج منهج النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة والعمل، أما إن كان غافلاً معنياً بشهوته، فقد حكم على نفسه بالموت وهو مسئول أمام الله تعالى عما يحدث لإخوانه بسببه، وكذا إن كان منفذاً لمخططات عدوه شعر أم لم يشعر، فقد ارتكب أكبر الوزر وأعظم الذنب، والويل له عند الله إن لم يتب.

واجب المسلم تجاه آلام أمته

واجب المسلم تجاه آلام أمته الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فإن آلام المسلمين كثيرة في المشارق والمغارب، وفي الشمال والجنوب، دماء تسفك، وأعراض تنتهك، وخوف ورعب، وبيوت تهدم، وأموال تغتصب، وأرض تسلب من المسلمين، وبلاد تؤخذ منهم، وقد كان يعلو فيها الحق بإذن الله سبحانه وتعالى، فإذا بها يعلو فيها صوت الباطل والشرك والكفر والعياذ بالله! هذه الآلام الكثيرة كما سمعنا كانت -ولا تزال- عبر التاريخ موجودة، وإنما نذكر بعضها ونستحضر باقيها حتى نؤدي شيئاً من النصح للمسلمين، فإن من لم يشعر بآلام المسلمين، ولم يستحضر ما هم فيه من الهم والكرب والحزن والبلاء؛ يحكم على نفسه بالانفصال عن ذلك الجسد، أو أن هذا الجزء قد مات من ذلك الجسد، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر) ومن النصيحة للمسلمين أن تتألم لآلامهم، وأن تفرح لأفراحهم، وأن تهتم لهمومهم، لا أن تجلس في بيتك مع أهلك وأولادك مطمئناً وتنسى آلام المبعدين الغرباء، وتنسى آلام المحرومين الجائعين العراة، وتنسى آلام المشردين الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق أو أسروا بعيداً عن أهليهم وأحبتهم، وتنسى أولئك الخائفين الذين يأتيهم من أنواع الخوف والهلع ما الله عز وجل أعلم به. إن ذلك ليقتضي منا بلا شك -على الأقل إذا عجزنا- أن نمد لهم يداًَ بالمساعدة، وألا تكون قلوبنا جامدة قاسية عن الشعور بآلامهم، علها تتحرك في صدق بالدعاء وطلب النجاة لهم من الله المؤمن المهيمن سبحانه وتعالى.

الحكم والغايات المحمودة من وراء مصائب أمة الإسلام

الحكم والغايات المحمودة من وراء مصائب أمة الإسلام

شهود الحكمة في أفعال الله وحمده تعالى عليها

شهود الحكمة في أفعال الله وحمده تعالى عليها وسنتكلم في هذا الأمر ونبين أموراً وفوائد عجيبة، ومن جملة هذه الأمور أن نوقن بأن الله سبحانه وتعالى هو العليم الحكيم، فالله عز وجل ما قدر هذه الآلام إلا لحكم وغايات محمودة، فهو العزيز الحميد سبحانه وتعالى، ألم تسمع قول الله عز وجل: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8]؟ فهو سبحانه وتعالى العزيز رغم أن أولياءه قد قتلوا، وهو سبحانه وتعالى الذي قدر ذلك عليهم، وهو مستحق للحمد على ذلك، فله الحمد على كل حال، والحكم من تقدير البلايا والمحن تقتضي منا أن نسعى في تحصيلها؛ لأننا إذا حصلنا الحكم زالت عنا البلايا والمحن. إن الله عز وجل ما قدر هذه الآلام على المسلمين إلا للخير الذي يريده ويحبه لهم سبحانه وتعالى، وهكذا سنته عز وجل في كل ما يقدر من الأمور المكروهة التي لا يحبها ولا يرضاها، فالله عز وجل لا يحب الظالمين، ولا يحب الفساد، ويكره مساءة المؤمن، قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: (وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته)، فالله يكره مساءة المؤمنين، ومع ذلك قدر عليهم ما يكرهون ليجعل في ذلك خيراً كثيراً، كما قال تعالى: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء:19]، وقال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216]، فنحمد الله أولاً رغم الآلام، بل نحمده على الآلام سبحانه وتعالى، فله الحمد على كل حال، وهو سبحانه وتعالى الحميد الذي له الحمد في الأولى والآخرة، وشهودنا لهذه الحكم شهود لاسمه الحكيم سبحانه وتعالى، ولاسمه العليم عز وجل.

ثبات الإيمان في قلوب أهله

ثبات الإيمان في قلوب أهله إن البلايا والمحن لها حكم عظيمة لمصلحتنا، وذلك لكي تصدر منا أعمال معينة أهمها الإيمان، فإن الله تعالى قدر المداولة للأيام بين الناس ليقع منا الإيمان، قال الله عز وجل: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:139 - 141]، فأول الحكم هي في قوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} [آل عمران:140]. والإيمان -كما نعلم- قول وعمل، فقدر الله عز وجل سنة المدافعة بين الناس صلاحاً للأرض وأهلها، كما قال عز وجل: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ} [البقرة:251]، وذلك أن الإيمان بدون مواجهة مع الكفر والطغيان والظلم والباطل يضعف في نفوس الناس تدريجياً، وهذا -والله- أمر ملحوظ تجده عند المترفين، وتجده عند من لا قضية لهم، وعند من لا يستشعرون أنهم في معركة من أجل الإسلام، فتجد إيمانهم يضمحل تدريجياً ويضعف، ولا يجد الواحد منهم نفسه متأثراً حين يقرأ تلك المعاني العظيمة في القرآن، وتلك الآيات التي وقعت في قلوب الصحابة رضي الله تعالى عنهم يوم نزلت، ولا يستشعر العبادات القلبية الواجبة التي لابد من تحصيلها حتى تزول الآلام والمحن.

ظهور الصدق مع الله عز وجل

ظهور الصدق مع الله عز وجل فالله عز وجل قدر هذه الآلام والمحن لكي نؤمن ونصدق مع الله عز وجل، ولكي نكون صادقين في قولنا: (آمنا) كما قال الله عز وجل: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:1 - 3]، ونحن نعلم أنه يعلمهم سبحانه وتعالى كل شيء قبل خلق هذا الوجود كله، فصفة العلم صفة أزلية من صفات الله عز وجل، فالعلم الأول ثابت قبل وجود المخلوقات، فالله كان بكل شيء عليماً، ولم يزل سبحانه وتعالى عليماً بكل شيء، ولكن ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين علماً يحاسبهم عليه، فيعلمه علم شهادة بعد أن علمه علم غيب، ليرى أنه قد وقع منهم، والله يحب أن يرى منا الصدق، كما قال ابن عباس: ليرى الذين آمنوا أو ليرى الذين صدقوا. فالله عز وجل يحب منا الصدق، والصدق ليس فقط في الكلام، بل قد قال الله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23]، وقد نزلت هذه الآية في مثل أنس بن النضر رضي الله تعالى عنه، وفي إخوانه الذين صدقوا في العمل بعد أن صدقوا في القول رضي الله تعالى عنهم. والله عز وجل يحب أن يوجد من المؤمنين من يبذل نفسه وماله وكل شيء عنده في سبيله عز وجل، ويحب كذلك هذه الدماء التي تراق في سبيله؛ لأنها أريقت حباً من أصحابها له عز وجل، ونصرة لدينه، وهو سبحانه وتعالى يتقبلها منهم، (ويبعثهم يوم القيامة وجراحهم لونها لون الدم، وريحها ريح المسك)، كما أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لذلك قدر الله أن يتسلط الكفار على المسلمين، ليستشهد من يستشهد، وليظهر المنافقون والبخلاء والجبناء، كما قال تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ} [آل عمران:167].

الصبر والاحتساب

الصبر والاحتساب والله سبحانه وتعالى يحب منا عبادة الصبر، بل هي المفتاح الذي إن وجد مع التقوى غير الله عز وجل ما بنا، ورد الله عز وجل كيد أعدائنا، فالمشكلة عندنا هي عدم الصبر والاحتساب ورجاء الفرج من عنده سبحانه وتعالى، فهو سبحانه وتعالى يفرج كربات المسلمين، وإنما قدر الكربات ليصبروا، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان:20]، وهو البصير سبحانه قبل أن يصبروا وبعد أن يصبروا، ولكنه يحب عز وجل أن يرى صبرهم ويحب أن يثيبهم عليه. والله سبحانه وتعالى قدر أن يُبتلى المؤمنون بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، وليس ذلك جارياً عليهم بكيد أعدائهم، وإنما يجري عليهم بتقدير الله عز وجل، فالله تعالى قال: ((وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ))، ولم يقل: وليصيبنكم، وإنما قال: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155 - 157] فكيف تحصل الصلوات؟! وكيف تحصل الرحمة؟! وكيف يحصل الصبر؟! وكيف يشهد المؤمنون أنهم ملك لله عز وجل يفعل بهم ما يشاء وأنهم إليه راجعون فيحققون الإيمان باليوم الآخر؟! وكيف يحدث ذلك بغير آلام؟! إن ولادة المولود لابد من أن تسبقها آلام المخاض، وهكذا ولادة التمكين لأمة الإسلام لابد من أن تسبقها تلك الآلام وهذه الدماء إلى أن يولد ذلك الذي كتب الله حياته، فالمجتمع المسلم لا يموت بإذن الله تبارك وتعالى إلى يوم القيامة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم حتى تقوم الساعة). فإن ماتت طائفة وسفكت دماؤها وانتهكت حرماتها ولدت من بعدها طائفة أخرى، ولكن مع آلام الأولى والثانية، إلى أن يأذن الله عز وجل بالنصر والتمكين.

حصول الضراعة إلى الله تعالى والاستغاثة به

حصول الضراعة إلى الله تعالى والاستغاثة به كذلك قدر الله الآلام لأنه يحب أن يسمع تضرعنا ودعاءنا واستغاثتنا، وهكذا أخبر عز وجل حين قال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام:42 - 43]، فهذا التضرع يحبه الله سبحانه وتعالى، أن تقوم القلوب قبل الأقدام ذليلة لله منكسرة له، فقيرة إليه، تعلم أنَّه لا ناصر لها في الأرض سواه، وإن اجتمعت الأمم من أولها إلى آخرها على أهل الإسلام فالله نعم المولى ونعم النصير، فمن أيقن بذلك قام لله عز وجل داعياً متضرعاً مستغيثاً راجياً يتشبه بقيام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة بدر وهو يرى قريشاً معها إبليس قد جاءت بحدها وحديدها وأشرافها وكبرائها يحادون الله ورسوله، فما نام رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليلة، وإنما ظل يصلي ويبكي ويتضرع إلى الله سبحانه وتعالى. يقول علي رضي الله تعالى عنه: ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي ذلك أنزل الله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال:9]، فالله يحب أن نستغيث به، فعزته وجلاله لن يغيثنا سواه سبحانه وتعالى، ولا ملجأ لنا إلا إليه، وتضرعنا بين يديه من أعظم أسباب كشف الكرب والهم، فهو سبحانه وتعالى الذي وعدنا الإجابة، بل وأخبر سبحانه وتعالى أنه يجيب دعاء عباده فقال: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ} [النمل:62]، وإذا تأملت هذا الترتيب العجيب وجدته وسيلة المسلمين بإذن الله، فالعبد إذا شعر بالاضطرار والخوف الشديد شعر بالاضطرار والتضرع إلى الله، فيكشف الله السوء، وبعد كشف السوء وزواله يستخلفنا الله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: ((وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ)). فهو سبحانه وتعالى يحب أن يسمع التضرع والدعاء، وينزل السكينة على ذلك، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4]، فهو الذي قدر المواجهة مع الكفر لكي يلجأ إليه المؤمنون فينزل السكينة في قلوبهم ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم، وهو تعالى يحب ذلك، ومن أجل ذلك قدر المحن، وقدر الآلام، وله الحمد سبحانه وتعالى على ذلك كله. وعندما يزداد الكرب والخوف والألم، وعندما يكون هناك رد فعل طبيعي منا إن كنا صادقين، فنتشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم حين صلى في ليلة الأحزاب، ليلة الريح الشاتية الباردة المطيرة، الليلة المظلمة التي لم يبق معه عليه الصلاة والسلام فيها حول الخندق إلا قلة من أصحابه الكرام، فقد رحل كثيرون وقالوا: إن بيوتنا عورة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في سكينة عجيبة، يصلي من الليل ثم يقول لأصحابه: (من يأتيني بخبر القوم ويكون رفيقي في الجنة؟) فمن شدة الجوع، ومن شدة الجهد والتعب والإرهاق، وشدة الخوف والظلمة والريح الباردة لم يتحرك أحد، وفي القوم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وباقي أولئك الأفذاذ رضي الله تعالى عنهم، فلا يلتفت إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم معاتباً لأحد، بل يلجأ إلى الله، ويصلي كثيراً، فصلى من الليل يتضرع إلى الله عز وجل في هذه الزلزلة التي قال عز وجل عنها: {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:11]. وعندما نرى أحزاب الدنيا قد اجتمعت علينا من يهود ونصارى وملاحدة ومشركين ومنافقين من جميع أرجاء الأرض فإننا نتذكر يوم اجتمعت أحزاب العرب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمقاييس في ذلك الوقت لا يمكن أن تكون بميزان الناس في صالح أهل الإسلام أبداً، فعشرة آلاف في مواجهة قلة بقوا وثبتوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فماذا يفعل النبي عليه الصلاة والسلام؟ ولم يستجب أحد من صحابته لترغيبه حين انتدب من يأتيه بخبر القوم قبل الأمر؛ لأنهم لم يكونوا يخالفون طلبه، فصلى مزيداً من الصلاة، وكرر الترغيب مرة ثانية فقال: (من يأتيني بخبر القوم ويكون رفيقي في الجنة؟) فلم يقم منهم أحد، فيتركهم عليه الصلاة والسلام ويصلي من الليل، ثم يقول في الثالثة: (من يأتيني بخبر القوم ويكون رفيقي في الجنة؟) فلم يقم أحد، فيقول: (قم يا حذيفة!)، والصحابة رضي الله عنهم أجمعين لا يمكن أن يخالفوا أمره عليه الصلاة والسلام، وإنما لم يتحركوا عندما كان الأمر مستحباً؛ لأنه كان ترغيباً دون عزيمة في الطلب، ولكن لما قال: (قم يا حذيفة) ما كان له من القيام بد، فقام حذيفة رضي الله عنه وذهب إلى القوم ينظر كيف تفعل بهم الريح، وكيف تفعل بهم جنود الله، فقد كانت الريح تكفئ قدورهم، وتقلع خيامهم، وكان أبو سفيان يقول: النجاة النجاة إني مرتحل. فترحل قريش، وترحل غطفان بدعاء النبي عليه الصلاة والسلام، فالأمور العظمى تتقرر في الصلاة يا عباد الله! فبدعوة صادقة أثناء العبادة وأثناء التضرع تنكشف البلايا والمحن. ويعود حذيفة رضي الله تعالى عنه، وقد ذهب وكأنه في حمام وعاد وكأنه في حمام إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، فوجده يصلي عليه الصلاة والسلام. وهكذا كان عليه الصلاة والسلام على الدوام متضرعاً إلى الله عز وجل مسبحاً ذاكراً، فالتضرع إلى الله من الحكم البالغة التي من أجلها قدر الله عز وجل وجود البلايا والمحن.

صدق التوكل على الله عز وجل

صدق التوكل على الله عز وجل وكذلك صدق التوكل على الله عز وجل، وحسن تفويض الأمور إليه سبحانه وتعالى والثقة الكاملة به، كما قال عز وجل عن النبي صلى الله عليه وسلم: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40]، وقال عز وجل: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:61 - 62]. وقال عز وجل: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:173 - 175]، فالمطلوب إفراد الله عز وجل بالخوف والرجاء، وأن تنتظر من الله الفرج لا من سواه، فـ (حسبنا الله ونعم الوكيل) قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها النبي صلى الله عليه وسلم حين قال لهم الناس: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم.

التمحيص للمؤمنين وإظهار المنافقين

التمحيص للمؤمنين وإظهار المنافقين والتمحيص لعباد الله المؤمنين من أجل الحكم وأنفعها، ليظهر النفاق ظاهراً علانية بعد أن كان مستكناً في القلوب، فلا يتولى المنافقون أمراً للمسلمين بعد ذلك، {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:141] فهو سبحانه وتعالى يريد أن يمحقهم بعدله، فهذه كلها حكم ومصالح من تقدير البلايا والمحن.

ظهور آثار أسماء الله الحسنى وصفاته العلى

ظهور آثار أسماء الله الحسنى وصفاته العلى ومن أعظم ذلك وأهمه: ظهور آثار أسماء الله الحسنى وصفاته العلى لعباد الله المؤمنين في هذا الوجود، فالله عز وجل تعرف إلى عباده بأسمائه وصفاته في كتابه، وتعرف إليهم بآثارها في هذا الكون الواقع المشهود، فالله عز وجل يريد أن يظهر لنا نفاذ إرادته عز وجل، فإرادته سبحانه وتعالى نافذة، ومشيئته نافذة، ويريد أن يظهر منته على المستضعفين، وإرادته في كسر الجبارين المتكبرين، ولن يقع ذلك إلا بوجود الاستضعاف أولاً، ثم المن على المستضعفين ثانيا، كما قال تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص:5 - 6]، فالله عز وجل فعال لما يريد، فهو يظهر للناس ذلك بوجود هذه البلايا والمحن وهذه الآلام ليظهر بعد ذلك أنه العزيز وأنه ذو انتقام، وأنه سبحانه وتعالى المنان، وليظهر ملكه سبحانه وتعالى، فقد كان لا بد من إعزاز وإذلال، ولابد من تقليب الممالك ليعلم الناس أن الملك لله وحده لا شريك له، قال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:26 - 27]، فلابد من تداول الملك، فيوم لنا ويوم علينا، ويوم نساء ويوم نسر، ولابد من أن يحدث الإعزاز والإذلال لنعلم أن الله وحده هو المعز المذل، وأنه وحده هو الخافض الرافع، ولابد من محن وآلام ليعلم الناس أن الله وحده هو سبحانه الذي يكشف الكرب ويذهب الغم، فاللهم كاشف الغم ومذهبه، مجيب دعوة المضطرين، رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما ارحمنا رحمة تغنينا بها عن رحمة من سواك. ومن ذلك: إظهار أنه سبحانه وتعالى المولى والنصير، وأنه سبحانه وتعالى العزيز، قال عز وجل: {بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} [آل عمران:150]، وقال سبحانه وتعالى: {نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الأنفال:40] سبحانه وتعالى، فكيف يحدث ذلك إذا انتصر المسلمون بقوتهم أو إذا انتصروا بعدتهم؟! فهم إنما ينتصرون بنصر الله وتوفيقه عز وجل، فالله مولى الذين آمنوا والكافرون لا مولى لهم. فيظهر ذلك عندما تحدث هذه الآلام والبلايا والمحن ثم ينصر الله عباده المؤمنين رغم ذلك كله ليظهر أنه سبحانه وتعالى مع المؤمنين، وتظهر آثار معيته عز وجل التي يستحضرها أهل الإيمان الذين يظنون أنهم ملاقوا الله، قال سبحانه وتعالى: {فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:249 - 251]. والأمر أمره سبحانه، فهو تعالى يقلب القلوب كيف يشاء، ولولا أنه عز وجل أزاغ قلوب من شاء ثم هداهم لما علمنا ذلك، أما دعا الرسول عليه الصلاة والسلام على أقوام فقال: (اللهم العن فلاناً وفلاناً، اللهم العن رعل وذكوان وعصية عصت الله ورسوله)، ثم أنزل الله عز وجل عليه: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:128]؟! ولقد كان عكرمة وسهيل بن عمرو وأمثالهما ممن سماهم عليه الصلاة والسلام في دعائه، فتاب الله عز وجل عليهم لنعلم أنه عز وجل وحده الذي له الأمر، وأنه وحده مقلب القلوب، ولنلتجئ إليه سبحانه وتعالى في تثبيت قلوبنا ودوام الهداية علينا، فالله سبحانه وتعالى هو الذي هدى وهو الذي يمن سبحانه وتعالى باستمرار الهداية، ولذا كان يقول الصحابة: والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول معهم: إن الألى قد بغوا علينا وإن أرادوا فتنة أبينا ويمد صوته بها كما يمدون؛ لأنهم يلجئون إلى الله ويعلمون تقليبه للقلوب وللأقدام، فهو الذي يثبت من يشاء سبحانه وتعالى، ليرينا سبحانه وتعالى أنه الغالب على أمره، فلولا بيع إخوة يوسف له لما كان له من السلطان عليهم بعد ذلك، ولولا دخوله السجن لما كان له الملك بعد ذلك {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21]، فهو سبحانه وتعالى ما شاءه كان وما لم يشأ لم يكن، {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:56]، قال عز وجل: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة:21]. كل هذه أسماء وصفات وأفعال لله عز وجل يرينا آثارها بوجود تلك الآلام، ولا يمكن أن تظهر لنا إلا من خلال هذه الآلام والمحن، ليرينا سبحانه وتعالى أنه يمهل ويحلم، فيمد للظالم مدة من عمره يمهله فيها ويأتيه من نذر الله ما يأتيه، فإذا تاب إلى الله عز وجل غفر الله له، كما قال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بعباد يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم)، ألم تسمع لقوله تعالى بعد أن ذكر إجرام المجرمين في قصة أصحاب الأخدود وقتلهم أولياءه سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:10]؟ قال الحسن: انظروا إلى هذا الكرم! قتلوا أولياءه ثم يدعوهم إلى التوبة. فهو سبحانه يتوب على من يشاء، وربما نرى في أعدائنا من يتوب الله عز وجل عليه بعد ذلك. وكذلك يرينا ربنا قدرته عز وجل وإملاءه لمن لم يتب منهم، قال سبحانه: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:183]، ليظهر لنا متانة كيده عز وجل، وقال تعالى: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} [الطارق:15 - 17]، وقد نزلت هذه الآيات ورسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة محاصر مستضعف، ونفذ ما أراد الله عز وجل في سنوات معدودة كما وعد عز وجل، فهو سبحانه وتعالى الذي يكيد، ويستدرجهم من حيث لا يعلمون، ولا تظن أنه سبحانه وتعالى غافل، بل هو على كل شيء شهيد، وهو عز وجل لا يغيب عن خلقه ولا يغيبون عنه سبحانه وتعالى، فهو على كل شيء شهيد عز وجل، أي: لا يغيب عن تدبيره وملكه، وإلا فهو سبحانه وتعالى حجابه النور كما قال عليه الصلاة والسلام. فكل أسمائه وصفاته لها آثارها في هذا الوجود، ولابد من أن تظهر، وهو يحب أن يتعرف إلى عباده من خلال أفعاله ومقاديره عز وجل، فمن أجل ذلك قدر الآلام التي هي كثيرة ومؤلمة لنا.

نتائج النظر إلى حكم المصائب والآلام

نتائج النظر إلى حكم المصائب والآلام لكن لو نظرنا إلى هذه المصالح والحكم ونظرنا إلى أسمائه وصفاته التي من مقتضياتها تقدير هذه الآلام لذابت الآلام، ولكانت حلاوة محبة الرحمن سبحانه وتعالى وحلاوة الإيمان به والشوق إليه عز وجل والرضا به وتفويض الأمور إليه سبحانه وتعالى مذهبة لآلام المسلمين كلها، وعندما تظهر لهم الحكم أو يظهر لهم من الحكم يوم القيامة ما لم يكن قد ظهر قبل ذلك يود هؤلاء المعذبون المستضعفون أن لو سحبوا من يوم ولدتهم أمهاتهم -بل من يوم خلقت الدنيا- إلى يوم القيامة على وجوههم في الله عز وجل، أما ورد في الحديث الصحيح ما يدلنا على ذلك؟! فإنه قد جاء في الحديث أنَّ الشهداء الذين قتلوا يوم أحد طلبوا من ربهم حين اطلع عليهم اطلاعه، وسألوه أن يعودوا إلى الدنيا ليقتلوا فيه مرة أخرى. ألم يجد عبد الله بن حذافة رضي الله عنه حلاوة البذل وحلاوة الإيذاء؟! عجب -والله- أن يقال: حلاوة الإيذاء، لكنها القلوب المؤمنة التي بعين البصيرة رأت ما وعدها الله عز وجل. فـ عبد الله بن حذافة حين رفع ليلقى في قدر من نحاس كان يغلي فيه الماء رأى عظام بعض أصحابه تلوح فبكى فظنه ملك الروم قد فزع من الموت، فلما سأله قال: أبكي لأن لي نفساً واحدة تلقى في هذه القدر ساعة في الله عز وجل، ولقد وددت لو أن لي بعدد شعر رأسي أنفساً يفعل بها ذلك في الله عز وجل، فالحمد لله على هذه المحبة التي قذفها في قلوب أوليائه وجعلهم بها سبحانه وتعالى لا يرون تلك الآلام، بل يستعذبونها في الله سبحانه وتعالى، ويود أهل العافية في الآخرة حين يرون أجور البلاء أن لو قرضت جنوبهم بالمقاريض في الله عز وجل سبحانه وتعالى، ونسأل الله العافية، ونسأله سبحانه وتعالى الإعانة وحسن عبادته عز وجل. كل ذلك نقوله مقدمة لكي لا نيأس من الآلام الكثيرة، وإن كان غرضنا في الحقيقة أن نبحث في تقصير الأبناء بعد أن سمعنا كيد الأعداء، ونريد أن نتعلم ما يلزمنا، ونريد أن نعرف واجبنا من تقصير أبناء هذه الأمة الذي أدى إلى وجود الآلام؛ لكي ندعو كل المقصرين -ونحن من أولهم- إلى التوبة من التقصير والعودة إلى الله سبحانه وتعالى، فإن أبناء الأمة في التقصير على درجات متفاوتة، والحقيقة أن التقصير هو المؤلم لصاحبه قبل أن يكون جالباً للآلام إلى غيره، والبعد عن الله هو الجالب لألم الخوف والرعب، فإن الأمن والإيمان قرينان كما أن الظلم والخوف قرينان. فنسأل الله المؤمن المهيمن أن يؤمننا في بلادنا وأوطاننا، وأن يؤمن المسلمين في المشارق والمغارب، فالله سبحانه وتعالى هو وحده الذي بيده الأمر كله، فاللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا.

موقف المنتسبين إلى الإسلام من دينهم

موقف المنتسبين إلى الإسلام من دينهم

منفذو مخططات عدو الإسلام عن علم أو عن جهالة

منفذو مخططات عدو الإسلام عن علم أو عن جهالة إنَّ فريقاً من أبناء هذه الأمة تقصيره أعظم التقصير، وبه نبدأ؛ لأنه أحوج الناس إلى التوبة إلى الله عز وجل، فهذا الفريق تقصيره ليس تقصيراً عادياً، إن هذا الفريق باع نفسه لعدوه والعياذ بالله؛ لأنه رأى الدولة للكفرة والظلمة والمجرمين، فباع نفسه لهم، وباع دينه بعرض من الدنيا فصار لمخططات الأعداء منفذاً، ولمكرهم يداً قذرة نجسةً تطبق ما يريد الأعداء، وجعل من لسانه لساناً للعدو ينشر به الأباطيل والضلالات التي يريد العدو نشرها في المسلمين ليتمكن من ذلك الجسد الواحد؛ لأن أعداءنا يعلمون أنهم لا يقدرون على المسلمين وجسدهم حي ومجتمعهم موجود وإسلامهم في قلوبهم، لا يقدرون على المسلمين إلا إذا كانوا مخدرين، وانتشرت الأمراض في ذلك الجسد، لذا أحبوا نشر البدع والضلالات والكفريات، وبدلاً من أنه كان في غابر الأزمان يتكلم الكفار ويطعنون في الإسلام جاء أناس من أبناء جلدتنا يتكلمون بألسنتنا، قلوبهم قلوب شياطين في جثمان إنس يتكلمون بما يريد الأعداء حتى طعن منهم من طعن في وجود الله عز وجل وبقائه وحياته، وطعن منهم من طعن في كتابه وكلامه، وأرادوا تصويبه بالقلم الأحمر خسئوا وخابوا والعياذ بالله، ووجد منهم من يطعن في شرع الله ويصفه بالتخلف والرجعية والعياذ بالله، ووجد منهم من يطعن في أحكام الله عز وجل ويتركها ذاهباً إلى ما أوجدته زبالة الأذهان وسخافة العقول الأرضية البشرية الوضعية، ووجد في المسلمين من أراد آباؤهم أن يكونوا مسلمين بالفعل، ودليل ذلك أن الأب حين سمى ابنه محمداً أو أحمد أو غير ذلك من الأسماء الإسلامية كان يريد له أن يعبد الله عز وجل، وما تصور في يوم من الأيام أن يكون حرباً على الإسلام والعياذ بالله من ذلك، فوجد من يصد عن سبيل الله، ووجد من يحارب الإسلام، وهذه الفئة منها من يفعل ذلك على بصيرة، وهو يعلم أنه ينفذ مخططات الأعداء الذين يريدون الصد عن سبيل الله ويريدون أن ينقلب الناس على أعقابهم، كما قال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [آل عمران:149]، وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} [آل عمران:100]، فعلموا أن الأعداء يريدون ذلك فطبقوا، وسعوا في نشر ما يحبه الأعداء من نشر الفاحشة، فهم يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، ويكرهون أن ينتشر القرآن والصلاة والحجاب، ويكرهون أن تنتشر دعوة الله، فهؤلاء الواحد منهم على بصيرة، ويعلم أنه جندي ذليل خبيث لأعداء الله عز وجل، باع كل شيء علناً والعياذ بالله، وقديماً كان يستتر، وإذا به الآن يعلن أنه قد باع كل شيء ليكون أذل من كلب عندهم، نعوذ بالله من ذلك. هذا الصنف من الناس هو -والعياذ بالله- في أسفل الدركات إن لم يتب إلى الله عز وجل، وقد دعاه الله إلى التوبة، بل إن هذا الصنف يكون مع أعداء الإسلام في الدركات السفلى؛ لأن المنافقين في الدرك الأسفل من النار، وقد قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51]، لذلك نقول لهؤلاء: دعاكم ربكم عز وجل إلى التوبة فلا تحاربوا دينه أبداً؛ فإنكم لستم تطيقون حرب الله عز وجل، فالله ناصر دينه مهما حدث، كما أخبر عز وجل بقوله: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:8 - 9]. وهناك صنف من هذا النوع أيضاً ليس على تلك البينة، لكنه متابع لأهل الباطل، متابع لأعداء الإسلام ينفذ مخططاتهم وينفذ ما يريدون، وهذا الصنف نوجه له قول الله سبحانه وتعالى: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان:24] لأننا ما زلنا نعده من أبناء الأمة وإن كان مخدوعاً، لكن تيقن -أيها المخدوع- المنفذ لمخططات أعداء الله المعين لهم على ما يريدون من أذية المسلمين وآلامهم وذبحهم وانتهاك حرماتهم وإذهاب دعوة الحق من بينهم أنك إن استمريت على ذلك فمصيرك مصيرهم، وإن كنت لا تريد أن تفتح عينيك على هذا المصير فإنا نوجه لك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها)، وتعلم من ذلك أن أهل هذا الشر نوعان: النوع الأول: الدعاة، والنوع الثاني: المستجيبون لهؤلاء الدعاة على أبواب جهنم. والحال أن من أجاب الدعاة إلى جهنم قذفوه فيها. فاحذر على نفسك أن تكون جندياً لأعداء الله، فإن الله لا يرضى إلا بأن يجعل مصير الأتباع كمصير السادة والكبراء، كما قال تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} [الأحزاب:67 - 68]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب:1]، وهذا هو الخطر العظيم، وهذا هو أعظم التقصير، وهؤلاء يتحملون أوزار الدماء المسفوكة من الأرواح التي أزهقت بغير حق، والأعراض المنتهكة في المشارق والمغارب، في البوسنة، وفي كوسوفا، وفي كشمير، وفي فلسطين، فكل هذه الحرمات المنتهكة إنما يكون على هذا الصنف من المقصرين أكبر الوزر منها، يسائلهم الله عز وجل عنها يوم القيامة لأنهم كانوا السبب الأول في هذه الآلام والمحن وشاركوا وأعانوا.

الغائبون عن ميدان الصراع

الغائبون عن ميدان الصراع أما الصنف الثاني من أبناء المسلمين المقصرين: فهم من غابوا عن الوعي وليست لهم قضية، فقضيتهم -في الحقيقة- أن يأكلوا ويشربوا ويمرحوا ويلعبوا ويلبسوا ويكونوا في المظاهر أمام الناس، هذا هو أكبر الهم ومبلغ العلم عندهم، ولك أن تبحث عن قطاع كبير من شباب المسلمين ورجالهم ونسائهم، ولتسأل عن همه وعن رغبته، فماذا يريد؟ يريد الشريط الجديد، والأغنية الجديدة، والفيلم الجديد، والصورة العارية الجديدة، والجريدة القذرة، والمجلة النجسة، والصديقة العاهرة، والعياذ بالله من ذلك، فليس له هم إلا ذاك. وهذا هو ميدان العمل لأعداء الله عز وجل، وهو حقل الزراعة الذي يزرع فيه الأعداء بذور الانحطاط في أمة الإسلام، وبذور الانهزام، وبذور الوهن، وبذور الانكسار، وبذور الذل لأعداء الله عز وجل، وهؤلاء هم الذين يريد أعداء الله عز وجل أن يوجد فيهم الوهن، وأن يوجد فيهم الحزين على ما أنفق في سبيل الله، وأن يوجد فيهم الذليل المنكسر المستكين لعدو الله عز وجل، فهم البيئة المناسبة الذين يحبون الدنيا، فليست لهم قضية في نصرة الإسلام ولا في العمل به ولا في تعلمه، فليسوا بأعداء له لكنهم ليسوا بجنود له ولا عاملين به، وهذا قطاع للأسف كبير جداً، وعندما نحاول حصره نجده أنه ربما جاوز التسعة والتسعين في المائة من واقع المسلمين ومن مجتمعات المسلمين، وهذا خطر عظيم، وإن كان الأعداء يتربصون بمن يتعاطف فقط من هؤلاء دون أن يستجيب مع من يدعو إلى الله سبحانه وتعالى، ويتربصون الدوائر ليصدوا كل هؤلاء عن الالتزام، ولذلك تجد هذا الصنف تتوجه إليه كل وسائل الإفساد من العالم كله، من الأقمار الصناعية، ومن قنوات البث، ومن المجلات والكتب، ومن وسائل التعليم والإعلام، ومن كل شيء يفسده، لتشيع فيه الفاحشة والفساد والمنكر، ويمنع من وصول الخير إليه، وهؤلاء -أيضاً- مقصرون أكبر تقصير؛ لأنهم لم يشعروا بآلام المسلمين، وقد حكموا على أنفسهم بالغيبوبة عن ذلك الجسد، أو حكموا على أنفسهم بأنهم ليسوا منه إن لم يتألموا لآلام المسلمين بالكلية، فهم إما في غيبوبة وإما في موت، ولذا يجب أن يفصل هذا الجزء وإلا أفسد باقي الجسد، ولا نود ذلك أبداً؛ فإنهم منا، ومن أبنائنا وإخواننا وفي كل مكان من مجتمعاتنا، ولذا نوجه لهم نصيحة بالتوبة والعودة إلى الله سبحانه وتعالى، وأن يستشعروا أن الله من عليهم منة عظمى، فليشكروا نعمة الله بهذا الدين، كما قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران:164]. فيا عباد الله! إن في أيديكم جوهرة ثمينة يريد الأعداء أن يسرقوها لكي تكونوا مثلهم بلا جوهرة، وهي جوهرة الإيمان والإسلام والإحسان، وقد حرم أعداء الإسلام منها، فليس عندهم إلا نجاسة وقذارة، ولذا يحقدون علينا، وكثير من أبناء المسلمين صارت ورقة الجوهرة عندهم مظلمة معتمة، فنسوا أن معهم جوهرة فتركوها، وأوشك بعضهم أن يسلمها للأعداء ليلقيها في بحر الظلمات. فاعرف قدر هذه الجوهرة، وهي منة الله عليك بالإسلام، وارجع إلى الله عز وجل لتعمل بالإسلام ولتعمل من أجله ناصراً داعياً إلى الله عز وجل وجندياً من جنود الله.

أبناء الصحوة الإسلامية وبيان واجبهم

أبناء الصحوة الإسلامية وبيان واجبهم وأما الفريق الآخر الثالث من أبناء المسلمين فهم الذين نسبوا أنفسهم إلى الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى وإلى الالتزام بالدين في أوجه مختلفة متباعدة عن بعضها كثيراً، وهم الذين سموا أنفسهم -أو سماهم الناس- أبناء الصحوة الإسلامية، وهؤلاء منهم المقصرون؛ لأن منهم من سلك في سبيل العمل بالإسلام وفهمه، أو الدعوة إليه والعمل من أجل نصرته سبيلاً غير شرعي، فانحرف عن منهج الحق منهج أهل السنة والجماعة أي: ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام في الفهم، فقبلوا بدعوات الضلالات، وربما نشروها وأعانوا على نشرها، وربما رضوا بها وقبلوها، وهم على درجات متفاوتة مختلفة، فكان الانحراف في المنهج من أعظم أسباب تسليط الأعداء، وكان ظهور البدع والمنكرات فينا -أبناء الصحوة الإسلامية- من أعظم أسباب التفرق والاختلاف الذي أدى إلى ما نرى من الآلام والمحن. لذلك لابد من أن يكون هناك منهج واحد صحيح، وهو منهج هذه الطائفة الظاهرة المنصورة إلى قيام الساعة، طائفة أهل السنة والجماعة، نجتمع عليه ونتآلف ونتكاتف وننسى حظوظ أنفسنا وما نريده لها في هذه الدنيا من وجاهة وسط الناس، ومن أن يقال: فلان عالم، وفلان قارئ، وفلان داعية، وفلان كبير، وفلان زعيم؛ لأنه السبب في هذا البلاء وهذه المحن، ونريد أن نجتمع على منهج واحد، ونسير على سبل شرعية، ولا نطبق هذا المنهج بغير ما طبقه به الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا نفقد في غمار حماستنا الحكمة والبصيرة في دعوتنا إلى الله عز وجل، فكم من تطبيق خاطئ للمنهج ولو كان أصحابه ينتسبون إليه حين دعوا إلى الله وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر بغير معروف، بل بالمنكر بغير فقه ولا علم، وبغير مراعاة للحكمة والمصلحة، وبغير مراعاة لسنن الله الكونية والشرعية، فترتب على ذلك من سفك الدماء وانتهاك الحرمات ما الله أعلم به، وترتب على ذلك تضييع خطوات قد سبقت على طريق إظهار دين الله عز وجل. لذلك نقول: لابد من أن نسير على منهج واحد ونطبقه كذلك تطبيقاً صحيحاً، وأن نسير عليه بالبصيرة والحكمة والعلم والفقه، ولا نفعل كما فعل المتعجلون الذين ضيعوا الثمرة حين أرادوا قطفها قبل الأوان؛ لأنهم لم يراعوا سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، وسائر المرسلين في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وفي السير على سنن الله الكونية والشرعية للوصول إلى الغايات المطلوبة. فنحن من المقصرين تقصيراً شديداً، ونريد أن نتوب إلى الله من ذلك التقصير، ذلك أننا ما تعلمنا منهجنا كما ينبغي، ولا طبقناه كما ينبغي، بل تركنا لأمراض القلوب مساحة واسعة منها دخلت الأحقاد، ودخل الحسد، ودخل الغرور، ودخل الكبر والعجب، ودخل الرياء والعياذ بالله من ذلك، ودخل سوء الظن، ودخل التنافس على الدنيا، ودخلت أمراض كثيرة بيننا، ومن ألسنتنا أيضاً دخلت أمراض كثيرة؛ لأننا تركنا مساحة واسعة من ألسنتنا لتغتاب وتنم، ولتكذب، ولتقول الباطل، ولتفجر في الخصومة، وتركنا أوقاتاً طويلة لا نعبد الله عز وجل فيها ولا نذكره، وننام عن الصلوات، وننام عن دروس العلم، ونتأخر عما أحبه الله عز وجل منا، بل لو قلت عما أوجب الله علينا لما أبعدت كثيراً. لذلك نقول: نحن في ضمن المقصرين وإن كنا نزعم أننا نسير على الطريق، لكن لسنا نسير بالقوة المطلوبة، فهناك وهن، ولذلك نوجه الكلام لأنفسنا ولغيرنا لقول الله تعالى: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة:63]، فنريد أن نكون أقوياء، فالمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف. فنحن نريد أن نكون أقوياء في علمنا، ونريد أن نكون أقوياء في عبادتنا، ونريد أن نكون أقوياء في دعوتنا، ونريد أن نكون أقوياء فيما نتعامل به مع الله عز وجل، ونريد أن نكون أقوياء في علاقتنا ببعضنا، وفي حبنا لبعضنا، وفي تماسكنا، وفي صدقنا مع ربنا سبحانه وتعالى؛ لأن ذلك هو الذي يذهب الله عز وجل به ما بنا. فالآلام كثيرة، وما زال التقصير شديداً وبأنواع مختلفة من أبناء أهل الإسلام، والكلمة الأخيرة التي نوجهها لأنفسنا ولإخواننا ولمن كانوا منا ثم فارقونا، أعني لمن كانوا من أبناء الإسلام ثم ارتموا في أحضان أعداء الإسلام وساروا على مخططاتهم، تلك الكلمة الأخيرة: هي النداء بالتوبة الذي وجهه الرسول صلى الله عليه وسلم للناس، فقال: (يا أيها الناس! توبوا إلى الله واستغفروه؛ فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة) صلى الله عليه وسلم. اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا، اللهم فرج كرب المكروبين، وفك أسر المأسورين، وارفع الظلم عن المظلومين، اللهم كف أيدي الذين كفروا فأنت أشد بأساً وأشد تنكيلاً، اللهم كف بأسهم عن المسلمين فأنت أشد بأساً وأشد تنكيلاً، اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين، اللهم اغفر لنا وارحمنا، وتب علينا واغفر لنا إنك أنت الغفور الرحيم، اللهم انصرنا ولا تنصر علينا، اللهم امكر لنا ولا تمكر بنا، اللهم اهدنا واستجب لنا، اللهم اجعلنا لك شكارين، لك ذكارين، لك رغابين رهابين، إليك منيبين مخبتين، اللهم تقبل توبتنا، واغفر حوبتنا، واهد قلوبنا، وسدد ألسنتنا، واسلل سخائم صدورنا، اللهم اجعلنا من عبادك المخلصين، ربنا اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الانكسار إلى الله

الانكسار إلى الله إن من حكم الله عز وجل الكونية: أن جعل كل بني آدم خطاء، ولا معصوم إلا الأنبياء حتى يكون لهم الكمال في الدعوة إلى الله عز وجل، ولو كان الناس لا يذنبون لذهب الله بهم، وأتى بقوم آخرين يذنبون فيستغفرون الله، فيغفر لهم، لأن في ارتكاب الذنب الذي يتبعه رجوع إلى الله تحقيقاً لمعاني الذل والانكسار بين يدي الله سبحانه، واعتراف من العبد لله بمعاني العزة والرحمة والمغفرة، وإعلام للعبد بقدر نفسه، فلا يعتريه الغرور والفخر، ولا يعتلجه العجب والتعظيم لنفسه، فيتكبر على الله بتركه الذل بين يديه، ويتكبر على الخلق بادعاء الكمال لنفسه.

الذنوب والمعاصي وعلاقتها بالانكسار لله

الذنوب والمعاصي وعلاقتها بالانكسار لله إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18]. أما بعد. فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فاعلموا -عباد الله- أن الله سبحانه وتعالى قد تفرد بالكمال، وأنه سبحانه له الأسماء الحسنى، أسماؤه كلها حسنى تدل على معاني الكمال والجلال، فهو ذو الجلال والإكرام، وكتب سبحانه وتعالى النقص والتقصير على كل من سواه، فأفضل الخلق محمد صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول في دعائه: (فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، أنت إلهي لا إله إلا أنت)، فكيف بمن دونه؟! وإذا كان سبحانه وتعالى قد تفرد بالكمال وحده لا شريك له فقد جعل كل بني آدم خطاءين كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)، ليس ذلك من وراثة الخطيئة كما يعتقد الكفرة النصارى الذين ينسبون إلى الله عز وجل ظلماً وزوراً وعدواناً وبهتاناً: أن بني آدم ورثوا خطيئة أبيهم آدم؛ ولذا لا يقبل منهم شيئاً إلا بالغداء، فيزعمون أنه لابد أن يكون ذبيحة إلهية تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وإنما خطيئة بني آدم من أفعالهم وكسبهم، فإن الله سبحانه وتعالى قدر ذلك وابتلاهم؛ لأنه هو التواب الرحيم؛ ولأنه سبحانه وتعالى غافر الذنب وقابل التوب؛ ولأنه سبحانه وتعالى يحب أن يغفر، فقدر سبحانه وتعالى بعلمه وحكمته على العباد أن يذنبوا بالليل والنهار؛ ليستغفروه فيغفر لهم؛ ليشهدوا نقصهم وعجزهم وفقرهم وحاجتهم إلى الله سبحانه وتعالى، فكما كسرهم بالحاجة والفقر إلى الربوبية في خلقهم، ورزقهم فهم فقراء إلى الله عز وجل في بداية أمرهم وفي نهايتهم، وفيما بين ذلك، فهم ما أوجدوا أنفسهم، ولا شهدوا خلقها، ولا خلق السماوات والأرض، وما أعانوا على ذلك، قال تعالى: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} [الكهف:51]، بل هو سبحانه وتعالى تفرد بخلقهم ورزقهم فكانوا لذلك أذلة لربهم، يرى هذه الذلة وهذه الحاجة كل من طالع وشاهد بقلبه طبيعة الإنسان في كونه يحتاج إلى نفس يتنفسه، وليس بيده أن يأتي به، ولا أن يصرفه في بدنه، فهو يحتاج إلى ربه عز وجل في طعامه وشرابه ونومه ويقظته، وفي كل لحظات عمره وأنفاسه. فكذلك كسرهم سبحانه وتعالى بما يبتليهم بأنواع المحن والبلايا ليعلمهم سبحانه وتعالى ضعفهم وعجزهم، وكسرهم سبحانه وتعالى بالذنوب لكي يعرفوا أيضاً عجزهم ونقصهم وتقصيرهم، ويذلوا له ذلة العبد المنكسر الذي يعلم أنه لا ملجأ له إلا أن يعود إلى ربه ومولاه وسيده الحق سبحانه وتعالى، رب العباد الذي أوجب على العباد جميعاً أن يتوبوا ويقروا، وأن يعترفوا بالذنوب، وإنما يكمل الإنسان بذلك كما أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث الشفاعة أن الناس بسبب ما أصابهم من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون يذهبون إلى الأنبياء واحداً بعد واحد، يذهبون إلى آدم ثم إلى نوح ثم إلى إبراهيم ثم إلى موسى ثم يأتون عيسى عليه السلام، فيقول: لست لها، ولكن ائتوا محمداً صلى الله عليه وسلم عبداً غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فبكمال تعبده لله عز وجل وتوبته واعترافه صلى الله عليه وسلم بذنبه -وهو المعصوم- كمل عند الله عز وجل؛ لأن من مراتب العبودية: مرتبة الاعتراف بالذنب وشهود النقص والتقصير. وأما شهود كمال النفس، وأنه هو الذي قام بأنواع الخير وصفات الكمال فهي نظرة إبليسية -نعوذ بالله منها- سببها العجب والكبر والغرور والعياذ بالله من ذلك، فإبليس هو الذي قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12]، فلم ينفعه إقراره بأن الله هو الذي خلقه وخلق آدم؛ لأنه لم يعترف ولم يعرف لله عز وجل الفضل، وإنما نسب الفضل إلى نفسه، وشهد كمالاً وهمياً لنفسه وزكاها، والله عز وجل هو الذي يزكي من يشاء، فكان في ذلك العجب المهلك والكبر المطغي الذي يزري بصاحبه ويصغره عند الله سبحانه وتعالى. فإذا وجدت نفسك تعترف بالذنب ولم تصر على ما فعلت فأبشر، فإن الله عز وجل غفار {لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82]، وأما إذا كنت ترى من نفسك صفات الكمال، وترى أنك أعلى من غيرك وفوقهم؛ فهذا هو الخطر العظيم، وما أصابنا ما أصابنا من أنواع الكسر والذل إلا بظهور هذه الأمراض نعوذ بالله منها، ولابد للعبد المؤمن أن يكون على الدوام تواباً، معترفاً بذنبه، كما قال عز وجل: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135]، والعبد إذا أذنب ذنباً فقال: رب إني أذنبت ذنباً فاغفره لي يقول الله عز وجل: (علم عبدي أن له رباً يأخذ بالذنب ويغفر الذنب، قد غفرت لعبدي-حتى يفعل ذلك ثلاثاً ويقول الرب عز وجل في الثالثة: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، قد غفرت لعبدي فليفعل ما شاء)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وأتى بعباد يذنبون فيستغفرون؛ فيغفر الله لهم)، وهذا إنما يحصل بالانكسار والذل لله عز وجل بشهود المعاصي والذنوب، وربما كان العبد بالانكسار لله عز وجل بسبب الذنوب والإزراء على نفسه وشهود نفسه ظالماً أكمل حالاً منه قبل أن يذنب الذنب، وذلك أن الندم والتوبة والرجوع إلى الله عز وجل يرتفع العبد بها في مقامات العبودية التي يحبها الله سبحانه، وليس معنى ذلك أن يقدم على الذنب متجرئاً، فإن هذا في ذاته قادح في عودته وندمه، وقادح في انكساره، والذي يستهين بالذنب ويقدم عليه يحرم هذا الأمر غالباً إلا حين ينكسر لله سبحانه وتعالى.

قصة يوسف وما فيها من الانكسار والتوبة

قصة يوسف وما فيها من الانكسار والتوبة تأمل في قصة يوسف عليه السلام وإخوته حين قال إخوة يوسف في بداية عزمهم على الذنب والجريمة التي ارتكبوها: {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ} [يوسف:9]، فقد عزموا على التوبة ولكنهم لم يرزقوها، ولم يتب الله سبحانه وتعالى عليهم سنين طوالاً أكثر من أربعين عاماً أو نحواً من أربعين عاماً؛ لأنهم لم ينكسروا لله، وإنما رزقوا التوبة لما ذلوا ذلاً شديداً، حتى أوقعهم الله في ذل المسألة والحاجة، {قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ * فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ} [يوسف:78 - 80]، فكانت بداية التوبة، فهذا الذي أصابهم حين شعروا بأنهم فرطوا في حق يوسف، وقبل ذلك كان الحقد يملأ قلوبهم، وكانوا ما زالوا يحقدون على يوسف حتى قالوا: {إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} [يوسف:77]، لكن لما يئسوا من أن ينجو أخاهم وقد أخذ أبوهم عليهم موثقاً من الله وانكسروا كان ذلك بداية التوبة. ثم زادت الكسرة بغضب أبيهم وحزنه حتى ابيضت عيناه من الحزن وهو كظيم، وخشوا عليه الهلاك، وشعروا بمدى التقصير، وزاد الأمر بالفقر وشدة الحاجة حتى قالوا: {يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ} [يوسف:88]، كلها أنواع من الانكسار، وشعروا بعزة هذا العزيز فخاطبوه بهذه الكلمة: ((يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ))، وشعروا بذل الضر الذي أصابهم، ((مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ))، وذل الأهل ذل إضافي إلى حاجة النفس وضرورتها ((وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ))، ليس عندنا ما يقابل عطاءك، وإنما يسألون عطاءً بلا مقابل، بضاعتهم بائرة لا تنفق في السوق، ولا تباع إلا بالبخس، مثل غروب وحبال ودلاء، وليس عندهم شيء يبيعونه ولا يستبدلونه حتى يأتون بالطعام، وإنما يرجون الكرم؛ ولذا قالوا: {وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ}، ذل المسألة والحاجة لينكسروا؛ فلما وقع ذلك تاب الله عليهم، فكان هذا بداية الفرج عليهم، وكان ذلك سبب توبة الله سبحانه وتعالى عليهم بالإضافة إلى الاعتراف، {قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ * قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ * قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:89 - 92]، وكانت هذه التوبة بعد مدة طويلة؛ لذا نقول: إن الذي يتجرأ على الذنب ويقول: سوف أتوب بمجرد أن أفعل الذنب هذه المرة ثم أتوب، غالباً لا يرزق التوبة، وإنما يرزق التوبة من شهد انكساره وذله وضعفه أمام نفسه الأمارة بالسوء، وشهد عزة مولاه وكماله وغناه، وأنه لا يحتاج إلى طاعته، قد مضت ركائب المطيعين وهو المتخلف، وقد عبد الله سبحانه وتعالى العابدون وهو النائم الكسلان، وقد أطاع الله سبحانه وتعالى الطائعون وهو الذي ترك هذه الرفقة الصالحة، فعندما يرى نفسه كذلك يعترف بذنبه، فعند ذلك يقبله الله سبحانه وتعالى، فإنه سبحانه وتعالى: {يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222].

انكسار النبي صلى الله عليه وسلم بين يدي الله

انكسار النبي صلى الله عليه وسلم بين يدي الله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو المعصوم عليه الصلاة والسلام، وذنوبه إنما هي نسيان أو فتور في الذكر عن القدر المستحب في حقنا، أو إنها خطأ في الاجتهاد أو ترك للأولى، هكذا كانت ذنوبه عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك يقول: (فاغفر لي ما قدمت وما أخرت)، والعبد يشهد تقصيره مقدماً ومؤخراً، يشهد تقصيره في أول عمره وفي آخره، يشهد العبد المؤمن ذنوبه قد أحاطت به من قبل ومن بعد، فيقول: فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، فأنت بين ذنب وبين ذنب، إلا أن يتوب الله عز وجل عليك، وستهلك إلا أن يتوب الله سبحانه وتعالى عليك، فالنبي صلى الله عليه وسلم يشهد أن ذنوبه مقدمة ومؤخرة فيقول: (فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت)، فهو بين سر وعلن، ذنوب بينه وبين الله، وذنوب بينه وبين الناس، بمعنى أنه في السر أذنب وفي العلن أذنب، ثم يقول بعد ذلك: (وما أنت أعلم به مني)، هذا الانكسار العجيب الذي يحصل للمؤمن -إذا صدق في قوله- يرفعه منازل عالية عند الله عز وجل، وليس مجرد ترديد باللسان كمتواضع ليس عنده التواضع، وإنما يقول ذلك وهو يرى أنه ما أذنب في الحقيقة، وأن الأمر كان من غيره، وأن التقصير كان من سواه، وربما لام بعضهم قدر الله وقال: هو الذي قدر علينا ذلك، فعلام اللوم؟! وعلام نعذب أو نعاقب؟! وكثير جداً من الناس يقول: لماذا فعلت بنا يا ربنا هذا؟ ماذا أذنبنا حتى تفعل بنا ذلك؟! نعوذ بالله من هذا القول، وهذا كله لأنهم لم يشهدوا حقيقة العبودية بالانكسار، وأن العبد لا يزال مقصراً في حق ربه عز وجل، وقد قدر الله عز وجل على أبينا آدم الخطيئة، وكتبها عليه، ورزقه الاعتراف بالذنب والاستغفار، فقال هو وزوجه: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23]، فقارن بين الحالين: إبليس احتج بالقدر وعاتب ربه عز وجل فقال: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الحجر:39]-نعوذ بالله من ذلك! وحاج ربه عز وجل فقال: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:16 - 17]، وهذه خطة إبليسية يسير عليها كثير من الناس، ينسبون إلى الله عز وجل أنه ظلمهم، وأنه الذي قدر عليهم، ويستمرون في محادة الرب ومخالفة أمره، فتجد أحدهم يترك الطاعات ويفعل المعاصي والمحرمات وربما الشركيات، وينسى الآخرة، ويقبل على الدنيا، ولا يشكر نعمة الله، تجد هذه طريقة إبليسية يسير عليها كثير من الناس، وإذا عوتب عاتب ربه عز وجل، فمن شابه إبليس فهو معه، (ومن تشبه بقوم فهو منهم)، ومن شابه أباه فما ظلم. فإذا اعترفت بالذنب، ورأيت التقصير والنقص والعيب الذي عندك، كان ذلك من أسباب رفعتك عند الله عز وجل، وإنما تكمل النفس الإنسانية برؤية تقصيرها وعيبها، وإنما تهلك وتمرض وتموت برؤية كمالها وفخرها وغرورها والعياذ بالله من ذلك! لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يكرر هذا المعنى في مجالسه كلها، وهو معنى الاستغفار الذي هو جالب لأنواع الخيرات والرزق والبركات من الله سبحانه وتعالى، كما قال ابن عمر رضي الله عنه: (كنا لنعد في المجلس الواحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم، أكثر من سبعين مرة)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس! توبوا إلى الله واستغفروه؛ فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة)، ويقول عليه الصلاة والسلام: (اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني)، فأعلم الخلق بالله صلى الله عليه وسلم وقد قال: (والله إني لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية)، قال ذلك ليعلمنا منزلته الواجبة، والتي يجب علينا أن نعتقدها له عليه الصلاة والسلام، وهو مع ذلك يقول: (اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي)، وكلما كان الإنسان معترفاً بجهله ناظراً إلى سعة علم الله عز وجل كان عالماً بالله كما في قصة الخضر عليه السلام مع موسى صلى الله عليه وسلم -وهو الذي أمره الله أن يصحبه فيتعلم منه، وعلمه ثلاث مسائل في رحلة طويلة- فعندما وقف عصفور على جانب السفينة فأخذ قطرة من البحر الخضر قال: (يا موسى! أنت على علم من علم الله علمكه لا أعلمه، وأنا على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه، وما علمي وعلمك وعلم الخلائق في علم الله إلا كما أخذ هذا العصفور من هذا البحر) فهذه النظرة تجعل العبد يكون صادقاً، (اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري). وعندما تنظر إلى عظمة الله عز وجل وحقه ونعمه، وما يستحقه سبحانه وتعالى من الحب والخوف والرجاء وكمال كل أنواع العبودية، وتعلم ما أنت فيه مقصر عند ذلك تكون صادقاً. قوله: (وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني)، أي: اغفر لي إسرافي في أمري، فأنا أسرفت على نفسي، وأنا قصرت تقصيراً أنا أعترف به، فهذا الذي يرفع قدر العبد عند الله عز وجل. (فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر)، الله عز وجل يقدم من شاء، ويؤخر من شاء، هكذا شهد النبي صلى الله عليه وسلم أن الفضل بيد الله، وأنه هو الذي يرفع درجات من يشاء، وأنه سبحانه وتعالى يهب لمن يشاء الطاعات فيجعله مقدماً عنده، ويؤخر من شاء حتى يؤخر في النار والعياذ بالله، الله يقدم من شاء في أمر الدين والدنيا، ويؤخر من شاء في أمر الدين والدنيا. (أنت إلهي)، وهذا المعنى شمل كل ما سبق في هذا الدعاء العظيم الجامع الذي هو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، وذكر اسم الألوهية مضافاً إلى ضمير المتكلم المفرد (أنت إلهي) لتكميل هذه الخصوصية، فهو يستشعر أنه مع ربه سبحانه وتعالى، ومع إلهه الذي يعبده ويحبه ويخضع له ويذل له، وقد كملت عبوديته بالاعتراف بالذنب بعد كمال الإسلام والإيمان والتوكل والإنابة: (اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، أنت ربنا وإليك المصير، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، أنت إلهي لا إله إلا أنت)، فهناك خصوصية في قضية العبودية، بمعنى أنها سر بينك وبين الله عز وجل فيما تختص به من عبادته مما لا يعرفه الناس. وتأمل في قوله: (أنت ربنا)، وفي قوله: (أنت إلهي)، لتعلم حاجة العباد جميعاً إلى الله عز وجل، وفقرهم إليه، ولكل عبد مؤمن صادق مع الله نصيب من قوله: (أنت إلهي).

انكسار الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم

انكسار الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وهكذا قد تكرر مثل هذا المعنى على ألسنة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، في شهودهم معاني الأسماء والصفات الدالة على الحب والود والرحمة الخاصة لعباده المؤمنين الذين يعبدونه، كما قال شعيب عليه السلام: {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} [هود:90]، فحين أمرهم بالاستغفار ذكرهم باسم الربوبية مضافاً إلى ضمير جمع المخاطبين: ((وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ))، ثم ذكر الود والرحمة، وهذا أمر خاص إنما يشهده من أخلص لله عز وجل واقترب منه سبحانه وتعالى، فيشهد من آثار وده وحبه سبحانه وتعالى ما يجعله يعرف خصوصية عباد الله المؤمنين بذلك، وللأنبياء أعظم الخصوصية، فيقول: ((إِنَّ رَبِّي))، فذكر ربه هنا منسوباً، ومضافاً إلى ضمير المتكلم، وكما قال صالح عليه السلام: {إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [هود:61]، فهو سبحانه وتعالى قريب من عباده المؤمنين، مجيب لهم دعاءهم، ما لا يقرب من غيرهم ولا يجيب غيرهم، فهو عز وجل أكثر قرباً لعباده المؤمنين؛ لأنهم أخلصوا له الألوهية والعبادة فهو أكثر إجابة لهم، وهو عز وجل قد يجيب الكفرة كما أخبر عنهم أنهم إذا مسهم الضر في البحر ضل من يدعون إلا إياه، لكن إجابته للمؤمنين أمر آخر، فلابد إذاً أن يكون بينك وبين الله عز وجل عمل كما كان السلف يدخرون أعمالهم الصالحة، ويسرون بها كما يسر الناس الذنوب. فالناس يستخفون بالذنوب حتى لا يفضحوا، وأهل الإيمان والصلاح يستخفون بالعمل الصالح؛ لأنه الذي يبقى لهم مضموناً أو يرجون أن يكون باقياً لهم عند الله عز وجل، أو هو أقرب إلى القبول من ذلك الذي في العلن، فإن العبودية التي في العلن تقترن بها كثير من الآفات، وغالباً ما تفسد على كثير من الصالحين أعمالهم-ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأما التي بينك وبين الله عز وجل فهي التي إذا صدقت في قولك: (أنت إلهي) تبقى لك عند الله، ولقد رئي بعض من كان مقدماً في العلم في المنام بعد موته فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: ذهبت هذه الشطحات والأفكار ولم يبق إلا ركعات في جوف الليل، فنفعه عند الله عز وجل ما أخفاه عن الناس، وهذا هو السر في أن يذكر الإله سبحانه وتعالى في هذا الموطن -والله أعلى وأعلم- منسوباً مضافاً إلى ضمير المتكلم، (أنت إلهي)، فهو كذلك إلهه ولو لم يعبد الله أحد، فهو يستحضر أنه سوف يعبد الله وحده مهما كان من حوله بعيداً عن هذه العبودية، فهو لا يحتاج إلى أن يكون مع الناس ليعبد ربه، فهو يعبد الله عز وجل ولو كان وحده، ولو لم يوجد من الناس من يعبد الله، ولو كان يسير وحده غريباً في طريقه إلى الله؛ لأن الله إلهه، فالعبادة بينه وبين ربه أمر لا يحتاج إلى معين عليه، ولذا يقول يعقوب عليه السلام: {وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [يوسف:86]، وإنما يحصل ذلك بشهود أسمائه وصفاته، واستحضار معاني كماله وعظمته سبحانه وتعالى، ويعرف فيما بينه وبين ربه عز وجل بسبب أنواع العبادة الخاصة ما يرفع قدره عند الله، ويجعله مقرباً منه سبحانه وتعالى. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

قوة الله لا يغلبها شيء

قوة الله لا يغلبها شيء الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وسلم. أما بعد: فختم هذا الدعاء المبارك العظيم بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا إله إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بك) فهو تأكيد على ذلك المعنى المتكرر الذي تكرر مرات في هذا الدعاء وفي غيره: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، (لا إله إلا أنت) تحقيق العبودية، {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] بمعنى (لا حول ولا قوة إلا بك)، عليك توكلت وإليك أنبت، {قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد:30]، وغير ذلك كثير في آيات القرآن، {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88]، حتى يكون العبد شاهداً بأنه لن يحقق العبودية لله سبحانه وتعالى إلا بإعانته، (لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وكما أوصى إبراهيم أمة محمد صلى الله عليه وسلم بأن غرس الجنة: (لا حول ولا قوة إلا بالله)، فلا يتحول أحد من حال إلى حال إلا بالله عز وجل، ولا قوة للعباد إلا به سبحانه وتعالى، وفي هذا إثبات قدر الله سبحانه وتعالى وقدرته، وإثبات أن العباد يجعل الله سبحانه لهم قوة وقدرة، فهو لم يقل: لا قوة إلا لله والقوة لله جميعاً، وإنما قال في هذا الموضع: إلا لله سبحانه وتعالى. والمعنى الأول {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [البقرة:165] معنى حق قد ثبت في الكتاب والسنة؛ وذلك لأن الله عز وجل هو القوي، لكن لا حول ولا قوة إلا بالله، يتضمن معنى إضافياً، وهو: أن العباد يجعل الله لهم قوة من عنده سبحانه، وهذا عبد يقويه الله على طاعته، وذاك عبد يقويه على كسب الدنيا، وذاك عبد يقويه على ظلم الآخرين، وذاك عبد يقويه على الشرك والعياذ بالله من ذلك، وهو سبحانه وتعالى لا قوة إلا به عز وجل، فهو الذي قدر ذلك، وإذا أمر أن تنزع القوة -قوة أي مخلوق- نزعها سبحانه وتعالى، ويبقى هو المتفرد سبحانه وتعالى بالقوة والعزة والقهر والجبروت، وهو: {الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف:39] سبحانه وتعالى. وإذا شهد العبد ذلك فإنه يطلب تحول حاله من السيئ إلى الأحسن، وتحول حال قومه وأمته إلى ما يحب مستعيناً بالله عز وجل، وفيما يرى من تقلب أحوال العالم من حوله، وتقلب الملك والسلطان والجاه والغنى والفقر والموت والحياة شاهد على الله سبحانه وتعالى، يشهد أن الأمر كله من عنده، {قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عمران:154]، وكما قال سبحانه وتعالى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود:123]، وإذا شهد المؤمن ذلك كان الناس في عينه وفي قلبه صغاراً، كما هي حقيقتهم في هذا الوجود زماناً ومكاناً، لا يملكون من الأرض ولا من السماء شيئاً، وما هم بمعجزين في الأرض ولا في السماء، قال تعالى: {وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا} [الفرقان:3]. يشهد المؤمن أنه لا قوة إلا بالله، فلم يشهد الحول والقوة بالناس، فلا يغتر إذاً بما عليه الذين كفروا، {فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ} [غافر:4]، {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران:196 - 197]، وكذلك لا يغتر بما رزقه الله كالذي: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا * قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا * لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا * فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا * وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا} [الكهف:35 - 43]. وهذا المثل ضربه الله عز وجل لكل أحد اغتر بقوته أو اغتر بماله أو اغتر بسلطانه، ومآله إلى ذلك قطعاً وحتماً، فمن الناس من يريهم الله ذلك في حياتهم كمن ضاع ملكه بعد ملك طويل وسلطان عريض، وتأله وتجبر، ثم يصير إلى الذل والهوان والانكسار والأسر وأنواع الإهانات المختلفة، وهذه آية من آيات الله العظيمة، وهذه سنة ماضية كما سئل الإمام مالك عمن خرج على الظالم فقال: دعه ينتقم الله من ظالم بظالم، ثم ينتقم منهما جميعاً سبحانه وتعالى، فالله عز وجل يسلط بعض الظالمين على بعض، ويولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون، والله سبحانه وتعالى حين يجعل بعض أهل الطغيان عبرة للناس، يريهم سبحانه وتعالى آيات قدرته حتى يعلموا أن من سار على ركبهم فهو إلى مصيرهم ومآلهم، وإن كان الذي يظلمه، وإن كان الذي يهينه أشد جرماً وكفراً منه، فإنه أجدر بنفس المصير، وكثير من الناس لا يرى تلك اللحظات التي يرحل فيها الأغنياء والملوك والكبراء والرؤساء الذين ملئوا الدنيا بأنواع التفخيم لأنفسهم، وأنواع الفخر والاختيال على الخلق، وأنواع الكبر والغرور، لكنها تمر عليهم لحظات الرحيل أحياناً في صمت بعيداً عن الأضواء، بعيداً عن أن تصور صورهم، وهم في ذل الموت وغمراته وسكراته، وما يصيبهم من هوان القبور أعظم، ولو فتحت قبورهم لرأى الناس لحومهم بالية بعد أن كانوا ملوكاً أعزة، ولرأى الناس الدود في أبدانهم وقد كانوا منعمين مترفين قد مروا بتلك اللحظات جميعها. أين ملوك الأرض -عباد الله- منذ آلاف السنين وقد ملئوا الدنيا في زمانهم؟ أي من كان يصيح: {يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الزخرف:51]؟ فأين هو الآن؟! أين أغنياء العالم منذ مائتي سنة؟ لا يوجد أحد منهم على ظهر الأرض، بل كما قيل: ماتوا جميعاً ومات الخبر، لا يوجد من يخبر عنهم، ماتت أخبارهم، انشغل الناس بغيرهم، فلا قوة إلا بالله! الله عز وجل هو القوي، وهو العزيز، وهو الذي يحول البشر من حال إلى حال، ولا حيلة للبشر إلا بالله عز وجل، فلا تشهد قدرة نفسك، ولكن اشهد قدرة الله عز وجل، وإذا فعلت شيئاً فإنما فعلته بالله {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30]، {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [المدثر:56]، فإذا وفقت لطاعة وجعل الله لك القوة في طاعتك، فاشهد أن ذلك بالله لا بنفسك، وإذا وقعت في معصية الله سبحانه فافزع إليه، وفر إليه، واسأله ألا يجعل قوتك في مخالفة أمره، وتدبر في حال من جعل الله كل حياتهم وقوتهم في محادة أمره، كإبليس وفرعون والكفرة والظلمة، وأعداء الإسلام دائماً يحاربون الله بكل قوتهم، ويحاربون رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد جعل الله قوتهم في ذلك نسأل الله العافية، تأمل في ذلك لتعلم أن الأمر بيد الله، ثم يأخذهم العزيز المقتدر سبحانه وتعالى، إذا كان الأمر كذلك صغرت الدنيا في عينك، ولجأت إلى الله سبحانه وتعالى، وتضرعت وانكسرت إليه، إن هذا الدعاء العظيم المبارك الذي يبدؤه العبد بالحمد، ويختمه بالاعتراف بالحول والقوة، ويدعو فيما بين ذلك بأنواع من معاني الإيمان المختلفة؛ والله إنه لمعجزة من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم لمن تدبره، كيف جمع -في موقف واحد لا يستغرق أكثر من دقيقتين- بين كل هذه المعاني الرائعة, (اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيام السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السماوات والأرض ومن فيهن، أنت الحق، ووعدك الحق، وقولك الحق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والساعة حق، والنبيون حق، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، أنت ربنا وإليك المصير، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، أنت إلهي لا إله إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك). صدق النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (أوتيت جوامع الكلم)، فاللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم ارزقنا مرافقة نبيك صلى الله عليه وسلم في الجنة، ومرافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً. اللهم إنا نسألك من فضلك ورحمتك فإنه لا يملكها إلا أنت. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين

الإيمان بالقدر وأثره في السلوك

الإيمان بالقدر وأثره في السلوك الإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان لا يصح إيمان مؤمن إلا به، والإيمان بالقضاء والقدر له ثمار يجدها المؤمن في حياته، فلابد أن يطمئن إلى قضاء الله وقدره ويرضى به؛ فهو يعلم أنَّ ما أصابه من شر أو من خير فكله من عند الله، وليس معنى ذلك أن يجعل القدر حجة له في اقتراف الذنوب؛ لأن الإنسان ميسر لما خلق له، فلابد أن يبادر بالتوبة إلى الله قبل إغلاق بابها.

الطمأنينة والسعادة في الإيمان بالله عموما والقدر خصوصا

الطمأنينة والسعادة في الإيمان بالله عموماً والقدر خصوصاً الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فإن الإيمان هو الركن الركين الذي يستند إليه المؤمن خصوصاً عند الأزمات، فعندما يشتد الضيق يكون الحصن الحصين الذي يلجأ إليه هو الإيمان بالله عز وجل وأسمائه وصفاته، وربوبيته وألوهيته، والإيمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والإيمان بالقضاء والقدر، فإذا تحقق في الإنسان الإيمان ووهبه الله ذلك هان عليه كل ما يجده من ضيق، وسهل عليه كل ما يجد من عسر، ويسر الله له سبحانه وتعالى سعادة الدنيا قبل سعادة الآخرة، وإن كانت الدنيا قد ضاقت عليه بأسرها، وإن أحاط به أعداؤه وأعداء دينه من كل جانب، فإنه يجد في هذا الضيق أعظم السعة، وهذا إذا تحقق الإيمان، والإيمان بالقضاء والقدر خصوصاً في هذا الباب من أعظم أسباب السعة التي يوسع الله عز وجل بها على المؤمن الضيق، ويهون عليه كل مصيبة، ويبعد عنه مرض الأسى والحزن، وإنما يستحضر قوته بالله عز وجل؛ لأن القوة لله جميعاً، ويستحضر أن الأمر أمره سبحانه وتعالى، وأنه عز وجل خلق كل شيء بقدر، فهذا يغير سلوكه في معاملة الواقع تغييراً جذرياً.

طريقة الكتاب والسنة في الإيضاح والتبيين

طريقة الكتاب والسنة في الإيضاح والتبيين إن طريقة الكتاب والسنة هي الطريقة الميسرة؛ لأن الله يسر القرآن والسنة بياناً، ولم يجعل هذا التيسير في طرق المعارف البشرية الأخرى، فلم يجعل هذا التيسير مثلاً في علم الكلام أو الفلسفة أو النظريات العقلية، ولا في المباحث التجريبية، وإنما جعل الله عز وجل التيسير في كتابه، وبهذا يجد المؤمن أن طريقة القرآن وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام تتضمن أجل المعارف والعلوم، وأحسن الطرق وأيسر السبل إلى الفهم والعمل الصحيح، فتجد في هذا الطريق العقيدة الصافية النقية، كما تجد فيه الحالة القلبية الإيمانية، وتجد فيه السلوك العملي بالجوارح كذلك، فكل ذلك مرتبط في نسيج واحد، بطريقة عجيبة لا نظير لها في الحقيقة.

مسألة القضاء والقدر

مسألة القضاء والقدر وقضية القضاء والقدر من أكبر المسائل التي حيرت عقول البشر، حين ابتعدوا عن مصدر الوحي وما أتت به الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فتاهوا في الحيرة والضلال، وأعياهم فهم هذه المسألة، حتى كفر البعض بوجود الله من أجل هذه المسألة، فهؤلاء الماركسيون إنما كفر إلههم ماركس بسبب هذه المسألة، فهو الذي يصف أنه لو كان هناك رب فاعل فكيف ستجتمع مع فعله أفعال العباد ومسئوليتهم عن أفعالهم؟ فإذا كانت له قدرة فلابد أن تنعدم قدرتهم، وإذا كانت للعباد قدرة -وهذا هو المحسوس عنده فقط- فلا معنى لوجود الإله، فهو الذي تسبب في إنكار وجود الله عز وجل؛ لعدم فهمه لمسألة القدر وهذا ضلال عظيم، فضلاً عن وجوه الانحراف الكبرى التي وقعت فيها الفرق الضالة بين الجبر والاختيار، وهي مسألة العجيب فيها أنها تشغل شأن كل إنسان، فالفطرة الإنسانية تسأل دائماً هذا Q ما هي العلاقة بين فعل العبد وفعل الرب؟ ومع ذلك تجد أكثر الناس لا يطلبون الإجابة الصحيحة من مصدرها الوحيد، من الوحي المنزل من عند الله عز وجل، وإنما تتخبط عقولهم يميناً وشمالاً وتجد أعاجيب الأقاويل التي خرجت من اللسان بسبب الخذلان؛ وذلك أن الله عز وجل لم يوفقهم لذلك، فلذلك نقول: إن طريقة الكتاب والسنة هي أعظم طريقة في البيان، وفي العمل والسلوك كذلك.

مراتب الإيمان بالقضاء والقدر

مراتب الإيمان بالقضاء والقدر ولنذكر شيئاً من هذا في قضية القضاء والقدر بمراتبها الأربعة التي بينها أهل العلم من أهل السنة والجماعة: في أن الإيمان بالقدر في الحقيقة إيمان بصفات الله وأفعاله سبحانه وتعالى، فهي إيمان باسمه العليم، وباسمه القدير، وباسمه الفعال لما يريد، وباسمه الخالق البارئ المصور، وبفعله عز وجل أنه كتب مقادير الخلائق قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، فجملة الإيمان بالقدر في الحقيقة إيمان بالله عز وجل، ولذا فمن أحسن الأقوال في هذا الباب قول الإمام أحمد رحمه الله: القدر قدرة الله؛ وذلك أن مرجع الإيمان بالقدر هو الإيمان بصفات الله سبحانه وتعالى كما ذكرنا، مع بيان علاقة أفعال الرب عز وجل بأفعال العباد من خلال الآية الكريمة: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29]، {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} [المدثر:55 - 56]. وقد بين أهل العلم أن مراتب الإيمان بالقضاء والقدر أربع مراتب:

المرتبة الأولى: الإيمان بعلم الله السابق على وجود المخلوقات

المرتبة الأولى: الإيمان بعلم الله السابق على وجود المخلوقات المرتبة الأولى: الإيمان بعلم الله الأول السابق على وجود المخلوقات، وهو علم الله الموصوف به أزلاً لأعمال الخلق قبل أن يخلقهم، فهو يعلم ما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون.

المرتبة الثانية: الكتابة

المرتبة الثانية: الكتابة والمرتبة الثانية: مرتبة الكتابة، فقد كتب الله مقادير الخلائق في اللوح المحفوظ قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وتبعتها كتابات، فمنها: الكتابة والتقدير قبل خلق آدم عليه السلام، بأن يكون آدم وذريته في الأرض، وقد كتب الله التوراة قبل خلق آدم بأربعين سنة، وكتب فيها: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه:121 - 122]. وكذلك: الكتابة يوم القبضتين والتقدير يوم القبضتين: يوم أخذ الله عز وجل من ظهر آدم ذريته بيمينه وقال: هؤلاء في الجنة ولا أبالي، وقبض قبضة بشماله وقال: هؤلاء في النار ولا أبالي، وأخذ عليهم جميعاً العهد والميثاق ألا يشركوا به شيئاً. وتبعت هذه الكتابات كتابات أخرى، فمنها: الكتابة والإنسان جنين في بطن أمه، وذلك عندما يكون الإنسان في بطن أمه أربعين يوماً أو ثنتين وأربعين ليلة، وكذا عندما ينفخ فيه الروح بعد مائة وعشرين يوماً، فيكتب عمله وأجله ورزقه وشقي أم سعيد، ومنها: الكتابة السنوية في ليلة القدر، ففيها يفرق كل أمر حكيم، وكذلك: الكتابة اليومية، فكل يوم هو في شأن، وكذلك: الكتابة التي سمعها الرسول صلى الله عليه وسلم في المعراج حين صعد إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام، فهناك كتابات متعددة فالله عز وجل لم يزل فعالاً لما يريد، وكل يوم هو في شأن، يغفر ذنباً، ويفرج كرباً، ويعز ذليلاً، ويجبر كسيراً، ويعطي ويمنع، ويخفض ويرفع، ويفعل ما يشاء.

المرتبة الثالثة: الإيمان بمشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة

المرتبة الثالثة: الإيمان بمشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة والمرتبة الثالثة من مراتب الإيمان بالقدر: مرتبة الإيمان بمشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولا تكون في هذا الكون حركة ولا سكون، ولا طاعة ولا معصية، ولا إيمان ولا كفر، ولا خير ولا شر إلا بمشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة، فأمره نافذ كما قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، وكذلك قدرته عز وجل على كل شيء، على أفعال العباد الاختيارية والاضطرارية، قال تعالى: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:284]، ومع ذلك أمر الله العباد بطاعته، ونهاهم عن معصيته، وهو يحب المتقين، ويحب المقسطين، ويحب المؤمنين، ولا يرضى لعباده الكفر، وإن كان قد قدر سبحانه وتعالى الكفر والفسوق والعصيان، لكنه يحب الطاعة ويكره المعصية، فمحبته وكراهيته تابعة لأمره الشرعي ونهيه كذلك، فما أمر الله به وفعله العباد فهو يحبه، ويحب من فعل ذلك منهم، ومن عصى أمره عز وجل وخالف شرعه فهو يكرهه، ويكره من فعل ذلك منهم، وكونه قدر وجود ما يكرهه عز وجل شرعاً فلحكمته البالغة سبحانه.

المرتبة الرابعة: الإيمان بالخلق والبعث

المرتبة الرابعة: الإيمان بالخلق والبعث وأما المرتبة الرابعة من مراتب الإيمان بالقدر: فمرتبة الخلق والبعث، فالله خالق كل شيء، وهو خالق أفعال العباد، كما أنه خالق ذواتهم، وقد خلق قدرة للعباد، وخلق مشيئتهم، وخلق بها أفعالهم، فللعباد قدرة ومشيئة بها تقع أفعالهم، والله خالقهم وخالق أفعالهم وقدرتهم ومشيئتهم، ولا يعني إثبات خلق أفعال العباد إلغاء قدرتهم وإرادتهم في إيجاد تلك الأفعال، وإنما الله خالقهم وخالق قدرتهم ومشيئتهم، والعباد ميسرون لما خلقوا له.

الأدلة من الكتاب والسنة على مراتب الإيمان بالقضاء والقدر

الأدلة من الكتاب والسنة على مراتب الإيمان بالقضاء والقدر ونحن نريد أن نسمع هذه المراتب كأدلة من الكتاب والسنة؛ لأن سردها فقط لا يكفي ولا يؤثر في القلب ذلك التأثير العظيم الذي تؤثره تلاوة وبيان ما ذكره الله عز وجل وذكره الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن القرآن والسنة لم يذكرا هذه المراتب كعلم نظري أو فكر عقلي، وإنما كإيمان يحل في القلب ويتأثر به العمل، فإن الإيمان -كما نعلم- قول وعمل، فتلفت الطريقة القرآنية والنبوية أنظار العباد إلى أمور معينة لابد أن تلتفت لها القلوب لتحيا بالإيمان، وتمتلئ بالنور الذي أنزله الله عز وجل، قال سبحانه وتعالى في بيان علمه عز وجل: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ * وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى} [الأنعام:59 - 60]، هكذا تناولت هذه الآيات عدة مراتب للقدر، حيث ذكر الله علمه وكتابته للمقادير، ولكن انظر وتأمل كيف ذكر هذا الأمر؛ لتتفكر في سعة علم الله: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} [الأنعام:59]، والقرآن خير ما يفسر به القرآن، فقد قال عز وجل في الآية الأخرى في بيان مفاتيح الغيب التي ذكرها في هذه الآية: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان:34]، فهذه خمس مفاتيح استأثر الله بهن، فلا يعلمهن ملك مقرب ولا نبي مرسل، فقد سأل جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة في حديث جبريل المشهور في الإيمان والإسلام والإحسان فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل، ولكن أحدثك عن أماراتها في خمس لا يعلمهن إلا الله، وتلا: ((إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ)) [لقمان:34])، فبين الرسول صلى الله عليه وسلم أن أعلى البشر قدراً ومنزلة هو النبي عليه الصلاة والسلام، وأعلى الملائكة قدراً ومنزلة هو جبريل عليه السلام، ولكنهما لا يعلمان شيئاً من هذه الخمس، ولكن أخبر النبي جبريل عن بعض أمارات الساعة: (أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان)، لكن ذلك لا يعني أن واحدة من هذه الخمس يعلمها الناس، ولكن أحدثك عن أماراتها في خمس لا يعلمهن إلا الله، ولو أخبرت ببعض المقدمات أو ببعض الأمور عن الساعة فلا تزال الساعة غيباً، أي: لا تزال الساعة من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، والخمس كلها كذلك، فلا يعلمها ملك مقرب ولا نبي مرسل، يقول تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ))، ونحن نقطع ونؤمن يقيناً بقيام الساعة، ولكننا لا ندري متى يقع ذلك، ولذلك إذا سمعت من يقول: الساعة تقوم يوم كذا وكذا، أو بقي على ظهور الدجال مثلاً سنتان أو ثلاث، أو بقي على نزول ابن مريم خمسة عشر سنة، أو حتى خمسمائة سنة، أو بقي من قدر الدنيا كذا سنة فاعلم أنه ضال وجاهل؛ لأنه لا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله، والأمر نسبي في القرب والبعد، فمنذ زمن النبي عليه الصلاة والسلام قوله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} [القمر:1]، بل هي أقرب من زمن أبعد من ذلك، ففي الحديث الصحيح في سنن أبي داود: (أن آدم عليه السلام لما عرضت عليه ذريته أعجبه وبيص ما بين عيني رجل منهم من النور، فقال: من هذا؟ قال: هذا رجل أو نبي في آخر الزمان من ذريتك يقال له: داود)، فمن أيام سيدنا داود وهو آخر الزمان، فالأمر نسبي، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (بعثت أنا والساعة كهاتين) قال ذلك قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة، إذاً: فلا يستطيع أحد أن يعلم متى تقوم الساعة، لا بالتقريب ولا بالتبعيد؛ لأنه لا يعلم ذلك إلا الله، ولذلك لا تصدقن أحداً يقول لك: قبل أن تنتهي سنة كذا سوف تقع العلامات الكبرى التي هي ظهور الدجال أو نزول عيسى بن مريم، فكل هذا من الغيب؛ لأن ذلك مما يكسبه الناس غداً: ((وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا))، فلا يعلم ما في غد إلا الله، وكما تقول عائشة: من حدثكم أن محمداً صلى الله عليه وسلم يعلم ما في غد فقد أعظم على الله الفرية. وهذه قضية عظيمة الأهمية؛ لأن البعض يظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال ذلك تواضعاً أي: أنه لا يعلم وقت الساعة تواضعاً، أو أنه لا يعلم الغيب تواضعاً، لكن الأمر ليس كذلك فالرسول عليه الصلاة والسلام لا يعلم مفاتيح الغيب، ولكنه أخبر عن غيبيات، فلا تخرج مفاتيح الغيب الخمس عن كونها غيباً، وهذه المفاتيح الخمس استأثرها في علمه سبحانه وتعالى، وقوله تعالى: ((وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ))، فوقت نزول الغيث لا يعلمه إلا الله.

التوقعات الجوية تحتمل الصدق والكذب

التوقعات الجوية تحتمل الصدق والكذب إن حكم التنبؤات الجوية أي: التوقعات الجوية، والأنسب أن تسمى توقعات؛ لأنها مجرد ظنون، وأهل العلم بها يقولون ذلك، فالذين يعرفون حقيقة الأمر لا يجزمون، ولا يجزم بذلك إلا ضال جاهل، بل كما قال القرطبي: إن من جزم أن المطر ينزل غداً فقد كفر والعياذ بالله؛ لأن ذلك لا يعلمه إلا الله، وإنما أجرى الله سنناً نتوقع حصولها، ولكن كثيراً ما تخيب الظنون في أشياء كثيرة من ذلك، ونحن نعلم أن سنن الله الكونية الغالب فيها أن المطر ينزل في الشتاء، وأنه قد يكون في وقتٍ ما ريح فيها مطر، ولكن لا على سبيل الجزم والتحديد فإنه لا يعلم ذلك إلا الله، وقد يقولون: نحن بالأمطار الصناعية ننزل المطر، وهذا جهل عظيم يخدعون به الناس، كطريقتهم دائماً في التهويل والتضليل، فالأمطار الصناعية لا تغيث الناس، بل مثلها كمثل رجل صعد فوق سطح عمارة عالية والناس أسفل يحتاجون إلى قطرات من الماء فرش عليهم بعض القطرات، أفيقول هذا: قد أنزلت المطر؟ لا يمكن أن يقول ذلك، فما هذا إلا مجرد لاعب يريد أن يخدعهم إذا ظنوا أن هذا مطر، وإلا فما يفعله هؤلاء الكفرة المتمكنون فيما يظنون من توقعات في الأرض، وقد أخذت أرضهم زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها، فماذا هم صانعون إذا أتاهم إعصار مدمر؟ وماذا يصنعون إذا أصابهم القحط حتى جعل زروعهم وثمارهم تضمحل؟ A يظلون منتظرين، وأنا رأيت بعيني حالهم في يوم من الأيام في مطاراتهم وشوارعهم عندما أتت عاصفة ثلجية، كل شيء قد توقف، وهم يقولون: إلى أن تتوقف العاصفة الثلجية، يقولون ذلك والبنزين يتجمد في السيارات، والمطارات تمتلئ بأمطار من الثلوج، والطائرات تتوقف، والسيارات تتوقف، وكل شيء يتوقف، فهم لا يستطيعون أن يواجهوا هذه العاصفة الثلجية بشيء، نتصل بالمطار فنقول: متى ستنطلق الطائرة؟ فيقولون: عندما يتوقف الثلج، بعد ساعتين أو عشر ساعات؛ لأنه لم يتضح في الموضوع شيء، فمن يقول: إنه يستطيع الجزم فهو يخدع الناس، وإنما لأهل العلم الحقيقي في هذه المسألة أن يقولوا: نحن جهلة في هذا الباب، فهذا مجرد توقع؛ ولذلك فالتوقعات الجوية إنما تذكر على سبيل الظن الذي يمكن أن يبنى عليه عمل إذا غلب، كأن نقول للصيادين مثلاً: يبدو أن الريح سوف تكون عاتية غداً فاحذروا أن تتوغلوا في البحر، أو أن هذا الإعصار ربما اتجه يميناً واتجه شمالاً فاحذروا ولا تخرجوا من بيوتكم أيها الناس! فمثل هذا يصح أن يبنى عليه عمل مع الجزم واليقين بأن هذا مجرد ظن، وأننا لا نعلم متى ينزل المطر الذي يغيث الناس، قال تعالى: {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ} [لقمان:34].

سعة علم الله تعالى فيما يتعلق بالجنين

سعة علم الله تعالى فيما يتعلق بالجنين والله سبحانه يعلم كل شيء عما في الرحم قبل أن يوجد ويتكون، أي: فليس المقصود أنه من مفاتيح الغيب بعد أن يتكون، فإنه بعد التكون يكون أمراً نسبياً، لكن الناس يظنون أن العلم الحديث قد جعل مسألة العلم بهذا شيئاً قديماً، فالناس في هذا الوقت يعرفون تصور الجنين، ولكنهم لا يعرفون عنه كل شيء، وهذا من الجهل أيضاً؛ لأن علم ما في الأرحام ليس مقتصراً على كونه ذكراً أو أنثى، وإنما هو علم كل ما يتعلق بهذا الكائن من علم عمله وأجله ورزقه وشقي أم سعيد، وشكله وصفاته وأفعاله وحاله في البرزخ ومآله يوم القيامة، فالله سبحانه قد علم ما في الأرحام، وليس مجرد أنه ذكر أو أنثى فقط، فهذا من ضمن ما أحاط الله به علماً، ولكن علم الله السابق على وجود هذا المخلوق، وعلى وجود الأعضاء التناسلية لهذا الجنين، أما بعد تكون الأعضاء التناسلية فإنَّ ذلك يصبح من الغيب النسبي؛ لأنه من الممكن أن تشق بطن المرأة ويعرف ما في بطنها، فالملك الذي خلّق هذا الجنين قد علم بشأن هذا الجنين الذي خلّقه بأمر الله سبحانه وتعالى، فالغيب النسبي هذا ليس هو المقصود بأنه من مفاتيح الغيب، فمفاتيح الغيب الخمس لا يعلمهن إلا الله، فمن الحقيقة أنه قبل أن تتكون الأعضاء التناسلية مثلاً للجنين من ذكر أو أنثى لا يمكن لبشر ولا لغيره أن يعلم ما شأن هذا الجنين، مع أنه من يوم تكون الجنين من بويضة ملقحة لابد أن يعرف نوعه في الأغلب أي: لابد أن يكون نوعه محدداً، فهم يقولون: إن التكون ناتج عن حيوان منوي ذكري أو حيوان منوي أنثوي، ومع ذلك فالأمر لا يزال محتملاً، فقد اكتشفوا في الطب مؤخراً منذ عشر سنوات تقريباً: أنه في أول الأسبوع السابع تتكون الأعضاء التناسلية للجنين؛ لأن الأعضاء التناسلية تبدأ في التشكل قبل هذا التاريخ بطريقة واحدة بالضبط، وتكون الذكر مثل تكون الأنثى تماماً، ثم في الأسبوع السابع يبدأ الافتراق، وهذه معجزة ظاهرة للنبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قبل ألف وأربعمائة سنة قال: (إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة قال الملك الذي يخلقها: أي رب! نطفة علقة؟ مخلقة أم غير مخلقة؟ ذكر أم أنثى؟ شقي أم سعيد؟ ما عمله؟ ما أجله؟ ما رزقه؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك). فالرسول عليه الصلاة والسلام يحدد فيقول: (ثنتان وأربعون ليلة)، أي: ستة أسابيع، فسبحان الله! والذكر مثل الأنثى تماماً، ثم في الأسبوع السابع يبدأ الافتراق؛ ولذلك فمن الممكن أن يقولوا في الجنين: هذا سيكون ذكراً أو هذا سيكون أنثى، ولكن بعد الأسبوع السابع، أما قبل الأسبوع السابع فهذا مستحيل، مع أنه من الممكن أن تتحلل الكروموسومات قبل هذا وينظر أن هذا الحيوان المنوي الذكري الذي لقح البويضة يكون من تلقيحه ذكر، ولكنهم يقولون: إنهم اكتشفوا في الأسبوع السابع أن هناك إنزيماً يطرأ في ذلك التوقيت، وهو الذي يتحكم في تشكيل الأعضاء، حتى ولو كان تشكيل الكروموسومات مختلفاً أصلاً، أي: من الممكن أن يكون تركيبه الجيني تركيب الكروموسومات ذكراً، لكن هذا الهرمون إذا نقص صارت الأعضاء التناسلية أنثى، ولو أن تركيبه أنثى كبداية خلايا وزاد هذا الهرمون أو الإنزيم في التوقيت، فإن الأعضاء التناسلية ستتكون ذكراً، فسبحان الله! ينتظرون حتى يتكون فيعرفوه، فمهما قالوا فهو احتمال غالباً، فهو إلى هذه اللحظة بأمر الله سبحانه وتعالى، وهناك على هذا الباب كلام آخر وهو: أن الملك يكتب ما يأمره الله من عمله ورزقه وشقي أم سعيد، وهذا يكون قبل أن يقع هذا الأمر، ونحن نقول: إن مفاتيح الغيب الخمس لا يعلمهن إلا الله، ولا يعلمها ملك مقرب ولا نبي مرسل، فنحن نقول ذلك ونلتزمه ونقول: حتى إن علم هذا الملك مقيد بمشيئة الله سبحانه وتعالى، فإن الكتابات اللاحقة على اللوح المحفوظ كتابات قابلة للمحو والإثبات، قال الله عز وجل: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39]، وقال ابن عباس رضي الله عنه: الكتاب كتابان: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}. إذاً: فالكتاب الذي رفعت أقلامه، وجفت صحفه: هو اللوح المحفوظ. وأما كتب الملائكة فتظل رغم أنه لم يكتب فيها شيء؛ فمن الممكن أن تمحى ويكتب غير ذلك إذا شاء الله، إذاً: فعلم الملك مقيد بأن الله يشاء إمضاء هذا وإنفاذه، أو يشاء محوه، فلو شاء الله أن يمحو ما كتبه الملك لمحاه سبحانه وتعالى، قال تعالى: ((يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ))، ولذلك نجد أن هذه الأمور التفصيلية يمكن أن يطلع عليها بعض المخلوقين، لكن لا على جهة الجزم والقطع، وإنما على جهة التعليق على مشيئة الله. كما أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر ليلة بدر بمصارع بعض المشركين، فقد كان يمر على أماكن ويقول: (هذا مصرع فلان غداً إن شاء الله) فقد علقه النبي عليه الصلاة والسلام على مشيئة الله، فما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أو ما علمه ملك أو أحد من خلق الله عن أمر تفصيلي في مفاتيح الغيب الخمس فسوف يكون معلقاً على المشيئة ليظل في خمس لا يعلمهن إلا الله، وما أخبر به من تفصيل دقيق فإنه يظل مجملاً في أجزاء أخرى كالتوقيت مثلاً، فالرسول عليه الصلاة والسلام أخبر بتفاصيل ما يقع في أمر الدجال ونزول عيسى بن مريم، ولكن يبقى هذا الأمر إجمالاً وهو: زمن وقوع ذلك، كما أن تفاصيل ما في الجنة وما في النار وما في الساعة مقطوع بها، فلا نقول: إنه معلق على المشيئة إن شاء الله أمضاه وإن شاء لم يمضه، بل إن الله عز وجل شاء ذلك قطعاً وجزماً، فهو شاء أن يبعث الناس يوم القيامة، وأن يحيي الموتى، وهذا مقطوع به وقد شاء الله فعله، وليس إن شاء؛ لأن لفظ (إن شاء) يعني: أنه من المحتمل أنه يفعل ذلك أو لا يفعل ذلك، لكن هذه الأمور ستحصل قطعاً، فلابد أن نجزم أن هناك جنة وناراً، وأن هناك قيامة وحساباً وسؤالاً وثواباً وعقاباً، وأن هناك ميزاناً وصراطاً، وهذا مقطوع به، لكن يبقى هناك إجمال من جهة التوقيت أو التفاصيل الكاملة، أي: أن الرسول صلى الله عليه وسلم إما أن يخبر بأمور مجزوم بها لكن فيها إجمالاً من جهة، أو أن يخبر بتفاصيل دقيقة جداً فيبقى التعليق على مشيئة الله عز وجل، وبذلك تظل مفاتيح الغيب الخمس لا يعلمهن إلا الله، قال عز وجل: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام:59].

مظاهر كذب الكهنة والعرافين

مظاهر كذب الكهنة والعرافين ولابد أن نقطع بأن مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا الله؛ لأن كثيراً من الناس يظنون أن الأولياء يمكنهم أن يطلعوا على الغيب وينسبون لهم ذلك، ويظنون أنهم يعلمون ما في الغد والعياذ بالله، ومن الناس من يقول عن الكهنة ذلك وهذا أعظم وأقبح، فإذا كان الأنبياء لا يعلمون، والملائكة لا تعلم، والأولياء لا يعلمون، فكيف بالكهنة؟ ولذلك لا تسأل المنجمين أبداً؛ لأن الله وحده هو الذي يعلم الغيب، وهذا أمر عظيم الأهمية في سلوك المسلم، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد)، ولماذا الناس يعيشون في هذا الضلال؟ يقال لهم: إن في سنة ثمانية وتسعين تجتمع ست كواكب مع بعضها البعض، وهذه الست الكواكب عندما تجتمع على خط واحد فإنه ستحصل أحداث رهيبة على وجه الأرض، وجاءت سنة ثمانية وتسعين ولم يحصل شيء، وهناك كتاب مكث خمسة عشر طبعة وهو كتاب: عمر أمة الإسلام، وهذا الكتاب يأتي بكلام المنجمين وأمثالهم، فلما أخذنا الكتاب والحمد لله، وجدنا أن ما فيه باطل، والتكهن فيه كثير جداً، ومن ذلك قولهم: سيحصل كذا وكذا، لأن المذنب الفلاني سيمر يوم كذا، سبحان الله! إذاً: فالمسلمون بهذه الإفتراضات الباطلة سيعرفون أموراً غيبية من القرآن العظيم {لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام:59]، إذاً: أي شخص يقول لك: إنه سيحصل شيء في السنة الفلانية من غير أن يذكر شيئاً من الكتاب أو السنة فلا تصدقه، ولو ذكر تأويلاً للكتاب والسنة فاجزم له بأنه باطل، واجزم له أن هذا الشيء لم يتحدد في سنة معينة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يفعل ذلك، بل الأشياء التي حددها الرسول صلى الله عليه وسلم في المستقبل وفي المكان علقها على مشيئة الله، فمن علامات وضع الحديث: أن يحدد مثلاً عمراً معيناً للأمة، فعندما تجد أن هناك تحديداً بالطريقة هذه: سنة كذا سيحصل كذا، فاعرف أن هذا حديث موضوع، ولو قيل لك: إن الدنيا ستفنى بعد كذا سنة، أو أنه قد مضى من الزمن ألفان أو خمسة آلاف وبقي ألفان فاعرف أن هذا الكلام كذب، ولا يمكن أن يكون في الحديث مثل ذلك؛ لأن في ذلك مخالفة للقرآن صراحة، فلقد قال النبي عليه الصلاة والسلام حين سئل عن وقت قيام الساعة: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل، ولكن أخبرك عن أماراتها في خمس لا يعلمهن إلا الله)، إذاً: فالرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأن الغيب عند الله، فنحن نوقن أنه لا يعلم مفاتح الغيب إلا الله، فلماذا نذهب إلى الكهنة والعرافين الذين يسألون الشياطين والعفاريت والملبوسين ويتكهنون أنه: سيحصل كذا، وإذا لم تعمل له كذا فسيحصل كذا؟! وهذا بلا شك ادعاء باطل، فإن هذا الكلام يقوله الكفرة ولا يقوله المسلمون؛ لأن المسلم يعلم من كتاب الله عز وجل أن الله عز وجل وحده الذي استأثر بمفاتح الغيب الخمس، قال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام:59].

القرآن يدعو إلى التفكر في مخلوقات الله وأماكن عيشها

القرآن يدعو إلى التفكر في مخلوقات الله وأماكن عيشها إن القرآن يبين لنا معاني معينة لابد أن تلتفت لها القلوب، ويدعوك إلى أن تتفكر فيما في البر، وأن تتفكر فيما في البحر، ولا يحيط بما في البر علماً إلا الله، فالنمل الذي يخرج من بيوته عندما تشتد حرارة الأرض، لا نعلم أين مكانه في هذا الوقت وكيف نجده، وإذا راقبناه وتبعناه فسنجده قد وصل إلى مكان معين، والحشرات المدفونة لا نعرف أين هي، وسبحان الله فهي موجودة في جحورها، وفي أماكن كثيرة، وتحت الأرض، فهذا عالم عجيب، فهو عالم تعيش فيه كائنات كثيرة جداً والله عز وجل هو المحيط بها علماً. وما في البر من بذور النباتات وغاباتها: إذا ما دخلها إنسان أو دخل أجزاء منها يقول: يا للعجب! كل هذه منذ آلاف السنين موجودة، وبذورها تكبر وتنمو وتصبح بعد ذلك أشجاراً هائلة، وفي مناطق كثيرة هائلة من العالم والبشر لا يعلمون عنها شيئاً، بل وهناك أماكن غير مأهولة بالبشر، وكذلك الغابات الاستوائية: ففيها حيوانات لا يعلمها إلا الله، ومن العجيب أن رجلاً رأى قرداً مثل الأصبع، وفيه تفاصيل الخلق وله وجه وعينان وأذنان، وقد كان هذا بعد نموه وهو لا ينظر إلا في الظلام فقط، متعلق بذيله في الشجرة، وقد أتوا به ووضعوه في حديقة الحيوان بهذه الطريقة، وهذا شيء عجيب جداً، وتذكر هذا الرجل ما يكون في بطن الأم حين يخرج الإنسان جنيناً وفيه كل التفاصيل، وهذا شيء عجيب جداً، فسبحان الله! فالمخلوقات عجيبة الشأن لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: ((وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ)). وأما في البحر فأمر آخر عجيب، فالبحر هو أربع أخماس الكرة الأرضية، والأرض خمسها، وهذه الأرض لا يحيط بها علماً إلا الله، والبحر أعظم من الأرض، حيث أن أعماق البحار ظلمات بعضها فوق بعض، وأمواج تلو أمواج تجعل ما تحتها أشد ظلاماً من انكسار الأشعة، كما قال عز وجل: {مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ} [النور:40]، وهذه الظلمات الموجودة في البحر لم يدخلها إنسان، وإن دخلها فإنه يجد أعاجيب من المخلوقات، فلو أخذت قطرة من ماء من أي ممر مائي سواء كان ماء عذباً أو ماء مالحاً، ووضعت جزءاً منها على شريحة، ونظرت تحت الميكروسكوب، فإنك ستلاقي فيها كائنات عجيبة: طحالب ونباتات وبكتيريا وأشياء عجيبة جداً، فكل قطرة من الماء تتركب من ضوابط معينة ونسبة معينة من الأملاح، ولابد من هذه النسب المنضبطة وإلا فسيحصل خلل في حياة البشر، فلو أن الماء المالح صار عذباً والعذب صار مالحاً لحصل خلل في حياة البشر، فالتوازن هذا عجيب جداً، ناهيك عن الكائنات الكبيرة الهائلة. إن الإنسان عندما يفكر في هذه المخلوقات يطرأ على ذهنه أنه من الذي أحاط علماً بذلك؟ حتى إن أعظم وأعتى الدول التي تملك الكمبيوتر وكل المعلومات لا يحيطون علماً بذلك أبداً، بل يجب على الإنسان حين يعرف هذا أن ينكسر، ولابد أن يعرف أنه جاهل؛ لذلك فإن ابن مسعود رضي الله عنه قال: من قال: أنا عالم فهو جاهل، ومن قال: أنا في الجنة فهو في النار. أي: أن الإنسان لا يقول أبداً: أنا عالم، كيف يقول: أنا عالم، وهو لا يعرف شيئاً، بل لا يعرف ما الذي بداخله، إن الذي بداخله إلى هذا اليوم عالم عجيب، عالم في كل وقت نكتشف منه شيئاً جديداً، وإن الله كلما أعطانا قدرة أكثر على النظر، كالميكروسكوب الذي يكبر صور الأجسام، فإننا نرى أنَّ الذي كنا نراه ثقباً أصبح ليس بثقب، كانوا يظنون وكنا نظن أن جدار الخلية ثقوب وهي ليست بثقوب، بل هي مواد مركبة بطريقة معينة من أجل أن تؤدي وظيفة معينة، فكلما عرفنا أكثر كلما عرفنا أننا قبل مدة كنا لا نفهم شيئاً، ونحن الآن لا نفهم شيئاً بالنسبة للعلم الكامل، ولذلك فإن هذا المعنى عظيم الأهمية في نفس المؤمن، كما قال الخضر عليه السلام لموسى صلى الله عليه وسلم: يا موسى! أنت على علم من علم الله علمكه لا أعلمه، وأنا على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه، وقد وقف عصفور على طرف السفينة فأخذ قطرة من ماء البحر، فقال: ما علمي وعلمك وعلم الخلائق في علم الله إلا كما أخذ هذا العصفور من هذا البحر، وهذا معنى عظيم، فلابد أن يحصل في قلب المؤمن أنه يصف نفسه بالجهل يوماً، فإن أعلم الخلق بالله هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان يقول في دعائه: (اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري)، وهو أعلم الخلق بالله، ولكنه يقول ذلك، ويتوسل إلى الله بعلمه عز وجل، ويعلم أصحابه فيقول: (اللهم اغفر لي جدي وهزلي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت). قال عز وجل: ((وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا)). فهنا يرشدنا القرآن إلى التفكر في هذا الأمر العجيب، إلى سقوط ورقة من شجرة في غابة من غابات الأرض على الأرض، ففي أثناء سقوطها تتقلب عدة مرات وتستقر على أي وجه من وجوهها، ثم بعد نزولها في الأرض تغور منه سنين طويلة حتى تتحلل، فإذا تحللت صارت بعد بترولاً، وهذا البترول كان في باطن الأرض، وجد من مركبات هيدروكربونية مصدرها أصلاً من مواد حية، هي في الأصل: أوراق ونباتات وأشجار وكائنات حية استمر الدفن عليها في الأرض وبعد سنين طويلة تحولت إلى هذه المواد، فسبحان الله! لأن تركيبها هو تركيبة المواد الهيدروكربونية التي هي من المواد الحية، فلذلك لا أحد يستطيع أن يصنع وقوداً من عناصر الأنسجة هذه؛ لأن الوقود مصدره المادة الحية، فنحن لا نستطيع تركيب البترول، بل لابد أن يستخرج من باطن الأرض، وكذلك الغازات الطبيعية، فكلها في الأصل مواد، فعندما نزلت هذه الأوراق في باطن الأرض استمرت سنين طويلة حتى صارت بنزيناً والله عز وجل هو الذي يعلم ذلك. إنَّ السلف يقولون: إن الله يعلم كم مرة تتقلب هذه الورقة، وفي أي زمن، وفي أي غابة، وفي أي مكان؟ فعندما يبدأ المرء في معرفة هذه المعاني فلابد أن ينكسر لله عز وجل، ولابد أن يقر على نفسه بالعجز والجهل. ((وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)). كذلك الفلاح حين يبذر بذرة في الأرض، وهذا من أجل أن نفكر في الرطب واليابس والحبات التي تزرع في الأرض، فإنه يعلم أنه يرزع أرزاً أو قمحاً أو شعيراً، ولكنه لا يمكن أن يعرف كم حبة في يده؟ ولا يعرف أي حبة ستنبت وأي حبة ستموت؛ لأن هذه الحبات لن تنبت كلها، بل بعضها يجف وبعضها ينبت، وبعضها يكون زرعاً وبعضها يكون سنابل، قال تعالى: ((وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ))، فكل ذلك كتب في الكتاب المبين في اللوح المحفوظ. هذا هو الإيمان بعلم الله وبكتابة المقادير، وعندما يوقن الإنسان بهذه المعاني فإنه لا يمكن أن يغتر بعلمه، بل يصف نفسه بالجهل؛ لأن الغرور بالعلم مرض العصر الحديث، وهو مرض الكفرة -والعياذ بالله- الذين وصفهم الله بأنهم: {لا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الروم:6 - 7]، وهذا الكلام كله في كوكب الأرض، فما بالك في الكواكب البعيدة الأخرى؟ وما بالك في هذه النجوم والمسافات الهائلة التي بيننا وبينها؟ فالله عز وجل علم ما في السماوات والأرض؛ لأنه سبحانه {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الأنعام:73]، لا يغيب عنا، وإنَّ ما فوق هذه السماوات، وهذه الأشياء كلها تجعل الإنسان لا يغتر بعلمه أبداً، لا بالعلم الديني ولا الدنيوي، وهذا العلم الدنيوي هو الذي جعله الكفرة إلهاً لهم في هذا الزمان يعبدونه من دون الله.

العقائد الفكرية الباطلة

العقائد الفكرية الباطلة فيلسوف ألماني كافر اسمه: نكسن، يقول في فلسفته التي صيغت منها بعد ذلك نظريات كثيرة، وهو من أوائل الملحدين: إن هذا الزمان هو عصر مولد السوبرمان وموت الإله، والكلام هذا من مائتي سنة أو أكثر، أي: أنَّ علوم الثورة الصناعية مازالت في بدايتها، أي: أن الإنسان حسب زعمه في هذا الوقت هو القوي المسيطر على العالم فليس محتاجاً إلى إله في هذا الوقت! فموت الإله يعني: موته في نظرية الإنسان، أي: أنه غير موجود أصلاً، لكن الإنسان لما كان جاهلاً وضعيفاً كان يظن أن في الوجود إله، أما الآن فهو غير محتاج إلى ذلك، وليس المعنى أنه مات فعلياً، إنما هي الصياغات القذرة لهذه العقائد الكفرية والعياذ بالله، مثلما صيغت في رواية من الروايات المشهورة! رواية: (أولاد حارتنا)، فإنها تنصر هذه النظرية، وكذلك: الجبلاوي، ففي خطابه يرمز إلى الله، وتعالى الله عن قوله علواً كبيراً، ويقول: إنه جاء بعد الأنبياء شخص اسمه عرفة، هذا الشخص هو الذي قتل الجبلاوي، وعرفة هذا الذي يقول عنه أنه هو المعرفة العلم، هذا العلم الحديث كما يقول هو الذي قتل الجبلاوي، دخل عليه وسحره وهو غير منتبه له، وقتله، وخرج الناس وقالوا: إن جنازة الجبلاوي غداً والعياذ بالله. فهذه ثمرة الغرور والكبر والعياذ بالله. وكان فيما مضى أستاذ في الكلية قد مات والحمد لله، كان يقول للطلبة خرافات منها قوله: قريباً سيصنعون ذبابة، يعرض بقول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج:73]، ولو اجتمعوا على ذلك ألف سنة لما استطاعوا أن يخلقوا ذبابة، فالناس يعلمون علم اليقين أن البشر لا يقدرون على ذلك، ولا يستطيعون أن يصنعوا جزئي بروتين فقط، فليس في قدرة الإنسان أن يصنع ذلك.

الاستنساخ وأطفال الأنابيب هل يعدان خلقا

الاستنساخ وأطفال الأنابيب هل يعدان خلقاً إن هؤلاء المنحرفين يروجون الكلام على الناس الذين لا يفهمون، فيخدعونهم ويقولون لهم: نحن صنعنا الأولاد في الأنابيب، والناس يظنون أن أطفال الأنابيب يصنعون في المعمل، فمن يريد أن يكون له طفل عينه زرقاء فليذهب إلى هناك أي: هم يظنون ذلك، ولكن الكلام غير هذا نهائياً؛ لأن أطفال الأنابيب يتكونون من الحيوان المنوي الذي لا يستطيع تلقيح البويضة، وغير قادر أن يصل إليها نتيجة انسداد في القناة، فيأخذون الحيوان المنوي من الرجل ويأخذون البويضة من المرأة، ويحاولون أن يهيئوا ظروفاً مناسبة له كدرجة الحموضة والقلوية ودرجة الحرارة لمني الرجل متقنة، ويأخذون البويضة من المرأة ويحاولون أن يهيئوا ظروفاً مناسبة لها من درجة الحموضة والقلوية ودرجة الحرارة لبيوضة المرأة متقنة غاية الإتقان، ولو تغير أي شيء مع هذا فلن يحصل التلقيح، فلابد من إتقان تام للتلقيح في داخل جسم المرأة، فلا هي ولا الرجل ولا هم يحسون أنه قد تم تلقيح البويضة بالحيوان المنوي، والظروف غير مهيأة، فيحاولون أن يضعوها في المعمل عن طريق الأوزون، ثم يقولون: يمكن أن تنفع أو لا تنفع، فإن نفعت لقحها وتم التلقيح، ثم يأخذونها ويضعونها في رحم المرأة وينتظرونها، ويجعلون المرأة تستريح من أجل أن تنمو النمو الطبيعي، ولا يعملون لها شيئاً، حتى تلد، فيدعون أنهم صنعوا طفل أنابيب!، والذين لا يفهمون ذلك يعتقدون أنهم حقاً قد صنعوا ولداً في الأنابيب في المعمل، وليس الأمر كذلك نهائياً، وهي نفس فكرة الاستنساخ، فإن عملية الاستنساخ مثل التوأمة، وكأنه توأم للإنسان نفسه، فهم يأخذون من الشخص خلية من خلاياه ويجعلونها كبويضة ملقحة يضعونها في الرحم، وللإنسان تدخل في ذلك؛ لأن الغرض في الحيوانات المنوية أن تحملها امرأة، وبدل أن تحمل بويضة ملقحة تحمل خلية من الخلايا، فينمو كذلك ليصبح وكأنه شبيه بالأول تماماً، وإن كان هذا العمل لا يجوز في الإنسان، ولكن المقصود: أن هذا ليس صناعة للإنسان ولا خلقاً له، ولكن هذا هو الغرور بالعلم، فالإنسان عندما يؤمن بعلم الله سبحانه وتعالى لابد أن يقطع ويجزم بجهله وعجزه وألا يغتر بالعلم. فعلم الإنسان بالنسبة إلى علم الله جهل، كما أن عز الإنسان بالنسبة إلى عز الله ذل، كما أن غنى أي إنسان بالنسبة إلى غنى الله عز وجل فقر، كما أن قوة أي إنسان إلى قوة الله عز وجل ضعف، وكما أن قدرة أي إنسان إلى قدرة الله عز وجل عجز، فلابد للإنسان أن يستحضر هذا المعنى جيداً.

علم الله محيط بما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون

علم الله محيط بما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون وكذلك علم الله بما كان وما سيكون، وما مضى وما سوف يأتي، وتفاصيل ذلك، وما لم يكن لو كان كيف يكون، فالأشياء التي لم تقع قد علم الله عز وجل أنها لو كانت تقع على أي صورة لوقعت، كما قال عز وجل: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام:28]، وقال سبحانه وتعالى: {وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} [الكهف:80 - 81]. إذاً: فقد علم الله أن هذا الغلام لو كبر لكان كافراً، فعلم الله ما لم يكن لو كان كيف يكون، ولذلك إذا حصل للإنسان شيء والناس ينزعجون من هذا الشيء فإنهم يقولون: يا أخي! لو كان كذا ما كان كذا وكذا، ولسنا الذين نعرف ما لم يكن لو كان كيف يكون، فالإنسان يفوض علم ذلك إلى الله ويقول: إن علم الله محيط بما لم يكن لو كان كيف يكون، ولا يقول: لو كان كذا لكان كذا وكذا؛ لأن لو تفتح عمل الشيطان، كأن يموت شخص فيقول الناس: لو أنه مات قبل هذا بقليل، لو أنه مات قبلنا أو مات بعدنا، لو أن الله عمل كذا، فلو قلنا له: لماذا تتكلم في هذا؟ أو لماذا تعترض على هذا؟ فإن هذا فتح لعمل الشيطان، فلو كان كذا فالله يعلم ما كان، وهو سبحانه وتعالى الذي يعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون، فثمرة هذا في حد الإنسان ألا يعترض على الله، ولا يقترح على الله، ولا يقول: لم يغير الله هذا الشيء الفلاني؟ فلست أنت الذي تقول هذا الكلام؛ لأن المؤمن يفوض أمره ويفوض العلم إلى الله سبحانه وتعالى، وكذلك يرد علم ما لا يعلم إلى عالمه، ولا يدعي علم ما لم يعلم، فقد عاتب الله موسى حين سئل: أي أهل الأرض أعلم؟ فقال: أنا، فعاتبه على ذلك إذ لم يرد العلم إليه، فقدر الله له أن يلقى الخضر حتى يعرفه أن هناك بعضاً من العلوم مما لا يعلمها، وأنَّ هناك من هو أعلم منه.

استحضار علم الله ومراقبته ثمرة من ثمار الخوف والتقوى

استحضار علم الله ومراقبته ثمرة من ثمار الخوف والتقوى لقد ساح سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام في الأرض من أجل أن يتعلم أشياء كثيرة، ومن أجل أن يتعلم أن العلم مردود إلى الله سبحانه وتعالى، وسيدنا موسى كان يعلم من قبل ذلك، لكن لابد من استحضارها في كل لحظة من اللحظات، فإنه يجب أن يكون في كل دقيقة وفي كل موقف مستحضراً أن الله بكل شيء عليم سبحانه وتعالى. ولو استحضر العبد ذلك لصار في أفعاله نور، ولراقب الله عز وجل أعظم مراقبة، فلو تربى الإنسان على ذلك لنشأ يراقب الله عز وجل ويخافه في كل مكان في السر والعلن، كما ربى لقمان ابنه حين قال له: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان:16]؛ لأن (الخبير): من الأسماء الدالة على معنى علم الله عز وجل، وهو العلم المتقن، فالخبير: العليم التام علمه المتقن له، فـ لقمان يقول لابنه: إذا عمل عملاً أو معصية وكانت الفعلة مقدار ذرة أو خردلة وكانت في صخرة أو في السماوات أو في الأرض أو في صخرة مغلقة، فإن الله يأتي بها؛ لأنه عز وجل لطيف خبير وهو يعلمها، ولذلك فأنت سوف تحاسب عليها، فلو أن الإنسان تربى على هذا المعنى بالتأكيد لتغير سلوكه، ولترك الغش عندما يكون لوحده وأمام الناس، ولكان أميناً صادقاً، وسوف يكون في كل أحواله متقياً لله سبحانه وتعالى، وإذا علمت أن الله عز وجل أحاط علماً بما يفعله الكفرة والظلمة والمنافقون وأعداء الدين، وأنه عز وجل ليس بغافل عنهم سبحانه وتعالى، واستحضرت مع ذلك كمال قدرته عز وجل وأن الأمر بمشيئته وحكمته، وأنه لا يغيب عنه ذلك فستراقب الله وتخشاه أشد الخشية، كما قال سبحانه: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} [الأعراف:7]، قال: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [إبراهيم:42]، فالغفلة نقص في العلم، وإذا كان العلم موجوداً في كل وقت صار كمالاً، قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:64] سبحانه وتعالى، فإذا استحضر ذلك هان عليه ما يجد مما يمكرون ويفعلون، ويكيدون ويخططون؛ لأن الله عز وجل قد أحاط به علماً، وهو سبحانه وتعالى سوف يتولى أمر خلقه بما شاء عز وجل.

كتابة المقادير في ضوء الكتاب والسنة

كتابة المقادير في ضوء الكتاب والسنة المرتبة الثانية من مراتب الإيمان بالقضاء والقدر: مرتبة كتابة المقادير، وقد ذكر الله عز وجل هذه المرتبة في الآية التي ذكرنا: ((وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)). وقال عز وجل: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج:21 - 22]. وقال عز وجل: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس:12] أي: بين فيه كل ما يقع في هذا الوجود. وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب، فقال: ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة). وفي الحديث الآخر: (يا أبا هريرة! جف القلم بما أنت لاق)، فهذا الأمر عظيم الأهمية، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كتب الله مقادير الخلائق قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة)، وهذا المعنى العظيم من أهم معاني الإيمان بالقضاء والقدر، فقد بينه القرآن، وبين ثمرته العظيمة وارتباطها بالاعتقاد، قال عز وجل: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [الحديد:22 - 24]، وهذه آيات عظيمة البيان، فهناك أمراض خطيرة تعالج بهذه الآيات الكريمة: ((مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا)) أي: من قبل أن نخلقها، فالكتاب: هو اللوح المحفوظ كما ذكرنا، والضمير في (نبرأها) يعود على الأرض أو على النفوس أو على المصيبة، أو كما رجح ابن كثير رحمه الله: في أنه يعود على الخليقة، أي: من قبل أن يخلق الله هذه الخليقة كلها من الأرض والنفوس والمصيبة، فإنها موجودة في اللوح المحفوظ وهو معنى صحيح، وقوله تعالى: ((إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)) أي: سهل على الله، فقد أمر الله القلم أن يكتب فكتب في تلك الساعة، وجرى في تلك الساعة بما هو كائن، وجف على ذلك، وطويت الصحف وجفت، ورفعت الأقلام، فلا زيادة في هذا الكتاب. وثمرة هذا قوله تعالى: ((لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ))، فلماذا تحزن على شيء فاتك؟ فلو استحضرت أنه مكتوب عليك من قبل، وأنه كان لابد أن يحصل هذا الأمر قبل خلق السماوات والأرض، وقبل أن توجد أنت على وجه الأرض، وقبل خلق الأرض نفسها، وأن هذا سوف يقع في اللحظة الفلانية، فلن تأسى على نفسك ولن تحزن.

خمسة أمراض يشقى بهن الفرد والمجتمع

خمسة أمراض يشقى بهن الفرد والمجتمع إنَّ مرض الحزن هذا مرض مدمر للإنسان وهو من الشيطان، {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [المجادلة:10]، فالنجوى شقاء للإنسان، فمن علامات الشقاء للإنسان أنه دائماً يقول: إن المصيبة التي حصلت لي آلمتني، ولماذا حصل كذا؟ وهل كان يحصل غير كذا؟ فيمكث في تخيل هذه الأفكار من أجل أن يتألم ويشقى، والشيطان يوسوس له، لكن لو أن هذا الإنسان استحضر كتابة المقادير قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة فلن يحصل له ذلك، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك)، إذاً: فقد حصل الأمر وقدَّر الله وما شاء فعل، وهذا يريح الإنسان راحة عظيمة، قال: ((وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ)) أي: بما أعطاكم من الدنيا، ولا من الدين حتى لا تغترون، والفرح ليس معناه السرور؛ لأن السرور يكون بنعمة الله عز وجل: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11]، لكن المقصود بالفرح هنا: الفرح المذموم: {ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [غافر:75]، {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ} [القصص:76] أي: لا تفرح فرح الغرور، إذ ننسب الفضل إلى النفس، وقد كنا عندما كتبت هذه المقادير عدماً، وكل شيء كان عدماً عدا ما خلق الله عز وجل من القلم والكتاب، إذاً: فينبغي للإنسان أن لا ينسب الفضل إلى نفسه، ولا يقولن: هذا لي، وهذا بجهدي وعملي، وإلا كان مثل قارون في هذه الطريقة، فهو الذي قال: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78]؛ لأن الكبر قد أعماه والعياذ بالله، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا} [القصص:78]، والعياذ بالله من ذلك، فلا يكونن كمن وصفه الله عز وجل بقوله: {هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} [فصلت:50]، فيظن أنه لابد أن يأخذ شيئاً في الآخرة؛ لأنه أخذ في الدنيا، فإذا استحضر الإنسان ذلك لم يغتر، فإن الغرور والكبر من صفات إبليس صاحب هذا الطريق، فهو الذي قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} [الأعراف:12]، وهذا هو نسبة الفضل إلى النفس، فالإنسان المؤمن لا ينسب الفضل إلى نفسه في الدين أو الدنيا، في المال أو الملك؛ لأن الملك ملك الله سبحانه وتعالى، والمال مال الله، قال تعالى: {آتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33]، وقال: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7]، إذاً: فعندما يستحضر الإنسان ذلك فلا يقول: إن هذا حقي، فإنه سيذهب ويكون مالكه قد أخذه، ولا يقول: أنا الذي عملته، لكن يقول: هذا من فضل الله علي؛ ولذلك لما حصلت لـ أم سليم واقعة موت ابنها رضي الله عنها استحضرت هذا المعنى، وقالت لـ أبي طلحة: يا أبا طلحة! أرأيت لو أن قوماً أعاروا عاريتهم أهل بيت، فأرادوا أخذ عاريتهم ألهم أن يمنعوهم؟ قال: لا، قالت: فاحتسب ابنك، فابنك هذا كان عارية عندنا، أي: أن الله أعطاه لنا ثم أخذه، فالملك ملكه سبحانه وتعالى، إذاً: ينبغي للمرء أن لا يحزن ولا يغتر بما عنده، فإياك أن تقول: هذا لي، أو هذا ملكي، فإن هذا الشيء لم يكن لك، ولابد أن تستحضر أنك أنت والمصيبة والنعمة والخير والشر كنتم لحظة كتابة المقادير عدماً، فإن ذلك يزيل الفرح والغرور، قال تعالى: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد:23]؛ لأن الاختيال والفخر أمراض إبليسية مدمرة للإنسان، فلو أن الإنسان استحضر ذلك القدر السابق لما حصل له اختيال على الخلق، وبماذا تفتخر عليهم وليس لك من نفسك شيء؟ وكذا العلم الديني والعمل الديني والطاعات كلها هبة من الله كتبت لك قبل أن تولد وتوجد، فإياك أن تقول: أنا عالم، وإياك أن تقول: أنا مجاهد، وإياك أن تقول: أنا داعٍ إلى الله، وإياك أن تقول: أنا زاهد، أنا مصلٍ وصائم بمعنى الافتخار، فنحن نعلم أننا بلا شك نعبد الله عز وجل، فإياه نعبد وبه نستعين، لكن لا تنسب الفضل إلى نفسك، فكلنا مفتقر إلى الله عز وجل، ولذا قال الذي كفر عندما دخل جنته: {قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا * قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا * لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} [الكهف:35 - 38]، فالإنسان لابد له أن يستحضر فقره إذا تذكر هذا الأزل البعيد حين لم يكن شيئاً مذكوراً، كما يقول ابن القيم رحمه الله: فمن ذا الذي شفع لك في الأزل حيث لم تكن شيئاً مذكوراً حتى سماك باسم الإسلام، ووسمك بعلامة الإيمان، وجعلك من أهل قبضة اليمين، وأقطعك في ذلك الغيب عمالات المؤمنين، أي: أعمال المؤمنين ولذلك يقول المؤمنون: والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا وهذا توفيق من الله عز وجل، فالله هو الذي منَّ عليهم بذلك، وما الذي يفتح للقلب هذا الباب؟ إنه رؤية كتابة المقادير في ذلك العهد البعيد، وما كان من مقادير قبل وجودك حتى تستيقن أنَّ الله هو الذي من عليك، ليس بعلمك، ولا بعملك، ولا التخطيط وحسن العلم والعمل، وإنما هو توفيق من الله عز وجل، فهو الذي أراده لك سبحانه وتعالى، ومن به عليك؛ لذلك فإن من الأمراض: الاختيال والفخر، وهذان مما يخاف منهما على الصالحين في أمر العلم والعمل، والدعوة والجهاد، فإن أول من تسعر بهم النار الذين رغبوا في أن يقال عنهم ذلك لينسب لهم، فالذي جاهد ليقال: جريء، والذي تعلم وقرأ القرآن ليقال: قارئ وعالم، والذي أنفق ليقال: جواد فهؤلاء أول من تسعر بهم النار؛ لأنه يريد أن ينسب له ذلك، فالإيمان بأن كل ذلك قد كتب في كتاب قبل أن يبرأ الله الخليقة يزيل عن الإنسان الفخر والاختيال على الخلق، وكذلك يزيل عنه البخل؛ لأنه يظن أن هذا المال له، فيخاف أن ينقص لو أنفق، فإذا استحضر العبد أنها ملك لله عز وجل، وأن الله هو الذي كتبها ولم تكن له، لمْ يبخل حين يأمره الله بالنفقة، ولم يخف على المال من النقص؛ لأنه يعلم أنه راحل عنه قطعاً، وأن الرزق مقدر؛ لذلك يقول تعالى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} [النساء:37]، إذاً: الإيمان بكتابة المقادير يزيل عن الإنسان هذه الأمراض الخمسة: الحزن، والفرح الذي هو الغرور والكبر والإعجاب بالنفس، والاختيال، والفخر، والبخل، فهذه أمراض تشقي الإنسان وتشقي من حوله، وتخلق مشاكل لا حصر لها بين الناس، فالإنسان عندما يؤمن بالقدر وبكتابة المقادير تزول عنه هذه الأمراض، والنبي عليه الصلاة والسلام بين كتابة المقادير والإنسان جنين في بطن أمه، فقال عليه الصلاة والسلام: (يجمع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه ملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بكتب أربع كلمات، بكتب: أجله ورزقه وعمله وشقي أو سعيد، فو الذي نفسي بيده إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)، ففي هذا الحديث ثمار مهمة عظيمة الأهمية في مقام كتابة المقادير من هذا الحديث من كتب العمل والأجل والرزق والشقاء أو السعادة، فإذا علمت أن أجلك مكتوب فلا تخف الموت حين يأمرك الله عز وجل بالإقدام، ولا يكن حب الحياة معلقاً بقلبك إلى هذا الحد، ولا تحرص عليها لدرجة أن تبيع دينك من أجل عرض من الدنيا، وإذا كان الرزق مقدراً لك قبل أن تولد فلا تخف على لقمة العيش ولا تقل: أريد أن آكل فاتركوني وشأني؛ خوفاً من المشاكل، فالمشاكل هي مقاومة الشر والفساد، هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلو أن المرء موقن أن الرزق الذي سيأكله مكتوب له من قبل أن يولد، وأن أولاده كذلك مكتوب لهم الرزق الذي سيأكلوه، لما داهن في دين الله ولما خاف ورجا الناس، ولما باع دينه من أجل مصلحة دنيوية، أو باع طاعة الله عز وجل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا).

الحث على طلب الرزق الحلال والإجمال في الطلب

الحث على طلب الرزق الحلال والإجمال في الطلب والإنسان إذا آمن بالرزق أنه مكتوب لم يبع دينه بعرض من الدنيا، ولم يقل: أنا أعمل بغير إرادتي ولم أجد إلا الحرام -والعياذ بالله- ولم أجد غير الرشوة، ولم أجد غير الربا، فإن ذلك لا ينبغي، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها كما تستوفي أجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، خذوا ما حل ودعوا ما حرم) إذاً: لابد أن تتقي الله؛ ليجعل لك مخرجاً ويرزقك من حيث لا تحتسب، ولا تقلْ: إني لا أجد غير الحرام، ولكن اطلب الطلب الجميل، واطلب الرزق، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن القعود في البيت والركون إلى الغير والتقاعس عن الطلب فقال: (أجملوا في الطلب، خذوا ما حل ودعوا ما حرم)، وهذا أمر عظيم الأهمية في حياة الإنسان، وتأمل كيف ربى النبي صلى الله عليه وسلم ابن عباس على مثل هذا المعنى، مرتبطاً بقضية القضاء والقدر، قال: (يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)، إذاً: فالمعتقد الصحيح أن الناس لا يملكون ضراً ولا نفعاً، فلماذا يداهنهم ويرائيهم ويسمع لهم؟ فسيصغرون في نفسه ويرتفع عن الأرض بآيات الله عز وجل ومعاني الإيمان العظيمة، فلا يهمه الناس ولا يعبأ بهم رضوا أو سخطوا، كما قال ابن مسعود: إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله، وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله، إن رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا ترده كراهية كاره. فمن ضعف اليقين بالقدر أن تذم الناس على ما لم يؤتك الله، تقول: فلان أمره إلى الله لأنه جعل هذا الشيء لا يصلني، إذاً: لماذا تذمه؟ هل هو يظن أنه هو الذي أغلق عليك باب الرزق؟ بل هذا أمر الله سبحانه وتعالى، وكذلك قول بعض الناس: أنت سوف توقف رزقي، فهل الرزق يقف؟ إن رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا ترده كراهية كاره، ولا يوجد أحد يوقف رزق أحد، وإذا كان هو اغتصب حقك فلن يأكل رزقك؛ لأن رزقك من عند الله، وإن ظلمك وأكل مالك، وإن كان رزقه حراماً، لكنه رزق كذلك، لكن لا تقلْ: أكل رزقي، فاتق الله سبحانه وتعالى ولا تظنَّنَّ أن الناس يملكون لك ضراً أو نفعاً.

عدم صحة الاحتجاج بالقدر على المصيبة إلا بعد التوبة النصوح

عدم صحة الاحتجاج بالقدر على المصيبة إلا بعد التوبة النصوح وإذا أيقنت أن عملك مكتوب أيضاً فانظر إلى الطاعات واعلم أنها فضل من الله عز وجل، وانظر إلى المعاصي وتب منها إلى الله ليصح لك احتجاجك بالقدر، ولا تقل: أن الله كتب علي المعاصي قبل أن أولد، بل قل الكلام الطيب أولاً من أجل أن تقبل هذه الحجة، فإن سيدنا آدم عندما قال الكلام الطيب بعدما تاب قبلت توبته، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (احتج آدم وموسى عند ربهما فقال موسى: أنت آدم أبو البشر خيبتنا ونفسك، وأخرجتنا ونفسك من الجنة، فقال آدم: أنت موسى اصطفاك الله على الناس برسالته وكلامه، فبكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن يخلقني؟ قال: بأربعين سنة، قال: فهل وجدت فيها: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:121]؟ قال: نعم، قال: فكيف تلومني على عمل كتبه الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: فحجَّ آدم موسى، فحجَّ آدم موسى، فحج آدم موسى) حُجَّ أي: غلبه، وهو حديث متفق على صحته، وهذا الحديث عظيم القدر؛ فهو يدلنا على الزمن الذي يصح الاحتجاج فيه بالقدر على المصيبة، فنزول الإنسان إلى الأرض كان مصيبة، وسيدنا آدم لم يختبره، ولكنه تسبب فيه بالتأكيد بالمعصية التي عملها، وسيدنا موسى كان يلومه على المعصية التي ترتبت عليها المصيبة، لكن سيدنا آدم ليس له دخل في المصيبة وليس هو الذي اختار هذه العقوبة، وقد تاب إلى الله من المعصية، فصارت المعصية بعد التوبة بمنزلة المصيبة، فللإنسان أن يحتج بالقدر على المصائب لا المعائب، أما أن يموت قبل التوبة فلن يقبل منه الاحتجاج بالقدر ولو احتج خمسين مرة؛ لأنه يريد أن يلغي مسئوليته ولن تلتغي المسئولية، فالقدر لا يلغي المسئولية؛ لأن الله قدر أن تكون لك مسئولية، فالذي يعمل معصية يقول: لو أن الله يريد أن يهديني لهداني، ادع لنا أن يهدينا الله يا شيخ! فهذا يحتج بالقدر من أجل أن يقول: أنا خالي المسئولية، أنا لا دخل لي في ذلك، وهذا مكتوب علي، صحيح أنه في الحقيقة مكتوب عليك، لكنك تعمله بإرادتك، مكتوب عليك وأنت تعمله بمسئوليتك وبقدرتك التي خلقها الله لك، فأنت تريد أن تلغي المسئولية، وهذه في الحقيقة كلمة حق يراد باطل، فالمشركون قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام:148] والله قال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} [الأنعام:107]، فقد رد الله عليهم كلمتهم؛ لأنهم أرادوا بها عدم الالتزام بالدين، أرادوا بها عدم الإيمان، ويقولون: إن ربنا راضٍ بهذا، لا، فربنا لا يرضى بذلك، ومن أجل ذلك قلنا في المرتبة الرابعة في أول الكلام: إن مع كونه عز وجل قدر المقادير وأراد وجود الخير والشر فقد أمر العباد بطاعته ونهاهم عن معصيته، وهو يحب الإيمان ويحب المتقين ويحب المؤمنين ولا يرضى لعباده الكفر، إذاً: فهناك أمر شرعي غير الأمر الكوني، وليس شرطاً أن يجتمعا، بل يجتمعان ويفترقان، فلذلك المحبة والرضا من الله تابعة للأمر الشرعي، فالذي يلتزم بالأمر الشرعي يحبه الله، والذي يخالف الأمر الشرعي يبغضه الله ويكرهه ويسخطه، وكونه قدره فلأن كل شيء بقدر، ولكن لا تحتج بالقدر على ذنب أو معصية لم تتب منها، لكنك إذا تبت إلى الله فقد ألغيت عنك المسئولية فعلاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له)، ثم يأتي بعد التوبة الصادقة الخوف من الله جل وعلا، لأن التوبة لا تكون توبة نصوحاً ومقبولة مع وجود التقصير، فإذا كانت توبة نصوحاً ومقبولة فلك أن تحتج بالقدر إذا لامك أحدهم، لكن الكفار احتجوا بالقدر في الدنيا، فقالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام:148]، واحتج إبليس كذلك بالقدر، {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الحجر:39] ولم ينفعه الاحتجاج، بل كان {مَذْءُومًا مَدْحُورًا} [الأعراف:18] فإياك أن تكون مثل إبليس في الطريقة، وانتبه فإنك ستحتج ولن يقبل منك احتجاجك، كذلك الحال في من يجيب في الامتحان إجابة خاطئة ويقول: هذا قضائي، فحاله كحال المحتج بالقدر في عمل المعصية وهو لا يريد أن يتوب منها، فإن مصيرها هو السقوط لا محالة، كما قال عز وجل: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر:54 - 56] فالندم لا ينفع إلا في الدنيا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الندم توبة)، لكنك ستتحسر يوم القيامة إن لم تكن توبة مقبولة، ولذلك بادر بالتوبة قبل الغرغرة، يقول تعالى: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر:56]، ولن تنفع هذه الحجة، فالتوبة في هذا الوقت لا تنفع، ثم يحتج بحجة ثانية، يقول تعالى: {أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [الزمر:57]، وهذه الحجة لن تقبل كذلك، {أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر:58] وهذه الحجة لن تقبل أيضاً، ولن ترجع إلى الدنيا، فالله سبحانه وتعالى يقول: {بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الزمر:59]، والعياذ بالله، إذاً: فانت حين ترى العذاب وتحتج بالقدر فلن يقبل منك هذا الاحتجاج، وستسألهم الملائكة عند دخولهم النار كذلك ولن يقبل منهم الاحتجاج بالقدر، كما قال عز وجل: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا} [الملك:8]، وقال عز وجل: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} [الزمر:71] فالملائكة تحتج عليهم بالشرع، {قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر:71]، فالكافرون يحتجون بالقدر وهو قولهم: إنَّ ربنا قدَّر علينا العذاب فوجب ذلك علينا، فيقال لهم: {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر:72] أي: يذكرونهم بأوصافهم وأعمالهم، وتكبرهم، وهم مازالوا يحتجون بالقدر ويقولون: ((حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ)) إذاً: فأنت تدخل النار وهو مكتوب عليك ذلك، لكنك ستدخلها وأنت مذموم؛ لأنه ليس من الحجة أن يظل الإنسان على المعصية ويقول: إنه القدر، وهم في النار يحتجون بالقدر مع ذلك، كما قال عز وجل: {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} [المؤمنون:106]، أي: أن الشقوة التي كتبتها علينا غلبت علينا، {وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ} [المؤمنون:106 - 110]، فالله سبحانه وتعالى أحضر لهم عملهم، فقد لامهم وذمهم على الأعمال السيئة مع أنهم يحتجون بالقدر ويقولون: ((غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا)) ولا ينفع ذلك، ولن تقبل هذه الحجة، إذاً: فعندما يؤمن الإنسان بأن عمله مكتوب فإنه ينظر نظرتين: نظرة في العمل الصالح فينظر إلى فضل الله عليه بذلك، وأن الله هو الذي من عليه، وأنه كان عدماً، وإرادته كانت عدماً، وعلمه كان عدماً، فلا يغتر بعلمه أو عمله، والنظرة الثانية: في المعاصي، فيبادر إلى التوبة منها حتى يقبل احتجاجه بالقدر السابق المكتوب عند الله سبحانه وتعالى، وإلا فلو احتج به مائة مرة على الذنب بعد أن يموت فلن يقبل منه هذا العذر؛ لأن الله إنما يقبل الاحتجاج بالقدر ممن أخلى مسئوليته عن الذنب، ولن تخلي مسئوليتك عن الذنب الذي قد مضى إلا بعد أن تندم قبل الغرغرة، وقبل أن تطلع الشمس من مغربها، وقبل أن ينزل العذاب بالناس.

ثمرة الإيمان بأن السعادة والشقاوة مكتوبتان

ثمرة الإيمان بأن السعادة والشقاوة مكتوبتان وإذا آمن الإنسان بأن الشقاوة والسعادة مكتوبتان فسيؤمن كذلك بأن الألم والتلذذ مكتوبان، وعندها فلن يخاف من ألم يصيبه أو لذة تفوته ما لم يكتب الله عز وجل له ذلك، وهذا يدفعه إلى أن يستغني بالله عن الخلق، وإذا علمت أن الرجل يعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، فلن تغتر، ولن تأمن سوء الخاتمة، بل ولن تظن أن عملك سيفيدك، كما يقول بعض الجهلة: إنك ستدخل الجنة حتماً، فلا ينبغي لك أن تقول ذلك عن نفسك؛ لأنك تخاف على نفسك سوء الخاتمة؛ فأنت لا تأمن مكر الله، فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون، وإذا كان الصديق يقول: لا آمن مكر الله ولو كانت إحدى قدمي في الجنة، فأنت أولى بذلك، ولذلك قال الطحاوي رحمه الله: والأمن والإياس ينقلان عن ملة الإسلام، أي: الأمن من مكر الله، واليأس من رحمة الله، ففي هذا الجانب تسأل الله حسن الخاتمة، وتسأل الله أن يتوفاك على عمل صالح، وتسأل الله كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك). وأما في الجانب الآخر: فإذا وجدت من يعمل المعاصي ومن يعمل بعمل أهل النار، وعلمت أن من هؤلاء من يكتب الله له النجاة في آخر لحظة فلن تجعل الناس ييئسون من رحمة الله، ولن تنزلهم جنة أو نار، فلست أنت الذي تقول: والله لا يغفر الله لك، ولست ممن يضع نفسه في موضع أرفع منه، وليس لك رفع نفسك فوق مرتبة العبودية، مع أنه كان يعمل الصالحات بخلاف أخيه الغارق في السيئات، فقد قال له مرة: (اتركني وربي، أبعثت علي رقيباً؟ فقال ذلك الرجل الذي كان يعمل الصالحات: والله لا يغفر الله لك، فقال الله عز وجل: من ذا الذي يتألى علي ألا أغفر لفلان، قد غفرت له وأحبطت عملك) والعياذ بالله؛ لأن الكبر في الإنسان مذموم، فالإنسان لا يتكبر بالعمل الصالح؟ فقد يغفر له في لحظة أنت لا تعرفها، فقد ذكر أن رجلاً قتل مائة نفس فكتب الله له الهداية قبل أن يموت ومن غير أن يعمل عملاً صالحاً، ولذلك ينبغي لك ألا تلزم الناس بجنة أو نار، وألا تضع نفسك في موضع المحاسب والحاكم على البشر، وألا تقول: إن هذا الذي ظلمني لابد أن الله سينتقم منه، بل ليس لازماً أن ينتقم منه، بل من الممكن أن يرزقه الله التوبة، قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:10]، قال الحسن: انظروا إلى هذا الكرم! قتلوا أولياءه ثم هو يدعوهم إلى التوبة؛ لأن الله قال: ((ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا)) أي: أنهم لو تابوا لما عذبهم، سبحان الله! قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة، يقاتل هذا في سبيل الله فيقتل فيستشهد، ثم يتوب الله على القاتل فيقاتل في سبيل الله فيقتل ويستشهد، فيدخلان الجنة معاً)، إذاً: فنحن ليس لنا من الأمر شيء، فلا ينبغي أن تقول للناس: أنت تدخل النار أو أنت تدخل الجنة، فأنت توقن بما أخبر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم في الكتاب والسنة عن أهل الجنة وأهل النار، ولكن أين أنت من ذلك؟ فإذا كنت ترجو وتخاف فلا تيئس الناس من رحمة الله، ولا تتكبر عليهم، فإنك لا تعرف ماذا يختم الله لهم به من أجل عمل عملوه ربما يكون صغيراً في نظرك، ويكون عند الله مقبولاً كبيراً، فرب عمل بسيط يغفر الله به ذنوباً كثيرة، فإن الله شكور سبحانه وتعالى.

المبادرة إلى التوبة قبل الموت

المبادرة إلى التوبة قبل الموت وقد ذكر أن بغياً من بغايا بني إسرائيل، بُغي أي: مدمنة على الزنا، يعني: فاجرة كما نسمع الآن مثلاً بالنساء الفاجرات، فالشاهد: أنها مرت بكلب يأكل الثرى من شدة العطش، والله يعلم أن في قلبها رحمة بهذا الكلب، فنزلت فملأت موقها من الماء وسقت هذا الكلب، فشكر الله لها فغفر لها، سبحان الله! فما بالك بإنسان يعمل المعاصي، لكن عنده رحمة ببعض خلق الله سبحانه وتعالى؟! فقد يغفر الله له هذه الذنوب الكثيرة، فلا تقل: فلان هذا لابد أن يدخل النار أو هذا لابد أن يدخل الجنة، فإنَّ الله عز وجل يفعل في خلقه ما يشاء، وبالعدل يفعل، ولا يظلم الناس شيئاً، فالناس بين الفضل والعدل، ففضله على أهل الإيمان، وعدله عز وجل مع أهل الكفر والفسوق والعصيان. نسأل الله أن يعاملنا بفضله، وأن يجعلنا من أهله سبحانه وتعالى، وهو عز وجل الحكم العدل يفعل ما يشاء، فلا تقنط من رحمة الله، وإذا كنت صاحب ذنب فبادر بالتوبة الآن؛ لأنك لا تدري متى يختم لك، وإذا تبت إلى الله عز وجل قبل الموت فقد تبت من قريب، فالله عز وجل يغفر لمن عمل السوء بجهالة ثم تاب من قريب، وكل من عصى الله فهو جاهل، وكل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب، لكنك لا تدري متى ستموت وبأي أرض؛ لأن الله هو الذي يعلم بأي أرض تموت النفس، فبادر بالتوبة واترك التسويف. فمن ثمرات الإيمان بعلم الله أيضاً: أن تعلم أن الله عز وجل هو الذي يعلم متى تموت النفوس؛ لأن ذلك من مفاتيح الغيب الخمس فلا تسوف؛ لأنك لست ضامناً لعمرك، فمن الناس من يقول: سأتوب بعد سنة أو بعد سنتين، ومنهم من يقول: سأتوب غداً، أو سأعمل الصالحات غداً، وما يدريه أنه سيعيش إلى غد؟ فالله سبحانه وتعالى هو الذي يعلم ذلك. فهذه من ثمرات الإيمان بكتابة المقادير، فقد كتب للإنسان وهو جنين في بطن أمه الأجل والرزق والعمل والشقاوة والسعادة وكذا الخواتيم التي يختم بها للإنسان؛ ولذلك فإن الرسول عليه الصلاة والسلام لما أخبرهم بالكتاب قال: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له)، ولذلك فعندما نسأل: هل الإنسان مسير أم مخير؟ نقول: إنه ميسر، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ميسر لما خلق له)، وميسر هذه تثبت له إرادة وقدرة، وتثبت أن إرادة الله فوق إرادته ومشيئة الله فوق مشيئته، وهذا الأمر يكون الحديث عنه في قضية أثر الإيمان بالقدرة والإرادة الإلهية، وأثر الإيمان بخلق الله لأفعال العباد. أقول قولي هذا، واستغفر الله لي ولكم.

الخير والشر عبر التاريخ

الخير والشر عبر التاريخ إن الخير لا يعرف إلا بمعرفة الشر، وبضدها تتميز الأشياء، وإن من أعظم أسباب الفتنة والضلال اختلاط الشر بالخير، وتزيين أهل الباطل دعوتهم بشيء مما يظن أنه حق وخير، فما أوقع الكثيرين في البدع إلا حب التقرب إلى الله، فظنوا أنهم بذلك على خير، وهكذا فإن الشيطان يزين باطله بشيء من الخير، ويفتح للعبد باباً من الطاعة ليوقعه في الهلكة والمعصية.

سنة الله في دحض الشر وأهله

سنة الله في دحض الشر وأهله إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: بسم الله الرحمن الرحيم. {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ * قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ * بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ * أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ * وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ * كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ * أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ * وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ * وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ * وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ * أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ * قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ * قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ * يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ * وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ * وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ * وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ * فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ * وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ * إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ * يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق:1 - 45]. إن الله عز وجل أرسل رسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ليهدموا الباطل ويقيموا الحق، فإن الحق لا يكون قائماً إلا إذا هدم الباطل، أرسل الله رسله صلوات الله وسلامه عليهم. أجمعين ليقاوموا الشر وينشروا الخير؛ فإن الخير لا يكون خيراً إلا إذا انتفى من الشر وقاومه وأبطله، فإن الاختلاط بين الخير والشر من أعظم الأمور خطراً على المخلوقين وعلى الإنسانية كلها، بل إن إبليس لعنه الله عنده هذا الاختلاط، فهو يقر بأن الله عز وجل خلقه وخلق آدم، ويقر بيوم البعث، وبأن الله هو الذي يُنظر، وهو الذي يحيي ويميت، فقال: (خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12]، وقال: {رَبِّ فأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الأعراف:14]، وكل هذا لم يجعله في عداد المؤمنين، وإنما هو أكبر الكافرين بالله سبحانه وتعالى؛ لأن من لبس إيمانه بظلم -وهو الشرك الأكبر- فإن إيمانه قد بطل، كما قال عز وجل عن هؤلاء: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106]، وقال عز وجل عن إبراهيم: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:81 - 82]، فتبين بذلك أن من لبس إيمانه بالشرك الأكبر فإن إيمانه يضمحل ويزول، ولا ينفعه إقراره بوجود الله، ولا بأنه الرب الخالق سبحانه وتعالى؛ لأنه أشرك بالله ما لم ينزل به سلطاناً. ومن ظلم نفسه بظلم العباد، أو من ظلم نفسه بالذنوب التي هي دون الشرك، فإنه ينقص من إيمانه وأمنه بقدر ما ظلم نفسه، وإنما يتحصل الأمن، والالتجاء التام بالإيمان الكامل الذي ليس فيه ظلم، أو الذي تاب الإنسان فيه من ظلمه لنفسه، فلقي الله سبحانه وتعالى وقد بدل الله سيئاته حسنات، سواء كان ذلك من الظلم الأكبر أو الأصغر، فإن الله يغفر الذنوب جميعاً لمن تاب إليه ورجع واستغفر وأناب، ولما كان الله عز وجل يقبل التوبة عن عباده، كان الإيمان بالله مستلزماً للكفر بالطاغوت، وكانت معرفة الشر ضرورية كمعرفة الخير حتى يتجنب الإنسان الشر.

معرفة الشر طريق إلى الخير

معرفة الشر طريق إلى الخير قال حذيفة رضي الله تعالى عنه: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني. فتنوعت أسئلة الناس للنبي صلى الله عليه وسلم ليصل الحق إلى الجميع، فيُعرفُ الخير عن طريق البعض، ويعرف الشر عن طريق البعض الآخر ليجتنبه الناس، وليعرفوا الحلال والواجب فيأتوه، ويعرفوا الحرام والباطل والمنكر فيجتنبوه، وحذيفة ممن انتبه إلى خطر الشر، فكان يسأل عن الشر مخافة أن يدركه؛ لأنه وجد كثيراً من الناس منصرفين عن السؤال عن الشر، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه فقال: (يا رسول الله! إنا كنا في جاهلية وشر، فأتانا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم. قلت: فهل بعد هذا الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دخن. قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يهتدون بغير هديي، ويستنون بغير سنتي، تعرف منهم وتنكر. قلت: فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها. قلت: يا رسول الله! صفهم لنا. قال: هم من جلدتنا يتكلمون بألسنتنا -وفي رواية لـ مسلم: قلوبهم قلوب شياطين في جثمان إنس. - قال: فما تأمرني؟ قال: الزم جماعة المسلمين وإمامهم. قال: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض على أصل شجرة فتموت وأنت عاض عليه). وهذا الحديث الجليل رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما، وهو يبين ما جرى ويجري للناس من قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد بعثته، فإن الناس كانوا في جاهلية وشر.

صور الشر في الجاهلية

صور الشر في الجاهلية ومعرفة صفات الجاهلية مما يجعل المؤمنين يدركون قدر نعمة الله سبحانه وتعالى عليهم بالإيمان والإسلام، ويتمسكون به، ويزدادون حرصاً عليه، ويعضون عليه بالنواجذ، ويأبون أن يرجعوا إلى أي مظهر من مظاهر الجاهلية، سواء كان ذلك في العقيدة: وهو ظن الجاهلية، أو كان في الحكم: وهو حكم الجاهلية، أو كان في المعاملات المالية: وهو ربا الجاهلية. أو كان في وضع المرأة: وهو تبرج الجاهلية، أو كان في الولاء والحمية: وهي حمية وعصبية الجاهلية، أو كان في أي مظهر من مظاهر الجاهلية المختلفة التي يعيش فيها أكثر الخلق إلا من رحم الله سبحانه وتعالى، فقد كان الناس في هذه الجاهلية وهذا الشر، وبقدر قرب الإنسان من معاني الجاهلية بقدر ما يكون فيه من الشر، وبقدر بعده عنها يكون اقترابه من الدين الحق الذي جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قال حذيفة: (فأتانا الله بهذا الخير)، يعني: بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وما كان فيها من هداية وتوحيد لله عز وجل ومعرفته ومحبته، وعبادته وحده لا شريك له، وترك ظن الجاهلية، وحكم الجاهلية، ودماء الجاهلية، وعصبية الجاهلية، وتبرج الجاهلية، وحمية الجاهلية، وربا الجاهلية، فقد تركوا ذلك كله إلى دين الحق، والحمد لله رب العالمين.

أول شر بعد عصر النبوة

أول شر بعد عصر النبوة قال حذيفة: (فهل بعد هذا الخير من شر؟)، وهذا هو الذي كان يخافه حذيفة، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أنه سوف يوجد بعد هذا الخير شر، وهذا باتفاق أهل العلم هو ما وقع من فتنة في أواخر عصر الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وكان بداية ذلك قتل عثمان، وأما قتل عمر رضي الله تعالى عنه فقد فتح باب الفتن فعلاً، ولكنه ما كان بأيدي المؤمنين، وإنما كان بأيدي من لا ينطق بالشهادتين، فكان قتل عثمان بيد بعض المنتسبين إلى الإسلام من دعاة الفتنة، وما جر ذلك بعده من الفتن التي وقعت، والاقتتال الذي حصل بسبب أهل الفتنة بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وأوقعوا فيه رغم أنهم كانوا يحرصون على البعد عنه، لكن قدر الله وما شاء فعل، وهو بالنسبة إلى ما سبقه من الخير يعتبر شراً، والأمر في ذلك بلا شك أمر نسبي، أي: بالنسبة إلى ما كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وما كان عليه الصحابة من ائتلاف الكلمة، والحب العميق، والارتباط الوثيق، وعدم الاختلاف على الإطلاق، وبينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يحل لهم مشاكلهم، ويفصل بينهم في نزاعاتهم، فكان بالنسبة إلى ما سبقه شر.

اجتماع الخير على دخن فيه

اجتماع الخير على دخن فيه قال حذيفة: (فهل بعد هذا الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دخن)، وكان هذا هو اجتماع المسلمين بعد مقتل علي رضي الله تعالى عنه رابع الخلفاء الراشدين على معاوية رضي الله تعالى عنهم إماماً للمسلمين جمعاً للكلمة بعد أن تنازل السيد الحسن بن علي رضي الله تعالى عنه، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه وهو ما زال طفلاً صغيراً: (إن ابني هذا سيد، ولعل الله يصلح به بين طائفتين عظيمتين من المسلمين)، فتنازل هذا السيد الجليل الحسن بن علي رضي الله تعالى عنه عن الخلافة لـ معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما من أجل جمع كلمة المسلمين، فسمي عام أربعين للهجرة: عام الجماعة؛ لاجتماع كلمة المسلمين، ولم يكن هذا بالنسبة إلى ما سبقه من الخير الأول خيراً محضاً، وإنما كان بدخن فيه، وهو دخن ما جرى من بعض الأمراء خاصة بعد زمن معاوية رضي الله تعالى عنه، وما جرى بعد ذلك في زمن بني العباس وغيرهم من دخن كثير، وذلك ما وصفه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله (تعرف منهم وتنكر، قوم يهتدون بغير هديي، ويستنون بغير سنتي) فهذا الدخن شيء من الشر مدخول في هذا الخير، لكنه خير بالجملة، فقد كان الجهاد في سبيل الله في هذه الفترة قائماً لإعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى. ورغم ما وقع من الفتن والمنكرات ما كان أعداء الإسلام ليصلوا إلى المسلمين، ولا كان يخطر ببالهم أن يفكروا في أذيتهم؛ لأنهم يعلمون شدة بأسهم، وفي هذا العام فتحت بلاد كثيرة، ووصل الإسلام إلى أقاصي الأرض شرقها وغربها، واستمرت الفتوحات إلى أن وصلت بحمد لله تبارك وتعالى إلى حدود فرنسا، وفتحت الأندلس، وأقيمت دولة الخلافة واحدة في الأرض كلها من حدود الصين شرقاً إلى الأندلس غرباً، والحمد لله رب العالمين. وكان الحق ظاهراً -بحمد لله تبارك وتعالى- في أكثر الأحوال، وهو بالنسبة إلى ما يأتي بعده من الشر خيرٌ لكنه خير فيه دخن لعدم الاقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعدم الاهتداء بهديه، وكما قال عليه الصلاة والسلام: (تعرف منهم وتنكر)، ففيهم المعروف وفيهم المنكر، والمعروف موجود وظاهر، يوجد من أهل العلم من ينكره بلسانه أو بيده على حسب الشروط الشرعية والضوابط التي بينها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

شر دعاة جهنم على الأمم

شر دعاة جهنم على الأمم قال حذيفة رضي الله تعالى عنه: (فقلت: يا رسول الله! هل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبوب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها) فهؤلاء ممن دعوا إلى البدعة والضلال والكفر والنفاق والزندقة والانحلال، ممن وصفهم أهل العلم كالخوارج في العهد الأول، وكالباطنية الذين أسسوا الدولة المسماة بالفاطمية، وكغيرهم ممن يبقى إلى يوم القيامة يدعو إلى الكفر والانحلال، وإن كانوا كما وصفهم الرسول صلى الله عليه وسلم: (من جلدتنا يتكلمون بألسنتنا)، فهم ليسوا من الأجانب الأغراب، وليسوا ممن ينطق بالكفر الصراح، وإنما يتكلمون بألسنتنا، ويشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويزعمون أنهم منتسبون إلى الأمة، ولكنهم في حقيقتهم كما وصفهم النبي عليه الصلاة والسلام: (قلوبهم قلوب شياطين في جثمان إنس، دعاة على أبواب جهنم) فهم كل من دعا إلى الضلال، ونبذ شريعة الله، وحارب الإسلام وأهله، ونبذ السنة حتى وإن لم تكن رغبته في الملك فقط كما كان الدخن الأول، فقد كان صراعاً على الملك والسلطان، ولم يكن قط إرادة لانتهاك حرمات الله، ولا حرباً للدين، ولا إبطالاً لعقائد المسلمين، ولا موالاة للكافرين، ولا تبديلاً لشريعة الله سبحانه وتعالى، فكان بعد ذلك من الشر ما كان، حيث ظهر هؤلاء الدعاة على أبواب جهنم، وما زالوا يظهرون، وهذا هو الخطر العظيم، فكل من دعا إلى الضلال من البدع القديمة أو المعاصرة، وتمكن من أن يكون قائداً للناس، إماماً لهم يدعوهم إلى جهنم، فهذا من الشر الثاني الذي هو أشر بكثير من الشرور التي سبقت إلا أن يكون شر الجاهلية الأولى فهو مثلها إن لم يكن شراً منها لأجل النفاق والزندقة، فهؤلاء دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها، وهذا دليل على أن من اتبعهم، وسار خلفهم، وقبل باطلهم، وأجاب دعوتهم، فهو منهم ومعهم، ومن جنودهم الذين يسيرون في ركبهم؛ فيكون معهم في النار. وهؤلاء من المنافقين الذين قال الله عنهم: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء:145]، فهذا من كان يعلم فعلاً أنه حرب على الإسلام وأهله، وكان غير ملبس عليه، وأما من لبس عليهم في ذلك فهم في جهنم أيضاً ولا ينجو منهم بعد دخولهم النار إلا القليل؛ لأن من استجاب لداعي الباطل غالباً ما يموت على الكفر والعياذ بالله، كما بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم عندما وصف حوضه، وأخبر بأن طوله شهر، وعرضه شهر، وماؤه أبيض من الثلج، وأحلى من العسل، وعدد آنيته كعدد نجوم السماء، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (يحال بيني وبينهم بعد أن أعرفهم، فأقول: أمتي، فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: إلى أين؟ فيقول: إلى النار، فأقول: لم؟ فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك)، والعياذ بالله، قال النبي صلى الله عليه وسلم (فلا ينجو منهم إلا مثل همل النعم)، أي: إلا المهمل من الأنعام، وهذا هو النزر القليل ممن كان فعلاً ملبساً عليه، وما درى أنه يحارب دين الله عز وجل، فهذا مستحق أن يكون معهم، ولكنه ينجو بعد أن يؤخذ إلى باب الشمال، وهذا يدلنا على خطر متابعة الشر والباطل، وإن كان الإنسان قد يكون ملبساً عليه، لكن الواجب عليه أن يتعلم ويستبصر، ولا يجوز له أن يتابع على الباطل، فإن الله عز وجل حذر من المتابعة على الباطل؛ لأن غالب ذلك يؤدي إلى الكفر، قال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا * يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} [الأحزاب:64 - 68]، وقال عز وجل: {قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ} [ص:61]، وقال سبحانه وتعالى: {قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:38]، فبين سبحانه أن الأتباع يسألون مضاعفة العذاب للكبراء والرؤساء، فيضاعف الله عز وجل العذاب للفريقين، ولا ينجو منهم إلا القليل ممن مات على التوحيد، وما أبعدهم عن التوحيد؛ لأنهم أطاعوهم في معصية الله بل في الكفر والزندقة والنفاق، ومن عمل ذلك فهو على شاكلة من تبعه. قال الله تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} [القصص:8]، وهذا عدل من الله سبحانه؛ فإن فرعون لا يكون فرعون إلا بقارون وهامان وجنودهما، ولا يكون فرعون إلا إذا كان معه من يعضده على كفره وضلاله وزندقته وانحلاله، فناسب أن يكون من أجاب الدعاة على أبواب جهنم قذفوه فيها، ولذلك كان واجباً على الإنسان أن يحذر على نفسه من الشر والبدع قديمةً كانت أو حديثة، ومن البعد عن شرع الله سبحانه وتعالى، وموالاة الكافرين والتسوية بين الإيمان والكفر، والزعم بأن الله سبحانه وتعالى يقبل ملة سوى ملة الإسلام، وتحكيم غير شرع الله عز وجل في أنفس الناس وأعراضهم وأموالهم. ولاشك أن هذا من الدعاة على أبواب جهنم، وهو -والعياذ بالله- من الكفر والنفاق الذي لا يرضاه الله سبحانه وتعالى أبداً ولا شرعه، وهو من الشر الثاني.

الأمر بلزوم الجماعة عند الفتن

الأمر بلزوم الجماعة عند الفتن ثم قال حذيفة: (فما تأمرني؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم) وهذا أمر عظيم الأهمية، فإن الإنسان بارتباطه بأهل الخير غالباً ما ينجو من الشر وأهله بإذن الله، ومن خرج بنفسه يظن أنه بعيد عن أهل الباطل فإنه في الغالب يقع في أسرهم، فعليكم بالجماعة؛ فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية، والشيطان ذئب الإنسان، فإذا كان الإنسان بعيداً عن أعوان الخير منفرداً بطريق نفسه أدركه أعداؤه وأسروه وأخذوه معهم، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلزوم جماعة المسلمين وإمامهم. والإمام: هو الخليفة إن وجد، وإلا فإن وجدت الجماعة دون وجود الخليفة فليلزم أهل العلم منهم، وليكن معهم؛ فإن هذه الأمة لا ينقطع منها الخير، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم حتى تقوم الساعة)، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تزال عصابة من أمتي تقاتل عن هذا الدين حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك، أو حتى تقوم الساعة)، وقال: (لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله حتى يقاتل آخرهم الدجال). وقد أتت أحاديث متواترة أن الخير لا ينقطع من الأمة، وأنه لا تزال طائفة منها على الحق، فإن فقد فقدت الخلافة -كما هو واقع- فإن أهل السنة بحمد الله لا ينقطعون من الأرض كلها. وإذا فقد أهل السنة أئمتهم من الخلفاء وجب عليهم أن يرجعوا إلى أئمتهم من العلماء، إلا أن يجد الإنسان نفسه في أرض جذعاً، ولا يجد أعواناً على الخير، فهنا سأل حذيفة فقال: (فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟)، واشترط شرطين: ألا يكون لهم جماعة، وألا يكون لهم إمام، فهذا الذي قد يحصل لبعض الأفراد لا أنه يقع للمسلمين ككل؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أنه: (لا تزال طائفة تقاتل عن الإسلام)، (ولا تزال طائفة قائمة بأمر الله من أمته)، وإنما يقع للبعض حين لا يجد في بلد أو في مكان ما أعواناً على الخير، ولا يجد إلا دعاة على أبواب جهنم من الفرق الضالة؛ فإن لم يجد إلا أحزاب الضلالة فلا يجوز له أن ينتسب إليهم، أو يكون معهم مدعياً أنه على الخير الذي عندهم مما يظهرون من أنهم يتكلمون بألسنتنا، وأنهم من جلدتنا، وأنهم في جثمان إنس، فلا ينفعه ذلك ولا يقبل منه، بل لابد أن يعتزل الشر وأهله، وهذه مرتبة واجبة لا بد منها للمؤمن؛ حتى يكون بعيداً عن متابعة أهل الباطل، ولو كان ذلك بأن يعتزل في الصحاري، وأن يعض على أصل شجرة فيموت وهو عاض عليه خير له من أن يتبع واحداً منهم. إننا نحتاج إلى معرفة ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الخير والشر حتى لا نقع فريسة للدعاة على أبواب جهنم، وحتى نعرف أن من سبل نجاتنا التقارب مع أهل الحق، ومن قوة الرابطة بين المؤمنين ومن وحدتهم ومن بيان ما يلزمهم: أن يكونوا على منهج الحق الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فإن أئمة العلم أجمعوا على لزوم اتباع ما كان عليه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان لما شهد القرآن لهم بذلك، كما قال عز وجل: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا} [البقرة:137]، وقال عز وجل: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} [التوبة:117]، وقال عز وجل: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْه ُ) [التوبة:100]. وهذا المجمع عليه بين أهل العلم من لزوم اجتماع الناس على ما كانت عليه الجماعة الأولى هو سبب النجاة، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام (ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قيل: ومن هم؟ قال: هم الجماعة)، وفي الرواية الأخرى: (من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي)، وهي صحيحة المعنى بلا شك. نسأل الله أن يعيذنا من الشر، وأن يوفقنا للخير، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

درجات اعتزال الشر

درجات اعتزال الشر الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم. أما بعد: فإن اعتزال الشر درجات: الدرجة الأولى: اعتزال الشر نفسه، بألا يأتيه المسلم، وأعظم الشر: هو الشرك بالله عز وجل بأنواعه المختلفة التي هي ظلمات بعضها فوق بعض، والمعاصي من الكبائر الظاهرة والباطنة، والبدع الكبيرة والصغيرة، كل ذلك يعتزله المؤمن ويبتعد عنه، فيتوب إلى الله عز وجل من ذلك، وهذا الذي أمر الله سبحانه وتعالى به لما قال: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31]، فالتوبة إلى الله هي: ترك الشر واعتزاله؛ لذا قال النبي صلى الله عليه وسلم عن الهجرة: (الهجرة أن تهجر ما نهاك الله عنه)، أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: فالهجرة أن تهجر السوء وتتركه فلا تفعله، وألا تعاون عليه، وألا تشارك فيه، وألا تكون جندياً من جنود الشر. الدرجة الثانية: اعتزال أهل الشر، بألا يجلس معهم وهم يخوضون فيه حتى ولو لم يشاركهم، فإن الله عز وجل يقول في كتابه: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [النساء:140]، وقال عز وجل: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68]، فلا يجوز للإنسان أن يشهد الشر إلا بغرض شرعي صحيح كأن ينكر عليهم، فإما أن يزول عنه، وإما أن يزيله، أو يسعى في إزالته، فأما من كان باقياً في مكان الشر ساكتاً عنه فهو من أهل الشر وإن زعم أنه لم يرتكبه؛ فإن الإنسان المسلم لا يجوز له أن يبقى في بلاد يُجهر فيها بمعاصي الله، ويسب فيها السلف. كما قال الإمام مالك: لا يحل لأحد أن يبقى في أرض يسب فيها السلف، فكيف إذا كان يسب فيها دين الله، أو يسب فيها الله سبحانه، ويستهزأ بآياته، ويسخر من العقائد التي أنزلها في كتابه، وجاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم من عقائد الغيب، فلا يجوز أن يقيم الإنسان مع أهل الشر إلا أن يكون له غرض شرعي صحيح كالإنكار عليهم، أو إنقاذ مسلم من هلكة، فإن وجد أنه لا فائدة لدين الله في بقائه معهم فليرحل عنهم وليعتزلهم، وإن لم يجد إلا أن يعتزل في الصحاري والجبال، فهذا خير له من أن يكون مقيماً للأكل والشرب وسط أهل الباطل والضلال ساكتاً على شرهم، راضياً بدنياهم. فلا بد أن يترك الإنسان أصدقاء وقرناء السوء، فلا يصاحبهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (لا تصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي)، وقال عز وجل: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67]، فالواجب على المؤمن أن يبحث عن قرناء الخير، ويعتزل قرناء الشر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك - أي: يعطيك مجاناً- وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيباً، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة)، فإن لم يجد الإنسان بداً من أن يكون مع أهل السوء، فإما أن يأمرهم وينهاهم، وإما أن يهاجر في سبيل الله، وكما تهاجر نفسه يهاجر بدنه، ولا يجوز له أن يبقى معيناً على الباطل أو ساكتاً عنه، قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:97]. ولا بد للإنسان أن يكون واضحاً في انتمائه لأهل الخير، فيبتعد عن أهل الشر، ويتبرأ من أفعالهم، ويتبرأ منهم إذا بلغوا درجة الكفر والنفاق.

اختلاط الخير بالشر سبب للفتنة والضلال

اختلاط الخير بالشر سبب للفتنة والضلال فالمسلم صادق في قضية الولاء والبراء، ولا يمكن أن ينتهي إلى الباطل وأهله، والتساهل في هذه القضية من أعظم أسباب انتشار الفتنة بين المسلمين، ومن أعظم الخطر عليهم، فإن اختلاط الخير بالشر مما يلبس فيه على الكثيرين، ومما تقبل به دعاوى أهل الباطل من أجل ما عندهم من الحق، وقد خرج أبونا آدم من الجنة بقسم باطل؛ لأنه ظن أنه لا يقسم أحد بالله كاذباً، فغره الشيطان بالله سبحانه وتعالى، قال عز وجل: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:21]، فلما وجده يقسم بالله ظن فعلاً أنه ناصح، وذلك تعظيماً من آدم لأمر الله سبحانه، ونسي ما أخبره الله عز وجل: {إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه:117]، ولا يقبل قول ناصح قط إلا بشيء من الحق معه، وإلا فالناس قد فطروا على قبول الحق ورد الباطل كما فطروا على حاجتهم إلى الماء والهواء. والشرك والباطل يدخل إلى الأمم من اختلاط الخير بالشر، فقوم نوح ظهر فيهم الشرك بسبب أمرين: الأول أمر من الخير وهو حب الصالحين ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، والثاني: البدعة الضلالة من اتخاذ التماثيل تذكاراً لهم، ثم كان بعد ذلك عبادتها من دون الله حباً لهم، وعلى أنهم وسطاء بينهم وبين الله عز وجل، وهكذا كانت عبادة اللات والعزى على أنها ملائكة الله التي تشفع لهم عند ربهم، وهم يتقربون بعبادتها إلى الله سبحانه وتعالى، فقالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]. فظهر بذلك أنهم يريدون التقرب إلى الله ولكن ما نفعهم ذلك، فتبين أن ما يدعو إليه الشيطان من الشرك يكون عن طريق النفاق الذي يظهر أصحابه الشهادتين، ولكنهم يدعون إلى أنواع الكفر والضلال، وكذا أنواع الشرك كعبادة القبور فإنه يسول لهم أن في هذا حباً للصالحين، وحباً لأهل البيت، وهذا حق لاشك فيه، كما أن عبادة غير الله سبحانه وتعالى شر لاشك فيه، وكذلك يزين الشيطان للكثيرين الوقوع في البدع بزعم حب التقرب إلى الله وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا جابه إنسان واحداً من أهل البدع وقال له: كيف تقع في هذه البدعة ولم يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم؟ زعم أنك لا تحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لا تحب أهل البيت، أو أنك تكره الصالحين وتعاديهم، فهكذا يكون اختلاط الخير بالشر سبباً لضلال الإنسان؛ فإن الشيطان لا بد أن يضع في السم شيئاً من العسل وإلا ما استساغ مرارة السم أحد. نسأل الله أن يعافي المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وأن يحفظ عليهم الإسلام نقياً صافياً حتى يلقوا ربهم سبحانه وتعالى وهو راض عنهم. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اليهود والنصارى والمنافقين وسائر الكفرة والملحدين أصحاب الضلالة ودعاة السوء. اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين. اللهم نج المستضعفين من المؤمنين والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم فرج كرب المكروبين، وفك أسر المأسورين، وارفع الظلم عن المظلومين. اللهم نج المستضعفين من المؤمنين والمسلمين في كل مكان، اللهم انصر المسلمين في البوسنة والهرسك، اللهم انصر المسلمين في فلسطين، اللهم انصر المسلمين في الهند وبورما وكشمير والفلبين وأرتيريا ومصر والجزائر، اللهم انصر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها. اللهم ألف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، وانصرنا على عدوك وعدونا، واهدنا سبل السلام، وأخرجنا من الظلمات إلى النور، واجعلنا هداة مهتدين. ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين. اللهم أنزل بأعداء المسلمين بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم لا تجعل لهم على المؤمنين سبيلاً، اللهم فك شرهم عن المسلمين فأنت أشد بأساً وأشد تنكيلا، اللهم نج المستضعفين من المؤمنين والمسلمين. ربنا اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.

الدعاء سلاح المؤمن

الدعاء سلاح المؤمن الدعاء له منزلة عظيمة في الإسلام، فبالدعاء يستجلب النصر، ويستقى الغيث، ويدفع الضر، وتعم البركات؛ والدعاء أعظم سلاح يتسلح به المؤمن، وأعظم قوة يتقوى بها الضعيف، ولما كان الدعاء بهذه المنزلة الرفيعة كان هو العبادة. فعلى المسلم أن يلجأ إلى الله بالدعاء في سره وجهره وعسره ويسره وفي شأنه أجمع.

مكانة الدعاء وفضله

مكانة الدعاء وفضله إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فلقد أخبر الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين أنه قريب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، قال عز وجل: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186]، وقال سبحانه وتعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60]، وقال عز وجل: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [الشورى:26]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الدعاء هو العبادة). وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يستعمل الدعاء في كل أحواله، ويذكر الله عز وجل على كل أحيانه وفي كل المواقف خصوصاً في مواقف الشدائد، حيث كان يلجأ إلى الله سبحانه وتعالى ويتضرع إليه، ويستغيث به فيغيث الله عز وجل أمته بأسرها، كما قال سبحانه: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال:9]، وكانت استغاثة النبي صلى الله عليه وسلم مستمرة ومتتابعة بالليل وبالنهار، فقد كان طول الليل قائماً تحت شجرة في بدر وفي النهار في أول المعركة ظل يناشد ربه، ورفع يديه حتى سقط رداؤه من على منكبيه حتى اعتنقه أبو بكر صاحبه الرفيق الشفيق الرقيق رضي الله تعالى عنه من خلفه وقال: يا رسول الله! بعض مناشدتك ربك؛ فإن ربك منجز لك ما وعدك، فمن شدة الاجتهاد أشفق عليه الصديق رضي الله تعالى عنه، ومن كثرة التضرع أيقن أبو بكر أن الله منجز له ما وعده فقال له: (بعض مناشدتك ربك)، أي: يكفيك أن تدعو جزءاً من هذه المناشدة أو خفف من هذه المناشدة بعض التخفيف، فيكفيك جزء منها. فانظر إلى حال النبي صلى الله عليه وسلم كيف غيرت دعوته عليه الصلاة والسلام وجه الحياة على ظهر هذه الأرض، فلو لم ينتصر المسلمون في غزوة أحد، ولو هلكت تلك العصابة لما عبد الله في الأرض بعد ذلك اليوم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إن تهلك هذه العصابة لن تعبد في الأرض بعد اليوم)، فاستجاب الله سبحانه هذه الدعوة المباركة، وهذه المناشدة المستمرة، وهذا التضرع الأكيد الذي لم يفتر حتى حقق الله عز وجل وعده، وحقق نصره لعباده المؤمنين، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعو في مقابلة أعدائه بدعاء هو من معجزاته الظاهرة. فما أحوج المسلمين في مواجهتهم لأعدائهم، وقد تكالبوا عليهم واجتمعوا من أجل إطفاء نور الله سبحانه وتعالى أن يتدبروا هذا الدعاء، وأن يستعملوه، وأن يكثروا من اللهج به؛ عسى الله عز وجل أن يفرج كرباتهم. فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن يذكر أصحابه بالصبر والثبات ويأمرهم أن يسألوا الله العافية ويخبرهم أن الجنة تحت ظلال السيوف يقول: (اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب)، وفي رواية (سريع الحساب اهزمهم وزلزلهم وانصرنا عليهم) ثم يتقدم المسلمون فينتصرون بفضل الله منزل الكتاب.

أسباب النصر

أسباب النصر ونحن نحتاج إلى أن نتدبر هذا الدعاء؛ حتى نستعمله للقوة المطلوبة، وحتى تحضر القلوب؛ فإن القلوب إذا امتلأت بمعرفة الله عز وجل وأسمائه وصفاته واستحضرت عظمته وقدرته وقوته وعزته وأنه سبحانه القيوم بأمر السماوات والأرض ثقلت الكفة، وتغيرت الموازين، وتزلزلت الأرض، واهتزت من تحت أقدام المشركين، ووقع الرعب في قلوبهم، ونصر الله عز وجل عباده المؤمنين بأيسر الأسباب.

التوسل سبب من أسباب النصر

التوسل سبب من أسباب النصر وهذه الأسباب هي: أولاً: التوسل إلى الله عز وجل بالإلهية، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم منزل الكتاب) وهذا التوسل إلى الله عز وجل يكاد يكون في أكثر أدعية النبي صلى الله عليه وسلم، وكذا في أدعية الأنبياء جميعاً، وذلك أن دعوة الأنبياء هي دعوة التوحيد: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، فيستحضر أن الله إلهه الذي يعبده والذي يتوجه إليه بالإخلاص والصدق والتوكل والاستعانة وبكل أنواع العبادات.

التوسل إلى الله عز وجل بإنزاله الكتاب

التوسل إلى الله عز وجل بإنزاله الكتاب ومن أجل قيام الصراع ناسب جداً أن يبدأ هذا الدعاء بالتوسل إلى الله عز وجل بأنه منزل الكتاب، ولذا قال: (اللهم منزل الكتاب)، فالله عز وجل أنزل الكتب من عنده، وخاتمتها القرآن العظيم، فهو خاتمة الكتب المنزلة من عنده التي تضمنت أحكامه وشرعه، وأنزل الله عز وجل الكتاب؛ ليقوم الناس بالقسط، قال عز وجل: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّمًا لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا * وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا * مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف:1 - 5]. فالله عز وجل أنزل الكتاب لتكون الحياة على وجه الأرض غير الحياة التي يريدها أولياء الشيطان، أنزله الله عز وجل مستقيماً قيماً لا اعوجاج فيه؛ وذلك ليقوم الناس بالقسط وبالعدل الذي شرعه الله، وليتذكروا اليوم الآخر بدلاً من أن ينشغلوا بدنياهم، فإن فكر الناس واعتقادهم وما يفكرون فيه وما ينشغلون به قضية عظيمة الأهمية، فتأمل فيما يشغل أولياء الشيطان الناس به؛ إنهم يشغلونهم بالشهوات الحقيرة الدنيئة، ويشغلونهم بالطعام والشراب، والجاه والملك والوجاهة واللعب واللهو، ولا يكادون يذكرون القيامة، ولا يكادون ينذرون الناس البأس الشديد الذي من عند الله الذي ينتظرهم، مع أنهم يرون كل يوم لحظة الفراق التي هي من أشد اللحظات التي هي سكرات الموت، فكم من الناس يرحلون! فالضعف الذي يكون فيه الإنسان والألم الذي يعتصره والذي ينبئ عما يحل به بعد ذلك أمر جليل وخطير ينتظر الناس، فالكتاب أنزله الله لينذر بأساً شديداً من لدنه، ولينذر ما الناس مقدمون عليه بدلاً من أن تكون صبغة الحياة هي الجري ورائها بهذه الطريقة التي لا يعرف الإنسان فيها معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه، ولا يعرف إلا المال والجنس والملك والرئاسة والصراع على ذلك بكل أنواعه، بل توظف العقائد والأديان والملل من أجل هذه الصراعات الدنيئة الحقيرة. وقوله: {وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} [الكهف:4]، ففي هذه الآية أن الله أنزل الكتاب ليبطل العقائد الفاسدة التي ما أنزل الله بها من سلطان، والتي هي مسبة لله عز وجل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: (يقول الله عز وجل: شتمني ابن آدم ولم يكن له ذلك، قال: وأما شتمه إياي فقوله: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا)، فالله سبحانه وتعالى يغضب لذلك، وذكر أن هذه الكلمة عظيمة، فقال: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:88 - 95]. وقال عز وجل: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف:5]، وكذلك نزل الكتاب ليبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم أجراً حسناً، وهذا هو الذي ينبغي أن يطلب، وهذا هو الذي ينبغي أن يبحث عنه. أنزل الله عز وجل الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وذلك أن الله سبحانه ما أنزل الكتاب ليكون مجرد شيء يتزين به في صدور المجالس أو على الأرائك والمكاتب، وإنما أنزله ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه. فهذه قضية عظيمة الأهمية، ومن أجلها يدور الصراع حقاً، فالكفرة والمنافقون أولياؤهم لا يريدون أن يكون الكتاب الذي أنزله الله هو الذي يفصل بين الناس ويحكم بينهم فيما اختلفوا فيه، وإنما يريدون أن يكون حكم الجاهلية وآراء الرجال وما اشتهوه من الباطل والأهواء السخيفة المنكرة هي الحكم الذي يتحاكمون إليه، فالله عز وجل أنزل الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، وأنزل الله الكتاب والعدل الذي يكون عليه بناء الأمور على كتاب الله، فالكتاب معه الميزان، ومعه القياس الصحيح، فكما أن في المحسوسات ميزان فكذلك في الاعتقادات والأعمال والأقوال ميزان، وهذا الميزان توزن به الأشياء بكتاب الله سبحانه وتعالى. إن هذا الصراع الذي قام به النبي صلى الله عليه وسلم وقام به أولياء الله عز وجل عبر العصور إنما كان لأجل أن يكون الكتاب الذي أنزله الله سبحانه وتعالى هو القائم بين الناس، وهو الحكم وهو القسط، وهو العدل الذي يحبه الله، وأن يوزن كل شيء بهذا الكتاب وأن ينظر إلى الحياة الدنيا والآخرة من خلال هذا الكتاب. فكتب الله عز وجل كلها حق؛ أنزلها الله عز وجل متضمنة كلامه، وجعل القرآن مهيمناً عليها وشاهداً لما فيها من الحق ومبيناً ما زاده أهلها فيها من الباطل والتحريف والتبديل الذي صنعوا، وكذلك مبيناً ما نسخ منها مما كان مشروعاً في وقت وزال تشريعه لحكمة الله سبحانه وتعالى في ذلك. وبذلك كان من أعظم ما يتوسل به إلى الله سبحانه وتعالى في مواجهة الأعداء قول: (اللهم منزل الكتاب)، فالله عز وجل الذي أنزل الكتاب هو الذي وعد بأن يعم حكمه الأرض، وأن يظهر الدين الذي أنزله فيه على كل الأديان، كما قال عز وجل: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:32 - 33]. فالنور الذي أنزله الله هو هذا القرآن العظيم، قال عز وجل: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [المائدة:15]، فهو الذي أوحاه إلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وأوحى إليه مثله معه، فكان النبي صلى الله عليه وسلم هو السراج المنير، كما قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب:45 - 46]، وإنما كانت الحكمة التي أوتيها النبي صلى الله عليه وسلم منبعها من الكتاب، وحقيقتها تفصيل الكتاب وليست خارجة عنه، قال عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]. فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يأتي بشيء من عنده، وإنما هو يبين حقيقة الكتاب، ويبين تطبيقه العملي، وكان الكفار لا يقبلون ذلك، وكانوا يعارضونه ويريدون أن يطفئوا هذا النور، وأنى لهم أن يطفئوا نور الله سبحانه وتعالى؟! وهكذا ترى أمة الإسلام عبر العصور، فقد حاول أعداؤها أن يصرفوها عن القرآن العظيم، وأن يبعدوا كتاب الله عز وجل عن حياة الناس، ومع ذلك فشلت المحاولات، وإن هلك في أثناء ذلك من هلك حين قبل الباطل وابتعد عن الكتاب، سواء ابتعد عنه بالكلية، كمن كفر به وحاربه، أو لم يبتعد عنه بالكلية، ولقد مرت ببعض بلاد المسلمين أوقات كان وجود القرآن فيها جريمة عظمى، وكان وجود القرآن لدى إنسان في بيته معناه أن يسجن حتى يموت أو ينفى في مجاهل البلاد التي يهلك فيها من الصحاري والجليد وغير ذلك، ولقد مضت مدة من الزمن كان الناس لا يتعلمون فيها القرآن إلا سراً، وأدرك من ذلك بعض من يعيش اليوم، فقد كان القرآن في كثير من البلاد تهمة عقوبتها الإعدام، ومع ذلك إذا بهؤلاء يذهب الله عز وجل بهم ويدمرهم تدميراً ويبقى القرآن العظيم. وهكذا لو تأملت تاريخ المسلمين في كثير من محنهم لعلمت كيف كانت المحاولات بصرف الناس عن كتاب الله، ولإطفاء هذا النور الذي لا يطفأ بإذن الله عز وجل، ولذا كان تمسك المسلمين بالكتاب حفظاً وتلاوة واتباعاً وعملاً ودعوة هو سبب نصرهم، فبقدر تمسكهم بهذا الكتاب بقدر ما ينزل الله عليهم من النصر، وبقدر ما ينزل على أعدائهم من العذاب، ويلقي في قلوبهم الرعب والزلزلة ويهزمهم سبحانه وتعالى، فحاجتنا هي أن نتمسك بالكتاب الذي أنزله الله، وحاجتنا هي أن نتعلم آياته آية آية، ونمرها على القلوب ونتدبر ما فيها ونعمل بها، ونكثر استعمالها، لا أننا نغيب القرآن عن حياة الناس أو عن الدعوة أو عن البيان. فمثلاً: أنت إذا قلت للناس: هذا الشيء حرام، قالوا: ليس بحرام، وإذا قلت لهم: هذا الشيء منهي عنه، وهذا الأمر لا يجوز، قالوا: بل يجوز، وليس بمنهي عنه، أما لو كنت على بينة من أمر الله عز وجل، وقلت لهم: قال الله كذا، فسوف تجد أمراً آخر، وسوف تجد تغيراً في استقبال الناس لهذه الدعوة، ولذا كان من سمات منهج السلف رضوان الله تبارك وتعالى عليهم كثرة الاستدلال بالآيات القرآنية كما أنهم كانوا يكثرون الاستدلال بالأحاديث النبوية، وهي ليست بخارجة عن كتاب الله، بل هي مثله في التحليل والتحريم، وكذا بعده في البيان والإرشاد، وهي تتضمن معنى النور الذي فيه، وتبينه وتوضحه للناس، كما قال عز وجل: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44]. فنحن نحتاج إلى أن نتلو آيات الله في كل المواطن، وبدلاً من أن تقول رأياً أو تعضده بقول فلان أو تقول: العالم الفلاني أفتى بكذا، هذا الأمر ليس بالقوي في النفوس، وسوف يُعارض بأيسر طريق، أما

التوسل إلى الله عز وجل بإجرائه السحاب

التوسل إلى الله عز وجل بإجرائه السحاب الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. أما بعد: فقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، سريع الحساب اهزمهم وزلزلهم وانصرنا عليهم). فقوله: (مجري السحاب) فيه توسل إلى الله عز وجل بشئون فعله عز وجل وتدبيره لأمر السماوات، فالله عز وجل يجري السحاب الذي لا يستطيع أحد من الناس أن يدعي أنه هو الذي يصرفه في الناس أو بينهم، ويصرف ما يحتويه من أرزاق للعباد، أو ما يحتويه من عقوبات؛ فهذا السحاب قد يكون فيه العذاب الأليم، كما قال قوم عاد عندما رأوا السحاب: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف:24]، قال عز وجل: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} [الأحقاف:24 - 25]. فتأمل هذا السحاب الذي لا يكاد ينظر إليه أحد في زحمة الحياة، وتأمل كيف يُصرف وُيجرى، وكيف تتغير أشكاله! وكيف يُساق من أبعد البلاد في لحظات بأمر الله عز وجل، وتتغير أحوال الناس على ظهر الأرض بناءً عليه، وكيف أنه لو أنزل الله عز وجل جبال البرد من السماء الذي تتضمنها السحاب على الناس لهلكوا جميعاً! فكيف ستفعل فيهم العواصف الترابية والعواصف الثلجية! وكيف ستفعل بهم الأعاصير، فلو أذن الله عز وجل لها أن تخرج هل يملك أحد دفعها من البشر على ضعفهم وعجزهم وعلى تكبرهم وعنادهم؟ فهذه ريح عاد قال الله سبحانه وتعالى عنها: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا} [فصلت:16]، وقال: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} [الحاقة:6 - 8]. ولو حرم الله عز وجل العباد من الرزق الذي ينزله سبحانه وتعالى من السحاب فكيف ستجري الأنهار؟! وكيف ستمتلئ العيون؟! وكيف ستزرع الحقول وتسقى الأشجار؟! سوف تمتنع حياة البشر، فالله عز وجل له ملك السماوات والأرض، وما أجمل وما أحسن وما أعظم أن تتوسل إلى الله بشهود ملكه للسماوات التي لا ينازعه فيها أحد، ولكن أكثر الناس في غفلة؛ وذلك أنهم ينشغلون بالملك البائد في الأرض ويظنون أن الملك للناس، ولو تأملوا لعلموا أن السحاب يجري كل يوم وكل لحظة بأمر الله، فلا يستطيع أحد أن يجريه، ولا أن يصرفه في الاتجاهات المختلفة، ولا أن يحمله بشيء يريده أو يمنعه من شيء لا يريده، ولو تأملوا ذلك لأيقنوا أن البشر لا يملكون شيئاً ولا يقدرون على شيء، وأن الله سبحانه هو رب السماوات والأرض، وأنه لو شاء سبحانه أن يسقط السماء على الأرض لأهلك الناس، ولو شاء أن يقذفهم بكسف من السماء لدمرهم تدميراً، كما قال عز وجل عن قوم شعيب: {فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء:189]. فالله عز وجل على كل شيء قدير، وهو مجري السحاب سبحانه وتعالى الذي يدبر الأمر كله، وهو الذي إليه يرجع الأمر كله، وعلى المؤمن أن يتوكل عليه. واستحضار معنى الربوبية في إجراء السحاب يجعل العبد يستحضر معاني التوحيد مجتمعة في الألوهية أولاً، وفي إنزال الكتاب منه سبحانه وتعالى ثانياً، وفي ربوبيته سبحانه التي يدل عليها إجراؤه للسحاب سبحانه وتعالى؛ وهذا يجعل المؤمن يتعلق بالله سبحانه وتعالى.

التوسل إلى الله عز وجل بهزيمته للأحزاب

التوسل إلى الله عز وجل بهزيمته للأحزاب وقوله: (هازم الأحزاب)، هذا توسل ثالث أو رابع إذا عددنا لفظ (اللهم) توسلاً إلى الله عز وجل بألوهيته، ففيه التوسل إلى الله بأنه هازم الأحزاب الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه عز وجل قد هزم كل الأحزاب الذين تحزبوا على الأنبياء ليأخذوا الأنبياء، وليوقفوا دعوتهم، كما قال سبحانه وتعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [غافر:5]. فالجزاء من جنس العمل، وذلك أنهم أرادوا أخذ الرسل، وإيقاف دعوتهم وإهلاكهم، وأرادوا أن يضمحل هذا الدين، واستعملوا في ذلك وسائل البطش ووسائل الجدال بالباطل ليدحضوا به الحق، ووسائل الإعلام الفاسد بالإضافة إلى القوة والبأس، فاستعملوا ذلك حتى أوشكوا أن يأخذوا الرسل، وأن يقتلوهم، قال عز وجل: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]. ويكادون يصلون إلى غايتهم التي يظنون أنهم واصلون إليها، وفي اللحظة الأخيرة تتغير الأمور، ويظل الأمر يسير رويداً رويداً كما سار فرعون رويداً رويداً خلف موسى ومن معه، إلى أن تراءى الجمعان، وكما دبر إبليس مع المشركين خطة قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبيل الهجرة مباشرة، وأحاطوا بالبيت فعلاً، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم يتلو قول الله عز وجل: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [يس:9]، فكما لم تبصر قلوبهم الحق الذي بعث به، كذلك لم تبصر أبصارهم جسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو خارج وهم يستعدون للفتك به، قال عز وجل: {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [غافر:5]. فالله عز وجل يأخذ من أراد أخذ ما جاء به الأنبياء؛ فإنه سبحانه وتعالى هازم الأحزاب. ولنتأمل هذه الغزوة العظيمة التي جعل الله فيها من آياته ما يتوسل به المؤمنون في مواطن مختلفة من دعائهم، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من استعمال ذكر هزيمة الأحزاب، ويتوسل إلى الله بذلك، كما كان يقول في هذا الدعاء: (هازم الأحزاب)، وكان صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه على الصفا والمروة: (لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده)، فهو سبحانه وتعالى لم يهزمهم من خلال المؤمنين، وإنما هزمهم وحده بآياته سبحانه وتعالى. فكل من تحزب على الأنبياء وعلى دعوة الحق فهو من الأحزاب، كما قال سبحانه وتعالى عن قوم ثمود وفرعون وعاد ولوط: {أُوْلَئِكَ الأَحْزَابُ * إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ} [ص:13 - 14]، فالله سبحانه وتعالى جعل من تحزبوا ضد الإسلام واجتمعوا عليه رغم تفرقهم في غير ذلك مهزومين بقدرته عز وجل، فغزوة الأحزاب غزوة مليئة بآيات الله سبحانه، قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا * وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا * وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا * وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا * قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا * قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا * قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا * يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا * لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا * وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا * مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا * وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الأحزاب:9 - 27]. فاللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، سريع الحساب، اهزم أعداء الإسلام وزلزلهم وانصرنا عليهم. اللهم انصرنا على القوم المفسدين، ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، ونجنا برحمتك من القوم الكافرين. ربنا اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم نج المستضعفين من المسلمين في كل مكان. اللهم فرج كرب المكروبين، وفك أسر المأسورين، وارفع الظلم عن المظلومين. اللهم انصر الدعاة إليك والمجاهدين في سبيلك في كل مكان. اللهم ألف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، وانصرنا على عدوك وعدونا. اللهم اهدنا سبل السلام، وأخرجنا من الظلمات إلى النور، واجعلنا هداة مهتدين. ربنا أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، واهدنا ويسر الهدى لنا، وانصرنا على من بغوا علينا. اللهم اجعلنا لك ذكارين، لك شكارين، لك مطواعين، لك أوابين، لك مخبتين، إليك أواهين، وتقبل توبتنا، واغسل خبثنا، وثبت حجتنا، وأجب دعوتنا، واهد قلوبنا، وسدد ألسنتنا، وسل سخائم صدورنا. اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا. اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الرحمة

الرحمة الرحمة في قلوب الخلائق عطية من الله الرحيم، ولولاها لفسدت حياة الناس؛ لأن كل إنسان يريد أن يكون وحده ذا ملك ومال وما إلى ذلك، ولولا الرحمة لما استعدت الدجاجة الضعيفة للموت دون صغارها! ولذلك من لا يرحم الناس، فلا يحرص على هدايتهم، وجلب المنافع لهم، يكون بغيضاً عندهم، ولو كان من أقواهم بدناً، وأكثرهم مالاً، وأفصحهم لساناً.

تحقيق العبودية

تحقيق العبودية الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم. أما بعد: قال ابن القيم رحمه الله: غنى القلب: ما يناسبه من تحققه بالعبودية المحضة، التي هي أعظم خلعة تخلع عليه، وأعظم هبة توهب له، وأعظم عطية تعطى للعبد: وهي أن يتحقق قلبه بالعبودية المحضة لله عز وجل، فيستغني حينئذٍ بما توجبه له هذه العبودية من المعرفة الخاصة -أي: بالله عز وجل- عن علمه بالله سبحانه وتعالى وأسمائه وصفاته، والمحبة الناصحة الخالصة: أن يكون محباً صادق المحبة، ناصحاً في محبته، مخلصاً لها من كل شوائبها، يحب الله عز وجل من كل قلبه. وفي حديث ضعيف: أن النبي صلى الله عليه وسلم أول ما أتى المدينة قال: (أحبوا الله من كل قلوبكم)، وهذا المعنى ثابت في التوراة والإنجيل والقرآن، فأول وصية في التوراة، وأول وصية قالها المسيح عليه السلام: الرب إلهنا، رب واحد، رب إبراهيم وإسحاق ويعقوب، أن تحب الرب إلهك من كل عقلك وقلبك وفكرك. يقول ابن القيم: تستغني حينئذٍ بما توجبه هذه العبودية من المعرفة الخاصة، والمحبة الناصحة الخالصة، وبما يحصل من آثار الصفات المقدسة الإلهية، فإذا استحضر -مثلاً- اسمه سبحانه وتعالى السميع، وصفة السمع، واستحضر استماع الأصوات كلها له عز وجل كصوت واحد وأنه يسمعها جميعها من أدناها إلى أقصاها على اختلاف اللغات، وتباين الألسنة، وتفاوت الحاجات، وهو سبحانه وتعالى يسمع ما خفي منها وما ظهر، وما أسر وما أعلن فإن ذلك يجعله معظماً لربه سبحانه وتعالى، ويجعله مراقباً له في كلامه، ويلتفت إلى كل كلمة يقولها؛ لأنه يستحضر أن الله عز وجل يسمعها، ويستحضر كذلك أنه سبحانه وتعالى سميع الدعاء، كما قال إبراهيم عليه السلام منكراً على قومه عبادة من لا يسمع الدعاء: {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ} [الشعراء:72]. فيستحضر في نفسه كم مرة دعا الله عز وجل فسمع الله دعاءه، واستجاب له، وفرج كربه، وقضى حاجته؟ ويوقن بأنه إن لم ير له إجابة فهو سبحانه وتعالى إما قد صرف عنه من السوء مثلها، وإما قد ادخر له عنده عز وجل من الفضل ما يتمنى يوم القيامة أنه لم يكن استجيب له شيء من الدعاء في الدنيا؛ لما يرى من الفضل، وهكذا في كل الصفات يحصل له من آثار شهود ملكوت السماوات والأرض، فإن الله عز وجل هو المليك المقتدر، فيشهد القدرة والعزة، وأنه سبحانه وتعالى هو الذي أقدر العباد على ما بأيديهم، وأنهم لا يقدرون على شيء، وأنه سبحانه وتعالى على كل شيء قدير، فهو قدير على ذوات العباد وقلوبهم وأحوالهم وأفعالهم الاضطرارية والاختيارية، وهو سبحانه وتعالى قادر على الإحياء والإماتة، والإسعاد والإشقاء، وتفريج الكربات، فهو سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء.

تأملات في آثار صفة الرحمة

تأملات في آثار صفة الرحمة ومن يتدبر آثار الصفات في الكون، ويتأمل صفة الرحمة، وأن رحمته سبحانه وتعالى قد وسعت كل شيء، ويتدبر الرحمة المخلوقة التي يرى آثارها في هذا الوجود، فمثلاً: يرى رحمة الدابة التي ترفع حافرها عن ولدها، ويتدبر رحمة الأم لأولادها، فمثلاً: تجد البقرة في حنان عجيب على ولدها بعد ولادتها، وتأمل كل أم آخذة ابنها تحضنه وتحميه، بل ومستعدة أن تعمل كل ما تستطيع عمله لأجل وليدها، وتأمل كيف أن كل أب أيضاً عنده رحمة عجيبة بأبنائه، ثم تخيل أن كل الرحمات هذه التي بين الوحش والحيوانات الأليفة وغير الأليفة، وبين البشر منذ خلق آدم إلى يوم القيامة، وما سوف يأتي من رحمة في هذه الأرض كلها، كل ذلك أجزاء من الرحمة الواحدة التي أنزلها الله!! فالله عز وجل جعل هذه الرحمة المخلوقة بين الخلق في هذه الحياة ليتراحموا بها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله جعل الرحمة مائة جزء، فأنزل منها جزءاً، فبها تتراحم الخلائق، حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه، وادخر تسعة وتسعين ليوم القيامة)، فكم من الرحمة مدخرةً! بل كيف بالرحمة التي هي صفته سبحانه وتعالى، أما هذه الرحمة المخلوقة فهي من آثار اسمه الرحمن، وتصور الرحمة الخاصة بعباده المؤمنين، وكيف أنه رحمهم حتى أخذ بقلوبهم إليه، وجعلهم يحبونه، وجعل في قلوبهم من المعرفة والأنس به والشوق إليه ما لا يدركون معه فضلاً أعلى من ذلك؟ وانظر إلى رحمة الله عز وجل بإرسال الرسل، وما أنعم به عليهم من الصفات الطيبة، وجعلهم رحمة للعالمين. وتأمل في قول جبريل عليه السلام لمريم وهو يتكلم عن عيسى عليه السلام كما حكى الله سبحانه وتعالى ذلك بقوله: {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} [مريم:21]، فالمسيح عليه السلام رحمة عظيمة جداً رحم الله عز وجل بها أهل زمانه من القساوة التي كانوا فيها، ومن الغلظة والغضب الذي حل على بني إسرائيل، وعدم استجابتهم ليحيى عليه السلام وقتلهم إياه، فهم الذين تسببوا في قتل يحيى -كما يذكرون في قصصهم- من أجل امرأة زانية. وتأمل كيف أن سيدنا يحيى عليه السلام صاحب الحنان والتقوى والنقاء يلقى في السجن مدة طويلة -وهو العبد الحصور التقي البر- من أجل امرأة بغي، ويقتل من أجلها بعد ذلك! فكان سيدنا عيسى عليه السلام رحمة للعالمين، ورحمة للأرض مدة طويلة جداً، وقروناً متعددة، ولم يزل عليه السلام رحمة؛ وذلك بسبب بركة دعوته إلى الإسلام عندما ينزل في آخر الزمان فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويخلص الأرض من شر المسيح الدجال، ويخلص الأرض من شر أتباعه اليهود، ولا يقبل إلا الإسلام أو السيف، فمن لم يسلم في زمنه قتل، ولا يقبل الجزية، وترد البركة إلى الأرض، ويهلك الله بدعوته يأجوج ومأجوج، ويقال للأرض: ردي بركتك، وأنبتي ثمرتك، وهذا الخير العميم يكون بتطبيقه لشرع الله سبحانه وتعالى في زمنه.

رحمة الله للمسلم والكافر بإرسال رسول الله صلى الله عليه وسلم

رحمة الله للمسلم والكافر بإرسال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأمل رحمة الله عز وجل بأهل الأرض بإرسال الرسول صلى الله عليه وسلم الذي قال الله عز وجل فيه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، فهو صلى الله عليه وسلم رحمة للمؤمن وللكافر، فهو رحمة للمؤمن لأنه يجد ما لا يمكن أن يوصف بالقرب من الله عز وجل، والعبودية له سبحانه وتعالى، وهذه الشريعة العظيمة هي أعظم نعمة ينعم بها على مخلوق، ورحمة للكافر لأن الكفرة يتعذبون بمخالفتهم الشرع، ولذلك فهم يشقون أعظم شقاء في دنياهم لعدم اختيارهم الإسلام، لكنهم عاشوا في ظله في عدالة وإنصاف، وانظر إلى البشر يوم أن تسلط عليهم أهل الإسلام، وكيف حصل لهم الخير العميم؛ ولهذا أسلم أكثر هؤلاء الكفرة، ودخلوا في دين الله أفواجاً، ولم تقهر هذه الأمم التي غلبت على الإسلام، وإنما كان هذا الدين زوالاً للحجب عنها، ولذلك فقد أسلمت عامة هذه الشعوب، وظلت مئات السنين مسلمة، فلما كان يومنا هذا بدأ الكفار يزعزعونهم عن الإسلام بكل وسيلة، حتى إنه يقتل الملايين منهم والناس لا تتزعزع عن الإسلام ولله الحمد إلا ما ندر، فالذي حصل مثلاً في الدول الشيوعية من مذابح بالملايين قتل فيها المسلمون وبعد كل هذا نجد المسلمين اليوم في هذه الدول ما زالوا على دينهم آية من آيات الله، ولذا نقول: إن الرسول رحمة للعالم كله.

أمثلة لجرائم الغرب في حق البشرية

أمثلة لجرائم الغرب في حق البشرية ولما تسلط الكفرة من اليهود والنصارى والمشركين على البشر قتلوا الكثير منهم، ودمروا الأرض وأبادوا خيراتها، ففي الحرب العالمية الثانية قتل خمسة وخمسون مليون إنسان، وهذه قضية فوق الطاقة، وفوق التخيل، ألا ترى أن المسلمين في كل حروبهم التي خاضوها عبر التاريخ لم يبلغ عدد الذين قتلوا من الكفرة في كل الفتوحات العظيمة التي سببت الخير للأرض إلا بضعة مئات من الألوف عبر كل العصور، فأكثر المعارك قتل فيها قرابة ثلاثين ألف كافر فيما فر الباقي واكتب بعد ذلك المواقع التي هي أقل من ذلك، بضعة مئات من الألوف لا أكثر، فلما سيطر الغرب قتل في خمس سنين فقط خمسة وخمسون مليون إنسان، ففي يوم واحد قتلوا مئات من الألوف في هيروشيما ونجازاكي، وكل هذا حتى يكون الملك للأمريكان، والعياذ بالله. وقد كان يراد قبل هذا الملك لـ هتلر، ثم للأمريكان، والروس لما أرادوا أن يعملوا الثورة البلشفية قتلوا ملايين البشر في كل البلدان التي أخذوها الإسلامية منها والآسيوية والأوربية، سبحانك ربي! فهذا شقاء عجيب! وانظروا إلى اليهود اليوم فبسيطرتهم على العالم سببوا شقاءً لشعوب الأرض إلى حدٍ لا يتصور، هذا حتى تعلم أن ربنا عز وجل جعل محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، فيجب أن تتأمل آثار هذه الرحمة، وتستشعر اسم الله عز وجل الرحيم. وتأمل أيضاً صفة الرحمة الخاصة بالخلق، فلا تكاد تذكر بجوار صفة الرحمن سبحانه، وما يعطي خلقه من رزق ومطر ونبات وغيرها من آثار اسمه الرحمن سبحانه وتعالى. وكذا تأمل اسم الرحمن في ضوء قوله سبحانه: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن:1 - 4] وفكر معي، فلو أننا لا نستطيع الكلام والتعبير عما بداخلنا فكيف سيكون حالنا؟ هل كنا سنعرف كيف نقضي مصالحنا؟ أبداً، وانظروا إلى مركز عيوب الكلام في المستشفى الجامعي حتى تعرفوا حجم الصدمة التي نزلت بالأمهات والآباء الذين أولادهم لا يستطيعون الكلام وكم يقاسون في سبيل ذلك بلاءً عظيماً، فلنوقن بأن آباءنا هم من علمونا الكلام، نعم فقد كانوا يتكلمون أمامنا لكن كل الناس البكم أيضاً أمهاتهم وآباؤهم يتكلمون أمامهم، لكننا الذين منّ علينا ربنا بالقدرة على الكلام، فهل نستطيع أن نغير {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن:4]، من الرحمة العامة لكل الخلق إلى رحمة الله عز وجل الخاصة ببعض عباده بتعليم القرآن أو ما تيسر منه؟ لا؛ لأن انتشار القرآن رحمة للخلق جميعاً مؤمنهم وكافرهم، لذا قال الله تعالى: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ} [الرحمن:1 - 2]، فاسم الرحمن دال على الرحمة العامة، واسم الرحيم دال على الرحمة الخاصة الدينية المتعلقة بالرحمة الأخروية، فكل ما يحصل للقلب جراء تدبره آثار الصفات، وما تقتضيه من الأحكام والعبوديات لكل صفة على الانفراد، ومجموعها قائمة بالذات الإلهية، يساعد على استغناء هذا القلب.

القلب الحي والقلب الميت

القلب الحي والقلب الميت قال الله سبحانه: {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد:17]، فقد شبه الله سبحانه وتعالى الوحي النازل من عنده بالماء النازل على الأودية فيتسع كل وادٍ على قدر حجمه من المطر النازل، فالقلب كهذه الأودية، والماء النازل من السماء كالوحي الداخل إلى القلوب، فالقلوب الكبيرة بكبرها والصغيرة بصغرها، ومعنى بقدرها؟ يعني: أن كل واحد له نصيب بحسب حجمه، فهناك قلوب كبيرة امتلأت إيماناً وعلماً وحكمة، وهناك قلوب صغيرة لا تتسع لشيء من ذلك، وهناك أراضٍ هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً، فلا تنتفع بالقرآن العظيم، فإذا استغنى القلب بهذا الغنى الذي هو غاية فقره إلى مولاه استغنت النفس غنىً يناسبها، وذهبت عنها البرودة التي توجب ثقلها وكسلها، فتصبح باردة ضعيفة الانفعال، أو عديمة الانفعال، كشيء جاف ناشف متثلج، وهذا مثال جيد يعني: أن الناس الذين لا يتحركون ولا ينفعلون من أجل الإسلام، ولا من أجل نصرته، ولا العمل له، فهؤلاء يعيشون في ثلاجة غرق الدنيا، فهم في برودة لعدم الحركة، تائهون في ظلمات الكسل، وعدم الحركة توجب العجز المذموم، وتوجب الثقل، وتوجب الإخلاد إلى الأرض، وتذهب الطمأنينة عن النفس، فلا توفر لها حرارة توجب حركتها وخفتها في الأوامر والنواهي، أي: في اجتناب الزواجر، وفي فعل الأوامر، فالنفس التي هي عديمة الحركة دائماً تطلب صحبة عباد الشهوات، وصاحبها يفكر دوماً في كسب المال، أو مضاجعة الشهوات الأخرى، كالرياسة والملك والنساء، فلا يفكر أن يصحب النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ولا يستحضر صحبة الملأ الأعلى والملائكة وصفاتهم الجميلة، وكمالهم الذي جعله ربنا فيهم ليكونوا قدوة للبشر. ولو سمعت سيرة من تقدم لارتحت وتنعمت في الدنيا إن عملت بعملهم، فكيف وقد صحبهم الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الأفضل منهم جميعاً، ولذا كان يقول: (اللهم في الرفيق الأعلى)، فقد صارت لهذه النفس المؤمنة حرارة توجب حركتها وخفتها في الأوامر وطلبها الرفيق الأعلى، أما النفس التي هي عديمة الحركة فقد صارت برودتها في شهواتها وحظوظها ورعوناتها، بعد أن كانت برودتها في الأوامر الشرعية، فهي لا تتحرك، فليس الشرع هو الدافع والمحرك الحقيقي لها، وإنما الدافع لحركتها هو الشهوات؛ لأنها بحاجةٍ إليها كحاجة السيارة إلى البنزين، فهذه النفس مقصودها من حركتها قضاء حاجتها من المطعم والمشرب ونحوه لكي تستمر في الحياة؛ لأنها أصلاً لا تعيش إلا لأجلها في نظرها، فلذا صارت البرودة في الشهوات، وفي الحظوظ النفسية التي هي الكلام وسط الناس بالرعونة التي تأتي بالقرارات الغبية، فمرة مشرقة، ومرة مغربة لا يعرف الصواب منها من الخطأ، ولو أنه يفكر ويتدبر في الذي دعاه لاختيار كذا، وهل أريدها لنفسي أم لربي؟ فأكثر الناس يتخذون قراراتهم بدون تركيز، وحياتهم كلها على هذا المنوال، وفي الحقيقة فكثير منا في حياته على هذا النحو، فلا نفكر في نفوسنا ولا نفتش الدوافع التي جعلتنا نفعل هذا؟ فتتخذ قرارات رعناء، فتكون سبباً مؤثراً في رعونة النفس وبرودتها، وبهذه القرارات أيضاً تكون النفس حاملة لليبوسة والجفاف والقسوة والغلظة المضادة للينها وسرعة انفعالها لأجل دينها، وقبولها له، فإنها إذا كانت يابسة قاسية كانت بطيئة الانفعال، لا تتأثر، وليس عندها قابلية للتأثر والانفعال لأوامر الله وللمواعظ التي توعظ بها، والقرآن يعظنا فهل نتأثر به أم لا؟ وعذرنا القسوة والغفلة.

قسوة القلوب

قسوة القلوب قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [المائدة:13]، فمن ضمن آثار القسوة واليبوسة الطارئةِ على القلوب: تحريف الكلم عن مواضعه، وهل أنه يحرف الدين كما يريد؟ لا، إذاً: فهل المعنى أن يأخذ مصحفاً ويحذف آيةً ويضع غيرها؟ لا، وإنما يقول: هذا من الدين ولا يكون جاهلاً، كالطواف حول القبور، والموالد، بل إن عندهم من الدين أن تسمع كلاماً ولو كان باطلاً مخالفاً لشرع الله، فالدين عندهم أننا نحب اليهود والنصارى، وهم يذبحون إخواننا في كل مكان، فهل هذا هو الدين والعياذ بالله؟! أليس يوم القيامة يعادي الخليل خليله، والصديق صديقه بسبب إجرامهم؟ يقول الله تعالى مصوراً حالهم يومئذ: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67]، فهذا حالهم والعياذ بالله. فنقول: ليس الدين أن يستدل مستدل بالآية على أن فلاناً أو علاناً يكون حبيبه يوم القيامة، وآخر يقول: فلان صديقي يوم القيامة وهو من طواغيت الكفار، فهذا كله من تحريف الكلم عن مواضعه. إن القسوة تحصل للإنسان حين يسمع آيات الله عز وجل ثم يصر مستكبراً كأن لم يسمعها. فنقول: إن سرعة الانفعال والقبول للحق بأن يقبل ويتأثر، تجد إنساناً تنصحه مرةً فيتعظ ويتأثر، وآخر تنصحه عدة مرات فلا يتأثر لقسوة قلبه، فتصبح عنده برودة، وعدم حركة في الأوامر والنواهي، ولا يقبل النصيحة لقسوة وغلظة في قلبه، ومثل هذا من تجده قاسٍ على المؤمنين لا يرحمهم، وهذا نتيجة لقسوة القلب، والعياذ بالله. ولو أن إنساناً يعذب حيواناً لأصبحت عنده قسوة قلب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (دخلت امرأة النار في هرة حبستها فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض)، فالله عز وجل يكره القلب القاسي، ويعذب أصحاب القلوب القاسية، فكيف بمن لا يعبأ بآلام ملايين المسلمين؟!

أمثلة للرحمة وآثار القسوة

أمثلة للرحمة وآثار القسوة وقد علم الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة الرحمة في امرأة كافرة! جعلت تبكي وتبحث عن صبيٍ لها حتى وجدته فألصقته ببطنها وألقمته ثديها، فقال: (أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ فقالوا: لا، قال: لله أرحم بعباده من هذه بولدها). وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الطائر التي فصلت عن ولدها، فقال: (من فجع هذه بولدها؟! ردوا عليها ولدها)، ولذا حرم صلى الله عليه وسلم التفرقة في بيع الإماء وأولادهن حتى لو كانوا كفرة؛ لأن هناك رحمة عامة، فكل هذه المشاهد هي ثمرات الرقة والرفق واللين لزوال القسوة، ولذلك لو أن بعض الناس ينتسبون للدين وكل همهم الطعن في الآخرين، ويصبح هذا هو الالتزام عندهم، لكانوا بعيدين عن الدين، فليست هذه هي الطاعة لربنا، تحت اسم محاربة أهل البدع من غير مراعاة لخطأ، ولا لتأويل، ولا لجهل، ولا لأي عذرٍ، كالخوارج، فإنك تجد عندهم قسوة عجيبة، فالغلاة في التكفير تجد عندهم قسوة ليست بقليلة، وكل نقطة تكفير فأصلها القسوة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم)، يعني بذلك: الخوارج. فمناهج الانحراف كلها التي ليس فيها رقة على المؤمنين، ولا رفق بهم، ولا التماس الأعذار لهم ما أمكن، تشكل حالة من علامات القسوة.

التكفير والتبديع وضوابط كل منهما

التكفير والتبديع وضوابط كلٍ منهما والتحذير من المنكر والبدع واجب، أولاً: لابد من وجود الموازنة بضوابط شرعية منها: التماس الأعذار في التعييب، فهناك فرق بين أن أقول فلان الفلاني مبتدع، وبين قولي: كلامه بدعة، أما صاحبها فنقول: هل استوفت الشروط فيه أم لا؟ وهل أقيمت عليه الحجة؟ هل وصله العلم؟ هل عنده خطأ؟ هل عنده تأويل؟ هل عنده إقرار؟ فننظر فيه من حيث شروط وموانع التبديع والتكفير. والقضية هذه مذكورة في كلام السلف رضوان الله عليهم، من حيث الطعن في الآخرين بما فيهم أهل البدع، وسنجد الكلام كثير جداً في تعليم الناس الكتاب والسنة، وانظر المنقول عن الأئمة الأربعة، فالإمام أحمد من أئمة الجرح والتعديل، فهل الجرح والتعديل لم ينقل عنه أم أن مذهبه كامل وكذلك العقيدة الصحيحة؟ كل هذا نقل عنه، حتى لا نأخذ طرفاً من هديهم ونترك بقيته. فالموازنة مهمة جداً، فمن كان عنده خير وشر، فإننا نكره الشر الذي عنده، ونحب الخير الذي فيه، فلا ننظر له من وجه واحد، فهذه المناهج التي فيها رعونة في التكفير والتفسيق والتبديع والتضليل، وشغل الناس بهذه الأمور دون غيرها، وعدم تحقيق التوازن في العطاء، علامة من علامات القسوة الشديدة، فإن القلوب إذا كانت يابسة قاسية كانت بطيئة الانفعال، بعيدة القبول، لا تكاد تنقاد.

حياة القلوب بسقايتها من معين الوحي

حياة القلوب بسقايتها من معين الوحي فإذا سقيت القلوب بماء الحياة الذي أنزله الله عز وجل على قلوب أنبيائه، وجعلها قراراً ومعيناً له؛ لأن قلوب الأنبياء مستقر فيها النور، ومستقر فيها ماء الحياة: وهو الوحي، قال الله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى:52]، فجعلها معيناً ينبع منها الخير، فقلوب الأنبياء مدرسة لمن أراد أن يأخذ منها خيراً وحكمةً وهدياً، فاقترب منهم قليلاً حتى تنال منها معاني الإيمان التي فيها، ففاض منها -أي: من هذه العيون التي هي قلوب الأنبياء- على قلوب أتباعهم فأنبتت من كل زوج كريم، فانقادت حينئذ قلوب الأولياء أتباع الأنبياء بزمام المحبة إلى مولاها الحق، أو انقادت النفس بزمام المحبة إلى مولاها الحق، مؤدية لحقوقه، قائمة بأوامره، راضية عنه مرضية له؛ لكمال طمأنينتها، أو مرضية له بكمال طمأنينتها قال سبحانه: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30].

غنى القلوب باعتمادها على ربها

غنى القلوب باعتمادها على ربها قال ابن القيم: فقوله أي الإمام الهروي في الدرجة الأولى وهي غنى القلب: إن سلامته من السبب أي: من الفقر إلى السبب وشهوده، والاعتماد عليه، والركون إليه، والثقة به. فمثلاً لو أن أحدهم كان عنده رصيد في البنك، فصار مطمئناً لذلك ومعتمداً على ماله الذي في البنك فهل سيكون في نفس الدرجة من الطمأنينة إن لم تتوفر له هذه الأسباب؟ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدوا خماصاً وتروح بطاناً)، فلماذا اختار الطيور؟ فهذا المثال مهم جداً؛ لأن الطيور لا تدخر أبداً بعكس النمل وغيره، لكن الطيور تنام قريرة العين كل ليلة، وليس عندها ثلاجة أو مخزن تخزن فيه شيئاً من الطعام، ومع ذلك تنام مطمئنة تمام الطمأنينة. تخيل أنت لو أن عندك في البيت ثلاجة فارغة، ولا يوجد لديك مخزون رز أو سكر، فهل تستطيع النوم وأنت مرتاح هكذا، ولا تعلم ماذا في الغد؟ فالطيور ليست مخبئة شيئاً لغدٍ، ومع ذلك فستصحو الصبح، وستسبح الله، وستنطلق إلى الذي يرزقها كل يوم، فالسلامة ليست موضوعاً سهلاً والله على صغرها، فلماذا يبقى المرء أحياناً مطمئناً؟ لأنه ترك لأولاده شيئاً مثل كل واحد يريد أن يطمئن على مستقبل أولاده، ونحن نقول: ليس الادخار حراماً، لكن المشكلة كلها في أننا لا نسلم من الاعتماد على الأسباب حين نأخذ بها؟ فمن كان معتمداً على سبب غناه، واثقاً به، لم يطلق عليه اسم الغني؛ لأنه فقير إلى الوسائط، بل لا يسمى صاحبه غنياً إلا إذا سلم من علة الاعتماد على السبب واعتمد على المسبب استغناء بعد الوقوف على رحمته وحكمته، وبعد مشاهدة أنه الرحمن الرحيم، وتصرفه وحسن تدبيره سبحانه وتعالى، فبذلك يصير صاحبه غنياً بتدبير الله سبحانه، فمن كملت له السلامة من علة الأسباب والمنازعة للحكم بالاستسلام له، والمسالمة أي: بالانقياد لحكمه؛ حصل الغنى لقلبه، فإذا وقف العبد على حسن تدبيره ورحمته وحكمته واستغنى القلب به، لم يتم له الاستغناء بمجرد هذا الوقوف، وإن لم تنضم إليه المسالمة للحكم: وهي الانقياد له، فإن المنازعة للحكم إلى حكم آخر دليل على وجود رعونة الاختيار، يعني: أنك الآن ما فوضت وتركت الأمور لربنا، بل تقول: أنا سأدبر لنفسي! وأختار هذا، ولا اختار هذا، أنا أريد هذه ولا أريد هذه، أريدها كذا ولا أريدها كذا، هذا لا بأس به في الأمور الدنيوية، لكن المفروض في الأمر الشرعي أن تريد ما شرعه ربنا سبحانه وتعالى، كما قال سبحانه وتعالى: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} [غافر:44 - 45]، فرعونة الاختيار أن الإنسان يختار لنفسه أشياء عميقة جداً، فيتخير من أوامر الله عز وجل ما يوافق هواه، ويقول: هذا الذي يريده ربنا، ويتشكك في دين الله قائلاً: لماذا الله يريد هذه ولا يريد هذه؟ فطالما أنه يتضايق من أمر ربنا وقدره فسيكون الله قد أوجب عليه أن يضيق صدره بالمحرمات والمعاصي، أليس كذلك؟

أوجه المحرمات والمعاصي

أوجه المحرمات والمعاصي إن المحرمات والمعاصي لها وجهان ننظر إليها منهما: الكفر والمكر، فوجه يضيق بالمنهي عنه؛ لأن الله حرمه، ووجه آخر ينظر إليه بأنه حكمه وقدره، وأنه كله في خوض الأمر الرباني، أما أصحاب الوجه الأول فقد أمر الله رسوله ألا يحزن عليهم: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل:127]، وهذه الآية عجيبة الشأن، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم بلا شك يضيق صدره بالإيذاء، {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:97 - 99]، لكن ربنا نهاه عن هذا الضيق، وفطرة الإنسان بأنه يضيق وتأتيه الخواطر، والأنبياء بشر من البشر، فليسوا منزهين عن هذه الخواطر، مثلما حدث لسيدنا موسى {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} [طه:67]، ثم بعدها جاء التثبيت من الله سبحانه وتعالى، وزال ذلك الخوف، وتكلم بعد ذلك بالكلام العظيم الرائع، وهنا أخبر ربنا عز وجل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضيق صدره بما يقولون حرصاً على إيمانهم، لكن ربنا عز وجل يقول: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل:127]، فمن الذي يستطيع أن يسمع إذاً تخطيطات الأعداء، وإعداداتهم، ومكرهم، ويصبح فعلاً يمتثل: ((وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ))، ويعلم أن الكفار إنما هم في لعب، كما قال سبحانه: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا} [الزخرف:83]؟ فتأمل هذه اللطيفة وتخيل هذا العالم الذي لا يزال يمكر بالإسلام وأهله، ويخططون في الشرق وفي الغرب للفتك بأهل الإسلام، فقال الله: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا} [الزخرف:83]، وكل هذا بسبب الاستسلام للحكم وهو: أن تشهد أن الله عز وجل أمرك أن تحب ما شرع، وتكره ما يخالف الشرع، ولكن في نفس الوقت تشهد قضاءه وقدره فترضى بتدبيره سبحانه وتعالى، وتعلم أن ما يقدره على بعض العباد من المخالفة للشرع فإنه يجعل من ورائه خيراً كثيراً، فترضى عن الله عز وجل في كل ما فعل، حتى خلقه للشر وليس بشر، فالخير كله في يديه، والشر ليس إليه، فليس الشر من صفته، ولا من فعله، نعم خلق الله الشر ولكنه قدر من وراء وجود الشر من أنواع الخير ما لم يكن محتملاً وجوده إلا بوجود هذا الشر، فلأجل ذلك قدر الله هذا الأمر المكروه له عز وجل، والمكروه لعباد الله المؤمنين، ولكنه يعطيهم من أنواع العبودية ومن أنواع الخيرات ما لا يمكن أن تحصل لهم إلا بواسطة هذا الأمر المؤلم من الشر، كالمنازعة بالحكم إلى حكم آخر، فأحياناً تجد الواحد قد لا يعمل حساباً لمثل هذا، وأنت إن ابتليت قد لا تطمئن لهذا، لكن لا تعترض على هذا القدر من المرض الذي حصل لك ونحوه من البلاء، فالذي حصل فيه خير كثير لك، ولا تطلب البلاء؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (سلوا الله العافية)، وقال: (اللهم إني أسألك اليقين والعافية). فهل تتصور أنه لن يأتيك بلاء؟ لا، فسوف يأتيك بلاء لا تطلبه أنت، لكنه سوف يأتيك لوحده بإرادة الله عز وجل وبتقديره، فاصبر، وقبل هذا لا تطلبه، لكن لا تقل إن نزل بك بلاء: أنا متضايق من هذا، وكأنك تريد أن يجعل لك الاختيار وتقول: أنا أريد هذه ولا أريد هذه، فيصبح عند الإنسان سخط وجزع بدرجة ما، وهذا هو المذموم، وهذا سبب شقاء الإنسان، فلو أن الإنسان ما غضب أن الله قدر هذا لرأى من وراء الألم هذا أنواع خير كثيرة جداً، كما قال ابن مسعود: حبذا المكروهان: الموت والفقر والغنى. وما أظنه يعني إلا هذين الأمرين المطلوبين عنده: الموت والفقر والله أعلم؛ لأن الموت يستريح به من هم الدنيا، وهو لا يريد أصلاً؛ لأنه فوض أمره لربنا سبحانه وتعالى، (اللهم أحييني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني ما علمت الوفاة خير لي)، ويعوذ بالله من الفقر إلى العباد، ولو لم يكن معه إلا قليل من المال يستفيد منه لكان أحب إليه من أن يحتاج إلى أحد فلا يلبى.

تسليم الأمر لله من كمال الإيمان

تسليم الأمر لله من كمال الإيمان يقول: ومن كان فقيراً إلى شيء لم يرده الله ولم يشرعه لم يطلق عليه اسم الغني. فلا يتم الغنى إلا بتدبير الله سبحانه لعبده، وبالمسالمة لحكمه، والوقوف على حسن تدبيره، فاشهد فضل الله عليك، وأن الله يمكر لك، فهو يدبر لعبده المؤمن ما لا يحسن العبد، ثم يبقى عليه الخلاص من معنى آخر: وهو مخاصمة الخلق بعد الخلاص من منازعة الرب سبحانه وتعالى، فمسالمة الحكم تأتي بترك المنازعة لله والخلاص من الخصومة مع الخلق، فإن منازعة الخلق على الحظوظ الدنيوية والتقاتل معهم عليها دليل على فقره إلى الأمر الذي وقعت فيه الخصومة، وهي: الحظوظ العاجلة، ومن كان فقيراً إلى حظ من الحظوظ العاجلة يسخط ويخاصم الخلق عليه فإنه لا يطلق عليه اسم الغريب في الدنيا حتى يسلم الخلق من خصومته؛ لكمال تفويضه إلى وليه وقيومه ومتولي تدبيره، فمتى سلم العبد من علة فقره إلى السبب، ومن علة منازعته لأحكام الله سبحانه، ومن علة مخاصمته للخلق على حظوظه، استحق أن يكون غنياً بتدبير مولاه، مفوضاً إليه، لا يفتقر قلبه إلى غيره، ولا يسخط شيئاً من أحكامه، ولا يخاصم عباده إلا في حقوق ربه، فتكون مخاصمته لله وبالله، كما في الحديث: (بك خاصمت وإليك حاكمت)، فتكون محاكمته إلى الله، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في استفتاح صلاة الليل: (اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت)، فتكون مخاصمة هذا العبد لله لا لهواه وحظه، فيرد خصمه في المحاكمة إلى أمر الله وشرعه لا إلى شيء سواه؛ فمن خاصم لنفسه فهو ممن اتبع هواه، وانتصر لنفسه، ولقد قالت عائشة رضي الله عنها: [ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه قط]، وهذا لكمال عبوديته، ومن حاكم خصمه إلى غير الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فقد حاكم إلى الطاغوت، وقد أمر شرعاً أن يكفر بالطاغوت، ولا يكفر العبد بالطاغوت حتى يجعل الحكم لله وحده، يعني: في الواقع الموجود إذا حكم الله بأمر فاجعل لهذا الأمر في قلبك مكاناً، فأنت إذا ابتليت بأنك تريد أن تختار فهل تتحاكم للشرع أو لغيره؟ فالأمر نافذ وأمر الله واحد ولا تحتاج معه إلى تكرار، فإذا أمر فنفذ أمره سبحانه وتعالى وحسب، قال تعالى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ} [القمر:50]، أي: مرة واحدة ليست تتكرر، ويمكنك أن تقول: افعلوا القضية الفلانية أو لا تفعلوها، فإن لم تعمل أتيت أنت وعملتها بيدك فلا تصلح معك، فتحتاج إلى أن تعملها وتجرب مرة ثانية، وتعيد المحاولة، لكن أمر الله مرة واحدة، {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر:50]، ولذلك إذا أخر حاجة معينة فإنما هو لحكمته وإمهاله للكفرة والظلمة، ولحلمه سبحانه وتعالى ولعدله، ولأن {يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ} [الحج:47]، وقد تأتي لحظة تنظر وفي طرفة عين ينتهي كل شيء كلمح بالبصر، لكننا ننسى تلك اللحظات، وننسى الطريق الطويل لهلاك الأمم، فعندما جاءت لحظة قوم فرعون غرقوا فيها، وما نفعه ما قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ} [يونس:90]، لكن هذه الأحداث دائماً تنسى! فكل ملوك الأرض قبل هؤلاء الموجودين أين ذهبوا؟ كل واحد له لحظه يموت فيها، فإذا أمر الله بأمر إذا بأمم بأكملها تزول، وحضارات كاملة تختفي، والله عز وجل يفعل ما يشاء.

الفرق بين حسن الظن بالله والغرور المذموم

الفرق بين حسن الظن بالله والغرور المذموم ويجب أن نفرق بين حسن الظن بالله والغرور به، فالغرور: أن تسير في طريق الباطل والمنكر ثم ترى نفسك من أهل الجنة، وأن هذا من العدل، فهذا لا يستحق دخول الجنة، تراه في الطريق مطروحاً يقول: سأصل إن شاء الله، فهذا ليس حسن ظن، لكن حسن الظن أن السائر يمشي ويركب المواصلات ويقول: يا رب! وصلني، فهذا يحسن الظن بربه، فالذي يريد أن يدخل الجنة فلابد له أن يسير في طريق الجنة، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ} [البقرة:218]، أي: يسير في طريق الطاعة، ويعمل الصالحات، ويرجو الله عز وجل أن يغفر له ذنبه وتقصيره، وأن يقبل عمله الناقص بفضله، فهذا يحق له إحسان الظن بربه، ولكن أن يسير في طريق المعاصي والفساد، ويحدث نفسه بالمغفرة والقرب التام، وهو لم يعمل شيئاً أبداً، ولا ضحى أي تضحية في سبيل الله، لا بشهوات، ولا بلذات، ولا براحة، ولا بذل جهداً لا في العلم، ولا في العمل، ولا في الدعوة، ولا في الجهاد، ولا في أي شيء، ويقول: أنا أريد أن أُصبح من المقربين لا أن يصبح مسلماً محافظاً بعض الشيء، نسأل الله العافية، ولذلك لما سمع ابن مسعود رضي الله عنه رجلاً يقول: أنا أريد أن أكون من المقربين، ولا أريد أن أكون من أصحاب اليمين، فقال: ههنا رجل يود أنه لو مات لم يبعث، يقصد نفسه رضي الله عنه. مثلاً: إذا لم تمتحن طالبة امتحانات شهرية في ثلاث مواد، وقالت لها المدرسة: إذا أحضرت شهادة مرضية فسوف تضاعف الدرجة الخاصة بك، فهل يجوز أن تصدر شهادة مرضية كذباً وزوراً؟ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)، فكم ستأخذين بغشك هذا؟ وماذا سيكون لك في الآخر؟ فلا يجوز أن تكذب، بل إذا كانت مريضة فستأتي بالشهادة المرضية إذا كان سبب تغيبها هو هذا.

الأسئلة

الأسئلة

حكم صوم التطوع عن الميت

حكم صوم التطوع عن الميت Q هل يصح صوم التطوع للميت؟ A نعم يصح ذلك؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من مات وعليه صيام، صام عنه وليه)، فإذا جاز في الفرض جاز في النفل بالأولى.

حكم صلاة المتنفل بالمفترض

حكم صلاة المتنفل بالمفترض Q هل يجوز أن يأتم مفترض بمتنفل؟ A كان معاذ يصلي نافلة بقومه وهم يصلون العشاء، وكانت الصلاة يؤذن لها ويقام في مسجدهم.

حكم قراءة كل كلمة من القرآن بقراءة غير الأولى

حكم قراءة كل كلمة من القرآن بقراءة غير الأولى Q أحد الدارسين لعلم القراءات يقول بعدم جواز قراءة كلمة برواية داخل الرواية التي يقرأ بها، فما دليل عدم الجواز؟ A عندما يعلم الناس رواية، فيقول لهم: هذه رواية حفص عن عاصم فلا يقول لهم في الصلاة: إني سوف أقرأ لكم بقراءة حفص عن عاصم لا، فالقرآن عندما نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ يقرأ بهذه القراءات كلها، وأصلاً عاصم عمن أخذ؟ إذاً: فالصحابة رضي الله عنهم هم المرجع في اختيارات هؤلاء القراء فهو الذي اختار من كل هذه القراءات. وقد حصل خلط عند الذين يدرسون علم القراءات من غير أن يرجعوا لفقه الأحاديث ما هو الفقه في ذلك، وما هو الذي لا يجوز؟ فالذي لا يجوز: هو أن يدخل قراءة في قراءة في تعليم هذه القراءة وفي الرواية بها، بل يقول لهم هذه رواية فلان. أما التعبد سواء في التلاوة في الصلاة أو في غيرها فلا مانع بأن يقرأ بكل ما نزل من عند الله عز وجل، وكلها كاف وشاف. ولو قال قائل: وما المانع من ذلك؟ فنقول: لأنها ليست من السنة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أقرأ هذا على هذا الحرف، وأقرأ هذا على هذا الحرف، فما كان يجمع للواحد في نفس الموطن بحرفين، ففعل هذا بدعة إلا للتعليم، يعني: أنا عندما أعلم رجلاً فأقول له: ورش يقرأ هكذا؟ وحفص يقرأ هكذا مثلاً، لكن في العبادة الواحدة لا يقرأ لهما الاثنين.

حكم خروج المسلم للحج من غير أن يترك قوتا لأهله

حكم خروج المسلم للحج من غير أن يترك قوتاً لأهله Q في كتب الفقه أنه لا يجب الخروج إلى الحج إلا لمن قدر أن يترك لأهله قوتهم حتى يرجع، فمن لم يفعل هل يجب عليه الحج؟ A لا، فيجب أن يترك لهم نفقتهم الواجبة، وإنما يجب عليه الحج إذا كان تاركاً لقوت أهله وعياله حتى يرجع، والله أعلم.

الأخذ بالأسباب المشروعة لا ينافي التوكل

الأخذ بالأسباب المشروعة لا ينافي التوكل Q هل هناك تعارض بين هذا وبين التوكل؟ A هذه من أعمال القلوب، ونحن نقول: إن الرسول كان يدخر، لكن حال القلب مهم، فهل قلبه مطمئن إلى السبب؟ أم مطمئن إلى خالق السبب؟ وهل حالك عند عدم ادخارك كحالك حالة الادخار سواء أكان من حرام أم من حلال؟ أحياناً تكون الأمور غير متيسرة، فهل يصبح قلبه متعلق بها بنفس الدرجة أم لا؟ أما الادخار فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدخر لأهله قوت سنته صلى الله عليه وسلم، لكن تأتي له نفقات فينفق، ولذلك ما كانت تمر عليه السنة والقوت موجود، بل مات ودرعه مرهونة عند يهودي في صاعين من شعير، وقوم نبي الله يونس عندما لم يستجيبوا لدعوة نبيهم دعا عليهم سيدنا يونس، حتى إذا اقترب عذابهم عادوا إلى الله عز وجل، وتابوا، وأنابوا، فرفع عنهم العذاب، وكان ذلك رداً لعذاب الله، وقد كان مكتوباً في اللوح المحفوظ أنهم سيؤمنون فيرفع الله عنهم العذاب، لكن لو لم يتوبوا لنزل بهم العذاب، (والدعاء يرد القضاء)، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام، أي: القضاء الذي قدر الله ألا ينزل؛ لأن القضاء نوعان: النوع الأول: قضاء قضى الله أن يقع. النوع الثاني: قضاء قضى الله أن يرد. قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23].

الصبر على البلاء

الصبر على البلاء البلاء في الحياة سنة إلهية، ومنه بلاء الرسل بتكذيب المرسل إليهم، وبلاء الدعاة بإعراض المدعوين، ولكي تخف وطأة البلاء بالتكذيب والإعراض ذكر الله تعالى في القرآن الكريم جملة من القصص المتعرضة لمواقف الرسل مع أقوامهم إجمالاً وتفصيلاً، وذكر الله تعالى فيها ما وجه به المرسلين، وما كان منهم حال التكذيب، وقد بين الله تعالى في كل قصة منها العاقبة الأخيرة في الدنيا لهذا الصراع، وهذا كله تثبيت وسلوى لكل داعية حال صراعه وجداله مع الباطل.

البلاء سنة إلهية

البلاء سنة إلهية الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فإن الله عز وجل يبتلي العباد بالخير والشر، امتحاناً لهم وفتنة، يختبرهم بهما وهو الذي يقلب الليل والنهار، وهو الذي جعل الأيام بين الناس دولاً، {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:140 - 142]. فالله سبحانه وتعالى جعل الأيام دولاً بين الناس، بين الذلة والتمكين، بين القوة والضعف، بين الفقر والغنى، كما جعل ذلك في الكائنات، حيث جعل الدولة بين الليل والنهار، وبين الحياة والموت، وهو عز وجل بيده الأمر كله، وإليه يرجع الأمر كله، {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود:123].

إجابة الله تعالى دعوات المتضرعين إليه

إجابة الله تعالى دعوات المتضرعين إليه إذا تحقق العبد بالعقيدة في قلبه كما ينطق بها لسانه، وتضرع إلى الله عز وجل بصوت ضعيف منكسر لا يجبره إلا الله وحده لا شريك له، وعلم أن الله سبحانه هو الجبار الذي لا يجبر الكسير سواه، والجبار الذي جبر القلوب شقيها وسعيدها، وانكسر للجبار سبحانه ولم يتجبر، وعلم أن عاقبة كل جبار هي الخيبة ولابد، كما قال تعالى: ((وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ))، فإذا وجد الله تعالى من عبده المؤمن ذلك فإنه سبحانه وتعالى يسخر ملائكته لتشفع له وتدعوا له، فتقول: صوت ضعيف من بلاد غريبة، فلا يزال يرفع منه إلى الله عز وجل عمل صالح ودعوة متقبلة، فتشفع له الملائكة عند الله سبحانه، وهو الذي يسخرها، فيستجيب الله عز وجل دعوة عبده، ويفرج كربه، كما قال سبحانه وتعالى عن يونس وهو في بطن الحوت: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:87 - 88]، فليست هذه الإجابة خاصة بيونس صلى الله عليه وعلى نبينا وسلم، وليست خاصة بالأنبياء، بل لكل مؤمن تحقق بهذه الحقائق، وعلم هذا العلم وأيقن هذا اليقين. فالله عز وجل يستجيب لكل مؤمن في أي موضع كرب، ودعوة ذي النون لا يقولها مكروب إلا فرج الله عز وجل كربه، فلنقولها جميعاً: لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين.

العظة والعبرة في قصص المرسلين المبثوثة في القرآن الكريم

العظة والعبرة في قصص المرسلين المبثوثة في القرآن الكريم الله سبحانه وتعالى جعل في قصص أنبيائه ورسله النور والهدى، وجعل فيها اليقين والصبر، وجعل فيها الموعظة والعبرة، وجعل فيها التثبيت لقلوب المؤمنين، قال تعالى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود:120]، وهذه سنة عامة ماضية في كل زمان وفي كل مكان، لا تجد لها تحويلاً، وهي سنة الله التي تمضي في خلقه، ومن يقرأ التاريخ، ويقرأ القصص فيه ويعتبر يجدها سنة ماضية لا تتخلف، قال تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ * وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:137 - 141]، فجعل الله في كتابه النور والهدى، وجعل في قصص أنبيائه ما يرشد المؤمنين إلى طريق الحق، وما يجب عليهم فعله في كل وقت وفي كل مرحلة من مراحل حياتهم ودعوتهم، فإنهم طالما صاروا على طريق الأنبياء فلابد أن تسير دعوتهم بنفس المراحل، ولابد أن يواجهوا نفس المواجهات؛ فإن الصراع بين الحق والباطل قديم منذ وجد الإنسان على ظهر الأرض، بل قبل ذلك، منذ كفر إبليس حقداً وحسداً لآدم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فأبى أن يسجد له واستكبر وكان من الكافرين، وبدأ يكيد للأبوين، كراهية وبغضاً وحقداً وضغينة، ففيه كل الصفات المذمومة، وورثها لمن تبعه من ذرية آدم فضلاً عن ذريته التي هي على طريقته وشاكلته والعياذ بالله! لذلك نقول: علينا أن نستلهم هدينا من القرآن العظيم، ومن نوره الذي يهدي به الله عز وجل من يشاء، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} [الشورى:52 - 53]، وذلك لكي نبصر أين نضع أقدامنا؟ وما نصنع فيما يواجهنا؟ فإنا إذا حكمنا غير كتاب الله في هذا الموضع -سواء حكمنا العقول بغير نور، أو حكمنا العواطف بغير ضوابط، أو حكمنا آراء الرجال ومقاييسهم- فإننا سوف نضيع حتماً؛ إذ ليس لنا في الأرض من ولي ولا نصير، وحالنا هو الضعف والعجز والفقر، فعلينا أن نكثر من التضرع إلى الله سبحانه وتعالى، فبذلك نقوى، وبذلك نبصر، وبذلك نرى الحق بفضله سبحانه وتعالى. وقد صدق عبد الله بن رواحة حين قال: والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا فالله سبحانه وتعالى جعل في قصص أنبيائه ورسله ما يرشد عباده المؤمنين إلى ما يلزمهم العمل به عندما تشتد عليهم الأمور.

وقفات دعوية بين الرسل وأقوامهم في سورة إبراهيم

وقفات دعوية بين الرسل وأقوامهم في سورة إبراهيم ذكر الله عز وجل قصصاً مجملة في سورة إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وجعلها لكل الرسل، وهي كذلك كما ذكرنا؛ لأنها سنة واحدة، وطريقة ماضية، ولن تتغير طبيعة المواجهة بين الحق والباطل، فنتلمس من آيات الله سبحانه وتعالى ما يلزمنا أن نعمله عندما تشتد الأمور، ونتلو الآيات من سورة إبراهيم: قال الله عز وجل: {وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ * أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ * قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ * وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ * مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} [إبراهيم:8 - 18]. يذكر الله سبحانه وتعالى هنا غناه وحمده اللذين ذكر بهما موسى عليه السلام قومه والناس جميعاً، فقال: ((إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ))، ثم قال تعالى: ((أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ))، وهذا إما خطاب من موسى عليه الصلاة والسلام لقومه، وإما كلام مستأنف، خاطب الله عز وجل به من كان معاصراً للنبي صلى الله عليه وسلم ولمن بعده.

بينات الرسل ورد المرسل إليهم لها

بينات الرسل ورد المرسل إليهم لها قال تعالى: ((أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ)) فكم من الأجيال مرت؟ وكم من القرون مضت؟ وكم من العقوبات نزلت؟ وكم من الناس الذين تصارعوا؟ وكل ذلك أين هو الآن؟! فكما رحلوا هم سنرحل نحن أيضاً، وسيرحل أعداؤنا، وسنقف جميعاً بين يدي الله سبحانه وتعالى. قال تعالى: ((وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ))، وكذب النسابون، فلا يُعرف من بعد هؤلاء على وجه اليقين، ولذلك نفوض علمهم إلى الله سبحانه وتعالى، والفائدة ليست في الأشخاص والأمكنة والأزمنة، ولا في عدد القرون، وإنما الفائدة هي فيما كان من طبيعة هذا الصراع الذي دار وحصل، ويحدث مثله في كل عصر وفي كل حين. قال تعالى: ((جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ))، فالرسل تأتي بالحجج الواضحة البينة التي هي أوضح من الشمس، وكل من دعا بدعوتهم كذلك يأتي بالبينات، ولكن ليست المشكلة في مدى وضوح البينة، ولكن في الأعين التي تبصر، وفي القلوب التي تعي، فكم من أناس لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها! وكم من أناس لا يرون البينات في حين يكون الطريق أوضح ما يكون، وتكون الحجة بينة قائمة، ومع ذلك فلا تقبل، ويكون الفرق بين العدل والظلم كما بين الليل والنهار، ومع ذلك يفضل أكثر الناس الظلم والظلام، والعياذ بالله من ذلك. يقول تعالى: ((جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ)) فهم إما أشاروا لهم بالسكوت، بحيث وضعوا أيديهم على أفواه أنفسهم حتى يسكت الرسل، وتتوقف الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وذلك يكون غالباً على سبيل التهديد والوعيد، وإما وضعوا أيديهم على أفواه الرسل لإسكات صوتهم ودعوتهم، ظانين أن دعوة الرسل يمكن إسكاتها بذلك. ولذا فإن الدعوة قد تواجه بمثل ذلك، أي: محاولة الإسكات لها، إما بالتهديد والوعيد، وإما بالإسكات المباشر، بتكميم الأفواه بالفعل حتى لا يخرج للداعي إلى الله عز وجل صوت، ومع ذلك فإن الدعوة ستبقى كما قص الله عز وجل علينا، فلم تتوقف دعوة الرسل أبداً بمثل هذه المحاولات، وبقدر ما يكون الإنسان متمسكاً بدعوة الرسل -على وضوح منهجها، وعلى معالمها الأساسية، وعلى تفاصيلها، يلتمسها من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم- تبقى دعوته عبر الأجيال والعصور، وعبر الأزمنة والأمكنة بفضله عز وجل؛ لأنها دعوة الرسل التي لا تموت، وإنما يموت أعداؤها.

إعلان المكذبين الكفر والشك قبل البحث عن الحقيقة

إعلان المكذبين الكفر والشك قبل البحث عن الحقيقة فالله عز وجل ذكر لنا أنهم أعلنوا كفرهم بقولهم: ((إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ))، والأصل أن الذي هو في شك من قضية ما، يدعوه ذلك في تصور العقل السليم إلى أن يبحث، لا أن يعلن الرد والكفر مبدئياً، وإنما يقول: أرونا الأدلة. فقبل أن يقدم الكفر لا بد من أن يقدم البحث والنظر؛ لأنه في شك وهو مرتاب، فليبحث ولينظر، أما أن يسعى في إسكات صوت الحق، أو أن يعلن أنه قد كفر بالحق لمجرد أنه في شك، فهذا هو العجب. إن الكفر أنواع متعددة، والشك واحد منها، ولكنهم قدموا ذكر الكفر على ذكر شكهم، وكان الواجب عليهم أن يقولوا: اعرضوا علينا هذا الحق لننظر فيه، فإننا نبحث عنه، اعرضوا علينا ما جئتم به لننظر فيه أهو من الحق أم من الباطل إذا كانوا في شك؟ وهنا سنعلم سبب كفرهم وشكهم، فسبب ذلك يظهر لنا أمراضاً في النفوس سوف تظهر جلياً بعد حين، فقد حاولوا الطعن في الدعوة أولاً، بأن شككوا فيها، وأن الدعوة ليست ببينة ولا واضحة، مع أنه قد جاءت الرسل بالبينات، ولكنهم لا يرون هذه البينات بينات، فعند ذلك حاولوا الطعن فيها، وقد واجهت الرسل هذه المحاولة من التشكيك في رصيد هائل في الفطرة من وحدانية الله، فهذه القضية رصيد موجود في داخل نفس كل إنسان؛ لأن كل امرئٍ قد أخذ عليه العهد بقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:172]، فكل واحد عنده هذا الأمر، وقد أشهده الله عز وجل على نفسه، فشهد أنه لا يستحق الإلهية إلا الله، وأخذ عليه العهد وهو في ظهر آدم، كما في حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقال للكافر يوم القيامة: لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت مفتدياً به؟ فيقول: نعم، فيقول الله عز وجل: قد أردت منك أهون من ذلك، قد أخذت عليك وأنت في ظهر آدم أن لا تشرك بي فأبيت إلا أن تشرك بي)، وهذا العهد والميثاق ظهر أثره في فطرة كل إنسان، ففيه ميل إلى تحقيق التوحيد، ويلقى شقاءً في البعد عنه، ويشعر بالراحة والسكون إذا ذكر الله، ويشعر بالتعاسة والتعب والنكد إذا توجه إلى غيره. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الفطرة، فقال: (كل مولود يولد على الفطرة)، وفي رواية: (يولد على هذه الملة).

الاستدلال بتوحيد الربوبية على توحيد الألوهية

الاستدلال بتوحيد الربوبية على توحيد الألوهية لقد واجهت الرسل تلك المحاولة من التشكيك في الدعوة ذاتها لهذه الحقيقة اليقينية، فقالت: ((أَفِي اللَّهِ شَكٌّ))، وفي تفسيرها قولان: الأول: أفي وجود الله شك؟ وهذا وجه ليس بظاهر؛ إذ عامة الأمم كانت تقر بوجود الله، وإنما تنازع في إلهيته وحده لا شريك له، وتنازع في أنه وحده الإله المعبود، فكانوا يجعلون آلهة معه، ومنكرو الربوبية قليل. الثاني: أفي وحدانية الله في الربوبية والإلهية شك؟ وهذا أظهر، وهو متضمن للأول؛ لأنه إذا قررنا وحدانية الله عز وجل رباً وإلهاً فهذا يتضمن إثبات وجوده بالأولى والقطع واليقين، وهذه الحقيقة هي أكبر اليقينيات، ولا يمكن أن يستريب فيها عاقل؛ لأن كل عاقل يوقن أن كل فعل لابد له من فاعل، وإذا رأى آثار الإحكام والإتقان على الصنعة فلا بد من أن يسلم بكون الصانع عالماً حكيماً قادراً، قد أتقن كل شيء صنعه، ولا بد من أن يكون له كل صفات الكمال، ومن ثم فهو وحده الذي يستحق أن يعبد، وهذه هي كبرى اليقينيات التي استقرت في نفوس البشر، ويحتاجون إليها أكثر من الماء والهواء، ويجدونها كالماء والهواء، فكل من أخذ نفساً وجدها كما يجد الهواء، كما قال موسى صلى الله عليه وسلم لفرعون: {رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء:24]، فهذه أعظم اليقينيات، فمن كان موقناً بشيء فليوقن بوحدانية الله، وأنه رب السموات والأرض وما بينهما، وأنه وحده الذي يستحق أن يعبد. وقولهم: ((أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)) هو دليل توحيد الإلوهية، فقد استدلوا عليه بتوحيد الربوبية، فهو سبحانه وتعالى وحده الذي فطر السموات والأرض، أي: خلقهن على غير مثال سابق، ولا يمكن أن يقبل عقل إنسان أن السموات والأرض خلقن من غير خالق، ولا يقبل عقله بعد ذلك أن تصرف العبادة لغير خالقهن ولغير خالق العباد، فإذا قبلت أن هذه المخلوقات لابد لها من خالق، وقررت أن له صفة الكمال فلا بد من أن تقرر وتعتقد أنه لا يعبد سواه، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21]، فتوحيد الربوبية أعظم دليل على توحيد الإلهية، وتوحيد الرب في أفعاله التي آثارها ظاهرة جلية في الكون -من هذه المخلوقات، وهذه الصنعة المتقنة المحكمة وكل ما في السموات والأرض من آيات- أعظم دليل على أنه وحده الذي يستحق أن يركع له ويسجد، وأنه وحده الذي يرجى ويخاف، ويحب ويتوكل عليه، ويخضع له ويذل، ويرجى فضله وترهب عقوبته، ويتحاكم إلى شرعه. ثم قال تعالى حكاية عن الرسل: ((يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ))، وهذا هو الدليل الثاني، وهو: الرحمة والمغفرة والمحبة، وهذا دليل قد جربه الرسل، فذاقوا أعظم ما في الدنيا من لذة، حيث جربوا أنهم إذا تابوا إلى الله وقبلوا دعوته غفر لهم ذنوبهم، تلك الذنوب التي كانت ظلمات على القلوب، فلا تجعلها ترى حقائق هذا الوجود، ولا تجعلها تدرك صغر الدنيا وحقارة الأرض وما فيها، وأنها ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه، وكانت هذه الذنوب تحول بين القلوب وبين خالقها وبارئها، وبين من فطرت على محبته والشوق إليه، فلما زالت الذنوب بالمغفرة من عند الله عز وجل ازداد أثرها، فوجدت القلوب أعظم ما يمكن أن يوجد في هذا الكون، وهو الشوق إلى الله ومحبته والرضى به رباً وإلهاً، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً)، هكذا قال النبي عليه الصلاة والسلام، وهو دليل -كما ذكرنا- جربه الرسل، فقد جربوا طريق المحبة؛ لأن الذنوب حواجز تحجز القلوب، وران عليها، فلا ترى الحقائق ولا تشعر بها، فلما غفرت الذنوب واستجابت القلوب لدعوة الله -التي يدعوا بها عباده- وجدت عند ذلك شيئاً جديداً لم تكن ذاقته من قبل، وعرفت الطريق إلى الله، كما قال شعيب عليه السلام: {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} [هود:90]، فذكره سبحانه عند طلب الاستغفار منهم بذكر اسمه عز وجل (الرب) مضافاً إلى ضمير المخاطبين، فقال: (ربكم)، وأما عند ذكر وده ورحمته فنسبه إلى ضمير المتكلم، فقال: ((إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ)) وهكذا قالها صالح عليه السلام: {إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [هود:61] فقد جرب الطريق، وعرف حب الله سبحانه وتعالى، ولذلك دعت الرسل أقوامهم إلى أن يستجيبوا لدعوة الله فقالت: ((يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ))، وهذا يرقق القلب، فالله يريد بك الخير، ويريد لك أن تغفر ذنوبك، وأن تستجاب دعوتك، والله عز وجل لا يريد لك الشقاء، والعجب أن فئة من الناس تظن أنها سوف تحرم -إذا التزمت- من لذة الدنيا، ونقول: لا، بل سوف تضاعف هذه اللذات، فهم ما جربوا الطريق، لذلك يرفضونه ويبتعدون عنه، ولو جربوه لذاقوا حلاوته، وعندما تخالط بشاشة الإيمان القلوب فإنها لا ترضى عنه بديلاً. ثم قال تعالى: ((يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى))، فلو آمنتم فإنه سيمتعكم متاعاً حسناً، والله عز وجل علم ما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، ولا تعارض بين هذه الآية وبين قوله عز وجل: {َإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34]؛ لأن الذي لا يتأخر ولا يتقدم هو الأجل الذي في علم الله، وهو في اللوح المحفوظ، وأما ما لم يكن فهذا أجل مسمىً آخر، فعند الله عز وجل علم أنهم لو آمنوا لمتعهم الله، كما قال سبحانه وتعالى عن قوم يونس {إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس:98]، وكان هذا أمراً مقدراً أيضاً، والله سبحانه وتعالى كل شيء عنده بمقدار، وقد علم ما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، فلو أنهم آمنوا لكان لهم مصير آخر، وهو المتاع إلى أجل مسمى عنده عز وجل.

الحقيقة الكامنة وراء تكذيب الأمم لرسلها

الحقيقة الكامنة وراء تكذيب الأمم لرسلها ثم قال تعالى: ((قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا))، وهو ذلك الداء العضال، وهنا بدأت تظهر حقيقة المرض، فلماذا يرفضون الدعوة إلى الله؟ إنهم يرفضون الدعوة إلى الله عز وجل للحسد الذي في قلوبهم، فقالوا: ((إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا))، وإنك لتلمح من وراء ذلك حقيقة المرض، فهم لم يصرحوا بقولهم: لماذا أنتم الذين اصطفيتم واختصصتم بالوحي دوننا؟! لقد كان ينبغي أن يكون الوحي لنا وليس لكم، وليس لكم علينا فضل. وكل هذه كلمات تدور حول الحقد والحسد؛ لأنهم في حقيقة الأمر يرون أنفسهم أولى بالوحي، وأولى بأن يكونوا هم الرسل، ألم تسمع لقول المشركين: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31]، ألا ترى قول فرعون وهو يقارن بين نفسه وبين موسى ليدلك على حسده لموسى، حيث قال عز وجل عنه {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ * فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ * فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف:51 - 54]، فهو يحسد في الحقيقة موسى، وهذه المقارنة التي عملها فرعون يدعي فيها بأنه ليس مع موسى مال كثير، وفي لسانه لثغة فلا يستطيع أن يبين، والحال أنه قد بين موسى، فما المشكلة؟ إن المشكلة الأخرى أن موسى ليس عنده ملك مصر، والأنهار لا تجري من تحته، ففرعون يشعر بأن الناس لم يعطوه حقه، مع أنه ليل نهار كان يقول: ((أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ))، ثم يقول: ((أَفَلا تُبْصِرُونَ))، فكان يراهم أنهم لا يرون ما ينبغي له من التعظيم، ويرى قلوب المؤمنين قد التفت حول موسى وهو لا يقبل ذلك، فوجدت طائفة من قومه تقبل هذا الاستخفاف وتطيعه على ذلك فأهلكهم الله عز وجل. وهنا يحكي سبحانه وتعالى عن هؤلاء قولهم: ((قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا))، فالذي يدلنا على حقيقة المرض هو أنهم يحسدون الرسل على ما آتاهم الله من فضله، ويريدون أن يكونوا هم أهل الوحي والرسالة، كما هو شأن الكفرة مع الرسل دائماً، ويقولون أيضاً للمؤمنين: {أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [الأنعام:53]. وهذه مسألة ثانية يحاولون بها الطعن في الرسل بعد أن فشلوا في الطعن في دعوتهم، فقد قالوا: ((وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ))، وقد بينت الرسل أن توحيد الله أعظم اليقينيات، فحاولوا الطعن في الدعاة إلى الله عز وجل فقالوا: إن أنتم إلا بشر مثلنا فيكيف تتفضلون علينا؟! فالشبهة الثانية التي طرحوها هي أن الرسل خالفوا العادات والتقاليد، ويريدون أن يغيروا دين الآباء، وتغيير العادات والتقاليد هو أعظم جريمة عند الناس. فهذه الشبهة الباطلة هي أعظم ما يكفر به كثير من الناس، وهي الشبهة التي بها كفر أبو طالب وظل على كفره مراعاة لها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوه ويقول: (يا عم! قل: لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله)، وأبو جهل وعبد الله بن أمية على رأسه يقولان له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟! فكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب. مع أنه يعلم صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعلم أن دينه خير دين، ويقول: لولا أن يقول الناس: حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عينك. فالنظم الموروثة والتقاليد التي نشئوا عليها يصعب عليهم فراقها، ومن ذلك قول فرعون: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26] فكل طاغية لا يقبل أن يكون هناك تغيير ولا تعديل لما نشأ عليه، مع أنه ليس عنده دليل عليه ولا حجة، وإنما هو مجرد التقليد الأعمى، والعياذ بالله.

اقتراح المكذبين حصول المعجزات وتكذيبهم لها بعد حصولها

اقتراح المكذبين حصول المعجزات وتكذيبهم لها بعد حصولها ثم أخبر تعالى عن تلك الأمم أنهم قالوا لرسلهم: ((فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ))، يريدون المعجزات المقترحة، يقترحون أن يجعل الصفا ذهباً، ويقترحون ناقة تخرج من بطن الجبل، ويقترحون أنواعاً من المعجزات على قدر عقولهم السخيفة، مع أن البينات قد أتت، والرسل قد وضحت، ولو أتى الرسل بآلاف المعجزات فإنهم لن يؤمنوا، فقد أتت الناقة لقوم صالح فهل آمنوا؟ وقد رأى الناس معجزات موسى وعيسى، ورأى فرعون بعينه السحرة يسلموا؛ مما شاهدوه من معجزة العصا، فهل آمن؟ ورأى الآيات تلو الآيات، كما قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ} [الأعراف:133]، ورأى البحر ينشق أمام عينيه بضربة من عصا موسى، فهل آمن؟ إنهم لا يؤمنون مع وجود السلطان المبين الذي يزعمون أنه إن حصل قبلوا وآمنوا، فهؤلاء لا يؤمنون أبداً، وهذا مرض في القلوب.

بيان الرسل حقيقة بشريتهم

بيان الرسل حقيقة بشريتهم قال تعالى: ((قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ)) وهذا محاولة علاج لذلك الحسد، وهو أن ينظر الإنسان إلى منِّ الله وفضله عليه، فهو الذي قسم سبحانه وتعالى، وهو الذي أعطى عز وجل، فإذا منَّ الله عز وجل على عبد، فلماذا تعترض على منِّ الله؟! فالله يمن على من يشاء من عباده، كما قال سبحانه وتعالى: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} [الزخرف:31 - 32]، و A أنها رحمة من الله، فهو الذي خص برحمته من شاء سبحانه وتعالى، فلماذا يكون الحسد والحقد. ثم قال عز وجل عن الرسل: ((وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ)) ما كان لنا أن نأتي بآية ومعجزة إلا بأن يأذن الله بذلك.

التوكل في حياة الأنبياء والمرسلين وأتباعهم

التوكل في حياة الأنبياء والمرسلين وأتباعهم قال تعالى: ((وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)) [آل عمران:122]، فأعظم سلاح يستعمله أهل الإيمان أنهم يتوكلون على الله عز وجل، فهذا هو الواجب الذي لا ينفك عنه وقت، ويتأكد عندما تشتد الأمور، ويتأكد عندما تزداد المحن، كما قال سبحانه وتعالى في شأن موسى وفرعون: {قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ * قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:127 - 128]، فالاستعانة بالله سبحانه وتعالى أعظم ما يواجه به أهل الإيمان من المحن ومن الكربات. قال تعالى: ((وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)) وقدم الجار والمجرور ((وَعَلَى اللَّهِ)) للاختصاص والاهتمام، أي: على الله وحده، كما قدم المفعول في {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] للاختصاص والاهتمام، أي: نعبد الله وحده ونستعين به وحده، ولأننا نهتم بهذا الأمر أعظم اهتمام، وكما قال مؤمن آل فرعون عندما دعا قومه صراحة إلى الله: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:45 - 46]، والتوكل على الله عز وجل درجات، فمنه التوكل على الله في أمر الرزق، وهذا توكل الطيور والبهائم والكائنات، ولو توكل بنو آدم على الله عز وجل حق توكله لرزقهم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتعود بطاناً، وهذا توكل ربما يكون من الكفرة والعصاة والفسقة، وتوكل المؤمنين أعظم، فهم يتوكلون على الله عز وجل في طاعته، ويتوكلون على الله في توفيقه لهم، وأن يعينهم على مرضاته، وأن يبعدهم عن معصيته، ويوقنون بأنهم لا يهتدون إلا أن يهديهم الله، ويتوكلون عليه في أن يصلوا بسلام إلى دار السلام، ويتوكلون على الله عز وجل في أن ييسر لهم دخول الجنة، وتوكل الرسل عليهم الصلاة والسلام وخاصة أتباعهم على الله عز وجل في نصرة الدين، وهداية الأمم، واستخراج من يعبده لا يشرك به شيئاً من بين ظلمات الكفر والفسوق والعصيان، والله عز وجل جعل هذا أعلى التوكل، وهو التوكل على الله لأجل نشر عبادته في الأرض كلها، وليس أن تتوكل على الله في خاصة نفسك فحسب لكي تعبد الله سبحانه وتعالى في نفسك، بل تتوكل على الله عز وجل لكي يُعبدَ الله سبحانه وتعالى في الأرض، فالله عز وجل ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، والله عز وجل هو الذي نتوكل عليه في ذلك لتبقى دعوة الحق قائمة. قال تعالى: ((وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا))، فكيف لا نتوكل عليه وقد جربنا طريق الهداية؟! فقد هدانا الله عز وجل إلى توحيده ومعرفته ومحبته، فكيف بعد ذلك لا نتوكل عليه؟! وكيف لا نتوكل عليه وقد علمنا فائدة التوكل وثمرته، وحتى ولو انغلقت الأسباب كلها؟! بل الحقيقة هي أن التوكل أكمل وأتم ما يكون عندما تنعدم الأسباب. وتأمل توكل موسى صلى الله عليه وسلم الذي هداه الله عز وجل إلى ما أراد عندما تراءى الجمعان، وقال أصحاب موسى: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61] فقال: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62] فهو توكل عظيم حيث لا أسباب، والعدو قد حضر، وأكد أصحاب موسى أنهم مدركون، فقال: (كلا) يقيناً بالله، وتوكلاً عليه سبحانه، وثقة به عز وجل {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء:62 - 63]. وأعلى منه توكل إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام وهو يلقى في النار ويقول: ((حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ))، فـ (حسبنا الله ونعم الوكيل) قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين قال لهم الناس: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173]، وفي أثر إسرائيلي: أن جبريل لقي إبراهيم في الهواء، وهو في الطريق إلى النار، فقال: ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا، وأما إلى الله فنعم. ولذا كان الجزاء من عنده عز وجل، وليس بسبب مخلوق من المخلوقات، ولا بسبب ريح هبت فأطفأت النار، ولا ملك أخذ إبراهيم فأنقذه، أو ماء نزل من السماء فأطفأ النار، بل بأمر منه عز وجل، قال تعالى: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69]، فالله عز وجل بكلامه أنقذ إبراهيم. وأعظم منه توكل النبي عليه الصلاة والسلام الذي قال له صاحبه وهو في الغار: (يا رسول الله! لو نظر أحدهم إلى موضع قدمه لأبصرنا، فقال له: يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!)، وقال له: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] فهذا توكل عظيم. فالتوكل على الله عز وجل عندما تنعدم الأسباب من الناس ومن النفوس، وحين تكون نفوسنا عاجزة ضعيفة لا أسباب فيها، كما قال عز وجل: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:110]، فاليأس كان من الناس ومن الأسباب، ولا ييأس المؤمن من رحمة الله أبداً، بل يبقى التعلق برحمة الله سبحانه وتعالى، فإذا حصل هذا التوكل العظيم جاء الفرج بإذن الله تبارك وتعالى.

إعلان الصبر دفعا لمرحلة الأذى

إعلان الصبر دفعاً لمرحلة الأذى ثم قال تعالى عنهم: ((وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا))، فالصبر واجب الوقت، وهذه عبادات لا ينفك عنها المؤمن، وهذا هو الواجب، كما قال موسى لقومه، ((اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا))، وبهذا تنال الإمامة في الدين، لا بالعواطف غير المنضبطة، ولا بحسابات عقول قاصرة ضعيفة تدرك الأسباب المادية، ودون أن تطلب النصر من الإله الذي يمن به على من يشاء، ويفتح به أبواب الخير للناس. وبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين، كما قال عز وجل: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24]، فلابد من اليقين الذي هو ثمرة التوكل على الله عز وجل، وثمرة الإيمان الصادق، بأن وعد الله عز وجل لا يخلف، كما قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55]. والأذى لابد أن يجده من يسير في طريق الدعوة إلى الله سبحانه، فلا من الصبر، ولا يجوز أن ينفك الداعية عن الصبر والثبات في أي حال من الأحوال. قال تعالى: ((وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ))، وهذا تأكيد على أهمية الجمع بين الصبر والتوكل على الله، وسوف يكون من ذلك أوسع الفرج بفضله عز وجل.

تهديد الأمم المكذبة لرسلها

تهديد الأمم المكذبة لرسلها ثم انتقلت الأمم المكذبة إلى مرحلة أخرى، وهي مرحلة التهجير، قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [إبراهيم:13]، فلابد من أن تقولوا مثل ما نقول، ولا تخرجوا عنه قيد أنملة، ولابد من أن ترددوا ما نردد، ولا تقولوا غير ذلك ولو كان من عند الله، ولو أتيتم عليه بآلاف الأدلة، ولا تتكلموا بغير ما نتكلم، ولا تدينوا بغير ما ندين، وإلا فهي أرضنا وسوف نخرجكم منها. والأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين، لكن هؤلاء لا يدركون هذه الحقيقة، مع أنهم لو فكروا فيما كان عليه أجدادهم، وفيما يكون عليه أبناؤهم من بعدهم لعلموا أن الأرض لله سبحانه وتعالى يورثها من يشاء من عباده، فالله سبحانه وتعالى الأمر أمره والأرض أرضه والعباد عباده، والله سبحانه هو القاهر فوق عباده، وليس العباد بعضهم بقاهر فوق بعض. قال عز وجل: ((وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا)) وهذه كلمة فيها الغرور، والإعجاب بالنفس، والكبر والبغي والعياذ بالله.

العاقبة الأخيرة في صراع الحق والباطل وشرط استحقاقها

العاقبة الأخيرة في صراع الحق والباطل وشرط استحقاقها قال عز وجل: ((فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ)) وهذا قسم من الله عز وجل، فلام التوكيد ونون التوكيد الثقيلة تدلان على وجود القسم، أقسم الله عز وجل أن يهلك الظالمين، وهو -والله- لابد من أن يقع. قال تعالى: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ} [إبراهيم:13 - 14]، فالأرض له سبحانه وتعالى، وقد وعد بأن يرثها عباده المؤمنون، كما قال عز وجل: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ * وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:105 - 107]. وقال سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173]، ولكن لمن يكون ذلك؟ {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي} [إبراهيم:14]، فلابد من أن نخاف الله عز وجل وحده، وخوف مقام الله سبحانه وتعالى فسر بمعنيين: الأول: خوف مقام الرب بالاطلاع على عبده ثم بالحساب يوم القيامة، فالله سبحانه وتعالى قائم على كل نفس بما كسبت، ويحاسبهم على ذلك، فإذا خاف العبد مقام الله عز وجل بالاطلاع عليه والمراقبة والمحاسبة استقام وعمل بطاعته. والثاني: ((ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي)) أي: مقام العبد بين يدي ربه يوم القيامة. والتفسيران متلازمان؛ فإن الاطلاع والمراقبة والمحاسبة تقتضي أن يقف بين يدي الله عز وجل، وهذا هو الذي ينبغي أن نخاف منه. وكلا الخوفين واجب، خوف مقام الله وهيبته ورهبته، وخوف وعيده وعقابه وعذابه، ولسنا نقول كما يقول الزنادقة: اللهم إن كنت أعبدك خوفاً من النار فأدخلني فيها. نعوذ بالله، ولكننا نخاف وعيد الله، ولذلك نعمل ليوم لقاء الله سبحانه وتعالى، ونسأل الله أن يرزقنا الخوف منه وحده لا شريك له.

أهمية الدعاء في مراحل الصراع وذكر لوازمه

أهمية الدعاء في مراحل الصراع وذكر لوازمه قال تعالى: ((وَاسْتَفْتَحُوا)) أي: استفتحت الرسل فطلبت الفتح، وطلبت الفصل والحكم، ودعت أن يفصل الله عز وجل بينهم وبين قومهم، كما قال تعالى: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف:89]، والدعاء من أمضى الأسلحة إن لم يكن هو أمضاها وأقواها، وأعظم سبيل للنصر بإذن الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وهل تنصرون إلا بضعفائكم)، أي: بدعائهم وصلاتهم وإخلاصهم، فالنصر بالدعاء، ويكون فتح الأبواب المغلقة بالاستفتاح، فنستفتح الله عز وجل، وندعوه أن يفتح وأن يحكم وأن يفصل في هذه الخصومة التي وقعت، والخلاف بين منهج الحق ومنهج الباطل، والله عز وجل يفصل، وفصله وحكمه الحق والعدل، فعند الاستفتاح يخيب كل جبار عنيد، كما قال تعالى: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} [إبراهيم:15]، وإن كان الأمر قد يتأخر قليلاً لكن لابد من أن يقع، قال عز وجل: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [يونس:88 - 89]، وقد أجيبت الدعوة، ولكن متى وقعت الإجابة؟ لقد وقعت بعد مدة، ولكن الواجب أن تستقيم، فلا تبتعد عن الطريق الحق إلى سبيل الظلال فضلاً عن أن تكون ممن لا يعلم، فلابد من العلم، ولابد من الاستقامة والعمل بهذا العلم، ولابد من عدم الركون إلى من ظلم، وعدم متابعة سبيل الذين لا يعلمون، فبعد الاستعانة والصبر والاستقامة والإيمان والعمل الصالح وعبادة الله وحده لا شريك له يكون الفرج.

خيبة الجبارين في الدنيا والآخرة

خيبة الجبارين في الدنيا والآخرة قال تعالى: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ} [إبراهيم:15]، والجبار هو الذي يجبر الناس على إرادته دون التزامه بشرع الله سبحانه وتعالى، ودون أن ينظر في أمره هذا الذي يأمر الناس به، فهو يريد أن يجبرهم عليه سواء كان موافقاً لدين الله أم لا. فهذا هو الذي يسمى جباراً، وإذا امتنع منه أحد قتله، فالجبار هو الذي يسفك الدماء وينتهك الحرمات ليجبر الناس على إرادته الباطلة المحرمة المخالفة لشرع الله، فهذا يخيب دائماً؛ لأنه عاند شرع الله بعد أن وضح له الحق وعلم أن ما جاءت به الرسل هو الحق، ومع ذلك فهو يحاربه ويعانده. قال تعالى: {مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ} [إبراهيم:16] قوله: (من ورائه) أي: أمامه تنتظره جهنم والعياذ بالله، ((وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ))، وهو عصارة أهل النار، وصديد أهل النار. قال تعالى: ((يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ))، فإذا قرب ذلك الإناء الذي فيه صديد من وجهه فإنه يشوي وجهه والعياذ بالله، وتسقط فروة وجهه فيه، ومع ذلك يسقاه بغير إرادته، فيتجرعه ولا يكاد يمر من حلقه، ويتألم بكل قطرة منه، ويعذب بكل أنواع العذاب، فالناس تشرب لكي تبرد مما تجده من حرارة، وهذا يسقى ليزداد عذاباً. قال تعالى: {يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} [إبراهيم:17]، واللحظات الشديدة على الإنسان هي لحظات الانتقال من الحياة إلى الموت، فيأتيه الموت على الدوام والعياذ بالله، قال تعالى: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم:17]، نعوذ بالله من ذلك. ثم بين سبحانه وتعالى حبوط أعمال الكفار يوم القيامة والعياذ بالله، فقال: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ} [إبراهيم:18]، وهذا يعني حبوط العمل وذهابه وضياعه وانتهاءه بالكلية والعياذ بالله، ففي الدنيا لم يحققوا أغراضهم، وفي الآخرة كان العذاب الأبدي والعياذ بالله، {ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} [إبراهيم:18]. نسأل الله عز وجل أن يعز الإسلام والمسلمين، وأن يذل الشرك والمشركين، وأن يدمر اليهود والنصارى والمنافقين، وسائر الكفرة والملحدين أصحاب الضلالة والسوء. اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين. ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين. اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، اللهم متعنا بأسماعنا وعقولنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا. ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، ونجنا برحمتك من القوم الكافرين، ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير، ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم. اللهم أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، وانصرنا على من بغى علينا. اللهم اجعلنا لك شكارين، لك ذكارين، لك مطواعين، لك رهابين، إليك منيبين مخبتين، اللهم تقبل توبتنا، واغفر حوبتنا وثبت حجتنا، وأجب دعوتنا، واهد قلوبنا، وسدد ألسنتنا، وسل سخائم صدورنا، اللهم اجعلنا من عبادك المخلصين، اللهم اجعلنا من عبادك المخلصين، اللهم إنا نعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته، اللهم رب السموات السبع، ورب الأرض ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، فالق الحب والنوى، منزل التوراة والإنجيل والفرقان، نعوذ بك من شر كل شيء آنت آخذ بناصيته، اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اللهم اقض عنا الدين واغننا من الحق، آمين.

العبودية وظيفة العمر

العبودية وظيفة العمر إنَّ العقل يحكم على أنَّ الباب له صانع، وأن لكل فعل فاعل، وأن لكل فاعل غاية يريد أن يصل إليها من خلال فعله، ولله المثل الأعلى في ذلك، فهو قد خلق الإنسان وسخر له ما في السماوات والأرض، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة لغاية منشودة وهي عبادته عز وجل والائتمار بأمره والانتهاء بنهيه، والإنسان يحتاج إلى عبادة ربه بمفهومها الواسع أكثر من حاجته إلى طعامه وشرابه ونفسه؛ ليعيش مطمئناً سعيداً في الدنيا الفانية، والآخرة الباقية.

الغاية من خلق المخلوقات

الغاية من خلق المخلوقات إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فقد فطر الله سبحانه وتعالى خلقه على أن يعلموا أن لكل فعل فاعل، فإذا وجد الإنسان مثلاً بناء محكماً لم ير بانيه، أو وجد جرة يوضع فيها طعام أو شراب، حفر بعد قرون فوجدها، فقد فطره الله على أن يقول: لابد أن هذا البناء أو هذه الجرة قد صنعها صانع، وإذا وجدها محكمة متقنة فقد فطره كذلك على أن يعلم أنه لابد من غاية في صنعها، بل لو أن إنساناً دخل قرية مهجورة أو بيتاً مهجوراً منذ آلاف السنين فوجد في الحائط مسماراً قد دق فيه لأيقن من غير اضطراب عنده ولا شك ولا تردد أن هذا المسمار قد وضعه واضع، وقد صنعه صانع، وقد دقه في هذا المكان إنسان يريد شيئاً من وراء ذلك. فهذه فطرة فطر الله العباد عليها، ولو أنك من وراء طفل صغير ضربت بإصبعك على رأسه لالتفت ينظر من فعل هذا! ثم يقول لك: لماذا فعلت هذا؟! فلابد أن يكون لهذا الفعل من سبب، وإذا كان الفعل محكماً متقناً فلابد أن يكون الصانع له غاية من وراء ذلك، حتى المشركون قد أقروا بذلك رغماً عنهم. انظر في قصة إبراهيم عليه وعلى نبينا عليه الصلاة والسلام عندما كسر الأصنام، فرجع القوم من عيدهم، فوجدوا الأصنام مكسرة، فلم يقع بخاطرهم أن معركة قامت بين الأصنام، وأن الكبير مثلاً قد غضب ثم قام فكسر الصغار، فإن إبراهيم قد ترك كبيراً لهم لعلهم إليه يرجعون، ما صنعوا ذلك ولا ذهبوا للكبير وقالوا: من الذي كسر زملاءك وأندادك من الأصنام؟ بل قالوا لبعضهم: {مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:59]. إذاً: أقروا رغماً عنهم بأن هذا الفعل له فاعل، وما سألوا الأصنام ولكن سألوا العقلاء، فقالوا: من سمع من يذكرهم؟ {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء:60]. هذه فطرة في الإنسان أن كل فعل لابد له من فاعل، وأنه إذا كان الفعل محكماً متقناً فلابد للفاعل من غاية، والإنسان ينظر فيرى نفسه والكون من حوله والسموات والأرض كلها مخلوقات قد وجدت، وعلامات الحاجة والفقر بادية عليه، وهو نفسه يقر أنه ما أوجد نفسه ولا صنع شيئاً من نفسه، ولو تأمل فقط طرف أصبعه كيف رسمت هذه الدوائر المحكمة العجيبة التي يختلف كل إنسان منا عن أخيه وعن كل البشر، ويتميز بهذه البصمة، ويتفكر، هل رسمتها أنت يا أحمد ويا محمد ويا عبد الله؟! هل رسمها أبوك لك؟! هل رسمتها أمك وأنت في بطنها جنين؟! هل رسمها أحد ممن يسمون علماء الطبيعة والطب ونحو ذلك؟! قطعاً الإجابة يقينية عند الجميع أن أحداً منا لم يفعل ذلك، وأن الخلق جميعاً وجدوا أنفسهم مخلوقين كذلك، وهذا الفعل لابد له من فاعل، ولابد بهذا الإتقان وهذا الإحكام أن لهذا الفاعل غاية من وراء إيجاد هذا الخلق، وهذه فطرة في الإنسان وأسئلة ضرورية يفكر فيها كل إنسان عاقل أوجده الله عز وجل على ظهر الأرض، من خلقنا؟ لماذا خلقنا؟ ثم يفكر فيرى الناس أجيالاً تلو أجيال، يأتي قوم ثم يذهبون، يولدون ثم يعيشون مدة ثم يموتون، ثم يأتي دور طائفة أخرى ثم يأتي دوره هو ويجد نفسه ينمو، من الذي كبرك من صغرك؟! ولدت وأنت ثلاثة كيلو جرامات ونصف، أو أربعة على الأكثر، ولدت بلا عقل يفكر، بلا يد تبطش، بلا رجل تمشي، بلا لسان يتكلم، بلا قدرة، بلا إرادة، لا تعي إلا ثدي الأم، تريده ولا تدري لماذا تريده في تلك السن، بل فطرت على أن تميل إليه، وعلى أن تلقمه، وعلى أن تمص منه اللبن، فالله عز وجل فطر العباد على ذلك لمصلحتهم لكي تقوم حياتهم وتستمر، فالله سبحانه وتعالى فعل ذلك بنا، وجعلنا في حياتنا هذه نمر بمراحل تنتهي جزماً إلى الموت، فيسأل الإنسان نفسه ماذا بعد الموت؟ ما معنى هذه الحياة؟ إذاً لماذا وجدنا؟ لا شك أن كل عاقل سوف يقول: صاحب الصنعة أدرى بصنعته، فالله عز وجل خلق هذا الكون بهذا الإحكام والإتقان، فهذه الشمس الهائلة، والنجوم والمجرات والأرض الواسعة، كل ذلك لإحكام وإتقان بالغ، وكذلك جريان الدم في عروقك وفي شعيراتك التي لو فردت وضم بعضها إلى بعض للفت الكرة الأرضية عدة مرات، وفي كل واحد منا من الشعيرات الدموية ما شأنه كذلك، وفي كل ملمتر واحد من دم الإنسان ملايين الخلايا، خمسة ملايين، أو ستة ملايين، أو أربعة ملايين، وفي كل بقعة منها تجد شأناً عجيباً ووظائف محكمة متقنة. كل ذلك لابد أن يكون لغاية، وأكثر الناس عندما وجدوا أنفسهم قالوا: نعيش لنأكل ونشرب، نعيش لتناكح ونتناسب، نعيش لكي يكون بعضنا رؤساء وبعضنا مرءوسين، بعضنا ملوكاً وبعضنا مملوكين، ولكي يتنافس الناس قتلاً وذبحاً على هذه الدنيا العجيبة، وهم على يقين من أنهم عنها راحلون، ومع ذلك نقطع أن هذه إجابة فاشلة، ولكن انظر إلى حياة الناس فستعرف أن هذه هي الغاية، لماذا يكدح الناس؟ لماذا يتعبون؟ لكي يجمعوا الأموال، لكي تكون لهم الأرصدة، لكي تكون لهم الأرضين، لكي يكون هناك اللذات والشهوات، ثم أليس بعد هذا موت؟ الكل يقول: نعم، لماذا لا يفكرون فيما بعد ذلك؟ لأنهم لم يسألوا من يستطيع الإجابة على هذه الأسئلة الثلاثة: من خلقنا؟ ولماذا خلقنا؟ وإلى أين المصير؟ هناك من يقول: خلقنا صدفة بلا خالق، والكل يجمع على أن هذا غير مقبول في مسمار دق على الحائط، وكل إنسان الساعة التي يلبسها في يده لو قال له آخر: إن الحديد الذي فيها، والتروس التي تديرها قد جاءت من قمم الجبال، ونزلت إلى الأرض، وصبت نفسها في انضباط تام، وجاء بعضها وركب على بعض بالصدفة؛ لضحك الناس منه وقالوا: هراء وجنون أن يتصور الإنسان ذلك، مع أن هذا إجابة الكثيرين، وكثير منهم أو الأكثر في الحقيقة يقولون: خلقنا خالقنا وربنا الذي خلق الكون كله، أكثر الخلق يقولون ذلك، ولكنهم لم يسألوا: لماذا خلقنا؟ أو أجابوا بإجابة بلهاء فقالوا: خلقنا لنأكل ونشرب، ونعيش حياتنا، ونتمتع، نسأل الله العفو والعافية. هكذا يرون الحياة، يرون أن الحياة معناها: تأكل وتشرب، وتأتي النساء، وتأتي الملذات من أجل ذلك خلقنا، إجابتهم إجابة فظيعة، مستحيل أن يكون هذا الإحكام وهذا الإتقان من ورائه هذه الغاية، بل لو تتأمل أن هذه الأمور خلقت فيك، ووجدت فيك كما ذكرنا منذ ولادتك، الحاجة إلى الطعام والشراب لكي تعيش، أنت عندما ولدت جنيناً لم تكن تدري أن حياتك لا تقوم إلا باللبن، ولكن وجدت فيك الرغبة إلى اللبن، والتقام الثدي ومصه وتناول هذا الغذاء والشراب، وعندما أدركت بعد ذلك تجد في نفسك الحاجة إلى الطعام والشراب فتأكل وتشرب، ثم بعد ذلك تعمل لتأتي بالمال لتأكل وتشرب، كل ذلك لكي تعيش، وكذلك النكاح وشهوة النساء، هذه الشهوة لكي يحفظ النوع الإنساني كما تحفظ سائر الأنواع. إذاً: هذه الشهوات خلقت فينا لكي نحيا فلماذا نحيا إذاً؟ لابد من إجابة أخرى غير أننا نحيا لنأكل ونشرب ونتنافس، أو لتناكح، أو لنأتي هذه الشهوات، فلا يمكن أننا نعيش من أجل ذلك، وإن كان الواقع يثبت أن هذه الإجابة للأسف هي إجابة أكثر الناس على هذا الامتحان. والله عز وجل أخبرنا لماذا خلق الخلق فقال: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) [الملك:2]، فإجابة معظم الناس لعب ولهو، والعياذ بالله، قال تعالى: {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} [الأنعام:29]، والعياذ بالله، وهذه الحياة الدنيا عندهم لهو ولعب كما أخبر الله عز وجل أنهم يلهون ويلعبون؛ ولذلك كانت إجابتهم فاشلة، وخسرانهم في الامتحان ورسوبهم فيه أكيد، إلا قلة من أهل الإيمان فهموا وأدركوا أنهم لابد أن يرجعوا إلى خالق الخلق، لابد أن يرجعوا إلى صانع الصنعة، لابد أن يرجعوا إلى الذي أحكم كل شيء وأتقن كل شيء، ولا يمكن أن يكون قد خلق هذا الكون بهذا الإحكام والإتقان ثم يتركه سدى بلا حكمة، وبلا غاية، وبلا حساب، وبلا بعث، وبلا نشور، مستحيل ذلك، لابد أن هناك إرشاداً وهداية، وبالفعل نظروا فوجدوا أن الله عز وجل برحمته أرسل الرسل وأنزل عليهم الكتب، وضمن هذه الكتب الحكمة من خلقنا، قال عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، فجعل لهم وظيفة، وكل الوظائف لابد أن تصب فيها، ولابد أن تجتمع عليها، وجعل هذه الوظيفة طيلة أعمارهم، ليست في جانب من جوانب حياتهم فقط، وليست ديكوراً كما يريد البعض أن يجعله، يجعل هناك لوحة متكاملة، ويجعل في جانب منها عبادة الله، يجعل حياته كلها على ما يشتهي ويريد، ومن أراد من الناس أن يجعل لحياته جانباً من العبادة فهو حر، ومن أراد أن يعبد غير الله فهو حر أيضاً، والعياذ بالله. هذا ميزان أقوام يملئون الدنيا صياحاً، الناس أحرار فيما يعبدون، وفيما يأتون ويذرون، يكفيهم أن يقروا بأن الله هو الخالق، وبعضهم يقول: ولو قال بعضهم: إن الثعابين والشمس والقمر آلهة تعبد من دون الله لكان حقاً له أن يقول ذلك، ولكان ذلك تراثاً حضارياً، ولكان ذلك ميراثاً إنسانياً يدل على الرفعة والكمال الذي يجب أن يحافظ عليه! نعوذ بالله، فقد وجد في الخلق من يعبد الفئران ومن يعبد البقر، وإلى يومنا هذا لا يزال من هو كذلك، هناك في شعوب الأرض من يعبد فرج الرجل، وهناك من يعبد فرج المرأة، وهناك من ينحت التمثال بنفسه ثم يصير عبداً له، ولم يزل هذا عند الناس كما قال الخليل عليه الصلاة والسلام: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِن

الآخرة خير وأبقى

الآخرة خير وأبقى إن وظيفة العبادة جعلت في القلب حاجة شديدة لها؛ لأنه إذا كانت حياة البدن ستين سنة أو سبعين أو مائة، فقد فقدَ هذه الحياة بضياع لذات متقطعة خلال ستين أو سبعين سنة، ثلثها نائم، وخمسة عشر سنة منها وهو صغير لا يفهم شيئاً، ومن خمسين إلى سبعين أو ثمانين أمراض كثيرة بدأت تدب إلى الجسد، وفيما بين ذلك لذات في لذات، أكل في اليوم لمدة نصف ساعة ثلاث مرات، هذا إذا كان يأكل لحماً ودجاجاً وكل شيء لذيذ، فتراه مع هذا يضيق منه مرة، فينتقل إلى أكل يحبه مرة، وساعات يقضيها في أكلة شهية، هذه هي لذة الطعام ولذة الشراب، ومع هذا لا يشرب دائماً أشياء باردة وجميلة وحلوة وعصائر وكل ما يشتهي. كذلك لذة الجنس ثوان معدودة، وبعدها يجد رغبة إلى هذا الأمر كل يوم أو يومين أو ثلاثة أو كل أسبوع، حتى يفقد الإنسان حياته الدنيوية، فتنقطع حياة البدن ولذاته، وإذا فقد حياة قلبه وحياة روحه فقد النعيم إلى الأبد، فيفقد لذات الروح والبدن معاً، ويفقد القرب من الله عز وجل، ويحصل له عذاب أبدي غير متصور، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ناركم هذه التي توقدون جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم قالوا: يا رسول الله! إن كانت لكافية، قال: فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً كلهن مثل حرها)، نعوذ بالله من النار، هكذا أخبر النبي عليه الصلاة والسلام. فلو تأمل الإنسان أن موت القلب أخطر من موت البدن بما لا وجه للمقارنة سوف يهتم بحياة القلب، ولو مرض القلب لاهتم بإصلاحه وعلاجه، والبحث عن الطبيب، وأخذ الدواء بانتظام؛ لأن هناك خطورة بالغة على حياة قلبه، فالإنسان حين يفكر في حياته يفكر في الستين والسبعين، وما يلقاه في قبره أعظم، والناس من أيام سيدنا نوح عليه السلام سكنى في القبور سنين لا يعلمها إلا الله، فمن أيام النبي عليه الصلاة والسلام أكثر من ألف وأربعمائة سنة، والله أعلم كم سيكون بعد ذلك؟ وربما يبقى الإنسان في قبره أضعاف أضعاف أضعاف ما عاشه على ظهر الأرض، وبعدما يقوم من القبر يقوم إلى يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، يا سبحان الله! إن يوم القيامة يوم الحساب خمسون ألف سنة، يقف الناس فيه شاخصة أبصارهم ينتظرون فصل القضاء، ومنهم من يقف أربعمائة سنة، ومنهم أربعين، وهناك من يشعر بهذا اليوم كأنه نصف يوم، قال تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان:24]، والمقيل: هو وقت القيلولة الذي يكون في نصف النهار أو قبل نصف النهار، يعني: أهل الجنة قبل نصف نهار يكونون قد دخلوا الجنة واستراحوا في أحسن مقيل، واستراحوا من الهموم، والناس الآخرون في حر شمس تدنو من الرءوس قدر ميل، يعرقون عرقاً شديداً، منهم من يأخذه العرق إلى كعبيه، ومنهم من يأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من يأخذه إلى حقويه وإلى نصفه، ومنهم من يبلغ ترقوته، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، ونسأل الله العافية. هذا الأمر لخمسين ألف سنة في يوم القيامة فقط، ثم بعد ذلك يكون هناك نعيم أبدي أو عذاب أبدي. إذاً: العقل يقتضي ويوجب على الإنسان أن يهتم بحياة قلبه؛ لأن ضياع حياة القلب معناه: ضياع كل الخير في هذه المدة، وحصول كل الشر في هذه المدة الهائلة التي بلا نهاية، وأي شيء بالنسبة إلى النهاية تساوي صفراً، مهما كانت الدنيا من أولها إلى آخرها لذات، ثم يكون مصير الإنسان إلى النار أبد الآبدين يقسم بالله صادقاً فيقول: لا والله ما مر بي نعيم قط، فعندما يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار فيغمس في النار غمسة واحدة فيقال: هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله ما مر بي نعيم قط، ونعوذ بالله من ذلك، ويغمس أبأس أهل الدنيا من أهل الجنة في الجنة غمسة واحدة فيقال له: هل مر بك بؤس قط؟ هل مر بك شقاء قط؟ فيقول: لا والله ما مر بي شقاء قط. فالعقل يقتضي أن يبحث الإنسان عن سبب حياة قلبه، والقلب يحيا ويموت ويمرض وهذا في كتاب الله عز وجل، قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122]، وقال عز وجل: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر:19 - 22]. قوله: (من في القبور) أي: الكفار، قبورهم هي أجسادهم دفنت فيها القلوب، وماتت القلوب.

فطر الله الناس على عبوديته

فطر الله الناس على عبوديته جعل الله سبحانه وتعالى في الإنسان فطرة في الميل إلى حياة القلب، وفي البحث والسؤال عنها، والحرص عليها، فحاجته إلى ذلك أشد من حاجته إلى الهواء الذي يتنفسه، فالإنسان يجد حاجة إلى الهواء؛ لأنه لا يحيا بضع دقائق بدون الهواء، فيجد راحة في أخذ النفس تلقائياً، فكذلك حياة القلب جعل الله فطرة في الإنسان أنه يميل إلى أن يعبد الله عز وجل، ويبحث عن هذه العبودية، ولا يستقر له قرار إلا بأن يكون عبداً لله سبحانه وتعالى، قال الله عز وجل: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:30]، الحنيف: المائل إلى الله، والمشتاق إليه، والمريد له المعرض عن غيره، والعابد له؛ ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة)، وفي رواية في الصحيح: (يولد على هذه الملة). إذاً: ملة التوحيد والإيمان بالله والعبودية الكاملة لله عز وجل هي فطرة في كل إنسان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه كما تلد البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟)، كان العرب يشقون آذان البهائم، وعندما تلد البهيمة لا تلد بهيمة مشقوقة الأذن بل تلدها بهيمة كاملة، كذلك اليهود والنصارى والمجوس والهندوس وكل الملل المشركة يولدون على الحنيفية، ويبحثون عن عبادة الله، ثم يصرف تدريجياً بأنواع الصرف عن عبادة الله عز وجل، ولو ترك وشأنه لاختار هذا الدين، واختار هذه الملة، واختار أن يعبد الله، ولما كانت الشهوات حاجزاً له عن الله سبحانه وتعالى، لكن يظلون يقذفون في قلبه هذه النجاسات والقذارات وزبالة أفكارهم حتى إذا عقل هذا الإنسان وجد في نفسه الأسئلة الثلاث تطرح عليه: من خلقك؟ لماذا خلقك؟ إلى أين المصير؟ ولكنه يسكت عن الجواب لوجود الزبالة والخزعبلات والنجاسات في قلبه، فيقول: لا أريد أن أبحث في هذه المسألة، وإذا قال له إنسان: أين المصير؟ الموت، الجزاء، الحساب، لم تخلق سدى، يقول لك: اتركنا وشأننا ونعيش حياتنا، والعياذ بالله، نريد أن نستمتع بالحياة. وكثير من إخواننا ممن يعيشون في بلاد الكفر خالطوا الكفار وسألوهم عن ذلك، وعندهم إتقان في كل شيء، لكن إذا سئل أحدهم في مسألة هذه يقول: أنا لا أدري، ولا أريد أن أبحث في هذه المسألة، لأنني أعيا حين أفكر فيها، وكل شيء عنده في حياته اليومية يمر بانتظام إلا هذه النقطة فلا يفكر فيها، مع أن عنده حاجة ضرورية يحس بها، وأنه لابد أن يتوجه، ولابد أن يعبد، فقد خلقه الله كذلك، كما قال الله عز وجل في الحديث القدسي: (إني خلقت عبادي حنفاء)، مفردها حنيف، والحنيف هو: المائل إلى الله، فقد فطر الله العباد على ذلك، وهكذا أمر الله عز وجل أن نكون، قال الله عز وجل في الحديث القدسي: (فأتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم) أي: أبعدتهم عن دينهم الذي فطر الله العباد عليه؛ ولذلك فإن دعوة الرسل للإنسان تجدها مختلفة تماماً عن أي دعوة أرضية، وعن أي دعوة جاهلية، ويجد الإنسان في نفسه رغبة موجودة من دعوة الرسل، فيه فطرة موجودة من أثر ذلك الميثاق البعيد الذي أخذ عليه وهو لا يدري كيف أخذ، لكنه بالقطع قد أخذ، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف:172 - 173]، فالله أرسل الرسل لتحذير الناس من هذا النفاق، وليذكروهم بهذه الفطرة التي هي نسخة أصلية من دعوة الرسل، ومطابقة لها تماماً، ولذلك عندما يأتي نور الوحي على نور الفطرة يكون نوراً على نور، {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:35]. فالعباد خلقوا مائلين إلى الله، محتاجين إلى عبادته أشد من حاجتهم إلى الهواء والماء والطعام، ولذلك جعل الله أدلة التوحيد، وأدلة صدق الرسل كالماء والهواء، يجدها كل طالب للهواء، والهواء لا يباع، والماء غالباً لا يباع؛ لأنه ينزل عن طريق المطر من السماء فتجري به الأنهار والعيون، والأصل أن الماء لا يباع، فالناس في حاجة إليه على الدوام أكثر من حاجتهم إلى الطعام؛ لأن المجاعات هذه حالة استثنائية. فالله جعل أدلة التوحيد وأدلة معرفته وتعظيمه وربوبيته وإلهيته كالهواء، وجعل أدلة صدق الرسل كالماء، وهو أدنى مجهود يبذله الإنسان، وجعل معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم مثل الشمس نوراً وضياء، وأدنى بحث فيها سوف يجزم به كل عاقل أن هذا الدين أوضح دين، وأظهر دين، وأحق دين، ولا يوجد حق سواه، قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19].

العبودية سعادة وطمأنينة

العبودية سعادة وطمأنينة العبودية وكون الإنسان عبداً لله عز وجل ليست فقط مجرد تكليف بأمور شاقة تجد فيها مشقة، بل الحقيقة أنها للإنسان كالهواء الذي يتنفسه ويستريح به، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أرحنا بها يا بلال)؛ لأنه يستريح في أثناء العبادة، قال صلى الله عليه وسلم: (حبب إلي من دنياكم الطيب والنساء، وجعلت قرت عيني في الصلاة)، ولا شك أن من جرب لحظات من العبودية الحقيقة الكاملة لله؛ لأيقن وحلف بالله العظيم صادقاً من غير حنث ولا خداع للناس أن أعظم لذة في هذه الدنيا قبل الآخرة هي لذة عبادة الله عز وجل، والقرب منه، والتقرب إليه، والشعور بالانكسار والذل والحب له عز وجل، وأعظم ما يجده الإنسان من لذة هي لذة الشوق إلى لقاء الله، كما كان النبي صلى الله عليه يقول: (وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك). فالعبودية فعلاً لذة عظيمة، قال عنها بعض الصالحين: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف، ويقول بعضهم: يأتي على القلب أوقات أقول فيها: لو كان أهل الجنة فيما نحن فيه، لكانوا في عيش طيب، مع أنه لا وجه للمقارنة بين قرب أهل الجنة من ربهم وبين قرب العباد في هذه الدنيا، وإنما أعطاهم الله ما يعرفون به حقيقة النعيم في الجنة، كما أن الله أعطانا من الطعام ما ندرك به أن هناك في الجنة أنواعاً من اللذات من الطعام والشراب لا تخطر على قلب بشر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)، وما أخبرنا به إنما هو أسماء، وحقيقة اللذة أعظم، فأعظم من نعيم العباد في الدنيا نعيم قربهم من الله عز وجل في الآخرة، وكيف لا وهم ينظرون إلى الله عز وجل، فيذوقون لذة النظر إلى وجه الله سبحانه وتعالى كما قال عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]، فالنظرة التي تجري فيها من النظر إلى وجه الله لا توصف، وهم إنما خلقوا للبقاء، ويأتيهم من نظرهم إلى وجه الله عز وجل ما لا يمكن أن يدركه إنسان، فتنحني المخلوقات تعظيماً لله عز وجل في هذه الدنيا، قال تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف:143] أي: انحنى الجبل تعظيماً لله عز وجل، قال: {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف:143]، فكيف بهم حين يبقيهم الله ليدركوا شيئاً من عظمته، وهم باقون مع ذلك لا يفنون؟ وهذا البقاء الذي هو أعظم من الفناء هو أعظم نعيم عجزت عن إدراكه العقول، فأعطاهم الله ذرةً منه في الدنيا؛ ليقول قائلهم: لو كان أهل الجنة فيما نحن فيه لهم في عيش طيب، وما أفظع أن يحرم الإنسان من ذلك، وما أبشع أن يبعد الإنسان عن ذلك بالخمر المسكرة والمخدرات، لست فقط أعني الخمر التي يشربها الناس والمخدرات التي يشربونها، بل أعني: كل الشهوات، فإنها تعمي القلب، وتجعله تعيساً تعاسة فظيعة لا يدرك لهذه الدنيا طعماً، ولا يدرك لذة العبودية لله، ولذة حبه والانكسار له، ولذة الذل والخضوع له عز وجل، ولذة الشوق إليه، ولذة الخوف منه وحده لا شريك له، فيزول من قلبه خوف كل أحد سواه، فخوفه من الله عز وجل نعيم، والخوف من غيره شقاء، والتوكل على الله عز وجل نعيم، والتوكل على غيره شقاء، وقلق واضطراب وحيرة وشك، ولا تدري هل يقضي لك مصلحتك أم لا؟ وأما إذا توكلت على الله كفاك ما أهمك، وكذلك لذة شكر نعمة الله نعيم، ونسبة الفضل للنفس وللخلق، والانكسار لهم ذل وهوان وغباء وجهل، والعياذ بالله أن يقول الإنسان: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78]، كذلك لذة التواضع لله عز وجل نعيم، والكبر شقاء للإنسان وعذاب حين يعجب بنفسه ويتفاخر ويتكبر، فإبليس عذب بحاله قبل طرده من رحمة الله؛ لأن في قلبه العجب والكبر والغرور والعياذ بالله، فتجد فعلاً كل هذه اللذات الدنيوية المسكرة المحرمة من مخدرات وغيرها تؤدي إلى تنويم للإنسان حتى يصاب فيها بفشل تنفسي؛ لأنها تجعل مركز المخ لا يحس بأنه يريد أكسجين، فيتوقف الإنسان عن التنفس فيموت؛ ولذا فإن أصحاب المخدرات والخمر يريدون العيش على هذه الحال؛ حتى يحسوا بأن خيالاتهم حقيقة، فيخلطوا ما بين الحقيقة والخيال. فالذي يتعاطى المخدرات يتخيل نفسه أنه أعظم رجل في الدنيا، قال تعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر:72] أي: في سكر أصلاً أشد من سكر الخمر والعياذ بالله. كذلك الذي أهدر حياته كلها أمام التلفاز والفيديو، فتارة ينظر إلى ممثلة، وتارة يسمع المغنية هذه، ولا يعرف إلا لعب الكرة فقط، ولا يعرف في الدنيا إلا اللذات، فيخرج من الدنيا مفلساً لم يعرف منها إلا هذا، ونسأل الله العفو والعافية. إنها لمصيبة عظيمة أن يعيش الإنسان حياته بهذه الطريقة والعياذ بالله، فالإنسان إذا تعود على شهوة معينة فإنه لا يستطيع أن يحيا إلا بهذه الطريقة، ومن الناس من جعل شهوته في النساء كشهوة قوم لوط في الرجال، فإن شهوة امرأة العزيز في يوسف جعلتها لا تحس بما يحدث، فقد فتحت الأبواب ودخل عليها زوجها وهي لا تحس بذلك، فقد كانت مشغولة بشد قميص يوسف عليه السلام، وزوجها كان عزيز مصر، قال عز وجل: {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} [يوسف:25]. وقد كان يوسف ينفر منها، فلم تمنعها كرامتها من الإبعاد عنه وتركه؛ لأنه هو الذي يبعد عنها، فقد أصبحت الشهوة مسيطرة عليها وقد شغفها حباً، فمثل هؤلاء لم يعرفوا حباً سوى هذا الحب في الدنيا، ولم يذوقوا حب الله عز وجل ولا حقيقته.

دعوة الرسل إلى عبادة الله

دعوة الرسل إلى عبادة الله إن أول الوصايا العشر التي أوصى الله عز وجل بها موسى هي عبادة رب واحد هو رب إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وأن تحب الرب إلهك من كل عقلك وقلبك وفكرك. والمسيح عليه الصلاة والسلام في الإنجيل قال لربه: أيها المعلم! ولم يقل: أنا ابن الله، أو أنا ثالث ثلاثة، بل قال لهم: ارجعوا للتوراة فقد كتب فيها أن الرب واحد رب إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وأن تحب الرب إلهك من كل عقلك وقلبك وفكرك. فهذه المسألة أعظم المسائل، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، وأول ما بعث به النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له)، ولذلك شرع الجهاد بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وهو تحرير للإنسانية بل إنقاذ للبشرية، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، فمن رحمة الله عز وجل بالبشر أن أرسل إليهم رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ليعبدوا الله وحده، وكلفه بالجهاد من أجل مصلحتهم؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنتم خير الناس للناس تدخلونهم الجنة بالسلاسل)، فيجدون مصلحتهم بالرغم عن أنفسهم، يدخلون الجنة مقيدين بالسلاسل، يقاتلون فيؤسرون ويسلسلون بالسلاسل فلا يمضي عليهم وقت إلا وقد دخل الإسلام في قلوبهم، وصار الإسلام أحب إليهم من كل شيء.

قصة إسلام ثمامة بن أثال

قصة إسلام ثمامة بن أثال إن ثمامة بن أثال كان سيد بني حنيفة، كانت كلمته مسموعة، كان ذاهباً إلى العمرة مشركاً، وقد كان يبغض النبي صلى الله عليه وسلم، فما من وجه أبغض إليه من وجهه، وما من بلد أبغض إليه من بلده، وما من دين أبغض إليه من دينه كما قال ثمامة، فلما أسرته خيل المسلمين أتي به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فربطه في سارية من سواري المسجد، والرسول صلى الله عليه وسلم يعرف قدر ثمامة وربطه عمداً؛ وجعله على ذلك ثلاثة أيام لكي يرى الإسلام في مجتمع ومسجد النبي عليه الصلاة والسلام، هذا المكان المبارك المشرف المعظم الذي هو بيت التقوى، قال تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} [التوبة:108]، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يرى مجتمع المسلمين؛ ليعرف حقيقة الإسلام، فربطه في المسجد في سارية، ثم قال له: (ما عندك يا ثمامة؟ قال: عندي يا محمد خير، إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تمنن تمنن على شاكر، وإن تسأل المال تعط منه ما شئت) أي: إذا قتلتني سوف تقتل رجلاً تفرح بقتله، وإن مننت علي فأطلقتني فأنا أشكر ذلك، وإن تسأل المال تعط منه ما شئت، فتركه النبي عليه الصلاة والسلام وجاءه في اليوم الثاني فقال: (ما عندك يا ثمامة؟ قال: عندي ما قلت لك يا محمد)، لكنه بدأ بقوله: إن تمنن تمنن على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن تسأل المال تعط منه ما شئت، وكأنه وجد أن المن أقرب، وفي اليوم الثالث قال له النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك وأجابه ثمامة مثل ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أطلقوا ثمامة)، ثلاثة أيام غيرت حياة ثمامة بالكلية، وانطلق حراً إلى أقرب بستان فيه ماء فاغتسل ورجع وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: يا رسول الله! والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك فأصبح أحب الدين إلي، وما كان من وجه أبغض إلي من وجهك فأصبح أحب الوجوه إلي، وما كان من بلد أبغض إلي من بلدك فأصبح أحب البلاد إلي، وإن خيلك أسرتني وأنا أريد العمرة، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعتمر، فلما كان يطوف بالبيت قال له المشركون: صبأت يا ثمامة؟ قال: بل آمنت مع محمد صلى الله عليه وسلم، ووالله لا تأتيكم حبة من اليمامة من القمح حتى يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا تغير ثمامة بن أثال رضي الله تعالى عنه تغيراً تاماً لما رأى حياة المسلمين في المسجد حياة عبودية لله سبحانه وتعالى، وبالتأكيد كان لا يدري بذلك؛ ولذلك فعلاً دخل الجنة من خلال الأسر ومن خلال السلاسل التي ربط بها في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام. إذاً: العبودية لله سبحانه وتعالى الإنسان يحتاج إليها، ويجد اللذة فيها أكثر من حاجته إلى الهواء وأشد من لذته للطعام والشراب لو قام بها على الوجه السليم.

سبب التكاسل في العبادة

سبب التكاسل في العبادة نحن نجد المشقة في العبادة، فنصلي ونحن على إعياء، ونصوم ونحن نريد وقت الإفطار يأتي بسرعة؛ لأن هناك نوعاً من النقص في القلوب أو في الأعمال الظاهرة، فسيدنا موسى عليه الصلاة والسلام طلب لقاء الرجل الصالح العالم؛ ليتعلم منه مسائل، وأخبره الله عز وجل أنه يلقاه بمجمع البحرين، ولما جاوز موسى مجمع البحرين من حيث لا يشعر؛ لأنه كلف فتاه أن يحفظ السمكة المملحة في مكتل وقال له: متى وجدت هذا الحوت قد أصبح حياً فهناك الملتقى، لا أكلفك غير ذلك؟ قال: ما كلفتني كثيراً، وبالفعل نام موسى عليه الصلاة والسلام، وأحيا الله عز وجل الحوت عند مجمع البحرين، وانطلق في البحر كما وصف الله عز وجل، ونسي الفتى أن يبلغ موسى ومشى وجاوز، قال تعالى: {فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} [الكهف:62]، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وما وجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمر به)، سبحان الله! ومع أنه كان عن اجتهاد، وطلب للخير، ونسيان من الفتى بغير قصد قال: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف:63]، ومع كل ذلك كان النصب بسبب مجاوزة الحد، فما بالك إذا كانت المجاوزة عمداً فلابد أن يكون هناك نصب، أو كان هناك تقصير وتوان لابد أن هناك مشقة، ولو كانت العبادة على ما أمر الله عز وجل لما وجد الإنسان أي تعب فيها، فقد ورد في الحديث أن: (النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تتورم قدماه) وفي رواية: (حتى تتشقق قدماه) أي: تتفطر قدماه (فيقال له في ذلك فيقول: أفلا أكون عبداً شكوراً)، صلى الله عليه وسلم، وهو صلى الله عليه وسلم لا يجد تعباً في ذلك، بل يقوم ليلة يقرأ فيها البقرة، ثم النساء، ثم آل عمران، وصلى معه مرة عبد الله بن مسعود فقال: هممت بأمر سوء، هممت أن أجلس وأتركه؛ من طول قيام النبي صلى الله عليه وسلم، وصلى الله عليه وسلم لم يشعر بذلك، فقد جعلت قرة عينه في الصلاة صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا يجد الإنسان منه بقدر إخلاصه وبقدر حبه لله عز وجل، وبقدر إتقانه للعبادة، وبقدر أدائه لهذه العبادات على الوجه المشروع، فالبدعة أو التقصير في اتباع السنة أو عدم حضور القلب فيها هو الذي يجعلها عبادة جافة شاقة على النفس، مع أن الإنسان لن يجد الراحة والسكون في العبادة إلا بعد مجهود؛ لأن نفسه ما زالت ظالمة جاهلة حتى تكسى تدريجياً، فالإنسان يولد عارياً ثم يكسى، والإنسان ظلوم جهول، ثم يعلم ويرزق العقل وكلما علم ورزق الإرادة السليمة الصحيحة والعدل وجد حقيقة العبودية، ووجد كيف يؤدي هذه الوظيفة في عمره كله مع الراحة والسكون، واللذة والسعادة في هذه الدنيا قبل القبر وقبل يوم القيامة، وقبل الجنة التي عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين.

تعريف العبادة ومفهومها الواسع

تعريف العبادة ومفهومها الواسع العبادة كما عرفها شيخ الإسلام ابن تيمية: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة، ونحتاج فعلاً إلى إدراك هذا التعريف الجميل، فالعبادة هي الطاعة بأنواعها المختلفة، لكنه يضع يدك على الحروف التي ربما لا ترى كل جزء من أجزائها، فالعبادة ليست فقط الشعائر العظيمة التي هي أركان الدين، بل في الحقيقة هي الأوعية التي يفرض لك فيها نصيبك من المحبة والود، والخوف من الله، ورجائه، والشوق إليه وشكر نعمه، فأنت لن تجد أفضل من الصلاة والصيام والزكاة والحج لكي تنال فضل الله عز وجل عليك في حال قلبك، هذه هي الأوعية التي تنال فيها الغذاء، فأنت عندما تحتاج إلى الغذاء لابد أن يكون لك وعاء، فإن لم يكن معك وعاء لن تأخذ غذاء، فلابد أن تأخذ الوعاء وتقف على الباب وتدقه مرات، وتقول: يا رب! أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، فيرزقك الله عز وجل ما لم يكن يخطر ببالك من أنواع الراحة واللذة والسكون، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ * الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} [الرعد:28 - 29]، طوبى لك إن رزقك الله عز وجل عبادته، ووفقك في عبادتك له سبحانه وتعالى، ولكن كما ذكرنا هذه هي أوعية العبودية، ولابد أن تستحضر أن العبادة أوسع وأشمل من ذلك، بل هي الأركان التي يقوم عليها البناء، قال النبي عليه وعلى آله وسلم: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت)، هذه الأركان هي العبادة لكن توجد جوانب أخرى؛ ولذلك أصل هذه العبودية صلاح القلب، قال الله عز وجل: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1 - 2]. إذاً: من العبادة الخشوع في الصلاة، وحضور القلب فيها، قال تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} [النساء:103]، وقال سبحانه وتعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152] وقال: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14]. إذاً: المطلوب هو أن تذكر الله؛ ولذا قال الله عز وجل: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45]، فالصلاة فيهما أمران كلاهما عظيم، وأحدهما أكبر وأعظم، الصلاة فيها نهي عن الفحشاء، وإبعاد لك عن مواطن الهلاك، وفيها ما هو أعظم، فيها ذكر الله، وذكر الله أعظم من النهي عن الفحشاء؛ لأن ذكر الله هو حياة الإنسان وحياة قلبه؛ ولذلك قال عز وجل لنبيه وكليمه موسى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14]، وقال عز وجل: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114]، إذاً: الآية هذه تضمنت نفس ما تضمنته الآية الثانية، حيث قال الله: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45]، وقال هنا: ((إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ)) [هود:114] وشيء أعظم من ذلك كله، وهو قوله تعالى: {ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114]. فالإنسان محتاج إلى حاجتين: محتاج إلى وقاية من الشر، ومحتاج إلى غذاء، والغذاء أهم، يعني: الغذاء بالنسبة له لو لم يأكل يموت، وإن أخذ بعض المضار فمن الممكن لجسمه أن يتغلب عليها، فإما أن يأكل وإن كان فيه مكروبات، وإما أن يجوع فيموت، وإما أن يشرب ماء معكراً ليس نظيفاً، أو أنه لا يشرب أبداً كذلك الذي اقترف القليل من المعاصي ولكنه يعبد ربه خير من الذي لا يعبد ربه أبداً. ولذلك نقول: الصلاة لذكر الله عز وجل، والصيام للتقوى، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]، فالصيام يقرب إلى الله أكثر حتى تتقيه، فأيام رمضان أيام عظيمة البركة، وأيام مليئة بالخير، والصيام جنة، ووقاية من المعاصي، وهو سبب للتقوى وسبب لصلاح القلب، أما الزكاة فقد قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ} [التوبة:103]، فهي طهارة للقلب وزكاة للإنسان، وأما الحج فقد قال تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:37]، وقال: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32]، وقال: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج:30]، فهذه العبادات كلها لصلاح القلوب؛ ولذلك القلب هو أساس العبادة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسادكم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)، وعبودية القلب تدور بين العلم والعمل، فالعلم: هو المعرفة والتصديق واليقين بأسماء الله عز وجل وصفاته، ومعرفة ربوبيته وألوهيته، ومعرفة ما يضاد ذلك للحذر منه، ومعرفة الشرك بالله وأنواعه التي يكثر وقوعها في الناس لكي يحذر الإنسان على نفسه منها، ومعرفة ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من تفاصيل لأصول الإيمان كلها: الملائكة، والكتب، والرسل، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وتصديق ما جاء به الكتاب والسنة في ذلك وتعلمه تفصيلياً، فكلما تعلمت من ذلك مسألة فهذا في حد ذاته أمر مطلوب، ثم تصديق كل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من أنواع العبادات من الإيمان والإسلام والإحسان، وتصديق الأخبار، وامتثال الأوامر والنواهي، وتصديق أنها حق من عند الله، وأن الله أمر بكذا، وأن الله نهى عن كذا، فكل مسألة من مسائل الدين تتعلمها، ويكون عندك الدليل الصحيح عليها من الكتاب والسنة، فتصدق بأن الله أمر بكذا، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بكذا، فهذا من عبودية القلب في جانب العلم واليقين والتصديق، وكلما ازداد الإنسان معرفة بالأدلة ازداد تصديقه ارتفاعاً، ويزداد من ذلك علماً حتى يصل إلى علم اليقين، وربما من الله عز وجل عليه بأشياء تكون من عين اليقين يراها، فيفتح الله سبحانه وتعالى عليه من أنواع العلوم والمكاشفات ما لا يدركه غيره من الناس، وأعظم ذلك أن يعلمه الحق الذي اختلف فيه الناس، ويرشده الله ويهديه إلى الصراط المستقيم فيما اختلف فيه من الحق، قال تعالى: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة:213]. وأما جانب العمل القلبي فهو عبادات القلب المختلفة، وأصلها: الحب والخوف والرجاء، وهذه أجنحة العبادة الثلاثة، فمن عبد الله بالحب والخوف والرجاء فهو المؤمن الموحد، وأما من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، كما يزعم بعض من لا يفهم حقيقة العبادة فيقول: إن كنت أعبدك طمعاً في الجنة فاحرمني منها، وإن كنت أعبدك خوفاً من النار فأدخلني فيها، قال بعض السلف: من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، وكاذب لم يعرف حقيقة العبودية، إن الله يقول: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة:40]، وهذا يقول: إن عبدتك رهبة فأدخلني النار! نعوذ بالله من ذلك، أليس الله يقول: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ} [البقرة:218]؟ فكيف تقول: لا أرجو الله والعياذ بالله؟! المؤمن يعبد الله حباً وخوفاً ورجاء، فمن عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبد الله بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبد الله بالحب والخوف والرجاء فهو المؤمن الموحد. ومن العمل القلبي الإخلاص والانقياد، ونية المتابعة الصادقة لشرع الله عز وجل، ولما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم، والإخلاص والاتباع والإيمان هي شروط صحة العبادة، ولا تصح عبادة من العبادات إلا بالإيمان والإخلاص وإرادة وجه الله عز وجل دون ما سواه، من إرادة النفس وحظوظها وشوائب الرياء، وحب مدح الناس، والخوف من ذمهم وغير ذلك. ومن شروط صحة العبادة الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جاء به، وأصل الاتباع: قلبي، وكماله: باللسان والجوارح. وكذلك عبادة الصبر والشكر والرضا، وعبادة التوكل على الله سبحانه وتعالى، والرغبة فيما عنده سبحانه وتعالى، وكذا عبادة الزهد في الدنيا، وتعظيم أمر الآخرة، وتعظيم الرب سبحانه وتعالى، وتعظيم أوامره، وتعظيم حرماته، والورع عن محارمه سبحانه وتعالى، وغير ذلك من عبادات القلب، وذكر الله أصله في القلب، ثم يعبر عنه باللسان. والتوبة إلى الله عز وجل أصلها عقد العزم ألا يعود إلى الذنب مع ترك الإصرار والإقلاع عن الذنب، فهذه كلها من عبادات القلب المهمة العظيمة. والمراقبة لله سبحانه وتعالى، أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، ومحاسبة النفس لله، والتفكر والاعتبار بآيات الله سبحانه وتعالى، وكل عبادة ذكرها الله عز وجل في كتابه، وذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في سنته من عبادات القلب فهي من أعمال القلوب. ومنها الاعتقاد واليقين وتصديق الله فيما

اللهم بك آمنت وعليك توكلت

اللهم بك آمنت وعليك توكلت يعتبر الإيمان بالله تعالى أصلاً لسائر أركان الإيمان، ويلزم معه الإتيان بالواجبات واجتناب المحرمات، ولكونه تصديقاً تكنه الضمائر وجب على العبد أن يظهره على لسانه بالنطق بكلمة التوحيد، وحرم عليه أن يتفوه بما يضادها، ووجب عليه أيضاً أن يظهره بعمل الجوارح، خاصة الأركان الأربعة من أركان الإسلام، كما وجب عليه أيضاً أن يظهر أثر إيمانه على أعمال قلبه، ومن أهمها التوكل على الله، ولذا فإنه ينبغي للعبد أن يدرك حقيقة التوكل وأهميته، ومنزلته من الإيمان، وعلامات صدقه، وغير ذلك مما يحقق هذا المعنى العظيم.

مكانة الإيمان في حياة المؤمن

مكانة الإيمان في حياة المؤمن إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. وإن الإيمان بالله سبحانه وتعالى هو حجر الزاوية في قلب المؤمن، وهو الذي تدور عليه رحى حياته، كما أخبر الله سبحانه وتعالى في غير موضع من كتابه، أخبر بأن الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم الناجون والفائزون والمفلحون، وأنهم الذين كتب الله لهم الجنان، ولذا كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، أنت ربنا وإليك المصير، فا غفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، أنت إلهي لا إله إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك).

أركان الإيمان وأصله ولوازمه

أركان الإيمان وأصله ولوازمه والإيمان إذا ذكر مع الإسلام فالمراد به ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره)، كما أجاب جبريل عليه السلام عن سؤاله عن الإسلام والإيمان. وهذا الإيمان الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم أصله الإيمان بالله، وأما باقي أركان الإيمان فهي لوازمه أو من أجزائه، فالإيمان برسل الله صلوات الله وسلامه عليهم لازم من لوازم الإيمان به سبحانه، فلا يقبل الله عز وجل إيماناً به دون إيمان بالرسل، فإنه لا يكون مؤمناً من كذب الرسل؛ لأن الله عز وجل قد صدقهم وأرسلهم بالصدق والحق، فمن كذبهم فقد كذب الله عز وجل، ولا يكون مؤمناً أبداً من كذب الله. فليس الإيمان مجرد المعرفة بوجود الله سبحانه وتعالى، وإن كان ذلك -بلا شك- من أصوله، لكنه لا يكون إيماناً نافعاً، فلقد كان المشركون يقرون بوجود الله عز وجل، وبخلقه للسماوات والأرض وبخلقهم، كما قال سبحانه وتعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:9]. وقال سبحانه وتعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87]. وقال سبحانه وتعالى: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون:88 - 89]. فهم كانوا يقرون بأن الله عز وجل هو الخالق المالك، وأنه سبحانه وتعالى هو الذي يدبر الأمر، كما قال عز وجل: {أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [يونس:31]. فليس الإيمان بالله عز وجل مجرد المعرفة بوجوده، فلقد كان المشركون يقرون بذلك، ولقد كان اليهود والنصارى أشد معرفة بوجود الله عز وجل، وبكثير من أسمائه وصفاته من غيرهم، بل ويقرون بالبعث بعد الموت، ومع ذلك قال الله عز وجل عنهم: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]. فتبين بذلك أن الإيمان ليس مجرد المعرفة، بل يلزم الإيمان بسائر أركانه، كالإيمان بالملائكة والكتب والرسل، والإيمان بالكتب ضمن الإيمان بالله؛ لأنه إيمان بكلامه، والإيمان بالقدر جزء من الإيمان بالله، ولعل هذا -والله أعلى وأعلم- هو السبب في أنه لم يذكر الإيمان بالقدر في قوله سبحانه وتعالى: {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة:285]. وفي قوله عز وجل: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:136]، فلم يذكر الإيمان بالقدر في هذين الموضعين؛ لأنه داخل ضمن الإيمان بصفات الله عز وجل؛ ولأن الإيمان بالقدر إيمان بعلم الله، وبكتابة المقادير، وإيمان بإرادته وقدرته وخلقه لأفعال العباد، فكلها صفات له عز وجل، فهو ضمن الإيمان بالله، وأما الإيمان باليوم الآخر فهو من لوازم الإيمان بالله. إذاً: فلا يكون الإنسان مؤمناً إن أنكر بعثه سبحانه للناس ومحاسبتهم على أعمالهم؛ فإن ذلك -في الحقيقة- إنكار لحكمته، وإنكار لعدله، وإنكار لرحمته، وإنكار لفضله، كما قال عز وجل: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ} [الأنعام:12].

حكم من أنكر ركنا من أركان الإيمان

حكم من أنكر ركناً من أركان الإيمان من أنكر البعث والجمع بين الخلائق لينال كل عامل جزاء عمله، لينتصر للمظلوم من الظالم، وليثاب المؤمن ويعذب العاصي المكذب للرسل، فإنه منكر لحكمة الله، ولعدله ورحمته، وذلك يعود إلى التكذيب بالله سبحانه وتعالى، فدل ذلك على أن الإيمان أشمل مما يظنه كثير من الناس حين يقولون: نحن آمنا بالله، ولذلك كان كل من أقر بوجود الله مؤمناً عندهم، فيصفون أهل الملل المخالفة لملة الإسلام بالإيمان، ويقولون: هم مؤمنون وليسوا بكافرين. نعوذ بالله من ذلك! ومن ادعى أن أحداً من الخلق له أن يخالف ملة الإسلام التي بعث بها النبي عليه الصلاة والسلام، ويكون مع ذلك مقبولاً عند الله مؤمناً يدخل الجنان، فقد كذب القرآن وكفر بالله العظيم، وبرسله جميعاً عليهم الصلاة والسلام، وذلك لأن الله عز وجل قال: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]. وقال سبحانه وتعالى: {وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا} [الفتح:13]. فمن كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكون مؤمناً، وأما إقراره بوجود الله فهو إيمان قد حبط، وإيمان غير نافع؛ لأنه اقترن بالشرك وعبادة الشيطان الذي أمر بتكذيب الرسل، كما هو حال المشركين الذين قال الله عز وجل عنهم: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106]، فهذا الشرك قد أحبط القدر الموجود في قلوبهم من الإيمان، والجاري على ألسنتهم، والكائن في بعض أفعالهم، فإن الشرك محبط للعمل، كما قال عز وجل: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:65 - 66].

حكم النطق بكلمة التوحيد

حكم النطق بكلمة التوحيد إن مما يحبطه الشرك عمل القلب، فإذا زالت أعمال القلوب زال الإيمان؛ لأن الإيمان ليس مجرد معرفة، بل هو تصديق وتعظيم ومحبة وخوف ورجاء وتوكل على الله سبحانه وتعالى، كما أنه يلزم منه -بل هو جزء من أجزائه- أن ينطق بلسانه كلمة التوحيد، ولا يكون مؤمناً عند الله ولا في أحكام الدنيا من كان قادراً على نطق كلمة التوحيد -أي: لا إله إلا الله- ثم يأبى ويرفض، كـ أبي طالب الذي أبى أن يقولها، مع أنه كان مصدقاً بها في باطنه، ويعلم أنه لن تغني عنه الآلهة شيئاً، وإنما حمله على عدم النطق بها مراعاة الناس والعادات والتقاليد، ومجاملة كبراء قومه، حتى لا يقولوا: حمله على نطقها الجزع من الموت، ولقد كان يقول للنبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وهو القائل: ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية ديناً فلم ينطق بكلمة التوحيد مع أنه كان جازماً موقناً بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم في نفسه، فإنه لما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بأن الأرضة قد أكلت الصحيفة التي علقت في جوف الكعبة ظلماً وعدواناً لحصار بني هاشم لمناصرتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، خرج دون أن يتثبت بنفسه أو يرسل من يتثبت، وأخبرهم بأن الله قد أبطل هذه الصحيفة وهو على يقين غير متردد من أنها قد نقضت بالفعل دون أن يراها، وإنما ذلك لأنه يعلم صدق ابن أخيه جزماً ويقيناً، ومع ذلك حمله الجزع على عدم النطق بـ: (لا إله إلا الله) عند الموت، فقال: لولا أن يقول الناس لأقررت بها عينك، وأبى أن يقول: (لا إله إلا الله)، وكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب. فتألم النبي صلى الله عليه وسلم لذلك ألماً شديداً، وقال: (لأستغفرن لك ما لم أنه عنك)، فأنزل الله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة:113 - 114]، وأنزل الله في أبي طالب: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56]. وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة، أصابه قبل هذا اليوم ما أصابه) أو كما قال عليه الصلاة والسلام، وقال: (يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وكان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان)، وقال: (من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه دخل الجنة)، فدلت هذه النصوص على لزوم النطق في حق القادر عليها.

حكم النطق بما يناقض كلمة التوحيد

حكم النطق بما يناقض كلمة التوحيد من نطق بخلاف كلمة التوحيد -كمن قال عن نفسه معانداً لغيره إنه كافر، حين يأمره بالطاعة ويذكره بالإيمان كأن يقول له: ألا تؤمن بالله حتى تفعل كذا؟ فقال: لست مؤمناً، أو قال -والعياذ بالله- إنه كافر- فهذا لا يكون مؤمناً فعلاً، ونطقه بهذه الكلمة يخرجه من ملة الإسلام، حتى ولو قالها استهزاءً أو عناداً أو إغاظة لصاحبه. وكثير من الناس يقول ذلك ويفعله وهو لا يدري مدى خطر هذه الكلمة، فيقول لمن يجادله ويناقشه إنه قد كفر -والعياذ بالله- ليقطع باب المناقشة، أو يقول ذلك لمن يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر؛ ليتخلص من حرج مخالفته لهذا الأمر، فيقال له: ألست بمسلم؟ فيقول إنه ليس بمسلم -والعياذ بالله- أو يقول إنه يهودي أو نصراني؛ ليتخلص -مثلاً- من حرج مخالفته بالفطر في رمضان، أو مصاحبة النساء أو غير ذلك. فهذا يخرج بذلك من الملة؛ لنقضه النطق بكلمة التوحيد الذي هو جزء لا يتجزأ من الإيمان، ولا يوجد الإيمان بدونه إلا مع العجز، كالحال في الأخرس، أو من وافته المنية فعجز عن النطق ساعة إرادته ذلك، فهذا يكون مقبولاً عند الله عز وجل عذره، والأخرس إذا كان يستطيع الإشارة أو يعمل أعمال الإسلام ويشير بما تفهم به إشارته حكم بإسلامه في الدنيا. فأحكام الإسلام في الدنيا والآخرة لابد فيها من النطق؛ لأن النطق بكلمة التوحيد جزء من الإيمان، والرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد بين أنه لا يقبل الاعتقاد مجرداً عن عمل القلب وعن نطق اللسان بكلمة التوحيد، حيث قال: (من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه دخل الجنة)، وقال الله عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5].

حكم الاستهزاء بالدين وسب ما يتعلق به

حكم الاستهزاء بالدين وسب ما يتعلق به لابد في الإيمان من عمل القلب، كالإخلاص وإرادة وجه الله والدار الآخرة، وحب الله سبحانه وتعظيمه، وإذا كان الاستهزاء بالله وبآياته ورسله وكتبه والسخرية من ذلك قادحاً في أصل الدين مذهباً له فإنه يحكم على صاحبه في الدنيا بالكفر، وفي الآخرة بالخلود في النار والعياذ بالله، حتى ولو زعم أنه ما قصد؛ فإنه قد زال من قلبه التعظيم لله عز وجل الذي يمنعه من الاستهزاء والسخرية والسب نعوذ بالله من ذلك، قال الله عز وجل: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [التوبة:65 - 66]. وقد نزلت هذه الآيات في قوم من المنافقين كفرهم الله بهذه الكلمة، والظاهر أنه كان عندهم نفاق أصغر قادهم إلى الاستهزاء برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما يعد به عن الله، فقالوا: لئن كان ما يقول محمد حقاً فنحن شر من الحمير. والعياذ بالله! وقالوا: ما رأينا مثل أصحابنا هؤلاء -يعنون الرسول صلى الله عليه وسلم والقراء من أصحابه- أرغب بطوناً ولا أجبن عند اللقاء. نعوذ بالله، فهم يتهمون الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه إنما يحب الأكل ويتهمونه أيضاً بالجبن، نعوذ بالله من ذلك، مع أنهم ذكروا ذلك في شأن الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآيات، قال عز وجل: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة:65]، وذلك أنهم لما ووجهوا بتلك الكلمات قالوا: يا رسول الله! إنما كنا نخوض ونلعب، ونتحدث حديث الركب نقطع به الطريق، أي: يتسلون بهذا الاستهزاء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم -وكان يتلو عليهم هذه الآية-: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66]، وتسمية ما كانوا عليه إيماناً هو باعتبار أصل الإيمان الذي كان عندهم، ولكن قادهم النفاق الأصغر إلى أن وقعوا في النفاق الأكبر والكفر، والعياذ بالله. وهذا الاستهزاء منهم يسمى نفاقاً، رغم تصريح القرآن بكفرهم؛ لأنهم ما زالوا يزعمون الانتساب إلى الإسلام مع نطقهم بكلمة الكفر، ففاعل هذا منافق أظهر نفاقه فخرج من الملة بذلك، وإنما يبقى على أحكام الإسلام ظاهراً طالما كتم النفاق في باطنه، وأما إذا أظهره على لسانه، وأظهر الكفر الأكبر في أعماله فهو منافق قد أظهر نفاقه، والعياذ بالله، ولا ينفعه الانتساب إلى الإسلام بقاؤه على هذا الانتساب، وإنما لابد من أن يجدد إسلامه بالتوبة الصادقة مما وقع فيه، وإنما امتنع النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل هؤلاء الذين قالوا مثل هذه الكلمات؛ لأنهم كانوا يظهرون الرجوع والتوبة إلى الله سبحانه وتعالى، ولذا قال عز وجل: {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً} [التوبة:66] فدل ذلك على أنهم أظهروا الرجوع، ولكن ليس كل واحد منهم صادقاً في الرجوع والتوبة، وإنما بعضهم قد صدق وبعضهم لم يصدق، ولأن الأحكام في الدنيا تبنى على الظاهر، فقبل النبي صلى الله عليه وسلم توبتهم الظاهرة وامتنع عن قتلهم، وإلا فلو أصروا على ما كانوا عليه من الاستهزاء والسخرية من القرآن ومن وعد الله عز وجل على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن الالتزام بالدين فذلك الإصرار لا يبقى معه شيء من أحكام الإسلام، لا في الدنيا ولا في الآخرة. والسب أعظم من ذلك أفظع، والعياذ بالله، وهو أشد من السخرية والاستهزاء، لأن الاستهزاء والسخرية تعريض بالسب، وأما السب فصريح، فهو أغلظ، وهو كالضرب للوالدين بالنسبة إلى كلمة (أفٍ)، فإذا منع من قولها للأبوين فلا يتصور أن يباح الضرب، أو يكون في منزلتها، فهو أشد وأغلظ، فمن سب الله عز وجل، أو رسوله صلى الله عليه وسلم، أو كتابه، أو نبياً من الأنبياء، أو دينه سبحانه وتعالى فقد نقض إيمانه بالكلية، فإن الإيمان -كما ذكرنا- ليس مجرد المعرفة، لكنه تصديق مقرون بحب وتعظيم، وانقياد وخضوع، وخوف من الله عز وجل ورجاء له، وشكر، وتوكل عليه.

ذكر بعض الأعمال الكفرية

ذكر بعض الأعمال الكفرية هناك من أعمال القلوب ما قد تضعف في قلب الإنسان ولا تزول إلا بزوال الإيمان بالكلية، وإنما يعرف ذلك بتصريح صاحبها بما يدل على زوالها، أو بأعمال لا تحتمل تأويلاً غير الكفر، كمن يقتل نبياً من الأنبياء أو يقاتله ويسعى في قتله، أو من يصرح بأنه يحارب أهل الإسلام؛ لأجل التزامهم بطاعة الله عز وجل، كما ذكرنا عن هؤلاء المنافقين؛ فإنهم ذموا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأجل امتثالهم لأوامره، فكذلك من عادى مصلياً لصلاته، أو عادى صائماً لصيامه، أو عادى قارئاً للقرآن وأبغضه لأجل قراءته وصرح بذلك، أو أنه جعل ذلك لنفسه سنة مستمرة ماضية على الدوام، بحيث يكون كل من أطاع الله عز وجل يعاقب عنده، فإن ذلك -والعياذ بالله- محاربة لله عز وجل، وبغض لما أنزله، ومن أبغض ما أنزله الله وكرهه فقد حبط عمله وزال إيمانه، كما قال عز وجل: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:9]. فكل من أبغض ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وأبغض من فعله لأجل أنه فعله، فإنه لا يكون مؤمناً؛ لزوال عمل القلب الذي هو ركن من أركان الإيمان، ولا يتحقق الإيمان إلا به، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه دخل الجنة)، فأما من قالها رياء وسمعةً فهو من المنافقين الذين هم في الدرك الأسفل من النار، فما تنفعهم شهادة التوحيد، قال عز وجل: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:1].

حكم ترك أعمال الجوارح

حكم ترك أعمال الجوارح لابد في الإيمان من التصديق بالله عز وجل، وأسمائه وصفاته، وربوبيته وإلاهيته، وهذا مما يتضمنه الإيمان بالله عز وجل، فيلزم أن يصدق المرء بالملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر والقدر، ثم لابد مع هذا من نطق اللسان بشهادة التوحيد، والشهادة للرسل بالرسالة، خاصة خاتمهم محمداً صلى الله عليه وسلم، ثم لابد مع عمل القلب من الانقياد والحب والخضوع، ثم يستكمل الإنسان الإيمان الواجب عليه بأن يؤدي أعمال الجوارح الواجبة، ويترك ما حرم الله سبحانه وتعالى عليه، وهذه الأعمال الواجبة -خاصة الأركان الأربعة- من أعظم ما يثبت الإيمان في القلب، وهي -بلا نزاع- عند أهل السنة جزء من الإيمان، وهي عند طائفة منهم من أركانه التي إذا تركها الإنسان حتى يموت تاركاً لها رغم إقراره بوجوبها يكون كافراً. وإن كان جمهور أهل العلم على أن التكاسل عنها مع الإقرار على النفس بالذنب لا يخرج من الملة، وهذا في الصلاة والزكاة والصوم والحج، وأما ما سوى ذلك من الأعمال فإنه لا نزاع بين أهل العلم في أن ترك الواجب منها أو فعل المحرم مع وجود أصل الانقياد والحب والخوف والرجاء والإخلاص في كلمة التوحيد والشهادة لا يخرج من الملة، وهذا موضع النزاع بينهم وبين الخوارج الذين كفروا مرتكب الكبيرة وتارك الواجب، وحكموا بخلوده في النار، والمعتزلة وافقوهم في ذلك، فكانوا من الفرق الضالة المضلة، والعياذ بالله. أما أهل السنة فإنهم يقولون: إن الفاسق من أهل القبلة الذي يشهد الشهادتين، ويحرص على أركان الإسلام، ويحافظ عليها، هو في مشيئة الله: إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له. وجمهور أهل العلم يرون أن ذلك أيضاً حكم من تكاسل عن بعض الأركان أو عن كلها، وهي الصلاة والزكاة والصوم والحج، وذلك أنها حق (لا إله إلا الله)، ويلزم من قال: (لا إله إلا الله) أن يؤديها، ولكن لا يزول الإيمان بالكلية من القلب بزوالها، إلا أن تاركها على حافة الكفر، فيوشك أن يكفر بأيسر شيء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة)، ولكن هذا عند جمهور أهل العلم محمول على الكفر الأصغر الذي لا يخرج عن الملة، لكنه الذريعة والسبب الذي يوصل إلى الكفر الأكبر، ويقود إليه بأسرع طريق، كما ذكرنا أن النفاق الأصغر يقود ويؤدي إلى النفاق الأكبر، وربما يقود صاحبه إلى الاستهزاء والسخرية فيزول إيمانه، وكذلك ترك هذه الواجبات العظيمة -خاصة هذه الأركان- هو ذريعة إلى الشرك الأكبر والكفر الأكبر، فلا يستهينن إنسان بترك ذلك. فإن ترك الصلاة والزكاة والصوم والحج عند أهل العلم أغلظ وأشد من الزنا وشرب الخمر، فصلاة واحدة يتركها الإنسان حتى يضيع وقتها بالكلية أعظم ذنباً من أن يزني ولو مرات، وأعظم من أن يقتل النفس، وأعظم من أن يشرب الخمر ويسرق باتفاق العلماء؛ لأنهم -والعياذ بالله- يشكون في إسلامه، ويظنون به الزندقة والانحلال. وكذا من أفطر عامداً في رمضان من غير عذر ولا مرض فإنه -والعياذ بالله- يشك في إسلامه أيضاً، ويظن به الزندقة والانحلال من الدين، وجريمته أغلظ من الزنا والقتل والسرقة وغيرها، وكثير من الناس يستهين بذلك، وما دروا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: (من فاتته صلاة العصر فقد حبط عمله)، وليس ذلك خاصاً بالعصر وحدها، ولكنها الصلاة الوسطى المؤكد على أهميتها، والذي يظهر أن من فاتته صلاة مكتوبة حتى يأتي وقت التي تليها فقد حبط عمله كذلك، كما ثبت ذلك في حق من ترك صلاة حتى يخرج وقتها في بعض الروايات، وقد صححها غير واحد من أهل العلم، وهي (من ترك صلاة حتى يخرج وقتها فقد حبط عمله)، نسأل الله العافية.

الإيمان بين الدعوى والحقيقة

الإيمان بين الدعوى والحقيقة كثير من الناس يستهين بالصلاة فلا يصليها في وقتها، ويظن ذلك غير قادح في إيمانه. ولا شك أن الإيمان بالله يقتضي طاعته، وطاعة الله عز وجل وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم جزء من الإيمان به سبحانه، فالإيمان قول وعمل، فحين يقول المؤمن: (اللهم لك أسلمت، وبك آمنت) فلا بد من أن يعلم أنه قد دخل في ذلك ما ذكرنا، وهو يجدد إيمانه، ويزيل ما علق به من صدأ ونقص، والمؤمن يصدأ إيمانه وقلبه، ويحتاج إلى جلاء، ومن أعظم ما يجليه ذكر الله بالقلب واللسان، قال عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:2 - 4]. فدل ذلك على أن من الإيمان ما هو إيمان حقاً، ومنه ما هو دعوى غير صحيحة لا يكون صاحبها مؤمناً إيماناً حقاً، وإنما هو مقصر أصلاً، فدل على أنه لا يكون مؤمناً إلا من جمع هذه الخصال. ومنها أنه إذا ذكر الله وجل قلبه، واضطرب خوفاً من الله وشوقاً إليه وحباً وتعظيماً له سبحانه وتعالى، قال تعالى: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال:2] فهم يزدادون تصديقاً، وتدبراً وتفكراً، ومعرفة بالله عز وجل وبأسمائه وصفاته، وحباً لله الذي أنزل هذه الآيات، وخوفاً منه عز وجل الذي يحذرهم عقوبته، ويرغبهم في جنته وثوابه والقرب منه، فيخافون فوق ذلك، ويخشون سوء الحساب، فالقرآن يذكرهم وآيات الله توقظهم، فهم يزدادون به إيماناً كلما تليت عليهم آيات القرآن، وتنفعهم الذكرى كلما ذكروا، قال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55]، وهكذا.

منزلة التوكل وثمراته

منزلة التوكل وثمراته من صفات المؤمنين ما ذكره الله عز وجل بقوله: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2]، فالتوكل من الإيمان، كالرأس للجسد بالنسبة إليه، فلا تحصل عبادة الله إلا بالتوكل عليه والاستعانة به، ولذا جاء في دعاء النبي عليه الصلاة والسلام: (اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت)، مع أن التوكل داخل في الإسلام والإيمان، ولكن ذكر مستقلاً تأكيداً على أهميته، كما قال ربنا سبحانه وتعالى: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ * فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [يونس:84 - 86]. فدل ذلك على أن الإيمان والإسلام لابد فيهما من التوكل، فلا يكون الإنسان مسلماً مؤمناً إلا بالتوكل على الله، فالإسلام والإيمان يتضمنان التوكل، ومع ذلك خص بجملة مستقلة تنبيهاً على شرفه وتعظيماً لقدره، وذلك أنه لا ينال العبد حقيقة العبودية وحقيقة الإيمان والإسلام إلا بأن يستعين بالله ويتوكل عليه، ويعلم أنه لن ينال الخير إلا به، ولا قوة له إلا به سبحانه، وأن ما به من نعمة -وأعظم نعمة هي نعمة الإيمان والإسلام- فمن الله، ولذا يتوكل عليه في تحصيلها، وفي زيادتها وتثبيتها، وفي لقاءه الله عز وجل بها، فبهذا يصح له Q { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]، وبتحقيق التوكل يصح له قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]. وإذا زال التوكل على الله زالت العبادة والإيمان، ولا حول ولا قوة إلا بالله! فالتوكل وإن كان من أعمال القلوب إلا أن له أثراً في سلوك الإنسان وفي كل شئون حياته. فالتوكل يثمر للإنسان الخوف من الله وحده، ورجاؤه دون من سواه، والرغبة فيما عنده، فلا يرغب فيما عند الناس ولا يعبأ بهم، بل يصغرون في عينيه، وبه يعرف حقيقة قدرهم، ويوقن بأنه لا قوة إلا بالله، فتعمل الأعمال خالصة لوجه الله لا للناس، فلا يرجوهم المتوكل على الله ولا يخافهم ولا يتوكل عليهم، ولا يعتمد على أحد منهم، ويأخذ بالأسباب غير معتمد عليها، إنما مستعيناً بالله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز)، فهو يحرص على ما ينفعه غير مستعين بأحد سوى الله، فلا يتوكل إلا عليه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله)، وكل هذا من التوكل على الله عز وجل، ويعلم المتوكل عليه سبحانه أن الأسباب لا تضر ولا تنفع، وإنما ينفع ويضر ربها وخالقها ومدبر الأمر سبحانه وتعالى، فعند ذلك لا يثق قلبه إلا بربه عز وجل.

ميادين التوكل

ميادين التوكل ولا يتوكل العبد إلا على ربه في جلب مصالح آخرته أولاً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (واعلموا أنه لن يدخل أحدكم الجنة بعمله. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته). ويتوكل على الله في جلب مصالح دنياه ثانياً، فهو يتوكل على الله في صلاح نفسه، وصلاح أهله وأولاده، وفي أمر رزقه، وفي دفع أعدائه، وفي شفاء أمراضه، وفي تحقيق مصالحه، وأعظم من ذلك التوكل على الله عز وجل في صلاح دين الخلق ونصرة الإسلام، وهو توكل الرسل وأتباعهم، فهم يتوكلون على الله عز وجل في نصرة الدين، وصلاح العباد حتى يحققوا له العبودية في الأرض، فينجوا عنده عز وجل. فالمؤمن الصادق يتوكل على الله في صلاح نفسه وصلاح غيره من الخلق، ويتوكل على الله في نصرة الإسلام حتى يظهره الله عز وجل، كما قال الرسل لأقوامهم الذين آذوهم: {وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [إبراهيم:12]، وحكى الله عز وجل عنهم قولهم: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [إبراهيم:12]. فالله سبحانه وتعالى جعل توكل الرسل في ثباتهم على الحق، وصبرهم على أذى قومهم حتى ينصرهم الله عز وجل، ويستخلفهم في الأرض، ويمكنهم من الذين ظلموا، كما قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ * وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} [إبراهيم:13 - 15] أي: دعت الرسل ربها بالفتح، أي: بالحكم بينهم وبين قومهم، وهذا من كمال التوكل على الله، فهم يعلمون أن الله يقص الحق وهو خير الفاصلين، وأنه سبحانه وتعالى الذي يؤيد رسله وأتباعهم بما شاء من أنواع القوة، فهم لا يعتمدون على قوتهم ولا عددهم ولا عدتهم، وإن كانوا يأخذون بما أمروا به من ذلك شرعاً، كما قال الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال:60]. لكن يعلمون أن الأمر ليس بأيديهم ولا بأيدي من خلفهم، وإنما الأمر لله، والغيب له سبحانه وتعالى وإليه يرجع الأمر كله، كما قال سبحانه: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود:123]. ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير، ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم.

علامات صدق التوكل

علامات صدق التوكل الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم. أما بعد: فإن من علامات صدق التوكل على الله: أن لا يفرح الإنسان بإقبال الأسباب، وأن لا يضطرب عند فقدها، بل يكون ساكناً، أي: قد نزلت عليه السكينة من الله عز وجل لإيمانه وتوكله، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم حين أتاه المشركون وهو في الغار، حيث قال سبحانه وتعالى: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:40]. وحين قال له الناس: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، قال الله عز وجل: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:173 - 174]. ومع أن مواقف الشدة واجتماع الأحزاب وتكالب الأعداء تجعل أكثر القلوب في خوف وهلع، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وطائفة المؤمنين الكمل معه الذين أنزل الله سكينته عليهم كانوا في حالة أخرى، كما قال الله عز وجل عنهم: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22]. وهذا الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان قمة شامخة، وفاض من قلبه من السكينة التي أنزلها الله عليه وعلى قلوب أصحابه ما سكنهم وثبتهم الله عز وجل به، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4]، وذلك في مرات عديدة في مواطن الشدة، وهذا أمر عجيب، حيث يكون اجتماع الأعداء، إحداق الخطر، وتجد الأسباب كلها تقتضي هلاك العبد، ومع ذلك ينزل عليه من السكينة ما يجعله لا يعبأ بالخلق، فالنبي صلى الله عليه وسلم في يوم أحد، وفي ليلة الأحزاب، وفي فرار الناس عنه يوم حنين، وفي يوم الحديبية يوم البيعة حين بلغه أنه قد قتل عثمان، في ذلك كله نزلت عليه سكينة، وأفاضها الله تعالى على قلوب أصحابه، بل تفيض على قلوب المؤمنين في كل زمان ومكان، فإن من سمع هذه المواقف وتدبرها نزلت عليه سكينة من الله عز وجل، فينزل الله عز وجل السكينة في قلوب المؤمنين بمعرفة مواقف الرسل الكرام، وانظر وتأمل في مواقف موسى في مواجهة فرعون، فإن فعلت تنزلت عليك السكينة؛ لأن موسى صلى الله عليه وسلم أيده الله بقوله: {لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46]، وهو سبحانه وتعالى مع المؤمنين أيضاً عند كمال التوكل عليه، واستحضار معيته عز وجل، وأنه سبحانه وتعالى ناصر عباده، ومعل كلمته، فهذا كله يجعل الإيمان يستقر في القلب، ويجعل السكينة تتنزل، فلا يحصل اضطراب عند إدبار الأسباب المحبوبة، ولا يحصل فرح عند إقبالها، ولا يحصل خوف ولا قلق عند وجود الأسباب المكروهة، بل يوقن العبد أن الله آخذ بنواصي العباد، وبذا يغري أعداءه بأن يفعلوا ما يريدون، كما قال هود عليه السلام {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:54 - 56].

حقيقة التوكل

حقيقة التوكل إن التوكل ليس مجرد كلمة تقال، وإنما هو إحياء وتذكير باللسان للمعنى الذي لابد أن يكون مستقراً في القلب. وإذا أردت أن تعرف صدق التوكل فانظر إلى مسألة السكينة، وانظر إلى الطمأنينة في ذكر الله، واستشعار ضعف العباد وعجزهم عند قدوم الأقدار، فإذا وجدت هذا الأمر حاصلاً فستسعد سعادة الدنيا والآخرة، وستجد نفسك مطمئناً ساكناً، والدنيا حولك تموج وتضطرب ولا قلق عليك، فإذا كنت لا تقلق من هذا فأنى يصيبك ضرر مما دونه؟! وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يعبئون بما يصيبهم وهم يجدون روائح الجنة، ويجدون لذة العبادة، ولا يشعرون بما يقع حولهم من أهوال تشيب لها الولدان، ويفر من يفر بسببها وهم في فلكهم. كحال أنس بن النضر رضي الله تعالى عنه الذي قتل وبه بضع وثمانون ما بين ضربة بسيف، وطعنة برمح، ورمية بسهم، وجعفر بين أبي طالب الذي قتل وما به جرح في ظهره، بل كل جروحه في مقدمته رضي الله تعالى عنه، وقد قطعت يداه ولم يعبأ بذلك، تقطع يده فيمسك الراية بيده الأخرى، فتقطع فيمسكها بعضديه حتى يقتل شهيداً رضي الله تعالى عنه. وهكذا مصعب بن عمير يقتل دون اللواء، ولا يسقط اللواء إلا بعد موته فيرفعه غيره. كانوا لا يعبئون بما يقع حولهم، متوكلين على الله عز وجل لنزول السكينة والطمأنينة، كما قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]، وإذا وجدت اضطراباً وفزعاً فعند ذلك اعلم أن التوكل يحتاج إلى تجديد، وأن الإيمان يحتاج إلى جلاء، ويحتاج إلى إزالة الأمراض من القلب بشهود ملك الله وتدبيره وعزته وقهره، وأنه عز وجل هو الآخذ بناصية كل شيء، وأنه {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة:5]. وأن العباد لا يملكون دقات قلوبهم، ولا نبض عروقهم، ولا يملكون جريان الدم في هذه العروق، ولا يملكون حركة ولا سكوناً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، فكيف يهبون ذلك لغيرهم؟! كما قال تعالى: {وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا} [الفرقان:3]، فإذا وقع الاضطراب والفزع فإن التوكل يحتاج إلى تجديد الشهود لتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، أي: تحقيق الإيمان والإسلام، وهو ما يشير إليه قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت) فهنا يصح التوكل على الله عز وجل، وتحقيق الإيمان يكون بالإنابة والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأن جلاء القلوب بترك الذنوب؛ فالذنوب هي التي تغشي القلب وتعميه وتصمه حتى لا يرى ولا يسمع الحقائق الإيمانية ولا يشعر بها، ولا يجد طعمها ولذتها، فلكثرة الذنوب لا نجد لهذه الحقائق الإيمانية تطبيقاً في الواقع، بل نجد رعباً وهلعاً وخوفاً وفزعاً، نسأل الله العافية، فإذا كان الأمر كذلك احتاج الأمر إلى الإنابة، فنسأل الله أن يجعلنا منيبين إليه. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم انصر الدعاة إليك في كل مكان، اللهم نج المستضعفين من المؤمنين والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم فرج كرب المكروبين، وفك أسر المأسورين، وارفع الظلم عن المظلومين، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا، اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا وللمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، إنك أنت الغفور الرحيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

المستقبل لهذا الدين

المستقبل لهذا الدين يواجه المسلمون اليوم حرباً شعواء على دينهم في أطراف الأرض، وهذه هي سنة الله تعالى في هذا الوجود، إلا أنه تعالى قد جعل للمسلمين ما يخفف عنهم وطأة هذه البلوى، فهناك نصوص عظيمة تحمل البشارات إليهم بتحقيق موعود الله في التمكين لدينه، وهي كثيرة متنوعة، تجمع كلها على أن العاقبة للمتقين، وفي ثناياها شروط هذه العاقبة المباركة، وهي الإيمان والعمل الصالح وتحقيق الولاء والبراء، وبغير ذلك لن يجني أهل الإسلام ثمرة هذا النصر المرتقب العظيم.

بشارة الله بنصر المؤمنين

بشارة الله بنصر المؤمنين الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، أما بعد: فامتثالاً لأمر الله سبحانه وتعالى الذي أمر به موسى صلى الله وعليه وآله وسلم حين كثر أذى فرعون وقومه لموسى ومن معه فقال عز وجل: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس:87] هذا الأمر من الله وهو قوله تعالى (وبشر المؤمنين) وبشر المؤمنين امتثالاً له نذكر ما وعد الله عز وجل به هذه الأمة من الرفعة والسناء والتمكين في هذه الأرض، وأن الله عز وجل سيورثها هذه الأرض بقدرته وهو العزيز الحكيم، وهو العزيز الرحيم، وهو القوي المتين، ولا حول ولا قوة إلا به، فهو العزيز المقتدر يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، بيده الملك يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، أمره سبحانه وتعالى في ملكه نافذ، لا يحتاج إلى تثنية وتكرار {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر:50] فهو أسرع مما يتصور الناس وإنه عز وجل قد وعد هذه الأمة وعوداً وبشرها ببشارات لم تكن لأمة قبلها، فرسولها هو البشير النذير محمد صلى الله عليه وسلم أرسله ربه {َمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب:46]. فعندما تشتد الظلمات، وعندما تجتمع القوات، وعندما تحيط بالمسلمين الأحزاب والأجناس نستبشر بأمر الله سبحانه وتعالى ونستيقن بوعده، فإن ذلك من أعظم أسباب النصر والفرج والتمكين بإذن الله، قال عز وجل: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24]، فبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين، وأمر الله عز وجل بتبشير المؤمنين نابع من اليقين بوعده حتى تستيقن القلوب وتستبشر، إذ إن أشد ظلمات الليل ما يكون قبل الفجر، والله سبحانه وتعالى جعل المبشرات من كلامه سبحانه عز وجل {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122]، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء:87]. وهو سبحانه جعل المبشرات كذلك بأن المستقبل لهذا الدين من كلام نبيه الكريم صلى الله وعليه وآله وسلم، وجعل الله سبحانه وتعالى أكثر هذه المبشرات عندما يزداد الظلم على أمة الإسلام، وعندما يطغى العدو الطغيان البالغ، كما قال سبحانه وتعالى: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ * قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:127 - 129]. فالله سبحانه وتعالى عندما جعل هذه البشارة من موسى عليه الصلاة والسلام لقومه في صيغة العموم لم يجعلها قاصرة على زمنه ومكانه وقومه، بل قال: ((إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ)) [الأعراف:128]. وهذا عموم لا يقبل التخصيص لزمن أو لأمة من الأمم، لا يمكن أن يكون خاصاً بوقت دون وقت، بل في كل اللحظات في كل العصور الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعبرة بمشيئته عز وجل وأمره النافذ. (والعاقبة للمتقين)، وهي إشارة من موسى صلى الله عليه وسلم بل وأمر لكي يحققوا التقوى، وأن يكثروا من القرب من الله عز وجل، وأن يتقوا مساخطه وما يغضبه، ومن أعظم ما يغضبه سبحانه وتعالى موالاة الكافرين، والدوران في فلكهم، والرضا بكفرهم، والخضوع لما يطلبونه من الباطل والعياذ بالله.

محاولة الكفار القضاء على دين الإسلام

محاولة الكفار القضاء على دين الإسلام قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ * فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:25 - 28]. فهذا موجب لحبوط العمل، وهو طاعة الكافرين الذين يكرهون ما أنزل الله في بعض الأمر {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران:118]. وصدق الله عز وجل، فقد بدت البغضاء من أفواه القوم للإسلام بدت في فلتات ألسنتهم، وهم يحاولون إزالتها بكل طريق، ولكن ما تخفي صدورهم أكبر، ولو حلفوا ألف يمين أنهم يحبون الإسلام، وأنهم لا يريدون به بأساً لكفانا ما في كتاب الله سبحانه وتعالى عما في قلوبهم، وهو عز وجل العليم الحكيم الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، يعلم سبحانه وتعالى ما تكنه صدورهم وما يعلنون. فهو الذي أخبرنا عما في إرادتهم من إطفاء نور الله سبحانه وتعالى، قال عز وجل: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:30 - 33]. فالله سبحانه وتعالى بين ما في قلوبهم من إرادة فاسدة نجسة خبيثة لإطفاء نور الله، ولكنه بين عجزهم التام عن ذلك؛ فإنه كما لا يمكن أن تطفئ الأفواه نور الشمس فأولى بها ألا تطفئ نور الله عز وجل، فهذا الدين يحتاجه الناس أشد من حاجتهم إلى الطعام والشراب، بل أشد من الهواء والماء والنفس الذي يتنفسونه، فهم يحتاجون إلى الدين لحياة قلوبهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة. وإن الشقاء الذي في العالم اليوم إنما حدث بسبب الفساد الذي ظهر في البر والبحر لما ظهر أهل الكفر والنفاق على المشارق والمغارب، فملئوا الدنيا فساداً وطاعة للشيطان تخالف ما جاءت به رسل الله الكرام عليهم الصلاة والسلام، ولو انتسب بعضهم إلى بعض الرسل، فهم في حقيقة الأمر مكذبون بهم، وهم أعداء لهم، إذ خالفوا ما جاءوا به من توحيد الله سبحانه وتعالى وتصديق كل رسول يأتي بعدهم خاصة خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فهم يكذبونه ويعادونه، ويعادون أولياءه. وقد جعل الله سبحانه وتعالى من المبشرات أنه أبى أن ينطفئ هذا النور، {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32]، وهذا من أعظم البشارات، فالكافرون يكرهون ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون، وهذه صفة فعلية، حيث يأبى الله إلا أن يتم نوره، ومن يقف بإرادته أمام إرادة الله؟! والله سبحانه وتعالى نافذ أمره وحده لا شريك له، ولا قوة إلا به عز وجل، قال: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} [التوبة:33] أي: والدين الحق، لا هدى خلاف هذا الدين، ولا حق سواه، فالإسلام هو الحق، لا دين عند الله عز وجل غيره، قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]، وقال عز وجل: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85].

دين الله منصور لا محالة

دين الله منصور لا محالة دين الله عز وجل الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو المنصور، ولا يمكن أن يظهر في نهاية المطاف وفي عاقبة الأمر دين غيره، فالذي يظهر هو ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وهو منهج الجماعة، وهو ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فأي بدعة أو انحراف أو تبديل للدين لن يكون له الظهور بإذن الله، وأي محاولة لتشويه صورة الإسلام، أو لإقناع المسلمين بترك بعض هذا الدين، أو أن يؤمنوا ببعض الكتاب ويكفروا ببعض لكي يوافقوا أغراض الكفرة والمنافقين، ويتركوا التزامهم بما جاء به نبيهم صلى الله عليه وسلم؛ أي محاولة لذلك لن تفلح، قال تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:1] فعملهم في ضلال، وهذه مبشرة من المبشرات، فلا بد من أن يخطئ الهدف ذلك الذي ضل وتصور تصوراً باطلاً مخالفاً للحقيقة ومخالفاً لما يوجبه الله عز وجل، فالله أضل أعمالهم، وجعل سعيهم في ضلال، وجعلهم يقصدون أهدافاً فلا تحقق، ويتصورون موازين معينة بالقوة والبقاء فلا تقوم هذه الموازين ولا تنطبق، وتتغير بقدرة الله سبحانه وتعالى.

محاربة الكفار للمسلمين لانتسابهم للإسلام

محاربة الكفار للمسلمين لانتسابهم للإسلام لقد جرب أعداء الإسلام مرات عديدة وحاولوا أن يمحوا اسم الإسلام بالكلية، وكم من مرات قتلوا فيها من المسلمين، الملايين لمجرد انتسابهم فقط إلى هذا الدين، وربما كان بعضهم لا يعلمون منه إلا كلمة (لا إله إلا الله)، ولقد صدق النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (يأتي على الناس زمان لا يدرون ما صوم ولا صلاة ولا صدقة، ولكن أقوام يقولون: لا إله إلا الله، وجدنا آباءنا على هذه الكلمة فنحن نقولها). ولقد أخبرني بعض إخواننا الذين ذهبوا إلى كثير من الشعوب المسلمة التي رزحت تحت الاحتلال الشيوعي الكافر سنيناً طوالاً أنه سأل صبيان المسلمين الذين لا يعرفون إلا اسم الإسلام، ولا يعرفون إلا كلمة التوحيد، سألهم: من نبيكم؟ فقالوا: المسيح! فهم لا يعرفون نبيهم محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم! وأخبرني رجل ذهب إلى هناك أن امرأة عرفت أن اسمه محمد فقالت له: أأنت مسلم؟ فقال: نعم، وأنت مسلمة؟ فقالت: نعم. قال: كيف ذلك؟ قالت: آباؤنا وأجدادنا كانوا يقولون: (لا إله إلا الله)! لا يعرفون غير هذه الكلمة، ومع هذا قتل منهم الملايين! وتأمل بعض ما نقل من أخبار في غمرة أحداث المسلمين المؤلمة، فقد قتل الصينيون الشيوعيون كثيراً من المسلمين في التركستان الشرقية، ذلك الإقليم الرازح تحت الاحتلال منذ أكثر من مائة سنة، احتله الصينيون بالمذابح، وقتلوا إرضاءً لأسيادهم بعض هؤلاء المسلمين بعد أن سقوهم الخمر وأطعموهم الخنازير والعياذ بالله، وطافوا بهم في الطرقات من أجل إرضاء الغرب كما يزعمون. لقد أصبح المسلمون قرابين يضحى بها من أجل مجرد الاسم فقط، ومع ذلك وجدوا أن الإسلام لا يمكن أن يموت، بل ينبت من جديد من تحت تلك الأرض التي أحرقوها، وإذا به ضارب بجذوره في كل بقاع الأرض. ولذلك هم يحاولون محاولة أخرى لأن يتغير هذا الدين على ما يوافقون، فيقولون: دعوهم على اسمهم، فسوف يقاتلون بكل ما يملكون من قوة دفاعاً عن هذا الاسم، فلا تحاولوا إثارة ذلك، ولكن غيروا تصورهم عن هذا الدين حتى يوافق ما يريده الكفار! والله تعالى ما وعد بظهور اسم الإسلام فقط، بل وعد سبحانه بظهور الهدى ودين الحق الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33].

أهمية العلم بالدين والعمل به في مواجهة الحرب على الإسلام

أهمية العلم بالدين والعمل به في مواجهة الحرب على الإسلام ولذا يجب على المسلمين أن ينتهزوا الفرصة فيتعلموا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما جاء بها، فما هو الذي يمنع شباب المسلمين من أن يحفظوا القرآن كله؟! وما يمنعهم من أن يتعلموا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يتعلموا التوحيد والفقه والتفسير؟! فهذه كلها علوم موفرة بحمد الله لمن كان عنده همة وعزيمة لحفظ هذا الدين وبقائه نقياً كما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام، وذلك من أعظم ما يكون غصة في حلوق الأعداء لا يمكن أن تبتلع، وكالحجر الأصم الصلب الذي لا تمضغه الأضراس مهما أوتيت من قوة، بل هو الذي يكسر الأضراس التي تريد أن تمضغه، وهو الذي يرغمها على أن تلفظه. وأما انحراف الناس في فهم الدين فهو أيسر طريق إلى أن يمضغ الدين فيكون مثل اللبان الطري الذي يشكل على ما تريده الأضراس ثم يبتلع بعد ذلك، ويكون لقمة سائغة إذا لم يكن أهل الحق ثابتين عليه، كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم القلوب في آخر الزمان فقال: (تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً، فأيما قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأيما قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير القلوب على قلبين: أبيض مثل الصفاء) أي: مثل الصخر نقياً جداً، في صفاء ونقاء الزجاج وفي صلابة الصخر (لا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، وأسود كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه). فالهوى يحركه بحيث يرى الحق اليوم شيئاً ويراه غداً عكسه بالكلية، وهذه الظلمة في القلوب يجلبها الظلم، وكلما اشتد الظلم زادت الظلمة حتى يكون المرء أشد عمىً من الأعمى، قال تعالى: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]، فيقول القول اليوم ويرجع عنه غداً، ويرى الأمر اليوم منكراً وغداً يصبح معروفاً، وبالأمس كان باطلاً فأصبح اليوم حقاً، وكان ظلماً وصار اليوم عدلاً، وهكذا دائماً يكون من كان في قلبه ظلمات الجهل والضلال والعياذ بالله، وهو قلب أسود مرباد قذر نجس فيه الإرادات الفاسدة، وهذه صفة اليهود والنصارى، فاليهود عندهم الإرادات الفاسدة، والنصارى عندهم الضلالات الفاسدة والعياذ بالله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون). وكل منهم يجمع الغضب والضلال، ذلك أن اليهود علموا الحق وأعرضوا عنه، والنصارى لم يعلموا الحق أصلاً، فالذي قلبه أسود مرباد جمع الصفتين: أسود فهو بظلمات الضلال مرباد قذر، وذلك بفساد الإرادة، فعنده الغي والضلال المنزه عنه أهل الإيمان أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي مدحه الله فقال: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم:2]، فليس هناك ضلال ولا غي، وإنما هو اعتقاد صحيح وعلم ظاهر نافع حقيقي، وإرادة فيها الإخلاص لله عز وجل، يقول صلى الله عليه وسلم: (بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا). فأمر بالمبادرة بالأعمال قبل فتن كقطع الليل المظلم يحتار فيها كثير من الناس، إلا من سبق بالعمل الصالح حتى يتضح له الحق، ويظهر له النور بإذن الله تبارك وتعالى من وسط ظلمات الجهل.

مبشرات قرآنية بأن المستقبل لهذا الدين

مبشرات قرآنية بأن المستقبل لهذا الدين

البشارة بنصر الله تعالى لرسله والذين آمنوا

البشارة بنصر الله تعالى لرسله والذين آمنوا المبشرات تملأ كتاب الله سبحانه وتعالى، قال سبحانه وتعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:51 - 52] فليس هذا وعداً خاصاً بالرسل، فقد نصر الله رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنتم -يا أهل الإسلام- موعودون بالنصر مثلما نصرت الرسل إذا حققتم الإيمان، والإيمان قول وعمل ونية واعتقاد وسلوك وخلق، تحقيق لما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتزام صادق، وهذا الذي يجب أن نقدمه للإسلام، فإذا كنا نعجز عن أن نقدم للإسلام أنفساً أو أموالاً فإننا لا نعجز عن أن نقدم قلوباً سليمة بتوفيق الله، فنحن نستطيع أن نقدم الشخصية المسلمة في كل واحد منا يحقق التزامه الصادق بالإسلام، ويكون داعياً إلى الله سبحانه وتعالى بسلوكه وعمله وقوله ودعوته، فيبلغ الحق للناس، وإذا رأوه ملتزماً التزاماً صحيحاً، فإن ذلك من أعظم ما يجذبهم إلى الدين. وإن الظلم والطغيان والعدوان مما يغير الله به القلوب تغييراً عجيباً إلى الالتزام بالدين خاصة إذا كان الظلم من أجل أنه مسلم، أو من أجل أن المسلمين أعلنوا كلمة الحق والتوحيد والدين ورايتهم الإسلامية وما نقم منهم غير ذلك، وما أخذ عليهم غير ذلك في الحقيقة، وإن زعم الظالمون بغير دليل ولا بينة أنهم نالوا منهم شيئاً، وليس عندهم أدنى دليل، والناس يقولون في العالم كله: إن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، إلا في موازين القوم المجرمين الظالمين، فإن عندهم أن المتهم يستحق الإحضار حياً أو ميتاً بدون أن يثبت أي دليل للإدانة، وإنا لنعجب من هذا الظلم الذي صارت قلوب الملايين تقبله وتقر بمشروعيته، وتسمي ذلك إقامة للعدالة، وبالغوا هم في ذلك فنسبوا لأنفسهم صفة الربوبية فقالوا: هذه هي العدالة المطلقة نعوذ بالله! فالظلم المطلق الأكبر يسمى العدالة المطلقة! عجباً للقوم! لكنها موازين الأرض الفانية، فالقوة عندهم هي الحق وهي العدل، والذل هو الذي يجعل الإنسان مقهوراًً مغلوباً، والمنتصر هو صاحب الحق مهما كان مبطلاً وظالماً وطاغياً، ولو كان مثل قاطع الطريق بل أسوأ فإنه صاحب الحق عند القوم، هذه موازينهم. أما أن يكون الحق بميزان شرع الله سبحانه وتعالى الذي لا حق سواه فهذا عندهم لا يصح، وكم من راض في المشارق والمغارب بالظلم والعدوان وهو جالس في بيته! وإن لم يشارك إلا بهمته فإنه محصور مع الظالمين وهو تابع لهم، والعياذ بالله. فما يفعله الظالمون والطغاة والكفار عند هؤلاء القوم هو من العدل والحق ومما ينبغي أن يعان عليه، نعوذ بالله من ذلك، فالإعانة على الظلم ظلم، وربما كان الإنسان معيناً للظالم بهمته دون أن يكون معيناً بماله أو نفسه، فإذا كان معيناً بماله ونفسه وأمره وقوله وفعله فهذا -والعياذ بالله- حكمه حكم الظالم ومصيره عند الله سبحانه وتعالى كمصيره، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة:51 - 52]. وهذه من البشارات، فإن (عسى) من الله واجبة.

البشارة بغلبة حزب الله تعالى

البشارة بغلبة حزب الله تعالى وعندما يخشى المنافقون أن تصيبهم دائرة لأجل ذلك يوالون اليهود والنصارى ويصرحون بذلك بألسنتهم، فعند ذلك يتحقق وعد الله إذا حققنا نحن الإيمان وكنا من حزب الله سبحانه وتعالى الذين قال الله تعالى عنهم: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ َ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:55 - 56]. فإذا حققنا ما أمر الله عز وجل به في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:54 - 56] فإذا حققنا ذلك سنكون حزب الله الغالب. وهذه بشارة مستقلة، فإن حزب الله هم الغالبون، كما قال عز وجل: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة:22].

البشارة بخسارة حزب الشيطان

البشارة بخسارة حزب الشيطان وقد بين سبحانه وتعالى في بشارة أخرى مستقلة أن حزب الشيطان هم الخاسرون، قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [المجادلة:14 - 15]. قال سبحانه وتعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ * اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة:18 - 19]. فالكفرة والمنافقون فريق واحد، والذين تولوا قوماً غضب الله عليهم هم المنافقون الذين تولوا اليهود، فـ عبد الله بن أبي بن سلول زعيم المنافقين هو الذي والى اليهود ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فبشر الله عز وجل المؤمنين بأن حزب الشيطان خاسرون، وقال سبحانه وتعالى في ذلك أيضاً: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:21]، أقسم الله لأغلبن أنا ورسلي، وذلك -كما ذكرنا- ليس للرسل فقط، بل غلبة الرسل إنما تكون كذلك بغلبة أتباعهم بأن ينتصر أتباعهم كما قال تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51]، وليس ذلك فقط في الآخرة، ولكن في الدنيا والآخرة {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21].

البشارة بهزيمة اليهود والمنافقين

البشارة بهزيمة اليهود والمنافقين والله سبحانه وتعالى بشر المؤمنين ببشارات متعددة، قال عز وجل: {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} [الحشر:11 - 12]. وهذه بشارة مستقلة، وهي قوله تعالى: ((ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ)) وتأمل (ثم) في هذا الموضع، فهي تقتضي نوعاً من التراخي، وذلك لنزول الابتلاء، وأن الله عز وجل يبتلي عباده، وقد أرسل رسوله صلى الله عليه وسلم للابتلاء، كما في الحديث: (وإنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك). فالله بعثه ليبتليه ويبتلي به، فجعله فرقاناً بين الحق والباطل، وبناءً على ذلك الابتلاء فالله عز وجل يفرق بين أهل الحق المتابعين لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذين تكتب لهم الرحمة، والذين يكتب لهم الرضوان، كما قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:156 - 157]. فالفلاح في اتباع النور الذي أنزل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الكتاب والحكمة القرآن والسنة، ففي هذا يكون الفلاح، وفي غيره يكون الخسران، فالله جعل محمداً صلى الله عليه وسلم فرقاناً يفرق به بين الحق والباطل، فمن اتبعه كان محقاً ومن خالفه كان مبطلاً ذليلاً عند الله، ولا بد من أن يذل الله من عصاه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعلت الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم).

البشارة بعزة المؤمنين وعذاب المنافقين وضلال سعي المجرمين

البشارة بعزة المؤمنين وعذاب المنافقين وضلال سعي المجرمين قال الله عز وجل: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا * أَلِيمًا الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [النساء:138 - 139]. وكل هذه مبشرات؛ لأن الله له العزة، وقد جعلها لعباده المؤمنين، قال عز وجل: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8]. ولذلك فإن الاعتزاز والتعزز إنما يكون بهذا الدين بطاعة الله عز وجل كما قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10] فإن كنت تريد العزة فعليك بالكلم الطيب، وعليك بالعمل الصالح، وأما مكر السيئات فقد قال الله تعالى عن أهله: {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ} [فاطر:10]، وكل هذه المبشرات قد تكررت عشرات المرات في كتاب الله عز وجل بأن المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله وأنه يبور ويبطل، ويضل سعي أهله ويبطل مكرهم وكيدهم، ويتحلل ويزول، ولا يتحقق غرضهم، كما قال عز وجل: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ} [القمر:47] فالله عز وجل جعلهم في ضلال فلا بد من أن يضلوا، ولا بد من أن يشقوا وأن يعذبوا، فقلوبهم فيها من أنواع السعير والنار ما يجعلهم يوم القيامة في النار. وقال سبحانه وتعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81]، وقال سبحانه: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر:43]. ولا بد من أن نوقن بذلك، قال تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينََ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ * وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:137 - 139]. وهذه كلها مبشرات عظيمة {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ َ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:140 - 141]، فلا بد من أن يمحق الله الكافرين، وإنما يمحص المؤمنون مدة ثم تكون لهم العاقبة، وهكذا الرسل تبتلى ثم تكون لها العاقبة، كما قال هرقل عندما سأل أبا سفيان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالله أعلى وأجل، وكلمة الله هي العليا.

علو كلمة الله ورجوع الكافرين بالحسرة والبوار

علو كلمة الله ورجوع الكافرين بالحسرة والبوار والله قد وعد بأن تكون كلمة الذين كفروا السفلى، قال تعالى: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:40]. ومقتضى عزته وحكمته أن يسفل كلمة الكافرين، وأن يعلي كلمته عز وجل بفضله وبرحمته وبعدله عز وجل، ويمحق الكافرين ويذلهم لخلافهم رسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} [آل عمران:151]. وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ * لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الأنفال:36 - 40]، نعم المولى يتولى أمر المسلمين، فإذا قيل: من للمسلمين يتولى أمرهم وقد تخلى عنهم القريب والبعيد ولا يوجد من يحميهم ولا يوجد من يؤيدهم؟ قلنا: يتولاهم ربهم عز وجل ((نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ))، وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11]. وكم تبلغ الكرة الأرضية في هذا الكون الواسع؟! وكم حجمها في هذا الوجود؟! فأمر الله عز وجل فيها نافذ وهي كذرة، كما قال تعالى: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67] فالسموات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن كخردلة في كف أحدكم، هكذا أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالذين كفروا ينفقون أموالاً كثيرة، وما أنفقوا في أمر من الأمور مثلما أنفقوا في الحرب ضد الإسلام وأهله والإعداد للإسلام وأهله، ومع ذلك فإنهم سينفقونها ثم تكون عليهم حسرة؛ لأنهم يجدون غير ما يريدون، ويتحقق عكس مقصدهم، فهم يريدون إضلال الناس والله يهديهم {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان:31]، فهم يريدون إضلال الناس فيهديهم الله، ويريدون هزيمة الإسلام فينصره الله، ويريدون إذلال المسلمين فيعزهم الله، وكفى بربك عز وجل هادياً ونصيراً، ولذا يتحسرون، كما قال تعالى: ((فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ))، وكل ذلك فيه بشارة، فإن حسرتهم هي في عدم تحقق مقاصدهم، ثم يغلبون في النهاية، وتأمل (ثم) هنا، فسوف يتحقق الأمر وإن طال المدى.

الحكمة في ابتلاء المؤمنين

الحكمة في ابتلاء المؤمنين وإن قتل من قتل من المسلمين فذلك لكي ينالوا المنازل العالية الرفيعة، ولينالوا الشهادة عند الله، فالله يريد أن يتخذ شهداء يضحون بأنفسهم في سبيل الله، وهو سبحانه وتعالى يريد تمحيص المؤمنين، ويريد إظهار النفاق، يريد أن ينجم ويظهر لكيلا يبقى عند الناس شبهة، ويظهر في الناس معسكر إيمان لا نفاق فيه، ومعسكر نفاق لا إيمان فيه، لكي يقدم من يقدم على نصرة الكفر وأهله على بينة، ولكي يحيا من حي بالإسلام على بينة، ويهلك من هلك عن بينة، فالله سبحانه وتعالى عليم حكيم له الحمد، وما يقدره من أمور تكرهها النفوس فإنه يجعل من ورائها خيراً كثيراً، (فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء:19]. وقال سبحانه وتعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216]. إنَّ الله سبحانه جعل عاقبة الكفار أن يُغلبوا ((وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ)) فلماذا قدر الله ذلك؟ {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا} [الأنفال:37 - 38] أي: إلى الكفر والظلم والعدوان {فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} [الأنفال:38].

سنة الله في المتجبرين والمستضعفين

سنة الله في المتجبرين والمستضعفين لله سنن ماضية في عاقبة الظلم والطغيان والجبروت والعدوان، وإرادة الله سبحانه وتعالى كسر الجبارين وأن يمكن للمستضعفين ماضية، كما قال تعالى في شأن فرعون: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص:4 - 6]. وعندما ولى عمر رضي الله عنه عماراً على بعض البلاد ثم عزله سئل: لماذا فعل ذلك؟ فقال: أردت أن يتحقق قول الله: ((وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ)). فهذه الآية ليست خاصة ببني إسرائيل، بل إن إرادته تعالى في المن على المؤمنين المستضعفين ماضية، وهي ليست خاصة بزمن دون زمن، ولذلك قال سبحانه: ((وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ)). ثم قال تعالى: ((وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ)) أي: حتى لا يبقى شرك يظهر ((وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ)) أي: يبقى دين الإسلام فقط هو الظاهر العالي، فالإسلام يعلو ولا يعلى عليه، ومن كان عندهم استعداد لأن يهبطوا فليسوا ممن يحملون راية الإسلام، فالله سبحانه وتعالى جعل هذا الدين ظاهراً حتى في أشد فترات الانكسار، فعندما قال أبو سفيان: اعل هبل اعل هبل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا تجيبوه؟! فقالوا: وبم نجيبه؟! فقال: قولوا: الله أعلى وأجل فقال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم).

أهمية الزاد الإيماني في زمن المواجهة

أهمية الزاد الإيماني في زمن المواجهة قال الله سبحانه وتعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55]. وهذه آيات بينات من الله، والمسلمون يحتاجون إلى أن يسمعوها ويحفظوها ويوقنوا بما تضمنته، فالله تعالى يقول: ((وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)) ولا بد من أن نزداد إيماناً ونزداد عملاً صالحاً، وليس ذلك في أرض يمكن أن تقع فيها مواجهة أو قتال، بل في كل أجزاء الأرض، فإن المواجهة -في الحقيقة- قائمة، فنحن نحتاج إلى أن نقرأ القرآن، وأن نصلي بالليل، وأن ندعو الله عز وجل بالأسحار، وبين الأذان والإقامة، ونزداد عملاً صالحاً ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، وندعو إلى الله، ونبين الحق، ونتعلم العلم، ونعمل بما علمنا؛ لأن ذلك هو الذي يقربنا إلى الله، وكلما ازددنا إيماناً ازدادت دعواتنا أثراً، فيغير الله بها وجه الأرض، ويغير الله سبحانه وتعالى بها موازين القوى، وإن اليقين بلقاء الله والشوق إلى لقائه مما يغير الله به الموازين، قال تعالى: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:249]، فاليقين بلقاء الله يجعل الموازين عند الناس تختلف، ويجعل شعورهم بقرب النصر أعظم، ولو كانت الفئة المسلمة قليلة؛ لأن ذلك لا يكون بعدد وعدة، وإنما بإذن الله سبحانه وتعالى.

عجائب التمكين للإسلام

عجائب التمكين للإسلام وآيات الله في السابق واللاحق موجودة ظاهرة، فكم من قوى عاتية تحطمت على صخرة الإسلام! وكم حاول الصليبيون وكم حاول التتار هدم الإسلام! وما حققوا شيئاً إلا علواً مدة من الزمن، ثم بعد ذلك هزمهم الله سبحانه وتعالى، وقهرهم وأذلهم بفضله وعدله وحكمته سبحانه وتعالى، قال عز وجل: ((وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)) كما استخلف بعض رسله ومكن لهم بالدعوة والبيان وبالوحي الذي أنزله عليهم فآمن به الناس، كما آمن ليونس مائة ألف أو يزيدون، قال تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [الصافات:147 - 148]، وإنك لتجد كفاراً في لحظات تحولوا إلى مناصرين للمؤمنين في مواقف كانوا يريدون عكسها، ولو تأملت ما جرى في أول الإسلام من تأييد الله عز وجل لمن أراد إكرامه بهذا الدين لوجدت عجباً، فهذا أبو جهل يسب النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا بـ حمزة رضي الله عنه يتغير في تلك اللحظة، فقد كان على دين قومه، فسمع أن ابن أخيه قد شتم، فيأتي إلى أبي جهل ويقول: أتسبه وأنا على دينه؟! ويضربه على رأسه، وأسلم من ساعته. فانظر إلى هذا الموقف العجيب! لقد كان سب النبي صلى الله عليه وسلم الذي وقع من أبي جهل سبباً لإسلام حمزة أسد الله وأسد رسوله صلى الله عليه وسلم، وأعزه الله. وكان عمر منطلقاً بسيفه يريد قتل النبي صلى الله عليه وسلم، فيلقاه من يقول له: أختك وختنك قد صبأا، فينطلق وهو ممتلئ غيظاً إلى أخته وختنه زوج أخته لينظر ما عندهما، وكان عندهما من يقرئهما القرآن رضي الله تعالى عنهم، وإذا به في لحظات يجلس فيستمع ويتغير في نفس اللحظة، فانظر كيف يقلب الله القلوب، ويؤيد الله عز وجل الدين بمن شاء، وإذا بالإسلام يكتسب عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في لحظات، مع أنه كان يريد قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقصد بعد ذلك دار الأرقم ليعلن إسلامه هناك رضي الله تعالى عنه. وعندما كان أسيد بن حضير رضي الله تعالى عنه يسمع أن مصعب بن عمير وأسعد بن زرارة رضي الله عنهما يقرئان الناس القرآن انطلق وقد أخذ رمحه يريد أن يفتك بهذين اللذين قد سفها أحلامهم وعابا آلهتهم وآباءهم، فيقول له مصعب رضي الله عنه: اجلس فاستمع، فإن رضيته فذاك، وإن لم ترضه كففنا عنك ما تكره، فغرز رمحه وجلس يستمع القرآن، وكان أسعد بن زرارة قد قال لـ مصعب: أتاك سيد قومه، لو أسلم لأسلم من وراءه، فاصدق الله معه. فانظر إلى قوله (فاصدق الله معه) فعندما يكون الداعية صادقاً في دعوته مع الله عز وجل يعامل الله عز وجل في الدعوة، ويراقب الله سبحانه وتعالى في كلامه ولا يلتفت إلى الناس، يجعل الله التأثير في دعوته، فغير الله قلب أسيد بن حضير أحد أولياء الله الصالحين وأحد فضلاء الأنصار رضي الله تعالى عنه. فقال له مصعب هذه الكلمات، وقرأ عليه القرآن، فعرف الإسلام في وجهه قبل أن يسلم؛ لما فيه من البشر والسرور والانشراح، ذلك أن النور إذا دخل القلب انشرح ففاض على الوجه سعادة وسروراً وفرحاً بدلاً من الشقاء الذي كان عليه بالكفر. ويتحول أسيد بن حضير إلى الإسلام، والقوم ينتظرونه في النادي، فيرجع وهو يفكر ويحتال لكي يسلم سعد بن معاذ الذي كان عنده من الغضب كذلك على أسعد بن زرارة ابن خالته وعلى مصعب بن عمير أشد مما عند أسيد بن حضير، فيرجع ويقول: إن أسعد بن زرارة هو ابن خالتك فاذهب أنت وقل لهما بأن ينصرفا أو يكفا عنك، فإنهما قالا: إن كرهت ما نقول كففنا عنك ما تكره، فذهب سعد بن معاذ ومعه حربته أيضاً، فقال له مصعب تلك الكلمات، وجلس واستمع القرآن فانشرح قلبه للإسلام في لحظات. فالله سبحانه وتعالى يمكن لدينه بمن شاء، ويستخلف الأمة الإسلامية كما استخلف من قبلها، وبتلك الدعوة دخل الإسلام بيوت المدينة كلها بفضل الله عز وجل، وفتحت المدينة بالقرآن، لقد أسلم سعد بن معاذ ورجع إلى قومه وقد عرفوا في وجهه تغيراً، فقالوا: والله لقد جاءكم بوجه غير الذي ذهب به، فقال لقومه: إن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تدخلوا في الإسلام، فأسلموا في ساعتهم. هكذا ينصر الله عز وجل الدين بقدرته سبحانه وتعالى، فلا تعجب ولا تستغرب من أن يتغير بقدرة الله عز وجل من في قلبه كراهية الدين إلى أن يكون ناصراً للدين، ويقذف الله في قلب من يحارب الإسلام -فضلاً عمن الخير في قلبه ضعيف- خيراً، ويجعل القوة التي كان يريد استخدامها ضد الحق في سبيله سبحانه وتعالى لنصرة الحق. وقد استخلف الله عز وجل رسلاً من رسله بالقتال، كما مكن لـ يوشع بن نون بعد أن خرج ببني إسرائيل من التيه وأمر بالقتال فقاتل ونصره الله سبحانه وتعالى وفتح بيت المقدس على يديه، ومكن لداود كذلك، قال عز وجل: {وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} [البقرة:251]، ومكن لسليمان بتلك القوة الهائلة العظيمة حتى خضعت له بلقيس مستسلمة لأمر الله وأسلمت هي وقومها لله رب العالمين مع سليمان لما رأوا من عظيم القوة التي أعطاه الله عز وجل إياها.

صور من التمكين لدين الله تعالى

صور من التمكين لدين الله تعالى إن الله عز وجل يمكن لرسله بما شاء، وقد جمع الله لهذه الأمة أنواع التمكين كلها، فقد مكن لرسوله صلى الله عليه وسلم ولهذا الدين في المدينة بالقرآن، وفي اليمن، وفي البحرين، وفي بقاع عديدة، ومكن الله بعد ذلك بأزمنة طويلة في أكبر بلاد الإسلام، فأندونيسيا ما دخلها الإسلام بالحرب والقتال، وإنما دخلها الإسلام بالسلوك الطيب والدعوة إلى الله عز وجل، وهناك تمكين بالسنان والقوة كما فتح الله مكة على نبيه صلى الله عليه وسلم، وفتح على أصحابه رضي الله عنهم مصر، والشام، وفلسطين، والعراق، وبلاد ما وراء النهر، والمشارق والمغارب، وبلاد إفريقيا كلها إلى الأندلس فتحت بفضل الله عز وجل، وغلب المسلمون أضعافهم المضاعفة من الكفار في مواقع شريفة عظيمة جعلها الله سبحانه وتعالى آيات ومكن لعباده المؤمنين بذلك، ودخل الإسلام هذه البلاد، وما استطاع الكفار أن يقتلعوه منها إلى يومنا هذا، ومهما فعلوا فلن يضيع الإسلام بفضل الله سبحانه وتعالى، فهذه أمة لا تموت ودين لا ينهزم: فقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم حتى تقوم الساعة)، وقال: (حتى يقاتل آخرهم الدجال). وقال: (لا تزال عصابة من أمتي تقاتل عن هذا الدين لا يضرهم من خالفهم وخذلهم)، وقال: (لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خالفهم وخذلهم). وفي رواية: (ولو اجتمع عليهم من بأقطارها)، فعندما تجتمع كل القوى على الإسلام وأهله فذلك لن يغير من الأمر الذي قضاه الله عز وجل في التمكين لدينه بما شاء. وقد مكن الله سبحانه وتعالى لرسله بآيات من عنده، كما أغرق فرعون بآية من عنده، ودمر قوم نوح بالطوفان، ودمر عاداً بالريح، ودمر ثمود بالصيحة، ودمر قوم لوط بأن جعل أرضهم عاليها سافلها، وجعل الله عز وجل تأييده لرسوله صلى الله عليه وسلم بأنواع من القدرة والقوة عجيبة، وهو القائل صلى الله عليه وسلم: (نصرت بالرعب مسيرة شهر). فيلقي الله في قلوب الأعداء الرعب بقدر عداوتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} [آل عمران:151].

والعاقبة للمتقين

والعاقبة للمتقين قال الله عز وجل: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر:3]، فمن شنأ النبي صلى الله عليه وسلم وأبغضه فلا بد من أن يقطع، ولا بد من أن ينقطع هو وأثره، ولا بد من أن يضمحل ويدمر، ذلك أن الله رفع ذكره صلى الله عليه وسلم، كما قال: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ * فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:1 - 6]. فلا بد من أن يأتي اليسر قال النبي صلى الله عليه وسلم: (واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً). فلا بد من أن يأتي بعد العسر يسر، ولن يغلب عسر يسرين، وفضل الله عز وجل عظيم، والله عز وجل بعث نبيه صلى الله عليه وسلم ليملأ الأرض عدلاً بهذا الدين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، حتى لا يبقى بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام وذلاً يذل الله به الكفر). اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين، ودمر اليهود والنصارى والمنافقين وسائر الكفرة والملحدين أصحاب الضلالة ودعاة السوء، اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين. اللهم اكتب لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، اللهم متعنا بأسماعنا وقواتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا، اللهم انصرنا على القوم الكافرين، ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، ونجنا برحمتك من القوم الكافرين، اللهم كف بأسهم عن المسلمين فأنت أشد بأساً وأشد تنكيلاً، اللهم لا تجعل لهم على أحد من المسلمين سبيلاً. اللهم انصر المسلمين في فلسطين وفي الشيشان وفي أفغانستان وفي كل مكان يا رب العالمين، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم نج المستضعفين من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم فرج كرب المكروبين، وفك أسر المأسورين، وارفع الظلم عن المظلومين، اللهم احفظ دماء المسلمين وأعراضهم وبلادهم، اللهم اجعل هذا البلد آمناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم انصرنا على من عادانا، ولا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، ونجنا برحمتك من القوم الكافرين.

المفصل من السور

المفصل من السور كان الصحابة رضي الله عنهم يحزبون المصحف ثلاثاً وخمساً وسبعاً وتسعاً وإحدى عشرة وثلاث عشرة والمفصل، فإن عدوا الفاتحة ضمن التحزيب بدأ المفصل بسورة الحجرات، وإن لم يعدوها بدأ المفصل بسورة (ق)، وقد سمي المفصل مفصلاً لكثرة الفصل بين سوره ببسم الله الرحمن الرحيم.

كيفية تحزيب الصحابة رضي الله عنهم للمصحف وبيان المفصل منه

كيفية تحزيب الصحابة رضي الله عنهم للمصحف وبيان المفصل منه الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم. أما بعد: روى الإمام مسلم رحمه الله عن أبي وائل قال: (جاء رجل يقال له: نهيك بن سنان إلى عبد الله -يعني: عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه فقال: أبا عبد الرحمن! كيف تقرأ هذا الحرف: ألفاً ترده أم ياء: {مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} [محمد:15] أو: (من ماء غير ياسن)؟ قال: فقال عبد الله: وكل القرآن قد أحصيت غير هذه؟!) ففهم من هذا الرجل أنه متكلف، ولذلك زجره، ليس لأن السؤال عن القراءات مذموم، ولكن لأن هذا فيه تكلف، ثم قال: (إني لأقرأ المفصل في ركعة). والمفصل من أول (ق) إلى آخر المصحف، أو من الحجرات إلى آخر المصحف على قولين؛ فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يحزبون القرآن ثلاثاً، وخمساً، وسبعاًً، وتسعاً، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة، والمفصل، فكانوا يحزبون القرآن على سبعة أيام على طول السنة، فأكثر الصحابة كانوا يختمون القرآن كل سبعة أيام متواصلة، كما ذكر ذلك النووي في التبيان، فالصحابة رضي الله عنهم كانوا يفعلون ذلك على الدوام، فهذا عبد الله بن عمرو بن العاص كان من أجل أن يخف عليه بالليل يراجعه في الصباح، أي: كان يقرؤه في النهار ليخف عليه في الليل؛ من أجل ألا يغلط. فكانوا يحزبون القرآن كالآتي: الفاتحة والبقرة وآل عمران، أو البقرة وآل عمران والنساء، فإذا عدوا الفاتحة فتكون سورة (الحجرات) هي أول المفصل، وإذا لم يعدوا الفاتحة من ضمن التحزيب فتكون (ق) هي أول المفصل، الأكثر على أن أوله (ق) والحزب الثاني يشمل سور: المائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال، والتوبة، والذي يليه يشمل سبع سور، وهي: يونس، هود، يوسف، الرعد، إبراهيم، الحجر، النحل، والذي بعده يشمل تسع سور أولها الإسراء وآخرها الفرقان، والذي بعده يشمل إحدى عشرة: أولها الفرقان وآخرها (يس)، والذي بعده يشمل ثلاث عشرة من الصافات إلى المفصل، والحزب الأخير المفصل. ذفالرجل قال لـ عبد الله: إني لأقر المفصل في ركعة، فقال عبد الله: (هذاً كهذ الشعر! إن أقواماً يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم) أي: أنك تقرؤها كأنك تقرأ شعراً أي: أنها قراءة سريعة. وقوله: (إن أقواماً يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم) التراقي: جمع ترقوة وهي العظم الذي في الرقبة، يعني: التي هي أصول الحنجرة، أي: أنه لم يتجاوز الحناجر، فالقرآن لم يجاوز حناجرهم، وهؤلاء هم الخوارج وكل من لم يتدبر، كما جاء في الرواية الأخرى. قال: (ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع) وهذا هو المقصود: أن يقع القرآن في القلب، وأن أفضل الصلاة طول الركوع والسجود. هذا مذهب عبد الله رضي الله تعالى عنه. والصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم فضل طول القيام على السجود، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (أفضل الصلاة طول القنوت)، وقال عز وجل: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238]، فطول القنوت هو طول القيام. وينبغي أن يكون الركوع والسجود قريباً من القيام، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد). قال: (وإن أفضل الصلاة الركوع والسجود، وإني لأعلم النظائر التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرن بينهن في كل ركعة. ثم قام عبد الله فدخل علقمة في إثره، ثم خرج فقال: قد أخبرني بها). وفي الرواية الأخرى قال: (ثم خرج علينا فقال: عشرون سورة من المفصل في تأليف عبد الله)؛ لأنه في بعض السور التي ستأتي ليست من المفصل في تأليف عثمان رضي الله عنه الذي هو المصحف العثماني الذي هو المصحف الموجود اليوم، أما في تأليف عبد الله في زمن عبد الله فكان يدخل بعض السور في المفصل. وفي الروايات الأخرى قال: (إني لأعرف النظائر التي كان يقرأ بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، اثنتين في ركعة، عشرين سورة في عشر ركعات).

حكم الإسراع بقراءة القرآن

حكم الإسراع بقراءة القرآن عن واصل الأحدب عن أبي وائل قال: غدونا على عبد الله بن مسعود يوماً بعدما صلينا الغداة -أي: الصبح-فسلمنا بالباب، فأذن لنا، قال: فمكثنا بالباب هنية، قال: فخرجت الجارية فقالت: ألا تدخلون؟ قال: فدخلنا فإذا هو جالس يسبح، فقال: ما منعكم أن تدخلوا وقد أُذن لكم؟ فقلنا: لا، إلا أننا ظننا أن بعض أهل البيت نائم. قال: ظننتم بآل ابن أم عبد غفلة، أنى ينامون في هذا الوقت؟ -ولذلك كره العلماء النوم بعد الفجر إلى الشروق- قال: ثم أقبل يسبح حتى ظن أن الشمس قد طلعت، فقال: يا جارية! انظري هل طلعت؟ قال: فنظرت فإذا هي لم تطلع، فأقبل يسبح، حتى إذا ظن أن الشمس قد طلعت قال: يا جارية! انظري هل طلعت؟ فنظرت فإذا هي قد طلعت، فقال: الحمد لله الذي أقالنا يومنا هذا، قال مهدي: وأحسبه قال: ولم يهلكنا بذنوبنا). وهذا من أدب التابعين رضي الله عنهم؛ فإنهم دخلوا على عبد الله بن مسعود فتركوه يسبح، ولم يقطعوا عليه التسبيح، بل تركوه حتى أذن لهم بالكلام. وهذا دليل على فضل التسبيح والذكر في هذا الوقت -حتى على قراءة القرآن- حتى تطلع الشمس، فالذي لا يجلس في المسجد يجلس في البيت؛ لأن عبد الله بن مسعود كان في بيته. قال: (فقال رجل من القوم: قرأت المفصل البارحة كله، وهو نفس الرجل الذي قال: قرأته، قال: فقال عبد الله: هذاً كهذ الشعر؟! إنا لقد سمعنا القرائن، وإني لأحفظ القرائن التي كان يقرؤهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثمانية عشر من المفصل، وسورتين من آل حاميم)، وهذا على تأليف ابن مسعود. وسمي المفصل من أجل كثرة الفصل بين سوره ببسم الله الرحمن الرحيم. قال الإمام النووي رحمه الله معلقاً على هذا الحديث: باب ترتيب القراءة، والقراءة بتمهل، واجتناب الهذ وهو الإفراط في السرعة، فتجنب الإفراط في السرعة، وإباحة سورتين فأكثر في ركعة، أي: استحباب هذه النظائر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رغب فيها. وقال في قول ابن مسعود لمن سأله: (آسن أو ياسن): هذا محمول على أنه فهم منه أنه غير مسترشد في سؤاله؛ إذ لو كان مسترشداً لوجب جوابه، وهذا ليس بجواب. يعني: أنه كان يريد أن يمتحن عبد الله بن مسعود، فيريد أن ينظر كيف علمه، ولم يسأل ليتعلم. وقال في قوله: (هذاً كهذ الشعر): معناه: أن الرجل أخبر بكثرة حفظه وإتقانه، فقال ابن مسعود: تهذه هذاً، وهو شدة الإسراع، والإفراط في العجلة، ففيه النهي عن الهذ، والحث على الترتيل والتدبر، وبه قال جمهور العلماء. قال القاضي: وأباحت طائفة قليلة الهذ، وقالت: ليس هناك مانع أن يقرأ بسرعة، وهذا خلاف أمر الله في القرآن، وخلاف طريقة الرسول عليه الصلاة والسلام.

معنى الحديث الوارد في الهذ والجمع بينه وبين قول ابن مسعود

معنى الحديث الوارد في الهذ والجمع بينه وبين قول ابن مسعود أما الحديث الوارد في الهذ المقصود به: ليس شدة الإسراع، ولكنه أسرع قليلاً مع الترتيل، ومع التدبر، فهو محمول على ذلك، أما القدر الذي يزيد على هذا القدر كالذي يقرأ المفصل في ركعة فإنه يكون مذموماً، فهناك هذ أقل سرعة، أما الهذ السريع فهو الذي أنكره ابن مسعود رضي الله عنه، بل وأنكره الرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً حيث قال: (لا يفقه من قرأ القرآن دون ثلاث ليالٍ) فيكون مكروهاً وهو أن يقرأ عشرة أجزاء أو أكثر من عشرة أجزاء في اليوم ومن باب أولى أن يقرأ القرآن كله في ليلة؛ لأنه لا يستطيع أن يفعل ذلك إلا بسرعة شديدة. هذا وإن كان منقولاً عن بعض الصحابة إلا أن كل واحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، على أن بعض الأسانيد عن بعض الصحابة غير ثابتة، لكن إذا صح عنهم ذلك فيحمل على أنه لم يبلغهم نهي النبي صلى الله عليه وسلم في النهي أن يقرأ القرآن دون ثلاث ليالٍ، وحتى في الأيام الفاضلة يقرأ قليلاً من أجل أن يشغل الليلة بالقراءة، ولكن بترتيل، كما كان يفعل النبي عليه الصلاة والسلام، فقد كان يطول السورة أحياناً حتى تكون أطول من أطول منها، فهذا الاختلاف في السرعة. قال النووي: (هذاً كهذ الشعر)، معناه: في تحفظه، وروايته، لا في إنشاده وترنمه؛ لأنه يرتل في الإنشاد، والترنم في العادة لا يكون مؤثراً في القلب؛ لأن الشعر لا يؤثر كما يؤثر القرآن. أما قوله: (إني لأعلم النظائر التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرن بينهن سورتين في ركعة) وفسرها أنها عشرون سورة في عشر ركعات من المفصل في تأليف عبد الله، فقد قال القاضي: هذا صحيح، وموافق لرواية عائشة وابن عباس أن قيام النبي صلى الله عليه وسلم كان إحدى عشرة ركعة، وأن هذا كان قدر قراءته غالباً. وقد ورد في بعض الروايات: إحدى عشرة، وفي بعضها ثلاث عشرة، والصحيح أنه كان يفعل هكذا أحياناً وهكذا أحياناً، فأحياناً يصلي إحدى عشرة وأحياناً يصلي ثلاث عشرة. قال: وأن تطويله الوارد إنما كان في التدبر والترتيل، وما ورد غير ذلك في قراءته البقرة والنساء وآل عمران كان في نادر من الأوقات. أي: أن المعتاد هو هذا القدر. والله أعلى وأعلم. قال: وقد جاء بيان هذه السور العشرين في رواية في سنن أبي داود: الرحمن والنجم في ركعة، واقتربت والحاقة في ركعة، والطور والذاريات في ركعة، والواقعة و (ن) في ركعة، وسأل سائل والنازعات في ركعة، وويل للمطففين وعبس في ركعة، والمدثر والمزمل في ركعة، وهل أتى ولا أقسم في ركعة، وعم والمرسلات في ركعة، والدخان وإذا الشمس كورت في ركعة. وسمي مفصلاً لقصر سوره وقرب انفصال بعضهن من بعض.

الوقت المختار لختم القرآن الكريم

الوقت المختار لختم القرآن الكريم وهنا مسألة أخرى: الرسول صلى الله عليه وسلم عندما أمر عبد الله بن عمرو بن العاص بالقراءة قال له: (اقرأ القرآن في كل شهر). فلنواظب إن استطعنا على قراءة القرآن في كل شهر، ونجعل هذا الحد الذي أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمرو بن العاص هو الحد الذي نجتهد في المواظبة عليه، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (اقرأ القرآن في كل شهر، قال: إني أطيق أفضل من ذلك. قال: اقرأه في كل عشرين. قال: إني أطيق أفضل من ذلك. قال: اقرأه في كل عشر. قال: إني أطيق أفضل من ذلك، قال: اقرأه في كل سبع، قال: إني أطيق أفضل من ذلك، قال: لا أفضل من ذلك). وهذا دليل على أن القراءة كل سبع أفضل من القراءة كل ثلاث، وينهى عن القراءة دون ثلاث؛ فإن عبد الله كان يقول: (يا ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي رخصها)، فينبغي علينا أن نجتهد في هذا الأمر، فإن كان لأحد طاقة فليجرب أن يقوم بسبع القرآن في ليلة، فإن قدر فبفضل الله سبحانه وتعالى، وإلا فلا أقل من أن نقرأ في كل شهر. ونسأل الله الإعانة والتوفيق.

فضل الاعتكاف في رمضان وبيان بدايته ونهايته

فضل الاعتكاف في رمضان وبيان بدايته ونهايته روى الإمام مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في العشر التي في وسط الشهر). فقبل أن يوحى إليه صلى الله عليه وسلم أن ليلة القدر في العشر الأخير كان صلى الله عليه وسلم أولاً يجاور -يعني: يعتكف- في العشر التي في وسط الشهر، فإذا كان حين تمضي عشرون ليلة ويستقبل إحدى وعشرين يرجع إلى مسكنه، ورجع من كان يجاور معه، ثم إنه أقام في شهر جاور فيه تلك الليلة التي كان يرجع فيها، فخطب الناس فأمرهم بما شاء الله، ثم قال: (إني كنت أجاور هذه العشر، ثم بدا لي أن أجاور هذه العشر الأواخر، فمن كان اعتكف معي فليبت في معتكفه، وقد رأيت هذه الليلة فأنسيتها - أي: رأى في المنام ليلة القدر ثم نسيها -فالتمسوها في العشر الأواخر، في كل وتر، وقد رأيتني أسجد في ماء وطين، قال أبو سعيد الخدري: فمطرنا ليلة إحدى وعشرين فوكف المسجد في مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظرت إليه وقد انصرف من صلاة الصبح ووجهه مبتل طيناً وماء). وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأول من رمضان، ثم اعتكف العشر الأوسط في قبة تركية على سدتها حصير) أي: أغلقها بحصير حتى لا يدخل عليه أحد، قال: (فأخذ الحصير بيده فنحاها في ناحية القبة، ثم أطلع رأسه فكلم الناس فدنوا منه فقال: إني اعتكفت العشر الأول ألتمس هذه الليلة، ثم اعتكفت العشر الأوسط، ثم أتيت فقيل لي: إنها في العشر الأواخر، فمن أحب منكم أن يعتكف فليعتكف. فاعتكف الناس معه. قال: وإني أريتها ليلتي وإني أسجد صبيحتها في طين وماء، فأصبح في ليلة إحدى وعشرين وقد قام إلى الصبح، فمطرت السماء فوكف المسجد، فأبصرت الطين والماء، فخرج حين فرغ من صلاة الصبح وجبينه وروثة أنفه فيهما الطين والماء، وإذا هي ليلة إحدى وعشرين من العشر الأواخر). وعن يحيى عن أبي سلمة قال: (تذاكرنا ليلة القدر فأتيت أبا سعيد الخدري رضي الله عنه، وكان لي صديقاً، فقلت: ألا تخرج بنا إلى النخل، فخرج وعليه خميصة، فقلت له: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر ليلة القدر؟ فقال: نعم، اعتكفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العشر الوسطى من رمضان، فخرجنا صبيحة عشرين) يعني: يوم عشرين صباحاً، أي: أنهم لا يخرجون من المعتكف إلا صباح الليلة التي يكملون فيها العشر، والعشر الأواخر مثل العشر الوسطى، وهكذا فالرسول لما اعتكف العشر الأول كان سيخرج يوم عشرة صباحاً، ثم اعتكف العشر الأوسط الذي أوله ليلة إحدى عشرة، وينتهي صبيحة عشرين، ثم أمرهم صلى الله عليه وسلم أن يعتكفوا العشر الأواخر، التي يبدأ الاعتكاف فيها قبل غروب شمس يوم عشرين؛ لأنه سيبدأ يستقبل أول ليلة منه، وهي ليلة واحد وعشرين. فإذا اكتملت العشر الأواخر يخرجون، وكثير من العلماء يقول: يخرج بعد غروب الشمس من يوم الثلاثين. وهناك آثار عن بعض التابعين: أنهم كانوا يخرجون بعد صلاة العيد، أي: أن أحدهم كان يعتكف ليلة العيد. فمن أحب أن يفعل ذلك فلا حرج عليه، وإن كان ذلك لا يصح؛ لأن العشر الأواخر قد اكتملت، فيخرج في صبيحة يوم الثلاثين كما في العشر الأوسط يخرج في صبيحة يوم العشرين. والله أعلم.

ليلة القدر

ليلة القدر وفي هذا الحديث دليل على أن ليلة القدر تنتقل؛ لأنه هنا أخبر أنها كانت في ليلة إحدى وعشرين، وفي رواية ثانية: أنها كانت ليلة الثالث والعشرين. وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس! إنها كانت أبينت لي ليلة القدر، وإني خرجت لأخبركم بها، فجاء رجلان يحتقان)، يعني: كل منهما يقول: لي حق على الآخر. قال: (معهما الشيطان فنسيتها، فالتمسوها في العشر الأواخر من رمضان، التمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة. قلت: يا أبا سعيد! إنكم أعلم بالعدد منا؟ قال: أجل، نحن أحق بذلك منكم، قال: قلت: ما التاسعة والسابعة والخامسة؟ قال: إذا مضت واحدة وعشرون فالذي تليها التاسعة، فإذا مضت ثلاث وعشرون فالتي تليها السابعة، فإذا مضت خمس وعشرون فالتي تليها الخامسة). ففي هذا الحديث الترغيب في الأشفاع، والحديث الذي قبله فيه الترغيب في الأوتار. وعن عبد الله بن أنيس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أريت ليلة القدر ثم أنسيتها، وأراني صبحها أسجد في ماء وطين، قال: فمطرنا ليلة ثلاث وعشرين، وصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فانصرفت وإن أثر الماء والطين على جبهته وأنفه) فكان عبد الله بن أنيس يقول: هي ليلة ثلاث وعشرين، وهذا دليل على أنها تنتقل. فهذا الحديث غير الحديث الأول، وهذا هو الوجه الذي يجمع بينهما؛ لأن الحديثين فيهما الماء والطين. قال زر بن حبيش: سألت أبي بن كعب رضي الله عنه فقلت: (إن أخاك ابن مسعود يقول: من يقم الحول يصب ليلة القدر-أي: الذي يقوم السنة كلها يصيب ليلة القدر -فقال: رحمه الله، أراد ألا يتكل الناس، أما إنه قد علم أنها في رمضان، وأنها في العشر الأواخر، وأنها ليلة سبع وعشرين، ثم حلف لا يستثني أنها ليلة سبع وعشرين، فقلت: بأي شيء تقول ذلك يا أبا المنذر؟! فقال: بالعلامة أو بالآية التي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنها تطلع يومئذٍ لا شعاع لها). وفي الرواية الأخرى: (هي الليلة التي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيامها، هي ليلة سبع وعشرين) وهذا تصريح بأنها ليلة سبع وعشرين، فالرسول صلى الله عليه وسلم أمرهم بعدة أوامر وبين لهم عدة ليال. وهناك حديث في الترمذي: (أنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان). وهذا تصريح بأن ليلة القدر في السنة التي نزل فيها القرآن كانت ليلة أربع وعشرين. إذاً هي تنتقل في ليالي العشر الأواخر كلها، وهذا أصح الأقوال. والله أعلى وأعلم. والمقصود بأن الشمس تطلع وليس لها شعاع أي: تطلع بيضاء نقية لا شعاع لها، سواء كانت حمراء، أو بيضاء، وذلك في أول طلوعها.

هدي النبي صلى الله عليه وسلم في قيام الليل

هدي النبي صلى الله عليه وسلم في قيام الليل عن ابن عباس قال: (بت عند خالتي ميمونة، فقام النبي صلى الله عليه وسلم من الليل فأتى حاجته، ثم غسل وجهه ويديه، ثم نام، ثم قام فأتى القربة فأطلق، ثم توضأ وضوءاً بين الوضوءين ولم يكثر) يعني: بين الوضوء المسبغ جداً وبين الوضوء الخفيف. (وقد أبلغ) يعني: أوصل الماء إلى المواضع. قال (ثم قام فصلى، فقمت فتمطيت كراهية أن يرى أني كنت أنتبه له) تمطى أي: كأنه قام في ذلك الوقت، وقد فعل هذا تأدباً مع النبي عليه الصلاة والسلام، من أجل أن يتركه على راحته، ولا يكون مراقباً له؛ لأن الواحد إذا حس أن أحداً يراقبه قد لا يأخذ راحته. قال: (فقمت فتوضأت، فقام فصلى، فقمت عن يساره، فأخذ بيدي فأدراني عن يمينه، فتتامت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل ثلاث عشرة ركعة، ثم اضطجع فنام حتى نفخ، وكان إذا نام نفخ، فأتاه بلال فآذنه بالصلاة، فقام فصلى ولم يتوضأ، وكان يقول في دعائه: اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي بصري نوراً، وفي سمعي نوراً، وعن يميني نوراً، وعن يساري نوراً، وفوقي نوراً، وتحتي نوراً، وأمامي نوراً، وخلفي نوراً، وعظم لي نوراً). وفي الرواية الأخرى قال: (استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يمسح النوم عن وجهه بيده، ثم قرأ العشر الآيات الخواتم من سورة آل عمران، ثم قام إلى شن معلقة) وفي الرواية الثانية: (أنه نظر إلى السماء وقرأ هذه الآيات)، فيستحب أن ينظر المسلم إلى السماء، ويقرأ آخر عشر آيات من سورة آل عمران: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران:190] الآيات. قال: (ثم قام إلى شن معلقة فتوضأ منها، فأحسن الوضوء) إلى أن قال ابن عباس: (فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده اليمنى على رأسي، وأخذ بأذني اليمنى يفتلها)، يعني: يخاف أن ينام. قال: (فصلى ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعيتن، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم أوتر، ثم اضطجع حتى جاء المؤذن فقام فصلى ركعتين خفيفتين، ثم خرج فصلى). ويجمع بين هذا الحديث وبين حديث عائشة: أنه كان يصلي ثلاث عشرة ركعة مع ركعتي الفجر، أو نقول: كان أحياناً يصلي إحدى عشرة وأحياناً ثلاث عشرة.

النصر الموعود

النصر الموعود إن الله عز وجل خلق الموت والحياة للابتلاء والامتحان، وليرى سبحانه ثمرة هذا الابتلاء في عباده، وليعلم المؤمنين منهم، فما خلق الله البشر إلا ليرى الخير، وما فرض الجهاد على المؤمنين إلا ليرى صبرهم وثباتهم في الدفاع عن الدين، فإذا صبروا وجاهدوا في سبيل إعلاء كلمة الحق أبطل الله الباطل وجنوده، وأعز المؤمنين وأصلح بالهم. إن فريضة الجهاد لن تنتهي مشروعيتها إلا في آخر الزمان عندما يقاتل الدجال وتخمد الفتن، ويكون الدين كله لله، وبعدها تملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً.

غاية الابتلاء وثماره

غاية الابتلاء وثماره إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فلقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن (لا حول ولا قوة إلا بالله) كنز من كنوز الجنة، وهذا الأمر من أعظم ما يلزم المؤمن اعتقاده خصوصاً عندما تختل موازين القوى في ظاهر الأمور، ويشتد الصراع مع أهل الكفر والنفاق على ظهر هذه الأرض، ويبتلي الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين بأنواع الابتلاء وبشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، ويتسلط الكفرة على بلاد المسلمين وحرماتهم ومقدساتهم، ويظن كثير من الناس أن موازين القوى في هذه الأرض في صالح الكفرة، وأن القوة لهم جميعاً، وأن مفاتيح القضايا بأيديهم، وبالتالي يسيرون في مناهج حياتهم على وفق هذا المعتقد، فهم يوافقون أهل الكفر والنفاق والظلم والباطل؛ لأجل ما يتصورونه من أن القوة والسلطة والتمكين لهم، وأن الأمور بأيديهم. وأما أهل الإيمان فإذا استحضروا أن الله هو الرزاق ذو القوة المتين، وأن الله سبحانه وتعالى لمتانة كيده يملي لهم، كما قال عز وجل: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [القلم:44 - 45]، إذا استحضر أهل الإيمان ذلك علموا أنهم جند الله سبحانه وتعالى الذين ألقاهم في وسط الصراع مع أهل الباطل من غير كثرة عدد ولا قوة عتاد، بل مع ضعف إمكانيات، مع أن جنوده سبحانه وتعالى لا يحصيهم سواه، فالأرض والسماوات وما بينهما مسخرات بأمره، ولو شاء سبحانه وتعالى لأمر الأرض فانخسفت بالكفرة، والسماء لحصدتهم، والبحار لأغرقتهم، وكل عاقل يقر بأن ذلك ليس في يد أحد من الناس، فالأرض والسماء والبحار وسائر ما يحيط بالناس في حياتهم لا يملكونه. إذا استحضر المؤمن أن أهل الإيمان قد ألقاهم سبحانه وتعالى في الابتلاء ليظهر منهم صدق الإيمان، وقوة اليقين، وصدق الاعتقاد بأنه لا قوة إلا به عز وجل، وأنه لا حول إلا به سبحانه وتعالى، وأن الأمور بيده، وأنه مالك الملك، فإذا ظهر منهم ذلك على ما يحب سبحانه عندها يغير الله موازين القوى لصالحهم في لحظة كلمح بالبصر، {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر:50]، وتضل أعمال الكفرة وتبطل، ويزهق الباطل كما أخبر سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوااتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ * فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:1 - 7]، فالله عز وجل يبتلي عباده المؤمنين ليرى إيمانهم، وليرى نصرتهم للدين، وليرى سبحانه وتعالى ما يحب من أنواع عبوديته التي لا تظهر إلا في المحن والشدائد، ولا تحصل إلا بوجود أضدادها من أنواع الكفر والفسوق والعصيان. وإذا طال الأمر على أهل الإيمان فبسبب ما يحبه الله عز وجل منهم لم يصل إلى ما يريد من الكمال، فلا بد أن يستكملوا معاني الإيمان، وحقائق العبودية؛ لكي يحصل ما أخبر الله عز وجل به. ولعلهم في هذه المرحلة -عندما يشتد بهم الحال- يكونون في أحسن أحوالهم، وهذا أفضل مما لو مكنوا على حال فيها نقص وتقصير وشهوات ورغبات دنيوية، فيحصل من ذلك ما لا يعلمه إلا الله من الفساد، فلا بد أن ينتبه المسلم لحقيقة الصراع الذي يجري بين أهل الإسلام وبين أعدائهم من اليهود والنصارى والمشركين والمنافقين في مشارق الأرض ومغاربها، وبلا شك أن قلب كل مؤمن يتألم لما يجري مما يكرهه الله من أذية للمسلمين ومخالفة لشرع الله، وصدٍ عن سبيله، وانتشار لأنواع الفساد من الكفر والفسوق والعصيان في مشارق الأرض ومغاربها، ولا شك أن ذلك يؤلم كل قلب حي بالإيمان، عالم بحقيقة الحياة قرباً من الله عز وجل وعبودية له، فيتألم إذا وجد حال المسلمين في تباعد عما أوجبه الله عز وجل عليهم من الجهاد في سبيله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والامتثال لشرعه، كما يؤلمه تفرقهم واختلافهم وتنازعهم، وما هم فيه من ضعف وهوان، ولكنه في نفس الوقت إذا لاحظ عاقبة الأمور، وعلم لماذا قدر الله عز وجل كل ذلك مما يكرهه سبحانه، وعلم الحكمة من وراء تقدير الشر والمكروه؛ عند ذلك يستفيد أعظم الاستفادة من الواقع الذي يعيشه، ويكون ذلك الألم نافعاً لتحقيق ما أراد الله عز وجل منه شرعاً، وسبيلاً لتحقيق مزيد من الإيمان والعبودية والأعمال الصالحة؛ التي إذا وجدت تغيرت موازين القوى، وأصل ذلك معرفة الله بأسمائه وصفاته، ومشاهدة آثار هذه الأسماء والصفات في الواقع المشهود الذي يراه الناس.

أعمال الكافرين يبطلها الله

أعمال الكافرين يبطلها الله يقول الله عز وجل: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:1]، فهذه هي نهاية أمرهم، وقد ذكر الله ذلك بصيغة الفعل الماضي فقال: ((أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ)) لتأكيد حصول هذا الأمر، وإن كان في وقت نزول الآية وبعدها لم يزل للباطل أعمال، ولم يزل هناك كفر وصد عن سبيل الله؛ فإبطال الأعمال يتم في هذه الدنيا قبيل نهاية هذه الحياة، وفي الآخرة كذلك سيبطل الله عز وجل أعمالهم. إذاً: فإبطال أعمال الكفرة الصادين عن سبيل الله يكون في الدنيا وفي الآخرة كما أطلقه الله عز وجل. فأما في الدنيا فإنهم أرادوا صرف الناس عن دين الله، ومكروا بالليل والنهار ليبعدوا الناس عن الالتزام بالدين، وليرغبوهم بأنواع الشهوات، وليجعلوا أنواع التخويف والإرهاب حواجز تحجب الناس عن الالتزام، فهم يغرقون الناس في أنواع الشهوات، وفي نفس الوقت يستعملون أقسى أنواع التهديد بل والعقوبات لمن التزم بالدين وسار في طريق الحق؛ لكي يصرف هو -إن استجاب- أو غيره ممن يرى ما يفعل به عن دين الله عز وجل، ومع ذلك فلا بد أن يضل الله ذلك العمل، فقلوب العباد بين أصبعين من أصابعه يقلبها كيف يشاء، فأيما قلب يريد أن يقيمه أقامه، وأيما قلب يريد أن يزيغه أزاغه، وهذا المكر السيئ لا بد أن يحدث ولا بد أن يبطل، ولا بد أن يهتدي الناس بمشيئة الله سبحانه وتعالى، فيأخذ الله عز وجل بنواصي من شاء منهم إلى سبيل الهدى والرشاد: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ * لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأنفال:36 - 37]، وقال عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان:31]. فهم يريدون هزيمة الإسلام ولا بد أن ينتصر، ويريدون إضلال الناس ولا بد أن يهدي الله عز وجل طائفة من عباده إلى الحق، ولا بد أن تتغير الموازين في يوم من الأيام. وأما في الآخرة فأعمالهم كما وصف الله عز وجل: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} [إبراهيم:18]، وقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور:39]، فأعمال الكفار يضلها الله سبحانه وتعالى ويبطلها ويزهقها، ويجعل مكرهم السيئ يحيق بهم، كما أخبر عز وجل: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر:43]، وكما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ} [فاطر:10]. وبقي الشق الآخر من القضية وهو: أن الله يتولى إحباط وإبطال أعمال الكفار في الدنيا فلا تظهر نتائجها، والعبرة بنهاية الأمر وخاتمة المطاف، وما يبدو للناس عندما يشتد المكر والكيد فإنما هو تمرد صغير جداً في المملكة الواسعة لا بد وأن ينتهي، وقد تركه الله عز وجل لحكمة يعلمها سبحانه، فالملك ملكه عز وجل في السموات والأرض، ترك بقعة من هذه المملكة -وهي الأرض- يقع فيها ذلك التمرد، وما هي إلا كذرة في هذا الوجود من ملك الله سبحانه وتعالى، وهي في قبضته عز وجل: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67]، فأنى يعجزه سبحانه أن يمحق ذلك التمرد الذي وقع في هذه الأرض؟ ولكنه تركه؛ لأنه أراد من طائفة من خواص جنده، وخلاصة من عباده أن يظهر منهم مدى إيمانهم والتزامهم بطاعته، ولذلك ترك هذا التمرد يقع، وأمر طائفة من جنده أن يكونوا محاربين بلا عدد ولا عدة، أو بأقل العدد والعدة دفاعاً عن دينه، وملايين الملايين من جنده تنتظر الأمر لتأييدهم في اللحظة التي يريد ويأذن: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} [المدثر:31].

اتباع الحق سبب لصلاح الأمور

اتباع الحق سبب لصلاح الأمور يقول الله عن المؤمنين: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} [محمد:2]، فهذا هو الأمر الذي علينا، أي: مجيء الحق في سلوكنا وأعمالنا وعقائدنا أولاً، فإذا جاء الحق على قلوب وألسنة وجوارح الطائفة المؤمنة عندها يزهق الباطل؛ لأن هذه هي طبيعته، {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81]، فالباطل يضمحل تدريجياً، ويذوب كما يذوب الملح في الماء إذا جاء الحق وظهر. يقول الله سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55]، وهناك سؤال يكرره كثير من الناس وهو: إلى متى ونحن ندعوا ونتضرع، ومع دعائنا فالأمر يزداد كرباً؟ و A إلى أن يتحقق ما أراد الله منا شرعاً، وتتم العبودية لله عز وجل من طائفة صادقة لا تشرك بالله شيئاً، ولن يقع ذلك من أهل الأرض كلهم، فلا يزال الناس مختلفين إلا من رحم ربك، فالكثرة على الاختلاف {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه} [الأنعام:116]، لكن لا بد أن توجد طائفة صادقة مؤمنة تؤمن وتعمل الصالحات، وتحقق الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبما أنزل الله عليه، ((وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ))، وذلك بصدق المتابعة للسنة في العقيدة والعمل، والسلوك والمنهج، والأخلاق والمعاملة، وليس في جانب دون آخر، فالحقيقة في نفس الأمر مطابقة لاعتقادهم ولسلوكهم، فعند ذلك يكفر الله السيئات، ويغفر الزلات، ويرفع الدرجات: ((كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ)) أي: أصلح أمرهم، فإذا أردنا أن تصلح أمورنا فلنكثر مما أمرنا الله عز وجل به، وأهم ذلك أعمال القلوب وأحوالها، كحب الله عز وجل، والخوف منه ورجائه، وصدق التوكل عليه، وتحقيق الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم يكون بالمحبة له، والتصديق لخبره، والاتباع لأمره، والاجتناب لنهيه، ونصرة سنته، قال سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ} [محمد:3]، فهذه النتيجة قضى الله عز وجل بها لأن: {الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ} [محمد:3]، فبتباع الحق يحبط الله أعمال الكفار، ويصلح أحوال المؤمنين، ولا شك أن التفريط في اتباع الحق هو الذي أدى إلى أن تقف القضية على ما هي عليه الآن. إن القضية موازينها -فيما يبدو للناس- في صالح اليهود وأعوانهم من الأمريكان، وسائر فرق الملحدين من النصارى وغيرهم من المشركين والمنافقين ومن والاهم على ما يريدون من هدم الإسلام، ولكن قطعاً ويقيناً أن مزيد الاتباع للحق، أو حتى تحقيق القدر الواجب من هذا الاتباع سوف يغير موازين القضية. وأما إذا ظل الأمر على ما هو عليه فستظل القضية على ما هي عليه الآن، ولكن لن يضمحل الحق بإذن الله من أمة الإسلام أبداً؛ لأنه: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة).

ما يجب على المسلمين تجاه عدوهم

ما يجب على المسلمين تجاه عدوهم بين سبحانه وتعالى ما يجب على المسلمين في مواجهة عدوهم فقال: ((فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ)) أي: أكثرتم فيهم القتل، ((فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً)) أي: حسب ما يرى المسلمون وخليفتهم من المصلحة، فإما أن يمن، وإما أن يفدي بمال أو بأسرى من أسرى المسلمين، وهناك اختيارات أخرى وردت في أدلة من الكتاب والسنة يخير الإمام فيها تخيير مصلحة كأن يقتلهم، كما قال سبحانه في أسرى بدر: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ) [الأنفال:67]، وقد قتل النبي صلى الله عليه وسلم عقبة بن أبي معيط، وابن خطل وبعض أسرى المشركين، ومنَّ النبي صلى الله عليه وسلم على من رأى أن المصلحة في المن عليه كـ ثمامة بن أثال رضي الله عنه، وكان ذلك سبباً في إسلامه، ومنَّ على أهل مكة وأطلقهم وحسن إسلام أكثرهم، ومن لم يحسن إسلامه عند الإطلاق حسن إسلامه بعد ذلك لما رأى من الآيات، ولذا فإنهم استمروا على الإسلام والتوحيد بعد أن ارتد عامة أهل جزيرة العرب، أو منعوا الزكاة، ولم يبق من يعبد الله سبحانه وتعالى إلا في مكة والمدينة، وفي مسجد عبد القيس في البحرين، فكان ذلك الذي وقع من المن من رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم في موضع الخير. ويجوز للإمام أن يضرب عليهم الجزية ويجعلهم أهل ذمة، أو يسترقهم، وهذا مذكور بأدلته في مواضعه، هذا في الرجال، وأما النساء والصبيان فلا يجوز قتلهم، وكذا إذا أسلم أحد من الرجال سقط خيار القتل، وبقيت بقية الخيارات، والله سبحانه وتعالى جعل ذلك للإمام ينظر فيه بالتشاور مع أهل الحل والعقد؛ ليفعل فيه بالمصلحة.

الملاحم والفتن وواجب المؤمنين في ذلك الزمان

الملاحم والفتن وواجب المؤمنين في ذلك الزمان قال الله عز وجل: ((حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا)) أي: حتى ينتهي الجهاد، ولا ينتهي الجهاد حتى ينزل المسيح صلى الله عليه وسلم كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً عدلاً، وإماماً مقسطاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية)، وعندها لا تبقى ملة في الأرض غير ملة الإسلام؛ ذلك أن عيسى صلى الله عليه وسلم يميت الكفار بنَفَسِه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فلا يحل لكافر يجد ريح نَفَسه -ريح نفس عيسى صلى الله عليه وسلم- إلا مات، ونَفَسه ينتهي حيث ينتهي طرفه) أي: أن رائحة المسيح تبيد الكفار حتى مد بصره، قال: (فيطلب عدو الله -أي: الدجال - فإذا رآه عدو الله ذاب كما يذوب الملح في الماء، قال: فلو تركه لذاب، ولكن يقتله بحربته، ويريهم دمه بحربته). والأحاديث قاطبة تدل على أن الملاحم الكبرى هي حول بيت المقدس بالشام، فملحمة قبل الدجال مع نصارى الغرب، وذلك بالأعماق أو بدابق كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم، وملحمة عقب الدجال زعيم اليهود وملكهم، وإلههم المنتظر، فالأمم الثلاث تنتظر المسيح: اليهود، والنصارى، والمسلمون، فأما اليهود فقد كذبوا المسيح وكذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم، فمسيحهم الذي ينتظرونه هو مسيح الضلالة، وكذا النصارى فإنهم ينتظرون مقْدَماً ثانياً للمسيح لكنهم يعتقدون ألوهيته، فإذا ادعى الدجال الألوهية اعتقدوه كذلك، فتابعوه أو تابعه بعضهم؛ لأن المقتلة العظيمة ستكون قبل ذلك. وأما أهل الإسلام فهم الذين شهدوا أن المسيح عبد الله ورسوله، فكذبوا الدجال، وصدقوا المسيح ابن مريم. وعندما يقتل الدجال يقتل معه اليهود، وهذا دليل على أن نهاية هذا الصراع لن تتم أبداً بالمفاوضات والمساومات ورحلات السلام وغيرها قطعاً، فلا بد أن نصدق بما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم، ومما نزل عليه عليه الصلاة والسلام: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة:82]، ويدخل مع الذين أشركوا الذين {قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73]، والذين قالوا: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:17]. وأما الموحدون من النصارى الذين بلغهم خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وآيات القرآن فصدقوا وآمنوا به، وبكوا مما عرفوا من الحق، فهم الأقرب مودة للذين آمنوا كما وصف الله سبحانه وتعالى. ومما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم قوله: (لا تقوم الساعة حتى يقتتل المسلمون واليهود، فيقتل المسلمون اليهود حتى يقول الحجر والشجر: يا مسلم! هذا يهودي ورائي تعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود). وقال صلى الله عليه وسلم: (يتبع الدجال من يهود أصبهان سبعون ألفاً عليهم الطيالسة)، وهذا دليل على وجود قوة وشوكة وجنود تبلغ الآلاف من اليهود قبيل الدجال، ولو نظرنا في تاريخ اليهود لما وجدنا جنودهم تبلغ سبعين ألفاً في أي عصر من العصور، منذ بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وإلى يومنا هذا، والله عز وجل أعلم متى يكون ذلك. ونحن لا نجزم بتوقيت معين لوجود هذه المعارك، ولا ندعي علم الغيب، ولكن أشراط الساعة التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم قد كثرت، فلا بد إذاً أن نعد لزمان الفتن عدته، وأن نبادر بالأعمال، كما أمر النبي عليه الصلاة والسلام: (بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا). فالواجب المبادرة إلى الأعمال الصالحة حتى يقع ما أراد الله شرعاً، وحتى يرى الله سبحانه وتعالى الإيمان من أهل الإيمان: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} [آل عمران:140] قال ابن عباس: ليرى، {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:140 - 141]. أقول قولي هذا وأستغفر الله.

انتهاء الفتن ونزول البركات

انتهاء الفتن ونزول البركات الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم. يقول الله سبحانه: ((فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا))، هذه الآية فسرها غير واحد من السلف بنزول المسيح صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه إذا نزل زالت الملل الأخرى وانمحت، وعند ذلك تنتهي مشروعية الجهاد. وأما يأجوج ومأجوج فمع كفرهم إلا أنه لا يدان لأحد بقتالهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فبينما هم كذلك إذ أوحى الله لنبي الله عيسى: إني قد أخرجت عباداً لي لا يدان لأحد بقتالهم) أي: لا قدرة لأحد بقتالهم، (فحرز عبادي إلى الطور، وعندها يخرج يأجوج ومأجوج). فالواجب عند عدم القدرة على القتال تحريز عباد الله المؤمنين، وهذا التعليل واضح وبين؛ لأنه لا قدرة لأحد على قتال يأجوج ومأجوج فتحريز عباد الله المؤمنين، والتضرع إلى الله بالدعاء، والدعاء سلاح عظيم يهلك الله به الأمتين الكافرتين المتكبرتين: يأجوج ومأجوج. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فيحصر نبي الله عيسى وأصحابه بجبل الطور، حتى يكون رأس الثور لأحدهم أفضل من مائة دينار لأحدكم -لقلة الطعام-، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله عز وجل -أي: بعد شدة الحصار- فيرسل الله النغف -الدود- في رقابهم -في رقاب يأجوج ومأجوج- فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة، ويصبحون قتلى كموت نفس واحدة) أي: في لحظة واحدة يموت يأجوج ومأجوج، (فينزل نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون شبراً من الأرض إلا قد ملأه زهمهم ونتنهم) أي: أنفسهم المتناثرة في كل مكان، (فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله عز وجل، فيرسل الله طيراً كأعناق البخت -أي: الإبل- فتطرحهم حيث شاء الله عز وجل، ثم يرسل الله عز وجل مطراً فيغسل الأرض فتصير كالزلقة)، فهذه هي نهاية المطاف، وعندها يتوقف تشريع الجهاد، وتخرج الأرض بركاتها؛ بسبب تطبيق شريعة الله سبحانه وتعالى. (عند ذلك يقال للأرض: ردي بركتك، وأخرجي ثمرتكِ، فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة، ويستظلون بقحفها -بقشرتها-، ويبارك في الرسل -أي: في اللبن- حتى تكفي اللقحة من الإبل الفئام من الناس، وتكفي اللقحة من البقر القبيلة من الناس، وتكفي اللقحة من الغنم الفخذ من الناس)، وهذه بركة تطبيق شرع الله: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:96]. وقد بين الله سبحانه وتعالى أن هذا هو زمن انتهاء الفتنة، فقال: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [الأنفال:39] أي: حتى لا يبقى شرك، {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39]، وعند ذلك تكون السجدة الواحدة خير من الدنيا وما فيها. وقال عز وجل: ((حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ))، أي: أن الله ابتلانا بهم وابتلاهم بنا، {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان:20] وهو عز وجل كان ولم يزل بصيراً بما في قلوب العباد، ولكن يحب أن يرى الصبر والجهاد واليقين والإيمان والعمل الصالح من عباده المؤمنين واقعاًً مشهوداًًًًً، ومن أجل ذلك أوجد الكفرة، وأوجد إبليس، وأوجد الظالمين؛ ليرى سبحانه وتعالى ما يحب، وهو يعلم ما لا يعلم الناس، فقد أوجد الفساد وسفك الدماء في الأرض؛ لأنه يعلم أن من بني البشر أنبياء وصديقين وشهداء وصالحين: ((إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ))، قالها عز وجل للملائكة لما قالوا: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30]. فمن أجل ذلك أوجد الله هذا الشر، وهذه الأمور المؤلمة التي يألم لها قلب المؤمن يوجد من ورائها خير لعباده المؤمنين، وهذا من لطفه عز وجل بعباده المؤمنين، حيث ظن الناس أنه شر وإذا به في حقيقة الأمر خير، كما قال سبحانه: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216]. وقال سبحانه: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء:19]، ولا شك أن وجود البلاء والمحنة على المسلمين تدفع قلوب الكثيرين من المنهمكين في المعاصي إلى التوبة، كما كانت الهزائم قبل ذلك تحيي الأمة بقدرة الله سبحانه وتعالى. فلا بد إذاً من مضاعفة الجهد والعمل في هذه الفترات من الدعوة إلى الله عز وجل، والعبادة والسلوك الطيب، وحسن معاملة الخلق بالإسلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإنه وقت يحدث فيه بإذن الله مزيد من الإقبال على الله عز وجل إذا وجد الناس طريقاً مفتوحة ممهدة من خلال سلوك الملتزمين، ومن خلال دعوتهم ومشاركتهم الصادقة في العمل لأجل إعلاء دين الله ونصرته. قال الله تعالى: ((ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ))، وقرئت: {وَالَّذِينَ قاتلوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [محمد:4]، فالذين قتلوا لن يضيع جهدهم؛ لأنهم سينالوا أعظم الجزاء، وسوف تتحقق النتائج التي أرادوها حين تعلو كلمة الإسلامن وأما المقاتلون فهم أحياءٌ يهديهم الله إلى طريق الجنان، ويعرفهم بمنازلهم فيها، كما يهدي من قاتل لطاعته في هذه الدنيا، قال سبحانه: {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد:5 - 6]، فهم أهدى إلى منازلهم من أحدكم بمنزله إذا انصرف من الجمعة، وعرفها الله لهم مع أنهم لم يدخلوا تلك المنازل قبل ذلك، وفي التفسير الآخر: (عرفها لهم) جعلها لهم ذات عرف ورائحة طيبة، وإن عرف الجنة ليوجد من مسيرة خمسمائة عام، فلو كانت الجنة في أبعد مكان في الأرض، بل لو كانت الجنة عند القمر لوجد الناس رائحتها في الأرض، ولا يدخلها الظالمون الذين يضربون بسياطهم الناس، ولا المتبرجات؛ فإنهن لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها. ثم أمر الله المؤمنين بنصرة دينه فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]. فنسأل الله أن يثبت أقدامنا على الحق والهدى، وأن ينصرنا وأن ينصر بنا الدين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اليهود والنصارى والمنافقين وسائر الكفرة والملحدين أصحاب الضلالة ودعاة السوء. اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين! اللهم نج المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم فرج كرب المكروبين، وفك أسر المأسورين، وارفع الظلم عن المظلومين. اللهم انصر المسلمين في فلسطين، وفي الشيشان، اللهم احفظ المسجد الأقصى ورده إلى المسلمين، اللهم طهر البيت المقدس من دنس اليهود، اللهم دمرهم تدميراً، والعنهم لعناً كبيراً، واحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تبق منهم أحداً. ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.

النصر والغلول

النصر والغلول إن الله تعالى بين للمؤمنين في القرآن أنَّ النصر لا بد له من أسباب عليهم أن يعوها وأن يعملوا بها، فإن نصرهم الله فلن يغلبهم أحد، وحينئذٍ تتبدل موازين القوى العالمية. ولن ينصر الله العباد إلا بالتأدب بآداب الشريعة في مواحهة عدوهم، ومن هذه الآداب: اجتناب الغلول والخيانة، وذلك لأنهما من أسباب فساد الأمة وتأخر نصرها، ومعنى الغلول عام واسع وهو يعني: أخذ شيءٍ من الغنيمة قبل قسمتها، ويتناول أيضاً: التفريق بين الرعية بعدم العدل الواجب بينهم، ويتناول أيضاً: أخذ العامل الرشوة في عمله للمسلمين، وكذا يتناول ترك إبلاغ بعض الدين من قبل العلماء ونحوهم.

أسباب نصر الله للمؤمنين وبيان نتائجه

أسباب نصر الله للمؤمنين وبيان نتائجه إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم. أما بعد: فيقول الله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ * إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ * لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ * الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران:159 - 168]. يقول سبحانه وتعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران:160]. ذكر الله تعالى هذه الآية بعد أن ذكر سبحانه وتعالى منته على المؤمنين بما وضع في قلبه عليه الصلاة والسلام من الرحمة واللين والشفقة على المؤمنين وعدم الفظاظة والغلظة، وهذه -في الحقيقة- أوامر لكل إمام وقائد وكبير ومعلم وصفات لازمة له، وأمره عز وجل بالعفو والاستغفار للمؤمنين، وبالمشاورة في الأمر، فبين سبحانه وتعالى بهذا ما يلزم أن تكون عليه الجماعة المؤمنة، وما يلزم أن يكون عليها قادتها، وهذا من أعظم أسباب نصرها، فالله عز وجل ينصرها إذا وفت مقامات العبودية حقها، وهو -عز وجل- وعد وبين أن نصره لهم الذي إذا حدث لم يغلبهم أحد إنما يقع إذا نصر الله، فقال في الآية الأخرى: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]، وهنا قال: ((إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ)) فمهما اجتمع على هذه الأمة من أحزاب الأرض كلها فإنه إذا نصرها الله عز وجل فلن يقدروا على هزيمتها، فهذه الأمة لها في معاركها مع أعدائها صفات وموازين خاصة، وأمة الإسلام عموماً والطائفة المؤمنة في صراعها مع طوائف الكفر والباطل لها قواعد وموازين خاصة، فليست تعتمد على كثرة العدد والعُدَد، فإن الله عز وجل إذا نصر قوماً فلا غالب لهم، وهو عز وجل ينصر أهل الإيمان بنصرهم لله عز وجل وإقامتهم لأمره، وبنصرهم لدينه سبحانه وتعالى، وذلك أن نصرتهم له عز وجل -وهو الغني الحميد، وهو الغني عن العباد- إنما المقصود بها أن يُنصر دينه، وأن يُنصر رسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا نصروا دين الله نصرهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم حتى تقوم الساعة). وكما جاء في الحديث (وإني أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة عامة، وألا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً ويسبي بعضهم بعضاً). فقد أعطاه الله لأمته ألا يهلكهم بسنة عامة، وألا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطار وجوانب الأرض ونواحيها كلها، لكن إذا سبى بعضهم بعضاً وقتل بعضهم بعضاً فعند ذلك يسلط الله عز وجل عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ويأخذ بعض ما في أيديهم. والمقصود: أن الله عز وجل إذا نصر أهل الإيمان فإنه لا يغلبهم أحد؛ لأنه هو عز وجل نعم المولى ونعم النصير، والأمور بيده سبحانه وتعالى.

عوامل النصر والهزيمة

عوامل النصر والهزيمة وقضية النصر والهزيمة وموازين القوة والضعف لها عوامل مختلفة كثيرة لابد أن ننتبه إليها، لا إلى الموازين الأرضية، ولكن ننتبه إلى أثر أفعال العباد في تحقيق هذه الهزيمة أو النصر أو في تغيير موازين القوة، وأن الله هو الذي يقدر النصر والهزيمة على العباد، وهذا الأمر متكرر في القرآن في ذكر السنن الماضية والآتية فيما مضى من سنن الأنبياء وفيما ذكر الله من سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وفيما بين من أمور عامة دائمة تتكرر وتقع، فلا بد من أن ننتبه إلى أثر أفعال العباد في القوة والضعف طاعة ومعصية، وخيراً وشراً، وقرباً من الله وبعداً، وأن نعلم أن الله هو الذي يقدر الهزيمة والنصر، وأنه سبحانه وتعالى إذا نصر قوماً فإنه لا يغلبهم أحد، وإذا خذلهم فمن ذا الذي ينصرهم من بعده، والله سبحانه وتعالى خذل الكافرين وإن بقوا مدة من الزمن يعلو سلطانهم الزائف، ويظهر للناس قوتهم التي يخوف الشيطان بها أولياءه، فالشيطان يخوف الناس بأوليائه امتحاناً من الله عز وجل للعباد، ولكي يرد أهل الإيمان إلى التوبة والإنابة وتكميل مراتب العبودية التي من أجلها قدر الله عز وجل عليهم تسلط العدو، وإنما قدر ذلك لمصلحة أهل الإيمان، ولتكمل عبوديتهم لله سبحانه وتعالى، وإنما أوجد الكفرة وكفرهم -وهو يبغض ذلك سبحانه وتعالى- لكي تستكمل الطائفة المؤمنة أنواع النصرة لدينه، وأنواع العبودية له عز وجل على الأحوال المحبوبة والمكروهة، وعلى العسر واليسر، والمنشط والمكره، فمن أجل أن يعبدوه بأنواع العبودية المختلفة أوجد من هانوا عليه، وسلطهم عليهم، وأقدرهم على أنواع الظلم والفساد في الأرض الذي يبغضه لكي يعبد المؤمنون ربهم.

تغير أحوال الأمم

تغير أحوال الأمم وفي هذه المحن والفترات التي يتسلط فيها الأعداء لابد لكل منا أن يستحضر هذه المعاني؛ لأن الله عز وجل هو الذي بيده النصر، وهو الذي يخذل من يشاء، قال تعالى: ((إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ))، والناس إذا التفتت قلوبهم إلى الموازين المادية فقط ظنوا أن الأمور لا تتغير، وظنوا أن موازين القوة في الأرض سوف تستمر؛ ذلك لأنهم لا يتأملون العواقب، ولو تأملنا عبر التاريخ كيف سقطت الأمم والحضارات، وكيف أن الله أبدل الناس بعضهم مكان بعض، وجعل بعضهم خلائف لبعض، وكيف أن أمماً في حياتنا رأيناها تنهار ويقوى غيرها ليتسلط بعد ذلك، فلو نظرنا إلى الأسباب التي يقدرها الله عز وجل لعلمنا أن الأمور ليست بيد البشر قطعاً، وهذا أمر محسوس مشهود، فالأمم في عنفوان قوتها، وكثير من الناس يظن أنها لن تبيد حضارتها ولا سلطانها، وأقسم الكفرة في كل زمان بذلك، كما قال عز وجل: {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} [إبراهيم:44] وهذا أمر عجيب، وهو أن كل الظلمة يقسمون ليقينهم التام بأنه لا يزول سلطانهم ولا يزول ملكهم، والناس في هذه الفترات يظنون هذا الأمر، ولذا فإن كثيراً منهم يبيع دينه بعرض من الدنيا، لكن إذا استحضرنا قول الله عز وجل: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران:160]. وإذا نظرنا في التاريخ فسنعرف كيف انهارت أمم، وكيف تسلط عليها عدوها بعد أن كانت حضارتهم في عنفوانها، وكان سلطانهم قوياً شديداً، فما زالت آثار قوم عاد وثمود باقية تحكي كيف كان تسلطهم، وكيف كان بطشهم بالناس، وكيف كان عنفوان قوتهم، ومع ذلك فقد زال كل ذلك وأصبحوا خبراً، وجعلهم الله عز وجل أحاديث، وفي زماننا رأينا دولاً تنهار في سنوات معدودة، بل هذا -والله- من أعجب آيات الله، لأنه في آخر الزمان تتابع الآيات، فالدولة الفرعونية بأسرها المختلفة استغرقت مدة طويلة وبعدها انهارت، ومكث نوح عليه السلام يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، وضل عنفوانهم مدة طويلة، والرومان كذلك. فلو نظرت إلى قوة الاتحاد السوفييتي السابق في زماننا، وكيف كان في عنفوان القوة ثم انهار ليصبح الناس فيه يتكففون أرزاقهم بأنواع الذل والهوان لعلمت أن هذا الذي وقع في سنوات معدودة كان يقع في الأزمنة الماضية بالنسبة للقوة التي وصلوا إليها في أضعاف هذه المدة من السنين، ولذلك لا تستبعد ولا تستغرب أن تتغير موازين القوى في آخر الزمن في لحظات الآيات فهي أسرع وقوعاً، ففي الماضي كان الزلزال يذكر عبر التاريخ، والآن ترى الزلازل تتكرر في كل يوم, والأعاصير كذلك، وصغر العالم بكثرة وسائل الاتصال يجعل آيات الله سبحانه وتعالى أمام الناظر مرئية، وفي كل يوم يقع شيء يذكر الناس بأن الأرض والسماء ليست بأيدي البشر، وأن قلوب العباد تتقلب في محبتهم وكراهتهم، وفي اجتماعهم وافتراقهم، وقد تجد طوائف من المجتمع انهار بعضها على بعض بالصراع، وتمزق المجتمع بأسره بعد أن كانوا ساكنين ساكتين مقرين بالأوضاع المختلفة، ثم تنفجر الاختلافات بينهم حتى تتمزق هذه الأمة التي كانت قوية. ومن ينظر إلى أسباب ضعف وتدهور أحوال الأمم يعلم أنها موجودة في ظلمة الكفرة المتسلطين على العالم في زماننا، والذين يظنون أنهم القوة الوحيدة أو نحو ذلك، فأسباب ضعفهم وهلاكهم قائمة وموجودة، ويمكن أن تشتعل في لحظة إذا أذن الله تعالى بنصر المؤمنين، فإنه إذا نصرهم سبحانه وتعالى فلن يغلبهم أحد، ولن يقف في وجوههم أحد بإذن الله تبارك وتعالى، ونعوذ بالله من الخذلان.

التوكل على الله وبيان أعلى مقاماته

التوكل على الله وبيان أعلى مقاماته قال تعالى: {وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران:160]، وهذا التوكل المأمور به بعد الترغيب فيه بأن الله يحب المتوكلين: هو التوكل على الله في إصلاح النفوس ونصرة الدين وابتغاء الآخرة، وهو أعلى أنواع التوكل، فإن كثيراً من الناس يظن التوكل على الله مقتصر على أمر الأرزاق، فأكثر من يتوكلون يتوكلون على الله في حياتهم الدنيا، وإلا فإن أكثر الناس لا يتوكلون، ولكن توكل الرسل والأنبياء والأولياء إنما هو في نصرة الدين، وفي إعلاء كلمة الله، وفي إصلاح نفوسهم ليتمكنوا من نصرة الله عز وجل ونصرة دينه، وتحقيق العبودية له، فهم يستعينون بالله على عبادته، كما قال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، ويتوكلون على الله في أمر الآخرة، وفي دخول الجنة، ويتوكلون على الله في صلاح الدين، وفي صلاح الدنيا والآخرة، وفيما يحتاجون إليه من توفيق الله سبحانه وتعالى لإقامة شرعه ودينه، وهذا أعلى أنواع التوكل كما ذكرنا، وهو توكل الرسل وأتباعهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

الغلول والخيانة وأثرهما في دمار الأمم

الغلول والخيانة وأثرهما في دمار الأمم قال سبحانه وتعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} [آل عمران:161]. وهذا المعنى له ارتباط بما قبله، فيما يتعلق بصفات الإمام والقائد، فبعد أن بين سبحانه وتعالى صفات النبي صلى الله عليه وسلم من الرحمة واللين، وعدم الفظاظة والغلظة، وأمره بالعفو والاستغفار والمشاورة في الأمر والتوكل على الله عز وجل عند العزم، والاجتهاد في نصرة الدين، والتوكل على الله في هذه النصرة بين أنه يستحيل على أي نبي من الأنبياء أن تقع منه الخيانة والغلول، وهذا دليل على أن هذه الصفة -صفة الخيانة والغلول- صفة مدمرة ومهلكة للطائفة التي يكون قائدها كذلك، فإذا كان قائد طائفة من الطوائف أو أمة من الأمم بهذه الصفة فهذا أمر لا يمكن أن يكون معه بقاؤها، ولذا استحال وجود هذه الصفة في أي نبي من الأنبياء؛ لأن الله أهلهم للمقامات العالية، وأهلهم لقيادة الأمم، فيستحيل أن توجد فيهم الصفات المنكرة المذمومة التي تسبب دمار الأمم وهلاكها وضياعها، فإن ذلك من أعظم أسباب خراب الدنيا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة. فقيل: وكيف إضاعتها؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة) فخراب الدنيا وانتهاؤها بالكلية ودمار الكرة الأرضية بما فيها، وزوال ما عليها من وجود بشري مرتبط بتضييع الأمانة، ولذا يستحيل أن توجد هذه الصفة الخبيثة في نبي من الأنبياء، أو أن تتصور في نبي من الأنبياء. ولقد كان هذا الخبر علاجاً لما تكلم به البعض ممن كان يجهل هذا الأمر كما ذكر ابن كثير رحمه الله في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} [آل عمران:161] قال ابن عباس ومجاهد والحسن وغير واحد: ما ينبغي لنبي أن يخون. وروى ابن أبي حاتم عن عكرمة عن ابن عباس قال: فقدوا قطيفة يوم بدر فقالوا: لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها، فأنزل الله: ((وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ)) أي: يخون. وروى ابن جرير عن مقسم قال: حدثني ابن عباس أن هذه الآية - ((وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ)) - نزلت في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر، فقال بعض الناس: لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها، فأكثروا في ذلك فأنزل الله: ((وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)). وكذا رواه أبو داود والترمذي، وقال الترمذي: حديث حسن غريب، ورواه بعضهم عن خصيف عن مقسم مرسلاً، ورواه ابن مردويه عن ابن عباس قال: (اتهم المنافقون رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء فقد فأنزل الله تعالى: ((وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ))). وقد روي من غير وجه عن ابن عباس نحو ما تقدم، وهذه تبرئة له صلوات الله وسلامه عليه من جميع وجوه الخيانة في أداء الأمانة وقسم الغنيمة وغير ذلك. وهذه قضية عظيمة الأهمية، حيث تصور بعض الناس أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخذها لنفسه، وهذا التصور -كما دلت عليه الروايات الأخرى- إنما صدر ممن يسيء الظن برسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين، وهذا مناف لما عليه أهل الإيمان ولعقيدتهم في النبوة، وهو أنه لا يجوز على النبي ذلك، وهذا الأمر ربما يكون قد وقع فيه البعض بناء على عادتهم في الجاهلية التي كانوا فيها قبل ذلك، وهو أن الرئيس والكبير دائماً قد يأخذ لنفسه شيئاً خفية من الغنائم أو من الأموال العامة التي تحت يده، وهذا أمر تجده في أهل الدنيا كأنه قاعدة مستقرة وكأنه حق مكتسب إلا من رحم الله، وإن كانوا دائماً لا يظهرون ذلك، ولكن هذا الأمر لا يجوز أن يظن بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم أبداً، وكذلك لا يظن بأي نبي من الأنبياء؛ لأن الأنبياء معصومون من الخيانة، وهذا أمر مجمع عليه بين أهل العلم؛ لأن هذا الأمر ينافي مقام التبليغ بالكلية، وينافي مقام قيادة الأمة كما ذكرنا، بل كان لا يجوز لكل من اتصف بالخيانة أن يولى أمور المسلمين، سواء الإمامة الكبرى -الخلافة- أو ما دون ذلك من الولايات، فإن تولية الخائنين الذين لا يصلح الله كيدهم من أسباب فساد العالم -نسأل الله العافية- ومن أسباب فساد الأرض، وانتشار المنكرات، وأسباب ضعف الأمم وهزيمتها وخذلانها، فكل أمة تنتشر فيها الخيانة -خاصة من يتولى الولايات ويؤتمن على الأمانات- فإنها أمة مخذولة بلا شك، ولابد من أن يقع فيها الفساد وأن يسلط عليها عدوها، ولابد من ألا يتحقق لها أمر ولا نصر ولا تمكين في الأرض، نسأل الله العافية. وإذا كان هذا الأمر لو حدث من قائد في قطيفة سبباً لخذلان الأمة فما الظن بما هو أكثر من ذلك؟!

فساد ترك العدل في الرعية

فساد ترك العدل في الرعية قال ابن كثير رحمه الله: وقال العوفي عن ابن عباس: ((وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ)) أي: بأن يقسم لبعض السرايا ويترك بعضاً. وهذا وجه آخر في تفسير الآية، وهو عدم العدل في قسمة الغنائم، بأن يعطي البعض ويترك البعض، وهذا -أيضاً- من الخيانة وإن لم يأخذها لنفسه، لكن يخص بعض الناس بما ليس من حقهم ويحرم طائفة أخرى، وهذا من شيم المفسدين في الأرض، أن يخص طائفة من المقربين، كما فعل فرعون عندما قال للسحرة: {نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الأعراف:114]، فطائفة المقربين طائفة يباح لها أضعاف أضعاف الأجرة المطلوبة، ولذلك كان ترغيبه للسحرة إذا انتصروا أكبر مما طلبوه من الأجر، قال تعالى: {قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الشعراء:41 - 42]، فطائفة المقربين تأخذ أضعاف أضعاف الأجور، وهي لا تحتاج إلى أن تعطى أجراً؛ لأنه يباح لها -والعياذ بالله- من أموال الناس وأعراضهم وحقوقهم ما لا يسألون عنه والعياذ بالله، فهم يعرفون جيداً ما عليه المقربون، وما للمقربين من فرعون، ولذلك كان هذا أعظم الترغيب لهم، كما أنه جعل طائفة أخرى مستضعفة مستباحة، كما قال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:4]، وجعل المجتمع شيعاً، فطائفة يباح لها ما لا يباح لغيرها، وتنتهك حرمات طائفة دون أن يسأل أحد عنها، ودون أن يجازى على انتهاك حقوقها، وهذا من الفساد في الأرض. ولذلك كان هذا من وجوه الخيانة؛ لأن الإمام إنما أعطي السلطات والقوة لأجل أن يقيم العدل في الناس وما شرعه الله سبحانه وتعالى، وألا يميز بين الناس إلا بما ميز الله عز وجل به وخص وفرق من الحق والباطل، فالله عز وجل جعل الذي يفرق بين الناس هو إقامة الحق أو الوقوع في الباطل، فمن أقام الحق أعلى الله شأنه ورفعه، ومن وقع في الباطل وعمل به وضعه الله عز وجل وأذلة وأهانه، وجعل الذلة والصغار على من خالف رسوله صلى الله عليه وسلم، فأما أن يجعل الأمير الناس شيعاً فيقسم المجتمع إلى طبقات وطوائف بحيث تعطى طبقة من الطبقات حقوقاً ويمنع الآخرون فهذا من خيانة الأمانة؛ لأن ما أعطاه الله من القوة والمكانة والأمر النافذ هو أمانة من الأمانات، فإذا وضعها في غير موضعها فأعطى بعض الناس ومنع الآخرين فذلك خيانة وإن لم يأخذ لنفسه، نعوذ بالله من ذلك. قال العوفي عن ابن عباس: ((وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ)) أي: بأن يقسم لبعض السرايا ويترك بعضاً، وكذا قال الضحاك.

الغلول في البلاغ وأثره على الدين

الغلول في البلاغ وأثره على الدين وقال محمد بن إسحاق: ((وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ)) بأن يترك بعض ما أنزل إليه فلا يبلغه أمته. وهذا وجه ثالث في تفسير الآية، وهو الخيانة في البلاغ، وقد يدل عليه قول ابن مسعود: غلوا مصاحفكم! فإنه من يغلل يأت بما غل يوم القيامة. والمقصود: أن الغلول ليس فقط في الأمور المادية، ولكن هناك -أيضاً- خيانة في الأمور المعنوية، وذلك في حق الأنبياء مستحيل كما ذكرنا؛ فإن الأنبياء معصومون، وأصح الأقوال لأهل العلم: أنهم معصومون من الصغائر والكبائر، ولا نزاع في العصمة من الكبائر والصغائر المزرية وكتمان البلاغ فضلاً عما زاد على ذلك من الشرك والكفر، فهذا مما لا نزاع فيه بين العلماء، وإنما النزاع في الصغائر غير المزرية، والصحيح: أن الأنبياء معصومون مطلقاً من كل الذنوب التي هي ذنوب في حق البشر الآخرين، بمعنى أنهم لا يتعمدون المعصية، وإن وقع منهم خطأ أو نسيان أو فتور أو خطأ في الاجتهاد أو نحو ذلك من الأمور أو فعل خلاف الأولى فهذا الذي يسمى ذنباً في حقهم، والله أعلى وأعلم. أما أمر الخيانة بصفة عامة فلا خلاف بين العلماء في أنه لا يقع من الأنبياء؛ لأن ذلك من أعظم المنفرات عنهم وعن تصديقهم واتباع أمرهم. فهذا الأمر -وهو الخيانة في الأمور المعنوية بترك بعض ما أنزل الله- إذا وقع من القائد والإمام والمسئول عن غيره وكذلك أهل العلم كان -أيضاً- من أعظم أسباب الفساد، فمن أعظم أسباب الفساد أن يكتم العلماء بعض الدين فلا يبلغوه للناس ولا يقوموا به، فذلك من أعظم أسباب الفساد، وأعظم أسباب انحراف الناس عن الدين الحق، وأعظم أسباب تحريف الملل عما كان عليه دين الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فالرسل كلهم جاءوا بدعوة واحدة ودين واحد وهو دين الإسلام، فكيف حدث الانحراف؟ لقد وقع التحريف حين ترك بعض من كان عليه أمانة التبليغ وإقامة الدين من أهل العلم ومن أهل القوة والسلطان بعض ما أمرهم الله عز وجل به، وهذا من أعظم الأمور خطراً في تحريف الدعوة إلى الله وإبلاغ دينه، فلابد من أن يكون البلاغ شاملاً كاملاً، لا أن يبلغ ما يوافق آراء الناس وأهواءهم، ولا ما يوافق أهل القوة والسلطان، بل لابد من أن يبلغ الدين كاملاً، كما أمر الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67] وهذا الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم ورثته أمته، فلابد من أن تبلغ الأمة ممثلة في أهل العلم منها ما أنزل الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز أن يكتفوا بالبعض دون البعض، فإن ذلك أول أسباب الانحراف، فضلاً عن أن يقولوا على الله عز وجل ما لا يعلمون، وفضلاً عن أن يقولوا الباطل وينسبوه إلى الدين. فترك بعض الحق لا يبلغ هو سبب من أسباب الانحراف، وأشد منه أن يقال على الله عز وجل ما لا يعلم أنه من الدين، وأشد منه أن يقول المرء على الله عز وجل وعن رسوله صلى الله عليه وسلم ما يعلم أنه خلاف الدين، ولذلك كان عالم السوء وإمام السوء من أعظم الناس خطراً على الأمة، وكان الدعاة على أبواب جهنم هم سبب الفساد الأشد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم حين سأله حذيفة: (فهل بعد هذا الخير -أي: الذي فيه دخن- من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها. قلت: يا رسول الله! صفهم لنا؟ قال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا) فعندهم كلام بالإسلام، وعندهم إظهار للإسلام، لكن قلوبهم قلوب شياطين في جثمان الإنس، فهم يتكلمون بالحق ليروجوا به الباطل لا لينصروا به الدين، وإنما يتكلمون به ليتمكنوا من الصد عن الدين، والعياذ بالله، وهذا أمر معلوم، فإن الباطل لا تقبله الفطر والنفوس؛ لأنه مر خبيث لا يمر إلا بشيء من الحق، كخدعة إبليس الأولى {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:21]، فقد علم أن هذا الباطل لن يروج إلا بشيء من الحق فعظم الله بالقسم، وظن آدم أنه لا يحلف أحد بالله كاذباً، والله أعلى وأعلم، فقاسمهما ليظهر أنه يعظم اسم الله، ويعظم الحلف به، وأنه ناصح، وهكذا الباطل دائماً فهو لا يروج على الناس إلا بشيء من الحق، فلذلك كان المنافقون أشد خطراً على الأمة، ولذلك كان كتمان بعض الدين الذي لا يوافق الأهواء الباطلة من أعظم أسباب انحراف الأمم، ومن أعظم أسباب فساد الأرض، والعياذ بالله، فلابد من أن يبلغ الحق كاملاً دون أن يكتم منه شيء، والله المستعان، ولو كان هذا الأمر سائغاً -وهو أن يبلغ بعض الحق دون البعض الآخر- لساغ أن يقال عن إبليس: إن عنده من التوحيد والإيمان: المعرفة بالله، والمعرفة باليوم الآخر، وإنه يدعو الله مباشرة بلا وسائط، فإنه قال: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [ص:76]، وقال: {رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [ص:79] وهذه طريقة بعض المفترين على الله الكذب -والعياذ بالله- الذين يستعملون هذا الأسلوب، فيلزمهم أن يكون إبليس من الكمل؛ لأن هذه الأمور عنده من الحق، فهل هذا إيمان وهل هذا حق؟! لا، بل لابد من أن يبلغ الأمر والدين كاملاً. ويستحيل على النبي أن يكتم بعض ما أنزل الله إليه، ولهذا قال تعالى: ((وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ)) بأن يترك بعض ما أنزل إليه فلا يبلغه، فهذا أحد وجوه الخيانة. وكل هذه الوجوه التي ذكرت يستفيد منها أهل الإيمان كما ذكرنا، كما أنهم استفادوا من الصفات الطيبة التي ذكرها الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، وينبغي أن يتصف بها صغيرهم وكبيرهم، وأن يتصف بها القادة والمقودون، وكذلك أن يتجنبوا ما نزه الله أنبياءه ورسله عنه من الغلول والخيانة ونحو ذلك؛ لأنها صفات قبيحة، فلابد من أن يتنزه عنها القادة والعلماء والأئمة وكل من له ولاية على غيره، فليس للأب ولا للزوج أن يخون بأن يأخذ لنفسه ما لا يحل له أن يأخذه، أو أن يترك إبلاغ أهله وأولاده وأمرهم وتربيتهم ببعض أمور الدين، والواجب عليه أن يبلغهم، وأن يقيمه فيهم، وإذا خص بعض رعيته دون بعض وقع الفساد في الأسرة بلا شك، فإن أعظم أسباب الفساد في الأسر أن من أهل الولاية فيها كالأب والكبير -مثلاً- من يخص بعض الأولاد بالعطية دون البعض، فيقسم للبعض دون البعض، ويعطي البعض دون البعض، أو يترك إصلاح الخلل الموجود، أو يتمسك ببعض الأمور ويترك أموراً أخرى لا يسعى في إصلاحها. فكل هذه الوجوه لابد من الاستفادة من الطيب منها والحذر من الخبيث، والصحيح أن كل هذه الوجوه المذكورة داخلة في عموم قوله تعالى: ((وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ))؛ لأنه فعل في سياق النفي فهو مثل النكرة في سياق النفي، فكل أنواع الغلول الحسية والمعنوية منفية عن الأنبياء، ويجب أن يتركها أهل الإيمان، خاصة قادتهم وأهل العلم منهم كما ذكرنا، وكل من له ولاية على غيره.

جريمة اتهام الأنبياء بالخيانة

جريمة اتهام الأنبياء بالخيانة قال ابن كثير: وقرأ الحسن البصري وطاوس ومجاهد والضحاك: ((وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يُغَلَّ)) بضم الياء، أي: يخان، يعني: ما كان لكم أن تخونوا النبي. وهذه القراءة سبعية كالأولى. قال: وقال قتادة والربيع بن أنس: نزلت هذه الآية يوم بدر وقد غل بعض أصحابه. رواه ابن جرير عنهما. أي: لما غل بعض أصحابه نزل قوله تعالى: ((وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يُغَلَّ)) أي: يخان؛ لأنه سوف يطلعه الله، والغلول من ورائه والخيانة للنبي نوع من عدم تحقيق الإيمان به. قال: ثم حكى -أي ابن جرير - عن بعضهم أنه فسر هذه القراءة بمعنى: يتهم بالخيانة. فقوله تعالى: (يغل) أي: ينسب إلى الغلول، وهذا وجه آخر في تفسير قراءة ((يُغَلَّ)).

عقوبة جريمة الغلول

عقوبة جريمة الغلول ثم قال تعالى: ((وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ))، وهذا تهديد شديد، ووعيد أكيد، وقد وردت السنة بالنهي عن ذلك أيضاً في أحاديث متعددة. فروى الإمام أحمد عن أبي مالك الأشجعي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أعظم الغلول عند الله ذراع من الأرض، تجدون الرجلين جارين في الأرض أو في الدار فيقطع أحدهما من حظ صاحبه ذراعاً، فإذا اقتطعه طوقه من سبع أرضين إلى يوم القيامة)، نسأل الله العافية. وقد ضعف الشيخ الألباني هذا الحديث، إلا أنه ثابت في الصحيحين بمعناه، ففي الصحيحين عن سعيد بن زيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين) وقوله: (طوقه) يعني: جعل طوقاً في عنقه، فالتراب الذي يكون في هذا الشبر إلى الأرضين السبع كل ذلك يجعل طوقاً في عنقه، نسأل الله العافية. وقد احتج بهذا الحديث الصحيح من يقول: إن الأرضين السبع هي في هذه الأرض، وقيل: بل هذه الأرض كلها هي أرض واحدة، فيقول: إن ما يساوي هذا الشبر من الأرضين الأخرى المنفصلة عن هذه الأرض المستقلة عنها يؤتى به ويجعل طوقاً في عنق الغال أو الظالم لشبر من الأرض، نسأل الله العافية.

الأموال العامة وعظم خطرها

الأموال العامة وعظم خطرها وروى الإمام أحمد عن المستورد بن شداد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من ولي لنا عملاً وليس له منزل فليتخذ منزلاً، أو ليست له زوجة فليتزوج، أو ليس له خادم فليتخذ خادماً، أو ليست له دابة فليتخذ دابة، ومن أصاب شيئاً سوى ذلك فهو غال)، وهذا الحديث صححه الشيخ الألباني، وهذا إذن من النبي صلى الله عليه وسلم لعماله، وهو حد الكفاية بالنسبة لهم، فمن كان ليس له منزل فله أن يتخذ منزلاً، وهذا لا يعني أنه يأخذ من تلقاء نفسه، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يعطيهم، أو يجعل من يعطيهم، وذلك بأن يخبره من يعمل الأعمال من جمع الأموال أو ولاية الولايات بأنه ليس له منزل أو ليس له زوجة أو ليس له دابة أو ليس له خادم فيأذن له بأخذ ما يحتاج إليه، فإن أصاب شيئاً سوى ذلك فهو غال وخائن للأمانة، وهذا دليل على أن قضية الغلول واسعة، وليست فقط في الغنيمة عندما يغل الإنسان ويسرق من الغنيمة قبل قسمتها، بل يدخل في ذلك كل من ولي ولاية وكان على مال من أموال المسلمين العامة، ووالله إن هذا لبلاء شديد، فكل من ولي على المسلمين من أموالهم شيئاً يمكن أن يتصور فيه الغلول والخيانة بأن يضع الأشياء في غير مواضعها، نسأل الله العافية، ونعوذ بالله من الغلول والخيانة. وأموال المسلمين العامة هي أكثر الأموال استهانة بها عند الناس، فالناس يستهينون بالأموال العامة، ويقولون: إن مال الحكومة حلال، والواقع أن الحكومة ليس لها مال، بل هذه أموال المسلمين العامة، وهي ملك للمسلمين عموماً، وهي أشد خطراً من الأموال الخاصة، ولذلك تجد التشديد في الأموال العامة، وقد أبى النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ من رجل شراك نعل جاء به بعد أن انصرف الجيش وقال: (تأتي به يوم القيامة) إذ بعد أن انصرف الجيش لا يقدر أن يوصل لكل واحد منهم نصيبه من هذا الشيء اليسير. فأموال المسلمين العامة أغلظ من الأموال الخاصة، فالشخص الواحد قد ترجع له حقه إذا تبت إلى الله، أما الأموال العامة فهي -في الحقيقة- مملوكة لكل المسلمين، ولكل مسلم حق ونصيب فيها، فكونه يهمل في شيء منها فيدمره ويفسده على المسلمين، أو يستعمله استعمالاً يؤدي به إلى فساده، أو يأخذه بغير حق، أو يحتال بأي وسيلة من الوسائل ليأخذ ما ليس له؛ كل ذلك أمره شديد، ونسأل الله العفو والعافية، ومن ذلك الرشوة، وسيأتي ما يدل على أنها من الغلول، فكل مال يدفع لموظف عام من أجل أن يخون الأمانة أو يؤديها فهو خيانة، إذ واجب عليه أن يؤديها دون أن يأخذ مالاً من المنتفعين بها من المسلمين؛ لأنه يأخذ أجرته من بيت المال، فكيف يأخذ من الناس شيئاً؟! فإذا كانوا يعطونه لكي يؤدي الحق فهو ظالم، وإذا كانوا يعطونه لكي يخون الحق ولكي يخون الأمانة فهذا أشد والعياذ بالله. وروى أبو داود بسند آخر عن المستورد بن شداد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من كان لنا عاملاً فليكتسب زوجة، فإن لم يكن له خادم فليكتسب خادماً، فإن لم يكن له مسكن فليكتسب مسكناً. قال أبو بكر -أحد الرواة-: أخبرت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من اتخذ غير ذلك فهو غال أو سارق). قال ابن كثير قال شيخنا الحافظ المزي رحمه الله: رواه جعفر بن محمد الفريابي عن موسى بن مروان فقال: عن عبد الرحمن بن جبير بدل جبير بن نفير، وهو أشبه بالصواب، وهو حديث صحيح بما قبله. وهناك حديث آخر رواه ابن جرير عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل شاة لها ثغاء فينادي يا محمد! يا محمد! فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغتك، ولا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل جملاً له رغاء فيقول: يا محمد! يا محمد! فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغتك، ولا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل فرساً له حمحمة ينادي: يا محمد! يا محمد! فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغتك، ولا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل قشعاً من أدم ينادي: يا محمد! يا محمد! فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغتك) لم يروه -أي: عن ابن عباس - أحد من أهل الكتب الستة. وهو صحيح، ورووا مثله من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. وهذا دليل على أن من غل شيئاً، أو سرق من أموال المسلمين العامة، أو أخذ ما ليس له منها، أو خان في الأمانة، فإنه يأتي يوم القيامة وعلى رقبته هذا الشيء لا يفارقه، وهو حمل ثقيل لا يستطيع التخلص منه، ويستشفع بالنبي صلى الله عليه وسلم فلا يقبل النبي صلى الله عليه وسلم أن يشفع له ويقول: (لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغتك)، فيظل ملازماً له إلى أن يهوي به في النار، نعوذ بالله من ذلك، ونسأل الله العافية.

هدايا العمال في الأعمال العامة وعقوبة الغال في عمله للمسلمين

هدايا العمال في الأعمال العامة وعقوبة الغال في عمله للمسلمين روى الإمام أحمد عن أبي حميد الساعدي قال: (استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأزد يقال له: ابن اللتبية على الصدقة، فقال: هذا لكم وهذا أهدي لي، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فقال: ما بال العامل نبعثه فيجيء فيقول: هذا لكم وهذا أهدي لي! أفلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه أم لا؟!) يعني: ما أهدي له لعلاقة كانت قائمة قبل ذلك، وإنما أهدي إليه لأجل الولاية، ولأجل أن يقوم بالحق أو أن يقوم بالباطل، أهدي إليه لكي لا يظلم الناس كما يقع من كثير من العمال، وهذا من الغلول ومن الرشوة المحرمة، أو يهدى إليه لكي يقوم بالباطل فلا يأخذ الحق من أهله، أو لكي يجعله على غيرهم، أو لكي يظلم بعض الناس ويقدم بعض الناس الذين لا يستحقون التقديم على غيرهم، وكل ذلك -سواء سمي هدية أو سمي رشوة أو سمي غير ذلك- من الغلول. يقول صلى الله عليه وسلم: (ما بال العامل نبعثه فيجيء فيقول: هذا لكم وهذا أهدي إلي! أفلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه أم لا؟! والذي نفس محمد بيده لا يأتي أحد منكم منها بشيء إلا جاء به يوم القيامة على رقبته إن كان بعيراً له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر. ثم رفع يديه حتى رأينا عفرة إبطيه -أي: بياض إبطيه- -ثم قال: اللهم هل بلغت ثلاثاً) أي قال: اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت، والحديث رواه البخاري ومسلم. قال أبو حميد: بصرته بعيني وسمعته بأذني واسأل زيد بن ثابت. وروى الإمام أحمد عن أبي حميد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (هدايا العمال غلول) وهذا الحديث من أفراد أحمد، وهو ضعيف الإسناد، وكأنه مختصر من الذي قبله، وهذا يدل على أن هذا داخل في الغلول، فمن كان في وظيفة عامة فلا يجوز أن يعطيه أحد شيئاً من الهدايا، ونسأل الله العافية. وهناك حديث آخر رواه أبو عيسى الترمذي في كتاب الأحكام عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: (بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فلما سرت أرسل في إثري فرددت، فقال: أتدري لم بعثت إليك؟ لا تصيبن شيئاً بغير أذني؛ فإنه غلول، ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة، لهذا دعوتك فامض لعملك). قال الترمذي: حسن غريب. وضعفه الشيخ الألباني، لكن له شواهده في المعنى. وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره، ثم قال: لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء فيقول: يا رسول الله! أغثني فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة فيقول: يا رسول الله! أغثني فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق فيقول: يا رسول الله! أغثني فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت -والصامت هو الذهب والفضة- فيقول: يا رسول الله! أغثني فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك) والحديث متفق على صحته. وروى الإمام أحمد عن عدي بن عميرة الكندي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس! من عمل لنا منكم عملاً فكتمنا منه مخيطاً فما فوقه فهو غل يأتي به يوم القيامة) وسمي الغلول غلولاً لأنه يكون في رقبته يوم القيامة، والغل يكون في الرقبة والعياذ بالله، وقوله: (كتمنا منه مخيطاً) المخيط هو الإبرة. قال: (فقام رجل من الأنصار أسود -قال مجاهد: هو سعيد بن عبادة - كأني أنظر إليه فقال يا رسول الله! اقبل عني عملك -يعني: أقلني فلا تعيني في وظيفة عامة ولا تعيني في عمل أجمع فيه أموالاً أو أكون أميناً فيه على أموال-؟ قال: وما ذاك؟ قال: سمعتك تقول كذا وكذا. قال: وأنا أقول ذاك الآن، من استعملناه على عمل فليجئ بقليله وكثيره، فما أوتي منه أخذه وما نهي عنه انتهى) كذا رواه مسلم. وروى الإمام أحمد عن أبي رافع قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى العصر ربما ذهب إلى بني عبد الأشهل فيتحدث معهم حتى ينحدر المغرب، قال أبو رافع: فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرعاً إلى المغرب إذ مر بالبقيع فقال: أف لك! أف لك! مرتين فكبر في ذرعي وتأخرت وظننت أنه يريدني، فقال: مالك؟ امش. قال: قلت: أحدثت حدثاً يا رسول الله. قال: وما ذاك؟ قال: أففت بي؟ قال: لا، ولكن هذا قبر فلان بعثته ساعياً على آل فلان فغل نمرة فدرع الآن مثلها من نار) ونسأل الله العافية، ونعوذ بالله، والحديث ضعفه الشيخ الألباني، لكن له شواهد أخرى. وقوله: (فدرع) يعني: ألبس درعاً، وهذا دليل على أن من أسباب عذاب القبر، خيانة الأمانة في الأموال العامة. وروى عبد الله بن الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ الوبرة من جنب البعير من المغنم ثم يقول: مالي فيه إلا مثل ما لأحدكم، إياكم والغلول؛ فإن الغلول خزي على صاحبه يوم القيامة، أدوا الخيط والمخيط وما فوق ذلك، وجاهدوا في سبيل الله القريب والبعيد في الحضر والسفر، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة، إنه لينجي الله به من الهم والغم، وأقيموا حدود الله في القريب والبعيد، ولا تأخذكم في الله لومة لائم) وهو صحيح بمجموع طرقه، وقد روى ابن ماجه بعضه. قوله: (مالي فيه إلا مثل ما لأحدكم) أي: نصيبي مثل نصيب الواحد منكم. فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يستوي في قسم الغنائم مع عامة الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وإنما كان يأخذ الخمس الذي جعله الله عز وجل له ليجعله في مصالح المسلمين، ويأخذ منه نفقته وكفايته وكان لا يكفيه عليه الصلاة والسلام، مع أنه كان يدخر قوت سنته، لكن سرعان ما ينفقها ويبقى أهله الهلال ثم الهلال ثم الهلال لا يوقد لهم في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار، وليس لهم طعام إلا الأسودان: التمر والماء. قوله: (أدوا الخيط والمخيط) أي: أدوا الخيط والإبرة (وجاهدوا في سبيل الله القريب والبعيد) -أي: إذا كانوا ممن شرع الله جهادهم. فيجاهد الأقارب والأباعد بكل أنواع الجهاد. وهناك حديث آخر عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ردوا الخيط والمخيط؛ فإن الغلول عار ونار وشنار على أهله يوم القيامة). وهناك حديث آخر عن أبي مسعود الأنصاري قال: (بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعياً -والساعي جامع الصدقة- ثم قال: انطلق أبا مسعود، لا ألفينك يوم القيامة تجيء وعلى ظهرك بعير من إبل الصدقة له رغاء قد غللته. قال: إذاً لا أنطلق. قال: إذاً لا أكرهك) تفرد به أبو داود، وهو حديث صحيح. أي: أنه خشي على نفسه من أن يأخذ ما ليس له فترك أن يعمل جامعاً للصدقة وطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيله فقبل النبي صلى الله عليه وسلم منه ذلك وقال: (لا أكرهك). وهناك حديث آخر رواه أبو بكر بن مردويه عن ابن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الحجر ليرمى به في جهنم فيهوي سبعين خريفاً ما يبلغ قعرها، ويؤتى بالغلول فيقذف معه ثم يقال لمن غل: ائت به)، وذلك قوله: ((وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ))، والحديث ضعيف. وروى الإمام أحمد عن ابن عباس قال: حدثني عمر بن الخطاب قال: (لما كان يوم خيبر أقبل نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: فلان شهيد وفلان شهيد، حتى أتوا على رجل فقالوا: فلان شهيد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلا؛ إني رأيته في النار في بردة غلها أو عباءة، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ابن الخطاب! اذهب فناد في الناس أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون. قال: فخرجت فناديت: ألا إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون) رواه مسلم والترمذي وقال: حسن صحيح. وهذا دليل على إثبات عذاب القبر، وعلى عدم قول: فلان شهيد؛ لأنه ربما يكون على غير ذلك، وأما إذا قصد أنه شهيد في أحكام الدنيا فذاك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمنعهم من أن يتكلموا في حق من لم يعرف عنه فساد، وإنما سكت، ولما قالوا: فلان شهيد قال: (كلا) وهذا دليل على أنه قد يقتل الإنسان في سبيل الله ويعامل في الدنيا معاملة الشهداء ولكنه لا يكون عند الله شهيداً لوجود مانع من ذلك، وهو أن يكون قد غل من الغنيمة. وهناك حديث آخر عن عمر، فقد روى ابن جرير عن عبد الله بن أنيس (أنه تذاكر هو وعمر بن الخطاب يوماً الصدقة فقال: ألم تسمع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذكر غلول الصدقة: من غل منها بعيراً أو شاة فإنه يحملها يوم القيامة؟! قال عبد الله بن أنيس: بلى).

ما يجازى به الغال في الدنيا

ما يجازى به الغال في الدنيا ورواه ابن ماجه عن الحسن قال: (عقوبة الغال أن يخرج رحله ويحرق على ما فيه). وعن عثمان بن عطاء عن أبيه عن علي رضي الله عنه قال: (الغال يجمع رحله فيحرق ويجلد دون حد مملوك -أي: دون خمسين جلدة- ويحرم نصيبه)، وهذا الحديث ضعيف في عقوبة الغال أنه يحرق رحله، فالتحريق للغال لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو من قول الحسن، وقول علي أيضاً ضعيف، فلا يثبت هذا الأمر، وإن نصره بعض العلماء كـ ابن القيم رحمه الله، فالحديث ضعيف لا يعمل به، وإنما أفتى بعض التابعين بأنه يتصدق بثمنه كما سيأتي. وأما جلد الغال فهذا للإمام، فإن رأى أن يجلده ويعاقبه بجلد أو حبس أو غير ذلك فإنه يفعل على قدر ما يرى، لكن دون الحد. وروى ابن جرير عن ابن عمر (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سعد بن عبادة مصدقاً فقال: إياك -يا سعد- أن تجيء يوم القيامة ببعير تحمله له رغاء. فقال: لا آخذه ولا أجيء به -يعني: لا آخذ العمل ولن آتي بشيء- قال: فأعفاه) أي: قبل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك. فمن وجد في نفسه ضعفاً عن القيام بالحق فلا يتعين في هذه الوظائف العامة. وروى الإمام أحمد عن سالم بن عبد الله أنه كان مع مسلمة بن عبد الملك في أرض الروم، فوجد مسلمة في متاع رجل غلولاً فسأل سالم بن عبد الله فقال: حدثني أبي عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من وجدتم في متاعه غلولاً فحرقوه. قال: وأحسبه قال: واضربوه، قال: فأخرج متاعه في السوق فوجد فيه مصحفاً فسأل سالماً فقال: بعه وتصدق بثمنه) وهذا الحديث ضعيف، أورده ابن الجوزي في العلل المتناهية، وقال علي بن المديني والبخاري وغيرهما: هذا حديث منكر. وقال الداراقطني: الصحيح أنه من فتوى سالم فقط، وقد ذهب إلى القول بمقتضى هذا الحديث الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله ومن تابعه من أصحابه، وهو عقوبة الغال بتحريق متاعه. وروى الأموي عن معاوية عن أبي إسحاق عن يونس بن عبيد عن الحسن قال: (عقوبة الغال أن يخرج رحله فيحرق على ما فيه). يقول: وخالفه أي: خالف أحمد بن حنبل - أبو حنيفة ومالك والشافعي والجمهور فقالوا: لا يحرق متاع الغال، بل يعزر تعزير مثله. أي: يعزر بما يراه الإمام كما يعزر من أخذ مالاً بغير حق. وقال البخاري: (وقد امتنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة على الغال ولم يحرق متاعه) , والله أعلم. وهذا الصحيح في هذه المسألة؛ لأن الإحراق فيه إفساد من غير مصلحة. وروى الإمام أحمد عن جبير بن مالك قال: أمر بالمصاحف أن تغير -والذي أمر بذلك هو عثمان بن عفان؛ لئلا يكتب مصحف إلا على الرسم الذي اتفق عليه ويمحى ما سوى ذلك، وكان المخالف في ذلك عبد الله بن مسعود -قال: فقال ابن مسعود: من استطاع منكم أن يغل مصحفاً فليغله، فإنه من غل شيئاً جاء به يوم القيامة، ثم قال: قرأت من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة؛ أفأترك ما أخذت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد كان هذا رأي ابن مسعود، وانقطع هذا القول، وأصبح إجماع الأمة أنه لا يكتب المصحف إلا بهذه الطريقة، حتى ولو كانت هناك قراءات ووجوه أخرى في ترتيب السور، فقد أجمعت الأمة على أن المصاحف لا تكتب إلا هكذا والحمد لله؛ وذلك لحفظ القرآن بفضل الله. وروى أبو داود عن سمرة بن جندب قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غنم غنيمة أمر بلالاً فينادي في الناس فيجيئون بغنائمهم يخمسه ويقسمه، فجاء رجل يوماً بعد النداء بزمام من شعر فقال: يا رسول الله! هذا كان مما أصبنا من الغنيمة. فقال: أسمعت بلالاً ينادي -ثلاثاً؟ - قال: نعم، قال: فما منعك أن تجيء به؟ فاعتذر إليه، فقال: كلا، أنت تجيء به يوم القيامة، فلن أقبله منك)، وكان هذا من أعظم العقوبة، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ونسأل الله العافية. وقد ذكر العلماء أن من أخذ أموالاً عامة من غير حق ثم تاب إلى الله عز وجل فإنه يتصدق بها عن المسلمين الذين يستحقونها، وهذا هو قول أكثر أهل العلم.

الأسئلة

الأسئلة

حكم أخذ العامل ما يعطاه في عمله مما يسمى بالإكرامية وحق الشاي

حكم أخذ العامل ما يعطاه في عمله مما يسمى بالإكرامية وحق الشاي Q هل يجوز للعامل أن يأخذ ما يعطاه في عمله مما يسمى بحق الشاي والإكرامية ونحو ذلك؟ A هذا في القطاع الخاص جائز بعلم صاحب العمل، فإذا كان المرء يعمل في قطاع خاص فأعطاه بعض الناس إكرامية فإنه يبلغ صاحب العمل ويقول له: إن فلاناً أعطاني كذا، وذلك ليكون بريئاً من هذا الأمر، أما القطاع العام فلا يجوز للعامل فيه أن يأخذ شيئاً. وهناك تنبيه على أمرهم، وهو أنه في لجان التصحيح أيام الامتحانات تبقى بعض كراسات الإجابة للطلبة المتغيبين عن الامتحان، فيأذن رئيس لجنة التصحيح في أن يأخذ منها العاملون في هذه اللجنة، وهي من الأموال العامة والرسول صلى الله عليه وسلم قد شدد في ذلك حتى قال: (أدوا الخيط والمخيط)، فالكراسات هذه إن أخذت فإنه يجب أن تستعمل في مصالح المسلمين العامة كأن تستغل في التدريس بعد ذلك، أما أخذها لأعمال خاصة فلا. فحق الشاي كما يسمى والإكرامية في القطاع الخاص أمر جائز بإذن صاحب العمل، أما القطاع العام فلا، ومن عمل في شركة وعندهم في الشركة كمبيوتر يسمع منه قرآناً أحياناً ويستفيد منه بعض الأمور التي تنبه -مثلاً- على فضيلة يوم عاشوراء ويوم عرفة ونحو ذلك من الأمور التي فيها مصلحة عامة فلا بأس بعمله هذا، فهذا من المصالح العامة التي فيها دعوة إلى الله عز وجل وفيها تذكير بالخير، ومثل هذا لا يمنع.

حكم مد لفظ الجلالة في الأذان

حكم مد لفظ الجلالة في الأذان Q هل يجوز مد لفظ الجلالة في الأذان؟ A الصحيح أنه يمد مداً طبيعياً بحركتين فقط، ولكن بعض المشايخ يقولون: إن هذا مد تعظيم، والصحيح أنه يمده مداً طبيعياً، ولكن لا يبطل الأذان بذلك.

حكم الصلاة في المسجد الذي فيه قبة تابعة لقبور أزيلت منه

حكم الصلاة في المسجد الذي فيه قبة تابعة لقبور أزيلت منه Q ما حكم الصلاة في المسجد الذي فيه قبة ليس فيها قبور، حيث إنه تم إزالة القبور، لكن القبة تابعة للقبور؟ A تجوز الصلاة فيه إذا أزيلت القبور؛ لأنها هي العلة.

حكم الصلاة في مسجد فيه مقام كرسي من خشب

حكم الصلاة في مسجد فيه مقام كرسي من خشب Q مسجد فيه مقام كرسي خشب ليس فيه قبر، فما حكم الصلاة فيه؟ A إن كان هذا الكرسي الخشب يعبد وثناً من دون الله بحيث يعظم وينذر له فالعلة قائمة في النهي عن الصلاة في هذا المكان، وإن لم يكن يعظم ولا يفعل فيه شيء من العبادات فلا حرج؛ لعدم وجود العلة، نعم ليس هناك نص في النهي عن الصلاة في المساجد التي فيها مقامات، لكن -كما ذكرنا- إن كان هذا الأمر مما يعبد من دون الله فهذا هو سبب النهي عن الصلاة في هذا المكان. فالمشكلة أن بعض الناس قد يعظم المخلوق تعظيماً يخرج به عن حده، وقد سمعنا أن أحد هؤلاء يقول: إنه يجوز أن يقال: عيسى ابن الله على سبيل التشريف، وهذا كلام باطل، فلا يجوز أن يقال: عيسى ابن الله، ولا أحد من الخلق يقال له: ابن الله أبداً، ولا على سبيل التشريف، فقد رد الله على من قال ذلك فقال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة:30] وقال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} [المائدة:18]، ولا يجوز قول ذلك على سبيل المجاز، قال عز وجل: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ} [الزمر:4] فنزه الله نفسه عن أن يكون له ولد مخلوق. لكن عيسى عليه السلام هو روح الله على سبيل التشريف، فهذه الروح هي المشرفة المنسوبة إلى الله وليست هي صفة من صفاته.

ما يقرأ من القرآن على النصراني، وبيان انحراف أهل الكتاب وضلالهم

ما يقرأ من القرآن على النصراني، وبيان انحراف أهل الكتاب وضلالهم Q إذا طلب مني بعض النصارى أن أقرأ عليه بعضاً من القرآن فمن أي القرآن أقرأ؟ A اقرأ عليه سورة مريم، كما فعل جعفر رضي الله عنه مع النجاشي، واقرأ سورة آل عمران. وإنَّ أبرز الحجج في عموم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم قول الله عز وجل: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158]. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بالذي أرسلت به إلا أدخله الله النار). فعموم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم مأخوذ من تصديقه صلى الله عليه وسلم، وتصديقه مبني على معرفة المعجزات التي أعظمها القرآن العظيم، ووجوه الإعجاز المختلفة في القرآن الكريم مذكورة في كتب التفسير، وفي مقدمة تفسير القرطبي شيء صالح من ذلك، وكثير من كتب علوم القرآن موجود فيها وجوه الإعجاز أيضاً. وأما المعجزات الحسية فأحيلك على كتاب (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح) لشيخ الإسلام ابن تيمية ففيه معجزات بالأسانيد الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم التي تبلغ مئات المعجزات الحسية، والتي ينقلون عن الأنبياء السابقين أقل من عشرها بلا أسانيد ومع ذلك يقبلونها، فمن كذب محمداً صلى الله عليه وسلم فقد كذب كل الأنبياء، لزاماً، فمن الواجب علينا أن نبين لهم فساد الاعتقاد بتعدد الآلهة والتثليث، وأن المسيح إله يعبد من دون الله أو مع الله أو هو الله، وبيان كفر من قال ذلك مما لا يحتمل تأويلاً، فهؤلاء يخدعون الناس مستدلين بآيات من القرآن لبيان عقائدهم الباطلة، فإذا كان القرآن حقاً فلابد من أن يقبلوه كله؛ والكثير من الشبهات الآن تلقى في قنوات تبشيرية، ولا أدري لماذا يستمع الناس لها؟! ويحاولون فيها أن يأتوا بآيات من القرآن لإثبات ما هم عليه، فإذا كان القرآن حقاً فقد قال الله فيه: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:17]، وهذه لا يستطيعون لها تحريفاً ولا تأويلاً على الإطلاق، وقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73] وهذه كلها نصوص قطعية، فإن كانوا يصدقون بالقرآن فالقرآن حجة عليهم، والواقع أنهم لا يصدقون بالقرآن ولا بالنبي عليه الصلاة والسلام. وأما قوله عز وجل: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ} [المائدة:47] فهم يحتجون به على بقاء الإنجيل، ونحن نقول: قد أنزل الله عز وجل في الإنجيل ذكر بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن المسيح بشر مثلهم، فليحكموا بهذا، وليس في هذا إلغاء بالكلية، وإنما هناك عقائد واحدة قالها المسيح عليه السلام كما قالها من قبله الرسل، وجاء بها كل الأنبياء وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، فيجب عليهم أن يحكموا بذلك. وهناك شرائع متفق عليها كذلك، مثل: تحريم الزنا، وإقامة الحدود، أعني القطع -مثلاً- في السرقة، والرجم في الزنا، فهذا مما اتفقت عليه كلمة الكتب الثلاثة، واتفقت عليه الشرائع الثلاث: شريعة موسى، وشريعة عيسى، وشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، وهم لا يطبقون شيئاً من ذلك، فقد نزل القرآن في هذا خصوصاً فيما لم يتغير ولم ينسخ، وليس المعنى أن هذا ينفي النسخ، فإننا نعمل بالقرآن ونعرف أن فيه ناسخاً ومنسوخاً، فما وجه الاعتراض؟ فقد أنزل الله المنسوخ لمدة من الزمن وهو عز وجل يعلم أنه سيغيره لمصلحة الناس، وأما ما لم ينسخ فيجب العمل به، فمن ترك العمل بالمنسوخ من القرآن فهل يقال عنه: ترك العمل بالقرآن؟ لا، فكذلك إذا ترك المنسوخ من الإنجيل لو ثبت، وهذا الكلام هو في حق الإنجيل الذي جاء به المسيح، لا الأناجيل التي كتبها الحواريون وأتباعهم على صيغة المسيح، فنحن نعتقد أن الإنجيل كتاب أنزله الله على عيسى صلى الله عليه وسلم، والنصارى يعتقدون أن الإنجيل الذي بين أيديهم هو صيغة المسيح التي كتبها الحواريون وتلامذتهم وليس هناك كتاب أنزله الله على المسيح. فنقول: الإنجيل الذي أنزله الله على المسيح صلى الله عليه وسلم يحكم به -كما ذكرنا- في العقائد الواجب اتباعها، وفي الأحكام المتفق عليها بين الشرائع والأخلاق الواجب اتباعها كذلك، وترك الأخلاق المحرمة، كل هذا مما اتفقت عليه كل الشرائع، فليحكموا بذلك، وأعظم ذلك وأهمه الإيمان بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتوحيد الله عز وجل قبل ذلك، فليس لأحد من النصارى ولا اليهود أن يحتج بشيء من القرآن؛ لأنهم لا يصدقون القرآن، ولا يصدقون بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وعليه فليس لهم أن يحتجوا بالقرآن، ولا أن يقولوا: إن الله قد أخبر بذلك؛ لأن الله هو -سبحانه وتعالى- الذي أمر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم، فإن كان اعتقادكم في القرآن أنه حق فاقبلوا كل القرآن، وأما إذا لم يكن ذلك فلا تضربوا بعض القرآن ببعض، ولا يجوز لكم أن تأخذوا بعضاً وتتركوا بعضاً، إنما هذا حال الكفار -والعياذ بالله- وهم كذلك، فيجب أن لا يقبل منهم احتجاج بالآيات؛ لأنهم غير مصدقين بها، وهذه الآيات يفسرونها على غير وجهها {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران:7]، وأهل العلم يردون المتشابه إلى المحكم، فيتفق الكتاب كله، ومثال ذلك قوله تعالى في سورة النساء: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [النساء:162] فيقول صاحب الشبهة: كيف جاءت ((وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ))؟ وهذه من شبهات المنصرين، وهذه الجملة من الآية منصوبة على الاختصاص، أي: وأخص المقيمين الصلاة، ولها وجوه أخرى في الإعراب من أراد أن يرجع إليها فليرجع إلى تفسير القرطبي وتفسير أبي السعود، لكن أظهرها ما ذكرنا، وهو تخصيص المقيمين الصلاة، وذلك لأهمية الصلاة.

عدة من يتأخر نزول حيضها

عدة من يتأخر نزول حيضها Q امرأة كانت تستعمل علاجاً خاصاً بالدورة أدى إلى عدم انتظامها، حتى إنها كانت تأتيها كل ثلاثة أشهر فقط، فطلقت وهي غير حامل، فكيف تكون عدتها؟ A طالما كانت تحيض ولو كل ثلاثة أشهر أو تسعة أشهر فعدتها ثلاث حيض، وإذا انقضت الفصول الثلاثة ولم تحض وغلب على الظن انقطاع الدورة بالكلية فحينئذٍ تعتد بالأشهر، لكن إن جاءت الدورة ولو بعد عدة أشهر فعدتها بالحيض.

اليهود قتلة الأنبياء

اليهود قتلة الأنبياء لقد ذكر الله تعالى عباده المؤمنين بحقيقة الصراع الكائن بين الإسلام والكفر؛ ليعرفوا حقيقة أعدائهم من الكافرين بآيات الله وقتلة الأنبياء وحملة الدعوة الإسلامية، والمعرضين عن تحكيم شريعة الله تعالى، وبين أن هؤلاء ليس لهم ناصر حقيقي يقيهم غضب الله تعالى ومكره، وإذا كان الأمر كذلك فللمؤمنين جناب عظيم يلوذون به حين تشد بهم الأزمات في مواجهة أولئك الكافرين، ولذا كان عليهم أن يقووا إيمانهم بربهم مالك الملك، والمتصرف في الكون؛ ليجدوا منه العون والتأييد.

حقيقة الصراع بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان

حقيقة الصراع بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أما بعد: فقد قضى الله سبحانه وتعالى بعدله وحكمته بوجود العداوة بين أولياء الرحمن بني الإنسان وأولياء الشيطان، فأولياء الرحمن من بني آدم عليه السلام هم الذين اتبعوه على معرفة الله وتوحيده ومحبته، والتوبة والإنابة إليه سبحانه وتعالى، والاعتراف بالذنب، والرجوع إلى أمره عز وجل، والاستغفار. وأولياء الشيطان، وإن كان بعضهم أو كثير منهم ممن انتسبوا إلى آدم، إلا أنهم والوا عدوهم إبليس اللعين، وساروا على طريقته في الإباء والاستكبار والكفر والعناد، والعياذ بالله، فصارت هذه العداوة مستمرة تجري حلقاتها جيلاً بعد جيل على ظهر هذه الأرض. والله سبحانه وتعالى قد بين لنا حقيقة هذا الصراع منذ أمر آدم بالهبوط إلى الأرض هو وإبليس، فقال سبحانه وتعالى: {قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [الأعراف:24]، فهذه العداوة لابد من أن نعرف قواعدها وموازينها؛ لنختار لأنفسنا الفريق الذي ننتمي إليه، حتى لا يخدعنا مخادع عن حقيقة الصراع الذي يجري على وجه هذه الأرض، مما يخدع الشيطان به أولياءه فيظنون أن الصراع ينبغي أن يكون على الملك أو على المال أو على الشهوات أو على الطعام والشراب، فكثير من الناس إنما يصارع من أجل ذلك، فيقع في الفخ الذي نصبه الشيطان، فيكون من جنده، والشيطان وإن أوقع العداوة بينهم إلا أنه لا يرضى لبني آدم إلا الخسران في الدنيا والآخرة، والعياذ بالله.

بيان الله لعباده مكر عدوهم وكشفه لحقيقته

بيان الله لعباده مكر عدوهم وكشفه لحقيقته والله سبحانه وتعالى بين لأوليائه وأتباع أنبيائه على ألسنة الأنبياء حقيقة أعدائهم وصفاتهم، فجلاهم سبحانه وتعالى وكشف ما في بواطنهم، من إرادتهم العلو والفساد في الأرض، وإرادتهم إطفاء نور الله سبحانه وتعالى، فقال: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:32 - 33]. ويملي سبحانه وتعالى لهم؛ وذلك لمتانة كيده، ولأنه سبحانه وتعالى خير الماكرين، قال عز وجل: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:182 - 183]. وقال سبحانه وتعالى: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:50]. والله سبحانه وتعالى يكيد بأعدائه الكافرين، كما قال تعالى: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} [الطارق:15 - 17]. وبين سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين حقيقة الصراع الذي يجري بينهم وبين عدوهم، خاصة من تستمر عداوتهم إلى قبيل قيام الساعة، وهم كفرة أهل الكتاب، كما بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم في شأن الملاحم الكبرى أنه: (قبيل الدجال تقع ملحمتهم مع الروم، مع كفار النصارى الذين كذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويغدرون حتى يأتون تحت ثمانين غاية تحت كل غاية اثنا عشر ألفاً، وينتصر عليهم المسلمون بفضل الله عز وجل بأرض الشام)، ثم ذكر صلى الله عليه وسلم أمر الدجال، وذكر صلى الله عليه وسلم الملحمة الكبرى مع اليهود بعد ذلك، فقال عليه الصلاة والسلام: (لا تقوم الساعة حتى يقتتل المسلمون واليهود فيقتل المسلمون اليهود حتى يقول الحجر والشجر: يا مسلم! هذا يهودي ورائي تعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود). ولقد بين صلى الله عليه وسلم أيضاً أن الدجال يتبعه اليهود، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (يتبع الدجال من يهود أصبهان سبعون ألفاً عليهم الطيالسة). فدلت هذه الأدلة على بقاء هذا الصراع إلى الأشراط الكبرى قبيل القيامة، فهذه مسألة عظيمة الأهمية في حياة المسلمين، فلابد من أن يعوا أن الصراع لن ينتهي وإن تفاوتت القوى في المراحل المختلفة والأزمنة والعصور المتفاوتة، فإن الله عز وجل يداول الأيام بين الناس امتحاناً لعباده المؤمنين للعلة التي تذكرها سبحانه بقوله: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:140 - 141]. ولقد بين سبحانه وتعالى لعباده وأوليائه صفة الكفرة، وحقيقة طريقتهم حتى لا يخدع المؤمنين مخادع، ممن ينتسب إلى الإسلام بلسانه وهو في الحقيقة من أعداء الله عز وجل المنافقين، الذين يلبسون ويصدون عن سبيل إله ويبغونها عوجاً.

حقائق أعداء الله عز وجل

حقائق أعداء الله عز وجل قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ * أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ * فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ * لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [آل عمران:21 - 28]. ما أحوجنا إلى أن نتدبر هذه الآيات التي تجلي لنا حقيقة عدونا وطريقته في الحياة، قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران:21]. هؤلاء الذين يكذبون آيات الله سبحانه وتعالى ويأبون الانقياد، وهم الكفار من كل نوع، وهؤلاء ينطبق وصفهم على بني إسرائيل كثيراً؛ لأن الله عز وجل ذكرهم فقال: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة:87]، فهذه صفتهم الممتدة عبر التاريخ، يكفرون بآيات الله عز وجل، وباءوا بكفر عظيم غليظ بتكذيبهم لأنبياء الله عز وجل واحداً بعد واحد، وباءوا بأشد من ذلك، وهو تكذيبهم لمحمد صلى الله عليه وسلم بعد تكذيبهم لعيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فهؤلاء هم الذين يكفرون بآيات الله، وإن كانوا يزعمون الانتساب إلى أنبيائه، فإن سبيلهم سبيل التكذيب والكفر والعياذ بالله، هذا وصفهم وحقيقتهم التي لابد أن تجلى وتبين للمسلمين.

الكفر بآيات الله تعالى

الكفر بآيات الله تعالى قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} [آل عمران:21]. هذا هو أول وأعظم أسباب عداوتهم، فإنما يعاديهم أهل الإيمان؛ لكفرهم بآيات الله وتكذيبهم رسله، ومن ثم وقعوا في الشرك والكفر والعياذ بالله، فإن من كذب الرسل وكذب بالكتب المنزلة على رسله فقد عبد الشيطان الذي أمر بهذا الكفر، فهو مشرك كافر والعياذ بالله، فتبدو العداوة والبغضاء بين المؤمنين وبينهم أبداً حتى يؤمنوا بالله وحده، كما قال عز وجل: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4]. وهي عداوة لا تتوقف، وبغضاء لا تنتهي حتى يؤمنوا بالله وحده بنص القرآن القاطع الذي لا يحتمل تأويلاً ولا تحريفاً بفضل الله سبحانه وتعالى وإن رأى أهل الزندقة والنفاق والكفر أن يزيلوا هذه الآيات، ولزوال السموات والأرض ممكن دون أن تزول آيات الله سبحانه وتعالى، فقد وعد بحفظها، فلا تزال في القلوب، ولا تزال كذلك في السطور في الصحف التي حفظها الله سبحانه وتعالى.

قتل الأنبياء وحملة الدعوة الإسلامية

قتل الأنبياء وحملة الدعوة الإسلامية إن الله عز وجل بين أن الصراع بيننا وبينهم قائم؛ لأنهم يكفرون بآيات الله، ويقتلون النبيين بغير حق، وكل من قتل نبياً فقد قتله بغير حق، فهذا وصف للواقع الذي وقع منهم، وهذا أمر ذُمَّ الحاضرون عليه رغم أنه تركة أجدادهم ومن خلفهم على طريقتهم، وقد علمنا أنه لا تزر وازرة وزر أخرى، فكيف يذم الله عز وجل الحاضرين على جريمة ارتكبها الآباء؟ وهو عز وجل أخبر في كتابه أنه لا يعاقب أحداً بجريمة غيره فقال: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [فاطر:18]؟ و A إنما ذمهم الله عز وجل لأنهم وافقوهم على طريقتهم، حيث حرصوا على قتل النبي صلى الله عليه وسلم، فوافقوا من قبلهم في النية والمقصد وفي السلوك والمنهج، وكذلك من يأتي بعد زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة، فهناك من يحاول قتل دينه ودعوته، فيحاول إزالة هذا الدين من على وجه الأرض، ويحاول أن يميت صوت الحق الذي بعث به النبي عليه الصلاة والسلام، ويحاول إزهاق دعوة التوحيد التي جاء بها الأنبياء، فلذلك يكون من الذين يقتلون النبيين بغير حق؛ لأنه وافقهم على طريقتهم، فكل من أراد إيقاف دعوة الحق وأراد قتل الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأنهم يدعون إلى الله عز وجل، فهو من الذين ((يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ)) فهذه سبيلهم وطريقتهم. ولقد ذكر ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن بني إسرائيل قتلوا جماً غفيراً من الأنبياء بكرة نهارهم ثم أقاموا سوق بقلهم في آخر النهار! فهذه عادتهم والعياذ بالله، ولقد كادوا أن يقتلوا رسولاً من أشرف رسلهم وهو هارون عليه السلام، وهو حي بين أظهرهم في حياة موسى، كما قال سبحانه وتعالى حكاية عن هارون عليه السلام: {قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأعراف:150]، فهذا فيمن نجوا على يديه، وأخرجهم الله به من ظلمات البلاء الذي كانوا فيه على يديه مع أخيه، ولما غاب أخوه أربعين ليلة كادوا أن يقتلوه عليه السلام مستضعفين له، فإذا كان هذا فيمن صحب الأنبياء منهم فكيف بمن أتى بعدهم؟! فهم يسيرون على النهج والطريق نفسه، والعياذ بالله وهذا الأمر لا يصلح مع أمة الإسلام بحمد الله تبارك وتعالى؛ إذ دعوة النبي صلى الله عليه وسلم قائمة لا تزول بفضل الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم حتى تقوم الساعة)، فالله عز وجل يبقي بهؤلاء القوم ما يسوءهم بفضله ورحمته سبحانه وتعالى. وأما قتل الذين يأمرون بالقسط من الناس فهي صفة ملازمة لهم كذلك، وهي تابعة لقتل الأنبياء، وذلك أن الأنبياء ما ورثوا درهماً ولا ديناراً، ولكن ورثوا العلم، فلكراهيتهم لدعوة الأنبياء أرادوا قتل من يدعو إليها، وأرادوا قتل من يأمر بالقسط من الناس، بل قتلوهم بالفعل، ولا يزال هذا الأمر يقع، ولا يزال الذين يأمرون بالقسط من الناس يتعرضون للبلاء؛ لأن الله سبحانه وتعالى يحب أن يرى صبرهم وتضحيتهم وثباتهم على دينهم، رغم ما يتعرضون له من البلاء، وهو سبحانه وتعالى قد جعل تضحية الذين يأمرون بالقسط من الناس بأنفسهم وأموالهم وكل ما لديهم سبباً لانتشار الحق، وسبباً لانتصاره كذلك، فالله سبحانه وتعالى عليم حكيم، وهو عز وجل مالك الملك، وهو الذي يدبر الأمر كله، وإليه يرجع الأمر كله، وبيده عز وجل أن ينزع أرواح هؤلاء الذين يقتلون النبيين بغير حق، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس، وأن يوقف نبض قلوبهم، وأن يجفف الدم في عروقهم، وأن يزلزل الأرض من تحت أقدامهم، وأن يرسل عليهم حاصباً من السماء، هو قادر سبحانه على ذلك كله، وقادر على أن ينزع ما أعطاهم من الملك، وهو الذي يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل، وتلحظ هذا في كل يوم ولحظة من اللحظات، ولا ينازع في ذلك أحد، وهو أمر مشهود محسوس؛ ومع كل ذلك أمكنهم سبحانه وتعالى وأقدرهم على أن يقتلوا أنبياءه ورسله، وهو سبحانه وتعالى ينتصر لأوليائه، ويغضب على من آذاهم، فكيف بمن قتل نبياً؟! أو رسولاً؟! وكيف بمن قتل أولياءهم وأتباعهم الذين يأمرون بالقسط من الناس؟! فالله سبحانه العليم الحكيم الحليم، قضى ذلك وقدره؛ ليرى ما يحب من عباده المؤمنين من ثباتهم، ومن توريثهم الحق جيلاً بعد جيل، وطائفة بعد طائفة رغم التضحيات، وليظهر قدرته وقوته، وأنه سبحانه وتعالى ناصرٌ دينه وأولياءه وإن قتل من قتل من الأنبياء والرسل والذين يأمرون بالقسط من الناس. والله سبحانه وتعالى لم يجعل دعوة الحق التي أنزلها في كتبه وعلى ألسنة رسله مرتبطة بأشخاص، وإنما هي دعوة مستمرة بفضل الله سبحانه وتعالى، وليست مرتبطة بموازين المادة على ظهر هذه الأرض، فموازين القوى الظاهرة لا ترتبط بها أبداً، وإنما هي حبل موصول كما قال عز وجل: {واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103]، فالوحي المنزل حبل موصول طرفه بيد البشر ونهايته توصل إلى الله عز وجل، فمن استمسك به واعتصم نجا، ووصل إلى مرضاة ربه، ودخل الجنان بفضل الله سبحانه وتعالى، ومن تركه وقع في الهاوية والعياذ بالله! وهذا الحبل الواصل بين السماء والأرض أراد الله أن يمتحن به عباده في التمسك به والثبات عليه، فقدر ما قدر من وجود هؤلاء الأعداء {الَّذِينَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ} [آل عمران:21]، وهو سبحانه يري الناس آياته، ومنها تمكن الظالمين ومسارعتهم في الكفر، وكأن الأمور بأيديهم، ثم بعد ذلك يحقق الله عز وجل وعده، كما قال تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:51 - 52].

حبوط أعمال الكافرين في الدنيا والآخرة

حبوط أعمال الكافرين في الدنيا والآخرة قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [آل عمران:21 - 22]، فكل ما يخططونه ويريدونه يضمحل، كما قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ * لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأنفال:36 - 37]. وقال عز وجل: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:1]، فعملهم وكيدهم في ضلال، كما قال الله: {وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [غافر:25]، وكما قال: {وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ} [غافر:37]، فالله سبحانه وتعالى جعل كيدهم إلى بوار، وجعل مكرهم السيئ يحيق بهم، فكلما أرادوا أمراً حصل عكسه حتى يأذن الله عز وجل بإحباط خططهم ومكرهم، إحباطاً تاماً إذا أذن وأمر سبحانه، قال الله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]. وأما في الآخرة فلا ثواب لهم عند الله، فعملهم كله حابط؛ إذ إن من أشرك بالله وكفر بأنبيائه ورسله -فضلاً عن أن يقاتلهم ويقتلهم- عمله حابط كله، قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:65 - 66]. فالمشرك حابط العمل لا يقبل الله عز وجل منه صرفاً ولا عدلاً، فكل من كذب محمداً صلى الله عليه وسلم فهو مشرك حابط العمل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده! لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا أدخله الله النار).

خذلان الله للكافرين

خذلان الله للكافرين قال عز وجل: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [آل عمران:22]، فليس لهم من ناصرين رغم كثرة من ينصرهم؛ وذلك لأن قوة البشر لا تساوي شيئاً في ميزان القوة في هذا الوجود، فكم تساوي من القوة المودعة في الأرض؟ وكم تساوي بالنسبة إلى القوة المودعة في البحر؟ وكم تساوي بالنسبة إلى القوة المودعة في السماء؟ وكم تساوي بالنسبة إلى قوة ملك من الملائكة؟ فإن كنا نؤمن بذلك فلندرك هذه الحقيقة اليقينية، فكيف بالنسبة إلى قوة القوي العزيز الرحيم، العزيز في انتقامه من أعدائه، الرحيم بأوليائه سبحانه وتعالى؟! فينبغي أن يكون ظاهراً لكل أحد أن قوة الكفرة والظلمة لا تساوي شيئاً بالنسبة إلى القوة المودعة في الأرض، فلو تزلزلت الأرض زلزالاً يسيراً بدرجات معدودة لدمرت ما فوقها، فكيف بما في باطنها من أهوال، ولو أمرها الله عز وجل أن تخرجها لخسفت بهؤلاء، ولو شاء لأغرقتهم البحار، أو حصدتهم السماء بأمره عز وجل؟! إن جبريل عليه السلام صاح بقوم لوط صيحة واحدة فأهلكهم عن بكرة أبيهم، وذلك بقدرة الله سبحانه وتعالى، وصاح بقوم ثمود كذلك صيحة واحدة فأهلكهم الله عز وجل، كما قال سبحانه وتعالى في قصة الذين كذبوا الرسل وقتلوا مؤمن آل ياسين {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} [يس:29]. فالله سبحانه وتعالى جعل في الكون المشهود المخلوق من أنواع القوة والقدرة ما يدلنا على عجز البشر وضعفهم، فكيف يكون لهم ناصر من دون الله عز وجل إن أرادهم بسوء أو بإهلاك، ولو اجتمعوا جميعاً على تناصر بينهم فو الله لن يساووا عنده شيئاً، ولا أدنى من جناح بعوضة، فالدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة، قال عز وجل: {وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [آل عمران:91]. ويمكن للمؤمنين بفضل الله أن يستخرجوا من أنواع القوة التي يدمر الله بها أعداءهم، وذلك بأن يستعينوا بقوة العزيز القوي الجبار، قاهر الخلق ما فوقهم وما تحتهم سبحانه وتعالى. فإذا استعان المؤمنون بالله وأخلصوا دينهم له، دعوه عز وجل بصدق، فقد نزلزل لهم الجبال وتحرك لهم البحار والسموات والأرض، فقد آذى النبي صلى الله عليه وسلم يوماً قومُه فأرسل الله إليه جبريل ومعه ملك الجبال يستأذنه في أن يطبق الأخشبين على أهل مكة، فلم يرد ذلك وقال: (لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يقول: لا إله إلا الله)، فالله سبحانه وتعالى جعل الكفار بلا ناصر، فلا ناصر لهم، ولا ينصر بعضهم بعضاً إذا جاء أمر الله سبحانه وتعالى.

ذكر أهل الكتاب المعرضين عن الحق

ذكر أهل الكتاب المعرضين عن الحق قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [آل عمران:23]، فهؤلاء الذين أوتوا نصيباً من الكتاب، فما تمسكوا بكتبهم التي أنزلها الله عليهم، بل ما رعوها حق رعايتها ولا حفظوها حق حفظها، فاستحفظهم الله كتابه فضيعوه، ولذلك ما أوتوا الكتاب كاملاً، وإنما أوتوا نصيباً منه، والله عز وجل أعلى وأعلم. والمعنى: أن آباءهم وأجدادهم قد أوتوا الكتاب، ولكن هؤلاء قد ضيعوه، حتى إن ما بقي بأيديهم من الحق ما التزموا به، وما قبلوه أو طبقوه، فأخبرونا -عباد الله- عن حقيقة هؤلاء القوم في سلوكهم، هل يمتثلون توراة أو إنجيلاً؟ وهل يمتثلون توحيد الله عز وجل الذي أنزله في كتبه كلها؟! فكل كتب الله السابقة -حتى بعدما وقع فيها تضييع وتحريف وتبديل- لا يزال يوجد فيها دعوة التوحيد والحق وتصديق الأنبياء، فالرب رب واحد، هو رب إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وهذه أول الوصايا في التوراة، وأولها على لسان المسيح عليه الصلاة والسلام، فهي أول الوصايا في التوراة والإنجيل الموجودين الآن، ومع ذلك هل يطبق (لا إله إلا الله) ويدعو إليها في الأرض أحد غير أهل الإسلام؟! ثم تجد اليوم عداوة عجيبة لهذه الكلمة ولأهلها ومحاولة لإذلالهم، فهم لا يمتثلون كتاب الله، ويُدَعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم فيأبو ذلك، لا إلى الكتب التي بين أيديهم رغم ما فيها من تبديل وتضييع ولا إلى كتاب الله المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، ووافقهم في ذلك المنافقون، وتابعوهم على رفض التحاكم إلى كتاب الله، قال تعالى عنهم: {يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ} [آل عمران:23] أي: يتولون عن الإيمان، وعن الكتاب، ويتولون عن الانكسار والانقياد لأمر الله كما قال الله: {وَهُمْ مُعْرِضُونَ} أعرضوا عن آيات الله عز وجل بعد إذ أنزلت وبعد إذ بينت. فهذه سبيلهم وطريقتهم وطريقة أوليائهم، طريقة تتكرر عبر العصور، وذلك أنهم متابعون لإبليس اللعين في إيذائه واستكباره والعياذ بالله، وهذا أبلغ الذم لهم على ما صنعوا، وذلك لفساد اعتقادهم، وعدم إيمانهم باليوم الآخر إيماناً صحيحاً، وإن أقروا بوجود البعث فإبليس يقر به، وإن أقروا بوجود النار فإن إبليس يقر ويعترف بذلك، فلن ينفعهم ذلك.

دعواهم خروجهم من النار بعد أيام معدودة

دعواهم خروجهم من النار بعد أيام معدودة واعتقادهم الفاسد الذي اخترعوه هو الذي قال عز وجل عنه: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [آل عمران:24]، وفي كل هذا تحذير لأهل الإسلام من أن يوافقوهم على ذلك الكفر والباطل، ومع ذلك وجد فيمن ينتسب إلى الإسلام من يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم فيتولى بعد ذلك فريق منهم وهم معرضون، ويوجد كذلك من يقول: {لََنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} [آل عمران:24]، فيرتكب المحرمات ويستهين بها، ويستخف بالعذاب والعياذ بالله، وربما استهزأ أو استكبر وزعم أنه سيدخل النار أياماً معدودات، ووافق اليهود فيما فعلوا والعياذ بالله، وذلك أنهم قالوا للمؤمنين: نبقى في النار مدة ثم تخلفونا فيها. فأكذبهم الله سبحانه وتعالى، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي لا إله غيره لا نخلفكم فيها أبداً)، فإنما هم في النار مخلدون بكفرهم وشركهم وتكذيبهم بآيات الله، وكفرهم بأنبيائه ورسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. مع أن مس النار في ثوانٍ معدودة لا يحتمله الإنسان في الدنيا، وربما بقي سنين معذباً بسبب ثوان معدودة من نار الدنيا، فكيف بنار جهنم التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها فضلت على نار الدنيا بتسعة وستين ضعفاً، فنار الدنيا جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم.

كفرة أهل الكتاب يوم القيامة

كفرة أهل الكتاب يوم القيامة قال عز وجل: {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [آل عمران:25]، فكيف يكون حالهم عندما يبعث الخلق وقد افتروا على الله الكذب، وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون على الله من الكذب والزور والبهتان، وهذا كله يجب الحذر منه، فمن نسب إلى دين الله ما ليس فيه فقد افترى على الله الكذب، وذلك يغره ويخدع به نفسه بعد حين، وإن كان في أول أمره يعلم أنه افترى وكذب، لكنه يضل فيظن أن هذا من الدين، ويدافع من أجله بعد ذلك، ويقاتل عليه حتى يموت كافراً أو فاسقاً أو ظالماً، على حسب أحواله في إعراضه واقترائه وفي إفترائه على الله الكذب، وفي وضوح ذلك وبيانه من عدمه، فالله سبحانه وتعالى يجمع الناس ليوم لا ريب فيه، ويوفي كل نفس ما كسبت، ويحاسب الناس على مثاقيل الذر من الأعمال، كما قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8].

أعظم أسباب الثبات

أعظم أسباب الثبات قال عز وجل: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} [آل عمران:26]. هذا الأمر إذا استحضره أهل الإيمان كان ذلك من أعظم أسباب ثباتهم على دينهم رغم ما يرون من القوة المادية لأعداء الله التي تكاد في الظاهر تملأ السهل والوادي، بل الآن -فيما يبدو للناس- تملأ الأرض والسماء القريبة من الأرض، ومع ذلك فالله مالك الملك، وهو سبحانه يؤتي الملك من يشاء، فقد كان هؤلاء قبل سنوات معدودة لا وزن لهم، وكانوا مشردين في العالم، وكان من يوالونهم من النصارى كذلك لا قيمة لهم، بل كان مجتمعهم يتصارع ويتقاتل ولم يكن لهم من القوة ما لهم، كانت القوة عند غيرهم فنزع الله عز وجل منهم تلك القوة والملك وأعطاهما هؤلاء امتحاناً لعباده. فالله سبحانه وتعالى يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير سبحانه وتعالى، فالأمر كله بيده سبحانه، يخلق ما يشاء، وأفعاله كلها خير، فلا يرجى الخير إلا منه، وهو عز وجل يخلق الخير والشر، وخلقه للشر وجعله الكفار يفسدون في الأرض ذلك -والله- من الخير، من حيث لا يدري الناس إلا النزر فالله عز وجل قد يملك بعض الناس ملكاً يعزه به في ظاهر الأمر وقد يذله في باطنه، لأن العزة الحقيقية هي في طاعة الله، والذل الحقيقي في طاعة الشيطان، وإن بان للناس غير ذلك، أي: يخيل إلى بعضهم أن العز هو أن يكون الإنسان مطاعاً في الناس، أو أن يكون له من الجنود والأتباع والقوة التي يقتل بها ويسفك الدماء ويفسد في الأرض ما له، مع أن الله عز وجل قد جعل الإهانة فيمن لم يسجد له، كما قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج:18]. فالذي أهانه الله هو من أبى أن يسجد، وهو جعله الله عبداً لعدوه، وهو عبداً للشيطان، وهو الذي يفعل الكفر والفواحش ويفسد في الأرض، وهل يختلف اثنان في أن اليهود والنصارى في زماننا يفسدون في الأرض أعظم الفساد، وأنهم ينشرون الفواحش في الأرض، ويريدون أسوأ مما كان يفعل قوم لوط، حتى شرعوا زواج الأمثال والعياذ بالله، ورضوا بذلك، ويريدون أن يفرضوه على العالم، أبهذا أمر المسيح عليه السلام؟! أبهذا أمر موسى صلى الله عليه وسلم؟! أبهذا نزلت التوراة والإنجيل؟! فهذه الفواحش المنتشرة والغل والفساد الذي يجري في العالم كله هو من ورائهم وبلائهم، ألا يدل ذلك كله على ذلهم؟! وأن الله أهانهم أعظم إهانة؟! وذلك لأن العز الحقيقي هو عند الله عز جل وبيده، قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8]، وقال عز وجل: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ} [فاطر:10]، وسائر الأمم غير المسلمين كذلك في ضلال وهوان أشد؛ لأنهم أبوا أن يوحدوا الله، فمن أعزه الله ظاهراً وأذله باطناً فذلك امتحان من الله لعباده، وذلك نافذ بمشيئته، ويجعل الله فيه خيراً كثيراً من أنواع العبودية من أهل الإيمان والإسلام، الذين يصدقون في عبادتهم لربهم عندما يحيط بهم الأعداء، وعندما تشتد عليهم الأمور، وعند ذلك يزدادون طاعة وعبودية، فالله يحب أن يرى ذلك، وهذا من الخير الذي بيده سبحانه وتعالى. يقول الله سبحانه: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ} [آل عمران:26]-ظاهراً وباطناً- {بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:26].

الدليل الظاهر على كون الملك لله جل جلاله

الدليل الظاهر على كون الملك لله جل جلاله ومن أدلة هذا الأمر الظاهر -وهو أن الله مالك الملك- ما قد يغفل عنه كثير من الناس، فيظنون أن الملك بيد الناس، وأنه يورثه بعضهم لبعض وسيبقون في هذا الملك ما لهم من زوال. من أدلة ذلك: إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل، وهذا أمر به تقوم الأرض والسماء، وبه تقوم الحياة، فهل ينازع في ذلك أحد؟ وهل يستطيع أحد أن يقول: أنا الذي أؤخر الشمس اليوم حتى يتقدم شروقها أو يطول النهار أو يقصر الليل؟! فنحن نلحظ أن الظهر قد يتقدم قليلاً وكذلك العصر والمغرب والعشاء والفجر، وفي كل لحظة يولج الله الليل في النهار والعكس، فيزيد من هذا ويقصر من ذاك، ويدخل من هذا في هذا حتى يطول النهار ويقصر الليل، والعكس يكون في فصل الشتاء، حيث يقصر النهار ويطول الليل، كما قال تعالى: {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} [آل عمران:27]. يقول تعالى: {وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} [آل عمران:27] وهذه آية أخرى تراها أمام عينيك كل لحظة، فهذه النباتات التي تخرج من الأرض الميتة من الذي أخرجها؟! ومن الذي أحيا هذه المادة بعد أن كانت ماء وتراباً ميتاً، فإذا بها تصبح حية منتعشة منتشرة فيأكلها البشر والبهائم فتنتقل إلى حياة أخرى؟! ومن الأدلة على عظم ملكه سبحانه: أنه يخرج الحي من الميت فيخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، وترى أمماً وشعوباً كانت على ضلال فهداها الله عز وجل، وكان أجدادهم على الكفر، فأخرج الله من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئاً، وهناك أمم أخرى كان أجدادهم قمماً في الطاعة والعبودية، وإذا بأبنائهم وذريتهم يخالفون آباءهم، ويكفرون بما كانوا عليه، ويموتون على الكفر والعياذ بالله، وكلا التفسيرين صحيح. قال تعالى: {وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:27].

نهي المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء وبيان عقوبة ذلك

نهي المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء وبيان عقوبة ذلك يقول سبحانه وتعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} [آل عمران:28] أي: من يتولهم {فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} [آل عمران:28] أي: قد برئ من الله والله بريء منه {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران:28] بأن تكونوا في سلطانهم، أما خارج سلطانهم فلا تجوز التقاة، ولابد من وجود الخوف المعتبر في الإكراه، فتوافقونهم باللسان مع طمأنينة القلب بالإيمان، من غير أن تعينوهم على مسلم بفعل، ولا تدلوهم على عورات المسلمين، فإعانة الكفرة على المسلمين موالاة محرمة بلا شك، وإذا كانت بالقتال معهم في صفوفهم فذلك من الكفر والعياذ بالله. ثم إن التقاة أمر يلتبس على كثير من الناس، ويستعملونه في غير موضعه، ويتولون الكفار بغير لوازم التقاة، فحذرهم الله بأنه يعلم ما في قلوبهم ونفوسهم، وأنه عز وجل ينتقم ممن خادع المؤمنين، وزعم أنه يستعمل التقاة وهي في غير موضعها، فقال تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:28] ثم الحساب بين يدي الله غداً {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [آل عمران:28]، وما أفلح عند الحساب من ندم وهذا أمر لا مفر منه، قال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر:30 - 31]. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين. اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين. اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا. اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا. اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا. اللهم أنج المستضعفين من المسلمين في كل مكان. اللهم انصر الدعاة إليك والمجاهدين في سبيلك في كل مكان، ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، ونجنا برحمتك من القوم الكافرين.

إن الدين عند الله الإسلام

إن الدين عند الله الإسلام لقد أمرنا الله عز وجل بالاستسلام لدينه وشرعه، وأن لا نموت إلا على ملة الإسلام، فهذا هو الدين الذي شرعه وارتضاه لكل الأمم، فخالف من خالف فيه، وأعرض من أعرض، فعبدوا الشهوات والملذات، واتبعوا الأهواء فكانت العاقبة الخسارة والبوار في الدنيا والآخرة.

وجوب الاستسلام لله وحده

وجوب الاستسلام لله وحده إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وسلم. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. لقد أوجب الله عز وجل على جميع خلقه أن يسلموا له سبحانه وتعالى، قال تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران:83]، وجعل الله عز وجل دين الإسلام دين الرسل جميعاً عليهم الصلاة والسلام، وجعل هذا الاسم الشريف المكرم عنده سبحانه وتعالى علماً على الدين المقبول الذي لا يقبل الله عز وجل ديناً سواه، قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ) [آل عمران:19]. وقال سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85]، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في دعائه: (اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني، أنت الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون). وقال في دعاء استفتاح صلاة الليل: (اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، أنت ربنا وإليك المصير، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، أنت إلهي لا إله إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك). ولحاجة الإنسان أن يتذكر هذا المعنى دائماً -معنى أن يسلم لله عز وجل- كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو أول المسلمين يكرره في أدعيته المختلفة، وهذا امتثال لأمر الله سبحانه وتعالى لإبراهيم عليه السلام حيث قال تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة:131]. وأنت أيها المسلم! حين تقول: اللهم لك أسلمت، تتذكر أولاً نعمة الله عز وجل عليك بهذا الدين، فأنت أسلمت فقد دخلت في الإسلام، وأنعم الله عز وجل عليك بشهادة التوحيد، شهادة أن لا إله إلا الله، فأنت أسلمت قلبك ونفسك لله عز وجل، وهذا إسلام القلب والوجه لله، بأن يجعله خالصاً في توجهه وتألهه وعبادته لله سبحانه وتعالى، وهذا أصل معنى الدين، قال عز وجل: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ * وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ) [لقمان:22 - 23]، فليس ثم إلا مسلم وكافر، فمن أسلم وجهه -أي: وجهته وتوجهه وإرادته ونيته لله عز وجل فهو الذي استمسك بلا إله إلا الله، وهي العروة الوثقى، ((وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ} [لقمان:23]. إذاً: ليس هناك إلا دين الإسلام الذي يقبله الله عز وجل، أن يسلم الإنسان وجهته وعبادته لله وحده لا شريك له، بأن يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي دعا الناس إلى هذه الكلمة مجدداً دعوة الأنبياء جميعاً، فإنهم دعوا إلى هذه الكلمة كلهم، قال سبحانه وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]، وهذا من أعظم ما يدل عليه ما جاءت به الرسل جميعاً صلوات الله وسلامه عليهم؛ لأنهم بدءوا بالدعوة إلى توحيد الله سبحانه وتعالى، كما قال سبحانه وتعالى عن أنبيائه جميعاً: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]. ومن أحسن ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في استفتاح صلاة الليل أن قال: (اللهم لك أسلمت) بعد قوله: (والنبيون حق، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم حق)، فإن الشهادة بأنهم حق شهادة بأنهم جاءوا بدعوة التوحيد الذي لا يقبل الله عز وجل من أحد خلافه، بل من أشرك بالله حبط عمله، قال عز وجل: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:65 - 66]. وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء:48]، وقال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:116]، فالضلال والافتراء العظيم البين في الشرك بالله سبحانه وتعالى، وهو ينافي أصل دين الإسلام، فحين تقول: اللهم لك أسلمت، تسلم وجهك وقلبك كما قال عز وجل مادحاً إبراهيم عليه السلام: {إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الصافات:84]، أي: قد سلم قلبه لله، فصار لله عز وجل توجه هذا القلب، وإراداته ورغبته، وقال إبراهيم عليه السلام في دعائه: {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:87 - 89]، أي بمعنى: بقلب قد سلم لله عز وجل، فالمسلم هو الذي أسلم لله سبحانه وتعالى.

معنى الاستسلام لله تعالى

معنى الاستسلام لله تعالى الإسلام يحمل معنى الخضوع والانقياد والاستسلام لأوامر الله عز وجل، كما قال عز وجل: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، وقال سبحانه وتعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36]، وهذا الضلال في ترك الاستسلام والانقياد لأوامر الله عز وجل مناف لدين الإسلام، نعوذ بالله من ذلك. إن معنى (اللهم لك أسلمت) يقتضي استسلاماً وانقياداً وخضوعاً وذلاً ومتابعة لأمر الله سبحانه وتعالى، ولذا كان من أبى أن يقبل ما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام عن الله سبحانه وتعالى كان راداً لأوامر الله، متكبراً على شرع الله سبحانه وتعالى، وكان ذلك مناقضة للإسلام، ولذا نجد أن العبد المؤمن يرى نفسه مملوكاً لله سبحانه وتعالى، تحت شرعه وأمره، له سبحانه وتعالى عليه الأمر كما له الخلق، كما أنه تفرد بالخلق فله سبحانه وتعالى عليه الأمر: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54]. والدعوات الباطلة التي تنادي بأن الإنسان حر في أن يأتي ما يشتهي، ويترك ما يشتهي، ويفعل ما يريد، ويترك ما يريد دون التزام بالشرع، حتى لو أقر بوجود الله، هذه الدعوة منافية لأصل التوحيد والإيمان، لا يقبل الله عز وجل من العباد إلا أن يسلموا له سبحانه وتعالى، ويستسلموا لأوامره الشرعية، ولا يقابلوها بشبهات ولا بشهوات، ولا يعارضوها بتقليد أعمى أو بمصلحة أو سياسة أو غير ذلك، إنما الأمر أن يقبل الإنسان شرع الله سبحانه وتعالى كاملاً، ورفضه لأي أمر من أوامر الله إباءً واستكباراً قدح في أصل الدين، وما كان كفر إبليس إلا بترك هذا الاستسلام، فقد أبى واستكبر وكان من الكافرين، ولا تنفعه طاعاته السابقة كما لم تنفع إبليس عبادته قبل ذلك؛ لأنه إذا رد أمر الله عز وجل في أمر واحد فقد نفض يديه من معنى العبودية، ولا يبقى للإسلام معنى، ولا يبقى للدين معنى مع انتقاض معنى العبودية لله سبحانه وتعالى، ولذا كانت دعوة أهل الإسلام دائماً إلى الانقياد لله سبحانه وتعالى، وتوجيه القلوب إلى وجهة واحدة إلى مرضاة الله عز وجل. وأما من قبل أمر الله ولكنه خالف وعصى، وهو مقر على نفسه بالذنب والمعصية، وهو يقر أنه مستحق للعقاب لمخالفته أمر الله عز وجل، فهذا نقص إسلامه وإيمانه ولم ينتف بالكلية؛ وذلك لأن أصل معنى الإسلام من الانقياد والقبول بشرع الله موجود في قلبه، وأما الكفر والردة عن الدين فبالإباء أو الاستكبار بترك القبول والانقياد القلبي الذي لا يقبل الله عز وجل من أحد سواه.

الفرق بين الشرك وما دونه

الفرق بين الشرك وما دونه لقد بين سبحانه وتعالى الفرق بين الشرك وبين ما دونه في قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)، فبين بذلك أن العبد ربما تقع منه الذنوب، وربما وقعت منه أيضاً الكبائر كما دلت عليه الآية الكريمة، فإنها قسمت المخالفة لما أمر الله عز وجل به إلى شرك وإلى ما دون ذلك، فلا بد من أن نفرق بينهما كذلك، فإن الله لا يغفر لمن أشرك به بعد قيام الحجة، أي: لمن لقي الله مشركاً وقد بلغته دعوة الرسل بتوحيد الله سبحانه وتعالى، فكذبها أو أبى أن يقبلها، وكلاهما ناقض لما فطر عليه الإنسان من التوحيد، وما شرع الله عز وجل لجميع الرسل من الإسلام والانقياد لله سبحانه وتعالى. فإن الإباء والاستكبار غالباً متلازمان، نعوذ بالله من الكفر والنفاق، والله سبحانه وتعالى بين أنه يغفر ما دون الشرك ويشمل ذلك الكبائر والصغائر لمن شاء، وإن كان العاصي في خطر هذه المشيئة، فإنه قد دلت الأدلة القطعية على أن هناك من عصاة الموحدين من يدخل النار فيبقى فيها مدة يحترق فيها، حتى إذا صاروا فحماً أذن لهم بالشفاعة، فأتي بهم ضبائر ضبائر - أي: جماعات جماعات- فيلقون في نهر الحياة -نهر من أنهار الجنة- فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل، ثم يأذن الله عز وجل لهم في دخول الجنة، ولا يبقى في النار إلا من حبسه القرآن، أي: وجب عليه الخلود لموته على الشرك بعد بلوغ الحجة، كما دل على ذلك كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم. ولذلك نقول: إن من يعصي الله سبحانه وتعالى في خطر عظيم، فإن غمسة في النار تعدل كل نعيم الدنيا، بل تزيله بالكلية، فإنه يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار، فيغمس فيها غمسة واحدة، فيقال له: هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله ما مر بي نعيم قط. وما أكثر من يستهين بلحظات البقاء في النار! بل يقول: لا بد أن ندخلها ونحترق فيها أياماً، وهذا والعياذ بالله من التهاون بخطرها! وهذا من أسباب النفاق، وربما أدى بالعبد إلى الكفر، وهذا هو الخطر الأشد للمعاصي والكبائر والبدع خصوصاً، وذلك أنها من أسباب سوء الخاتمة، وإنما قلنا: إنه لا يخلد في النار من مات على التوحيد، ولا بد أن يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، ولكن ما أدراك أيها العاصي المصر على معصيتك أنك تلقى الله عز وجل بهذه الكلمة؟! ألا تخشى أن يحبط الله عز وجل عملك وقولك بسبب الذنوب ويختم لك بخاتمة السوء؟! فإن المعاصي بريد الكفر، وسميت كثير من المعاصي كفراً لأنها تودي وتقود إليه، وما أكثر من يستهين بالمعاصي، ثم يستهين بالإيمان كله! وربما قاده فعل المعاصي والمداومة عليها إلى أن يستحلها أو أن يأبى شرع الله فيها، فإن الإنسان لا يتحمل طويلاً ذلك الصراع الذي في نفسه بين داعي الإيمان وبين دواعي الكفر والشيطان، إنه يتحدث في نفسه أنه مخطئ مذنب، وأنه يستحق العقاب، فهذا داعي الإيمان يذكره بالتوبة إلى الله، وداعي الشيطان يرغبه في دنياه، ويرغبه في مزيد من الشهوات المحرمة، وأن ينال منها حتى ولو كان على حساب آخرته. فهذا الصراع الداخلي في نفس الإنسان لا بد أن يحسم، ولا بد أن ينتهي إلى صالح أحد الطرفين، أما أن يضل على حاله فغالباً ما لا يستمر طويلاً، فإن الأمر قد يبدأ برغبة وشهوة، لكنه قد يصل إلى أمر الإباء والعياذ بالله، فهؤلاء قوم لوط بدأ أمرهم بالشهوة المحرمة -شهوة فعل الفاحشة وإتيان الذكور في مجالسهم- ولكن آل بهم الأمر والعياذ بالله إلى أن ردوا ما جاء به رسولهم لوط عليه السلام، فكفروا وأشركوا بالله حين ردوا شرع الله سبحانه وتعالى، وما ذكر الله عز وجل عنهم في كتابه أنهم عبدوا أوثاناً، وما ذكر سبحانه وتعالى أنهم اتخذوا أصناماً، وإنما ذكر عز وجل عنهم هذه الفاحشة، ومع ذلك فهم بإجماع أهل الإسلام كفار مخلدون في النار، والله سبحانه وتعالى أعلى وأعلم، وما ذكر الله عز وجل إلا إباءهم وردهم لما جاءهم به لوط عليه السلام، واستهزاءهم به عليه السلام، وما حاولوا معه من أنواع المنكر والعياذ بالله، وعدم استجابتهم لدعوته، فهكذا تكون الذنوب والمعاصي سبباً وبريداً يوصل الإنسان إلى الإباء وإلى نقض أصل الإسلام والاستسلام لأمر الله سبحانه وتعالى، فالعبد يبدأ بشهوة وتتبعها شبهة وعقيدة فاسدة، يتبع ذلك كله إباء ورد لشرع الله عز وجل، وأنت ترى العالم إلا من رحم الله من أهل الإسلام عبيد شهواتهم.

عبودية الشهوات وعواقبها

عبودية الشهوات وعواقبها لقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم عبودية الشهوات كما بينها الله عز وجل في كتابه، قال سبحانه وتعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} [الفرقان:43]، وقال عز وجل: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ) [الجاثية:23]، فالله سبحانه وتعالى بين أنه يختم ويطبع على قلب من اتبع هواه: ((مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ))، وهو الذي كلما هوى شيئاً ركبه، فاتباع الهوى مردٍ ومهلك يقود الإنسان إلى الشرك بعد أن فعل المعصية، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش)، فهذه عبودية منها ما يكون شركاً أكبر كما هو ظاهر الحديث، وذلك حين يستعد أن يبيع دينه بالدرهم والدينار، ويبيع دينه بالقطيفة والخميصة، يبيعه بعرض من الدنيا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا). فكثير من الناس يبيع دينه وهو مستعد لذلك نتيجة استجابته للشهوات حين تتحكم فيه تحكماً تاماً، فتكون عبوديته للدرهم والدينار والقطيفة والخميصة شركاً أكبر والعياذ بالله، ولا يريد إلا الحياة الدنيا، وهؤلاء الذين قال الله عز وجل فيهم وفي أمثالهم من أهل الرياء: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16]، فهذه الآيات توضح أن هناك عبودية كاملة للدنيا بمعناها التام، عبودية الدرهم والدينار؛ لأنه قال: ((لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ)). والمسلمون الذين بقي معهم أصل الإيمان والإسلام لهم بعد دخول النار إن دخلوها الجنة، وأما من ليس لهم في الآخرة إلا النار فلا يكونون إلا الكفار، فهذه الإرادة إرادة الدنيا وزينتها قال تعالى: ((مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا))، وهذا الأمر الذي أخبر الله به مقيد بمشيئته، قال عز وجل: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء:18]، فهم لا يأخذون كل ما يشتهون ولا ينالون كل ما يريدون، وإنما ما كتب الله لهم من الدنيا مع نغصها وكدرها وشقائها وألمها، فإنها لا بد أن تنال كل من كان على ظهر الأرض بشيء من الشقاء قدراً من الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه:117]، فلا سعادة كاملة على وجه الأرض، لا بد من نوع من الألم، ولا بد من نوع من التعب، وأما السعادة الكاملة الحقيقية فهي في الجنة بإذن الله، وفي الدنيا منها بالقرب من الله عز وجل، وذوق طعم الإيمان، وحلاوة الإيمان بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم، وبالرضا به رباً، وبالرسول صلى الله عليه وسلم نبياً، وبالإسلام ديناً، وبالشعور بالشوق إلى الله عز وجل ومحبته، فهذه ينالها أهل الإيمان من نعيم أهل الجنة الذي نالوه بقربهم، ومرضاة الرب سبحانه وتعالى عنهم لقربهم منه. إذاً: هناك عبودية للدنيا وهي اليوم منتشرة انتشاراً خطيراً وعنيفاً، بل يروج لها في المشارق والمغارب، بل هذه عمدة حضارة الغرب، بل سفالته وانحطاطه، فإنهم لا يريدون إلا الدنيا، ولا يعملون إلا من أجلها، ولو أقروا بوجود الله وبوجود الأنبياء أو بالكتب فهم يقرون في حياتهم قولاً وفعلاً بأنهم لا دخل لهم بالشرائع التي جاءت بها الأنبياء، ولا دخل لهم بما أمرت به الرسل، وإنما حياتهم ينظمونها كما يريدون؛ تحقيقاً لمصالحهم الوهمية التي توهموا سعادتهم فيها، وإنما قيمهم قيم المادة فقط، وقيم الحياة فقط والرفاهية فيها، ولا يعملون ولا يسعون إلى آخرة، ولا إلى إقامة شريعة ما جاءت بها الرسل، وإلا فأخبرونا: هل أمر المسيح بهذا السلوك الذي عليه الغرب والذي عليه أكثر الأمم؟! وهل أمر موسى صلى الله عليه وسلم بالظلم والعدوان والقتل والطغيان الذي عليه اليهود؟! وهل أمر كل منهما أو غيرهما من أنبياء الله بالشرك بالله ودعاء غير الله وقبول تشبيه غيره به سبحانه وتعالى؟! وهذه أمم الأرض كلها إلا من منّ الله عليه بدين الإسلام، الحق تقبل شريعة غير شريعة الله وترتضيها، وتقاتل من أجلها، وتسعى إلى فرضها، والحقيقة أنها نابعة من عدم الاستسلام والانقياد لله سبحانه وتعالى، فهم لا ينفعهم الإقرار بوجود الله ولا بوجود الرسل، فإن الإقرار بوجود الله إنما يكون إيماناً مع عبادته، وإنما يكون الإقرار بوجود الرسل وصدقهم مع متابعتهم فيما جاءوا به، وكلهم قد جاءوا بوجوب متابعة بعضهم بعضاً، وبوجوب متابعة وتصديق محمد صلى الله عليه وسلم: {الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:157]. فلا يكون إسلام إلا باتباع محمد عليه الصلاة والسلام كما قال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا أدخله الله النار) متفق على صحته، وهذا أمر لا يختلف فيه أهل الإسلام والإيمان، في أنه لا يقبل صرف ولا عدل ممن كذب النبي صلى الله عليه وسلم، أو ممن أبى متابعته ورضي بدين غير ما جاء به من دين الإسلام. ولذلك نقول: إن هذه العبودية للشهوات ربما كانت تامة، وربما كانت جزئية إذا باع جزءاً من دينه بالدرهم والدينار والقطيفة والخميصة، فهذا يكون شركاً أصغر، وإذا باع شيئاً من الدين ولم يبع أصله، إذا ضحى بالطاعة ولكنه لم يضح بالتوحيد، ولكنه على شفا الشرك، اقترب منه وحاذاه نسأل الله العافية، وتوشك قدمه أن تنزلق. وقد ذكرنا أن خطر سوء الخاتمة هو أعظم ما يخاف على المبتدع وعلى المصر على الكبائر والمعاصي عموماً، فإن ذلك من أخطر ما يهدده، وإنما المؤمن الكامل الإيمان يخاف على نفسه من سوء الخاتمة، فكيف بالعاصي؟! وإذا كان المؤمن يسأل الله أن يتوفاه مسلماً حذراً من سوء الخاتمة فكيف بمن يلاقي ربه عز وجل كل يوم بأنواع المحادة والمخالفة لشرعه سبحانه وتعالى؟! فنقص الإسلام يقرب الإنسان من الكفر والعياذ بالله، هذا هو خطر المعاصي الأشد على الإنسان، وإلا فمن وافى الله موحداً فله يوم يخرج فيه من النار أصابه قبل هذا اليوم ما أصابه وإن كانت -كما ذكرنا غمسة- في النار أشد من كل عذاب في الدنيا، وغمسة في النار تنسي الإنسان نعيمه في الدنيا بأسرها لو كانت له. نسأل الله عز وجل أن ينجينا من النار، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

الاستسلام للأقدار الكونية والشرعية

الاستسلام للأقدار الكونية والشرعية الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم. إن العبد بحاجة إلى أن يؤكد معنى الاستسلام لله سبحانه وتعالى في نفسه كل يوم مرات ومرات، كما أمر الله عز وجل: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163] تسلم لله سبحانه وتعالى، فحاجتك إلى ذلك مثل حاجتك إلى الطعام والشراب، وحاجتك إلى أن تجدد هذا المعنى في نفسك حاجة شديدة؛ لأن الإنسان تأخذه شهوات الدنيا بعيداً عن القضية الأولى في حياته، وهي أن يسلم الله وينقاد له. ومعنى ثان من معاني الإسلام في قول المؤمن متابعاً للنبي عليه الصلاة والسلام: (أسلمت لرب العالمين) (اللهم لك أسلمت) فهذا معنى الاستسلام لأوامره الكونية القدرية التي لا يقدر على دفعها، فهو يفوض أمره إلى الله سبحانه وتعالى، ويسلم ما قدر الله سبحانه وتعالى عليه مما لا دخل له به. وما يقدره الله عز وجل على الإنسان فمنه ما يكون له تعلق من خلال قدرته وإرادته، فهو الذي أقدره عليها، وهو الذي جعل له مشيئة فيها، وهذه لا بد أن يمتثل فيها شرع الله ناظراً إلى إعانته وتوفيقه ومستعيناً به سبحانه وتعالى، مستحضراً أن لا قوة إلا به، كما قال سبحانه وتعالى معلماً عباده أن يقولوا في الفاتحة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] فهو يعبد الله، وهذا معنى الاستسلام لأمره الشرعي سبحانه وتعالى: ((وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)) يستحضر فيه العبد أنه لن يوفق إلى ذلك إلا بإعانة الله، وإلا بتوفيقه عز وجل، ولا يهتدي إلا أن يهديه الله سبحانه وتعالى كما يقول أهل الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43]. فهذا المعنى لا بد أن يكون مستحضراً، وذلك أن ما يتعلق بقدرة الإنسان وإرادته فالله عز وجل على كل شيء قدير، ومن ضمن هذه الأشياء ما يتعلق بقدرة العباد وإرادتهم، فهو سبحانه وتعالى الذي يشاء، ولا يشاء العباد إلا أن يشاء كما قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30]، وهنا تدفع القدر بالقدر، تدفع قدر المعصية بقدر التوبة، وتدفع قدر المخالفة بقدر الموافقة، تفر من قدر الله إلى قدر الله، وتدفع قدر الله بقدر الله مستعيناً به سبحانه وتعالى على طاعته فاراً من معصيته، قال تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:50]، تفر إلى الله منه، وتتعوذ بالله منه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك)، فالعبد يستعيذ بالله منه؛ لأنه يستحضر أن أمر الله سبحانه وتعالى الكوني نافذ فيه، ولن يوفق لطاعة الله وترك مخالفته إلا بإعانته عز وجل.

الأخذ بالأسباب لا ينافي الاستسلام للأقدار

الأخذ بالأسباب لا ينافي الاستسلام للأقدار وهناك من أوامر الله القدرية الكونية التي تقع في العباد بغير إرادة منهم، ولكن لهم قدرة على أخذ أسباب يسرها الله عز وجل لهم، كما أن قدر الجوع يقع في أنفسهم من غير إرادة منهم، وكذا قدر العطش، وكذا قدر المرض، وهكذا أقدار كثيرة تقع فيهم، ولكن يسر الله لهم أسباباً لدفعها، والخلق مجبولون مفطورون على أن يأخذوا بالأسباب، فلا يجد أحد منهم جوعاً في نفسه إلا بحث عن الطعام، ولا عطشاً إلا بحث عن الشراب، وكذلك في المرض وغير ذلك يبحث الإنسان عن أسباب نجاته، فطروا على ذلك، فلو أن إنساناً لمس مثلاً شيئاً ساخناً لوجد يده تبتعد تلقائياً؛ وذلك لأنه مجبول مفطور على الحرص على الحياة، والحرص على أسباب النجاة والبعد عن أسباب الخطر، ولا تجد عاقلاً إلا يفعل ذلك. وهذه الأسباب منها المشروع ومنها غير المشروع، فهذا تفعل فيه ما أمرك الله، وتترك ما حرم الله عز وجل، فإن الله عز وجل قد قدر الأسباب والأرزاق، وهو سبحانه وتعالى أمرك بأن تكسب الحلال وتترك الحرام، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن روح القدس نفث في روعي: أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها كما تستوفي أجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب)، خذوا ما أحل، ودعوا ما حرم، فأنت مأمور بأن تأخذ بالأسباب، لكن تأخذ ما أحل وتترك ما حرم، فتطلب طلباً جميلاً. وهذا أمر غاية في الأهمية فيما يتعلق بحياة الإنسان، وذلك أن الأسباب أصبحت طاغية على أكثر البشر، وأصبح الأخذ بها عنوان اعتقادهم لا يبالون بأي سبب كان من حلال أو حرام، ما لاح لهم أخذوه، ويقولون: نأخذ بالأسباب! وهذا في الحقيقة دليل على ضعف اليقين أو انعدامه، وضعف التوكل على الله عز وجل أو انعدامه، فإنما تأخذ ما أحل الله لك، قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] وتترك ما حرم الله سبحانه وتعالى عليك، وهو عز وجل قد أذن للمضطر فيما حرم عليه في ظروف الاضطرار، وليس عندما يشتهي أو مجرد الحاجة وإنما: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:119]، وليست الضرورة هي التي يتصورها الناس أن كل ما يشتهون ضرورة، فقد أصبحت كماليات الحياة عند الناس ضرورة، وإنما الضرورة ما ذكر الله تعالى في قوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:3]، وهذه المخمصة هي الجوع الشديد، وهي التي يخشى منها الهلاك، فما يهلك الإنسان وما يفوت عليه حياته ومصالحه هو المعتبر، وأما مجرد الحاجات والتحسينات فليست تبيح ما حرم الله سبحانه وتعالى على العباد، وأكثر الناس عندهم تحسيناتهم ضرورة، فحاجته إلى التجارة مثلاً أصبحت ضرورة، وحاجته إلى كماليات المنزل أصبحت ضرورة تبيح له الربا والرشوة والغش والخداع والسرقة، والعياذ بالله من ذلك! وذلك كله من الوهم الذي يخدعهم به الشيطان، فإنما الضرورات: ضرورة الدين، وضرورة النفس، وضرورة العرض، وضرورة العقل، وضرورة المال، إذا كان يزول بالكلية شيء من ذلك بحيث تتعسر حياة الإنسان فهي الضرورة، وأما مجرد الحاجات والتحسينات فليست بالضرورات التي تبيح المحظورات. بقي قسم ثالث من أقسام الأحكام الكونية القدرية: وهو القسم الذي لا يقدر العباد على دفعه، من مرض لا علاج له، أو من موت قريب أو حبيب، أو أمر يجري على الإنسان رغماً عنه، أو قد أخذ بالأسباب فما أنتجت، فكم من إنسان يأخذ بالأسباب ولا تحصل النتائج المرجوة التي يريدها، فعند ذلك لا بد من الاستسلام، فإذا قلت: (اللهم لك أسلمت) فأنت تستسلم لهذا النوع من الأحكام دون سخط وجزع، ودون اعتراض على أمر الله سبحانه وتعالى، فتسلم نفسك لله عز وجل، وتفوض أمرك إليه، وترضى بما قسم، ولا تختر خلاف ما اختار سبحانه وتعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} [القصص:68]، هو الذي يصطفي من شاء، ويختص من شاء برحمته، وهو سبحانه يبتلي من شاء بعدله، وهو سبحانه يفعل ما يشاء في ملكه، قال تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود:107] كما قيل لـ أبي بكر رضي الله عنه في مرض موته، وقد علم أنه ميت، قالوا: نأتي لك بطبيب؟ قال: الطبيب رآني، فظنوا أنه يقصد الطبيب المعلوم، فقالوا: ما قال لك؟ قال: قال: إني فعال لما أريد. فهو سبحانه وتعالى الفعال لما يريد، لا يملك العباد إلا أن يخضعوا لأمره عز وجل، فإن خضعت له وأنت راض بقضائه وقسمه قد استسلمت له دون منازعة ومخاصمة له سبحانه وتعالى، فأنت يجري عليك القدر، وأنت مرضي عنك، وأنت مثاب، وأنت مجزي بالإحسان إحساناً، وإذا أبيت إلا المعاندة والمخاصمة والسخط والجزع فسوف يجري عليك القدر، وأنت مذموم معاقب مستحق للعقاب في الدنيا والآخرة، تجلب لنفسك أنواع البلايا بالإضافة إلى البلية التي أنت فيها، فلا تجزع ولا تسخط، وارض بما قسم الله عز وجل لك، واصبر على ما أصابك، فإن هذا هو الذي شرعه الله عز وجل: (اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت)، هكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول، ونقول متابعين له: اللهم لك أسلمنا، وبك آمنا، وعليك توكلنا، وإليك أنبنا، وبك خاصمنا، وإليك حاكمنا، فاغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، وما أنت أعلم به منا، أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت إلهنا لا إله إلا أنت. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اليهود والنصارى والمنافقين، وسائر الكفرة والملحدين، أصحاب الضلالة ودعاة السوء! اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره في تدميره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين! ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين! ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين! اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا! اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا! اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر! اللهم إنا نسألك الغنيمة من كل بر، والسلامة من كل إثم، والفوز بالجنة، والنجاة من النار! ربنا أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسر الهدى لنا، وانصرنا على من بغى علينا. اللهم اجعلنا لك ذكارين، لك شكارين، لك طائعين، لك رهابين، لك مخبتين، إليك أواهين منيبين، تقبل توبتنا واغفر حوبتنا، وثبت حجتنا، وأجب دعوتنا، واهد قلوبنا، وسدد ألسنتنا، واسلل سخائم صدورنا! اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان، ونج المستضعفين من المسلمين في كل مكان، وانصر الدعاة إليك في كل مكان. ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، ونجنا برحمتك يا أرحم الراحمين!

أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن

أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن الله نور السماوات والأرض، وكل ما في هذا الوجود من الأنوار فهو منه سبحانه، ويمن على من يشاء بنور الإيمان بفضله، ويحرم من يشاء بعدله، جعل النور في كتبه، وفي أنبيائه، وفي أوليائه، وعلى المسلم أن يحذر من أمور تحجب عنه النور فيقع في الظلمات، ومن هذه الظلمات: ظلمة الشرك والكفر، وظلمة البدع، وظلمة الكبائر، وظلمة الصغائر، وظلمة المكروهات، والله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور.

الله نور السماوات والأرض

الله نور السماوات والأرض إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. فلقد أوتي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم جوامع الكلم، وفضل على النبيين بذلك، وجعل الله عز وجل كلماته المباركات سراجاً ونوراً للأمم، تهتدي بها إلى صراط الله المستقيم، وأدعيته صلى الله عليه وعلى آله وسلم من أعظم معجزاته وأظهر دلالات نبوته؛ لما جمعته من معاني الإيمان، وأرشدت إليه من معاني الإحسان، التي تزكو بها النفوس، وترتقي بها القلوب. ومن أدعيته صلى الله عليه وسلم ما كان يدعو به في استفتاح صلاة الليل: (اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيام السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السماوات والأرض ومن فيهن، أنت الحق، ووعدك الحق، وقولك الحق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والساعة حق، والنبيون حق، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، أنت ربنا وإليك المصير، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، أنت إلهي، لا إله إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك). ابتدأ النبي صلى الله عليه وسلم هذا الدعاء بالحمد وهو أفضل الدعاء كما قال عليه الصلاة والسلام: (أفضل الدعاء: الحمد لله، وأفضل الذكر: لا إله إلا الله)، ثم شرع في الثناء على الله عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العليا فقال: (أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن)، وقال عز وجل مبيناً ذلك: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور:35]، فهذه الآية من أعظم ما يبين معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن) وقد فسره السلف رضوان الله تبارك وتعالى عليهم بمعنى أن الله منور السماوات والأرض، وجاعل النور فيهما. فهذه الآية الكريمة في ضرب مثل نور الإيمان بالله في قلب العبد المؤمن ((مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ))، فالمشكاة هي: الكوة في الجدار، أو التجويف في الجدار، وذلك يكون أبعد عن الريح حتى لا ينطفئ السراج الذي بداخلها، فقلب المؤمن مثل ذلك لا تطفئ نور الإيمان فيه رياح الفتن، فالمشكاة صدره، والمصباح هو الفتيلة المضيئة، وهي: نور الإيمان والمعرفة بالله عز وجل، المصباح في زجاجة، والزجاجة قلبه بشفافيته وصلابته، فهو شفاف يدخل إليه النور، ويخرج منه النور، فالمؤمن في كل حال يتعظ بمواعظ الحق ويستجيب لها، ويلين قلبه لها ويتأثر بها، وهو في نفس الوقت يشع النور فيمن حوله ممن يخالطه ويعاشره من أهله وجيرانه وقرابته، فهو ينشر فيهم نور الإيمان، ومعرفة الله سبحانه وتعالى وشرعه، والإيمان برسله وكتبه، وهو في نفس الوقت صلب لا ينثني عن الحق، ولا يتأثر بما حوله من الباطل، فالزجاج ينكسر ولا يتغير شكله، فكذا المؤمن ثابت على الحق ولو أصابه ما أصابه في الله. وقد بين الله عز وجل أنه نور السماوات والأرض أي: منورهما، ولذا قال ابن عباس وغيره من السلف: هادي أهل السماوات والأرض. وقال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: نور السماوات والأرض من نور وجهه. فالله عز وجل جعل النور في السماوات والأرض، النور الحسي والنور المعنوي، وهو سبحانه وتعالى خالق هذه الأنوار التي يراها الناس ويدركونها، وهذا في حقيقة الأمر أثر من آثار اتصافه سبحانه وتعالى بالنور، كما قال عز وجل: {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} [الزمر:69]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) أي: خلقه جميعاً، (حجابه النور) هذا هو الحجاب الذي يحجب الخلق في هذه الدنيا عن رؤيته سبحانه وتعالى، ودونه حجب أخرى، وآخرها نور مخلوق لو كشفه الله عز وجل لأحرقت أنوار وجهه عز وجل جميع الخلق؛ لأنهم لم يهيئوا في هذه الدنيا للنظر إلى وجه الله عز وجل، وهذا الحجاب هو الذي حجب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرؤية ليلة المعراج، قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله أبو ذر: (هل رأيت ربك؟ قال: نور أنى أراه)، وفي الرواية الأخرى: (رأيت نوراً)، فقد رأى نور الحجاب صلى الله عليه وسلم، فكيف يراه وقد حجبه هذا النور الهائل الذي هو نور الحجاب؟!

الله سبحانه منور السماوات والأرض

الله سبحانه منور السماوات والأرض الله سبحانه وتعالى هو منور السماوات والأرض، قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1]، إن الذي يعرفه الناس من هذا الوجود المحسوس إنما هو بالنور الذي خلقه الله فيه، وقد ذكر الفلكيون أن الظلام في هذا الكون المشهود يبلغ أكثر من 99%، وأما النور الموجود فيه فهو 1% أو أقل من ذلك، فما الظن -عباد الله- بما نجهله ولا ندري عنه؟! فانظروا إلى هذه الأنوار كلها: نور الشمس، ونور القمر، ونور النجوم وسائر الكواكب، وغير ذلك، فهو شيء يسير في هذه السماء الدنيا، وما لا نراه ولا نعلم عنه أضعاف مضاعفة؛ وذلك لنتعظ، ولنعلم محدودية علم البشر، ومحدودية قدرتهم، وأنهم في هذا الكون الواسع لا يدركون ولا يحيطون من علم الله إلا بما علمهم. وهكذا أيضاً في النور المعنوي (نور القلوب)، فإن كثيراً من الخلق يعبدون غير الله عز وجل، قد أظلمت قلوبهم، ولم تستنر بنور الوحي الذي أنزله سبحانه وتعالى ليضيء للناس طريقهم، وليفهمهم حقيقة هذا الوجود، فلينظروا في ملكوت السماوات والأرض، وليعلموا أن الله سبحانه وتعالى أنزل الكتاب المبين الذي هو النور كما قال عز وجل: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [المائدة:15]. وكذلك أرسل الله رسله وهم أنوار، وخصوصاً خاتمهم محمداً صلى الله عليه وسلم السراج المنير، وليس معنى ذلك أنه مخلوق من مادة غير الطين فهو بشر صلى الله عليه وسلم، خلق من آدم، وآدم مخلوق من تراب، وكل الأنبياء كذلك، فهم نور القلوب الذي تستضيء بها، وتعرف حقيقة هذا الكون الواسع الهائل المترامي الأطراف الذي لو تأمل الإنسان نفسه فيه لعلم أنه كالذر والهباءة الصغيرة أو أقل من ذلك، فإن الإنسان بالمقارنة إلى هذا الكون الواسع الكبير حجماً كأنه لا شيء على الإطلاق، فما أضعفه! وما أصغره! وما أذله! وما أحقره! وما أقل قدراته وعلمه! وهكذا إذا نظر إلى الزمان الذي قبله والذي بعده، فلو قورن بما مضى من بداية الخلق فقط لكان كالهباءة أو أقل، ولو قورن بما سوف لكان مثل ذلك، فكم يكون الإنسان؟ وما هي حقيقة حجمه زماناً ومكاناً؟ فإذا قورن ذلك بالأزل وبالأبد، علم الإنسان حقيقة أمره، وأدرك ضعفه وعجزه، وفقره وحاجته إلى ربه سبحانه وتعالى. فعلى الإنسان أن ينظر إلى حقيقة وجوده، لماذا أوجده الله على تلك الصورة وعلى هذا الحال؟ ولماذا خلق السماوات والأرض؟ هذا السؤال الفطري هو الذي عميت عنه قلوب أكثر البشر، وامتلأت بالظلمات بسبب إعراضها عما جاءت به الأنبياء. وتأمل أن الله سبحانه وتعالى جعل النور في قلوب أوليائه التي فاض عليها من قلوب أنبيائه، فأنبياء الله عز وجل هم السرج المنيرة التي تنير بكتب الله سبحانه وتعالى التي هي النور المبين، الذي يبين لمن سمعه وقرأه أنه الحق، ويبين الطريق لمن التزم به، وآمن به وصدقه، وعمل به، فهو سبحانه وتعالى قد من على عباده المؤمنين بأعظم نعمة حين جعل في قلوبهم النور فأدركوا أن الله عز وجل خلقهم لغاية حكيمة، وأنه سبحانه وتعالى جعل لهم مهمة عظيمة، اصطفاهم بها واجتباهم على خلقه وهي: أن يعبدوا الله سبحانه وتعالى وحده لا شريك له، وأن يعرفوه ويحبوه، ويخافوه ويرجوه، ويتوكلوا عليه، ويلجئوا إليه، ويسندوا ظهورهم إليه سبحانه وتعالى، متوكلين عليه، متحصنين به، مستعيذين به، مستعينين به سبحانه وتعالى، وكذلك في كل أنواع العبادات الأخرى، خلقهم الله عز وجل لذلك، فعرفوا لماذا وجدوا، وما هو الهدف من خلقهم، ثم عرفوا ما هم مقبلون عليه من القيامة والحساب والجزاء، والثواب والعقاب، والجنة والنار، وهذا كله من آثار نور الإيمان، وهم كذلك يرون بنور الله سبحانه الذي جعله في قلوبهم المثل العليا في صفات الأنبياء، ويرون الأعمال الصالحة من كتب الله عز وجل، ويؤمنون بوجود الملائكة الذين يعبدون الله عز وجل ويسبحونه بالليل والنهار وهم لا يفترون، ويؤمنون بالقدر، وأن الله سبحانه وتعالى خالق كل شيء بقدر، قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49].

حال الناس مع هذا النور

حال الناس مع هذا النور حقائق الإيمان التي جاءت الرسل عليهم الصلاة والسلام لتبينها للناس هي التي تملأ القلب بالنور، فيهتدي الإنسان، ويعرف هدفه وغايته وبدايته ونهايته بدلاً من أن يكون أعمى لا يدرك شيئاً ولا يعقل شيئاً إلا ما تدركه البهائم من الطعام والشراب، فقارن -يا عبد الله- بين من امتلأ قلبه بالنور ففهم حقيقة هذا الوجود، فهم غايته، وحكمة وجوده، وفهم ما ينبغي له أن يعمله، وما بدأ منه، وما ينتهي إليه، وبين آخر لا يعرف من الدنيا إلا طعاماً وشراباً، وشهوة جنسية، لا يعرف من الدنيا إلا ما تعرفه البهائم. وتأمل في العالم لتدرك أن الله سبحانه وتعالى قد امتن بأعظم النعمة على عباده المؤمنين، تجد أن أكثر العالم يعيشون فعلاً لأجل شهوات البطون والفروج، والقطيفة والخميصة، والدرهم والدينار، يعبدونها من دون الله عز وجل، وتصور أن هذا هو الذي تقام من أجله الحروب، وتسفك من أجله الدماء، وتحتل من أجله الأراضي، ليفرض على الناس نمط حياة عجيب، وأشقى حياة يمكن أن يتصورها الإنسان أن يعيش كالبهيمة والعياذ بالله، ويقاد كالأنعام، ويفرض عليهم أن يعيشوا من أجل البطون والفروج، لا يعرفون معبودهم، ولا يدركون كماله وجماله، ولا يعرفون شيئاً عن أسمائه وصفاته، يعملون بالنهار كالحمير، وينامون كالجيفة في الليل، وقبل ذلك وأثنائه ينظرون إلى مشاهد الفسق والفجور، الذي هو استسلام للشهوات المهينة الحقيرة، ينظرون إليها ليل نهار من خلال وسائل الإفساد التي تفسد عليهم حياتهم، وتظلم قلوبهم، فوالله إن الظلام ليحل بوجود هذه الأمور ولكن أكثر الناس غافلون، ويزدادون طلباً لها في عناية وجهالة وسفاهة عجيبة إلى أن يأتي الموت بغتة، ويرحلون عن هذه الحياة، وإذا بهم وقد نزلت بهم ملائكة سود الوجوه يقبضون أرواحهم، ويضربون وجوههم وأدبارهم والعياذ بالله، فينزعونهم عن أهليهم وأموالهم وسلطانهم وملكهم. وطائفة أخرى من الخلق تعيش حياة الشياطين، ليست فقط كالبهائم بل أسوأ من البهائم، هم أضل من الأنعام؛ وذلك أنهم يعيشون من أجل الشهوات الشيطانية، التي هي أمراض إبليس من الكبر والعجب وإرادة العلو والفساد، لا لمجرد تحصيل الشهوات فقط، بل يريدون بذلك محادة الله عز وجل ومعاندته، تأمل هؤلاء الذين يسعون في الأرض فساداً، الذين يريدون العلو فيها والفساد، وهم معجبون بأنفسهم، غايتهم الملك والرئاسة والعلو على الناس، ومن أجل هذه الشهوات الإبليسية -التي هي أشد خطراً من الشهوات الحيوانية- يعيش الناس، وتنفق الكثير من الساعات بل من الأيام والشهور والسنوات، وتنفق الأموال والأعمار لأجل تأصيل معاني عبادة غير الله عز وجل، حتى تستقر في النفوس تلك الأمراض الإبليسية التي هي أخطر من الشهوات الأرضية، فالشهوات الأرضية جعل الله عز وجل لها منفذاً ومخرجاً، بمعنى أن الإنسان ينال منها شيئاً مباحاً، وجعل الله للعبد فيها دائرة من المباح، بحيث يطعم حلالاً ويشرب حلالاً وينكح حلالاً ويلبس حلالاً، وجعل دائرة أخرى من المحرمات التي تضره إذا أتى بها، وربما استعبدته إذا غرق فيها والعياذ بالله! أما الشهوات الإبليسية فهي محرمة بالكلية، لا يجوز للإنسان أن ينال منها شيئاً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)، وقال عليه الصلاة والسلام: (الكبر بطر الحق وغمط الناس)، فبطر الحق أي: رده وعدم قبوله، مثل إبليس حين أبى واستكبر وكان من الكافرين، وغمط الناس أي: احتقارهم وازدراؤهم. تأمل شعوباً بأكملها مريضة بهذه الأمراض، تحاول إذلال غيرها، وتحاول فرض إرادتها الجبارة الكافرة على الأمم في المشارق والمغارب، والجبار هو كل من يجبر الناس على ما يريد دون رجوع إلى شرع الله سبحانه وتعالى، وهو خائب قطعاً، {وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} [إبراهيم:15]. فتأمل هذه الظلمات التي تمتلئ بها قلوب أكثر الخلق، طوائف من البشر تعيش حياتها من بدايتها إلى نهايتها لا تعرف من الدنيا إلا حياة البهائم أو حياة الشياطين والعياذ بالله من ذلك، وأما أن ترتفع نفوسهم عن الأرض لتدرك صغرها وقصر الدنيا وقصر نصيبنا منها، وأنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، ولا تساوي جدياً أسك ميتاً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم حين مر على جدي أسك ميت، أسك أي: صغير الأذنين فقال: (أيكم يود أن له هذا بدرهم؟ فقالوا: يا رسول الله! لو كان حياً لكان عيباً فيه، إنه أسك فكيف وهو ميت؟! فقال: للدنيا أهون على الله من هذا عليكم). إن الإنسان بحاجة إلى أن يرى حقائق هذا الوجود، ويرى صغر الدنيا فلا يعمل لها، بل يعد العدة للقاء الله عز وجل، ولا يقتصر على اللذة فيها، وإنما يعلم أن اللذات التي فيها إنما هي بلغة يسير بها لتستقر حياته ليتفرغ إلى ما هو أهم من النعيم الحقيقي بمعرفة الله عز وجل، وأسمائه وصفاته وجلاله وجماله سبحانه وتعالى، إن حاجة العبد إلى هذا النور المذكور في كتاب الله عز وجل هو الذي جمع الله عز وجل فيه الأنوار التي وردت في الكتب الأخرى، والتي جعلها في الكتب السابقة، وحاجتنا إلى هذا أمس من حاجتنا إلى ضوء النهار، وأمس من حاجتنا إلى ضوء المصابيح، وأمس من حاجتنا إلى أي نور حسي تراه الأعين، وتأمل عمل البشر، واشكر نعمة الله عز وجل عليك أن جعل في قلبك النور إن كان لك نصيب منه وإلا فأدرك نفسك. وتأمل كذلك في هداية الله عز وجل للمخلوقات كلها؛ لتعلم أنه هادي أهل السماوات والأرض جميعاً. وتأمل ما جعل الله في قلوب الملائكة أهل السماوات من الأنوار العظيمة التي هي مادة خلقهم فضلاً عن معرفتهم بربهم وعبادتهم له، قال النبي صلى الله عليه وسلم في بيان كثرة من في السماء: (أطت السماء، وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وفيها ملك قائم أو راكع أو ساجد)، فهو سبحانه منور السماوات والأرض بالنور الحسي والنور المعنوي، ومنور من فيهن، هدى من شاء سبحانه وتعالى، وجعل في قلوب بعض خلقه من النور ما يضيء البلاد الكثيرة، فمن الناس من يكون نوره كالشمس، ويظهر هذا النور نفسه يوم القيامة، {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الحديد:12 - 15]. فيا عباد الله! التمسوا النور، التمسوا نور الكتاب، والتمسوا نور السنة، فالله عز وجل جعل الكتاب نوراً وجعل النبي صلى الله عليه وسلم سراجاً منيراً، {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} [الشورى:52 - 53]. وقال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب:45 - 46]. فالله سبحانه وتعالى جعل النور يلتمس في الدنيا لتدرك فائدته يوم القيامة، وفي ساعة المرور على الصراط، واحرص على أن يكون نصيبك من النور كثيراً كبيراً، فقد كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يسأل الله عز وجل أن يجعل له نوراً، فالسراج المنير يحتاج إلى مزيد من النور، وهذا أمر لا ينتهي إلى حد، ولا يتوقف إلى غاية، بل لا يزال أهل الإيمان في الجنة يزدادون نوراً كلما رأوا ربهم عز وجل إلى ما لا نهاية، وذلك أن الله سبحانه وتعالى لا يحاط به علماً، ولا نهاية لكماله سبحانه وتعالى، هو عز وجل له المثل الأعلى، وله صفات الكمال، وله الأسماء الحسنى، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول وهو ذاهب إلى المسجد: (اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي لساني نوراً، وفي بصري نوراً، وفي سمعي نوراً، وعن يميني نوراً، وعن شمالي نوراً، ومن أمامي نوراً، ومن خلفي نوراً، ومن فوقي نوراً، ومن تحتي نوراً، اللهم اجعل لي نوراً)، وفي رواية: (اللهم اجعلني نوراً)، إذا كان هو صلى الله عليه وسلم يسأل ذلك وهو الذي ينير للناس صراط الله المستقيم فحاجتنا إلى سؤال الرب عز وجل أن ينور قلوبنا لحبه ومعرفته أشد، وإن القلب إذا دخل فيه نور الإيمان انشرح وصار فسيحاً واسعاً، وصار لا يؤثر فيه زبالات الخلق إذا ألقيت على الإنسان، فقلب المؤمن واسع منشرح، وهي منة الله على أنبيائه: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1]، وقال موسى عليه السلام فيما حكاه الله عنه: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} * {وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} [طه:25 - 26]، وقال عز وجل: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه:36]، ولأهل الإيمان نصيب بقدر اتباعهم لأنبيائهم: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ

أنواع الظلمات

أنواع الظلمات

ظلمة الكفر والشرك

ظلمة الكفر والشرك الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. الله سبحانه وتعالى مقلب القلوب، يقلب قلوب عباده كيف يشاء، ويجعل في قلب من شاء ما شاء من النور، ويجعل في قلب من شاء ما شاء من الظلمات. وأعظم الظلمات التي تمنع القلب من رؤية النور ظلمات الشرك والكفر بالله، وبأنبيائه، ورسله، وملائكته، وكتبه، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، والكفر بواحد من هذه الأصول ظلمة عظيمة تمنع وصول النور بالكلية.

ظلمة البدع

ظلمة البدع ثم بعد ذلك ظلمات البدع، وخاصة بدع الاعتقاد الفاسد، والشبهات المضلة التي تتعلق بأسماء الله وصفاته، أو بوعده ووعيده، أو بقضائه وقدره، أو بأي أصل من أصول الاعتقاد، فالبدع المضلة المخالفة لمنهج أهل السنة والجماعة ظلمات متعددة؛ ولذا تجد في كلام أهل البدع الظلمة والفساد، وإذا قرأت كلامهم تعجب كيف خرج هذا الكلام من أناس ينتسبون إلى الإسلام، ويشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله! ولكن إذا علمت أنهم أعرضوا عن مقتضى هذه الكلمة، وأعرضوا عن كتاب ربهم وعن سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، وانشغلوا بقيل وقالوا، وانشغلوا بآراء الرجال، وانشغلوا بما وضعه الناس من المذاهب والأفكار المنحرفة؛ علمت لماذا وقعت في قلوبهم الظلمة.

ظلمة الكبائر الباطنة

ظلمة الكبائر الباطنة ومن الأسباب المؤدية للظلمة في القلب الكبائر الباطنة، وهي أمراض إبليس من: العجب، والكبر، والحسد، والنظر إلى كمال النفس، وازدراء الخلق واحتقارهم، نعوذ بالله من ذلك! وهذه الكبائر الباطنة قد يتلبس بها كثير ممن يظهر الصلاح، ويظن به التقوى والإيمان، وهذه الكبائر الباطنة أخطر من الكبائر الظاهرة، فذرة من الكبر تمنع المرء من دخول الجنة كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك الرياء قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، فسئل عنه فقال: هو الرياء). وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن خطر هذه الكبائر الباطنة ببيان عقوبتها فقال: (يحشر المتكبرون يوم القيامة كأمثال الذر في صورة الناس يطأهم الناس بأقدامهم، تعلوهم نار الأنيار، يسقون من طينة الخبال عصارة أهل النار)، نعوذ بالله من ذلك! فالناس المتكبرون يحشرون يوم القيامة في حجم النمل في صورة البشر، يطؤهم الناس بأقدامهم ذلاً وصغاراً، فلما تكبروا صغروا، ولما تعالوا عن أمر الله عز وجل اهبطوا، تبعاً لزعيمهم ومقدمهم إبليس عليه لعنة الله سبحانه إلى يوم الدين، قال تعالى: {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} [الأعراف:13].

ظلمة الكبائر الظاهرة

ظلمة الكبائر الظاهرة ثم بعد ذلك الكبائر الظاهرة، فكل منها حجاب يمنع وصول النور إلى القلب، ويؤدي إلى وجود ظلمة فيه كالزنا، وشرب الخمر، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات، وقتل النفس، وعقوق الوالدين، وقطيعة الرحم، وهذه الكبائر الظاهرة هي التي تهلك أكثر الخلق، ويستعبدهم الشيطان بها، نعوذ بالله من ذلك!

ظلمة المعاصي

ظلمة المعاصي ثم بعد ذلك المعاصي التي هي من الصغائر، فكل منها له ظلمة في القلب، وكلما ارتكب الإنسان شيئاً من المعاصي أظلم قلبه، وذهب شيء من النور الذي كان فيه حين كان تاركاً لهذه المعصية.

ظلمة الوقوع في المكروهات

ظلمة الوقوع في المكروهات ثم بعد ذلك فعل المكروهات، فإنها تؤدي إلى ظلمة أيضاً ولكن بقدرها، ولا يكون ذلك كظلمة المعاصي، بل إن كثرة انشغال الإنسان بفضول المباحات يؤدي إلى فوات نصيب عظيم من النور، ويفوته به الربح عند الله عز وجل الذي هو هادي أهل السماوات والأرض، ومنور السماوات والأرض سبحانه وتعالى. فالعبد المؤمن يبتعد عن أسباب الظلمة، ويسلك سبل النور، ويسأل الله عز وجل أن يجعل في قلبه نوراً، وأن يجعل له نوراً حتى يعيش في نور بدلاً من الظلمات التي يعيش فيها أكثر الخلق، فإذا قال العبد في دعائه: (اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن) كان ذلك متضمناً بسؤال الحال سؤال الرب سبحانه وتعالى أن يجعل له نوراً، وأن يكثر له منه، فأنت تعترف أنه ليس لك من نفسك هداية ولا نور ولا حياة، فكما وهبك الله حياة البدن فاسأله أن يهب لك حياة القلب، وكما وهبك نور العينين، فاسأله أن يهب لك نور البصيرة في القلب، وهو سبحانه وتعالى يمن على من يشاء من عباده، ويبسط الخير للمؤمنين، ويجعلهم سبحانه وتعالى في النور في الدنيا ويوم القيامة، والجنة مليئة بالنور، ويرفع سبحانه وتعالى فيها حجابه فينظر المؤمنون إلى ربهم، فإذا رأوا ربهم سبحانه وتعالى وجدوا من النعيم واللذة ما لا يجدون مثله في الجنة، (فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى وجه ربهم) كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم. اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق أحينا ما علمت الحياة خيراً لنا، وتوفنا ما علمت الوفاة خيراً لنا. اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الفقر والغنى، ونسألك نعيماً لا ينفد، ونسألك قرة عين لا تنقطع، ونسألك برد العيش بعد الموت، ونسألك الرضا بعد القضاء، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة. اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم كف بأسهم عن المسلمين فأنت أشد بأساً وأشد تنكيلاً، اللهم لا تجعل لهم على أحد من المسلمين سبيلاً. اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان، وانصر الدعاة إليك في كل مكان، ونج المستضعفين من المسلمين في كل مكان. اللهم فرج كرب المكروبين، وفك أسر المأسورين، وارفع الظلم عن المظلومين. ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير، ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا، واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم. على الله توكلنا، ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، ونجنا برحمتك من القوم الكافرين. ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم اجعل في قلوبنا نوراً، وفي أبصارنا نوراً، وفي أسماعنا نوراً، وعن أيماننا نوراً، وعن شمائلنا نوراً، ومن فوقنا نوراً، ومن تحتنا نوراً، وأمامنا نوراً، وخلفنا نوراً، اللهم اجعل لنا نوراً. اللهم عليكم باليهود والنصارى والمنافقين، وسائر الكفرة والملحدين، وأصحاب الضلال ودعاة السوء. اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين! اللهم انصر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم انصر المسلمين في فلسطين، اللهم انصر المسلمين في البوسنة والهرسك، اللهم انصر المسلمين في كل مكان. اللهم نج المستضعفين من المؤمنين والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها. اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فدمره تدميراً، اللهم اجعل بأس الظالمين عليهم، وكف بأسهم عن المسلمين فأنت أشد بأساً وأشد تنكيلاً. ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، واغفر لنا وارحمنا.

أنوار الرجاء تبدد ظلمات اليأس

أنوار الرجاء تبدد ظلمات اليأس إن الله سبحانه وتعالى جعل الابتلاء سنة كونية مقدرة على أنبيائه وأوليائه لحكمة بالغة اقتضاها، ولذا تجد الصراع بين الحق والباطل على مدار الأيام والأزمان والعصور، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حي عن بينة، فالسعداء هم الصابرون على البلاء، الشاكرون للنعماء، العالمون عاقبة البلاء، الطالبون النصر على الأعداء، الذين يريدون الظفر بما عند رب الأرض والسماء، فالرجاء هو أصل النصر، وأساس الإيمان، وعلامة الثبات على دين الله.

حكمة الابتلاء للمؤمنين

حكمة الابتلاء للمؤمنين إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فإن طريق الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى والعمل للإسلام، والعمل من أجل نصرة الإسلام طريق مملوء بالآلام والمحن، وكلما ازدادت المحن وكثرت الجراح، وعظمت الآلام؛ ظهر من آثار أنوار الإيمان في قلوب عباد الله المؤمنين ما لم يكن موجوداً قبل ذلك، وإن من العلم بالله سبحانه وتعالى -وهو حقيقة الإيمان أو أصل الإيمان- أن يعلم العبد أسماء الله عز وجل وصفاته، وأن يعلم سنته سبحانه وتعالى في خلقه، لماذا خلق الله عز وجل الخلق؟ ولماذا أوجد سبحانه وتعالى في الأرض الخير والشر، والإيمان والكفر مع قدرته عز وجل على جعل الناس أمة واحدة على الإيمان لو شاء كما قال تعالى: {فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام:149]؟. إن العلم بالله سبحانه وتعالى، وتحقيق الإيمان بأسمائه وصفاته، ومعرفة سنة الله سبحانه وتعالى التي مضت في الأولين وتمضي كذلك في الآخرين؛ لهي من أعظم الفوائد التي تحصل للمؤمنين في سيرهم في هذا الطريق عندما تصيبهم الجراح والآلام والمحن، وقد قدر الله سبحانه وتعالى وجود الحياة أصلاً لكي يرى سبحانه وتعالى من عباده المؤمنين ما يحب. من أجلك أيها المؤمن! من أجل أن تؤمن وترجو وتخاف وتحب وتبذل وتضحي، من أجل أن تعبد الله سبحانه وتعالى أوجد الله عز وجل إبليس والشياطين والكفرة والملحدين والمنافقين، وكان في قدرته عز وجل -ولم يزل- أن يجعل: {مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ} [الزخرف:60]، بدلاً من هؤلاء، لكنه سبحانه وتعالى هو العليم الحكيم، وهو سبحانه وتعالى القدير، يحب ظهور عبوديته في وسط أنواع الكفر والضلال، وهذه عبودية خاصة، عبودية تختلف عن عبودية الرخاء، وعن عبودية سائر الكائنات، نعلم أن كل الكائنات تسبح لله عز وجل وتعبده، قال تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44]، وقال عز وجل: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحديد:1]، وقال: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التغابن:1]، وغير ذلك من الآيات التي تؤكد عبودية الكائنات كلها. والملائكة تعبد الله عز وجل ليل نهار كما قال تعالى: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:20]، ومع أن الله خلق الخلق أصلاً لعبادته فإنه سبحانه وتعالى أوجد النوع الإنساني وكذلك الجن، وخلقهم سبحانه وتعالى لتوجد منهم عبودية أخرى، وهي عبودية الضراء والشدة، عبودية الخوف من الله دون من سواه، والتوكل على الله عز وجل دون من سواه، عبودية الرجاء في وسط أجواء اليأس فيما يبدو للناس، هذه العبودية من أجلها قدر الله ما يكرهه؛ لأن هذه العبودية أحب إليه سبحانه وتعالى مما يكره، ومما لو قدر الله سبحانه وتعالى عدم وجود الكفر والنفاق والظلم والفساد، فيكون الناس كلهم أمة واحدة، ولكن ظهور هذه العبودية التي فيها مقاومة ومنازعة ومجاهدة، وفيها هجرة وبذل وتضحية، وغير ذلك من أنواع العبودية التي تحصل لأهل الإيمان؛ أحب إلى الله مما لو كانوا جميعاً على طاعته، دون أن يكون بعضهم على معصيته، فافهم حكمة العزيز الحكيم الذي له الملك وله الحمد، {يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحديد:2]، فهو سبحانه وتعالى العزيز الذي لا يغالب ولا يمانع، {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18]، وهو غالب على أمره، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:187]. وليس لنقص العزة هزم أولياؤه في المعارك، ولا لعجزه -تعالى الله عن ذلك- قتل من قتل من أوليائه ورسله، وجرح من جرح منهم، واستضعفوا في الأرض، ونيل منهم أنواع النيل، وابتلوا وسجنوا وعذبوا، ليس هذا لعجزه عز وجل، فهو العزيز سبحانه وتعالى، وهو القدير، له ملك السماوات والأرض، وهو الذي بيده الموت والحياة، قال تعالى: {يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحديد:2]، ومع ذلك كله بحكمته سبحانه وتعالى قدر أن يوجد هذا البلاء وهذه المحن التي تجعل من لا يعلم صفات ربه سبحانه وتعالى ييئس ويبتئس، وربما يترك الطريق والالتزام بدين الله عز وجل، أو ربما يترك العمل من أجل نصرة الدين فيأثم من ترك هذه النصرة، ويقول: ماذا نصنع والأمور كلها ضدنا والعالم كله ضدنا؟! نقول: لابد أن تعلم أن الله عز وجل هو العليم الحكيم، وهو العزيز الحكيم، وأن حكمته اقتضت ذلك؛ لأنه يحب أن يرى منك كما رأى قبل ذلك من أنبيائه ما يحب، فانظر هل يرى الله منك ما يحب؟! قال عز وجل: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:31]، (ولنبلونكم حتى نعلم) قال ابن عباس: حتى نرى، حتى يعلم الله هذه الأمور علماً يحاسب العباد عليه، يعلم الجهاد والصبر من عباده المؤمنين علماً يحاسبهم عليه، ويثيبهم على ما صدر منهم بفضله وتوفيقه وإعانته سبحانه وتعالى.

أسباب حصول الرجاء

أسباب حصول الرجاء

الإيمان بالله ومعرفة أسمائه وصفاته

الإيمان بالله ومعرفة أسمائه وصفاته إن تحصيل الرجاء -الذي هو من أجلِّ أنواع العبودية- يكون بثلاثة أمور ذكرها الله عز وجل: الإيمان، ومعرفة أسماء الله وصفاته، ومعرفة سنته سبحانه فيما يفعله بأوليائه وأعدائه، قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ} [البقرة:218]، فمن يرجو رحمة الله أولاً؟ المؤمنون، وهذا يظهر جلياً كما سنذكر في مواقف أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فقد كانوا في غاية الرجاء في لحظات الشدة، وذلك مبني على علمهم بالله سبحانه وتعالى وبأسمائه وصفاته، وباستحضارهم هذه الأسماء والصفات ومعانيها وآثارها في الوجود، فهم يرون مالا يرى الناس من آثار أسماء الله وصفاته وأفعاله سبحانه وتعالى في خلقه، يشهدون ما أشهدهم الله بالوحي المنزل، وما قذف في قلوبهم من أنواع العلم به سبحانه وتعالى، فيشهدون بذلك مالا يشهده الناس. انظر مثلاً إلى ما أمرنا الله أن نشهده، أشهدنا سبحانه وتعالى أنه هو الذي أخرج فرعون وجنده من جنات وعيون، وكنوز ومقام كريم، وأشهدنا عز وجل أنه هو الذي أزلف هناك في اليم فرعون وقومه ومن معه، فسبحان الله! والله عز وجل أشهدنا أنه أرسل الشياطين على الكافرين تؤزهم أزاً. والله عز وجل أشهدنا أنه جعل في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون! والله جعلنا نشهد في كتابه بوحيه أن ما يجري من عداوة الشياطين لدعوة الأنبياء إنه هو الذي جعلها قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام:112]. الله سبحانه وتعالى أشهدنا أنه جعل لكل نبي عدواً من المجرمين، وأشهدنا سبحانه وتعالى هدايته لمن شاء له الهداية، وإضلاله لمن شاء له الإضلال. وأشهدنا عز وجل أنه النصير لمن شاء نصره ولو اجتمعت الأرض ومن فيها على هزيمته {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان:31]. فشهود هذه المعاني يجعل العبد يعيش في جو آخر، يعيش في دنيا غير دنيا الناس، الناس لا يشهدون من وراء الأحداث التي تقع إلا مظاهرها الحاضرة أمام أعينهم، ولكن لابد أن ترى ما وراء ذلك وما قبل ذلك وما معه من أوامر الله النازلة، ترى ما قبله من الكتب في اللوح المحفوظ، وما سبق ذلك من علم الله سبحانه وتعالى، وما مضى من إرادته النافذة، وتشهد كما ذكرنا نزول الأوامر من عنده نافذة كما أمر في إحياء هذا وإماتة ذاك؛ لإعزاز هذا وإذلال ذاك، أن تشهد أن مالك الملك يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، كما أن له الملك فله الحمد، له الملك يدبره كيف يريد سبحانه وتعالى، وهو محمود على ذلك، وكم ممن أعطاه الله عز وجل ملكاً عالياً يبتليه بذلك فإذا به يتصرف تصرف السفهاء فلا يحمد على ذلك، وكم من حكيم له حكمة ومعرفة ولكنه لا يملك، لكن الله له كمال الملك والحمد، له الملك وله الحمد، وتفرد بكمال القدرة. هذا الذكر العظيم: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير) يأخذ قلب العبد إلى آفاق بعيدة عما يرى من حياة الناس من صراعاتهم، وليس أنه يبتعد عن الصراع بل هو في أتون هذا الصراع كما يقولون، هو غير معتزل في حقيقة الأمر، أو مجرد متفرج على الصراع الذي يجري، إنه وسط هذا الصراع بالفعل، ينصر دين الله، ويبذل ويضحي، لكنه يرى دائماً ما وراء أفعال الناس، الناس يتصورون أن أفعالهم هي الموجبة، وأن إرادتهم هي النافذة، وهو يرى وراء ذلك أمراً آخر، وفوقه أمر آخر يرى أوامر الله بكن فيكون، ومشيئته سبحانه وتعالى النافذة، وقدرته الشاملة لأفعال العباد الاضطرارية والاختيارية، ويرى في النهاية العاقبة التي أرادها الله عز وجل لكلا الفريقين، لأهل التقوى والإيمان، ولأهل الكفر والفسوق والعصيان. وهذا إنما يشهده من نظر في التاريخ، ولا نعني بالتاريخ مجرد الحكايات، لكن نعني بالتاريخ سيرة الأمم مع أنبيائها، سنة الله سبحانه وتعالى التي مضت، إن القرآن قص علينا من مواقف الأنبياء وأفعالهم ومن معاني الإيمان التي شهدوها مالا يوجد في كتاب، ولا يوجد فيما يتلوه الناس من أخبار، وما يتناقلونه من تواريخ، لا نظير لكتاب الله سبحانه وتعالى، يقطع من تذوق حلاوة الإيمان بهذا الكتاب إنه كلام الله الذي لا نظير له ولا مثيل له ولا شبيه لهذا الكلام أبداً، وخصوصاً إذا قرأ الإنسان غيره من الكتب التي دخلت فيها أيدي الناس مما أصله نزل من السماء من عند الله عز وجل، ولكن دخلت فيها أيديهم بالكتابة والزيادة والنقصان، والتبديل والتحريف، أو فيما خطه الناس من تلقاء أنفسهم من حكايات التواريخ. نقول: إن نظرة في تاريخ الأمم والشعوب، وتاريخ الصراع الذي يجري؛ لهي مما يضيء لأهل الإيمان طريقهم، ويحقق معاني الإيمان في قلوبهم؛ فيحصل لهم نور الرجاء في قلوبهم، كما ذكرنا أن الأمر الأول الذي يحصل الرجاء هو تحقيق الإيمان، وشهود صفات الرب سبحانه وتعالى التي هي موجبة لكمال الملك والحمد، ويشهد أفعال الرب سبحانه وتعالى فيما يقع من هذا الصراع وهذا الوجود، وكما ذكرنا يعيش ببدنه مع الناس ولكنه يعيش بقلبه في جو آخر، كما قال يعقوب عليه السلام: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [يوسف:86]، وهل كان أبناؤه كفرة؟ لا، ولكن لم يستحضروا ما يستحضره من أن الله هو الذي يفعل، وهو الذي يدبر، وهو الذي يعطي، وهو الذي يجتبي، وهو الذي يعلم، وهو العليم الحكيم، وهو الذي يأتي بالخير، وهو الذي يمن بفضله على من يشاء كما من على من سبق، وهو يشهد هذه المعاني، ويعلم من الله عز وجل؛ من عواقب ونهايات الأمور، ومن فعله عز وجل بالناس ما لا يعلمون، ولذا وقفوا على حد التصرفات الظاهرة.

الهجرة في سبيل الله

الهجرة في سبيل الله الأمر الثاني الذي يحصل به الرجاء بعد تحقيق الإيمان: أن يكون الإنسان مهاجراً في سبيل الله، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا} [البقرة:218]، والهجرة بالبدن فرع عن الهجرة بالقلب، بل لا تحصل الهجرة بالبدن إلا بهجرة القلب أولاً، وهجرة القلب إلى الله فرض، وهجرة البدن تختلف باختلاف الأحوال. إن الذي أوجب أن يهاجر المؤمن من دار الكفر إلى دار الإسلام، وأوجب هجرة المؤمنين من مكة ومن سائر البلاد إلى المدينة، وهكذا الهجرة الباقية إلى يوم القيامة التي لا تنقطع ما دام الجهاد باقياً؛ إنما أوجبها اختلاف المنهج، إنما أوجبها هجرة المؤمن لعادات الناس وتقاليدهم ومعتقداتهم وأخلاقهم الفاسدة، وتصوراتهم الرديئة، يهجر كل ذلك وهم لا يوافقونه ولا يقبلون أن يعيش وسطهم بتصورات أخر غير سخافات عقولهم وأباطيل عقائدهم، فهاجر بقلبه من عبودية غير الله إلى عبودية الله وحده لا شريك له، ومن الخوف من غير الله إلى الخوف من الله وحده، ومن رجاء غير الله إلى رجاء الله وحده، ومن التوكل على غير الله إلى التوكل على الله وحده، ومن نصرة الباطل والعصبية والجاهلية إلى نصرة دين الله وحده، فهي التي أوجبت المخالفة والمفارقة واختلاف الطريق فاستوجب ذلك الصدام، ودائماً تبدأ بذرة الطائفة المؤمنة ضعيفة في وسط صخور عاتية تحاول قتلها وتحجيمها ومنعها من الظهور، فلابد أن يقع صدام غير متكافئ القوة في الظاهر مع أنه لمن يرى ما وراء الأمور وما وراء ستر العادة والبدايات يعلم أن موازين القوة الحقيقية في صالح أهل الإيمان ولو بدءوا ضعافاً، إنما ابتلاهم الله بأن وضعهم في وسط صفوف العدو لينظر ماذا يفعلون؟ وماذا يبذلون؟ وكيف يهاجرون؟ كما ذكر الله عز وجل: {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا} [الجن:24]، المؤمنون ليسوا أقل عدداً إلا بالنسبة إلى عدوهم في الأرض، أما بالنسبة لجنود الله فجنود الله أكثر قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31]، فهذه الآيات نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، والمسلمون يعدون على أصابع اليد، فهذه الآية: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31]، في سورة المدثر وهي من أوائل ما نزل قبل أن تنتشر الدعوة، وقبل أن يوجد الأجناد، ولو تأملت الكون كله لأيقنت هذه الحقيقة، كم من عباد لله في السماوات والأرض مسبحون لله؟ الكائنات كلها تسبح الله، أيعجز الله عز وجل أن يأمر الأرض أن تبتلع هؤلاء الكفرة وقد ابتلعت بالفعل من قبلهم؟ أيعجز الله سبحانه وتعالى أن يأمر السماء أن تحصبهم وقد حصبت بالفعل أمثالهم؟ ألم نر الزلازل والصواعق وما ينزل من الأعاصير المدمرة؟! الله لا يعجزه أن يأمر البحار أن تغرق هؤلاء وقد أغرقت قبل ذلك من أغرقت، ولو تأملت السماء أو البحر أو الأرض لوجدت الإنسان فعلاً من أصغر ما يكون، وهذه القنابل الهائلة والأسلحة الفتاكة ماذا تصنع وسط هذه الأرض الهائلة؟ إنها كأعواد الكبريت في وسط مدينة هائلة، كطفل يلعب بعلبة كبريت ماذا يصنع؟ هل يمكن أن يهد الجبال؟ حتى ولو هد الجبال {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم:46]، فهناك آلاف الملايين من المخلوقات التي هي مستعدة للإطباق عليه وإنهائه في لحظة، وهو يوقن أنه لا يملك منها شيئاً, أيملك أحد من الناس ما في باطن الأرض من القوة الهائلة؟ لو انشقت هذه الأرض ماذا سيقع؟ إن الطاقة الموجودة في باطن الأرض، والطاقة في البحار، والطاقة الموجودة في نجم صغير في الكون أو في شهاب فقط كافية لتدمير أمم بأسرها، بل بتدمير الأرض ومن عليها! الله عز وجل جنده أكثر، ولكن ابتلي العباد لكي يهاجروا في سبيل الله، وقد بدأ الصراع لأجل هذا الاختلاف بين المنهج والمنهج، بين الحق والباطل، فهجر المؤمنون العادات والتقاليد وما وجدوا عليه الآباء والأجداد وما وجدوا عليه المجتمعات المنحرفة، وأرادوا أن يعيشوا بإسلامهم، أرادوا أن يعيشوا بنظام حياة مختلف عن نظام الحياة التي يحياها من يعيشون لبطونهم وفروجهم، ومن يعيشون لكبريائهم وجبروتهم وغرورهم، ومن يعيشون لأجل أمراض إبليسية وأخرى أرضية شهوانية حيوانية، لا يعيشون إلا من أجل ذلك، وأهل الإيمان يريدون أن يستنقذوا العالم من شر هذه الأمراض، وأهل هذه الأمراض يريدون فرض باطلهم على الناس، ويخدعونهم أعظم الخداع، فحصل الصراع، وهو صراع غير متكافئ القوة فيما يبدو للناس، أهل الباطل أقوى والحقيقة العكس تماماً، لكن هذا ابتلاء لأهل الإيمان لينظر الله كيف يعملون، فبدأت الهجرة البدنية فكانت أثراً من آثار هجرة القلب أولاً، فمن هاجر لابد وأن يجد الرجاء، من هاجر سوف يصطدم، فما الذي يفتح له الأبواب؟ وما الذي يسهل له الصعاب؟ وما الذي يجعله يتخطى تلك العقبات؟ إنه الرجاء، فإيمانه ومعرفته بالله هو أصل المعرفة، ثم هجرته إلى الله بقلبه وإن احتاج ذلك إلى أن يهاجر ببدنه فذلك الذي يفتح له باب الرجاء.

الجهاد في سبيل الله

الجهاد في سبيل الله ثم الجهاد في سبيل الله، وأصله بذل الجهد في مرضاة الله سبحانه وتعالى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المهاجر من هجر ما نهى الله عنه، والمجاهد من جاهد نفسه في الله عز وجل) وقمة ذلك بلا شك بذل الجهد في جهاد الكفار، وهذا القتال هو ذروة سنام الإسلام؛ لأنه تتمة لذلك الجهاد الباطن، وذلك الجهاد الباطن هو أصله، وهذا كجبل الثلج يبدو منه قمته وتحت السطح تسعة أعشاره، وحقيقة الأمر أن الخاسر من لم يجاهد نفسه في الله عز وجل حتى يعلمها الحق، وحتى تعمل به، وحتى تأمر به وتدعو إليه وتصبر على مخالفة الناس على ما أصابها في مخالفتهم، ويجاهدها بدفع الشبهات والشهوات التي يبثها الشيطان في النفوس، ويجاهدها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالقلب واللسان واليد، ويجاهدها لتبذل في سبيل الله ما استطاع أن يجاهد، ولا شك أنها منة من الله عز وجل أن يقيم الرب سبحانه وتعالى عبده ليبذل نفسه وماله في سبيل الله، إن هذه منة من الله ينبغي أن يظل من حرم منها باكياً على نفسه والله، ينبغي أن يظل باكياً وهو يرى في الأرض في زمنه من يبذل لله عز وجل نفسه وماله ووطنه وأرضه وأهله، يبذل كل ذلك لله عز وجل، ينبغي أن يبكي على نفسه كما بكى البكاءون، قال تعالى: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} [التوبة:92]، مع أنهم غير مقصرين ولكنهم يخافون أن يكون قد فاتهم الخير، والله عز وجل علم منهم عذرهم الذي أقعدهم عن شهود هذه المواطن، وقد نزلت الآيات فيهم تشهد لهم بالإيمان والصدق والإخلاص لله عز وجل، ومع ذلك كانوا يبكون، ونحن ما شأننا؟! أنحن فعلاً نحب الهجرة والجهاد في سبيل الله عز وجل بأنواعهما المختلفة، ونحب أن نكتب مع المجاهدين في سبيله سبحانه وتعالى وإن كنا لسنا معهم في أرض المعركة أم أن الله عز وجل قد علم منا ما يكرهه فثبط الهمم والعياذ بالله من ذلك؟! عز وجل ثبط همم أقوام وكره انبعاثهم فأمرهم بالقعود كما قال عز وجل: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة:46]، نعوذ بالله أن نكون من هذا الصنف! فأيهما أولى أن يبكي على نفسه: الذي نزل القرآن ببيان إيمانه وصدقه ونصيحته لله وللرسول صلى الله عليه وسلم أم من لا يدري ما شأنه؟ فإذا كان الإنسان قد أقامه الله سبحانه وتعالى على ثغرة من ثغرات الدين، فكيف يفرط فيها؟ وكيف يتنازل عنها؟ وكيف ينسحب منها وقد من الله عز وجل عليه بذلك، وهو في الحقيقة إنما ينتظر مناً آخر وفضلاً آخر ليحصل له عظيم الرجاء؟! الله عز وجل جعل الرجاء لمن أتى بهذه الثلاث قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ} [البقرة:218]، وإلا كان الرجاء أماني، وفرق بين الرجاء وبين أماني الغرور كما قال سبحانه وتعالى: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [الحديد:13 - 14]، نعوذ بالله من ذلك! غرتهم أماني مغفرة ظنوها قطعية؛ لأنهم أهل دنيا كما قال قائل من هذه النوعية: {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا} [الكهف:36]، كما يقول القائل إذا أكرمه الله بشيء من الدنيا ونعمه: {رَبِّي أَكْرَمَنِ} [الفجر:15]، يرى الكرامة إنما هي في العطاء الدنيوي، ويجزم لنفسه بالآخرة والمغفرة عند الله سبحانه وتعالى من شدة الغرور والجهل، وكم من أناس خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم، يقولون: نحسن الظن بالله، وكذبوا! لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل، وما أروع هذه الكلمة وهي من الحسن البصري رحمه الله! نعم، كثير من الناس يغتر بأمان باطلة، لكن الذي يرجو يجد فعلاً نور الرجاء وشموس الرجاء في قلبه، هذا الذي حقق الإيمان بأسماء الله وصفاته وأفعاله، وشهد سنته الماضية في خلقه في أنبيائه ورسله، وفي أعدائه، وعلم عواقب الأمور ونهايتها، ولم يقف عند بداياتها، فهاجر وتحمل مفارقة الناس والآراء ومفارقة الجهالات والأخلاق الفاسدة والضلالات والمنكرات، وتحمل كل ذلك في سبيل الله عز وجل، ثم بذل جهده لإعلاء كلمة الدين ونصرة الإسلام، وسعى لكي يبذل ويضحي في سبيل الله عز وجل، وهو مستعد أن يضحي بكل شيء في سبيل الله سبحانه وتعالى، فهذا هو الذي يرجو رحمة الله سبحانه وتعالى. إن النظر فيما ذكر الله سبحانه وتعالى من قصص أنبيائه ورسله من أعظم ما يوقد أنوار الرجاء في قلب العبد المؤمن؛ لأنه يرى كيف كانت سنة الله، وكيف كان فضل الأنبياء، وكيف كان يقينهم مع من معهم من المؤمنين، وكيف كان رجاؤهم في فضل الله! رغم أن كل المعطيات الظاهرة كانت تدعو إلى اليأس كما هذا كثير من المسلمين اليوم، فالكثيرون يشعرون باليأس والحزن العميق؛ لأجل ما أصاب المسلمين وما زال يصيبهم من أنواع البلايا والمحن على أيدي شر خلق الله، على أعدى أعداء الدين من اليهود والنصارى والمشركين والعياذ بالله! ممن يبذل جهده كله في إهانة المسلمين وأذيتهم، ولكن كل هذا في حقيقة الأمر لمن حقق الإيمان مبشرات النصر، وهذه كلها مما يسبب له مزيد الرجاء في قرب الفرج والنصر والتمكين بإذن الله تبارك وتعالى، وإنما هي فترة تمحيص وهداية من هدى الله، وفترة تراكم الظلم والباطل بعضه على بعض، فأنت ترى في كل يوم تميزاً حتى من كان عنده مسألة واحدة من الدين، ربما تجد إنساناً عنده مئات المسائل والمواقف من الباطل، وعنده مسألة واحدة من الدين، فيريد أهل الباطل أن يفارقوه، ويقولون له: إما أن تفارق هذه المسألة وتكون معنا وإما فأنت عدونا وضدنا! والله إن الإنسان ليعجب! أنواع الباطل كثيرة جداً، وكثير جداً من الناس يوافق على الباطل، لكن المحنة تكون حتى على مسألة واحدة يكون الإنسان عليها فضلاً عمن كان عنده أكثر من ذلك، كمن عنده مسائل بفضل الله سبحانه وتعالى وقف فيها في صف الحق؛ فعودي، ومن يقف في صف الحق كاملاً، يقوله كله ويلتزم به كله، فلا شك أنه سوف يعادى أتم معاداة، أما ترى ما كان من معارك هائلة من أجل فتوى مثلاً بمنع مصافحة الأجنبية وتحريم ذلك! وما ترى من معارك من أجل الدعوة مثلاً إلى تحريم السجائر أو تحريم التبرج أو نحو ذلك! ترى عجباً! مجرد فتوى تحارب مع مئات الفتاوى الموافقة للباطل، لكن الحق لا يرضي أكثر الناس، فيسعى هؤلاء في المفاصلة، فأهل الباطل هم الذين يفاصلون، أما ترى غطرسة اليهود وكفرهم وعنادهم؟! لو قدم لهم أعظم التنازلات وأكبر التراجعات لا يقبلون ذلك، كما وصفهم الله: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]، فالقضية واضحة جداً، والغرض المقصود: أن شهود سنة الله سبحانه وتعالى في أنبيائه ورسله يفتح للقلب أنوار الرجاء، وينير القلوب ويمنعها من حصول اليأس الذي هو من الكفر.

قبسات من مواقف نبي الله يوسف عليه السلام

قبسات من مواقف نبي الله يوسف عليه السلام

الشكوى إلى الله سبحانه

الشكوى إلى الله سبحانه نريد أن نقتبس قبسات من هذه الأنوار من مواقف أنبياء الله سبحانه وتعالى متفرقة عبر التاريخ، لكنها تلتقي في هدف واحد، وطريق واحد، وهي أن هذا الرجاء يعظم عندما تكون الأسباب مخالفة، وعندما تنعدم الأسباب الموافقة، وعندما تكون ظواهر الأمور كلها في صالح الأعداء. فلنتأمل في قصة يوسف ويعقوب صلى الله عليهما وسلم، قال الله عز وجل: {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ * قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * يَا بَنِيَ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:84 - 87]، ففي هذه الآيات عدة فوائد ولن نحصيها، أولها: أنه لما ازداد الكرب على يعقوب عليه السلام بعد فقد ابنه الحبيب الذي علم ابتلاء الله عز وجل له، وعلم صفاته المتميزة التي تؤهله لوراثة النبوة، فقده وهو أحب الناس إليه، يحبه لجميع الأوصاف التي فيه، فهو أكرم الناس، وأجمل الناس، والصفات الإيمانية قبل ذلك وبعده متضمنة لكل محبة، وفقده في أشد سن يتعلق فيه الأب بابنه خصوصاً وهو يرى ضعف باقي الأبناء وعجزهم، فتأتيه مصيبة أخرى! فقد بنيامين وفقد كبيرهم الذي قال: {فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي} [يوسف:80]، ثلاثة من أبنائه يبتعدون عن أبيهم، فما تذكر بهذه المصيبة عندما نزلت به إلا أمر يوسف، تذكر المصيبة فكانت الشكوى إلى الله؛ لذلك الشكوى إلى الله عز وجل وبث الحزن إلى الله سبحانه وتعالى من أعظم أسباب تفريج الكروب، الشكوى إلى الله تسمعها في نداء نوح: {رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا} [نوح:5 - 6]، دعاء فيه شكوى إلى الله، وتضرع إلى الله سبحانه وتعالى، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم (يحكي نبياً من الأنبياء ضربه قومه حتى أدموه وهو يقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)، وفي الحديث الآخر: (جعل يمسح الدم عن وجهه ويقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)، الشكوى إلى الله من أعظم العبادات في فترة المحنة، تشكو إلى الله وتقول: يا رب! فعلوا كذا وكذا يا رب! ظلموا وفجروا وكفروا ونافقوا. ويعقوب عليه السلام يشكو إلى الله: {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [يوسف:86]، وهذا الرصيد الهائل في قلب العبد المؤمن يجعله يرجو دائماً ولا يصل أبداً إلى اليأس، بل يزداد رجاءً وإيماناً، (أعلم من الله) أي: من صفاته ومن أسمائه الحسنى، يعلم من أفعاله وسنته الماضية مالا يعلمون، يظنون الأمور تعقدت تعقداً هائلاً لا مخرج منه، أصبح بنيامين عبداً، وذاك الآخر لن يرجع لأنه لن يتمكن من أخذ أخيه، ويوسف قد ضاع من زمن بعيد، فمن أين الحصول على يوسف؟ ولكن يعقوب يشكو إلى الله. فلنكثر من الدعاء والشكوى إلى الله، وهو عز وجل يعلم ما يفعله الكفرة ولسنا بالذين نعلم الله سبحانه وتعالى في دعائنا وشكوانا ما الذي يقع، فإن الله عز وجل أعلم منا ولكن نشكو له تضرعاً وتذللاً، والله يحب أن يسمع منا الشكوى والتضرع إليه سبحانه وتعالى، ويجب أن نظهر حزننا على ما يجري للمسلمين. ثم قال: {يَا بَنِيَ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ} [يوسف:87]، ففيه الأخذ بالأسباب، وقبل أن ننتقل من نقطة الشكوى نقول: الشكوى تكون إلى الله، فمن تشكو؟ أولاً: تشكو إلى الله نفسك الأمارة بالسوء، تشكو إلى الله سبحانه وتعالى أنها لا تطاوعك على ما تريد من طاعة الله حتى يصلحها الله عز وجل لك، وحتى يهيئها لكي تتقبل الخير وتستجيب له وتنتفع به. وتشكو إلى الله عز وجل غيرك ممن ظلم وفجر. وتشكو إلى الله سبحانه وتعالى ما تجد من حولك من فقد المعين على الخير، والمعاون على البر والتقوى، وجلد من ليس بثقة ولا بأمين، تلا عمر رضي الله عنه هذه الآية: {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [يوسف:86]، فسمع نشيجه من آخر المسجد، بكى بكاءً عظيماً، وعمر كان يحمل هم أمة الإسلام، مع أنه رضي الله عنه فتح الأمصار، وفتح الفتوح، ولكن كان يتمنى حجرة مليئة بمثل أبي عبيدة بن الجراح يستعملهم، كان لا يجد من يستعملهم، تخيلوا وضع الصحابة رضي الله عنه ونوعية هؤلاء وعمر يشكو إلى الله يقول: اللهم إليك أشكو ذنب الفاجر، وعجز الثقة! لا يدري من يستعملهم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وكان يتمنى بيتاً مليئاً بالرجال يكفونه تعليم الناس وقيادتهم إلى الخير والجهاد في سبيل الله، ووزن الأمور بالموازين الشرعية، والإفتاء والقضاء والحكم وسائر أنواع الوظائف، عمر في زمنه يشكو، وكيف لا يشكو ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الناس كالإبل المائة تكاد لا تجد فيها راحلة)؟! فإذا كان هذا في زمن الأنبياء وزمن الخلافة الراشدة فما الظن بزمننا عباد الله؟! فنشكو إلى الله أنفسنا أولاً؛ لأنها نفوس فيها ضعف وعجز وتقصير شديد، تحتاج إلى أن يصلحها الله سبحانه وتعالى، ونشكو إلى الله من حولنا ممن معنا وممن علينا، ونشكو إلى الله ونتضرع إليه سبحانه عسى الله عز وجل أن يغيثنا وأن يزيل شكوانا، ومع شدة هذه العبادة ومع الإكثار منها بإذن الله يكون الفرج، وأنت تلمس ذلك.

الأخذ بالأسباب المقدورة

الأخذ بالأسباب المقدورة النقطة الثانية: الأخذ بالأسباب المقدورة، قال: {يَا بَنِيَ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ} [يوسف:87]، والتحسس: هو البحث في الخير، (فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ)، بدأ بيوسف أولاً؛ لأنه الذي شعر بمدى فقده عندما عجز هؤلاء العشرة أن يحفظوا أخاً لهم، وعجزوا أن يعيدوه له رغم الوعود والمواثيق فضلاً عن عجزهم أولاً عن حفظ أخيهم بسبب حسدهم وما كان منهم من خلف الوعد، ومن الغدر وعدم الأمانة وغير ذلك، لكنه ترفق بهم ونصحهم بأن يتحسسوا من يوسف وأخيه، فالأخذ بالأسباب المقدورة أمر عظيم الأهمية في حياتنا، قد تكون الأسباب في أيدينا محدودة، والأسباب في أيدي أعدائنا كبيرة جداً وكثيرة، ولكن لنأخذ بالأسباب المقدورة لنا، فإن هذا بإذن الله تبارك وتعالى يكون من أعظم أسباب الرجاء والبعد عن اليأس، ومن أعظم أسباب الفرج بإذن الله تبارك وتعالى، فالتحسس: البحث عن الخير، أن تبحث وتجتهد فيما تحت يدك. وبالفعل انطلق هؤلاء الأبناء، وجعل الله الفرج كاملاً في لحظة بفضله عز وجل، قال: ((وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ)) لا تيئسوا من إراحته ورحمته عز وجل، فالله سبحانه وتعالى يرحم من يشاء، ويجعل الروح والراحة والإراحة من عنده سبحانه وتعالى في أي وقت يشاء، قال تعالى: ((إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ))، إن اليأس والقنوط من رحمة الله سبحانه وتعالى من الكفر، ولذا قال صاحب الطحاوية: والأمن والإياس ينقلان عن ملة الإسلام يعني الأمن من مكر الله، واليأس من رحمة الله، فالمؤمن موقن بصفات الله، ويوقن أنه الرحمن الرحيم، فكيف ييئس من رحمته وقد علم أن الله ادخر عنده تسعة وتسعين رحمة ليوم القيامة، وأنزل رحمة وزعها على الخلق، فبها تتراحم الخلائق، وبها ترفع الدابة حافرها عن ولدها، فكيف ييئسو من هذه الرحمة الواسعة؟! الله عز وجل أرحم الراحمين، فاليأس من رحمة الله سبحانه وتعالى، والإلقاء باليد يأساً من الفرج؛ هو من الكفر والعياذ بالله، ومن أعظم أسباب الخذلان، قال تعالى: ((وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ)). ذهبوا إلى يوسف وقد أصابهم نوع من الذل، وانكسروا له وهم لا يدرون، قال الله: {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ} [يوسف:88]، انظر كيف كانوا يهينونه عندما ألقوه في البئر، واليوم يقفون منكسرين يقولون: ((يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ))، إنها عزة والله، أعزه الله، وليس هذا مجرد اسم فقط، لكن أعزه الله فوقهم، يقولون: {مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ} [يوسف:88]، حصل فقر شديد، وحاجة شديدة، وجاءوا ببضاعة بائرة، بضاعة لا تستحق أن تشترى، يعلمون أن بضاعتهم مزجاة، ومع ذلك يرجون الفضل، {فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} [يوسف:88]، لسنا بالذين نجزيك، فنحن لا نستطيع أن نجزيك، وهنا ظهر الكرم الحقيقي، وظهرت الرحمة والشفقة، وظهرت الخصال الحميدة التي كانت مقتضية بتفضيله عليهم فعلاً، والتي لمحها يعقوب قديماً، وأخبر يوسف أنه مجتبا ًمن عند الله، {قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ * قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ} [يوسف:89 - 90]، كشف يوسف عن نفسه، وبين لهم أنه يوسف؛ فكان الفرج من جميع الجهات، ظهر يوسف، وظهر بنيامين، وظهر الثالث، وعادوا جميعاً، وعاد ليعقوب بصره، واجتمع شمل هذه الأسرة بفضل الله سبحانه وتعالى، جاء فضل الله وفرجه بالصبر وعدم اليأس من رحمته، وكلما ازداد الضيق اقترب الفرج، أول ما سمع يعقوب بأخذ بنيامين قال: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا} [يوسف:83]، وذلك لماذا؟ {إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف:83]، وهكذا كان فعلاً ما توقعه يعقوب، وعسى من الله سبحانه وتعالى واجبة، وهو رجاها بفضل الله، فهذا نبي رجا من الله سبحانه وتعالى، وحصل له الرجاء عندما اشتد الكرب، فعندما يشتد الكرب يعظم الرجاء عند أهل الإيمان؛ لأنهم يعلمون أن الله هو العليم الحكيم. وهذا من تحقيق الإيمان بأسماء الله وصفاته، فشهود آثار هذه الأسماء والصفات وأفعال الرب سبحانه وتعالى التي يرى العبد آثارها وتأثيرها في هذا الكون؛ يجعله يعظم الرجاء عند الله سبحانه وتعالى. قال تعالى: {قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ * قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:90 - 92]، أي كرم هذا؟! ونحن نرجو من الله عز وجل أكرم الأكرمين أكثر مما رجاه إخوة يوسف من أخيهم عندما استكانوا له وذلوا، ونحن قد أصابنا وأمتنا الضر، وجئنا بأعمال وصفات مزجاة، أعمالنا مزجاة لا تستحق أن تقبل، دعواتنا وعبادتنا وصفاتنا لا تؤهلنا لشيء، أعمالنا مزجاة، وجئنا بأعمال مزجاة، بضاعتنا لا تصلح أن يشتريها الرب سبحانه وتعالى إلا بكرمه، فنسأله أن يقبل منا ما لا يستحق القبول، وأن يمن علينا بفضله وهو أكرم الأكرمين سبحانه وتعالى، وإنما كرم الكرماء في الدنيا أثر من كرمه عز وجل، ولولا أنه الكريم لما وجد كرم في الدنيا، الكرم المخلوق في قلوب العباد إنما هو أثر من آثار اتصاف الرب سبحانه وتعالى بالكرم الذي هو صفته عز وجل، فالكريم هو الله سبحانه وتعالى؛ لذا نرجو الله عز وجل أن يمن علينا بفضله، وأن يتكرم علينا بأن يقبلنا رغم أننا لا نستحق القبول، وأن ينصرنا رغم أننا لا نستحق النصر.

قبسات من مواقف نبي الله موسى عليه السلام

قبسات من مواقف نبي الله موسى عليه السلام موقف آخر نستحضره جيداً ونحن في هذه الأيام المباركة من شهر الله المحرم حول عاشوراء، ذكر الله سبحانه في قصة موسى في سورة الأعراف تقتيل فرعون للسحرة ظلماً وعدواناً وتجبراً وطغياناً، ومعاندة للحق بعدما ظهرت الآيات الحسية بعد الآيات الفطرية العقلية، وأقر السحرة بعجزهم، بل وأعلنوا إيمانهم، وإذا بفرعون يلفق لهم تهمة يخترعها على الفور، فهو أستاذ في الاختراع، اخترع التهمة في مجلسه مع أنه الذي جمع السحرة على عينه وأتوه {بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ} [الشعراء:37]، أتى بكل السحرة، فهو الذي جمعهم ومع ذلك قال: {إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف:123]، كان الجزاء هو التقتيل والتقطيع، تقطيع الأيدي والأرجل، والصلب على جذوع النخل، وكان من السحرة الرضا بالله عز وجل والتضحية بما كان أغلى شيء عندهم، التضحية بالأنفس وبالأموال وبالمنزلة، ضحوا بكل شيء، {قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ * وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [الأعراف:125 - 126]، كانوا في أول النهار سحرة، وفي آخر النهار شهداء بررة، قال الله عز وجل في سورة الأعراف بعد أن ذكر هذا الأمر الفظيع من فرعون ومن قومه الذين رأوا بأنفسهم الآية ومع ذلك قتلوا السحرة: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ * قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:127 - 129].

إمهال الله لفرعون وجنوده

إمهال الله لفرعون وجنوده أولاً: ننظر إلى إمهال الله عز وجل لفرعون وجنده، كم أمهلهم سبحانه وتعالى مع الظلم والطغيان؟! ما أكثر ما نستعجل! نقول: قد ظلموا قد قتلوا قد سفكوا الدماء قد كفروا قد فجروا قد نافقوا فلماذا يتركهم الله؟ وأين المصائب والأيام السوداء التي تنزل عليهم؟! قد يقول كثير منا ذلك، تأمل قصة فرعون لتعلم سنة الله سبحانه وتعالى، لتعلم كيف يمهل الله عز وجل الأمم رغم طغيانها، والله إن موقف فرعون وجنوده في قتل السحرة أمر عظيم خطير جداً، أمر في منتهى الظلم، ويبقى موسى عليه السلام لا يصنع شيئاً إلا الدعوة إلى الله، فيقول الملأ السادة والكبراء من قوم فرعون يحثونه على الاستمرار في الأذى: {أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ} [الأعراف:127] يعني: أتتركهم؟! {أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [الأعراف:127]، يسمون فعل موسى فساداً في الأرض، وهم من سفك الدماء وقتل الأولاد الرضع واستحيا النساء بالظلم والعدوان لمجرد أنهم من طائفة أخرى غير الطائفة التي ينتمي إليها فرعون والعياذ بالله! ظلم بين، فساد فظيع، ولكن: (رمتني بدائها وانسلت) كما يفعل فراعنة الزمان من اليهود والأمريكان وغيرهم ممن يرمون المسلمين بأنهم الذين يفسدون في الأرض، وبأنهم أهل الباطل والإرهاب وغير ذلك، مع أنهم والله يفعلون بشعوب الأرض جميعاً أنواعاً من الإفساد لا تتصور، فضلاً عن المسلمين، لو خدش واحد منهم قامت الدنيا ولم تقعد، وأما إذا ذبح أولاد المسلمين، وقتل أطفالهم، ورملت نساؤهم، بل وانتهكت أعراض نسائهم؛ فهذا عندهم أمر عادي! يحرق مئات المسلمين في غداة واحدة والعالم كله لا يحرك ساكناً، ما المشكلة؟! بعض المسلمين احترقوا أحياءً فما عندهم إلا مجرد آهات التأسف! والحقيقة مزيد من التمكين لعباد الأبقار والعياذ بالله لكي يتمكنوا من رقاب المسلمين، سبحان الله! لكن لو تأملت هذه المواقف بالنسبة إلى ما فعله فرعون، وأن الله أمهله مدة بعد هذه الواقعة، لو كان الواحد منا في مثل ذلك الموقف سيقول: الآن ينزل به العذاب بعد أن فعل بالسحرة ما فعل، وبعد أن أعرض عن الآيات، وبعد أن أقيمت عليه الحجة من كل وجه، ومع ذلك فهو مستمر على المعاندة، بل ومستمر على زيادة الأذى، وقومه لا يتعظون، قوم في منتهى العجب! قوم مستخفون فهم الذين يحثونه، له أعوان ومرغبون في مزيد من سفك الدماء، {أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ} [الأعراف:127]، فما هو الفساد الذي يقوم به موسى وقومه؟! إنه الدعوة إلى الله عز وجل، فهم يقولون: لابد أن توقفهم عند حدهم، لكن فرعون واضح جداً أنه لا يقدر على مواجهة المسلمين، لكنه اتهمهم بأنه يوجد انقلاب ومكر مكروه في المدينة، وزعيم الانقلاب موسى عليه السلام، {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} [طه:71]، وكان المفروض أو أول من ينزل به البأس زعيم الانقلاب، فكان هو أول من يقتل ويصلب، لكنه كان يخاف من موسى فعلاً بشيء قذفه الله في قلبه وليس من عند أحد، ولا بالأسباب، ولذلك تجده يتحاشى موسى دائماً قالوا: {أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ} [الأعراف:127] {قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ} [الأعراف:127]، لماذا لا تبدأ بموسى أولاً؟ هم يقولون له: موسى، قال لهم: {سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف:127]، فأمر بقتل الأبناء، وهو لا يقدر إلا على هؤلاء، وكان لا يقدر على موسى؛ لأن الله عصمه؛ لأن الله كف يده سبحانه وتعالى، ولابد أن تلحظ أن موسى اعتصم بالله قال: {وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} [غافر:27]، هو قال: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} [غافر:26]، هم يقولون له: اقتله! لابد أن تعمل لهم شيئاً، {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى} [غافر:26]، ومن كان يمنعه؟! إنه الله عز وجل؛ لأنه استجار بالله، فلتكن استجارتنا بالله، اللهم إنا نعوذ بك، يا ربنا ورب كل شيء {مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} [غافر:27]. قال سبحانه وتعالى عن فرعون: {قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} [الأعراف:127]، هل عند المجرمين طريق آخر غير البطش؟ ليس عندهم إلا ذلك، كم استمر فرعون يقتل الأبناء ويستحيي النساء؟ استمر على الأقل أربعين سنة؛ لأن تقتيل الأبناء واستحياء النساء كان قبل ولادة موسى صلى الله عليه وسلم، وموسى بلغ أشده، ووقعت الواقعة التي جعلته يهاجر إلى مدين وبقي هناك عشر سنين، وعاد، ووقعت المحاورات مدة طويلة من الزمن، وكل ذلك وتذبيح الأولاد مستمر {سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف:127]، وهذا من غرور فرعون فليس للطغاة سبيل إلا البطش والتنكيل، ولكنها وسيلة لا تفلح، يقيناً أنها لا تفلح، ولا تحسم مسائل صراع المناهج والملل والأديان مسألة سفك الدماء وقتل الأولاد واستحياء النساء للإهانة والإذلال، فهذه وسائل لا تفلح. اللهم ألف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، وانصرنا على عدوك وعدونا. اللهم أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، وانصرنا على من بغى علينا. اللهم اجعلنا لك شكارين، لك ذكارين، لك رهابين، لك مطواعين، إليك منيبين مخبتين. اللهم تقبل توبتنا، واغفر حوبتنا، وثبت حجتنا، وأجب دعوتنا، واهد قلوبنا، وثبت ألسنتنا، واسلل سخائم صدورنا. اللهم انصر عبادك المستضعفين في كل مكان، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم انصر المسلمين في فلسطين والشيشان، وفي كشمير وأفغانستان، اللهم اربط على قلوبهم، اللهم ثبت أقدامهم، اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم، اللهم أطعمهم من جوع، وآمنهم من خوف. ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، سريع الحساب، اهزمهم وانصرنا عليهم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

توبة صادقة

توبة صادقة إن فضل العلم على العبادة كبير، بل إن العبادة لا تكون صحيحة ومقبولة إلا بشيء من العلم. فكم من عابد جاهل جر على نفسه الويلات، كما وقع لهذا العابد الذي أفتى هذا القاتل بعدم قبول توبته. وكم من عابد عبد الله على جهل فكانت عبادته تعب ونصب بلا أرب، فلابد من العلم حتى يكون الإنسان على بصيرة فيما يأتي ويذر.

عظم القتل وجعله من الكبائر

عظم القتل وجعله من الكبائر الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم. أما بعد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفساً، فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل راهب، فأتاه فسأله فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفساً فهل له من توبة؟ قال: لا، فقتله، فكمل به مائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل عالم، فأتاه فسأله فقال: إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ قال: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة، فانطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها قوماً يعبدون الله فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك؛ فإنها أرض سوء، فانطلق حتى إذا انتصف الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: إنه جاء تائباً مقبلاً بقلبه إلى الله عز وجل، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيراً قط، فأرسل الله إليهم ملكاً في صورة آدمي فجعلوه بينهم -أي: حكماً- فقال: قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهن كان أقرب فاجعلوه من أهلها، فقاسوا فوجدوه أقرب إلى الأرض التي أراد -وهي القرية الصالحة- بشبر، فقبضته ملائكة الرحمة). وفي رواية: (فأوحى الله إلى هذه -أي: القرية الفاسدة- أن تباعدي، وإلى هذه أن تقاربي، فقاسوه فوجدوه أقرب إلى القرية الصالحة، فقبضته ملائكة الرحمة)، وفي رواية أيضاً في الصحيح: (أنه لما أتاه الموت ناء بصدره -أي: مال بصدره- جهة القرية الصالحة)، مال مقدار الشبر. هذه القصة عظيمة فيها من العظات والعبر ما نحتاج إلى أن نقف معها للتدبر والتأمل، فقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفساً)، والنفس الواحدة قتلها ذنب عظيم، قال عز وجل: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:32]. فهذا الذنب العظيم الذي هو قتل الناس جميعاً وقع هنا مضاعفاً تسعة وتسعين مرة نعوذ بالله، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزال المرء في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً)، أي: لا يزال في سعة ولا يزال الطريق واسعاً أمامه ما لم يصب دماً حراماً والعياذ بالله.

توجيه كلام ابن عباس في عدم توبة القاتل

توجيه كلام ابن عباس في عدم توبة القاتل وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: (إن الله عز وجل لم يجعل لقاتل المؤمن عمداً من توبة) يعني: بذلك أن تلغي عليه جميع التبعات، وتلغي عنه كل الحقوق، فإن قاتل النفس بغير حق عليه حق لله، وعليه حق للقتيل، وعليه حق لأولياء القتيل، وكل حق لابد أن يؤدى، ولا شك أن التوبة كما دل عليه هذا الحديث تجب الحق الذي بينه وبين الله، وأما أولياء القتيل فحقهم في شرعنا أن يسلم إليهم نفسه ويمكنهم، فإما أن يقتصوا، وإما أن يقبلوا الدية، وإما أن يعفو، وأما حق القتيل نفسه فهذا يجب أن يقتص منه يوم القيامة. وجعل الله سبحانه وتعالى حقوق العباد لابد فيها من أن يقتص من أهلها أو ممن أتى عليها يوم القيامة، إلا أن يشاء الله سبحانه وتعالى أن يعفو عن هذا القاتل فيرضي القتيل من عنده حتى يعفو عنه في الآخرة، وربما عفا عنه أهل القتيل في الدنيا فتظل توبة القاتل معلقة بما شاء الله سبحانه وتعالى أن يفعله. وحقوق العباد أعظم الحقوق؛ ولذلك فتوبة الظالم، وتوبة المغتصب، وتوبة آخذ المال بغير حق، وتوبة الضارب وسافك الدم كل هؤلاء لا تتم توبتهم إلا بمسامحة المظلوم؛ لأن حقوق العباد مبناها على المشاحة ولابد أن تؤدى الحقوق إلى أهلها قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لتؤدن الحقوق إلى أهلها حتى إنه ليقاد للشاة القرناء من الشاة الجلحاء)، فإذا كان بين البهائم قصاص فلابد أن يكون هناك بين البشر كذلك إلا ما شاء الله أن يعفو المظلوم عن الظالم.

الأعمال بخواتيمها

الأعمال بخواتيمها فهذا الرجل قتل تسعة وتسعين نفساً إلا أن الله عز وجل أراد له خاتمة السعادة فقذف في قلبه حب التوبة، وكان ذلك قبيل موته، وبدون مقدمات يعلمها فقد كان في كامل قوته وفي عنفوان شدته، وهو ما زال على عادته من الاستهتار بسفك الدماء، وربما غاضه الإنسان بكلمة فقتله، ولكن حسن الخاتمة كانت له عند الله سبحانه وتعالى، وهذا يدفعنا دائماً إلى ألا نُيئس أحداً من رحمة الله، وأن نعلم أن الأعمال بالخواتيم، وأنها بيد الله سبحانه وتعالى، فأنت لا تدري هذا الذي يفعل كل هذه المعاصي، أو كل هذه الفواحش ما تكون خاتمته فلعله كتبت له خاتمة السعادة، ويختم له بعمل صالح حتى ولو كان بقلبه دون جوارحه، فيموت عليه فيقبل الله عز وجل منه، ولذا لا تحكم على الناس بجنة ولا بنار، وإياك أن تقول لأحد: لا يغفر الله لك، وإياك أن تقول: هلك الناس، فالله أعلم، وبهم هو سبحانه وتعالى الشكور الذي يشكر القليل من العمل، ويغفر الكثير من الزلل، وهو سبحانه وتعالى الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات. فهذه بغي من بغايا بني إسرائيل سقت كلباً فشكر الله لها فغفر لها، وهذا رجل نحى غصناً من شوك عن طريق المسلمين فدخل به الجنة، فشكر الله له فغفر له فأدخله الجنة. ورحمة الله واسعة فتسعة وتسعين رحمة مدخرة ليوم القيامة، وأنزل عز وجل رحمة واحدة بها تتراحم الخلائق، وبها ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه، فادخر سبحانه تسعة وتسعين رحمة إلى يوم القيامة، فأنت لا تدري ماذا يكون حال الناس! ولذا لا تحتقر أحداً وأنت تدعوه إلى التوبة، بل تدعوه وأنت محب مشفق ناصح أمين، ولا تنظر إليه بعين الاستعلاء؛ لأنك لا تدري بما يختم لك وبما يختم له، فالله سبحانه وتعالى هو الذي يجب أن يتعلق برجائه قلبك، وهو سبحانه وتعالى الذي تجعله أملك، وهو سبحانه وتعالى الذي ترجوه ليوم فاقتك وحاجتك، فلا تعتمد على عملك بل عليك أن تتوكل على الله سبحانه وتعالى، فالله قذف في قلب هذا العبد البحث عن التوبة، وكان السؤال في موضعه فقد سأل عن أعلم أهل الأرض.

الواجب على الشخص إذا أراد السؤال عن دينه

الواجب على الشخص إذا أراد السؤال عن دينه فالواجب أن يسأل الإنسان عن العلماء؛ ليرشدوه إلى طريق الصواب، والأفضل أن يسأل عن الأعلم، وهذا عند الناس ربما يكون بناء على الشهرة بالعبادة أو الوعظ أو غير ذلك، فأفتاه الناس بأن أعلم أهل الأرض هذا الرجل الراهب المتعبد الذي بلغ من صيته في الزهد والعبادة ما بلغ، حتى قال الناس عنه: إنه أعلم أهل الأرض، وهذا يدل على أن كلمة أعلم أهل الأرض يخطئ فيها كثير من الناس، ولا يدرون كيف يزنون العلم والعبادة والزهد والورع ونحو ذلك. ولذلك أفتوه أن هذا الرجل هو أعلم أهل الأرض، وإذا كان الأمر في ذلك الزمان والناس قلة ففي زماننا أولى بألا ندري من هو أعلم أهل الأرض، فالله عز وجل أعلم بعباده، وهو سبحانه وتعالى مطلع على قلوبهم وعلومهم وأعمالهم. فدله الناس على الراهب؛ لأنهم كما ذكرنا يخلطون بين العلم والعبادة ولا يميزون بين موضع كل منهما، وفضل العالم على العابد كفضل الرسول صلى الله عليه وسلم على أدنى أصحابه، وفضل العلم أفضل من فضل العبادة كما دلت عليه هذه القصة العظيمة، قال: (فدل على الرجل الراهب فأتاه فسأله فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفساً فهل له من توبة؟ فقال: لا)، فهذا الرجل قتال شديد الغضب، شديد البطش، والرجل الراهب يظن أن الجرأة والشجاعة في أن يواجه هذا الرجل بأنه ليست له توبة، وهذا من قلة علمه أو من جهله؛ لأنه أولاً أفتاه فتوى باطلة، وكم من عابد أو زاهد يظن بنفسه لكلام الناس عليه أنه من أهل العلم، وهذا خطر عظيم، فليس بمجرد أن يكون الإنسان زاهداً في الدنيا، أو متعبداً، أو حتى واعظاً ومذكراً، أو أن يكون خطيباً مفوهاً، أو أن يكون داعياً إلى طريق الحق أن ذلك يقتضي أن يكون عالماً يفتي الناس.

التحذير من التجرؤ على الفتوى بغير علم

التحذير من التجرؤ على الفتوى بغير علم وأكثر الناس يختلط عليهم الأمر ومن ضمن من اختلط عليهم الأمر هذا الراهب نفسه، فقد صدق مقولة الناس عنه: أنه أعلم أهل الأرض، وخدعوه بقولهم: إنه أعلم أهل الأرض، فتجرأ على الفتوى بغير علم، ولم يكن ذلك في شريعتهم ولكنها الجرأة على الفتوى، وهذا أمر منكر حذر منه أهل العلم، وحذر النبي صلى الله عليه وسلم من الفتوى بغير علم فقال: (إن الله لا ينزع العلم بعد إذ أعطاكموه انتزاعاً ولكن ينزعه بقبض العلماء، فإذا قبض العلماء اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا). ولابد أن تكون منتبهاً فإياك أن تظن نفسك حين تعظ الناس وتذكرهم أنك بذلك بلغت منازل العلماء، أو أنك تتجرأ على الفتوى بمجرد ذلك، ولربما سألك الناس وأحرجوك في السؤال، فإياك أن تترك: لا أدري، وإياك أن تخجل منها، وإياك أن تستحي أن تقول: لا أدري، فأكابر العلماء كانوا إذا سئلوا عما لا يعلمون قال أحدهم: لا أدري، وكانوا يقولون: إن نصف العلم (لا أدري)، وكانوا يلقنون أبناءهم وتلامذتهم (لا أدري)، وجاء رجل إلى الإمام مالك فسأله عن مسائل فأجابه عن أربعة من نحو بضع وثلاثين مسألة والباقي قال: لا أدري، فقال: إذا كنت أنت لا تدري فماذا أقول للناس؟ قال: أبلغ من وراءك أني لا أدري، اذهب وانشر في المشارق والمغارب أن مالك بن أنس عالم دار الهجرة لا يدري، أيدخل الناس الجنة على أجسادنا التي تذهب إلى النار؟! فإياك أن تظن أنك إذا وعظت الناس أو ذكرتهم، أو أنك قرأت بعض المسائل أو حتى أتقنتها أنك صرت بذلك -كما يخدع الناس به الكثيرين- عالماً، فالعلم لابد أن يكون بالبينة من الكتاب والسنة في كل مسألة تتكلم فيها، وتعلم أنك قد أحطت بما ورد في هذا الباب من كتاب الله، وتعلم عامه وخاصه، ومطلقه ومقيده، ومجمله ومبينه، وناسخه ومنسوخه في هذا الباب الذي تتكلم فيه، وتفهم تفسير الآيات ومعانيها وما تكلم السلف فيها من الأحكام، ثم تعرف ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الأحاديث الثابتة الصحيحة، وتعرف ما تثبت به صحة الحديث، ووجوه الجمع بينها، وكذلك معرفة القواعد التي يستدل بها على خاصها وعامها، ومطلقها ومقيدها، وناسخها ومنسوخها كما في القرآن، ثم تعلم هل أجمع العلماء في هذه المسألة أم اختلفوا؟ وإذا كانوا قد اختلفوا فعلى أي شيء يكون الترجيح فيما بينهم؟ ولابد من معرفة طرق القياس الصحيح وما ينقض به وما يرد به عليه؛ حتى لا تقيس قياساً فاسداً وأنت تظنه قياساً صحيحاً، فهذا لابد منه للعالم فضلاً عن مصادر الاستدلال الأخرى التي قد تحوجه الفتوى إلى استعمالها.

الحرص على ألا تكون التضحية في غير موضعها

الحرص على ألا تكون التضحية في غير موضعها والمقصود أن هذا الرجل كان قليل العلم، وكان يظن أن الجرأة في الحق هي أن يواجه هذا الرجل القاتل بمثل هذه الفتوى التي سوف تزيده غضباً، وكم من الناس له هذه الصفة! فيتجرأ على ما لا ينبغي أن يتجرأ عليه، ويضحي بنفسه ويظن أنه يضحي بها في سبيل الله، وهو إنما هو رجل جاهل يقود غيره إلى الجهل والضلال أيضاً، فليحذر على نفسه من ذلك، وليحذر كل امرئ منا على نفسه من أن تكون تضحياته في غير موضعها، ولا شك أن هذا الرجل الراهب علم أن هذا الرجل قد قتل تسعة وتسعين نفساً، ولا شك أنه يعلم صفة مثل هؤلاء الناس الذين كثر منهم القتل، ومع ذلك ما استعمل معه تقية، وما استعمل معه مداراة، ولا استعمل معه حسن الحديث، وإنما واجهه وظن أن ذلك هو الحق، وهذا كان من الباطل، فلما قال له: لا، غاظه بلا شك فقتله فكمل به المائة كما هو متوقع، فهذا رجل قتال للنفوس وهذا يقول له: ليست لك توبة، إذاً: فلتكن مائة بدلاً من تسعة وتسعين، وسبحان الله! ما زال في قلبه حب التوبة، وما زال الأمر يقذف في قلبه مرة بعد مرة، ولم ييئس هذا الرجل، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض وكأنه شعر أن هذا الرجل ليس بعالم، فسبحان الله! رجل بهذه المثابة والله عز وجل يقذف في قلبه ما شاء سبحانه وتعالى من التوجه إليه. وأما هذا الذي أفتاه فليس بعالم فعلاً، فسبحان الله مقلب القلوب وخالق الإرادات! وهو سبحانه وتعالى يوجه وجهة قلوب العباد إليه. ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل هذه المرة على رجل عالم، فأتاه. إذاً: ينبغي أن يتحرى الإنسان وأن يأتي العلماء ويجالسهم ويسألهم، كما قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، فقال له: إنه قتل مائة نفس، وكلها قتلها بالظلم، وحتى هذا الرجل الأخير وإن أفتى بالباطل فليس عقابه أن يقتل؛ لأنه أفتى فتوى باطلة، فلا يقتل، ومع أنه رجل راهب عابد لكن انظر إلى فضل العلم على العبادة، قال: ومن يحول بينك وبين التوبة؟! واستدل به العلماء على قبول توبة القاتل. وذلك أن أمتنا أشرف عند الله عز وجل من أمة بني إسرائيل، فإذا كان ذنبهم عظيماً وعليهم الآصار والأغلال، ومن قتل مائة نفس لم يحل بينه وبين التوبة، فكذلك في أمتنا، ولذلك قلنا أن التأويل الصحيح لكلام ابن عباس على عدم قبول توبة القاتل: أن الله لم يجعل لقاتل المؤمن عمداً توبة مستدلاً بآية سورة النساء: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء:93]. فهذا في التوبة التي تعفيه من جميع المسئوليات، بل يبقى حق القتيل وإذا شاء الله أن يرضيه يوم القيامة من عنده أرضاه.

ما يحتاج إليه المفتي عند إفتائه

ما يحتاج إليه المفتي عند إفتائه قال له: ومن يحول بينك وبين التوبة؟! انطلق إلى أرض كذا وكذا، وهذا يدل أنه رجل فقيه فعلاً، فلم يرشده فقط أن التوبة تقبل ثم يتركه في البيئة المجرمة التي تركته يسفك الدماء بهذه الطريقة، وسكتت عنه طيلة هذه المدة، بل ينقله إلى بيئة جديدة، فإنه لابد من تغيير، ولابد من صحبة أخرى، ولابد من قرناء آخرين، بل لابد من بلد ودار أخرى حتى يتغير سلوك هذا الرجل، فدل كلامه على أنه رجل فقيه ليس فقط بالأحكام الشرعية الظاهرة، بل بأحوال القلوب أيضاً، فمن علامات قبول التوبة -وبعض العلماء يجعلها ضمن الشروط والصحيح أنها من علامات قبولها-: أن تبدل السيئات حسنات، وأن يعمل بعد توبته بالحسنات والعبادات والخيرات بدلاً من السيئات التي كان يعملها.

فضل الصحبة الصالحة في التثبيت على الطاعة

فضل الصحبة الصالحة في التثبيت على الطاعة فقد أرشده إلى أن يغير صحبته، وهذا من أعظم ما يحتاج إليه التائب والسالك إلى الله عز وجل، فعليه أن يبحث عن قوم يعبدون الله فيعبد الله معهم، ولا يرجع إلى أصحابه أصحاب السوء، فإن ذلك من أعظم ما يعينه على التخلص مما كان فيه من الذنوب ومن العودة إليها مرة ثانية، فأرض سوء تلك التي تتركك تعمل السيئات وتعينك عليها وتحثك عليها، وكم من ملتزم أعلمه ترك الالتزام بسبب العودة إلى قرناء السوء، وأن أصحابه الذين كان معهم في جهله وظلمه وذنوبه ومعاصيه عادوا إلى صداقته مرة أخرى، فحثوه على المعاصي والفساد فرجع مرة أخرى إلى الذنوب، وكم من أخ ملتزم كريم كان سبب التزامه رفقة صالحة وأصحاب أعانوه على طاعة الله وعبادة الله عز وجل معهم، وهذا ليس بالرياء بل هو من التعاون على البر والتقوى، فإن النفوس تتشجع لوجودها مع بعضها، وإن من عادة الإنسان أنه مدني يقلد من حوله فأكثر الناس يقلدون في الشر، وقلة منهم من تقلد في الخير، وأما أفذاذ العالم فهم الذين لا يحتاجون ولا يعنيهم أمر الرفقة اكتفاء بمن كان قبلهم، وربما اكتفاء بمن هو دونهم، ونحن نعلم أن أمر الرفقة أمر مهم عظيم الأهمية. فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهو خير خلق الله على الإطلاق، يأمره الله بأن يلزم أصحابه قال: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28]، والرسول صلى الله عليه وآله وسلم هو أستاذ هؤلاء الصحابة فهو الذي علمهم، وهو الذي هداهم الله عز وجل به، وهو الذي أرشدهم إلى طريق الصواب ومع ذلك فهو يحتاج إلى أن يصبر نفسه معهم، ولا يعني ذلك أنه لا يلتزم بدونهم، ولكن رفقة الصالحين مطلوبة ولو كانوا دونك في المنزلة، فأنت تحتاج إلى أصحابك في الخير وإخوانك في الله ولو كنت أفضل منهم والرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول في مرض موته آخر ما قاله عليه الصلاة والسلام: (اللهم! في الرفيق الأعلى). ويقول الخليل عليه الصلاة والسلام كما حكى الله عنه بقوله: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [الشعراء:83]، ويقول يوسف عليه السلام كما قال الله: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:101]، وذلك أن صحبة الصالحين نعيم في الدنيا والآخرة، وصحبة الظالمين والفاسقين والكافرين عذاب في الدنيا والآخرة، فصحبة أهل الفساد عذاب للإنسان، ومجرد النظر في وجوه الظلمة أو سماع كلامهم، أو النظر في وجوه الفسقة والفجرة يصيب الإنسان بالهم والكرب، ويصيبه بالضيق ولا يدري من أين يأتيه الضيق، بل لولا الضرورة من صحبة هؤلاء لمحاولة أداء فرض الله سبحانه وتعالى بإصلاح وجه الأرض وملئه بالخير لما استطاع المؤمن أن ينظر في وجوه الظالمين، ولا أن ينظر في وجوه الفاسقين ولا أن يصحبهم فضلاً عن الكافرين، ولذلك بلاء أن يعيش الإنسان في وسط قوم كافرين. وانظر إلى قول الله عز وجل عن بلقيس: {وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ} [النمل:43]، ولذلك أقول لكثير من إخواننا الذين أملهم في الدنيا أن يسافروا إلى بلاد الكفار لكي ينالوا شيئاً من الدنيا إن ذلك لعذاب، فلا تظن أن هذه الدنيا التي تحصلها سوف تسعدك بل النظر في وجوه هؤلاء القوم خصوصاً الذين جمعوا بين الكفر والفاحشة -والعياذ بالله- وعدم عفة الفروج من أعظم أسباب البلاء، وأم جريج دعت على ابنها عندما لم يجبها ثلاث مرات عندما أتته وكان يصلي النافلة فقال: يا رب! أمي وصلاتي، فأكمل صلاته حتى ملت وانصرفت، فكرر ذلك ثلاث مرات، وكان الذي ينبغي عليه أن يخرج من صلاة النافلة لكي لا يؤذي أمه حيث لم يرد عليها. والمقصود أنها دعت عليه فقالت: (اللهم! لا تمته حتى ينظر في وجوه المومسات)، وكانت رحيمة به فلم تقل حتى يواقع المومسات مثلاً ولا حتى يعاشرهن، وإنما ينظر في وجوههن فقط، وكان نظر جريج في وجوه المومسات كنظر مضطر مكروب يريد أن يتخلص من المصيبة التي أتته به هذه المومسة، وكانت امرأة بغي من بغايا بني إسرائيل سمعت الناس يذكرون عن عبادة جريج، فتعهدت بإغوائه، فعرضت نفسها عليه وتصنعت له فلم يلتفت إليها، فإذا كان لم يلتفت إلى أمه فهو لم يلتفت إلى البغي، فأتت راعي غنم فمكنته من نفسها فحملت منه زناً -والعياذ بالله- ثم وضعت مولودها وأتت به بني إسرائيل وقالت: هذا من جريج، فأتوا صومعته يضربونه ويشتمونه وهدموا الصومعة التي كان يعبد الله عز وجل فيها، فقال: ما شأنكم؟ قالوا: زنيت بهذه المرأة -وهم فرحون فقد كانوا يتمنون هذه الزلة له كما يتمنى أهل الفواحش دائماً للإخوة الزلات- فقالوا: زنيت بهذه المرأة، فقال: دعوني أصلي، وكان في كرب عظيم؛ فقد كانت المصيبة التي أصيب بها أنه متهم بالزنا وأن هذا الولد ابنه من الزنا، فصلى ثم طعن في بطن الصبي الرضيع وقال: يا غلام! من أبوك؟ فأنطق الله الصبي فقال: أبي الراعي فلان، فجعلوا يقبلون يديه ورجليه وقالوا: نبني لك صومعتك من ذهب، فقال: أعيدوها من طين كما كانت. فانظر إلى هذه الدعوة التي دعتها عليه أمه: أن ينظر في وجوه المومسات، فنظر إليها مضطر لكي يبرأ نفسه، فسبحان الله! وقعت الدعوة واستجيب النداء، وهذا عذاب على الإنسان فما بالكم بمن ينظر إلى وجوه المومسات مسروراً مبتهجاً ينتظر الصورة الآتية، وينتظر أن تزداد عرياً وفحشاً -والعياذ بالله- ويبحث في القنوات المختلفة والأطباق التي تأتي بهذه الصور من المشارق والمغارب، والمصيبة أن هذه الفواحش تؤتى علانية كما قال الله: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} [النمل:54]-والعياذ بالله-. فهذا حال من ينظر إلى المومسات، بل إلى الوجه فقط مما يجوز كشفه عند كثير من أهل العلم، فما بال من ينظر إلى ما هو أسوأ من ذلك من أبدانهن، فما بال من ينظر إلى الفروج -والعياذ بالله- نظر تحريم، فما بال من يأتي الفواحش فهذه مصيبة، وكما قلنا: مجرد صحبة أهل الفساد، والنظر في وجوه أهل الظلم تقسي القلب، إلا أن يكون ذلك لغرض شرعي صحيح كالدعوة إلى الله، وهذا لن يكون بتلذذ مثلاً في النظر أو نحو ذلك، فلن يكون إلا لمصلحة شرعية ويكون لغرض الدين. وأما صحبة أهل الخير فنعمة من الله سبحانه وتعالى، وإنما تستطيع أن تدرك أهمية هذه النعمة عندما تختلط بغيرهم وأنت قد ذقت معنى مخالطة الصالحين الذين يريدونك على طاعة الله، ولذلك تجد عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما طعن رضي الله عنه كان أكبر شيء يهتم به هو الرفقة مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر في القبر، فهذا أهم شيء كان عنده، ويستأذن عائشة ويأمر بأن يستأذن بغير اسم أمير المؤمنين، وقال: قولوا: يستأذن عمر بن الخطاب ولا تقولوا أمير المؤمنين؛ فإني لست لهم اليوم بأمير، قولوا: يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه لمجرد الرفقة في القبر؛ لكي يكون مع صاحبيه، ولذلك يقول علي إني كنت أظن أن يجعلك الله مع صاحبيك؛ لأني كثيراً ما كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (جئت أنا وأبو بكر وعمر، وذهبت أنا وأبو بكر وعمر)، رضي الله تعالى عنهما. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعاء النوم: (باسم الله وضعت جنبي، اللهم! اغفر لي ذنبي، واخسأ شيطاني، وثقل ميزاني، وفك رهاني، واجعلني في الندي الأعلى)، ومعنى (الندي الأعلى) أي: اجعل روحي مع النسم الطيب، فهذه لحظات النوم التي لا يحس فيها الإنسان، فالرسول صلى الله عليه وسلم يدرك ما لا ندركه، والروح في هذه اللحظات تكون في أحوال، ونحن -نسأل الله العفو والعافية- الواحد منا ينام ولا يعرف ماذا يحصل! لكن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (واجعلني في الندي الأعلى) فمجرد ساعات محدودة فقط يريد أن الروح تكون مع أرواح المؤمنين. وكذلك في البرزخ، ففي الحديث الصحيح عن روح المؤمن (وتجعل روحه في النسم الطيب)؛ لأن صحبة الصالحين نعيم فعلاً، ولأن ذلك من آثار الحب في الله وأوثق عرى الإيمان، والبعد عن الظالمين من لوازم البغض في الله سبحانه وتعالى، ولذلك كان الرجل فقيهاً حين قال له: انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها قوماً يعبدون الله فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك؛ فإنها أرض سوء. وهكذا نوصي كل أخ أقبل إلى الله عز وجل بقلبه أن يبحث عن قوم يعبدون الله، ويخلصون في عبادتهم لله، ويتبعون سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيعبد الله معهم، فهو والله يحتاج إلى ذلك احتياجاً أكيداً، ولذلك عندما يستفتي البعض أن الآباء والأمهات أو الأهلين والأقارب يمنعون الأخ من الذهاب إلى مجتمع الإخوة الصالحين، فأنا لا أتردد في أنه لا يجوز أن يترك مجتمع الإخوة ولا يجوز أن يبتعد عن مسجدهم ومجتمعهم ولقاءاتهم؛ لأن ذلك من أسباب فتنته، وكم من شخص أعلمه كان ملتزماً في المسجد ثم بعد ذلك كان بداية الأمر أن يصلي في مسجد آخر غير مسجد الإخوة، ثم بعد ذلك يصلي بعض الصلوات في المسجد وبعض الصلوات في البيت؛ لأنه لم يجد من يسأل عنه، ولم يجد من يقول له: أين كنت؟ ولم يجد من يقول له تأخرت عن صلاة الفجر، ولا يجد من يقول له: تخلفت عن الدرس، ولم يجد من يقول له: هل قرأت القرآن أم لا؟ فلم يسأل عنه أحد، وكثير من الناس يظن أن المسجد إنما جعل لمجرد أن يصلى فيه ثم يغلق، وهكذا يريدونه أن يصلى فيه ثم يغلق، ثم بعد ذلك ترك الصلاة في المسجد، ثم جمع الصلاة بعضها مع بعض، وأعلم بعضهم وصل ربما -والعياذ بالل

النية الحسنة تساعد في قبول التوبة

النية الحسنة تساعد في قبول التوبة قال: (فانطلق حتى إذا انتصف الطريق أتاه الموت)، أي: ختم الله له بما أراد عز وجل قال: (أتاه الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب) أي: من أعوان ملك الموت، فإن ملك الموت له أعوان: ملائكة بيض الوجوه؛ لقبض أرواح المؤمنين، وملائكة سود الوجوه؛ لقبض أرواح الفاجرين والمنافقين والكافرين، قال: (فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: إنه جاء تائباً مقبلاً بقلبه إلى الله عز وجل) ولم يذكروا عبادة؛ فإنه لم يعمل بعد عبادة من العبادات، وإنما ذكروا حال القلب، فذكروا إقباله بقلبه إلى الله عز وجل، وكان سيره في الحقيقة طلباً للخير ولم يبدأ بعد فعل الخير. قال صلى الله عليه وسلم: (وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيراً قط) يعني: من العبادة، فإنه لم يعمل شيئاً من العبادات؛ لأنه لم يصل إلى القرية الصالحة قال: (فأرسل الله إليهم ملكاً في صورة آدمي) وهذا فيه تشريف للإنسان؛ فقد علمه الله سبحانه وتعالى كما قال عز وجل: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة:31]، وفيه تشريف لصورة الآدمي، فهي صورة شرفها الله فلا تهنها أنت بإذلالها لعدوها اللدود وهو الشيطان، وذلك بأن تجعل هذه الصورة المكرمة تنطلق في وجوه المعاصي والفجور، وتذل لذلك العدو اللدود وتجعل هذا الوجه الذي جعل الله فيه المحاسن، وجعل فيه السمع والبصر، وجعل من ورائه العقل الذي يفكر، وجعل فيه اللسان الذي ينطق وسائر الحواس فلا تجعله يتمرغ في الوحل والذنوب بدلاً من أن يخر ساجداً لله عز وجل. فالله كرمك بهذه الصورة فاعرف تكريم الله لك، فالملك الذي يحكم بين الملائكة يأتي في صورة آدمي وقال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الإسراء:70]، وهذا تكريم للإنسان فهي صورة خلقها الله عز وجل بيده، وهذا يقتضي منك شكر نعمة الله عز وجل عليك بألا تعبّد هذه النفس لغير خالقها، وأن تصون هذا الوجه عن السجود والمسألة لغير خالقه. وكان الإمام أحمد يقول: اللهم! كما صنت وجهي عن السجود لغيرك فصنه عن المسألة لغيرك. قال صلى الله عليه وسلم: (فجعلوه بينهم -أي: حكماً- فقال: قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهن كان أقرب فاجعلوه من أهلها). والحقيقة أن الرجل كان أقرب إلى الأرض السيئة، والقرية الخبيثة، ولكن الله عز وجل لأجل صدق توبته وإقباله عليه حرك الأرضين، فغير سكون الأرض، فالأرض ساكنة لا تتحرك، والأماكن الأصل فيها الثبات، ولكن الله عز وجل غير وجه الأرض من أجل هذا الرجل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فأوحى الله إلى هذه أن تباعدي، وإلى هذه أن تقاربي، وكان الرجل باذلاً كل وسعه في الوصول إلى الأرض الطيبة، فناء بصدره -أي: مال بصدره-)، وميل الإنسان على جنبه من ظهره تجعل مقدار شبر، فهو عمل والله عز وجل عمل عملاً آخر بالإضافة إلى عمله فقربه سبحانه وتعالى إلى الأرض الطيبة؛ لأنه أراد التقرب إلى الله سبحانه وتعالى، فجعل هذه القرية الصالحة تتقرب، والقرية الفاسدة تتباعد، وقاسوا المسافة بينهما فوجدوه أقرب إلى الأرض التي أراد بشبر فقبضته ملائكة الرحمة. نسأل الله عز وجل حسن الخاتمة، ونسأله أن يجعلنا من التائبين، وأن يجعلنا من المتطهرين. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

الأسئلة

الأسئلة

حكم تكسير طالبان للتماثيل

حكم تكسير طالبان للتماثيل Q لقد أثار موقف حركة طالبان بتكسير التماثيل جدلاً وفتاوى كثيرة تجعل الحليم حيران، فما هو الصواب؟ A لا شك أن الحكم الشرعي المجرد هو وجوب طمس التماثيل، سواء كانت تعبد أو لا تعبد، فإن علياً رضي الله عنه كما في الحديث الذي رواه مسلم قال لأمير سرية أرسله: (ألا أرسلك على ما أرسلني به رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تجد قبراً مشرفاً إلا سويته، ولا تمثالاً إلا طمسته)، وفي رواية: (ولا صورة إلا طمستها)، وهذا أيضاً لم يخصص منه بما يعبد أو لا يعبد، وقد امتنع جبريل عليه الصلاة والسلام من الدخول إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان في البيت تمثال وكان تحت السرير جرو للحسن أو الحسين، فقال: (إنا لا ندخل بيتاً فيه كلب أو صورة فمر بالكلب فليخرج، ومر بالتمثال فليقطع رأسه يصير كهيئة الشجرة)، وعندما دخل النبي صلى الله عليه وسلم ووجد عائشة قد سترت سهوة لها بقرام فيه تصاوير فقال: (يا عائشة! إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم، فأمر صلى الله عليه وسلم بقطع هذه النمرقة، وقطع الستارة وجعلها وسادتين توطآن)، وجعلها ممتهنة. فهذا يدلنا على عدم جواز اتخاذ الصور ووجوب إزالتها سواء كانت تعبد أو لا تعبد، والنبي صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة ووجد فيها حمامة من عيدان، ووجد فيها صورة إسماعيل وإبراهيم يستقسمان بالأزلام، وكانت صورتهم الحقيقية فعلاً؛ لأنه ذكر ذلك فقال: (قاتلهم الله، والله! لقد علموا ما استقسما بها قط)، وأمر بمحو الصور صلى الله عليه وسلم، مع أنها صور أنبياء وهذه كانت أشياء تاريخية عظيمة ولو كانت طبق الصورة طبق الوجه مثلاً لمحاها صلى الله عليه وسلم، وكسر صلى الله عليه وسلم حمامة العيدان بيده، (وعندما كان صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت في فتح مكة كان يشير للأوثان وهي ثلاثمائة وستون صنماً حول الكعبة ويقرأ: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81]، والأصنام تتساقط على وجوهها). وأرسل من يكسر في القبائل الأصنام، وقد كانت بعضها أصناماً تاريخية جداً وتراثاً إنسانياً قديماً لكنها تخلف وانحطاط، وتراث البهيمية بل أسوأ من البهيمية كما قال تعالى: {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179]، وكان التراث من عهد قوم نوح فهو أقدم من بوذا ومن غيره، فكان هناك ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر في قبائل العرب، وكان الذي أوحى بالتنقيب عنها الشيطان إلى عمرو بن لحي الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم يجر قصبه في النار، وذلك أنه هو الذي أوحى إليه الشيطان أن يحفر في مكان كذا وكذا ليجد تماثيل معدة، فأخرجها وأمر الناس بعبادتها وفرقها في قبائل العرب، وكسرت كل هذه الأصنام بمجيء الإسلام، ولم يبق منها بحمد الله تبارك وتعالى شيء. ولذلك نجد بالفعل أن الأمم كلها تماثيل آلهتها في الجاهلية موجودة في الغالب، وأما أمة العرب فلا يعرف وجود تماثيل هذه الآلهة الجاهلية -والعياذ بالله- رغم أنها زالت عبادتها بحمد الله بمجيء الإسلام، والذين يقولون: كان هذا في أول الإسلام لخوف العبادة، نقول لهم: أتظنون أن التوحيد كان أقوى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أو معكم؟! أنتم تظنون على كلامكم الفاسد هذا أن التوحيد الذي معكم أقوى من التوحيد أيام النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة، وأي اعتقاد أسخف من هذا؟! وأي بناء باطل للفتاوى أسخف من هذا؟! وفي الحقيقة أنها الآن تعبد حتى تماثيل الفراعنة فهناك من يأتي من المشارق والمغارب، وهناك من يأتي من الغرب خصوصاً ويعبد آلهة الفراعنة في الهرم الأكبر، وتوفر لهم كل الوسائل المهيئة بذلك. والمقصود أن الحكم الشرعي في كسر الأصنام معلوم ولا ينازع في ذلك عالم، ومسألة أنها تعبد أو لا تعبد وأنها تراث إنساني هذا كلام لا يصح أن يعتبر، وما ذكر من ذلك مما يصح اعتباره هو قضية أذية المسلمين وقضية المصلحة والمفسدة، وهذا جدير بالاعتبار وجدير بالنظر، ولذلك نقول: إن الحكم هكذا، وأما الفتوى زماناً ومكاناً متى يتم؟ وأين يتم تكسير هذه الأوثان؟ فعلى حسب المصالح والمفاسد، وينبغي أن تقدر من قبل علماء المسلمين في المحلة التي هم فيها، وإذا كان يتعرض المسلمون في غيرها لأذى فينبغي أن ينظر في هذا الأمر أيضاً، وأن يقدرها علماء المسلمين المعتبرين من أهل السنة والجماعة لا الذين يقولون على الله ما لا يعلمون، ويقولون مثل هذه الخرافات والخزعبلات المذكورة، لذلك نقول: القضية قضية المصلحة والمفسدة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة في عمرة القضية والأصنام مبسوطة حول الكعبة، ولكن مصلحة الوفاء بالعهد كانت مرجحة على مصلحة كسر الأصنام، وكذلك إبراهيم عليه الصلاة والسلام لمصلحة إقامة الحجة والبينة على قومه ترك الصنم الكبير مع أنه كسر الأصنام الأخرى، وهذا دليل على أن المصالح والمفاسد معتبرة في هذا الباب، والله أعلى وأعلم. فلا شك أن حركة طالبان لها مواقف إيجابية كثيرة في إقامة كثير من الشعائر الدينية وإن كنا نحن لا نعلم حقيقة التفاصيل أكثر مما ينشر في الجرائد عنهم، وينبغي حتى يتم الحكم عليهم النظر في واقع الحال هناك أكثر، ونحن لا نحيط به علماً حالياً إلا ما يأتينا من أخبار، وبلا شك أن فيها الخير الكثير في إقامة الشريعة وإقامة الدين، والله أعلى وأعلم.

حكم قراءة القرآن ولمسه لغير المتوضئ

حكم قراءة القرآن ولمسه لغير المتوضئ Q هل يجوز قراءة القرآن ولمسه وأنا غير متوضئ خاصة عند المذاكرة؛ حيث تكثر الحاجة إلى قراءته؟ A قراءته جائزة، وأما لمس المصحف من غير وضوء فلقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يمس القرآن إلا طاهر).

حكم الأخذ بالأيسر من آراء المذاهب الأربعة

حكم الأخذ بالأيسر من آراء المذاهب الأربعة Q هل لي أن آخذ بأيسر آراء الأئمة الأربعة عملاً بأن الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما)؟ A هذا كلام فاسد، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يخير بين أمور مباحة في الشرع، وليست أقوال الأئمة الأربعة شرع، بل كل منهم يجتهد في الوصول إلى الشرع، وليس كل قول من أقوالهم يعد شرعاً فأنت تختار الأيسر منها، بل يجب عليك أن تسأل أهل الذكر إن كنت لا تعلم، فالله تعالى يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، فإن كنت لا تدري الراجح من الأقوال فاسأل العالم الذي في زمنك أو في بلدك عن الراجح من هذه الأقوال وخذ بكلامه، وإذا اختلفوا عليك فخذ بالأعلم منهما في نفسك، وهذا هو الواجب عليك ولا يجوز لك غير ذلك. ومسألة اختيار الأيسر هو في الحقيقة قول ضعيف جداً، فأضعف الأقوال في مسألة الأئمة الأربعة أيسرها، ومن عمل برخص العلماء اجتمع فيه الشر كله، ولذلك أقول: الملاهي الليلية جائزة على هذه الطريقة؛ لأن الحنفية يجيزون شرب المسكر من غير عصير العنب، ويقولون: الخمر هو عصير العنب فقط -يعني: النبيذ فقط- وأما الويسكي والبيرة وغيرها فليست حراماً؛ لأن هذه عصير تفاح وعصير بصل وعصير شعير، إذاً نأخذ بقول الحنفية في ذلك، وعلى مذهب سفيان الثوري أن النظر إلى عورات نساء أهل الذمة لا يحرم إلا خشية الفتنة، فرؤية مومسة أجنبية ترقص عريانة ليس فيه مشكلة على مذهب سفيان الثوري، وعلى قول ابن حزم في المعازف وإباحتها نقول: أحضروا الفرق واعملوا موسيقة إلى الصبح فما أحد عنده مشكلة، إذاً: فالملاهي الليلية بهذه الطريقة ليست خطأ، والواحد منا لا يستبعد من الاتجاهات الإسلامية المنحرفة هذه أن تخرج بالطريقة هذه فتاوى اعتماداً على هذه الطريقة نعوذ بالله، وهم يقولون أكثر من هذا.

حكم صلاة التسبيح

حكم صلاة التسبيح Q حكم صلاة التسبيح؟ A صلاة التسبيح صححها بشواهدها الشيخ الألباني وجماعة من العلماء، ولذلك نقول: إن صلاة التسبيح مشروعة ولكن غيرها أفضل منها، فالصلاة التي فيها إطالة قراءة القرآن أفضل من صلاة التسبيح، والرسول عليه الصلاة والسلام علمها عمه العباس، والعباس تأخر إسلامه فلم يأخذ كثيراً من القرآن، فالحافظ للقرآن يصلي الصلاة بالقرآن أفضل.

حكم الجلوس مع من يسمعون الأغاني ويمتنعون من الصلوات

حكم الجلوس مع من يسمعون الأغاني ويمتنعون من الصلوات Q أخ مغترب يسكن مع زملائه وهم لا يصلون، ودائماً يسمعون الأغاني بصوت عالٍ، ودائماً ينصحهم بالتوبة والصلاة وعدم سماع الأغاني، فهل على هذا من شيءٍ إن سكت عنهم؟ A جزاك الله خيراً على نصيحتهم، لكن لو لم يستجيبوا لك فابحث عن غيرهم، فمن الصعب جداً أن يجلس الشخص في السكن مع هذه النوعية من الناس، فسماع قليل من الموسيقا على طوال الأيام يؤدي إلى قسوة القلب.

حكم تفضيل أحد الأبوين

حكم تفضيل أحد الأبوين Q هل يجوز تفضيل أحد الأبوين على الآخر؟ A لابد من تفضيل الأم؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمك ثم أمك ثم أمك ثم أبوك).

حكم الأجرة على تحفيظ القرآن

حكم الأجرة على تحفيظ القرآن Q هل يجوز أخذ أجر على تحفيظ القرآن الكريم؟ A الراجح جوازه، والأفضل والأحوط عدم أخذ أجرة، لكن من جهة الجواز فالراجح جواز ذلك والله أعلى وأعلم، والإمام أحمد يقول: بغير اشتراط.

حكم البعد عن الرفقة الصالحة خوفا من الأذى

حكم البعد عن الرفقة الصالحة خوفاً من الأذى Q هل يجوز البعد عن الإخوة الصالحين الملتحين خوفاً من السجن مثلاً؟ A هذه أوهام كبيرة جداً وحواجز وهمية، فالناس يظنون أن أي واحد يلتحي يدخل السجن، والأمر ليس كذلك، وعندما يكون هناك فعلاً أن كل واحد يلتحي يدخل السجن، نقول عندها: أنتم مجبورون على حلق اللحية، لكن هذا ليس حاصلاً، ولا أن كل واحد يلتزم يدخل السجن، والكلام هذا ليس حقيقياً، وهذا الكلام إنما هو من الشيطان كما قال الله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175]، فأنا متأكد أن هذه أوهام الشياطين، فالبعد عن الإخوة مهلكة، ولذلك فالشيطان يأتي بخطوات فيقول له: ابعد عنهم فقط وهكذا، والذئب إذا أراد أخذ شاة فما دامت محمية في القطيع فليس قادراً على أن يهجم على القطيع كله، لكن ينظر الشاة البعيدة عن القطيع فيأكلها، (وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية والشيطان ذئب الإنسان).

شروط قبول التوبة

شروط قبول التوبة Q ما هي شروط قبول التوبة؟ A أركانها: الندم، والإقلاع عن الذنب، والعزم على ألا يعود، وإذا كان في حق آدمي: أن يرد الحقوق إلى أصحابها.

نصيحة لمن يتحدث مع الأجنبيات

نصيحة لمن يتحدث مع الأجنبيات Q نصيحة لشاب له علاقات مع الفتيات يكلمهن ويتحدث معهن لفترة طويلة، فماذا تقول له؟ A أقول له: إن الرسول صلى الله عليه وسلم في أشرف مواقف الحج وهو (بعد أن رمى الجمرة ووقف بعرفة هو وأصحابه ومعه الفضل بن عباس وقفوا بعرفة، ونزل من مزدلفة، وذكر الله عند المشعر الحرام ورمى الجمرة، فجاءت المرأة الخثعمية وهي في ثياب متسترة، وتسأل عن فتوى شرعية، وجعل الفضل ينظر إليها فلوى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنقه، فقال له عمه: لويت عنق ابن أخيك، فقال: رأيت شاباً وشابة فلم آمن عليهما الفتنة)، وأنت أتأمن على نفسك الفتنة؟ وأنت بعيد عن هذه العبادات وصلاتنا تكاد تكون مجرد أداء روتيني، والإنسان لو أدرك عشرها وتدبرها لكان ذلك خيراً، فما بالك إذا كان ربما لا يحافظ عليها في الجماعة. فنصيحتي الأكيدة أنه لا يشعر بالسهام القاتلة التي تصيب قلبه من خلال هذه النظرات، فليتب إلى الله عز وجل حتى يفيق قلبه من هذا السكر الذي هو فيه، فسكر الشهوة يعمي ويصم -والعياذ بالله- أشد من سكر الخمر، كما أن امرأة العزيز لم تشعر بما تصنع بيوسف حتى تمزق قميصه لأجل الشهوة المحرمة، فأنت لا تدري ما يصيب قلبك، وأنت مقتول بهذه النظرات، فتب إلى الله عز وجل واقطع علاقتك بهن، ونسأل الله لنا ولك العافية.

حكم قتل النفس

حكم قتل النفس Q هل القاتل نفسه مخلد في النار؟ A لا يخلد في النار إلا إذا مات على الكفر، والنبي صلى الله عليه وسلم قال فيمن قتل نفساً بقطع براجمة: (اللهم! وليديه فاغفر).

ما ينبغي أن يكون عليه الدعاء

ما ينبغي أن يكون عليه الدعاء Q عندما يسأل الإنسان الله تحقيق أمر معين فهل من المشروع زيادة الأعمال الصالحة في هذا الوقت فضلاً عن زيادة النوافل؟ A نعم، وليكن سؤاله لتحقيق هذا الأمر المعين أمراً أخروياً، وسبيل المداومة على هذه الطاعات أن تجعل الآخرة أكبر الهم، ومبلغ العلم، وليس ذلك للدنيا.

حقيقة الصراع بين الحق والباطل

حقيقة الصراع بين الحق والباطل خلق الله الخلق ولم يتركهم سدى، بل أرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين، لئلا يكون للناس على الله حجة يوم القيامة، فكان الصراع بين الرسل وكفرة أقوامهم، وكانت الشبه الباطلة تتوارد تجاه الرسل، فأمر الله رسله بالصبر والاستعانة والتوكل عليه لمواجهة الظالمين من أقوامهم، وأعلمهم أن مآل هؤلاء الظالمين إلى جهنم وبئس المهاد.

آثار تحقيق معاني العبودية في القلوب

آثار تحقيق معاني العبودية في القلوب إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد: قال تعالى: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:141 - 142]. فإن الله سبحانه وتعالى جعل الأيام دولاً بين الناس، بين الذلة والتمكين، بين القوة والضعف، بين الفقر والغنى، كما جعل ذلك في الكائنات، بين الليل والنهار، بين الحياة والموت، وهو عز وجل بيده الأمر كله، وإليه يرجع الأمر كله، فاعبده وتوكل عليه، قال تعالى: ((وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ)). وقال عز وجل: {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود:123]. فعندما تشتد الظلمات بأهل الإيمان فإنهم دائماً يلجئون إلى الله سبحانه وتعالى، وينادونه في وسطها: أن لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين؛ لأن كل مؤمن يعلم أن ما أصاب الناس من مصيبة فبما كسبت أيديهم ويعفو الله عز وجل عن كثير، ويعلم أن الله سبحانه وتعالى هو الإله وحده المعبود بالحق لا شريك له، ولا يتوجه المؤمن إلى أحد سواه، وهو الإله الذي تفزع إليه الخلائق في حوائجها. وإذا اشتدت الظلمات علم الإنسان حقيقة التوحيد، وأقر بها حتى يكون ذلك سبباً للفرج بإذن الله، فينادي: (لا إله إلا أنت) فينزه الله عز وجل عن كل نقص، وينزه الله عز وجل عن الظلم والعبث، وعدم الحكمة، وينزهه عن الضعف؛ لأن مواطن الشدة كثيراً ما يضل فيها الناس، ويظنون أن الله سبحانه وتعالى ما قدر ذلك بحكمته جل وعلا يظنون ظن الجاهلية، ويظنون بالله ظن السوء، ومنهم من يظن أن ذلك خارج عن قضائه وقدره، ومنهم من يظن بالله عز وجل الظلم، وأنه لا يستحق أن يفعل الله به ذلك، وأنه ينبغي أن يكون غير ذلك، والله سبحانه منزه عن ذلك كله. فينادي المؤمن من قلبه وبلسانه: (سبحانك) فهو ينزه الله عز وجل عن الظلم، وعن أن يكون في هذا الوجود ما يخرج عن قضائه وقدره وقدرته وعلمه وحكمته؛ فلا يظن أنه لا يستحق أن يفعل الله به ذلك، وأنه ينبغي أن يكون غير ذلك، فالله سبحانه منزه عن ذلك كله؛ لأنه قدر سبحانه وتعالى المقادير بالحكمة. فينادي المؤمن: (لا إله إلا أنت سبحانك)، فالمؤمن يعلم أن ما أصابه كان بسبب ظلمه لنفسه، وأنه لابد أن يعترف بالظلم لنفسه؛ وأن يبوء بذنبه ليغفره الله له، وأن يعترف كما اعترف الأبوان -من قبله- بظلمهما لأنفسهما، قال تعالى: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23]، فعندما يعترف الإنسان بالظلم، وبنعمة الله عليه؛ يكون ذلك من أسباب الفرج، فيقول: ((سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)). إذا حقق العبد هذه العقائد في قلبه كما ينطق بها لسانه، وتضرع إلى الله عز وجل بصوت ضعيف منكسر لا يجبره إلا الله وحده لا شريك له، ويعلم أن الله سبحانه هو الجبار، ولا يجبر الكسير سواه، ويجبر القلوب على فطرتها وشقيها وسعيدها، فينكسر حينها للجبار سبحانه ولا يتجبر، ويعلم أن عاقبة كل جبار هي الخيبة قال تعالى: ((وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ))، والله سبحانه وتعالى إذا وجد من عبده المؤمن ذلك فإنه سبحانه وتعالى يسخر ملائكته تشفع له وتدعو له، وتقول: صوت ضعيف في بلاد غريبة، هذا وهو فيها غريب لا يزال يصعد إلى الله عز وجل منه عمل صالح، ودعوة متقبلة، فتشفع له الملائكة عند الله سبحانه، وهو الذي يسخرها، فيستجيب الله عز وجل دعوة عبده، ويفرج كربه، كما قال سبحانه وتعالى عن يونس عليه السلام وهو في بطن الحوت: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:78 - 88]. فليست هذه خاصة بيونس عليه وعلى نبينا الكريم أفضل الصلاة والتسليم، وليست خاصة بالأنبياء، بل هي لكل مؤمن تيقن بهذه الحقائق، وعلم هذا العلم، وأيقن هذا اليقين، فاستجاب الله عز وجل له، ويستجيب لكل مؤمن مكروب في أي موضع دعاه، فدعوة ذي النون لا يقولها مكروب إلا فرج الله عز وجل كربه. فنقولها جميعاً: لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين، والله سبحانه وتعالى جعل في قصص أنبيائه ورسله النور والهدى، واليقين والصبر، والموعظة والعبرة، والتثبيت لقلوب المؤمنين قال تعالى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود:120].

السنن الإلهية في قصص المرسلين

السنن الإلهية في قصص المرسلين

الصراع بين الحق والباطل سنة ماضية

الصراع بين الحق والباطل سنة ماضية هناك سنة عامة سنة ماضية في كل زمان ومكان لا تجد لها تحويلاً، سنة الله التي تمضي في خلقه، من يقرأ التاريخ والقصص ويعتبر، يجدها سنة ماضية لا تتخلف أبداً قال تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ * وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:137 - 141]. جعل الله عز وجل في كتابه النور والهدى، وجعل في قصص أنبيائه ما يرشد المؤمنين إلى طريق الحق، وما يجب عليهم فعله في كل وقت وفي كل مرحلة من مراحل حياتهم ودعوتهم، فطالما ساروا على طريق الأنبياء فلا بد وأن تسير دعوتهم بنفس المراحل، ولابد أن تواجه نفس المواجهات؛ فإن الصراع بين الحق والباطل قديم قدم الإنسان على ظهر الأرض، بل منذ كفر إبليس حقداً وحسداً لآدم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وحين أبى واستكبر وكان من الكافرين، وبدأ يكيد للأبوين ولجنس الإنسان كراهية وبغضاً وحقداً وضغينة، وورثها لمن تبعه من ذرية آدم، فضلاً عن ذريته التي تكون على طريقته وشاكلته -والعياذ بالله- نستلهم ذلك من القرآن العظيم، ومن نوره الذي جعله الله عز وجل يهدي به من يشاء، كما قال: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} [الشورى:52 - 53]. لكي نبصر أين نضع أقدامنا، وماذا نصنع فيما يواجهنا، فإنا إذا حكمنا غير كتاب الله في هذا الموضع، سواء حكمنا العقول بغير نور، أو حكمنا العواطف بغير ضوابط، أو حكمنا آراء الرجال ومقاييسهم؛ فإننا سوف نضيع حتماً، إذ ليس لنا في الأرض من ولي ولا نصير إلا الله سبحانه وتعالى. فوالله لولا الله ما اهتدينا ولا صمنا ولا صلينا إن الله سبحانه وتعالى جعل في قصص أنبيائه ورسله ما يرشد عباده المؤمنين إلى ما يلزمهم العمل به عندما تشتد عليهم الأمور، وقد ذكر الله عز وجل في ذلك قصصاً مجملة ذكرها في سورة إبراهيم صلى الله عليه وسلم لا تتغير فيها طبيعة المواجهة بين الحق والباطل، سنة واحدة وطريقة ماضية، فنتلمس من آيات الله سبحانه وتعالى، ما يلزمنا أن نعمله عندما تشتد الأمور. قال الله عز وجل: {وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ * أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ * قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ * وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ * مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} [إبراهيم:8 - 18].

استمرار سنة الصراع بين الرسل وأقوامهم

استمرار سنة الصراع بين الرسل وأقوامهم يخبر الله سبحانه وتعالى عن غناه وحمده الذي ذكر موسى به قومه والناس جميعاً، فقال: {إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ * أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [إبراهيم:8 - 9]. وهذا إما خطاب من موسى عليه الصلاة والسلام لقومه، أو كلام مستأنف وهو خطاب من الله عز وجل لمن كان معاصراً للنبي صلى الله عليه وسلم ولمن بعده: ((أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ))، كم من الأجيال والقرون مضت؟! وكم من العقوبات نزلت؟! وكم من الناس تصارعوا؟! وكل ذلك أين هو الآن؟! كما رحلوا هم سنرحل نحن أيضاً وسيرحل أعداؤنا، وسنقف جميعاً بين يدي الله سبحانه وتعالى، نحن وإياكم سنموت؛ فما أفلح عند القيامة من ندم. قال تعالى: ((وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ))، أي: النسابون يعلمون من بعد هؤلاء على وجه اليقين؛ ولذلك نفوض علمهم إلى الله سبحانه وتعالى، ولكن الفائدة ليست في الأشخاص والأمكنة والأزمنة، ولا عدد القرون، ولكن الفائدة هي في طبيعة هذا الصراع الذي دار وحصل ويحدث مثله في كل عصر وفي كل حين.

وضوح بينات الرسل وعمى المبصرين لها

وضوح بينات الرسل وعمى المبصرين لها قال تعالى: ((جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ)). فالرسل جاءوا بالحجج الواضحات البينة التي هي أوضح من الشمس، وكل من دعا بدعوتهم فهو كذلك يأتي بالبينات، ولكن ليست المشكلة في مدى وضوح البينة، ولكن في الأعين التي تبصر، وفي القلوب التي تعي، فكم من أناس لهم {قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف:179]، وكم من أناس لا يرون البينات؟ مع أن الطريق واضح، والحجة بينة قائمة، ومع ذلك لا تقبل، ويكون الفرق بين العدل والظلم كما بين الليل والنهار، ومع ذلك يفضل أكثر الناس الظلم والظلام، والعياذ بالله من ذلك! قال تعالى: ((جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ))، إما أشاروا لهم بالسكوت ووضعوا أيديهم على أيدي الرسل أنفسهم حتى يسكت الرسل؛ لتتوقف الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وذلك يكون -غالباً- على سبيل التهديد والوعيد. أو وضعوا أيديهم على أيدي الرسل في محاولة مباشرة لإسكات صوتهم، وإسكات دعوتهم، فهم يظنون أن دعوة الرسل يمكن إسكاتها بذلك، ولا بد أن تواجه الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى محاولة الإسكات إما بالتهديد والوعيد، وإما بالإسكات المباشر بتكميم الأفواه بالفعل حتى لا يخرج للداعي إلى الله عز وجل صوتاً، ومع ذلك فسوف تبقى الدعوة، وسوف تستمر كما قص الله عز وجل علينا، ولم تتوقف دعوة الرسل أبداً بمثل هذه المحاولات، وبقدر ما يكون الإنسان متمسكاً بدعوة الرسل على وضوح منهجها على معالمها الأساسية وتفاصيلها يلتمسها من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بقدر ما يتمسك بذلك كله بقدر ما لا يمكن أن تموت دعوته.

رد الرسل على المشككين في دعوتهم

رد الرسل على المشككين في دعوتهم إن هذه الدعوة ستبقى عبر الأجيال والعصور، وعبر الأزمنة والأمكنة بفضله عز وجل؛ لأنها دعوة الرسل، وهي التي لا تموت، وإنما يموت أعداؤها؛ فالله عز وجل ذكر لنا أنهم أعلنوا كفرهم بقولهم: {وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} [إبراهيم:9]، فالذي هو في شك، ما الذي يقتضيه عقله السليم أن يفعله؟ يقتضي أن يبحث لا، أن يعلن الرد والكفر مبدئياً، وإنما يقول: أرونا الأدلة، فقبل أن يقدم الكفر لابد أن يقدم البحث والنظر؛ لأنه في شك، وهو مرتاب؛ فليبحث ولينظر: إما أن يسعى في إسكات صوت الحق، وإما أن يعلن أنه قد كفر بالحق لمجرد أنه في شك، فالعجب من هؤلاء! فالكفر أنواع متعددة، والشك واحد، ولكنهم قدموا ذكر الكفر على ذكر شكهم. وكان يقتضي العقول السليمة أن تقول: اعرضوا علينا هذا الحق لننظر فيه فإننا نبحث عن الحق، اعرضوا علينا ما جئتم به لننظر فيه أهو من الحق أم من الباطل؟ هذا إذا كانوا في شك حقاً، لكن سوف يظهر لنا حالاً لماذا كفروا ولماذا شكوا؟ الحقيقة: أنها أمراض في النفوس وسوف تظهر جلياً بعد حين. فهم حاولوا الطعن في الدعوة أولاً، فقالوا: إن الدعوة مشكوك فيها، ثم قالوا: إن الدعوة ليست بينة ولا واضحة، مع أن الرسل جاءت بالبينات؛ ولكنهم لا يرون هذه البينات، فعند ذلك حاولوا الطعن فيها. وواجهت الرسل هذه المحاولة في التشكيك برصيد هائل في الفطرة، من وحدانية الله، وأنه لا إله إلا هو، وهو رصيد موجود في داخل نفس كل إنسان؛ لأن كل واحد مؤمن أو كافر قد أخذ عليه العهد {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:172]. إذاً: كل واحدٍ قد أشهده الله عز وجل على نفسه، وشهد أنه لا يستحق الألوهية إلا الله، وأخذ عليه العهد وهو في ظهر أبيه آدم، كما في حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (يقال للكافر يوم القيامة: لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت مفتدياً به؟ فيقول: نعم، فيقول الله عز وجل: لقد أردت منك أهون من ذلك، قد أخذت عليك وأنت في ظهر آدم أن لا تشرك بي؛ فأبيت إلا أن تشرك بي). فهذا العهد والميثاق ظهر أثره في فطرة كل إنسان: إما ميله إلى تحقيق التوحيد، أو الشقاء في البعد عنه، فالإنسان يشعر بالراحة والسكون إذا ذكر الله، ويشعر بالتعاسة والتعب والنكد إذا توجه لغيره، ولكن أكثر الناس يسكتون هذه الفطرة التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بوجودها بقوله: (كل مولود يولد على الفطرة)، وفي رواية: (يولد على هذه الملة)، وهذا أثر من آثار الميثاق الأول، وهي الفطرة الإنسانية في توحيد الله عز وجل، لذا واجهت الرسل هذه المحاولة في التشكيك في الدعوة ذاتها بهذه الحقيقة اليقينية.

دعوة الرسل للتوحيد

دعوة الرسل للتوحيد قال تعالى: ((قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ))، أي: أفي وحدانية الله شك؟ وفي تفسيرها قولان: القول الأول: أفي وجود الله شك، وهذا وجه ليس بظاهر، إذ عامة الأمم كانت تقر بوجود الله، وإنما تنازع في ألوهية الله وحده لا شريك له، وتنازع في أنه وحده الإله المعبود، فيجعلون آلهة معه، ومنكرو الألوهية قليل. القول الثاني: أفي وحدانيته في الربوبية والألوهية شك؟! وهذا أظهر من القول الأول وهو متضمن له؛ لأننا إذا أقررنا بوحدانية الله عز وجل، ورضينا به رباً وإلهاً هذا إثبات وجوده بالأولى والقطع واليقين. وهذه الحقيقة هي أكبر اليقينيات؛ إذ لا يمكن أن يرتاب فيها عاقل؛ لأن كل عاقل يوقن أن كل فعل لابد له من فاعل، وإذا رأى آثار الإحكام والإتقان على الصنعة، فلابد أن يكون الصانع عليماً حكيماً قادراً، له كل صفات الكمال، وبالتالي فهو وحده الذي يستحق أن يعبد. فهذه كبرى اليقينيات التي استقرت في نفوس البشر، والتي يحتاجونها أكثر من الماء والهواء، ويردونها كالماء والهواء، كما قال موسى صلى الله عليه وسلم لـ فرعون: {رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء:24]. فهذه أعظم اليقينيات، فمن كان موقناً بشيء فليوقن بوحدانية الله، وأنه رب السماوات والأرض وما بينهما، وأنه وحده الذي يستحق أن يعبد، وهذه هي قضية التوحيد.

الاستدلال بتوحيد الربوبية على توحيد الألوهية

الاستدلال بتوحيد الربوبية على توحيد الألوهية قال تعالى: ((أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ))، هذا هو دليل توحيد الألوهية، والاستدلال عليه بتوحيد الربوبية، فهو وحده الذي فطر السموات والأرض، وخلقهما على غير مثال سابق، ((فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)). فلا يمكن أن يقبل عقل إنسان أن هذه السماوات والأرض خلقت من غير شيء، ولا يقبل عقله بعد ذلك أن تصرف العبادة لغير خالقهما، ولغير خالق العباد. إذا قررت وقبلت بأنها لابد لهما من خالق، وقررت أن له صفات الكمال، فلا بد وأن تعتقد أنه لا يعبد سواه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21]، فتوحيد الربوبية أعظم دليل على توحيد الألوهية، وهو توحيد الرب بأفعاله، وهذه الأفعال آثارها ظاهرة جلية في الكون من المخلوقات والصنعة المتقنة المحكمة، وكل ما في السماوات والأرض من آيات هو أعظم دليل على أنه وحده الذي يستحق أن يركع له ويسجد ويرجى ويخاف ويحب، ويتوكل عليه، ويخضع له ويذل، ويرجى فضله، وترهب عقوبته، ويتحاكم إلى شرعه. فهذا توحيد الربوبية وهو الدليل الأول على توحيد الألوهية. قال تعالى: ((قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ)). هذا هو الدليل الثاني على توحيد الألوهية وهو: الرحمة والمغفرة والمحبة. وهذا الدليل قد جربه الرسل، جربوه إذ ساروا إلى الله، وقبلوا دعوته؛ فغفر لهم ذنوبهم، وهي تلك الذنوب التي كانت كالظلمات على القلوب، فلا تجعلها ترى حقائق هذا الوجود، ولا تجعلها تدرك صغر الدنيا، وحقارة الأرض وما فيها، وأنها ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه. كأن هذه الذنوب تحول بين القلوب وبين خالقها وبارئها، وبين من قصرت في محبته والشوق إليه، فلما زال أثرها بالمغفرة من الله عز وجل، ذاقوا أعظم ما في الدنيا من لذة، ووجدت القلوب أعظم ما يمكن أن يوجد في هذه الدنيا وهو الشوق إلى الله ومحبته، والرضا به رباً وإلهاً، كما قال عليه الصلاة والسلام: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً). وطريق المحبة طريق جربه الرسل؛ لأن الذنوب حواجز القلوب، فهي ران يرين عليها فلا ترى الحقائق، ولا تشعر بها، فلما غفرت الذنوب، واستجابت القلوب لدعوة الله، وجدت القلوب شيئاً جديداً لم تكن ذاقته من قبل، وعرفت الطريق إلى الله، كما قال شعيب عليه السلام: {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} [هود:90]، عندما قال: ((اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ))، وجاء باسمه عز وجل (الرب) مضافاً إلى ضمير المخاطبين: (ربكم) وعندما ذكر وده ورحمته نسبه إلى ضمير المتكلم (إن ربي رحيم ودود). وهكذا قال صالح عليه السلام: {إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [هود:61]، فقد جرب الطريق، وعرف حب الله سبحانه وتعالى، ولذلك دعت الرسل أقوامها إلى أن يستجيبوا لدعوة الله. قال تعالى: ((يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ))، وهذا يرقق القلب فالله يريد بكم الخير، وأن تغفر لكم الذنوب؛ فاستجيبوا لدعوته، إن الله عز وجل لا يريد لكم الشقاء، الناس تظن أنها سوف تحرم من لذة الدنيا إذا التزمت، وفي الحقيقة سوف تتضاعف هذه اللذات، فهم ما جربوا الطريق؛ لذلك يرفضونه ويبتعدون عنه، ولو جربوه لذاقوا حلاوته، وعندما تخالط بشاشة الإيمان القلوب لا ترضى عنه بديلاً. قال تعالى: ((يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى))، لو آمنتم به فسوف يمتعكم متاعاً حسناً، والله عز وجل علم ما كان، وما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون. ولا تعارض بين هذه الآية وبين قوله عز وجل: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34]؛ لأن الذي لا يستأخر ولا يتقدم هو الأجل الذي في علم الله، أي: في اللوح المحفوظ، وأما ما لم يكن لو كان كيف يكون، فهذا أجل مسمى آخر عند الله عز وجل، فعلم الله سبحانه وتعالى أنهم لو آمنوا لمتعهم، كما قال سبحانه وتعالى عن قوم يونس: {إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس:98]، فلو أنهم آمنوا لكان لهم مصير آخر ومتاع إلى حين، وإلى أجل مسمى عنده عز وجل.

أسباب رفض الكافرين الدعوة إلى الله وأساليب طعنهم في الرسالات

أسباب رفض الكافرين الدعوة إلى الله وأساليب طعنهم في الرسالات لماذا يرفضون الدعوة إلى الله؟ يرفضون الدعوة إلى الله عز وجل للحسد الذي في قلوبهم، قال تعالى: ((قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا)).

حسد الطغاة للرسل على ما آتاهم الله من الوحي

حسد الطغاة للرسل على ما آتاهم الله من الوحي هذا هو الحسد ذلك الداء العضال: ((إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا))، فهم لم يصرحوا بقولهم: لماذا أنتم الذين اصطفيتم واخترتم بالوحي من دوننا؟ فكأن لسان حالهم يقول: كان ينبغي أن يكون الوحي لنا وليس لكم؛ إذ ليس لكم علينا فضل، وكل هذه الكلمات تدور حول ذلك الحقد والحسد؛ لأنهم في حقيقة الأمر يرون أنفسهم أولى بالوحي، وأولى بأن يكونوا هم الرسل، ألم تسمع لقول المشركين: {قَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31]؟! ألا ترى قول فرعون وهو يقارن بينه وبين موسى، ليدلك على حسده لموسى، قال عز وجل عنه: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ * فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ * فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف:51 - 54]. ففرعون في الحقيقة يحسد موسى، وأما هذه المقارنة التي يعقدها فرعون ويدعي فيها بأن موسى ليس معه مال كثير، وفي لسانه لثغة لا يستطيع أن يقول فيبين، بل قال: لا يكاد يبين، إذن قد بين ما في موسى فما المشكلة؟ فهو ليس عنده ملك مصر، والأنهار لا تجري من تحته، وكل ذلك لأنه يشعر بأن الناس لم يعطوه حقه، ويشعر أن الناس لا تبصر جيداً، مع أنه ليلاً ونهاراً يرسل في البلاد من ينادي ويقول: ((يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ))، ثم يقول: ((أَفَلا تُبْصِرُونَ))، أي: أنتم لا تبصرون أم ماذا؟ فهو يراهم لا يرون ما ينبغي له من التعظيم؛ لأنه يرى القلوب المؤمنة قد التفت حول موسى وهو لا يقبل ذلك، فوجد طائفة من قومه تقبل بهذا الاستخفاف، وتطيعه على ذلك؛ فأهلكهم الله عز وجل. ((قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا))، في هذا ما يدلنا على حقيقة المرض، وأنهم يحسدون الرسل على ما آتاهم الله من فضله، ويريدون أن يكونوا هم أهل الوحي والرسالة، كما يقولها الكفرة لكل الرسل وللمؤمنين من أتباعهم دائماً: {أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [الأنعام:53]؟ وهذه شبهة يحاولون بها الطعن في الرسل بعد أن فشلوا في الطعن في دعوتهم، عندما قالوا: ((إِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ))، وبينت الرسل أن توحيد الله أعظم اليقينيات، عندها حاولوا الطعن في الدعاة إلى الله عز وجل فقالوا: إن أنتم إلا بشر مثلنا؛ فكيف تتفضلون علينا؟!

اتهام الطغاة للرسل بتغيير دين الآباء والأجداد

اتهام الطغاة للرسل بتغيير دين الآباء والأجداد من الشبه التي طرحوها أنهم خالفوا العادات والتقاليد، وأنهم يريدون أن يغيروا دين الآباء، قال تعالى: ((تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا)). وتغيير العادات والتقاليد هو أعظم جريمة عند الناس، وكونهم يخرجون على ما كان عليه الآباء والأجداد، وعلى تقاليد المجتمع الذي نشأوا فيه، فكانت هذه الشبهة الباطلة هي أعظم ما يكفر به أكثر الناس، كما أنها هي الشبهة التي بسببها كفر أبو طالب وظل على كفره مراعاة لها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوه ويقول: (يا عم! قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله)، وأبو جهل وعبد الله بن أمية على رأسه، يقولان له: أترغب عن ملة عبد المطلب، فكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب، مع أنه يعلم صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعلم أن دينه خير دين، ويقول له: لولا أن يقول الناس: حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عيناك. فالنظم الموروثة، والتقاليد التي نشأوا عليها، وعدم مخالفة دين الآباء، كل ذلك قاله فرعون للصد عن دعوة موسى، قال: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26]. وهكذا دائماً كل طاغية لا يقبل أن يكون هناك تغيير ولا تعديل للباطل الذي نشأ عليه، مع أنه ليس عنده دليل عليه، ولا حجة لديه، وإنما هو التقليد الأعمى، والعياذ بالله.

طلب المعجزات

طلب المعجزات قال تعالى: ((فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ))، والشبهة الثالثة التي يتمسكون بها هي: أنكم أيه الرسل لم تأتونا بمعجزة، فهم يريدون المعجزات المقترحة، يقترحون مثلاً: أن يجعل الصفا ذهباً، أو ناقة تخرج من بطن الجبل يقترحون أنواعاً من المعجزات مفصلة على قدر عقولهم السخيفة، مع أن البينات قد أتت، والرسل قد وضحت، ولكنهم لم يقبلوا البينات، ولو أتى الرسل بآلاف المعجزات فإنهم لن يؤمنوا بذلك، فقد أتت الناقة لقوم صالح فهل آمنوا؟ وقد رأى الناس معجزات موسى وعيسى فهل آمنوا؟ فرعون رأى بعينه السحرة يسجدون؛ لأن عصا موسى التي تحولت ثعبان قد أكلت كل ثعابينهم، فهل آمن؟ ورأى الآيات تلو الآيات، فرأى الجراد، والقمل، والضفادع، والدم آيات مفصلات، رأى البحر ينفلق أمام عينيه بضربة من عصا موسى، فهل آمن؟ الحقيقة أنهم لا يؤمنون مع وجود السلطان المبين الذي يزعمون أنه إن حصل قبلوا به وآمنوا؛ ولأنهم نوعية خبيثة من مرضى القلوب فلا يؤمنون.

علاج الرسل لمرض الطغاة الحاسدين

علاج الرسل لمرض الطغاة الحاسدين قال تعالى: ((قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ))، نعم هذه حقيقة نقررها ((وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ)). فهذا محاولة علاج لداء الحسد، وهو: أن ينظر الإنسان إلى مَنَّ الله وفضله، فهو الذي قسم سبحانه وتعالى، وهو الذي أعطى عز وجل، فإذا من الله عز وجل على عبد؛ فلماذا تعترض أنت على من الله؟ قال تعالى: ((وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ))، كما قال سبحانه وتعالى: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} [الزخرف:31 - 32]. ف A أنها رحمة من الله، فهو الذي اختص برحمته من شاء سبحانه وتعالى، فلماذا يكون الحسد لمن شاءه من عباده؟ قال عز وجل عن الرسل: ((وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ))، أي: ما كان لنا أن نأتي بآية ومعجزة إلا بأن يأذن الله بذلك.

أهمية سلاح التوكل على الله في الدعوة إلى الله

أهمية سلاح التوكل على الله في الدعوة إلى الله قال تعالى: ((وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)). أعظم سلاح يستعمله أهل الإيمان: أنهم يتوكلون على الله عز وجل، وهذا هو الواجب الذي لا ينفك عنه المؤمن، ويتأكد ذلك عندما تشتد الأمور وتزداد المحن، فيعظم حينها التوكل عليه والاستعانة به سبحانه، كما قال سبحانه وتعالى عن قول فرعون مهدداً: {قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ * قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:127 - 128]. وقال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، فالاستعانة بالله سبحانه وتعالى من أعظم ما يواجه به أهل الإيمان هذه المحن وهذه الكربات. قال تعالى: ((وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)). وقدم الجار والمجرور في: ((وَعَلَى اللَّهِ))، للاختصاص والاهتمام، أي: على الله وحده، كما قدم المفعول في {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، للاختصاص والاهتمام، أي: نعبد الله وحده، ونستعين به وحده؛ لأننا نهتم بهذا الأمر أعظم اهتمام، وكما قال مؤمن آل فرعون عندما دعا قومه صراحة إلى الله، قال: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:44 - 46]. والتوكل على الله عز وجل درجات: منه التوكل على الله بأمر الرزق، وهذا توكل الطيور، والبهائم، وسائر الكائنات، ولو توكل بنو آدم على الله عز وجل حق توكله؛ لرزقهم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً. وهذا التوكل ربما تشارك وتساوى فيه الكفرة، والعصاة، والفسقة إلا أن توكل المؤمنين أعظم؛ فهم يتوكلون على الله عز وجل في طاعته وتوفيقه لهم، أي: أنه يعينهم على مرضاته، ويبعدهم عن معصيته، موقنين بأنهم لا يهتدون إلا أن يهديهم الله، ويتوكلون عليه في أن يصلوا بسلام إلى دار السلام، ويتوكلون على الله عز وجل في أن يوفر لهم دخول الجنة. أما توكل الرسل عليهم الصلاة والسلام على الله عز وجل فهو في نصرة الدين، وهداية الأمم، واستخراج الناس من ظلمات الكفر والفسوق والعصيان، وهذا هو أعلى درجات التوكل، بأن تتوكل على الله لأجل نشر عبادته في الأرض كلها، وليس فقط أن تتوكل على الله في خاصة نفسك لكي تعبده أنت في نفسك، بل تتوكل على الله عز وجل لكي يُعبد سبحانه وتعالى في الأرض؛ لأن الله عز وجل ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، فلنتوكل عليه في ذلك سبحانه وتعالى؛ لتبقى دعوة الحق قائمة. قال تعالى: ((وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا)). وكيف لا نتوكل عليه وقد جربنا طريق الهداية، وهدانا الله عز جل إلى توحيده ومعرفته ومحبته؟ فكيف بعد ذلك لا نتوكل عليه وقد علمنا فائدة التوكل وثمرته؟ وفي الحقيقة أن التوكل أكمل ما يكون، وأتم ما يكون عندما تنعدم الأسباب، وتأمل توكل موسى صلى الله عليه وسلم الذي هداه الله سبله، ووفقه الله عز وجل إلى ما أراد، عندما تراءا الجمعان وقال أصحاب موسى: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:61 - 62]، فهذا توكل عظيم، إذ لا أسباب بالمرة، فالعدو قد حضر، وأكد أصحاب موسى أنهم مدركون، قال: ((كَلَّا))، يقيناً بالله، وتوكلاً عليه سبحانه، وثقة به عز وجل قال: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء:62 - 63]. وأعلى منه توكل إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام وهو يلقى في النار، ويقول: حسبنا الله ونعم الوكيل حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين {قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173]. وفي الأثر الإسرائيلي عند البخاري عن ابن عباس: (أن جبريل لقي إبراهيم في الهواء وهو في الطريق إلى النار فقال: ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا، وأما إلى الله فنعم) فهو هنا توكل على الله بلا أسباب، وهو في لحظات سقوطه في النار، ولذا كان الجزاء من عنده عز وجل وليس بسبب مخلوق من المخلوقات، أو بريح هبت فأطفأت النار، أو ملك أخذ إبراهيم فأنقذه، أو ماء نزل من السماء جعل النار الساخنة مطفأة باردة، لا، بل بأمر منه عز وجل: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:68 - 96]. فالله عز وجل بكلامه أنقذ إبراهيم. وأعظم منه توكل النبي عليه الصلاة والسلام عندما قال له صاحبه وهو في الغار: يا رسول الله! لو نظر أحدهم إلى موضع قدمه لأبصرنا، فيقول له (يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما، لا تحزن إن الله معنا). فهذا توكل عظيم، وهو التوكل على الله عز وجل عند انعدام الأسباب من الناس ومن النفوس، فنفوسنا عاجزة ضعيفة لا أسباب فيها، ولعلك تيأس من نفسك أنت؛ كما قال الله عز وجل: {أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} [الرعد:31]، وهذا اليأس من النفس هو عجز. فهذا النبي صلى الله عليه وسلم كان يطمع في أن يؤمن عمه أبو طالب، وبذل الجهد في ذلك، وما آمن أبو طالب فقال تعالى له: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56]، يأس من النفس، وإذا كنت لا تملك أن تهدي أحداً فبالأولى لا تملك ذلك لنفسك، ولا تملك لأحد نفعاً ولا ضراً، ولا تملك لنفسك نفعاً ولا ضراً؛ فكيف تملكه لغيرك؟! وقال عز وجل: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:110]. فالمؤمن قد ييأس من النفس، ومن الناس، ومن الأسباب، ولكنه لا ييأس من رحمة الله أبداً، فيبقى التعلق برحمة الله سبحانه وتعالى، فإذا حصل هذا التوكل العظيم جاء الفرج بإذن الله تبارك وتعالى.

بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين

بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين قالوا: ((وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا))، إن التوكل والصبر واجب في كل وقت وحين، وهذه عبادات لا ينفك عنها المؤمن. وبهذا تنال الإمامة في الدين لا بمجرد العواطف غير المنضبطة، ولا بحسابات عقول قاصرة ضعيفة تدرك الأسباب المادية دون المن الإلهي الذي يمن به على من يشاء، ويفتح به أبواب الخير لمن يشاء سبحانه وتعالى. قال عز وجل: ((وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا)). بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين، كما قال عز وجل: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24]، فلا بد من اليقين الذي هو ثمرة التوكل على الله عز وجل، وثمرة الإيمان الصادق بأن وعد الله عز وجل لا يخلف، قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55]. ((وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا))، فالأذى وارد، ولابد أن يجده من يسير في طريق الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، ولابد من الصبر، ولا يجوز أن ينفك المؤمن عن الصبر والثبات في حال من الأحوال. قال تعالى: ((وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ))، تأكيد جديد على أهمية الجمع بين الصبر والتوكل على الله، وسوف يجعل الله من ذلك أوسع الفرج بفضله عز وجل.

مرحلة التهديد للرسل من أقوامهم

مرحلة التهديد للرسل من أقوامهم انتقلت المواجهة إلى مرحلة أخرى، وهي مرحلة التهديد، فقالوا لرسلهم: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [إبراهيم:13]، أي: لا بد أن تقولوا مثلما نقول، ولا تخرجوا عنه قيد أنملة، لابد أن ترددوا ما نردد، ولا تقولوا غير ذلك، ولو كان ما لديكم هو من عند الله، ولو أتيتم عليه بآلاف الأدلة، ولا تتكلموا بغير ما نتكلم، ولا تدينوا بغير ما ندين؛ فالأرض أرضنا وسوف نخرجكم منها، وما علموا أن الأرض لله {يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128]. فهؤلاء لا يدركون هذه الحقيقة، مع أنهم لو فكروا فيما كان عليه أجدادهم، وفيما سيكون عليه أبناؤهم من بعدهم؛ لعلموا أن الأرض لله سبحانه وتعالى يورثها من يشاء من عباده، فالأمر أمره، والأرض أرضه، والعباد عباده، والله سبحانه هو القاهر فوق عباده، وليس العباد بعضهم بقاهر فوق بعض، قال عز وجل: ((وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا))، فهنا تلمس في كلامهم الغرور والإعجاب بالنفس، والكبر والتسلط والبغي ((أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا)).

عاقبة الظالمين المكذبين للرسل

عاقبة الظالمين المكذبين للرسل قال عز وجل: ((فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ))، قسم من الله عز وجل مؤكد بلام التوكيد ونون التوكيد الثقيلة، وهي تدل على وجوب تحقق ما أقسم الله عز وجل عليه، وأنه سوف يهلك الظالمين ولا بد. قال تعالى: ((وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ))، هذا وعد من الله بأنه سيورث الأرض لعباده المؤمنين كما قال عز وجل: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ * وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:105 - 107]، وقال سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173]. ولكن لمن يكون ذلك؟ وماذا يراد منا؟ قال: ((ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي))، لابد أن نخاف الله عز وجل وحده، وخوف مقام الله سبحانه وتعالى فسر بمعنيين: الأول: خوف مقام الرب على عبده بالاطلاع عليه، ثم بالحساب له يوم القيامة، فالله سبحانه وتعالى قائم على كل نفس بما كسبت، ويحاسبهم على ذلك، فإذا خاف العبد مقام الله عز وجل عليه بالاطلاع والمراقبة والمحاسبة اتقاه وعمل بطاعته. الثاني أن يخاف العبد مقامه بين يدي ربه يوم القيامة. والتفسيران متلازمان، فإن الاطلاع والمراقبة يقتضي المحاسبة، فالعبد موقوف بين يدي الله عز وجل، وهذا هو الذي ينبغي أن نخاف منه، ولا يجوز أن نخاف غيره قال تعالى: ((ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ))، وكلا الخوفين واجب: خوف مقام الله ورهبته، وخوف وعيده وعقابه وعذابه، ولسنا كما يقول الزنادقة: اللهم إن كنت أعبدك خوفاً من النار فأدخلني فيها. بل نخاف وعيد الله، ونعمل للقاء الله سبحانه وتعالى، نسأل الله أن يرزقنا الخوف منه وحده لا شريك له.

دور الدعاء في النصر على الأعداء

دور الدعاء في النصر على الأعداء قال تعالى: ((وَاسْتَفْتَحُوا))، أي: استفتحت الرسل وطلبت الفتح والفصل والحكم، ودعت الله عز وجل أن يفصل بينهم وبين قومهم، {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف:89]. والدعاء من أمضى الأسلحة إن لم يكن هو أمضاها وأقواها، وأعظم سبيل للنصر بإذن الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم). أي: بدعائهم وصلاتهم وإخلاصهم. وهكذا يكون النصر بالدعاء، ويكون فتح الأبواب المغلقة بالاستفتاح، نستفتح الله عز وجل، أي: ندعوه أن يفتح لنا، وأن يحكم بيننا، وأن يفصل في هذه الخصومة التي وقعت، وفي الخلاف بين منهج الحق ومناهج الباطل. قال الله تعالى: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} [إبراهيم:15]. وإن كان الأمر قد يتأخر قليلاً لكن لابد وأن يقع، قال عز وجل: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [يونس:88 - 89]. إذاً: فالاستقامة سبب في إجابة الدعوة، ولو بعد مدة، ولكن الواجب أن تستقيم ((اسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ))، أي: لا تبتعد عن الطريق الحق إلى سبل الضلال، فضلاً عن أن تكون ممن لا يعلم، فلا بد من العلم ومن الاستقامة معاً، والعمل بهذا العلم، ولابد من عدم الركون إلى من ظلم، وعدم متابعة سبيل الذين لا يعلمون، ومع الاستعانة، والصبر، والاستقامة، والإيمان، والعمل الصالح، وعبادة الله وحده لا شريك له يكون الفرج. ((وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ))، والجبار: هو الذي يسفك الدماء، وينتهك الحرمات؛ ليجبر الناس على إرادته الباطلة المحرمة والمخالفة لشرع الله، دون أن ينظر في أمره الذي يأمر الناس به، فهو يجبرهم عليه سواء كان موافقاً لدين الله أم لا، فهذا يسمى جباراً، وإذا امتنع منه أحد قتله، وهذا النوع يخيب دائماً، قال تعالى: ((وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ))؛ لأنه عاند شرع الله بعد أن وضح له الحق، وعلم أن ما جاءت به الرسل هو الحق، ومع ذلك فهو يحاربه ويعانده. قال تعالى: {مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ} [إبراهيم:16]، ونعوذ بالله من ذلك. ((مِنْ وَرَائِهِ)) أي: جهنم أمامه تنتظره، (ويسقى من ماء صديد)، والصديد هو: عصارة أهل النار، وجروح أهل النار ((يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ)) وإذا قرب ذلك الإناء الذي فيه الصديد من وجهه فإنه يشوي وجهه، ويسقط لحم وجهه فيه، ومع ذلك يسقاه رغماً عنه، فهو يتجرعه ولا يكاد يمر من حلقه، ويتألم في كل جزئية من جزئياته، ويعذب بكل أنواع العذاب، فالناس تسقى لكي تبرد ما في أجوافها من حرارة، وهذا يسقى ليزداد عذاباً. ((يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ)). أشد اللحظات على الإنسان هي لحظات الانتقال من الحياة إلى الموت. ((وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ))، ((وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ))، نعوذ بالله من ذلك. ثم بين سبحانه وتعالى هبوط أعمال الكفار والعياذ بالله، وأنها في الدنيا والآخرة لا تساوي شيئاً، قال تعالى: ((كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ)) والآية دليل على هبوط العمل وذهابه وضياعه وانتهائه بالكلية والعياذ بالله، ففي الدنيا لم يحققوا أغراضهم، وفي الآخرة كان العذاب الأبدي مآلهم ((ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ)). نسأل الله عز وجل أن يعز الإسلام والمسلمين، وأن يذل الشرك والمشركين، وأن يدمر اليهود والنصارى والمنافقين، وسائر الكفرة الملحدين أصحاب الضلالة ودعاة السوء. اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين. ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا. ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا، ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، ونجنا برحمتك من القوم الكافرين، ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير، ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا، واغفر لنا ربنا، إنك أنت العزيز الحكيم. اللهم أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وانصر لنا ولا تنصر علينا، وانصرنا على من بغى علينا، اللهم اجعلنا لك شكارين، لك ذكارين، لك مطواعين لك رهابين، إليك منيبين قانتين، تقبل توبتنا، وثبت حجتنا، وأجب دعوتنا، واهد قلوبنا، وسدد ألسنتنا، وأزل الشحناء من صدورنا. اللهم اجعلنا من عبادك المخلصين، اللهم اجعلنا من عبادك المخلصين، اللهم إنا نعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته، اللهم رب السماوات السبع ورب الأرض ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، فالق الحب والنوى، منزل التوراة والإنجيل والفرقان. نعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته، اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء.

خذوا ما آتيناكم بقوة

خذوا ما آتيناكم بقوة إن من الواجبات الملقاة على عاتق الأمة الإسلامية أخذ الدين بقوة، بقوة العلم النافع، والعمل به. وهاتان القوتان لا تنفكان عن بعضهما، ولا يمكن أن يستغنى عن إحداهما، فالواجب على كل فرد في هذه الأمة أن يسعى ويجد ويجتهد من أجل تحقيق هاتين القوتين في نفسه أولاً وفيمن حوله ثانياً، حتى يعود لهذه الأمة مجدها وعزها.

ضرورة أخذ أمور الدين بقوة

ضرورة أخذ أمور الدين بقوة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. الواقع الذي نعيشه كمن يستلقي على الفراش ويقرأ صحف الصباح، هذه هي المشكلة لدى الكثيرين منا إن لم يكن لدينا جميعاً، نسأل الله العافية. لا شك أن الأمر لبني إسرائيل بأن يأخذوا ما آتاهم الله بقوة هو أمر لنا كذلك؛ لأن شريعتنا أتت بمثل ذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل الخير). والقوة المذكورة هنا هي في أمر الدين؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ليس الشديد بالصرعة ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)، فتبين بذلك أن القوة البدنية إذا لم يكن معها قوة في النفس وقوة في القلب في مرضاة الله سبحانه وتعالى لم تكن نافعة؛ لذا نقول: إن هذا الأمر أمر لنا، وهو أمر من الله إلى الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وقد أمر الله النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بهم، فقال له: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90]، وهذا موسى عليه السلام قال الله عز وجل له: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} [الأعراف:145]. وقال سبحانه وتعالى ليحيى عليه السلام: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم:12]. فهذا أمر الله للأنبياء، ولذا فهو أمر لنبينا صلى الله عليه وسلم وأمر لنا بالتبع؛ لأننا نتبع الرسول صلى الله عليه وسلم ونتبع أنبياء الله عز وجل. لا شك أن المرحلة التي يعيشها المسلمون اليوم مرحلة حاسمة وخطيرة، وإذا بذل كل فرد من أفراد المجتمع المسلم جهده وكل ما عنده من قوة، عند ذلك يرجى أن يتغير الواقع، ويرجى أن يأتي الفرج من عند الله سبحانه وتعالى، وأن تتبدل الأحوال التي قد يظن كثير من الناس أنها لا مخرج منها، وأنها وصلت إلى طريق مسدود.

أنواع القوة

أنواع القوة نريد أن نستعرض معاً ما هي أنواع القوة التي نحتاجها فيما نحن مقبلون عليه، وفيما نحن فيه تجاه الإسلام؟ وكيف نعمل من أجله؟ وما هي القوة المطلوبة في ذلك؟ تكلم أهل العلم عن نوعين من أنواع القوة يحتاجها كل سائر في أي طريق، ويحتاجها السائر إلى الله سبحانه وتعالى بالأولى. النوع الأول: القوة العلمية المبصرة التي يرى بها طريقه. النوع الثاني: القوة العملية، قوة الإرادة وقوة العزم، وقوة التحرك بالفعل، ولا تغني واحدة من القوتين عن الأخرى، فلابد من قوة علمية مبصرة، فالإنسان عندما يسير بسيارته مثلاً في طريق مظلم، وهذا الطريق مليء بالعقبات ومليء بالتفرعات الخطرة التي لو لم يكن الإنسان يعرف الطريق جيداً ويبصر لن ينجو منها، ويوشك أن يهلك في أحد الأودية المهلكة، التي يقع فيها من ينحرف عن هذا الطريق، كما أن في هذا الطريق قطاع طرق كثيرون، ينتظرون أي إنسان تتعطل مسيرته فيهجمون عليه ويمزقونه إرباً، أو يأخذونه أسيراً عندهم فضلاً أن يستولوا على ماله ولو كان معه شيء آخر كأهله وأولاده وغير ذلك لاستولوا عليه، وهذا والله نحن بصدده كمثال، فلابد أن يكون السائر على صراط الله عز وجل ذا قوة مبصرة، فهذا السائر بسيارته لا يمكن أن يسير في الطريق المظلم بدون نور في السيارة، وإلا يصطدم بالعقبات، أو يضل الطريق عند الانحرافات والتفرعات، أو يسقط في أحد الأودية المهلكة، كذلك لا يمكن أن يكون الموتور متوقفاً؛ لأنه لو توقف حتى ولو كان معه نور لأوشك النور أن ينطفئ، كما قال أحد السلف: العلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل، فإن لم تكن متحركاً عاملاً بعلمك أوشك هذا النور الذي أعطاك الله إياه أن ينطفئ، إذا لم تكن تزكي هذا العلم بالعمل أوشك هذا العلم أن يرحل ويزول، كنور السيارة حين ينطفئ إذا لم يكن المحرك يعمل، فلابد أن يكون هناك محرك حتى يستمر النور، وإلا انطفئ بعد قليل. وكذا إذا لم يكن المحرك يعمل فقطاع الطرق يريدون أخذ كل شيء معك، يريدون أخذ قلبك حتى يفرغوه من الحق الذي فيه، ويملئوه بباطلهم وزخرفهم، ويريدون أخذ أموالك ليستغلوها في الربا والميسر والخرافات والخزعبلات، ويريدون أخذ أولادك ليكونوا عبيداً والعياذ بالله لمناهجهم المنحرفة، وجاهليتهم العفنة، ويريدون أخذ أهلك من أجل أن تكون نساء الأمة مباحات لمن يشتهي ويريد في الهيئة وفي الفعل وفي غير ذلك، ويريدون وقف عقل الأمة بالكلية. ما أكثر قطاع الطرق من أعداء الإسلام والمسلمين من الكفار والمنافقين! فهم متربصون بكل طريق، فهل آن لنا أن نشعر بالخطر حتى نستمر في طريقنا بكل قوة، ونحافظ على النور الذي معنا، ونندفع كذلك على الطريق الصحيح بأقصى ما عندنا من قوة، أم ما زلنا نتحرك وما زلنا نعمل بطريقة كمن يستلقي على الفراش وينظر ويتأمل ويتعاطف مع هذا الفريق ضد هذا الفريق؟ هذا أمر خطير لابد أن ننظر في علاجه جيداً، فإننا منذ مدة طويلة قد بدأ كثير منا الالتزام، لكن هل حققنا ما هو مطلوب منا في نوعي القوة: القوة العلمية، والقوة العملية؟ سوف نذكر بعض التفاصيل الضرورية لكل واحدة منهما؛ لينظر كل واحد منا إلى نفسه أولاً قبل أن ينظر إلى الآخرين، ماذا حقق في هذا الجانب؟

القوة العلمية المبصرة وأنواعها وثمرتها

القوة العلمية المبصرة وأنواعها وثمرتها نقول: إن القوة العلمية المبصرة، أصلها العلم، وثمرتها البصيرة في القلب، حيث يبصر القلب الحق من الباطل، والسنة من البدعة، والهدى من الضلال.

وجوب تعلم الإيمان والإسلام والإحسان الواجب

وجوب تعلم الإيمان والإسلام والإحسان الواجب ماذا حققنا من علم واجب علينا ونحن نعلم؟ ومن لا يعلم نقول له: إن العلم الواجب على كل مسلم ومسلمة وعلى الطائفة المؤمنة كذلك نوعان: نوع هو فرض عين على الأمة كلها، يعني: فرض عين على كل واحد من الأمة لا يسعه أن يكون جاهلاً به، وهذا هو علم الإيمان والإسلام والإحسان الواجب، فلابد أن يكون الإنسان على علم بالدين، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)، فيفهم من ذلك أن من لم يفقهه الله في الدين لم يرد الله عز وجل به خيراً، قال سبحانه وتعالى: {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8]، {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون:7]. فتبين بذلك أن من خصال النفاق ومن خصال المنافقين عدم التفقه في دين الله عز وجل، وعدم العلم بدين الله سبحانه وتعالى. وقال سبحانه وتعالى: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [التوبة:97]. وكان السلف يعدون من ذلك أشياء لو نظرنا إلى عامة من يظهر منه الالتزام اليوم لوجدناها موجودة فيه، ولا حول ولا قوة إلا بالله، كان زيد بن صوحان رحمه الله أحد التابعين في درس له في المسجد وكان في المجلس أعرابي، وكان زيد قد قطعت يده اليسرى في إحدى الغزوات، فقال الأعرابي: إن كلامك ليعجبني وإن يدك لتريبني! فاستغرب زيد فقال: وما يريبك منها؟ إنها الشمال، فقال: والله ما أدري أتقطعون اليمين أم الشمال؟ فقال زيد: صدق الله: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [التوبة:97]. فالأعرابي لا يدري أي اليدين تقطع اليمين أو الشمال، وهذا يدل على وجود شيء من النفاق في قلبه، وإن لم يكن من النفاق الأكبر، والعياذ بالله، لكن علامة من العلامات، وهو يدل أيضاً على أن الجهل أمر فظيع. إذاً: فلينظر وليقف كل منا إلى مجموع طائفتنا كم منا من يعرف أن اليمين هي التي تقطع أم الشمال؟ فإذا قلنا: من أين تقطع؟ أتقطع من المرفق أم تقطع من الكوع الذي هو الرسغ أم تقطع من الإبط مثلاً كما يقول الخوارج؟ وفي أي شيء تقطع؟ فالحقيقة إذا نظرنا إلى هذا الأمر لوجدنا أن كثيراً جداً من الملتزمين لا يعرفون أصلاً أن اليمين هي التي تقطع، وأنها تقطع مثلاً من الكوع، وهذا أمر كان عند السلف في وقت من الأوقات علامة على الجهل الشنيع، يعني: كون الشخص لا يدري من أين تقطع اليد في السرقة، ولا حول ولا قوة إلا بالله. إذاً: ضياع العلم علامة على الخطر العظيم، فنقول: هناك علم طلبه فريضة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (طلب العلم فريضة على كل مسلم). هذا هو النوع الأول من أنواع العلوم، وهو كما ذكرنا علم الإيمان والإسلام والإحسان، ففرض على كل مسلم ومسلمة أن يتعلم من علم الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وما تدل عليه هذه الكلمة من نفي الشرك، ومن بطلان أي عبادة لغير الله سبحانه وتعالى، وأن يعلم أصول التوحيد الواجبة التي لابد أن يحققها حتى تصح شهادته وتنجيه من النار، والجهل بأنواع الشرك المنتشر في الناس الذي يوشك الناس أن يقعوا فيه، ومن وقع فيه فصاحبه لا يكفر حتى تقام عليه الحجة؛ لأنه وقع فيه عن جهل، لكن هذا لا يعفيه من الإثم، فلا نعني بالعذر بالجهل أنه معذور، بمعنى زال عنه الإثم تماماً، طالما كان مقصراً في طلب العلم فهو آثم إثماً عظيماً؛ لأنه يجهل أمراً من أمور دينه وتوحيده.

وجوب تعلم ما تصح به الصلاة وما تبطل

وجوب تعلم ما تصح به الصلاة وما تبطل كذلك لابد للمسلم أن يعلم ما تصح به صلاته وما يشترط لها بمجرد بلوغه، يعني: يجب عليه أن يتعلم الطهارة والغسل، وما تصح به الصلاة وما تبطل، وما شروطها وما أركانها، يلزمه أن يتعلم ذلك كله؛ لأنه فرض عين على كل مسلم ومسلمة. أما ما يسميه بعض المنحرفين الذين يستهزئون بأنواع من الفقه: فقه دورة المياه، مع أنه من الفروض العينية على كل مسلم ومسلمة فلا يلتفت إليه ولا يؤبه له. وكذا يلزم المسلم أن يتعلم ما يصح به صومه، وما يبطل به، وما يحرم عليه أثناء صومه؛ لأنه لا تصح العبادة إلا بتعلم ذلك.

وجوب تعلم صاحب المال فقه الزكاة

وجوب تعلم صاحب المال فقه الزكاة كذلك فرض على المسلم إذا كان ذا مال أن يتعلم فقه الزكاة، فيتعلم متى يلزمه أداء الزكاة، وكم نصابها، وكم يخرج كل عام، وما هي الأموال التي يخرج منها وما لا يخرج، فهذا أمر واجب على أي واحد منا عنده أموال قد بلغت النصاب؛ فبالنسبة لزكاة عروض التجارية ففيها اثنان ونصف في المائة، أما بالنسبة للفضة فنصابها خمسمائة وخمسة وتسعون جراماً من الفضة، والذهب نصابه خمسة وثمانون جراماً تقريباً، جاء في الحديث: (ليس فيما دون خمس أواق من الفضة زكاة) خمس أواق هي مائتا درهم، والدرهم العربي وزنه ثلاثة جرامات، فإذا اكتمل نصاب الذهب والفضة فتخرج زكاتهما اثنين ونصف في المائة. أما عروض التجارة والأموال القائمة فعند جمهور أهل العلم أنها تحسب على الأحظ للفقير، مراعاة للأصل الذي هو أن الزكاة تجب في كل مال، إلا ما استثناه الشرع وهو ما لم يبلغ نصاباً، فإذا كان يبلغ نصاباً بالفضة ولا يبلغ نصاباً بالذهب فيخرج على نصاب الفضة.

وجوب تعلم فقه الحج والعمرة لمن استطاع الحج والعمرة

وجوب تعلم فقه الحج والعمرة لمن استطاع الحج والعمرة كذلك الحج والعمرة يجبان على من استطاع السبيل إلى بيت الله الحرام فقط، لكن لا يؤدي عبادة الحج من المسلمين كل سنة إلا واحد في الألف، ولو نظرنا إلى من يؤدي هذه العبادة لوجدنا كماً هائلاً جداً من البدع والمنكرات والمخالفات، ربما أدت إلى بطلان الحج أو إلى نقصانه وكذا العمرة؛ لأنه لم يفكر في أن يتعلم ما يلزمه.

وجوب تعلم فقه المعاملات التجارية بالنسبة للتاجر

وجوب تعلم فقه المعاملات التجارية بالنسبة للتاجر كذلك لو أقدم المسلم على أي مشروع أو أي تجارة أو أي عمل لابد أن يتعلم حكم هذا المشروع، ويسأل أهل المعرفة في ذلك، فلماذا لا نطبق هذا الكلام فيما يلزمنا من أمور الإسلام كما ذكرنا؟! يلزم المسلم في باب المعاملات أن يتعلم فقه المعاملة التي يتعامل بها، فإذا تعامل بأي نوع من أنواع المعاملات لزمه شرعاً أن يتفقه فيها، فكل من يبيع ويشتري يلزمه أن يتعلم فقه البيع والشراء، وما يجوز وما لا يجوز، بدلاً من أن يقع في أمر محرم ثم يقول: لم أكن أعلم، لماذا لم تعلم؟ لأنك قصرت في التعلم، ولأنك لم تأخذ ما آتاك الله عز وجل بقوة؛ القوة العلمية المبصرة التي تعرف من خلالها الحلال من الحرام. كان عمر رضي الله عنه يأمر كل من يجلس في السوق أن يتعلم فقه البيع والشراء؛ حتى لا يأكل الربا وهو لا يشعر، وحتى لا يقع في الغرر والميسر وهو لا يشعر، فكل من أجر أو استأجر أو استؤجر كل هؤلاء لازم عليهم أن يتعلموا فقه الإجارة، ويكون تعلم ذلك بالقراءة، وبالسؤال وبسماع دروس العلم عبر مجالس العلم أو الأشرطة ونحو ذلك. إذاً: كل من يتعامل في معاملة معينة يلزمه أن يتفقه فيها، يعني: من يتعامل مثلاً في المضاربة والشركة يلزمه أن يتعلم فقه المضاربة والشركة، كم هائل جداً من المشاكل والاختلافات والأمور المحرمة ترتكب ممن يظهر الالتزام ويكون ظاهره أنه متبع للكتاب والسنة ومتبع لأهل العلم ومع ذلك إذا ضارب يفعل العجب، إذا شارك يفعل أغرب الأمور، ويقول لك: لم أكن أعلم! لا، لا يجوز أن تقدم على المضاربة حتى تتعلم كيفية المضاربة، وتتعلم ما يلزمك في هذا الباب، هذا فرض على كل من تعامل بهذه المعاملة.

وجوب تعلم فقه النكاح وما يتعلق به من نفقة وسكنى وطلاق وغير ذلك

وجوب تعلم فقه النكاح وما يتعلق به من نفقة وسكنى وطلاق وغير ذلك كذلك فرض عين على كل من تزوج أن يتعلم فقه الزواج، ما يجوز للرجل من امرأته وما لا يجوز له منها، وما يجب عليها من طاعته وما لا يجوز أن يطلبه منها، لابد أن يتعلم فقه ذلك، لكن نرى أن أول عمل يقوم به الشاب عند إرادة الزواج هو البحث عن المال والبيت والمهر وتكاليف الزواج وغير ذلك، ولا يفكر أن يدرس فقه الزواج، والمرأة كذلك غفلت عن فقه الزواج مع أنه فرض عين عليها أن تعلم ما يلزمها. كذلك يلزم كل من أراد أن يطلق أن يتعلم فقه الطلاق، حتى يقع طلاقه وفق الشرع، ولا يقع طلاقاً بدعياً محرماً مثلاً، كذلك المرأة فرض عين عليها أن تتعلم فقه الطلاق قبل وقوعه، وإذا لم تكن تعرفه يلزمها أن تعرفه وقت وقوع الطلاق، وفي الغالب الأعم أن أي امرأة تطلق من زوجها فأول عمل تعمله تأخذ ملابسها وتمشي إلى بيت والدها، مع أن ربنا سبحانه وتعالى يأمر بعدم الخروج من بيت الزوج، حيث يقول: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق:1] يعني: لابد أن تكون في فترة العدة كلها موجودة في بيت الزوج، ويجب عليها أن تعرف العدة.

وجوب تعلم أحكام الإرث

وجوب تعلم أحكام الإرث كذلك يلزم كل من مات له ميت وترك مالاً أن يتعلم فقه الميراث، هذا فرض عين عليه؛ لأنه لا بد أن يعرف ما حقه وما حق أخواته وحق أقاربه، حتى يلتزم بذلك ولا يحيد عنه.

مجمل ما يجب تعلمه من أمور الدين

مجمل ما يجب تعلمه من أمور الدين النبي عليه الصلاة والسلام قد بين حكم أمور الإسلام الواجبة، بين أركان الإسلام التي بني عليها، وليس معنى ذلك أنها فقط هي الإسلام لكن هي أركانه التي تركها وعدم فعلها يدل على انحلال قيد الاستسلام أو اختلاله، إما أن ينحل بالكلية ويضيع إسلام المرء، أو يختل على الأقل. فهذه الأبواب التي لا يكاد يصل إليها إلا من نعتبره عندنا متخصصاً أو طالب علم مهتماً جداً كأن يكون قرأها ودرسها على المشايخ، ومع ذلك هناك من طلاب العلم المتخصصين في الدراسات الشرعية من تكون هذه الأبواب عنده غامضة جداً؛ لأن الطلاب في الغالب الأعم لا يكادون يصلون إليها، وإنما قبل الامتحان ينظر الطالب في المسائل المحتملة أن تأتي في الامتحان، وليس نيته أن يدرس دين الله عز وجل ويتعلم الدين، فهذا الأمر خطير بلا شك، ولذلك تجد في هذه المسائل أعاجيب حتى ممن قد يكون قد حصل على شهادات رسمية وأهل في هذا الجانب. نقول: إن تعلم الإسلام فرض عين، فهل نحن أخذنا هذا الأمر بجد وبقوة كما أمرنا الله سبحانه وتعالى؟ فرض عين على المسلم أن يتعلم علم الإيمان، أن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، وأن يتعلم من هو المسلم ومن هو المؤمن ومن هو الكافر؛ لأن هذه الأمور يترتب عليها الولاء والبراء، ويترتب عليها الحب والبغض، ويترتب عليها كثير من المعاملات من الحلال والحرام فيما يجوز بين المسلم والمسلم، وما لا يجوز مع الكافر. وليس معنى ذلك أن المرء يقر بوجود الله والملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر ويحفظ خمس كلمات أو ستاً، لا، بل عليه أن يعلم تفاصيل ضرورية في هذه الأركان، لابد أن يعلم توحيد الله، من الإيمان بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله عز وجل، وليس المقصود أن يعلم حجج وشبهات أهل الباطل والرد عليها، لكن يعلم ما تصح به عقيدته في الله عز وجل، يعلم أن الله بكل شيء عليم، وأن الله على كل شيء قدير، وأنه سبحانه وتعالى واسع المغفرة، وحتى يؤدي العبادات الواجبة التي هي داخلة في أمر الإحسان عليه، وأن يخلص لله عز وجل، وأن يخاف الله عز وجل، وأن يرجوه، وأن يطمع في رحمته، وأن يدعوه رغباً ورهباً، وأن يتوكل عليه، وكله مبني على معرفة الأسماء والصفات؛ لأن هذه عبادات واجبة من لم يؤدها كان ناقص الإيمان أو منعدم الإيمان، كما قال تعالى: {وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175]، وقال عز وجل: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة:40]، وقال سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، وقال الله عز وجل: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23]، وقال الله سبحانه: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران:122]، وقال الله تعالى: {وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة:172]. أي: لابد أن تعلم أن النعمة من عند الله فتشكرها، ولابد أن تصبر على ما يصيبك؛ لأنك تعلم أنك لله وأنك إليه راجع، وأن الله هو الذي يقدر الأمور سبحانه وتعالى بقدرته وعلمه وحكمته، ولابد أن تعلم أن الله حكيم لا يضع شيئاً في غير موضعه، لابد أن تعلم هذه الأصول العظيمة من الإيمان بأسماء الله وصفاته التي تترتب عليه العبادات الواجبة، التي هي ضمن أمر الإحسان الذي وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، هذا مبني على علم الإيمان الذي أوجبه الله عز وجل. كذلك لابد أن تعلم الإيمان بالملائكة، وكيف أنها خلقت من نور، وأنهم يطيعون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، قال تعالى عنهم: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، ولابد أن تعتقد أمانتهم واجتهادهم في العبادة. كذلك لابد أن تؤمن بالرسل الذين أرسلهم الله عز وجل وما يجوز لهم وما لا يجوز عليهم، وما يمكن أن يقع منهم، وكيفية معاملتهم؛ وإلا فقد يضل الإنسان بسبب جهله وسبب عدم معرفته بحق الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وما تلك البدع المنتشرة فيما يتعلق بالرسل وبالأولياء وغير ذلك إلا من جهل كثير من الناس؛ لأنهم لو علموا أن الرسول بشر من البشر وبالأولى الولي لعلموا أن الرسول أو الولي لا يملك أن يغيث، ولا أن يسمع كل الأشياء، ولا أن يبصر كل شيء، ولا أنه يقسم الأرزاق مثلاً، فينبغي أن يعلم المعلم أن صفات الرب عز وجل ليست صفات للنبي ولا صفات للولي، فلا يتوجه إلى هؤلاء بصرف العبادة لهم ودعائهم. لابد أن يعلم أصول الإيمان باليوم الآخر، بما في ذلك أشراط الساعة، وما يكون من عذاب القبر ونعيمه، وما يكون من أهوال القيامة، هذه فروض عين على كل إنسان أن يتعلمها، ولا يجوز أن يجهل هذه الأمور. وسأضرب مثالاً على ذلك: لماذا حدث اضطراب عظيم جداً عند الناس نتيجة أن ممثلاً في تمثيلية قال يوماً: لا يوجد شيء اسمه عذاب القبر؟ فالناس أصابهم ذهول وشك ولا يدرون حقيقة الأمر؛ لأنه لا يوجد عندهم علم راسخ، فهم يأخذون الآن اعتقاداتهم من تمثيلية نسأل الله العافية! وهناك كتب كثيرة جداً تناولت أشراط الساعة فيها الكثير من البدع والمنكرات، وأصحابها أصحاب دراسات عليا في الشريعة أو في الأزهر الشريف، يقول أحد هؤلاء الكتاب: إن المسيح الدجال يظهر في ربيع (1992م)، وآخر يقول: المسيح الدجال سيظهر من مثلث برمودا، وغير ذلك من الأعاجيب، لماذا هذا الخلل العظيم وهذا التقصير الشديد حتى من أناس داخل دائرة الالتزام ظاهرياً. أما عن قضية الإيمان بالقضاء والقدر، فهي قضية بلا شك مزلة أقدام، وموضع ضلال للكثيرين الذين لم يتعلموا منهج أهل السنة والجماعة في ذلك، وإنما أخذوا اعتقادهم من مجرد حديث يسمعونه أو من كلمة قد يقولها قائل في الطريق، ولم يهتموا بهذه المسألة ولم يبحثوا فيها، ولم يتعلموا هذه المسألة العظيمة التي هي ركن من أركان الإيمان، والتي لو أنفق الواحد مثل أحد ذهباً في سبيل الله وكان مخلصاً لما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر كما قال عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما؛ لأن الإيمان بهذه الأصول الستة شرط في قبول العمل، حتى ولو كان العمل خالصاً فإنه لا يقبل إلا بالإيمان بهذه الأصول. فهذه أصول الإيمان يلزم كل مسلم أن يتعلمها، بل وفرض عين كما ذكرنا حتى يحقق معاني الإيمان. وأما الإحسان فالواجب كما ذكرنا هو أن يعبد الله سبحانه وتعالى مخلصاً خائفاً راجياً، يعني: يحقق معاني العبودية كأنه يرى الله سبحانه وتعالى. فالقدر الواجب من ذلك أن يوجد في قلبه التوكل الواجب، والحب الواجب، والخوف الواجب؛ لأن كل هذه العبادات فيها قدر واجب أشار إليه القرآن وبينه الرسول عليه الصلاة والسلام، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين). وقال: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما). وقال عز وجل: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24]. فسمى الله تعالى من كان حب هذه الأشياء في قلبه أكبر من حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فاسقاً، والعياذ بالله من ذلك. وسائر عبادات القلب من شكر نعمة الله، والرضا بقضائه سبحانه وتعالى، والرضا به رباً وإلهاً وبالإسلام ديناً. كذلك الولاء والبراء، يعني: الحب في الله والبغض في الله، كل هذه من الواجبات التي هي أعمال القلوب الضرورية التي لا يثبت الإيمان إلا بها، وهي ضمن الإيمان في الحقيقة، والنبي صلى الله عليه وسلم قد جعلها باسم الإحسان تنبيهاً على أهميتها وشرفها ومراقبة الرب سبحانه وتعالى في أدائها، والله أعلم. هذا هو النوع الأول من العلم المطلوب.

أهمية تفرغ بعض المسلمين للتفقه في الدين

أهمية تفرغ بعض المسلمين للتفقه في الدين النوع الثاني من العلم المطلوب، وهو الذي لا يحصل النوع الأول لكل واحد من المسلمين والمسلمات إلا بوجوده، وهو المذكور في قوله تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122]. يعني: فرض عين على كل طائفة، أو كل جماعة من المسلمين في مدينة أو قرية أو حصن أن ينتدبوا منهم من يطلب جميع أحكام الديانة من أولها إلى آخرها، ويتعلم القرآن كله، وما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحاديث الأحكام وغيرها، ثم يرجع ليعلمهم أمور دينهم، فإن لم يجدوا في محلتهم من يفقههم في دينهم ففرض عليهم الرحيل إلى حيث يجدون العلماء المجتهدين المفتين ولو بعدت ديارهم، كما يقول ابن حزم: ولو كانوا بالصين. ومعلوم أن الناس لا يرحلون كلهم لطلب العلم؛ لأنهم مشغولون بمكاسبهم وأرزاقهم، ولذا فلابد أن يوجد في كل مدينة أكثر من عالم؛ لأن المدينة يسكنها ملايين من الناس فلا يكفيهم عالم واحد بلا شك، بل أطرافها يصعب الانتقال بينها. والنوع الأول من العلم لا يمكن أن يوجد لدى الناس إلا إذا وجد هذا النوع الثاني، فإن الرجل الذي يريد أن يطلق فلا بد أن يتعلم فقه الطلاق، لكن كيف يتعلم فقه الطلاق إذا لم يجد عالماً في بلده يسأله؟! وهذا الشخص لا يلزمه أن يكون متفرغاً تماماً لدراسة كل أنواع العلم ليدرك كل المسائل بالدليل الراجح؛ لأن هذا أمر يعسر على كثير من الناس، ولا يمكن أن يكون واجباً على الجميع، لكن الواجب أن يسأل أهل العلم إن كان لا يعلم. إذاً: وجود أهل العلم واجب وهو فرض على الكفاية، فالمثال الذي ذكرناه سابقاً: هو مثال قطع اليمنى من اليسرى في السرقة هذا من علوم فرض الكفاية بلا شك، إذا وجب على الناس أن يقطعوا يد سارق وجب عليهم أن يعلموا تفاصيل ذلك، ولكن هذا الأمر إنما يحصل مع انتشار العلم، وقبض العلماء هو شر؛ لأنه لا يأتي على الناس زمان إلا والذي بعده شر منه، ومعنى ذلك أن قبض العلماء وقلة العلم من علامات وأشراط الساعة، وفي ذلك دلالة على أن الدنيا يصيبها الخراب بقلة العلم والعلماء، وقلة العلم ليس حاصلاً في عامة المسلمين فقط، بل في كثير ممن يعتقدون أنهم الملتزمون بالدين وأنهم أهل الدعوة إليه ونحو ذلك.

القوة العملية وجوانبها وثمرتها

القوة العملية وجوانبها وثمرتها القوة العملية المطلوبة التي لابد أيضاً أن نأخذ ما آتانا الله عز وجل فيها بقوة، تشمل جوانب كثيرة، سوف نذكر أربع نقاط فيها تحتاج منا إلى وقفة:

القوة في أداء العبادة وفق الشرع

القوة في أداء العبادة وفق الشرع النقطة الأولى: القوة في أداء العبادة كما أمرنا الله عز وجل بها، يعني: أولاً: ينبغي أن نعلم ما تصح به العبادة وكذا أداؤها، يعني: نؤديها كما يحب الله عز وجل؛ لأن هذه العبادة هي التي تغير الإنسان وتشكل حياته بالكلية إذا أداها كما ينبغي، فهو إذا أدى الصلاة كما أمر الله عز وجل كان من المفلحين، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1 - 2]، فأول وصف لهم هو الفلاح، فلاح عظيم؛ لأنه لو أداها بالخشوع الواجب وبحضور القلب لتغيرت حياته بلا شك، كذلك لو استحضر الإنسان عظمة الله حين يكبره، واستحضر حمده حين يثني عليه، واستحضر رحمته فرجاها، واستحضر ملكه فمجد الله عز وجل به، وطلب الهداية منه بعد أن يقرر أنه يعبده وحده، ويستعين به وحده، ويتبرأ من ملل الباطل والضلال، وهي فرق المغضوب عليهم والضالين، وغير ذلك من المعاني الأساسية التي هي من معاني الإيمان؛ لتغير حال هذا الإنسان إلى الأحسن، ونحن في هذا الجانب عندنا قصور شديد جداً، لابد أن نجتهد في علاجه، حتى إن الواحد منا قد يظن أنه يصلي نوافل ويصوم نوافل، وهذه النوافل في الحقيقة إنما تكمل جزءاً مما فرط فيه من الفرائض في أغلب الأحيان إلا من رحم الله سبحانه وتعالى، فإذا تحدثنا مثلاً عن المحافظة على صلاة الفجر في ميقاتها في الجماعة في المسجد وعدم التفريط في ذلك، لوجدنا أمراً خطيراً ألا وهو تفريط أكثر المسلمين في صلاة الفجر. أما عن القيام بالنوافل التي أوجبها الله عز وجل على المسلمين في أول الإسلام؛ إعداداً لأمة الإسلام، وإعداداً للطائفة المؤمنة مع الرسول عليه الصلاة والسلام، حتى تهيأ للواجبات العظيمة الملقاة على عاتقها فعبادة قيام الليل، وترتيل القرآن فيه ونحو ذلك مما كانت واجبة، ثم نسخ الوجوب بإجماع أهل العلم ولكن أداء ذلك يؤهلنا إذا كنا نريد فعلاً أن نغير وجه التاريخ. الملتزمون الآن لا يريدون خلافة على منهاج بني أمية، ولا على منهاج بني العباس، ولا على منهاج المماليك، وإنما يريدون خلافة على منهاج النبوة، فلا شك أنها تحتاج إلى أنواع أخرى من الناس، أنواع تشبه نوعية الصحابة رضي الله عنهم وإن لم تدركها.

الأخلاق وأهميته في التغيير إلى الأحسن

الأخلاق وأهميته في التغيير إلى الأحسن النقطة الثانية: الأخلاق، أي: الأخلاق التي لابد أن تغير من سلوكنا مع من حولنا، وهذا جانب من أصعب الأشياء تغييراً، وما يزال الأمر مبناه على عادات الإنسان قبل أن يظهر التزامه بالسنة، وإظهاره الالتزام بالسنة أمر عظيم ولا شك أنه مطلوب، ولكن لابد أن يكون كذلك تغيره بسنة الرسول عليه الصلاة والسلام في أخلاقه في معاملاته في لسانه، كيف يعف عن عورات الناس في بصره، في أذنه، في سلوكه في معاملته للناس، حتى لا يوجد في قلبه شحناء ولا ضغينة ولا حقد ولا حسد، ولا يوجد في قلبه تنافس مع مسلم على الدنيا، ولا رغبة في زخرفها الزائل، ولا يكون في قلبه غش للمسلمين، ولا نظرة احتقار لطائفة منهم أنهم لم يعطوه حقه، أو أنه ينبغي أن يكون فوقهم وأعلى منهم قدراً. وكذلك لابد أن يكون مجتنباً للغيبة والنميمة، وأن يكون صادق الحديث، يفي بالوعد بحيث إذا وعد شخصاً اطمأن وعلم أنه سوف يؤدي ما طلب منه، إلا أن يعجز. فمثل هذه الأخلاق حين تتغير فينا سوف يتغير شيء كثير فيما بيننا، لو لم نتمكن من أن نبلغ الناس الكلام المباشر فسلوكنا سوف يكون دعوة بلا شك.

الترابط والتآلف

الترابط والتآلف النقطة الثالثة في قضية القوة العملية التي لابد منها: قوة الترابط والتآلف فيما بيننا، وإصلاح ذات البين، والحرص على المودة الواجبة بين المؤمنين؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه ذاق طعم الإيمان وذكر منها: أن يحب المرء لا يحبه إلا لله). فهذه الرابطة القوية التي لابد من الحرص عليها لا تكون هي آخر المهمات، لابد أن تكون القلوب مترابطة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضاً). من يرضى من الناس أن يسكن في بيت الجدران فيه مجرد أحجار مرصوصة دون أن يكون بينها مادة لاصقة من أسمنت أو غيره؟ من يرضى أن يسكن في بيت من ألواح خشب مرصوصة بعضها فوق بعض لا توجد بين أخشابه مسامير؟ فمجرد أي محاولة لإسقاطه سوف يسقط، هل حالنا فعلاً حال الجدار الصلب القوي؟! هل حالنا حال الجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر؟! هل نتفقد الغائب منا؟! هل نعود المريض؟! هل نبحث عن المحتاج؟! هل نسعى إلى هذه العلاقة القوية التي مهما حاول أحد أن يزعزعها عجز عن ذلك، لابد أن نهتم بهذه المسألة جداً فإنها من السلوك العملي المطلوب؛ لأن الحرص على تقوية الروابط حتى نكون كجسد واحد كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم من أعظم الأمور أهمية في تحقيق ما يلزمنا تجاه ديننا.

القوة في الدعوة إلى الله تعالى

القوة في الدعوة إلى الله تعالى النقطة الرابعة: هي القوة في الدعوة إلى الله عز وجل، لابد أن نستشعر مدى الخطر الذي نحن فيه، ومدى الهجوم الشديد على كل معاني الإيمان والإسلام التي يتعرض لها عقل المسلمين، عقل الأمة، لابد أن يكون هناك جد واجتهاد في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى؛ حتى نواجه هذا الهجوم الشديد على المسلمين. أمر عادي جداً أن يختلط الواحد منا كل يوم بعشرات المنكرات، أنا تعودت بحكم طبيعة العمل أن يكون معظم الذين أتعامل معهم من النساء، بحكم أنهن أمهات الأطفال ونحو ذلك، فأنا لا أحصي كم مرة أقول: إن شاء الله تتحجبي ولا تأتي المرة الثانية إلا بالحجاب، وتأتي لي في المرة الثانية من غير حجاب، وأقول: يلزمني أني أقول لها مرة ثانية؛ فمثلاً: في ثلاث ساعات أو ساعتين في محل عملي أقول لسبعين أو ثمانين امرأة: إن الحجاب فرض، غير التي تمشي في الشارع، فكم من منكرات في المدارس والجامعات وغيرها من الأماكن، فلو أن كل واحد فينا اجتهد أن يوصل كلمة الحق؛ فإن مرتكب المنكر سيجد نفسه محاصراً؛ لأنه سيجد كل يوم واحد يقول له: إنك ترتكب منكراً، وبهذا ينهدم الباطل ويزهق، قال تعالى: {إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81]، وسيزول ويضمحل ويتفكك. لو أن الناس يسمعون الحق مرات عديدة، ووجدوا من يخبرهم ويقول: هذا هو الحق، وهذا هو شرع الله سبحانه وتعالى، بالتأكيد أن الوضع سيتغير، فلابد أن يكون هناك نوع من الاجتهاد في هذا الجانب؛ لأن الواجب علينا كثير جداً، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لما يحب ويرضى. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه

رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه لقد كانت غزوة الأحزاب من أعظم المواقف التي تبين فيها صدق المؤمنين فيما عاهدوا الله عليه، وصبرهم على ما ابتلاهم به من مواجهة الأعداء. وفي هذه الغزوة يظهر تأييد الله للمؤمنين، بعد أن بلغت القلوب الحناجر، وظن بالله الظنون.

سنة الابتلاء وعاقبته

سنة الابتلاء وعاقبته إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]، أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أما بعد: فيقول الله تعالى: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا * مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا * وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الأحزاب:22 - 27]. وقد جعل الله عز وجل البلاء وعداً للمؤمنين لا وعيداً لهم، قال تعالى: ((وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ)) أي: وهو مكتوب علينا، كما قال الله سبحانه وتعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:51]، وما يصيب المؤمن من بلاء فهو نعمة، وعطية من الله عز وجل يكتبه له، وذلك للمؤمن وحده، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)، وكيف لا يكون وعداً له ونعمة، وهو يزداد به قرباً من الله وإيماناً وإسلاماً، ويزداد له حباً وتعظيماً. وكيف لا يكون البلاء بالحرمان عطاء وهو حرمان من شيء زائل وعرض تافه صغير يوشك أن يحرم منه كل أحد، ولا يوجد عطاء أوسع من فضله وجوده وكرمه، ومن ذلك أخذه قلب عبده إليه وتوجيه ناصيته إليه، قال تعالى: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} [هود:56]، فأي شرف أعظم من أن تتوجه ناصية المؤمن قلبه إلى الله عز وجل، وأن يفرد الله سبحانه وتعالى بالتوكل والإنابة والخشوع والخضوع له وحده لا شريك له، وأنه وحده سبحانه وتعالى الذي يتولى أمر المؤمنين قال تعالى على لسان المؤمنين: ((هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ))، فعند ذلك تكون البلية عطية، وتكون المحنة منحة، ويكون الابتلاء نعمة ومنة من الله سبحانه وتعالى لعبده المؤمن بإيمانه وإسلامه؛ لأنه إذا اقترب من الله عز وجل وازداد إيماناً وتسليماً كان ذلك أنفع له في دنياه وأنفع له في أخراه. ونتأمل عاقبة ما قال المؤمنون نجد فعلاً أن هذا وعد الله لهم، فعندما انتهت غزوة الأحزاب قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الآن نغزوهم ولا يغزونا)، وتحول المسلمون من موقف الدفاع إلى موقف الهجوم الذي ظلوا عليه بفضل الله عز وجل، يهاجمون به الشرك ومواقعه ومواضعه حتى نصرهم الله عز وجل في المشارق والمغارب، وأظهر دينه وكلمته على الدين كله وأتم أمره، ولا يزال الإسلام يتقدم والمسلمون يتقدمون حتى في أشد فترات الضعف المادي؛ فهاهم يهزمون أمام التتار وتفتح بغداد للتتار ويقتل كل من فيها؛ ثم بعد حين يدخل التتار في الإسلام ويلتزمون بأحكامه كما أقروا بكلمة التوحيد، ويصير التتار إلى يومنا هذا شعباً مسلماً من أشد الشعوب الإسلامية قوة في الجهاد في وجه الأعداء، فسبحان الله! الذي ينصر المسلمين إذا اقتربوا من الله عز وجل وأطاعوه، ويجعل لهم قوة وشوكة ويدبر لهم الأمور، وإن كان الأعداء يظنون أنهم يمكرون، وإنما ذلك من مكر الله عز وجل بهم، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله كما قال عز وجل: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ} [فاطر:10]، فقد بار مكر يهود، وبار مكر قريش، وبار مكر المنافقين الذين يتربصون بالإسلام، وبار مكر الحلف العجيب بين طوائف الشرك وكفرة أهل الكتاب والمنافقين للمكر بالإسلام وأهله، والمؤمنون يرون هذا وعداً من الله لهم: كما قال الله تعالى ذلك عنهم لما رأوا الأحزاب: ((هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا)).

تمحيص المؤمنين لمعرفة الصادقين

تمحيص المؤمنين لمعرفة الصادقين ثم ذكر الله المؤمنين بالصادقين الذين مضوا موفين بالعهد مع الله عز وجل، صادقين في أقوالهم، وأحوالهم، وأعمالهم، ليقتف من بعدهم أثرهم، فقال تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23]. تأمل أولاً هذا التبعيض: ((مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ)) فليس كل المؤمنين بهذه الصفة، فالمؤمنون الكمل هم الذين وصلوا إلى هذه الغاية، وليس كل المؤمنين بهذه الدرجة من الصدق، وهؤلاء الصادقون هم الذين يثبت الله بهم باقي الطائفة المؤمنة، وهم الذين ينصر الله بهم بقيتهم وينصر الله عز وجل بهم دينه، وهؤلاء هم من جنس من قال الله عز وجل فيهم: {فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:249 - 250]، فتتفاوت القلوب، كما يتفاوت الإيمان فيها؛ فهذا طالوت لم يجاوز معه النهر إلا مؤمن، ومع ذلك فأغلبهم قالوا كما قال الله تعالى: ((قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ))، فبقية قلة مؤمنة وعددهم ثلاثمائة وبضعة عشر، استخلصوا من عشرات الآلاف، وقد كان بنو إسرائيل قبل النهر أكثر من ثمانين ألفاً كما ذكر في الآثار، وما جاوز مع طالوت النهر إلا ثلاثمائة وبضعة عشر، ومع ذلك فلم يكونوا كلهم على نفس الدرجة، وإنما كان منهم صادقون يوقنون أنهم ملاقو ربهم، وهؤلاء هم الذين ثبت الله بهم البقية. فكذلك قوله تعالى: ((مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ)) فهؤلاء الرجال هم خلاصة المؤمنين وخلاصة البشرية، وهم خاصة أتباع الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم. كان منهم أنس بن النضر كما يذكر أنس رضي الله تعالى عنه: (كنا نرى أن هذه الآية: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23] نزلت في أنس بن النضر وأصحابه)، ومعنى قضوا نحبهم أي: وفوا بعهدهم. قال تعالى: ((رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ))، قال أنس بن مالك -وكان سمَّي بعمه- غاب عمي أنس بن النضر عن غزوة بدر، فقال: لئن أشهدني الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهداً ليرين الله ما أصنع، وهاب أن يقول غيرها. فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء -يعني: المسلمين- وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء -يعني: المشركين- ثم انطلق ليقاتل، فلقيه سعد بن معاذ فقال: يا سعد! واهاً لريح الجنة، إني لأجده دون أحد، قال سعد: فو الله يا رسول الله! ما استطعت أن أصنع ما صنع، قال أنس: فوجد قد قتل وبه بضع وثمانون ما بين ضربة بسيف وطعنة برمح ورمية بسهم، وما عرفته إلا أخته ببنانه، أي: بعلامة في طرف إصبعه، أي: ما عرفوه من كثرة الجراح رضي الله تعالى عنه، وكانوا يرون أن هذه الآية نزلت فيه وفي أمثاله كـ مصعب بن عمير رضي الله تعالى عنه، وحمزة بن عبد المطلب، ومن قتل على الصدق مع الله عز وجل. فعندما يوجد هؤلاء فينا ولو كانوا قلة تتغير موازين الحياة على وجه الأرض، وإنما يكون ذلك بصدق الإرادة وصدق التوجه إلى الله عز وجل، والصدق في الأمور كلها؛ والصدق صفة أساسية للمؤمن يتفاوت الناس فيها تفاوتاً عظيماً، والصدق كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً)، وليست الصديقية بمنزلة هينة، ولا بشيء ينال بالتمني، ولكن بتحري الصدق قولاً وعملاً وحالاً حتى يكتب عند الله صديقاً.

الحث على الصدق في الأقوال والأفعال والنهي عن ضده

الحث على الصدق في الأقوال والأفعال والنهي عن ضده قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب ويكذب حتى يكتب عند الله كذاباً)، وما أقبح أن يكتب العبد عند الله كذاباً، نعوذ بالله من ذلك. والصدق الذي ذذكره الله عز وجل في هذا الموطن لم يكن صدق كلام فقط، بل كان صدق القول والفعل، كان كلاماً مبهماً فقال: ليرين الله ما أصنع، فخاف وهو الصادق بإخبار القرآن عنه أنه من الصادقين؛ ومع ذلك خاف أن لا يكون صادقاً، وكان العهد أن يبذل كل وسعه في نصرة الإسلام، ولما كان صادقاً قرب الله له البعيد، وكشف له من الغيوب حتى وجد رائحة الجنة دون أحد، والجنة يجد الناس ريحها من مسيرة خمسمائة عام، وهو قد قربت إليه رائحتها حتى وجدها دون أحد، وقاتل حتى ما استطاع سعد بن معاذ سيد الأنصار الذي اهتز لموته عرش الرحمن، والذي كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسميه سيد الأنصار، يقول: (قوموا إلى سيدكم) ما استطاع أن يفعل فعله، فقال: يا رسول الله! ما استطعت ما صنع، فانظر كيف كان أنس قدوة لـ سعد رضي الله تعالى عنهم. هذا الصدق والجدية والقوة فيما يعمله الإنسان، هو توحيد الإرادة كما ذكر أهل العلم؛ فالإخلاص توحيد المراد وأن لا يريد إلا وجه الله عز وجل. وأما الصدق فتوحيد الإرادة بمعنى: أن يكون الإنسان جاداً فيما يريد، صادقاً في ما يطلب من مرضاة الله عز وجل، بمعنى أنه لا ينشغل بأمر آخر عما يطلبه ويريده من الصدق، فالإنسان قد يطلب مطلباً لكنه يطلبه بضعف، ويتأخر في تحقيق غاياته من ذلك الطلب؛ ونشبه هذا بقطارين، أحدهما: يسافر من بلد إلى بلد مباشرة بسرعة دون أن يتوقف في المحطات المتوسطة، والآخر: يقف في كل محطة، فالوجهة واحدة، ولكن الأول يقطع المسافة في ساعة أو ساعتين، والآخر ربما قطعها في ست ساعات أو سبع. أما فيما بين العبد وربه فالتفاوت أعظم بكثير، وذلك أن البطيء له رغبات وإرادات على الطريق أضعفت سيره قوته في طلبه النهائي وفي غايته الأخرى، فهو يريد من كل محطة من المحطات شيئاً، وفيها أناس يركبون معه، وأما الآخر فطريقه واحد وإرادته واحدة، فكذا المؤمن الجاد قد أخذ ما أتاه الله بقوة. وقد تجد هذا التفاوت بين الناس في الصدق في طلب العلم، فتجد إنساناً يجتهد في طلب العلم فيدرك في المدة الوجيزة بصدقه في الطلب ما لا يدركه غيره ممن يترنح في سيره ممن يبدأ كتاباً ثم لا يكمله، يقرأ مسألة ثم لا يتمها، يقرأ باباً من العلم ثم لا يستمر، يحضر بعض الدروس ثم ينقطع وهكذا، وكذلك الصدق في العبادة وإصلاح النفس وتهذيبها، فتجد إنساناً قد التزم لكنه يتوانى في تصحيح أخلاقه وإصلاح نفسه، ولا تزال الأمراض تنهش قلبه، ولا تزال نفسه مريضة مثخنة بالجراح، وعندما يكون هذا هو الوصف العام لأكثر من أظهر الالتزام فلا نتوقع إذاً إلا تأخراً وبطئاً في الوصول إلى النتائج المرجوة، وإن كنا لا نريد من ذلك طعناً في النيات. قد تكون هناك إرادة لوجه الله ولكن ليس هناك الصدق المطلوب في العمل، وليس هناك الصدق المطلوب في الدعوة إلى الله عز وجل، فمثلاً: قد يوجد من يبذل عمره ووقته وكل فرصة سنحت له في الدعوة إلى الله عز وجل، وهناك من يكون بطيئاً ينتظر الرسوم والعادات، لا يستطيع أن يدعو إلا من خلال رسوم معينة وطقوس معينة إذا غابت فشل، وتوقف في دعوته، فلابد أن يكون هناك صدق في البذل والتضحية في سبيل الله، والصبر واليقين. والصدق يدخل في كل الأحوال والأعمال، فالصدق مع الله سبحانه وتعالى أن يكون جاداً غير متوانٍ ولا متكاسل، والصدق في الذكر أن يكثر من ذكر الله ولا يني في ذكره، كما أمر الله عز وجل موسى وهارون: فقال تعالى: {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} [طه:42]، فالله عز وجل أمرهما بأن يقوما بالحق ولا يتوانيا في ذكر الله سبحانه وتعالى، ولا ينشغلا بغير الله عز وجل عنه، وإن كان حبه موجوداً لكن قد يكون ضعيفاً، ولذلك يقدم عليه الأمور الدنيوية من الأهل والمال والولد، ويكثر وقوعه أثناء الطريق، نسأل الله العافية. قال تعالى: ((مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ)) كان هذا الصدق في الجهاد، وهو أعظم مراتب العمل، وذروة سنام الإسلام؛ ولذا كان الصدق فيه محققاً لغايات أهل الإسلام. وقد ظل أنس بن النضر نوراً ينير الطريق، وأسوة حسنة لكل من أتى بعده، فإذا كان أسوة لمثل سعد بن معاذ فكيف لا يكون أسوة لمن بعده، بعد أن ذكر الله أمره في القرآن العظيم بهذا الثناء الحسن، قال تعالى: ((مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ))، فكان منه الصدق في الجهاد والصبر والثبات والإقدام والتضحية، ولم يعبأ بما يصيبه في طريقه في سبيل الله عز وجل، ولم يلتفت أنس بن النضر إلى بضع وثمانين جرحاً حتى سقط في آخر واحد منها عجزاً عن أن يستمر في القتال، رضي الله تعالى عنه وعن أصحابه، وألحقنا بهم صالحين. وقوله تعالى: ((مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ))، ليس هذا العهد خاصاً بـ أنس، بل كل من أسلم وآمن قد أعطى هذا العهد، كما قال عز وجل: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [المائدة:7]، وإنما يتفاوت الناس في الوفاء، فكل مؤمن قد قال: سمعنا وأطعنا، وإلا كان هذا قدحاً في إسلامه وإيمانه، إذ لم ير لله على نفسه السمع والطاعة؛ إن كل مؤمن يقول ذلك، ولكن يتفاوت الناس في تحقيق ذلك والصدق فيه، قال تعالى: ((فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ)) أي: وفَّى بنذره وعهده مع الله عز وجل، ووفى بما وعد به الله من الثبات والصبر والتضحية في سبيل الله. قال تعالى: ((وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ)) فقد كان المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم هذه النوعية كـ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وباقي العشرة المبشرين رضي الله تعالى عنهم، وأهل بيعة الرضوان، وأهل بدر، والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، كان منهم هذه النوعية الفريدة التي تنتظر أن تفي بعهد الله، وقد فعلت بفضل الله عز وجل وسارت على الطريق. قال تعالى: ((وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا))؛ وذلك لأن التبديل والتغيير عما كان عليه الإنسان مع ربه عز وجل يقتضي نكوساً ورجوعاً عن الحق، ويقتضي تفريطاً في حق الله وحق رسوله صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء ((مَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا))، وذلك أن التبديل مردود وهم مقبولون عند الله عز وجل، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من المقبولين، وأن لا يردنا خائبين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

تقدير المكروه ليحصل المحبوب

تقدير المكروه ليحصل المحبوب الحمد لله، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم. أما بعد: قال الله عز وجل: ((لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ)). هذا التعليم لما قدره سبحانه وتعالى من مقدم الأحزاب؛ ليظهر صبر من صبر، ونفاق من نافق، وكل ذلك بقضائه وقدره، فقد كان في قدرته أن يصرف الأحزاب قبل أن يأتوا، فلا تجتمع كلمتهم، وأن يفت في عضدهم، ويلقي الرعب في قلوبهم قبل أن يأتوا، لكن قدر سبحانه وتعالى مجيئهم، ((لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ)). لقد قدر الله عز وجل وجود المكروه؛ ليحصل المحبوب الأعظم الذي يحبه الله عز وجل ولا يحصل إلا بمقابلته بضده، فذلك الذي من أجله قدر الله سبحانه وتعالى أن يأتي الأحزاب، وأن يغدر اليهود، وأن تجتمع كلمة الكفرة والمنافقين وأهل الكتاب مع بعضهم على أهل الإسلام، وأن يظن المسلمون بالله الظنون، قال تعالى: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب:12]؛ فتقدير كل هذا لأجل أن يظهر الصدق الحقيقي في أحوال القلوب، وفي ثقتها بالله عز وجل، وفي حبها ومتابعتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي خوفها من الله عز وجل دون من سواه، وفي اليقين بوعده رغم انعدام الأسباب، أو رغم أن الأسباب تأتي في الاتجاه المعاكس، والبوادر والأسباب الظاهرة تقول: إن الإسلام قد حوصر، وإنه يوشك أن ينتهي، وإن المعركة محسومة لصالح الكفرة والمنافقين. وهنا يظهر الصدق في اليقين بوعد الله عز وجل والصدق مع الله عز وجل في الثبات؛ فإن رأيت كل دنيا المسلمين مدبرة، توقن بأن نصر الله آت ووعد الله متحقق، وما دام المؤمن عنده إيمان فلابد أن يرى ذلك، وأن يصدق مع الله في أحواله كما صدق في أعماله وأقواله، ليجزيه الله بصدقه، وأبهم الجزاء ليتسع الذهن الإنساني لأوسع العطاء، فقال: ((لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ))، فلم يذكر ماذا يجزيهم، وهو تعالى سيجزيهم ما لم يخطر ببال، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (في الجنة ما لم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر) أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.

فضل الله في فتح باب التوبة للكفار والمنافقين

فضل الله في فتح باب التوبة للكفار والمنافقين قال تعالى: ((وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ)) قدر الله أن يقع منهم النفاق ليعذبهم عدلاً منه عز وجل؛ وذلك أن الله سبحانه وتعالى علم ما الخلق عاملون قبل أن يخلقهم، وهو الذي أراد ذلك وقدره، لكنه سبحانه لا يعاقب عبداً إلا بما صنع، ليعذب به، قال تعالى: ((وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ)) أي: على نفاقهم، وفتح لهم باب المغفرة إن تابوا فقال: ((أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ)) فهذا الكرم من الله عز وجل؛ لأنه ليس كلهم خالص النفاق كما كان ابن أبي ابن سلول، وإنما كان منهم من وقع في النفاق لاختلاطه بأهل النفاق، وكان منهم من فيه نفاق أصغر، فكان فتح باب التوبة. وحتى من أشرك بالله عز وجل ونافق النفاق الأكبر فإن الله عز وجل لم يغلق باب التوبة دونه، ويقبله إن أخلص دينه لله، قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:145 - 146]، فلا تستبعد توبة أحد، فالله عز وجل قد رغب الذين شتموه عز وجل وسبوه، وادعوا له الصاحبة والولد في التوبة، كما قال سبحانه وتعالى عن النصارى: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:74]، فالله عز وجل دعا من أشرك به إلى التوبة، ودعا من سبه إلى التوبة كذلك، قال الله عز وجل عنهم في الحديث القدسي: (شتمني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولداً) ومع هذا دعاهم إلى التوبة فقال تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المائدة:75] فدعاهم سبحانه وتعالى إلى التوبة رغم كفرهم وشركهم بالله. وكذلك دعا من قتلوا أولياءه واضطهدوهم وعذبوهم وألقوهم في النيران إلى التوبة، فقال عز وجل عن أصحاب الأخدود: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:10]، قال الحسن: انظروا إلى هذا الكرم قتلوا أولياءه ثم هو يدعوهم إلى التوبة. فباب التوبة مفتوح حتى يغرغر العبد، وهو مفتوح حتى تطلع الشمس من مغربها، مفتوح ما لم ينزل البأس والعذاب، قال تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} [غافر:85]، وقال الله عز وجل: ((وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا)). قال تعالى: ((وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ)) لقد كان هذا من آيات الله عز وجل العظيمة، فقد رد الله الذين كفروا ولم يفعل المؤمنون شيئاً، وإنما رد الكفار بغيظهم في قلوبهم، فلم ينالوا خيراً حين أرادوا بالمسلمين شراً؛ فكل من أراد بالإسلام والمسلمين شراً فلا ينال خيراً، وهذه حقيقة مؤكدة فلا يقصد أحد مؤمناً السوء إلا رده الله عز وجل ولم ينل خيراً، وإن تصور أنه سوف يحصل على الخير فلن يحصل إلا على السوء الشر جزاء وفاقاً. ثم ختم الله الآية بقوله: ((وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا))، فمن الذي يرد عشرة آلاف؟ ليس في قدرة المسلمين أن يردوهم، لا بسلاحٍ ولا بحسن ترتيب، فالأمر ليس إلا مقتضى أسمائه وصفاته عز وجل، فهو الذي هزم الأحزاب وحده، ورجع المشركون خائبين يجرون أذيال الخيبة؛ وهذا مما يسعد القلب ويفرحه عبر العصور، وهذه أيام الله التي أمر أنبياءه أن يذكروا الناس بها، كما قال في شأن موسى: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} [إبراهيم:5] فيوم الأحزاب من أيام الله عز وجل، التي يعالج المؤمن بها حزن قلبه وغم نفسه مما يصيب المسلمين، من نكبات ومحن فيتذكر أن المسلمين قد مروا بلحظات أشد منها.

حفظ الله دينه بنا أو بغيرنا

حفظ الله دينه بنا أو بغيرنا إننا نقطع ونجزم أن هزيمة المسلمين في قطر من الأقطار لن يترتب عليها زوال الإسلام، ولو أبيد المسلمون عن آخرهم، لما كان في ذلك زوال الإسلام؛ وذلك لأنه بفضل الله قد انتشر، ثم إنه قد مرت بالمسلمين لحظات أشد بكثير مما تمر به الأمة الآن ولم ينته الإسلام. لقد كانت هزيمة الأحزاب من فضل الله ونعمته علينا، كما أنعم على النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام بنعمته وفضله؛ لأن هزيمة الأحزاب سببٌ في إسلامنا، وفي وصول النور إلينا، وكانت أيضاً سبباً من أسباب حسن الظن بالله عبر العصور، ونحن نتضرع إلى الله ونتوسل إليه بهذا الدعاء: (وهزم الأحزاب وحده)، كما كان يدعو النبي صلى الله عليه وسلم متوسلاً إلى الله بذلك في كل موطن يواجه فيه العدو؛ فيدعو ويستنصر هازم الأحزاب سبحانه وتعالى. والله عز وجل جعل لحظات أشد من هذه اللحظات تمر على المسلمين وما ضيعهم، فعندما تتذكر أيام الله وتلحظ بقلبك رجوع أبي سفيان وقريش وغطفان وخذلان اليهود -الذي يسر القلوب، ويفرح الله به المؤمنين عبر العصور- بما وقع في بني قريظة، فعندما تتصور ذلك وتستحضره يزول الهم والغم، وهذا من أعظم الأسباب في كون القرآن العظيم نور القلب وربيع الصدر؛ والله عز وجل يزيل الغموم بالكتاب العزيز، فيرشد الإنسان إلى مقتضى أسماء الله وصفاته وقوته وعزته، وهو لا يغالب ولا يمانع؛ لأنه الغالب على أمره القوي العزيز سبحانه وتعالى، الذي لا يقف لقوته شيء؛ ولو تدبر العبد ذلك لأيقن ضعف العباد جميعاً وفقرهم وذلهم، فكل عز في مقابلة عزة الله عز وجل ذل، وكل قوة بالنظر والنسبة إلى قوة الله عز وجل ضعف وعجز، وكل غنى فقر وعدم بالنسبة إلى غنى الرب سبحانه وتعالى، والله عز وجل جعل الدنيا في الآخرة كنقطة من بحر، وهي كما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بما يرجع؟! فكيف بصفات الرب سبحانه وتعالى إذا قورنت صفة البشر بها، وكذلك الحال إذا قارنا الدنيا بالآخرة. فإذا استحضرت أن الله هو القوي العزيز، فما يصنع الأعداء؟ فالله تعالى كما وصف نفسه (ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن). نسأل الله أن يثبتنا على الهدى، وأن يوفقنا لما يحب ويرضى، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا، اللهم اعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، اللهم دمر اليهود والنصارى والمنافقين، اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد على القوم المجرمين، اللهم كف بأسهم عن المسلمين فأنت أشد بأساً وأشد تنكيلاً، اللهم أنج المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم انصر المسلمين في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان، اللهم ألف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، وانصرنا على عدوك وعدونا، واهدنا سبل السلام، واجعلنا هداة مهتدين، وأخرجنا من الظلمات إلى النور، ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشداً، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.

رمضان والنصر على النفس

رمضان والنصر على النفس لقد كرم الله الإنسان، وجعل له جسماً وروحاً، وأمره بعبادته وطاعته، وكما أن للجسم غذاءً مما أنبته الله في أرضه، فللروحِ كذلك غذاء، ومصدره كتابُ الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا تحققت العبودية منه فقد ارتفع عن صفات البهيمية، وإلا فإنه سيكون في أسفل سافلين؛ لذا كان شهر رمضان محطة لنقاء القلب وصفائه، ومراجعة النفس، والإكثار من قراءة القرآن، ومن الصلاة والخشوع فيها، وبهذا يتحقق النصر على النفس بحيث ينتج الانتصار عليها النصر على الأعداء.

تكريم الله للإنسان والحكمة من خلقه

تكريم الله للإنسان والحكمة من خلقه إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وسلم. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد: فلقد كرم الله عز وجل الإنسان أعظم تكريم، وفضله على كثير ممن خلق تفضيلاً، وأخبر الله سبحانه وتعالى أنه كرَّم بني آدم، فقال: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء:70]، فكرمه الله سبحانه وتعالى إذ جعله مخلوقاً لتحقيق العبودية لله سبحانه وتعالى، وبهذا ترتفع نفسه وتسمو عن صفات البهيمية، وإلا فإنه يكون في أسفل سافلين، كما قال عز وجل: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [التين:1 - 6]. فأقسم الله سبحانه وتعالى بالأماكن التي نزل فيها وحيه على الرسل إلى بني البشر؛ لكي يتمم الله عز وجل عليهم نعمته بتقويم نفوسهم وقلوبهم، كما قوم ظواهرهم وأبدانهم فقد خلقهم الله عز وجل في أحسن تقويم، ولا بد أن يكتمل هذا التقويم بتحسين بواطنهم، فأنزل الله عز وجل كتبه في هذه الأماكن الثلاثة: في بيت المقدس الذي يزرع فيه التين والزيتون، وفي طور سينين عندما أنزل الله عز وجل التوراة على موسى، وفي مكة البلد الأمين حين أنزل الله عز وجل القرآن على محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لكن من لم ينتبه ويلتفت إلى ما جاءت به الرسالات رد إلى أسفل سافلين في بدنه وروحه وقلبه، في بدنه حين يهرم ويكبر، ثم بعد ذلك يصبح جيفة منتنة والعياذ بالله، وأما القلوب فما أكثر ما تموت قبل الأبدان، تموت حين لا تعرف ربها ولا تتوجه إليه ولا تحبه ولا تخضع له ولا تستسلم ولا تنقاد ولا تطيع، فتموت وتتعفن ويخرج منها النتن والخبث والعياذ بالله، إلا أن يحييها الله سبحانه وتعالى، والإنسان حين ننظر إليه بهذه القيمة الغالية العالية الرفيعة يكوِّن ثروة يغير بها الحياة على وجه الأرض، يغير صورتها وكيفيتها، وأما إذا نظرنا إليه كما ينظر إليه أعداء البشر، كآكلة استهلاكية يأكل ويشرب، وليس متطلباته إلا الطعام والشراب واللباس فإنه يصبح عبئاً، وتصبح كثرة البشر مصيبة، إذ يتحول الإنسان إلى أسوأ من البهيمة، إنهم يتعاملون مع البشر على أنهم كالبهائم والعياذ بالله، وبالتالي لا بد من تنقيصهم، والإنسان إنما يصبح أهلاً حين ينتسب إلى آدم عليه السلام الذي كرمه الله عز وجل، وخلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء، وعندما يحقق العبودية لله سبحانه، وعندما يتخلص من أسر الشهوات، وكأنه ولادة جديدة، كما قال ربنا سبحانه وتعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب:6]، وفي قراءة أبي وهي قراءة تفسيرية: ((وهو أب لهم)) فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أباً للمؤمنين، وأزواجه أمهات للمؤمنين، وإنما كان أباً لهم صلى الله عليه وسلم؛ لأنه بنبوته ولدت قلوبهم وخرجت أرواحهم من ظلمات الجهل والظلم والشهوات والغي والفساد إلى نور الإيمان والمعرفة والتوحيد، كما قال عز وجل: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:122].

الحكمة من مشروعية الصيام

الحكمة من مشروعية الصيام لقد كان الصيام فرصة عظيمة للارتفاع والسمو والإصلاح الداخلي الذي نحتاج إليه أعظم احتياج؛ لأنه لا غنى لنا عنه، وإلا صرنا في مصاف البهائم نرتع كما ترتع، وإنما شرع الله عز وجل الصيام لتحقيق التقوى، ولنتحكم في أنفسنا؛ لكيلا يكون الإنسان عبداً لشهواته، بحيث تتحكم فيه الشهوات، ويصبح هو الذي يتبعها، ويتبع الهوى، ومن اتبع الهوى كان أمره فرطاً، قال عز وجل: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28]، وأنت في هذا الشهر الكريم تذكر الله سبحانه وتعالى، وقد فتحت لك أبواب الطاعات وأبواب الجنان، وغلقت أبواب النيران، وأُعنْتَ بتصفيد الشياطين، وأعنت بتوفيق الله عز وجل بمناد ينادي: (يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر) وفي كل يوم من أيام هذا الشهر الكريم المبارك أعنت على هواك حتى لا تتبعه، وحتى يكون الأمر مستقيماً لا فرطاً، وبترك ذكر الله والغفلة عنه وباتباع الهوى يصبح الأمر فرطاً، نعوذ بالله من ذلك، فهل وعينا ما شرع الله عز وجل لنا؟ وهل حققنا ما شرع لنا؟ وهل بدأت نفوسنا تولد من جديد؟ وهل بدأت تتحرر من أسر شهوات البطن والفرج، والتي تعمي الإنسان وتغلق قلبه عن الفهم، وتجعله لا يرى من الدنيا إلا عبودية هذه الشهوات: (تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش)؟ إن التعاسة التي يعيش فيها أكثر البشر إنما منبعها أنهم ابتعدوا عن البشرية والآدمية، وصاروا يشاركون البهائم في ما هي فيه، قال الله عز وجل: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:44]، وقال عز وجل: {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179]. فبالغفلة عن ذكر الله صاروا كالأنعام والعياذ بالله، قال تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر:19]، فالله سبحانه وتعالى حذرنا من ترك ذكره، وإنما ينسى الإنسان ذكر الله عز وجل إذا استمر على تلك الغفلة وأهمل نفسه، فيصير والعياذ بالله خارجاً عن طاعة الله، خاسراً لدينه ودنياه، تعيساً في الدنيا والآخرة، نعوذ بالله من ذلك. إن الله عز وجل شرع لنا في هذا الشهر من وسائل التهذيب ووسائل الإصلاح ما تقترب به النفوس الإنسانية من حقيقتها التي وجدت من أجلها، فهذه العبادات إنما شرعت كأوعية يتحصل الإنسان بها الطهارة والنقاء. إن الإنسان يحتاج إلى غذاءين، الأول غذاء للبدن، ويكفيه منه لقيمات يقمن صلبه، وأنواع الملذات إذا تيسرت فبها ونعمت، وإلا فالإنسان لا يعيش من أجلها، وأما من يشغل فكره بأنواع الأطعمة ويتململ من نوع واحد، ويقول: {لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا) [البقرة:61]، فذهنه مشغول بالفوم والعدس والبصل وأنواع الأطعمة كما تشتهي البهائم، فهذا الإنسان الذي همه في شهوة بطنه وشهوة فرجه، وشهوة العلو والفساد في الأرض، نعوذ بالله من ذلك، دمَّر نفسه وحياته، وقد شرع الله لنا في هذا الشهر الكريم ما تزكو به النفوس وتتحرر، فشرع لنا في أثناء نهار رمضان الامتناع عن الطعام والشراب والشهوة، لكي نتحكم في أنفسنا، وشرع لنا في ليل رمضان أن نتناول ما نحتاج إليه من طعام وشراب. الثاني: غذاء للروح والقلب، غذاء بذكر الله سبحانه وتعالى الذي هو المقصود الأعظم من العبادات، كما قال عز وجل عن خير عبادة وهي الصلاة: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45]. فذكر الله في الصلاة أعظم وأكبر من نهيها عن الفحشاء والمنكر، قال عز وجل: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114]، فالصلاة تذهب السيئات، إذ أنها تقرب الإنسان من الله، وهي ذكرى للذاكرين، فإذا حصلت هذه التغذية للقلب نما وتطهر من أدران وأمراض الخبث والفساد الذي يحل فيه، وكلما استسلم للشهوات صارت إراداته كإرادة البهائم. إذاً: لا بد لنا من هذا الغذاء الآخر، غذاء الروح والقلب، وذلك يكون بذكر الله سبحانه وتعالى.

أهمية الإخلاص والخشوع في العبادات

أهمية الإخلاص والخشوع في العبادات إن العبادات كلها كالأوعية التي تقف بها على باب الكريم، حتى يفيض فيها عليك من نعمته وفضله، ومن عطائه وجوده، فيفيض على قلبك من أنواع الحب والخوف والرجاء والإنابة والشوق إليه سبحانه وتعالى، وإلا فلا تغني عنك العبادات شيئاً، وإذا لم ينل قلبك نصيباً منها صارت العبادات حركات تريد أن تنتهي منها، وصارت الصلاة طويلة، وصار الصيام مشقة وصعباً، وصار الحج مفارقة للوطن والأهل، ونفقة وغرماً على صاحبها، وتعباً في أماكن ليست مهيأة للنزول، ونوماً على التراب أو وقوفاً في الجبال أو نحو ذلك، وصارت الزكاة مغرماً ينقص المال بسببها، فإذا لم تع ما في هذه العبادات -مما شرع الله عز وجل- من أنواع التغذية الباطنة للقلب، ومن أنواع العبودية الخالصة لله سبحانه وتعالى، فلن تحصل على هذه العبودية القلبية إلا إذا أتيت بالوعاء، فكثير من الناس قد يظن أنه يمكن أن يحصل له غذاء لقلبه وحياة لروحه بدون العبادة، وليس ذلك ممكناً، بل لا بد أن تأتي بالوعاء وتقف على الباب وتدقَّه، وتطلب وتتذلل وتتضرع إلى أن يفتح الباب فيفيض الله عز وجل عليك من نعمه.

مجاهدة النفس والانتصار عليها طريق للانتصار على الأعداء

مجاهدة النفس والانتصار عليها طريق للانتصار على الأعداء قال بعض الصالحين: جاهدت نفسي على قيام الليل سنة، واستمتعت به عشرين سنة. فجهاد النفس لن يطول بإذن الله تعالى، وإنما هو يسير؛ لأن الله قال: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69]. لا بد أن ننتصر على أنفسنا، لا بد من هذا الانتصار الداخلي حتى يتحقق الانتصار الخارجي، ولذا كان شهر رمضان عند أهل الإيمان شهر الانتصارات، وشهر تحقيق أعظم الفتوحات بفضل الله سبحانه وتعالى، ففي يوم السابع عشر من رمضان كانت غزوة بدر التي انتصر فيها الإسلام ودحر الشرك والكفران، وعُبِدَ الله سبحانه وتعالى في الأرض بها إلى يوم القيامة، وكان هذا بفضله سبحانه وتعالى على أهل الإيمان. وفي رمضان كان فتح مكة البلد الأمين الذي جعله الله سبحانه وتعالى خير موضع على وجه الأرض، وانتشرت منه دعوة التوحيد إلى أقطار الأرض، وجاء نصر الله والفتح، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، ويئس الكفار من إزالة دين الإسلام من على وجه الأرض، وإنما غاية ما وصلوا إليه: تحجيمه أو تقليله أو صرف الناس عن حقيقته، أما أن يزال فلقد قال عز وجل: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]. ولم تزل انتصارات المسلمين في رمضان تتابع بفضل الله سبحانه؛ لأن الإنسان إذا انتصر على نفسه انتصر على عدوه، وإنما يهزمه العدو إذا كان قد انهزم من الداخل؛ لأن هناك تحالفاً بين الشيطان وبين الكفار بمللهم المختلفة، فهم متعاونون على الكفر والفساد في الأرض، قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال:73]، نعوذ بالله من شرهم، فإنما ينتصرون علينا بذنوبنا، ولذا كان من أهم ما يدفع به المسلمون عن أنفسهم تسلط الأعداء الاستغفار والتوبة إلى الله عز وجل، قال عز وجل: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:147 - 148]، وقال عز وجل: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الممتحنة:4 - 5]. فبمغفرة الله تدفع الفتنة، وبالاستغفار يدفع ضرر الأعداء وأذى الظالمين وتسلط المجرمين، فيهم إنما تسلطوا علينا بذنوبنا، فهل من فرصة أوسع من هذا الشهر الكريم لاستجلاب الخيرات، ودفع المضرات، وكشف الكربات عنَّا وعن إخواننا المسلمين في كل مكان، لا بد أن نجتهد أعظم اجتهاد في تحصيل هذا الصلاح الداخلي والخارجي حتى يتحقق النصر على الأعداء بإذن الله تبارك وتعالى. نسأل الله عز وجل أن يعز الإسلام والمسلمين، وأن يذل الشرك والمشركين، وأن يعلي بفضله كلمة الحق والدين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

أهمية تدبر القرآن في شهر رمضان وغيره

أهمية تدبر القرآن في شهر رمضان وغيره الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وسلم. أما بعد: فقد قال الله سبحانه وتعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) [البقرة:185]، وقال سبحانه وتعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص:29]، وقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل:1 - 6]. فالله سبحانه وتعالى جعل القرآن حياة للقلوب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:24]، وجعل القرآن إذا مر بالقلب كالمطر الذي يحيي الأرض بعد موتها: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الحديد:16 - 17]، وجعل القرآن وخصوصاً في هذا الشهر الكريم سبباً لإيقاظ الهمم والإرادات، وإحياء القلوب بهذه العبادات العظيمة إذا تدبرت القرآن، فلا يكن هم أحدكم آخر السورة، كما قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، وعندما قال له رجل: (قرأت المفصل في ركعة، أو قرأت المفصل في ليلة، فقال له: هذاً كهذ الشعر، إني لأعلم النظائر التي كان يقرن بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم، سورتين في كل ركعة، عشرين سورة في عشر ركعات)، فلم يكن صلى الله عليه وآله وسلم في كل الليالي يكثر القراءة جداً، كما قد يهتم الكثير منا بذلك، وإنما كان يهتم صلى الله عليه وسلم وينشغل بتدبر آيات القرآن، كما ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: (أنه قام ليلة كاملة بآية واحدة، وهي قوله عز وجل: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118]، فكان يقرؤها ويبكي ويتضرع لربه عز وجل، ويقول: يا رب أمتي أمتي). وقام بعض الصحابة رضي الله عنه ليلة بقوله سبحانه وتعالى: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور:27 - 28]. فالذي ينبغي عليك أيها المسلم ألا تهتم فقط بالختمة، وإنما تهتم بأن تقف عند الآيات، تقف بقلبك فتتدبر وتتعظ بمواعظ القرآن، وتتغير من داخلك بها، وتسموا بأخلاقك بها، فإذا فسدت الأخلاق فسدت علينا حياتنا، وكثرت مشاكلنا ونزاعاتنا، وكَثُر الحقد والحسد والغل والتنافس على الدنيا، ويكثر الفساد في الأرض بسبب سوء الخلق ونقص الإيمان أو انعدامه بالكلية، فهناك ارتباط وثيق بين الإيمان وبين السلوك، وبين الإيمان وبين القرآن وتدبره.

تدبر القرآن يورث الخشوع في القلب

تدبر القرآن يورث الخشوع في القلب تخشع القلوب إذا تدبرت كتاب الله عز وجل، وكما قال عثمان رضي الله عنه: (لو طهرت قلوبكم ما شبعتم من كلام الله)، فعندما تكون القراءة طويلة في الصلاة وتقول: متى يركع؟ ومتى تنتهي هذه الصلاة؟ فتحس بسعادة غامرة عند انتهاء الصلاة، فإن كانت سعادتك بسبب إتمام النعم عليك، فهذا من فضل الله عز وجل، وإن كانت سعادتك لأنك انتهيت مما ألزمت به نفسك، وأنت بعد لم تحصل على قرة العين، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (وجعلت قرة عيني في الصلاة) فأنت تحتاج إلى مراجعة. فليس المقصود هو مجرد الوقوف: (فرب قائم ليس له من قيامه إلا السهر والتعب، ورب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش)، نعوذ بالله من ذلك. فنحتاج إلى أن تخشع قلوبنا، قال عز وجل: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:1 - 3]، فتأمل هذا الاقتران جيداً، فإننا لا نجد أنفسنا في الصلاة، ولا تفتح القلوب ولا تفتح الأبواب بكثرة الانشغال باللغو، وبتضييع العمر فيما لا ينفع.

أسباب انغلاق القلوب وفسادها

أسباب انغلاق القلوب وفسادها إنما تغلق القلوب وتسد بالمشاركة في اللغو والباطل والمنكرات الفظيعة، فوالله لو كان المشي في الطرقات فقط لكفى به سبباً لإغلاق القلوب، فكيف والناس يطلبون أنواع المنكرات طلباً! وذلك بالجلوس أمام وسائل الإفساد والعياذ بالله، من قبل الإفطار وبعده وهم ينظرون إلى العورات المكشوفة، ويسمعون المعازف المحرمة، وينظرون إلى إعلانات خبيثة منكرة، وهذه الإعلانات تعلن كيف يصبح الإنسان بهيمة، ليس همه إلا الطعام والشراب واللباس وفخامة المسكن، ورفاهية السيارة ووسائل الحياة المترفة، ويروجون لحياة الغرب والشرق والعياذ بالله، بعيداً عن حياة الإيمان والإسلام والإحسان، بعيداً عن معرفة الرحمن سبحانه وتعالى، ومعرفة ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام، عندما يقضي الإنسان وقته فقط في النظر إلى هذه الوسائل المفسدة للقلوب والأبدان، فضلاً عما تتضمنه من حث على المنكرات، ومن أنواع الشهوات المختلفة، فضلاً عن أنواع الجلوس على المقاهي، وشرب الدخان المحرم بأنواعه المختلفة، والجلوس مع شياطين الإنس حول الغيبة والنميمة والكذب والسخرية من الناس، ويعجب الإنسان في هذا الشهر الكريم حين يمر بالمقاهي فيجدها ممتلئة عن آخرها، ماذا يصنع الناس فيها؟ يدخنون الشيشة بعد الإفطار، وبعضهم والعياذ بالله يفطرون في نهار رمضان، ولا يدركون الثروة الهائلة التي سرقت منهم، ولا يدركون الجرم الفظيع الذي ارتكبوه، ولو صاموا الدهر كله ما حصلوا ثواب صوم يوم من رمضان تركوه عمداً والعياذ بالله، احترقوا وهلكوا، ماذا يصنعون؟ يلعبون الطاولة والدمن والعياذ بالله، وهي التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: (من لعب بالنرد فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه). ما بال الناس يكثرون الخوض في لحوم الخنازير وشحومها ودمائها النجسة الخبيثة؟ وكذلك مثلها: اللعب بأوراق الكتشينة وغيرها، فضلاً عن غير ذلك من أنواع المحرمات الأخرى التي لا تزال تنتشر في أوساط الشباب من المخدرات والمسكرات، وأنواع الشهوات المحرمة، وهذه أماكنها معدة ومهيأة.

أسباب تسلط الكفرة والظلمة والمنافقين على المسلمين

أسباب تسلط الكفرة والظلمة والمنافقين على المسلمين إن الناس لم يستشعروا ما بأيديهم من كنوز أنواع الخيرات المختلفة، فكيف إذاً ننتصر على الأعداء؟! وكيف نتحرر من سلطانهم وشبابنا ورجالنا ونساؤنا غرقى في هذه المحرمات؟! وكيف نتخلص من تسلط الكفرة والظلمة والمنافقين؟! وكيف يُولى علينا خيارنا بدلاً من شرارنا؟! لا يحصل ذلك إلا إذا تخلصنا من هذه المنكرات، والله سبحانه وتعالى يولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون، وإنما يتسلط علينا أعداؤنا كما ذكرنا بذنوبنا، وأمة الإسلام تمر بمرحلة حساسة خطيرة جداً، فقد تجمع أهل الأرض كلهم على دينها، وأرادوا صرفها عنه، وإن تدثروا بدثار الحضارة والمدنية، وهذا أمر لا يشك فيه عاقل، بل يظهرون عداوتهم ويعلنون الحرب على الإسلام، واتهام المسلمين بأنواع التهم علانية صريحة، فماذا ننتظر عباد الله؟

أهمية الدعاء ومدى ارتباطه بشهر رمضان وبالنصر على الأعداء

أهمية الدعاء ومدى ارتباطه بشهر رمضان وبالنصر على الأعداء إن شهر رمضان فرصة عظيمة للدعاء والتضرع، قال الله عز وجل: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186] , وهذه الآية في وسط آيات الصيام؛ لتعلم أن الأمور تتحدد في المحاريب، وأن تغيير الحياة على وجه الأرض يتحدد وتعطى وتوهب ويمن عليك وأنت في المحراب: {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى} [آل عمران:39]، فقد أعطي النبي صلى الله عليه وسلم النصر في غزوة بدر في الليلة السابقة منها وفي يومها قبل أن تبدأ المعركة، وذلك عندما قام النبي صلى الله عليه وسلم تحت شجرة يصلي طوال الليل، وقد نام الصحابة استعداداً للمعركة، كما يروي علي رضي الله عنه قال: (ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم تحت شجرة يصلي ويبكي، ويتضرع إلى الله عز وجل). ومن شدة دعائه واستغاثته يشفق عليه صاحبه الصديق أبو بكر رضي الله تعالى عنه، ويلتزمه من خلفه، ويضع رداءه الذي سقط عنه من شدة رفع يديه في الدعاء، وكان ذلك في يوم بدر في السابع عشر من رمضان، يقول: (يا رسول الله! كفاك مناشدتك ربك، فإن ربك منجز لك ما وعدك) وهكذا أُعطيَ النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم النصر في غزوة الأحزاب، وذلك بانصراف الأحزاب عن المدينة وهزيمتهم هزيمة منكرة بفضل الله سبحانه وتعالى، ففي ليلة الأحزاب قبل أن ينصرفوا، قام الرسول صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل، ثم قال: (من يأتيني بخبر القوم ويكون رفيقي في الجنة؟)، فلم يجبه أحد، فيتركهم ويصلي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك ثلاث مرات، ثم يأمر حذيفة ليأتيه بالخبر، ويعود حذيفة بالخبر السار المفرح برحيل الأحزاب، وأن الله فعل بهم ما فعل من زلزلتهم وهزيمتهم حين ألقى الرعب في قلوبهم فانصرفوا. كذلك عندما أُعدت مريم عليها السلام لتحمل هذه المهمة الثقيلة الشديدة بأن تلد المسيح عليه السلام من غير أب، قيل لها أولاً: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران:43]، وبعد أن عرفت فضل الله عز وجل عليها، قيل لها: {يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:42]، فيا أهل الإسلام! قد اصطفاكم الله على الأمم، ومن عليكم بالقرآن العظيم، فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين، واقنتوا لربكم واسجدوا واركعوا مع الراكعين، وقوموا الليل إلا قليلاً، ورتلوا القرآن ترتيلاً، واذكروا الله ذكراً كثيراً، وتضرعوا إلى الله عز وجل، من منا من شدة دعائه وكثرته يقول له صاحبه: كفاك مناشدتك ربك، فقد وعد الله عز وجل بإجابة الدعاء عباده المؤمنين، فقال: {فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186]، وقوله: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]، أندرك حجم الأزمة التي نحن فيها حتى يكون دعاؤنا مناسباً لهذه الأزمة؟! أندرك قدر المصيبة التي نزلت بالمسلمين حتى يكون دعاؤنا في هذا الشهر مفتاحاً لأبواب الخيرات ومغلاقاً لأبواب السيئات، ونكون على قدر المسئولية؟! هل ندري كم من المسلمين يتألم في المشارق والمغارب؟! هناك من يتألم لفقد حبيب، أو أسر قريب، أو يتألم لضياع مسكن وهدمه، أو يتألم من جراح أصابته، أو يتألم مما أصاب أمته، أو عرضه وأهله، أو وطنه، أو يتألم لما أصاب أرض المسلمين في المشارق والمغارب، وما أصابهم في حرماتهم التي انتهكت وثرواتهم التي نهبت وبلادهم التي احتلت، كم قدر المصيبة التي نحن فيها؟! هل يتناسب دعاؤنا واجتهادنا مع ذلك، أم أننا ما زال دعاؤنا على الطعام والشراب، وعلى إصلاح أحوال التجارة والأموال، وعلى نجاح الأولاد في الامتحانات، وعلى كذا وكذا من أمور الدنيا؟! هل نفوسنا ارتفعت عن ذلك، أم أننا ما زلنا نعيش في الحضيض؟! نسأل الله عز وجل العافية. نريد أن نرتفع عباد الله في هذا الشهر، فهو شهر الارتفاع وشهر القيام لا الرقاد، وشهر سمو الروح بولادتها من جديد على يد نبي الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن العظيم. نسأل الله عز وجل أن يجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا وغمومنا. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اليهود والنصارى والمنافقين، وسائر الكفرة والملحدين، أصحاب الضلالة ودعاة السوء. اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين! ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين. ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين. ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، ونجنا برحمتك من القوم الكافرين، ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير، ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم. اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، سريع الحساب، اهزم الكافرين وانصرنا عليهم. ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشداً. اللهم انشر لنا من رحمتك وهيئ لنا من أمرنا مرفقاً. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار. اللهم اجعلنا ممن صام رمضان إيماناً واحتساباً فغفرت له، واجعلنا ممن قام رمضان إيماناً واحتساباً فغفرت له. اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا. اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا. اللهم فرج كرب المكروبين، وفك أسر المأسورين، وارفع الظلم عن المظلومين. اللهم إنا نسألك بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق، أحينا ما علمت الحياة خيراً لنا، وتوفنا ما علمت الوفاة خيراً لنا. اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الفقر والغنى، ونسألك نعيماً لا ينفد، ونسألك قرة عين لا تنقطع، ونسألك برد العيش بعد الموت، ونسألك الرضا بعد القضاء، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين. ربنا امكر لنا ولا تمكر علينا، ربنا أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، واهدنا ويسر الهدى لنا، وانصرنا على من بغى علينا. اللهم اجعلنا لك ذكارين، لك شكارين، لك مطواعين، لك رهابين، لك مخبتين، إليك أواهين منيبين. اللهم تقبل توبتنا، واغفر حوبتنا، وثبت حجتنا، وأجب دعوتنا، واهد قلوبنا، وسدد ألسنتنا. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

صفات جيل النصر المنشود

صفات جيل النصر المنشود نرى جلياً صفات جيل النصر المنشود مذكورة في سورة الحشر، صفات الصحابة من المهاجرين والأنصار، السابقين إلى الله ورسوله، الذين قام الإسلام على أكتافهم، ونقلوا السنة والقرآن إلينا غظان طريان كما أنزلا، وأتوا بالإسلام إلينا على طبق من ذهب، فهم مصابيح الدجى وأعلام الهدى، بهم استنارت قلعة الدين، وابتهجت طائفة المؤمنين، وزلزل الكفار، ودحر الأشرار. فصبرهم على الجوع والعطش وإيثارهم وحب بعضهم بعضاً، وتضحيتهم بالمال والنفس والولد لإعلاء كلمة الله غير خاف على أحد، فلابد أن نعرف واجبنا نحوهم، أما من طعن فيهم من الشيعة والرافضة وغيرهم، فما لهم عند الله من خلاق.

أهمية الحديث عن صفات جيل النصر

أهمية الحديث عن صفات جيل النصر إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، أما بعد: فكلما اشتد الصراع بين الحق والباطل تضرع المؤمنون إلى الله سبحانه وتعالى يدعونه عز وجل أن ينصرهم، وأن يعلي الحق، ويظهر دينه بهم، فلزمهم أن يبحثوا في أنفسهم عن الصفات التي يجب أن يتصفوا بها؛ لكي يحقق الله سبحانه وتعالى وعده لهم، فإنما جعل سبحانه وتعالى وعده مشروطاً باتصافهم بصفات معينة، وليس وعداً مطلقاً لكل متسم باسم الإسلام أو الإيمان، أو لكل منتسب إلى الدعوة والدين والجهاد، ولكن ذلك لمن شابه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصار منهم وإن لم يلحق بهم، قال الله عز وجل: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [الجمعة:3]؛ فهم منهم؛ لأنهم على طريقتهم، ولهم بعضاً من صفات الصحابة رضي الله عنهم، ذلك الجيل الفريد، جيل النصر الذي مكن الله عز وجل به لدينه، والذي جعله سبباً لانتصار الإسلام وانتشاره في مشارق الأرض ومغاربها، ولاشك أن الله سبحانه وتعالى إذا اختار قوماً لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولإقامة أول مجتمع مسلم في الأرض؛ فإنهم لابد أن يكونوا خير الناس، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)، وقال الله عز وجل مادحاً إياهم: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]. هؤلاء الذين ذكرهم الله سبحانه وتعالى قبل وجودهم بقرون وأجيال، وربما بمئات أو آلاف السنين، فقال: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح:29]. وقال عز وجل في خطابه لموسى عليه السلام قبل وجود عدة أجداد من أجداد أجداد أجداد الصحابة، فقال سبحانه: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:156 - 157]. نحتاج دائماً إلى أن نعرض أنفسنا على هذه الآيات؛ لأن المواجهة الحالية التي بين الإسلام وبين قوى الكفر المتحزبة المجتمعة على الصد عن سبيل الله، وصرف الناس عن دين الله؛ لا يمكن أن تنتصر إلا بمن كانت صفتهم وأحوالهم قريبة من صفات الصحابة رضي الله عنهم، وذلك أن ظهور الإسلام في مواجهة هذه القوى الكافرة كلها من اليهود والنصارى والمنافقين والمشركين لا يمكن أن يكون بدون الوصول إلى حقيقة العبودية والإيمان والعمل الصالح الذي وعد الله عز وجل أهله بالاستخلاف في الأرض، فقال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55]. ولذلك فإننا لا نشك لحظة واحدة في أن النصر المنشود الذي يتطلع إليه المسلمون، وهو نصر يريدونه حاسماً، وعودة للإسلام على خلافة راشدة على منهاج النبوة، لا نشك أن ذلك النصر يمكن أن يحدث على أيدي من يسبون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبغضونهم، فضلاً عمن يكفرهم ويلعنهم، ونعوذ بالله من سوء حالهم. لذلك أتوقف لحظات مع صفات جليلة وصف الله عز وجل بها المهاجرين والأنصار؛ لنزن أنفسنا بها، وننظر ما نصيب كل واحد منا من هذه الصفات، فإن الله ذكرهم بصفاتهم؛ لكي يعلم أن الاقتداء بهم في هذه الصفات هو الذي يحبه الله سبحانه وتعالى، وهو الذي شرعه.

الفيء تعريفه وصفات أصحابه

الفيء تعريفه وصفات أصحابه ذكر الله تعالى في الآيات التي من سورة الحشر لمن يكون الفيء، والفيء: هو المال المأخوذ من الكفار بغير قتال، وسمي فيئاً؛ لأن أصل هذا المال خلقه الله عز وجل ليستعين به الناس على العبودية لله سبحانه وتعالى، فلما استغله الكفار في معصية الله والكفر به، والشرك به، أخذه الله عز وجل منهم ورده إلى المسلمين وأفاءه عليهم، فإن المال مال الله يعطيه سبحانه وتعالى لمن يشاء، وهو يبتلي العباد بهذا المال وبغيره من أمور الدنيا ليمتحنهم فيها، فنزع الله عز وجل ذلك المال من الكفار وأفاءه على المسلمين، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لينفقه في الوجوه التي أمره عز وجل أن ينفقه فيها، فكانت هذه الأوصاف التي ذكر الله عز وجل في المهاجرين والأنصار والذين جاءوا من بعدهم مبينة لمن يعيد الله سبحانه وتعالى هذا المال إليه، لمن يفيء الله عز وجل الأمر إليه، ولذلك نرى فيها تبشيراً لمن شابههم في صفتهم، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ومن تشبه بقوم فهو منهم) نرى فيها تبشيراً بأن يفيء الله سبحانه وتعالى على من تشبه بهؤلاء الصحابة مثل ما أفاء عليهم، وأن ينصرهم كما نصرهم، وأن يؤيد من كان على طريقتهم كما أيدهم، وإن كنا بالتأكيد نجزم بأن أحداً لا يلحق بالسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار فهم سادة الأمة، وهم أساس البناء، والذين تحملوا فترات الإحراق، والتي كانوا فيها يمثلون الإسلام على وجه الأرض كلها، كان أحدهم ربما يكون سبع الإسلام، أو ثمنه مدة من الزمن؛ فكان الواحد منهم يمثل جزءاً كبيراً من الدين رضي الله تعالى عنهم. نحن نعلم فضل الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم، ونعلم فضل حبهم ومتابعتهم، وأن أفضلهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي ثم باقي العشرة المبشرين بالجنة وهم: طلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح ثم أهل بدر، وأهل بيعة الرضوان، وكذلك يشهدون بالفضل لأهل بيعة العقبة رضي الله تعالى عنهم، ويعرفون فضل {مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} [الحديد:10]، وأصح الأقوال في هذا الفتح: أنه صلح الحديبية، فمن أسلم وهاجر وجاهد ونصر الدين قبل صلح الحديبية أعظم درجة من الذي أسلم وهاجر ونصر الدين بعد صلح الحديبية الذي سماه الله فتحاً. ويعتقد أهل السنة: أن الله عز وجل اطلع على أهل بدر فقال: (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. ويعتقدون ما قال النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: (لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة إن شاء الله). وهم يعرفون فضل المهاجرين، ويقدمونهم على الأنصار كما قدمهم ربهم سبحانه وتعالى في كل المواطن التي ذكر فيها المهاجرين والأنصار، فهم أساس البناء الذي تحمل فترات الشدة، التي كان الإسلام فيها مضطهداً في الأرض كلها، فرضي الله تعالى عنهم.

تحمل عنا الفقر والهجرة من أجل الله عز وجل

تحمل عنا الفقر والهجرة من أجل الله عز وجل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:8 - 10]. أول وصف وصف الله عز وجل، من يستحقون الفيء: أن يكونوا من الفقراء المهاجرين، فقال: ((لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ)) فالفقراء المهاجرون رضي الله تعالى عنهم تحملوا في سبيل الله سبحانه وتعالى الفقر، فقد كانوا قبل ذلك فيهم من له المال والعشيرة والوجاهة والوطن والدار والتجارة الرابحة، ثم تركوا ذلك لله سبحانه وتعالى، وتحملوا أن ينتقلوا إلى دار غريبة عليهم، صارت بعد ذلك أحب إليهم؛ لأنهم تركوا من أجلها وطنهم وأرضهم وديارهم وأهليهم. فالله سبحانه وتعالى ذكر تضحيتهم في سبيله عز وجل، وتحملهم مشاق قلة المال، والبعد عن الوطن، والأهل والعشيرة، ولا شك أن الإنسان يكون مستريحاً أكثر في المسكن الذي يرتضيه، والذي نشأ فيه، وفي البلد الذي يحب أن يعيش فيه، خصوصاً إذا كان أحب بلاد الله إلى الله، وجعله الله عز وجل محبوباً إلى قلوب عباده المؤمنين، وهي: مكة المكرمة التي قال النبي صلى الله عليه وسلم عنها: (والله إنك لأحب البلاد إلى الله، وأحب بلاد الله إلي، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت). فلينظر كل منا إلى هذا الأمر، واستعداده للتضحية من أجله، فهؤلاء تحملوا الفقر في سبيل الله عز وجل، والغربة عن المساكن التي تركوها لله عز وجل وجهاداً في سبيله، كما قال سبحانه وتعالى في وجوب تقديم حب الله ورسوله وحب الجهاد في سبيله: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24].

سبب تحمل الجوع والفقر

سبب تحمل الجوع والفقر كان المهاجرون رضي الله عنهم، ممن قدم حب الله وحب رسوله صلى الله عليه وسلم على هذه الثمانية: الآباء والأبناء، والعشيرة والأهل والأزواج، والأموال المكتسبة، والتجارة التي يخشى كسادها، والمساكن المرضية، كل هذا ضحوا به في سبيل الله عز وجل، وكان فقرهم الذي حصل لهم إنما كان بعدما كانوا فيه من سعة من المال والرزق، وما كانوا فيه من المنزلة؛ فإن قريشاً كانت لها المنزلة الرفيعة عند العرب جميعاً، وكانوا رضوان الله عليهم بما صنعوا يمثلون قدوة في التحمل والصبر والثبات على الدين رغم المشاق، وكان من شأنهم ما ذكره أهل السير والحديث، من جوعهم؟ وزهدهم في الدنيا؟ وصلابة تحملهم للمشاق في سبيل الله؟ يحكي ابن عمر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق بجماعة من أصحابه يعودون سعد بن عبادة رضي الله عنه، وليس عليهم نعال ولا خفاف ولا عمائم ولا قلانس إلا الأزر رضي الله تعالى عنهم! خرجوا حفاة ليس معهم نعل ولا خف، ولا قلنسوة ولا عمامة، رضي الله تعالى عنهم، ليس معهم إلا الأزر. وكذلك عندما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة أميراً على سرية فيها ثلاثمائة من المهاجرين والأنصار، وماذا كان زادهم الذي زودهم به النبي صلى الله عليه وسلم؟ زودهم بجراب من تمر، نصيب كل واحداً منهم في اليوم تمرة، نام واحداً منهم عن تمرته فما استطاع أن ينهض؛ لأنه كان عاجزاً عن النهوض؛ حتى شهد له أصحابه عند الأمير أبي عبيدة بأنه لم يأخذ تمرته، فلما شهدوا له بذلك قيل له: تعال خذ تمرتك، فانطلق لكي يأخذ التمرة رضي الله عنه، كأنما أفاق من الغشيان والإغماء الذي أصابه، كانوا يمصون التمرة والنواة ويجعلون عليه من الماء حتى نفد هذا الجراب من التمر، وجاعوا جوعاً شديداً، حتى أخرج الله لهم حوت العنبر، فأكلوه في البداية متأولين أنهم مضطرون لأجل الجهاد، حتى بين النبي صلى الله عليه وسلم لهم أن هذا رزق ساقه الله إليهم، وأكل من لحمه؛ لأنه من صيد البحر الذي أحل الله عز وجل ميتته. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعصب على بطنه حجرين من الجوع، وكان الصحابة يعصبون على بطونهم حجراً حجراً رضي الله تعالى عنهم.

إنفاق الأموال في سبيل الله

إنفاق الأموال في سبيل الله أنفقوا أموالهم في سبيل الله، فمنهم من أنفق ماله كله كـ أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وكان يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: تركت لهم الله ورسوله، لذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أمنَّ الناس علي في نفسه وماله أبو بكر) رضي الله عنه، ويقول: (وكل أحد كافأناه بها إلا أبا بكر فإن له عندنا يداً يجزيه الله بها يوم القيامة) رضي الله تعالى عنهم أجمعين. والنبي صلى الله عليه وسلم كان يصبر أصحابه بأنه لا يخشى عليهم الفقر، مع أنهم كانوا في شدة الحاجة فيصبرهم النبي صلى الله عليه وسلم ويقول لهم: (والله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى أن تفتح عليكم الدنيا كما فتحت على من قبلكم فتنافسوها كما تنافسها من قبلكم فتهلككم كما أهلكتهم). خطب عتبة بن غزوان رضي الله عنه فقال: ولقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مالنا طعام إلا ورق الشجر، فالتقطت بردة فاتزرت بنصفها، واتزر سعد بنصفها، قال: ما أصبح كل واحد منا إلا أميراً على مصر من هذه الأمصار، وإني أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيماً وعند الله حقيراً. رضي الله تعالى عنهم. انظر كيف كان حالهم؟ ليس لهم طعام إلا ورق الشجر، وتحملوا هذا فعلاً في سبيل الله، وصبروا على الفقر، ولذا يدخل فقراء المهاجرين الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام، رضي الله تعالى عنهم وفي الحديث: (رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب، لو أقسم على الله لأبره)، ربما الواحد منا الآن لا يستطيع أن يتحمل مخالفة عادته في الأكل والشرب أو المنام، انظر ماذا يصنع الناس في الحج وهو لا جهاد فيه ولا شوكة، وأن ينام الإنسان جزءاً من ليلة في مزدلفة مثلاً على غير فراش بالعراء شيء يسير، وتجد أكثر الناس يتركون المنزل ولا يتحملون إلا ربع ساعة، أو نصف ساعة، أو ساعتين على الأكثر، وقلة هي من تحتمل ذلك إلا ما شاء الله سبحانه وتعالى. وكذلك المبيت بمنى مثلاً، فالناس لا يتحملون مخالفة العادة في الأكل والشرب؛ التي تعودوا عليها، فهل نحن فعلاً مستعدون للتضحية بالأموال والأنفس والثمرات، فضلاً عن تحمل الخوف؟!

تحمل الصحابة الجوع والخوف وصور جوعهم

تحمل الصحابة الجوع والخوف وصور جوعهم قال عز وجل: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة:155]، إن ذكر الخوف ينبئنا بما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من شعور ضروري يلازمهم باستمرار الحياة المعتادة، وتحملهم لهذا الشعور في سبيل الله من أعظم ما يثيب الله سبحانه وتعالى عليه. أكثر الناس من أجل الشعور بالأمان مستعد لأن يضحي بالتزامه وبطاعته لله، وبعمله من أجل الإسلام، بل ربما يضحي بعمله بالإسلام لكي يكون آمناً مطمئناً مع أن هناك خوف أشد، فالمؤمن إنما يسعى للأمان الحقيقي يوم الفزع الأكبر، والله عز وجل ذكر وقوف المؤمنين المطمئن فقال: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر:27 - 28]، وقال عز وجل: {وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} [النمل:89]، وهذه كلها مشاق، تحملها المهاجرون رضي الله عنهم. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، ولقد أخفت في الله وما يخاف أحد). ويرخج النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر من بيوتهم من الجوع، فيجدهم أبا الهيثم بن التيهان الأنصاري رضي الله عنه؛ لكي يأكلوا عنده وليس عندهم شيء. النبي صلى الله عليه وسلم يأتيه رجل فيقول: إني مجهود، أي: أصابني الجهد من شدة الفقر والحاجة، فيرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيوت نسائه واحدة واحدة، وتسع نسوة للنبي عليه الصلاة والسلام كل واحدة منهن تقول: والله ما عندي إلا ماء -ليس في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ماء- فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: من يضيف هذه الليلة يرحمه الله، فيقول رجل من الأنصار: أنا، رضي الله تعالى عنه، ويذكر أن هذا هو سبب نزول قوله سبحانه: ((وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ))، فانطلق هذا الرجل بهذا الضيف لامرأته وقال: هذا ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تدخريه شيئاً، قالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية، رضي الله تعالى عنهما وعن أولادهما، قال: فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم، ثم قومي فأطفئي السراج، وأشعريه أنا نأكل، ونبيت ليلتنا طاويين، ففعلت رضي الله تعالى عنها، وهذا والله من الأمر العجيب، أنها تقدم ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس فقط على نفسها بل حتى على أولادها، والأب والأم يمكنهم أن يقدموا الضيف على أنفسهم، لكن أن يقدم على قوت الصبية من أجل أن يطعم المسكين الفقير المجهود الذي أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم فهذا هو العجب، وانظر إلى ما كان عليه الحال عندهم من الشدة. وأبو هريرة رضي الله عنه يقسم أنه يسأل عمر رضي الله عنه عن آية من كتاب الله، ما يسأله إلا لأجل أن يطعمه، ويسأل أبا بكر عن آية من كتاب الله، ما يسأله إلا لأجل أن يطعمه، ويفهمه الرسول صلى الله عليه وسلم ويأمره أن يلحق به، ويجد إناء من لبن أهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي هريرة: (ادع لي أهل الصفة)، فيقول: كنت أنا أولى بهذه الشربة لكي أتقوى بها، والآن إذا دعوت أهل الصفة أمرني أن أسقيهم فكنت آخرهم شرباً فما عساني أن يدركني شيء من هذا اللبن. لكن يبارك الله عز وجل في هذا اللبن، حتى يشرب منه سبعون من أهل الصفة، وأبو هريرة رضي الله عنه آخرهم كما توقع، لكنه شرب حتى قال للنبي عليه الصلاة والسلام: والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكاً رضي الله تعالى عنه، وصدق رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم، وعند أن شرب الفضلة، ظل يقول له النبي صلى الله عليه وسلم: اشرب اشرب اشرب، حتى قال: والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكاً. انظر كيف كانت حياتهم رضي الله تعالى عنهم، وكيف كان تحملهم للفقر في سبيل الله عز وجل. فهذا الأمر، وهو تحمل المشاق والمصاعب هل عندنا استعداد لأن نتحمل من المصاعب مثلهم؟! نسأل أنفسنا هذا السؤال، ونزن أنفسنا فيما يتعلق بهذه الصفة.

مفهوم الهجرة وفضلها

مفهوم الهجرة وفضلها لا تظن أن الهجرة فقط هي الانتقال من دار الحرب إلى دار الإسلام، فالمهاجرون هاجروا الهجرة العظيمة السابقة التي فازوا بها بشهادة من رب العباد في كتابه عز وجل، فسماهم المهاجرين. لكن هناك معنىً أوسع للهجرة بينه النبي صلى الله عليه وسلم، فهم فعلاً تركوا الوطن والأهل والتجارة لله سبحانه وتعالى، وباعوا ذلك لله عز وجل وربح بيعهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ صهيب: (ربح البيع أبا يحيى) فعندما دلهم -أي: كفار قريش- على ماله ليأخذوه ويتركوه يهاجر في سبيل الله عز وجل. فعندما هاجر المهاجرون تركوا كل ما استراحوا إليه من الأهل والمسكن والأموال والتجارة، والعمل المناسب، وانتقلوا إلى دار غريبة عليهم، وكل هذا هجرة في سبيل الله عز وجل، فهل لنا نصيب من الهجرة؟ نعم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المهاجر من هجر ما نهى الله عنه) فكل عادة، تعودت عليها، واسترحت إليها، لكن فيها معصية لله عز وجل، فإذا هجرتها، فأنت مهاجر إلى الله، والمهاجر: من هجر السوء، يعني: أن تترك ما نهاك الله عز وجل عنه وإن كنت محتاجاً إليه، كعادة من العادات، بل للمسلمين اليوم نصيب كبير جداً من أن يكونوا من المهاجرين؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عبادة في الهرج كهجرة إلي) رواه مسلم في صحيحه. فالعبادة في وقت الفتن هجرة، وما أكثر الفتن من الصد عن سبيل الله، والإعراض عن دينه، وترك الالتزام به، ومن الفتن عدم العمل بدين الله تعالى في كل مجالات الحياة وحصر العمل في الأسرة، ثم يقولون: نعبد الله في أنفسنا، مع أن العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة، فليس من العبادة أن تبقى في دارك تاركاً لكل المنكرات تتفشى، وتذهب إلى عملك ساكتاً عنه، ثم تلاقي الناس ولا تنكر، وإنما تصلي ما عليك من ركعات وكفى، ليست هذه هي العبادة المقصودة، وإنما العبادة: أن تمتثل طاعة الله، وأن تترك ما حرمه عز وجل، لتكون مهاجراً، وفي الحديث: (عبادة في الهرج كهجرة إلي) وذلك لأن الوقت وقت فتن، فتشتد فيه الأمور، ويصبح القابض على دينه كالقابض على الجمر، ولذلك يكون مهاجراً.

حقيقة الهجرة إلى الله ورسوله

حقيقة الهجرة إلى الله ورسوله انظر إلى العادات التي تعودت عليها، وانظر ماذا يخالف شرع الله عز وجل منها، وما يعيقك عن لذيذ العلم والعمل، ثم اهجره، واهجر كل ما نهاك الله عز وجل عنه؛ لكي ينطلق قلبك إلى الله عز وجل، وذلك أن الهجرة هي هجرة إلى الله وهجرة إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وتكون بالقلب كما تكون بالبدن، عندما يشرع بالانتقال من دار الكفر إلى دار الإسلام، لكن الهجرة بالقلب فرض في كل حين. الهجرة إلى الله: أن تهجر كل ما نهاك الله عز وجل عنه، فتهجر التوكل على غيره إلى التوكل عليه، والخوف من غيره إلى الخوف منه وحده، وحب غيره والحب لغيره إلى الحب له وفيه سبحانه وتعالى، ورجاء غيره وابتغاء غير وجهه إلى رجاء فضله وابتغاء وجهه سبحانه، وهكذا في كل عبادة من العبادات تهجر ما نهاك الله عنه إلى ما يحبه سبحانه وتعالى ويرضاه. وأما الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكما يقول ابن القيم رحمه الله: هي سفر النفس في كل مسألة من مسائل الإيمان وحادثة من حوادث الأحكام، ومنزلة من منازل القلوب إلى معدن الهدى ومنبع النور المتلقى من فم الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، فخذ كل مسألة طلعت عليها شمس رسالته، وإلا فاقذفها في بحر الظلمات، وكل شاهد عدله هذا المزكي، وإلا فعده من أهل الريب والظلمات. فهذه الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، تهاجر إليه بالفعل عندما تشتد الفتن، وتكثر العقائد الفاسدة، والعبادات الباطلة والبدع فيها، ويترك الناس العبادة الصحيحة، وربما تركوا العبادة بأسرها، فصارت الصلوات مهجورة، والزكاة لا تؤدى، والصيام الواجب يجهر فإفطاره، ويقل الحج، بل تعثر خطوات من يريده، ونحو ذلك، فإذا حدث ذلك، فأداء العبادة في هذا الوقت أعظم. وكذلك تكون الهجرة بالقلوب، وأحوال الأخلاق، عندما تتغير القلوب والأخلاق، ويكون الالتزام بالسنة في هذا المقام هجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فللمسلمين نصيب في الهجرة في كل وقت، وليست مقصورة على انتقال البدن الذي به يكون الإنسان مبتعداً عن رؤية أهل الكفر والفساد والظلم، مع إقرارنا أن رؤيتهم ومعاشرتهم من أسباب شقاء الإنسان، ومن أسباب العذاب إلا أن يكون داعياً إلى الله، فيعاشرهم بشرع الله لأجل الدين، ويدعوهم إلى الله سبحانه وتعالى.

تحمل الإخراج من بين الأهل والمال والولد

تحمل الإخراج من بين الأهل والمال والولد قال عز وجل: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} [الحشر:8] فتحمل هؤلاء المهاجرون ألم الإخراج، ومعلوم: أنه لأن تخرج بنفسك أهون من أن تخرج. فإخراج الإنسان من داره أمر شديد على النفس، وذلك يجعل كثيراً من الناس يتركون الالتزام، والإنسان الذي تحمل ذلك الخطر، أو ذلك الفعل ولو للحظات قوي العزيمة والدين، وقد يخرج الإنسان من داره يوماً أو يومين أو ثلاثة أو شهراً أو شهرين أو أكثر ظلماً وعدواناً بغير حق إلا أن يقول: ربنا الله. وكذا أن يخرج من ماله، فيفسد عليه ماله، وتفسد تجارته، أو يمنع من ممارستها، أو ممارسة عمله الذي يتكسب منه ما يحتاجه، إن ذلك أمر شديد على النفس، وخصوصاً من كانت أموره متأثرة كالمهاجرين رضي الله تعالى عنهم قبل هجرتهم، وقبل التزامهم بدين الله سبحانه وتعالى، ودعوة النبي صلى الله عليه وسلم. فتحمل هذا الإخراج من الديار والأموال هو من أعظم الصفات الجاذبة لتأييد الله سبحانه وتعالى ونصرته، وأن يعوضهم الله عز وجل خيراً مما فاتهم، فما كانوا يتصورون أبداً أن يطأوا بلاد الكفار التي بجوارهم، بل صار كل واحد منهم أميراً على مصر من الأمصار، قال الله عز وجل عن بني قريظة: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا} [الأحزاب:26 - 27]، فحصون اليهود في المدينة ما كان العرب قبل الإسلام يطئونها أبداً، وما كانوا يسمحون لهم بالدخول، ولا كان يفكر المسلمون بأنهم سوف يدخلونها أبداً، كما قال عز وجل: {مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ} [الحشر:2] ثم كانت العاقبة أن أفاء الله عليهم أموال بني النضير وبني قريظة ومكن لهم جزيرة العرب كلها؛ لأنهم تحملوا في سبيل الله عز وجل ألم الإخراج من الديار والأموال، وضحوا بذلك في سبيله سبحانه وتعالى. هذه الصفة أي: الاستعداد للتضحية والبذل والعطاء لا بد أن تكون موجودة في هذا الجيل، وأن يتحمل الإنسان أنواع المشاق بما فيها ألم الإخراج والخوف في سبيل الله عز وجل.

الإخلاص لله لنيل رضوانه

الإخلاص لله لنيل رضوانه قال الله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الحشر:8] فلا يبتغون شيئاً من الدنيا، ولابد من وجود الإخلاص في كل عمل، وأن يبتغي الإنسان وجه الله عز وجل، ولا يريد جزاءً ولا شكورا، ً كما قال عز وجل عن المؤمنين: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا} [الإنسان:9]. فقوله: ((يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا)) أي: يبتغون الفضل والثواب والجنة والرضوان، وهو من أعلى ما يطلبه المؤمن؛ لأنه ذاق في هذه الدنيا حب الله عز وجل، وعرف أن رضاه عز وجل هو أعظم شيء يعطاه الإنسان، فهذا ذاق أثر الطاعة؛ فإن الإيمان: هو أثر من آثار رضاه سبحانه وتعالى عن العبد، ولذلك عندما يذوق الإنسان حلاوته يعلم بالفعل أن رضوان الله من أعظم ما يطلب، كما قال سبحانه وتعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة:72] أي: أكبر من الجنة فعلاً، نعني بذلك: أكبر من الثواب الحسي في الجنة، فرضوان الله هو الذي جعل الجنة دار الأبرار، والرضا الأعظم هو الرضا الذي لا سخط بعده، كما يقول الله عز وجل لأهل الجنة -كما ثبت في الحديث الصحيح-: (تريدون شيئاً أزدكم؟ فيقولون: وأي شيء أفضل من هذا، ألم تبيض وجوهنا؟ وتدخلنا الجنة، وتنجنا من النار؟ فيقول: بلى أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً). فهذا الرضوان الذي يبتغيه المؤمن، ويريد أن يرضي الله سبحانه وتعالى بكل طاعة، إلى أن يصبح الشخص مرضياً عنه، ولا يزال العبد يتقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض، حتى يكون محبوباً عند الله عز وجل، كما قال عز وجل في الحديث القدسي: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه). إذاً: فهناك مرحلة أخرى، فهو يحب منه قبل هذا كله فعل كل عمل صالح، لكن إذا واظب على النوافل بعد الفرائض، وصل إلى أن يكون محبوباً بذاته عند الله؛ لذا يكون سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سأل الله ليعطينه، ولئن استعاذ به ليعيذنه، وهذا من علامات قبول العبد عند الله، وكل هذا جزء من الرضا، وإلا فالرضا الأعظم: هو الذي لا سخط بعده، وهو إنما يكون يوم القيامة، وبرضاه دخلوا الجنة، ولكن رضا أتم، وهذا أعظم ما يمكن أن يوجد، إن نصيب العبد من الله عز وجل هو أعظم ما يسعد الإنسان، وأعظم ما يجد به السعادة في الجنة أن ينظر إلى وجهه، وأن يستشعر رضوان الله، وأن يعلم بكلام الله أن الله أحل عليه رضوانه. كما قال سبحانه: ((يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا)) هذا الذي يحرك في الإنسان كل الدوافع الحسنة والطيبة للإخلاص، وربما يعاني الواحد منا من منازعات الرياء والشهرة والسمعة ومدح الناس له، وفي ذلك أعظم ما ينقله نقلة سريعة إلى الإخلاص، فيبتغي ما ذكر الله، ويفكر كثيراً في الثواب والفضل من الله، ويفكر في رضوانه، وعندئذٍ سوف يصغر العالم كله في قلبه، وعند ذلك يسهل عليه الإخلاص، ويتيسر عليه أن يكون مخلصاً لله عز وجل في كل عمل؛ لأنه وضع نصب عينيه رضوان الله، وعلم أنه يعامل الله عز وجل، ووضع نصب عينيه الوصول إلى أن يحبه الله، ويريد رضوانه، وثوابه في جنته، وهذا الذي يمحو من قلبه هذه الدنيا فتصغر جداً، فلا يمكن أبداً بعد ذلك أن يعمل من أجل مدح مادح، أو يفر من ذم ذام، أو أن يبتغي شيئاً من حطام الدنيا من رياسة، أو مال، أو شهوة، نسأل الله العافية، وأن يرزقنا الإخلاص والعمل الصالح، ونعوذ بالله أن نشرك به شيئاً نعلمه، ونستغفره لما لا نعلمه.

نصرة الله ورسوله شرط النصر على الأعداء

نصرة الله ورسوله شرط النصر على الأعداء قال الله تعالى: ((يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ))، نصرة الله هي نصرة دينه، قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]. ونصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم نصرته حياً، ونصرته صلى الله عليه وسلم بعد وفاته نصرة سنته، نصرة دينه وطريقته ومنهاجه عليه الصلاة والسلام، وذلك يقتضي تعلماً لهذا المنهج، وكذا لنصرة الدين لا بد أن تتعلم الدين لتعلم ما الذي تنصر، ولا يكفي أن تكون عاملاً بالدين فقط، بل لابد لكي تكون عالماً بالدين عاملاً من أجله.

دور المسلم في نصرة دينه

دور المسلم في نصرة دينه لا يكفي أن تقف موقف المتفرج المشجع، وأنت ترى الصراع الشديد في كل مكان أعداء للإسلام، خصوصاً من قبل اليهود فإنك تجدهم من وراء كل مكر بالإسلام وأهله، وكل أنواع الكفار تجد تعاونهم مع اليهود من أجل كيد المسلمين في المشارق والمغارب، والله، وهذا الكيد لا يمكنك أن تقف فيه وقفة المتفرج، وتقول: ماذا يعنيني! أنا أريد أن أكون ملتزماً في نفسي. بل لا بد أن تنصر الله بنصرة الدين، وتنصر رسوله صلى الله عليه وسلم بنصرة سنته. فإن قلت: ماذا أصنع؟ فنحن لا نستطيع أن نصنع للمسلمين شيئاً ولا نستطيع أن ننصر المسلمين المستضعفين في الأرض التي اغتصبها العدو فماذا نعمل؟ لا، بل أنت تستطيع الكثير، وذلك أن نصرة الدين ليست مختصة فقط بأرض معركة مع الكفار، فنصرة الدين تكون في كل موطن يحدث فيه منازعة، حتى في داخل نفسك، بين نفسك الأمارة بالسوء والشيطان من جهة، وبين أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم من جهة أخرى، واعظ الله في قلب كل مؤمن: يعظك بأن تلتزم بدينه وأوامره، ويجعلك في صراع داخلي، ولذلك يسمى هذا النوع: جهاداً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله). نعم، يجاهد الإنسان نفسه وهذا درجة من درجة الجهاد، بل يبنى عليه الجهاد الأصل، وهو الذي يفتح الباب له، فلا بد أن تنصر الله أولاً في نفسك بأن تتعلم الدين، وتترك هذا الكسل والتواني والتأخر والتخلف عن معرفة هذا الدين. وكذلك تنصره بالعمل به، وبالدعوة إليه وبالصبر عليه في كل معاملة تعامل الناس فيها، لم تقصر أمر النصر على أنك تمسك سلاحاً فقط؟ إن نصرة الدين تكون في كل معاملات تعامل الناس فيها وتجد الدين مبعداً عن الحياة، فانصر الدين بإحيائها، وأنت كل يوم ترى من المنكرات ما تراه، فلا بد أن تنصر الله بأن تنصر هذا الدين في نفوس من حولك من الناس، وتنكر هذا المنكر، كما قال سبحانه: ((إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)) فبقدر نصرة الدين بقدر ما تنصر أنت. لماذا نعجز عن تغيير الواقع الذي يعيشه المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها إلى ما نحب من إعلاء الدين وإظهاره وانتصاره على الكفرة؟ لأننا فرطنا في نصرة الدين، فوعد الله لا يخلف، ولو أننا نصرنا الدين في كل موطن نجد فيه معركة بين الالتزام بالدين وبين أعداء الالتزام، لجاء النصر من السماء؛ هأنتذا ترى الشبهات والشهوات في كل وقت، فلو نصرنا الدين فسيفتح الله لنا من أبواب القدرة ما لا نقدر عليه الآن، وما نعجز عنه الآن، فنحن ما زلنا عاجزين؛ لأننا لم نصعد خطوات السلم كما ينبغي. كثير منا لم يصعد السلم ورأى الباب مغلقاً، فقال: لا أستطيع، فالباب مغلق، ولن أصعد درجة السلم، لماذا لا ينفتح الباب؟ لأنك لم تصعد درجة السلم، ولو صعدت درجة السلم، وحاولت فتح الباب فسوف ينفتح، فمن عمل بما قدر عليه رزقه الله القدرة على ما لا يقدر عليه. كثير من الناس يظن أنه يكلف ما لا يطيق، كلف مثلاً بأن يكسر صخرة؛ فيظن أنه بلا معول يكسرها؛ فينطح رأسه فيها، ويقول: أنا أصنع ما أقدر عليه، لا، ليس هذا الذي تقدر عليه؛ ولست مأموراً بأن تدني رأسك فتكسرها، لكي تقول: إنك تنصر الدين. لابد أن تأخذ بالأسباب التي توصل إلى كسر هذه العوائق والانتصار عليها، واصعد السلم ولن يبق إلا فتح الباب؛ لأن الله وعد بذلك فقال: ((إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ)). لماذا لا نجد هذا الأمر موجوداً؟ لأجل التقصير الذي وقع في نصرة الدين، وفي نصرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

نصرة الصحابة لرسول الله يوم أحد

نصرة الصحابة لرسول الله يوم أحد كيف نصر الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ نصروه أعظم النصر. انظر إلى حال طلحة بن عبيد الله في غزوة أحد مع النبي صلى الله عليه وسلم، وسبعة من الأنصار رضي الله عنهم، فيرهقهم المشركون ويدركونهم، ويصعدون إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يريدون قتله عليه الصلاة والسلام، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من يردهم عنا ويكون رفيقي في الجنة)، فينتبه طلحة فيقول له: اجلس، فينتبه رجل من الأنصار فيقاتل حتى يقتل رضي الله تعالى عنه، ويطلب المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم ثانية، فيطلب النبي صلى الله عليه وسلم أن ينتبهوا لهم، فينتبه السبعة من الأنصار واحداً تلو الآخر رضي الله تعالى عنهم، فيقتلون كلهم بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم دفاعاً عنه عليه الصلاة والسلام، ثم انطلق طلحة رضي الله عنه يرد المشركين؛ فقاتل كقتال السبعة رضي الله تعالى عنه، حتى رد المشركين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. والمشركون ما زالوا طامعين في أن يصلوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنه جعلهم ييأسوا من أن يصلوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وجرح جرحاً عظيماً، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر وعمر: (دونكم صاحبكم فقد أوجب) رضي الله تعالى عنه، يعني: استوجب الجنة، وقى النبي صلى الله عليه وسلم بيده حتى شلت يده رضي الله عنه، وهذا أمر عجيب الشأن، ففطرة الإنسان أنه إذا داهمه شيء يهرب منه، ولكنه لشدة حبه للنبي صلى الله عليه وسلم تحركت يديه إلى اتجاه السيف؛ ليقي النبي صلى الله عليه وسلم، وشلت يده رضي الله تعالى عنه، وظل يقاتل طلحة رضي الله عنه حتى قال أبو بكر رضي الله عنه لما سئل عن يوم أحد قال: ذاك يوم كله لـ طلحة رضي الله تعالى عنه. حتى نساء الصحابة رضي الله عنهن كان لهن دور في نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم. فـ نسيبة رضي الله تعالى عنها عندما رأت أن خطراً يداهم الرسول صلى الله عليه وسلم انطلقت تقاتل بالسيف رضي الله تعالى عنها، دفاعاً عن النبي عليه الصلاة والسلام. وهكذا كان دفاعهم عن دينه وسنته عليه الصلاة والسلام ضد الردة، وضد مانعي الزكاة، وضد المبتدعين من الخوارج وغيرهم، وقفوا هذه المواقف التي حفظ الله بها الإسلام نقياً صافياً، ووصل إلينا كما أنزله الله، يسهل على كل من أراد أن يعرفه أن يصل إليه بفضل نصرة الصحابة رضي الله عنهم لدين الله ولرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولذا نصرهم الله عدوهم، قال سبحانه: ((إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)).

مفهوم النصرة لله ولرسوله

مفهوم النصرة لله ولرسوله قال الله تعالى: ((وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ))، نصرة الله عز وجل لابد أن تكون صفة أساسية في كل مسلم في كل موطن، وإذا فعلنا ما نقدر عليه فتح الله لنا أبواب ما نعجز عنه، وأعطانا من القوة والقدرة ما لا نستطيعه الآن، كما أن من عمل بما علم رزقه الله علم ما لا يعلم، قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282]. وعندما يشتبه على الإنسان أمراً من الأمور أهو من الحق أم من الباطل؟ من السنة أم من البدعة؟ من المصلحة أم من المفسدة؟ ولا يستطيع الوصول إلى أمر، فليتعبد الله عز وجل وليفعل ما أمره الله به، وليتق الله سبحانه وتعالى فيما يعلم، فيرزقه الله عز وجل علم ما لم يعلم. {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282]، فمن اتقى الله رزقه الله علم ما لم يعلم، ومن اتقى الله وعمل بما قدر عليه فتح الله عز وجل له أبواب ما لا يقدر عليه. وكثير من الناس يريد أن يصعد السلم مرة واحدة، أو أن يكسر الصخرة فينكسر رأسه، ولا حول ولا قوة إلا بالله. فلا بد أن نفهم هذه القضية جيداً، وأن نعمل ما استطعنا في نصرة الدين وإظهاره، وإعلاء كلمة الله في كل موطن نكون فيه، وإذا رأينا صراعاً بين الحق والباطل فعلينا أن ننصر الحق ابتداء من داخل أنفسنا، وفي بيوتنا وجيراننا، وكل مكان نكون فيه، فالواحد منا يعامل كل يوم عشرات من الناس، وربما يجد انهزاماً أمام أعداء الدين، وقبولاً للباطل، وإعراضاً عن الحق، فأين نصرتك للدين في هذا المقام؟

صور من صدق نصرة الصحابة لدينهم

صور من صدق نصرة الصحابة لدينهم قال تعالى: ((أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ))، أي: الصادقون مع الله عز وجل في القول والعمل، قال عز وجل: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23]. يقول أنس رضي الله عنه: غاب عمي أنس بن النضر عن غزوة بدر فقال: غبت عن أول مشهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع المشركين، لئن أشهدني الله مشهداً غيره ليرين الله ما أصنع -أبى أن يقول غيرها، أبى أن يقول سوف أقاتل أشد القتال- فعندما كانت وقعة أحد وانكشف المسلمون وفر منهم من فر، قال رضي الله تعالى عنه: اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء -يعني: المشركين- وأعتذر إليك مما صنع هؤلاء، أي: المسلمون لما وقع منهم من الفرار والمعصية التي تاب الله عز وجل عليهم منها بعدها، إلا أنه يعتذر عنهم حباً لهم، وشفقة عليهم، ويبرأ من المشركين، ثم انطلق رضي الله عنه فوجد سعد بن معاذ رضي الله عنه الذي اهتز لموته عرش الرحمن، سيد الأنصار رضي الله عنه، فيقول سعد حاكياً للرسول صلى الله عليه وسلم: إن أنساً قال: يا سعد! واهاً لريح الجنة، والله إني لأجد ريحها دون أحد. رضي الله عنه، رزقه الله أن شم بالفعل رائحة الجنة، -وواهاً: كلمة استحسان للرائحة، أي: ما أعظم هذه الرائحة- وانطلق ليقترب منها، قال سعد: فو الله يا رسول! ما استطعت ما صنع، أي: لم يستطع سعد أن يصنع ما صنع أنس رضي الله عنه، مع أن سعداً والذي عندما مات بكى عليه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وعندما جاء النبي صلى الله عليه وسلم شيء من الحرير قال: (لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير من هذه). سعد بن معاذ يقول: والله ما استطعت ما صنع، ثم وجد به -أي: بأنس- بضعاً وسبعين جرحاً، ما بين ضربة بسيف، ورمية بسهم، وطعنة برمح رضي الله عنه، فما عرفته أخته إلا ببنانه، يعني: جرح رضي الله عنه قبل الجرح القاتل بضعاً وسبعين جرحاً، وإنما أوقفه الجرح الأخير، وظل رغم بضعاً وسبعين جرحاً مستمراً في القتال رضي الله تعالى عنه. وكذا جعفر بن أبي طالب في غزوة مؤتة وجد به ما بين بضعٍ وثلاثين جرحاً، ما فيها شيء في ظهره أبداً رضي الله تعالى عنه، وقد قطعت يداه رضي الله تعالى عنه، حتى لا تسقط راية المسلمين، ثم أبدله الله جناحين في الجنة يطير بهما. صدق مع الله عز وجل فما تردد ولا تأخر أبداً رضي الله تعالى عنهم، فقد كان عندهم صدق مع الله عز وجل. فـ أنس بن النضر ما عرفته أخته إلا ببنانه، قال أنس: فكنا نرى أن الله أنزل فيه وفي أصحابه: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23]. وانظر الزبير رضي الله تعالى عنه عندما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في سرية وحده إلى بني قريظة في غزوة الخندق، لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يعرف خبر بني قريظة من الغدر ونقض العهد وخطرهم، فانتدبه رضي الله عنه، فيخرج الزبير في سرية وحده، ويذهب ويرجع رضي الله تعالى عنه. قالوا له في غزوة اليرموك: اشدد على العدو فنشد معك، فقال: لا تستطيعون، قالوا: اشدد فنشد معك، فشد رضي الله تعالى عنه، فخرق جيش الروم إلى أن خرج من الناحية الأخرى، ولم يجد أحداً يرجع معه، لم يستمر المسلمون معه رضي الله تعالى عنه، فجيش الروم كان أكثر من مائة ألف في غزوة اليرموك، وخرق الجيش كله، ثم رجع فخرق الجيش كله مرة أخرى إلى أن وصل إلى المسلمين، حتى يقول عروة وكان صغيراً: كنت أدخل أصبعي في جراح الزبير رضي الله عنه ألعب فيها، منها ما كان يوم أحد، ومنها ما كان يوم اليرموك. قال الله: ((أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ))، أي: صدقوا مع الله عز وجل في القول والعمل، والإنسان كلما صدق في القول كلما يسر الله له الصدق في العلم، وكلما كان صادقاً فيما عاهد الله عز وجل عليه، كلما استمر وثبت على الحق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً).

فضل المهاجرين والأنصار

فضل المهاجرين والأنصار قال الله عز وجل: ((وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ))، صفات المهاجرين والأنصار عندما تتأملها تجد أنها مشتركة فيما بين الفريقين، لكن نصيب المهاجرين في هذه الصفات أتم، ونصيب الأنصار في صفاتهم أتم، ولكل منهم نصيب في ذلك. فالمهاجرون قد وقوا شح أنفسهم، وأحبوا الأنصار في الله عز وجل، وإن كان نصيب الأنصار في هذه الصفات أتم، كما أن نصيب المهاجرين في تحمل المشاق وآلام الإخراج، ونقص الأموال، والإخلاص، والصدق أتم رضي الله تعالى عنهم، لكن الصفات كلها موجودة بينهما. فصفة الأنصار التي ينبغي أن يتحلى بها أهل الإيمان، ليكونوا من ذلك الجيل الذي يريد أن ينتصر؛ ذلك النصر المنشود، صفة الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم: أنهم يحبون من هاجر إليهم.

سكن الإيمان في قلوب الأنصار

سكن الإيمان في قلوب الأنصار قال عز وجل: ((وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا)) أي: سكنوا الدار، وهذا تشريف للمدينة، حيث سماها الله الدار، فكأنها هي دار الإيمان؛ لأن الإيمان أوى إليها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها). ويخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن غربة الإسلام، وأنه كما بدأ غريباً يطارده كل أهل الأرض، فأوى إلى المدينة، والناس يعتبرونه حية، واتهموه بالباطل وأرادوا قتله بأي طريقة، وكذلك في آخر الزمان سوف يعود الدين غريباً كما بدأ، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه يأرز إلى المدينة، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الإيمان يأرز ما بين المسجدين، كما تأرز الحية إلى جحرها)، أو كما قال عليه الصلاة والسلام. قوله سبحانه: ((تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ)) أي: سكنوا الإيمان، وهل الإيمان يسكن؟! شبه الإيمان كأنه دار سكنوها، لأن الدار يستقر فيها الإنسان، فهؤلاء الأنصار سكنوا الإيمان، بمعنى: استقر الإيمان في قلوبهم، والإنسان يلازم داره، فإذاً الإيمان سكن هذا في هذا المكان، بمعنى: استقر واطمأن فيه، واستراح فيه، فهذه شهادة لهم بالإيمان رضي الله تعالى عنهم، فهم مؤمنون صادقون، استقر الإيمان في قلوبهم. فقوله: ((تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ)) أي: من قبل أن يهاجر المهاجرون إليهم، وقد أسلم كثير من الأنصار قبل المهاجرين، لكن المقصود والله أعلى وأعلم بقوله: ((مِنْ قَبْلِهِمْ)) أي: من قبل أن يهاجر المهاجرون، وأن الأنصار أسلم كثير من كبارهم وسادتهم على يد مصعب بن عمير رضي الله عنه قبل أن يهاجر كثير من المهاجرين رضي الله تعالى عنهم، وقبل أن تصبح المدينة دار الهجرة التي أوى إليها النبي عليه الصلاة والسلام، فكثير من الأنصار كان قد أسلم، ودخل الإيمان في قلوبهم واستقر رضي الله تعالى عنهم، على يد مصعب بن عمير رضي الله عنه، فهو من فتح الله به المدينة المنورة، بدعوته إلى الله، وسلوكه الطيب، حتى ما بقي بيت من بيوت المدينة إلا ودخله الإيمان.

حب الأنصار للمهاجرين

حب الأنصار للمهاجرين قال الله عز وجل: ((يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ)): هذه صفة الأنصار، أي: حب من هاجر إليهم في الله، وكلهم كان يحب بعضهم بعضاً. والحب في الله، والبغض فيه أوثق عرى الإيمان، وهي الصفة الأساسية التي قام عليها المجتمع المسلم الأول، وبها يجد الإنسان حلاوة الإيمان، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار). ووصف الله أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة فقال: ((مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا)). وكما قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54]. فصفة الحب في الله لا بد أن توجد بيننا، وأن يكون لنا منها أوفر نصيب، فإذا وجدت بيننا زالت وحشة الغربة التي يشعر بها كل ملتزم، يشعر بها عندما يكون وسط من لا يلتزم بطاعة الله سبحانه وتعالى، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم. صفة الحب في الله تخفف أعباء وثقل وآلام المتاعب التي يتعرض لها المسلم حين يكون بعيداً وحيداً مطارداً، فإذا وجد من يحبه في الله هان عليه الأمر، وسهل عليه أن يثبت على الدين، ولذلك لا بد أن تتقوى العلاقات فيما بيننا، وأن نصدق في تحصيل صفة الحب في الله عز وجل، وذلك بأن نستحضر الأعمال الصالحة التي من أجلها نحب أهل الإيمان، وأن نتحاب في الله سبحانه وتعالى؛ حتى نذوق حلاوة الإيمان، التي تخفف عنا مرارة وآلام المخاض الذي يكون قبل شروق الشمس وظهور الدين، فهناك متاعب وآلام تزول أو تخف جداً بحيث لا يشعر الإنسان بها حين يجد من يحبه في الله.

حقيقة الحب في الله والبغض في الله

حقيقة الحب في الله والبغض في الله الحب في الله والبغض فيه يكون بأن يبغض الإنسان أعداء الله عز وجل، لا يبغضهم إلا لأجل الله سبحانه، لأعمالهم القبيحة وصفاتهم المنكرة، لشركهم وكفرهم ونفاقهم، هذا الذي يجد الإنسان به الإيمان، فيتثبت في قلبه. إذا وجدت هذه الصفة في المجتمع المسلم فيما بيننا؛ فإن ذلك من النعيم الذي يجده الإنسان كجزء مشابه من نعيم أهل الجنة، فإن رفقة الصالحين وحبهم في الله من نعيم أهل الجنة الذي ينعم به الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون، قال عز وجل: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69]، ولو لم يكن لهذه الصفة المنزلة العظيمة لما قال النبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته: (اللهم مع الرفيق الأعلى)، انظر ماذا يريد النبي صلى الله عليه وسلم؟ يريد الرفيق الأعلى. خليل الله إبراهيم يقول: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [الشعراء:83]، ولا شك أن الصالحين دون رسول الله صلى الله عليه وسلم ودون إبراهيم في المنزلة، ومع ذلك فالرسول صلى الله عليه وسلم يطلب هذه الرفقة، وإبراهيم يطلب هذا اللحاق، فكيف بالمفضول واحتياجه وسعادته برفقة الفاضل؟! إذا كان الفاضل أمر بأن يصبر نفسه مع من يدعو الله بالغداة والعشي، يقول الله لنبيه عليه الصلاة والسلام: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28]. وإذا كان الفاضل مأموراً بأن يرافق المفضول، فأي نصيب للمفضول إذاً من صحبة الفاضل ومرافقته، ومن الشعور بالسعادة لوجود المحبة في الله سبحانه وتعالى فيما بينه وبينهم؟! واستشعر النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحب عبر الزمان، وهو والله من أعظم ما تتحرك له قلوب المؤمنين، يقول عليه الصلاة والسلام: (وددت أن لو قد رأينا إخواننا، فقالوا: أو لسنا إخوانك يا رسول الله؟! قال: أنتم أصحابي وإخواننا الذين لم يأتوا بعد)، فالنبي صلى الله عليه وسلم ود أن يرى كل مسلم من أمته عليه الصلاة والسلام، اللهم اجعلنا من إخوان النبي صلى الله عليه وسلم. إذاً: كان يستشعر الحب في الله وليس فقط لأصحابه الذين كانوا معه، بل عبر الزمان، ومع تفاوت الأزمنة يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم حباً لهم أن يراهم، فما ينبغي أن نكون نحن عليه من مودة: هو أن نرى النبي صلى الله عليه وسلم، وأن نكون معه. وهذا الحب في الله: هو الأساس الذي بني عليه المجتمع المسلم.

فضل الإيثار واجتناب الشح

فضل الإيثار واجتناب الشح قال الله تعالى: ((وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا))، أي: لا يجدون في صدورهم حسداً مما أوتي المهاجرون، أولاً: من الأموال، وثانياً: من الفضل والتقريب في الذكر؛ فإنه سبحانه ذكر المهاجرين أولاً، فلما جاءت أموال بني النضير أعطاها النبي صلى الله عليه وسلم للمهاجرين، يعوضهم بها عما أصابهم في أموالهم، وعما ضحوا به في سبيل الله عز وجل، فما حسدهم الأنصار، وما وجدوا في قلوبهم غلاً لهم لأنهم أوثروا بهذا المال أولاً. والنبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار: (إنكم سترون بعدي أثرة وأموراً تنكرونها فاصبروا حتى تروني على الحوض) فهم لم يحسدوا المهاجرين على الفضل الذي فضلهم الله به، كذكر الله ذكر المهاجرين دائماً أولاً فقال هنا: ((لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ)) ثم قال: ((وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ))، قال: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} [التوبة:100]، وقال: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} [التوبة:117]. والمهاجرون أفضل من الأنصار في الجملة رضي الله تعالى عنهم أجمعين، ومع ذلك سلمت صدورهم، فلم يكن فيها حسد ولا حقد. رجل من الأنصار رضي الله تعالى عنه يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيه: (يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة)، فطلع رجل من الأنصار تقطر لحيته ماء، قد علق نعليه في يده، ودخل فسلم، وفي اليوم التالي قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة) فطلع نفس الرجل على نفس الصفة، وفي اليوم الثالث قال النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً ذلك، فقال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه وهو أحد العباد من الصحابة، الذي كان يختم القرآن كل ليلة، إلى أن قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (اختم القرآن في كل سبع)، وظل كل سبع ليالي يختم القرآن في قيام الليل، ويصوم يوماً ويفطر يوماً. ذهب عبد الله إلى هذا الرجل وقال: إنه قد كان بيني وبين أبي شيئاً، فأقسمت أن لا أدخل عليه ثلاثاً، فإن رأيت أن أبيت عندك فافعل. فقال: نعم، وعرض في الكلام، وهو يعني: أنه ما من أحد إلا ويكون بينه وبين أبيه شيء، وهو أقسم الآن أن لا يدخل؛ لأجل أن يؤويه الأنصاري، فآواه الأنصاري، فلم يرَ منه كثير صوم ولا صلاة، غير أنه كان إذا تعار من الليل وتقلب على فراشه ذكر الله عز وجل حتى يقوم، فلما مضت الثلاث قال عبد الله بن عمرو: كدت أن أحتقر عمله، قلت: يا عبد الله إنه لم يكن بيني وبين أبي شيء، ولكن قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة) فطلعت أنت في الثلاث المرات، فأردت أن أرى عملك فأقتدي بك، فقال: يا ابن أخي! ما هو إلا ما رأيت، ثم لما انصرف عبد الله رده فقال: ما هو إلا ما رأيت غير أني أبيت وليس في صدري حقد ولا غش ولا حسد لمسلم، فقال: هي التي بلغت بك، وهي التي لا تطاق. وذلك أن أكثر الناس لا يطيقون أن لا يكون في قلوبهم حسد ولا غش للمسلمين، فهؤلاء الأنصار رضي الله عنهم ليس في صدورهم حاجة مما أوتي المهاجرون كالحسد عليهم، فليس عندهم ذلك مما أوتي المهاجرون في الدنيا أو في الآخرة. قال الله: ((وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ))، الصحابي الجليل وامرأته رضي الله عنهما آثرا على أنفسهما، قوله: ((وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ))، أي: ولو كان بهم حاجة، وهذه أعلى قدراً من التي قال الله عز وجل: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان:8] فقد يكون الإنسان محباً للطعام، ولكنه ليس مضطراً إليه، فإذا أطعم منه كان مؤمناً، يعني: لو أن رجلاً عنده أكل يحبه في البيت، وهو شبعان، فإذا أنفق منه كان مؤمناً، وهذان باتا طاويين رضي الله تعالى عنهما، وبات صبيانهما جياعاً؛ لكي يطعموا الفقير المسكين ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم، بعد أن أطلعه الله على فعلهما: (لقد عجب ربكما من صنيعكما بضيفكما الليلة) يعني: أتاه الوحي بما صنعا، مع أنهما كانا في بيت مظلم، ولم يتركا السراج موقداً؛ حتى لا يرى الضيف قلة الطعام، ويراهما لا يأكلان فقد يترك الطعام وهو يتوق إليه، فأطفأا السراج؛ لكي يأكل براحته رضي الله تعالى عنهم. وفي بعض الروايات أنها أم سليم وزوجها أبو طلحة رضي الله تعالى عنهما، وهي جديرة بأن تكون كذلك، فلها منزلتها العظيمة. قال تعالى: ((وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)): وقد وقاهم الله شح أنفسهم. والشح: هو التطلع إلى ما في أيدي الناس، ومن وقي شح نفسه فلم يسرق، ولم يزنِ، وليس فقط في المال، فالبخل مذموم، والشح أشد، فالشح أن تتطلع إلى ما في أيدي الناس، والبخل: أن تمنع ما في يدك وما يلزمك، ومنه ما هو محرم: وهو منع الواجب، ومنه ما هو مكروه: وهو منع المستحب. فالشح ليس فقط أن تأخذ ما بيدك وتمنعه ولكن تريد أن تمنع ما في أيدي الناس، ولهذا كان الزنا من عدم وقاية الشح؛ لأن عنده شيء حلال، فلماذا تطلع إلى الحرام؟ أو ليس عنده زوجة أو أمة؟ لكن حرم الله عليه ذلك الفرج، فإذا به يتطلع إلى ما يحل لغيره ولا يحل له، فهذا لم يوق شح نفسه. والذي ينظر إلى العورة المكشوفة ويتلذذ بها لم يوق شح نفسه، ألا يكفيه أن ينظر إلى ما أحل الله؟ وكونه ينظر إلى ما حرم الله فهذا لم يوق شح نفسه؛ لأنه تطلع إلى ما في أيدي الناس، وإلى ما حرمه الله عليه، وجعله لغيره، نسأل الله العافية، وكان عبد الرحمن رضي الله عنه يطوف البيت، لا يزيد على أن يقول في دعائه: اللهم قني شح نفسي. وسأله بعض التابعين عن ذلك فقال: إني إذا وقيت شح نفسي لم أسرق ولم أزن. فالسارق لم يوق شح نفسه، والغاصب لم يوق شح نفسه، والذي يخاصم بالباطل لم يوق شح نفسه، ((وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)).

الترضي والدعاء للصحابة الأبرار وحكم من طعن فيهم

الترضي والدعاء للصحابة الأبرار وحكم من طعن فيهم ذكر الله المؤمنين من أهل السنة والجماعة من بعد هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم فقال: ((وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ))، فكل مسلم من أهل السنة سليم القلب واللسان لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم داخل في هذه الآية: ((وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ)) فهذه سلامة الألسنة، أي: يدعون لهم، ويستغفرون، كما قالت عائشة في الرد على الرافضة الشيعة الجناة المجرمين: أمروا أن يستغفروا لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبوهم. فإن قيل: لماذا نرى هؤلاء الرافضة الشيعة من أخبث طوائف البدع؟ ف A لأنه لا يتصور منهم خير طالما بقوا على سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكراهيتهم لهم، وهم دائماً أعوان أعداء الإسلام، فإذا ظلوا على هذه الصفة فلا يظنن أحد أن منهم من سوف يجاهد، أو ينصر الله به الدين، كما يظن ذلك المغرورون الذين لا يعرفون ميزان العقيدة لوزن الناس. فلا بد أن نكون سليمي الألسنة لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ندعوا لهم، ونقول: ((رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ)) ونشهد لهم بالسبق، أي: أنهم سبقونا بالإيمان، ((وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا)) هذه سلامة القلوب، فسلامة الألسنة والقلوب، شرط أساسي لكي يكون الإنسان من التابعين لهؤلاء السابقين بإحسان، وهذا الذي يجعله الله سبحانه وتعالى به أهلاً لنيل رحمته ورأفته، قال الله: ((رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)). استدل الإمام مالك رحمه الله بهذه الآية على أن الرافضي: الذي يسب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نصيب له في الفيء، وهو استدلال حسن جميل؛ لأنه طالما لم يكن مستغفراً لهم، غير سليم القلب لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فليس له نصيب، لأنه ليس من أهل هذه الآية. نسأل الله أن يلحقنا بهؤلاء راضياً عنا، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من المتبعين لهم بإحسان، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا.

علامات على طريق النصر

علامات على طريق النصر طريق النصر أوله ابتلاء وشدة، وكلما اشتد الكرب وزاد الخطب قرب الفرج، واقترب موعد النصر. ومن أعظم أسباب النصر أن ننصر الله بالعمل بشرعه، ودعوة الناس إلى سبيله، فليدع كل مسلم بين أبناء جنسه وطبقته، وخطوة خطوة ولبنة لبنة حتى يرتفع البناء، وتدنو ساعة النصر والتمكين.

قرب النصر عند اشتداد البلاء

قرب النصر عند اشتداد البلاء إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وسلم. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. جعل الله سبحانه وتعالى أشد لحظات البلاء آخرها، وأشد ظلمة الليل قبل الفجر، وكمال البشرى لأهل الإيمان عند ازدياد المحنة. كان يعقوب صلى الله عليه وسلم في بلاء، فقد ابنه الحبيب يوسف الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم، وهو أفضل وأحب أبنائه إليه، وازداد الأمر بلاءً بأن فقد ابنه الآخر الذي يليه في المحبة، ثم فقد كبيرهم كذلك لما ابتعد عنه، ففقد ثلاثة من أولاده، فلما بلغه حبس بنيامين وعدم رجوع الثالث، قال: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف:83]، فلما زاد البلاء عليه استبشر؛ لأن الله سبحانه وتعالى سوف يفرج ذلك الكرب. واشتد البلاء على بني إسرائيل بعد أن قامت الحجة على فرعون، حيث هُزم سحرته، ثم آمنوا واهتدوا، وقتلهم فرعون، ولم يتغير شيء من موازين القوة المادية، فزاد فرعون في بطشه وتهديده وإرهابه، والملأ السادة والكبراء من قومه يحثونه على مزيد من البطش في بني إسرائيل، كما قال الله: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ * قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:127 - 129]، وعسى من الله عز وجل واجبة، وإذا جاءت على ألسنة رسله فهي من عنده سبحانه وتعالى. فلكما ازداد البلاء، واشتد الكرب، قرب الفرج -بإذن الله تبارك وتعالى- ولذلك قال يعقوب عليه الصلاة والسلام لبنيه: {يَا بَنِيَ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87]. وفي هذه السورة أيضاً تجد قوله سبحانه وتعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ} [يوسف:110] أي: من إيمان قومهم، {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} [يوسف:87] وعلى القراءة الأخرى: ((حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كُذِّبوا)) أي: أيقن الرسل أن أقوامهم قد كذبتهم تكذيباً لا إيمان بعده. فقال عز وجل: {جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:110]، وهذه سنة الله. وسورة يوسف نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم -قبل الهجرة، وبعد زيادة الأذى- تبشر بقرب الفرج، رغم أن الأذى قد وصل إلى شخصه عليه الصلاة والسلام بعد موت أبي طالب، خديجة، حتى خططوا لقتله أو سجنه أو إيثاقه، وكل ذلك كان مقدمة قبل الفرج، وقبل النصر والتمكين بإذن الله تبارك وتعالى. والآن البلاء بأمة الإسلام قد ازداد، واجتمع عليها الأعداء، وتكالبت عليها الأمم؛ وذلك لكي تكتمل في قلوب المؤمنين عبادة التوكل على الله سبحانه وتعالى، وينقطع التعلق بالأسباب الحسية، والواجب هو الأخذ بالأسباب الغيبية التي لا يراها الناس أسباباً، ولكنها عند أهل الإيمان أسباب، والأخذ بهذه الأسباب هو الأمر الواجب، ومن هذه الأسباب ما أمر به موسى قومه بقوله: ((اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ))، ففيها أعظم ملك الله سبحانه وتعالى، وأن أمره هو النافذ، وأن الغيب كله له، عندها تتغير الموازين المادية في لحظة، بـ (كن فيكون)، بقدرته سبحانه وتعالى. ويأتي النصر عندما يظن الأعداء أن الأمر قد انتهى، وعندما يقول كثير من أهل الإيمان: متى نصر الله؟ استبطاءً للنصر، واستعجالاً للفرج من عند الله سبحانه وتعالى.

وجوب تحسس أسباب الخير والبحث عنها

وجوب تحسس أسباب الخير والبحث عنها لا بد أن نتحسس أسباب الخير، كما قال يعقوب لبنيه: ((يَا بَنِيَ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ))، فلا بد أن نتحسس أسباب الخير، وأن نستعين بالله ونصبر، ونوقن بوعد الله سبحانه وتعالى، كما أمر عز وجل نبيه عليه الصلاة والسلام في السورة التي بين له فضلها، وشيبته هي وأخواتها، فقال الله عز وجل فيها -أي: في سورة هود عليه السلام-: {وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ * وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ * وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود:121 - 123]. فقوله سبحانه: ((وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ)) أي: اعملوا كل ما في إمكانكم، وكيدوا بكل قدرتكم، وها هي الأمم الآن قد اجتمعت على كيد أهل الإسلام. كانت الرسل تقول لأقوامهم: اجتمعوا على كيدنا كما قال هود: {كِيْدُونِي جَمِيْعَاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ} [هود:55] أي: لا تؤخروا كيدكم، بل أنفذوه الآن! ما هذا الأمر العجيب! أيأمرونهم بهذا الأمر؟! أيريدون أن يكيدوا بهم؟! لا، إنما يأمرونهم بذلك استهانة بهم، واستهزاء بكيدهم، واستخفافاً به، لا يعبأون به، ولأجل أنهم موقنون بفشل هذا الكيد يقولون: أنفذوه الآن! أي: ولن تستطيعوا، اعملوا ما في إمكانكم، اعملوا كل ما يمكنكم أن تفعلوه من الكيد، ولذلك قال: ((وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ)) استهانة بهم، وتقيناً بوعد الله. من أين يصل الإنسان إلى هذه الدرجة؟ يصل إلى هذه الدرجة من الاستهانة بقوة العدو الكبيرة جداً في موازين أهل الدنيا بكمال اليقين، والتوكل على الله سبحانه وتعالى. ثم قال سبحانه: ((إِنَّا عَامِلُونَ)) أي: على طريقتنا، وأيضاً على تمكننا، وهذا هو الواجب، أي: أن نتحسس أسباب الخير، ونأخذ بما نقدر عليه من الأسباب؛ لأن الأسباب الظاهرة المادية فيما يبدو لملايين المسلمين منعدمة، وليس بأيديهم أن يصنعوا شيئاً. ليس العلاج عباد الله! تلك التصرفات اليائسة، ونسميها يأساً؛ لأنها بالفعل ليست على الطريق، كمثل إنسان أصابه بلاء شديد وكرب وغيظ من عدوه، ومن شدة الغيظ وهو لا يستطيع أن ينال منه شيئاً، قام إلى الحائط الذي أمامه وضرب رأسه فيه، فنزف الدم، فشعر بنوع من الراحة، وأنه قد فعل شيئاً حتى لا يكون سلبياً! كما قد يحلو للبعض أن يفعل، لا يستطيع أن ينزل علم اليهود من فوق بلاد المسلمين، ولا يستطيع أن ينال منهم شيئاً، فيأتي بقماش يرسم عليها علمهم، ثم يدكها برجله، ويحرقها بناره، وهو الذي صنعها! تصرفات عجيبة، مثل المخدرات فعلاً، أي: كأن يخدر الإنسان ويشعر بأنه قد أدى ما عليه؛ لأنه يوهمه أنه صنع شيئاً، مثلما تصور الهزائم الثقيلة جداً على أنها نصر هائل، فيخرج بعد أن استجاب للعدو بكل ما يطلب منه رافعاً علمه، فهذا ليس انتصاراً عربياً. فهذه الهزيمة العجيبة ليست نصراً، والنصر في نظرنا الآن هو: أن يبقى فلان حياً، وأن يفرض حصار حول كنيسة، حينها نكون قد انتصرنا انتصاراً تاماً، وحققنا كل ما نريد. كما أن النصر ليس كمن يكتب وثيقة بالدم: بالروح بالدم نفديك يا فلسطين! كما يفعل ذلك بعض الشباب. كلها تصرفات يائسة بالفعل!

خطر مرض اليأس والاستكانة

خطر مرض اليأس والاستكانة هناك جملة تصورات يائسة مثل: اسكتي أيتها الشعوب! فقد حان وقت المهدي، وسوف يظهر خلال سنوات معدودة، ومن قبل كانوا يقولون: قبل أربع سنين، فلم تنفع، وبقيت كذبة، والناس كلهم نسوا مثل هذا الكلام، ثم قالوا بأن المسيح الدجال سيظهر في ربيع سنة (1998م) ثم قالوا: معركة هرمجدون ستحصل خلال عقدين أو ثلاثة، لكي تستكين الشعوب، وتشعر بأن النصر سيأتيهم من فوق، من دون عمل أي شيء. إذاً: فليس هناك عمل يطلب من الأمة، لا، بل لا بد أن نعمل كما أمر ربنا بقوله: {وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ} [هود:121] يعني: سنستمر على طريقتنا وعلى تمكننا، ولو خالفنا الطريقة، وابتدعنا في دين الله عز وجل، أو عملنا المعاصي، أو وقعنا فيما هو أفظع من ذلك من الشرك، أو الاستكانة لما يريده العدو. والاستكانة معناها: الخضوع لما يريده العدو ويطلبه من العقائد الفاسدة، وترك العبادة الواجبة، والاتصاف بالأخلاق الذمية المفسدة، وترك العمل من أجل دين الله عز وجل، وإذا وصل الناس إلى هذا الحد من اعتقاد الفساد، والباطل -والعياذ بالله- مثل موالاة الكفار أو صداقتهم، فلن أكون متعجباً إذا وجدت بعد شهور قليلة من يذمون أعداء الله من اليهود والنصارى أعظم الذم ويضعون أيديهم في أيديهم، ويقبلونهم معلنين الصداقة والوئام والمحبة والسلام، وقد فعلوا. إن الذين قتلوا من المسلمين في سنة (1967م) هل يبلغون خمسة آلاف، أو عشرة آلاف؟ قتل مائة ألف جندي مصري في تلك السنة، وقتل أضعاف كثيرة منهم بعد ذلك، ونسي الناس ذلك، وقالوا: السلام لا بد منه، وانتهت الحروب، وليس هذا ببعيد من نفس الأشخاص الذين يتكلمون بهذه الكلمات. ولذلك نقول: الاستكانة هي أن نقبل بالعقائد الفاسدة، وأن نقول للناس: العداوة زالت، حتى وجد من المنتسبين إلى الإسلام وإلى القضية يقولون: إن الخلاف بيننا وبينهم ليس خلافاً دينياً، وليس صراعاً دينياً! هذه هي الاستكانة الحقيقة، وأنت لو قتلت نفسك لأجل مثل هذه العقائد، فلن تكون على طريقة أهل الإسلام التي هدفها إعلاء كلمة الله في الأرض، وإظهار هذا الدين في كل بقعة من بقاع الأرض، ومن أهمها -بلا شك- البقاع المشرفة المقدسة التي ظهر عليها الإسلام، وعظمها وبارك الله عز وجل فيها وحولها. المقصود: أن من أخطر الأمراض التي تصيب الأمم المهزومة والمغلوبة: مرض اليأس الذي يدفع إلى تصرفات جاهلة، كما يقول البعض: لابد أن أعمل أي شيء، حتى لو كان هذا الشيء في غير الطريق، وهو يظن أنه حينها يعمل شيئاً، أو ينتظر الوهم، ويحدد لنفسه تواريخ، ويقول: سيأتي النصر من السماء من غير أسباب! لا، لا بد أن نعمل، ونتحسس أسباب الخير، فلا بد من عمل لكن على الطريق الصحيح؛ لقوله سبحانه وتعالى: {وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ} [هود:121] أي: إنا عاملون على طريقتنا أو على تمكننا، وكلا التفسيرين متلازمين. إذاً: فلا بد من الأمرين. وحقيقة التوكل الذي أدى إلى الاستهانة بقوة العدو، وعدم الاهتمام بها، واعتقاد أن هذه القوة تمكين من الله سبحانه وتعالى لهم، وامتحان لنا، كما قال سبحانه: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان:20] وقال سبحانه: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [يونس:88 - 89]، إذاً: فماذا نصنع؟ ندعوا الله، فموسى عليه السلام لم يستكثر أن فرعون معه ما معه، فقال الله على لسانه: ((رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ)) لأن هناك قلوباً خفيفة، يراد أن يركم بعضها فوق بعض، ولم يقع ذلك إلا بوجود المضلين، كما قال عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ)) [الأنعام:112 - 113] أي: لتميل إلى زخرف هذا القول الباطل، {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام:113]. استحضر أن الله هو الذي يدبر الأمر وليس تخطيط الأعداء، استحضر أن الله هو العزيز الذي لا يضاد، وأنه هو الذي يملي لهم لمتانة كيده، كما قال سبحانه: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:183]، وقال: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} [القلم:44]، فالله يمهلهم ولا يهملهم عز وجل، كما في الحديث: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته) هكذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102]، ويجب أن نستحضر أن هناك حكمة من الله عز وجل في أن تميل إلى الباطل قلوب غير المؤمنين من الكفرة والمنافقين الذين لا يريدون الآخرة؛ لترضى بهذا الباطل، ليقترفوا ويفعلوا الأفعال الإجرامية، وإذا حان الوقت، فهذا فعل الله عز وجل وله ما أراد من أفعال سبحانه.

بلاء الاستكانة أمام مبادئ الأعداء

بلاء الاستكانة أمام مبادئ الأعداء قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36] لماذا قدر الله ذلك؟ الجواب في قوله تعالى: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأنفال:37] ولنفقه هذه المعاني جيداً، ونسلك طريق التوكل والاتباع فعلينا بما في قوله تعالى: ((فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ))، إن طريق تحقيق مزيد من العبودية ليس طريق المخدرات الفكرية، أو العقلية، أو الميئسة، أو تصرفات جاهلة لا تصنع شيئاً، ونتصور أنها حققت أكبر النصر، وإنما هي استكانة للعدو، وفي الوقت نفسه نظن أنها تجعله يعاني أعظم العذاب. إن كثيراً من المسلمين يقبل ما يريده اليهود والنصارى وغيرهم ممن يواليهم على دينهم، فإن كان يتصور أنه يحاربهم أشد الحروب، فهذا وهم كبير، وهذا في الحقيقة بطولة زائفة، تصنع من ورق مقوى صنع في بلاد الأعداء، مثل: بطولة كمال أتاتورك، يوم فتح أزمير؛ حتى خاطبه أحمد شوقي بقوله: يا خالد الترك! جدد خالد العرب شبهه بـ خالد بن الوليد، لما فتح أزمير بعد أزمة تركيا في الحرب العالمية الأولى، واحتلال الحلفاء لإسلام بولي عاصمة الخلافة، ولكن جاء المخلص المنقذ، والبطل الزائف المصنوع في بلاد الأعداء، وانسحبوا من أمامه في أزمير واستمر في فتوحاته، إلى أن فتح أنقره، وإسلام بولي مرة ثانية، سلموها له؛ ليفعل ما لا يقدرون عليه من أذية المسلمين وحرب الإسلام، ويفعل ما هو أشد فتكاً بالمسلمين، ليعلن إنهاء الخلافة، ويعلنها علمانية صرفة، ليعلن تحريم الشريعة، لا مجرد إباحة مخالفة الشريعة، لا، بل يعلن تحريم الشريعة، وتجريم من يطالب بتطبيقها، وسن قوانين عجيبة بعد أن انتصر، والأمة أرغمت على قبول ذلك، فسن قانون: أن من يطالب بتطبيق الشريعة الإسلامية يعاقب بالسجن ثمان سنوات، ومن يطالب بذلك ويعمل عملاً جماعياً من خلال منظمة يعاقب بالسجن مدى الحياة، وحارب بكل ما أمكنه من قوة لتغريب تركيا بالكلية حتى أنه غير الحروف العربية إلى حروف لاتينية، وحرم الطربوش والعمامة، وألزم الناس بالقبعة، أما معركة القبعة هذه فقد قتل فيها من قتل، وحرم الحجاب تماماً، فلا يمكن أن تدخل امرأة محجبة إلى أي مكان رسمي، أمور عجيبة!! حرم حتى تحفيظ الناس أولادهم القرآن، زيادة على ما يقرره هو وزبانيته، ومن يخالف ذلك يعاقب بالسجن ثلاث سنوات. فلا تسأل عما يمكن أن يكون وقع في تلك البلاد من تدمير لتلك الأجيال التي توجد الآن هناك، نشأت منذ أكثر من ثمانين سنة في ذلك الوسط، وتربت على ذلك وترعرعت عليه، فبالفعل فعلوا ما لم يفعله الأعداء، نسأل الله العافية. المقصود: أننا لا نريد أن نترك العمل الواجب إلى تصرفات جاهلة من الأوهام ونحوها، ونقبل بهذه البطولة الزائفة غير الحقيقية، ولذلك نقول: من الاستكانة أن تقبل مبادئ الأعداء، وهم يريدون أن يفقدوا المسلمين ولاءهم لهذا الدين، وبراءتهم من الشرك. وأعداء الدين يقولون عن الموحدين أنهم يقولون: إنهم هم المؤمنون فقط، والذين لهم الجنة، وكل من خالفهم فهو كافر، ولا بد أن يعادى، فلا بد إذاً أن تحذفوا هذه الآيات من القرآن، إنهم يصرحون بذلك، ويوافقهم عليه المستفيدون منهم دنيوياً، وإن كانوا يزعمون أنهم قاوموهم كل المقاومة. فهم ينادون: لا بد أن نعيد النظر في الخطاب الديني هكذا يقولون، ولن يقولوا: لا لمثل هذه الدعوات، بل يزيدون: احذفوا آيات من القرآن، وهذا قد لا يستطيعون الجهر به، فهو عليهم صعب، لكن يقولون: افهموا الآية فهماً صحيحاً، وكأن الأعداء فهموها على ما هي عليه، فهم يقولون: ليس المقصود منها أن تعادوا الكفار أو تتبرءوا منهم، بل المؤمن هو كل من آمن بوجود الله، فاليهود والنصارى مؤمنون، وكذلك كل من آمن بوجود الله، بالإضافة للمؤمنين طبعاً، بل هؤلاء المتطرفون كفرة، الإرهابيون ليسوا مسلمين، فلا بد أن يكفر بهم، وأما الآخرون فهم المؤمنون، هكذا يزعمون، وإلا فأخبروني عمن ينادي سكان المعمورة على اختلاف أديانهم بصيام يوم عالمي من أجل نصرة فلسطين، أليست هذه استكانة رغم أنها في صورة مقاومة؟! فمن تخاطب يا عبد الله؟! وكيف تقول للكفرة: صوموا على اختلاف أديانكم؟ هل تريد من الهندوسي أن يصوم؟ اطلب منه أولاً أن يزيل الكفر الأول، لكن تراهم يقولون: يصوم النصارى والمسلمون معهم، وكل واحد يصوم بطريقته، وينادي بعدها ويقول: هؤلاء هم المؤمنون الأحرار، ما هذا البلاء؟ إنه بلاء فعلاً، واستكانة ومرض، ويأس في الحقيقة رغم أنه يزعم أنه لم ييئس لكن الحقيقة أنها تصرفات يائسة لا تقبل بحال من الأحوال، فهذا هو الذي يريده العدو، إنه يريد أن تفقد هويتك. الذين يقولون: نحن لابد أن نغير الخطاب الديني؛ من أجل أن ننزع من الناس الولاء والبراء، الذي فيه فرق بين الإسلام والكفر، وسنفسر لهم الآيات على غير ما فهمه الأعداء قبل الأصدقاء، فهم الأعداء بحق، وقالوا للناس: يجب أن تراجعوا المناهج، وبعض الآيات في المصحف يردونها، لكن نحن لا نقبل هذا ونقول: إن هناك آية تقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} [المائدة:51]. أخبرني بعض الإخوة أن بعض مشايخ السوء قال له الكفار: أنتم تكفروننا، بدليل آية عندكم في القرآن تقول: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:17]، ونحن نقول هكذا، قال له: لا، هذه لم تنزل فيكم أنتم، بل نزلت في النصارى أيام النبي صلى الله عليه وسلم -والعياذ بالله- استكانة فعلاً، هذا تكذيب لكلام الله عز وجل، أي: تكذيب للقرآن.

وجوب العمل للدين على الطريق الصحيح

وجوب العمل للدين على الطريق الصحيح هذا البلاء العظيم الذي ينزل إنما هو مزيد من المصائب على أمة الإسلام، لذلك نقول: لا بد من ترك الآية بينة: {وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ} [هود:121]. إذاً: عندما نعمل كل ما في إمكاننا، فنريد أن تكون الطاقة الموجودة لدى شباب المسلمين ورجالهم ونسائهم طاقة متجهة للتغيير الحقيقي لواقعنا؛ حتى يغير الله عز وجل علينا، {إِنَّ الله لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]. فلن يكون هناك انفجار غير محسوب، وأضرب لذلك مثلاً: لو أن حلة فيها بخار، وفيها ماء، والغطاء مقفول عليها بإحكام، وأشعل عليها النار إلى أن رفع البخار الغطاء، فوقع على يد الرجل الذي أشعل عليها، فهذا انفجار غير محسوب، وغير مطلوب، لكن الآلة البخارية فيها منفذ لخروج البخار وتوجيهه باتجاه معين، من أجل أن يحرك العجلة، وتتقدم هذه القاطرة، وهذا هو المطلوب، فالطاقة هذه ماذا نعمل بها؟ نحن نعلم أنه يوجد كرب شديد بسبب ما يقع بالمسلمين في المشارق والمغارب، لكن نحن لم نفكر لماذا يحصل لهم هذا؟ حصل بهم هذا بسبب تقصير طويل المدى، وبسبب بعد طويل عن الإسلام، وكثرة الخبث، كما في الحديث: (أنهلك وفينا الصالحون يا رسول الله؟! قال: نعم، إذا كثر الخبث) طبيعة الدعوة إلى الله، وطبيعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مثلما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك الله عز وجل أن يعمهم بعقاب)، وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا تبايعتم بالعينة، ورضيتم بالزرع، واتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً، لا يرفعه عنكم حتى تراجعوا دينكم) ومعنى: تبايعتم بالعينة أي: بالربا، وإن سمي بغير اسمه، ففيه تحايل على الربا، أما اليوم فهو رباً لا يختلف فيه اثنان من أهل العلم، وإن سماه جهلاء السوء بغير اسمه لكي يضلوا الناس عن ذلك. إن أموال المسلمين في أيدي أعدائهم من البنوك الشرقية والغربية -والغربية كلها بنوك تابعة لليهود في النهاية- مصادر دخل المسلمين وادخارهم كلها في أيديهم، نسأل الله العافية. التبايع بالعينة هو نوع من التحايل على الربا، كمن يبيع حاجة بالتقسيط، ويشتريها البائع من المشتري مرة أخرى نقداً بساعتها، حتى لو وجد ثالث لكي يحرك البضاعة فهو مثلهما على الراجح من أقوال العلماء؛ لأن التبايع بالعينة غرضه المال، لكن لا يجد من يسلفه، فيأخذ السلعة التي يشتريها بالتقسيط بمائة وعشرين، ثم يبيعها لآخر بمائة، فهو أخذ بمائة وباع بمائة وعشرين، وهذا ربا في الحقيقة، ولكن الغرض المقصود أنه سماها بيعاً لكنه محرم، فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا تبايعتم بالعينة. قوله: (ورضيتم بالزرع) الزرع مع أنه من أشرف المهن كما قال عليه الصلاة والسلام: (ما من مؤمن يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له صدقة)، ومع ذلك فالتبايع بالعينة، والرضا بالزرع، أي: الرضا بالدنيا والاكتفاء بها، وبهذه المكاسب، والرضا بالتجارة والأموال التي نخشى كسادها، حتى تكون هي أكبر الهم ومبلغ العلم -نعوذ بالله من ذلك- عندما تصبح الدنيا هي كل ما نريد، فسيسلط الله علينا ذلاً لا ينزعه حتى نرجع لديننا.

عوامل الخروج من المحنة

عوامل الخروج من المحنة الطاقة التي عندنا نريد أن نوجهها توجيهاً سليماً، نريد أن نسير في طريق الدين والإسلام؛ وعند ذلك ننتصر؛ لأن ربنا سبحانه وتعالى بعدما ذكر قوله: {وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ} [هود:121] قال: {وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ} [هود:122]. إذاً: فالوقت لصالحنا ما دمنا نسير على الطريق، ولم نبتعد عنه؛ فلن نقصر فيما في إمكاننا. وهناك أمور إذا صنعت وقمنا بها خرجنا من المحنة: الأمر الأول: أن نوقن أن ما بأيدي أعدائنا لا يساوي شيئاً، ويمكن أن يزول في لحظة، وأن قوتهم ضعف، وعزهم ذل، وغناهم فقر، فنشهد بذلك، ونشهد أن الأمر لله، والغيب لله، وإليه يرجع الأمر كله سبحانه وتعالى. الأمر الثاني: أن نعمل على طريقتنا، ولا ننحرف يميناً ولا شمالاً، بل على نفس طريق الأنبياء والرسل، وطريق النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة الكرام، حتى نكون من الفرقة الناجية، وأصحاب العقيدة الصحيحة، والأخلاق السليمة، والمعاملة بالحلال وتجنب الحرام، الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، والقيام بالإيمان والإسلام والإحسان، فنعمل لذلك ونطبقه في أنفسنا. تخيلوا ذلك في مكاتبنا الخاصة، ثم تخيلوه بعد ذلك في مساجد المسلمين، ثم تخيلوه في كل بيت، لو أن الإخوة معنا ثم الناس في المساجد، ثم في كل بيت من البيوت يكون لهم في كل يوم درس في كتاب تفسير ميسر مثل: أيسر التفاسير، أو مختصر تفسير ابن كثير، وكل يوم تقرأ بضع آيات، وتتعلم معاني الكلمات، وما فيها من حياة القلوب، ومعاني الإيمان، ثم نطبق ذلك في حياتنا، وكذا كل يوم ربع ساعة آخر النهار في كتاب شرح مسلم، أو كتاب الترغيب والترهيب، فيقرءون الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي عليه الصلاة والسلام، ويطبقونها في حياتهم، تخيلوا لو أن كل الملتزمين صنعوا هذا فضلاً عن بقية الناس في المساجد، وفرضاً لو أن كل البيوت عملت هكذا، ما هو التغير المنتظر في حياة الناس؟ بالتأكيد أن التغيير سيكون جذرياً؛ لأن كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد كلام الله عز وجل ينير لنا الطريق في الظلمات، لكن كثيراً من الناس يمكن أن يمكث أربع ساعات في مشاهدة مسرحية، أو نشيد، أو أغان، أما أن يصبروا في سبيل الدين فلا. المصيبة أن الناس تريد أن تزيل الأزمة بمزيد من الأزمة، مثلاً عام (1967م) عملوا على إزالة آثار العدوان بأن قامت كوكب الشرق تغني في البلاد العربية، وتقوم بعمل حفلات من أجل أن تزيل آثار العدوان، وأغاني عبد الحليم حافظ الحماسية القوية، التي في هذا الوقت يقوم الفنانون بعمل أغاني مثلها!! إذاً: فلنستقبل مزيداً من البلاء، وبعض الإسلاميين يسمونها إسلامية! وهذا بلاء فعلاً والله، نسأل الله العفو العافية. القدس عندما احتلت كان نور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي رحمهما الله تعالى لديهما رغبة في نشر السنة، ومقاومة الفكر الرافضي الباطني، ونشروا كتب السنة في كل مكان، فالناس تعودوا أن يقرءوا البخاري، وغالباً لم يكن هناك فهم وإدراك جيد، مع أن الشروح موجودة، ثم نصرهم الله نصراً عزيزاً مؤزراً. كان نور الدين محمود رحمه الله تعالى يأتي المحدث قبل المعركة، فيقول له: حدثني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا المقام، فقبل أن يبدأ المعركة يريد أن يسمع الحديث في مثل هذا الموطن ويطبقه، فحدثه أن الرسول خرج متقلداً سيفه، فقال: ما أنا على السنة، فتقلد السيف وأمر كل جنده بأن يتقلدوا سيوفهم؛ لأنه سمع الحديث وطبقه بعد ذلك، ثم أصبح الأمر سنة ماضية. المقصود: أن الناس تتعلم المعاني من أجل أن تطبقها، وكان الغرض استخدام السنة في مقاومة البدعة؛ لأن مجرد سماع حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجعل الناس يتغيرون، لو أخذنا مثلاً كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب، ونظرنا في مسائله، ونحاول أن نستعين بمن يشرح لنا ما صعب علينا من كلامه، فما هو التغير في العقيدة الذي سيحصل للأمة؟ السلوك والأخلاق، والعبادات سوف تتغير في واقع حياة المسلمين تغيراً كبيراً جداً إلى الأحسن، وهذا الذي لا بد أن يقع، ولن يقع حتى يقام الجهاد، والجهاد لا يقام بالإعلانات، ولا هو مجرد فتح أبوابه، وإذا كانت البيئة مهزومة فتقول: افتحوا أبواب الجهاد، ولا يوجد ميدان أصلاً، البيت يريد أولاً البناء، وأن يوضع له أساس قوي، عندها تفتح أبواب الجهاد، وستفتح في مواعيدها بإذن الله تبارك وتعالى. ولذلك نقول: الجهاد ذروة سنام الإسلام، وهو فعلاً ذروة كذلك، لكن كيف يكون قائماً؟ سنام البعير الذي له قوائم؛ وبقية بدنه أيضاً سليم، هذا الذي لا بد منه، ولابد أن يتوفر هذا في الذي يريد أن يجاهد، ولا بد أن يسير على الطريق، وينتظر عند ذلك، ولكن عندما يكون هناك انتظار بغير ((إِنَّا عَامِلُونَ)) بغير توكل على الله، فيكون انتظار في صالح العدو، وهو انتظار يائس، وليس هذا هو المطلوب من الأمة في هذا المقام، قال عز وجل: {وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ * وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ * وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [هود:121 - 123] الأمر إذاً مهم جداً. إن سورتي هود ويوسف نزلتا على النبي عليه الصلاة والسلام في الأوقات الشديدة جداً، عندما بدأ التخطيط والكيد من أهل الكفر يفكر كيف يقضي على شخص الرسول صلى الله عليه وسلم؛ للقضاء على الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى. بعض الناس يقولون: النصر بعد سنة، أو سنتين، أو خمس، أو ست، أو عشر! لا يجوز أن نحدد، فلا ندري متى يكون ذلك، {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [هود:123] وإنما عليك أن تستمر في العمل، وتنتظر ما يغير الله عز وجل من أحوالنا، بالعمل بما نقدر عليه يفتح الله لنا أبواب ما لا نقدر عليه، والعمل بما نعلم يعلمنا الله عز وجل بسببه ما لا نعلم، وحينها تجد أن الأمور قد وضحت، إن قيل: ماذا نعمل؟ أو لماذا الدنيا مظلمة؟ لأننا لم نسر كما ينبغي، كما قال الله عز وجل: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282]، ولذلك عندما يكون الشخص في حيرة من أمره يصلي صلاة الاستخارة، ويقول: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم؛ فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب. ثم يدعو بالدعاء المأثور. فنعمل بما نعرفه، وربنا يفتح لنا أبواب ما لا نعرفه، إذا عملنا بتقوى الله جعل الله لنا نوراً، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال:29] فرقان نفرق به بين الحق والباطل، حتى تعمل وتعلم أولاً ما هو الصح؛ كشخص وكأمة وكطائفة مؤمنة، لأنه أحياناً قد يقوم الإنسان بعمل شيء وليس هذا هو الوقت المناسب له، فيترتب على ذلك تأخر طويل المدى؛ ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم منع المسلمين من أعمال في أول الأمر؛ ثم بعد ذلك فعلها صلى الله عليه وسلم، فقد استأذنه أهل العقبة -أصحاب بيعة العقبة- أن يميلوا على أهل الوادي من المشركين، فقال: (إني لم أؤمر بقتالهم). ويبين الإمام ابن القيم رحمه الله لماذا شرع الله عز وجل أولاً كف الأيدي في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [النساء:77] قال: شرع الله ذلك؛ لأن المسلمين لو قاتلوا الكفار حينئذ لاستؤصلوا، ولأبيدوا، وكما قال الإمام الجويني: إذا نزل ملك عظيم الشوكة انتصر لبلاد الإسلام لم يتسارع إليه الآحاد؛ لأنهم لو فعلوا ذلك لأهينوا ولاصطدموا، والاصطدام معناه الإهانة. فالمقصود: عندما يكون المرء لا يعلم ماذا يصنع يلجأ لربه، ولو كان لا يستطيع أن يعمل كل شيء فيعمل بقدر طاقته كما قال سبحانه: ((إِنَّا عَامِلُونَ)) إذاً: يعمل ما هو قادر عليه، فأنت تقدر أن تصلي فصل، وتقدر أن تتعلم فتعلم، وتقدر ان تدعو إلى الله فأدع إليه. إذاً: أتمنى من كل أحد منكم أن يخرج من هنا فيطبق ما قلناه، وكل يوم يتعلم آية، أو آيتين أو ثلاثة، ويفهم معناها، وأن يكون له في كل يوم وقتاً لتعلم حديث النبي عليه الصلاة والسلام مع التطبيق، ونشر هذا الكلام في المسلمين، فلو نشرنا هذا الكلام في المسلمين، وتعلموا السنة، فلن يقدر أن يخدعهم أحد أو يميل بهم يميناً أو شمالاً، ولما أن نتعلم التوحيد بطريقة مبسطة، بالآية بالحديث، مثل كتاب التوحيد لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، والعقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية، لو عرفنا الآيات الدالة على صفات الرب سبحانه وتعالى، وعلى سائر أمور الاعتقاد الواجبة، وتنشر هذه الأمور في المسلمين، وكذا الأخلاق الواجبة، ونتعلم كلام النبي عليه الصلاة والسلام في ما يلزمنا في الآداب والأخلاق وأعمال القلوب الواجبة، فسيحصل تغير بإذن الله تبارك وتعالى.

أثر الدعوة بين شرائح المجتمع المختلفة

أثر الدعوة بين شرائح المجتمع المختلفة يجب أن نسعى بالدعوة إلى الله كل منا في مجال وجوده، وفي مجال اختلاطه بالناس؛ ونحن نختلط بلا شك بعشرات المنكرات كل يوم. أروي لكم قصة عشتها أنا فعلاً وما كنت أتصورها: خرجت في يوم ما من خطبة الجمعة فوجدت بعض الأولاد بجوار المسجد على بعد مترين أو ثلاثة يلعبون بالنرد وأصوات الموسيقى مرتفعة إلى جانب ذلك كله، وكان الناس في الخطبة متضايقون جداً مما يحدث، وأنا حز في نفسي أن لا أقول لهم أي شيء، فذهبت إليهم ونصحتهم بأن يستغلوا أوقاتهم في أمور هي خير من النرد والأغاني، فوجدت أنهم يحفظون شبهات حول اللعب بالنرد، وينكرون حرمته، وبعد نقاش تركتهم وذهبت، ثم سمعت أحدهم يقول: ارفع هذا الشيء عنا، فحمدت الله تعالى على ذلك، حتى ولو لم يقتنعوا المهم أني أفسدت عليهم شيئاً من هذا الحرام الذي وقعوا فيه. إذاً: فالناس عندها استعداد لتقبل الخير؛ حتى ولو للحظة، ويمكن أنهم أقفلوه حياءً من الذي أمرهم، والحياء من الإيمان. وهناك من يتكلف أن لا يرد كلام أحد، خصوصاً إذا كان هناك فارق في العمر، فيقولون عنه: رجل من أصول القرن الماضي، فلو أن الشباب تقدموا لأمثالهم وكلموهم لأثروا فيهم، ودائماً الشباب يؤثرون على بعضهم، ونجد أن أولادنا يحبون أصحابهم أكثر من آبائهم وأمهاتهم، هذا أمر لا شك فيه؛ لأنه يرى أن أمه وأباه لا يفهمون الدنيا، وهم من زمن آخر، فمن الذي سيكلمه إلا صديقه. فأيها الشاب! لو وجدت فكرة منكرة تنافي الفطرة سيعملونها نحذرهم منها، وكذلك لو وجدت فكرة صالحة قد يعملونها فحفزهم لعملها والتحلي بها؛ لأنك قريب منهم، وعندك نفس احتياجاتهم وشهواتهم. إن الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى لو طبقت من جميع الملتزمين بكل مستويات اختلاطهم، ولم تقتصر على مجرد خطبة أو درس في المسجد، أو ندوة أو محاضرة، وإنما تكون كلمة الحق في كل مكان نصل إليه، ولا نخجل منها، ولا نستحيي، فأهل الباطل لا يستحون، وكما ذكرت الطبقات المختلفة مؤثرة على بعضها أكثر من تأثير البعيد عنها، الشباب يؤثرون في الشباب، والبنات يؤثرن في البنات، وكل أهل ملة عندهم فهم معين يؤثر بعضهم في بعض أكثر مما لو حدثهم آخر. فلو أن طبيباً نصح الأطباء، سيختلف الأمر عما لو نصحهم صاحب أي مهنة أخرى، فلو نصحهم نجار مثلاً لقالوا له: أنت لا تفهم أي شيء عنا، ولا تعلم ما نحن فيه، لكن لو كان الناصح من بينهم وقال لهم مثلاً: عليكم أن تتقوا الله، وتغضوا أبصاركم عن عورات المرضى، ولا تستهينوا بالعورات مثلاً، فذلك يختلف عما لو كان من غير مجالهم، فكل واحد في مجاله، الشاب في مدرسته وجامعته، والعامل والموظف في عمله، والجار مع جاره، والمرأة مع صديقتها وجارتها، لو حدث ذلك لتغير واقع الناس، ولكنا فعلاً سائرين على الطريق، بما نقدر عليه، ولن نقول للناس: افعلوا ما لا طاقة لكم به، ولا نقول: افعلوا أي شيء، ولو كان على غير الطريق، فلا بد أن نسير؛ ولكن على الطريق.

تاريخ وقوع النصر

تاريخ وقوع النصر متى يقع التغيير؟ قال الله تعالى: ((وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ))، فلا نجعل التاريخ محدداً، أو نجعل نهاية الدنيا كلها خلال خمسمائة سنة بعد ألف وثمانمائة، أو ألف وأربعمائة، أو هذا هو القرن الذي ستنتهي فيه الدنيا، هذه خزعبلات، دعوكم منها عباد الله! ولابد أن نعلم أن القريب ربما يكون بعد ألف سنة، والله عز وجل أنزل: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} [القمر:1] من ألف وأربعمائة سنة؛ لأن ألف وأربعمائة سنة وزيادة شيء يسير بالنسبة لله سبحانه، فلا تظنوا أن هناك تاريخاً محدداً لذلك. قال تعالى: ((وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ)) فليس للنبي صلى الله عليه وسلم أمر، كما قال عز وجل: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:128] ثم قال: ((وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ))، وهذا كقوله: ((اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا))، وكقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، فهذه قضية عظيمة ومهمة، ثم قال سبحانه: ((فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)) فمراقبة الله سبحانه وتعالى، وإخلاص النية له عز وجل، لو علم الله الرغبة في نصرة دينه، واتباع كتاب الله عز وجل من طائفة منا، ليس حتى من جميعنا، لتغير الواقع الذي نعيشه بإذن الله؛ فإن الله سبحانه وتعالى ناصر دينه، ومظهر كلمته سبحانه وتعالى، ومعليها في الأرض كلها ولو كره الكافرون. وهذا اعتقاد راسخ لا بد أن نوقن به؛ ولكن لابد أن نكون لبنات في البناء، وخطوات على الطريق، وأساس يوضع؛ ليرتفع عليه البناء على قواعد مدفونة تحت الأرض، لا على ظاهرها، لئلا يسقط مع أبسط هزة البناء. فلابد أن نكون نحن لبنات في البناء، وأساس له، وسيظهر قطعاً بإذن الله، وبلا شك أن المهدي من أبناء أحد أفراد هذه الأمة، ونحن لا نعرف متى مواعيده، لكن هو غير موجود هذا الوقت جزماً، لكن سيكون من أبناء أهل الإسلام من نسل النبي صلى الله عليه وسلم. وهكذا الذين يجاهدون الدجال، والذين يفتتحون قسطنطينية ورومية، سيكونون من أبناء المسلمين اليوم بإذن الله تبارك وتعالى، فمن الذي علمهم؟ من الذي رباهم؟ إلا نحن، فلننظر كيف تربيتنا لأبنائنا ولأمتنا. إن كنا نريد أن نكون على الطريق بإذن الله تبارك وتعالى؛ فلنكن نحن الذين ربيناهم، أو ربينا الذين يربونهم، ونجتهد في ذلك، ويمكن أن نكون نحن، والله أعلم، فالأحوال تتغير في لحظة، والموازين الدنيوية سرعان ما تتبدل في أسرع من لمح البصر، قال عز وجل: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر:50] يقول سبحانه للشيء: كن فيكون، ولا يحتاج الأمر إلى تسمية أو تكرار، فبإذن الله تبارك وتعالى تنقلب الموازين على أعداء الله عز وجل من حيث لا يشعرون، لكن لا ندري متى، فنعمل الواجب علينا، وما شاءه الله كان.

غزوة أحد

غزوة أحد يجد المتأمل في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الحكم والفوائد والعبر، والدروس المهمة الشيء الكثير، مما يحتاجه المسلم في حياته، سيما في مثل زماننا الذي اختلط فيه الحابل بالنابل، وبدأ أناس يستوردون حلولاً لقضاياهم ومشاكلهم من الغرب الكافر، ولو تأملوا سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لما أشكل عليهم مشكل، ولما احتاروا في أمرهم.

السيرة النبوية ضياء للمسلم يسير عليه في حياته

السيرة النبوية ضياء للمسلم يسير عليه في حياته إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وسلم. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فإن من أعظم ما يحتاج إليه المؤمن في سيره إلى الله سبحانه وتعالى، وتحتاج إليه الجماعة المؤمنة والطائفة المسلمة فيما تواجهه من صعوبات وعقبات وتحديات في سعيها لإعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى في الأرض، هو دراسة سير الأنبياء وسننهم، وخاصة سيرة محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاتم النبيين، واستيعاب وإدراك المواقف الإيمانية والعبر والعظات التي جعلها الله عز وجل في سيرته صلى الله عليه وسلم، وكيف واجه المواقف المختلفة التي نوّع الله عز وجل أقسامها بين شدة ورخاء، وبين عسر ويسر، وبين استضعاف وتمكين، وبين قوة وضعف في الظاهر، وستجد أنها تستوعب الأقسام المحتملة التي يواجهها أهل الإيمان في صراعهم مع أهل الباطل عبر العصور، وهم يحتاجون في كل موقف إلى تلمس النور من منبعه ومصدره الذي أفاضه الله عز وجل على قلب محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وكيف كانت مواقفه عليه الصلاة والسلام في كل حال.

حاجة المسلم للاستفادة من دروس غزوة أحد

حاجة المسلم للاستفادة من دروس غزوة أحد سنذكر مختصراً من الوقائع المختلفة من سيرته صلى الله عليه وسلم من كتاب الرحيق المختوم، ونتبع ذلك بتناول هذا الموقف من كتاب الله سبحانه وتعالى، فإن الغزوات الكبرى والمواقف العظيمة جعلها الله مبينة في كتابه أحسن بيان، وقد تناولتها سور القرآن المختلفة، وبين ربنا سبحانه وتعالى العبر والعظات والسنن التي يحتاج إليها أهل الإيمان دائماً في كل أمورهم، وقد ذكر الله عز وجل غزوة أحد، وهي من أعظم الغزوات أهمية، ودروسها من أعظم الدروس أهمية في حياة المؤمن والطائفة المؤمنة في سيرها إلى الله عز وجل. ذكر الله هذه الغزوة في سورة آل عمران، وبينه أحسن بيان، ليس لمجرد ذكر الوقائع أو تفاصيل الغزوة، وإنما لبيان حقائق الإيمان المتعلقة بالمواقف المختلفة التي حصلت للمؤمنين، وحصلت لأعدائهم من الكافرين، والآيات من سورة آل عمران تتناول هذه القصة بالبيان والتفصيل، وسنذكرها مقترنة بتفسيرها إن شاء الله تبارك وتعالى. قال الله تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ * لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ * وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران:121 - 132].

سبب غزوة أحد

سبب غزوة أحد قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى: المراد بهذه الوقعة يوم أحد عند الجمهور، قاله ابن عباس والحسن وقتادة والسدي وغير واحد، وعن الحسن البصري: المراد بذلك يوم الأحزاب، رواه ابن جرير، وهو غريب لا يعول عليه. وصدق في ذلك؛ لأنه لا وجه للقول بأن هذه الآية المراد بها يوم الأحزاب، ولو كان الأمر كذلك لذكرت في سورة الأحزاب، والقصة معلومة أنها في سياق غزوة أحد. قال: وكانت وقعة أحد يوم السبت من شوال سنة ثلاث من الهجرة، قال قتادة: لإحدى عشرة ليلة خلت من شوال، وقال عكرمة: يوم السبت للنصف من شوال، فالله أعلم، وكان سببها: أن المشركين حين قتل من قتل من أشرافهم يوم بدر وسلمت العير بما فيها من التجارة التي كانت مع أبي سفيان، فلما رجع قفلهم -يعني: العائدين- إلى مكة قال أبناء من قتل ورؤساء من بقي لـ أبي سفيان: أرصد هذه الأموال لقتال محمد، فأنفقوها في ذلك، يعني: أنهم أنفقوا في عزوة أحد أموال القافلة التي نجت، والتي كانت سبباً لحصول غزوة بدر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج كي يأخذ هذه القافلة، فقدر الله نجاة القافلة ووقوع وقعة بدر مع جيش المشركين، فجعلوا هذه الأموال لقتال النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها أنزل الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ * لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأنفال:36 - 37]، وقد كان.

قوام جيش المشركين واستشارة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه

قوام جيش المشركين واستشارة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه قال ابن كثير رحمه الله: فجمعوا الجموع والأحابيش، والأحابيش هم: من حول قريش، يعني: من أنفسهم وممن حولهم، وأقبلوا في قريب من ثلاثة آلاف حتى نزلوا قريباً من أحد تلقاء المدينة، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، فلما فرغ منها صلى على رجل من بني النجار يقال له: مالك بن عمرو. يعني: صلى عليه صلاة الجنازة، واستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس: أيخرج إليهم أم يمكث بالمدينة، فأشار عبد الله بن أبي بالمقام بالمدينة، وألا يخرجوا منها، قال: فإن أقاموا أقاموا بشر محبس، وإن دخلوها قاتلهم الرجال في وجوههم ورمتهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا عن القتال رجعوا خائبين، وكان هذا رأياً سديداً من جهة الخطة العسكرية، وهي أن المسلمين أمكن بالمدينة، فهم متمكنون فيها، فلو بقي المشركون خارج المدينة في الصحراء أقاموا بشر محبس، أي: كانوا محبوسين في شر مكان؛ لا طعام ولا شراب ولا مسكن، وقد يبقون مدة طويلة خارج المدينة، قال: وإن دخلوها قاتلهم الرجال في وجوههم، والنساء والصبيان من فوقهم، أي: رموهم بالحجارة، يعني: سيحكم الخناق على كفار قريش في أزقة المدينة وطرقاتها، قال: وأشار آخرون من الصحابة ممن لم يشهد بدراً بالخروج إليهم.

الشوق للجهاد والتضحية في سبيل الله

الشوق للجهاد والتضحية في سبيل الله أشاروا بذلك لأنهم كانوا متشوقين لبذل النفوس في سبيل الله عز وجل، ورغم أن هذا لم يكن بالرأي الأصوب من جهة الخطة العسكرية إلا أن المسألة مسألة اجتهادية، ونلحظ من هذا فائدة عظيمة، وهي: قضية استعداد المسلمين للبذل والتضحية في سبيل الله، وشوقهم وحبهم للجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى، وأن الذين فاتتهم غزوة بدر حزنوا على ما فاتهم من الخير، وهكذا المؤمن دائماً إذا فاته شيء من الخير يحزن عليه، كما ذكر الله عز وجل ذلك عن الذين عجزوا عن الخروج في غزوة تبوك فقال: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} [التوبة:92]. وهذا بخلاف المنافقين؛ فإنهم يفرحون بتخلفهم عن الخير، وعن بذل النفوس والأموال في سبيل الله عز وجل، كما قال عز وجل عنهم: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة:81]. ومن هذا نستفيد فائدة مهمة جداً، وهي: رغم خطأ هذا الرأي من الناحية العسكرية إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أن يقبل هذا الرأي منهم، وأن يمضي عليه، ومن سياق القصة الطويل في سورة آل عمران نجد أنه صلى الله عليه وسلم لم يعاتب أحداً اختار الخروج بدلاً من البقاء. فالمسألة مسألة اجتهادية، وهم اجتهدوا في أي الأمور أصلح: هل يخرجون لقتال المشركين خارج المدينة أم يبقون في الداخل؟ وكان الرأي الأصوب من جهة الخطة العسكرية البقاء في المدينة، ومع ذلك نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم اجتهد ورأى أن أكثر أصحابه يريدون الخروج فخرج؛ مراعاة لما في قلوبهم من أنواع الخيرات، فقلوبهم محبة للجهاد في سبيل الله ومستعدة للبذل والتضحية. وقد عاتب الله عز وجل من قصر منهم، لكن لم يذكر عتاباً قط على أن هذا كان خطأً من الجهة العسكرية، فلم يذكر سبحانه وتعالى على هذا عتاباً قط، على رغم أنه ما كان ينبغي لهم أن يخرجوا، وأن البقاء في المدينة خير لهم، إنما كان العتاب على المعصية بعد ذلك وعلى مخالفة أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى إرادة الدنيا وعدم إرادة الآخرة.

فقه التعامل مع الآراء

فقه التعامل مع الآراء وهنا فائدة عظيمة الأهمية، وهي: أننا إذا اخترنا رأياً معيناً فيما نواجه من وقائع، وكان هذا الرأي من الجهة الواقعية غير موفق، أو كان غيره أولى منه، لكن كانت النية في اختيار هذا الرأي خالصة، وكانت إرادة وجه الله عز وجل وإرادة نصرة دينه وإرادة البذل في سبيله سبحانه وتعالى هي الحاصلة، فلا يعاتب صاحب هذا الرأي، حتى وإن حدث ابتلاء، أو حدثت محنة، بل قد يحدث قتل، وقد تكون هناك شهادة للبعض، وجرح للبعض الآخر، كما وقع في غزوة أحد، ولكن من أين أتي الناس في غزوة أحد؟ هل أتوا من قبل أنهم اختاروا هذا الرأي الذي كان غيره أولى منه، أم أنهم أتوا من قبل النيات ومن قبل الإرادات، ومن قبل مخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فلهذا نرى أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعاتب الذين أشاروا عليه بالخروج للقتال خارج المدينة، ولم يقل: أنتم السبب، وأنتم الذين جعلتمونا نخرج إلى المشركين، وكان الأولى أن نجلس، لم يعاتب على ذلك، وإنما عوتب الذين تركوا أماكنهم من الرماة، وعوتب من أرادوا الدنيا كما قال تعالى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [آل عمران:152]، وعوتب من ظنوا بالله ظن الجاهلية، وعوتبوا على ما وقع في قلوب بعضهم ساعة الفرار وساعة الانسحاب غير المأمور به من الوقعة، وأيضاً ذُم المنافقون على نفاقهم. فهذا الأمر هو الذي ينبغي أن نستعمله دائماً فيما نواجهه من وقائع وأمور، ولا نشغل أنفسنا كثيراً بأن هذا الرأي كان خطأً وأنه كان سبب المشكلة؛ لأن سبب المشكلة الحقيقية التي تواجهنا في كل مواقفنا مع من يخالفنا، ومع أعداء الإسلام، -لو دققت- تجد أن سببها ما ينبع من داخلنا ومن أعمالنا ومن أحوال قلوبنا، وهذا هو الذي نبهنا عليه القرآن، وتأمل الآية التالية مباشرة وهي: ((إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا)). هذا الذي كان عليه العتاب، ومن ثم يجب معرفة كيف ينجو الإنسان أو تنجو الطائفة المؤمنة من هذا المرض الخطير: وهو الفشل، والتخاذل والابتعاد عن طريق الخير والحق، وترك مواجهة أعداء الله سبحانه وتعالى، هذا هو الخطر العظيم، فكيف يعالج؟ يعالج بالتوكل على الله عز وجل كما سيأتي بيانه.

عزم النبي صلى الله عليه وسلم على المواجهة خارج المدينة

عزم النبي صلى الله عليه وسلم على المواجهة خارج المدينة قال ابن كثير رحمه الله: وأشار آخرون من الصحابة ممن لم يشهدوا بدراً بالخروج إليهم، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلبس لامته، واللامة: آلة الحرب، كالدرع، والرمح، والسيف، والبيضة، والمغفر، وسائر أدوات الحرب، فلبس النبي صلى الله عليه وسلم أداة الحرب، وخرج عليهم وقد ندم بعضهم وقالوا: لعلنا استكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله! إن شئت أن نمكث، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما ينبغي لنبي إذا لبس لامته أن يرجع حتى يحكم الله له). وهذا فيه أمر مهم، وهو: عدم التردد؛ لأن كثرة التردد في الأمور يؤدي إلى زعزعة الهمم والعزائم، وعدم استمرارها واستقرارها، وخصوصاً من القادة، فالنبي صلى الله عليه وسلم قائد أمته عليه الصلاة والسلام، ولو تردد وقبل أن يرجع وأخذ هذا الرأي ثم رجع مرة أخرى لكان ذلك فتاً في عضد أتباعه من المؤمنين، ولكن لا يعني هذا أن الإنسان لا يرجع عن الرأي الذي يراه خطأً أو غير سديد، بل عليه أن يرجع إلى الحق، ولكن في الأمور الاجتهادية الأمر فيها واسع. لكن التردد فيها قد يكون خطيراً إذا كان يؤدي إلى الفت في عضد الأمة.

خيانة المنافقين

خيانة المنافقين قال: فسار صلى الله عليه وسلم في ألف من أصحابه، فلما كان بالشوط -ما بين المدينة وبين جبل أحد- رجع عبد الله بن أبي في ثلث الجيش مغضباً؛ لكونه لم يرجع إلى قوله، وقال هو وأصحابه: لو نعلم اليوم قتالاً لاتبعناكم، ولكنا لا نراكم تقاتلون اليوم. وهذا من عجيب شأن المنافقين، فهذا المنافق يعلم أنه قد أشار على النبي صلى الله عليه وسلم بعدم الخروج، ثم قرر النبي صلى الله عليه وسلم الخروج وخرج معه، ثم تراجع ليفت في عضد المسلمين، وهذا خبث ومكر ودهاء من المنافقين وعلى رأسهم عبد الله بن أبي بن سلول، فإنه رجع بثلث الجيش. وهذا دليل على أن عبد الله بن أبي له وزن عند كثير من الأنصار في ذلك الوقت؛ لأنه كان مطاعاً مقدماً، كاد أن يصبح ملكاً على المدينة قبل ثلاث سنوات فقط من هذه الوقعة قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة، وكادوا أن يتوجوه بالعصابة ويجعلوه ملكاً على المدينة، فكانت له منزلة، فرجع من الألف تقريباً ثلاثمائة وقليل، رجعوا مع عبد الله بن أبي، ولم يكن كلهم منافقون النفاق الأكبر، ولكن استجاب كثير منهم لقول عبد الله بن أبي، وهذا دليل على خطر النفاق. فطائفة المنافقين تفت في عضد الطائفة المؤمنة، وتوهن عزائمها، وتوهمها بأنها معها ثم تتراجع في مرحلة المواجهة، وفي ساعات الخطر، ويزعمون أنهم لا يرون قتالاً، كما قال عز وجل حاكياً عنهم: {لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُمْ} [آل عمران:167]، لكن نحن لا نراكم تقاتلون اليوم أحداً، ولا يوجد حرب اليوم، فإذاً: لماذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم؟ ولماذا جاء ثلاثة آلاف من المشركين؟ هل يرجعون بدون قتال؟ والرسول قد خرج بالفئة، لكن هذا من خبث المنافقين، ومن محاولة التلبيس على المسلمين؛ ولذلك ذمهم الله على هذه الوقعة، كما سيأتي في سياق السورة.

خطر المعصية، وأهمية الأخذ بالأسباب

خطر المعصية، وأهمية الأخذ بالأسباب قال: واستمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سائراً حتى نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي -والعدوة هي جانب الوادي- وجعل ظهره وعسكره إلى أحد وقال: (لا يقاتلن أحد حتى نأمره بالقتال)، وتهيأ رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتال وهو في سبعمائة من أصحابه، وأمر على الرماة عبد الله بن جبير أخا بني عمرو بن عوف، من الأنصار، وعدد الرماة يومئذٍ خمسون رجلاً، فقال لهم: (انضحوا الخيل عنا، انضحوهم بالنبل) يعني: ارموهم بالنبل، وارموا خيلهم إذا هجموا علينا، وهو عليه الصلاة والسلام في ظهر أحد، والمشركون أمامه، والرماة على الجبل، وقد أمرهم أن يرموا خيل المشركين بالنبال، فقال: (انضحوا الخيل عنا، ولا نؤتين من قبلكم، والزموا مكانكم وإن كانت النوبة لنا أو علينا)، أي: إن كانت الغلبة لنا أو علينا الزموا مكانكم فلا دخل لكم بالقتال، وإنما مهمتكم الأساسية هي رمي المشركين بالنبال، واحذروا أن نؤتى من قبلكم؛ لأنه لو التف جيش المشركين من هذا المكان من عند جبل الرماة، ونزلوا على المسلمين من علو فسيتحكمون في المسلمين وتكون الدولة لهم، فكان المطلوب من الرماة أن يمنعوا المشركين من الرقي إلى هذا المكان فيؤتى المسلمون من قبلهم، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: (وإن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم)، أي: لا نريد إنقاذاً منكم، ولا تتدخلوا في القتال، حتى لو رأيتم المسلمين تتخطفهم الطير فلا تبرحوا مكانكم، وهذا فيه مبالغة في لزوم المكان، وتأكيد على عدم الفرار. قال: وظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين درعين، أي: جمع بين لبس درعين وليس درعاً واحداً، وهذا فيه الأخذ بالأسباب، وأنه لا ينافي التوكل على الله عز وجل، فرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يعصمه الله من الناس ظاهر بين درعين، وهذا فيه أنه كان يأخذ بالأسباب، ويتخذ وقاية يتقي بها العدو، وهذه سنة الأنبياء جميعاً صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وسنة الصالحين، وأهل السنة ليس عندهم ترك الأخذ بالأسباب زاعمين أن التوكل على الله يكفيهم، بل يأخذون بالأسباب مع كونهم متوكلين على الله عز وجل، فهم يتوكلون على الله بقلوبهم، ويأخذون بالأسباب بجوارحهم. فظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين درعين، وأعطى اللواء لـ مصعب بن عمير أخا بني عبد الدار، وبنو عبد الدار من قريش، ومصعب رضي الله تعالى عنه أحد فضلاء المسلمين، ويكفي أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه -وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة- يقول: قتل مصعب بن عمير وهو خير مني، فرضي الله تعالى عنهما، وقتل ولم يقطف من ثمرته شيئاً، ولم ينل شيئاً من أجره في الدنيا، بل أجره كله يُدخر عند الله عز وجل، وإعطاء مصعب اللواء فيه إشارة عظيمة، ولطيفة دقيقة، وهي أن مصعباً رضي الله عنه كان سفير الإسلام إلى المدينة، وهو الذي دخل على يديه أكثر أهل المدينة في الإسلام، وأكثر الأنصار إنما أسلموا على يديه رضي الله تعالى عنه، وهو الذي نشر الإسلام في المدينة، لذا كان هو الذي يحمل اللواء في هذه الموقعة، ومعلوم أن أكثر الجنود كانوا من الأنصار، فكان في هذا تكريم عظيم لـ مصعب رضي الله تعالى عنه، ثم في بقائه ثابتاً على اللواء حتى استشهد رضي الله تعالى عنه وليس له من الدنيا شيء، زيادة تكريم له، فهذا فيه إشارة إلى ما له عند الله سبحانه وتعالى يوم القيامة.

أهمية التربية الصالحة

أهمية التربية الصالحة قال: وأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الغلمان يومئذٍ، وأرجأ آخرين حتى أمضاهم يوم الخندق، وكان بعد هذا اليوم بقريب من سنتين، وكان فيمن أرجأهم عبد الله بن عمر رضي الله عنه، ولم يجز إلا الذين كانوا أشداء على القتال، فالرسول صلى الله عليه وسلم الذين وجدهم قد نازلوا أو قد بلغوا وعندهم القدرة على القتال أجازهم في الجيش. وهذا فيه دليل على أن الصحابة كانوا يربون أبناءهم على حب الجهاد في سبيل الله عز وجل وعلى التضحية والبذل، كانوا يربونهم على ذلك وهم صبيان يناهزون البلوغ، وأعمارهم ما بين إحدى عشرة أو اثنتي عشرة أو ثلاث عشرة سنة، فالذي عمره ثلاث عشرة يعني أنه في عمر من هو في الصف الثاني الإعدادي في هذا الزمان، ومع هذا كانوا يحرصون على أن يكونوا في جيش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجازهم النبي عليه الصلاة والسلام للقتال، وبعضهم كان عمره أربع عشرة وبعضهم خمس عشرة سنة، وأياً ما كان سنهم فإن البذل والتضحية في مثل هذا نادر، لكنه متصور من أبناء الصحابة رضي الله تعالى عنهم، الذين اختارهم الله عز وجل على الأمم، فالعبرة كانت في ذلك ليست بالسن ولكن بإطاقة القتال. قال: وتعبأت قريش وهم ثلاثة آلاف، ومعهم مائتا فرس، قد جنبوها، فجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل ودفعوا اللواء إلى بني عبد الدار. وهذا فيه فائدة مهمة جداً، وهي: أننا ذكرنا أن مصعباً من بني عبد الدار، كان هو حامل لواء المسلمين، وحامل لواء المشركين كان من بني عبد الدار أيضاً، فهنا فائدة مهمة وهي: أن العرب كانت الرابطة التي تربط المجتمع عندهم هي رابطة القبلية، ورابطة العائلة، والأسرة الواحدة، لكن الإسلام فرق بينهم، فليس هناك عبرة بالأنساب طالما اختلفت العقيدة، وطالما اختلفت الملة والدين، فلا عبرة بما هو أدنى من ذلك، فكان عندهم من أقوى الروابط رابطة العائلة والأسرة، فهذا بطن من بطون قريش، وليس قبيلة كبيرة، وهكذا من الروابط وحدة المنشأ ووحدة الوطن ووحدة القومية، ووحدة اللغة، فالأسرة الواحدة كلها موجودة، وحامل لواء المسلمين مصعب من بني عبد الدار، وحاملوا لواء المشركين كانوا تسعة متتابعين، أو جملة متتابعة من بني عبد الدار، فرابطة العقيدة وآصرة الدين هي الآصرة التي يؤسس عليها المجتمع المسلم، وتبنى عليها الطائفة المؤمنة، دون نظر إلى الروابط الأخرى، ولو وجدت الروابط الأخرى فهذا آكد، لذلك النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب أن يقاتل الرجل تحت راية قومه؛ ليكون مع القريبين من قبيلته؛ لأن هذا أقوى له، وهم أعلم ببعضهم، ويستطيعون التعامل مع بعضهم بطريقة أنسب، فأهل الرابطة الواحدة أعرف بطباع بعضهم من غيرهم، وهم أعلم بما يحبه قومهم وما لا يحبونه، فهذا أمر مطلوب ولا مانع منه. ولما أن تكون العقيدة واحدة وأضيفت إليها روابط الأسرة الواحدة أو العائلة الواحدة أو الوطن الواحد، أو القومية الواحدة هذه كلها تصبح جملة روابط مؤكدة لرابطة الإيمان، فلا نأباها ولا ننبذها؛ لأنها مؤكدة للرابطة الأصلية، رابطة العقيدة التي اجتمع عليها المجتمع المسلم، وبنيت عليها الطائفة المؤمنة، لكن عند أن تتعارض معها وتخالفها فلا بد أن تقدم رابطة الإيمان ولا عبرة بما سواها من الروابط. ولذلك قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم حبال الجاهلية ووصل الأمة بحبل الإسلام؛ وهو حبل واحد، فكل رابطة تعارض أو يراد لها أن تكون بدلاً عن رابطة الدين، والتوحيد، والإيمان فهي رابطة مقطوعة، ولا عبرة بها، وأما إذا كانت مع رابطة الدين فهي تعضدها وتقويها، وينتفع بها في سبيل تحقيق الغايات المحمودة من رابطة الدين ومن طاعة الله عز وجل وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.

الاستعداد للقتال والتحذير من الفشل

الاستعداد للقتال والتحذير من الفشل قال: ثم كان بين الفريقين من الأحداث ما سيأتي تفصيله في مواضعه عند هذه الآيات إن شاء الله تعالى. قال ابن كثير: ولهذا قال تعالى: ((وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ))، أي: تنزلهم منازلهم، وتجعلهم ميمنة وميسرة، وحيث أمرتهم، ((وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ))، أي: سميع لما تقولون عليم بضمائركم، وقد أورد ابن جرير هاهنا سؤالاً حاصله: كيف تقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم سار إلى أحد يوم الجمعة بعد الصلاة، وقد قال الله تعالى: ((وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ)) الآية؟ ثم كان جوابه عنه: أن غدوه ليبوئهم مقاعد إنما كان يوم السبت أول النهار. وهذا السؤال طبعاً أخذه من كلمة (غدوت) والغدوة هي: أول النهار، يقال: غدوة وعشية، فلو كان النبي صلى الله عليه وسلم بوأهم بعد الجمعة يكون قد دخل في المساء، أي: في العشي، ولا يصح أن يقال له: غدوت. فيقول ابن جرير: إن الغدو كان يوم السبت صباحاً، وكان هذا لأجل خروج النبي صلى الله عليه وسلم بعد الجمعة، فما بعد الجمعة لا نسميه يوم الجمعة، ولكن نقول: بعد يوم الجمعة، أي: يوم السبت صباحاً. وقوله تعالى: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا} [آل عمران:122] الآية. قال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان قال: قال عمرو: سمعت جابر بن عبد الله يقول: فينا نزلت: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا} [آل عمران:122]، الآية. قال: نحن الطائفتان بنو حارثة وبنو سلمة وما نحب، وقال سفيان مرة: وما يسرني أنها لم تنزل؛ لأن فيها عتاباً، وفيها ذكر بني سلمة بنوع من النقص، وهو: الهم بالفشل، قال: وما يسرني أنها لم تنزل؛ لقوله تعالى: ((وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا))، أي: أن الله هو الذي تولى أمرهما، وهو سبحانه وتعالى الذي تولى إصلاحهما، ولذلك كان هذا كرامة لأولياء الله عز وجل، وأن بني حارثة وبني سلمة الذين ثبتهم الله من أوليائه عز وجل؛ لأن الله قال: ((وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا)). قال: وهكذا رواه مسلم من حديث سفيان بن عيينة به، وكذا قال غير واحد من السلف: إنهم بنو حارثة وبنو سلمة.

تنزل النصر رغم الضعف المادي

تنزل النصر رغم الضعف المادي وقوله تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [آل عمران:123] أي: نصركم يوم بدر، وكان يوم الجمعة الموافق السابع عشر من شهر رمضان سنة اثنتين من الهجرة، وهو يوم الفرقان الذي أعز الله فيه الإسلام وأهله، ودمغ فيه الشرك وحزبه، وهذا مع قلة عدد المسلمين يومئذٍ، فإنهم كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، ليس فيهم إلا فرسان وسبعون بعيراً، والباقون مشاة، وليس معهم من العُدد جميع ما يحتاجون إليه، بينما كان عدد العدو يومئذ ما بين التسعمائة إلى الألف، وهم في سوابغ الحديد، أي: الحديد السابغ المغطي للبدن، أي: المواضع التي تحفظ من البدن عند القتال، وكانوا لابسين دروعاً وبيضات، فهم في سوابغ الحديد والبيض والعدة الكاملة، والخيول المسومة، والحلي الزائد، فأعز الله رسوله، وأظهر وحيه وتنزيله، وبيض وجه النبي وقبيله، وأخزى الشيطان وجيله. قال ابن كثير رحمه الله: ولهذا قال تعالى ممتناً على عباده المؤمنين وحزبه المتقين: ((وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ))، أي: قليل عددكم؛ ليعلموا أن النصر إنما هو من عند الله، لا بكثرة العدد والعدد؛ ولهذا قال تعالى في الآية الأخرى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا} [التوبة:25]، إلى قوله تعالى: ((غَفُورٌ رَحِيمٌ)).

قل كل من عند الله

قل كل من عند الله التقى معسكر الإيمان بمعسكر الكفر في يوم أحد، وشاء الله لحكم جليلة وعظيمة الهزيمة للمسلمين، وكان مرد الهزيمة إلى أعمال القلوب والجوارح، وكان في ذلك خير للمسلمين، حيث ظهر أهل النفاق، وبدت بطولات أهل التوحيد والوفاق، وتمحصت النفوس في هذه الشدة، وعلم المسلمون بأنهم إنما يقاتلون عدوهم بأعمالهم، وأن الذنوب والمعاصي هي سبب في تأخر تغيير هذا الواقع المؤلم، وأن العبرة بالجودة لا بالكثرة.

ظن المنافقين بالله عز وجل يوم أحد

ظن المنافقين بالله عز وجل يوم أحد الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وسلم، أما بعد: فيقول الله تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ * فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ * إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران:154 - 160]. ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله أنواعاً من ظن الجاهلية، ومن عقائد الكفار وأهل البدع والضلال في تفسيره لقوله عز وجل: ((يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ)). ثم أخبر عن الكلام الذي صدر عن ظنهم الباطل وهو قولهم: ((هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ))، وقولهم: ((لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا))، فليس مقصودهم بالكلمة الأولى والثانية إثبات القدر، فهم لا يقصدون أن يثبتوا أن الأمر لله، وإلا لما حسن الجواب عليهم بقوله: ((قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ))، وإنما يعنون أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يستمع لنصيحتهم ولم يستمع لكلامهم، وأنه لأجل عدم أخذه لرأيهم حدثت الهزيمة. وقد ذكرنا من قبل أن كثيراً من الناس عند المصائب والهزائم والمحن يكثر من البحث عن الأخطاء الظاهرة، سواء كانت أخطاء عسكرية، أو أخطاء في القرارات، أو أخطاء في طريقة العمل، وينسى أن هذه الأمور في النهاية هي أمور اجتهادية، وليست هي التي ذكر الله عز وجل في سبب الهزيمة، وأن الأمر ليس أنه كان الأصوب عدم الخروج إلى جيش المشركين خارج المدينة، وكان الخطأ هو خروج المسلمين، فالمسلمين انتصروا بفضل الله في أول المعركة وقد خرجوا، فليس الخطأ العسكري في عدم البقاء في المدينة هو السبب في الهزيمة، فهذا لم يذكره الله قط، ولكن هؤلاء لا يعرفون إلا الأمور الظاهرة، لذلك قالوا: ((هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ))، يعنون أن الرسول لم يسمع كلامهم، فهم لم يقصدوا إثبات القدر ورد الأمر كله إلى الله. قال ابن القيم: [فليس مقصودهم بالكلمة الأولى والثانية إثبات القدر ورد الأمر كله إلى الله، ولو كان ذلك مقصودهم بالكلمة الأولى لما ذموا عليه، ولما حسن الرد عليه بقوله: ((قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ))، ولا كان مصدر هذا الكلام ظن الجاهلية] إذ نص هذا الكلام، ((الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ))، اعتقاد الحق، وليس يمكن أن يكون اعتقاد الحق هو مصدر ظن الجاهلية، وإنما ظن الجاهلية مصدره عقيدة الجاهلية وسوء الظن بالله، وعدم الإيمان الصحيح. يقول ابن القيم: [ولهذا قال غير واحد من المفسرين: إن ظنهم الباطل هاهنا هو التكذيب بالقدر، وظنهم أن الأمر لو كان إليهم، وكان رسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه تبعاً لهم، فيسمعون منهم لما أصابهم القتل، ولكان النصر والظفر لهم، فأكذبهم الله عز وجل في هذا الظن الباطل الذي هو ظن الجاهلية] ولو كان كذا لكان كذا وكذا، فلو لم نخرج لانتصرنا، ولو لم نخرج لما قتل منا من قتل، فهذا الكلام الباطل الذي يقع فيه كثير من الناس، وينسون أن سبب المصائب والمحن والهزيمة والانكسار هو المعصية والمخالفة لشرع الله، وحتى ولو كان الأمر محتملاً أن يكون خطأ عسكرياً فالله عز وجل يجعل من الأسباب الضعيفة أقوى الأسباب، ويجعل من الخطأ الذي هو أمر اجتهادي -طالما أنه دون معاصي ودون ذنوب- ذلك الخير الكثير. فالعبرة أن نأخذ بالأسباب ولكن لا نقف عندها، بل نتعمق لنفهم أن هناك ما هو أشد تأثيراً من هذه الأسباب، وهو أعمال القلوب وما يكون عليه حال الجيش في الطاعة والمعصية، وحال الطائفة خصوصاً وحال الأمة عموماً. فلابد أن نعرف أن هذه من أكبر الأسباب، وليس فقط أن السبب مثلاً أن الأسلحة كانت قديمة، أو أن التخطيط العسكري كان خطأ، أو نحو ذلك مما تبرر به الهزائم دائماً، فأعمال القلوب هي السبب في الهزيمة أو الانتصار، وأنت لو تأملت ما يقع في المعارك ستجد أن قضية التفاوت في القوة المادية ليس هو العامل الرئيسي في الهزيمة أو الانتصار وإنما تجد على أرض المعارك أمراً يختلف تماماً عن الموازين المادية المحضة، فتجد أن أعتى القوى والجيوش ربما قد تعجز أمام أفراد معدودة ومحدودة، وعندما تبدأ أعمال القلوب الفاسدة من الغش، والتعلق بالدنيا، وبيع القضايا، وبيع الأديان والأوطان والشعوب بالمال وبالشهوات، هنا يدخل العبث. فمرد الأمر في الهزائم إلى أعمال القلوب، فكم من هزيمة وقعت، وأرض احتلت، كان سببها أعمال قلوب طائفة من الأمة، أو جيل من الأمة وقعوا في المعاصي والمنكرات، مما أدى ذلك إلى حصول البلاء ونزوله، ولا حول ولا قوة إلا بالله. فلذلك قولهم ((لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ)) أي: لو كان الرسول وأصحابه تبعاً لهم يسمعون منهم لما أصابهم شيء قط، وهذه القضية هي قضية أهل النفاق الأكبر والأصغر. يقول ابن القيم: فأكذبهم الله عز وجل في هذا الظن الباطل الذي هو ظن الجاهلية، وهو الظن المنسوب إلى أهل الجهل، الذين يزعمون بعد نفاذ القضاء والقدر، الذي لم يكن بد من نفاذه أنهم كانوا قادرين على دفعه، وأن الأمر لو كان إليهم لما نفذ القضاء، فأكذبهم الله بقوله: ((قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ))، فهذا أمر عظيم الأهمية في المحن والشدائد، وهو شهود القدر، وهذا هو الذي يدفع القلوب إلى تجاوز المحنة وإلى زيادة الإيمان، رغم شهود التقصير، وليس التقصير هو عدم اتخاذ القرار الصحيح عسكرياً مثلاً، بل التقصير كان في مخالفة الأمر: {فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} [آل عمران:152]. إن هذا شهود التقصير مع شهود القدر، وأما شهود التقصير مجرداً عن شهود القدر فإنه يدفع إلى اليأس، وإلى قتل النفس، وإلى قتل المعاني الحميدة التي في النفس، فليس المقصود من لوم النفس وعتابها والسعي في تهذيبها وإصلاحها أن يظل الإنسان يبكتها ويذمها حتى يصل إلى تيئيسها من رحمة الله عز وجل، بل لابد أن يرى الجوانب الإيجابية ويستثمرها، والجوانب السلبية ويعالجها، وليس مذهب الصحابة رضي الله تعالى عنهم والتابعين لهم بإحسان وأئمة السلف جلد النفس، أي: أن يرى الإنسان نفسه دائماً بأحط المنازل، وأنه الهالك الوحيد، كمن قال مثلاً: إنه ما حاسب نفسه إلا وجد نفسه مرائياً، إلا أن يكون كذلك، لكن أن يرى نفسه على الدوام لم يعمل عملاً صالحاً قط! فليس هذا هو الذي أمر الله عز وجل به، أو يرى أنه لم يخلص لله طرفة عين، فهذا لم يأمر الله به، إلا إذا كان كذلك فنعم، فمثل هذا الإنسان فاسد من الداخل، وهذا يذكر في كثير من كتب التهذيب على أنه مثال لما ينبغي أن يكون عليه الصالحون، وليس كذلك. فالله عز وجل وصف المؤمنين بأن قلوبهم وجلة، وأنهم يخافون ألا يكونوا أخلصوا لله، لكن لا ينبغي أن يظن بنفسه دائماً بأنه في أحط المنازل، وأنه أسوأ الموجودين، وأنه هو الهالك الوحيد، فليس هذا هو الأمر المطلوب، كما أنه لا يزكي نفسه أيضاً، ولكن يرجو القبول، ويخشى عدم القبول، ويرى الجوانب الإيجابية -وهي فضل من الله ونعمة- فيزيد منها ويستثمرها، والجوانب السلبية فيعالجها، ويشهد القدر في كل ذلك. يقول: [فأكذبهم الله بقوله: ((قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ))، فلا يكون إلا ما سبق به قضاؤه وقدره، وجرى به علمه وكتابه السابق، وما شاء الله كان ولابد شاء الناس أم أبوا، وما لم يشأ لم يكن شاءه الناس أم لا، وما جرى عليهم من الهزيمة والقتل فبأمره الكوني الذي لا سبيل إلى دفعه، سواء كان لكم من الأمر شيء أو لم يكن لكم، وأنكم لو كنتم في بيوتكم وقد كتب القتل على بعضكم لخرج الذين كتب عليهم القتل من بيوتهم إلى مضاجعهم ولابد، سواء كان لهم من الأمر شيء أو لم يكن، وهذا من أظهر الأشياء إبطالاً لقول القدرية النفاة، الذين ينفون القدر، والذين يجوزون أن يقع ما لا يشاء الله، وأن يشاء ما لا يقع] فالقدرية جعلوا الأمر الشرعي والكوني

أمراض النفوس تظهر عند المحن والشدائد

أمراض النفوس تظهر عند المحن والشدائد هذه الدروس المستفادة من قصة غزوة أحد يستفيد منها المؤمنون في كل زمن وفي كل مكان، فلا تكاد تقع محنة أو هزيمة إلا وتجد هذه الأمراض تظهر من المنافقين وممن عندهم بعض النفاق، وممن ضعف إيمانهم، وممن وقعوا في بعض المعاصي، حتى من أهل الإسلام والإيمان قد تجد عند نزول المحن والشدائد من لا يقوى شهوده للقدر، ومن لا يقع منه التفات إلى الأسباب الباطنة للهزيمة، وستجد من يقول: إنكم لم تسمعوا كلامنا، ولو سمعتم كلامنا لما جرى ما جرى. ستجد هذه الأمراض موجودة ولكن بدرجات متفاوتة، فهناك من يكذب صراحة بالقدر، وهناك من يضعف شهوده للقدر، ويتعلق بالأسباب المادية دون الأسباب الباطنة التي هي أعمال القلوب، والتي أدت في الحقيقة إلى الهزيمة والانكسار، نسأل الله العافية. سوف تجد هذه الأمور موجودة وقائمة في كل هزيمة تقع وتحصل، فلابد أن نستفيد من هذا الواقع، وما أشد حاجتنا في هذه الأوقات إلى الانتفاع بهذه الدروس التي كانت في غزوة أحد، وذلك أن شهود القدر في هذا الموضع مع شهود الأسباب الباطنة أو الأسباب التي هي متعلقة بالأعمال من كونها طاعات ومعاصي من أهم ما يلزمنا في هذا المقام، وتعظيم هذا الشهود حتى يمتلئ قلب الإنسان إيماناً بأن الأمر كله لله، وهذا يدفعه إلى الاستعانة بالله، وكمال التوكل عليه، فإن كمال التوكل على الله، والاستعانة بالله عز وجل تحول كفة الميزان لصالح أهل الإيمان. فالواقع المرير الذي تعيشه الأمة يؤلم كل من في قلبه شيء من الحياة، وحال المسلمين لن يستمر فلابد أن يتغير، ولن يتغير حتى نتغير تغيراً عميقاً.

الطائفة المنصورة هي المعتبرة في التغيير وليس الكثرة

الطائفة المنصورة هي المعتبرة في التغيير وليس الكثرة وحتى نعرف أسباب ما حدث لنا وما يحدث لنا، فالإيمان إنما هو للطائفة المؤمنة وهي المعتبرة، وليست العبرة بالكثرة التي مثلها النبي بأنها كغثاء السيل، وإنما العبرة بالطائفة المؤمنة -التي هي الأمة في الحقيقة، وهي الطائفة المنصورة الظاهرة- على حسب أعمال القلوب وأعمال الجوارح، وعلى حسب شهود معاني الإيمان عند أفراد هذه الطائفة، فإذا كان التغيير قوياً ألان الله لهم كل صعب، وألان لهم الحديد، وإذا كان التغيير سطحياً ظاهرياً ولم يدخل إلى الأعماق لم تنبت أرض القلب التغير المطلوب؛ لأن القلوب بعد لم تتغير، فهي ما زالت ضعيفة، وما زال الإيمان فيها غير راسخ، ومن هنا يأت استمرار الحال على ما هو عليه، وتسلط الأعداء بطرق مختلفة، فلابد أن يكون التغيير من جذور القلب، فإذا كان التغيير بهذا الوصف لتغير به الكون، بل ولأمكن أن تتغير موازين الأرض والسماوت، فلو أن الإنسان استحضر صفات الرب عز وجل وعمل بمقتضاها لتغير فعلاً، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:45]، فلو أن الإنسان استحضر بقلبه لماذا شرع تكرير الأذكار؟ لعرف أنه شرع من أجل أن يدخل الذكر إلى أعماق القلب، فهو يحتاج إلى مجهود كبير جداً حتى يصل إلى القلب، وخصوصاً عندما تكون العوامل الخارجية صارفة لقلب الإنسان عن الحضور، ولذلك شرع التكرار، والمشكلة أنه يمكن أن يكرر لكن باللسان المجرد، فلا يتأثر ولا يتغير الواقع، فلو تدبر مثل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، أو التسبيح أو تلاوة القرآن، من الممكن أن يغير تغييراً جذرياً، لا أقول في الإنسان، بل في الأرض كلها.

دعاء الأنبياء يغير وجه الأرض

دعاء الأنبياء يغير وجه الأرض وانظر إلى دعوات الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين كيف غيرت وجه الحياة على وجه الأرض؟ بل غيرت الأرض والسماوات، فهذه دعوة نوح عليه السلام: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح:26] فاستوجبت غضب الرب على قوم نوح حتى فتح الله عز وجل أبواب السماء، {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر:11 - 12]، فتغير وجه الحياة على وجه الأرض إلى آلاف السنين بنجاة نوح عليه السلام ومن معه، لذلك نقول: إن شهود معاني الإيمان هي: أن تكون حاضرة في القلب، وحتى يتغير الإنسان فلابد من شهود القدر وشهود التقصير الباطل، وستجد في هذا المقطع من هذه السورة ذكر الأسماء والصفات كثيراً جداً في كل المواطن، ومعاني الإيمان كلها حاضرة لمن يحضر قلبه مع هذه الآيات ولمن ينتفع بها، فإذا كان التغيير من جذور القلب ثقلت الكفة أمام الهباء؛ لأن الكفرة والمنافقين كالهباء، ولا قيمة لهم ولا وزن، ولكن المصيبة الآن أن الكفة الأخرى فيها أيضاً ما يماثل الهباء، فلذلك لا تثقل الكفة، لكن لو أن قلة فقط تتغير التغير المطلوب لتغير موازين الأرض كلها، وموازين الكون بأسرها بإذن الله تبارك وتعالى. فلذلك كان شهود المعاني التي أرشدنا القرآن إليها والدروس المستفادة من واقعة أحد، لابد أن نستفيد منها، وأن نشهد المعاني الإيمانية التي وردت في كتاب الله عز وجل: ((قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ))، فلابد للإنسان أن يستحضر هذا المعنى بقوة شديدة ((إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ))، وهذا متكرر في مواطن كثيرة قال تعالى: {وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ * وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ * وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود:121 - 123]، فإذا استحضره استصغر كل قوى الباطل، وشعر أنهم يلعبون، {فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ} [الطور:12]، لعب لا قيمة له، ولكن الذين آمنوا هم يلعبون أيضاً، فالقضية عند المسلمين اليوم قضية تغيير مظهري فقط، تغيير ليس ضارباً بجذوره في أعماق القلوب، فلم تتغير الأعمال والقلوب والأخلاق كما ينبغي، فما زال التغيير سطحي. إذاً: لابد من شهود القدر الشهود النافع الذي لا يعني: إهمال الأسباب التي في مقدمتها الأسباب الباطنة التي هي أعمال القلوب، ومتى ما استقر هذا في القلب لابد أن تتحول الموازين بإذن الله تبارك وتعالى، ونسأل الله العافية.

سبب تأخر تغيير الواقع

سبب تأخر تغيير الواقع لماذا تطول فترة {وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ} [هود:122]؟ تطول لأجل أن التغيير المطلوب ليس كالذي وقع للصحابة رضي الله تعالى عنهم ولا قريباً منه، فالتغيير الذي وقع للصحابة رضي الله عنهم كان في فترة المحنة، ومن يتأمل التاريخ الإسلامي يجد أن فترة المحنة في مكة هي الفترة التي قام عليها الإسلام، فالإيمان في قلوب المهاجرين رضي الله تعالى عنهم كان أعظم مما في قلوب الأنصار رضي الله تعالى عنهم، ولذلك تجد أن من غير وجه الحياة أكثرهم من المهاجرين رضي الله تعالى عنهم، فهم قادة الأمة علماً وعملاً وتربية وسلوكاً، وجهاداً ودعوة، ثم الأنصار رضي الله تعالى عنهم، لماذا؟ لأنهم تغيروا التغير المطلوب في فترة الشدة، والأنصار واجهوا أيضاً من هذه الأمور مواجهة عظيمة، والصحابة جملة تغيروا التغير الذي هيأهم لأن يسودوا العالم بإذن الله تبارك وتعالى، وكانت غزوة أُحد أَحد نقاط التحول في حياة الصحابة جميعاً رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.

حكم من هزيمة المسلمين يوم أحد

حكم من هزيمة المسلمين يوم أحد يقول ابن القيم: ثم أخبر سبحانه عن حكمة أخرى في هذا التقدير، وهي: ابتلاء ما في صدورهم، واختبار ما فيها من الإيمان والنفاق، فالمؤمن لا يزداد بذلك إلا إيماناً وتسليماً، والمنافق ومن في قلبه مرض لابد أن يظهر ما في قلبه على جوارحه ولسانه، ثم ذكر حكمة أخرى وهي: تمحيص ما في قلوب المؤمنين، فقال: ((وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ))، ليبتلي أي: ليختبر عز وجل ما في قلوب المؤمنين من ازدياد الإيمان في فترات المحن؛ لأن نقص الإيمان في فترات المحن أعظم خطراً؛ لأن الله عز وجل قال: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22]، ففترات المحن من ربنا عز وجل لازدياد الإيمان، فإذا لم يزدد الإيمان فيها فمتى يزداد؟ هل يزداد عندما تفتح الدنيا، وعندما يأتي الرخاء؟! وهذا الأمر لابد أن ننتبه إليه، فإن الدنيا أخاذة يصيد بها الشيطان قلوب كثير من الناس، فإذا لم يكن الإنسان عند الشدائد بعيداً عن الغلو والغفلة فمتى ينتبه؟ أينتبه عندما تفتح عليه الدنيا التي يجري وراءها الأكثر من البشر؟ سوف يزداد غفلة نسأل الله العافية، ولذلك كان عمر رضي الله عنه يبكي عندما تأتي الفتوحات، ويقول للصحابة: ابتلينا بالضراء فصبرنا وابتلينا بالسراء فلم نصبر، نسأل الله العافية. فهذا التمحيص هو لتحصيل زيادة الإيمان، وليبتلي عز وجل ما في قلوب المنافقين من نفاق، ولكي يظهر علناً وتظهر الصفات القبيحة، وتظهر المنكرات من ألسنتهم وأعمالهم ليعرفهم المؤمنون، ولكي لا يكون لهم الدور الذي سوف يكون لهم في المجتمع المسلم القادم، فإنه حين فتحت البلاد كان الواحد من الصحابة رضي الله عنهم يقود أمة ويغير أمة كذلك، ولم يكن للمنافقين دور في ذلك، لأن هذه الفترة كانت فترة انتباه. حتى أن الله أظهر نفاقهم من خلال أعمالهم وأقوالهم، حتى يحذر المؤمنون على أنفسهم، ولذلك عقبه بقوله: ((وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ)) ثم عقبه بقوله: ((وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ)). يقول ابن القيم: ثم ذكر حكمة أخرى، وهي: تمحيص ما في قلوب المؤمنين، وتخليصه وتنقيته وتهذيبه، فإن القلوب يخالطها بغلبة الطبائع، وميل النفوس، وحكم العادة، وتزيين الشيطان، واستيلاء الغفلة، ما يضاد ما أودع فيها من الإيمان والإسلام والبر والتقوى.

خمس خصال تضاد ما أودع في القلب من خير

خمس خصال تضاد ما أودع في القلب من خير هذه خمس خصال لنقص الإيمان أو ما يضاده: أولاً: غلبة الطبع؛ وليس كل ما طبع عليه الإنسان طباع سوية، فالله عز وجل قد خلق الخلق من الأرض بأنواعها: منها السهل، ومنها الوعر، فهل أنت على طبعك، أم أنك هذبت بتهذيب الشرع؟ وهل تزكت نفسك، أم أنك ما زلت على غلبة الطباع، وما يغلب على طبعك؟ مثل هذا لابد أن ننظر فيه، غلبة الطبع، ميل النفوس، شهوات النفوس، فإن النفس لا تخلو من الصفات المذمومة قال تعالى: {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات:40]، والهوى هو: الشهوات والمحرمات، والشهوات موجودة في كل إنسان، فهو مبتلى بها لكي يهذبها، فلو أن رجلاً في طبعه الجرأة، والثاني في طبعه الجبن، هل من في طبعه الجرأة ضبط الجرأة بحيث تصبح متوازنة بعيدة عن التهور، والذي طبعه الجبن، هل تغلب عليه بحيث لا يفر مما وجب عليه، ولو أن رجلاً فيه قلة حياء، وآخر عنده حياء، فلابد أن يغير كل واحد طبعه؛ لأن الناس متفاوتون في الطباع، فمن عنده جرأة غير محمودة لابد أنه يهذبها ويوجهها إلى أن تكون في الحق فقط، ولا ينبغي أن يكون عنده قلة الحياء، والذي عنده حياء غير شرعي يوجهه حتى يصبح حياءاً شرعياً، وتجد إنساناً فيه كرم والثاني فيه بخل، فكل واحد عليه أن يهذب طبعه، فالكريم يجب عليه أن لا ينفق أمواله في سرف، والبخيل يجب أن يعود نفسه على الإخراج في مواضع الإخراج، ولا يمنع الواجب، ويجاهدها لتنفق في المستحب، وهكذا. فيجب على الإنسان أن يهذب طباعه، فهذه قضية الطبع وقضية الشهوة وميل النفس قضية أخرى، فشهوة الطعام والشراب والجنس وحب المال والوجاهة في الناس موجودة عند كل الناس، لكن يمكن للإنسان أن يوجهها ويتحكم فيها حتى لا تسيطر عليه هذه الرغبات كما هو حال أكثر العالم، فأكثر البشر يتركون أنفسهم على ما هي عليه من الطباع، فلا يفكر في علاج الطباع السيئة ولا يحاول تهذيبها؛ لأن الأخلاق تكتسب، فهي قابلة للتغيير وإلا لما وجد معنى لمدح كمال الخلق ولا لذم سوء الخلق، فلا يمدح صاحب الخلق إلا لأنه استطاع أن يهذب خلقه، وليس المراد أن يقتلعها بالكلية، ولكن يوجهها إلى شيء معين. ثانياً: ميل النفوس إلى الشهوات، والشهوات ليس المطلوب قلعها بالكلية، حتى لا يبقى عند الإنسان رغبة في الأكل والشرب والنساء والمال، وإنما المطلوب هو تهذيبها، بحيث يكون هو الذي يتحكم في الشهوات وليست الشهوات هي التي تتحكم فيه، وأكثر العالم تتحكم فيهم شهواتهم، ولذلك تجد الشهوات في الشعوب المنحطة والطوائف السافلة هي التي تحركهم، كشهوة المال وشهوة الجنس، ومن أجل طعام أو شراب تباع كل القيم والعياذ بالله، وهذا أمر يحصل حتى ممن ينتسب إلى الدين، فحكمة الابتلاء هي التمحيص من هذه الأمور، من غلبات الطبائع وميل النفوس. ثالثاً: حكم العادة، وهي من أقوى الأشياء التي لا يستطيع الإنسان تغييرها إلا من رحم الله، فأنت إذا نظرت إلى حياة الناس تجد أنها في نكد وشقاء لا يعلمه إلا الله، وتجد أن الناس في تعب شديد، ومع ذلك تجدهم حريصين على هذه الحياة؛ لأنهم تعودوا عليها، فما هو الذي يجعل الإنسان يشرب السجائر؟ هل هي شهوات النفس؟ لا، فشهوة النفس أن يستنشق هواءً نظيفاً، إذاً هي العادة، فهو تعود أن يشرب السجائر والعياذ بالله، وآخر تعود النظر إلى التلفاز مع أن الدراسات العلمية الغربية تقول: إن التلفاز مضر، ويتعب الأجيال المتتابعة كباراً وصغاراً رجالاً ونساء، لكن الناس تعودوا على النظر إليه، وأيضاً الكرة ترى الناس في حزن شديد إذا أصيب فريقهم بخسارة، فالناس لم يعد ينقصها الحزن فالشقاء كبير، إذاً: فما هو الذي جعلهم يحزنون؟ إنها العادة، لقد تعودوا على هذا، فهل يستطيع الإنسان أن يهذب عادته وأن يتحكم فيها؟ وهل يستطيع أن يترك عادته ويفارقها؟ إن أكثر الناس لا يستطيعون ذلك، ولذلك كان ثواب الهجرة عظيم، وكان الخروج للحج عبادة عظيمة الأثر في نفس المؤمن؛ لأنه يغير كل عاداته، فهو يأكل ويشرب وينام على خلاف عادته، وفي الحج أشياء كثيرة المقصود منها أن يغير الإنسان عادته، ومع ذلك تجد أن نفسه لا تستطيع ذلك، مثل المبيت بالمزدلفة والمبيت بمنى، فيجد فيها مشقة بالغة، مع أن الإنسان تكفيه حاجات يسيرة جداً بإذن الله تبارك وتعالى، وأيضاً الزواج صعب في حياتنا بسبب العادات، مع أن الأصل هو تيسير أمر الزواج، لكن الناس تعودوا على مغالاة المهور وعلى اشتراط أشياء لم تكن معروفة من قبل، ولذلك تجد بعض الناس ينتحرون بسبب العادات، فأحدهم انتحر لأنه لم يستطع أن يحضر لأولاده دفاتر وكتب وحقائب جديدة للمدرسة! وهذه حقائق موجودة، وآخر انتحر في العيد لأنه لم يستطع أن يشتري لنفسه ولعياله الملابس الجديدة! مع أن المطلوب من الإنسان هو أن يستر عورته، لكنه يريد أكثر من ذلك خشية أن يتكلم عنه الناس، ولأنه أيضاً قد تعود على شيء معين. رابعاً: تزيين الشيطان، وأكثر الناس في غفلة عن هذا الأمر، فالخواطر التي تأتي على الإنسان ينبغي للإنسان أن يفكر من أين أتت هذه الخوطر؟ هل أتت من الشيطان أم من النفس الأمارة بالسوء أم من الملك وهذا من فضل الله عز وجل؟ تجد أن أكثرنا لا يفكر في ذلك بسبب مشاغل الحياة، ففترة المحنة تجعل الإنسان ينتبه لتغيير عاداته، ويبتعد عن شهواته، وينتبه لقضية الشيطان، ويفيق من الغفلة، فهو حين يرى الناس يموتون من حوله، فينتهي كل شيء كانوا يبحثون عنه، وينتهي كل شيء كانوا جمعوه، فيبتعد عن الغفلة، ففترات المحن تجد أنه يتغير فيها أشياء كثيرة في لحظات، ويوشك الإنسان أنه يقدم على ما هو أشد من هذه البلايا والمحن، فالناس في الحروب يجدون أهوالاً عظيمة توقض النفوس، فهذا مات أخوه، وهذا يهدم بيته، وهذا فقد أسرته، وهذا فقد ذراعه، فيرون أشياء كثيرة تذكرهم بالأهوال القادمة التي هم مقدمون عليها لا محالة، فتذكرهم الأهوال بسكرات الموت، وبوحشة القبر، وبأهوال البعث، وبموقف الحشر، وبالجنة والنار، فاستيلاء الغفلة يبعد الإنسان عن كل ذلك، ففترات المحن تذكر بهذه الأمور، وبقرب نهاية الحياة، فكل هذه الأمور تجعل القلب يحيا. قال ابن القيم: فإن القلوب يخالطها بغلبات الطبائع، وميل النفوس، وحكم العادة، وتزيين الشيطان، واستيلاء الغفلة، ما يضاد ما أودع فيها من الإيمان والإسلام والبر والتقوى، فلو تركت في عافية دائمة مستمرة لم تتخلص من هذه المخالطة ولم تتمحص منها، فاقتضت حكمة العزيز أن قيض لها من المحن والبلايا ما يكون كالدواء الكريه لمن عرض له داء إن لم يتداركه طبيبه بإزالته وتنقيته من جسده، وإلا خيف عليه منه الفساد والهلاك. فكانت نعمته سبحانه وتعالى عليهم بهذه الكسرة والهزيمة وقتل من قتل منهم تعادل نعمته عليهم بنصرهم وتأييدهم وظفرهم على عدوهم، فله عليهم النعمة التامة في هذا وهذا. فهذا كلام مفيد عظيم الأهمية، فنعمة الهزيمة تساوي نعمة النصر والظفر، ولو تأملت أحوال الأمة في زماننا لقلت: لو تمكنوا ونصروا لوقع من الفساد أضعاف ما يقع، ولو فتح عليهم من الأرزاق والغنى والسعة والقوة والسلطان والظفر بالأعداء لظهرت نفوس لم تتهذب، ولم تتزك التزكية المطلوبة، ولخرجت أضغان الله أعلم بها، ولوقع من الفتن والفساد ما نحمد الله عز وجل على عدم حصول النصر والتمكين على تلك الهيئة، فله الحمد سبحانه وتعالى على البلية وله الحمد على النعمة؛ لأن هناك إصلاحات واجبة لم تتم، فإذا تمت في الطائفة المنصورة، لأن الأمم كلها لا تتغير، ولا الأرض كلها كذلك، فالصحابة الذين غير الله بهم وجه العالم معدودون، يقول تعالى عن نوح: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:40] ودائماً عبر العصور {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103]، لكن الطائفة هذه إذا تغيرت التغير المطلوب، فهي المؤهلة لأن تقود العالم بعد ذلك. يقول ابن القيم: ثم أخبر سبحانه وتعالى عن تولي من تولى من المؤمنين الصادقين في ذلك اليوم، فهم لم يكونوا منافقين، {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} [آل عمران:155]، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

أقسام الأعمال

أقسام الأعمال يقول ابن القيم: إنه بسبب كسبهم وذنوبهم استزلهم الشيطان حتى تولوا، واستزلهم أي: أوقعهم في الزلل والخطأ، فالأعمال جندك وجند عدوك. وأعمالك تنقسم إلى قسمين: قسم يعاون العدو، فيكون مدداً للعدو، فيستزلك ويوقعك في الزلل، وقسم يكون مدد لك حسب نوع العمل وحسب قوته وكثرثه؛ لأن المدد إما أن يكون فيه مقاتلون أقوياء، وإما أن يكون فيه مقاتلون ضعفاء، والناس تفرح بالمدد بالقائد الكبير والقوي والمقاتل الشديد، ولا تفرح كثيراً بالمدد الضعيف، فكذلك أعمال القلوب والأبدان والجوارح والأقوال، فكسب الإنسان عبارة عن جند له أو لعدوه. فالانتباه إلى هذا الأمر، ((إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا)) مهم.

من عقوبة المعصية المعصية بعدها

من عقوبة المعصية المعصية بعدها من عقوبة المعصية المعصية بعدها، لماذا نقع في المعاصي والمنكرات؟ لأننا وقعنا في منكرات قبلها ولم نتداركها بتوبة، ولم نسارع إلى الرجوع، فترتب على ذلك أن أوقعنا الشيطان فيما هو أخطر وأشد، ألا وهي الكبائر، فالفرار من الزحف كبيرة، ولكن برحمة الله عز وجل أنه بادر إلى ذكر العفو عنهم سبحانه وتعالى، ((إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ))، قال: ((وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ))، ولأن اليأس مدخل شيطاني خطير، فكان لابد من ذكر العفو حتى تعافى الطائفة المؤمنة من هذا المرض، ولو لم يذكر الله عز وجل العفو عنهم لأوشك أن يصيبهم اليأس، وهم الذين يعدون إلى المنازل العالية، فكان لابد من ذكر عفوه عز وجل. يقول ابن القيم: فاستزلهم الشيطان بتلك الأعمال حتى تولوا، فكانت أعمالهم جنداً عليهم، فازداد بها عدوهم قوة، فإن الأعمال جند للعبد وجند عليه ولابد فللعبد كل وقت سرية من نفسه تهزمه أو تنصره، فهو يمد عدوه بأعماله من حيث يظن أنه يقاتله بها. لذلك قال أبو الدرداء: إنما تقاتلون بأعمالكم. ودون الإمام البخاري في كتاب الجهاد في صحيحه: باب عمل صالح قبل القتال. فمن أين تأتي الهزائم؟ من الأعمال. يقول: فللعبد كل وقت سرية من نفسه تهزمه أو تنصره، فهو يمد عدوه بأعماله من حيث يظن أنه يقاتله بها، ويبعث إليه سرية تغزوه مع عدوه من حيث يظن أنه يغزو عدوه، فأعمال العبد تسوقه قسراً إلى مقتضاها من الخير والشر، والعبد لا يشعر أو يشعر ويتعامى، ففرار الإنسان من عدوه وهو يطيقه إنما هو بجند من عمله؛ لأن فراره منه وهو لا يطيقه غير مذموم، وإنما أذن الله في الفرار من أكثر من الضعف، ولم يأذن في الفرار من الضعف، ووعد إذا كانت الأعمال تامة بأن يغلبوا عشرة أضعافهم، ولذلك البشارة لم تنته في سورة الأنفال، بل هي باقية، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ * الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ} [الأنفال:65 - 66]، فالبشارة لم تلغ وإنما هي قائمة، ولكن التكليف هو الذي نسخ، وهو وجوب الثبات للتسعة أضعافهم، فيحرم أن يفر المسلمون من مثليهم، ويجوز أن يفروا من أكثر من ذلك، ولو قويت قلوبهم وأعمالهم لانتصروا على عشرة أضعافهم، وعلى أكثر من ذلك. Q ما معنى قوله: يشعر ويتعامى؟ A أي: يجعل نفسه كالأعمى فهو يعلم بأن أعماله هي التي تأتي له بهذه البلايا والمحن، ولكن يقول: أنا أعمل خيراً كثيراً، فلا يريد أن يصلح نفسه ولا حول ولا قوة إلا بالله، بل يتركها ولا يغير من طباعه، ولا يتحكم في شهواته، ولا يغير عاداته ويتحكم فيها، ولا انتبه لوسوسة الشيطان، وإن تذكر أمر الآخرة رأى نفسه من المقربين، وأنه ينافس المهاجرين والأنصار، وأن منزلته الفردوس الأعلى بغير حساب ولا عقاب!! اللهم اغفر لنا وتب علينا وارحمنا. قال ابن القيم: فأعمال العبد تسوقه قسراً إلى مقتضاها من الخير والشر، والعبد لا يشعر أو يشعر ويتعامى، ففرار الإنسان من عدوه وهو يطيقه -وهو قادر على أن يقف أمامه- إنما هو بجند من عمله، بعثه له الشيطان واستزله به. ثم أخبر سبحانه أنه عفا عنهم؛ لأن هذا الفرار لم يكن عن نفاق ولا شك، وإنما كان عارضاً عفا الله عنه، فعادت شجاعة الإيمان وثباته إلى مركزها ونصابها، وهذا من رحمة الله عز وجل، وهذا الذي لابد أن تستحضره في مثل هذه المقامات، مع صفات العفو والمغفرة والرحمة وسعة فضله عز وجل حتى تعظم الرغبة، وحتى لا يصل الشيطان بك إلى اليأس، فالحساب الشديد الذي يصل بالإنسان إلى اليأس ليس مأموراً به، بل إن الذي يغفل جانب العفو من الله عز وجل يضر بنفسه أعظم الضرر.

هزيمة المسلمين يوم أحد كانت بسبب ذنوبهم

هزيمة المسلمين يوم أحد كانت بسبب ذنوبهم يقول ابن القيم: ثم كرر عليهم سبحانه: أن هذا الذي أصابهم إنما أتوا فيه من قبل أنفسهم، وبسبب أعمالهم، فقال: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:165]، يقول: وذكر هذا بعينه فيما هو أعم من ذلك في السور المكية، أي: فيما هو أعم من الهزيمة، بل كل المصائب من مرض وفقر وشدة، وغيرها، قال ابن القيم: فقال: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]، وقال: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79] أي: أنها بسبب نفسك، ومن الله خلقاً وإيجاداً، {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء:78] أي: خلقاً وإيجاداً، ((مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ)) أي: تفضلاً منه عز وجل، ((وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ)) أي: بسبب كسبك، وبسبب عملك، وهو من الله الذي قدره وأوجده وخلقه، فهي من الله خلقاً وإيجاداً، ومن العبد تسبباً وكسباً. قال: فالحسنة والسيئة هاهنا: النعمة والمصيبة، فالنعمة من الله من بها عليك، والمصيبة إنما نشأت من قبل نفسك وعملك وإن كانت من الله خلقاً وإيجاداً، ولذلك لا يوجد تعارض بين ((َمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ))، والآية التي قبلها: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء:78]. يقول: فالأول: ((مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ)) فضله والثاني: {وََمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79] عدله، والعبد يتقلب بين فضله وعدله، جار عليه فضله، ماض فيه حكمه، عدل فيه قضاؤه، فختم الآية الأولى بقوله: ((إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) والآية هي: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:165] بعد قوله: ((قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ))، إعلاماً لهم بعموم قدرته مع عدله، وأنه عادل قادر، وفي ذلك إثبات القدر والسبب، وأن السبب الباطل من الأعمال، وهذا المشهد وهو شهود أن الله على كل شيء قدير، وشهود ((قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)) عظيم الأهمية في حياة المؤمن، فذكر السبب وأضافه إلى نفوسهم، وذكر عموم القدرة وأضافها إلى نفسه، فالأول وهو: ((قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)) ينفي الجبر، والثاني: وهو: ((إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) ينفي القول بإبطال القدر، فهو يشاكل قوله: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:28 - 29]، فذكر مشيئة العبد، وأثبت أنها تابعة لمشيئة الرب.

نكتة في قوله تعالى: (إن الله على كل شيء قدير)

نكتة في قوله تعالى: (إن الله على كل شيء قدير) يقول ابن القيم: وفي ذكر قدرته ههنا نكتة لطيفة، وهي: أن الأمر بيده وتحت قدرته، وأنه هو الذي لو شاء لصرفه عنكم، فلا تطلبوا كشف أمثاله من غيره، لما تنزل مصائب أخرى فاعلموا أن الله على كل شيء قدير، فتوبوا إلى الله مما هو من عند أنفسكم من الذنوب وتلجئوا إلى الله القدير على كل شيء. يقول: فلا تطلبوا كشف أمثاله من غيره، ولا تتكلوا على سواه، وكشف هذا المعنى وأوضحه كل الإيضاح بقوله: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران:166] وهو الإذن الكوني القدري لا الشرعي الديني، لأن الله عز وجل لم يأذن شرعاً أن يقتل المسلمون، فإن سفك دم امرئ مسلم عظيم عند الله عز وجل، فلا يقال: شرع الله للكفار قتل المسلمين؟! فهذا مستحيل، لكن بإذن قدري كوني قدر الله ذلك، كقوله في السحر: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:102]. ثم أخبر عن حكمة هذا التقدير، وهي: أن يعلم المؤمنين من المنافقين علم عيان ورؤية، فيتميز فيه أحد الفريقين من الآخر تمييزاً ظاهراً، وكان من حكمة هذا التقدير: تكلم المنافقين بما في نفوسهم، فسمعه المؤمنون وسمعوا رد الله عليهم وجوابه لهم، وعرفوا مؤدى النفاق، وما يؤول إليه، وكيف يحرم صاحبه سعادة الدنيا والآخرة، فيعود عليه بفساد الدنيا والآخرة، فلله كم من حكمة في ضمن هذه القصة بالغة، ونعمة على المؤمنين سابغة، وكم فيها من تحذير وتخويف، وإرشاد وتنبيه، وتعريف بأسباب الخير والشر وما لهما وعاقبتهما.

تعزية الله لنبيه وللمسلمين في شهداء أحد

تعزية الله لنبيه وللمسلمين في شهداء أحد ثم عزى الله نبيه صلى الله عليه وسلم وأولياءه فيمن قتل منهم في سبيله أحسن تعزية وألطفها وأدعاها إلى الرضا بما قضاه لهم فقال: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [آل عمران:169 - 170]، فجمع لهم إلى الحياة الدائمة منزلة القرب منه سبحانه، وأنهم عنده، وجريان الرزق المستمر عليهم، وفرحهم بما آتاهم من فضله، ((فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ))، وهو فوق الرضا، بل هو كمال الرضا، والفرح أكمل أحوال الرضا، أي: أن لحظة الفرح هذه أعظم سعادة من مجرد الرضا، والرضا أكمل درجات الصبر وأعلاها، فالصبر يجعل الإنسان في ألم ولكن في سكون، وبالرضا يزول الألم، والفرح سعادة ولذة، وهذا هو الذي حدث للشهداء، رغم أن الذي يبدو لنا تقطيع الأعضاء، وبقر البطون، وأكل الأكباد وغير ذلك مما يؤلم كل من ينظر إلى المقتول؛ لكنه إذا كان في سبيل الله فهو فرح ((فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ))، استبشارهم بإخوانهم الذين باجتماعهم بهم يتم سرورهم ونعيمهم، واستبشارهم بما يجدد لهم كل وقت من نعمته وكرامته، وذكرهم سبحانه في أثناء هذه المحنة بما هو من أعظم مننه ونعمه عليهم التي إن قابلوا بها كل محنة تنالهم وبلية، تلاشت في جنب هذه المنة والنعمة وهي الآية التي قبل هذه الآيات، وهي قوله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عمران:164] فالإنسان إذا أراد أن يخرج من ألم المصيبة فلينظر إلى النعمة، فإن المصائب قد تجعله في هم وغم وضيق، وكرب شديد، فكيف يزول عنه ذلك، وكيف يعالج نفسه من الغم والكرب؟ ينظر إلى نعم الله، وأعظمها نعمة الإسلام، فيرى أن كلما فقده من الدنيا لا يساوي شيئاً، فتزول وتضمحل، وتتلاشى آلام المحن في جنب هذه المنة والنعمة ولم يبق لها أثر البتة. يقول: وهي منته عليهم بإرسال رسول من أنفسهم إليهم، يتلو عليهم آياته، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة، وينقذهم من الضلال الذي كانوا فيه قبل إرساله صلى الله عليه وسلم إلى الهدى، ومن الشقاء إلى الفلاح، ومن الظلمة إلى النور، ومن الجهل إلى العلم، فكل بلية ومحنة تنال العبد بعد حصول هذا الخير العظيم له أمر يسير جداً في جنب الخير الكثير، كما ينال الناس بأذى المطر في جنب ما يحصل لهم به من الخير فالمطر يبل الثياب، لكن به حياة الناس ومعاشهم، فأعلمهم أن سبب المصيبة من عند أنفسهم ليحذروا، وأنها بقضائه وقدره ليوحدوا ويتوكلوا عليه ولا يخافوا غيره، وأخبرهم بما لهم فيها من الحكم؛ لئلا يتهموه في قضائه وقدره، وليتعرف إليهم بأنواع أسمائه وصفاته، وسلاهم -أي: جعلهم يسلون عن ألم المصيبة وينسونه- بما أعطاهم مما هو أجل قدراً، وأعظم خطراً مما فاتهم من النصر والغنيمة، وعزاهم عن قتلاهم بما نالوه من ثوابه وكرامته، لينافسوهم فيه، ولا يحزنوا عليهم، فله الحمد كما هو أهله وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله.

الأسئلة

الأسئلة

حكم دعاء المذاكرة

حكم دعاء المذاكرة Q ما حكم دعاء المذاكرة الذي ينتشر بين الناس؟ A دعاء المذاكرة كونه يسمى دعاء المذاكرة حتى صار عند بعضهم سنة، وهو ليس بسنة بل بدعة، لكن على الإنسان أن يدعو الله أن يعينه على ذكره وشكره وحسن عبادته، فالدعاء ينبغي أن يكون في الأمور الدنيوية بالعلم النافع، والاستعاذة من علم لا ينفع، فتسأل الله علماً نافعاً، وتسأل الله عز وجل فهماً وإعانة على ذكره وشكره وحسن عبادته، أما المذاكرة والدراسة فيمكن أن تكون خيراً للعبد ويمكن أن تكون شراً، لكن يأخذ بالأسباب ويجتهد ويسأل الله علماً نافعاً.

لسنا أنبياء فيستجاب لنا من أول مرة

لسنا أنبياء فيستجاب لنا من أول مرة Q هل يصح أن نقول: نحن لسنا أنبياء ولا مرسلين حتى يستجيب الله دعاءنا من أول مرة؟ A إن الرسل على مكانتهم لم يدعوا ربهم جل وعلا مرة واحدة فقط، فقد ظل الرسول صلى الله عليه وسلم ليلة كاملة في غزوة بدر يدعو، وظل طوال الليل في غزوة الأحزاب يدعو، واستنصر وهو في مكة ثلاثة عشر سنة، فقارن إذاً بين الأحوال الإيمانية للرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة -ثلاثة عشر سنة بمكة وعشر سنين في المدينة غيروا بها وجه العالم- وبين أحوالنا الإيمانية، يقول أحد الإخوة: لنا ما يزيد عن خمسين سنة ونحن ندعو الله أن ينصر المسلمين في فلسطين وغيرها، ومع ذلك لا يزداد الأمر إلا سوءاً؛ لماذا؟ لأن الأحوال مختلفة، وهل يعني ذلك أن الأمة كلها ليس فيها رجل أو امرأة صالحة؟ لا، فليست العبرة بالواحد، فماذا سيفعل الواحد لو انتصرت الأمة؟ ومن الذي سيتولى المسئولية؟ فحكمة الله تقتضي أن أمة من أجل رجل صالح أو عشرة أو مائة وليس فيها من يتحمل المسئولية بمقتضى الشرع، وإنما هم الفجرة والفسقة الذين يظهرون التزامهم، فتراهم يتولون المسئوليات ويتولون الأمانات ثم يضيعوها، ولن أبرئ الملتزمين، فأنا لا أتكلم عن غير الملتزمين وإنما أتكلم عن الملتزمين وسلوكياتهم وأعمالهم، فلو أن الدنيا التي سببت الفتن بينهم كانت أكبر مما بأيديهم ماذا كانوا سيعلمون؟ الله أعلم.

الواقع لا يتغير حتى يتميز المفسدون

الواقع لا يتغير حتى يتميز المفسدون Q هل الواقع السيء لن يتغير حتى يخرج المفسدون ويتميزون عن غيرهم من بقية الأمة، ولن يتغير من عند الله إلا بهذا السبب؟ A لابد أن يأتي من عند الله، لكن بأسباب الناس، فعلينا أن نأخذ بالأسباب.

حكم من قال: لابد أن يتغير المجتمع كله حتى يستجيب الله لنا

حكم من قال: لابد أن يتغير المجتمع كله حتى يستجيب الله لنا Q ما رأيكم بمن يقول: إننا وبرغم وجود الصالحين فينا فلن يستجيب الله لنا حتى يكون المجتمع كله بتمامه صغيره وكبيره مجتمع ملائكة؟ A من الذي قال: إن المجتمع كله يجب أن يكون مجتمع ملائكة؟! فمجتمع الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن كله مجتمع ملائكة، فالمجتمع المدني كان فيه منافقون مردوا على النفاق، وكان فيه رءوس النفاق، لكن أغلب الناس كانوا صالحين، وقد وجدت الطائفة المؤهلة للتغيير بعد التغير المطلوب، فرسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فينا ولا الصديق أبو بكر ولا الفاروق عمر فكيف المخرج إذاً؟ المخرج هو: أن يكون المجتمع في الطائفة الظاهرة المنصورة حتى يكون أصلح حالاً، لأن الطائفة المنصورة إذا صلحت، أو صلح أغلبها فإن الله سيضع الدنيا في أيديها، لكن الدنيا منزوعة من أيديها رحمة بها من الله عز وجل، وإلا فإن الأمة بكل ما فيها من الغثاء تمتلك من الدنيا الشيء الكثير، فلا يوجد نقود أكثر من نقود الأمة الإسلامية، وأسباب القوة موجودة لديها لكن لأن الأمانات وضعت في غير أهلها، فالطائفة الملتزمة هي الطائفة المنصورة التي عقيدتها وأعمالها وسلوكياتها إذا لم تكن صالحة الصلاح المطلوب فإنه لن يحدث تغيير ولابد من إعادة إصلاحها.

حكم من يعمل أعمال الجوارح ويشعر بالفتور في أعمال قلبه ولا يعلم السبب

حكم من يعمل أعمال الجوارح ويشعر بالفتور في أعمال قلبه ولا يعلم السبب Q أحياناً أتقرب إلى الله بأعمال القلوب والجوارح، وفي بعض الأحيان أشعر أني مستمر في أعمال الجوارح وأشعر بالفتور في أعمال القلب وأشعر بضعف الإيمان من غير أن أعلم السبب، فما هو السبب؟ A ابحث عن الخواطر والأحوال، وجاهد أن يكون القلب حاضراً حين تصلي وحين تقرأ القرآن وحين تقول الأذكار {وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف:205]. وأحوال القلب تتغير وتتقلب دائماً، وقلب الإنسان عموماً بين تقلب مستمر، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة) صلى الله عليه وسلم، فإذا كان هو صلى الله عليه وسلم يأتيه ذلك الغيم والفتور عن الذكر، فغيره بالقطع أولى وبدرجة أكبر.

حكم الاحتجاج بالقدر على المعاصي

حكم الاحتجاج بالقدر على المعاصي Q من المذنبين من يقول: إنه وقع في الذنب بقدر الله فهل هذا صحيح؟ A هذه كلمة حق من المذنبين غير التائبين يراد بها باطل، وذلك أن هذا قدر الله ولكن بسبب من؟ ((قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ))، فهذا بقدر الله، ولكن السبب من نفسك، لكن لا يكون حجة له على عدم التوبة، ولا يكون له حجة على الشرع.

حكم من يريد الزواج وهو مريض ولا يريد العلاج خشية انكشاف عورته

حكم من يريد الزواج وهو مريض ولا يريد العلاج خشية انكشاف عورته Q شاب في مقتبل العمر يفكر في الزواج، وهو مبتلى ببعض الأمراض ويحتاج إلى جراحة، ولا يريد أن تكشف عورته فما حكمه؟ A هذا الأمر مما أجازه الشرع، فقد أجاز كشف العورة للضرورة وللحاجة، وننصحه بإجراء الجراحة لعل ذلك يكون خيراً له، وخصوصاً أن المرض الذي ذكره ربما يكون فيه بعض المضار إذا لم يعالج، فأنصحه بالأخذ بالأسباب، والاجتهاد في ستر العورة ما أمكن.

حقيقة مثلث برمودا والأطباق الطائرة

حقيقة مثلث برمودا والأطباق الطائرة Q مثلث برمودا والأطباق الطائرة تحت ضوء الشمس، هل هذا مما شغلنا به العدو أم هو حقيقة فعلاً؟ A هذا علم لا ينفع وجهل لا يضر، أما أن المسيح الدجال يدير العالم من مثلث برمودا فمن سخافات الجهلة وأهل البدع والضلال، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أن المسيح الدجال مقيد في إحدى الجزر في البحار قبل الشرق وليس قبل الغرب، وهذه أخبار كلها تأتي من الكفار، ونحن ما سمعنا ذلك من المسلمين ولا رأيناها، ولكنها أخبار تذكر، فلا أثبت ولا أنفي. أما مسألة أن هناك مخلوقات تأتي من السماء فلا شك أن الكون مليء بالمخلوقات، لكن لا ينبغي الاهتمام ولا الانشغال بها، بأنه يوجد غزو من الفضاء يهدد الكرة الأرضية، فالكرة الأرضية يهددها أعمال بني آدم ومنكراتهم، فهي أعظم خطراً من أي كوكب فضائي، أما أن الكون مليء بالمخلوقات فقد قال الله تعالى: {وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل:8] فالله عز وجل على كل شيء قدير، ولكن يجب أن أنشغل بالأذكار فأقولها بلساني مع قلبي لا بلساني فقط حتى آخذ أجوراً عظيمة جداً فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير مائة مرة غفرت له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر، ولم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا رجل قال مثلما قال)، وإن كان تحريك اللسان بها من غير حضور القلب فإنه يؤجر، لكن الأجر الموعود به إنما هو لمن قالها باللسان والقلب معاً، غير أن من قالها باللسان حتى ولو كان مجرداً من حضور القلب فهذا أفضل من السكوت.

معنى قول الشنقيطي: إن آيات الصفات ليست من المتشابه

معنى قول الشنقيطي: إن آيات الصفات ليست من المتشابه Q ما معنى قول الشيخ الشنقيطي: إن آيات الصفات ليست من المتشابه؟ A يقصد أنها ليست من المتشابه المجهول المعنى بالكلية، وهذا الإطلاق نفسه غير صحيح، وأما كون آيات الصفات من الذي لا يعلم معناه بالكلية فقول خطأ، فإن آيات الصفات معلومة المعاني، فنحن نعلم معاني: العليم والخبير والقدير والحكيم والسميع والبصير بلا شك، ويعلمها أدنى طفل يعرف لغة العرب، ويدرك معاني الكلمات فضلاً عمن دونه، ويمكن ترجمتها باتفاق العقلاء إلى اللغات الأخرى، ولو كانت مجهولة المعاني لما أمكن ترجمتها. وأما أنها من المتشابه باعتبار آخر فهذا مما نص عليه ابن عباس رضي الله عنه، لكن قول الصحابة: إن آيات الصفات من المتشابهة ليس بمعنى ما ذهب إليه المتأخرون، من أنها مجهولة المعاني، وأن لها معاني مجهولة لا ندري عنها شيئاً، وأنها بمنزلة الكلام الأعجمي، فهذا كلام باطل، وهو كلام كثير من المتأخرين وليس هو المقصود، وإنما المقصود -بأن الصفات من المتشابه-: أنها تشتبه على أهل الزيغ والضلال، فيظنون بها غير الحق، ومعنى ثاني لقولهم: إنها مجهولة الكيفية، وهذا حق لا شك فيه؛ لأنها غيب، وذلك مثل: الوعد والوعيد من المتشابه، والجنة والنار من المتشابه، بمعنى أنا لا ندري كيفية ما في الجنة من أنواع النعيم، ولا ندري كيفية ما في النار من العذاب، وإنما نفهم معاني دون أن ندري حقيقية الكيفية، وكل أمور الغيب كذلك. فـ ابن عباس رضي الله عنه قال: ما بال هؤلاء يجدون رقة عند محكمه ويهلكون عند متشابهه؟!

حكم الأحاديث الموضوعة والإسرائيليات

حكم الأحاديث الموضوعة والإسرائيليات Q ما أصل الأحاديث الموضوعة التي يطلق عليها بالإسرائيليات؟ A السؤال من أصله خطأ، فالأحاديث الموضوعة ليست الإسرائيليات، فبعض الناس يظنون أن الإسرائيليين، أي: اليهود وضعوا في كتبنا أحاديث وهذا من الوهم، فالإسرائيليات هي أخبار بني إسرائيل، والأحاديث الموضوعة هي التي كذبها الكذابون ونسبوها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد بينها أهل العلم، وأخبار بني إسرائيل منها ما يصدق وهو ما يوافق الكتاب والسنة، ومنها ما يكذب وهو ما يخالف الكتاب والسنة، ومنها ما يتوقف عنه فلا نجزم بأنها صحيحة أو ضعيفة، وقد عرف بالنقل عن أهل الكتاب: كعب الأحبار وكان ممن أسلم من أهل الكتاب وكعب الأحبار رجل ثقة عالم، وإن كان ينقل أخبار أهل الكتاب، فلا يعني هذا أنه أدخلها بسوء نية، بل كعب الأحبار رجل علم. وكذلك وهب بن منبه وهو أحد الزهاد والفضلاء، وقد نقل عنهم أخباراً كثيرة، ولكن الأخبار التي رواها عنهم إنما هي من باب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج) أي: فيما لا يعرف كذبه، والإسرائيليات تحتاج إلى التنقيح؛ لأنه قد يغيب عن المسلم شيء من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، أو قد يغفل أن بعض هذه الأخبار مخالف للكتاب أو للسنة الصحيحة فلا ينتبه. فأخبار بني إسرائيل تعرض على الكتاب والسنة، فما وافقهما قبل، وما خالفهما رد، وما لا يوافق ولا يخالف نسكت عنه، وأما الأحاديث الموضوعة فمعلومة؛ لأن الكذابين والوضاعين معروفون، وهم الذين نسبوها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أما الإسرائيليات فلا تنسب للرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما تنسب إلى بني إسرائيل، إلى سيدنا موسى وسيدنا عيسى وغيرهم من الأنبياء فالإسرائيليات تروى عن كعب الأحبار وعن وهب بن منبه، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن عمرو بن العاص كان ينقل الإسرائيليات حيث أنه وجد زاملتين فيها كتب لأهل الكتاب فأخذ بكلام النبي صلى الله عليه وسلم: (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج)، وليست الإسرائيليات كلها سيئة، بل إن فيها أخباراً موافقة للكتاب والسنة، والكتب التي بين أيديهم الآن لو أن رجلاً قرأها لوجد فيها أموراً توافق ما عندنا نحن المسلمين، وهذا الأمر مما تصح روايته عنهم، فإذا قلنا: إن عبد الله بن عباس، يروي عن كعب فقد وجدت أخبار كثيرة جداً نجزم ونوقن أنها مأخوذة عن أهل الكتاب.

حكم من يستشهد بروايات من التاريخ ضعيفة لإثبات قصة التحكيم ومقتل الحسين وفساد الأمويين

حكم من يستشهد بروايات من التاريخ ضعيفة لإثبات قصة التحكيم ومقتل الحسين وفساد الأمويين Q يستشهد أعداء أهل السنة والجماعة بروايات من كتبنا مثل تاريخ الطبري وتاريخ الحافظ ابن عساكر والكامل لـ ابن الأثير، وكتاب بدائع الفوائد لـ ابن القيم لإثبات صحة ما هم عليه في قضية تحكيم معركة صفين وفساد دولة بني أمية، ورواية مقتل الحسين، فهل معاوية ويزيد من الحكام الظلمة؟ ولماذا يذكر علماؤنا تلك الروايات رغم ضعف سندها، الأمر الذي يجعل أعداء السنة يسيئون لأهل السنة؟ A أنت اعتمدت كتب التاريخ، وكما قال الإمام أحمد: ثلاث لا أصل لها: السير، والمغازي، والتفسير، فالسير والمغازي كثير منها بلا أسانيد فهي تروى للاستشهاد بها، وهناك أشياء شبه متواترة، فكون الحسين قتل، وكون يزيد هو الذي وجه الجيوش إليه، نحن لا نستطيع أن ننفي ذلك، لأنه أمر مقطوع به ولا يمكن إنكاره، وكونه وقع تحكيم في معركة صفين فهذا مما لا يمكن إنكاره، ولكن ما هي صفة التحكيم؟ الأخبار الواردة في هذا الأمر أكثرها بلا أسانيد، وما ثبت منها فالصحابة معذورون مجتهدون متأولون فيه، أو مجتهدون مصيبون لهم أجران، وكثير من الأخبار التي فيها طعن على الصحابة رضي الله عنهم لا تثبت، وقد ذكرها أصحابها وذكروا معها السند لكي به يعرف طلاب العلم ضعف أو صحة هذه الأخبار والآثار، فهم قد أدوا ما عليهم بذكر الأسانيد، فالأمر واسع أن يبحث فيه بعد عصرهم، وكما ذكرنا نحن لا نحتج كثيراً بذلك، وليس كلما ذكر في هذه الكتب صحيح، كالكتب المعتمدة فهل قبول الأمة للبخاري ومسلم مثل قبولها لتاريخ الحافظ ابن عساكر؟ لا، وهل قبول الأمة للترمذي وأبي داود والنسائي وابن ماجة في الجملة كقبولها لتاريخ ابن الأثير؟ قطعاً لا، فهم أتوا بها للدراسة، وهم حين أسندوها قد أدوا ما عليهم. وأما ما سألت من وجود تحكيم في معركة صفين فلا شك أنه وقع تحكيم، لكن أن عمرو بن العاص خدع أبا موسى الأشعري فهذا مما لا يجوز أن يقال، وعمرو بن العاص رضي الله عنه أجل من أن يكون طالب دنيا، بل هو اجتهد وأراد رد الأمر إلى أهله، وهذا هو الظاهر من أمر التحكيم، فقد رأوا فيه أن يرد أمر الخلافة إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلي رضي الله عنه رأى أن هذا أمر فيه نقض لبيعته من غير دليل ومن غير بينة، ومن غير سبب شرعي يقتضي نقض هذه البيعة التي ثبتت، وهذا هو الصحيح، فأمر التحكيم وقع ليس بالخداع، بل أحالوا الأمر لكبار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ والصحيح أنه كان لابد من إلزام الناس ببيعة علي رضي الله عنه، وكان هذا هو الواجب، فـ عمرو بن العاص لم يخدع أبا موسى ولم يأمره معاوية؛ لأن معاوية لم يطلب الإمارة أصلاً في حياة علي، وما طلب الخلافة إلا بعد موت علي، وهذا هو الصحيح. أما أنه وقع في دولة بني أمية فساد، وخصوصاً بعد عهد معاوية رضي الله تعالى عنه، فلا شك في ذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم قد سمى هذا ملكاً عاضاً، وحذر من رأس الستين صلى الله عليه وسلم، ولاشك أنه وقع فساد، وليست هذه الخلافة الراشدة، بل هو ملك، وأعدل الملوك هو معاوية؛ لأنه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز أبداً أن يطعن في معاوية، وله رضي الله عنه من الحسنات والفضائل على هذه الأمة ما لا يمكن إنكاره، وما ينجبر معه ما قد يكون وقع منه من اجتهاد أو تقصير أو حتى ذنوب، فهم ليسوا معصومين من الصغائر ولا من الكبائر، ولكن لـ معاوية رضي الله عنه ولـ عمرو بن العاص ولطائفة الصحابة رضي الله عنهم في الجملة؛ من الفضائل والدرجات والأعمال والجهاد في سبيل الله ونشر الإسلام وتعليم العلم ما يغمر مساويهم إذا كانت لهم مساوئ وثبتت، كيف وهي لم تثبت؟! كيف وما ثبت عنهم كان لهم فيه اجتهاد، فمنهم المجتهد المصيب، ومنهم المجتهد المخطئ المغفور له خطأه المثاب على اجتهاده، فلا يصح أن يذم معاوية رضي الله عنه. أما يزيد فلا شك في نقصه، ولا شك أنه أتى على أهل الإسلام بأشياء منكرة، وقد سأل الإمام أحمد رحمه الله ابنه: هل تحب يزيد بن معاوية؟ فقال: وهل يحب يزيد أحد يؤمن بالله واليوم الآخر وقد فعل بأهل المدينة ما فعل؟ فوقعة الحرة كانت وقعة عظيمة هائلة، وقد قتل فيها صحابة وتابعون وفضلاء، وهو أمر عظيم الخطر، قال عبد الله بن أحمد لأبيه: فهل تلعنه؟ فقال: وهل سمعت أباك يلعن أحداً؟! ونحن عندنا قضية الموازنة وهذا أمر مهم جداً، فقد كان يزيد قائد أول جيش غزا القسطنطينية، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أول جيش يغزو القسطنطينية مغفور له)، وكان هذا في حياة أبيه قبل أن يكون خليفة، فله الفضل في هذا الباب، لكن كونه قد أتى بمنكرات فلا شك في ذلك؛ وكونه ظلم فلا شك أنه قد ظلم، وأعظم ظلم هو قتل الحسين بن علي، ثم وقعة الحرة التي أوقعها بأهل المدينة وانتهك فيها الحرمات، وبعدها مات يزيد بن معاوية، ولكن لا ننسى أن له محاسن في الجهاد في سبيل الله عز وجل والله أعلى وأعلم. أما معاوية فالطعن فيه ظلم، ومسبته مسبة للصحابة فقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي).

حكم من يتعامل مع الجن ويستدل أن سليمان عليه السلام تعامل معهم

حكم من يتعامل مع الجن ويستدل أن سليمان عليه السلام تعامل معهم Q رجل يتعامل مع الجن وعندما تنصحه وتقول له: إن ما تفعله محرم شرعاً يقول: إن سيدنا سليمان كان يفعل ذلك؟ A هذا كذب، فسيدنا سليمان لم يكن يتعامل مع الجن بمعنى أنه يأخذ منهم ويعطي، بل كانوا مسخرين له، {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ} [ص:36 - 37]، فكانوا مسخرين له، وأنت تكذب إذا قلت أن الجن مسخرين لك، وأيضاً هذا مما اختص به سليمان، حيث قال: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص:35]، فلو قال: إنه يفعل مثل سليمان فهو مكذب للقرآن؛ لأن القرآن قد نص أن هذا ملك لا ينبغي لغير سليمان، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أمسك بالشيطان الذي أراد أن يقطع عليه صلاته، وقال: (ولقد هممت أن أربطه بسارية من سواري المسجد، فتذكرت دعوة أخي سليمان). فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يربطه حتى يلعب به الصبيان؛ وذلك لأجل دعوة سليمان، فإذا كان ذلك ليس للنبي عليه الصلاة والسلام فكيف يكون لك! وإن كان يتعامل مع الجن بالأخذ والعطاء فهذا هو الضلال المبين، والخطر الكبير، وهو عندما يستعين بهم فإنه يقدم لهم مقابل هذا من دينه وطاعته وتوحيده، فلابد أن يتوب إلى الله عز وجل، وهناك كتاب مبسط في ذلك وهو كتاب: (معارج القبول) وكذلك (فتح المجيد) ولا شك أن التعامل مع الجن بمعنى إخبارهم عن المغيبات والاستعانة بهم في قضاء الحاجات هو من أعظم أسباب الشرك والبغي، وننصح بقراءة تفسير ابن كثير، وخاصة آخر سورة الأحقاف، وفي سورة الجن قوله عز وجل: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن:6].

كيفية إخراج زكاة العروض لمحل أدوات كهربائية أو قطع غيار

كيفية إخراج زكاة العروض لمحل أدوات كهربائية أو قطع غيار Q كيف تخرج زكاة العروض لمحل أدوات كهربائية أو قطع غيار أجهزة كالثلاجات والغسالات؟ A يخرج 2. 5% من رأس ماله، وإن لم يتيسر له ذلك جاز على أصح الأقوال أن يخرج زكاة عروض التجارة من التجارة التي يبيعها بقيمتها، فيخرج أدوات كهربائية ويعطيها الفقير خصوصاً إذا كان لا يملك مالاً، والتجارة تبلغ النصاب والفقير يبيعها لمن شاء.

حكم من أعطى زكاة الغنم والإبل مذبوحة

حكم من أعطى زكاة الغنم والإبل مذبوحة Q زكاة الغنم والإبل هل تذبح للفقراء أم تعطى لهم من دون ذبح؟ A تعطى للفقير دون ذبح، فيأخذها الفقير حية.

حكم زكاة الدين

حكم زكاة الدين Q له ثلاث وصلات أمانة يستحقها على ثلاث سنوات هل يجب إخراج الزكاة عنها قبل أخذها أم بعد الأخذ؟ A بعد الأخذ يخرج لما مضى من السنوات، أو كلما أخذ وصلة أخرج زكاة ما مضى من السنوات، ولا يجب الآن وإنما يجب إذا قبضه. وإذا كان الذي عنده مال معسراً فإنه يبقى ينتظر إلى أن يقضي الله عز وجل عنه.

حكم زيارة المرأة لجارها المريض

حكم زيارة المرأة لجارها المريض Q هل يجوز للمرأة أن تزور جارها المريض مع زوجها؟ A نعم، يجوز ذلك إذا أمنت الفتنة؛ لأن عائشة زارت بلالاً رضي الله عنه، وزارت أبا بكر، فإذا أمنت الفتنة جاز أن تزوره، وعليها الحجاب الشرعي الساتر. وإذا زارته مع زوجها، وبلباسها الشرعي، وأمنت الفتنة فلا حرج عليها وهي مأجورة إن شاء الله. وقد بوب البخاري: عيادة النساء الرجال، قال: وعادت أم الدرداء رجلاً من أهل المسجد كما في كتاب الطب أو كتاب الأدب من صحيح البخاري. ويجوز لها أن تسلم عليه بدون مصافحة، فإن المصافحة بين الرجال والنساء الأجانب محرمة. ولقد زارت أم الدرداء رجلاً من أهل المسجد وزارت عائشة رضي الله عنها بلالاً، وزوجها النبي صلى الله عليه وسلم أغير الناس، والبخاري ذكر هذا في صحيحه، فلماذا يتحرج المسلم مما ورد في الصحيح؟ فنحن نقول: يجوز لكن بالضوابط الشرعية، حتى إذا لم يكن قد فرض الحجاب فإنه لم يرد المنع من الزيارة بعد فرضه، وإنما ورد المنع من التكشف.

كذبت قوم لوط بالنذر

كذبت قوم لوط بالنذر جاء قوم لوط بسنن لم يأت بها قوم أو مجتمع قبلهم، وارتكبوا فاحشة لم يسبقهم إليها أحد، وأصروا عليها، وحاولوا إخراج من دعا إلى نبذ هذه الفاحشة من القرية بتهمة التطهر. فكان جزاؤهم وخيماً وعاقبتهم مزرية، وذلك بأن جعل جبريل بإذن الله عالي القرية سافلها، وأمطر الله عليهم حجارة من سجيل.

انتفاء قبول الإيمان مع عدم الإيمان بالرسول

انتفاء قبول الإيمان مع عدم الإيمان بالرسول إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد: فإن الإيمان بالله عز وجل يستلزم الإيمان بأنبيائه ورسله أجمعين، ولقد جعل الله عز وجل الإيمان بهم شرطاً في قبول الإيمان بالله، فلا يكون مؤمناً بالله من كذب رسولاً من الرسل كما قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النساء:150 - 151]. والإيمان بالرسل يشمل تصديقهم ومحبتهم، والاقتداء بهم، ويشمل معرفة أن دينهم هو الإسلام الذي بعث به كل الأنبياء: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]. وقد ذكر الله عز وجل قصصهم وسيرهم وقال عز وجل مخاطباً لأمة الإسلام بعد ذكر أنبيائه ورسله: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92]. وهذا يستلزم معرفة طريقهم ومنهجهم في الدعوة إلى الله والصبر والاحتساب، والتربية الإيمانية.

النبي لوط ثمرة من ثمرات دعوة إبراهيم

النبي لوط ثمرة من ثمرات دعوة إبراهيم إبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء ربى الأمم من بعده رغم قلة من استجاب له، ومن الذين استجابوا له لوط عليه السلام، ولوط عليه السلام هو أحد ثمار التربية الإيمانية لإبراهيم صلى الله عليهم وعلى نبينا وسلم، وذلك أن الأمم وتاريخ الحياة على وجه الأرض لا تحدده الكثرة وإنما يبينه ويحدد معالمه عبر العصور الرجال الذين هم أمم كل واحد منهم أمة، فقد كان إبراهيم أمة كما قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:120]. والأمة الإمام الذي يقتدى به، ولذا قال ابن مسعود: إن معاذاً كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين، فقالوا: يا أبا عبد الرحمن إن إبراهيم كان أمة، ظن حاضروه ومجالسوه أنه أخطأ -وهذا بعد موت معاذ - فكرر: إن معاذاً كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين، فكرروا عليه فكرر، فقال: أتدرون من الأمة؟ إنه الإمام الذي يعلم الناس الخير، والقانت المطيع والحنيف لله عز وجل. فـ معاذ رضي الله تعالى عنه كان كذلك، فالرجال الأمم هم الذين تتغير بهم وجه الحياة. كان لوط عليه السلام رجلاً أمة، ومن أجله فقط دمر الله سبحانه وتعالى قومه الذين كذبوه، وفي قصته -وهي امتداد لقصة إبراهيم صلى الله عليه وآله وسلم- من العبر والعظات خصوصاً في هذا الزمان الذي امتلأ بالمنكرات الشبيهة بالتي كان يرتكبها قوم لوط، مما ينبغي أن ننتبه لها وأن نحذر على أنفسنا ونحذر أقوامنا من مشابهة هؤلاء القوم المجرمين، قال سبحانه وتعالى: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ * وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ * قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ * قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ * قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ * فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:77 - 83]. يخبر الله عز وجل عن الفرج الذي جاء للوط عليه السلام بعد المحنة الطويلة والغربة الشديدة التي عاناها من قومه حيث دعاهم إلى الله سبحانه وتعالى، فما نال منهم إلا الأذى والتكذيب والاستهزاء والسخرية والأمر بإخراجه هو وأهله؛ لأنهم أناس يتطهرون.

قوم لوط يأتون فاحشة لم تعرفها البشرية قبلهم

قوم لوط يأتون فاحشة لم تعرفها البشرية قبلهم كان هؤلاء القوم المجرمون كما وصف الله عز وجل يأتون الفاحشة التي ما سبقهم بها من أحد من العالمين، قال سبحانه وتعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ * قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ * قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ * رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ * فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ * ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ * وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:160 - 175]. بين عز وجل أنهم كانوا يأتون الذكران من العالمين، ويأتون هذه الفاحشة المعروفة بالشذوذ في زماننا، وهي بلا شك من أفظع الفواحش التي جعل النبي صلى الله عليه وسلم عقوبة من يرتكبها ومن تفعل به وهو راض: البتر النهائي من الحياة، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به) والعياذ بالله. وهذه الفاحشة لما استمرءوها نتيجة لانحراف أفكارهم وعقيدتهم، وجعلوها مقررة مباحة لديهم كما يحاول كثير من أبناء هذا الزمان ممن ينادي بالحرية والمساواة وغير ذلك من مبادئ الانحطاط التي يريدون تعميمها وهي باطلة قطعاً، ويريدون أن يجعلوها أمراً محللاً، بل قرروا زواج الذكران بعضهم من بعض، وربما كانت بعض كنائسهم ومعابدهم تقبل ذلك وتجعله حجة مقبولة لديهم، ففاقوا ما سبقهم الأولون إذ نسبوا هذه الجريمة إلى الشريعة وإلى الدين، وهذا لم يفعله قوم لوط، إنما فعلوا الفاحشة وما نسبوها إلى الدين وهؤلاء سموها زواجاً والعياذ بالله. وهذا الذي يريده الأعداء أن يُنشر في أرجاء المسلمين كما انتشر في أوساطهم، وأصبح الذين يفعلونه لهم حقوق مقبولة لديهم والعياذ بالله. ويصرح قادتهم ورؤسائهم أن غايتهم من حروبهم ومكرهم وتخطيطهم أن يصل الأمر في بلاد المسلمين إلى أن تكون هناك إباحية، وأن يكون كل من يريد أن يمارس الجنس سواء كان يمارسه مع الجنس الآخر أو مع نفس الجنس يتمكن من ذلك، وكُتب ذلك وقيل في خطاباتهم، نعوذ بالله من شرهم! وهذا كله من الحسد لأهل الإسلام.

ممارسة قوم لوط للكثير من الجرائم الموجبة لسخط الله

ممارسة قوم لوط للكثير من الجرائم الموجبة لسخط الله وكان من منكراتهم أيضاً ما ذكر الله عز وجل عنهم أنهم كانوا يأتون الفاحشة وهم يبصرون، وهذا منكر إضافي يفعله كثير من الناس في أرجاء الأرض اليوم أنهم يأتون الفاحشة أمام أعين بعضهم بعضاً، على الرغم من أن كثيراً من الحيوانات تستتر عند هذه الفعلة، وهؤلاء وصل انحطاطهم إلى أسوأ من كثير من البهائم، فصاروا يأتون الفاحشة أمام أعين بعضهم بعضاً كما يفعله المجرمون. بل في زماننا ما هو أشد إذ صار الناس يفعلون هذه الفواحش أمام العشرات كما هو المعهود في تلك اللقاءات وأمام الآلاف والملايين، حين نشروا هذه النجاسات على وسائل الإفساد في الأفلام وأنواع الأشرطة والصور والمجلات والقنوات الفضائية وغيرها مما ينشر هذه الفواحش أمام الملايين، ففاقوا قوم لوط فيما فعلوا وفيما اجترموا من الكفر والعياذ بالله. فصاروا يأتون الفاحشة عياناً أمام البشر، وتسجل هذه الجرائم حتى بعد موتهم، فلا تزال صور هؤلاء الكثيرين وأفلامهم بعد موتهم باقية ينشر بها الفساد، والعياذ بالله. وكذلك ذكر الله عز وجل عنهم أنهم يأتون في ناديهم المنكر، فكانوا في مجتمعاتهم وفي لقاءاتهم يأتون هذه الفواحش والعياذ بالله. وكذلك كانوا يأتون مقدمات الفواحش والفواحش نفسها في مجتمعاتهم ونواديهم، كما هو الحال في كثير من النوادي والمجتمعات التي يجتمع فيها الشبان والفتيات وإن كان الذكران من قوم لوط يفعلون الفاحشة بعضهم مع بعض إلا أن الفاحشة كلها محرمة، وكلها كبيرة من الكبائر، وفعلها في النوادي والمجتمعات علانية من أفظع المنكرات المستوجبة لعقاب الله للجميع. وذكر الله عز وجل أنهم كانوا يقطعون السبيل كما قال لوط عليه السلام: {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ} [العنكبوت:29]. فهم والعياذ بالله كانوا يقطعون السبيل، لأخذ الأموال أو لأخذ الفروج وانتهاك حرمات المارين من الأضياف وغيرهم، وهذا والعياذ بالله أيضاً من أشد أنواع قطع الطريق والمحاربة لله، والإفساد في الأرض، فالذي يختطف صبياً أو امرأة أو غير ذلك ليفعل به الفاحشة ويستعمل في ذلك السلاح ليس حده حد الزنا وإنما حده حد الحرابة والقتل قطعاً كما قال سبحانه وتعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} [الأحزاب:60 - 61]. فإذا كان هذا فيمن يراود الفتيات المسلمات عن أنفسهن فكيف بمن يغتصب النساء ويغتصب الصبيان ويفعل بهم الفواحش؟! وهذا والعياذ بالله أشد من الاعتداء على النفوس بالقتل عند كثير من الأطهار والعقلاء، ولا شك أنه أشد من أخذ الأموال، وهذا الأمر يحتم قتل من فعل هذه الفواحش بقطع الطريق واستعمال السلاح، وانتشار هذا في مجتمع من المجتمعات دليل على قرب هلاكه وخسرانه والعياذ بالله، ولا بد أن يتكاتف أفراد المجتمع كلهم من أجل منع هذه الفواحش وإغاثة من يتعرض لقطع الطريق. وكل هذه الفواحش كانوا يفعلونها بالإضافة إلى تركهم أزواجهم اللاتي أحلهن الله عز وجل لهم، فتركوا أزواجهم، وقد ذكر غير واحد من السلف: أنه اكتفى الرجال بالرجال والنساء بالنساء، وكانت النساء راضيات بهذه الفواحش لاستقرار مبدأ الحرية الفاجرة الإباحية التي لا تلتزم بشرع عندهم، ولذا هلكت النساء أيضاً رغم أنهن متروكات قال تعالى: {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} [الشعراء:166]. ومع ذلك أهلكن فيمن هلك ولم ينجُ إلا بنات لوط عليه السلام الطاهرات العفيفات، وذلك أن الرضا بالمنكر منكر، والرضا بالكفر كفر والعياذ بالله، والذي يرضى بالباطل مبطل وهو مثل الذي يفعله، فمن غاب عن المعصية ورضيها كان كمن حضرها، ومن حضرها فكرهها وأنكرها كان كمن غاب عنها، فالله سبحانه وتعالى جعل هؤلاء القوم عبرة للأمم عبر العصور، وجعل الله سبحانه وتعالى قصتهم فيها من العبر والعظات. كذلك رد شرع الله عز وجل كفر مستقل، ولم يذكر الله عز وجل عن قوم لوط في فعلهم السيئات عبادة الأوثان وإن كان يحتمل أن يكونوا يعبدون الأوثان، لكن الله عز وجل لم يذكر ذلك في موضع من مواضع ذكر القصة المتكرر في القرآن الكريم، وإنما ذكر تكذيبهم للوط عليه السلام وهذا قدح في الإيمان بالله كما ذكرنا، وإنما الذي دفعهم إلى التكذيب استمراؤهم لهذه الفاحشة الكبيرة، وأنهم تعودوا عليها، والإنسان لا يقوى أن يعيش دائماً على منكر يشتهيه ونفسه تحدثه بأنه يرتكب أكبر الكبائر؛ فإن هذا الصراع الداخلي دائماً يدفعه إلى أن يترك أحد الأمرين؛ إما أن يترك الفاحشة، وإما أن يترك الإيمان، وقليل من الناس من يحافظ على أصل إيمانه رغم وقوعه في الفواحش وهو مرتكب الكبائر، فالمعاصي بريد الكفر والعياذ بالله، وغالباً ما تؤدي إليه، وسوء الخاتمة متوقع لمن يحافظ على هذه الكبائر التي إن فعلها الإنسان ولم يستحلها ولم يرد شرع الله لم يكن خارجاً من الملة ولكنه على وشك الوقوع، ولذا كان هؤلاء القوم كذلك، وغالباً ما تجر هذه الفواحش وفعلها علانية إلى السخرية من شرع الله سبحانه الذي حرم هذه الأمور، ومن محاولة فرضها على الناس وإلزامهم بقبولها والرضا بها، وهذا واقع مشهود، فتجد أكثر من يرتكب هذه الفواحش من الزنا واللواط وغير ذلك دائماً يستهزئ بالأطهار ويسخر منهم كما قال قوم لوط في جوابهم للوط عليه السلام كما قال عز وجل: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل:56]، وهذه والعياذ بالله جريمة جديدة: وهي أن الطهارة أصبحت عندهم تهمة، وهذا حال كثير من الأمم والمجتمعات التي تجرم فعل طاعة الله، وتجرم العفاف والطهر والتستر، ويسنون ما يشاءون من قوانين باطلة يزعمون فيها تحريم ما أمر الله عز وجل به من التستر. إن الأرض لله قد كتب أنه يرثها عباده الصالحون، فالأرض لأهل الإيمان والصلاح والإسلام لهم أن يحلوا فيها حيث شاءوا ولا يمنعون من مكان؛ لأن الأرض لم يرثها الكفار من أحد وإنما الأرض لله، فكيف يمنع مسلم من أن يعبد الله عز وجل في جزء من أرض الله؟ وعبادة الله شاملة للعبادات والمعاملات، فهي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة، فهذا من أعظم الباطل، وهؤلاء القوم ينادون بالحرية المطلقة، وحرية الإنسان مع أخيه الإنسان ثابتة في حدود شرع الله عز وجل، ولكن إذا كانت حريته مع شرع الله بأن يفعل وأن يترك الشرع وأن يرده فهذا والعياذ بالله منهج قوم لوط وقوم شعيب الذين قالوا: {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود:87] يقولون ذلك استهزاء بشعيب، ويرون أن الأموال يفعلون فيها ما يشاءون، وقوم لوط يرون أنهم يفعلون في الفروج ما يشاءون، ويريدون إخراج من يأبى قبول باطلهم، فالقوم الذين في زماننا لهم سلف من هؤلاء المجرمين والعياذ بالله، ولذا عاقبتهم مثل عاقبتهم إن شاء الله، وإن كان قد يصير لهم الأمر سنوات كما قد مد لقوم لوط وهو سبحانه يستدرج المجرمين من حيث لا يعلمون، قال تعالى: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [القلم:44 - 45]. ثم تكون العاقبة بعد ذلك آية من آيات الله، وإن كان كثير من الناس يستعجل ويقول: قد طال المدى وكثر الكفر والفساد والفجور، والله سبحانه وتعالى قدر كلما اقتربت الساعة ازداد الفساد في الأرض، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

الفرج الإلهي يأتي بصورة ابتلاء

الفرج الإلهي يأتي بصورة ابتلاء قال الله سبحانه وتعالى مبيناً حال لوط عليه السلام حين جاءه الفرج وما جاءه إلا في صورة ابتلاء، وهذا وحده آية وعظة لأهل الإيمان: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ} [هود:77]، ما علم لوط أنهم رسل الله الذين أتوا لنصرته وقد كان يدعو الله: (رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ} [العنكبوت:30]. وكان يدعو الله زمناً طويلاً ويكرر الدعاء، وما علم أنهم الرسل الذين جاءوا لنصرته، وأنهم الملائكة الذين أرسلهم الله لإهلاك المجرمين الذين سخروا منه واستهزءوا به وعزموا على إخراجه وأهله بتهمة أنهم أناس يتطهرون. جاءت الرسل في صورة أضياف، وهكذا البلاء يبلغ مداه بالمؤمن في آخر اللحظات قبيل الفرج، وكلما ازدادت ظلمة الليل اقترب الفجر من الطلوع بإذن الله تبارك وتعالى. والله عز وجل يبتلي عباده المؤمنين ليستخرج منهم أنواع الطاعات، وأنواع العبودية، وهو سبحانه يكره مساءتهم ويقدر سبحانه وتعالى عليهم ذلك لما يترتب على هذا الذي يسوءهم من أنواع الخيرات والمحبوبات لله عز وجل من صبرهم ولجوئهم إلى الله، وتوكلهم عليه واحتسابهم أذى قومهم في سبيله سبحانه وتعالى، والاتعاظ بسيرتهم بعد ذلك، وغير ذلك من أنواع الحكم البديعة البالغة التي قدرها الله من وراء تقدير ما يسوء المؤمنين. قال تعالى: ((وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ)) رسول كريم من رسل الله يقدر الله عز وجل عليه أن يساء في آخر أيام الابتلاء، ((سِيءَ بِهِمْ)) أي: ساءه مقدم الأضياف، فقد أصروا على أن يضيفهم لوط، ولقد كان قومه قبل ذلك نهوه أن يضيف أحداً من العالمين كما قال عز وجل عنهم: {قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ} [الحجر:70]، قالوا: إن جاء أغراب فاتركهم لنا نضيفهم، وذلك أن الغريب عندهم له رغبة خاصة وميل أشد من الحاضر لديهم الذي يملوه دائماً؛ فإن صاحب الشهوة المحرمة يمل كل ما حوله دائماً ويريد الانتقال والتحول، فلذلك نهوه عن أن يضيف أحداً من العالمين، وأصر هؤلاء الأضياف على أن يضيفهم لوط، وشهد عليهم مرات أنه لا يعلم أخبث من هؤلاء، ومع ذلك فلا بد من أن يضيف هؤلاء وليس عنده قوة ولا عشيرة تمنع هؤلاء وتصد عنهم أذى المؤذين، ولكنه يقبل ويحتاط ويجتهد أن يدخلوا سراً بحيث لا يعلمون حتى لا يصيبهم أذى، والأضياف سائرون معه وهم رسل الله الكرام الذين في قوتهم أن يفتكوا بهؤلاء المجرمين في لحظة وبصيحة كما قد فعلوا بأمر الله عز وجل، ولكن انظر إلى البلاء الذي حل على لوط في آخر أيام دعوته إلى الله عز وجل.

شدة بلاء الأنبياء

شدة بلاء الأنبياء قال عز وجل: ((وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا)) ضاق صدره عن تحمل ذلك، ((وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ))، ثلاث جمل كل منها تبين الحالة التي كان عليها رسول الله لوط عليه السلام، وإذا أصابك ما يسوءك من إجرام المجرمين وظلم الظالمين فتذكر حال أنبياء الله عز وجل، وإذا ضاق صدرك بما يقع من الفساد في الأرض والظلم والعدوان والكفر والشرك فتذكر أيضاً حال الأنبياء، وافعل ما أمر الله به نبيه صلى الله عليه وسلم وهو خيرة الله من خلقه محمد عليه الصلاة والسلام، فلقد كان يضيق صدره أحياناً كما قال: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:97 - 99]. فكثرة التسبيح وكثرة السجود وعبادة الله بما تقدر عليه حتى يأتيك الموت هو الذي يجب أن تفعله عندما يضيق الصدر، والله عز وجل قد بين من حال نبيه عليه الصلاة والسلام أنه وصل به الحال أنه باخع نفسه أي: يكاد أن يهلك نفسه صلى الله عليه وسلم. فانظر إلى الحال الشديد واليوم العصيب الذي مر به الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فإذا كان الأمر كذلك هان عليك ما ترى وما تجد واتسع صدرك بعد الضيق، والله سبحانه وتعالى أمر بالصبر والاحتساب كما قال عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ * وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:125 - 128]. فبالتقوى والإحسان يكون الله عز وجل مع الطائفة المؤمنة المتقية المحسنة وينصرها، فيزول الضيق بعد حصوله، وإنما قدر الله ما يسوء الأنبياء والمؤمنين ليكونوا أسوة صالحة، فهذه حكمته؛ ولأن هناك أنواعاً من العبودية لا تحصل إلا بوجود الضيق. ((وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ)) أي: يسرعون، وهو مبني للمجهول فكأنهم يُدفعون دفعاً، وذلك أن المرأة خائنة العقيدة امرأة لوط العجوز التي تقدم علاقات قومها على الدين وعلى الحق، وعلى علاقتها بزوجها، وعلى العفة والطهارة التي يريدها زوجها للمجتمع كله؛ قدمت علاقاتها القومية مع قومها ورضيت بفعلهم، وكان ذلك من آيات الله فيما يتعلق بقضية الولاء والبراء إذ إنها تبرأت من زوجها ووالت قومها فانعدمت العلاقة الزوجية التي بينها وبين زوجها في الأثر، ولم تنج وإنما أصابها ما أصاب قومها، فقد صعدت فوق سطح المنزل وأشارت إلى قومها بالحضور مسرعين، ونادتهم: أنه قد جاء لوطاً عليه السلام أضياف ما رأت أحسن منهم صورة. دافع لوط عليه السلام عن الأضياف وحاول أن يردهم، وعرض عليهم بناته للزواج، وهذا أصح الأقوال، وبنات لوط عليه السلام هن بناته ولسن بكافرات، ((قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ)) أي: من رغبة، ((وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ)) ما نريد إلا الرجال. فلما وقفوا ببابه وهو يدافعهم ويحاول ردهم وهم يحاولون الدخول عنوة على الأضياف لانتهاك حرماتهم فيما يظنون وما يتوهمون لما هم فيه من السكرة، قال عز وجل لنبيه عليه الصلاة والسلام مخبراً عن حال قوم لوط: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر:72] أقسم الله عز وجل بحياة النبي صلى الله عليه وسلم، والله يقسم بما شاء من خلقه؛ لأنه سبحانه وتعالى جعل في خلقه آيات قدرته وعزته، فأقسم بحياة النبي صلى الله عليه وسلم وبقائه على أن قوم لوط في سكرتهم يضلون ويتحيرون ويترددون، إنه سكر الشهوة والمعصية التي تعمي القلب وتغلقه والعياذ بالله، وتجعله لا يرى. على الرغم أن هلاكهم بعد ساعات ولكنهم لا يريدون إلا الشهوة المحرمة، وهذه طبيعة الشهوة تجعل الإنسان يلهث وراءها إلى آخر عمره. قال عز وجل عن لوط عليه السلام: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود:80]، استحضر لوط عليه السلام ضعفه وأنه ليس له عشيرة إنما أتى مع إبراهيم مهاجراً إلى هذه القرية، وتزوج منهم ولم يكن له منهم عشيرة، ولم يكن له منهم أقارب ينصرونه؛ وقد عوتب على استحضار هذا المعنى في تلك اللحظة، وذلك أنه كان ينبغي أن يستحضر إيواؤه إلى الله عز وجل الذي هو أعظم وأقوى وأكبر من كل شيء سبحانه وتعالى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رحم الله أخي لوطاً لقد كان يأوي إلى ركن شديد). يعني الله عز وجل، فعندها كشف الأضياف حقيقتهم فقالوا: ((يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ))، المنازل الأعلى في كمال التوكل كحال النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة في الغار حين قال له صاحبه أبو بكر: (يا رسول الله! لو أن أحدهم نظر إلى موضع قدمه لأبصرنا، فقال: يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما، لا تحزن إن الله معنا). وحال إبراهيم عليه السلام وهو يلقى في النار حيث يقول: حسبنا الله ونعم الوكيل. وحال موسى حين قال له قومه وأصحابه: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61]، قال: {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62].

بيان العقوبة التي حلت بقوم لوط

بيان العقوبة التي حلت بقوم لوط بين الله عز وجل حال لوط عليه السلام عندما ضاق به الحال إلى تلك اللحظة في موضع آخر فقال: {فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ} [القمر:37] خرج عليهم جبريل عليه السلام فضرب وجوههم بجناحه فطمست الأعين وطمست الوجوه، أصبحت بلا أعين ولا أفواه، خرجوا على تلك الحال يتوعدون لوطاً في الغد، يا سبحان الله، على ما هم عليه من العتو والإجرام. قال عز وجل: ((قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ)) بإيذاء أو بغير ذلك: ((فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ)) أي: سر بالمؤمنين والمؤمنات من بناتك ليلاً، ((وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ)) أي: لا تنظرون إلى ما يقع ويجري، دعوهم لله لينتقم منهم، ((إِلَّا امْرَأَتَكَ)) أي: هذه لا تخرج ولا تسري بها، ((إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ)) وذلك دليل على أنها لم تخرج معهم ابتداء، لرضاها بفعلهم وإقرارها بمنكرهم، وكل من رضي بالمنكر ورآه حقاً لمن يفعله فهو مثل فاعله والعياذ بالله. قال عز وجل: ((إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ)) وهذا على لسان الملائكة يبشرونه بقرب هلاكهم، ((أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ))، وهذه هي الساعات الأخيرة في حياة قوم لوط، فخرج لوط في آخر الليل وانطلق ولم يلتفت ولم تخرج امرأته؛ لأنها كانت من قومه. قال عز وجل: ((فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا)) [هود:82] يقال: رفعهم جبريل عليه السلام بطرف جناحه حتى سمع أهل السماء الدنيا نباح كلابهم وصياح ديوكهم ثم أهوى بهم إلى الأرض، قال عز وجل: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى * فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى} [النجم:53 - 54]، جعل الله أعلى القرية سافلها، وهوت من السماء إلى الأرض، ثم أتبع ذلك أن أرسل الله عليهم حجارة من سجيل معدة عنده في السماء عز وجل مسومة معلمة، كل رجل وامرأة منهم له حجر معلوم يصيبه لا يخطئه. {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83]: وذلك أن السماء من الشهب وأنواع الحصى وأنواع الحجارة التي تدور في أفلاكها لو أصابت الأرض لأحرقتها بالكلية، فكيف بقرية صغيرة؟ وكيف بذرة في ملك الله؟ والله عز وجل يخبر أن هذه الحجارة ما هي من الظالمين ببعيد، وذلك دليل على أن هذا يمكن أن يقع في الأمم بعد ذلك، وهو حاصل قبيل القيامة فسيكون مسخ وقذف وخسف في هذه الأمة، وفي الذين يفعلون الفواحش ويتخذون المغنيات، ودائماً ما تقترن الفواحش بالغناء والموسيقى. وأخبر الله عز وجل أنهم أخذتهم صيحة كذلك أهلكتهم بأنواع العقوبة كلها جزاء بما صنعوا، نسأل الله عز وجل أن يعافينا من كل سوء وشر. اللهم! أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين. اللهم! من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين! ربنا! ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين. اللهم! نجِ المستضعفين من المسلمين في كل مكان. اللهم! انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان. اللهم! انصر الدعاة إليك في كل مكان. اللهم! اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا. اللهم! متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا. اللهم! إنا نسألك الخير كله، عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله، عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم. اللهم! إنا نسألك من خير ما سألك عبدك ونبيك محمد صلى الله عليه وسلم، ونعوذ بك من شر ما استعاذك منه عبدك ونبيك محمد صلى الله عليه وسلم. اللهم! إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل. أقولي قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

كلمة حول الأحداث الأخيرة

كلمة حول الأحداث الأخيرة إن القوة والضعف، والإعزاز والإذلال، والرفع والخفض لمن الأسباب التي يبتلي الله بها عباده في هذه الحياة؛ لينظر من هو الصادق الذي يقف إلى جانب الحق وإن كان أصحاب الحق ضعفاء، ومن هو الكذاب الذي لا يقف مع الحق إلا إذا كان أهل الحق أقوياء، فإذا مروا بمرحلة الضعف ترك الحق وهرول إلى الباطل، فهو مع القوي وليس مع الحق. وقلما أفلح رجل بنى مواقفه على موازين البشر وترك موازين رب البشر سبحانه وتعالى، وكم من أناس ظنوا أن أمة الإسلام قد ماتت فوقفوا في صف عدوها ليأخذوا من الغنيمة، فإذا بها تنتفض حيةً قوية تعصف بهم أجمعين، فأمة الإسلام قد تمرض لكنها لا تموت.

الابتلاء يكون بالقوة والضعف

الابتلاء يكون بالقوة والضعف إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فاعلموا عباد الله! أنه لا قوة إلا بالله، وأنه سبحانه وتعالى هو القوي العزيز المتين، فهذه صفته سبحانه وتعالى، وقد جعل من دونه من الخلق يتقلبون بين القوة والضعف، والعدم والوجود، والموت والحياة، والإعزاز والإذلال، والرفع والخفض، فهو سبحانه وتعالى المعز المذل الخافض الرافع مالك الملك، كما قال عز وجل: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:26 - 27]. فالله سبحانه وتعالى خلق الناس {مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم:54]، فلا تحول من حال إلى حال إلا به سبحانه وتعالى، ولا قوة للعباد إلا به سبحانه وتعالى، وليس بأيديهم من أسباب القوة والقدرة إلا ما أعطاهم الله سبحانه وتعالى، وما أعطاهم الله إلا من أجل أن يبتليهم، وأول أسباب القوة الحياة، وأوضح أسباب الضعف الموت، وهو عز وجل بيده الموت والحياة {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:1 - 2]. فالله عز وجل فاوت بين العباد قوة وضعفاً، وحياة وموتاً، وفاوت بين الأمم قوة وضعفاً، وإعزازاً وإذلالاً؛ يبتلي عباده بذلك أيهم أحسن عملاً؟ وهو سبحانه وتعالى الذي امتحن بعضهم ببعض {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان:20]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: (قال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك)، فالله يبتليه ويبتلي من اتبعه، ويبتلي به الناس حتى يكونوا بين متابع مؤمن مصدق، وبين مخالف كافر مكذب والعياذ بالله. فالله سبحانه وتعالى جعل أسباب القوة والضعف، وأسباب الإعزاز والإذلال امتحاناً للعباد؛ لينظر كيف يعملون حين تأتي المواقف المختلفة، فتتفاوت قواهم بين تمكين واستضعاف، وتختلف ظروفهم وأحوالهم ليعلم من يطيعه عز وجل على كل حال، فيبني مواقفه من خلال كتاب ربه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ومن يبنيها على مصالح يتوهمها، أو موازين قوى يتخيلها -أو هي فيما يبدو للناس- فيظن أن الأمور بأيديهم، فيبني على ذلك مواقفه، ويتخذ بناء على ذلك تبعيته وولاءه، ولم يدر أنه حين يقدم المصالح الموهومة والقوى المتخيلة على ما أمر الله عز وجل به فإنه خاسر في الاختبار، وفاشل في الامتحان، لقد خسر حين اختار الحزب الخاسر فوالاه، وترك الحزب الغالب فعاداه؛ لأنه لم يكن منتصراً في نظره.

موالاة المنافقين للكافرين في كل زمان

موالاة المنافقين للكافرين في كل زمان إن مواقف أهل الإيمان دائماً نابعة من كتاب الله ومن سنة رسوله الله صلى الله عليه وسلم، وقضية الولاء والتبعية عندهم محسومة لصالح الالتزام بالدين، فلا بد أن يكون الولاء لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، كما قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة:51 - 52]، إنه منطق يتكرر في أزمنة وأمكنة مختلفة، إنه منطق أهل الشك والريب والنفاق الذين في قلوبهم مرض الذين يسارعون في موالاة الكفرة رغم ظلمهم وبغيهم واعتدائهم وطغيانهم، فلا يقيمون للحق وزناً، ولا يبنون أمرهم على دليل ولا حجة ولا برهان، وإنما العدل عندهم وفي مقياسهم هو القوة، وليس هو ما شرعه الله سبحانه وتعالى، وهذا من أعظم الظلم وأكبره وأشده، إذ أن ذلك اعتراض على شرع الله سبحانه وتعالى أن ينسب الإنسان فعله إلى العدل دون رجوع إلى شرع الله، ومن يوافقه على ذلك فهو مثله، كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ولا ريب أن من رأى أن يحكم بين الناس بما يراه هو عدلاً دون رجوع إلى شرع الله أنه بذلك يكون كافراً والعياذ بالله. فالعدل هو شرع الله سبحانه وتعالى، وهو الذي يجب أن يحاكم الناس إليه ويتبع، وأن يلزم الجميع به، سواء كانوا مؤمنين أو كانوا كافرين، فالكل يجب أن يلتزم بشرع الله سبحانه وتعالى، فالمنافقون يعلمون ظلم هؤلاء الذين حذر الله من مولاتهم من اليهود والنصارى ومع ذلك يتولونهم، فحكم الله أنهم ظالمين مثلهم: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51]. فيسارعون فيهم خشية الدوائر كما يزعمون، وغاب عنهم أن القوة والضعف إنما هي ابتلاء من الله عز وجل، وأن القلة والكثرة والتمكين والاستضعاف إنما هي مراحل تمر بها الأمم كما يمر بها الإنسان، فإنه يولد عاجزاً ضعيفاً فقيراً عارياً، ويموت كذلك، ويمر فيما بين هذين الضعفين بقوة وقتية يختبر فيها كيف يعمل، فكذلك الأمم والشعوب تختبر. فقد قدر الله سبحانه وتعالى على كل الأمم أن تهلك وتبيد إلا هذه الأمة فقد اختصها الله سبحانه وتعالى بفضيلة من عنده وهي أنها لا تموت، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم حتى تقوم الساعة)، وأعطى الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم (ألا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، ويأخذ ما بأيديهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها، حتى يسبي بعضهم بعضاً، ويقتل بعضهم بعضاً)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال عصابة من أمتي تقاتل عن هذا الدين حتى تقوم الساعة). وفي رواية في الصحيح: (حتى يقاتل آخرهم الدجال)، وفي رواية: (حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك). والمقصود بأمر الله سبحانه وتعالى الريح الطيبة التي تقبض روح كل مؤمن في قلبه مثقال ذرة من إيمان، ولو كان في جوف جبل لدخلت عليه هذه الريح فقبضت روحه، فلا يبقى في الأرض من يقول: الله الله، وقبل هذه الأشراط الكبرى لا ينعدم الحق من هذه الأمة بفضل الله سبحانه وتعالى، فالله سبحانه وتعالى جعل القوة والضعف ابتلاء وامتحاناً للعباد ولكن المنافقين لم يفقهوا ذلك، فسارعوا في مولاة اليهود والنصارى {يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} [المائدة:52]، فيخشون أن تصيبهم هزيمة فيعدون العدة بالتبعية والموالاة والمناصرة لأهل الكفر والطغيان والظلم والعدوان، قال عز وجل مبشراً عباده المؤمنين ومتوعداً هؤلاء الكفرة والمنافقين: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ} [المائدة:52]، و (عسى) من الله عز وجل واجبة، فبقدر تمسك أهل الإيمان بإيمانهم، والتزامهم بكتاب ربهم، وبناء مواقفهم على سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم يأتي الفتح من الله: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} [المائدة:52]، وأبهم هذا الأمر الذي من عنده؛ لكي لا يقف فكر المسلمين المؤمنين عند حد، فإن قدرة الله عز وجل لا تحد، فيفعل عز وجل ما يشاء، ويغير الأمور في لحظة واحدة: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ * وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ * وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ * إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:50 - 55]. فالملك والقدرة له سبحانه وتعالى: {لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التغابن:1] وقال عز وجل: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ} [المائدة:52 - 53]، فيتعجب أهل الإيمان ممن ينتسب إلى الإسلام ويزعم أنه مع أهل الإسلام ضد عدوهم، ثم هو يوالي الكفرة ويعاونهم ويظاهرهم -والعياذ بالله- فيكون منهم، وذلك ينافي معيته للمؤمنين. فيتعجب أهل الإيمان لتناقض أهل النفاق؛ لأن من كان موالياً للمؤمنين ناصراً للدين لا يمكن بحال من الأحوال أن يقدم آباءً أو أبناءً أو إخواناً أو عشيرة أو أزواجاً أو مساكن ترضى أو أموالاً تقترف أو تجارة يخشى كسادها، أو غير ذلك من المصالح الموهومة -التي هي في الحقيقة مضار إذا قدمت على دين الله- على حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والجهاد في سبيله، قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:23 - 24]. إذاً: تربصوا وسوف يأتي أمر الله النافذ الذي لا مرد له، والله يحكم لا معقب لحكمه، وهذا تبشير لأهل الإيمان، ووعيد لأهل الكفر والنفاق والظلم والعدوان، وانتظروا {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24].

الاجتماع بين الإيمان وموالاة الكافرين غير ممكن

الاجتماع بين الإيمان وموالاة الكافرين غير ممكن تتناقض دعوى الإيمان مع موالاة الكافرين ومظاهرتهم ومناصرتهم، بل هي موجبة -والعياذ بالله- لحبوط العمل، مستوجبة للخسران، مؤدية إلى الردة إن لم تكن هي في ذاتها ردة، قال عز وجل: (حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:53 - 56]. لقد عقب الله سبحانه وتعالى بالتحذير من الردة بعد ذكر مولاة اليهود والنصارى؛ ذلك لأن مولاتهم إما أن تكون ردة، وإما أن تؤدي إليها، وإما أن تكون من أسبابها، فإما أن تكون من الكفر الأصغر والشرك الأصغر الذي يؤدي سريعاً إلى الأكبر والعياذ بالله، وذلك بحسب نوع تلك الموالاة، فمن كان موالياً لهم بحبهم، والرغبة في انتصار باطلهم وشركهم وضلالهم، وحب ظهورهم على أهل الإسلام فإن ذلك مستوجب للكفر، بل لا يمكن أن يصدر من مؤمن أصلاً، فكيف يكون مؤمناً وهو يحب أن يظهر الكفر على الإسلام، وأن يظهر الكفار على المسلمين؟ بل إن كراهية الجهاد في سبيل الله من أوضح علامات النفاق، كما أن حب الجهاد من أوضح علامات الإيمان؛ لأن الله أوجب حبه وحب رسوله وحب الجهاد في سبيله. وأما من يكره وجوب الجهاد في سبيل الله فإنه من المنافقين كما حكم القرآن عليه، قال تعالى: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:81]، فالمحبة عملٌ قلبي لا يتصور زواله من القلب إلا بزوال الإيمان، فقد يعجز الإنسان أن يكون مجاهداً بنفسه أو ماله ولكنه لا يعجز أن يكون ناصراً للدين بهمته، محباً لظهور الحق، وأما أن يوجد العكس فليس هذا دليل إلا على وجود الكفر المحض والنفاق الأكبر في القلب والعياذ بالله. وقد عجز أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النفقة ولم يجدوا ما ينفقون، لكن كيف كان حالهم؟ قال عز وجل: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} [التوبة:91 - 92]. وأما من يرى البعد عن نصرة الدين غنيمة، فهؤلاء الذين وصف الله بقوله: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا * وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} [النساء:72 - 73]، فالله سبحانه وتعالى جلى لنا أحوال المنافقين لكيلا يلتبس الأمر علينا، ولكيلا يشتبه إيمان بكفر بعد بيان القرآن الذي هو أوضح بيان. وكذلك إذا كانت موالاة الكفار بالإضافة إلى محبتهم أو بدونها بنصرة الكفار على المسلمين، والمقاتلة معهم ضد أهل الإسلام، فإن ذلك موجب للردة وحبوط الأعمال بالكلية، كما قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:97]. وقد نزلت هذه الآيات في أناس من أهل مكة كانوا يحبون الإسلام ولكنهم في غزوة بدر خرجوا مع آبائهم كارهين للخروج وليسوا مكرهين؛ لأنه لا إكراه في القتل، فلا يجوز لمسلم أن يكره على قتل مسلم ولا على انتهاك حرمته، قال القرطبي رحمه الله: أجمع العلماء على أنه لا يصح الإكراه على قتل معصوم، ولا انتهاك حرمته بجلد أو غيره، وأعظم المعصومين حرمة أهل الإسلام، فلا يجوز لمسلم أن يقول: أنا مكره على قتل أخيه أو قتال المسلمين، بل هو مأمور في قتال الفتنة بين المسلمين بأن يدق سيفه، ويكسر درعه، ولا يقاتل ويلزم بيته، فلو دخل عليه أحد بيته وهو في حال الاعتزال فليكن عبد الله المقتول ولا يكن عبد الله القاتل، ويلقي على رأسه ووجهه ثوباً لئلا يخيفه بريق السيف، ويقول كما قال خير ابني آدم: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} [المائدة:29]. فإذا كان هذا في مسلم يريد أن يشاركه في قتال فيه شبهة مع المسلمين، فكيف إذا كان مأموراً بقتال المسلمين لإسلامهم تحت راية كفر معلنة بالكفر، فيظهرون ما كانت تخفي قلوبهم، ويعلنون صراحة كفرهم وحربهم ضد الإسلام، وأنهم يريدون حملات صليبية متتابعة لتجتث هذه الحضارة الإسلامية بزعمهم، ويأبى الله ذلك، فقد أخبرنا بإرادتهم، وبنهاية أمرهم وأمرنا معهم، فقال عز وجل: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:30 - 33]. فلذلك كان من يقاتل مع الكفار ضد أهل الإسلام والعياذ بالله لا يقبل عذره بالإكراه أو أنه عبد مأمور أو أنه كاره لقتال المسلمين، ولقد نزلت الآيات {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ} [النساء:97]، في شبان من أهل مكة خرجوا مع أعدائهم كارهين لا يريدون قتال النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين معه، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلهم لمن كان يعلمهم؛ لأنهم ليسوا المقصودين في الحقيقة، ولكن كان يضرب أحدهم بالسيف فيقتل، فقد كان كثير من الأنصار أو أكثرهم لا يدري من هؤلاء إنما يسمع أسماءاً ولا يعرف أشخاصاً، وكذلك كان يأتي السهم فيقتل أحدهم، وربما رمي برمح فقتل، فقال بعض المسلمين: استغفروا لإخوانكم فإنهم كانوا كارهين، فأنزل الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:97]. فحكم الله عليهم بجهنم والعياذ بالله، وعاملهم النبي صلى الله عليه وسلم معاملة الكفار في أحكام الدنيا، فألقاهم مع من قتل من المشركين في قليب بدر، ولم يصل على واحد منهم ولم يستغفر له، ولا دفنه مع شهداء المسلمين، بل دفنه مع الكفار، وخاطب الجميع بقوله: (هل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً)، ومن أسر من هؤلاء كـ العباس أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يفدي نفسه وابن أخيه عقيل بن أبي طالب، واستحل منهم هذا المال، ولم يكن خروجهم برضى منهم، ولكنهم كما روي قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا عباس! إنكم خاصمتم فخصمتم، افد نفسك وابن أخي) وأخذ منه المال رغماً عنه، ولو كان يعامل معاملة المسلم لحرم دمه وماله، فتبين بذلك أن من خرج محارباً للمسلمين تحت راية الكافرين فإنه يكون مرتداً، وعليه كل أحكام المرتد.

كيفية معاملة المنافقين في الدنيا

كيفية معاملة المنافقين في الدنيا قال الله سبحانه وتعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا * وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء:88 - 89]، نزلت هذه الآيات في أناس من أهل مكة كانوا قد تكلموا بالإسلام وخرجوا في طلب حاجة لهم، وكانوا يظاهرون عدو المسلمين عليهم، فقالوا: إن لقينا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فليس علينا منهم بأس؛ لأنهم يظهرون الإسلام، ولكنهم في نفس الوقت يظاهرون عدو المسلمين من قريش، فقال بعض الصحابة: انطلقوا إلى الخبثاء فاقتلوهم فإنهم يظاهرون عليكم عدوكم، وقالت طائفة: سبحان الله! كيف تقتلون قوماً قد تكلموا بما تكلمتم به من أجل أنهم لم يهاجروا ولم يتركوا ديارهم وأموالهم؟! فأنزل الله عز وجل: ((فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ)) أي: كيف تختلفون فيهم؟ فإنه لا يجوز الاختلاف في هؤلاء، ((فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ))، أي: ردهم إلى رجاسة الاعتقاد والكفر والضلال الذي هم عليه، ثم حكم الله عليهم بحكم الكفر مع حكم النفاق، وذلك أن المنافق إذا أظهر نفاقه يختلف عما إذا كتمه، فهو إذا كتم نفاقه يحاسب به في الآخرة، وليس لنا إلا الظاهر من الأعمال والأقوال، وأما إذا أظهر نفاقه بمظاهرة ومعاونة ومناصرة عدو المسلمين عليهم؛ فإنه بذلك أظهر كفره، ولذا قال: ((وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ))، أتريدون أن تحكموا بهداية من أضله الله عز وجل وجعل نهايته العذاب والعياذ بالله؟! {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا * وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:88 - 89]. فهم يودون لو ترك المسلمون الإسلام وإن زعموا أنهم لا يريدون ذلك، لكنها الحقيقة، ولولا أنهم يخافون من أن يهيج الملايين من المسلمين لصرحوا بذلك، فهم يريدون أن يترك المسلمون الدين الحق الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، ويريدون منهم أن يكتفوا بمجرد الاسم دون الحقيقة ودون التطبيق والعمل، ويريدون أن يبقى الإسلام مجرد اسم ينتسب إليه الناس. والله إن أناساً لم يكن عندهم من الإسلام إلا مجرد الاسم، ومع ذلك قتل منهم مئات الألوف في أقطار متعددة من الأرض، كما وقع في بلاد متعددة في المشارق والمغارب، ووقع ذلك بالأمس القريب في التركستان في الحكم الشيوعي الصيني، ووقع قريباً في البوسنة والهرسك، وفي غير ذلك من المواطن، ولم يكن معهم إلا مجرد الاسم، ولم يكن هناك أدنى فهم للإسلام، بل لم يكن صلاة ولا صيام ولا ترك لزنا ولا ترك لشرب خمر، ولا حتى عقيدة إسلامية، ووالله إن بعض من يخبر عن القوم في تلك البلاد يقول كانوا إذا سئلوا: من نبيكم؟ لم يدروا! بل ربما قال أطفالهم: نبينا عيسى، ولا يدرون عن محمد صلى الله عليه وسلم شيئاً، ومع ذلك فهم مستهدفون؛ لأنهم يعرفون من الإسلام كلمة لا إله إلا الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يأتي على الناس زمان لا يدرى فيه ما صلاة ولا صوم ولا صدقة، ولكن أقواماً يقولون: وجدنا آباءنا على هذه الكلمة: لا إله إلا الله فنحن نقولها). فانظر إلى هذا الأمر لتعرف حقيقة إرادة الكفار، {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا} [النساء:89]، وهكذا أيضاً يريد المنافقون أن يكون الناس كلهم في الكفر سواء، فماذا بعد أن بين القرآن ما في قلوبهم؟! وماذا بعد أن بدا ذلك من فلتات ألسنتهم؟! أيمكن بعد ذلك أن يغر مغرور وأن يزعم أنهم لا يريدون حرب الإسلام؟ وأنهم لا يريدون اجتثاث هذا الدين من قلوب أبنائه بل من الأرض كلها؟ لكن الله سبحانه وتعالى من ورائهم محيط، قال عز وجل: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) [النساء:89]، فهؤلاء الذين كانوا من أهل مكة لا بد أن يهاجروا إلى المدينة وإلا لم تكن بينكم وبينهم موالاة، (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [النساء:89]. ولذلك نقول: إن مولاة الكفار إما أن تكون ردة كمن يحب كفرهم، ويحب ظهورهم على الإسلام والمسلمين، أو كمن ينصرهم بالقتال معهم، والخروج في صفهم مقاتلاً للمسلمين، وكذلك بأن يطيعهم في الكفر، أو يتابعهم على الشرك؛ فإن الطاعة في الكفر كفر، والطاعة في المعصية معصية، وإن كان يعتقد أن الطاعة في المعصية واجبة لأجل أمر من أمر بها فهو أيضاً من الكفر والعياذ بالله، وأما إذا كانت المتابعة والتشبه والطاعة والنصرة بمثل التجسس ونحو ذلك مثلما فعل حاطب بن أبي بلتعة مع مشركي قريش فلا تكون ردة، ولكنها سبب إلى الضلال، وهي درجة من درجات النفاق، لكن ليس الذي يستوجب الكفر الأكبر والقتل كما ظنه عمر؛ ولذا قال عمر رضي الله عنه: (يا رسول الله! دعني أضرب عنقه فقد نافق، فقال: دعه يا عمر! فلعل الله أطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم). فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم بين أن فعل حاطب فعل محرم، ولكنه لا يستوجب الكفر، فمن الموالاة ما هو كفر بذاته، ومنها ما هو سبيل وطريق ووسيلة إلى الكفر، وهو نفاق أصغر وكفر أصغر، وهو أعظم من الكبائر، فإن الكفر الأصغر والشرك الأصغر والنفاق الأصغر أشد من الكبائر التي هي من جنس الشهوات مثل شرب الخمر والزنا ونحو ذلك من الفواحش، قال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54]، فهذه صفات بينة يجب أن تكون في كل مؤمن صادق الإيمان {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54]، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن يتفضل علينا بفضله وهو الواسع والعليم، أقول قولي هذا وأستغفر الله.

وجوب موالاة حزب الله ومعاداة حزب الشيطان

وجوب موالاة حزب الله ومعاداة حزب الشيطان الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم. أما بعد: قال عز وجل: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة:54 - 55]، (إنما) أسلوب قصر وحصر للولاية، فلا يجوز نصرة وطاعة ومتابعة الكفار، ولا التحالف والتعاضد والتعاون إلا مع من وصفهم الله عز وجل؛ لأن أغراض هؤلاء معلومة وهي طلب الجنة، وأغراض من خالفهم معلومة {أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ} [البقرة:221]، قال: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة:55]، فالله عز وجل إرادته الشرعية بينة في إعلاء كلمته سبحانه، وكذا يكون الأمر كوناً، فكلمة الله هي العليا في عاقبة الأمر، فلا بد أن يظهر الدين، ويعلو الإسلام، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم)، فيحصل الذل بمخالفة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره (وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري)، فيفهم من ذلك: أن العز يحصل لمن أطاعه وآمن به واتبعه، قال عز وجل: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8]، وقال عز وجل: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ} [فاطر:10]، فلا بد أن يبور مكرهم ويضل سعيهم {وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [غافر:25]، ولا بد أن يخطئوا الهدف، وألا يحققوا مقصدهم؛ لأنهم يريدون مقصداً مستحيل التحقيق {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} [التوبة:32]، فهل تطفأ الشمس بأفواه النافخين؟ كلا، فنور الله عز وجل أعظم من نور الشمس، وحاجة الناس إلى دين الله أعظم من حاجتهم إلى الشمس بل وأعظم من حاجتهم إلى الهواء والماء؛ فلذا يستحيل أن يطفئ هذا النور؛ لأن الله هو الرحمن الرحيم {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:9]، فرحمته بعباده تقتضي ألا يضيع الحق من الأرض بالكلية، وعزته تقتضي ألا يترك الجبارين المتكبرين الطغاة بل ينتقم منهم ويقصمهم ويريهم من المؤمنين ما كانوا يحذرون بعزته وقدرته وعظمته ووحدانيته، فهو الملك الحق المقتدر الذي لا قوة إلا به القوي العزيز سبحانه وتعالى {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة:55]، فهذه صفات بينة واضحة لا تحتمل لبساً لمن يتحالف ويتعاون ويتعاضد ويوالي أهل الإيمان، فلا بد على أهل الإيمان أن يتصفوا بهذه الصفات، كما قال عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:71]. فهل بعد بيان هذه الصفات من شك في أعضاء هذا الحزب الغالب لا يوجد شبهة التباس في ذلك، فلا بد أن يتولى المؤمن من يؤمنون بالله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويحققون التوحيد والإيمان، ويدعون إلى الله عز وجل، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، لا الذين يأمرون بالمنكر، وينهون عن المعروف، ويقبضون أيديهم {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة:67]، فلا بد أن يكون المؤمن الذي تواليه عابداً لله، مؤدياً حق الله فيما بينه وبينه بإقامة الصلاة، وفيما بينه وبين الناس بإيتاء الزكاة، وفي الجملة التزامه بالطاعة {وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [التوبة:71] أي: التزام بالكتاب والتزام بالسنة {أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} [التوبة:71] أي: في الدنيا والآخرة، كما وعدهم الله بالنصر في الدنيا والآخرة {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:51 - 52]. قال سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:56]. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من حزبه الغالبين، وأن يعلي بفضله كلمة الحق والدين، وأن ينصر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وأن يحفظهم في كل مكان. اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم نج المستضعفين من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم انصر المسلمين في فلسطين والشيشان وأفغانستان، اللهم انصر المسلمين في كل مكان. اللهم عليك باليهود والنصارى والمنافقين، وسائر الكفرة والملحدين، اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم كف بأسهم عن المسلمين فأنت أشد بأساً وأشد تنكيلا، اللهم لا تجعل لهم على أحد من المسلمين سبيلاً. اللهم فرج كرب المكروبين، وفك أسر المأسورين، وارفع الظلم عن المظلومين! (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23]!

ليس لك من الأمر شيء

ليس لك من الأمر شيء إن الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما، وخلق كل شيء في هذا الوجود، هو الذي يستحق أن يفرد بالعبادة والأمر والنهي. والله سبحانه هو المالك والمتصرف في هذا الكون حقاً، فلا يجوز للعبد أن يدعو غيره، أو أن يخاف من أحدٍ سواه؛ لأن كل ما سوى الله مخلوق لا يملك لنفسه من الأمر شيء، فضلاً عن أن يملك ذلك لغيره.

معاني الربوبية

معاني الربوبية إن الحمد الله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله سلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: (فاللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيام السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السموات والأرض ومن فيهن، أنت الحق، ووعدك حق، وقولك حق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والساعة حق، والنبيون حق، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، أنت ربنا وإليك المصير، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، أنت إلهي لا إله إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك) هذا الدعاء الذي كان يستفتح به النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلاته بالليل، والذي هو معجزة من معجزاته الباهرة صلى الله عليه وسلم، وهو مما خصه الله عز وجل به عن الأنبياء؛ إذ قال عليه الصلاة والسلام فيما أوتيه ولم يؤته أحد قبله: (وأوتيت جوامع الكلم)، وهذا من جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام الذي بين فيه أسس التوحيد، ومعاني الإيمان، وأسس السلوك والأخلاق السوية التي بها يصلح الإنسان، والتي إذا طبقها في حياته سعد سعادة الدنيا والآخرة. قوله عليه الصلاة والسلام: (ولك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن)، فيه تحقيق توحيد الربوبية في نفس العبد، وأن يشهد الإنسان أن الله سبحانه وتعالى الذي له الحمد على كمال أسمائه وصفاته، وكمال ربوبيته وألوهيته، وعلى عظيم نعمه على خلقه، فهو رب السموات والأرض ومن فيهن، فلا يشاركه في ربوبيته سبحانه وتعالى مخلوق، ولا نصيب لأحد دونه في شيء من معاني الربوبية.

الله تعالى هو الخالق الرازق المدبر لكل ما في هذا الكون

الله تعالى هو الخالق الرازق المدبر لكل ما في هذا الكون المعنى الأول من معاني الربوبية: أن الله عز وجل هو الخالق الرازق والمدبر لكل ما في هذا الكون، وهذا المعنى يجب على العبد أن يبتدئ به فاتحة صلاته حين يقرأ: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ))، فهو سبحانه وتعالى رب هذا العالم، والرب بمعنى: المصلح الذي يرب غيره، أي: يقوم عليه بالإصلاح، وربوبية الله سبحانه وتعالى للخلق جميعاً لا تشبهها ولا تدانيها ربوبية غيره، ذلك أنه عز وجل تفرد بخلقهم ورزقهم وضرهم ونفعهم، وهو عز وجل وحده الذي يفعل ذلك بالصلاح الذي لا فساد فيه، وقد قدر وجود أنواع من المفاسد فيما خلق، لكنه عز وجل جعل وراءها من المصالح والحكم والغايات المحمودة ما تضمحل معها تلك المفاسد كفعل من أفعاله سبحانه وتعالى، فلا يوصف عز وجل في شيء من أسمائه أو صفاته أو أفعاله بالفساد أو الشر، فالخير كله في يديه، والشر ليس إليه، وإنما يخلق الشر للخير، فالصلاح الذي يقع في العالم بسبب وجود بعض أنواع المخلوقات التي فيها من الشر أضعاف مضاعفة عن الشر الذي فيها، فإذا علمنا أن هذا الخير وهذه المصالح لا يمكن أن تحصل إلا بوجود هذه المخلوقات التي فيها شر لأدركنا أنه سبحانه وتعالى المصلح لشأن خلقه جميعاً بما لا يشبهه إصلاح غيره. فالصلاح في هذا الكون لا يلزم أن يكون خاصاً بعبد بعينه، وإنما يكون في المجموع، فالله سبحانه وتعالى يفعل الخير، ويخلق الخير والشر، يخلق الشر لما يترتب عليه من أنواع المصالح والحكم والخير العظيم الذي لا يحصل إلا بوجود الشر، فهو سبحانه وتعالى رب العالمين الذي يصلحهم، ولذا كان آخر ما يقع في قلوب الخلق وعلى ألسنتهم: الحمد الله رب العالمين، كما قال سبحانه: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر:73 - 75]. قالها المؤمنون بألسنتهم وقلوبهم، شاهدين فضل الله عز وجل عليهم، وأما الكفار فقد وقع في قلوبهم ذلك الحمد رغماً عنهم لا يملكون غير ذلك؛ لأنهم رأوا من المصالح والحكم والخير الذي لم ينالوا منه بسبب إعراضهم عن أمر ربهم عز وجل، ما جعلهم يدخلون النار حين دخلوها، كما قال الحسن: إن أهل النار دخلوا النار، وإن حمد الله لفي قلوبهم لا يملكون غير ذلك، وإن كانوا لا يحمدونه على أنه أنعم عليهم، ولكن يحمدونه على كمال عدله، وكمال حكمته وقدرته وعزته سبحانه وتعالى، ولا يملكون أن يصفوا ربهم عز وجل بنقص أو فساد، فهو رب العالمين الذي خلق الخلق وقدر مقاديرهم، وهو الذي رزقهم وأعطاهم ومنعهم، وهو الذي خفض ورفع، وأعز وأذل، وجعل من وراء ما يقدر من الآلام والشرور حكماً ومصالح تعجز قدرة العباد عن إدراكها والإحاطة بها. فهو سبحانه وتعالى المتفرد بالخلق والرزق والتدبير {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} [يونس:3]، وهذا هو معنى قيام السموات والأرض الذي ذكر في الدعاء الشريف.

الله سبحانه وتعالى مالك السماوات والأرض ومن فيهن

الله سبحانه وتعالى مالك السماوات والأرض ومن فيهن المعنى الثاني من معاني الربوبية: أنه سبحانه وتعالى مالك من في السموات ومن في الأرض، فهو المالك لكل ذرات هذا الكون وما فوق هذه الذرات، قال الله تعالى: {أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [يونس:31]. وهذا المعنى من أوضح المعاني وأجلها عند التأمل والتدبر في هذا الكون، فالخلق كلهم لا يملكون شيئاً، وتأمل لحظات الإنسان وهو في بداية نشأته كيف كان عدماً محضاً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (كان الله ولم يكن شيء غيره)، ثم وجد بعد ذلك كروح بعيدة عن الجسد، ثم أذن الله عز وجل في وقت معين أن تدخل هذه الروح إلى هذا الجسد، وقدر سبحانه وتعالى أن يوهب الإنسان السمع والبصر والفؤاد واليد والرجل، وسائر الحواس التي صار بها في ظاهر الأمر وفيما يبدو للناس يأمر وينهى، ويملك مالاً، وأرضاً وداراً، ويملك أن يعطي ويمنع، والحق أن ذلك كله عارية مستردة. وتأمل فقه أم سليم رضي الله تعالى عنها وهي تقول لزوجها أبي طلحة وقد قبض ابنها، وهي أمه التي مات على يديها، تقول له: يا (أبا طلحة! أرأيت لو أن قوماً أعاروا عاريتهم أهل بيت ثم أرادوا أخذ عاريتهم ألهم أن يمنعوهم؟ قال: لا، قالت: فاحتسب ابنك) فأنت أيها الإنسان عارية مستردة، فسمعك وبصرك، وكل ما في يدك من مال، أو ما تحت تصرفك من قوة وجاه وسلطان، وما أعطاك الله عز وجل من أهل ومنزلة وغير ذلك كله عارية مستردة لا تملكه ملكاً حقيقياً، بل أنت فقير من كل جهة من جهاتك، فتذكر البداية وتذكر النهاية؛ لتعلم أن الله عز وجل هو المالك الحق، وأنه هو الغني الحميد {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [فاطر:15 - 17]. إن الله سبحانه وتعالى مالك يوم الدين، وهو مالك كل الأيام، ولكن يوم الدين يظهر فيه ملكه بلا منازع ولا معارض، ولا يدعي أحد مع الله عز وجل ملكاً يوم القيامة لا اسماً ولا صفة، لا على سبيل العارية المستردة ولا على سبيل الحقيقة، ولا تخدع أحدٌ نفسه يوم القيامة حتى يتسمى بالمالك أو بالملك، وينادي ربنا عز وجل: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ) [غافر:16]، فيجيب نفسه سبحانه وتعالى: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16]، فهو المالك الحق لكل ما في هذا الوجود، وهذا يقتضي شهود فقر العباد وعجزهم، وعدم طلب شيء من أيديهم، كما قال سبحانه وتعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:13 - 14]، والقطمير: هو الغلافة الرقيقة التي على نواة البلحة، هذه الغلافة الرقيقة لا يملكها أحد من دونه سبحانه وتعالى، فكيف يدعى أحد من دونه؟ وكيف يسأل؟ ولذا كان أصل سؤال الخلق ممنوعاً منه، ولا يجوز فيما يقدرون عليه مما خولهم الله وأعطاهم إلا للضرورة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال المسألة بأحدهم حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم). وقال النبي صلى الله عليه وسلم (يا قبيصة! إن المسألة لا تحل إلا لثلاثة: لذي فقر مدقع، أو لذي غرم مفظع، أو لذي دم موجع، وما سوى ذلك فسحتاً يأكلها صاحبها). فلا يجوز سؤال الناس إلا للضرورة، بل رغب النبي صلى الله عليه وسلم طائفة خاصة من أصحابه ألا يسألوا الناس شيئاً على الإطلاق، وأسر ذلك، فبايعهم على كلمة أخفاها وهي: ألا يسألوا الناس شيئاً. وكانوا قلة من أصحابه، فكان أحدهم ربما سقط السوط من يده فينزل من على بعيره ويأخذ سوطه حتى لا يقول لأحد ناولنيه، فلا يسأل الناس شيئاً على الإطلاق وذلك من كمال التوحيد الأفضل والأعلى فلا يحتاج إلى أحد، ولا يتعلق قلبه ولا لسانه بشيء من الخلق، بل ينزل حاجته بالله سبحانه وتعالى، وقد يقدر الله على عبده المؤمن ما تنقطع به الأسباب حتى يفرد ربه بشهود ملكه، وبالسؤال، والتضرع، وطلب كل حاجته منه سبحانه وتعالى؛ لأنه ربما لا يحقق كمال التوحيد مع وجود الأسباب، وأكثر الخلق إذا وجدت الأسباب ظنوا لمن بيده هذه الأسباب نوعاً من الملك؛ فتعلقت قلوبهم به، فسألوه أو طلبوا منه أو رجوه أو خافوه، فعند ذلك يقع النقص في قلوبهم من جهة هذا المعنى من معاني توحيد الربوبية، وعندها يقدر الله لمن شاء من عباده أن يقطع عنهم الأسباب، وإن كان ذلك مكروهاً لهم، أو كان فيما يبدو لهم تضييقاً وتعسيراً عليهم، وهو في الحقيقة فتحاً لأبواب الخيرات لهم، فحين تيأس قلوبهم من الخلق جميعاً ومن أنفسهم، عند ذلك لا يكون لهم ملجأ إلا إلى الله، وهذا أمر مشهود معلوم يقدره الله كدليل على وحدانيته ليظهره سبحانه وتعالى حتى للمشركين قال الله تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا} [الإسراء:67]، فكثير من الناس يعرض في وقت الرخاء، وفي وقت الشدة عندما تنقطع الأسباب يشهد حقيقة أن الله هو المالك الحق سبحانه وتعالى. وقال عز وجل: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلًا * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء:56 - 57]، فتأمل كيف قرن بين الخوف والرجاء، وبين شهود أن أحداً لا يملك كشف الضر ولا تحويلا، فشهود الملك لله سبحانه وتعالى يجعل العبد محباً خائفاً راجياً يبتغي إلى ربه القربة، ويبتغي رضوانه وفضله، ويرجو رحمته، ويخاف عذابه لأنه المالك الحق. وقال سبحانه وتعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:22 - 23]، وهذا في حق من يعبد الملائكة الذين هم عباد مكرمون عند الله عز وجل، فقد ظن المشركون أن لهم شفاعة يملكونها عند الله سبحانه وتعالى، فأخبر سبحانه وتعالى بأنهم لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، فنفى الملك المستقل، فربما ظن البعض أن له شريكاً، فقال: ((وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ))، فما من ذرة من ذرات هذا الكون إلا والله يملكها كلها، لا يشركه في ذرة منها أحد من المخلوقين، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا ولي صالح، ولا شيطان رجيم، أو عدو لله سبحانه وتعالى ولأوليائه، ولا يملكها من هو دون ذلك كالمخلوقات المسخرة من شمس وقمر، أو من حجر وشجر، إذ عدم ملكهم ظاهر لكل عاقل يرى تحرك هذه الأشياء في الكون، ويرى عجزها وفقرها، وأنها مسخرة مدبرة يفعل الله عز وجل فيها ما يشاء، وإنما الذي يمكن أن ينسب إلى نفسه ملكاً هو الإنسان، وكذا الجن ربما ظنوا أن لهم ملكاً فكان النفي عنهم. فنفى الله عز وجل الملك المستقل، ونفي المشاركة، ونفى المعاونة عن كل أحد يدعى من دون الله من ملك أو نبي أو ولي فضلاً عمن دونه؛ لأنه ربما ظن البعض أنهم لا يملكون على سبيل الاستقلال، ولا على سبيل الشركة، ولكن معاونة، وهذا فيما يتعلق بالملائكة كثير، فقد يعتقد كثير من الناس أن الملائكة تعاون الله عز وجل على تدبير الأمر، وليس الأمر كذلك قطعاً، قال عز وجل: ((وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ))، بل هم ينفذون أوامر الله بما أعطاهم من القدرة، فقدرتهم وقوتهم وعلمهم إنما هو هبة منه، وهو المالك لذلك سبحانه وتعالى. {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:26 - 29]، فالله سبحانه هو الذي جعل الملائكة يعملون الأعمال التي كلفهم بها بقدرته، فأعطاهم ما بأيديهم من قوة، فمن جعله سبحانه وتعالى ذا قوة مكيناً عنده إنما هو محض فضله وعطائه، وهو المالك لذلك كله. {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:64]، فلله عز وجل ما بين أيديهم وما خلفهم، وله ما أعطاهم من أنواع القوة والقدرة، فهم لا يعاونون الله ولا يحتاج إلى معونتهم، فهو وحده المستعان، وهو الذي يعين عباده بما شاء، ويوفقهم ويقدرهم ويقويهم على ما شاء من أفعالهم.

ملك الله للشفاعة

ملك الله للشفاعة لم يبق بعد هذه الأنواع الثلاثة -الملك المستقل، والشركة، والمعاونة- إلا الشفاعة؛ فأثبت الله الشفاعة الشرعية ونفى الشفاعة الشركية، فقال: ((وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ))، فلا يملك أحدٌ الشفاعة، إنما الشفاعة جميعاً له سبحانه كما قال عز وجل: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر:44]، فهو سبحانه له ملك السموات والأرض، وتأمل الاقتران بين ملك الشفاعة وملك السموات والأرض، فهو وحده الذي يملك الشفاعة؛ ولذلك لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، والشفاعة دعاء وتضرع إلى الله سبحانه من الشافع، حتى يضم طلبه إلى طلب المشفوع فيه ليكون طلباً شفعاً -أي: زوجاً- وذلك ليقضي الله ما يشاء، وهو سبحانه وتعالى لا يبدأ عنده بالشفاعة حتى يأذن كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي علم في الدنيا قبل الآخرة أنه الذي أُعطي الشفاعة، وذلك عندما يذهب إليه الناس يوم القيامة، فيقولون له: (اشفع لنا إلى ربنا، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟ فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: أنا لها أنا لها)، ومن دونه من الأنبياء لم يعلموا أن لهم الشفاعة فلذلك لم يسألوها ابتداء، وإنما قال كل منهم: نفسي نفسي، وهم أولو العزم من الرسل الذين أفنوا أعمارهم في طاعة الله ومرضاته، ومع ذلك هابوا وخافوا أن يسألوا ربهم في ذلك الموقف غير أنفسهم. وأما محمد صلى الله عليه وسلم فلأن الله أوحى إليه أن له الشفاعة، وأنه لها، قال: (أنا لها، فيأتي فيدخل على ربه في داره) أي: وهو سبحانه فوق عرشه الذي هو سقف لجنته، وجميع المخلوقات تحته، قال (فآتي فإذا رأيته خررت له ساجداً قدر جمعة) أو كما قال صلى الله عليه وسلم، ويفتح الله عليه من حسن الثناء عليه ما لم يفتحه على أحدٍ قبله، وقال في حديث آخر: (لا أستطيعه الآن، ثم يأذن له الله عز وجل أن يرفع رأسه، ويقول له: يا محمد! ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعطى، واشفع تشفع) أو كما قال صلى الله عليه وسلم، فعند ذلك يدعو النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الإخلاص والتوحيد من أمته بالنجاة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله أبو هريرة رضي الله عنه: (من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه)، فالنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه إنما ينتفع بشفاعته أهل الإخلاص، ثم يشفع النبيون والملائكة والمؤمنون في من لا يشرك بالله شيئاً، فيخرجونهم من النار بأمر الله سبحانه وتعالى، ثم يعود النبي صلى الله عليه وسلم في المرة الرابعة فيقول: (يا رب! ائذن لي في من قال لا إله إلا الله، فيقول الله عز وجل: ليس ذلك لك، ولكن وعزتي وجلالي لأخرجن من النار من قال لا إله إلا الله). إن الله عز وجل جعل النبي صلى الله عليه وسلم سبباً لنجاة الخلق من أهوال القيامة، ثم في دخولهم الجنة، ثم في نجاتهم من على الصراط، ثم في خروج أقوام منهم من النار بعد أن احترقوا فيها، ثم يطلب من ربه أن يرحم من قال: لا إله إلا الله ولم يعمل خيراً قط؛ فيخبره الله عز وجل أن ذلك ليس له، ولكنه سوف يفعل ذلك سبحانه وتعالى حتى لا يبقى في النار إلا من حبسه القرآن، أي: من وجب عليه الخلود بموته على الشرك بعد بلوغ الحجة، فدل هذه كله على أن الشفاعة مملوكة لله سبحانه وتعالى، وهذه الآيات الكريمة دالة على ذلك: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:13 - 14]، وقوله سبحانه: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ} [سبأ:22 - 23]، هي التي قال عنها أهل العلم: إنها تقطع فروع الشرك من القلب لكمال التعلق بالله سبحانه وتعالى، ودليل هذا الأمر خوف الملائكة من الله عز وجل ((حَتَّى إِذَا فُزِّعَ)) أي: حتى إذا زال الفزع الذي أصاب قلوبهم؛ بسبب سماعهم كلام الرب سبحانه، فخافوا أن يكون نزل أمر فيه هلاك العالم، فعند ذلك يخرون لله سجداً، ويكون أول من يرفع رأسه جبريل، فيوحي الله إليه من أمره ما شاء، وينزل بأمر الله إلى السموات ومن فيهن من الملائكة، فيقولون وقد رفعوا رءوسهم لما زال الفزع عن قلوبهم: ماذا قال ربنا يا جبريل فيقول: ((الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ))، فيقولون كلهم مثل قول جبريل: ((الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ))، فهذا كله دليل على أن الله وحده هو المالك لكل ما في هذا الوجود، ولا يملك أحد دونه شيئاً، حتى على سبيل الشفاعة فإنها مملوكة له لا يملكها الشافعون، فهو الذي يأذن لأهل التوحيد والإخلاص -لمن شاء منهم- أن يشفعوا في أهل التوحيد والإخلاص، ولا يشفعوا في أهل الشرك، ولا تنفع المشركين شفاعة الشافعين، وهو الذي يأذن للشافعين ليغفر للمشفوعين عن طريق دعاء الشافع، لينال الشافع بذلك المقام العالي، وليعلي قدره، ويري الناس منزلته. وأعلى الناس في ذلك محمد صلى الله عليه وسلم، يقول الله عز وجل له في محكم كتابه: ((لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ)) وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على من شجوه في وجهه، وكسروا رباعيته، وهو يدعوهم إلى الله، فاستبعد هدايتهم وفلاحهم، فقال: (كيف يفلح قوم شجوا نبيهم، وكسروا رباعيته، وهو يدعوهم إلى الله عز وجل؟!) ودعا على أعيان منهم شهراً، فأنزل الله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:128] فتاب الله على من سماهم النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه جميعاً، فهداهم إلى الإسلام، ومن دعا لهم بالمغفرة وحرص على هدايتهم فإن بعضهم لم يقبل فيه ذلك، كـ أبي طالب فإنه قال: (لأستغفرن لك ما لم أنه عنه)، فأنزل الله عز وجل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113]، وأنزل الله في أبي طالب: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56]، ولما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يزور قبر أمه استأذن ربه في ذلك فأذن له، واستأذنه أن يستغفر لها فلم يأذن له. فالله عز وجل هو مالك السموات والأرض ومن فيهن، وهذا كله يجعل العبد لا يسأل ولا يتعلق قلبه بغير الله سبحانه وتعالى، ولا يرى لنفسه ملكاً ولا حقاً، بل يرى نفسه مملوكاً من كل وجه، ويجب أن يتصرف -فيما أعطاه الله من سمع وبصر ويد ورجل وبطن وفرج ومال وأهل، وغير ذلك من أنواع التصرف والتمكين والسلطان- يتصرف فيه تصرف العبد المملوك لا تصرف المالك الحر، ولذلك فإن قضية الحرية لا بد أن توضع في نصابها، فالحرية إنما تكون بين العباد بعضهم بعضاً بما شرع الله سبحانه وتعالى، أما أن تطلق قضية الحرية ويقال: إن الناس أحرار حتى مع أوامر الله وشرعه، فيأتون ما يريدون ويتركون ما لا يريدون، فهذه منابذة للربوبية، ومنازعة لله عز وجل في أخص معنى من معاني الربوبية وهو معنى الملك، فالله سبحانه وتعالى هو الملك الحق، وهو المالك الحق، فمن زعم أنه يملك نفسه، وأنه يفعل ما يشاء دون أن يرجع إلى أمر الله وشرعه، فهو ينازع الله في ربوبيته، ولم يشهد أن لا إله إلا الله، ولم يشهد أن لا رب إلا الله، بل زعم أنه رب مع الله، وإذا زعم أن له على غيره من الخلق ذلك، وأنه حر يفعل فيهم ما يشاء دون أن يراجع، فهو منازع لله في الربوبية وشقيق لفرعون وإبليس اللذين زعما أنهما أرباب بلسان الحال أو المقال. نسأل الله أن يوفقنا لما يحب ويرضى، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

الله رب السماوات والأرض ومن فيهن

الله رب السماوات والأرض ومن فيهن الحمد الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم. أما بعد: المعنى الثالث من معاني الربوبية: أن الله رب السموات والأرض ومن فيهن، وهذا مذكور في قوله سبحانه وتعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54]، فكما كان المعنى الأول: الخلق والرزق والتدبير -وهو كما ذكرنا بمعنى الإصلاح الذي يربِّ الشيء، أي: يصلحه- مذكور في قوله: ((أَلا لَهُ الْخَلْقُ)) فكذا كان المعنى الثالث مذكور في هذه الآية، وهو: ((أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ))، فلله الأمر وحده لا شريك له، وهو الذي له الأمر كوناً، وهذا أمر لا ينازع فيه عاقل، وإن كان أكثر الناس في غفلة عن أن الله إذا أمر بشيء كان {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]. فهذه أوامره سبحانه نافذة في أقطار العوالم السفلية والعلوية، يحيي ويميت، يسعد ويشقي، يمن على من يشاء ويمنع من يشاء، يأمر بما يشاء في من يشاء، وهذا وإن أقر به أكثر الناس لساناً إلا أنهم ينازعون فيه حالاً وسلوكاً وعملاً، وذلك حين ينازعون الله سبحانه في أوامره. وأما المعنى الثاني من هذا فهو: الأمر الشرعي، فالله له الأمر شرعاً، وهذا ما يجب أن يعتقده كل مؤمن، وهو أنه لا يأمر ولا يشرع لخلق الله جميعاً إلا الله سبحانه وتعالى، فهو الذي شرع ما شاء، قال عز وجل: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21]، فمن ادعى أن لأحد أن يشرع من دون الله أو مع الله عز وجل شيئاً لنفسه أو لغيره، فقد نازع الله سبحانه وتعالى في أمره، وادعى مع الله عز وجل شريكاً، كما أن الذي يرى نفسه حراً مع أوامر الله فقد نازع الله في ملكه، فالذي ينازع الله سبحانه في أمر التشريع والتحليل والتحريم، والأمر والنهي يعتبر منازعاً لله سبحانه وتعالى في ربوبيته، كما قال عز وجل عن اليهود والنصارى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31]، دلت الآية على أنهم عبدوهم لما اتخذوهم آلهة مع كونهم اتخذوهم أرباباً؛ ولذا قال: ((وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا))، ودل الحديث على أنهم عبدوهم باعتقاد أن لهم حق تبديل الشرع، وأنهم يطاعون في ذلك فأطاعوهم، فقد جاء في الحديث أن عدي بن حاتم دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يسلم بعد، وعلى عدي صليب من فضة، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم (أن يلقي هذا الوثن عنه، وسمعه يقرأ قوله عز وجل: ((اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ)) [التوبة:31]، فقال: إنا لسنا نعبدهم، قال: ألم يحرموا الحلال، ويحللوا الحرام فاتبعتموهم؟ قال: بلى، قال: فتلك عبادتهم)، وقد ورد هذا المعنى عن غير واحد من السلف في تفسير هذه الآية الكريمة، فهم لم يعتقدوا أن الأحبار والرهبان خلقوا ورزقوا ودبروا الأمر، ولم يعتقدوا أنهم يملكونهم ملك الرقيق، وإنما اتبعوهم واعتقدوا أن لهم أولاً حق التشريع، وأن لهم أن يبدلوا ويحللوا ويحرموا، بل لهم أن يبدلوا العقائد، فتارة يجتمعون فيقررون أن الله ثالث ثلاثة، وتارة يقررون أن اليهود هم الذين قتلوا المسيح، وتارة أنهم لم يقتلوه، وهكذا اعتقدوا أن لهم حق تبديل العقائد والتشريعات، فكان ذلك من الشرك في الربوبية، ولما اتبعوهم على ذلك كان شركاً في العبادة والألوهية. ولذا يصر أهل الإيمان على اختلاف الأزمان أن الله وحده هو الحكم العدل: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:40]. فحين يشهد العبد ويقول: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) ويقول: اللهم لك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن، يستشعر هذا المعنى ضمن معاني الربوبية، ويرى حقاً لله سبحانه وتعالى عليه، وهو: أن يقبل شرعه وأمره، فله الخلق وله الأمر، ومن جعل مع الله عز وجل شريكاً في الخلق، أو الرزق أو التدبير، أو الضر أو النفع فهو مشرك، ومن جعل مع الله عز وجل شريكاً في الأمر فهو أيضاً مشرك، وكذلك من جعل مع الله سبحانه وتعالى شريكاً في الملك؛ يملك مع الله أو يملك الشفاعة على الله كان مشركاً، وهذه الأمور من أوضح ما جاءت به الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. ولا بد أن يتحرر الإنسان من رق هذا الشرك بأنواعه المختلفة حتى يتحقق توحيده لله، وكل معنى من معاني الربوبية الثلاثة يترتب عليه أنواع من العبودية لله سبحانه وتعالى، وذلك بطريق التلازم الذي لا ينفك، فإذا شهد العبد أن الله هو الخالق الرازق المدبر، وأنه سبحانه الذي يملك الضر والنفع وحده لا شريك له، فكيف يطلب من غيره سبحانه وتعالى شيئاً من ذلك؟! وكيف يجعل مع الله آلهة أخرى؟! لذا قال عز وجل: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} [النمل:59 - 60]، فاستدل بخلقه عز وجل للسموات والأرض على وجوب افرده سبحانه وتعالى بالإلهية وحده لا شريك له. فكذلك من كان يعتقد أن مع الله عز وجل من يملك ويتصرف تصرف المالك فهو مشرك، فالمؤمن يرى أن الله وحده هو الملك، فيتعبد لله سبحانه وتعالى بذلك، فيرى ما بيده مما أعطاه الله أمراً لا يملكه، ولا يرى لنفسه أمراً مع أوامر الله التي بلغتها رسل الله، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36]، فهو يتصرف كتصرف العبد المملوك في ماله {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33]، {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7]، فما بيدك من مال وأهل وولد وسلطان تتصرف فيه تصرف العبد المملوك لله سبحانه، وترجع إلى شرعه وتقبل أوامره سبحانه وتعالى {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54]، وهذه الأمور لا بد أن يشهدها العبد، ولا بد أن يستحضر معانيها في قلبه، ويفرد الله سبحانه وتعالى في كل عبادة، فيكون قوله: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) قولاً صادقاً خالصاً لله سبحانه وتعالى، صدر من قلب محب له عز وجل، خاضع له، شاهد لربوبيته، متعبد له سبحانه وتعالى بإلهيته، فيكون مقبولاً عنده سبحانه وتعالى. وهكذا يتحقق معنى توحيد الربوبية في قلب العبد المؤمن إذا شهد هذه المعاني، وتعبد لله سبحانه وتعالى بها، فنسأله سبحانه وتعالى أن يجعلنا مع عباده المخلصين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين! اللهم أنزل بالكفرين والمنافقين والظالمين بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم كف بأسهم عن المسلمين فأنت أشد بأساً وأشد تنكيلاً. اللهم فرج كرب المكروبين من المسلمين في كل مكان، وفك أسر المأسورين، وارفع الظلم عن المظلومين، ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، ونجنا برحمتك من القوم الكافرين، ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير، ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا، واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم، ربنا اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. ربنا أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسر الهدى إلينا، وانصرنا على من بغى علينا. اللهم اجعلنا لك ذكارين، لك شكارين، لك مطواعين، لك رهابين، لك مخبتين، إليك أواهين منيبين، تقبل توبتنا، واغفر حوبتنا، وثبت حجتنا، وأجب دعوتنا، واهد قلوبنا، وسدد ألسنتنا، واسلك سخائم صدورنا. اللهم إنا نسألك بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق أحيينا ما علمت الحياة خيراً لنا، وتوفنا ما علمت الوفاة خيراً لنا. اللهم نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الفقر والغنى، ونسألك نعيماً لا ينفذ، وقرة عين لا تنقطع، وبرد العيش بعد الموت، والرضا بعد القضاء، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة. اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين.

ليلة القدر والعشر الأواخر

ليلة القدر والعشر الأواخر من نعم الله عز وجل على العباد أن جعل لهم محطاتٍ إيمانية يتزودون منها ما يعينهم على السير إلى رب العالمين، ومن تلك المحطات المباركة شهر رمضان، فشرع الله لعباده فيه الصيام والقيام، ثم زاد امتناناً عليهم بليلة القدر التي يفوق فضلها وخيرها ثلاثاً وثمانين سنة، وهذا من فضل الله العميم، ومن فيض خزائنه التي لا تنفد، فلم يبق بعد هذا الفضل لمتكاسلٍ عذر أمام ربه، وقد فتح أبواب كرمه وفضله لهم. فينبغي الإكثار من قراءة القرآن وتدبره، خاصةً في رمضان؛ لكونه شهر القرآن وفيه أنزل، وكذا لابد أن تعظم حرمات الله فيه أعظم من غيره.

فضل ليلة القدر

فضل ليلة القدر إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]، أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد: قال الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:185]. وقال الله سبحانه وتعالى: {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الدخان:1 - 6]. لقد أنزل الله عز وجل القرآن في شهر رمضان، أنزله في ليلة القدر جملة واحدة إلى السماء الدنيا، ثم نزل بعد ذلك في ثلاث وعشرين سنة مفرقاً على قلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان يتنزل على حسب الوقائع التي وقعت، فكان إنزال القرآن في شهر رمضان علامة ودليلاً على اصطفاء الله سبحانه وتعالى لهذا الشهر، وكان نزوله في ليلة القدر دلالة أيضاً على فضيلة هذه الليلة، قال الله عز وجل: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر:1 - 5]. وقد سميت ليلة القدر بذلك لشرف قدرها، ولأنه تقدر فيها مقادير السنة، فانظروا عباد الله إلى شرف هذه الليلة التي جعل الله عز وجل العبادة فيها تعادل ما يربوا على ثلاث وثمانين سنة، وكم عمر الواحد منا؟ سرعان ما تمر الأيام، والشهور، فها هو رمضان قد بقي منه أيام وينقضي، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن قام وصام رمضان إيماناً واحتساباً فغفر له، ونسأله عز وجل أن يوفقنا لقيام ليلة القدر إيماناً واحتساباً، وأن يغفر لنا إنه هو الغفور الرحيم.

اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر من رمضان

اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر من رمضان إن العمر يمر كما تمر هذه الأيام والشهور، ولا يبقى للإنسان إلا عمله الصالح، وهذه أيام مباركات، وليال فاضلات ولذا جعل الله عز وجل العبادة فيها أعظم من العبادة في غيرها، وشرع رسول الله صلى الله عليه وسلم الاجتهاد في القيام والذكر في هذه الليالي المباركات كلها، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر -أي: الأواخر من رمضان- أحيا ليله، وأيقظ أهله، وشد المئزر، وذلك كناية عن اعتزال النساء وعدم معاشرتهن تفرغاً للعبادة. وكان من عادته صلى الله عليه وسلم أنه يقوم وينام، أي: ينام بعض الليل، وفي هذه الليالي -أي: العشر الأواخر من رمضان- كان يحيي ليله كله. وكان صلى الله عليه وسلم لا يأمر بإيقاظ أهله في ليالي رمضان سوى العشر، بل كان يرغبهم في ذلك كما مر على علي وفاطمة ليلاً فقال: (ألا تصليان؟)، وقال ليلة: (سبحان الله ماذا أنزل الليلة من الفتن؟ ماذا أنزل من الخزائن؟ من يوقظ صواحب الحجرات؟ رب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة)، يقصد بصواحب الحجرات: أزواجه صلى الله عليه وآله وسلم ورضي عنهن. فقوله: (من يوقظ صواحب الحجرات) هذا فيه ترغيب في القيام وإحياء الليل بالذكر من غير حث شديد، وإنما كان يوقظ أهله في العشر الأواخر من رمضان؛ حتى يحيين الليل بالقيام والذكر ونحوه، فهذه الليالي الفاضلة أولها ليلة الحادي والعشرين، وقد ثبت في صحيح البخاري ومسلم أنها كانت في إحدى السنوات هي ليلة القدر، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد اعتكف العشر الأول، ثم اعتكف العشر الأوسط من رمضان طلباً لليلة القدر، ثم أري ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان، فخرج في صبيحة يوم عشرين، فقال: (من كان اعتكف معي العشر الأوسط فليعتكف العشر الأواخر؛ فإني أريت ليلة القدر في العشر الأواخر)، وكذا ورد عن كثير من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ما يدل على أنها في العشر الأواخر. وفي هذا الحديث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وإني أريت أني أسجد في صبيحتها في ماء وطين) أي: مطرت السماء في تلك الليلة، وكان المسجد مصنوعاً من جذوع النخل ومسقوفاً بجذوعه كذلك، فوكف المسجد، أي: نزل المطر على أرضه، فأصبح النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر وقد سجد في ماء وطين، وظهر أثر الطين على وجهه وأنفه عليه الصلاة والسلام، وهذه كانت في سنة ثانية في ليلة الثالث والعشرين، رأى نفس الرؤيا عليه الصلاة والسلام. وثبت أيضاً عند الترمذي وصححه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (وأنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان)، فكانت ليلة القدر التي هي ليلة إنزال القرآن كانت ليلة أربع وعشرين، وهي أول السبع الأواخر.

أرجى ما تكون فيه ليلة القدر

أرجى ما تكون فيه ليلة القدر وثبت من حديث أبي بن كعب في صحيح مسلم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم: أمرهم أن يقوموا ليلة السابع والعشرين، وأخبرهم أن الشمس تخرج في صبيحتها بيضاء نقية لا شعاع لها). والذي يظهر من مجموع الأدلة أن ليلة القدر تنتقل في ليالي العشر الأواخر من رمضان، فإذا كانت الليالي ليالي الأوتار فهي أرجى، وإن كانت الليالي ليالي الشفع فهي كذلك ترجى، وذلك أن ليلة الرابع والعشرين هي أول السبع الأواخر؛ فإن ليالي الشفع هي تاسعة تبقى، وخامسة تبقى، وسابعة تبقى، وخامسة تبقى، وثالثة تبقى، أي: من آخر الشهر، فهي أوتار من آخر الشهر، وكل قد رغب فيه، فينبغي أن لا تفرط في هذه الليالي، فكلها ليال فاضلة، وليلة القدر في وسطها كالشمس في وسط النجوم، فاحرص أن لا تضيع منك لحظاتها، فإن الدقيقة الواحدة بشهور طويلة، وأنت مهما قضيت في العبادة لا تقضي أياماً متواصلة، حتى تصل إلى الشهور والسنين؛ فإنما تقوم ساعات معدودة ولابد لك بعد ذلك من راحة، ولابد لك من طعام وشراب، ولابد لك من دخول الخلاء، فلابد أن تقضي أوقاتاً لا تستطيع أن تواصل العبادة فيها، وأنت في الدقيقة الواحدة من ليلة القدر تحصل على عبادة أشهر طويلة، فكيف يليق بك أن تضيع هذا الفضل العظيم؟ فالدقيقة في هذه الليلة المباركة لها قيمة فكيف بالساعة؟ الساعة بعدة سنوات، فمن يضيع ليلة القدر محروم كما قال النبي عليه الصلاة والسلام عن رمضان: (فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم).

الحكمة من الاعتكاف

الحكمة من الاعتكاف شرع الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان التماساً لهذه الليلة، وشرع كذلك حتى يعكف القلب على عباد الله سبحانه وتعالى، فإياك أن تحضر ببدنك إلى المسجد وقلبك خارجه، فإياك أن تهتم بجعل الخباء فقط في المسجد وقلبك منفتح على الدنيا ينهل منها ويأكل ويشرب ويرتع مع الراتعين، فإنما جعل الاعتكاف بهذه الصفة وعلى هذه الكيفية؛ لكي يعكف القلب على الله عز وجل، لكي يتدبر القرآن، ويحيا بهذا الوحي والروح المنزل من عند الله عز وجل، كما قال سبحانه: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52]. والإنسان يحتاج إلى النور؛ ليبصر به وسط الظلمات، خصوصاً في زمن كثرت فيه الفتن وتتكاثر يوماً تلو آخر، وإنما يحتاج الإنسان لحياة القلب لكي يزن الأمور بميزان الإيمان، ولكي يضع الأمور في مواضعها كما وضعها القرآن، ولكي يعظم ما عظمه الله، ويحقر ما حقره، ويعظم ما عظمه ربه ورسول الله صلى الله عليه وسلم، وحتى تصير الأمور عنده كما هي في حقيقتها الشرعية. فما الدنيا في الآخرة إلا كما يضع أحدنا أصبعه في اليم فلينظر بم يرجع، فهل تعكف قلوبنا عليها بعد ذلك؟ وهل لنا أن نسعى لإصلاح هذه القلوب حتى تخلص لله سبحانه وتعالى؟ وحتى تصدق مع الله عز وجل؛ ليدخل الإيمان فيها، فحينها تصلح أحوالنا ويشع النور ممن علت مرتبته في الإيمان فيضيء قلبه ثم يفيض النور على من حوله، بنصحهم وتهذيبهم وتعليمهم، فإذا بالمجتمع يحصل فيه من أنواع الصلاح، من أنواع الخير ما نعجز عن إصلاحه في سنين بل قرون، وما لا يستطيع الناس أن يحصلوه بدون معاني الإيمان في سنين طوال.

أهمية تدبر القرآن وتذوق معانيه

أهمية تدبر القرآن وتذوق معانيه تمر بالأمة أزمات متعددة، كما مرت بها قبل ذلك محن طويلة، وإنما كان الإصلاح بصلاح قلوب طائفة من الأمة، فإذا صلحت ظهرت، فكان حالهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة)، وإنما يتفاوت الظهور على حسب تفاوت معاني الإيمان في القلوب، وليس فقط على معرفة الألسنة بالكلام، ومعرفة العقول بالقضايا، ولا شك عندنا بأهمية الفهم الدقيق، ولا شك قطعاً في أهمية الكلم الصحيح الطيب، لكن لا ريب أن ذلك كله مرتبط بحال القلب. وانظروا كيف تعلم الصحابة الإيمان، ثم تعلموا القرآن؛ فازدادوا إيماناً بفضل الله سبحانه وتعالى، والقرآن من أعظم أسباب زيادة الإيمان، ومن أعظم أسباب إزالة أمراض القلوب، قال الله عز وجل: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء:82]. وهذا كله يحصل بكثرة تدبر القرآن، والإيمان به حق الإيمان أي: أن تعمل بمحكمه، وتؤمن بمتشابهه، وتصدق أخباره وتستحضرها كأنك تراها، ففيما مضى من الأحداث وأخبار الرسل والصالحين، وأنواع الصراع الذي جرى بين أهل الإيمان وأهل الكفر، وبين أهل الحق وأهل الباطل عبر شتى وفوائد. ومعنى تستحضره أي: كأنك حاضر فيه، وتستشعر معاني الإيمان التي كانت هي الوقود الذي سار به أهل الإيمان في طريقهم تلك، وكانت هي النور الذي استبصروا به، فرأوا الحق حقاً والباطل باطلاً. كذلك يكون تدبرك للقرآن بأن تستحضر ما تستقبل من أمور الآخرة، من أمر الجنة والنار، وأهوال القيامة، والحساب والميزان والصراط، كما دلت عليه الأدلة من القرآن السنة. وكذلك تتدبر القرآن بأن تستحضر آثار أسماء الله عز وجل وصفاته، بل هذا هو المقدم على ذلك كله؛ لأنه تحقيق الإيمان بالله سبحانه وتعالى، فتستحضر ربوبيته وملكه لهذا الكون، وأمره النافذ فيه، وتستحضر إلهيته، وأنه سبحانه وتعالى هو وحده المستحق للعبادة، وأن كل ما يعبد من دونه باطل، وأن كل عبادة لغيره عناء وشقاء، وتستحضر منة الله عز وجل عليك ونعمته الظاهرة والباطنة، فبهذا يحصل لك تدبر القرآن، وتزداد معاني الإيمان، لكن هذا يحتاج منك إلى قلة خلطة بالناس ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، وليس ما كان يصنعه النبي صلى الله عليه وسلم من احتجار الحصير إلا تقليلاً لهذا الاختلاط، وذلك الذي ينبغي أن تفعله، وكثير من الناس يجعل الاعتكاف موضع عشرة وخلطة! والأمر ليس كذلك؛ لأن الأمر ليس مبنياً على أحوال البدن بقدر ما هو مبني على حال القلب، فاجتهد أن تخلص نيتك لله عز وجل، وأن تشغل فكرك بأمره، وأن تشغل اهتمامك بالآخرة وما يكون فيها، وأن تفتش في نفسك، وتجتهد في إصلاح عيوبها، فليس صحيحاً ولا صواباً منك أن تجتهد في أن تأتي المسجد وقلبك قد امتلأ بأنواع الأمراض المختلفة، نعوذ بالله من ذلك. فاجتهد أن تتخلص من هذه الأمراض، وفتش في نفسك هل الحقد والحسد والرياء والسمعة تابعاً فيها؟ وفتش في قلبك عن الغفلة وعن سائر الأمراض، ثم اعمل على التخلص منها فوراً بقدر استطاعتك حتى تلقى الله سبحانه وتعالى وقلبك قد تطهر، فتنال من كتاب الله سبحانه وتعالى ما تزكو به نفسك. قال عثمان رضي الله تعالى عنه: لو طهرت قلوبكم ما شبعت من كلام الله. وقال ربنا سبحانه وتعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:75 - 79]. ومن وجوه تفسيره: أن الكتاب المكنون هو الذي في السماء ولا يسمه إلا الملائكة المطهرون، ومن وجوه تفسيره -وهو من لوازم تطهير الكتاب وكونه كتاباً كريماً-: أنه لا ينال من نعيمه، ولا يدرك معانيه، ولا يتعظ بما فيه إلا من تطهر قلبه، والوجه الأول هو أصح التفاسير، والثاني تفسير حسن طيب، وهو من لوازم الأول، فلا يمس القرآن إلا من تطهر قلبه، أي: لا يجد حلاوته ولا يذوق طعم الإيمان إلا من تطهر قلبه، فإذا كانت بينك وبين إخوانك شحناء فاعلم أن ذلك من أعظم أسباب بعدك عن لمس معاني كتاب الله، وعن أن تدرك ما فيه. فهذه الملاحاة والخصومة يجب أن تسعى في إزالتها، فلقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه يوماً وهو يريد أن يخبرهم في سنة من السنوات بليلة القدر أي ليلة هي، فتلاحا رجلان -أي: تجادلا- فرفعت، وعسى أن يكون ذلك خيراً؛ حتى تطلب في الليالي كلها، وكما أن اختلاف مطالع الهلال عند المسلمين في هذا الشهر قد يؤلم البعض، ولكنه عسى أن يكون خيراً؛ فإن الناس يطلبون ليلة القدر في الليالي كلها، فتجد أن ليالي الأوتار عندنا، ليالي أشفاع عند غيرنا وبالعكس، فينبغي أن تهتم بالليالي كلها، وأن تجتهد فيها، واجتنب الملاحاة والخصومة، واجتنب المجادلة ما استطعت إلا ما أمر الله عز وجل به من الجدال بالتي هي أحسن، الذي شرعه الله لإظهار الحق، وكثير من أنواع الجدال بيننا إنما هو وللأسف ليس بالتي هي أحسن، وإنما يوقع العداوة والبغضاء فينبغي تركه، فاجتهد في إصلاح القلب، وتهذيب النفس وتطهيرها حتى تمس معاني القرآن، وتجد طعمه وحلاوته، والله المستعان، وهو سبحانه وتعالى الذي يمن على من شاء من عباده بما شاء من عطائه، وأنت تعبده وتسعين به كما نقول في الصلاة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]. فمن استطاع منكم أن يقضي العمر والأجل في طاعةِ الله فليفعل، واعلموا أنكم لن تنالوا ذلك إلا بإعانةٍ من الله عز وجل وتوفيقه وفضله وجوده، ولن نهتدي إلا أن يهدينا الله، فاللهم اهدنا في من هديت، وعافنا في من عافيت، وتولنا في من توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، ولا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تبارك وتعاليت، نستغفرك ونتوب إليك.

تعظيم حرمات المسلمين

تعظيم حرمات المسلمين الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أما بعد: (فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يأتيه جبريل فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة) صلى الله عليه وسلم، وكان جوده عليه الصلاة والسلام على خلق الله مريداً بهم الخير، وهو صلى الله عليه وسلم الرحمة المهداة، قال الله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]. وإذا كان مجرد الملاحاة والمجادلة بين اثنين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أمراً رفع علم ليلة القدر في تلك السنة بسببه! فكيف إذا ساءت العلاقات بين المسلمين إلى ما هو أشد من ذلك؟ فكيف بانتهاك حرماتهم أو سفك دمائهم؟ فيجب أن نعلم أن الجود على المسلمين ومراعاة حقوقهم من أعظم أسباب الخير، ومن آثار القرب من كتاب الله سبحانه وتعالى، فكلما اقتربت من القرآن كلما ازددت تعظيماً وإكراماً لحقوق المسلمين، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، وذلك أن القرآن يغني القلب، والله سبحانه وتعالى إذا أغنى قلب العبد فاض هذا القلب خيراً وصلاحاً عاماً وخاصاً، وفاض ما يتبعه من البدن الذي هو تابع يصلح بصلاحه ويفسد بفساده، يفيض منه على من حوله جوداً وعطاءً. إن تعظيم حرمات المسلمين من أعظم الأمور أهمية في هذه الأوقات، ونرى أن انتهاك حرماتهم، وسفك دمائهم من أعظم الأمور خطراً على المسلمين، ولذلك لا يجوز أن يرضى مسلم أبداً بسفك دماء المسلمين، ويغتاظ من سفك الكفار لدماء المسلمين، وكذلك يغيظه ويتألم قلبه إذا فعل ذلك بغير حق من ينتسب إلى الإسلام، وإن كان ذلك لا يصح ولا يجوز أن ينسب إلى الإسلام، أو العمل الإسلامي خاصةً في هذا الشهر الكريم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزال المرء في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً)، هذا في سائر الأحوال، فكيف بفعله في رمضان؟! وكثير من الناس يستهين بهذا الأمر ولا يعبأ به، ولا يحرك له ساكناً، مع أنه أمر عظيم الخطب، لا يصح أن ينسب إلى العمل الإسلامي بوجه من الوجوه، وإنما ينشر الغرب وعملاؤهم أن المسلمين هم الذين يفعلون ذلك، ومعلوم أنه لا يرضى مسلم بسفك دم أخيه في شهر من الشهور، فضلاً عن هذا الشهر، فضلاً أن يكون ترويعاً للمسلمين في بلادهم التي نسأل الله عز وجل أن يجعلها آمنة مطمئنة رخاء وكل بلاد المسلمين.

غاية الجهاد في سبيل الله

غاية الجهاد في سبيل الله لا يصح أن ينسب سفك الدماء بغير حق إلى الجهاد في سبيل الله؛ فإن ذلك منفصل تماماً عما شرع الله عز وجل من الجهاد، وإنما شرع الله سبحانه وتعالى الجهاد لإعلاء كلمة الله في الأرض، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله). وليس من ذلك سفك دماء المسلمين بغير حق، ولقد قال ربنا سبحانه وتعالى في أسباب كف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن مكة عام الحديبية: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح:25]، فالله سبحانه وتعالى كف رسوله صلى الله عليه وسلم المجتبى المصطفى المختار ومن معه من خيرة أهل الأرض، وخيرة من صحب الأنبياء، كفهم عن مكة المكرمة وقد كان فيها أوثان تعبد من دون الله، وقد كان بيت الله الحرام يسيطر عليه المشركون في ذلك الوقت، فكفهم الله تعالى تعظيماً لحرمات الطائفة المؤمنة المستضعفة التي كانت بمكة في ذلك الوقت، كل ذلك لعظيم حرمات المسلمين عند الله سبحانه وتعالى.

أقسام الجهاد في سبيل الله

أقسام الجهاد في سبيل الله شرع الله عز وجل الجهاد لإعلاء كلمة الله في الأرض، وهذا هو النوع الأول من أنواع الجهاد وهو: جهاد الطلب الذي شرعه الله عز وجل بقوله: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:5]. وقال في الآية الأخرى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] وذلك لأن الأرض أرض الله، والعباد عباده، فيجب أن تعلوهم كلمته، ومن أراد أن يختار الكفر فهذا شأنه، ولكن لا يحق له أن يفرضه على الخلق، ولا أن يعليه على الأرض، فإنها ليست ملكاً له ولا لآبائه. وأما النوع الثاني من أنواع الجهاد: فهو جهاد الدفع، فعندما ينزل العدو ببلاد المسلمين، أو يحتل شيئاً منها، فحينها يصبح الجهاد فرض عين، أما النوع الأول من الجهاد فهو فرض كفاية على أمة الإسلام، وأما النوع الثاني: وهو إذا نزل العدو ببلاد المسلمين: فهذا يتحتم دفعه على أهل المحلة أو البلد التي نزل بها واحتلها، ثم على من بجوارهم على مسافة القصر، ثم من بعدهم يجب عليهم أن يعينوهم، فهذا النوع فرض عين على أهل البلد، وواجب عليهم أن يدفعوا ذلك العدو، وهو فرض كفاية على من بعد من المسلمين عنهم أكثر من مسافة القصر، ومن كان منهم في حقه فرض كفاية فعليه أن يعينهم بما يحتاجون إليه، حتى يدفع ذلك العدو، وتراعى في ذلك مصالح المسلمين وقدواتهم. وكذلك إذا أسر الكفار مسلماً، فإن المسلمين فرض عليهم أن يتعاونوا لتخليصه من الأسر، وفرض عليهم أن يقاتلوا لأجل تحريره إذا غلب على ظنهم تحصيل ذلك، وأما إذا علموا العجز فعليهم أن يصبروا إلى أن يمكنهم الله سبحانه وتعالى، حتى يقويهم الله، وعليهم أن يأخذوا بأسباب القوة.

صورة جهاد الدفع، وإمكانية كل مسلم المشاركة فيه

صورة جهاد الدفع، وإمكانية كل مسلم المشاركة فيه جهاد الدفع هو: الذي افترضه الله عز وجل على أهل كل بلد نزل بها العدو، وعلى من على مسافة القصر منهم، ومن زاد على مسافة القصر ففرض كفاية عليه، بقدر حاجة أهل البلد المحتل، فهؤلاء فرض عليهم أن يعينوهم، وأن يدفعوا عنهم ما استطاعوا، وأن يعينوهم بما يحتاجونه في دفع أعدائهم، وليس بفرض عين على كل المسلمين طالما كان بأهل البلد التي نزل بها العدو كفاية في دفعه، والله تعالى أعلى وأعلم، ومن لم يحضر في ذلك لكونه ليس فرض عين عليه، أو لكونه عاجزاً عن الوصول وإغاثة المسلمين، فلا يخلو حاله من دعاء لهم، وتألم لآلامهم، وفرح لانتصارهم، فإن ذلك من حقيقة الولاء والبراء على دين الله عز وجل، ومن حقيقة الحب في الله والبغض في الله، وهو -والله- من أوثق عرى الإيمان. فإذا لم يكن جهاد الدفع واجباً عليك، ولم تستطع أن تعين إخوانك بأي سبب من الأسباب فلا يخلو منك الحال من دعوة صادقة، وشعور قلبي بآلام المسلمين، وبيان لحقيقة قضيتهم، واستحقاقهم لدفع عدوهم، ومناصرة لهم بالقلب، وفي الحديث: (وهل تنصرون إلا بضعفائكم، بدعائهم وصلاتهم؟) فالله سبحانه وتعالى يدفع بالدعاء ما لا يدفع بالسيوف ولا بالقوة المادية، وقد شرع لنا من أسباب نصرة المسلمين ما ربما يكون أقوى من الأسباب المادية كلها، والله المستعان. ذلك هو ما شرعه الله عز وجل، ولم يشرع سفك دماء المسلمين ظلماً وعدواناً، ولا استهانة بذلك، حتى يتجرأ الإنسان على سفك الدماء بأدنى احتمال، بمجرد أنه يظن أنه يسوغ له ذلك لقتل الكفار، فضلاً: عن أن يكون مبتدعاً ضالاً يكفر المسلمين، ويرى انتهاك حرماتهم ديناً له، والعياذ بالله، هذا أمر لابد أن يحذر المسلمون منه، ولابد أن يكرهوا وجود المنكر قرب منهم أو بعد، وأن يكرهوا وجود سفك الدماء، وانتهاك الحرمات، ويفرحون بظهور الإسلام، ويودون زوال تسلط أعداء الإسلام من الكفرة والمنافقين عن المسلمين وبلادهم، فكلها بلاد لهم بإذن الله تبارك وتعالى، وتعظيم حرمات المسلمين دلالة على كمال الإيمان في القلب وصحته، والاستهانة بذلك دليل على رقته وضعفه، أو زواله؛ لأن المسلم يعرف حرمة المسلمين، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)، فنعوذ بالله من سفك دماء المسلمين، وتضييع حرماتهم، ونسأله عز وجل أن يحفظ دماءهم، وأعراضهم، وأموالهم في كل مكان، وأن يرفع تسلط الأعداء عنهم، وأن يحفظهم في هذا الشهر الكريم، وأن يجعل بلادنا وسائر بلاد المسلمين بلاداً آمنة رخاء مطمئنة بفضله سبحانه وتعالى. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا، اللهم إنا نسألك رضاك والجنة، ونعوذ بك من سخطك والنار، اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا، ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.

ليميز الله الخبيث من الطيب

ليميز الله الخبيث من الطيب من حكمة الله أنه لا يترك المؤمنين على ما هم عليه، بل يقدر شيئاً من المحن حتى يظهر فيها وليه، ويفتضح فيها عدوه، ويعرف بها المؤمن الصادق من المنافق الفاجر، كما امتحن الله الصحابة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهزيمة يوم أحد، فظهر إيمان المؤمنين وصبرهم وثباتهم وطاعتهم لله ورسوله، وظهرت حقيقة المنافقين ومخالفتهم للدين وخيانتهم لله ورسوله والمؤمنين.

تمييز الخبيث من الطيب يكون بالمحن والشدائد

تمييز الخبيث من الطيب يكون بالمحن والشدائد الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، صلى الله عليه وآله وسلم، ثم أما بعد: فقال تعالى: {وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ * وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [آل عمران:176 - 180]. قال ابن كثير رحمه الله في قوله: ((مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ)) أي لابد أن يقدر سبباً من المحنة يظهر فيه وليه ويفتضح فيه عدوه، يعرف به المؤمن الصادق والمنافق الفاجر، وذلك يوم أحد الذي امتحن الله به المؤمنين؛ فظهر به إيمانهم وصبرهم وجلدهم وثباتهم، وطاعتهم لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وهتك به ستر المنافقين؛ فظهرت مخالفتهم للدين، ونكولهم عن الجهاد، وخيانتهم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال تعالى: ((مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ)) قال مجاهد: ميز بينهم يوم أحد. وقال قتادة: ميز بينهم بالجهاد والهجرة. وقال السدي: قالوا: إن كان محمد صلى الله عليه وسلم صادقاً فليخبرنا عمن يؤمن به منا، ومن يكفر، فأنزل الله تعالى: ((مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ)) أي: حتى يخرج المؤمن من الكافر، يخرجهم أمام الناس، روى ذلك كله ابن جرير. ثم قال تعالى: ((وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ)) وهذه أي: أنتم لا تعلمون غيب الله في خلقه حتى يميز لكم المؤمن من المنافق، لولا ما يعقده من الأسباب الكاشفة عن ذلك. ثم قال تعالى: ((وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ)) كقوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} [الجن:26 - 27]. ثم قال تعالى: ((فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ)) أي: أطيعوا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، واتبعوه فيما شرع لكم، ((وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ))]. هذه الآية الكريمة وردت في بيان حكمة الله عز وجل فيما قدر من المحنة على المؤمنين يوم أحد، وكذلك كل ما يقدره الله عز وجل من أسباب المحن التي تجري لأهل الإسلام تجري عليهم وهي في مصلحتهم، كما قال عز وجل: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة:51] فكل هذه الأمور من البلاء والهزيمة والآلام للمسلمين فيها مصلحة، وكذلك النصر والتمكين والعز وقهر الأعداء فيها للمسلمين مصلحة. وقد بين عز وجل حكمة تقديره البلاء عموماً في يوم أحد وما بعد ذلك وما قبله، فله سنته الماضية سبحانه وتعالى بأنه يقدر الأسباب التي يحصل بها التمييز الظاهر بين المؤمنين والمنافقين.

بيان خطر المنافقين

بيان خطر المنافقين دعا الله عز وجل خلقه إلى الإيمان فاستجابت طوائف من الناس، منهم من أجاب صادقاً ومنهم من أجاب كاذباً، واختلط الفريقان، وأظهر كل أحد الإسلام، وهذا الاختلاط إذا لم يتميز فسيحصل منه ضرر عظيم؛ وذلك بأن يتصدر أمور الدين وإمامة الخلق من يدعوهم إلى النار ممن يتكلم بألسنتنا وقلبه قلب شيطان، فيحصل من ذلك ضرر عظيم كما حصل من المنافقين في غزوة تبوك، وكانوا نسبة ضئيلة جداً في المجتمع المسلم، فالذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبوك قال كعب بن مالك: كانوا بضعاً وثمانين رجلاً، وكان الجيش قوامه نحو الثلاثين ألفاً. وهذه النسبة الضئيلة قال الله عز وجل عنها: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة:47] أي: لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا اضطراباً وخللاً وفساداً. ومعنى (ولأوضعوا) أي: لأسرعوا بالإفساد فيما بينكم. وقوله: (يبغونكم الفتنة) أي: يبغون أن تقعوا في الفتن، فتن الشهوات والشبهات، يفسدون العقائد والتصورات وكذلك الأعمال والسلوكيات. ((وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ)) أي: فيكم من لا يعرفهم؛ فيقبل كلامهم ويصدق حديثهم، فيقع فيما وقعوا فيه والعياذ بالله، أو وفيكم سماعون لهم ينقلون لهم الأخبار ويعرفونهم بأحوال المسلمين الباطنة، وكلا المعنيين صحيح، فالله عز وجل من أجل ذلك قدر أن يثبطهم كما قال: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} [التوبة:46 - 47]، فتصور أن جيشاً فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعشرة المبشرون، وأهل بدر، وأهل بيعة الرضوان، والذين ثبتوا في أحد، وكل هؤلاء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الصادقين المخلصين يبلغون نحو الثلاثين ألفاً، والمنافقون أقل من مائة، ولو خرجوا فيهم بلا وزن ولا قيادة ولا إمامة ولا تبليغ للدين ولا تعليم للناس؛ لم يكن لهم شأن من ذلك، ومع ذلك كانوا يستطيعون أن يوقعوا الفساد، فتخيل وتصور هذا، وانظر إلى واقع المسلمين الحاصل اليوم، فبعد ثلاثة قرون من الزمان أو أكثر من ذلك ظهر الأمر جلياً، وتجد الآن الأمثلة متعددة في أجزاء متفرقة من العالم الإسلامي، تجد أثر ظهور النفاق وعدم التميز بسبب الجهل بسنن الله الشرعية والكونية، فتصدر من ليس ممن جعلهم الله عز وجل أئمة في الدين، فإن الله إنما يجعل الأئمة من الذين يهدون بأمره مع تحليهم بالصبر واليقين، كما قال الله: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24]، والله لا ينال عهده الظالمين كما قال تعالى: {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124]، فلا يكون إماماً من كان موصوفاً بالظلم، وإنما يقع الفساد وتخرب الدنيا إذا صار الصم البكم رءوس الناس. ولم يستفد المسلمون من محنهم، ومن فترات أزماتهم، وجهلوا سنة الله عز وجل في خلقه الشرعية والكونية، فالله سبحانه وتعالى يقدر المحن للمسلمين، وهو عز وجل يريد أن يظهر شيئاً من الغيب الذي علمه من قلوب الناس إيماناً ونفاقاً، فهو عز وجل يريد أن يظهره للناس؛ ليتعاملوا به بناء على ذلك، وليس هذا فقط في أمر المنافقين، بل في الكافرين أيضاً، كما قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36]. تأمل هذا الأمر، وتأمل كل كلمة من هذه الكلمات، تجد أنها دليل على أن الأمر يقع بالتراخي وليس مباشرة كما قال سبحانه: (فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة) أي: بعد حين سيتحسرون على ما صنعوا، حين تظهر النتائج العكسية لما خططوا ومكروا ودبروا من إضعاف للإسلام، وإبطال للحق، وإطفاء لنور الله عز وجل؛ فلا يحصل لهم إلا عكس مقصودهم. قال الله: (فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون) فلابد من مرور هذه الوقائع بهذا الترتيب، وبهذا التراخي؛ لأن (ثم) تفيد الترتيب مع التراخي، (ثم يغلبون)، ففي نهاية المطاف يغلب أهل الباطل.

الحكمة من تمييز الله الخبيث من الطيب

الحكمة من تمييز الله الخبيث من الطيب قال الله: ((لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ))، لام التعليل هنا صريحة في بيان الحكمة الكونية من الابتلاءات، فإن الله لم يشرع أن تنفق الأموال في الصد عن سبيل الله، ولا أن تحزب الأحزاب لإطفاء نور الله، ولكن قدر الله ذلك الأمر المكروه ليدرأ عن أهل الإيمان أمراً مكروهاً أشد، وهو اختلاط الطيب بالخبيث، واختلاط المؤمنين بالمنافقين، الذي يؤدي ذلك إلى أن يتولى الإمامة في الدين من ليس أهلاً لها، وأن يتولى إقامة أمر المسلمين من لم يجعله الله عز وجل إماماً بصبره ويقينه، وإنما هو من الظالمين، فلا يحل ولا يجوز أن يكون إماماً في الدين، لما يرتب على ذلك من الفتن التي لا يعلمها إلا الله. وإذا كانت طائفة ضعيفة قليلة من المنافقين في جيش عظيم البركة والخير لا تزيده إلا خبالاً، فما الظن إذا صار المنافقون هم الذين يتكلمون في كل الأمور، وصاروا هم الأئمة والعلماء والقادة والمقاتلين وغير ذلك؟ ماذا يظن من الفساد العريض الذي يحصل للمسلمين إذا لم يتميز الخبيث من الطيب؟! وقد قدر الله أسباب التمييز لكن لم يستفد منها المسلمون، بسبب كثير من الجهل والغفلة عما سن الله عز وجل لعباده. والله عز وجل قد بين حكمة تقديره وإقداره الكفرة على أن ينفقوا أموالهم ليصدوا عن سبيل الله، وبين أنه يتراخى ظهور تحسرهم وأمر هزيمتهم، وأنهم يغلبون، فقال: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأنفال:37]، يتراكم الباطل بعضه فوق بعض ويجتمع؛ لأنه يجذب بعضه بعضاً، رغم أنه يتضح جلياً أنه باطل. ولو تأملت سنة الله في خلقه فستجد أنه كلما كانت أدلة ظهور الباطل قوية جداً كانت قوة الباطل المؤقتة أيضاً قوية جداً، فمثلاً لو تأملت في قصة الدجال تكون فتنته عظيمة تعم الأرض كلها إلا مكة والمدينة، ويكون له جنود وأتباع خصوصاً من اليهود في أجزاء مختلفة، ومعه ما يظنه الناس جنة وناراً، ويأمر السماء فتمطر والأرض فتنبت، ومن يؤمن به تروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذرىً، وأسبغه ضروعاً، وأمده خواصر، ومن لم يؤمن به يصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء مما كان في أيديهم، وكنوز الأرض تتبعه، فهذه فتنة عظيمة مع ظهور عجز الدجال وبطلان أمره؛ لأنه أعور مكتوب بين عينيه كافر. فمهما كانت قوى الباطل فسيظهر بطلانها بما لا يخفى على أحد، ومن يتبعه يتبعه وهو يعلم أنه باطل، وأنه كفر ونفاق وشرك، ومع ذلك يتبعه الكثيرون؛ لأجل الفتنة، ويطول الأمر عند الناس، ودائماً لحظات التعب والمحنة تكون طويلة، يراها الإنسان كدهر، ويريد أن تنتهي، ولكنها سوف تمر قطعاً. إذاً: قدر الله عز وجل المحن ليميز الخبيث من الطيب ويطلع العباد على الغيب الذي لا يطلع عليه إلا من شاء أن يطلعه من رسله. وأنت تلاحظ في هذه الآيات جملاً من الفوائد وأنواعاً من العلوم، كما ذكرنا في بيان سنة الله سبحانه وتعالى في أمر البلاء حتى يظهر الحق جلياً وبحجة قوية وإن كان شديد الضعف، فقوة الباطل منهارة بلا تردد، والباطل يتناقض في نفسه في اليوم الواحد كما تلحظه وتراه في واقع الحياة، تراه يتناقض فيما يعلن ويفعل ويقول، تناقضاً ظاهراً في كل شيء، فليس عنده ميزان، ولا يمتثل ديناً، أو شرعاً، أو حتى قانوناً مخترعاً باطلاً وضعه برأيه، فلا يلتزم بشيء، لا يقيم توراة ولا إنجيلاً ولا قانوناً دولياً ولا شيئاً يخالف هواه على الإطلاق، ولا يعبأ بأمر من الأمور، وهذا هو التناقض في أوضح صوره، وفي نفس الوقت معه قوة عجيبة، وهذه فتنة ومحنة من الله؛ ليحصل التميز، لأجل أن لا يشك أحد حين تتغير الأمور فتنقلب أو تعتدل الموازين -بإذن الله تبارك وتعالى- أن من تابع الباطل في هذا الوقت فهو من ركامه الذي جعله الله عز وجل ممحوقاً، ونهايته في جهنم والعياذ بالله، فلا يمكن أن يقبل بحال من الأحوال أن يكون أهلاً للإمامة في الدين، وأن يكون خليطاً للمسلمين دون أن يعرف أمره، ولذلك كان من هدي أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه الاستفادة من محنة الردة، حيث كانت محنة هائلة أوشكت أن تعصف بالمسلمين، حيث ارتدت العرب ورجعوا إلى عبادة الأوثان، واتبعوا مسيلمة والأسود العنسي وسجاح وأمثال هؤلاء، ومنع منهم طائفة الزكاة وغير ذلك، ولم يعد يسجد لله عز وجل في الأرض بعد التمكين ودخول الناس في دين الله أفواجاً إلا في مكة والمدينة ومسجد جواتا بالبحرين، وهم وفد قبيلة عبد القيس، وسائر الأرض أصبحت حرباً على الإسلام، فلما مكن الله عز وجل للمسلمين وانهزم المرتدون وجاءوا يعلنون رجوعهم وتوبتهم كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يخيرهم بين الحرب المجلية والسلم المخزي، ففرض عليهم السلم المخزي فلا يحملوا سلاحاً ولا يركبوا خيلاً حتى يري الله خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين فيهم أمراً، ولم يكن لأحد منهم أبداً صدارة، أقصى ما يسمح له أن يكون في آخر الصفوف جندياً إن أراد الصدق مع الله عز وجل كما وقع ممن تاب وحسنت توبته، لكن لم تسمع عن روايته للحديث، ولا أنه صار معلماً للناس، فالذين كانوا معلمين للمسلمين في أقطار الأرض المفتوحة هم فضلاء الصحابة رضي الله عنهم، مثل الخلفاء الأربعة وأبي هريرة وعبد الله بن عباس ومعاذ بن جبل وأبي الدرداء، الرجال الكمل رضوان الله تبارك وتعالى عليهم، الذين علموا الناس الدين، والذين تولوا قضاء المسلمين، وتولوا الجهاد في سبيل الله، مثل سعد بن أبي وقاص وطلحة والزبير، وإنما تولوها بصدقهم الذي عرف منهم في فترات المحن، فلابد أن نستفيد من المحن ولا تمر بنا كما جاءت، ونخرج منها كما خرجت علينا. إن الأمر مؤلم للمسلمين بلا شك، ولكن لها فوائد؛ ليظهر المصلح من المفسد، ليظهر ذو العمل الصالح من ذي العمل الطالح، ليظهر أهل الإيمان من أهل النفاق، ليميز الله الخبيث من الطيب كما قال سبحانه: ((مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ)) أي: من النفاق، ((حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ)).

وجوب العمل بالظاهر والله يتولى السرائر

وجوب العمل بالظاهر والله يتولى السرائر إن الله عز وجل لا يطلع عباده على ما في القلوب، فليس من سنته سبحانه وتعالى أن تنكشف القلوب للناس؛ ولهذا لا يجوز أن يدعي أناس بلا بينات أن في قلب فلان رياء أو كذباً أو غشاً أو شكاً، فهذا أمر ليس من سنة الله، ومن أطلعه الله من الأنبياء كما أطلع نبيه صلى الله عليه وسلم على بعض المنافقين، فإنه لم يجعله يعمل بذلك، بل يعمل بالأمر الظاهر، فأبى أن يقتل صلى الله عليه وسلم من علم أن في قلبه نفاقاً، وقال: (لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس، ولم أؤمر أن أشق عن قلوبهم) قال ذلك لمن عمل بالقرائن من أصحابه، مثل قوله لـ أسامة حين قتل الرجل الذي أكثر في المسلمين قتلاً، فقال عندما علاه بالسيف: لا إله إلا الله، فقتله أسامة، فقال: (إنما قالها متعوذاً، فقال صلى الله عليه وسلم: هلا شققت عن قلبه لتعلم أقالها أم لا؟!). فمع أن الله أطلع نبيه صلى الله عليه وسلم على ما في قلوب كثير من المنافقين ومع ذلك لم يعاملهم بذلك؛ لأنها سنة الله الشرعية في هذا الأمر، وهي أنه لا يطلع أنبياءه على ما في قلوب الناس اطلاعاً تاماً يعرف به كل أحد بل قال سبحانه وتعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [التوبة:101]؛ وذلك أن الله استأثر بعلم الغيب سبحانه وتعالى، فإذا أطلع نبيه صلى الله عليه وسلم على بعض المنافقين فهو لم يطلعه على جميعهم، كما أنه لم يجعل هذا الأمر تنبني عليه الأحكام، وإنما تبنى على الأمور الظاهرة، فلا يتهم إنسان بنفاق من غير بينة، أو عمل بخصال النفاق، ولا يجوز بالأولى أن يتهم بكفر أو فسق أو بدعة من غير بينة، ولو تصورنا أن الله أطلع بعض أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم على غيب القلوب، فتصور ما يمكن أن يدعيه من يأتي بعدهم، فيقتل أناساً وتنتهك حرماتهم بدعوى من يقلد هؤلاء، ويقول: أنا وقع في قلبي أن هذا رجل منافق فقتلته، أو أن هذا رجل منافق فسجنته، أو أبعدته، أو أن أنه كذاب فعاملته بمقتضى ذلك، فيحصل فساد عريض، فيتهم البريء، وتنتهك الحرمات بالدعاوى والظنون الكاذبة، ويدعي أن له في ذلك أسوة بالصحابة رضي الله عنهم حين عاملوا الناس بما وقع في قلوبهم. ولذا كان من ضلالات بعض الصوفية: أن منهم من يزعم أنه يطلع على ما في قلوب أتباعه وتلامذته، أو قلوب الناس، فيعاملهم بمقتضى ذلك الكشف كما يزعمون، وهذا أمر باطل لا شك فيه، فنحن أمرنا أن نعامل الناس بالظاهر، قال تعالى: ((وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ)) فهذا الاستثناء الاستدراك حتى يبين أن الرسول قد يطلع على بعض ما في قلوب بعض الناس، لكن إنما يطلعه الله عز وجل، يخصه بمعرفة وعلم دون سائر الخلق، وهذا لا يجعل الغيب شهادة، وتبقى مفاتيح الغيب الخمسة التي استأثر الله عز وجل بها لا يعلمها إلا هو. وما أطلع الله نبيه عليه ليس من الغيب المطلق الذي لا يطلع عليه إلا الله، ثم إنه لا يبنى عليه حكم في حق الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما يعمل بالظاهر، ولا يكون اطلاعاً كاملاً بل جزئياً، فيعلم شيئاً ولا يعلم غيره، ولا يعلم إلا ما أوحاه الله عز وجل إليه، إما في أمر قد وقع أو في أمر لم يقع، فالرسول صلى الله عليه وسلم قد يخبر عن غيبيات في المستقبل، ولكنه صلى الله عليه وسلم لا يخبر عن تفاصيل وقوعها، ولا يخبر بوقوعها في وقت محدد، فالأمر لا يزال غيباً كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً عن الفتن والملاحم، والدجال، ونزول عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم، وأنه يكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية، ولم يخبرنا عليه الصلاة والسلام بوقت ذلك، وإنما أخبرنا أن ذلك سيقع. وأما ما أخبر به باليوم، وبتحديد المكان فقد علقه بالمشيئة كما قال في ليلة غزوة بدر: (هذا مصرع فلان غداً إن شاء الله)، فجعله معلقاً بالمشيئة، فحين حددها تحديداً كاشفاً علقها بالمشيئة؛ لأنه قد يغير الله عز وجل ذلك وقد يمضيه، وحين جزم دون تعليق على المشيئة بقي الأمر غيباً؛ لأنه لم يخبر بكل التفاصيل زماناً أو مكاناً أو يخبر بالزمان دون المكان أو المكان دون الزمان، ونحو ذلك مما يظل الأمر معه غيباً، فهذا مما ينبغي فهمه في قوله عز وجل: ((وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ))، وقوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} [الجن:26]. كذلك لا يخرج الأمر عن كونه غيباً انكشف لبعض الناس، بل لا يزال غيباً حتى في حق الرسول؛ لأن الله عز وجل قال: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام:59] وهذا عام لم يستثن، وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:34].

تدفع المحن بالإيمان والتقوى

تدفع المحن بالإيمان والتقوى قال تعالى: ((فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ)) فما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم يجب أن يصدق، وما أمر به يجب أن يتبع، وما وقع بعد ذلك للمؤمنين الصادقين المتبعين للرسول صلى الله عليه وسلم من المحن هي في مصلحتهم، في دنياهم وأخراهم، وهي من أسباب نقائهم أو حصول الخير لمجتمعهم وأفرادهم بفضل الله عز وجل. فلا يزعزعك ما ترى من تسلط الكفرة وقتلهم للمسلمين، ومن انتهاك الحرمات، ولابد أن نتهم أنفسنا كما قال الله: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165]، فالذي أصابنا هو بسبب الذنوب، وهذا حق، ولكن لا يلزم من ذلك أن يكون الناس قد خرجوا عن الطريق بالكلية، فهم ما زالوا على الطريق وقد وقع أمر شديد في غزوة أحد لأناس هم خيرة أهل الأرض، ووقع لهم ما وقع، فإذا رأيت انتهاكاً للحرمات، وسفكاً للدماء، وتسلطاً للأعداء، فلا يمنعنك ذلك من الالتزام الصادق، ومن أن تؤمن بالله ورسله، وأن تصدق الأخبار، وأن تلتزم الأوامر وتجتنب النواهي. قال الله: ((فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ)) فالصبر والتقوى مفتاح خير الدنيا والآخرة، مفتاح خير الدنيا في رد كيد الأعداء كما قال تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران:120]، وفي الآخرة كما قال سبحانه: ((فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ)).

بيان عقوبة البخل

بيان عقوبة البخل قال الله سبحانه وتعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [آل عمران:180]. تعلقت هذه الآية بأحداث غزوة أحد تعلقاً ظاهراً، إذ إن الجهاد في سبيل الله عز وجل لا يقوم إلا على النفقة في سبيله سبحانه، والمنافقون دائماً يبخلون بما آتاهم الله من فضله، فكان الوعيد الشديد لمن يبخل بما أوجب الله عز وجل عليه، وفيها إنكار ظن البخلاء أن ما آتاهم الله هو خير لهم، فأنكر الله عليهم كما أنكر حسبان الذين كفروا أنما يملي لهم خير لأنفسهم. وكذلك ما يعطي للكفرة والمنافقين من أموال ومن زينة في الحياة الدنيا فذلك ليس خيراً لهم: كما قال تعالى: ((وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ)) فأطلق الشر؛ ليعم الدنيا والآخرة، وذلك كما قال عز وجل في بيان شره عليهم في الدنيا: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:55]، وكم من أناس كان المال والملك والسلطان سبباً للشقاء الدنيوي والعذاب فيها، فضلاً عما ينتظرهم في برزخهم، وعما أعد الله لهم يوم القيامة، فقد يكون جمع المال ورصده وحسابه عذاباً، وقد تكون نفقته ونقصانه والخوف كذلك، وهذا -والله- أمر مطرد، فكلما كسب الإنسان مالاً من حرام شقي به أعظم شقاء، وتعس به أعظم تعاسة، مع أنه يزداد حرصاً عليه كالذي يشرب من ماء البحر ويزداد عطشاً وشرباً وألماً، ويضطرب نظام جسمه بالكلية بسبب شربه لهذا الماء المالح، وكذلك المال إذا أخذه الإنسان من حرام وصرفه في الحرام.

الآثار الواردة في الزجر عن البخل

الآثار الواردة في الزجر عن البخل قال ابن كثير رحمه الله: ((وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ)) أي: لا يحسبن البخيل أن جمعه المال ينفعه، بل هو مضرة عليه في دينه وربما كان في دنياه، ثم أخبر بمآل أمر ماله يوم القيامة فقال: ((سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)). روى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مثل له بشجاع أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة)، الشجاع ثعبان، أقرع أي: سقط شعره من كثرة سمه. له زبيبتان: نقطتان سوداوان بين عينيه، يطوقه يوم القيامة أي: يكون هذا الثعبان طوقاً في عنقه فيلتف حول رقبته؛ لأنه لم يؤد زكاة ماله، يقول صلى الله عليه وسلم: (يأخذ بلهزمتيه) يعني بشدقيه، والشدق جانب الخد من الداخل، ومعنى (يأخذ بلهزميته) أي: يتسلط عليه الثعبان حتى يدخل في فمه من الداخل ويلدغه في هذه المواطن. قال: (يقول: أنا مالك، أنا كنزك) أي: يتحول هذا المال إلى ثعبان حقيقي فعلاً، وهذا الحديث على ظاهره لا يحتاج إلى تأويل، فإن الله عز وجل قادر على أن يحول هذه الأموال إلى ثعابين يوم القيامة، تأخذ برقاب البخلاء، ويعذبهم الله بهذا العذاب. قال: (ثم تلا هذه الآية: ((وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ)) [آل عمران:180]) وهذا وعيد شديد لمن منع الزكاة، فيجب على المسلم أن يتعلم فقه الزكاة ويؤدي ما افترض الله عز وجل عليه، وهذا فرض عين على كل من له مال تجب فيه الزكاة، فكل من له مال يجب أن يتعلم نصاب الزكاة؛ حتى لا يتأخر عن أدائها إذا وجبت، ويعلم متى تجب عليه، وكثير من الناس يفرط في هذا فيدخل في هذا الوعيد الشديد. فالآية إذاً في الزكاة الواجبة والنفقة الواجبة، وفي الجهاد في سبيل الله أيضاً كما دل عليه السياق. والحديث تفرد به البخاري دون مسلم من هذا الوجه، وقد رواه ابن حبان في صحيحه. حديث آخر رواه الإمام أحمد عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الذي لا يؤدي زكاة ماله يمثل الله له ماله يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان، ثم يلزمه يطوقه يقول: أنا كنزك أنا كنزك)، وهكذا رواه النسائي عن أبي هريرة. قال ابن كثير: قلت: ولا منافاة بين الروايتين رواية ابن عمر عن أبي هريرة، وقد يكون عند عبد الله بن دينار من الوجهين عن ابن عمر وعن أبي هريرة، وقد ساقه الحافظ أبو بكر بن مردويه من غير وجه عن أبي صالح عن أبي هريرة. حديث آخر رواه الإمام أحمد عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من عبد لا يؤدي زكاة ماله إلا جعل له شجاع أقرع يتبعه، يفر منه وهو يتبعه فيقول: أنا كنزك، ثم قرأ عبد الله مصداقه من كتاب الله: ((سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ))) وهكذا رواه الترمذي وقال: حسن صحيح. وقد رواه الحاكم في مستدركه عن ابن مسعود موقوفاً، رواه في مستدركه عن ابن مسعود به، ورواه ابن جرير من غير وجه عن ابن مسعود موقوفاً، ومثل هذا لا يقال من قبل الرأي، بل له حكم الرفع. حديث آخر: رواه الحافظ أبو يعلى عن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ترك بعده كنزاً)، والكنز: هو ما لم يؤد زكاته، قال: (من ترك بعد كنزاً مثل له شجاع أقرع يوم القيامة له زبيبتان يتبعه ويقول: من أنت ويلك؟! فيقول: أنا كنزك الذي خلفت بعدك، فلا يزال يتبعه حتى يلقمه يده فيقضمها) يعني من شدة التعب يريد أن يريح نفسه فيعطيه شيئاً من بدنه فيلقمه يده، فيقضم يد البخيل والعياذ بالله، قال: (ثم يتبع سائر جسده) إسناده جيد قوي. وهذا يعني أنه لا يكتفى باليد، بل يعذب جسده كله بهذا الثعبان، رغم محاولة صاحبه الفرار منه، فلو أن الناس فروا في هذه الدنيا من المال الحرام، أو من المال الذي منع الحق فيه، كما يفرون من هذا لما حصل لهم هذا، نسأل الله العافية، إنما يفرون يوم القيامة من هذه الكنوز التي أصبحت لا قيمة لها، نسأل الله العافية.

وجوب النفقة على الأقارب والمعنى الآخر للبخل

وجوب النفقة على الأقارب والمعنى الآخر للبخل قال ابن كثير: ورواه الطبراني عن جرير بن عبد الله البجلي وابن جرير وابن مردويه من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يأتي الرجل مولاه فيسأله من فضل ماله عنده فيمنعه إياه إلا دعي له يوم القيامة شجاع يتلمظ فضله الذي منعه) ومعنى: (لا يأتي الرجل مولاه) أي: قريبه، أو كل من كان قريباً له. (فيسأله من فضل ماله عنده)، وهذا من أقوى ما يحتج به على وجوب النفقة على الأقارب. قوله: (شجاع يتلمظ) يعني: يتغيظ عليه ويعد فمه للأكل. ما هو هذا الشجاع؟ هذا الشجاع هو فضله الذي منع، هذا لفظ ابن جرير. وروى ابن جرير عن أبي قزعة عن رجل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من ذي رحم يأتي ذا رحمه فيسأله من فضل جعله الله عنده فيبخل به عليه إلا أخرج له من جهنم شجاع يتلمظ حتى يطوقه) نعوذ بالله. ثم روى حديثاً ضعيف السند لكنه شاهد لما قبله، وفيه: عن ابن عباس قال: نزلت في أهل الكتاب الذين بخلوا بما في أيديهم من الكتب المنزلة أن يبينوها: ((وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ))، فالتفسير الثاني للبخل هو: البخل المعنوي، وهذا أولى بالذم؛ لأن منع المال يؤدي إلى ضياع دنيا الناس وافتقارهم وحاجتهم، أما البخل المعنوي وذلك بمنع الحق، ومنع آيات الله من البيان فإنه يترتب عليه ضياع آخرة الناس، وضياع دينهم وتحريفه، الذي يؤدي إلى شقائهم، وليس فقط في جيل بل في أجيال، فلا تزال أمم كثيرة على الضلال والشرك بسبب أن آباءهم وأجدادهم حين جاءهم الحق فكتموه ولم يؤمنوا به، فورثوا الكفر لأجيال تلو أجيال، ولا حول ولا قوة إلا بالله. قال: والصحيح الأول، وإن دخل البخل المعنوي في معناه، وقد يقال: إن هذا أولى بالدخول، وهذا الذي علموه من الحق هو شر لهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والقرآن حجة لك أو عليك)، فالذين آتاهم الله الكتاب فلم يقوموا به، والذين آتاهم الله العلم فلم يعملوا به، ولم يقولوا الحق للناس، بل كتموه وبخلوا به لكي ينالوا حظاً من الدنيا فسينالهم ما أخبر الله عز وجل من العقاب. قال سبحانه: ((وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)) قال ابن كثير: أي فأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه، فإن الأمور كلها مرجعها إلى الله عز وجل، فقدموا من أموالكم ما ينفعكم يوم معادكم. ((وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)) أي: بنياتكم وضمائركم.

بيان فساد اعتقاد اليهود والنصارى

بيان فساد اعتقاد اليهود والنصارى فرح اليهود بهزيمة المسلمين في أحد من أجل أن يظهروا على المسلمين، ولقد يسر الله عز وجل إهلاك كبارهم وتدمير قبائلهم في الغزوات الثلاث التي غزاها النبي صلى الله عليه وسلم، فقد غزا بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة جزاء على خيانتهم، وما أكثر الآيات في ذم أهل الكتاب، وفي بيان فساد اعتقادهم في حق الله سبحانه وتعالى، مثل أنهم يقولون: إن الله فقير وهم أغنياء عياذاً بالله، وهذه عادتهم في السب والانتقاص من الله سبحانه وتعالى، ووصفه بصفات العجز، ولا تزال كتبهم المحرفة مليئة بهذه الأوصاف لرب العزة، من العجز، والمرض، والحزن والبكاء، وزاد النصارى الأمر فساداً وضلالاً فاعتقدوا فيه الموت، والألم والعجز والصراخ، وأن يتمكن الأعداء منه أعظم تمكن، فهذه سيرة هؤلاء ونسأل الله العافية، والحمد لله الذي عافانا من هذا البلاء! وأناس كثيرون يعتقدون في الله عز وجل صفات النقص، ويزعمون بعد ذلك أنهم يحبونه ويعبدونه، وهم يصفونه بأفظع الأوصاف، والحمد لله الذي أحق الحق وأبطل الباطل. وقد بين سبحانه وتعالى كيف كان تكذيبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين أن المؤمنين سيسمعون منهم ومن المشركين أذىً كثيراً، ثم بين حقيقتهم في كونهم لم يوفوا بما أخذ عليهم من العهد في تبيين الكتاب للناس، بل كتموه، ونبذوه وراء ظهورهم، فليسوا في الحقيقة مؤمنين بالكتب التي بين أيديهم، وإن عوملوا أنهم أهل كتاب، فهم يشترون الثمن القليل في الدنيا ببيعهم دينهم وكتابهم وعهد الله لهم، وهم يفرحون بما أتوا من الكفر، ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فأخبر الله بعذابهم ثم ختم الله السورة بالحث على التفكر في خلق السماوات والأرض، وهي آيات الله المشهودة التي تدل عليها آياته المسموعة أحسن دلالة، وتحيي القلب المؤمن بما ينزل الله عز وجل عليه من فضله، حين يشاهد آياته سبحانه، ويدعوه عز وجل بالتوحيد والإخلاص، ويتذكر الإيمان بالله واليوم الآخر، إلى آخر المعافي في الآيات العشر من خاتمة سورة آل عمران، والتي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرؤها حين يستيقظ من الليل ناظراً إلى السماء وهذه الآيات هي دعاء المؤمنين الذي علمهم الله عز وجل إياه في قوله: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران:191 - 194]. وقد بين عز وجل استجابته لعباده المؤمنين، وأن منهم من تحمل الأذى في سبيل الله من الهجرة والإخراج من الديار، والجهاد في سبيل الله والقتال والقتل، وكل ذلك لن يضيعه الله عز وجل. ثم حذر سبحانه وتعالى الإنسان من أن يغتر بما عليه الكفرة وتقلبهم في البلاد، بل مأواهم جهنم وبئس المهاد، وبين عز وجل إيمان طائفة من أهل الكتاب، وأن طائفة منهم مؤمنة بالحق الذي بعث به النبي صلى الله عليه وسلم، وهم مؤمنو أهل الكتاب، ولا يوجد مؤمن إلا من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم كما آمن بما أنزل من قبل، ثم ختم السورة بالأمر بالصبر والمصابرة والمرابطة فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200]. هذا غاية ما أردنا ذكره من تفسير سورة آل عمران فيما يتعلق بغزوة أحد؛ للاستفادة من الدروس التربوية الإيمانية التي تتضمنها هذه الآيات، ولنعلم كيف ربي المجتمع المسلم والطائفة المؤمنة، من خلال الوقائع التي حدثت لهم مع النبي صلى الله عليه وسلم في مواجهة أعدائهم. نسأل الله عز وجل أن يقضي حاجات المحتاجين، وأن يفرج كرب المكروبين، وأن يفك أسرى المأسورين، وأن يرفع الظلم عن المظلومين، وأن ينصر عباده المؤمنين، وأن يهدينا أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

حكم تصدر من ارتد ثم أسلم للمناصب والقيادات

حكم تصدّر من ارتد ثم أسلم للمناصب والقيادات Q ذكرتم أن المرتدين لا يصدرون في المناصب، وأنهم ينبغي أن يكونوا في آخر الصف، فكيف الجمع بين قولكم هذا وبين ارتداد عبد الله بن أبي السرح ثم رجوعه وقيادته معركة ذات الصواري؟ A هذا الأمر أولاً يحتاج إلى ثبوت الإسناد فيه، فكثير من أمور السير تذكر بغير إسناد. ثانياً: قال أبو بكر: حتى يري الله خليفة رسول الله والمسلمين أمره، فلو حسن إسلام هذا الرجل وظهر إخلاصه وثبت على ذلك فيرجى منه خير إن شاء الله، ويكون تابعاً لغيره في الجملة.

كيفية إخراج زكاة المال

كيفية إخراج زكاة المال Q كيف تخرج زكاة المال؟ A على المرء أن يعرف اليوم الذي ملك فيه النصاب، ويحسب النصاب في قول عامة المذاهب على الفضة، فالمذاهب الأربعة تحسبه على الفضة، وهو الصحيح؛ لأنه مال يمكن أن يشترى به من السوق فضة تبلغ نصاباً، فقيمة النصاب على الفضة أو على ما يبلغه النصاب على الأقل من الذهب والفضة، فلو افترضنا أن الفضة غلت في بعض البلاد، وكان الذهب أقل فيحسب على الأقل، وهو الأحظ للفقراء، ونصاب الفضة (595) جراماً عيار ألف، من الفضة النقية، وكذلك يعرف التاريخ الذي ملك فيه هذا النصاب، فيحسب من هذا اليوم مرور سنة هجرية قمرية، ويحسب ما معه من المال، وذلك إذا لم ينقص المال عن النصاب خلال السنة، ويحسب المال الموجود ولو أتى بالأمس، طالما كان من جنس الأصل، فعلى أصح قولي العلماء: أن المال المستفاد من جنس الأصل يزكى بحول الأصل، فيخرج ربع العشر من هذا المال المولود. وإذا كان عليه دين خصم هذا الدين من المال؛ لأن ما في يده ليس -في الحقيقة- ملكاً له، وإن كان له ديون فإنه يزكيها إذا قبضها لما مضى من السنين، إذا كانت تتجاوز عدة سنوات. وكذلك عروض التجارة يلزمه أن يزكي عنها كل عام من تاريخ ملك النصاب؛ لأنها ملحقة بزكاة المال. ففي كل سنة يعمل جرداً -كما يقولون- للبضاعة الموجودة، ويحسبها بقيمتها، وهو سعر الجملة الذي يشتري به التجار، فيخرج ربع العشر. وأصح قولي العلماء في مسألة زكاة عروض التجارة: أنه يجزئ فيها أن يخرج من العروض، كما يجزئ فيها أن يخرج القيمة النقدية من ذهب أو فضة أو نقود في مقابل تلك العروض، وأكثر أهل العلم يقولون: إنه يجب أن يخرج القيمة -وهي ربع العشر- نقوداً. والصحيح: أنه يجوز له أن يخرج الزكاة من العروض نفسها؛ لأن زكاة المال وعروض التجارة من باب واحد، ومثلها زكاة الذهب والفضة لمن بلغ نصاباً، لكن نصاب الذهب يختلف في هذه الحالة، فنصابه عشرون ديناراً، أي: خمسة وثمانون جراماً عيار أربعة وعشرين، فمن كان عنده ذهب ولو كان معداً للزينة فيجب فيه الزكاة على أصح قولي العلماء؛ لدخوله في عموم الآيات الدالة على وجوب الزكاة؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصحابيتين بأن يخرجا زكاة السوارين اللذين تحليتا بهما، فقال: (أيسركما أن يسوركما الله بسوارين من نار؟!)، فليس الذهب هنا معداً إلا للزينة فقط، ومع ذلك أمرهما أن يخرجا الزكاة فيه، فقال: (أديا زكاته)، وتوعدهما بأنهما إن لم يؤديا زكاة هذه الأساور فإن الله يسورهما بسوارين من نار والعياذ بالله، فكل هذا فيه ربع العشر. وأما زكاة الزروع: فعند الحصاد وبعد التنقية، ومعرفة قدرها، فإذا بلغت النصاب وهو خمسة أوسق، والوسق: ستون صاعاً، والصاع: أربعة أمداد، والمد: ملء كفي الرجل المتوسط، وكثير من الناس يعرفون الصاعات بالأوزان المعاصرة، وأما زكاة الفطر: فتخرج من كل ما يعد للإدخار ويقتات، فيخرج منه العشر أو نصف العشر، فالعشر إذا كان يسقى بالسماء، ونصف العشر إذا كان يسقى بالآلة، وزكاة الحيوان لها تفصيلات في موضعها.

حكم سوء الظن بالناس والحكم عليهم بالباطل

حكم سوء الظن بالناس والحكم عليهم بالباطل Q عرفت بعض الصوفية قبل الالتزام، ودائماً أحاول البحث عن قلوب الناس كما علموني، وأحكم على الناس دائماً بالباطل، فهل من علاج لهذا؟ A هذا من الوساوس فعلاً، واعلم أن الله يجتبي من رسله من يشاء، كما قال تعالى: ((وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ))، فإياك أن تجعل نفسك في مصاف الرسل، والرسول صلى الله عليه وسلم حين علم، لم يعامل الناس بما علم من قلوبهم، وإنما قال: (إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس)، بل عاملهم بالظاهر، وعلم أصحابه ذلك. والفراسة لا تنفى لكن لا يُجزم بها، وإياك أن تعامل الناس بالظنون، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث)، وقال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} [الحجرات:12] فكلما وقعت في قلبك الخواطر عن قلوب الناس فتذكر قوله: ((اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ))؛ حتى لا تغرك نفسك وشيطانك؛ فتظن نفسك في مقام الأنبياء.

حكم الاحتفال بعيد شم النسيم

حكم الاحتفال بعيد شم النسيم Q ما حكم الاحتفال بما يسمى شم النسيم؟ وهو احتفال خاص بالنصارى، وهل يصح التهنئة به فيما بين المسلمين وبين المسلمين والنصارى؛ مجاملة لهم؟ A لاشك أن هذا العيد الباطل مرتبط بأعياد النصارى ارتباطاً وثيقاً، وهو يتغير كل سنة، يكون يوم فطرهم بعد صومهم الذي ينتهي مع ما يسمونه بعيد القيام المجيد، وهو عيد يدل على الشرك والكفر من وجوه متعددة وهي: اعتقاد موت الإله، ثم اعتقاد قيامته من الأموات، واعتقاد صلبه، وقد قال عز وجل: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:157]. فلا يجوز لنا أن نحتفل بذلك، ولا أن نشاركهم، ولو بالأكل والشرب القليل، أو بأنواع اللعب والفرح والسرور مما يجذب القلوب إلى هذه الأعياد، وهو للأسف عيد غير إسلامي يحتفل به كثير من المسلمين كاحتفالهم بأعياد المسلمين، ولا يوجد عيد آخر وطني ولا قومي، ولا أعياد ميلاد، ولا غيرهما بمنزلة هذا العيد، فهو أخطر عيد؛ لأنه يشارك فيه كثير من المسلمين نسأل الله العافية. وأما أن أصله فرعوني فالله أعلم بذلك، لكن الظاهر أن له تعلقاً بالنصارى؛ لأنه -كما ذكرنا- يتغير بتغير صومهم، وعلى أي الأحوال فالفراعنة وعباد الأوثان أسوأ حالاً من النصارى، فلا يجوز التهنئة بهذا العيد بحال من الأحوال، بل إن كان هذا على اعتقاد ما فيه من قيام المسيح من الأموات، فهذا من الكفر والشرك والردة عن الإسلام والعياذ بالله.

حكم مشاهدة فيلم عن عيسى عليه السلام

حكم مشاهدة فيلم عن عيسى عليه السلام Q ما حكم مشاهدة فيلم عن السيد المسيح؟ A قال الله عز وجل: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء:140]، فلا يجوز للإنسان أن يحضر مجالس تكذيب القرآن العظيم، أو أن يحضر مجالس يخالف فيها نص الكتاب العزيز، فهنا قال الله تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:157]، وربما وقع في قلبه تصديق ذلك ثم التأثر به، وقد سمعنا أن بعضهم يبكي عند رؤية هذه المشاهد، وهذا لا يحصل إلا بسبب التصديق. فالأصل أنك لو رأيت كلاماً تكذبه فإنك تضحك من سخافة عقل قائله، وأما أن تتأثر به فهذا لا يحصل إلا بسبب نوع من التصديق، وكثير من الناس كأن هذا الأمر مصدق عندهم، وأصبح كثير من المسلمين يسألون عن هذا الشيء العجيب فيقولون: هل صُلب المسيح أم لا؟ وهل مات على الصليب أم أنه صلب ولم يمت عليه؟ ونحو ذلك، فهذا شيء عجيب! فقد نص القرآن على هذه المسألة وأصبح كثير من المسلمين يجهلونها، قال الله عز وجل: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:157]. نعم وقع هناك صلب، فقد صلب إنسان آخر غير المسيح عليه السلام، ولاشك أن كل الحواريين -فضلاً عمن أتى بعدهم- لم يشهد أحد منهم تلك الواقعة كما نصت الأناجيل، بل إنهم كلهم أنكروا المسيح وتخلوا عنه وتركوه، ولم يشهد واحد منهم ذلك، وإنما ذكروا ما سمعوه من الناس، واعتقاد أن المسيح قد صلب أو قد مات أو قد قتل لم يكن كفراً إلى أن نزل القرآن، فنزل القرآن وبين أنهم ما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم، وأنه سبحانه قد رفعه إليه، قال سبحانه وتعالى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء:158]، لذلك من اعتقد ذلك فهو مكذب للقرآن العظيم، فيكون مرتداً عن الإسلام والعياذ بالله من ذلك.

حكم تهنئة النصارى بأعيادهم

حكم تهنئة النصارى بأعيادهم Q رجل نصراني هنأني بعيد الفطر والأضحى، فهل لي أن أهنئه بعيد الفصح وأقول له: كل عام وأنتم بخير بمناسبة أن الله قد مات ثم قام من الأموات؟ A نسأل الله العافية، أيجوز أن يكون الحق كالباطل؟ وأن يكون الشرك كالإيمان؟ ما لكم كيف تحكمون؟ هو هنأك بحق؛ وهو إتمام النعمة عليك بعبادة الصيام والتضحية في سبيل الله عز وجل بالأضحية، فكيف يجوز لك أن تهنئه بالكفر والشرك، نعوذ بالله من ذلك؟!

حكم التمثيل بجثث الجنود الكفار في حربهم مع المسلمين

حكم التمثيل بجثث الجنود الكفار في حربهم مع المسلمين Q ما حكم التمثيل بجثث الجنود الكفار في حربهم مع المسلمين؟ A إن الغيظ يملأ قلوبنا من القوم الكافرين، فنسأل الله أن يذهب غيظ قلوبنا منهم، وأن يشفي صدورنا منهم، ولكن حكم الشرع في هذه المسألة بيِّن، فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المثلة، وقد تألم النبي صلى الله عليه وسلم تألماً شديداً عندما رأى عمه حمزة وأصحابه قد مثل بهم، ومع ذلك نهى صلى الله عليه وسلم عن المثلة بعد أن عزم أن يمثل بالمشركين مثلة لم يسمع بها، فلا يجوز التمثيل ولو من أجل إرعاب الكفار أو نحو ذلك، فلا يصح هذا الأمر، وإنما يخوفون بما شرع الله لا بمخالفة الشرع، ونسأل الله أن يفرج كربة المسلمين في العراق وفي فلسطين وأفغانستان والشيشان، وأن ينجيهم من الحصار والظلم والعدوان.

حكم تأجير الأماكن لقضاء أيام شم النسيم الصيفي فيها، وحكم المال المكتسب من ذلك

حكم تأجير الأماكن لقضاء أيام شم النسيم الصيفي فيها، وحكم المال المكتسب من ذلك Q ما حكم العمل في تأجير الأماكن الخاصة لقضاء أيام شم النسيم الصيفي فيها؟ وما حكم المال الذي يكتسب من ذلك العمل؟ A قال الله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2]، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع العنب لمن يتخذه خمراً، وفي بعض الأحاديث: (من باع عنباً لمن يتخذه خمراً فقد تقحم النار على بصيرة)، فكل بيع أو إجارة أعانت على محرم من فعل الفواحش، وكشف العورات، وفعل المنكرات، أو الإعانة على تعظيم شعائر الكفار؛ فذلك -والعياذ بالله- من التعاون على الإثم والعدوان، فلا يجوز المعاونة عليه بوجه من الوجوه؛ لأنه محرم، والذي أجر هذا المكان يستحق الأجرة على المكان ولكنه يأثم بذلك، وذلك المال ليس مالاً طيباً، وهو ماله يجوز له أن يتصرف فيه على أصح أقوال العلماء، كثمن العنب إذا باعه لمن يتخذه خمراً، فننهى الرجل الذي اشترى العنب عن أن يتخذه خمراً، ونقول للرجل الذي باعه: تب إلى الله ولا تعد، وخذ مالك وانتفع به. ويقول بعض أهل العلم بالبطلان، فلا بد أن يرد العنب أو أن يرد مثله والعقد باطل. والصحيح: أن هذا العقد صحيح مع الإثم، وينتقل به ملك المنفعة ويأثم الطرفان، هذا لارتكابه المحرم، وهذا لعلمه بأن الطرف الآخر يرتكب المحرم بهذه البقعة ويستحق الأجرة، وهو مال غير طيب، ولكن يجوز التصرف معه فيه. ومثل ما مضى تأجير السيارات لمن يعلم أنه يذهب بها إلى أماكن الفساد، كمن قال لك: تعال اذهب معي إلى الملهى الليلي، أو رجل عنده تكسي فأوقفه رجل، وقال له: اذهب بنا إلى الملهى الفلاني، أو إلى الخمارة الفلانية، وهو يعلم أنه يذهب إلى هناك ليشرب الخمر، فهذا لا يجوز أن يحمله والعياذ بالله.

موقف المسلم من تقاتل الرافضة والكفار

موقف المسلم من تقاتل الرافضة والكفار Q ما موقف المسلم حول ما يحدث في العراق، حيث يقاتل الكفار الأمريكان وغيرهم الشيعة؟ A لا شك أن الشيعة يخافون من أهل السنة، ونسأل الله أن يعافي المسلمين جميعاً، وعلى أي الأحوال لا شك أن المسلم المبتدع خير من الكافر، فالذي يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله في الجملة خير من الكفار، وإن كان عنده كثير من العقائد الفاسدة الباطلة التي لو أقيمت عليه الحجة وزالت عنه الشبهة والتأويل؛ لكان كافراً، لكن لم يحدث ذلك لانتشار الجهل، وقلة العلم خاصة في بلد منعت فيه الدعوة إلى الله عز وجل عقوداً من الزمن، وانتشر فيه الجهل قروناً بسبب انتشار المذهب الباطل. لكن إجمالاً لا يزال حكم عوامهم خصوصاً، وكثير من مشايخ السوء الذين عندهم في حكم العوام لأجل الجهل، وإن ترأسوا المناصب، فمثل هذا كما ذكرنا يمنع من تكفيرهم، فنقول في الجملة: كل مسلم يحرم سفك دمه حراماً ولابد أن يتورع المسلم من ذلك، ولا يرضى به، ويحزن عليه، فحزنك على قتل أي مسلم من الدين، ولو كان مبتدعاً، ولا يجوز أن نفرح بقتل هؤلاء على أيدي الكفار والعياذ بالله. ولا شك أن المسلمين كانوا يفرحون بانتصار الروم على الفرس، ويحزنون لانتصار الفرس على الروم؛ لأن الروم أهل كتاب، فالأمر أشد من ذلك، فالشيعة الرافضة مبتدعة، ولا نكفر إلا الغلاة منهم، الذين يعتقدون ألوهية علي أو ألوهية أحد من آل البيت أو نبوة علي، أو نبوة أحد من آل البيت، ولاشك أن هؤلاء مرتدون وشر من اليهود والنصارى، والذين لا يعتقدون ذلك وإنما يطعنون في أبي بكر وعمر والصحابة فهم من شر أهل البدع، لكن ليسوا بخارجين من الملة إلا بعد إقامة الحجة عليهم وهي غير حاصلة. فيجب علينا أن نبرأ مما جاء به هؤلاء الكفار الذين يسفكون دماء المسلمين، ثم أطفال هؤلاء المسلمين ما ذنبهم؟ والله لو أن كافراً قتل مظلوماً لتبرأنا من ذلك؛ لأن الظلم أمر محرم، فالنبي صلى الله عليه وسلم تبرأ من قتل امرأة فقال: (ما كانت هذه لتقاتل، ثم نهى عن قتل النساء والصبيان)، فنبرأ من قتل نساء الكفار وصبيانهم، أما الكفار فعندهم دماء المسلمين لا قيمة لها، وتهديم المساجد واقتحام الحرمات كلها مباحة والعياذ بالله! نسأل الله أن ينتقم منهم، وأن ينزل بهم بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين.

حكم مقاطعة بضائع الكفار

حكم مقاطعة بضائع الكفار Q ما حكم مقاطعة بضائع الكفار؟ A المقاطعة تحتاج إلى دراسة جيدة، وهي مازالت مفقودة للأسف، فما رأينا دراسة صحيحة تثبت قدر الضرر الذي يحصل للكفار من كساد بضائعهم ذات العلامة التجارية، فأنا أحبذ جداً مقاطعة البضائع التي ينتجها الكفار فعلاً في بلادهم، وليس لنا بها حاجة، وهذا أمر يفت في عضدهم فعلاً، وخصوصاً إذا كان جماعياً. والأصل في بضائعهم الإباحة طالما احتجنا إليها، وكانت مصلحتنا فيها، لكن إذا كنا نستغني عنها وعندنا البديل، فالأولى والأفضل أن نقاطعها فعلاً، لكن ما يتعلق بما ينتجه المسلمون أو ما ينتج في بلادهم فقد تضرر طوائف عريضة من الناس، ويقع الضرر فيها على المسلمين أضعاف ما يقع على الكفار، فهذا أمر يحتاج إلى موازنة، فلابد من النظر والدراسة، وللأسف لا زالت هذه الدراسة مفقودة، ولا زالت قضية المقاطعة تسير بالطريقة الغوغائية، وشركات تريد تضرب شركات أخرى، تقول: إن هذه الشركات أمريكية يهودية؛ فترتب على ذلك خلل كبير، نسأل الله العافية. وأنا كنت أتمنى أن يكون رجل عنده خبرة اقتصادية يقوم بهذه الدراسة، ولو أن أحداً يستطيع ذلك فجزاه الله خيراً، سواء أكان من كليات التجارة أم من كليات الاقتصاد أم من فروع هذه العلوم، ويستطيع فعلاً أن يقوم بدراسة الضرر الذي يقع على صاحب العلامة التجارية، والضرر الذي يقع على العاملين، وعلى الذي اشترى العلامة التجارية أو أجرها مدة من الزمن، ويحسب كمية المنتجات الموجودة في بلادنا بالنسبة إلى المنتجات التي في العالم، وهل يؤثر ذلك عليهم فعلاً؟ ولا نريد نتائج مقاطعة القرن الماضي التي أثارتها الدول العربية لإسرائيل، خسرت إسرائيل كذا وكذا وكذا، لا ليست هذه المقاطعة التي نتكلم عنها اليوم، الشركات الإسرائيلية ليست هي التي نتعامل معها الآن، فنريد دراسة جيدة.

حكم النصيحة للكفار

حكم النصيحة للكفار Q نصيحة الكفار هل هي من الموالاة؟ A نصيحتهم بالدخول في الإسلام والتوبة إلى الله عز وجل، ليست موالاة لهم، بل هذا من حب الخير، ومن موالاة الدين والنصح له؛ لأن دخول الناس في الدين هو نصح لدين لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وللمؤمنين أيضاً، وهذا النصح واجب، فيجب أن تنصح الكفار بأن يتوبوا إلى الله ويستغفروه، والدعوة إلى الله عز وجل واجبة. وإذا استنصح كافر مسلماً في أمر دنياه فيجوز له أن ينصحه، إذا لم يكن في ذلك ضرر على المسلمين، وهذا من القسط.

مراتب العذر بالجهل

مراتب العذر بالجهل Q ما هي مراتب العذر بالجهل؟ A هناك معذور في الآخرة، ومعذور في تكفيره لا في إقامة الحد عليه، أو في العقاب، وهناك معذور في الدنيا والآخرة وهو من لم يقصر في طلب العلم، وهو مسلم نطق بالشهادة ووقع في شرك، لكن بدون تقصير، أو لم يبلغه عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم خلاف ذلك، فهذا إنسان معذور ليس عليه عقاب، فنحن نعذره في أحكام الدنيا؛ لثبوت الإسلام، ونعذره في أحكام الآخرة؛ لأن الله عز وجل لا يعذب إلا بعد التبليغ بالقرآن، قال تعالى: {لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:19]، وقال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15] أي: ويبلغه خبره التفصيلي بعد الإجمالي في حق من آمن إجمالاً؛ لأن الإيمان إيمان إجمالي وإيمان تفصيلي، فالذي آمن إجمالاً لا يكون مكذباً أو آبياً أو مستكبراً أو راداً ناقض للإيمان إلا بأن يبلغه التفصيل، فهذا إذا لم يقصر في طلب العلم لا يكفر، بل ولا يأثم، طالما كان هذا هو المتاح له، مثل الذين يأتون في آخر الزمان لا يدرون إلا كلمة لا إله إلا الله، ولا يعرفون غيرها، ولا شك أن الإسلام قد درس في ذلك الوقت، فلا صلاة ولا صام ولا يعرفون أنواع العبادات، فلا يعرفون الصلاة فضلاً عن أن يعرفوا الذبح والطواف والنذر والحلف، لا يعرفون إلا هذه الكلمة إجمالاً بلا تفصيل. ونحن في زمان يعرف الناس فيه الصوم والصلاة ولا يعرفون الذبح والنذر؛ بسبب انتشار الجهل؛ لأن هذه الصلاة والصيام أشهر من الذبح والنذر والحلف، وذلك لأنها أركان الإسلام الكبرى، ولذلك درست الأمور التي ذكرنا قبل أن تدرس الصلاة. ومعنى درست أي: انقرض علمها في الناس، وليس انقضى علمها تماماً، لكن قل علمها في الناس، فسوف يأتي زمان لا يدري الناس ما الصلاة نفسها، فلا يعرفون الركوع ولا السجود، ومع ذلك يقولون: لا إله إلا الله، فينجيهم الله من النار كما قال حذيفة رضي الله عنه. وأما المعذور في الآخرة: فهو الكافر الذي لم تبلغه الرسالة، فهو كافر؛ لأنه لم ينطق بلا إله إلا الله، ولم يعتقدها، ولم يقلها بلسانه، ولكن لم يصله، بلا بلاغ، وقد قال عز وجل: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، فهذا من أهل الامتحان، يقبل عذره حين يقول: رب ما أتاني من رسول، فيمتحن يوم القيامة، وكذا الأحمق والمجنون والأصم فيقول: رب لقد جاءني الإسلام وما أسمع شيئاً، فهؤلاء معذورون في أحكام الآخرة، وأما في أحكام الدنيا فهم كفار، هذا هو المقصد من كلمة معذور في الآخرة، فلا نقول عنه: مسلم، وإن كنا لا يجوز أن نقاتله، ولا أن نسفك دمه، ولا أن نسبي نساءه ولا أولاده، ولا نغنم أمواله بغير أن يبلغ، ومن فعل به ذلك ضمنه؛ لأنه مثل المستأمن حتى يسمع حجة الله عز وجل. والمرتبة الثالثة: معذور في التكفير لا في إيقاف العقوبة أو إقامة الحد، مثل الخوارج، فقد عذرهم علي فلم يكفرهم، مع أنهم اعتقدوا كفراً، وهو تكفير علي بن أبي طالب وتكفير الصحابة، وتخليد عصاة الموحدين في النار، فهذه عقيدة مناقضة للمتواتر، لكن لم يتواتر عندهم وحصلت لهم الشبهات، فاستحقوا العقاب في الدنيا والآخرة، وقاتلهم علي وقتلهم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لا يلزم أن يكونوا مخلدين في النار. وستفترق هذه الأمة على اثنتين وسبعين فرقة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية ولا يوجد أحد من الأئمة الأربعة ولا غيرهم من أئمة أهل السنة من يكفر الثنتين والسبعين فرقة كفراً ناقلاً عن الملة، ولكن يكفر بعضهم بعضاً ببعض المقالات، ومن كان منهم منافقاً في الباطن فهو في الدرك الأسفل من النار. فالاثنتان والسبعون فرقة كلهم في النار، ولكن لا يلزم أنهم مخلدون فيها، بل منهم من يموت على التوحيد وإن كانوا قلة، والفرق الكبرى يخشى على أصحابها أنهم يموتون على غير التوحيد، لكن من مات منهم على التوحيد رغم البدعة فيدخل النار ويعذب بقدر بدعته، ولكن مآله إلى الجنة.

حكم غسل يوم الجمعة في ليلة الجمعة

حكم غسل يوم الجمعة في ليلة الجمعة Q هل يجزئ غسل الجمعة بعد غروب الشمس من يوم الخميس؟ A الصحيح أن الغسل لا يكون إلا بعد أن يطلع الفجر من يوم الجمعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من اغتسل يوم الجمعة)، ويوم الجمعة إذا أطلق يكون بعد طلوع الفجر.

الفرق بين الفتنة والابتلاء

الفرق بين الفتنة والابتلاء Q هل يبتلي الله كل مسلم؟ وما الفرق بين الفتنة والابتلاء؟ A قال عز وجل: {ألم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:1 - 2] فلا بد من الابتلاء والامتحان والفتنة، أي: التي بمعنى الامتحان، أما الفتنة التي بمعنى السوء والشر الذي ظهر من الممتحن عند امتحانه فهذا لا يلزم أن يتعرض له الإنسان، بل هناك من يفتتن أي يمتحن ويبتلى فيصبر. وقد ابتلى الله داود عليه السلام بعدة بلاءات أثناء المعركة وقبلها، وزلزلوا زلزالاً شديداً عندما قال المؤمنون الذين عبروا النهر مع طالوت: {لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} [البقرة:249]، وتجرأ داود عليه السلام وهو شاب على قتل جالوت، القائد الكبير الذي يرعب منظره الأعداء مع كثرة العدد، فهذا كله كان ابتلاء، وابتلي داود عليه السلام قبل ذلك أثناء فترة المحنة بـ طالوت والنهر، ثم ابتلي داود عليه السلام في أمر الخصمين، وقد ذكر كثيرون أنه قال لصاحبه: انزل لي عن المرأة، وذلك أمر عدَّ في حقه ذنباً، ولم يزد على ذلك، ولم يقع منه محرم ولا فاحشة، وقيل: إنه أخطأ في الحكم بين الخصمين، والله أعلم، والأول عندي أصوب.

وضع مال في البنك وأخذ فائدة عليه

وضع مال في البنك وأخذ فائدة عليه Q رجل وضع خمسة آلاف في البنك وبعد عشر سنين أخذها عشرين ألفاً، فهل هذا ربا؟ A إن لم يكن هذا ربا فلا ربا في العالم، والله! هذا ربا عند الأقارب والأباعد، إلا أهل السوء الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، ويسمون هذا فائدة، والذين اخترعوا البنوك يسمون هذه فائدة وربا، ولا يقولون: إن هذا ليس بربا، فهم يعرفون أن النقود لا تلد، والربا هو: الزيادة، فهذا هو الربا بعينه، فعلى المسلم أن يستثمر ماله عن طريق المضاربة الشرعية، أو عن طريق البيع والشراء، أو عن طريق الشركة، أو عن طريق المرابحة مثلاً. وعلى أي الأحوال فتجب عليه الزكاة، ويجب عليه أن يتخلص من القدر الزائد، فالمال الزائد عن الخمسة الآلاف يصرفها في مصالح المسلمين، تخلصاً منه نيابة عن أصحابه المجهولين، فالبنك رابى معهم فكان عليه أن يرجع لهم هذه الفلوس، لكن لا سبيل إلى ذلك، والواجب شرعاً: أن تأخذ ما أودعت فقط، قال تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [البقرة:279]. فالخلاصة: أن هذا المال جاء من خلال معاملة ربوية، مثل الذي يسمونه نظام الائتمان، وقليل جداً جاء بسبب معاملات مباحة في البنوك، والأصل في هذه الأموال أنها تأتي بالأرباح عن طريق الائتمان، وهو ليس ائتماناً وإنما هو خيانة، وهو الربا المحرم. ومن علامات قوة النشاط الاقتصادي: أن الفوائد في البنك تقل؛ لأنه دليل على أن الناس يستثمرون أموالهم في المشاريع أكثر من استثمارها في البنك، والبنك عند الائتمان يجعل الفلوس تتراكم فيه، وهذا من علامات ضعف الاقتصاد في الحقيقة؛ ولأجل ذلك تجد الدولار أقل فائدة موجودة، ففائدته في السنة لا تصل إلى اثنين ونصف في المائة في البنوك، لماذا؟ لأن اقتصاد أمريكا قوي من أقوى الاقتصادات.

حكم إصلاح أجهزة الفيديو والتلفزيون

حكم إصلاح أجهزة الفيديو والتلفزيون Q ما حكم إصلاح الأجهزة الإلكترونية والكهربائية كالفيديو والتلفزيون؟ A يجوز أن تصلح هذه الأجهزة للملتزمين الذين يستعملونها في الحلال، وأما إصلاحها لمن يستعملها في الحرام -وهم الأغلب- فلا يجوز ذلك؛ لأن ذلك من التعاون على الإثم والعدوان.

نصيحة للشباب الذي لا يستطيع الزواج

نصيحة للشباب الذي لا يستطيع الزواج Q ماذا يفعل الشباب أمام فتنة النساء في الجامعة وفي غيرها -نسأل الله العافية- ونحن لا نستطيع الزواج؟ A نسأل الله أن ييسر الزواج للمسلمين، وعلى أي الأحوال من لم يستطع فعليه بالصوم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء). وأنصح بقراءة كتاب الداء والدواء لـ ابن القيم، فإن فيه منهجاً طيباً لإصلاح القلب، ومبنى الأمر على عمل القلب وحراسة الخواطر وإصلاح حال القلب حتى يتعلق بالله عز وجل، وسؤال الله العافية.

حكم من أفطر أياما لا يدري عددها

حكم من أفطر أياماً لا يدري عددها Q ما حكم من أفطر عمداً أياماً من رمضان ولا يعلم عددها، ثم تاب وهو الآن يكثر من صيام التطوع؟ A يجب عليه أن يقضي تلك الأيام أولاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمجامع في رمضان: (واقض يوماً مكانه) فيجب عليه أن يقضي تلك الأيام، وأن يتحرى عدد تلك الأيام التي أفطرها في رمضان، ويصومها بنية القضاء، والأفضل أن يصوم التطوع بنية القضاء. والصحيح من قولي العلماء: أنه يلزمه عن كل يوم كفارة، وهي صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكيناً أو عتق رقبة يخير فيها، والأفضل الترتيب: العتق ثم الصيام ثم الإطعام، فيطعم عن كل يوم مسكيناً، وهو مد من الأرز أو من غيره من الحبوب، ومن لم يجد فتبقى في ذمته إلى أن يفتح الله عز وجل عليه، وعليه أن يبادر بالقضاء.

أسباب ثبات العقيدة

أسباب ثبات العقيدة Q كيف يثبت المسلم العقيدة في قلبه؟ A بالتفكر في آيات الله المسموعة والمشهودة، فيتدبر القرآن، ويتفكر في خلق السماوات والأرض، ويسمع أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ويتدبرها ويعمل بها، ويكثر من العبادة والذكر ومن العمل الصالح.

علاج الوسواس

علاج الوسواس Q ما علاج الوسواس؟ A يقول: لا إله إلا الله، ولينته، وليصرف تفكيره عن ذلك، فإن كان مرض الوسوسة قهرياً فيمكنه أن يأخذ بعض العلاج.

الإنسان ميسر لما خلق له

الإنسان ميسر لما خلق له Q هل الإنسان مخير أم مسير؟ A الإنسان ميسر لما خلق له.

منطلقات الدعوة

منطلقات الدعوة إن الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى تقوم على أسس ومنطلقات لا بد للداعية أن يكون على علم بها، ليطبقها في دعوته، حتى تؤتي هذه الدعوة ثمارها المرجوة. وهذه المنطلقات هي: العلم والحلم والصبر، فعلم يسبق الدعوة، وحلم يكون أثناءها، وصبر يكون بعد القيام والبدء بها، ولا يعني هذا بقاء الصبر فقط في آخر المطاف، وانتهاء كل من العلم والحلم، بل إن هذا للترتيب فقط، فإن ما كان أولاً يجب أن يستمر آخراً.

منطلقات الدعوة: أهميتها وتعدادها

منطلقات الدعوة: أهميتها وتعدادها الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد: فإن الله عز وجل قد بعث رسله مبشرين ومنذرين، فأرسل رسوله محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم مبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله عليه وآله وسلم، فقد جعل الله سبحانه وتعالى لهؤلاء الرسل أشرف المهمات، وهي مهمة إرشاد الخلق إلى طريق الحق، مهمة تذكير الناس بربهم وتعريفهم بحقوقه سبحانه وتعالى، وتذكيرهم بلقائه عز وجل. ولما كان محمد صلى الله عليه وسلم آخر النبيين وخاتم المرسلين صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولا نبي بعده فقد ورثت أمته من بعده هذه المهمة العظيمة، فكانت وظيفتها هي وظيفة أنبياء الله سبحانه وتعالى في التذكير بآيات الله وتعليم الناس الكتاب والسنة، وفرض الله عز وجل عليها أن تكون معلمة للأمم كلها وشاهدة عليهم، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143]، فالله عز وجل جعل مهمة الأمة الشهادة على الأمم، كما إن الرسول صلى الله عليه وسلم شهيد عليهم، إنما كان شهيداً عليهم بما علمهم وبلغهم وذكرهم وأمرهم به من المعروف ونهاهم عنه من المنكر، وهم كذلك من باب أولى، أي: إنما يكونون شهداء على الناس إذا قاموا بهذه المهمة، أما إذا لم يقوموا بها فكيف يشهدون على الناس وهم لم يبلغوهم ولم يذكروهم ولم يأمروهم ولم ينهوهم؟ ولذلك نقول: إن وسطية هذه الأمة -ومعنى الوسطية الخيرية- إنما هي مرتبطة بقيامها بهذه الوظيفة؛ وظيفة الدعوة إلى الله، قال عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]، وليس بمستغرب أن يبدأ في هذه الآية الكريمة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثم يعقب ذلك بالإيمان بالله، مع أن الإيمان بالله أعظم أهمية في نجاة الإنسان، وأعظم واجب عليه في وجوده كله، ولكن لأجل أن هذا المقام مقام بيان وجه خيرية هذه الأمة، على سائر الأمم؛ لأن خيرية هذه الأمة على الأمم إنما يظهر من خلال أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، ولا يكون ذلك بدون الإيمان، فإن الدعوة بدون الإيمان شجرة خبيثة لا حقيقة لها ولا ثبات ولا استقرار، وإنما قدر الدعوة إلى الله وثمارها على قدر الإيمان الذي يكون في القلوب، ولكن يظهر للناس أثر الإيمان من خلال الدعوة إلى الله، ومن خلال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولذلك لابد لهذه الأمة أن يكون فيها هذا الواجب الذي لا يسعهم تركه جملة، بل لو تركوه أثم كل قادر بحسب قدرته، كما بين ذلك أهل العلم، وهذا معنى فرض الكفاية. وقد ذكرنا قبل أن فرض الكفاية في هذا المقام معناه أن يوجد المعروف الواجب وأن يزول المنكر المحرم في الناس، فإذا حصل ذلك حصل القدر الواجب، وإلا أثم كل قادر بحسب قدرته. والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى لها منطلقات ثلاث لابد لكل داع إلى الله عز وجل أن يحصلها، وأن تكون من صفاته الأساسية في أخلاقه ومعاملاته مع الناس؛ وذلك لأن نجاح الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى مرتبط بصفات معينة. المنطلق الأول: في قول الله عز وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]. المنطلق الثاني: في قوله سبحانه وتعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران:159]. المنطلق الثالث: في قوله سبحانه وتعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ * وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:125 - 128]. وحقيقة هذه المنطلقات: أن الآية الأولى دلت على وجوب العلم والبصيرة؛ وذلك أن الداعي إلى الله لابد أن يكون داعياً إليه على بصيرة وأساسها العلم. ونأخذ من الآية الثانية: أن يكون الداعية حليماً، وإلا فسيفشل في دعوته. أما الآيات الأخيرة: ففيها الأمر بالصبر، فلابد أن يكون الداعية صابراً، فالعلم قبل الدعوة، والحلم معها والصبر بعدها، ولا شك أن ما كان قبل يمتد بعد ذلك، فليس العلم منزلة تتركها، بل تبقى معك إلى نهاية الطريق.

المنطلق الأول للدعوة: العلم

المنطلق الأول للدعوة: العلم فأما الأمر الأول: فهو العلم ولا نعني به مجرد إدراك أو فهم المسائل، ولكنه ما ذكر الله عز وجل في قوله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108]. إذاً: فلابد أن يكون من اتبع النبي صلى الله عليه وسلم، على بصيرة، ولكن -كما ذكرنا- أساس البصيرة العلم، والبصيرة بالنسبة للقلب كالبصر بالنسبة للعين، فالإنسان يبصر بالعلم الحقَّ من الباطل، والسنةَ من البدعة، والهدى من الضلال، فبدون العلم بالله عز وجل وأسمائه وصفاته وحقوقه تفقد الدعوة روحها وحقيقتها، وبدونه تكون الدعوة دعوة مفرغة من مضمونها ومن حقيقتها، فلابد أن يكون الداعي إلى الله عز وجل على علم، قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:9]، وقال عز وجل: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11]، وقال عز وجل: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ} [آل عمران:18]، فبدأ بنفسه سبحانه وتعالى، ثم ثنى بالملائكة ثم ثلث بأولي العلم، ولا شك أن في ذلك دليلاً على علو شأنهم وارتفاع قدرهم. وقد ذكر الله تعالى بأن العلماء هم الذين يخشونه من بين عباده، قال عز وجل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، فالعلم هو الخشية، فكفى بخشية الله علماً، وكفى بالاغترار به جهلاً، وقال سبحانه وتعالى في ذم الذين لا يفقهون: {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون:7]، وقال عز وجل: {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8]، وقال سبحانه: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ} [التوبة:6]، وقال عز وجل: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الروم:56]، فذكر عز وجل أن انعدام العلم والفقه في الدين هو صفة الكفرة والمنافقين، وهذا من أعظم المنفرات من إهمال طلب العلم ومن تضييعه وعدم الحرص عليه؛ فإن الجهل يعتبر من الأمراض التي تقتل القلوب وتميتها والعياذ بالله، بل وتدمر الأمم، فهي علامة على قرب خراب الدنيا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من أشراط الساعة أن يكثر الجهل ويقل العلم) وقال عليه الصلاة والسلام: (إن الله لا ينزع العلم بعد إذ أعطاكموه انتزاعاً، ولكن ينزعه بقبض العلماء، فإذا قبض العلماء اتخذ الناس رءوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس: (اللهم فقه في الدين وعلمه الكتاب). فكان يدعو لمن يحب عليه الصلاة والسلام بالفقه والعلم، وهذا يقتضي منا مزيد اهتمام بمداواة هذا الداء العضال الذي ينتشر انتشار النار في الهشيم؛ داء الجهل بدين الله عز وجل، حتى وجد الكفر أحياناً والناس تظنه إيماناً وهدى. وإن كنا كثيراً ما نتكلم عن العذر بالجهل، فذلك لا يعني فضيلة الجهل حتى يكون الإنسان حريصاً على بقائه، بل هذا الجهل الذي يكون العذر فيه هو الناشئ عن عدم البلاغ، ويكون عذراً في عدم التكفير فقط، ولا يعني أنه يكون عذراً في عدم الإثم، بل إنه يأثم بجهله إذا كان العلم قد وجب عليه، فإن الإنسان إذا وجب عليه عمل معين، فإنه يلزمه أن يتعلم العلم الذي يصح به هذا العمل، وإلا أثم بترك طلب العلم، فمن بلغ وهو عاقل فقد وجب عليه أن يتعلم فقه الطهارة والصلاة والصيام، وإذا كان له مال وجب عليه أن يتعلم فقه الزكاة، وكذا الحج إذا وجب عليه، ومن تزوج وجب عليه أن يتعلم فقه الزواج، ومن طلق وجب عليه أن يتعلم فقه الطلاق، حتى يؤدي كل امرئ الحقوق التي عليه، ولذلك نقول: إن الجهل الناشئ عن الإعراض عن الحجة ليس بعذر، وكذا التقصير في طلب العلم ليس بعذر في وقوع الإثم، بل إن الإنسان يأثم بما ترك من العلم الواجب عليه بالإضافة إلى تركه العمل الذي لزمه، فإن ترك العلم من أجل ترك العمل ليس بعذر. وكثير من الناس يرى أنه ينبغي أن يُترك جاهلاً، فيقول لك: لا تخبرني بهذا الأمر؛ لأنك إذا أخبرتني لزمني، والأمر ليس كذلك، فإنه لازم له حتى ولو لم تخبره؛ لأنه قادر ومتمكن من العلم، والتمكن من العلم يجعل الإنسان آثماً إذا ترك الواجب الذي عليه من ذلك، وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (طلب العلم فريضة على كل مسلم)، وليس المقصود به العلم الدنيوي؛ لأن العلوم الدنيوية بلا علم شرعي كلا علم، قال عز وجل: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:6 - 7]. فلما كان علمهم مقتصراً على الدنيا وصفهم الله بأنهم ليس عندهم علم، ثم ذكر أنهم يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا، فعلم الدنيا بلا علم الآخرة كعدم العلم، ولذلك لا يجوز أن نطلق على الكفرة أنهم علماء، بل لابد أن تقيد بأنهم علماء دنيا أو علماء في الباب الفلاني، فلا يصح الإطلاق فيهم؛ لأنهم أجهل من الدواب، كما قال تعالى: {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179]. ومن هنا نقول: إن أمر العلم لابد أن يكون أحد المنطلقات الأساسية في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وأن يحرص عليه الكبير والصغير، ولا يتوقف عند مرحلة معينة من عمر الإنسان، بل كما قال الإمام أحمد: مع المحبرة إلى المقبرة، فيبقى الإنسان طالباً للعلم ولو مع كبر سنه، أو تقدم عمره، أو ضعف جسده، فكل ذلك فيه الثواب العظيم، فقد كان الصحابة رضي الله عنهم يرحلون في طلب العلم أشهراً رغم كبر سنهم وسبق منزلتهم، فهذا جابر بن عبد الله رضي الله عنه، أحد أكابر الأنصار وممن شهد المواقع الكبرى، وهو في سنه الكبير يسمع أن عبد الله بن أنيس رضي الله عنه سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً لم يشافهه النبي صلى الله عليه وسلم به، فيشتري بعيراً ويضع عليه رحلاً ويرحل إلى الشام شهراً، يسير ذهاباً شهراً وإياباً شهراً؛ ليسمع حديث القصاص، الذي جاء فيه: (لتؤدُّنَّ الحقوق إلى أهلها)، ويرجع من يومه الذي وصل فيه، فقد سافر شهرين متتابعين؛ لأجل أن يسمع حديثاً واحداً، رغم كبر السن وعظم المنزلة. وهذا موسى عليه الصلاة والسلام يخبره الله عز وجل أن هناك عبداً هو أعلم منه، وهو في الحقيقة أعلم منه ببعض المسائل وليس مطلقاً، ولكن الله عز وجل أطلق ذلك لأجل أن يعلم موسى، ولأجل أن يجعله متواضعاً لله سبحانه وتعالى، بل قد قال الخضر: يا موسى إنك على علم من علم الله علمكه لا أعلمه، وأنا على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه، ثم وقف عصفور على حرف السفينة فقال: وما علمي وعلمك في علم الله إلا كما أخذ هذا العصفور من هذا البحر، فكان الخضر أعلم نسبياً، يعني: أعلم من موسى عليه الصلاة والسلام في بعض المسائل، قص القرآن علينا منها ثلاث مسائل. فانظر كيف أن رحلة طويلة قضاها موسى صلى الله عليه وسلم وجد فيها ما وجد من التعب والنصب؛ وذلك ليطلب ثلاث مسائل، وهذا يدلنا على أن الإنسان مهما بلغ من القرب من الله، فإن عليه أن يزداد من طلب العلم وإن وجد ما وجد من المتاعب والمشاق في سبيل تحصيله، ويدلنا كذلك على شرف طلب العلم وأهمية الحرص عليه، ولو كان لمسألة واحدة يسافر الإنسان إليها. ولهذا فالفضل بعد الله سبحانه وتعالى في وصول العلم الشرعي إلينا يرجع إلى علماء الحديث والآثار، وما بذلوا من جهد في طلب الحديث، فقد كان الواحد منهم يسافر البلاد البعيدة من أجل حديث واحد، فلولا هؤلاء بعد الله سبحانه وتعالى لما اجتمعت لدينا هذه الكتب العظيمة التي فيها درة الإسلام وبيان كلام الله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

أنواع العلم

أنواع العلم العلم المطلوب في الدعوة نوعان: علم بخطاب الشرع وعلم بالواقع: والعلم المطلوب في الدعوة إلى الله عز وجل نوعان: علم بخطاب الشارع، والعلم بالواقع الذي يعيشه الإنسان؛ ليطبق هذا الخطاب على الواقع. فمثلاً: لابد أن يعلم أن الشرع قد حرم الخمر، ثم بعد ذلك لابد أن يعلم أن الذي في هذا الإناء خمر، حتى يمكنه إراقته، ليغير المنكر ويدعو إلى الله عز وجل أو ينكر على من يشربه، وأما إذا لم يعلم الواقع سيترتب عليه إما أن يضيع واجباً أو أن يأتي محرماً، فربما كان هذا الإناء على سبيل المثال فيه شراب محترم، أي: شراب نافع، فهو مال لأخيه المسلم فقد يريقه بدون معرفة. ولذلك نقول: إنه لابد من الأمرين معاً، العلم بخطاب الشرع، والعلم بالواقع، وكم من أمور مبناها على معرفة الواقع، ولكن هذا لا يعني أن نغالي في ذلك كما قد يغالي فيه البعض، فيجعل همة الناس في معرفة ما يجري من أخبار وما قاله الساسة، ومعرفة التفاصيل التي يخرف بها المفكرون والمتكلمون والصحفيون وغير ذلك. إنما المطلوب من علم الواقع هو ما يدرك به الحكم الشرعي على هذا الواقع: أما التفاصيل الكثيرة فهي أكثر من أن تحصى، وعمر الإنسان لا يتسع لذلك، فلا يطلب منك أن تكون على بينة بكل كلمة يقولها الأعداء، أو كل شبهة وضلالة تطلق في الدنيا، وإنما تعرف من ذلك ما يضر وما يحتاج منك إلى أمر وموقف وبيان ونحو ذلك، وتعرف حقيقة من توالي ومن تعادي، فلابد أن تعرف هذه الأمور جيداً من خلال العلم بالواقع، أما أن يكون الإنسان تاركاً للعلم الشرعي الذي يلزمه، وفي نفس الوقت يكون منشغلاً بنشرات الأخبار ليل نهار، يسمع عشر نشرات في نصف اليوم ربما، ويقرأ عشرات الجرائد مع أن جريدة واحدة مختصرة أو ربما بعض أخبارها تكفيه، فهذا خلل يحدث عند الكثيرين، وبالتالي تجده يحسن أن يخبر عما جرى وعما وقع، ولا يحسن أن يخبر عن حكم الشرع في ذلك؛ لأنه أهمل الجانب الأهم، وهو العلم بالشرع. ولا شك أن العلم بالشرع مطلوب لذاته، والعلم بالواقع مطلوب لغيره، فأنت لا تثاب على معرفة تفاصيل ما يجري إلا أن يكون لذلك تعلق بالعمل الشرعي والعلم الشرعي، بينما لو تعلمت الشرع فأنت تثاب على ذلك حتى ولو لم تكن من أهل تطبيقه، فلو أن إنساناً ما قسم ميراثاً في حياته، ولكنه تعلم فقه المواريث لكان مثاباً على ذلك؛ لأن هذا من العلم بما شرع الله، وهو مقتضى العلم بكلامه عز وجل وبما جاء به نبيه صلى الله عليه وسلم أي التصديق به، وهذا يثاب عليه. وأما تصديقك أنه قد حدث في البلد الفلاني كذا وأنه وقع في الحادثة الفلانية بالكيفية الفلانية، فهذا لا تثاب عليه ولا تذم على تكذيبه أو الشك فيه، إلا أن يترتب على ذلك حق لعباد الله، أو يترتب عليه موقف للدين لابد أن تتخذه، فهنا ينبغي عليك أن تتحرى حتى تؤدي ما عليك، وإلا فالجهل بالحال بالتأكيد يؤدي إلى ترك الواجب في كثير من الأحيان، فلو أن الناس مثلاً جهلوا حقيقة أعدائهم من اليهود أو النصارى أو المشركين وقالوا: إن هؤلاء ليسوا بكفار أو ليسوا بأعداء، ترتب على ذلك الاستسلام والخضوع لهم، وترتب على ذلك أحياناً ترك معاونة المجاهدين في سبيل الله عز وجل، وترك ما لزم الإنسان من البذل والدعاء والتضحية وغير ذلك، بل ربما وصل الأمر إلى أكبر من ذلك، فقد يستجيب الإنسان لدعاة على أبواب جهنم لجهله بحالهم، وربما جروه إلى النار وهو لا يشعر، فقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الشر بعد الخير الذي فيه دخن، فقال: (دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها، قال: قلت يا رسول الله! صفهم لنا، قال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا قلوبهم قلوب شياطين في جثمان إنس). ولذلك نقول: إن كثيراً من الناس عندما لا يعلم الواقع ويظن أن العلم به أمر لا فائدة منه، فإنه يترتب على ذلك أن يمدح أهل الزندقة والنفاق، وأن يسوغ للناس طاعتهم ومتابعتهم والاستجابة لهم، ويذم أهل الإيمان والتقوى بما يروج عنهم من أباطيل، وبما يذكر عنهم من أكاذيب، فيترتب على ذلك خلط للأمور. لكن نقول: لابد من تحقيق التوازن بين الشقين المطلوبين للداعي إلى الله عز وجل، أي: لابد من تحقيق التوازن بين العلم بالشرع وهو كما ذكرنا المقصود لذاته والمقصود الأصلي، وهذا بأن تتعلم كلام الله وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم، وأقوال الصحابة رضي الله عنهم، وشروح ذلك من كلام أهل العلم، والعلم بالواقع، وهو واقع الحال؛ حتى تستطيع أن تطبق الشرع على الواقع الذي تعيشه، ولا يختلط عليك الأمر فيما تواجهه من مشكلات، فهذا أمر ضروري لا شك فيه. - لا يشترط في الداعية إلى الله أن يكون في منزلة المجتهدين: وبناء على ذلك هل نقول: لا يجوز لغير العلماء أن يدعوا إلى الله سبحانه وتعالى؟ هذا قد يفهمه بعضهم فهماً غير سليم؛ وذلك لظنهم أن العلم المشترط في الدعوة إلى الله هو أن يحصل الإنسان مراتب المجتهدين، وهذا أمر غير صحيح؛ لأن الأمور تنقسم إلى قسمين: قسم معلوم من الدين بالضرورة، وهو ما اشترك في العلم به العالم والجاهل والخاص والعام، فهذا كل المسلمين علماء به، كوجوب الصلوات الخمس، وصوم رمضان، وحرمة الزنا، وشرب الخمر، وحرمة الربا والميسر ونحو ذلك مما لا يتنازع المسلمون فيه إجمالاً، فكل المسلمين علماء بذلك. ولذلك وجب على كل المسلمين أن يأمروا وينهوا في هذا الباب، وأن يدعوا إلى الله عز وجل، وهذا مما يستهين به الكثيرون، وقد يظن بعضهم أن هذا ليس في دائرة الدعوة، مع أن جزءاً كبيراً من هذا العلم هو في دائرة الدعوة الأهم، فكم من الناس يترك الصلوات الواجبة! ويترك الصوم الواجب، فيفطر في رمضان علناً! وكم من الناس يفعل الفواحش! فهل يعقل أن أحداً من المسلمين يجهل مثلاً أن تقبيل الرجل للمرأة الأجنبية محرم؟! والله هذا مما لا يجهله أحد، فالبلاء الذي وجد في الأمة من انتشار الفواحش وتكشف النساء حتى قد شوهد في بعض بلاد المسلمين من يقبل النساء في الشوارع، نسأل الله العافية والسلامة، إلى غير ذلك من الأمور التي لا تكاد تصدق، فهل هذا كله يحدث بسبب الجهل بأحكام هذه الأمور؟ لا والله! فكل الناس يعرفون أن هذه الأمور محرمة بلا شك، ولكن كل واحد منهم يؤثر السلامة، فليس عنده عزيمة على التغيير ولو بكلمة واحدة، فإن كل واحد منا لو قال هذه الكلمة لكان لذلك أثر عظيم وكبير، فلو أن كل متبرجة سمعت وهي تمشي أن الحجاب فرض، أو سمعت: اتقي الله، حرام، فإنها ستتغير في يوم من الأيام، لكنها ربما قد تسمع كلمات الإعجاب أضعاف كلمات الإنكار والعياذ بالله، فهذا الأمر ليس مرده إلى الجهل، وإنما مرده إلى تقاعس الناس وتعودهم على عدم الإنكار؛ وذلك راجع إلى أسباب كثيرة أهمها: التعود المفرط على متابعة القنوات الفضائية وما تبثه من سموم فتاكة، من تعليم للقتل والسرقة والفاحشة، فيعتاد الناس ذلك وتنتشر هذه الأمور في المجتمع، هذا أحدهم ينقل لي إحصائية يقول فيها: في الفترة الصباحية: عدد المشاهدين للتلفزيون خمسة وثلاثون مليون شخص، وا مصيبتاه! خمسة وثلاثون مليون شخص يشاهد التلفزيون في الصباح! فكم سيكون العدد بعد العودة من العمل؟! وهذا العدد غير مستغرب، فإننا لو سألنا: هل يوجد بيت في هذه الأيام ليس فيه تلفزيون؟! بل إنه قد انتقل من البيوت إلى المحلات، وفوق ذلك أصبح في السيارات، إذاً: فالأرقام هذه غير مستغربة، بل هي من الحقيقة بمكان. فالأمر كما قلنا: لا يعني انتشار هذه المعاصي أن الناس يجهلون حكمها، بل كل واحد منهم يعلم حكمها الشرعي، ولذلك يجب عليه أن يدعوا إلى الله وأن يأمر وينهي في هذه الأمور المعلومة من الدين بالضرورة، وليس الأمر متروكاً للعلماء فقط في مثل هذه المسائل.

العلم الذي يسوغ الإنكار فيه والذي لا يسوغ

العلم الذي يسوغ الإنكار فيه والذي لا يسوغ والعلم ينقسم إلى قسمين: علم انتشر بين المسلمين، وعلم لم ينتشر، والعلم الذي لم ينتشر إنما يأمر فيه وينهى العلماء، أو من أخُبر من قبَلهم أن هذا مما يشرع فيه الإنكار، أو أنه أمر مجمع عليه، أو أمر لا يسوغ فيه الخلاف، وبالتالي عليه أن يدعو ويأمر وينهي في هذا الأمر حتى ولو لم يكن منتشراً. إذاً: فهذان شرطان أساسيان يجب توفرهما إذا أراد العامي أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فيما لم ينتشر علمه وسط المسلمين. فالعامي لا يأمر ولا ينهى إلا فيما يعرفه الصغير والكبير؛ لأن كل الناس يعرفون وجوب الصلوات الخمس، وكثير من الناس لا يصلون فيتركونها حتى يخرج وقتها، وينامون عن صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، نسأل الله العفو والعافية، بل إن كثيراً من الناس الذين يقولون: نحن نصلي، تجد أحدهم يصلي آخر النهار كل الصلوات مع بعضها، ويترك ما أوجب الله عليه من الصلاة في وقتها، وربما يجمع صلاتين مع بعضهما، وهذا أمر معتاد لدى الكثيرين من الناس، ولا حول ولا قوة بالله. وأيضاً لا بد أن يسمع العامي فتوى العلماء في حكم هذا الأمر الذي ينكره، ويسمع الدليل على ذلك، ويعرف أن المسألة ليس فيها خلاف سائغ، أو ليس فيها خلاف أصلاً، ففي مثل هذا يسوغ للعامي أو الذي لم يبلغ مراتب العلماء أن يأمر وينهى، فضلاً عن طالب العلم المميز، الذي هو في الحقيقة قد جمع كثيراً من المسائل وعرف الراجح من أقوال العلماء بأدلتها، وعرف ما يسوغ الخلاف فيه وما لا يسوغ، فهو في هذه المسائل التي قد جمع أدلتها ملحق بالعلماء، والتي لم يجمع أدلتها هو فيها ملحق بالعوام، فينظر فيما أفتاه به العالم، ولكن الشرط -كما ذكرنا- أن يفتي العالم ليس فقط بأن هذا الأمر واجب أو هذا الأمر محرم، بل لابد أن يفتي أيضاً بأن هذا الأمر مما يسع فيه الإنكار ولا يسوغ فيه الخلاف، أو إنه مما أجمعت عليه الأمة فلا عبرة بمن يخالف في ذلك. وأما ما فيه خلاف سائغ وهو ما لا يصادم البينات، أي: لا يخالف النص من الكتاب أو السنة أو الإجماع القديم أو القياس الجلي، فإن هذا يجب التوقف عن الإنكار فيه؛ لأنه يسع فيه الخلاف، فلا ينكر إلا بمجرد المناظرة العلمية ولا يسمى إنكاراً في الاصطلاح. وأما إذا صادم الخلاف نصاً من كتاب أو سنة، أو صادم إجماعاًَ قديماً أو قياساً جلياً فإن الإنكار على من فعله واجب، كمن رأيته مثلاً يبيع الأرز بالأرز مع التفاضل، فهذا نوع من الربا، وقول الظاهرية في جوازه غير معتبر؛ لأن قياس الأرز على القمح قياس جلي واضح، ولو وجدت إنساناً مثلاً يزرع أرزاً ولا يخرج الزكاة، ويقول: الزكاة وردت في القمح والشعير والزبيب والتمر، ولم ترد في الأرز، فلن أخرج الزكاة فيه، فلا شك في أنه ينكر عليه إنكاراً شديداً، ويؤمر بإخراج الزكاة. ولو وجدت إنساناً لا يخرج زكاة الأوراق النقدية، ويقول: الزكاة في الذهب والفضة، فلا أخرجها في الأوراق النقدية ولا في عروض التجارة، وهو تاجر بالملايين، ولكن البضاعة عبارة عن سلع وأوراق مالية، وليس عنده ذهب ولا فضة، فلو حدث هذا، لأنكر عليه أغلظ الإنكار، بل ربما ضُلل وفُسق بسبب هذا؛ لأن هذا القياس من أجلى أنواع القياس؛ فإن هذه الأوراق المالية هي بمنزلة الذهب والفضة، وأما عروض التجارة فهي رءوس أموال الناس في التجارة، فهذا ينكر عليه لأنه خالف القياس الجلي، ومن باب أولى إذا خالف الإجماع. مثلاً: إذا ثبت إجماع قديم كإجماع السلف على عدم تأويل الصفات، فالذي يؤول الصفات بعد أن يعلم هذا الإجماع يبدع، ولذلك ينكر عليه أن يقول بذلك، وهكذا من يخالف إجماع أهل السنة في أي مسألة من مسائل الاعتقاد الكبرى؛ كتكفير المصر على الكبيرة مثلاً أو تكفير مرتكب الكبيرة، أو كونه مثلاً يجعل الإيمان قول بلا عمل، أو اعتقاد بلا عمل، وغير ذلك مما اتفق عليه السلف الصالح، فخالفهم في ذلك فيعد مخطئاً وخلافه باطل. وأما مصادمة الخلاف للنص فمثاله: عندما تسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليكونن أقوام من أمتي يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف)، فلو قيل: البيرة ليست حرام؛ لأنها مصنوعة من عصير الشعير، وإنما الخمر تكون من العنب إذا غلى واشتد وقذف بالزبد، فنقول: هذا أمر ينكر على قائله، بل ويحد شارب البيرة شرعاً؛ وذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (كل مسكر خمر وكل خمر حرام)، وقال عليه الصلاة والسلام: (نزل تحريم الخمر وهي من خمسة، فذكروا أصنافاً). إذاً: فالخمر ليست فقط عصير عنب، بل من ضمنها الشعير وغيره، وقد وردت النصوص الصريحة الواضحة في أن الخمر كل ما أسكر، مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أسكر كثيره فقليله حرام)، فلا عبرة بقول بعض العلماء المتقدمين ممن لم يبلغهم الحديث صحيحاً؛ في أن غير عصير العنب جائز الشرب إذا كان قليلاً ولم يسكر، فهذا كلام باطل. مثالاً آخر: ابن حزم يجوز الموسيقى والغناء، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم - كما سبق معنا- أنه قال: (ليكونن قوم من أمتي يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف)، فالمعازف محرمة بهذا، واستحلال الخمر بتسميتها بيرة خلاف غير معتبر، واستحلال المعازف أو القول بأنها لم يرد فيها نص كلام غير معتبر؛ لورود النص بذلك وضعف قول من يحتج بجوازه مثلاً بغناء بعاث؛ لأنه كان بغير آله، واستحلال الحر الذي هو الفرج بنوع شبهة؛ باطل باتفاق العلماء، وهذا يفعله كثير من الشباب اليوم في قضية الزواج العرفي، بأن يتزوج بغير ولي وربما بغير شهود، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل)، وقال صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنحاكها باطل، فنكاحها باطل، فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها)، والقول بأن هذا الأمر فيه خلاف، لأن بعض المشايخ المتقدمين أفتى بأن الزواج يقاس على البيع والشراء فيجوز أن تنكح المرأة بلا ولي طالما كان هناك شهود، فهذا القول باطل لا عبرة به؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (نكاحها باطل)، فلا عبرة بمن يخالف، وإن كان هذا قد يمنع إقامة الحد لوجود الشبهة، خصوصاً مع انتشار الجهل، لكن من علم بطلان هذا النوع من الزواج وأقدم عليه، فالصحيح أنه يقام عليه الحد شرعاً؛ لأنه يعلم أنه يقدم على زنا والعياذ بالله من ذلك. إذاً: فإذا صادم الخلافُ النصَّ من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس الجلي فلا عبرة بالمخالف، ولذلك يشرع الإنكار، والعلم بفتوى عالم لابد أن تتضمن ذلك، والعالم نفسه لا يجوز له أن ينكر إلا ما خالف البينات؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105]، فذم الخلاف بعد البينات، وأما قبل البينات فهو خلاف معتبر، كما اختلف الصحابة رضي الله عنهم، وكما ذكر الله عز وجل قبل ذلك اختلاف سليمان وداود فقال: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:79]. فهذا هو المنطلق الأول وهو منطلق العلم، ويعتبر من أعظم المنطلقات للدعوة إلى الله.

المنطلق الثاني: الحلم

المنطلق الثاني: الحلم أما المنطلق الثاني فهو منطلق الحلم، معناه: أن يكون الإنسان رحيماً شفيقاً يدعو إلى الله عز وجل بالحكمة والموعظة الحسنة ويجادل بالتي هي أحسن، يعلم أن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وإن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه). فالأصل في الدعوة إلى الله الرفق والعنف طارئ، فالعنف إنما يستعمل عند الضرورة ولا ننفيه بالكلية، فإن نفي العنف بالكلية يؤدي إلى ترك الجهاد، لكنه ليس هو البداية الأصل، ولا يصح أن نقول: لا عنف في الإسلام مطلقاً، ولكن الأحب إلى الله عز وجل الرفق، والعنف يستعمل في موضعه وبالضوابط الشرعية كما ذكرنا، مثل الجهاد في سبيل الله، وتغيير المنكر باليد، وغير ذلك بضوابطه الشرعية، وليس أن الدين مطلقاً ليس فيه عنف ولا شدة، فمثلاً: الأب إذا رأى ابنته مع شاب! فلا شك أنه يبدأ المعالجة بالرفق واللين، لكن لابد من وجود نوع من العقاب في كثير من الحالات، وليس أن الأمر دائماً يتوقف بلا عنف، ولذلك نعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام هو الرءوف الرحيم بالمؤمنين، ومع ذلك جلد في الحدود، ورجم صلى الله عليه وسلم، وقطع الأيدي، وجاهد في سبيل الله عز وجل، كل ذلك في موضعه، قال الله عنه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159]. إذاً: فلابد أن نكون رفقاء في الدعوة إلى الله عز وجل ما وجدنا إلى ذلك سبيلاً، وما دام الأمر -كما ذكرنا- في بدايته فلابد أن يكون الرفق هو الأصل، ونعلم أن من صفات المؤمن التي يحبها الله عز وجل الحلم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أشج عبد القيس: (إن فيك خصلتان يحبهما الله: الحلم والأناة)، أي أنه يتأنى، ولا يقدم على الأمر مباشرة من غير بحث ومعرفة وتمهل، فلابد من هذه الأمور.

المنطلق الثالث: الصبر

المنطلق الثالث: الصبر وأما المنطلق الثالث فهو منطلق الصبر؛ لأن الإنسان لابد وأن يصيبه في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى أنواع من الأذى، كما قال لقمان لابنه وهو يعظه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [لقمان:17]، فإن هناك من الأمور التي إذا أخذ الإنسان بها فقد أخذ بعزيمة عظيمة، وهذا من العزم الواجب؛ لأن الإنسان لابد أن يصيبه من أذى الناس، وسعة صدر المؤمن وانشراحه يقتضي أن يتحمل أذاهم ويكف أذاه عنهم؛ وذلك من البر بالخلق، وهو من أسباب نجاح الدعوة، أي: أن تواجه كل العقبات بالصبر، ولا تواجه السيئة بالسيئة. فالنبي صلى الله عليه وسلم جاء من وصفه في التوراة أنه لا يقابل السيئة بمثلها، ولكن يعفو ويصفح، فقد قرأ عبد الله بن عمرو بن العاص في التوراة: محمد نبي أرسلته حرزاً للأميين، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلا الله، فيفتح به الله قلوباً غلفاً وآذاناً صماً وعيوناً عمياً، أو كما قال ربنا عز وجل في الكتب السابقة. الغرض المقصود: أن الصبر يقتضي الثبات على الدعوة إلى الله عز وجل، فلا تترك الدعوة بمجرد أن يصيبك بلاء أو فتنة، وكأنك لا تعلم أن من سلك هذا الطريق فإنه سوف يطارد ويمتحن ويصاب، كما قال عز وجل لموسى عليه الصلاة والسلام: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} [الشعراء:52]، فعندما تعلم أنك متبع، وأنه ستكون هنالك مشاكل، فلابد أن تصبر إذاً، أما إذا كان الإنسان ينسحب من الدعوة بمجرد أن يصيبه شيء، فهذا لم يصبر ولا يصلح في الدعوة إلى الله. والصبر على فتنة السراء أهم من الصبر على فتنة الضراء، فإن الإنسان قد تفتح عليه الدنيا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تفتح عليكم الدنيا فتنافسوها كما تنافسها من قبلكم، فتهلككم كما أهلكتهم)، وقال الله عز وجل: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:35]، إذاً: فالخير فيه فتنة، وهو أن الإنسان تفتح عليه الدنيا ومطالبها الكثيرة، ولا يزال ينتقل من مطلب إلى مطلب ولا يزال يجره الشغل إلى أشغال حتى يترك الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، فتكون الدنيا أكبر همه ومبلغ علمه. هذا من أعظم المخاطر على الإنسان، ولذلك فالصبر أنواع: صبر على البلاء، وعن المعاصي وعن الدنيا المنفتحة، التي تشغل الإنسان وتجره إلى أعماق أمواجها التي قد تغرقه بعد حين، نسأل الله العفو والعافية. فالصبر من أهم الأمور التي لابد أن يحرص المرء على أن يتصف بها، قال تعالى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:146]، وقال سبحانه: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل:127]، فأنت تصبر بالله مستعينا، وتصبر لله عز وجل مخلصاً، وتصبر مع الله عز وجل دائراً مع أوامره الشرعية، فتعمل ما أمرت به؛ لأن الصبر قد يكون بعيداً عن أوامر الشرع، كما يفعل أصحاب المعاصي والملاهي في صبرهم واستمرارهم في أعمالهم مع بعدها عن الحكمة التي خلقوا من أجلها، فصاحب الحق أولى بالصبر منهم. إذاً: فالصبر يكون في دائرة أوامر الله، فتصبر مع الله، وتصبر بالله، قال تعالى: ((وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ))، أي: تستعين بالله، وتعلم أنك لن تصبر إلا أن يصبرك الله سبحانه وتعالى، وتصبر لله مخلصاً، لا تصبر من أجل أن يقال عنك قوي متحمل جلد، بل تصبر لكي تأخذ الأجر من رب العباد سبحانه وتعالى، فتصبر مع الله، أي: تدور مع أوامره شرعاً، فتترك ما أمرت بتركه، وتفعل ما أمرت بفعله، ولا يلزم أن تعذب نفسك بما لم يرد في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. نسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى، وأقول قولي هذا وأستغفر الله.

الأسئلة

الأسئلة

حكم حضور سرادقات العزاء

حكم حضور سرادقات العزاء Q يعتزل الإخوة ما يجتمع عليه عامة الناس في سرادقات العزاء، مما يؤدي إلى الجفو بينهم وبين الناس فما البديل؟ الإجابة: البديل: أن الإخوة يحضرون الجنازة ويعزون أهل الميت هناك، وإذا فاتهم ذلك فيذهبون إلى بيت الميت للعزاء بعد أن ينصرف الناس من الاجتماع على التعزية؛ لأن الاجتماع هذا يعتبر من النياحة، فلا يجوز أن يحضروا هذه السرادقات، إلاّ للإنكار، ولكن لا يبقوا بعد ذلك معهم، ولا يقولوا الكلمة ضمن ديكور أصحاب السرادق.

حكم اغتسال المرأة الحائض

حكم اغتسال المرأة الحائض Q امرأة اغتسلت وهي حائض، هل عليها إثم؟ A لا ليس عليها إثم، ويصح ذلك.

حكم بيع البصل الأخضر من أجل عيد شم النسيم

حكم بيع البصل الأخضر من أجل عيد شم النسيم Q ما حكم بيع البصل الأخضر وغيره في عيد شم النسيم؟ A مشاركة الناس في الأعياد الباطلة المحرمة كشم النسيم لا تجوز شرعاً، فالذي يبيع البصل وغيره من أجل أن يأكل الناس في ذلك العيد؛ فهذا لا يجوز له ذلك، بل على صاحب البصل أن يحضر كمية مثل الكمية التي يحضرها كل يوم، حتى إذا نفدت فلا يأت بثانية؛ لأن الاحتفال بشم النسيم هذا احتفال باطل ومنكر ومحرم، فهو أشد وأضل والعياذ بالله من أعياد الفراعنة؛ لأن الفراعنة مشركين وعباد أوثان فقط، أما هؤلاء فكل شيء عندهم له إله وآلهة، إله للربيع وإله للخطب وإله للحب وإله للسماء، هكذا كل شيء له إله عندهم، فهذا الاحتفال عادة فاجرة والعياذ بالله، والأقرب: أن شم النسيم هذا مرتبط بعيد القيامة المزعوم عند النصارى، وهو أن الرب قد قام من الأموات! تعالى الله عن قولهم، علواً كبيراً، أي أنهم يرون أن الله مات ثم قام! فكيف يجوز لمسلم أن يهنئ أو يشارك في هذا العيد أو حتى يأخذ إجازة! فإن حصل وأعطى إنسان إجازة، فيحاول أن ينشغل بأي عمل، ولا يجوز تخصيص هذا اليوم بعبادة، إذاً: فالمشاركة في شم النسيم لا تجوز بلا شك.

التوقف في نبوة الخضر من عدمها

التوقف في نبوة الخضر من عدمها Q الخضر هل هو نبي أم ولي؟ A الراجح فيه التوقف؛ لأننا لا ندري، فهناك أدلة محتملة، وليس هناك دليل صريح في النفي ولا في الإثبات، فهو عبد صالح، والله أعلم هل وصل إلى درجة الأنبياء أم لا.

حكم استخدام أسطح المساجد للإجارة وغيرها

حكم استخدام أسطح المساجد للإجارة وغيرها Q ما حكم استخدام أسطح المساجد في عمل مستشفى أو مستوصف أو غير ذلك؟ A إن كان هذا العمل عملاً خيراً يستفيد منه الفقراء، وعائده يعود على المسجد فمحتمل، أما إذا كان للإجارة والربح فلا يجوز.

حكم أخذ المال على الحجاج وأصحاب العمرة من قبل مكاتب السفر

حكم أخذ المال على الحجاج وأصحاب العمرة من قبل مكاتب السفر Q بعض الناس يعملون في مكاتب سفر لإخراج الحجاج والمعتمرين فما حكم المال الذي يأخذونه منهم؟ A هذا الأمر جائز بشرط عدم أخذ عمولة على التأشيرة، فلا يجوز أن يأخذ ثمن التأشيرة؛ لأن هذه تأشيرة دخول مجاناً، بل له أن يأخذ أجرة عمله ومجهوده فقط، مثل قيامه بتأجير المواصلات وتنظيم الرحلات وقطع التذاكر وغير ذلك.

أنواع البدعة

أنواع البدعة Q سمعت عالماً يقول: البدعة هي التي ليس لها نص في الشرع ولا أصل في الدين، أما التي لها أصل فليست بدعة، مثل المصافحة بعد الصلاة، فما رأيكم؟ A لا، فإن البدعة نوعان: بدعة لا أصل لها وهي البدعة الحقيقة، وبدعة لها أصل لكن الكيفية مبتدعة ومحدثة، وهذه تسمى البدعة الإضافية، مثل أن يكون الشرع قد حدد عدد معين للتسبيح فيخترع إنسان عدداً آخر، فالوارد شرعاً ثلاثة وثلاثون بعد الصلاة، فيأتي أحدهم ويقول أنا أسبح بعد الصلاة أربعين مرة، ويأتي آخر ويقول: أنا أسبح مائة مرة وهكذا، فمع أن التسبيح وارد، لكن هذه بدعة في الكيفية. ويراجع في ذلك كتاب الإمام الشاطبي رحمه الله المسمى بـ: الاعتصام. وصلّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

مواقف إيمانية يوم أحد

مواقف إيمانية يوم أحد كانت غزوة أحد من أعظم الغزوات التي تعلم فيها الصحابة دروساً أفادتهم فيما بعد في حياتهم الجهادية وغيرها. وعلى الرغم من أن النتيجة كانت في غير صالح المؤمنين إلا أنهم أظهروا شجاعة وبسالة ورباطة جأش لا نظير لها في الدفاع عن هذا الدين العظيم، وخصوصاً بعد انصراف كثير من جنود الجيش المسلم.

شجاعة أنس بن النضر في أحد

شجاعة أنس بن النضر في أحد الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ * سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ * وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ * إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [آل عمران:149 - 155]. قال ابن كثير رحمه الله: [وقوله تعالى ((ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ)) قال ابن إسحاق: حدثني القاسم بن عبد الرحمن بن رافع، -أحد بني عبيد بن النجار- قال انتهى أنس بن النضر عم أنس بن مالك إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار قد ألقوا ما بأيديهم، فقال: ما يجلسكم فقالوا: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه ثم استقبل القوم فقاتل حتى قتل رضي الله تعالى عنهم]. إنه موقف عظيم القدر من أنس بن النضر رضي الله عنه، وكلمات أغلى من الذهب قالها: (فما تصنعون بالحياة بعده؟! قوموا فموتوا على ما مات عليه)، وهي منهج لحياة المؤمن، فهو ظل يجاهد في سبيل الله حتى يموت على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كانت قيلت في سياق الجهاد والقتال إلا أنها أعم من ذلك، وهي في كل مواقف المسلم. وتدل هذه القصة -رغم أنها مرسلة- على شدة الحال الذي وصل إليه الصحابة رضي الله عنهم، الذي يجعل أناساً من المبشرين بالجنة يجلسون ويتركون القتال لما صرخ الشيطان: إن محمداً قد قتل، إلا أن هذه الكلمات من أنس أثرت فيهم أعظم تأثير، فقاموا وقاتلوا ودافعوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا من أشد الناس في هذا الموقف عطاءً وبذلاً وتضحية رضي الله عنهم، كحال طلحة عند أن حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده حتى شلت بضربة من سيف. وروى البخاري عن أنس بن مالك: أن عمه -يعني: أنس بن النضر - غاب عن بدر فقال: غبت عن أول قتال للنبي صلى الله عليه وسلم، لئن أشهدني الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: مشهداً- ليرين الله ما أصنع، فلقي يوم أحد فهزم الناس، فقال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء -أي: المسلمين- وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء -أي: المشركون- فتقدم بسيفه فلقي سعد بن معاذ فقال: إلى أين يا سعد؟ إني لأجد ريح الجنة دون أحد، فمضى فقتل، فما عرف حتى عرفته أخته ببنانه أو بشامة، وبه بضع وثمانون من طعنة وضربة ورمية بسهم، هذا لفظ البخاري، وأخرجه مسلم من حديث ثابت عن أنس بنحوه. وهذا الموقف من أعظم فضائله، وهو الذي أنزل الله فيه: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23] هذا هو الصدق مع الله عز وجل، فـ أنس بن النضر غاب عن غزوة بدر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستوعب النفير فيها، وإنما خرج على عجالة يريد إدراك القافلة، فتأسف رضي الله عنه عن غيابه عن أول قتال للنبي صلى الله عليه وسلم مع المشركين، وهكذا هو حال المؤمن دائماً يحزن على فوات الخير، وعلى فوات بعض العبادة، فهو يريد أن يكون سباقاً إلى طاعة الله عز وجل. يقول: غبت عن أول قتال للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لئن أشهدني الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرين الله ما أصنع. هاب أن يقول غير ذلك حتى لا يكون مزكياً لنفسه ولا يفي، ولكن كان في نيته أن يجاهد أعظم الجهاد ووفى بعهده مع الله، وقضى نحبه كما قال الله: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} [الأحزاب:23] أي: عهده ونذره، فهو قد عاهد الله بهذه الكلمة: (ليرين الله ما أصنع) أي: من الجهاد والقتال في سبيله، فقد صدق مع الله عز وجل، وقضى نحبه وعهده، فقاتل حتى قتل فلقي يوم أحد العدو فهُزم الناس، أي: المسلمون، وانصرف أناس من المعركة، فقال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء، وهذا موقف المسلم دائماً يعرف الفرق بين المسلم والكافر، فهو وإن كان الفرار كبيرة من الكبائر لكن المسلم يعتذر عنه؛ لأصل إيمانه، بخلاف الكافر فإنه يتبرأ منه، لذا نجد أنساً يبرأ إلى الله عز وجل من الكافر ومما جاء به، فإنهم جاءوا للصد عن سبيل الله، والمسلم وإن ارتكب المعاصي فإنه يعتذر عنه؛ لأن أصل إيمانه لا بد أن يراعى ويحب لأجله، بخلاف المنافقين فإنهم كما وصفهم الله عز وجل يسلقون المؤمنين بألسنة حداد، وتجدهم بحاثين عن عوراتهم، همازين لمازين، ويعيبون المؤمنين بما ليس من صفاتهم، وإنما يدعون عليهم صفات السوء ليعيبوهم بها، وفي نفس الوقت يتولون المشركين. فأما المؤمن الصادق يعتذر إلى الله عز وجل عن إخوانه المسلمين، ويدعو الله عز وجل أن يغفر لهم، وحبه لإخوانه في الله يجعله يريد دائماً أن يرحمهم الله وأن يغفر لهم؛ ولذا يعتذر عنهم، وأما بغضه للكافرين فمستقر ثابت، فقال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء، أي: المشركون، وهكذا موقف المؤمن فهو يتبرأ من الشرك وأهله ومما جاءوا به، وأما الزنادقة المنافقون فهم أولياء المشركين: يؤيدونهم، ويطيعونهم، ويعاونونهم على أهل الإسلام. ومن فضائله رضي الله عنه: أنه لقي سيد الأنصار سعد بن معاذ الذي اهتز لموته عرش الرحمن فرحاً بقدومه، والذي مناديله في الجنة خير من الحرير رضي الله تعالى عنه، وهو أفضل الأنصار ومع ذلك كان قد جلس ضمن الجالسين فشجعه أنس بن النضر وثبته، وأمره بمواصلة الجهاد رضي الله تعالى عنه، فقال: (أين يا سعد؟) يعني: أين تذهب أين تترك المعركة؟ وهذه اللحظات التي مرت على هؤلاء الأفاضل تجعل المؤمن لا ييئس إذا أصابه شيء من التقصير ومن النقص، ولكن يبادر ولا يدع مدة الفتور تستمر معه، هذه اللحظات تطول وتقصر مع الناس تفاوتاً كبيراً. فكثير من الصحابة جلس تاركاً للقتال في ميدان المعركة ثم عاد إليها قبل أن ينصرف. وهذا طلحة الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (دونكم صاحبكم فقد أوجب) وكذا أبو بكر وعمر لم يتركا النبي صلى الله عليه وسلم حين رأياه بعد ذلك، وجماعات من الصحابة رضي الله عنهم، وكان منهم سعد بن معاذ وغيره فكانت هذه اللحظات التي تصيب الإنسان من فتور أو من يأس، أو من شبهة أوقات محدودة، ودقائق معدودة تزول بسرعة عند تذكر معاني الإيمان، وبوجود ناصح صادق مثل أنس رضي الله عنه، فكان موقفه هذا من أعظم العوامل والأسباب التي أدت إلى ثباتهم، وارتفعوا مراتب عالية بعد توقفهم هذه اللحظات. فالخطر أن يستمر الفتور، فالفتور وترك الطاعة واليأس أمر عظيم الخطر، وهذه اللحظات ربما مرت على الرسل صلوات الله وسلامه عليهم لكنها كانت كالبرق الخاطف، أعني: أنها لحظات يسيرة جداً تمر ثم ترحل سريعاً، فيشكون فيها إلى الله عز وجل ضعف القوة، وقلة الحيلة، وهوانهم على الناس وهم الأعزة عنده عز وجل، ويشكون إليه سبحانه وتعالى أنهم مغلوبون، ويستنصرون به. فعند الرسل تكون كالبرق، وعند أصحابهم ربما كالدقائق المعدودة، وربما تطول مع البعض، وهذا الذي يجب أن نقاومه ولا نترك أنفسنا لهذا اليأس ليفترس قلوبنا ويغترس معاني الإيمان فيها، وذلك بحسن الظن بالله وبالثبات، وباليقين بوعد الله عز وجل. وانظر إلى يقين أنس وهذه الكرامة التي أكرمه الله عز وجل بها، قال: (أين يا سعد؟ إني لأجد ريح الجنة دون أحد) فهذه كرامة، فهو صادق رضي الله عنه في أنه بالفعل وجد رائحة الجنة دون أحد أي: أقرب

لا يأس مع توبة

لا يأس مع توبة قال ابن كثير رحمه الله: [وروى البخاري أيضاً عن عثمان بن موهب قال: (جاء رجل حج البيت فرأى قوماً جلوساً، فقال: من هؤلاء القعود؟ قالوا: هؤلاء قريش، قال: من الشيخ؟ قالوا: ابن عمر، فأتاه فقال: إني سائلك عن شيء فحدثني؟ قال: سل، قال: أنشدك بحرمة هذا البيت: أتعلم أن عثمان بن عفان فر يوم أحد؟ قال: نعم. قال: فتعلمه تغيب عن بدر فلم يشهدها؟ قال: نعم. قال: فتعلم أنه تخلف عن بيعة الرضوان فلم يشهدها؟ قال: نعم. فكبر)]. صفات عجيبة تظهر من بعض البشر فهو يبحث عن الأخطاء حتى التي ليست موجودة، وبتر للوقائع والأحداث كما يبترون الكلمات؛ ليعيبوا أهل الإيمان، قوله: فكبر، يعني صاح قائلاً: الله أكبر، يستحق أن يقتل، يستحق أن يخرج عليه، ولا يناسب أن يكون أمير المؤمنين ويكبر، أنظر الشيء العجيب؟! إنه يكبر؛ لأنه سمع سلبيات عثمان رضي الله عنه. وفي آخر الأمر تبين له أن السلبيات التي كبَّر عليها ليست كذلك، ونسي الأعمال العظيمة التي قام بها عثمان، ولا يذكرها من باب: ولا تقربوا الصلاة، ويترك: وأنتم سكارى، والعياذ بالله. قال: [(فقال ابن عمر: تعال لأخبرك ولأبين لك عما سألتني عنه: أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله عفا عنه)]. لأن الله عز وجل قد قال: ((ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ)) فقد عفا الله عز وجل عنه؛ لأنه صدق وتاب توبة نصوحاً، ثم وجد قلباً نادماً عازماً على الثبات في سبيل الله بعد ذلك، بالإضافة إلى الخيرات الأخرى، فكأن هذا الذنب لم يكن. إننا نقول: هذه فيها فائدة مهمة: عثمان رضي الله عنه ثالث الأربعة الخلفاء الراشدين، وسادس أفضل هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم، وذلك أن أفضل الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي باتفاق أهل السنة. وكان هناك خلاف قديم على تفضيل علي على عثمان لكن اتفقت كلمة أهل السنة على تقديم عثمان كما قدمه الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وبايعوه كلهم بالخلافة، ووقع منه هذا الأمر، وقع منه الفرار يوم أحد وغفر الله عز وجل له. فائدة: في هذا أننا لا نبتئس إذا وقع منا تخاذل، ولا نيأس من رحمة الله عز وجل ولا من عفوه، بل نرجوا عفو الله عز وجل ونبادر بالرجوع والتوبة إلى الله سبحانه وتعالى، ولنا في الصحابة الأسوة الحسنة، ولنا في عفو الله الرجاء العظيم، ولنا في سعة رحمته الرغبة لأن نثق برحمته سبحانه وتعالى لا بأعمالنا، وأن الأمور عنده سبحانه وتعالى بموازنة الحسنات والسيئات، أعني: أن هذه الكبيرة التي اُرتكبت ليست تحبط الأعمال الصالحة العظيمة التي قام بها هؤلاء الأفاضل رضي الله تعالى عنهم. ويؤلمك هذا الأمر، وهو أن الهول كان شديداً حتى جعل هؤلاء الأفاضل يفرون من المعركة، وعوتبوا فيه ورُبوا وهذبوا حتى صلحوا لقيادة العالم؛ فعاتبهم الله بقوله: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [آل عمران:143]. فالكلام سهل، والأماني تغر صاحبها أحياناً ويظن أنه صادق في الطلب، فإذا كان قد وقع من هؤلاء الأفاضل أنهم حين رأوا الموت لم يتحملوا الثبات هذه اللحظات وهم من هم في المنازل العالية؟ فكيف بغيرهم؟ فإياك أن تغرك نفسك، وإياك أن تكون أحلامك وأمانيك عندك كأنها حقائق، فإنها لا تصبح كذلك إلا إذا نزلت على أرض الواقع، ومورست هذه الأعمال الإيمانية فعلاً بالصدق واليقين. قال ابن عمر: [(أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله عفا عنه، وأما تغيبه عن بدر فإنه كان تحته بنت رسول صلى الله عليه وسلم، وكانت مريضة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لك أجر رجل ممن شهد بدراً وسهمه)]. فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن له الأجر في الآخرة، فهو ممن شهد بدراً بالمعنى؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي استبقاه لرعاية ابنته التي كان يمكن أن يترك النبي صلى الله عليه وسلم الخروج لأجلها، وهذا من فضائل عثمان رضي الله تعالى عنه. قال: [(وأما تغيبه عن بيعة الرضوان: فلو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان لبعثه مكانه، فبعث عثمان فكانت بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمان إلى مكة)]. وبيعة الرضوان كانت بسبب إشاعة قتل عثمان، فالعجب من هؤلاء الخارجين الذين يطعنون في أهل الإيمان ولا ينظرون إلى فضائلهم. قال ابن عمر: [(فقال النبي صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى: هذه يد عثمان فضرب بها على يده، بايع لـ عثمان فيد النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من يد عثمان في نفسه فأي شرف أفضل من أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يبايع عن عثمان. قال: اذهب بها الآن معك)]. وهكذا يصنع القوم إشاعات من أجل أن يبيحوا الخروج على عثمان وقتله رضي الله عنه. والشاهد من هذا: أن من ضمن من صِرفوا إناساً من أفاضل وكبار الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ولكنها كانت درساً عظيماً للصحابة رضي الله عنهم استفادوا منه في حياتهم بعد ذلك، وفي جهادهم في سبيل الله، وفيما قاموا به من نشر الإسلام في كل المواطن، فاختلفت مواقفهم بعد أحد، فقد صاروا أكثر إيماناً، وأكثر قرباً من الله بعفوه وفضله ورحمته. ثم قال ابن كثير: [وقوله تعالى: ((إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَد)) أي: صرفكم عنهم، (إذ تصعدون) يعني: حين (إذ تصعدون) أي: في الجبل هاربين من أعدائكم، وقرأ الحسن وقتادة: (إذ تَصْعَدون) أي: في الجبل. (ولا تلوون على أحد) أي: وأنتم لا تلوون على أحد، (لا تلوون) لا يلوي: لا يلتفت، لا ينظر إلى أحد من الدهش والخوف والرعب مواقف شديدة]. ((وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ)) أي: وهو وقد خلفتموه وراء ظهوركم يدعوكم إلى ترك الفرار من الأعداء، وإلى الرجعة والعودة والكرة].

عدم عصمة الصحابة عن الخطأ

عدم عصمة الصحابة عن الخطأ عندما يفكر الإنسان في الوقائع الإسلامية الكبرى والتي ذكرت في القرآن يجد أنها دائماً تحتوي على الإصلاح. وأحياناً: كأن النفس تقول: يعني هو كلام على كبار الصحابة لماذا هم هكذا؟ نحن لا نريد أن نتصور صورة مثالية غير واقعية لا تكون في واقع الحياة، وأن هؤلاء الناس ما كان عندهم أخطاء أبداً، وإلا فمن السهل جداً أن يحصل انتصار، ونحن لا نشبههم، ونحن غيرهم تماماً، وحينها نظن أن هؤلاء ليس لهم مثيل، وهؤلاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذن لا أحد مثلهم. وكان الهدف من جود هذه الأمور: أن تبين لك كيف تعالج نفسك إذا حصل خطأ، وإذا كان الخطأ قد وقع من هؤلاء فلا بد أن يعالج الإنسان مثل هذا الأمر، وهذا الأمر يحصل عند الشدائد. هناك نوعيتين، أو مرضين خطيرين في مثل هذه الأمور: أن البعض يجعلها سبباً للطعن في عثمان رضي الله عنه، ولا يزال إلى زمننا هذا يتعرض للطعن رضي الله تعالى عنه، مع أن فضائله رفعته إلى أعلى المنازل كما ذكرنا، وهو بعد أبي بكر وعمر بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن لا يظن أنهم معصومون حتى لا نفوت على أنفسنا المصلحة العظيمة بعلاج الأمراض التي تقع في القلوب، وهي التي في واقع الحياة كما عالجها القرآن، وكما شفاهم الله عز وجل بالشفاء لما في الصدور بهذه الآيات العظيمة. قال ابن كثير رحمه الله: [قال السدي: لما شد المشركون على المسلمين بأحد فهزموهم دخل بعضهم المدينة وانطلق بعضهم إلى الجبل فوق الصخرة فقاموا عليها]. وتفاوتوا في شدة الفرار: منهم من فر إلى المدينة -مسافة طويلة- ومنهم من فر إلى أعلى الجبل؛ يقف ينظر ما الذي يحصل في المعركة-. قال: [فجعل الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو الناس: (إلي عباد الله!. إلي عباد الله!) فذكر الله صعودهم إلى الجبل، ثم ذكر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إياهم فقال: ((إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ)) وكذا قال ابن عباس وقتادة والربيع وابن زيد وقال عبد الله بن الزبعري -يذكر هزيمة المسلمين يوم أحد في قصيدته وهو مشرك بعد لم يسلم التي يقول في أولها-: يا غراب البين! أسمعت فقل إنما تنطق شيئاً قد فعل إن للخير وللشر مدى وكلا ذلك وجه وقبل]. فهذا المشرك يقول: إن للخير وللشر مدى، يعني: يريد أن يقول: شر المسلمين يأتي له آخر، وقد انتهى، وكان آخره هزيمة أحد، وهي كانت آخر الشر إلى أن هداه الله بعد ذلك. قال ابن كثير: [إلى أن قال: ليت أشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسل]. يقول: يا ليت الذين قتلوا في بدر يرون جزع الخزرج من وقع السيوف عليهم، طبعاً الذي قتل المشركين في غزوة بدر أكثرهم من الأنصار، فقد كان أكثر الجيش المسلم من الأنصار، قال: [حين حكت بقباء بركها واستحر القتل في عبد الأشل ثم خفوا عند ذاكم رقصاً رقص الحفان يعلو في الجبل]. وهذا الشاهد منها، خفوا عند ذاكم، يعني: صعدوا يسعون. رقصاً: يشبههم في شدة جريهم بالذي يرقص. رقص الحفان يعلو في الجبل. [فقتلنا الضعف من أشرافهم وعدلنا ميل بدر فاعتدل. والحفان: صغار النعم. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أفرد في اثني عشر رجلاً من أصحابه.

خطأ الرماة

خطأ الرماة روى الإمام أحمد عن البراء بن عازب قال: (جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرماة يوم أحد وكانوا خمسين رجلاً: عبد الله بن جبير قال: ووضعهم موضعاً، وقال: إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا ظهرنا على العدو وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم، قال: فهزموهم، قال: فأنا والله! رأيت النساء يشتددن على الجبل وقد بدت أسواقهن وخلاخلهن رافعات ثيابهن)]. نساء المشركين هند وصاحباتها قد رفعن عن سوقهن لتستطعن الجري. قال: [(فقال أصحاب عبد الله بن جبير: الغنيمة، أي قوم الغنيمة -أي: يا قوم الغنيمة اذهبوا لجمعها- ظهر أصحابكم فما تنتظرون؟)]. وهذه كانت إرادة الدنيا التي محصهم الله عز وجل بها، فقال: ((مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا)). قال: [(قال عبد الله بن جبير: أنسيتم ما قاله لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: إنا والله! لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة، فلما أتوهم صرفت وجوههم فأقبلوا منهزمين -ولا حول ولا قوة إلا بالله- فذلك الذي يدعوهم الرسول صلى الله عليه وسلم في أخراهم، فلم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلاً)]. والجيش كان ألفاً، ثلاثمائة عادوا من منتصف الطريق، وأثناء المعركة بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم من خلاصة الخلاصة اثنا عشر رجلاً، وهذا أمر عظيم وهائل، فأكثر الصحابة ليسوا حول النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت هزيمة ولولا أن الله عز وجل عفا عنهم لاستُؤصِلُوا، وهذا من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم: أن اثني عشر رجلاً وسط ثلاثة آلاف شخص فلا بد أن يقتلوه، فيمنعه الله عز وجل ويحفظه صلى الله عليه وسلم، وبطولات الصحابة رضي الله عنهم الاثني عشر خصوصاً، سبعة منهم من الأنصار على الأقل غير خافية.

مناداة أبي سفيان للنبي والصحابة وأسلوب الرد عليه

مناداة أبي سفيان للنبي والصحابة وأسلوب الرد عليه قال: [(فأصابوا منهم سبعين، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أصابوا من المشركين يوم بدر مائة وأربعين: سبعين أسيراً، وسبعين قتيلاً، قال أبو سفيان: أفي القوم محمد أفي القوم محمد؟ ثلاثاً -صلى الله عليه وسلم- قال: فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجيبوه، ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة أفي القوم ابن أبي قحافة أفي القوم ابن الخطاب أفي القوم ابن الخطاب؟)]. فسأل عن هؤلاء الثلاثة؛ لأن عليهم قيام الدين، مع أنه يوجد أناس أشد من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في القتال، لكن قوام الإسلام بعد النبي صلى الله عليه وسلم بـ أبي بكر وعمر. قال: [(ثم أقبل على أصحابه فقال: أما هؤلاء فقد قتلوا وقد كفيتموهم، فما ملك عمر نفسه أن قال: كذبت والله! يا عدو الله! إن الذين عددت لأحياء كلهم -هذه صدمة عظيمة لـ أبي سفيان والمشركين- قال: وقد بقي لك ما يسوؤك، فقال: يوم بيوم بدر، والحرب سجال -يفتخر بقوله: الحرب سجال يعني: مرة علينا، ومرة عليكم- قال: وإنكم ستجدون في القوم مثلة لم آمر بها ولم تسؤني ثم أخذ يرتجز ويقول: اعلُ هبل اعلُ هبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تجيبوه؟! قالوا: يا رسول الله! وما نقول؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجل)]. فالدفاع على العقيدة مأمور به، وإغاظة المشركين جائز ومباح، والانتصار للنفس منهي عنه، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال أولاً عندما سأل أبو سفيان عنه: (لا تجيبوه)؛ لأن في السكوت عنه كانت المصلحة وعندما بدأ يفتخر بنفسه فكان أمر إغاظته مسكوت عنه فانتهز الفرصة عمر وأجابه، وفي الثالثة لما ذكر الثلاثة مجموعين وقال: (أما هؤلاء فقد قتلوا وقد كفيتموهم) لم ينههم النبي صلى الله عليه وسلم وإنما أذن لـ عمر في الانتصار للنفس. وقال لهم: أجيبوه لما افتخر بإلهه وقال: (اعل هبل، فقال: ألا تجيبوه؟!) فعندما يُطعن في الدين لا بد أن يجاب عن الطعن، ولا بد أن يرد على الطاعن، وعندما يكون الطعن في أشخاصنا فيمكن أن نسكت، وممكن أن نرد. قال: [(قال -أي: أبو سفيان -: لنا العزى ولا عزى لكم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تجيبوه؟! قالوا: يا رسول الله! وما نقول؟ قال: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم). وقد رواه البخاري من حديث زهير بن معاوية مختصراً، ورواه بأبسط من هذا أيضاً].

شجاعة طلحة يوم أحد

شجاعة طلحة يوم أحد [وروى البيهقي في دلائل النبوة من حديث عمارة بن غزية عن أبي الزبير عن جابر قال: (انهزم الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وبقي معه أحد عشر رجلاً من الأنصار وطلحة بن عبيد الله وهو يصعد الجبل، فلحقهم المشركون، فقال: ألا أحد لهؤلاء؟ فقال طلحة أنا يا رسول الله، فقال: كما أنت يا طلحة -يعني: انتظر- فقال رجل من الأنصار: فأنا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقاتل عنه وصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بقي معه، ثم قتل الأنصاري فلحقوه، فقال: ألا رجل لهؤلاء؟ فقال طلحة مثل قوله -قال طلحة: أنا رسول الله! وكان طلحة مستعداً من أول الأمر- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل قوله -أي قال كما أنت يا طلحة - فقال رجل من الأنصار: فأنا يا رسول الله! فقاتل عنه وأصحابه يصعدون ثم قتل فلحقوه، فلم يزل يقول مثل قوله الأول فيقول طلحة: فأنا يا رسول الله! فيحبسه، فيستأذنه رجل من الأنصار للقتال فيأذن له، فيقاتل مثل من كان قبله حتى لم يبق معه إلا طلحة، فغشوهما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من لهؤلاء؟ فقال طلحة: أنا، فقاتل مثل قتال جميع من كان قبله)]. كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعده للساعة الشديدة رضي الله عنه، فقد قاتل قتال أحد عشر رجلاً من الأنصار، وهو الذي ردهم رضي الله عنه. [وأصيبت أنامله فقال: حس حس -صوت التألم- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو قلت: باسم الله وذكرت اسم الله لرفعتك الملائكة والناس ينظرون إليك، حتى تلج بك في جو السماء)]. وهنا تتجلى أهمية التربية، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمه وهو في شدة المعمعة أن يقول: باسم الله، وهذا دليل على أنه ليس هناك شيء يشغل عن ذكر ربنا، فإن القتال كان هائلاً جداً، والناس يقتلون بين أيديهم، وهو يقاتل قتال الأحد عشر رجلاً رضي الله عنه، فعندما قال: حس، وهي مثل قولنا: أي، متألماً من الجرح فالنبي صلى الله عليه وسلم قال له: (لو قلت: باسم الله لرفعتك الملائكة). قال: [ثم صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وهم مجتمعون]. فالذي رد المشركين هو طلحة رضي الله تعالى عنه. قال: [وقد روى البخاري عن قيس بن أبي حازم قال: (رأيت يد طلحة شلاء وقى بها النبي صلى الله عليه وسلم) يعني: يوم أحد]. شلت يده رضي الله عنه؛ لأنه دافع عن النبي صلى الله عليه وسلم، ووقى بها النبي ضربة ليس لها واق إلا يد طلحة رضي الله عنه. والإنسان عنده رد فعل في الجسم البشري طبيعي وهو أنه عندما يأتي عليه شيء مؤلم يبتعد عنه، وهذه كرامة عظيمة لـ طلحة، ومعجزة للنبي صلى الله عليه وسلم، وهي: أن السيف يراد به ضرب النبي صلى الله عليه وسلم، وعندما تأتي الضربة لشخص يرفع يده تلقائياً رغماً عنه من غير شعور في حينه، فهو من غير شعور حرك يده ناحية النبي صلى الله عليه وسلم ليقي بها النبي صلى الله عليه وسلم فشلت يده رضي الله تعالى عنه من جراء الضربة.

انفراد النبي في اثني عشر من أصحابه ومنقبة سعد بن أبي وقاص يوم أحد

انفراد النبي في اثني عشر من أصحابه ومنقبة سعد بن أبي وقاص يوم أحد قال: [وفي الصحيحين من حديث معتمر بن سليمان عن أبيه عن أبي عثمان النهدي قال (لم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الأيام التي قاتل فيهن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير طلحة بن عبيد الله وسعد عن حديثهما). وقال حماد بن سلمة عن علي بن زيد وثابت عن أنس بن مالك: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش قال: من يردهم عنا وله الجنة -أو وهو رفيقي في الجنة- فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل، ثم رهقوه أيضاً -أي: أوشكوا أن يدركوا النبي صلى الله عليه وسلم- فقال: من يردهم عنا وله الجنة؟ فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل، فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبيه: ما أنصفنا أصحابنا) -أي: أصحابنا الذين فروا ما أنصفونا حين تركونا في هذا العدد القليل وسط المشركين- وفي رواية: (ما أنصَفْنا أصحابنا) رواه مسلم. وقال الحسن بن عرفة: وفي رواية حدثنا مروان بن معاوية عن هشام بن هشام الزهري قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: (نثل لي رسول الله صلى الله عليه وسلم كنانته يوم أحد وقال: ارم فداك أبي وأمي)]. يعني: نثرها صلى الله عليه وسلم، وأخرج له جعبة السهام؛ ليرمي عن النبي صلى الله عليه وسلم وفداه بأبيه وأمه، وهذه منقبة عظيمة لـ سعد. [وأخرجه البخاري أيضاً. وروى محمد بن إسحاق عن سعد بن أبي وقاص أنه رمى يوم أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال سعد: (فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يناولني النبل ويقول: ارم فداك أبي وأمي حتى إنه ليناولني السهم ليس له نصل فأرمي به)]. يعني: يرمي بأي شيء موجود حتى يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم. [وثبت في الصحيحين من حديث إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه: (رأيت يوم أحد رجلين يقاتلان عنه أشد القتال ما رأيتهما قبل ذلك اليوم ولا بعده، يعني: جبريل وميكائيل عليهما السلام)]. الحديث متفق على صحته، وهو من معجزات النبوة الظاهرة. [وروى حماد بن سلمة عن علي بن زيد وثابت بن أنس: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش فلما أرهقوه قال: من يردهم عنا وله الجنة، أو وهو رفيقي في الجنة؟ فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل، ثم أرهقوه أيضاً، فقال: من يردهم عنا وله الجنة؟ فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل، فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبيه: ما أنصفنا أصحابنا) رواه مسلم]. قوله: (ما أنصفنا أصحابنا) يعني: المهاجرين ما أنصفوا الأنصار إذ قتل سبعة منهم، لكن الرواية الأولى أشهر، (ما أنصفنا أصحابنا) أي: الذين فروا عنا.

قتل النبي لأبي بن خلف

قتل النبي لأبي بن خلف [وقال أبو الأسود عن عروة بن الزبير قال: (كان أبي بن خلف أخو بني جمح قد حلف وهو بمكة ليقتلن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما بلغت النبي صلى الله عليه وسلم هذه الحليفة -اليمين- قال: بل أنا أقتله إن شاء الله، فلما كان يوم أحد أقبل أبي في الحديد مقنعاً وهو يقول: لا نجوت إن نجا محمد -صلى الله عليه وسلم- فحمل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد قتله فاستقبله مصعب بن عمير أخو بني عبد الدار يقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، فقتل مصعب بن عمير)]. وهو في الحديد، وليس هناك شيء ظاهر منه، من ذا الذي يقتله، ولكن مصعب ضحى بنفسه وليس عليه إلا نمرة فقط، وليس عنده ثياب، وليس عليه شيء من الحديد، ولما أرادوا تكفينه فإن غُطي بنمرته رأسه ظهرت قدماه، وإن غطيت قدماه ظهر رأسه رضي الله تعالى عنه، فقاتل شخصاً في الحديد وقاية للنبي عليه الصلاة والسلام، مصعب رضي الله عنه هو سفير الإسلام، الذي دخل أهل المدينة الإسلام على يديه رضي الله تعالى عنه، الذي يقول عنه عبد الرحمن بن عوف: قتل مصعب وهو أفضل مني رضي الله تعالى عنهم. قال: [(فقتل مصعب بن عمير، وأبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ترقوة أبي بن خلف من فرجة بين سابغة الدرع والبيضة)]. يعني: البيضة المغطية على الرأس، والدرع المغطي على الصدر، فهناك بقعة ما بين عظمة الترقوة فقط بقعة من جلد أغلبه من غير عظم. قال: [(وطعنه فيها بحربته)]. - فالنبي صلى الله عليه وسلم طعن أبي في البقعة الضيقة هذه. [(فوقع إلى الأرض عن فرسه ولم يخرج من طعنته دم)]. فالمكان ضيق جداً فالأمر لا يزيد عن الخدش. [(فأتاه أصحابه فاحتملوه وهو يخور خوار الثور -يصيح صياح الثور من شدة الألم وهم رافعون له- فقالوا له: ما أجزعك إنما هو خدش)]. لماذا أنت خائف؟ فالحربة لم تدخل في المسافة ما بين البيضة والدرع! قال: [فذكر لهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بل أنا أقتل أبياً)]. فخوفه كله من أن الرسول قال ذلك، وهو يعلم أنه صادق. قال: [(والذي نفسي بيده! لو كان هذا الذي بي بأهل ذي المجاز لماتوا أجمعين)]. معناه: أن السوق الكبير في الحج لو توزع عليهم ضربة النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي لماتوا من الألم، قال الله عز وجل: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33] أي: إنهم يعرفون صدق النبي صلى الله عليه وسلم؛ لذلك عندما قال: (بل أنا أقتل أبياً) ظل يتذكرها ظاناً أنه سوف يموت. قال: [(فمات إلى النار) -والعياذ بالله- {فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:11]. وقد رواه موسى بن عقبة في مغازيه عن الزهري عن سعيد بن المسيب، وذكر محمد بن إسحاق قال: (لما أسند رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب أدركه أبي بن خلف وهو يقول: لا نجوت إن نجا، فقال القوم: يا رسول الله! يعطف عليه رجل منا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوه، فلما دنا تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة فقال بعض القوم: -ما ذكر لي- فلما أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم منه انتفض بها انتفاضة تطايرنا عنه تطاير الشعر عن ظهر البعير إذا انتفض)]. أي: هزها الرسول بشدة تركت الصحابة يبتعدوا من شدة النفضة. قال: [(ثم استقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم فطعنه في عنقه طعنة تدأدأ منها -أي: سقط منها- عن فرسه مراراً) وذكر الواقدي عن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه نحو ذلك. وقال الواقدي: وكان ابن عمر يقول: مات أبي بن خلف ببطن رابغ]. أي: بينما هو عائد إلى مكة مات بسبب هذا الجرح في الطريق، في رابغ وهو مكان بين مكة والمدينة. قال ابن عمر: [فإني لأسير ببطن رابغ بعد هوي من الليل، إذا أنا بنار تأجج فهبتها، فإذا رجل يخرج منها في سلسلة يجتذبها يهيج به العطش]. أي: رجل خارج من النار يشد على نفسه بسلسلة ويقول: العطش العطش. [وإذا رجل يقول: لا تسقه فإن هذا قتيل رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا أبي بن خلف]- نعوذ بالله- وثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اشتد غضب الله على قوم فعلوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو حينئذ يشير إلى رباعيته، - أي: سن النبي صلى الله عليه وسلم التي كسرت- واشتد غضب الله على رجل يقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل الله) وأخرجه البخاري عن ابن عباس قال: (اشتد غضب الله على من قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده في سبيل الله، واشتد غضب الله على قوم دمّوا وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم)]. ومعنى: أدموه ودموه أي: جعلوا الدم يسيل من وجهه عليه الصلاة والسلام، وذلك حين جرحوا وجه النبي صلى الله عليه وسلم. [وقال محمد بن إسحاق: (أصيبت رباعية رسول الله صلى الله عليه وسلم وشج في وجنته وكلمت شفته)]. كلمت أي: جرحت شفة النبي صلى الله عليه وسلم، وكسرت سنه الرباعية اليمنى السفلى، وجرحت وجنته عليه الصلاة والسلام، وهشمت البيضة فوق رأسه، وهو رسول صلى الله عليه وسلم، والذي فعل به ذلك هم من اشتد غضب الله عليهم. لنعلم حقيقة التوحيد، وأن الله بيده الأمر كله، ليس للنبي صلى الله عليه وسلم، ولا لغيره، والنبي صلى الله عليه وسلم كان غاضباً من ذلك، وكان صلى الله عليه وسلم يقاوم المشركين ومع ذلك قدر الله أن يقع ذلك ليكون ما جرى على سيد البشر صلى الله عليه وسلم وسادات الأولياء من بعده من الجرح والألم والقتل من أدلة التوحيد، ولنعلم أن هذا الأمر قدره الله عز وجل ليبتلي عباده المؤمنين، وكذلك ليكونوا أسوة لعباد الله عبر العصور في الصبر والثبات والتضحية والتحمل في سبيل الله عز وجل.

درس في الولاء والبراء

درس في الولاء والبراء قال: [وكان الذي أصابه عتبة بن أبي وقاص فحدثني صالح بن كيسان عمن حدثه عن سعد بن أبي وقاص قال: ما حرصت على قتل أحد قط مثل ما حرصت على قتل عتبة بن أبي وقاص، إن كان ما علمته لسيء الخلق مبغضاً في قومه، ولقد كفاني فيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اشتد غضب الله على من دمى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم)]. وعتبة بن أبي وقاص مات كافراً، ولنا في الولاء والبراء درس عظيم فـ سعد حرص أعظم الحرص على قتل أخيه؛ لأنه كان كافراً ولأنه دمى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانظر إلى ثمرة البغضاء التي وقعت لهذا الرجل في قول سعد: إنه كان سيء الخلق مبغضاً في قومه؛ لأن الله أبغضه واشتد غضبه عليه؛ لما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان كريهاً مكروهاً والعياذ بالله. قال: [وروى عبد الرزاق: عن مقسم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا على عتبة بن أبي وقاص يوم أحد حين كسر رباعيته ودمى وجهه فقال: (اللهم! لا تحل عليه الحول حتى يموت كافراً) فما حال عليه الحول حتى مات كافراً إلى النار.

ذكر ما أصيب به المصطفى يوم أحد

ذكر ما أصيب به المصطفى يوم أحد ذكر الواقدي عن نافع بن جبير قال: سمعت رجلاً من المهاجرين يقول: شهدت أحداً فنظرت إلى النبل يأتي من كل ناحية، ورسول الله صلى الله عليه وسلم وسطها كل ذلك يصرف عنه، ولقد رأيت عبد الله بن شهاب الزهري]. الذي هو عم الإمام محمد بن شهاب الزهري. [يقول يومئذ: دلوني على محمد لا نجوت إن نجا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه ليس معه أحد -واقف بجانبه وهو يقول: دلوني عليه- ثم جاوزه فعاتبه في ذلك صفوان -يقول له: كان واقف بجانبك- فقال: والله ما رأيته، أحلف بالله إنه منا ممنوع، خرجنا أربعة فتعاهدنا وتعاقدنا على قتله فلم نخلص إلى ذلك. قال الواقدي: والذي ثبت عندنا أن الذي رمى في وجنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن قمئة، والذي دمى شفته وأصاب رباعيته عتبة بن أبي وقاص. قال ابن كثير: [وقال أبو داود الطيالسي: عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، قالت: كان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد أي: قال: ذاك يوم كله لـ طلحة، ثم أنشأ يحدث قال: كنت أول من فاء يوم أحد -أول من رجع إلى النبي عليه الصلاة والسلام- فرأيت رجلاً يقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم دونه، وأراه قال حمية فقال: فقلت: كن طلحة حيث فاتني ما فاتني، فقلت: يكون رجلاً من قومي أحب إلي، وبيني وبين المشركين رجل لا أعرفه]. طلحة أسلم على يد أبي بكر رضي الله عنه، لكن هو يعرف أن طلحة هو الذي يقدر أن يدافع على النبي عليه الصلاة والسلام، فتمنى أن يكون طلحة وبدا أنه ليس هو الذي كان يقاتل في ذلك الموقف، يقول: [لو كان رجلاً من قومي أحب إلي] من أن يكون من بلد آخر، كأن يكون واحداً من الأنصار مثلاً أو من غيرهم. قوله: [وبيني وبين المشركين رجل لا أعرفه، وأنا أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه وهو يخطف المشي خطفاً لا أخطئه، فإذا هو أبو عبيدة بن الجراح]. معنى: [خطفاً لا أخطئه]. يعني: خطفاً لا أعرفه، وفي رواية: لا أحفظه. قال: [فانتهينا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كسرت رباعيته، وشج في وجهه، وقد دخل في وجنته حلقتان من حلق المغفر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليكما صاحبكما) يريد طلحة وقد نزف، فلم نلتفت إلى قوله، قال: وذهبت الآن أنزع ذلك من وجهه صلى الله عليه وسلم، فقال أبو عبيدة: أقسمت عليك بحقي لما تركتني، فتركته] وحديثه هذا فيه ضعف. قال: [فكره أن يتناولها بيده فيؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأزم عليه بفيه فاستخرج إحدى الحلقتين ووقعت ثنيته مع الحلقة]. سن أبي عبيدة بن الجراح وقعت مع حلقة المغفر، وهذه قصة ثابتة مشهورة؛ لأن اللفظ الذي هو غريب منكر هو قوله: أقسمت عليك بحقي، فإن الحلف بغير الله لا يجوز. قال: [ووقعت ثنيته مع الحلقة، وذهبت لأصنع ما صنع فقال: أقسمت عليك بحقي لما تركتني، قال: ففعل مثل ما فعل في المرة الأولى فوقعت ثنيته الأخرى مع الحلقة، فكان أبو عبيدة أحسن الناس هتماً]. الأهتم هو من تكسرت ثناياه من أصلها. [فأصلحنا من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أتينا طلحة في بعض تلك الحفر فإذا به بضع وسبعون أو أقل أو أكثر من طعنة ورمية وضربة، وإذا قد قطعت أصبعه فأصلحنا من شأنه]. فأبقاه الله عز وجل لقتال المشركين والكفار بعد ذلك في الوقائع العظمى رضي الله عنه. [ورواه الهيثم بن كليب والطبراني، وعند الهيثم قال أبو عبيدة: أنشدك الله يا أبا بكر! إلا تركتني؟]. ولعل هذا هو الأقرب. [فأخذ أبو عبيدة السهم بفيه فجعل ينضنضه كراهية أن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم استل السهم بفيه فبدرت ثنية أبي عبيدة وذكر تمامه، واختاره الحافظ الضياء المقدسي، وقد ضعف علي بن المديني هذا الحديث من جهة إسحاق بن يحيى هذا فإنه تكلم فيه يحيى بن سعيد القطان وأحمد ويحيى بن معين والبخاري وأبو زرعة وأبو حاتم ومحمد بن سعد والنسائي وغيرهم. وروى ابن وهب عن عمر بن السائب: أنه بلغه أن مالكاً أبا سعيد الخدري لما جرح النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد مص الجرح حتى أنقاه -أي: من الدم- ولاح أبيض فقيل له: مجه - أي: اتفل الدم- فقال: لا والله! لا أمجه أبداً ثم أدبر يقاتل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا فاستشهد)]. وهذا أيضاً ضعيف، فلا يستدل به على طهارة الدم، وبعضهم يقول: طهارة دم النبي صلى الله عليه وسلم وفضلاته خصوصية، وليس على هذا دليل. [وقد ثبت في الصحيحين عن سهل بن سعد أنه سئل عن جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: جرح وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكسرت رباعيته، وهشمت البيضة على رأسه صلى الله عليه وسلم، فكانت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تغسل الدم، وكان علي يسكب عليه الماء بالمجن]. وضع الماء في الترس؛ لأنه ليس عندهم أدوات. [فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة من حصير فأحرقتها حتى إذا صارت رماداً ألصقته بالجرح فاستمسك الدم]. هذا فيه مشروعية المداواة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم تداوى من جرحه.

الأسئلة

الأسئلة

حكم الدعاء على المعين

حكم الدعاء على المعين Q هل يجوز الدعاء على المعين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على عتبة: (اللهم لا تحل عليه الحول)؟ A الأفضل أن لا ندعو على المعين، والرواية المذكورة مرسلة، وهناك أشياء في السيرة تذكر بأسانيد فيها مقال، وهي تذكر لمعرفة الوقائع، أما إذا كان سيترتب عليها أحكام، مثل لفظة: (أقسمت عليك بحقي)؛ فإننا نبين ضعفه، وكذلك حديث: (اللهم! لا تمر عليه الحول حتى يموت كافراً) فهو حديث ضعيف، وإن صح فيحمل على أن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على أنه يموت كافراً، فدعا عليه أن يموت في ذلك العام.

حكم تهنئة النصارى في أعيادهم

حكم تهنئة النصارى في أعيادهم Q هل يجوز تهنئة النصارى بأعيادهم على سبيل المجاملة ورد التهنئة كما يهنئوننا في عيدنا؟ A حين هنئونا بعيدنا هنئونا بحق فلا يجوز أن نهنئهم بباطل، فلا شك أن أعياد المسلمين أعياد تستحق أن يُهنئوا عليها؛ لأنهم أتموا طاعات لله عز وجل: فقد أتموا صيام رمضان، وعبدوا الله في الأيام العشر، وضحوا لله عز وجل بالأضحية، وصلوا صلاة العيدين، وفعلوا طاعات فالتهنئة بها تهنئة على خير. أما هم فهم يسبون الله سبحانه وتعالى، وهذا بنص الحديث في الصحيحين: يقول الله عز وجل فيما يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه: (شتمني ابن آدم ولم يكن له ذلك، قال: وأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولداً) فهل تهنئوهم على شتم الرب سبحانه وتعالى وعده؟ وهل يتصور مسلم ذلك؟ بمعنى: لو أن إنساناً سب أباك أو أمك، فأتيت في موعد السب من كل عام وقلت له: كل سنة وأنت طيب، والعياذ بالله، فهم يسبون الله عز وجل بقولهم: {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} [البقرة:116] نعوذ بالله، أيُهنَئون على ذلك؟ ونقول: إن هذا من باب المجاملة، فما أسوأ هذه المجاملات. إنما يمكن أن يُهنَئوا بما كان من خير لو أرادوا به طاعة الله، مثل الزواج فإنه عفة، فيجوز تهنئتهم بالزواج، وقد يهنأ أحدهم بأمر دنيوي كمولود يحصل له، أما أن يهنأ على كفر على باطل على شرك، أو يهنأ على رئاسة كفرية، فهذا لا يجوز بحال من الأحوال. وهذا من متابعتهم على باطلهم، فما أصاب المسلمين هذا إلا بسبب مثل هذه المجاملات بالباطل، حتى وصل الأمر إلى أن يقال للناس: إن من حق الكفار أن يسنوا ما شاءوا، وأن ذلك دبلوماسية أو مجاملة، فالكفر هكذا يجعل الباطل حقاً والحق باطلاً. والإنسان عندما يداهن الكفار، يزعم أنه يكون من حقه أن يخالف صريح القرآن، فيرى أن من حق الإنسان أن يكفر بالله عز وجل، وأن يحارب دينه، نعم يكون هذا من حقه؛ لأنه كفر أول مرة، كما يقول الله سبحانه وتعالى: {أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ * إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ} [القلم:37 - 38]. فكوننا نجامل على حساب الدين هذا من المداهنة بالباطل، ومن الركون إلى الذين ظلموا والعياذ بالله!

بيان موت النبي صلى الله عليه وسلم

بيان موت النبي صلى الله عليه وسلم Q زاد الكلام اليوم عن موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكثير من الناس وخاصة الصوفية يقولون: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمت ولكن سوف يموت بعد فترة وهو حي الآن، ويستشهدون بالآية الكريمة التي تقول: إن الشهداء أحياء عند ربهم، والشهداء أقل مرتبة من الأنبياء، وبالتالي: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمت. A هذا خلاف إجماع المسلمين، وخلاف نص القرآن، قال عز وجل: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] فالذين يقولون: إنه سوف يموت، نقول لهم: قد قال أبو بكر رضي الله عنه في محضر الصحابة: (من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات) وهذا متفق على صحته، والذي يشكك في ذلك كاذب ضال مضل. وأما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حي عند ربه، فهذا الذي نعتقده، وحياته أكمل من حياة الشهداء، فهو يعيش حياة برزخية لا تنافي الموت، وكما أن الشهداء لا يعاملون معاملة الأحياء في الدنيا، وقل كما قال الله عز وجل، بأن الرسول حي عند ربه وهو أكمل من حياة الشهداء بلا شك، ولكن عند ربه ليس في الدنيا، فإن الشهداء -بإجماع المسلمين- يورثون ويدفنون، ويجوز التزوج بنسائهم، وكل الأحكام الشرعية والدنيوية، وكل العقلاء يقولون: إن هؤلاء قد ماتوا وهم أحياء، لكن حياة لا تنافي الموت الدنيوي، ولا تنافي الموت على الأرض؛ لأنها حياة عند الله وليست حياة على وجه الأرض، وكذلك هي حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

حكم بيع الخمور ولحم الخنزير في البلاد غير الإسلامية لغير المسلمين

حكم بيع الخمور ولحم الخنزير في البلاد غير الإسلامية لغير المسلمين Q أفتى بعض المشايخ بجواز بيع الخمر ولحم الخنزير في البلاد غير الإسلامية لغير المسلمين، فما صحة هذه الفتوى؟ A هذا كلام باطل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام. وقد نقل الاتفاق على منع بيع هذه الأربعة غير واحد من أهل العلم، والحديث في ذلك صحيح متفق على صحته، وقد سمع أن بعض المشايخ أيضاً يفتي بذلك بشرط أن لا يتجاوز حاجة المسلم الذي يبيع ذلك، وهذا باطل والمال مال محرم، فلا يجوز بيعه لمسلم ولا لكافر فإن الله سبحانه وتعالى حرم هذه الأشياء، بل لعن من باعها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله اليهود لما حرم الله عليهم الشحوم جملوه -يعني: أسالوه- فباعوه وأكلوا ثمنه) وقال: (إن الله إذا حرم شيئاً حرم أكل ثمنه).

معنى حديث (من رأى منكم منكرا)

معنى حديث (من رأى منكم منكراً) Q حديث: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده) هل يمكن حمل هذا الحديث على حال معينة: وهي مثلاً: أن يرى الإنسان رجلاً يهم بقتل آخر، فيغير بيده، ولا وقت لأن يغير المنكر باللسان؟ A لا شك أن هذه أحد الصور، لكن إذا أمكنه أن يدفعه بلسانه أولاً فعل، كأن يحذره، وقد ذكر الله ذلك في الصائل، فإن لم يندفع بقوله دفعه بفعله، فإن لم يمكن القول؛ لأنه يعلم أنه سوف يبادر إلى قتله، أو مثلاً: يختطف امرأة وهو شاهر السلاح، ولو كلمه لأخذها وهرب، فيجب هنا أن يغير بيده؛ لأنه عجز عن التغيير باللسان في تلك اللحظة، وهذا هو الترتيب الشرعي.

حكم قضاء الصلوات الفائتة في مدة طويلة

حكم قضاء الصلوات الفائتة في مدة طويلة Q هل يلزم على من ترك الصلاة مدة طويلة وهو يسعى جاهداً لإدراك ما فات، وقد تاب إلى الله عز وجل، فهل يقضيها رغم كثرة تعدادها؟ وهل يلزم أن أقول له: إن هذا الأمر لا يجوز خصوصاً أنه الراجح من الخلاف والحق عندي، أي: عدم مشروعية قضاء الفوائت؟ أم أكون آثماً إن لم أفعل؟ A لا، لا يلزمك أن تقول ذلك، لكن إن سألك فتجيبه؛ لأن مسألة قضاء الفوائت مسألة خلافية، فإذا رأيت شخصاً يقضي الفوائت واستفتاك فيلزمك أن تقول ما تعتقد إن كنت طالب علم مميز، أو تنقل ترجيح من ترى من أهل العلم، لكن لا يلزمك ذلك، فالمسألة فيها خلاف، والذي يفعله هذا الرجل هو قول جمهور العلماء، وإن كنا نرى خلافه، لكن لا يلزم في المسائل التي فيها اجتهاد وخلاف سائغ أن تغير مذهب الآخرين، ولا ينبغي أن تنكر عليهم في مسألة فيها خلاف سائغ.

كيفية إخراج زكاة العروض

كيفية إخراج زكاة العروض Q زكاة المال على البضاعة المعروضة في المحل كيف أخرجها؟ علماً بأن هناك بضاعة تدخل وتخرج وبضاعة تبقى لعدة سنوات فما العمل؟ A عليك أن تعرف يوم ملك النصاب، وفرض على كل أحد معه مال بلغ النصاب أن يعرف تاريخ ملكه للنصاب، ونصاب الفضة 595 جراماً، فهذا اليوم يتم حفظه، وفي كل سنة هجرية من هذا اليوم عليه أن يجرد البضاعة التي عنده، والمال السائل الذي معه، ويخرج على الموجود بقيمة البضاعة، إضافة إلى المال السائل التي هي سعرها يوم حساب الزكاة، ثم يخرج 2. 5% من المجموع، ويخصم منها الديون التي عليه إذا كان عليه ديون لأحد، وإذا كان له ديون على أناس فهو مخير بين أن يخرج زكاتها مقدماً 2. 5% أو عندما يقبضها يخرج منها فوراً 2. 5% لما مضى من السنوات. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

موانع الالتزام

موانع الالتزام كما أن للجنة دعاة فللنار دعاة، وفي كل السبيلين سالكون، وشتان بين مشرق ومغرب، ومن عزم على سلوك الجنة فسيجد دعاة النار من حوله يعيقونه، وقد يؤذونه، ولكن الكيس تهون أمامه كل الموانع والعقبات، ويستسهل كل صعب، ويبذل كل غالٍ ورخيص في سبيل الوصول إلى مطلوبه، ومن يتوكل على الله فهو حسبه.

أهمية الالتزام

أهمية الالتزام الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم. أما بعد: الالتزام هو مفتاح حل مشاكل الأمة، إذ الأمة في محنة عظيمة وخطيرة وفي مفترق طرق، وعدوها يتربص بها من كل جانب، ويمكر بها لصرفها عن دينها، ولأخذ ثرواتها، وتدنيس مقدساتها، وتفريق جمعها، ولإضلال رجالها ونسائها وشبابها، فما هو المخرج؟ إن الالتزام قضية يجب أن تكون محور اهتمام كل واحد منا؛ لأنه في الحقيقة ليس باباً يفتح ثم يجلس الإنسان بجواره، بل عمل مستمر دائم، فأنت تطلب من الله عز وجل الهداية إلى الصراط المستقيم سبع عشرة مرة، وقد أسلمت بحمد الله، فدل ذلك على حاجتك الماسة إلى سؤال الهداية إلى الصراط المستقيم علماً تفصيلياً بحدوده، وحباً لسلوكه، وامتثالاً وانقياداً وسيراً فعلياً على ذلك، وثباتاً عليه إلى أن تلقى الله سبحانه وتعالى. إن قضية الالتزام بطاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، والالتزام بالكتاب والسنة قضية عظيمة لابد أن تكون لدى كل واحد منا هي الهدف الأول في حياته؛ لأنها تحقيق العبودية التي خلق الإنسان من أجلها، قال الله عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].

موانع الالتزام

موانع الالتزام

الشيطان العدو الأول

الشيطان العدو الأول عدوك اللدود يقف لك بالمرصاد، ويريد أن يصدك عن الالتزام بطاعة الله وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو الشيطان الرجيم، فإذا علمت أن عدوك هذا يريد أن يسرق منك هذا الكنز العظيم فلابد أن تدرك قيمة هذا الكنز، ولابد أن تحرص عليه، وتسبق إليه، وتحوطه وتحميه، وإذا لم تكن قد وصلت إليه بعد فسارع قبل أن يفوتك، وإذا علمت أن عدوك اللدود يقف لك بالمرصاد فيضع الحواجز والعقبات ليمنعك من الالتزام، فتحرم من الفوز بهذا الكنز العظيم: كنز الاقتراب من الله عز وجل، وحبه سبحانه وتعالى، ومخافته والشوق إليه، وعبادته بكل أنواع العبادة، فلا بد من الاجتهاد في مدافعته؛ لأنه لا يتركك، بل يحاول معك من داخلك ومن خارجك، يحاول معك جاهداً أن يبعدك عن حقيقة الالتزام، فيستغل ما فطرت عليه من رغبات وإرادات وشهوات، لكي يدفعك لترتكب الحرام وإن كنت في ظاهرك أو في قناعتك قد التزمت، فغايته أن يبعدك، ولذا يسلط عليك أولياءه وأعوانه لينالوا منك أنواع الأذى إن لم يستطيعوا أن يأخذوك بعيداً عن الكنز الذي يريد أن يسرقه منك؛ لأنه حرم هذا الكنز، فقد رُفع في الملأ الأعلى، ثم طرد وأبعد وأهبط وصغِّر وحُقِّر لما تكبّر وأبى، ورد أمرَ الله سبحانه بما وقع في قلبه من الحقد، والحسد، وكل ذلك أدى به إلى الكفر -والعياذ بالله- فهو يحسدك -أيها المسلم- على ما من الله عز وجل عليك به من هذا الدين، وما يرزقك ربك سبحانه وتعالى من معرفته، ومحبته، فهو لشدة غيظه يكاد يموت لولا أن الله كتب له البقاء إلى يوم يبعثون. فإنه إذا شاهد إنساناً قد سلك طريق الالتزام والقرب من الله سبحانه وتعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، زاد حنقه وجزعه، ولذا لابد أن تعلم أنك في حرب ضروس، فتستشعر خطورة هذه الحرب، وبالتالي تقف على كل الصفوف، وتدافع عن نفسك، فقلبك هو أرض المعركة الذي يراد أن يلقى في سجن الشهوات والرغبات المحرمة وسجن الشبهات المضلة والأفكار والتصورات الردية التي تهلك الإنسان، فأنت أرض المعركة، وأنت من يريدون أن يأخذوه بعيداً عن أن يقترب من الله عز وجل، وأن يحب الله سبحانه وتعالى. من هنا نقول: هذا السؤال ليس موجهاً إلى غير الملتزمين فقط، بل هو موجه إلى الملتزمين أيضاً؛ لأن الالتزام -كما ذكرنا- بحاجة إلى رعاية وحراسة، وإلى ازدياد؛ لأنه إذا لم يزدد نقص، وإذا توقف أدركه الأعداء قطاع الطريق إلى الله سبحانه وتعالى، قال الله، قال الله: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6]، فلابد أن تدرك هذه العداوة وتعد للحرب عدتها. تصور أن دولة يُعِدُ الأعداء العدة لحربها وقادتها ومن فيها يلهون ويلعبون ولا يفكرون بالحرب، ولا بإعداد العدة، ولا بوضع الخطط، ولا بتحصين الثغور، ماذا تكون النتيجة؟! لذلك نقول: إن أول موانع الالتزام هو الشيطان، وإن مما تقاوم به شيطانك أن تستشعر عداوته، ولم يكتف ربنا سبحانه وتعالى بأن أخبرنا بعداوته لنا بل قال: ((إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا))، لأنك بمجرد أن تقول لإنسان: فلان عدو لك، فإنه تلقائياً إذا صدق الخبر أخذ منه موقف العداء، لكن الله سبحانه قال: ((فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا)) وهذا تأكيد، لماذا؟ لأن كثيراً من الناس يعلم أنه عدوه وفي نفس الوقت يتخذه ولياً والعياذ بالله فيطيعه ولا يستحضر عداوته، وينسى تلك العداوة بعد حين، بل يجعله راعيه كمن جعل الذئب راعي للغنم، ويجعل من همه وإرادته إضلاله وتوصيله إلى السعير ولياً له! قال عز وجل: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف:50]. فإنهم تولوه حين اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون. ولذا لا بد أن تعلم أن الشيطان يجري منك مجرى الدم، وهذا يقتضي منا حراسة الثغور، وأكثر الناس يؤتون من قبل عدم أخذ العدة، فيتركون الثغور التي ينفذ منها الشيطان إلى القلب، فيترتب على ذلك الامتناع عن الالتزام، وأن يدخل العدو إلى القلب، فهناك ثغر العين، وهناك ثغر الأذن، وهناك ثغر الفم، وهناك ثغر البطن، وهناك ثغر الفرج، وهناك ثغر اليدين والرجلين، فكلها ثغور إن لم يكن عليها حراسة دخل العدو إلى الأرض، فاستباح الحرمات، وأسر الملك، وصرّف هذه الجوارح في غير مرضاة الله سبحانه وتعالى، صرفها في غير مصلحتها، واستعمر المكان يعني استخربه في الحقيقة، وألقى القلب في السجن، وأمَّرَ النفس الأمارة بالسوء، وهذا كما نرى في الدول فعلاً، عندما يحتل الأعداء البلد يأتون بعملاء، ثم يوجهونهم ويأمرونهم، وهم ينفذون لهم خططهم، فهو يؤمِّر النفس الأمارة بالسوء؛ لتتصرف في الجوارح، ولتجعل كل الثغور مستغلة لمصلحة العدو والعياذ بالله. كثير من الناس بدل أن ينظر إلى آيات الله سبحانه وتعالى بعينه فيتفكر في خلق السماوات والأرض، وينظر في آيات الله المكتوبة فينظر في المصحف، وينظر في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي كتب العلم؛ تجده ينظر ليل نهار فيما حرم الله عز وجل عليه، ينظر إلى العورات المكشوفة، ينظر إلى ما يهيج عليه شهواته، وسائر المفاسد متعلقة بثغر العين وهي كثيرة جداً، فلا بد أن تقف بالمرصاد لتحرس هذا الثغر وتمنع وصول مدد الأعداء إليه، فتغض بصرك عما حرم الله عز وجل، كما قال عز وجل: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:30]، فهذا من أعظم موانع الالتزام، أعني ترك ثغر العين مفتوحاً بلا حراسة، وعدم تحقيق غض البصر، وإطلاقه إلى العورات المكشوفة في الطرقات وفي وسائل الإعلام من فيديو، وتلفزيون، ومجلات، ودش، والبحث عما حرم الله سبحانه وتعالى من ذلك، كل ذلك من أعظم أسباب الانحراف؛ لأنه أقصر المداخل إلى القلب، فالعين إذا لم تحرسها وتدفعها من النظر إلى الحرام دخل الشيطان بأسهل طريق إلى القلب وسيطر عليه وقذف فيه حب الشهوات، والشهوة الجنسية من أقوى الشهوات الإنسانية، حتى لقد قال الزنادقة والكفرة: إن الشهوة الجنسية هي المحرك الأساسي لعالم البشر، وإنها هي التي تدور حولها كل رغباتهم وإراداتهم، وكذبوا في ذلك، فالإنسان أعلى قدراً من هذا، ولكن قلوبهم المطموسة وأفكارهم المنكوسة هي التي أدت بهم إلى أن يقولوا: إن الشهوة الجنسية هي المحرك الحقيقي لكل رغبات الإنسان، لكنها بلا شك من أقوى الشهوات، ولا يمل الناس منها، فهل وقف الغرب عند حد في أمر الشهوة الجنسية؟! هل توقفوا وزهدوا في هذه الشهوة؟! هل زهدوا في هذه المناظر مع أنهم يرون ليل نهار أنواعاً من الفتن والمضلات؟! لا. لذلك نقول: لابد أن تحرص على غض البصر، فهذه الشهوة تجر شهوات بعدها، فشهوة الفرج مبنية على شهوة العين في المقام الأول، وكم يأتي الصيف بأنواع المصائب، وإن كان الصيف والشتاء في زماننا قد صار مليئاً بالمصائب بهذه الملابس الضيقة وهذه العورات المكشوفة وهذا التبرج والسفور المنكر الذي حرمه الله عز وجل وبين النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه من الكبائر، قال عز وجل: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (صنفان من أهل النار لم أرهما: رجال معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات، رءوسهن كأسنمة البخت، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا)، فالله سبحانه وتعالى حرم الجنة على هؤلاء المتبرجات، (لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها)، وإني لأعجب لماذا تفتح على نفسك باب الشهوات من خلال النظر؟! بل كثير من الشباب من موانع التزامه الحقيقي أنه يستسلم للشهوة الجنسية، إما بأن يسير مع الفتيات المنحلات، وإما بأن يرتكب العادة السيئة المعروفة بالعادة السرية (الاستمناء)، وإما بأن ينظر إلى الصور العارية، وذلك يفتح عليه أبواب الفتنة، التي لو سدها من أول الطريق لكان ذلك من أعظم ما يعينه على الالتزام. كما أن حراسة الخواطر من أهم الأبواب وأعظمها؛ ولا شك أن ثغر العين هو المفتاح، والصورة المحرمة تشمل الشكل الحي وتشمل أيضاً الصورة المرسومة أو المجسمة أو المتحركة التي تراها في وسائل الإعلام، بل كلام العلماء من السلف على عشق الصور مقصودهم به: الصورة الحسية كالنساء والولدان وغير ذلك، فمثل هذا الأمر لابد من الحذر منه، أن يحرس الخواطر عن التفكير حتى يبتعد عن هذه الشهوة المحرمة، فعليه أن يتقي الله عز وجل في تفكيره في تلك اللحظات التي يقضيها بمفرده غارقاً في أحلام يقظته، فالخواطر من أعظم الأسباب الجالبة للمنكر، ومثال ذلك إنسان يمشي بسيارته على أسرع ما يمكن، وهو يريد أن يوقفها بعد عدة أمتار عند حاجز معين، فيظل يزيد من سرعة السيارة، ويجعلها تنطلق بأقصى سرعة، فلا يمكنه ذلك لزيادة السرعة، وكان عليه وهو يريد أن يقف عند حد معين أن يهدئ السرعة بالتدريج حتى يقف عند الحد المطلوب، أما أن يسير بأقصى سرعة ومِن ثم يوقفها مرة واحدة فهذا غير ممكن. وكذلك الإنسان الذي يداوم على استحضار الأفكار ويتخيل أنه سوف يفعل كذا وكذا وكذا، مستحضراً للصورة في ذهنه، خصوصاً قبل النوم، أو في أماكن الخلاء كالحمام وغيره، فإذا ظل يفكر في هذه الشهوة، فإنه ولا شك سوف يعجز عن أن يوقف هذه الشهوة عند حدها، وسوف يمارس العادة السيئة، أو يسعى في نيل الحرام والعياذ بالله. وأهل الباطل يزينون لكثير من الشباب أن بعض العلاقات تخفف الشهوة، فيدعون إلى الصداقة البريئة -كما يزعمون- مع الفتيات، ويبيحون الاختلاط، بحجة أن هذه الأمور تهدئ الشهوة الجنسية، وإليك ما قاله علماء الغرب، والحكمة تؤخذ من كل قائل لها، وأبلغ ما يكون ذلك من الأعداء الذين ابتدعوا هذا الاختلاط، فهذا خبر منشور في الجرائد وعلى النت، وهو أن الهيئات التعليمية الأمريكية أع

فضل حلق الذكر

فضل حلق الذكر أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بفضل حلق الذكر فقال: (إن لله عز وجل ملائكة سيارة يتتبعون حلق الذكر، فإذا وجدوا حلقة من حلق الذكر تنادوا: هلموا إلى حاجتكم، -جعل الله فيهم رغبة في أن يتتبعوا حلق الذكر- فيحفونهم إلى السماء الدنيا، ثم يصعدون إلى الله عز وجل فيقولون: يا رب! أتينا من عند عباد لك في الأرض يسبحونك ويحمدونك ويهللونك ويكبرونك، فيقول الله عز وجل: وهل رأوني؟ فيقولون: لا يا رب! لم يروك، فيقول الرب سبحانه وتعالى: كيف لو رأوني؟ فتقول الملائكة: كانوا لك أشد تسبيحاً وتحميداً وتهليلاً وتكبيراً، فيقول الله عز وجل: ماذا يسألونني؟ فيقول الملائكة: يسألونك الجنة، فيقول الله عز وجل: وهل رأوها؟ فتقول الملائكة: لا يا رب! لم يروها، والله عز وجل أعلم -وإنما يسأل الملائكة تكريماً لعباده المؤمنين وإظهاراً لفضلهم- فتقول الملائكة: لا يا رب لم يروها، فيقول الله: كيف لو رأوها؟ فتقول الملائكة: كانوا أشد لها طلباً، فيقول: ومم يستعيذون بي؟ فيقولون: يستعيذون بك من النار، فيقول: وهل رأوها؟ فيقولون: لا يا رب! لم يروها، فيقول: وكيف لو رأوها؟ قالوا: كانوا أشد منها هرباً، فيقول الله عز وجل: أشهدكم أني قد غفرت لهم، فيقول أحد الملائكة: يا رب! فيهم فلان عبد خطاء ليس منهم إنما جلس لحاجة، -أي جلس لمصلحة كان يريد أن يقضيها- فيقول الله عز وجل: وله غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم). وأقص عليكم قصة أحد الإخوة في سبب التزامه، حكى لي هذه القصة فذكر أنه كان أكره شيءٍ إليه الملتزمين، كان طالباً معهم يراهم في الكلية ويبتعد منهم، يراهم أسخف الناس، ولا يقبل شيئاً من كلامهم أبداً، وفي مرة من المرات كان يحتاج إلى تجهيز شيءٍ في الشقة، وكان منهم أحد الصناع الذين يحتاج إليهم، حاول الوصول إليه لكنه وكان يعلم أنه يصلي في مسجد الفتح، فاضطر لكي يلقاه أن يذهب إلى المسجد في يوم جمعة في رمضان، فقال: أذهب أنام الساعة إلا ربع التي يخطب فيها الخطيب إلى أن يحين وقت الصلاة، وبعدما نصلي أقابله وأطلب منه أن يأتي معي فأنا لا أريد أن أسمع كلام السنيين هؤلاء، فذهب إلى المسجد، فخطب أحد الإخوة، وكان الخطيب ليس من الإخوة الخطباء الرسميين في المسجد، وكان يتلو آيات من القرآن ويبكي، فإذا بالرجل يشاهد الناس يبكون، فاستيقظ مرة واحدة، وأخذ يسأل نفسه: ما هذا الذي يحصل؟! لماذا لا تبكي يا فلان؟ وكانت بداية الهداية، فقد هداه الله عز وجل من بعد ذلك، كان يريد أن ينام وقت الخطبة ثم يصلي من أجل أن يقابل الرجل، ثم جلس لحاجة فغفر الله له وهداه الله سبحانه وتعالى في هذا المجلس، فسبحان الله! (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم)، فربما غفر للإنسان بمجرد وجوده مع أهل الصلاح والخير.

فضل مصاحبة الأخيار

فضل مصاحبة الأخيار إن من أعظم أسباب الالتزام القرناء الصالحون، ولذلك نقول: الصالحون تجدهم في المساجد وفي حلق الذكر ومجالس العلم، أما الفاسدون فأين تجدهم؟ تجدهم على القهوة أو على ساحل البحر أو في مشاهدة فيلم، وتجدهم في أماكن تجمعات الشباب الضائع على الأرصفة على أفواه الأزقة يبحثون عن الذاهبة والراجعة، وينظرون إلى العورات المكشوفة، وأحياناً تجدهم حول وسائل الإفساد المحرمة؛ كالطاولة والكتشينة والشطرنج، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه) أي: كأنه يضع يده في لحم خنزير ودمه، والضمنة مثل الطاولة؛ لأنه بدل ما هي مكعبة أصبحت مفرودة، فالكتشينة بدل ما هي من واحد إلى ستة أصبحت من واحد إلى عشرة، مع الصور المرسومة الأخرى المحرمة مثل الولد والشيبة والبنت والجوكر، أما الشطرنج فإنه عند جمهور العلماء محرم بالقياس على النرد بالإضافة إلى ما فيه من تماثيل وكذب، فتجد اللاعب يقول: كش ملك أي مات الملك، وهل يحصل هذا بالفعل؟! أليس هذا كله كذباً؟! فضلاً عما فيه من الآثار المدمرة للنفس، من تعظيم النفس لها وللعقل، وأنه يفهم كل شيء، لأنه يعرف كيف يلعب الشطرنج، ومن الممكن أنه لا يعرف شيئاً، فهل صاحب الشطرنج استطاع أن يخترع شيئاً جديداً؟! لا، بل حتى لا يعرف أن يخترع ألعاباً جديدة، ومن العجيب أن تسمع من يقول لك: ملوك شطرنج العالم يلعبون المباراة لساعات طويلة تصل إلى شهور وأيام، يجلسون يلعبون، فهل هؤلاء أنتجوا شيئاً لمجتمعهم؟ بل إن أوقاتهم صرفت إلى هذا اللغو الفارغ، قال عز وجل: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:3]، وقال عز وجل: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:55]، وقال سبحانه وتعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان:72]. فقد مدح الله المار الكريم الذي لا يشارك في اللغو فينبغي أن يكون الإنسان على حذر من هذه الأماكن؛ لأن فيها قرناء السوء، كما أنها أماكن يكثر فيها السب واللعن والبذاءة، والشتم للآباء والأمهات، وسب الدين والسكوت على ذلك، بل والضحك منه، فلو أن جماعةً مجتمعين وقام أحدهم يسب الدين وضحك الباقون فإن هذا مخرج من الملة لهم جميعاً؛ لأن هذا الذي سب دين الله سبحانه وتعالى يعلم أن الدين هو الملة، وليس في لغتنا أن الدين هو الخلق، حتى يقال: إنه إذا كان يقصد الملة كفر، وإذا كان يقصد الخلق لم يكفر؛ لأن كلمة الدين ليست مستعملة عندنا إلا بمعنى الملة، فأنت عندما تسأل: فلان هذا ما دينه؟! فهل سيقال لك: هو صادق أو كاذب؟ لا، بل يقال لك: هو يهودي أو نصراني أو مسلم، فالدين بمعنى الملة، وكذا الديانة التي يدين بها الإنسان، ولا تستعمل بمعنى الأخلاق، أو صادق الحديث، أو كاذب، أو مؤدب؛ أو غير مؤدب، أما الذين ضحكوا على ذلك فقد رضوا بهذا الكفر والعياذ بالله، وفرحوا به فخرجوا من الملة، قال صلى الله عليه وسلم: (وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار سبعين خريفاً). كما أن هذه المجالس موجود فيها أنواع من المنكرات غالباً، ففيها شهوات النظر، وفيها شهوات الاختلاط، وفيها شهوات المخدرات، وأهونها السجائر ونحوها، فإن هذا من أعظم أسباب تدرج الشيطان بالإنسان، فالسجائر والشيشة ونحوها من أعظم المضار، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا ضرر ولا ضرار)، وقال الله عز وجل عن النبي صلى الله عليه وسلم: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157]. ولا خلاف أن التدخين والشيشة ونحوها من الخبائث، وأسباب الوقوع في ذلك قرناء السوء، فابتعد عنهم، وأنا على يقين أن المسلم لن يلتزم التزماً حقيقاً إلا إذا فارق قرناء السوء، فإما أن يلتزموا وإما أن تبتعد عنهم، إما أن تساعدوا بعضكم بعضاً على الالتزام، وتجروا بعضكم بعضاً إلى المسجد، وإما أن تفارقهم وتعتزلهم، قال سبحانه وتعالى: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا} [الكهف:16]. فإذا لم يكن هناك وسيلة للنجاة بالنفس إلا اعتزال أهل الشر وجب اعتزالهم ولو إلى كهف، فلا يجوز لك أن تختلط بالمنكر وأنت تراه، وتسكت عليه، فإما أن تسعى في إزالته وإما أن تزول أنت عنه.

الموسيقى من أعظم موانع الالتزام

الموسيقى من أعظم موانع الالتزام من أعظم أسباب موانع الالتزام سماع الموسيقى المحرمة والأغاني المحرمة، فذلك يمنع فعلاً من الالتزام، وما يسمعه الناس اليوم لا نزاع في حرمته حتى بين من يجيز سماع الآلات، فـ ابن حزم يقول بجواز سماع الموسيقى، وقوله باطل مخالف للحديث، ومع ذلك فهو لا ينازع في أنه إذا أدت ذلك الغناء امرأة متبرجة كاشفة عن عورتها وكان الكلام يدعو إلى الفساد والفحش وذكر الحب والغرام والهيام، وكان ذلك بالخضوع بالقول في حضرة الرجال أن ذلك محرم ممنوع، فما ترون في أغاني اليوم؟! حتى أغاني الرجال صارت كذلك! وهذا المذهب -في حقيقته وهو جواز سماع الموسيقى- باطل مخالف لنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (ليكونن أقوام من أمتي يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف)، فجعل المعازف مقرونة بالخمر والحرير على الرجال، والحر أي الزنا، فدل ذلك على أنها من المحرمات بلا شك، وهو نص في موطن النزاع، والحديث صححه العلماء، والبخاري قد ذكره معلقاً مجزوماً به، وذكره غيره موصولاً، فهو حديث صحيح بلا شك. وقال صلى الله عليه وسلم: (إنما نهيت عن صوتين أحمقين: صوت عند نعمة، ورنة عند مصيبة) وهي النياحة، فذكر النهي عن هذين معاً، والنياحة معلوم أنها من الكبائر، فالصوت الذي عند النعمة هو صوت الغناء المحرم، واللهو المحرم داخل في الأصوات المنهي عنها، وهو صوت الشيطان الذي قال الله عز وجل عنه: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} [الإسراء:64]. لذلك تجد هذه المجالس كلها فساد -والعياذ بالله-، ولا يختلف العلماء في تحريمها، فابتعد عن هذه الأماكن، وأنت ترى تعظيم هذه الأماكن في وسائل الإفساد من الأفلام والتمثيليات حتى يكون أمل الشباب أن يكون له مال ليذهب إلى هذه الأماكن ليفسد فيها، فيرتكب المحرمات، وربما سرق، أو تاجر في المخدرات، أو اغتصب، أو فعل المنكرات كلها من أجل أن ينال حظاً مما يراه في هذه الأماكن، فترى كل الأفلام الأجنبية لابد من مشهد البار والخمر والملهى الليلي الذي لابد أن ينالوا منه شيئاً. فليحذر الإنسان من فتح الباب لثغر العين وثغر الأذن بالإضافة إلى ثغر الكلام؛ فاللسان قد يتكلم بالباطل ويسب ويغتاب وينم ويكذب، ويفتخر بالمنكرات والعياذ بالله، ويتحدث بها بعد أن ستره الله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل أمتي معافى إلا المجاهرون)، فاليد والرجل من مداخل الشيطان، وشهوة البطن كذلك، فلا بد أن تأكل الحلال وتجتنب الحرام، ولا تلمس بيدك ولا تبطش ولا تتناول ما حرم الله عز وجل عليك.

حب المال من موانع الالتزام

حب المال من موانع الالتزام إن حب المال من أعظم أسباب الفساد، والحاجة إلى المال لا بد أن تكون مقيدة بما أحل الله عز وجل، واعلم أن لك رزقاً إما أن تطلبه من حلال وإما أن تطلبه من حرام، ولن يزيد طلبك للحرام رزقاً لك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها كما تستوفي أجلها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، خذوا ما حل ودعوا ما حرم). والمعنى: اطلبوا الرزق طلباً جميلاً، فخذ ما أحل الله لك، وابتعد عما حرم الله عز وجل عليك، واعلم أنه إذا كانت الآخرة هي النية فسوف تأتي الدنيا راغمة، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من أصبح والآخرة نيته جمع الله له شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن أصبح والدنيا نيته فرق الله عليه شمله، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له)، فلا بد إذاً أن يبتعد الإنسان عن أسباب الفتنة التي تجذبه بعيداً عن طاعة الله سبحانه وتعالى.

الخوف من غير الله تعالى من موانع الالتزام

الخوف من غير الله تعالى من موانع الالتزام من أعظم موانع الالتزام لدى الكثيرين: الخوف من غير الله سبحانه وتعالى؛ وذلك أن العالم كله يتهم الملتزمين بأنهم متطرفون وإرهابيون، ويشيعون ذلك، ويصورون حياتهم على أنها شقاء وتعاسة فضلاً عما يعدون لهم من كيد ومكر، فيصورون لك أنك إذا أقدمت على الالتزام فلا بد أن تكون يوماًَ من الأيام من المسجونين أو من المعذبين المضطهدين، أو تصاب بأنواع البلايا والمحن التي يتعرض لها أهل الالتزام، كما أنك لن تجد عملاً ولن تجد مالاً فضلاً عن الشقاء الذي تشقي به نفسك، فتأكد أن هذا كله من الحواجز الوهمية، وعليك أن تعمق الخوف من الله سبحانه وتعالى، واعلم أن الدنيا كلها كطيف أو حلم يأتيك في المنام توشك أن تستيقظ منه، فالدنيا والآخرة هي اليوم الآخر، وأنت نصيبك من الدنيا سنوات معدودة، هي من أولها إلى آخرها يوم، فكم بقي للناس على وجه الأرض؟ قد يكون الآلاف من السنين، لكن نصيبك منها ستون، أو سبعون، أو ثمانون سنة، على أن الواحد منا لو بقي إلى هذا العمر لبقي ضعيف البدن، تعتريه الأمراض، أفمن أجل هذه الدنيا تخاف الناس ولا تخاف الله عز وجل؟! قال عز وجل: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175]. ثم تأكد أن الالتزام فيه الراحة والسكون والطمأنينة، ولو كنت حبيساً بين جدران ضيقة ففيه السعة قال تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1] فالانشراح في الصدر يغنيك عن ضيق المكان، كما أن الرضا بالله سبحانه وتعالى رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً يذيقك حلاوة الإيمان، فالله سبحانه وتعالى يجعل لك فرجاً ومخرجاً من كل ضيق وهم، قال ابن تيمية رحمه الله: ما يفعل بي أعدائي؟! أنا جنتي معي، وبستاني في صدري، إن قتلي شهادة، ونفيي سياحة، وسجني خلوة، وتعذيبي جهاد في سبيل الله، سبحان الله! وما ذاك إلا لأن الله سبحانه وتعالى جعل السعادة في طاعته، وجعل الشقاء في معصيته، فالله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين، وهو سبحانه يحفظك ويحوطك ويحميك ويدفع عنك الأذى، ووالله كم جرب المؤمنون من دفع الله سبحانه الله تعالى عنهم وحمايته لهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس: (يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك) فإذا حفظت حدود الله حفظك الله عز وجل، ونفعك ورزقك من فضله، فالأرزاق بيد الله لا بيد الناس، وإذا اتقيت الله جعل لك مخرجاً، قال الله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق:2 - 3]، وقال سبحانه في الحديث القدسي: (يا ابن آدم! تفرغ لعبادتي أملأ قلبك غنى وأملأ يديك رزقاً، يا بن آدم! لا تباعد مني فأملأ قلبك فقراً وأملأ يديك شغلاً). إذاً: ما يخوفونك به من دون الله تذكر له قول الله: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر:36]. واعلم أن من خاف غير الله فقد أضله الله، فلا تخف غير الله، فالخلق لا يملكون لأنفسهم نفعاً، ولا ضراً، ولا موتاً، ولا حياة، ولا نشوراً، فالسعادة كل السعادة في طاعة الله، والرزق في تقواه، والسعة والسكينة في ذكره عز وجل، قال الله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]. فهذه أمور في كتاب الله مجربة بالفعل، فسعادة الإنسان حين يقترب من الله عز وجل لا تدانيها سعادة، فتأكد من ذلك، وأقدم فقد سبقك سابقون إلى الله عز وجل، ومضوا، فادع الله أن يجعلك معهم. اللهم اهدينا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت.

من موانع الالتزام نهي الوالدين عنه

من موانع الالتزام نهي الوالدين عنه من موانع الالتزام عند الكثيرين: من يأمره بعدم الالتزام ممن له عليه حق الطاعة، كالأب والأم وأقاربه، وأساتذته، فكل من حوله يقول له: لا تلتزم، سوف تضيع، ابتعد عن هؤلاء، ومن العجيب عندهم أنه لو ذهب إلى أماكن الفساد والفجور، لو زنى، أو شرب الخمر؛ لكان أهون عليهم من أن يذهب إلى المسجد! وهذا من انتكاس القلوب والعياذ بالله، ومن فساد التصور، ومن العقيدة المضلة التي أضلهم بها إبليس. فنقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الطاعة في المعروف)، وقال: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)، وقال عز وجل عن الوالدين وهما من أعظم الناس حقاً على الإنسان بعد ربه عز وجل وبعد النبي صلى الله عليه وسلم: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15]. وهذا هو السبيل الذي يجب أن تسلكه، فأحسن إليهما في غير معصية الله، واقض لهما حاجتهما في غير معصية الله، حتى تكون أحب إليهما من كل أحد غيرك، ووالله أن ذلك سوف يخفف من مقاومتهما لالتزامك، وليكن قصة غلام أصحاب الأخدود أسوة حسنة لك، فقد كان يضربه الساحر إذا تأخر عند الراهب، وإذا تأخر في طريق عودته ضربه أهله، فقال له الراهب حلاً للمشكلة: إذا خشيت الساحر فقل: حبسني أهلي، وإذا خشيت أهلك فقل: حبسني الساحر، على أنه كان حريصاً على طلب العلم والذهاب إلى الرفقة الصالحة، مع أنه يضرب ويؤذى ويعذب، ومع ذلك كله كان حريصاً على الالتزام والسير في طريق الخير. فأحسن إلى من حولك من الوالدين والجيران والأقارب، وسوف تكون أحب إليهم من كل أحد، واعلم أن المحبة بيد الله عز وجل، فإذا أحبك الله أحبك أهل السماء وأحبك أهل الأرض بتوفيقه عز وجل، وأنا أعلم والله رجالاً ونساء كانوا يشتكون من أبنائهم أو بناتهم الذين يلتزمون، فلا يريدون أن تنتقب الفتاة، ولا أن يلتحي الولد، ولا أن يسلكوا طريق الالتزام، فيقولون لهم: كفاكم أنكم تصلون، وأنا لا أقول لك: لا تصل، ولا تصم، بل صم وصل، ولكن ابتعد عن هؤلاء، وهم عندما يأتون يتصورون أن طاعة الأب والأم مقدمة على طاعة الله عز وجل، فيظنون أني سآمرهم: أن يحلقوا لحاهم مثلاً، أو أن تترك المرأة حجابها، فيستفتون في ذلك، فآخذ الأب أو الأم بعيداً عن هذا الولد، بعد أن أنصحه بمزيد البر فيما لا يخالف الالتزام، فأقول: للأب: أي أولادك أحب إليك؟ فيقول: فلان أو فلانة، الولد الملتزم أو البنت الملتزمة، فإذا هو أكثر محبة له على الرغم من أنه يشدد عليه وعليها أكثر من باقي الإخوة والأخوات؛ لأن المحبة بيد الله، وفي الحديث (قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء)، فلا تجعل المنزل حجة، بل اجتهد في أن تكسب هذا المنزل، وأكثر من الدعاء لهم والتضرع لله سبحانه وتعالى. فهذه بعض المعاني التي أحببنا أن نشير إليها من موانع الالتزام عند الكثيرين، ونسأل الله عز وجل أن يغفر لنا تقصيرنا وذنوبنا.

نحن أولى بموسى منهم

نحن أولى بموسى منهم المؤمنون أمة واحدة، وتاريخهم واحد، ولذا يفرحون بانتصار المؤمنين رغم تباعد الأزمنة والأمكنة، فالمؤمنون عندما يصومون عاشوراء، إنما يصومونه حباً لنبي الله موسى عليه السلام؛ إذ نجاه الله تعالى من فرعون وقومه. وقصة موسى من القصص التي كثر ذكرها في القرآن عبرة للمؤمنين، ومؤشرات لهم بأن الله ناصر عباده المؤمنين في كل زمان ومكان، وأنه لا يأس ولا قنوط من نصر الله ورحمته، وإن كثر الباطل وانتشر، وعلا الباطل واستكبر؛ فإن نهايته حتمية ووخيمة.

الإيمان بالأنبياء شرط في الإيمان بالله

الإيمان بالأنبياء شرط في الإيمان بالله إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. لقد جعل الله عز وجل الإيمان بالأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين شرطاً في الإيمان بالله، فلا يقبل الله سبحانه وتعالى من عبد إيمانه بالله إلا إذا آمن بالرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام، وخاصة خاتمهم صلى الله عليه وسلم الذي جعله الله عز وجل سراجاً منيراً، وكذلك جعل كلاً من هؤلاء الأنبياء سراجاً ينير للناس الطريق، وأوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم من قصصهم ما ثبت به فؤاده، وجعلها موعظة وذكرى للمؤمنين، فقد كانت سيرتهم سبباً لثبات المؤمنين على الحق، وسبباً لصبرهم، وسبباً لاستبصارهم سنن الله سبحانه وتعالى في خلقه. وحب الأنبياء فرض على كل مؤمن، فلا يحصل الإيمان للإنسان إلا بتصديقهم ومحبتهم، وهذا هو أعظم دافع للاقتداء بهم، والسير على طريقهم، فحبهم جميعاً فرض متلازم، ولا يصح حب واحد منهم حباً شرعياً مقبولاً إلا بحب جميعهم، والمؤمنون أولى بكل الأنبياء من كل الأمم، فهم أقرب إلى الأنبياء بصفاتهم وأعمالهم، كما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصوم عاشوراء، فلما علم أن اليهود تصومه لأنه يوم نجى الله فيه موسى وقومه قال: (نحن أولى بموسى منهم)، فصامه وأمر الناس بصيامه، وكان فريضة في أول الإسلام شكراً لنعمة الله سبحانه وتعالى على نجاة موسى، وهلاك فرعون بفضله عز وجل. فالمؤمنون أمة واحدة، تاريخهم تاريخ واحد، وربهم سبحانه وتعالى رب واحد، ولذا يفرحون بانتصار المؤمنين رغم تباعد الأزمنة والأمكنة، ورغم اختلاف الأجناس واللغات، ورغم اختلاف الأنساب والهيئات لكنهم على دين واحد، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الأنبياء إخوة لعلات، دينهم واحد وأمهاتهم شتى). فقوله: (إخوة لعلات) هذا تشبيه لهم بالإخوة من أب واحد وأمهات مختلفة، وذلك أن الشرائع قد تختلف بعض الاختلاف، ولكن الملة واحدة، والدين واحد، والعقيدة واحدة، وهذه الأمة الواحدة لا بد أن تستحضر في كل وقت وحدتها زماناً ومكاناً؛ وذلك لأن الأعداء يتربصون بنا إرادة تمزيق وحدة الأمة، وتفريق أبنائها؛ لكي يتمكنوا منها، ولا يحصل الخير لأهل الإسلام إلا بتذكر معنى الاجتماع على دين الله سبحانه وتعالى. فرغم اختلاف الألوان والألسن، واختلاف الأزمنة والأمكنة، فنحن أولى بموسى، وحين نصوم عاشوراء فإننا نصومه اتباعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وابتغاءً للأجر عند الله؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (صوم يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر سنة ماضية) وهو يوم العاشر من محرم، ونحن حين نصومه امتثالاً وابتغاءً للثواب نتذكر أولويتنا بموسى عليه السلام ولا شك أننا أولى بموسى من اليهود؛ فإن اليهود برآء من موسى وعيسى ومن محمد صلى الله عليه وسلم؛ لما هم عليهم من الكفر والعناد، ونحن أولى بموسى منهم وأقرب، ولكن نريد أن نقترب بالصفات والأخلاق والدعوة إلى الله، وفهم سنة هؤلاء الأنبياء، كما ذكرها الله عز وجل في القرآن. ونتذكر كذلك معنى الانفصال عن الكفار ومفارقتهم في كيفية أداء العبادة حتى وإن كان أصلها مشروعاً.

سن موسى عليه السلام لصوم يوم عاشوراء

سن موسى عليه السلام لصوم يوم عاشوراء موسى هو الذي سن صيام عاشوراء، كما قالوا: إنه يوم عظيم نجى الله فيه موسى وقومه، وأهلك فرعون وقومه، فصامه موسى شكراً لله. فموسى هو الذي سن ذلك الصيام، ونحن نصومه، ولكننا نخالفهم من أجل استقلال شخصية المسلمين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع) وأمر صلى الله عليه وسلم استحباباً بصيام يوم قبله أو يوم بعده، وفي بعض الروايات: (أمر بصيام يوم قبله ويوم بعده) بالواو، حتى يكون هذا أكمل في المخالفة، وتحصيل الثواب، وتذكر نعمة الله عز وجل.

أسباب شفاء القلوب وتفريج الهموم

أسباب شفاء القلوب وتفريج الهموم من أعظم أسباب شفاء القلوب: القرآن، وذلك أن أهل الإيمان تقع لهم في مسيرهم إلى الله سبحانه وتعالى أنواع من العقبات، وأنواع من المشكلات، وأنواع من الابتلاءات، والقرآن شفاء لما في الصدور، وهو قرة العين لمن تدبره، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه أن يقولوا في الدعاء: (اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي)، وهذا لا يحصل للعبد إلا بتدبر القرآن والوقوف معه. ومن أعظم أسباب زوال الهم عن المؤمن وحصول الفرح له تلاوته لآيات الله التي تحكي انتصار الأنبياء، وانتصار دعوة الحق، وهلاك دعوة الباطل، حيث إن الباطل في عهد موسى بقي مدة طويلة، فقد بقي فرعون سنين طويلة وهو يصد عن سبيل الله، ويبارز الله بالمحاربة، ولكن أين فرعون الآن؟ وكيف كانت نهايته بعد طول المدة؟ فقد صار حديثاً يذكر، وجعل الله عز وجل فرعون وهامان وجنودهما وسائر الأمم المكذبة أحاديث، وبقي الحق الذي جاء به الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وأشرقت أنوار قلوبهم على البشرية بفضل الله عز وجل عبر العصور، فيصل من نور هذه القلوب بما أفاض الله عليها لكل إنسان آمن بهم على قدر إيمانه، وعلى قدر معرفته بكتاب الله، فيزول عنه الغم والهم، وحين يعيش الإنسان مع القرآن يعيش كأنه يحضر تلك اللحظات التي انتصر فيها الحق، والتي زهق فيها الباطل وحزبه وانقلبوا فيها صاغرين، وآلوا إلى المآل الذي قدره الله لهم خاسئين، وصاروا أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون، وذلك وحده سبب مفرح لقلب المؤمن، وهذا من فضل الله ورحمته، كما قال الله عز وجل: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58]، وحين تستحضر قصص أنبياء الله، وتستحضر ظهورهم وانتصارهم وهلاك الباطل، ترى أن مدة بقاء الظالمين وجيزة توشك أن تنتهي كما انتهى فرعون وجنده، وكما انتهى كل ظالم قبل ذلك، وبقي الحق بفضل الله، وخصوصاً إذا تأملت طريقة القرآن في بيان تلك اللحظات بمساحة واسعة في القرآن العظيم، فلحظات انتصار الحق تبجل وتفخم وتذكر بالتفصيل التام بفضل الله عز وجل؛ لتستحضر تلك اللحظات وكأنها تشهدها، وحين تسمع مواعظ القرآن تنتفع أعظم الانتفاع بها، والله المستعان. وقصة موسى صلى الله عليه وسلم هي أكثر قصة ذكرت في القرآن على الإطلاق، فقد كررت في مواضع مختلفة، وفي أجزاء متعددة وسور مختلفة، وفي كل منها مواقف مختلفة يذكر الله عز وجل فيها خلجات النفوس، والخواطر والأحاسيس المختلفة، والتقلبات التي تتقلب فيها القلوب بأسلوب لا نظير له على الإطلاق، وبتكرار عجيب الشأن يجعل العبد ينتبه إلى أدق التفاصيل، ويجعله يتدبر حكمة الله سبحانه وتعالى، وإذا تدبر الإنسان القرآن وجده شفاءً لما في الصدور، وسبباً لفرحها وذهاب غمومها وأحزانها، وسبباً للصبر والثبات، وللاتعاظ والتذكر، فزيادة الإيمان تكون بحب الأنبياء واتباعهم صلوات وسلامه عليهم أجمعين. إن الله سبحانه وتعالى قد جمع في قلب محمد صلى الله عليه وسلم أنواع الأعمال والصفات الرائعة الجميلة، التي هي في الحقيقة خلاصة أخلاق الأنبياء جميعاً، وأفاض سبحانه وتعالى على قلب محمد صلى الله عليه وسلم هذا الكتاب العظيم وهذا النور؛ لكي يستضيء به أهل الإسلام، ويعرفوا نعمة ربهم بهذا القرآن العظيم الذي جعله الله سبحانه وتعالى المعجزة الكبرى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وهو معجزة باقية خالدة لكل من تدبرها وتأملها، فلا يوجد كتاب في الوجود مثله بفضل الله سبحانه وتعالى.

ذكر بعض الآيات التي ذكرت قصة موسى

ذكر بعض الآيات التي ذكرت قصة موسى ومن هذه الآيات البينات والسور التي ذكر الله فيها قصة موسى صلى الله عليه وسلم: سورة يونس، حيث قال سبحانه وتعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ * {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ * قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ * قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ * وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ * فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ * فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ * وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ * فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ * وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ * فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ * وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} [يونس:75 - 92]. فيخبر الله سبحانه وتعالى أنه بعث موسى عليه السلام من بعد الأمم الذين أرسل إليهم أنبياءه فكذبوهم فأهلكهم الله، فبعد أن ذكر سبحانه وتعالى قوم نوح، وذكر سبحانه وتعالى أنبياءه ورسله السابقين في سور مختلفة، بين عز وجل أنه أرسل موسى وأخاه هارون بآياته المقروءة المسموعة وآياته المرئية المبصرة المحسوسة، وأرسله الله بالآيات العقلية الواضحة والآيات النقلية الدامغة، ومن لم ينتفع بالآيات المقروءة التي تتضمن أحسن الآيات العقلية والحجج الواضحة لم ينتفع بالآيات المحسوسة والمعجزات الباهرة الظاهرة؛ وذلك لأن التكذيب داء في المستكبرين، لا ينفع معه إلا أن يتركوا إعجابهم بأنفسهم؛ وتكبرهم على الحق، فإن لم يأخذوا بالدواء فلن ينتفعوا بالآيات، قال تعالى: {وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس:101].

سبب كفر قوم موسى وتكذيبهم له

سبب كفر قوم موسى وتكذيبهم له أرسل الله موسى وهارون بآياته إلى فرعون وملئه وكبراء قومه، الذين قادوا قومهم إلى دار البوار والعياذ بالله، وهؤلاء كما وصفهم الله كانوا مستكبرين، قال تعالى: ((فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ))، والكبر داء الأمم، وداء الكبراء المقدمين في الأمم والملوك والرؤساء والزعماء إلا من رحم الله سبحانه وتعالى، وهذا الداء الذي هو داء إبليس في الأصل هو الذي أوصلهم إلى رد الحق الذي جاءت به الرسل، كما رد شيخهم إبليس أمر الله عز وجل بالسجود لآدم؛ لما كان في قلبه من الكبر والعجب بالنفس نعوذ بالله من ذلك. ومرض الكبر من أخطر الأمراض، فمثقال ذرة منه على الخلق يمنع من دخول الجنة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)، فإذا كان مثقال ذرة منه يعد كبيرة من الكبائر، فكيف إذا تكبر على أمر الله عز وجل وشرعه وأبى أن يقبله ويمتثل له؟! فالإباء والاستكبار على شرع الله كفر والعياذ بالله وردة عن الإيمان لو كان موجوداً قبل ذلك، ولذلك كان هذا المرض مرضاً عضالاً والعياذ بالله، خصوصاً إذا تمكن من القلب واستشرى في الملأ. وسبب الكبر: هو النظر إلى كمالات النفس الموهومة، حيث يتوهم أنه خير من غيره، قال الله عن فرعون: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:52] وسببه: الغفلة عن عيوب النفس وأمراضها التي تمتلئ بها.

واجب المؤمن نحو داء الكبر

واجب المؤمن نحو داء الكبر والمؤمن دائماً ينظر إلى عيوب نفسه، وينظر إلى تقصيره وجهله، وينظر إلى عجزه وفقره، ولا ينظر إلى كمالات يتوهمها، فلو أن الله عز وجل ذكره ومدحه وهو الذي مَدْحُه زين وذمه شين- لكان عليه أن يقابل ذلك بمعرفة تقصيره وظلمه وعجزه وفقره، كما قال الله لخير الخلق محمد صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، فكان يقول عليه الصلاة والسلام في دعائه: (اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي جدي وهزلي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، وأنت على كل شيء قدير، أو لا إله إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بك). وعلم خير أصحابه وخير أمته أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أن يقول: (اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم)، وهو الذي يثني عليه ويقول: (لو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً)، وهو الذي يقول عنه: (إن أمنَّ الناس علي في صحبته وماله أبو بكر) ومع ذلك يعلمه هذا الدعاء. وهكذا المؤمن فهو يبتعد دائماً عن أن يفكر في كمالات نفسه، حتى لو أن الله هو الذي ذكره بذلك، وهذا لا يعني أنه لا يشهد ما أنعم الله به عليه، بل يشهده محض فضل منه عز وجل، وتشهده نعمة منه سبحانه وتعالى ليس لنفسه شيء من ذلك، وما بها من خير وكمال فمن الله عز وجل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا بك وإليك)، فبالله عز وجل وصل إلى ما وصل من المراتب العالية؛ فكيف بمن لم يذكره الله عز وجل؟ وكيف بمن لم يزكه نبي الله صلى الله عليه وسلم؟ وكيف بمن وقع في الصفات المذمومة؟ فكل منا لابد أن يحذر على نفسه من أن يعجب بها أو ينظر إلى كمالاتها، أو يتوهم لها كمالات وخيرية على غيره، مما يؤدي إلى ذلك المرض الذي يبدأ أولاً على الناس ثم يصل بالإنسان إلى أن يتكبر على أمر الله، فالكبر المعصية ذريعة إلى الكبر الذي هو كفر وشرك بالله عز وجل، وأكثر الأمم أشركوا بسبب الكبر الذي بدأ صغيراً في القلوب، -وما هو بصغير- ثم تحول إلى الأكبر وهو الكفر والعياذ بالله، {فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ} [الأعراف:133] والإجرام هنا: يتحصل بالإفساد في الأرض والصد عن سبيل الله، وإن كان فرعون يزعم أنه مصلح كما قال عن موسى: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26].

أسباب اختلاف الموازين وانطماس الفطر

أسباب اختلاف الموازين وانطماس الفطر والعجب أن الموازين تختلف اختلافاً هائلاً في أعين الناس حتى إنهم يرون الإجرام إصلاحاً، ويرون الظلم عدلاً، ويرون العدل ظلماً وطغياناً وإرهاباً وتطرفاً وغير ذلك مما تختلط به موازين البشر؛ وهذا لإعراضهم عن شرع الله، وعدم النظر في آياته، وعدم وزنهم الأمور بميزان الشرع الذي أنزله الله، قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ} [يونس:76]. فالقوم يتعاطون السحر، والسحرة عندهم مقربون مقدمون، ولذلك وجد فرعون السبيل -فيما يظن- إلى معارضة ما جاء به موسى بأن يأتي بسحر مثله، ووعد السحرة بالأجرة، بل كان يكرههم على تعلم السحر، كما في قوله عز وجل عن السحرة: {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} [طه:73]، ولا شك أن هذا الأمر منهم -وهو اتهام موسى عليه السلام بأن ما جاء به من الحق سحر مبين- يدل على انقلاب فطرتهم، فهم يعلمون أن السحر أمر مذموم، ومع ذلك يستعملونه ويكرهون الناس عليه. وهم يتهمون موسى بأنه ساحر، وأن ما جاء به سحر؛ مع ما في قلوبهم من أن السحر أمر مذموم وقبيح، كما قالوا عنه: {سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [غافر:24] فيتهمونه بالكذب وهم أكذب الناس، ولم يعرف أكذب من فرعون فقد ادعى أنه الرب الإله، بل قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] ومع أن الكذب في قلوب البشر قبيح إلا أن أكثرهم يستعمله، فتجد عجباً في نفوس البشر يعرفون الحق ويعرضون عنه إعراضاً تاماً، ويعرفون الباطل ويستعملونه بكل طاقة لهم، وهذا دليل على أنهم ما انتفعوا بما بقي في فطرتهم؛ لانطماس نور البصيرة عندهم، حتى استعملوا الأدواء القاتلة، والأمراض المهلكة، وخاضوا بالباطل وهم يعلمون أنه باطل، قال عز وجل: {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ * قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا} [يونس:76 - 77]، أي: أتقولون للحق لما جاءكم: سحر؟! {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ} [يونس:77].

حقيقة السحر وأنواعه

حقيقة السحر وأنواعه والسحر أصله: ما خفي ولطف، فكل شيء باطل يدخل إلى القلوب أو الأعين بطريقة خفية غير ظاهرة هو من السحر، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من البيان لسحراً) أي: أن بعض الناس بطريقته البليغة وكلامه المنمق يلبس على الناس الباطل، حتى يظنونه حقاً أو يجعلهم يرون الحق باطلاً فهذا نوع من أنواع السحر، ومن ذلك النميمة بين الناس، فالنميمة تفعل فعل السحر، ومن ذلك وسائل الإفساد التي تقلب أنظار الناس حتى تجعلهم يرون الظالم مظلوماً محقاً فيما يفعل، ويرون المظلوم مجرماً مرتكباً لما لا ينبغي أن يفعله، بل ينبغي أن يستسلم استسلاماً تاماً للذبح والظلم والعدوان الذي يقع عليه، فأنت تجد اليهود أعداء الرسل جميعاً لهم أعظم الباع وأكبره في ذلك، بل مسخوا أنظار أكثر العالم حتى جعلوا العالم يرونهم مظلومين مضطهدين في وسط وحوش كاسرة، والعجب أنهم الذين يتصفون بهذه الصفات القبيحة. والحق أن كل منافق له نصيب من هذه الآية: ((وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ))، إذا استعمل الخفية في إبطال الحق وإحقاق الباطل، أو استعمل سحره وبيانه في أن يلبس على الناس حتى يبعدهم عن الإسلام والالتزام بدين الله عز وجل تحت أي مسمى من المسميات. وأكثر الناس يقبلون السحر، فكان في الماضي بالحبال والعصي، وأما في زماننا فهو أخطر، فقد ظهر بوسائل تغيير العقول عن طريق تعليمها الباطل وغرس حبه في القلوب، وأن تعيش في هذه الدنيا حياة البهائم السائمة لا تعرف معروفاً ولا تنكر منكراً إلا ما أشرب من هواها، وأنت ترى آثار السحر المعاصر في المشارق والمغارب تملأ السهل والوادي، حتى صارت أكثر البشرية لا تعرف من الدنيا إلا الطعام والشراب والشهوة، وإلا الكبر والعلو في الأرض والفساد، نعوذ بالله من ذلك، وكل ذلك بسبب هذا السحر الخفي، ولكن لا بد لهم أن ينالوا نصيبهم من هذه القاعدة الكلية: ((وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ))، فلا بد أن يخيبوا ويخسروا، وكلما ساروا في طريق حصلت لهم عكس النتائج المرجوة، فمدة من الزمن يظهرون، ثم بعد ذلك يخفت سلطانهم ويذهب باطلهم هباءً منثوراً؛ لأن الله قضى قضية عدل: ((وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ))، فقضى بحكمه سبحانه وهو العليم الحكيم أن الزبد يذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض. نسأل الله عز وجل أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، وأن يعيذنا من شر كل ذي شر هو آخذ بناصيته، أقول قولي هذا وأستغفر الله.

شبهة فرعون وقومه في عدم الإيمان بموسى

شبهة فرعون وقومه في عدم الإيمان بموسى الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم. أما بعد: فقد قال الله عز وجل: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} [يونس:79]، فلو كان فرعون يبتغي الحق -كما يزعم- فلماذا يستعمل الباطل الذي يتهم موسى به، وصار يأتي بالسحرة من كل أرجاء مملكته، فأتته رسله وأتوه بكل سحار عليم. فالسحار: هو المبالغ في السحر، فأتوه بكل من يحسن السحر، بالسحرة المبالغين والأساتذة الكبار الذين يحسنون أنواعاً لا يحسنها غيرهم، وبالتلاميذ كذلك، وبالدرجة الثانية من السحرة طالما كان عندهم علم، فأتوا بالألوف لمواجهة رجلين اثنين أحدهما تبع للآخر، وموسى عليه السلام هو الذي يستعمل آيات الله عز وجل ويلقيها على الناس. قال عز وجل: {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} [يونس:80] أي: حين جمع الناس يوم الزينة ضحى، واجتمع الآلاف من القوم ينظرون، جاء فرعون في ملئه وأبهته ومعه آلاف السحرة من حوله، وواجههم موسى عليه السلام بعد أن نصحهم وذكرهم بالله عز وجل وقال: {وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى * فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى * قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} [طه:61 - 63]. فبين سبحانه وتعالى أن موسى عليه السلام قال لهم: ((أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ)) وذلك بعد أن ذكر سبحانه وتعالى من شبهات قوم فرعون. كما في قوله سبحانه وتعالى: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} [يونس:78] وكانت هذه من شبهاتهم الباطلة، فهم يزعمون أنهم على الحق.

أعظم أسباب الهلاك تقليد الآباء والأجداد

أعظم أسباب الهلاك تقليد الآباء والأجداد من أعظم شبهات أهل الباطل أن الحق يأتي مخالفاً لما عليه الأجداد والآباء، ومخالفاً للتقاليد والعادات الاجتماعية التي نشئوا عليها، وهذا من أكبر أسباب قبول الناس للباطل، كما قال عز وجل: {فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ} [هود:109]. وقال سبحانه وتعالى عن ملكة سبأ: {وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ} [النمل:43]. وكان سبب هلاك أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم واستمراره على الكفر هذه الشبهة، إذ قال له أبو جهل وعبد الله بن أمية: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله مع علمه بأنها الحق، لكن التقليد الأعمى من أعظم أسباب هلاك الأمم. وهذه تهمة لا ينفيها أهل الإسلام حين يتهمون بها ولا يقولون: نحن لا نريد أن نبدل الأديان الباطلة التي أنتم عليها، بل يقولون: نحن نريد أن نبدل أديان الباطل، ونريد أن نصرف الناس عما وجدوا عليه آباءهم من الكفر والشرك، ولذلك لم تجد أن موسى صلى الله عليه وسلم رد هذه التهمة التي ليست بتهمة أصلاً، وإنما هي إثبات نزاهته وطهارة دعوته ونقائها بحمد الله تبارك وتعالى، وأما التهم الأخرى فهي التي ردها موسى كما رد تهمة السحر والكذب، وكذا تهمة التكبر، ((وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ)) فهم يظنون أن الناس كلهم مثلهم، والحقيقة أنهم هم الذين يريدون الكبرياء في الأرض، ومع ذلك يتهمون موسى بذلك، فلو كان هذا أمراً منكراً -وهو كذلك- فلماذا تقبلونه على أنفسكم؟ ولماذا تريدون أنتم الكبرياء في الأرض؟! فأنتم تتهمون موسى بأنه يريد الرئاسة، وبأنه يحب الكبر في الأرض، وهذه تهمة يتهم بها الأنبياء والدعاة إلى الله عز وجل والعلماء، فيقول عنهم أهل الكبر: أنتم تريدون الكبر، وأنتم تريدون الرئاسة على الناس، وتحبون الشهرة، وهذا في الحقيقة من دائهم وجهلهم، وهم يعلمون أن هذا أمر قبيح ومع ذلك يستعملونه، ويصرون على الملك والرئاسة، ولا يقبلون أن ينازعهم أحد ذرة في كبريائهم وملكهم ورئاستهم، مع أنهم يعلمون أنه منكر. سبحان الله! كيف يقول هؤلاء: إن موسى عليه السلام يريد الرئاسة والملك، وموسى عليه السلام ما طلب منهم أن يتركوا ملكهم ورئاستهم وإنما دعاهم إلى الإيمان وأن يتركوا بني إسرائيل؟! فكيف يتهم بذلك؟! فهذه تهمة إذا اتهم بها أهل الإيمان لم يحزنهم ذلك، لكن لهم أن يردوها ويقولون: إننا لا نريد علواً في الأرض ولا فساداً، ولا نريد أن نكون الكبراء والملوك والرؤساء وإنما نريد أن يعبد الناس ربهم، وأن نعبد الله عز وجل وندعو إليه، فمن خلى بيننا وبين ذلك فهذا سبيلنا الذي نسلكه ولا نريد غير ذلك، ولا نريد إلا أن يعلو الإسلام، فمن أعلى كلمة الإسلام فنحن تبع له، فلا نشترط أن تكون لنا الكبرياء أو الرئاسة، ولا نريدها أصلاً، وإنما يفر منها أهل الإيمان ويرونها ندامة يوم القيامة، فنعمت المرضعة وبئست الفاطمة الإمارة، ومن سأل الإمارة وطلبها لم يجب إليها ولم يعن عليها وكانت وبالاً عليه، فهم لا يطلبون ذلك، ويبرءون أنفسهم من ذلك، بل ويحذرون على أنفسهم من ذلك.

قوة توكل موسى بالله وثقته بنصره

قوة توكل موسى بالله وثقته بنصره قال سبحانه وتعالى: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ * وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ * فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} [يونس:78 - 80]، وكان هذا الأمر لموسى كما ذكرنا في هذا الملأ العظيم وهذا الجمع الكبير استهانة بباطلهم وثقة بالله عز وجل: ((أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ))؛ لأنه لا يعبأ بهم، ولا يخشى ما في أيديهم من الباطل المزخرف. قال سبحانه: {فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} [الشعراء:44] ولم ينسوا أن ينسبوا أمرهم إلى فرعون وتوجيهاته وأمره وعزته التي سوف يغلبون بها، وكما قال الله عز وجل حين ألقوا: {قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف:116]، فوصفه الله بأنه سحر عظيم، وموسى عليه السلام من ضمن من وقع في عينيه ذلك السحر، قال سبحانه وتعالى في ذكر ما وقع لموسى عليه السلام: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:66]، فخيل إلى موسى أنها تسعى بالفعل، فكان تأثير السحر هائلاً على أعين الناس بمن فيهم موسى عليه السلام، حتى وقع في نفس موسى ما يقع في نفس البشر، وأوجس في نفسه خيفة موسى لحظة لا تتجاوز ثواني معدودة أو أقل من ذلك، لكنها سرعان ما تزول بالتوكل على الله وتثبيته سبحانه وتعالى، قال عز وجل: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى} [طه:67 - 68]، وهذه الخواطر كالبرق تقع وتذهب بسرعة في قلوب الأنبياء، وربما طالت في قلوب بعض الأولياء مدة هذه الهواجس، وربما طالت في قلوب المقصرين مدة أطول من الوساوس، وإن كان الكل يدفع ذلك باللجوء إلى الله، وباستحضار آيات الله، فمن معه آيات الله فهو الأعلى، ويذهب الله عز وجل ما في قلبه. لقد خشي موسى أن يلتبس الأمر على الناس، وأن يقبلوا ذلك الباطل كما قال تعالى: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:67 - 69]، هنا تغير ما في نفس موسى، فقد بين الله في سورة (طه) هذه الخلجات النفسية، وبين في سورة يونس قبل أن يلقي ما قاله بعد أن ثبته الله، فقال عز وجل: {فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ * وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [يونس:81 - 82]. وبين في سورة الأعراف ما تلا ذلك من إلقاء موسى، من ذهول السحرة وفرعون وملئه عندما وجدوا عصا موسى قد تحولت إلى الثعبان العظيم، قال عز وجل: {فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ * وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف:117 - 122].

المبشرات لأهل الإيمان من قصة موسى مع فرعون وقومه

المبشرات لأهل الإيمان من قصة موسى مع فرعون وقومه فأنت تجد المواقف في سور مختلفة أجزاءً مختلفة من القصة في سياق عجيب، وتجتمع الآيات والسور كلها فإذا بالصورة كاملة أمامك لحظة بلحظة، وإن كان في موضع يذكر ما لم يذكر في الموضع الآخر. ((قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ)) أي: ما جئتم به هو السحر، ((إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ)) أي: يبطل الله كل سحر وباطل، وهذا أمر الله يثبت به أهل الإيمان، فكلما رأوا الباطل منتفشاً منتشراً تيقنوا بأن الله هو الذي يتولى إبطاله، ((إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ))؛ لأنه فساد، والله لا يصلح عمل المفسدين. وهناك قضايا كلية ليست مرتبطة بزمان ولا مكان ولا أشخاص، منها: أن كل مفسد لابد أن يحبط الله عمله، ولا يصلحه أبداً، قال تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ)). فعلى أهل الإيمان أن يطمئنوا ويستبشروا لكل هذه المؤشرات من كلام موسى عليه السلام، فإن الله لا يصلح عمل المفسدين، وكل مفسد في الأرض لابد أن ينتهي مكرهاً إلى بوار، قال تعالى: ((وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ))، وكلما كانت معنا كلمات الله المقروءة المسموعة فهي أعظم أثراً من المحسوسة، وهي أشمل وأنفع للعباد من الآيات والمعجزات الحسية، فكلما كانت معنا كلمات الله كان انتصار الحق أقرب بإذن الله، كما أن الله يحق الحق بكلماته الكونية، قال عز وجل: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] فيضمحل الباطل: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81]، {وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}، فالمجرمون يكرهون الحق، ويكرهون ظهوره، ويعدون العدد لإبطاله ومحقه، لكن الله عز وجل مظهر دينه ولو كرهوا ظهور هذا الدين، فهذه كلها بشارات لأهل الإسلام، وقد وقع ذلك في الأنبياء السابقين، ووقع عبر التاريخ في مواطن مختلفة، ويقع بإذن الله في المستقبل، فيظهر الله دينه وكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وعباده المؤمنين بكلماته، وما أمره سبحانه إلا واحدة كلمح بالبصر، كما قال عز وجل: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ} [القمر:50] أي: مرة واحدة، {كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر:50]، لا تحتاج إلى تثنية، فلا يقول الله: كن مثلاً للأمر، كما يحتاج العبد أن يكرر الأمر لينفذ أو يكرر التجربة لتتم، بل أمر الله مرة واحدة، إذا أمر نفذ، فبأمره تعالى خرجت أرواح، واستقرت أرواح أخرى، علت أقوام، وانخفضت أقوام أخرى، بطلت كلمات، وبقيت كلمات أخرى وهكذا بكلمة (كن) فيكون سبحانه وبحمده. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين. اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين. اللهم نج المستضعفين من المسلمين في كل مكان. اللهم فرج كرب المكروبين، وفك أسر المأسورين، وارفع الظلم عن المظلومين. ربنا اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، ونجنا برحمتك من القوم الكافرين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

نداء إلى الأخوة ماذا بعد رمضان

نداء إلى الأخوة ماذا بعد رمضان إنَّ رمضان موسم للطاعة والعبادة، وموسم للإكثار من قيام الليل وقراءة القرآن، فهذا الشهر نعمة كبيرة من الله سبحانه وتعالى علينا؛ لذلك لا بد في هذا الموسم من استمرار ومداومة على الطاعة، وتوجد وسائل تساعد على هذا الاستمرار وعلى هذه المداومة تكفل للمسلم أن يرضي ربه دائماً في رمضان وغيره، وتجعله عالماً بأمور دينه ودنياه، لابد للمسلم البحث عنها والتحلي بها.

حال الصائم بعد رمضان

حال الصائم بعد رمضان الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم. أما بعد: يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:183 - 185]. نعم هي نعمة تحتاج إلى شكر، نحمد الله سبحانه وتعالى كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه وله الحمد كما يقول، وخيراً مما نقول، لا نحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه. الحمد لله الذي بلغنا رمضان، وأتم علينا نعمته بصيامه وبقيامه وبالاعتكاف في العشر الأواخر منه، وتلاوة كتابه عز وجل، ونسأله سبحانه وتعالى إتمام هذه النعم كلها بالقبول والمغفرة والعتق من النيران. ومن أراد أن يعلم هل قبل صومه وصلاته وقيامه ودعاؤه فلينظر في حاله بعد رمضان، فإن الله شرع الصيام للتقوى، ولا شك أننا كنا في حاجة شديدة إلى هذه الروعة الإيمانية من العبادة والذكر، ونسأله عز وجل أن يجعل ذلك خالصاً لوجهه الكريم. ونحن بحاجة إلى تذكر أمر الآخرة والخوف من الله عز وجل ورجاء رحمته، والتلذذ بمحبته سبحانه وتعالى والشوق إلى لقائه عز وجل، كل هذا من بعض النور الذي يفيض على القلب من كتاب الله سبحانه وتعالى ومن ذكره عز وجل. الله سبحانه وتعالى إذا أنعم على عبد نعمة فشكرها زاده الله عز وجل قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7]، والشكر ليس فقط تحريك اللسان بالحمد والثناء ولكنه شهود القلب للنعمة مع تعظيمها ومحبة المنعم بها، وتعظيمه عز وجل، وأنها محض فضله وجوده وكرمه، ثم التعبير عن ذلك باللسان بالحمد، ثم تصريف هذه النعمة في مرضاة الله، فمن أراد أن يعلم هل قبل صومه فلينظر في تقواه بعد رمضان هل صار أتقى لله عز وجل؟ وليستغل هذه الفرصة من العزيمة التي من الله عز وجل بها عليه، في الصلاة وفي القراءة وفي الصوم، ولا شك أنها عزيمة طيبة تحتاج إلى استمرار، فالإنسان سرعان ما تفتر عزائمه إذا تركها، وخلال الأيام القادمة سوف تبدأ المعركة الحقيقية، سوف تبدأ المعركة مع الشياطين التي تنتظر الانطلاق، فهل أخذنا العدة لذلك وعزمنا على المقاومة؟ وهنا تظهر نتيجة هذه الفترة للاستعداد ونحن نأخذ من رمضان بفضل الله عز وجل زاداً لما بعده، وحتى نتقوى به على عدونا، وعلى النفس الأمارة بالسوء، وعلى الشيطان وشياطين الإنس الذين يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف.

خطوات المحافظة والاستمرار على الطاعة بعد رمضان

خطوات المحافظة والاستمرار على الطاعة بعد رمضان هذه خطوات أساسية نحددها كي نجتهد في المحافظة والاستمرار بعد رمضان في تحقيق الالتزام.

الصلة بالله تعالى

الصلة بالله تعالى النقطة الأولى: الصلة بالله تعالى: الصلة بالله سبحانه وتعالى، والاهتمام بحال القلب على الدوام، ودوام التذكير بالآخرة، واستحضار معاني أسماء الله وصفاته، والدعاء الدائم بأن يذوق العبد حلاوة الإيمان والشوق إلى لقاء الله، اللهم حبب إلينا الإيمان، وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين. والصلة بالله عز وجل هي الالتزام الحقيقي، وكما ذكرنا من قبل أن العبادات هي الأوعية لهذه الأحوال القلبية، وإذا أتيت بوعاء يمكن أن تأخذ ما ينفعك، فإنك حين تأتي بوعاء وتقف بالباب، تطرق الباب وتستسقي حتى يفيض الرب عز وجل عليك من خلال عبادتك، من خلال هذا الوعاء دعاء أعمال القلوب الواجبة والمستحبة من الحب والخوف والرجاء، وإذا لم تأت بوعاء فلن تستطيع أن تأخذ هذه العطايا، أو أن تأخذ هذا الغذاء، ولو أن شخصاً لا يصلي ولا يصوم ولا يقوم الليل فهو لا يحب الله، وليس لديه شوق إلى الله عز وجل، ولا خوف منه سبحانه، فهذه نقطة لابد منها. وكذلك ليس كل من أتى بوعاء يأتي بوعاء صالح، فهناك من يأتي بوعاء مصمت لا روح فيه، ولا يحتمل أن ينزل فيه خير، فاحذر أن تكون عبادتك من ضمن العادات تؤديها بلا روح، بلا خشوع، ولا استحضار لما شرعت له. ثم لا تستعجل ولا تيئس ولا تطلب العطية لمجرد الوقوف بالباب، لا بد أن تقف بالباب وتدقه وتلح في السؤال، وتسأل الله أن يمن عليك بفضله، ولا تتوقف عن هذا، والعبد قلبه دائماً يتقلب فلا يستقر قلبه على حال، فهو يحتاج إلى تثبيت دائم ودعاء مستمر أن يثبت الله عز وجل قلبه على الهدى، اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم يا مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك، نسأله الهدى والسداد واليقين والعافية، نسأله أن ينور قلوبنا جميعاً بطاعته، وأن يذيقنا لذيذ محبته، وأن يوفقنا سبحانه وتعالى لما يحبه ويرضاه. هذا الأمر الأول وهو جزء معظمه شأن شخصي، وهو سر بينك وبين الله عز وجل، ولا يشرع أن يكون الإنسان على الدوام في الجماعة، فالعمل الجماعي يشغل الإنسان عن أشياء كثيرة جداً، يشغله في التفاته إلى الآخرين حوله، وعلاقته بهم، وهو يحتاج بلا شك إلى العمل الجماعي، لكن هذه المسألة معظمها شخصية، وأحياناً لا بأس من الاجتماع ولكن إذا كان بدون ترتيب وبدون تحديد يوم معين مثلاً فإن هذا ليس من السنة، ولكن العمل الشخصي للإنسان أنفع وأتم؛ لأنه خاص به، وخاصة أن الإخلاص عزيز، فالإخلاص أيسر في السر وأصعب في الأعمال، ومن الناس من هم أفذاذ من العالم الذين يقتدى بهم في الخير، لكن هؤلاء الأفذاذ آحاد في الوجود، فالجزء الشخصي هذا مسئوليتك الشخصية، وليس من اللائق أن تقول لشخص: أنت أهملتني؛ لأنه خاص بك، وهذا الموضوع أنت المسئول عنه. وفي الحقيقة أنَّ هذا الأمر أمر عظيم الأهمية في صلاح الأمة جميعاً، فقد كنت أقول لأحد الإخوة: أنا أحسن أن الرحلة لا زالت طويلة جداً؛ لأن التغيير المطلوب إحداثه مع أنه والحمد لله بفضل الله عز وجل هناك إخوة كثيرون جداً يريدون أن يصلوا وأن يصوموا وأن يعتكفوا، لكن التغيير المطلوب لا زال بعيداً جداً، فلا يزال هناك أشياء كثيرة لابد أن تغير، علماً وعملاً وسلوكاً، والسلوكيات هذه لوحدها جزء من ضمن مسئولية عبادات القلب، فهي لا بد أن تكون من جهة الخلق والأدب، وطريقة الكلام، وطريقة المعاملة مع الآخرين، وتعظيم حرمات الله عز وجل، والكلام على الشرع بالتوقير والاحترام، واحترام إخوانك في الله عز وجل. إذاً: هناك أشياء كثيرة جداً لا بد لها من تغيير، ولم تأخذ فرصتها الكاملة في التغيير، ونحن من خلال ما تناولناه خلال هذه الفترة نحاول أن نضع نقاطاً ونحدد معالم لأشياء مهمة لا بد أن نفكر فيها، وهناك أشياء كثيرة جداً لابد لها من عمل، وأعتقد أن جزءاً كبيراً جداً منها سيكون جزءاً شخصياً؛ لأن هذا هو المتاح، فلا بد أن تقرأ دائماً في كتب التهذيب والإصلاح كأن تقرأ مثلاً: كتاب تهذيب موعظة المؤمنين وكتاب رياض الصالحين، وتقرأ كتاب مدارج السالكين، أو تهذيب مدارج السالكين، فهذه الأشياء مهمة في طريق الإصلاح.

البحث عن صحبة صالحة وقرناء صالحين

البحث عن صحبة صالحة وقرناء صالحين النقطة الثانية وهي من أعظم وسائل الإصلاح: البحث عن صحبة صالحة وقرناء صالحين، فالقوم لا يشقى بهم جليسهم، كالعبد الخطاء الذي جلس مع الصالحين الذين يسبحون ويحمدون ويكبرون ويهللون ويسألون الله الجنة ويستعيذون بالله من النار، فهو ليس منهم وإنما جلس لحاجة، فيقول الله عز وجل فيهم جميعاً: (غفرت لهم، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم). فلابد أن تبحث عن أصحاب صالحين يعينونك على طاعة الله ويساعدونك على النقطة الأولى والثالثة التي سوف نذكرها حالاً إن شاء الله. فاختيار الصالحين أمر مهم، لكن الصلة بالله عز وجل وتقوية هذه الصلة هي أهم ما يحتاجه العبد، فالصحبة الصالحة والارتباط بالإخوة من خلال المسجد ومن خلال مكان العمل ومن خلال الجيران، أو من خلال أي وسيلة من الوسائل أو كل الوسائل في الحقيقة، فلا بد أن تبحث في كل مكان عن صحبة صالحة تعينك على الطاعة، وتذكرك إذا نسيت، وتقويك إذا ذكرت، ولا تضيع وقتك معها في غير طاعة الله، فإياك وفضول الكلام وتضييع الأوقات، فقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أنَّ من أشراط الساعة أن يتقارب الزمان، فلا بد أن نزداد طاعة ولا نضيع وقتاً، وأمر عجيب أنك تريد إنساناً فلا تستطيع أن تدركه، فلا يوجد وقت أصلاً يحتمل الإضاعة، فإياك أن تجالس أهل الخير وتضيع وقتك في المزاح والكلام الذي لا فائدة منه واللغو دون أن تسمع قول الله وقول الرسول صلى الله عليه وسلم. نصيحة ووسيلة من وسائل الدعوة وشرط في الدعوة إلى الله عز وجل وهو الاجتماع على الطاعة التي شرع الاجتماع عليها، وإنَّ والتعاون على البر والتقوى من أعظم ما يقوي هذه الروابط، ومن أعظم ما يعين على طاعة الله سبحانه وتعالى.

الفهم الدقيق للمنهج

الفهم الدقيق للمنهج هذه الصحبة الصريحة تعينك على النقطة الثالثة وهي: الفهم الدقيق في المنهج، والعلم النافع والعمل بهذا العلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (طلب العلم فريضة على كل مسلم). ولا يكفي الالتزام الإجمالي؛ لأن جزءاً كبيراً جداً من أسباب الخلل الموجود في الرحلة الطويلة هو بسبب قلة العلم، ووجود الجهل، وعدم فهم المسائل فهماً دقيقاً بحيث إنه في وسط الفتن المتكاثرة والدعاة على أبواب جهنم الذين يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً فيفتون بغير علم، فلا بد لك من علم نافع بالكتاب والسنة، ولا بد أن تأخذ من القرآن يومياً، ونحن ننصح ببرنامج على مدى سنة إلى سنتين حسب طاقة الأخ في إكمال حفظ القرآن، فلو أنك تحفظ ربع جزء كل أسبوع لختمت القرآن في سنتين أو أقل من سنتين. وهناك من يحفظ ثلاث آيات في اليوم أو أربع آيات في اليوم ومع ذلك معظم الناس لا يفقهون شيئاً، وكثيرٌ من الإخوة لم يختموا. وإني أنصح بتفسير السعدي فهو تفسير ميسر، ويليه تفسير ابن كثير، كل يوم آيتين، ثلاث آيات، اقرأ بعد الفجر ولو عشر دقائق، كل يوم خمس آيات وبإذن الله تبارك وتعالى ستحفظ كتاب الله في أقل من ثلاث سنين أو سنتين، وسيكون عندك معرفة بتفسير القرآن العظيم الذي هو جامع لأقوال السلف رضوان الله عليهم، واعلم أنَّ تفسير السعدي من الممكن أن يأخذ عدة أشهر فقط، وتفسير السعدي تفسير سهل ومختصر ومبارك، وفيه روح الربط بالواقع. ولا بد أن تتعلم السنة فتقرأ كتاب رياض الصالحين والكتب الخاصة بالتهذيب، ونقرأ ونتعلم السنن بجانب الكتب الصحاح، فلا بد من كتاب رياض الصالحين، وهو كتاب لابد أن ينهيه كل أخ بتدبر وترو وفهم لما فيه، وبالتزام وتطبيق عملي سريع. وننصح بعده بصحيح مسلم مع حضور الدرس في صحيح مسلم وبذلك ستفهم السنة إن شاء الله تبارك وتعالى، ومن فاته بعض حلقاته فليسمع الأشرطة السابقة، فإن هذا الكتاب من أعظم الكتب بركة. يلي ذلك تحصيل علوم أساسية لا بد من تحصيلها، فتقرأ اللغة العربية والإنجليزية والرياضيات، وقبل ذلك علوم الدين، ولا تقل: أتفرغ لمادة واحدة؛ لأنك لست صغيراً، بل إنَّ الصغير يدرس كل العلوم. وكذلك لا بد أن تتعلم التوحيد والعقيدة والإيمان، ولا بد أن تحصل هذه الأصول الستة وما يتفرع منها، الإيمان بالله والملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر والقدر خيره وشره وما يتفرع منها كالإيمان بقضاء الله والرضا به، فننصح بكتاب فتح المجيد وكتاب معارج القبول، وهذه بالكثير يستغرق تعلمها حوالى شهرين ولها أشرطة مسجلة، وبعض الإخوة فرغوها فصارت متيسرة، وفتح المجيد أيضاً في أشرطة مسجلة وعلى سيدي، ومعارج القبول أوشك أن يتم كله، ولكن يستحسن قراءته وحضور دروسه في هذا المسجد المبارك. وكذلك في الفقه ننصح الإخوة أن يفرغوا أنفسهم من أجل أن يحضروا الدروس حتى يتعلموا أركان الإسلام، من مثل شرح منار السبيل، وكذلك إذا كنت في سفر أو كنت عاجزاً أو لم يتوفر لك وقت فننصحك بأن تستمع أشرطة هذه الدروس إن تيسر، أو قراءة كتاب فقه السنة فهو كتاب نافع ومفيد، وفيه من أسباب العلم المبارك. وأما العلم الخامس فهو علم التهذيب وإصلاح النفس وعلم الأخلاق الواجبة، وكتاب رياض الصالحين سوف نأخذه وسوف نضيف عليه كتاب تهذيب موعظة المؤمنين، مع المراجعة للمعاني المفيدة التي أخذناها بسهولة من طريق تهذيب مدارج السالكين، وقد أخذناها من الأجزاء التي قرأناها فقط، حتى يسهل لنا قراءتها كاملاً وشرحها شرحاً متكاملاً، لكن الأكثر أهمية كتاب تهذيب موعظة المؤمنين، ومختصر منهاج القاسطين. ولا شك أن الاتجاهات الإسلامية فيها تشعب كثير جداً، فالاتجاهات تأخذ شرقاً وغرباً والفتن ضخمة جداً، فلابد للأخ أن يكون محصناً بقواعد منهج أهل السنة والجماعة فيما يتعلق بقضايا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتغيير والجهاد في سبيل الله وفقه الخلاف، وهذه المقالات كلها سبق شرحها في شروط الدعوة من قبل عشر سنين، فينبغي للإخوة أن يدرسوا منهج أهل السنة والجماعة حتى يكونوا على بينة من المنهج وعند ذلك لا أحد يقدر أن يأخذهم ذات الشمال أو ينحرف بهم من علماء أهل البدع، فإن دعاة منهاج البدع اليوم يدعون إلى التكفير والجرأة على دماء المسلمين، والغلو الشديد، فلا بد من الحذر من ذلك، وكذلك المناهج العلمانية التي تحارب قضايا العقيدة، وهي مناهج خطيرة تؤدي إلى تمييع القضية الإسلامية، ولن نقدم لأمتنا في هذه الظروف أفضل من شخصية مسلمة، شخصية علم وعمل وسلوك وأخلاق ودعوة إلى الله عز وجل، فاحرص على هذه النقاط الأساسية، فهو زاد لك في المستقبل. وكما ذكرت تستطيع أن تسير به مدة إلى أقرب محطة قريبة، فهو موسم من مواسم الطاعة، وليس هناك وقت لتضييع موسم طاعة، هذه الطاعة أيام تصومها وتقوم لياليها وتركز على حفظ القرآن وتلاوته مع التدبر، فلا حفظ إلا مع التدبر، وهذه نقطة ثانية في الإصلاح، فالحفظ هو الطرف الأول، والطرف الثاني: التدبر مع الحفظ، فليس فقط الحفظ هو المطلوب، بل القراءة مع التدبر هو المطلوب، فإن كنت تقرأ على الأقل أربعين آية في كل يوم قراءة تدبر وفهم وبإمرار الآية على القلوب، وتكون المعاني مفهومة فهو خير لك، فلا بد أن تتدبرها ولا تجعلها مجردة بالحفظ مع الاستطاعة. ومن كان في نفسه ضغينة على أحد فليسامحه، فسلامة القلوب من أعظم النعم التي من الله عز وجل بها علينا، ولعل الإخوة ذاقوا من حلاوة الاجتماع والطاعة من ذلك ما يغنيهم عن المسامحة. نسأل الله عز وجل أن يتقبل منا، وأن يغفر لنا أجمعين، وأن يمن علينا بحبه سبحانه وتعالى وحب من يحبه وحب عمل يبلغنا إلى حبه، ونسأله عز وجل أن يجعلنا من عتقائه من النار ومن المقبولين، وتقبل الله منا ومنكم وجزاكم الله خيراً.

نعمة القرآن

نعمة القرآن إن النعمة الكبرى والمنة العظمى التي امتن الله بها على عباده المؤمنين؛ هي إخراجهم من الظلمات إلى النور بهذا الكتاب الكريم الذي أنزله على نبينا الكريم، فاهتدى بهداه كل رجل تقي، وضل عن الاهتداء به وطغى وخسر كل رجل شقي، فيا سعادة الأتقياء ويا تعاسة الأشقياء! ألا وإن هذا الكتاب العزيز قد أنزل على أفضل رسول في أفضل الشهور وهو شهر رمضان المبارك، ولقد كان رسول الهدى عليه الصلاة والسلام يعتكف في العشر الأواخر منه رجاء ليلة القدر مكثراً من قراءة القرآن، والصدقة، والدعاء الذي لطالما غير وجه الأرض ومسار التاريخ معاً.

القرآن أعظم نعم الله على المؤمنين

القرآن أعظم نعم الله على المؤمنين إن الحمد الله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثه بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: يقول الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:185]. إن أعظم نعمة أنعم الله عز وجل بها على عباده المؤمنين هي نعمة إنزال الكتاب على الرسول الأمين صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الشهر الكريم، كما أن من أعظم نعمه التي منَّ بها على عباده المؤمنين أن هداهم بهذا الكتاب، وأخرجهم به من الظلمات إلى النور، وأحيا قلوبهم بعد موتها، ونور بصائرهم بعد عماها، وجمع أمورهم بعد شتاتها، كما أنه سبحانه وتعالى يغني قلوب عباده بما أنزل في هذا الكتاب من معاني الإيمان ليستغنوا عما سواه، ومن فضل الله عليهم أن أنزل عليهم هذا الكتاب الذي هو شفاء ورحمة للمؤمنين، قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء:82].

القرآن لا ينتفع به الكفار والمنافقون

القرآن لا ينتفع به الكفار والمنافقون ما أشد تفاوت القلوب وتباين منازلها، فالأرض الطيبة يأتي عليها هذا الكتاب فيحييها بعد موتها، وتنبت أنواع الخيرات والبركات، وأما الأرض الخبيثة كقلوب الكفرة والمنافقين الذين لا ينتفعون بالقرآن، ولا يتعظون بمواعظه، ولا يأتمون به، ولا يحلون حلاله، ولا يحرمون حرامه فهؤلاء لا يزيدهم القرآن إلا خساراً وطغياناً وكفراً، قال سبحانه وتعالى مبيناً ذلك {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا} [المائدة:64]، والمنافقون يزدادون رجساً إلى رجسهم، كما قال سبحانه وتعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:124 - 125]. وإذا أردت أن تعلم حقيقة الإنسان الذي تعامله فانظر إليه عند سماع القرآن؟ وفي مواسم القرآن؟ فإذا وجدته من الناس الذين يزدادون إيماناً وهدىً وتفريقاً بين الحق والباطل؛ فيستبصر طريق الحق من طريق الضلالة، ويستهدي بهدى القرآن، فيرشده الله عز وجل إلى التي هي أقوم: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9]، فاعلم أن أرض قلبه طيبة، وأما من وجدته في مواسم القرآن والطاعة وعند سماع كتاب الله يزداد مرضاً إلى مرضه، ويغرق في الشبهات، فيلبس بين الحق والباطل، ويغرق في الضلالة غرقاً فاحذره وابتعد منه. فمرض الشبهات مرض عضال في قلوب الكفرة والمنافقين، حيث يزيدهم القرآن التباساً؛ لأنهم لم يتلقوه بالقبول والتسليم والتصديق والإذعان، فإذا تليت عليهم آيات الله لم يزدادوا إلا رجساً إلى رجسهم، وضلالاً إلى ضلالهم، حتى إن بعضهم يسوي بين الكفر والإيمان، وبين عبادة الرحمن وعبادة الشيطان، فيرى ذلك كله حقاً وإيماناً وخيراً وإحساناً، وهذا دليل موت القلب قطعاً، فالقلب الذي ذاق طعم الإيمان لا يمكن بحال من الأحوال، ولا بعذر من الأعذار أن يسوي بين عبادة الله سبحانه وتعالى وبين عبادة العباد، ولا يمكن أن يستوي لديه تصديق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وسائر النبيين والمرسلين، وبين تكذيبهم والرد عليهم، وكيف يكون ذلك؟! والله! ما يشتبه هذا الأمر إلا على من ختم الله على قلبه وسمعه، فيشك في الصراط المستقيم ولا يدري أهو دين الإسلام أم غيره من ملل الكفر من يهودية ونصرانية وعبادة أوثان، وغير ذلك من أنواع الكفر؟! ولا يشك في الصراط المستقيم، ولا في الكتاب الذي أنزله الله إلا من طمس الله بصيرته، وأعمى قلبه عن نور الوحي المبين؛ لأنه لم يذق في حياته طعم الإيمان، ولم يجد أثر علاج القرآن للشبهات التي في قلبه، وذلك لخبث قلبه {وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء:82]، فازداد كثير منهم بما أنزله الله على رسوله طغياناً وكفراً، كما قال عز وجل: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [المائدة:68]. فإذا وجدت الإنسان يزداد مرض الشهوات عنده في مواطن الخير وعند سماع الكتاب، فاعلم أنه إنسان غارق في النجاسات والشهوات الحقيرة والعياذ بالله، ولا يعرف من الدنيا إلا شهوة الطعام والشراب أو الجنس أو المال أو الرئاسة والملك، لا يعرف من الدنيا غير ذاك، وهو مشغول ليل نهار بهذه الخبائث والمنكرات، والخبيثات للخبيثين، فالخبيثات من الأقوال والأعمال للخبيثين من الناس، والخبيثون من الناس لهذه الخبيثات من الأقوال والأعمال، وهذا عند أهل الإيمان من أوضح دلائل توحيدهم وصدق معتقدهم؛ لأنهم ذاقوا الفرق، وعرفوا الحقيقة بين العمى والبصيرة، كما قال عز وجل: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ * إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} [فاطر:19 - 23].

الكافر والمنافق هو الأعمى الحقيقي

الكافر والمنافق هو الأعمى الحقيقي وما يستوي الأعمى الكافر المنافق الذي لا يرى حقائق هذا الوجود، ولا يدري من الدنيا إلا مظاهرها، ولا يعلم حقيقة وجوده، ولا لماذا أوجده الله؟ وماذا ستكون نهايته؟ ولا يعلم من الدنيا إلا تحصيل شهواتها، وكيف يمكر بأصحابها، وكيف يكيد لمن يسير معه في طريقها، وكيف يتنافس مع غيره من أهل الدنيا على تلك الجيفة المنتنة. فهو أعمى لا يرى حقائق التوحيد، ولا يعرف قدرة الله سبحانه وتعالى وعظمته وملكه وسلطانه، ولا يرى حقائق الإيمان باليوم الآخر، ولا سرعة انقضاء هذه الدنيا، ولا قرب الموت من أهلها في أي لحظة من اللحظات، ولا يرى ولا يعلم شيئاً عن حقائق البرزخ والقبر، وما يكون فيه الإنسان بعد رحيله عن هذه الحياة، ولا يبصر قرب القيامة والساعة التي أخبر الله عز وجل عن اقترابها فقال: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1]، وقال: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:1]، فهذا الأعمى لا يرى ذلك، ولا يعرف إلا تحصيل رئاسته وشهوته، فهو لا يرى من الدنيا إلا ذلك نعوذ بالله. وأما البصير فهو المؤمن الذي أبصر معاني أسماء الله عز وجل وصفاته، فأحب الله عز وجل من كل قلبه، وأبصر نعم الله سبحانه وتعالى عليه، وأعظمها نعمة الإيمان والإسلام والإحسان والقرآن والرسول الكريم عليه الصلاة والسلام: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران:164]. فأعظم نعمة أنعم الله عز وجل بها على عبده هي هذه النعمة التي من أجلها وبسببها تتوقد منابع الحب لله عز وجل، ومنابع الرجاء في قلبه، فإن الحب ينبت على حواف أنهار المنن التي يراها الإنسان فيستحضرها فيستقي قلبه منها فيزداد تعظيماً وحباً لله عز وجل، ورجاءاً للقائه سبحانه وتعالى: {مَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [العنكبوت:5]، إن الذي دفع المؤمنين بألا يزنوا بميزان أهل الدنيا، وأن يروا الدنيا صغيرة كما هي عند الله، وأن يروا حقائق الإيمان والدين واضحة كالشمس -هو يقينهم بلقاء الله وإيمانهم به. وهكذا ينبت في قلوبهم الخوف بسبب رؤية نعمة الله عز وجل عليهم، ورؤية غضبه على المغضوب عليهم والضالين، وينبت الخوف من الله عز وجل أن يضل هذا العبد كما أضل غيره، فكم من الملايين من البشر أضلهم وأنت أنعم الله عز وجل عليك بالصلاة، والقيام، والصيام، وكم من ملايين البشر لا يعرفون شيئاً عن ذلك، ويعيشون حياتهم لا يدرون شيئاً عن نفحات هذا الشهر الكريم، وعما ينعم الله عز وجل به على عباده المؤمنين، لا أقول فقط الكفرة بل كثير من المسلمين الذين انصرفوا عن دينهم، وأعرضوا عن شرع ربهم، وانشغلوا بوسائل الإفساد التي تصب عليهم أنواع الأمراض والنجاسات والخبائث ليل نهار وهم منشغلون، وبعضهم قد يكون منتقداً، وبعضهم قد يكون موافقاً ومسروراً بما يرى من هذه القذارات ويسمع من هذه النجاسات، حتى إن أصحابها لا يستحيون من فعل الفواحش علانية أمام أعين الملايين، فإذا كان عقوبة قوم لوط الخسف والتدمير؛ لأنهم كانوا يأتون في ناديهم المنكر، ويأتون الفاحشة وهم يبصرون، فكيف بمن يفعلون ذلك أمام عشرات أو مئات الملايين من البشر؟! فأي فضيحة هذه التي فضحهم الله عز وجل بها! وأي خبث ذلك الذي نبع من قلوبهم الخبيثة، فانظر إلى نعم الله عز وجل عليك أما تخشى أن يضلك الله سبحانه كما أضل هؤلاء، وهو عز وجل مقلب القلوب، ويثبت قلوب عباده المؤمنين بالقول الثابت في الحياة الدنيا، فأنت تحتاج إلى التثبيت الآن كما تحتاجه في الآخرة، كما تحتاجه عندما تنزل إلى قبرك، بل هذا خير الخلق على الإطلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم محتاج إلى تثبيت الله، فقد قال الله عز وجل له: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} [الإسراء:74 - 75]، فالله سبحانه ثبته، فإذا كان هو يحتاج إلى التثبيت فكيف بنا ونحن في الذنوب وفي التقصير ليلاً ونهاراً.

أعمال القلوب ترفع صاحبها عند الله تعالى

أعمال القلوب ترفع صاحبها عند الله تعالى إن الذي يطلع من القرآن على حال الأنبياء يدرك كيف تتفاوت المنازل عند الله عز وجل بأعمال القلوب وأحوالها في لحظات، ويدرك أنه في أسفل السلم إن كان قد وضع رجله عليه، والذي يدرك أحوال الصالحين الذين قص الله عز وجل علينا قصصهم في القرآن، وقص علينا الرسول عليه الصلاة والسلام قصصهم يدرك ذلك، وقد كانت سيرة صحابته الكرام تطبيقاً عملياً لهذا الصلاح، والإنسان حينها يدرك كم هو صغير لا يساوي شيئاً، وأنه لا يزال في أول الطريق. فانظر إلى ما عوتب عليه الأنبياء والصالحون في لحظات فقط مرت على قلوبهم، فعوتبوا على ذلك، كما تسمع قول الله سبحانه وتعالى عن لوط عليه السلام حين قال: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود:80]، لحظة وقع في قلبه أمراً كان غيره أولى منه، وهو أن يستحضر في قلبه أنه يأوي إلى الله عز وجل كما استشعرها نبي الله صلى الله عليه وسلم وهو في الغار حين قال له صاحبه: لو أن أحدهم نظر إلى موضع قدمه لأبصرنا، فقال: (يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟! {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40])، فإنما عوتب على ذلك بسبب بينه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (رحم الله أخي لوطاً، لقد كان يأوي إلى ركن شديد)، فسبحان الله! كما يخطر بقلبك أنت من أضعاف هذا الجنس في اليوم؟ ربما عشرات المرات، والواحد منا لا يدري أنه قد أتى نقصاً، وأنه قد قصر. ولما أحب المؤمنون في غزوة بدر العير قال الله لهم: {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} [الأنفال:7]، فهذا مجرد خاطر خطر على قلوبهم أن تكون القافلة التجارية هي غنيمة المسلمين بدلاً من الجيش والقتال، فعوتبوا على ذلك {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} [الأنفال:7]، وكم يقع في قلوبنا بالليل والنهار من إيرادات غيرها أولى منها، بل قل من إيرادات فاسدة تصل إلى حد التحريم من الحسد والحقد والتباغض، وسوء الظن بالمسلمين، وتزكية النفس بما ليس فيها، ومدحها بما هي خالية عنه من الإعجاب والكبر والرياء، إلى خواطر وعزائم ربما على المنكر والمعاصي والعياذ بالله، والواحد يسير في طريقه لا يرى. فإذا تأملت هداية القرآن وشفاءه لما في الصدور تبين لك أننا نحتاج إلى علاج طويل، وربما أكثرنا أو كلنا لم يضع قدمه على أسفل السلم الذي درجاته العالية عند الله سبحانه وتعالى، ولا يعلم عددها إلا هو سبحانه وتعالى، والدرجات عند الله كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض. فأين نحن من علاج أمراض قلوبنا من الشبهات والشهوات؟ فرب شهوة محرمة تقع في القلب فتفسده، بل ربما مجرد خاطر بالشهوة المحرمة لا عزيمة يعد ذنباً يلام عليه الإنسان فكيف إذا كانت عزيمة؟ وكيف إذا كانت إرادة يستحضرها ويمرها على قلبه؟ أقل شيء يحرمه صاحب الخواطر الرديئة أن يحرم خواطر الإيمان، وأن يحرم ما يفيض الله عز جل على قلبه عند سماع القرآن، فكم من آية تمر عليك وأنت لم تتعظ بمواعظها؟ وكم من صلاة مررت عليها وأنت تقول: متى تنتهي السورة ليركع الإمام لننتهي من الصلاة؟ إن هذه الخواطر لربما وقعت في قلب كل واحد منا وهي تدل على النقص لا شك، وأن القلب يحتاج إلى علاج ومداواة؛ لأنه إذا تدبر القرآن فسوف ينسى هذه الخواطر، وربما يحرم لذة مناجاة الله سبحانه وتعالى في دعائه، ويحرم لذة إنبات الخير في قلبه عند تلاوة كتابه سبحانه وتعالى؛ بسبب ما وقع في قلبه من موازنات فاسدة، وتقديم أمور كان ينبغي أن تؤخر، وتأخير أمور كان ينبغي أن تقدم، ولذلك نرى حياتنا مليئة بالمشاكل؛ لأنها لم تعالج كما ينبغي بالشفاء الذي أنزله الله {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء:82]، ولا شك أن طبيعة الحياة التي نحياها والتي هي مليئة بأنواع الصراعات على الدنيا والتنافس عليها تؤثر علينا، ولكن لا بد لنا أن نتوقف لحظات لنعالج أمراض قلوبنا، ولنحيي هذه القلوب، ولنحصل على البصيرة التي لا يستوي من فقدها ومن حصل عليها، {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ} [فاطر:19 - 20] فالظلمات هي: ظلمات الكفر والجهل والضلال وغضب الله سبحانه وتعالى، وتلك تحل على من هوى في غضب الله عز وجل تحل حتى لا يرى شيئاً، كما وصف الله عز وجل حال ذلك الكافر الجاهل الضال: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40]. والنور هو نور الإيمان الذي أنزله الله سبحانه وتعالى، وهذا يكون في القلب كمصباح متقد من زيت شجرة مباركة، فهو نور الإيمان على نور الفطرة، {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور:35]، {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ} [فاطر:19 - 21]، فحال أهل الإيمان في دنياهم في ظل وراحة وسكون: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]، وهم في ظل في قبورهم، وفي آخرتهم في ظل عرش الله عز وجل، وفي الجنة في ظلال وعيون، وفي سكون دائم وراحة وسعادة دائمة لا تدانيها ولا تشبهها سعادة، ومن وجدها يعلم يقيناً أنها تتضاءل أمامها كل لذات الدنيا، ولكنها للأسف الشديد عند أكثرنا -إن لم نكن كلنا- لا تتعدى لحظات معدودة، وبدرجات متفاوتة، ولكن بحسب ما نأخذ من هذا المعين الصافي بحسب ما نسعد، وكلما نلنا من طاعة الله سبحانه وتعالى ومرضاته، وحييت قلوبنا بكتابه سعدت هذه القلوب واطمأنت وذاقت طعم الإيمان، (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وآله وسلم نبياً) وأما الحرور فهو حر الكفر والعياذ بالله. فالكفرة في دنياهم في ضنك وشقاء، وفي قبورهم في عذاب وبلاء، وفي الآخرة في حر شمس دانية من الرءوس قدر ميل، فيعرق أحدهم حتى يبلغ عرقه أنصاف أذنيه، وحتى يغرق في رشحه، ويضرب العرق في الأرض سبعين ذراعاً، وقدر قامة الرجل على قدر عمله. وأما في النار والعياذ بالله فهو الحر الذي لا يطاق: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة:81]، {وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ} [فاطر:22].

تفاوت المجتمعات

تفاوت المجتمعات إن مجتمع المؤمنين مجتمع يزن بموازين الشرع، ويقدم ما قدمه الشرع، ويعظم ما عظمه الشرع، وهو مجتمع يعيش لتحقيق العبودية لله سبحانه وتعالى، ومجتمع زكي طاهر نقي، فإرادات أهله في مرضات الله وفي البعد عن مساخطه وما يغضبه. وأما مجتمع الكفرة فمجتمع أموات وأمراض ودرجاتهم متفاوتة، فمنهم من هو في غيبوبة، ومنهم من يوشك على الموت، ومنهم من قد مات وأنتن، فهي مجتمعات متفاوتة، والإنسان لا شك باقترابه من هذه المجتمعات يتأثر بها، ورؤية وجوه أصحابها تؤثر في قلبه، وإذا كانت رؤية وجوه المومسات عقوبة فكيف برؤية وجوه الكفرة والمنافقين على سبيل الاحترام والتعظيم؟! نسأل الله أن يتوب علينا، وأن يعافينا جميعاً من ذلك. نعم إنك أن ترى وجوههم مجاهداً لهم فذلك من نعم الله عليك، ولكن أن ترى وجوههم وأنت مضطر لكي تعاملهم بالاحترام والتوقير فإنه والله من أنواع العقاب، فكيف بمن يطلب ذلك ويأتي بأنواع المناظر التي ينظر بها إلى وجوه المومسات والكافرات والكافرين والظالمين؟ نعوذ بالله من ذلك، فالمجتمعات متفاوتة تفاوتاً عظيماً، فانظر كيف تقضي وقتك، ومع من تقضي وقتك، فنحتاج إلى تعمير قلوبنا خلال هذه الأيام المباركة التي تقدم علينا بإذن الله، ففي لياليها أعظم تعمير للقلوب بإحيائها بكتاب الله (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يأتيه جبريل فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة). نفعنا الله عز وجل وإياكم بالقرآن العظيم، وأحيا قلوبنا به، ورزقنا تلاوته آناء الليل وآناء النهار على الوجه الذي يرضيه عنا. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

فضل ليالي العشر من رمضان

فضل ليالي العشر من رمضان الحمد الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم. لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر الأواخر من رمضان أحيا ليلة، وأيقظ أهله، وشد المئزر، وكان صلى الله عليه وسلم يعتكف في العشر الأواخر من رمضان طلباً والتماساً لليلة القدر، وطلباً لفضل الله عز وجل في هذه الليالي كلها، فهذه خير ليالي السنة، وهي أفضل الليالي على الإطلاق، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)، والنبي صلى الله عليه وسلم رغب في السبع البواقي أكثر فقال: (فمن غلب على العشر الأواخر فلا يغلبن على السبع البواقي)، وذلك أن آخر العمل يكون الإنسان قد تهيأ فيه للمنازل العالية، فإذا أفاض الله عز وجل عليه نعمة في آخر هذا الشهر الكريم كان أهلاً لقبول هذه النعمة، وأهلاً لاستثمار هذا الخير وتأثيره في قلبه؛ ولذا كان دائماً التمهيد للأمور العظيمة بكثرة العبادة والذكر والتلاوة والصلاة والقيام والركوع والسجود، كما قال سبحانه وتعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) [الأعراف:142]، وهذه الأربعون كان موسى يصوم نهارها ويقوم ليلها؛ تهيئة لسماع كلام الله سبحانه وتعالى، ولتقريبه نجياً، وهو في هذه المرة يقدم مشتاقاً محباً بعد أن ذاق الحلاوة التي لا توصف في المرة الأولى، مع أنه كان يطلب ناراً وهدىً وخبراً غير الذي حصل عليه، فكان يريد ناراً فرأى نوراً أعظم من الذي يطلب، وكان يريد هدىً على الطريق فرأى هداية أتم مما كان يطلب. وكان يريد مخبراً يخبره عن طريقه فوجد إخباراً من رب العالمين سبحانه وتعالى، فكانت المرة الثانية أكمل، وكان محباً متعجلاً إلى ربه راغباً في رضاه. وهكذا مريم عليها السلام عندما هيئت لتحمل الأمر العظيم في أمر ولادة المسيح نادتها الملائكة: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران:43].

الدعاء يغير الأرض والتاريخ

الدعاء يغير الأرض والتاريخ فالأمور العظيمة تحتاج إلى تهيئة، بل ما يقدره الله عز وجل لعباده المؤمنين يعطيهم إياه وهم يسألونه عز وجل في دعائهم وصلاتهم. ألم تسمع قول الله عز وجل: {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى} [آل عمران:39]؟ وقال سبحانه وتعالى لموسى عليه السلام: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [يونس:89]، فهذه الأرض يتغير وجهها بدعوة من صادق قانت خاشع لله عز وجل، وانظر إلى مكة المكرمة، فقد كانت أرض قفر بين جبال لا نبت فيها ولا ماء، فما الذي يدفع قلوب ملايين البشر عبر السنين أن تأتي إلى هذه البقعة العجيبة؟ إنها دعوة إبراهيم عليه السلام: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم:37]، فلقد غير وجه هذه البقعة إلى يوم القيامة، فهي بقعة يأتي إليها ملايين البشر كل عام، وهم مشتاقون إلى المزيد، وكل ذلك بسبب دعوة من إبراهيم عليه السلام، فهي دعوة تغير بها وجه الأرض. وهذا كما تغير وجه مصر بهلاك فرعون وجنده في لحظة من اللحظات بدعوة من موسى عليه الصلاة والسلام {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [يونس:89]. وكذلك دعوة من النبي صلى الله عليه وسلم حين قام طويلاً في ليلة بدر، فتغير وجه التاريخ، ولولا فضل الله عز وجل بنصر المسلمين في غزوة بدر لما عُبد الله عز وجل في الأرض بعد ذلك اليوم، قام النبي يستغيث {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [الأنفال:9]، فاستجاب الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم. ودعوة من النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة الأحزاب غيرت أيضاً وجه التاريخ، وصار الكفر ينتقل إلى الدفاع بعد أن كان مهاجماً. فأرسل الله الريح والجنود التي لم يرها الناس، فانصرف عشرة آلاف من الأحزاب بعد أن أوشكوا أن يصلوا إلى غايتهم من اقتحام المدينة، واستئصال الإسلام، لكن ينقلب الأمر في لحظة بدعوة صادقة، وانقلب الأمر على يهود بني قريظة في تلك الليلة بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ لأن قلوبهم متعلقة بالله راجية لفضله، فبالدعاء يتغير وجه الأرض ومسار التاريخ، ومسار الأحداث كلها يتغير بالصلاة. فاجتهدوا عباد الله! في هذه الأيام المباركات والليالي الفاضلات أن يتغير حالنا إلى ما يحب الله عز وجل ويرضى، وذلك بكثرة الاجتهاد في الدعاء والتضرع، ولا بد أن تحيا القلوب وتحضر؛ فإن الله لا يقبل دعاء من قلب غافل، وربما تنقلب الموازين بعد أن تصل إلى نهايتها من حيث لا يشعر الناس، ويأتي الكفرة من أمر الله ما لم يكونوا يحتسبون، ويأتي أعداء الإسلام من المنافقين ما لا يعلمون، وهو عز وجل يملي لهم، وكيده متين، ولكن أين هذه القلوب؟! فاجتهدوا أن تكونوا من أصحابها {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186]. وليكن الاعتكاف عكوفاً بالقلب على الله، والنية على إرادته، وإخلاصاً لوجهه سبحانه قبل أن يكون ملاءة تفردها في المسجد، أو خباء تصنعه لكي يخلو بك من يريد مسامرتك، ومن تريد محادثته، وأنت في غفلة عن حقيقة الاعتكاف، فالاعتكاف أصلاً: عكوف القلب والهمة قبل أن يكون عكوف البدن. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اليهود والنصارى والمنافقين وسائر الكفرة والملحدين، وأصحاب الضلالة دعاة السوء. اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين! اللهم نج المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم وانصر المسلمين في فلسطين والشيشان. اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا، اللهم احفظ دماء المسلمين في كل مكان، واحفظ أموالهم وأعراضهم يا رب العالمين! اللهم انصرنا على عدوك وعدونا، اللهم أنزل بأسك الذي لا يرد على القوم المجرمين: باليهود المعتدين، والنصارى المحاربين الذي يصدون عن سبيلك، ويكذبون رسلك، ولا يؤمنون بوعدك، وبالمنافقين الظالمين الذين يصدون عن سبيلك.

وإن فرعون لعال في الأرض

وإن فرعون لعال في الأرض بين الله سبحانه وتعالى طغيان الجبابرة من الأمم السابقة، وأن ظلمهم للناس وطغيانهم سببٌ في عمايتهم عن الحق، وأهل الحق مهما كانوا مستضعفين فإنهم بتوكلهم على الله وثقتهم به سبحانه رغم انعدام الأسباب يفرج الله عنهم كربهم وينصرهم على عدوهم، ولنا في قصة الطاغية فرعون مع موسى وقومه عظة وعبرة.

قصة موسى عليه السلام مع فرعون

قصة موسى عليه السلام مع فرعون إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وسلم. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى جعل في قصص أنبيائه ورسله من العبر والعظات، والنور الذي يهتدي به أهل الإيمان في كل زمن من الأزمنة ما يحتاج معه المؤمنون دائماً إلى تدبر قصص القرآن وسيرة الأنبياء، وإن من أعظم القصص فائدة لأهل الإيمان في سبيلهم وطريقهم إلى الله عز وجل قصة موسى صلى الله عليه وسلم، قال الله سبحانه وتعالى: {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ * فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ * وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ * فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ * وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ * فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ * وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} [يونس:80 - 92].

التحول من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان

التحول من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان بعد أن بين سبحانه وتعالى آياته على يد رسوله موسى عليه الصلاة والسلام، وأبطل كيد السحرة المجرمين، وأبطل مكر فرعون وفضحه على رءوس الأشهاد في يوم الزينة وقد حشر الناس ضحى، واجتمع الجموع فرأوا آيات الله سبحانه وتعالى، وأبطل سبحانه وتعالى الباطل، وأحق الحق بكلماته، وسجد السحرة وآمنوا، واخترع فرعون المآمرة الوهمية التي اتفقوا عليها ضد موسى، ومع ذلك وجد من يطيعه في قتل السحرة، وإن كان لا يستطيع أن يمس موسى صلى الله عليه وسلم، مع أن البديهي في مؤامرة كهذه لإخراج أهل البلاد منها، أن يكون كبيرهم الذي دبر معهم هذا المكر على رأس المقتولين، ولكن من العجب يعرض عن موسى عليه السلام، ويصب غضبه على السحرة الذين كفر الله عز وجل عنهم سيئاتهم وخطاياهم وجعلهم في آخر النهار شهداء بررة، بعد أن كانوا في أوله سحرة فجرة كذبة، وهو سبحانه وتعالى أعلم بعباده، يختم لمن شاء بخاتمة السعادة، ويختم لمن شاء بخاتمة الشقاوة، حيث قضى السحرة عمرهم كله في عمل أهل النار والكفر والشرك بالله، والصد عن سبيل الله والتزيين لعبادة فرعون، وطلب الأجر والقرب منه والعياذ بالله، ثم في لحظات تحول الأمر، وكتب الله عز وجل لهم النجاة، وذلك لما اختاروا الإيمان أول ما ظهر لهم، وقذف الله عز وجل في قلوبهم حب الخير، وقذف في قلوبهم البصيرة التي أبصروا بها الدار الآخرة وبقاءها ودوامها، وألقى الله عز وجل في ظل كلام فرعون الذي يتهددهم به ما ثبتهم سبحانه وتعالى، وذلك بعد أن توعدهم بأنواع العذاب والنكال، وقال في خاتمة كلامه: {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} [طه:71]. وكان في هذا من التثبيت العظيم لهم، ومعرفتهم أن الله هو أشد عذاباً، وأنه سبحانه وتعالى خير وأبقى، فلذلك اختاروا أن يتحملوا عذاب الدنيا، وأن يصبروا على آلامها والتي لا تبقى كثيراً بلذتها وألمها، ويبقى بعد ذلك عمل الإنسان قريباً له في برزخه، ثم ملازماً له في بعثه ونشوره، فلذلك قالوا ما لم يكن يخطر لهم قبل على بال حينما قال لهم فرعون: {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى * قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا} [طه:71 - 72] أي: لن نؤثرك على الهدى الذي جاءنا والبينات، ولن نؤثرك على الذي فطرنا سبحانه، فانتبهت قلوبهم إلى معان لم تكن تنتبه إليها، واستيقظت إلى حقائق لم تكن تنظر إليها، إلى بداية الأمر وإلى نهاية الأمر كذلك: {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} [طه:72 - 76]. معانٍ لم تكن تطلع عليها القلوب، ولكن أيقظها الله وأحياها حين استجابت للإيمان، فبادر يا عبد الله! إلى الاستجابة إلى أمر الله، فإنه سبحانه وتعالى يحب من استجاب لأمره أول ما ظهر له نور التنبيه، وأول ما حصل له من يقظة القلب، فالله عز وجل يضاعف لعبده العطايا والمنن إذا استجاب لأمر الله، وإلا فإنه يحرم التوفيق كما حرمه فرعون، وكما حرمه آله وجنوده وأعوانه وأهله وعامة أهل بلده، قال الله سبحانه وتعالى بعد أن ظهرت الآيات وقامت الحجج: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ} [يونس:83] أي: إلا شباباً من قومه من أهل مصر، من قوم الدعوة الذين دعاهم موسى عليه السلام، والأظهر في أن (قومه) هنا المقصود بهم: أهل مصر، وإلا فأكثر بني إسرائيل كانوا مع موسى صلى الله عليه وسلم كما دلت عليه الآيات: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ} [الأعراف:138] فأكثر بني إسرائيل كانوا قد آمنوا بموسى، وإنما القلة كانت من أهل مصر رغم ظهور الآيات، كمؤمن آل فرعون وغيره من شباب مصر في ذلك الوقت، والذرية: الشباب، وهذا يؤكد أن الشباب دائماً هم أمل الأمم، وهم الذين يستجيبون للحق أول من يستجيب، وعليهم مسئولية عظيمة رغم العقبات التي في طريقهم.

ابتلاء الله للمؤمنين دليل على حبه لهم

ابتلاء الله للمؤمنين دليل على حبه لهم قال: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ} [يونس:83]، لم يكن الإيمان مع الأمان، ولم يكن الإيمان مع سهولة الطريق، ولم يكن هذا الإيمان مع وجود مرغبات، بل مع وجود الخوف من الفتنة، {عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلإهِمْ} [يونس:83] وهذا دليل على أنهم من أهل مصر؛ لأن الملأ من بني إسرائيل كانوا مع موسى عليه السلام، أما الملأ الذين خافوا الفتنة فهم ملأ فرعون الذين استجابوا للحق رغم تعرضهم للمخاطر، وهذا الإيمان الذي يكون مع العقبات والتهديدات ثوابه عند الله سبحانه وتعالى من أعظم الثواب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد أخفت في الله وما يخاف أحد، ولقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد). فهو يبين فضله صلى الله عليه وسلم لنعلمه، ويبين فضل من أخيف في الله سبحانه وتعالى فصبر، وفضل من أوذي في الله سبحانه وتعالى فصبر، هذا الإيمان رغم العقبات، وهذا العمل الصالح الذي من أجله قدر الله عز وجل وجود من يفتن أهل الإيمان؛ لأنه يحب سبحانه وتعالى أن يظهر من أهل الإيمان آثار حبهم لله عز وجل، وآثار إيثارهم له عز وجل على من سواه، وآثار خوفهم منه سبحانه وتعالى دون من سواه، رغم أنهم يخوَّفون بأنواع الأذى والاضطهاد، ويقع في قلوبهم ما يقع من الخوف الفطري من هذه الأمور المؤلمة، ومن الفتن والعذاب والقتل وانتهاك الحرمات، وقد تهدد فرعون مرة أخرى بعد ظهور الآيات: {قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف:127]، ولقد فعل ذلك بالمقربين منه، فمما ذكر: أنه ممن قتلهم بأشنع القِتْلة امرأته المؤمنة، وكذلك فعل بمن آمن، ومع ذلك فاستجاب المؤمنون وعلموا أن ذلك من حكمة الله سبحانه وتعالى.

تخويف المؤمنين وتهديدهم من أسباب زيادة إيمانهم

تخويف المؤمنين وتهديدهم من أسباب زيادة إيمانهم في قدرته عز وجل أن يؤمن أهل الإيمان على الدوام، وهو سبحانه وتعالى قدر الابتلاء بشيء من الخوف؛ لتظهر عبودية الصبر، وعبودية التصديق واليقين بوعد الله، واليقين باليوم الآخر، وأنواع الإيمان والإسلام والإحسان، قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155 - 157] فإذا وجدتَ الطريق إلى الله سبحانه وتعالى عليه مخاوف وعقبات فاعلم أن ذلك لك، وأن ذلك لمصلحتك، لتزداد إيماناً وإسلاماً، كما قال سبحانه وتعالى عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:172 - 173]. ما إن قالوا لهم: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، حتى كان ذلك سبباً لزيادة الإيمان، فالله عز وجل جعلهم يزدادون إيماناً عندما قالوا لهم: فاخشوهم، وعقب بالفاء: ((فَزَادَهُمْ إِيمَانًا)) وسرعان ما يزداد الإيمان مع هذه التهديدات التي يريدون بها الصد عن سبيل الله، لكنها تدفع المؤمن إلى اللجوء إلى الله عز وجل، والتوكل عليه والاحتساب، وتدفعه إلى أن يتذكر أمر الآخرة، ويزداد عبادة لله عز وجل من صلاة وركوع وسجود وصيام وغير ذلك، فيزداد إيماناً مع إيمانه، وكذلك يحضر في قلبه معاني الإيمان كأنه يراها بعينيه، فهو يعبد الله كأنه يراه فيزداد إحساناً، فعند ذلك ينتقل إلى مراحل أخرى وأطوار أخرى بفضل الله، قال تعالى: ((فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ)). إذاً: لا تتوقع أن تجد الطريق إلى الالتزام مفروشاً بالورود، ولا تنتظر أن يكون من حولك معيناً لك على أسباب الخير، ولا تعلق التزامك على أن تجد الطريق آمناً، بل ستجد فيه من المتابعة، والمخاوف، والمضارة ما يزيدك بفضل الله عز وجل إيماناً، كما قال سبحانه وتعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} [الشعراء:52] فلتعلم أنك تسير في طريق وسوف يطلبك غيرك فيه ويتابعونك؛ ليردوك ويصدوك، فلن تجد الطريق إلى الجنة مفروشاً بالورود، وإنما كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات) فالجنة حفت بالمكاره حتى ظن جبريل أو خشي جبريل ألا يدخلها أحد، وحفت النار بالشهوات حتى خشي جبريل ألا ينجو منها أحد، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الكبر سبب في هلاك صاحبه

الكبر سبب في هلاك صاحبه قال تعالى: ((وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ)) متكبر والعياذ بالله، وهذه بداية نهايته، وهذه الأوصاف التي ذكرها الله عز وجل من الكبر والإسراف في الفساد موجودة فيه: ((وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ)). وهذه مقدمة لبيان هلاكه، واستحقاقه العذاب في الدنيا والآخرة، وهكذا جزاء كل عال متكبر، وجزاء كل مسرف في معصية الله ومخالفة رسله، وإذا وُجد الكفار والظلمة والمنافقين قد أسرفوا وتوسعوا في الإسراف، وزادوا في الكفر والفسوق والعصيان، فذلك؛ لأن الله يريد أن ينتقم منهم، ويريد أن يصيبهم بعذاب من عنده سبحانه وتعالى.

من شروط صحة الإيمان التوكل على الله

من شروط صحة الإيمان التوكل على الله قال تعالى: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [يونس:84]. هذا الدور العظيم الذي يقوم به نبي الله موسى، والذي يجب أن يقوم به المؤمنون في تواصيهم بالحق، وإن من أعظم التواصي بالحق الذي أمر الله عز وجل به: التواصي بالتوكل على الله، وهو شرط في الإيمان وشرط في الإسلام، أو بالحقيقة هو ركن من أركانهما، بمعنى: أنه لا يصح إيمان عبد إلا بالتوكل على الله سبحانه وتعالى، وكذلك إسلامه الظاهر والباطن إسلامه الكامل، وهذا من المواطن التي اجتمع فيها الإيمان والإسلام، وكانا بمعنى واحد ((وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا)) أي: عليه وحده، واحتسبوا عند الله سبحانه وتعالى توكلكم ذلك، وهذا الذي يجب أن تهتموا به في مواجهة ما يكيد به فرعون، وما يفتن وما يخطط وما يدبر، فالتوكل على الله خصوصاً عند انعدام الأسباب، كما قال عز وجل مبيناً قول موسى: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128]، {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [يونس:84]. فموسى عليه السلام يوحي في قلوبهم، ويجدد في قلوبهم معاني الإيمان والإسلام، وهذا التوكل على الله سبحانه وتعالى هو: اعتقاد بأن الله وحده النافع الضار المعطي المانع الخافض الرافع القابض الباسط مالك الملك المحيي المميت وحده لا شريك له، فلا يملك الناس لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، ولا يملكون ذلك لغيرهم، ولا لأنفاسهم التي تتردد، وقلوبهم التي تنبض، والدم الذي يجري في عروقهم، كل ذلك لا يملكون منه ذرة، ولا يستطيعون استمراره ولا إيقافه، ولو حصل لهم من ذلك شيء، بأن يتوقف وينتهي ما استطاعوا دفعه، وهذا أمر بديهي لا ينكره عاقل، فلا يوجد من يقول: أنا الذي أجعل القلب يدق، ولا يوجد من يتصور أنه هو الذي يجري الدم في عروقه، ومع ذلك فأكثر الناس في غفلة عن هذه العقيدة التي هي أوضح من شمس النهار: أن الله وحده هو النافع الضار، ثم العمل بناء على هذا الاعتقاد في كمال الوثوق بالله عز وجل، وفي جلب مصالح الدين والدنيا والآخرة، ودفع المضار عن العبد في دينه ودنياه وآخرته، وهذا التوكل على الله عز وجل من أعظم صوره التوكل عليه في أمر الآخرة، ثم التوكل عليه سبحانه وتعالى في هداية الخلق، ليس فقط في تحقيق عبودية نفسك، فتتوكل عليه في خاصة نفسك، بل تزيد إليه أن تتوكل عليه في تحقيق العبودية في الأرض لله سبحانه وتعالى، وتتوكل عليه في نصرة الدين، وهذا هو توكل الأنبياء والأولياء خاصة، وإن توكل أنبياء الله عز وجل في أن ينصر الله عز وجل دينه رغم انعدام الأسباب التي بأيديهم، ورغم ضعفهم وعجزهم، لهو من أعظم الأسباب التي يقويهم الله عز وجل بها، ويعينهم بإرادته على كسر الجبارين، وفي التمكين للمستضعفين، فهي إرادة ماضية لا يقف شيء أمامها، فتمضي حيث يشاء سبحانه، وحين يشاء سبحانه وتعالى.

نصر الله لبني إسرائيل وجعلهم أئمة يقتدى بهم في الخير

نصر الله لبني إسرائيل وجعلهم أئمة يُقتدى بهم في الخير قد بين سبحانه وتعالى استجابة بني إسرائيل لدعوة موسى بالتوكل على الله، وفهموا مفتاح الخير الذي دلهم عليه موسى صلى الله عليه وسلم، وهم يرون أمامهم عظيم التوكل على الله، فلا يخافون في الله لومة لائم، ويكثرون من الدعاء والتضرع: {فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [يونس:85 - 86]. فصاروا أئمة في تعليم الناس هذا الخير العظيم، وصار منهم أئمة يعلمون أهل الإيمان على الدوام كيف يدفعون فتنة الظالمين والكافرين، وكيف يتحملون أنواع البلايا والمحن متوكلين على الله عز وجل: ((فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا)). وذلك لأن المحن تزيد الإيمان، وانعدام الأسباب الذي قد يتألم منه المؤمن هو في الحقيقة لمصلحته، فإن عامة قلوب البشر تتعلق بالأسباب، فمن رحمة الله عز وجل أن يقدر لهم مراحل من سيرهم، ومن دعوتهم، وفي صراعهم مع عدوهم أن تنعدم الأسباب، وذلك حتى تخلص القلوب لله: ((عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا)). فقدم الجار والمجرور؛ للاختصاص وللاهتمام، ولأنه لا يوجد سبب يأخذون به، وفرعون متسلط أعظم التسلط، فقد حصرهم قبل ولادتهم، وقد أحاط بهم هو وجنوده، وجنوده والعياذ بالله مطيعون طاعة تامة مهما كانت الأوامر، ظاهرة في الظلم والطغيان والكذب والباطل، فقد وجد من يصدقه في أنه الرب الأعلى، ووجد من يصدقه في أنه لا يوجد لهم إله غيره، ووجد من يبني له الصرح؛ لعله يبلغ السموات ليطلع إلى إله موسى، ووجد من يقتل له السحرة، فهم كما قال الله عز وجل عنهم: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف:54]. فالفسق هو الذي أدى بهم إلى ذلك، وكثرة الخروج على شرع الله سبحانه وتعالى، والمداومة على ذلك أدى إلى هذه النوعية العجيبة من البشر الذين يطيعون حتى في الدخول إلى البحر المنفلق أمام أعينهم بعصا موسى، فعجباً لهؤلاء القوم! ماذا يصنع الفسق بأصحابه؟! ماذا تصنع المعاصي؟! ماذا تصنع بهم من طمس البصائر وانعدامها بالكلية والعياذ بالله؟! وانعدام الفهم، والفسق يؤدي بهم إلى الطاعة العمياء، والتقليد الذي لا نظير له في حياة البشر، نعوذ بالله من ذلك، فهذا كله من شدة الأمر على بني إسرائيل، وهذا لمصلحتهم لتحقيق كمال التوكل: ((عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا)) ثم دعوا ربهم هذا الدعاء العظيم: ((رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)). التفسير فيها على وجهين، الوجه الأول: ربنا لا تجعلهم يفتنوننا، وهذا موافق للسياق من أوله؛ لأنهم على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم، فإذا كان أهل مصر على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم، وهم من قومهم ومن جلدتهم فكيف ببني إسرائيل؟! لا شك أنهم أشد خوفاً، وهم يخافون أن يفتنهم فرعون وجنوده. الوجه الثاني: ربنا لا تجعلنا فتنة لهم، أي: لا تجعلنا إذا هزمنا وقتلنا وفشلنا سبباً لفتنتهم هم، وسبباً لظنهم أنهم على الحق، فإن أكثر الأمم يظنون أن الحق هو الانتصار، ولذلك يكونون تبع المنتصر القوي، حتى ولو كان باطله أظهر من شمس النهار، وحتى لو كان ظلمه وعدوانه لا يتنازع فيه اثنان، ولكن أكثر الناس عندهم الحق هو القوة، وأن من غلب فهو صاحب الحق، والمغلوب محقوق وظالم ومجرم يستحق أنواع العقاب، وهكذا عند الناس، فإذا هزم أهل الحق كان ذلك سبباً لفتنة أهل الباطل، فهذا وجه حسن في التفسير بمعنى: أنهم يخافون أن يصيروا فتنة للقوم الظالمين، أي: أن يكونوا سبباً لفتنتهم، سبباً لبقائهم على الكفر، يقولون: لو كان هؤلاء على الحق لما انتصرنا عليهم، وطالما أننا انتصرنا عليهم فهم على باطل، فيظنون أنفسهم أنهم على الحق، فيفتنون أمماً وأجيالاً تلو أجيال ونعوذ بالله من ذلك، وكلا المعنيين في تفسير الآية صحيح، فالمؤمنون يحتاجون إلى أن يثبتهم الله حتى لا يفتنوا، لأن التثبيت ليس من عند أنفسهم، فالتثبيت من الله، فهو سبحانه مقلب القلوب، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه: (اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني، أنت الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون). فيتوسل النبي صلى الله عليه وسلم بأنواع التوسلات إلى الله عز وجل كالإلهية، وبأنه سبحانه وتعالى الحي الذي لا يموت، وبأن الخلق ضعفاء، ويتوسل بالإسلام، وبالإيمان، وبالتوكل، وبالإنابة، وبالمخاصمة لله عز وجل، وبه سبحانه وتعالى؛ حتى لا يضله الله، ويتوسل بعزة الله (أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني، أنت الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون) فإذا كان هذا توسل النبي صلى الله عليه وسلم واستحضار حاجته إلى التثبيت، وقد قال الله عز وجل له: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء:74]، فكيف بحاجتنا عباد الله، وليس لنا من العصمة ما للنبي عليه الصلاة والسلام؟! إن حاجتنا إلى أن يثبتنا الله، وأن ينجينا من الفتن، وأن يهدي قلوبنا حتى نلقاه مؤمنين، لهو أشد من حاجة الغريق الذي يغرق، ولا أحد يغيثه إلا ربه سبحانه وتعالى، فهو يتوسل إليه ويستغيث به موحداً له، ولو أشرك في غيره من المواطن، فالله سبحانه وتعالى يريد منا أن نوحده بالاستغاثة والاستعانة واللجوء إليه، والتثبيت إنما هو منه سبحانه وتعالى، فهو مقلب القلوب، فاللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم يا مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك. وأما المعنى الثاني وهو: خوف الفتنة على الناس، فهو معنىً عظيمٌ في قلب الداعي، حيث أنه ليس فقط يبحث عن مستقبل نفسه ونجاته وتثبيته، بل يبحث عن مستقبل أهل الأرض، ولا يريد أن يفتن الناس، ولا يريد أن تكون هزيمة أهل الحق سبباً لبعد الناس عن الدين، فهو يريد أن يهتدي الخلق، وأن يظهر الإسلام، ويظهر الحق ليس فقط لكي يستمتع بالنصر والتمكين، أو يستريح بعد العناء، أو ليجد لذة ونعمة الأمان بعد الخوف، وإنما يريد أن يظهر الحق، وأن يعلو الإسلام ليؤمن الناس؛ وليدخلوا في دين الله أفواجاً، وليهتدي من شاء الله سبحانه وتعالى له أن يهتدي، فالله عز وجل جعل قلوب المؤمنين خير القلوب، وإن خير أمة أخرجت للناس هي أمة محمد صلى الله عليه وسلم، يريدون الخير للناس، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويؤمنون بالله، فهم خير الناس للناس، يودون أن يهتدي الخلق، وأن يعرفوا ربهم عز وجل قالوا: {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ} [يونس:85 - 86]. فنحن لا ننجو بحسن تدبيرنا، ولا بتخطيطنا، ولا بذكائنا، ولا بأعمالنا، وإنما برحمة الله {وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ} [يونس:86]. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين! اللهم أنج المستضعفين من المسلمين في كل مكان. اللهم فرج كرب المكروبين، وفك أسر المأسورين، وارفع الظلم عن المظلومين، اللهم انصر المجاهدين والدعاة إليك في كل مكان، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا. اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا، اللهم إنا نسألك بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق، أحينا ما علمت الحياة خيراً لنا، وتوفنا ما علمت الوفاة خيراً لنا، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الفقر والغنى، ونسألك نعيماً لا ينفد، ونسألك قرة عين لا تنقطع، ونسألك برد العيش بعد الموت، ونسألك الرضا بعد القضاء، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين.

وإبراهيم الذي وفى

وإبراهيم الذي وفى لنا في سلفنا الصالح من الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين أسوة حسنة في طريق الدعوة إلى الله. ومن هؤلاء الذين نقتدي بهم ونقتبس من أنوارهم إبراهيم عليه السلام، فقد كان إماماً في الدعوة والجهاد والصبر والتضحية، وفي سيرته العطرة عبرة للمعتبرين، ونور في طريق الدعاة العاملين، وتسليةٌ لمن ابتلاهم الله عز وجل بظلم الظالمين وحقد الحاقدين.

إبراهيم إمام للناس في مقام الدعوة

إبراهيم إمام للناس في مقام الدعوة إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وسلم. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فقد جعل الله عز وجل إبراهيم عليه السلام إماماً للناس في مقامات متعددة: في مقام الإخلاص لله عز وجل، والتوحيد والبراءة من الشرك، والدعوة إلى الله، والتضحية والبذل في سبيل الله عز وجل، والصبر والاحتساب، فهذه مقامات وغيرها كثير من أجلها وصف الله عز وجل إبراهيم بأنه وفى، فقال: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم:37]، وقال عز وجل: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة:124]، فقد أتم ما أمره الله عز وجل به في كل ما تكلم به سبحانه. ومن أهم هذه المقامات التي ينبغي أن نتوقف عندها كثيراً لنأخذ منها نوراً على طريقنا، ولنأخذ منها العبر والعظات: مقام الدعوة إلى الله عز وجل، وهو مقام يتضمن عبوديات مختلفة، منها: الغضب لله سبحانه وتعالى، والصبر على ما يصيب الإنسان في سبيل الله، والتوكل التام، والتضحية بالنفس والمال والوطن والأهل والعلاقات الاجتماعية في سبيل إعلاء كلمة الله، وحسن الظن بالله، واليقين بوعده، والثقة به سبحانه وتعالى. قال عز وجل في بيان دعوة إبراهيم لأبيه وقومه {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ * قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ * فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ * قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ * قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ * فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ * قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ * قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} [الأنبياء:51 - 73].

تمكين الله لإبراهيم من العلم والعمل

تمكين الله لإبراهيم من العلم والعمل أتى الله عز وجل إبراهيم رشده من قبل، أي: من أول نشأته -على أحد الوجهين- أو من قبل موسى وهارون اللذين سبق ذكرهما قبل ذلك في سورة الأنبياء، فآتى الله عز وجل إبراهيم رشده وفهمه وعلمه من أول نشأته، وهذه فضيلة لمن نشأ في طاعة الله عز وجل وعلى دينه، وذلك كما قال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عندما تناظروا في السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، فقال بعضهم: لعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: لعلهم الذين ولدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئاً، وذكروا أشياء غيرها، فدل ذلك على أن من ولد في الإسلام فقد أتم الله عز وجل عليه نعمته، وجعله من أول نشأته على الهداية والفطرة المستقيمة، فهذه نعمة لا يقدرها كثير من المسلمين، ولا يرون فضل الله عز وجل العظيم عليهم في ذلك؛ لأنهم لم يقارنوا بينهم وبين غيرهم ممن لم يؤت رشده، ولم يهد إلى الصراط المستقيم في أول نشأته. والله سبحانه وتعالى يحب الشاب الذي ينشأ في عبادة الله، وإنها لفرصةٌ عظيمة أن تنشأ في ظل هذا الدين بفضل الله، وأمامك هذا الالتزام الميسر بالدعوة والمنهج الحق، والسنة بفضل الله ميسرة لمن طلبها وسلك سبيل تعلمها والتزامها، فما أكثر من يعرض عن نعمة الله فلا يشكرها، فلا تكن من هؤلاء، واعلم أن من فضل الله عليك سرعة الالتزام في أول النشأة، فهو من أعظم ما يهيئ لك الاستمرار على الالتزام على الخير من العلم والعمل الصالح في مستقبل العمر، فإن من حفظ جوارحه لله في شبابه حفظها الله عليه في آخر عمره (هكذا وصى النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس وهو غلام حيث قال له: احفظ الله يحفظك). وإيتاء الله إبراهيم رشده من أول نشأته فيه ردٌ على من يفسر نظر إبراهيم في النجوم على أنه كان يبحث عن الله عز وجل، فإبراهيم كان على الفطرة السوية المستقيمة من أول نشأته، وكيف يتسنى له أن يبحث عن الله وهو يجزم لأبيه وقومه أنهم في ضلال مبين؟! فهو إنما كان يناظر قومه؛ لأن الله آتاه رشده من أول نشأته، وهو عز وجل عليم يضع الأشياء في مواضعها، فيضع الهدى في من يستحق أن يكون من المهتدين، ويضع الشكر في من يستحق أن يكون من الشاكرين الذين يقبلون نعمة الله عز وجل، والله سبحانه قسم الأرزاق والأخلاق والأعمال والأقوال بعلمه وحكمته، فوضع البذر الطيب في الأرض الطيبة، ووضع البذر الخبيث في الأرض الخبيثة، وهو سبحانه وتعالى أعلم بالشاكرين، وأعلم بالظالمين، وأعلم بمن هو أهل لرسالته، فلقد قسم سبحانه فضله على عباده المؤمنين بعلمه السابق، وبرحمته وحكمته، فلا يعترض عليه أحد، فهو لا يسأل عما يفعل وهم يسألون؛ لأنه لا يفعل شيئاً إلا بعلم وحكمة.

محاجة إبراهيم عليه السلام لقومه

محاجة إبراهيم عليه السلام لقومه قال الله تعالى: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء:52]، فهو يسأل سؤال استنكار واستقباح لما يفعلونه من الاعتكاف وملازمة عبادة التماثيل، وهي إفك باطل مصنوع، كما قال في الآية الأخرى: {أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:86 - 87]، فدل ذلك على أنه يعرف الله عز وجل بأنه الحق، وأن ما يدعى من دونه هو الباطل، قال: ((مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ))، أي: ما هذه الأصنام التي تصنعونها، وكانت تتخذ عندهم رموزاً لأنواع النجوم، فصاروا يعبدون هذه الأوثان من دون الله عز وجل. إن هذه الأصنام قد أضلت كثيراً من الناس، وعبادتها قديمة جداً من عهد نوح عليه السلام، وهو أول زمن وقع فيه الشرك على هذه الأرض من بني آدم؛ وذلك بسبب الغلو والإفراط في محبة بعض الصالحين -وهذا سبب في ضلال الناس في الواقع الذي نعيشه- وبسبب بعدهم عما أوحى الله عز وجل من تفسير لهذا الوجود، وأنه خلق من خلق الله، فكان قوم إبراهيم يعبدون هذه الأصنام والتماثيل والأوثان على أنها ترمز للنجوم التي جعلوها وسائط بينهم وبين ربهم فعبدوها من دون الله. قال: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} [الأنبياء:52 - 53]، وهكذا أهل الباطل حجتهم التقليد بلا حجة بينة، والشرك لا تقبله الفطر، ولا تسلم به العقول، ولا ترضاه النفوس، بل هو مرض وداء، لا يمر بسهولة إلى قلب الإنسان، ومع ذلك فهو أكثر انتشاراً بسبب التقليد الأعمى، فقد وجدوا آباءهم على أمة فهم على آثارهم مقتدون، ولو تأملت عقائد البشر في المشارق والمغارب لوجدت عجباً لا يمكن أن يقبله أي عقل سليم، ومع ذلك تجد ملايين البشر يعتقدون هذه الاعتقادات الفاسدة، ويربون عليها أبناءهم، وسينشأ على ذلك أجيال تلو الأجيال، وإنه لمن العجب أن البشر يعبدوا حجراً صنعوه بأنفسهم! وكيف قبل الإنسان أن يعبد حيواناً يراه بهيمة لا تنطق أمامه؟! وكيف يعبد إنساناً مثله وهو يعلم أنه كان عدماً محضاً؟! يراه يأكل الطعام، ويدخل الخلاء، ويقضي حاجته، ويحتاج إلى الهواء والماء وسائر حاجات البشر، ومع ذلك تجد الدليل دائماً: التقليد الأعمى، وهو الذي يدفع الناس إلى ذلك، كما قال عز وجل عن ملكة سبأ: {وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ} [النمل:43]، وقال سبحانه وتعالى: {فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ} [هود:109]. وهذا دائماً يدفع المؤمن إلى الحذر من التقليد المجرد عن الدليل، وأنه لا بد أن ينظر فيما نشأ عليه من قيم اجتماعية أو عادات أو تقاليد، ولا بد أن يزنها بميزان الشرع، وأن يكون مستعداً لمخالفة ما يعلم أنه خلاف الدليل، ولا يقبل إلا ما جاء به الكتاب والسنة، ولا يكون مقلداً تقليداً أعمى للآباء والأجداد، فقولهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23]، فهي ليست من حجة أهل الإيمان، وإنما هي من كلام أهل الباطل والكفر، فلا يتشبه بهم أهل الإسلام ولو في فروع دينهم، وإنما يسألون دائماً أهل الذكر عن الذكر إذا جهلوه، كما قال عز وجل: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، وأهل الذكر هم: أهل العلم، والذكر هو: المنزل من عند الله {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، فلا يُسأل أهل العلم عن رأي فلان ولا عن مذهب فلان، وإنما يُسألون عن الذكر الذي هم أهله والذي هم يعلمونه، وهذا من أوضح البيان. فالواجب على العالم أن يجتهد في معرفة حكم الشرع، لا البحث عن الآراء المتناقضة، فينتقي منها أطيبها كما يشتهي، ويزعم للناس أنه يختار لهم الرأي الأسهل، فليس هذا بالطريق المرضي، فمن تتبع رخص العلماء اجتمع فيه الشر كله، وعلى طالب العلم أن يأخذ من أقوال أهل العلم بالدليل، وعلى من لا يعلم أن يسأل أهل الذكر عما لا يعلم، فيسألهم عن حكم الشرع في أي مسألة تمر به. والواجب على كل مسلم أن يتجنب التعصب الأعمى، فلا يتبع غيره على أمر قد بانت له فيه السنة، كما قال الشافعي رحمه الله: أجمع المسلمون على أن من استبانت له السنة لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس، وإنما بين العلماء خطر التقليد حتى لا يقع الناس فيما وقع فيه الأسلاف والمتقدمون ممن عبدوا غير الله عز وجل بسبب التقليد.

الصدع بالحق للمخالفين

الصدع بالحق للمخالفين قال الله: {قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأنبياء:53 - 54]. وهذا جهر وصدع بالحق، فليس مقام الدعوة مقام مجاملة ولا مداهنة، ولا يحتمل هذا المقام أن يتكلم الإنسان بالباطل في صيغة الحق، أو أن يسكت عن بيان الضلال البين وفضيحة أصحابه، ولا يراعي جانب أنه لا يريد أن ينفرهم، فلقد نفر كثير من أقوام الرسل بسبب كلمة الرسل بالحق، وأنهم على ضلال، وسموا ذلك شتماً لآلهتهم وتسفيهاً لعقولهم، وما دفع ذلك الرسل إلى أن يغيروا أسلوب المواجهة الحاسمة للباطل، أو يسموه بغير اسمه. {قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأنبياء:54]، ذلك أن الحق لا يقوم في قلب ابن آدم إلا بهدم الباطل، والبراءة منه وعدم المداهنة فيه، وإنما يمكن للداعي إلى الله عز وجل أن يغير وسيلة الدعوة، كأن يتكلم بأسلوب يختلف عن الآخر حسب مقتضى الحال، ويمكنه أن يغير أرض الدعوة، وكان يهاجر إلى أرض أخرى، كما يمكنه أن يغير المدعوين، ويدعو غير من أعرضوا عن دعوته، ولكن لا يمكنه أن يغير الحق، ولا أن يقول الباطل، ولا أن يداهن فيما يعلم من شرع الله سبحانه وتعالى، فإنه لا بد أن يبين الباطل ويصفه باسمه، ويقول: إنه ضلال مبين. {قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} [الأنبياء:55]، وهكذا هي هذه حياة أكثر البشر؛ فيظنون أن الأمور كلها لعب ولهو، بل حتى الدين يأخذونه باللعب، كما قال تعالى: (اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا) [المائدة:57]، وقال: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} [الزخرف:83]، فأكثر الناس في لهو ولعب، وجعلوا قضية الإيمان تحتمل المزاح والسخرية، واللهو واللعب، بل جعلوا قضية الموت والحياة، وما أخبر الله به من البعث والنشور، وتصديق الأنبياء واتباع كتاب الله عز وجل لعباً، ولذا قالوا لإبراهيم: ((أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ))، فهم تعودوا على أن يجعلوا أمر الدين لهواً ولعباً، بل إن كثيراً منهم يأخذ من الدين ما يشتهيه. فاحذر أيها المسلم! أن تكون على هذا الطريق ولو في جزئية من جزئيات حياتك، فإن تعظيم شرع الله عز وجل وتعظيم أوامره لازم من لوازم الإيمان، بل جزء من أجزائه لا يحصل الإيمان بدونه.

بيان الإله الحق المستحق للعبادة

بيان الإله الحق المستحق للعبادة قال الله تعالى: {قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [الأنبياء:56]، فبعد أن بين ضلال ما هم عليه صرح بالحق حتى يكون الحق مبنياً في القلوب على طهارة، فيبدأ بالنفي ويثني بالإثبات، فيقول: لا إله إلا الله، أي: يتبرأ من الشرك وأهله، ثم يثبت التوحيد لله، كما قال عز وجل: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا} [الزخرف:26 - 28] أي: جعلها الله عز وجل، {كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [الزخرف:28]، أي: أن كلمة لا إله إلا الله باقية في نفس إبراهيم، ولا يزال في عقبه ونسله من يقولها، فلم تمح دعوة التوحيد من ذرية إبراهيم عليه السلام، وإن كان الشرك قد طرأ على كثير من ذريته، لكن بقي فيهم من يوحد الله عز وجل. فهذا درس عظيم من دروس الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، ومقام قد ضيعه كثير ممن ينتسب إلى الدعوة والدين والعلم، فيداهن أهل الباطل ولا يصرح بباطلهم، وربما اكتفى بالتصريح ببعض الحق دون أن يبين الباطل. قال الله تعالى: {قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ} [الأنبياء:56]، وهذا استدلال على توحيد الألوهية بتوحيد الربوبية، فمعنى فطر السموات والأرض أي: خلق السموات والأرض على غير مثال سابق، وهو أوضح دليل على استحقاق الرب عز وجل العبادة. ومن معاني الرب: الإله أيضاً، ((بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ))، أي: الذي يستحق أن يعبد هو ((رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ)). قوله تعالى: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} [الأنبياء:57]، أقسم إبراهيم بالله أن يكيد الأصنام، فهو يريد هدمها في نفوسهم ويريد هدمها في حقيقة الواقع، وإن كانت إرادة هدمها في النفوس مقدمة على هدمها في حقيقة الواقع، ولذا كاد إبراهيم هذه الأصنام بأن نظر نظرة في النجوم {فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89]، لينشغلوا عنه ويتركوا أخذه معهم إلى عيدهم، قال: إني سقيم منكم، أو سأسقم، أي: سأمرض قبل الموت، ولابد من أحد هذه الأنواع للتعريض. فكان ذلك حتى يتسنى له أن يخلو بالأصنام، ودخل البهو الكبير الذي قد وضعت فيه، وقد جعلوا أمامها طعاماً قربوه إليها لأجل أن تبركه تلك الآلهة المزعومة، وعجباً لهم يرونها أحجاراً صماء، ومع ذلك يتركونها وحدها لتبرك ذلك الطعام، فقال لها إبراهيم مستهزئاً ساخرًا: {أَلا تَأْكُلُونَ} [الصافات:91]، حتى تنفي عن نفسها نقيصة الأكل، فإن الأكل في الحقيقة علامة على الحاجة والضعف والفقر، ثم قال: {مَا لَكُمْ لا تَنطِقُونَ} [الصافات:92]، فعند ذلك راغ وأسرع عليهم ضرباً باليمين؛ لأنها أقوى، قال سبحانه وتعالى: ((فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا))، أي: فتاتاً وقطعاً صغيرة، ((إلا كبيراً لهم لعلهم إليه يرجعون)) ولقد ترك إبراهيم الصنم الكبير، مع أن الغرض هو تكسير الأصنام كلها في الواقع، وكان الأولى بالتكسير هو الصنم الكبير، ولكن إبراهيم تركه لكي يتمكن من إزالة المنكر الأكبر الذي هو الشرك الذي تعلق في القلوب. فلا يكفي أن تكسر صنماً أو وثناً، وتظل القلوب متعلقة به، فإنك في الحقيقة لم تغير شيئاً، وسوف يعبدون صنماً بدلاً منه، فلا يهدم الشرك إذا لم تهدم هذه الأصنام في القلوب، وهذا فيه دليل على مراعاة المصلحة والمفسدة في قضية الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وأنه يجوز ترك بعض المنكر للتمكن من إزالة ما هو أكبر منه، لا رضاً بالمنكر ولا إقراراً به، ولكن إثارة لعقول البشر في إزاحة الباطل عنهم كما فعل إبراهيم عليه السلام، وكذلك حتى يتسنى له أن يقيم عليهم الحجة التي يتمكن بها من هدم الباطل في قلوبهم، وهذا هو الغرض المقصود، وسواء تحقق أو لم يتحقق، ولذا كان الذي عليه النبي صلى الله عليه وسلم طيلة ثلاث عشرة سنة هو أن يدعو إلى الله ويهدم الباطل في النفوس، ولم يكسر صنماً من أصنام المشركين، وذلك لأن الله سبحانه وتعالى كان قد فتح عليه من جوامع الكلم ما يقيم به الحجة دون كسر الأصنام، وعندما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة في عمرة القضاء بعد صلح الحديبية، والأصنام حول الكعبة منصوبة، فلم يكسرها صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يراعي العهد الذي دخل به مكة، فأراد أن يفِ بالعهد ولا ينقضه، ثم لما دخلها فاتحاً بفضل الله كسر تلك الأصنام، وجعل يشير إليها وهو يقول: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81]، والأصنام تتساقط على وجهها. فهكذا تنمو دعوة الحق بفضل الله، وليس هذا باختلاف بين منهج إبراهيم ومنهج النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو منهج واحد وطريقة واحدة، وإنما كسر إبراهيم الأصنام لا لمجرد إزالتها، بل ليقيم عليهم الحجة، والحجة تتنوع، وهذا اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، فقد يحلو للبعض أن حكمة النبي صلى الله عليه وسلم كانت أتم من حكمة إبراهيم، وليس الأمر كذلك، بل إبراهيم إمام الأنبياء، وقد أُمر النبي صلى الله عليه وسلم باتباعه واتباع ملته، وإنما هو اختلاف في أنواع الحجج التي يراد إقامتها، وقد سبق أن إبراهيم ترك الصنم الكبير حتى يقيم الحجة عليهم ((لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ))، فيتنبهوا إلى عجز تلك الأصنام وفقرها وحاجتها، والطريق واحد بفضل الله سبحانه وتعالى، وعلى الدعاة إلى الله عز وجل أن يوازنوا في أنواع إقامة الحجة والبيان على من يدعونهم، ويختاروا المناسب من ذلك في كل وقت، ولا يبادروا دائماً إلى طريقة واحدة، لأنه ربما أفسدت عليهم دعوتهم. فكثير من الناس قد يستعمل من وسائل تغيير المنكر -في ظنه- ما يترتب عليه زيادة ذلك المنكر، بل ويترتب عليه تمسك الناس به أكثر، فهذا أمرُ لا بد أن نفقهه، ونعلم أن ترك بعض المنكر لغرض إقامة الدعوة إلى الله عز وجل في وسط الناس أمرٌ قد سبق إليه الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فضلاً عن أن يكون هناك عجز عن إزالة ذلك المنكر، فإنه عذر للدعاة إلى الله في عدم إزالته بين يدي الله طالما قد دعوا إلى الله، وصرحوا بأن هذا منكر، وعلى الإنسان أن يترك أرض المنكر إذا أقام الحجة، وظل الناس على باطلهم لا يقبلون الحق. نسأل الله عز وجل أن يوفقنا لما يحب ويرضى، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

إبراهيم إمام للناس في مقام الصبر والتضحية والاحتساب

إبراهيم إمام للناس في مقام الصبر والتضحية والاحتساب الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وسلم. أما بعد: فقد قال سبحانه وتعالى: {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ * قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:58 - 59]. رجع القوم من عيدهم فوجدوا الأصنام مكسرة إلا ذلك الكبير، وفي فطرتهم أن الأصنام لا تتحرك ولا تصنع شيئاً، وأنه لابد من فاعل فعل بالأصنام ذلك، فقالوا مقرين في حقيقة الأمر بعجز الأصنام، وأنها جمادات لا تصلح لشيء: ((قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا))، والإنسان قد فطر على أن كل فعل لا بد له من فاعل، وأن الجماد لا يصلح أن يكون فاعلاً، وأن هذه الأرض وما فيها وما عليها لا تصلح أن تكون فاعلاً، والعجب أن الناس يقبلون في زماننا هذا -بعد أن مكنهم الله عز وجل ما لم يمكن لمن قبلهم من أنواع العلوم والاكتشافات والقدرة- أن هذا الكون الذي أحكم وأتقن غاية الإتقان بغير فاعل، وينسبون إلى الطبيعة أنها هي التي تفعل، فإذا وجدوا الرياح تعصف بهم قالوا: غضب الطبيعة، وإذا وجدوا الأرض تتزلزل من تحتهم قالوا: اضطراب القشرة الأرضية، ألا يتعظ هؤلاء ويتذكرون أن الله عز وجل قد فطر الخلق جميعاً على أن كل فعل لا بد له من فاعل، حتى المشركون يقرون بذلك، قال الله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} [الطور:35 - 37]. فقد كانت الآيات في الماضي تأتي في كل قرن، وربما في كل سنة كالطوفان والغرق والريح المدمرة والزلازل، وجعل الله لهم أنبياء كثر، وفي آخر الزمان انقطعت النبوة، وكثرت الآيات، فلا يكاد يمر أسبوعاً إلا وترى آية من آيات الله تثبت عجز البشر جميعاً. إن الزلازل والرياح والأعاصير والأوبئة المنتشرة في المشارق والمغارب، وما يصيب البشر بأنواع العجز والضعف، كل ذلك تذكير من الله سبحانه وتعالى لهم، أفلا يعي بشر هذا الزمان ما وعاه المشركون من قبل من أن كل فعل له فاعل، وأن الأصنام -فضلاً عن الأرض التي يتحركون عليها، ولم تشكل في صورة تمثال ولا غيره- لا تصنع شيئاً؟! قال الله تعالى: {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:59]، والعجب أنهم يعرفون أن الأصنام لا تصنع شيئاً، ومع ذلك يسمونها آلهة، ويجعلون من فعل بها ذلك ظالماً، وكان البعض منهم قد سمع إبراهيم عليه السلام وهو يقول: ((تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ))، فسرعان ما أرشدهم إلى ما يبحثون عنه {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء:60]، فهذه الأمور غالباً لا تخفى، وإبراهيم ما كان يقصد الاختفاء، وإنما صنع ذلك وهو يريد أن يعلموه، فلا يتصور في مثل هذه الأمور أن تختفي، وإنما الغرض منها إقامة الحجة ((قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى))، أي: شاباً، وهذا دليل على أن الشباب عليهم دور عظيم في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وأن مقام إبراهيم عليه السلام -وهو فتى شاب يدعو إلى الله، ويكسر الأصنام، ويقيم الحجة، ويضحي بنفسه في سبيل الله- هو الأسوة الحسنة لهم في هذه الحياة، فكذلك كان الشباب هم أتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وكذا كانت الذرية من أتباع موسى صلى الله عليه وسلم، كما قال عز وجل: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ} [يونس:83]، أي: الشباب، وهكذا فليكن كل شباب المسلمين دعاة إلى الله عز وجل؛ طلاب علم عاملين بالحق، نافعين لأمتهم، يقومون بالحق ويجهرون به، ويدعون إلى الله، ويضحون في سبيل الله. {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ} [الأنبياء:60 - 61]، أي: على مشهد من الناس ((لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ)) فعقدوا له محاكمة هي في الحقيقة محاكمة جائرة ظالمة، لكنهم يزعمون التثبت {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ} [الأنبياء:62 - 63]، وهذا تعريض منه عليه السلام؛ فإن كانوا ينطقون فقد فعله كبيرهم، وإلا فهم لا ينطقون. قال عز وجل: {فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} [الأنبياء:64]، إذ تركتم الأوثان دون حراسة، وهي تحتاج إلى حراسة وحماية ((ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ)) أطرقوا وراجعوا عقولهم، ففهموا ما أراد إبراهيم عليه السلام، وعلموا أنه أراد أن يرشدهم إلى عجز ذلك الصنم عن النطق فضلاً عن غيره، ومع ذلك انتكسوا ولم يقبلوا الحق الذي ظهر لهم من أنها لا تصلح أن تعبد، ولا تصلح أن تكون آلهة. قال عز وجل: {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ} [الأنبياء:65]، أنت تفهم ونحن نفهم أنها أصنام، ولا تستطيع صنع شيء {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنبياء:66 - 67]، غضب لله عز وجل، وظهرت غضبته في هذه الكلمات، وذلك في التأفف منهم، وبيان باطلهم، والغضب مما يعبدون من دون الله، والبغض والكراهية لهذه العبادة الباطلة، ثم قال لهم: ((أَفَلا تَعْقِلُونَ)). وبعدها صدر الحكم الجائر رغم عدم ثبوت التهمة، ولكن ثبت أن إبراهيم يكره عبادة الأصنام ولا يقرها: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ} [الأنبياء:68]، فأوقدوا ناراً عظيمة نذروا لها النذور، وجمعوا لها الحطب حتى أنهم لم يستطيعوا الاقتراب منها، وجعلوه في المنجنيق ليرموه من بعيد {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ} [الصافات:97]، أي: في النار، وكان الأمر من الله عز وجل أسبق وأعلى من أمرهم، وأراد الله عز وجل أن يضرب بإبراهيم الأسوة الحسنة في التوكل لكل الدعاة إلى الله على ما يصيبهم في سبيل الله، فحين ألقي في النار قال: (حسبنا الله ونعم الوكيل) ولم يتوكل على غير الله، ولم يفوض أمره إلى غير الله سبحانه وتعالى، ولم يأته الفرج من أول الابتلاء، بل حبس إبراهيم مدة، وألقي مقيداً في المنجنيق، وضرب المنجنيق لينطلق إبراهيم في الهواء، فيقول: (حسبنا الله ونعم الوكيل) وفي آخر لحظة يأتي الفرج {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69]. فإذا حبست فتذكر حبس إبراهيم، وإذا قيدت فتذكر قيد إبراهيم، وإذا هددت فتذكر ما هدد به القوم إبراهيم، وتذكر توكل إبراهيم وحسن تفويضه الأمر إلى الله عز وجل وتوكله على الله، وقل من قلبك مع لسانك: حسبنا الله ونعم الوكيل، وعند ذلك يتحول الأمر بإذن الله وفضله ونعمته ورحمته وعزته وحكمته إلى الخير لعبده المؤمن {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69]، فأحرقت وثاقه وما ضره شيء من ذلك، حتى قال له أبوه فيما يذكرون: نعم الرب ربك يا إبراهيم، ذلك أنه فعل به ذلك ونجاه من النار، وكانت الأيام التي قضاها في وسط الجحيم من أحسن الأيام كما يزعمون، وهكذا المؤمن يظن الناس أنه معذب وهو في الحقيقة منعم بفضل الله ونعمته ورحمته، فقد اقترب من الله، واقترب منه الله عز وجل، فأنعم عليه بأنواع النعم، رغم ما يراه الناس حوله من ألوان العذاب. نسأل الله أن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأن يرزقنا متابعة إبراهيم ومرافقة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وخليله إبراهيم، وسائر النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين! اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم كف بأس الظالمين والكافرين والمنافقين عن المسلمين، فأنت أشد بأساً وأشد تنكيلا، اللهم لا تجعل لهم على أحد من المسلمين سبيلاً. اللهم نج المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم انصر الدعاة إليك في كل مكان، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان. ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا من مصائب الدنيا، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا.

وجاوزنا ببني إسرائيل البحر

وجاوزنا ببني إسرائيل البحر إذا ضاقت السبل، وانقطعت المسالك، وفقد الناس الأمل، أتى الرسل والأنبياء ليثبتوا الناس، ويعدوهم بصدق موعود الله بنصر دينه، فموسى عليه الصلاة والسلام أيقن بالنصر حين أيقن غيره بالهزيمة أو القتل، ليري الله المؤمنين آية إغراق الطاغية فرعون ومن معه، وهكذا تنتهي كل طرق الكفر والغواية.

عدم الاستعجال من أسباب إجابة الدعاء

عدم الاستعجال من أسباب إجابة الدعاء إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71] أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، أما بعد: فقال الله سبحانه وتعالى: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} [يونس:88 - 92]. لقد دعا موسى وأمن هارون عليهما السلام، والدعاء هو سلاح المؤمن الذي ينبغي أن يستعمله على الدوام، فهو لا يستغني عنه في وقت من الأوقات. وقد استجاب الله عز وجل دعوة موسى وهارون عليهما السلام فقال عز وجل موحياً إليهما: ((قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا)). وذكر غير واحد من المفسرين: أنه كان بين دعاء موسى وإيحاء الله سبحانه وتعالى لهما بذلك وبين تحقق إجابة الدعوة سنوات. والله أعلم كم كان بينهما من السنين، وقد ذكر بعضهم أنها أربعون سنة، والمهم أنها مضت بين ذلك مدة، بدليل ما أمر الله عز وجل به من الاستقامة وعدم اتباع سبيل الذين لا يعلمون، ثم ذكر مجاوزته سبحانه ببني إسرائيل البحر بعد ذلك، وفي هذا دليل على عدم الاستعجال، وأنه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يستجاب للعبد ما لم يستعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي، ويدع الدعاء). فلا ينبغي للعبد أن يحدد وقتاً معيناً لإجابة دعوته؛ فالله عز وجل نهانا عن الاستعجال، ونهى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يعجل على المشركين فقال: {فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم:84]، وإذا استبطأ المؤمنون إجابة الدعاء فهذا علامة على أن الأمر قد اقترب بإذن الله تبارك وتعالى. فالله سبحانه وتعالى وعد عباده المؤمنين بالإجابة كما وعد أنبياءه ورسله، قال الله عز وجل: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]، وقال سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186]، وقال: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [الشورى:26]، فاستجابته سبحانه وتعالى لدعائهم تكون من حيث يعلمون ومن حيث لا يعلمون، وهو عز وجل الذي يقدر متى تقع استجابته ومتى تكون، وليس لنا أن نقول: متى، وإنما يكون هذا بعلم الله عز وجل وحكمته، والذي علينا هو أن نوقن بوعده، وأن نثق بقوله سبحانه وتعالى؛ فهو عز وجل لا يخلف الميعاد، وكمال اليقين: أن يوقن الإنسان بتحقق وعد الله وإن كانت كل الأسباب تتجه في طريق آخر.

معنى الاستقامة وأهميتها

معنى الاستقامة وأهميتها قال عز وجل: ((قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا)) إذاً فقد تكون هناك فترة بين الدعاء وبين تحققه، وبين ما قدره الله عز وجل من تسلط الكفرة على المسلمين وبين إهلاك الظالمين والمجرمين، وهذه الفترة من الزمن لابد فيها من أداء الواجبات، وأول هذه الواجبات في هذا المقام: الاستقامة، فقد أمر الله عز وجل بها أنبياءه ورسله وعباده المؤمنين، قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا} [هود:112]. وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمن سأله: (قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك؟ فقال: قل آمنت بالله، ثم استقم). وذلك أن الفتن قد تجعل العبد بسبب ضغطها وشدتها وآلامها، يبحث عن طريق آخر غير الطريق الذي بدأ منه، ويبحث عن سبيل للتخلص من متاعب هذه الحياة، وذلك بموافقة أهلها ممن يريد إبعاده عن سبيل الله عز وجل ولو في بعض الأمر، فكان لابد هنا من الاستقامة. والاستقامة: أن يبقى الإنسان على ما أعلنه من معاني الإيمان -وذلك أصل الاستقامة- أن يثبت على حقائق الإيمان، وأن يوحد الله سبحانه وتعالى. ثم الاستقامة على الأمر والنهي تكون بامتثال أمر الله، واجتناب نهيه سبحانه وتعالى، والاستقامة على طريق الآخرة تكون بتعظيم الرغبة فيما عند الله، والزهد في الدنيا، والرهبة مما عند الله سبحانه وتعالى. والاستقامة هي التي يقدر الله عز وجل بسببها ثبات الطائفة المؤمنة التي يهيئها سبحانه وتعالى للمنازل العالية عنده في الدنيا والآخرة، ويهيئها الله سبحانه وتعالى لأن تكون خليفة الأرض، فيمكن الله عز وجل لهم دينهم الذي ارتضى لهم. والاستقامة أمر ضروري للمؤمن في جميع أوقات حياته، فلا بد له أن يظل مستقيماً على طريق الله الذي يوصله إليه سبحانه وتعالى، ولابد لتحقيق هذه الاستقامة من علم، فعلى الداعي إلى الله والمؤمنين عموماً أن يكونوا على علم بشرع الله سبحانه وتعالى؛ حتى لا يحرفوا ولا يبدلوا، وإن كان الداعي قد لا يستطيع مع نفسه أن ينحرف عن الدين صراحة، لكنه قد يؤول ويحرف ما أنزل الله عز وجل موافقة للناس. إذاً: لابد من العلم؛ حتى لا يقع ذلك التبديل والتحريف والتأويل.

فضل العلم والعلماء وخطر الجهل والجهلاء

فضل العلم والعلماء وخطر الجهل والجهلاء تأمل في قول الله عز وجل: ((وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ))، فمن أعظم الخطر الذي نهى الله عز وجل عنه: اتباع سبيل الذين لا يعلمون، فكيف إذا كان من يسير في طريق العمل من أجل الإسلام هو من الذين لا يعلمون، فذلك أخطر وأشد، فالجهل من أعظم المخاطر التي تهدد العمل في سبيل نصرة الإسلام. إن العلم بأوامر الله سبحانه وتعالى ونواهيه شرط في تحقق الاستقامة، فلابد أن نتعلم ما يلزمنا، نتعلم الإيمان والإسلام والإحسان، ونتعلم ما أنزله الله عز وجل من الكتاب والحكمة، وهذا لابد منه للدعاة إلى الله عز وجل، وللمجاهدين، والعاملين، والعُباد؛ فإن العلم إمام العمل والعمل تابعه، وإذا عمل الإنسان بغير علم أفسد أكثر مما يصلح. ومن أخطر ما يتعرض له العاملون في الساحات الإسلامية أن يعملوا على جهل، أو أن يكون الناس مقلدين دون بصيرة، فدين الله عز وجل لابد أن يكون الإنسان فيه على بصيرة، قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]. فإذا كان أمر العلم بهذه المنزلة فلابد أن يكون من يقود أهل الإسلام ومن يعمل من أجل دين الله عز وجل على علم، والخطر عظيم إن اتبع من لا يعلم، فلابد من تجنب توسيد الأمر إلى غير أهله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، قيل: وما إضاعتها؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينزع العلم بعد إذ أعطاكموه انتزاعاً، ولكن ينزعه بقبض العلماء، فإذا قبض العلماء اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا). وقد حذر الله أنبياءه ورسله الكرام من اتباع سبيل الذين لا يعلمون، وهم لديهم من العلم بالله عز وجل ما يبين لهم الطريق، ومع ذلك حذرهم من اتباع سبيل الذين لا يعلمون، فكيف بمن دونهم ممن قد يكون عنده من الجهل وعدم المعرفة ونقص العلم ما لا يستبصر به السبل المختلفة المفترقة؟! إن اتباع سبيل الذين لا يعلمون ضياع للدين والدنيا، وهو ضلال وهلاك للناس والعياذ بالله؛ لذا لا يكون الجاهل إماماً للناس، ولا يقود غيره؛ لأنه لا يدري، والتقليد لا ينفع أحداً، والذي ينفع هو العلم بآيات الله والحكمة التي أنزلها على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى: {يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [آل عمران:164]، هكذا وصف الله نبيه صلى الله عليه وسلم، فلابد من علم الكتاب والحكمة وهي: السنة، أو أن السنة سميت بالحكمة لاشتمالها عليها، وتكون الحكمة في الكتاب والسنة معاً. فقد افترض الله سبحانه وتعالى على الناس أن يرجعوا إلى أهل العلم منهم وأن يتبعوهم؛ لأنهم هم الذين يقودون الناس بكتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إلى مصالح دينهم ودنياهم. إن اتباع أهل العلم سبيل للنجاة، ويكون المتعلم على سبيل النجاة باتباعه لسبيل أهل العلم، وأما اتباع سبيل الذين لا يعلمون، واتباع كل ناعق فهذا يؤدي إلى الضياع والهلاك. ولقد أمر الله عز وجل موسى وهارون عليهما السلام بالاستقامة وعدم قبول التنازلات عن الحق تحت ضغط الفتنة وشدتها، وأمرهم باجتناب سبيل الذين لا يعلمون، وهذا متضمن قطعاً بالأولى أن يكونوا هم من العلماء بأمر الله عز وجل، وأن يتبعوا سبيل من سبقهم من الأنبياء.

فضل الله تعالى على بني إسرائيل

فضل الله تعالى على بني إسرائيل ذكر الله سبحانه وتعالى فضله على بني إسرائيل، وهو فضل منه سبحانه على كل مؤمن؛ إذ صارت آية من آيات الله، وسنة من سننه ماضية فيما يفعله بأوليائه وأعدائه، قال عز وجل: ((وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ))، ونسب سبحانه وتعالى الفعل إلى نفسه وهو المجاوزة، ولم يقل: وتجاوز بنو إسرائيل البحر مع أنهم يتحركون بإرادتهم، ويفعلون ذلك باختيارهم، ولكن منة الله عز وجل بهداية المؤمنين وتوفيقهم وإعانتهم وتقويتهم لابد أن يشهدها المؤمنون في هذا المقام دائماً. فقوله: ((وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ))، فيه: كأنهم محمولون، والله عز وجل يذكر فضله على عباده المؤمنين بذكر أفعاله بهم، فليس للمؤمن أن يرى لنفسه الفضل، أو أنه هو الذي أنجى نفسه بتدبيره أو عمله أو سعيه، فلابد أن يشهد بالفضل لله عز وجل. ومعنى: ((وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ)) أي: فلق الله عز وجل البحر لموسى، وهذا سبب آخر لذكر المجاوزة كفعل من أفعال الله سبحانه وتعالى ببني إسرائيل، فالله الذي جاوز بهم؛ لأنهم ما كانت لهم قدرة ولا طاقة بأن يتجاوزوا ذلك البحر إلا بما فعله الله لهم من فلق البحر بعصا موسى، وقد ذكر الله عز وجل تفاصيل هذا الانفلاق العظيم في موضع آخر من كتابه في قوله سبحانه في سورة الشعراء: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ * فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ * فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ * فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ * فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:52 - 68]. سنة من الله عز وجل ماضية أن البلاء يصل إلى غايته، وعند ذلك يأتي الفرج. أمر الله موسى صلى الله عليه وسلم في ليلة من الليالي أن يسري ببني إسرائيل، وأن يسير بهم ليلاً، واجتمع بنو إسرائيل جميعاً على طاعة موسى، وخرجوا في تلك الليلة حتى وصلوا إلى ساحل البحر، وفي الليل أدركهم فرعون وملأه، ولا شك أنهم مدركون ما وقع من بني إسرائيل، وأنهم قد رحلوا من مصر كلها، وفرعون متربص بهم، ويوجد من يخبره بخبرهم، فأعلن التعبئة بأسرع ما يمكن، وأرسل للجنود حاشرين في مدائن مصر كلها، وخرج الجنود بالفعل وهم جميع على حذر، مجتمعون على طاعة فرعون رغم ما رأوا من آيات كذبه وبطلانه، ورغم ما رأوا من آيات صدق موسى، وأنه جاء بالحق، ومع ذلك قال تعالى: {فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود:97]، وذلك لأنهم كانوا قوماً فاسقين، فالفسق يؤدي إلى العمى، وانعدام البصيرة، حتى يتبع الإنسان الباطل علناً جهاراً، كما قال عز وجل: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف:54]. ولقد كان موسى يعلم أن السرى بالليل لن يغني عنه من متابعة فرعون، بل لابد أن يتبعه فرعون وجنوده، وأن المشي ليلاً والإسراع إلى ساحل البحر لن يغير من الأمر شيئاً، وإن كان بنو إسرائيل قد تعلقوا بهذه الأسباب، وظنوا أنهم سوف يفوتون فرعون بالخروج ليلاً، والإسراع سراً، وما ذاك بحاصل، وإنما ينجون برحمة الله، وخرجت جموع جنود فرعون واجتمعت وحفزهم فرعون بأنواع التحفيز، فقال لهم: إن بني إسرائيل قلة قليلة، وإنهم يغيظون فرعون وملأه، وهذا عندهم من أعظم الجرائم، فإغاظة فرعون تقتضي الإعدام والتقتيل والتذبيح وغير ذلك، فإنهم إذا أغاظوا فرعون فلابد من الانتقام، هكذا ربي هؤلاء الجنود، واتبعوا إمامهم إلى النار والعياذ بالله فقالوا كما أخبر الله: {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء:54 - 56] فهم قد أخذوا العدة بكل أنواعها، اجتمعوا وهم ألوفٌ مؤلفة. قال عز وجل مبيناً حقيقة الأمر: ((فَأَخْرَجْنَاهُمْ)) فكان الأمر، أن الله هو الذي قدر ذلك ليخرجهم، وفعل الله عز وجل ذلك بهم عدلاً منه وحكمة، وأراد سبحانه وتعالى أن يخرجهم مما كان متعهم به من الجنات والعيون والكنوز والزروع والمقام الكريم، والنعمة التي كانوا فيها فاكهين، أخرجهم سبحانه وتعالى بقدرته، وقد كانوا في سعة، ولو تركوا بني إسرائيل لكانوا في سعة، ومع ذلك خرجوا إلى مصيرهم وهم يظنون أنهم ينتقمون من عدوهم، وما كانوا يظنونها إلا فسحة أو نزهة، فإن بني إسرائيل ما قاموا لهم قط، ولا كان في قدرتهم أن يقوموا في وجوههم، ولكن يقدر الله بسنته الماضية المتكررة أن الفرج لا يأتي في أول الأمر، فوصل فرعون بالفعل إلى بني إسرائيل، كما قال الله: {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} [الشعراء:60] فعند شروق الشمس وصل فرعون بالفعل إلى ساحل البحر.

ثقة موسى بنصر الله تعالى

ثقة موسى بنصر الله تعالى كان بنو إسرائيل قد سبقوا، وهنا تراءى الجمعان، فجزم أصحاب موسى بأنهم قد أدركوا، ماذا يصنعون؟ البحر أمامهم، والعدو من خلفهم، تأمل في هذه اللحظات، وقارن بين يقين فرعون في نفسه وجنده أنه قد أدرك بني إسرائيل، ويقين بني إسرائيل أنهم قد أدركوا، وموسى صلى الله عليه وسلم في شأن آخر، وذلك لقربه من الله عز وجل. قال عز وجل: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا} [الشعراء:61 - 62] هذا هو اليقين بوعد الله عز وجل ومعيته، ثم قال: ((إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ)) هذه المعية التي سببها: كثرة الذكر، واستحضار أسماء الله وصفاته، واستشعار معانيها وآثارها، والقرب من الله عز وجل بأنواع العبادة التي يهدي الله عز وجل بها من شاء من عباده، فقوله: (إِنَّ مَعِيَ رَبِّي) أي: معي في النصرة والتأييد. وأمر الله موسى عند ذلك بما يفعله، وذكره عز وجل باسمه دون الضمير فقال: ((فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ))، فذكره الله باسمه تشريفاً له، وهو جدير بالتشريف عليه الصلاة والسلام، وهو في هذا المقام لا يعبأ بالجنود، ويأمره عز وجل أن يأخذ بسبب عجيب ليس من الأسباب المعهودة، وإنما نتعلم منه أن نتمثل أمره سبحانه وتعالى، وأن نأخذ بما أمرنا به من الأسباب وإن كانت عجيبة في تسبيبها. لما أمر الله سبحانه وتعالى موسى أن يضرب البحر بالعصا: فقال: ((أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ)) ففعل، وليس هذا بسبب ظاهر، وإنما هو امتثال للأمر، فضرب موسى البحر بأمر الله عز وجل بعصاه، ((فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ)) وأمر الله الأرض فيبست حتى لا يشق الأمر على بني إسرائيل، كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى} [طه:77]. رأى فرعون وجنوده الآية، وانفلق البحر على قدر أسباط بني إسرائيل، اثني عشر طريقاً، وذكر المفسرون وأهل السير: أنه قد جعلت بين الطرق المختلفة شبابيك أو طاقات في الماء، حتى يرى بعضهم بعضاً، ويأنس بعضهم ببعض، وأن إخوانهم ينجون كنجاتهم، آية من آيات الله، ونعمة من نعمه سبحانه وتعالى على المؤمنين في كل زمان ومكان، ومن أعظم نعم الله عز وجل ما من به على بني إسرائيل من النجاة؛ وذلك علامة على ما يفعله الله بأوليائه دائماً، فهو ينجيهم سبحانه وتعالى بقدرته وآياته، وعليهم أن يمتثلوا أمره؛ لأن امتثال أمر الله: سبب النجاة، وإن كنا لا ندري كيف يقع ذلك، فهذا البحر الهائل كان ينتظر الأمر من الله، بضربة موسى، وانكف الماء بنفسه بقدرة الله سبحانه وتعالى، دون أن يكون هناك حاجز يحجزه إلا ما أمره الله عز وجل به أن ينحجز، وسار بنو إسرائيل، ورأى فرعون الآية، ورأها جنوده، ومع ذلك انطمست البصائر، وحصل العمى، وكان البغي والعدوان هو الصفة المحركة لفرعون وجنوده جميعا، ً قال عز وجل: ((فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا)) فذكر الله فعل فرعون وقومه، ولم يقل مثلاً: وجعلناهم يتبعونهم، كما ذكره في سورة الشعراء، ولكنه ذكر فعلهم، ففرعون هو الفاعل، وجنوده مشاركون، وذكر في سورة طه قوله: {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ} [طه:78] ليدل على تبعيتهم المهينة، وحقارة أمرهم في كونهم كالآلة مجرورين أو كالدواب مجرورين بأمر فرعون دون وعي أو إدراك. وذكر في سورة الشعراء قوله: ((وَأَزْلَفْنَا)) أي: قربنا، ((ثَمَّ)) أي: هناك في البحر، ((الآخَرِينَ)) أي: جعل فرعون وجنده بإرادتهم المخلوقة يتبعون موسى، ولا عذر لهم أن الله هو الذي فعل بهم ذلك؛ لأن الله سبحانه جعلهم يفعلون ذلك باختيارهم بغياً وعدواناً، وهذه عاقبة البغي. ومعنى: ((بَغْيًا وَعَدْوًا)) أي: تعدياً وتجاوزاً، ففرعون إلى آخر لحظاته معتد باغ، وإلى آخر يوم في عمره ساع إلى الإفساد في الأرض، وقومه وجنوده متبعون له على الباطل إلى آخر لحظة. فيرون الآيات تلو الآيات، وآخرها هذه الآية، ومع ذلك يتبعونه، ما هذه الطاعة العمياء؟ طاعة تكاد أن لا يوجد لها نظير إلا في أمثالهم ممن ساروا على طريقهم، ممن يتبع الباطل مهما كان بطلانه واضحاً، ومهما كان الحق جلياً، فهو قد تربى على أن يسمع ويطيع أمر فرعون مهما كان هذا الأمر معرضاً له للمخاطر في دينه ودنياه. وإذا بفرعون يزعم أن البحر قد انفلق له من أجل أن يدرك عبيده الآبقين، ويسير ويسير جنوده، وينتصف سير فرعون في وسط البحر، وآخر واحد من بني إسرائيل قد خرج، وكل جيش فرعون في وسط البحر، فيأمر الله عز وجل البحر أن ينغلق عليهم مرة ثانية، فسبحان الله! تغيرت الموازين في لحظةٍ! تفكر وتأمل كيف كان حال فرعون وهو يسير ويظن هو وجنوده أن البحر سيظل على تلك الحال منفلقاً حتى يدرك بني إسرائيل في الناحية الأخرى؟ عجب والله شأن فرعون! وعجب شأن جنوده! تتغير الموازين في لحظة، وينقلب الحال؛ فينجو آخر رجل من بني إسرائيل، وفرعون وجنوده في وسط البحر، فينغلق البحر عليهم، فيدركه الغرق. قال عز وجل: ((فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا)) ذكر عز وجل فعلهم؛ ليبين أنه عدل معهم سبحانه وما ظلمهم، فالبغي والعدوان لابد أن تكون عاقبته الهلاك.

كلمة التوحيد لم تنفع فرعون عند غرقه

كلمة التوحيد لم تنفع فرعون عند غرقه قال الله تعالى: ((حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ)) ما قال هذه الكلمة إلا عندما أدركه الغرق وعاينه، وكان قبل ذلك لا يوقن بالهلاك فما نطق بها، لكن عندما عاين الغرق منفرداً، وأيقن أنه لا يستطيع أحد من الحاشية والجنود، ونصره فلا هامان ولا الوزراء ولا الأعوان يستطيعون إنقاذ أنفسهم أو غيرهم. هذه اللحظات تحصل لكل كافر وظالم وباغ، وهي: لحظة الموت، لحظة مفارقة الحياة، فماذا يغني الأعوان والجنود؟ أو المال والسلطان؟ أو الملك والعز الذي كان ظاهراً؟ ماذا يستطيع الناس في تلك أن يفعلوا اللحظات لمن يحتضر أو لمن يصيبه أمر الله عز وجل؟ ما أحوجنا إلى أن نتذكر هذه اللحظات التي سيمر كل واحد منا بها، لحظة مفارقة الدنيا فرداً، كما قال عز وجل: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:88 - 95]. كما أنك ترحل عن الدنيا فرداً فستأتي الله يوم القيامة فرداً، قال عز وجل: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:94]. تقطعت الأسباب، والروابط، والصلات، وهلك فرعون، وأدركه الغرق، وحينها قال: ((آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ)) ذل وهوان، حتى أنه يريد أن يتابع بني إسرائيل فلم يقل: لا إله إلا الله، وإنما كان يقول: ((لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ)) فكأنه يريد أن يقول: أنا تابع لبني إسرائيل، أنا أريد أن أكون في ذيلهم، ذل وهوان عجيب، هذه اللحظة لحظة يسيرة لكنها على فرعون طويلة، أضاعت كل مجده وسلطانه وكل عزه وهيلمانه، أضاعت كل ما كان له، وبقيت عليه لحظات أطول، وعذاب أشد. يقول جبريل عليه السلام كما في الحديث الصحيح للنبي صلى الله عليه وسلم: (لو رأيتني وأنا أدس من وحل البحر في فم فرعون مخافة أن تدركه الرحمة) أي: بسبب هذه الكلمة: كلمة لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل وأنا من المسلمين، وجبريل عليه السلام يبغض فرعون بغضاً عظيماً، ولكنه يعلم فضل الكلمة التي قالها فرعون، ويخشى من كثرة قول فرعون لها أن تدركه رحمة الله، وهو يريد أن يهلك فرعون على الكفر؛ لينال عقابه، فجعل يأخذ من طين البحر ويجعله في فم فرعون ليسكت. كلمة لا إله إلا الله كلمة عظيمة، لابد أن نقدر لها قدرها، كما كان جبريل يقدر لها قدرها من فرعون، ويخشى أن تكون سبباً لرحمة الله، والله عز وجل عليم حكيم، وهو سبحانه وتعالى لا يقبل التوبة من الناس عند رؤيتهم العذاب، كما قال تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} [غافر:85]. ثم قال له الله عز وجل: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:91] أي: آلآن تؤمن، ولا يقبل الإيمان، ولا ينفع نزول العذاب، نسأل الله العافية، ونعوذ به من سخطه وعقابه، ونسأله نصره وتأييده، أقول قولي هذا وأستغفر الله، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الإسلام دين كل الأنبياء

الإسلام دين كل الأنبياء الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم،، أما بعد: قال الله عز وجل: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ * وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ} [يونس:90 - 93] أي: أنزلهم الله منزل صدق. تدل الآيات أولاً: على أن دعوة موسى عليه السلام هي الإسلام، وأن المؤمنين من بني إسرائيل الذين أنجاهم الله عز وجل كانوا مسلمين، ففرعون يريد أن يقول: أنا تابع لموسى، وتابع لبني إسرائيل، فقال: ((وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ)) فدل ذلك على أن موسى جاء بالإسلام، وعلى أن إنجاء الله لبني إسرائيل كان عندما كانوا مسلمين، وأن ولايته لهم وكذلك ولاية المؤمنين لهم عبر التاريخ إنما كان عندما كانوا مسلمين، فأما إذا كفروا وتركوا الإسلام فهم أعداء الله وأعداء المؤمنين، وهذه قضية عظيمة الأهمية، فإن الولاية والعداوة مبناها على التزام هذا الدين، ووعد الله عز وجل بالتمكين في الأرض لبني إسرائيل ليس مرتبطاً بنسبهم، وإنما هو مرتبط بإسلامهم، فعندما كانوا مسلمين أهلك الله فرعون وجنده من أجلهم، وعندما كفروا بالله صاروا أعداء له سبحانه، أعداء لرسله، ومكن الله عز وجل منهم المسلمين بفضله سبحانه وتعالى. فلا بد أن نفهم القضية جيداً، فليس وعد الله لبني إسرائيل في الأرض المقدسة، وفي المنزل الصدق، والمبوأ الطيب الذي أنزلهم الله إياه مرتبطاً بمجرد أنهم أبناء يعقوب عليه السلام، بل ذلك مرتبط بإسلامهم، ولذا لما كفروا سلط الله عليهم أعداءهم فأخذوا ما بأيديهم، كما قال سبحانه: {وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} [الإسراء:7] ولما أفسدوا في الأرض بالشرك والبدع سلط الله عليهم من هو شر منهم من المشركين، فالله عز وجل يفعل ما يشاء، وهو سبحانه وتعالى بحكمته وعدله يضع الأمور في مواضعها. والمؤمنون الآن وفي كل زمان يحبون موسى ومن معه، ويتولونهم ولو كانوا من غير نسبهم، من غير قومهم، ويتبرءون من فرعون وجنده ولو كانوا من أهل بلدهم، فنحن نبرأ إلى الله عز وجل من فرعون ولو كان مصرياً، ونتولى موسى عليه السلام ومن معه من المسلمين ولو كانوا من بني إسرائيل، وحين يؤمن أهل مصر فإننا نتولاهم ونحبهم، وحين يكفر بنو إسرائيل فإننا نبغضهم ونعاديهم، وذلك لأنه ليس بين الله وبين الناس نسب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه). فالحب في الله والبغض فيه أوثق عرى الإيمان، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام، فليس عداؤنا لليهود لأجل الأرض أو الوطن أو القومية أو غير ذلك، وإنما لأنهم كفروا بالله وتركوا الإسلام. وكذلك عداؤنا لفرعون وإن كان ينتسب إلى بلدنا؛ فنحن نعاديه ونبغضه ونكرهه ونحمد الله على هلاكه حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه. قال عز وجل: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:91] أي: آلآن تؤمن، وقد أفسدت في الأرض أعظم الإفساد بالصد عن سبيل الله، وادعاء الربوبية والألوهية، ودعوة الناس إلى عبادتك، إبعادك إياهم عن توحيد الله عز وجل، فلا يقبل الإيمان في تلك اللحظة، فقد غرغر فرعون، وأدركه الغرق، ونزل به العذاب هو وقومه، ومع ذلك فقد جعل الله بدنه آية، فقال عز وجل: ((فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ)) أي: لم ينج هو، وإنما نجا بدنه، وذلك أن بني إسرائيل ما كانوا يتصورون فرعون جثة هامدة، فما تخيلوه إلا آمراً ناهياً متسلطاً باغياً قتالاً سفاكاً للدماء، فشكوا في موته، فأمر الله البحر أن يخرج جثته، وتلقى ظاهرة أمام أعينهم حتى رأوا فرعون -الذي كان يأمر وينهى، ويغضب ويسخط ويرضى، ويعطي ويمنع في ظن الناس- جثة هامدة؛ ليكون لمن خلفه آية، لمن شهدوه ولمن يأتي بعده، وذلك دليل على بقاء جثته ليراها ويتعظ بها من بعده من الأقوام، فسبحان الله! ولا يهمنا أي فرعون كان هو، أعني: ما اسمه؟ وأي واحد هو من هذه الجيف الموجودة المحفوظة؟ فكلهم كانوا على الشرك والكفر، إلا من لا نعلم ممن رحمهم الله، لكنهم كانوا على الكفر والشرك، وعبادة غير الله كما سجلوا ذلك في معابدهم ومقابرهم، وكلهم آيات من آيات الله عز وجل، كلهم كانوا يأمرون وينهون، وكان لهم من الملك والسلطان ما لهم، فماذا يفعل بهم الآن؟ يطاف بهم في البلاد، آية من آيات الله، دالة على عجز الإنسان وضعفه، وعلى أن الله هو الذي يقلب الأمور، وهو سبحانه وتعالى مالك الملك، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، فقد أتى بعد فرعون فراعنة كثيرون، فأهلكهم الله كلهم كهلاكه. ثم قال تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} [يونس:92] وكل واحد منهم آية من آيات الله، والملك لا يبقى لأحد، والسلطان لا يستمر لإنسان، وإنما هي أدوار وحلقات يأخذ كل جيل دوره على ظهر الأرض، إما في طاعة وإما في معصية، إما في دعوة إلى الخير، وإما في صد عن سبيل الله، فمن من الله عز وجل عليه بأن ثبته على الهدى، واستقام على الصراط المستقيم، وهدى قلبه إليه، وأخذ بناصيته إليه، فليحمد الله سبحانه وتعالى، فما هي إلا لحظات وينتهي هذا الذي نصب على وجه الأرض لهذا الجيل من أنواع الحياة والممالك والصراعات، ونرحل كما رحل السابقون، بخيرهم وشرهم، بمؤمنهم وكافرهم، ويأتي دور جديدٌ كما أخبر الله سبحانه وتعالى بقوله: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [إبراهيم:19 - 20]. فهكذا يأخذ كل إنسان دوره على ظهر الأرض، ثم يرحل إلى بطنها، فهي التي تجمعنا أحياء وأمواتاً قال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً ?وَأَمْوَاتًا} [المرسلات:25 - 26] فهي جامعة للبشر في حياتهم وموتهم، فهل من متعظ؟ فهذه قصة عظيمة، وآية من آيات الله كبيرة عظيمة توقظ النفوس، وتحيي القلوب، وتذكر بأمر الآخرة. نسأل الله عز وجل أن يرزقنا مرافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره في تدميره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين. ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسر الهدى إلينا، وانصرنا على من بغى علينا، اللهم اجعلنا لك ذكارين، لك شكارين، لك مطواعين، لك رهابين، لك مخبتين، إليك أواهين منيبين، تقبل توبتنا، واغسل حوبتنا، وثبت حجتنا، وأجب دعوتنا، واهدِ قلوبنا، وسدد ألسنتنا، واسلل سخائم صدورنا. اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

وصية لقمان لابنه

وصية لقمان لابنه إن تربية الأجيال واجبة كوجوب إقامة الدين وحراسته؛ ولا يقوم الدين ويحرس إلا بجيل تربى على الإيمان بالله تعالى، والتربية مسئولية كل إنسان له عليهم أمر، وذلك ما نجده في وصية لقمان لابنه، فنجد أنه خاطب ولده خطاب الأب الرحيم بحوار تربوي راق، وأول ما أوصاه بترك الشرك، وهذه هي التربية الإيمانية، وهذا هو سلوك الأنبياء مع أتباعهم، ويأتي بعد ذلك الأمر بطاعة الوالدين كجزء من التربية، وعند ترك الأجيال دون تربية يتلقفهم الأعداء؛ ليصبغونهم بأفكارهم المنحرفة.

أهمية إعداد الأجيال

أهمية إعداد الأجيال إن الحمد لله، نحمد ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فإن من أهم ما يواجه العمل الإسلامي والمسلمين كأفراد وكأمة مسألة تنشئة أفرادها وأبنائها وبناتها ورجالها ونسائها على دين الله سبحانه وتعالى، وتهيئتهم علماً وعملاً، ودعوتهم للالتزام بهذا الدين، وهو ما اصطلح عليه المعاصرون بمصطلح: (التربية) فقضية التربية قضية عظيمة الأهمية في حياة الفرد والأمة، وهي واجب شرعي، ولأهميتها ذكر الله سبحانه وتعالى وصية رجل حكيم، وذكره سبحانه وتعالى باسمه مخلِّداً هذا الاسم، وهذا الرجل هو لقمان، وهو عند جمهور أهل العلم ليس بنبي؛ إذ لم يذكر مع الأنبياء في أي حال ذكروا فيها، ولكن ذكر الله عز وجل اسمه ووصيته لابنه وهو يعظه؛ لتكون قدوة وأسوة حسنة للآباء والأمهات، والأساتذة والمعلمين، ولكل من ولاه الله عز وجل أمر غيره من المسلمين في التهيئة والإعداد، والتنشئة على مرضاة الله سبحانه وتعالى.

خطر المناهج المنحرفة في التربية على الأمة

خطر المناهج المنحرفة في التربية على الأمة إن أعظم الأخطاء التي تواجه الأمة تكمن في المناهج المنحرفة في التربية، وهي التي يتقنها جيداً أعداء الإسلام، فهم يضعون المناهج المتعددة التي ترمي إلى تدمير هذه الأمة، وذلك من خلال تدمير أبنائها، وإعداد طائفة هي في ظاهرها تتكلم بألسنتنا ومن جلدتنا، وفي باطنها قلوب كقلوب الشياطين والعياذ بالله؛ لأن أعداء الإسلام والمسلمين يربونهم ويعلمونهم من أجل أن يتولوا أهم المراتب في قيادة الأمة، ثم بعد ذلك يقودونها إلى مذبحها، وإلى مهلكها بيد أعدائها. فإعداد المنافقين الذي يتقنه جيداً أعداء الإسلام، ومن أجله وضعوا مناهجَ تعليم، ومناهج إعلام، ومناهج اقتصادية واجتماعية متعددة، تفرض على الناس نمطاً معيناً من أنماط الحياة، والتي يترتب عليها نشوء أجيال لا تعرف شيئاً عن دينها، بل تعرف ما يضاده وما يخالفه، وعند ذلك تتقبله وترتضيه. وآخر الأمثلة شيوعاً -وإلا فالذي لا يشيع في الناس أضعاف مضاعفة- قصة ذلك الكتاب الذي يدرس في الجامعة الأمريكية عبر سنوات، وهذه الجامعة تخرج منها أجيال تلو أجيال ممن يعدون لأرفع المناصب وأكثرها حساسية، وفي ذلك الكتاب سب صريح لرسول صلى الله عليه وسلم، وطعن عظيم في القرآن، وهذا الكتاب لأقبح المستشرقين كذباً وتزويراً وحقداً وحسداً للإسلام والمسلمين، ومع ذلك يفرض على هؤلاء الأبناء -الذين هم دائماً كما يسمونهم أبناء الصفوة- أن يحفظوه ويلخصوه ويمتحنوا فيه ويجيبوا بما يطعن في الإسلام صراحة كما يريد مدرس الكتاب، وكأن هذه الأجيال المتعاقبة التي دخلت ثم خرجت تعتبر ذلك أمراً طبيعياً وعادياً عندها، فلا غرابة إذاً أن نجد منهم من يحارب القرآن ويحارب سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، ويعتبر الإسلام أمراضاً نفسية أو عقداً داخلية، أو غير ذلك مما يتقيأه ذلك المستشرق عليهم والعياذ بالله، فإذا بهم يصيرون هم العدو كما وصف الله عز وجل المنافقين. ومن شواهد أصحاب المناهج المنحرفة على نشرها: ما جاء في قصة أصحاب الأخدود، وذلك في قول الساحر الكافر الذي لا يعرف آخرة ولا بعثاً، بل إنه يعلم الناس أن ملكهم هو ربهم والعياذ بالله، وأنه لا إله لهم غيره ولا رب لهم سواه، أضف إلى ذلك أنه حريص على استمرار الشر والفساد من بعده، فيقول للملك: ابعث إلي غلاماً أعلمه السحر، فينتقي له غلاماً فطناً ليعلمه السحر، وكان في المقابل لهذا الغلام تربية أخرى وتوجيه آخر، وتلقى هذا الغلام تعليماً مزدوجاً كما يقال، تربية الساحر وتربية الراهب المنعزل الموحد لله عز وجل، والراهب لم يكن له اختلاط بالناس، ولكنه نجح بفضل الله سبحانه وتعالى في أن يلقن هذا الغلام منهج العقيدة الصحيح، وأن يلقنه دين الله سبحانه وتعالى، فتغيرت أمة من الأمم بواحدٍ فقط، ونجت به من عذاب الله سبحانه وتعالى، وتغير منهاج حياتها حتى ضحوا بأنفسهم في سبيل الله، وآمنوا بالله عز وجل؛ بسبب فرد واحد، لذا كان إحسان التربية يؤدي إلى نجاة أمة، وإساءة التربية وسوء المناهج المنحرفة فيها يؤدي إلى هلاكها ودمارها والعياذ بالله. لذا كان لابد أن نهتم جداً بهذه المسألة، فهي فرض عين في أكثر المواطن والمواضع على معظم الأشخاص ممن لهم أبناء وبنات، وكل من ولاهم الله عز وجل أمرهم، فيجب عليهم أن يعلموهم ويؤدبوهم؛ لقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]. ولن يتحقق ذلك إلا بفهمنا وعملنا ودعوتنا لما تضمنته آيات الكتاب؛ وأحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذا الباب باب عظيم الأهمية، ولن نجد وصية أجمع لأصول التربية الإيمانية، والعبادية العملية، والخلقية، وفي المعاملات، والدعوة إلى الله عز وجل، من وصية لقمان لابنه وهو يعظه، وحول معانيها نسير ونرجو الله أن يوفقنا للانتفاع بها علماً وعملاً.

بيان وصية لقمان الواردة في القرآن الكريم والفوائد المنتقاة منها

بيان وصية لقمان الواردة في القرآن الكريم والفوائد المنتقاة منها أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ * وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ * وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان:13 - 19]. وقبل أن نبدأ في بيان أجزاء هذه الوصية وفوائدها، نحب أن نبين أنها ليست خاصة بالصغار؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم بدأ تربية أصحابه وكثير منهم قد جاوز سن الصغر، ومع ذلك صاروا خير أمة أخرجت للناس، ونحن نحتاجها لتربية أنفسنا وإن بلغنا ما بلغنا من السن، فاحتياج الإنسان إلى التعود على الخير ليس مقصوراً على سن معين، وإن كان في صغره أقرب إلى الإجابة، وأقرب إلى قبول التعود والإعداد، لكن الجميع ملزم بهذه الوصايا، فليست هذه الوصية خاصة بمن له ابن يربيه، أو متعلم يتعلم منه، بل هي لكل إنسان يربي بها نفسه كما يؤدب بها غيره.

أهمية الحوار كوسيلة تربوية

أهمية الحوار كوسيلة تربوية الحوار وسيلة هامة في التربية كما دلت عليها هذه الآية الكريمة: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، فالوسيلة المذكورة في هذه الآية هي الحوار المباشر، والخاص بين الأب وابنه، أو بين المربي ومن يربيه، هذا الحوار في هذه الجلسة الخاصة التي قعد فيها الأب مع ابنه يعظه، ويبثه مشاعره التي ينبئه فيها بشدة حبه، فهو دائماً يتذكر العلاقة التي بينه وبينه، فتراه يكرر: ((يا بني)) مرات متعددة، فهذه الجلسة مفقودة في أكثر أمور حياتنا، فلا نجد من يجلس مع أولاده؛ ليعظهم ويعلمهم ويربيهم ويؤدبهم بهذه الوصايا إلا قلة نادرة، بل تكاد تكون غائبة إلا من رحم الله عز وجل. وهذه الوسيلة الحوارية لا تغني عنها الوسائل الأخرى، كوسائل المدارس العامة، أو الدروس المطلقة العامة، ولا تجدي عنها الوسائل المعاصرة كالكتاب أو الشريط أو الخطبة، وإن كانت هذه الوسائل مؤثرة وضرورية ونافعة أيضاً، لكنها لا تغني عن هذه الوسيلة؛ لأن هذه الجلسة الخاصة يبث فيها المربي موعظته ونصيحته، ويسمع كذلك ممن يربيه ما في نفسه، وهذا يعد من أهم الوسائل في التربية.

جلسة تربوية بين يوسف وأبيه

جلسة تربوية بين يوسف وأبيه إن هذه الجلسة نلحظها في اللقاء الخاص بين يوسف وأبيه، كما حكى الله عنهما ذلك في قوله عز وجل: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ * قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يوسف:4 - 5] فنلحظ أن هذه الجلسة لم يكن فيها غيرهما من إخوة يوسف، مع أن الكل يربيهم أبوهم، لكنه خص يوسف بهذه الجلسة؛ لأن هذه الخصوصية ضرورية بلا شك لتهيئة معينة، ولكي يخرج يوسف ما في نفسه كذلك، ولو تأملت أثر هذه الوصية، وهذه الجلسة في مستقبل حياة من نشأ على هذه التربية، لوجدتها في قصة يوسف عليه السلام من أوضح ما يكون، فكل ما لقنه أبوه وذكره به في تلك المجالسة وقع كما أخبره به، مع أن الجلسة فيما يبدو لمن يقرؤها لا تأخذ دقائق معدودة، ومع ذلك أثرت فيه أعظم التأثير، فعندما قال له: ((إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ)) ولم يقل له: إن إخوتك هم الأعداء، وإنما أخبره أن الشيطان هو الذي سوف يجعلهم يكيدون له، وليسوا هم بأعداء لك أصلاً. وبقيت هذه المسألة في قلب يوسف عليه السلام، فعندما حقق الله عز وجل رؤياه، وجعلها ربه حقاً، قال عما فعله إخوته به بأسلوب رفيع: {وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} [يوسف:100] ولم يقل: من بعد أن فعل إخوتي ما فعلوا، فهو يعلم أن الشيطان هو العدو، وقد علمه أبوه ذلك، فأخبرونا من مِن أبنائنا يعرف الشيطان، ويعرف عداوته البينة للإنسان، وليس مجرد أنه يخاف من العفريت إذا هددته أمه أو أبوه بأنه سوف يخرج له ليظل مرعوباً من العفاريت ومن الجن؟ نسأل الله العفو والعافية. ولولا وجود هذا الأثر السيئ في النفوس من الجن، والخوف منها؛ لما وجدنا هذا الكم الهائل من الحالات التي يظن الناس أنها ممسوسة؛ أو مصروعة أو غير ذلك؛ فإن هذا تعظيم لشأن الجن أضعافاً مضاعفة عما يستحقه ويناسبه، وعما هو الواقع في الحقيقة. وفي هذه الجلسة علم يعقوب يوسف أن الله هو الذي يمن، وأنه هو الذي يجتبي، وأنه هو الذي يعلم، وأنه هو الذي يفعل ما يشاء سبحانه وتعالى، فأثرت هذه الكلمات المضيئة من يعقوب عليه السلام حين قال: {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} [يوسف:6]، فلم يقل له: سوف تكون أنت فوق إخوتك، أو سوف تكون أنت الأعلى، وسوف تكون عالماً بتأويل الرؤى، ولكن حرص تمام الحرص أن يقول له: {وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ} [يوسف:6]. وقد أحسن يوسف التلقي، فقال عندما ذكر أباه بأمر الرؤيا بعد أن سجدوا له أبواه وإخوته، {وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} [يوسف:100]، ولم يقل: قد تحققت، وإنما قال: ((قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا)) ونسب النعمة إلى الله، فقال: {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} [يوسف:100]، والمعتاد منا أننا نحن الذين ندعي القدرة، فيقول أحدنا: خرجت من السجن، ولا يحاول أحدنا أن يستحضر أن الله أخرجه من السجن، أو من الأزمة الفلانية، أو من المرض الفلاني، فربما يقول البعض شُفيت، فينسبها هكذا للمجهول أو نحو ذلك، ولكن يوسف حرص أن ينسب الفضل لله والنعمة لله، فقال: {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ}، ولم يقل: وجئتم من البدو، وإنما قال: ((وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ))، ثم علمه أبوه الأسماء والصفات في قوله: {إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [يوسف:6] وهذان الاسمان ختم بهما يوسف عليه السلام خطابه لأبيه بعد هذه السنين الطويلة حين قال: {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف:100]، فمعرفة أسماء الله وصفاته يتلقاها الابن عن أبيه اليوم على طريقة المتكلمين السخيفة المدمرة، والتي لا يعي الناس منها شيئاً، وإنما قد أثمرت آثاراً عجيبة لا يعيها الناس ولا يدركونها، وبالتالي يتركون هذا العلم من أصله. ولقد سمعت اليوم عجباً: بينما أنا في صباح هذا اليوم أمشي، إذ رأيت أباً مع ابنه، والابن في حدود الثالثة أو الثالثة والنصف، ويتكلم بصعوبة لصغره، وأبوه رجل كبير قد شاب بعض شعره، فبمجرد نزولي من السيارة سمعت الولد يقول لأبيه: يا بابا! ربنا فوق، قال له: ربنا في كل مكان يا ابني! فقلت له: والله إن ابنك أعلم منك، سبحان الله! الابن على الفطرة السليمة، فلما قلت له ذلك، وبينت له أنه ليس في كل مكان، وأنه ليس بداخلنا ولا داخل هذه الأماكن كلها، وإنما ربنا فوق العرش، ضحك الرجل وقال لي: شكراً جزاك الله خيراً، قلت: ربنا يبارك لك فيه. فانظروا الولد على الفطرة السليمة، والأب يعلم ولده أن الله في كل مكان، وكان المفروض أن الأب يعلم ابنه أسماء الله عز وجل وصفاته؛ لأن هذا أصل التوحيد. فسيدنا يوسف عليه السلام ذكر كل ما تعلمه من أبيه، فتلك الكلمات كلها مما ذكره له أبوه، فقال: ((إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)) ثم قال: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:101]؛ لأن أباه علمه أن أباه وجده وجده الأعلى كلهم غارقون في نعم الله سبحانه وتعالى، فهو يطلب النعمة من الله والثبات عليها.

سبب فقدان الجلسات التربوية الخاصة في الأسر

سبب فقدان الجلسات التربوية الخاصة في الأُسَر إن سبب فقدان هذه الجلسات التربوية أن أكثر الناس مشغولون انشغالاً عجيباً، وأحسنهم حالاً من يكون منشغلاً بعمل حلال، لكنه يخرج قبل أن يستيقظ الأولاد ويعود بعد أن يناموا، وربما بقي الشهور والسنين أحياناً في الخارج يبحث عن وسيلة للرزق وهو بعيد عنهم، والأم مشغولة بالطبخ والغسل وغير ذلك، وهي لا تقرأ شيئاً ولا تتعلم شيئاً، وبالتالي يترتب على ذلك فقدان تام نلحظه في أبنائنا، بل ربما نكون نحن ملتزمين ولا نعرف لماذا لم ينشأ الأبناء ملتزمين؟ و A لأننا لم نجلس معهم هذه الجلسة التي نتكلم معهم، ويتكلمون معنا فيها.

جلسة تربوية أخرى لإبراهيم مع ابنه

جلسة تربوية أخرى لإبراهيم مع ابنه نجد هذا الأمر في قول إبراهيم عليه السلام لابنه: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102]، فتجد هذه الجلسة واضحة بينة في أنهما كانا مع بعضهما، ويبدو أنه لم يكن هناك معهما أحد أيضاً، أو إن كان أحدٌ فمن أهل البيت، فلا نكتفي بمجرد جلسات مثل جلستنا هذه، وهذه تؤدي ثمرة، لكن هناك ما هو أهم أو ما هو أصل في التربية لا يتحقق بدونها، كذلك نظام المدارس، فتجد المدرس يدخل الفصل ويلقي في التلاميذ درساً لا يُحدِث فيهم التربية المرجوة، فلا بد أن تكون هناك علاقة خاصة لها أثر.

الجلسات التربوية الخاصة في حياة الرسول

الجلسات التربوية الخاصة في حياة الرسول نسمع أثر هذه العلاقة الخاصة من حديث في الصحيحين، في موت عمر رضي الله تعالى عنه عندما يغبطه علي رضي الله عنه وهو في جنازته، حيث يقول: (إني كنت لأرجو أن يجعلك الله مع صاحبيك؛ لأني كثيراً أو أكثر ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: جئت أنا وأبو بكر وعمر، وذهبت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر) وذلك لأنهما صحبا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الدوام، وفي كل المواطن كانا معه خروجاً ودخولاً وذهاباً وإياباً، وهذه بلا شك لها الأثر الكبير. كذلك علي رضي الله تعالى عنه أسلم عندما رأى ابن عمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجته خديجة يصليان، وتلقى منه الدين في هذا البيت بينه وبينه، وهذه هي التربية. كذلك الرسول صلى الله عليه وسلم عندما دخل على ميمونة فسألها عن ابن عباس فقال: (أصلى الغلام؟) ثم بعد أن استيقظ ابن عباس رضي الله عنهما صلى معه. كذلك في تربية عظيمة قال لـ ابن عباس: (يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)، وهذا الحديث وصية عظيمة تتضمن أصول التربية، وكذلك الاعتقادية والعملية والعبادية وغيرها. وكذلك تأمل في وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لـ معاذ عندما يقول معاذ: (كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: يا معاذ! فقلت: لبيك رسول الله وسعديك، فقال: أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً، قال: أفلا أبشر الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتكلوا) وهذا يدل على أنه لم يكن هناك أحد آخر غيرهما، وأنه لم يخبر بهذا أحداً من الصحابة غير معاذ، ومعاذ أخبر به عند موته تأثماً؛ لأنه لم يكن هناك أحد سمعه غيره، فمثل هذه الجلسة يحرص الأعداء ألا توجد في البيت، وأن تكون طرق حياة الناس الاقتصادية والاجتماعية مبناها على ألا يوجد وقت إطلاقاً لمثل ذلك.

أنواع الناس في مسألة الكسب وانشغالهم عن الجلوس مع من يربونهم

أنواع الناس في مسألة الكسب وانشغالهم عن الجلوس مع من يربونهم هناك نوعان من الناس أعني في مسألة الكسب: الغنى المطغي، والفقر المنسي، فالغنى المطغي الذي يجعل الغني يزداد به طغياناً وكبراً، ويزداد انشغالاً، ويصبح رجل أعمال، فهو شخص مهم للغاية فلا بد أن يكون مشغولاً على الدوام، ولا يعرف وقتاً للبيت، ولا يعرف وقتاً لأن يجلس مع أبنائه أو ذريته، فينام بضع ساعات فقط في اليوم، أو ست ساعات، أو خمس ساعات والباقي في العمل، ولا يعرف شيئاً إلا عن لذته وشهوته ورغباته بعد ذلك. والآخر: الفقر المنسي، والنظام الربوي اليهودي، والنظام الرأسمالي من أهدافه أن يزداد الغني غنى؛ لأن أصل هذا النظام مبني على الظلم والاحتكار والتسلط بالأموال الربوية على الآخرين؛ فهم أرادوا أن يكون الناس في الفقر المنسي، وهذا يثمر في الحقيقة الثمار المرة فينا، وليس معنى ذلك أن أطلب من الناس أن يتوقفوا عن الكسب ويتركوا الأعمال، لا والله، ولكن البركة في الوقت من الله عز وجل، كما أن البركة في المال والبركة في الصحة من الله عز وجل. وهذا الأمر أعني: مخططات الأعداء في ذلك تثمر في ألا يجد الإنسان وقتاً نهائياً، وتظهر آثاره السلبية فيمن هو بعيد عن الله، وفيمن لم يتق الله، وأما العلاج لذلك فهو تقوى الله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3]. فغياب الإنسان وعدم جلوسه مع من يربيه إنما هي بسبب قلة التقوى، وبسبب البعد عن الله، فتجد الإنسان كسبه إما بين هذا وذاك، فلا يجد الكفاية التي تكفيه إلا أن يكون منشغلاً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل: يا ابن آدم! تفرغ لعبادتي أملأ قلبك غنى، وأملأ يديك رزقاً، يا ابن آدم! لا تتباعد مني أملأ قلبك فقراً، وأملأ يديك شغلاً). أي: أن التباعد عن الله يكون سبباً في ملء القلب فقراً، ولو أنهم فرغوا بالهم وإرادتهم ونيتهم كانت عبادة لله عز وجل -وإن سعى الإنسان في أمور الدنيا بما أحل الله عز وجل- فلن تكون هذه الفتنة التي تجعل الإنسان لا يعي ولا يدري ما يدور حوله، وإنما يسير في ساقية مثل ثور وضعوه في ساقية لا يدري أين يذهب، وربما تعب من كثرة المشاوير، ولا حول ولا قوة إلا بالله. هذه بالضبط حياة الناس اليوم، وربما أمريكا واليابان والشرق والغرب كلها لا تجد فيها غير ذلك، إنسان موضوع في ساقية يعمل ويكد ويتعب ليصل إلى أقصى درجة التعب، ليرجع منهكاً يقضي أوقاته الباقية كما يقضيها الناس، وذلك في مشاهدة أجهزة الإفساد، ولا أجد مقهى إلا وهي ممتلئة في جميع الأوقات، فأنت كلما مررت وجدت شخصاً يلعب الطاولة، وآخر يتفرج على التلفاز وأفلام الفيديو، والسينمات كذلك مليئة، ومن أنشط المحلات تجارياً محلات الفيديو؛ فإنها تؤجر الشرائط بما لا حصر له، فماذا يبقى إذاً للتربية؟ ماذا يبقى للجلسة الخاصة؟ هذا هو الذي يريده الأعداء، تدمير رهيب جداً، فتجد الأب فيما تبقى من الوقت يشاهد فيه التلفاز هو وأولاده كالبله تماماً، يتشربون كل ما يلقى عليهم من أنواع الفساد، نعوذ بالله من ذلك. ونجد نحن ضغطاً رهيباً على أبنائنا عند نصحهم؛ لأنهم يريدون أن يلعبوا كما يلعب الناس، وأن يتفرجوا كما يتفرج الناس، فالمسألة خطيرة بلا شك، ولكن والله إن بتقوى الله سبحانه وتعالى تحل هذه المشكلة، فمزيد من القرب من الله والتوجه إليه والتفرغ لعبادته سوف يحل هذا الإشكال بإذن الله، ويجد الإنسان وقتاً يجلس فيه مع من يربيه، وهذه الوسيلة أطلت فيها الكلام؛ لأنها وسيلة ضرورية، ولا بد أن توجد فينا سواء على المستوى الشخصي في الأسرة أو على المستوى الدعوي في المسجد، وعلى مستوى التعليم في من هو مسئول عن غيره، لا بد أن يوجد مثل هذا الحوار، ولا بد أن توجد مثل هذه الجلسة التي يتكلم الناس فيها مع بعضهم، مع من يربونه، يتكلمون فيها بقلب مفتوح، ويتلقون فيها الوعظ والتذكير بالله عز وجل.

أثر الخطاب بالبنوة في التربية

أثر الخطاب بالبنوة في التربية قال الله عز وجل: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ} [لقمان:13] فقوله: ((يَا بُنَيَّ)) هذه الكلمة الطيبة التي تذكره بشدة الحب، وقد بوب أبو داود رحمه الله في صحيحه بقوله: باب في الرجل يقول لابن غيره: يا بني. وذكر تحته جملة من الأحاديث، منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ أنس: (يا بني)، وهي كلمة إذا تأملتها في السياق تعطي مشاعر عجيبة في نفس المربي وفي نفس المربى، فبدلاً من الشتم، أو البذاءة في الكلام، وأنواع السباب التي يتعلمها الأبناء من آبائهم، لماذا لا يتعودون على الألفاظ الطيبة، التي لو سمعوها منهم لما قالوا غيرها. الابن في هذه المرحلة يتلقى من الأسرة أكثر مما يتلقى من الشارع، لو أنه سمع أنواع السباب في الشارع ولكنّ أباه وأمه لم يتلفظا قط إلا بالألفاظ الطيبة، فتأثره بالشارع -رغم سوئه- أقل بكثير من تأثره بالألفاظ التي يستعملها أبواه، خصوصاً إذا نهياه عن ذلك وأشعراه بالحب والشفقة والمحبة والمودة، وهذه الكلمة: (يا بني) تصغير ابني، فتشعره بالعلاقة الطيبة التي بينه وبين ولده، وتشعره أنه يحبه، وأنه ينصحه، وليس لأنه يصدر أوامر عسكرية لا بد أن ينفذها، وهذا يطالب به الأمهات كما يطالب به الآباء؛ فإن كثيراً مما نراه ونسمعه من الأوامر التي تصدر كأنها أوامر عسكرية، تكون دائماً بالنهر وبالغلظة وبالشدة، وغالباً ما تكون في أمور يسيرة تافهة، لبس، خلع، أكل، شرب ونحو ذلك، فهذه الحدة دائماً لا تثمر الثمرة المرجوة لها؛ لذلك لا بد من هذه الكلمة الطيبة.

معالم التربية الإيمانية

معالم التربية الإيمانية

البراءة من الشرك من معالم التربية الإيمانية

البراءة من الشرك من معالم التربية الإيمانية كرر مرة ثانية (يا بني) في آية ثانية، قال: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] هذه أول معالم التربية الإيمانية، وبدايتها البراءة من الشرك والتحذير منه؛ لأنه أعظم الظلم، قال عز وجل: ((إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)). فقوله: ((لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ))، أي: أن كلمة الشرك ينبغي أن يعرفها الأبناء، ولو سألنا أبناء المسلمين ما الشرك؟ لو سألنا آباءهم وأمهاتهم، ولو سألنا الكبار، ولو سألنا الإخوة والأخوات عن الشرك، وأنواعه المنتشرة في وسط الناس؛ ليحذروا منها، لوجدنا في ذلك خللاً كبيراً، ولوجدنا معظم الأبناء لم يسمعوا هذه الكلمة ولم يستعملوها، ولو ذكرت لهم فإنما تذكر على سبيل الاستحياء، والشرك عند القوم الذين تركنا لهم أبناءنا يعلمونهم ويربونهم ليس له وجود أصلاً، لا يعرفون شيئاً هو شرك، حتى من يعبد الأوثان عندهم يرون أنه صاحب دين وأنه ليس بمشرك ولا بكافر والعياذ بالله. أما اليهود والنصارى فيجب أن تتأكد من الكتب التي يلزم الآباء والأمهات والمعلمين أن ينظروا فيها؛ لأنها تغرس العقيدة الباطلة في نفوس الأبناء، فبعضها بالطرق المباشرة بالتصريح بصحة الملل الثلاث، وبعضها بتصحيح كل ملة، كما أخبرنا الإخوة بأنهم كانوا يقولون: إن الكافر هو الذي لا يدين بدين الإسلام، فإذا بهم اليوم يقولون: لا، هذا غلط بل الكافر هو: الذي ليس له دين، معناه: أي واحد له دين فليس بكافر، وهذه الألفاظ أصلاً لا تستعمل ولا وجود لها في الواقع؛ لأن اليهود والنصارى والمسلمين سواء والعياذ بالله، وهذه الكلمات لا يمكن أن تطبق في واقع الناس اليوم؛ لأنه ما من أحد إلا ويحترم ويجل حتى لو كان بلا دين، ألم يظل الناس سنين طويلة يعرفون أن الشيوعيين رفقاء وإخوان، وأنهم يستقبلون أعظم الاستقبال وإلى يومنا هذا، فهل يقال عن عباد البقر وعن عباد الصلبان وعن عباد الفئران: أنهم أصحاب أديان، وأن كل دين محترم والعياذ بالله؟!

الولاء والبراء من معالم التربية الإيمانية

الولاء والبراء من معالم التربية الإيمانية أما قضية الولاء والبراء فهي أخطر قضية تتعرض لاهتزاز شديد في نفوس الأبناء، وأصبح الإنسان يجد نفسه مضطراً أن يعذر عوام المسلمين في عدم تكفير اليهود والنصارى، مع أن هذه المسألة هي أصلاً معلومة من الدين بالضرورة، بل معلوم من الدين بالضرورة ابتداء أن من لم يكفر كل من دان بملة غير الإسلام فهو كافر والعياذ بالله، لكن الجهل هو الذي جعل هذه المسألة في واقعنا ليست معلومة من الدين بالضرورة، وإن كان إقامة الحجة فيها بتلاوة الآيات الواضحات قال عز وجل: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]. وقال سبحانه: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النساء:150 - 151]. وقال سبحانه: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73]. وقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:17]. وقال عز وجل: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:30 - 31]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا أدخله الله النار). وقال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} [البينة:6]. والآيات أكثر من ذلك في تأصيل عقيدة راسخة وهي: أن الشرك ظلم عظيم، وأن الإسلام هو الحق، وأن ما دونه باطل وكفر، والولاء والبراء أصل لا بد أن يؤصل في نفس كل مسلم ومسلمة، وإلا لا يصح له دينه ابتداء، فمن لم يتبرأ من الشرك والكفر، وصحح مذهباً وديناً غير دين الإسلام، وجوز ملةً غير الملة الحنيفية وملة التوحيد، فإنه لا يكون موحداً ولا يكون مسلماً والعياذ بالله؛ لذلك نقول: إن هذا من أعظم الخطر أن يعلموا الطفل من أول نشأته أنه ليس بيننا وبين الكفار من اليهود والنصارى عداوة. كذلك الآن يقولون: محمد وسمعان، واسم سمعان يدرسونه في سنة ثانية ابتدائي، و (سمعان) هو: اسم منتشر عند النصارى وعند اليهود، كذلك هناك أعياد دينية، والأعياد الدينية التي تشتمل أعياداً إسلامية أو أعياداً مسيحية، والأعياد الإسلامية اثنان، والأعياد المسيحية اثنان أيضاً، الأعياد الإسلامية: عيد الفطر، والأضحى، والأعياد المسيحية: عيد الميلاد، وعيد القيام المجيد، وغير هذا كثير والعياذ بالله. كذلك حذف جميع الغزوات التي فيها حرب بين المسلمين وبين اليهود وبين النصارى، فلا يوجد أحد يعرف غزوة مؤتة من الأبناء أبداً، ولا غزوة تبوك، ولا غزوة خيبر، فكل هذه الغزوات حذفت باسم التطبيع مع اليهود والنصارى، وغير ذلك كثير.

الجهل بالشرك في الربوبية وخطر انتشاره

الجهل بالشرك في الربوبية وخطر انتشاره هناك أنواع للشرك منتشرة في المحيط الذي يحيط بنا، ولا بد أن يحذر منه الكبار والصغار؛ لأنه إذا لم يدر ما الشرك فإنه يوشك أن يقع فيه والعياذ بالله، فلو قلت لهم: ما هو الشرك؟ لما وجدوا غير من يعبد الأصنام فقط، أما من يعتقد مثلاً شركاً في الربوبية بأن يعتقد أن غير الله يملك النفع والضر، والإحياء والإماتة، والشقاوة والسعادة، ويملك الرزق ونحو ذلك، من الأموات والمقبورين، أو من الجن، أو من الرؤساء والكبراء الذين يملكون الأمر كله، وربما وصل الكفر ببعضهم أن يقول مثلاً لمن يظن أنه قد ملك عليه أمره: ادع الله وانظر هل ينفعك أم لا؟ أو اجعل الدعاء ينفعك، أو نحو ذلك مما يكفر به الكثيرون؛ لأنهم يتصورون أن الكبير والقوي وذا السلطان والمال يقول لك: هذه الفلوس تشتري كل حاجة، وهذه الكلمة قد توصل في النهاية إلى الكفر والعياذ بالله، وإني لأعلم رجلاً كان فيما مضى يتاجر بالكتب الإسلامية، وهو يقع في نوع من أنواع الكفر، ففي مسألة الغنى بالمال فالله عز وجل أعطاه مالاً وهو يقول: أنا بمالي استطعت أن أرزق نفسي، والمال هذا أنا أشتري به كل شيء، وربنا لا يعطيني منه شيئاً، فهذا كلام كفري فظيع والعياذ بالله، وأنواع ذلك كثيرة في مسألة الشرك بالربوبية. كذلك شرك من يعتقد أنه حر مع أوامر الله، مع أن من معاني الربوبية: أن الرب هو المالك والعبد مملوك، فمن إذا قيل له مثلاً: أقم الصلاة، آت الزكاة، اترك الزنا، فيقول: أنا حر، فكلمة أنا حر تقولها مع العبد مثلك، أما أن تقول: أنا حر مع أوامر الله عز وجل فهذا من الكفر بالربوبية والعياذ بالله؛ لأنك لست حراً مع أوامر الله عز وجل. وهذه هي القضية الأساسية التي يُنادى بها في العالم، وهي قضية الحرية بما فيها حرية الكفر والسب والطعن في دين الله عز وجل، وكثير من الناس عندما يتكلم عن أي شيء تجدهم يقولون: أول شيء أننا لا نتعرض لقضية الحرية؛ لأن قضية الحرية مقدسة عندهم، فأي رجل هو حر عندهم يفعل ما يشاء، ويعتقد ما يريد، ويكفر بما يشتهي، ولذلك كثير جداً من الناس يقع في هذا الضلال والكفر والعياذ بالله، مع أن هذا الشرك هو شرك إبليس، فهو لم يقل: رب ما أمرتني، بل قال: لا أسجد، وهذا يقول لك: أنا لا يلزمني كلام ربنا، أو كلام النبي عليه الصلاة والسلام، فربنا يعاقب بما يشاء، ونحن نأخذ منه الذي نريده، ونترك الذي نريده والعياذ بالله.

الشرك في الحاكمية

الشرك في الحاكمية إن من يعتقد في الأحبار والرهبان، أو الكبراء والرؤساء حق التشريع وتحليل الحرام وتحريم الحلال، وتعديل الشرع أو يحاد شرع جديد يلزم به الناس، فهذا والعياذ بالله من أنواع الشرك الأكبر أيضاً، وإن كان انتشاره في العامة والخاصة جعله أمراً عادياً، حتى إن البعض يشك أنه شرك، والبعض يلحقه بالشرك الأصغر مع أنه لا شك من الشرك الأكبر، فمن يشرع للناس من دون الله ويجعل شرع الله تابعاً لكلام الناس فإن أقروه صار حقاً، وإن أبطلوه صار باطلاً، وإنما يطبق منه وينفذ ما وافق القوانين والدساتير، فقد وقع في الشرك والعياذ بالله. وتجد أناساً يصومون ويصلون ويزعمون أنهم مسلمون، ويقررون ذلك أوضح تقرير، كما ذكرنا مثالاً من قبل فيمن ألزم الناس بالربا، وقال: إنه دستوري؛ لأن النص لم يتعرض للإلغاء لما قبل صدور هذا النص، أي: أن النص الدستوري بأن الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع لم يتعرض للإلغاء لما قبل ذلك، فالذي قبله مشروع لا بد أن يطبق ويلزم الناس به ومنه الربا، ولاشك أنه يسميه بغير اسمه، ولم يقل: هذا ربا، قال: هذه عمولة أو فائدة أو استثمار، مع أنه ربا صريح، ولا نزاع عنده أنه فائدة ربوية محرمة، ولكن النص لم يلغيه، ولذلك لا بد من اعتباره، وهذه قاعدة خطيرة جداً والعياذ بالله، وهي من أخطر ما يهدد العقيدة في أن الله وحده هو الرب الحاكم.

الجهل بالشرك في الألوهية

الجهل بالشرك في الألوهية أما الشرك في الإلهية فهو أيضاً منتشر انتشاراً كبيراً والعياذ بالله في صرف العبادات لغير الله، كمن يدعو الأموات ويستغيث بهم، ويذبح لهم، وينذر لهم، ويخاف منهم، ويرجوهم، كذلك من يتحاكم إلى عادات وتقاليد ما أنزل الله بها من سلطان، فمن اعتقد ولو لم يتحاكم وقع في الشرك، ومن تحاكم راضياً مختاراً من غير إكراه إلى من يحكم بغير ما أنزل الله فقد صرف العبادة لغير الله، ونحن نبين هذا على سبيل الإجمال لا على سبيل التعيين؛ لأن هذه الأنواع من الشرك يقع فيها كثير من الناس وهو لا يدري، فهذا لجهله وتأويله وانتشار الفتن والعياذ بالله؛ لأنه أصبح أمراً منتشراً، ولا نعني بذلك تكفير المعين دون إقامة الحجة، ولكن نحذر من خطر وجود الشرك الذي لا بد أن نربي أبناءنا على الحذر منه، ولا بد أن نعرفهم جميعاً به بمجرد قدرتهم على التمييز وإدراكهم لمعاني الكلمات.

دخول الشرك في الأسماء والصفات

دخول الشرك في الأسماء والصفات قال تعالى: ((يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ))، الشرك يدخل في قضية الأسماء والصفات، فمن عطل أسماء الله وصفاته وجحدها ونفاها وحرفها، وكذلك من شبه الله بخلقه أو شبه المخلوقين بالخالق فكل ذلك من الشرك، وكل ذلك من الظلم العظيم، وهو وضع الشيء في غير موضعه. فالإنسان لا يضع ربه في غير موضعه؛ فإن الله عز وجل فوق عرشه، وهو إله العالمين ورب العالمين، ومهما عبد المشركون غيره فذلك لا يغير من الأمر في حقيقته من شيء؛ فإن الله ليس معه من إله كما قال عز وجل: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ} [الأنبياء:22]. وقال تعالى: ((إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)) أي: كون الإنسان يشرك بالله فقد وقع في الظلم الأكبر لنفسه، وليس معنى ذلك أنه يظلم الله كما قد يظن البعض ذلك، فهذا خطأٌ، فالعبد لا يظلم ربه، قال عز وجل: {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [البقرة:57]. فإن الله سبحانه وتعالى لا يقدر العباد على ظلمه، ولا يتصور ذلك منهم، ومهما صنعوا فهم في قبضته، بل ما وقع منهم ذلك الشرك إلا بمشيئته وقدره، وإن كان هو عز وجل حرمه عليهم، وإنما قدره لحكمة بالغة، فالله سبحانه وتعالى جعل الشرك أعظم الظلم، فهذه هي التربية الإيمانية. ونلاحظ في ثنايا الوصية تعليم الأسماء والصفات كما ذكرناه في قصة يوسف، وهذه تجدها كذلك في قوله هنا: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان:16] فقوله: ((إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ)) هذه تربية إيمانية على تعريف الابن المربى أسماء الله وصفاته، وأنه سبحانه وتعالى سوف يأتي بعملك. قوله: ((إِنَّهَا إِنْ تَكُ)) أي: إن تكن الفعلة التي فعلتها أو المعصية التي فعلتها، ((مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ)) مهما كانت قليلة، ((فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ))، ولو كانت مغلقة عليك، فيربيه على المراقبة لله عز وجل أن الله يبصره، وأنه يعلم ذلك، وأنه خبير بما يفعل، وأنه لطيف سوف يأتي بما دق وقل، وسوف يحاسبه عليه، فيربي فيهم المراقبة والمحاسبة، وهي عبادات قلبية وهي أساس الإيمان، وربط ذلك بالأسماء والصفات كما نجدها واضحة في وصية يعقوب ليوسف عليه السلام كما ذكرنا. وهذه الأمور من أهم ما يلزم كما ذكرنا في وصية النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس: (يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك). وهذا تعليم للقضاء والقدر بأوضح عبارة، مع تجنب الفلسفة الكلامية، والعبارات الغامضة، والمباحث السخيفة التي أهلكت الناس والعياذ بالله، وإنما بين له النبي عليه الصلاة والسلام مراتب القدر واضحة جلية، وعلمه أن يستعين بالله وحده، وأن يسأل الله عز وجل وحده ولا يدعو سواه، وأن يحفظ الله عز وجل ويراقبه، وذلك بأن يحفظ سمعه وبصره ويده ورجله، وبين له أن الله يحفظه بذلك، وأنه سوف يجازيه على ذلك، بأن يجده عند الشدة معيناً له، كما قال: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة).

الأسلوب التربوي الأمثل في تعليم العقيدة

الأسلوب التربوي الأمثل في تعليم العقيدة إن التربية الإيمانية الاعتقادية بأنواعها الثلاث من أهم ما يلزم المربي، ومن أهم ما يلزم الأب والأم أن يعلموه لأبنائهم، وإنما يتم ذلك بالأسلوب القرآني والنبوي، وليس بالأسلوب الكلامي ولا بمجرد التلقين، فلا تظن أن الولد لو حفظ العقيدة الطحاوية كفاه ذلك، لا، فهذا ليس هو الأسلوب الذي كان عليه طريقة القرآن وطريقة السنة، وإنما الحفظ شيء تابع، وإلا فإنه رسول الله كان سوف يلقن الصحابة متناً معيناً يحفظونه، وبذلك يكون قد درسهم الاعتقاد. أنا لا أقول ذلك تزهيداً في حفظ المتون، وإنما لا أُسَرُّ عندما أسمع ابني يكرر العقيدة الطحاوية مع علمي أنه لا يفقه منها شيئاً، فلذلك نقول: ليس هذا هو الكافي، لا تظن أنه بذلك قد صار يفهم التوحيد أو يعلم العقيدة، وكذا من حفظ متن معارج القبول أو درسه جيداً وأتقن كل مسائله، فمسائل الاعتقاد أعمق من ذلك، مسائل الإيمان يتأصل القلب بها، ويصلح بها، وليس مجرد أن يعرف علماً مجرداً، أو كيف يرد على الشبهات. إن مسائل الاعتقاد لا بد فيها من أمرين اثنين: أن يعرف الإنسان كيف يقول، وكيف يحب وكيف يخاف، وكيف يرجو، وكيف يراقب الرب سبحانه وتعالى، وكيف يحاسب نفسه قبل أن يحاسبه الله عز وجل، وكيف يعرف أسماء الله وصفاته ويتأثر بها ويتعبد لله عز وجل بها، فكما يعرف الشرك ويتركه يعرف التوحيد ويأتيه، ويتعبد لله عز وجل بأنه الرب الإله المعبود الذي له كل معاني الكمال، وله الأسماء الحسنى والصفات العلى سبحانه وتعالى.

طاعة الوالدين من معالم التربية الإيمانية

طاعة الوالدين من معالم التربية الإيمانية قال سبحانه وتعالى: ((وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ)) ونلحظ هنا تغير طريقة الخطاب فهو لم يقل: قال لقمان لابنه: أطع والديك أو بر والديك أو استوص بهما خيراً، وإنما ذكرها ربنا سبحانه وتعالى في طريقة الخطاب؛ لأنها خطاب منه عز وجل، وهي ضمن وصية لقمان؛ ولكن لقمان أخرجها في صورة أنها أمر الله عز وجل؛ ليعلم الولد أن بر الوالدين أمر من الله، وأن لقمان لا يأمره ابنه أن يبره لأجل مصلحته أو لأجل حاجته هو، وإنما يأمره بسماع كلامه على أن الله هو الذي أمرك به، وأن الله هو الذي وصاك بوالديك؛ وذلك لكيلا تكون طاعة الولد لوالديه واستيصاؤه خيراً بهما من أجل منفعة ينالها منهما، فلا شك أن الأب والأم هما مصدر النفع الظاهر والضرر الظاهر للولد، ولكن لا بد أن يبرهما رغبة فيما عند الله وطاعة لله عز وجل. قال تعالى: ((وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ)) وهذا لا بد أن يتفكر فيه الكبير قبل الصغير، وأن يدرك الجميع كم تعبت الأم في حملها ورضاعها لطفلها، وذلك سبب لوجوب شكر هذه النعمة التي أولتها له الأم بفضل الله سبحانه وتعالى. قال تعالى: ((وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ)) أي: ضعفاً على ضعف. ((وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ)) أي: فطامه في عامين. قال عز وجل: ((أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ)) والشكر هو: الاعتراف بالنعمة، وقدم الشكر لله؛ لأنه هو الذي خلق هذه النعمة، وهو الذي أوجدها، وهو الذي هيأ الأب والأم وقذف في قلبيهما الرحمة والشفقة والحب لولدهما، وهو عز وجل الذي جعلهما يتحملان كل ذلك بفضله عز وجل. نسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

وقفات مع سورة غافر

وقفات مع سورة غافر إن لنا عبرة في ذلك المؤمن الصادق الذي آمن بالله وأسمائه وصفاته، ولم يغتر بزخرف الحياة الدنيا الزائل، فيسخر الله له ولأمثاله الملائكة الكرام حملة العرش العظيم يستغفروا له، بدعائهم الله أن يقيه السيئات، وأن يجمعه بأحبابه في دار كرامته. وفي المقابل نجد ذاك الرجل الفاجر الذي غره الشيطان، وغرته نفسه، وغره ما يرى من تقلب الذين كفروا في البلاد؛ كيف مقته عباد الله، بل مقتته نفسه التي بين جنبيه، ثم يتوج ذلك الخزي بالمقت الأعظم الذي هو مقت الله له إلى أبد الآبدين.

الإيمان بأسماء الله وصفاته من مقتضيات الإيمان بالله

الإيمان بأسماء الله وصفاته من مقتضيات الإيمان بالله الحمد لله، نحمده ونستعينه ونسغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: {حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ * مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ * كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ * وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ * الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ * قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ * ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ * هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ * فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ * يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ * يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ * وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [غافر:1 - 20]. إن الله سبحانه وتعالى فرض على العباد توحيده ومعرفته ومحبته والتعبد له بمقتضى أسمائه وصفاته، ومن أجل ذلك أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وقدر سبحانه وتعالى من أنواع المقادير خيرها وشرها ما يتعرف العباد به على أسماء ربهم الحسنى بقلوبهم وعقولهم، وصفاته التي علموها من الوحي المنزل من عنده سبحانه وتعالى، وإن كانت القلوب إنما تعي ذلك وتدركه حين تطبق هذه الآثار العملية في الحياة، ولذلك نجد أن قضية الإيمان بأسماء الله وصفاته دائماً مرتبطة في قلوب عباد الله المؤمنين بالأحداث التي تقع في حياتهم، ولذلك كانت فضيلة الإيمان بأسماء الله وصفاته في مقدمات السور وخواتيمها، بل إن معظم آيات القرآن الكريم تختم بذكر أسماء الله وصفاته. وهذه السورة -أعني سورة غافر أو سورة المؤمن- قص الله عز وجل علينا فيها قصصاً، وضرب لنا فيها من الأمثلة ما تتثبت به أفئدة المؤمنين، ويعرفون به طريقهم إلى الله سبحانه وتعالى، ويزداد به إيمانهم، ويسيرون على نور من ربهم، قال سبحانه وتعالى: {حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غافر:1 - 3]، فهذه جملة من أسماء الله وصفاته تعرف العباد بربهم سبحانه وتعالى، فالله عز وجل هو الإله المعبود العزيز الذي قهر كل شيء، وغلب كل شيء {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18]، وهو سبحانه العزيز الذي لا يمانع ولا يغالب، فما أراده كان وما لم يشأه لم يكن، وهو سبحانه وتعالى ناصر دينه وأولياءه وعباده المؤمنين، كما قال عز وجل: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة:21]، وهو سبحانه وتعالى العليم بمواقع الأشياء ومواضعها، والعليم بدقائق الأمور وظواهرها وبواطنها، وقد شرع الشرائع بعلمه سبحانه وتعالى، وقدر المقادير بعلمه وحكمته. {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} [غافر:2 - 3]، وهذا من أعظم ما يتعلق به المؤمنون، فهم يعرفون دائماً أن ما أصابهم من مصائب ومحن فهو بسبب الذنوب، ولذلك هم دائماً يفرون إلى الله عز وجل منه سبحانه وتعالى، فيفرون إلى الله عز وجل بالاستغفار والتوبة والإنابة والرجوع الدائم {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31]، والرسل جميعاً دعوا قومهم إلى أن يستغفروا ربهم، فهذا نوح عليه السلام يقول لقومه: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نوح:10]، وكذلك قال الأنبياء من بعده: {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [هود:90]، هكذا كانت دعوة الأنبياء، ويجب أن تكون دعوة المؤمنين وحياتهم دائماً كذالك: فيها توبة واستغفار، وهو عز وجل غافر الذنب، وإذا غفر الذنوب وسترها وقى العباد شرها وعافاهم من عقوباتها. ((وَقَابِلِ التَّوْبِ))، وهو كما قال عز وجل: {يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئَاتِ} [الشورى:25]، وهو سبحانه وتعالى قد فتح باباً للتوبة قَبِل المغرب يسير الراكب في عرضه مسيرة أربعين أو سبعين خريفاً، ولا يزال مفتوحاً للتوبة حتى تطلع الشمس منه، والله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم. ((شَدِيدِ الْعِقَابِ)) لمن خالف رسله، وخالف شرعه، وحارب أولياءه. ((ذِي الطَّوْلِ)) أي: ذي الغناء والعطاء العظيم والمن والفضل سبحانه وتعالى. ((لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ)) أي: لا معبود بحق سواه. ((إِلَيْهِ الْمَصِيرُ))، فهو الذي قدر مقادير الخلائق وجعلها ترجع إليه؛ للحساب والسؤال والثواب والعقاب، فليست الدنيا آخر المطاف. فهذا ملخص عقيدة الإيمان بالله واليوم الآخر: معرفة الله سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته التي تظهر آثارها في حياة الناس، والذين يدركون هذه الآثار هم أهل الإيمان، وذلك عندما يوقفهم ربهم سبحانه وتعالى على مقتضى أسمائه وصفاته، وارتباطها بواقعهم.

وسائل الكفار للصد عن سبيل الله

وسائل الكفار للصد عن سبيل الله لقد بين سبحانه وتعالى الوسائل التي يستخدمها الكفار للصد عن سبيله، فقد يجادلون ويناقشون، فإن غُلبوا لجأوا إلى الحرب والبطش، فقال الله تعالى: ((مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا))، وذلك لأنها آيات بينات واضحات، ولكن الكفار لا ينفع معهم حجة، ولا تزجرهم آية، ولا يتعظون بموعظة، فيظلون على الجدال بالباطل، ومهما ظهرت الحجج العقلية والنقلية، والمعجزات الحسية، فهم يأبون الانقياد، ولو كان الحق أوضح من الشمس في رابعة النهار ما استجابوا له، ولو أن الله حشر عليهم كل شيء، وكلمهم الموتى ما كانوا ليؤمنوا؛ لأن الله طبع على قلوبهم، ولولا الخذلان لما وقع ذلك، وما طبع على قلوبهم إلا بسبب من أنفسهم. ((مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا))، وهذه المجادلة المقصود منها أن يمنعوا فائدتها، وأن يفسدوا على الناس الانتفاع بها، وهذه المجادلة تكون بالطعن فيها، أو بالطعن في من يقرأها ويتلوها ويأت بها من الرسل ثم من أتباعهم بعد ذلك، أو بمحاولة تحريفها وتأويلها إذا زعموا الإيمان بها، أو بمحاولة صرف الناس عن حقيقتها أو حقيقة معانيها؛ لكي لا تطبق في الحياة، أو لتكون مجرد أقوال تقال دون أن تكون عملاً وسلوكاً يتغير به حال الناس إلى ما يوافق أمر الله عز وجل وشرعه. {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ} [غافر:4] أي: أنهم يتمكنون مدة من الزمن قدر الله سبحانه وتعالى مدتها، وهو عز وجل الذي جعلهم يتقلبون في البلاد ذهاباً وإياباً، وأمراً ونهياً، وتملكاً وتسلطاً فيما يبدوا للناس، وأكثر الناس يغرهم ذلك، ويقولون: هذا هو الحق؛ لأنها هي القوة، فالحق عندهم مع من كانت القوة في صفه وفي صالحه، ومن كان السلطان عونه، ومن كان الأمر في الناس أمره، فيغترون بذلك ثم يتابعون الباطل، ويشاركون في المنكر؛ لأن صاحبه يتقلب في البلاد، والأنهار تجري من تحته، وله الملك في أنحائها -نسأل الله العافية- وقد حذر الله عباده المؤمنين أن يغتروا بذلك وإن كان الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم. والمقصود أن هذا التغلب في البلاد هو إلى حين، فله نهاية حتماً، ولابد من أن تشرق الشمس من جديد، وأن يزول تمكن الباطل؛ فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين. والله سبحانه وتعالى حين قدر أن تكون الأيام بين الناس دولاً إنما قدر ذلك ليستخرج من قلوب عباده المؤمنين أنواع العبودية، والمعرفة بأسمائه وصفاته، والتعلق بالله سبحانه، وصدق التوكل عليه، وحسن الظن به، وكمال التفويض إليه، وإلجاء الظهور إليه، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول عندما يأوي إلى فراشه كل ليلة: (اللهم أسلمت نفسي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت). إن الذي يستشعر أنه يرغب إلى الله ويرهب منه، وأنه قد فوض الأمر إليه، وأنه ليس له ملجأ إلا إلى الله سبحانه وتعالى، فألجأ ظهره إلى الله، وأسلم نفسه لله، وفوض أمره إلى الله، وتوكل على الله؛ فهذا الذي قد أيقن بأسماء الله وصفاته، وأحسن الظن بالله سبحانه وتعالى، وذلك إنما يقع ويكون بالصبر على أنواع من المقدورات التي قد لا يحب الله عز وجل كثيراً منها ولا يرضاها، ولكنه قدرها لما يترتب عليها من أنواع المحبوبات له عز وجل ومن أنواع العبودية، والتعرف للعباد بآثار أسمائه وصفاته، ومن كونهم يتضرعون إليه، فيجيب دعوتهم، ولذلك فلا تظنن أن الظلام هو من صنع أهل الظلام، إنما يستغلون الفرصة، وإنما جعل الليل والنهار، والظلمات والنور خالقُ الكون كله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1]، فالظلمات قدر الله أن توجد كما قدر وجود الليل، وقدر سبحانه وتعالى أن يطلع النهار بعد ذلك، فكذلك سيظهر نور الحق فلا يغررك إذاً ما تراه من تقلب الذين كفروا، فالذي جعلهم يتقلبون والذي مكن لهم وسلطهم هو الله سبحانه وتعالى. {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [يونس:88 - 89]، وقال عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان:31]، وقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام:112] {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام:113]، وقال سبحانه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام:123]. فمن أين يأتي الغرور لمن أيقن بذلك كله؟ فالله هو الذي قدر وأعطى ومنع وابتلى عباده المؤمنين، قال الله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:155 - 156].

الأرض مكان الصراع بين الحق والباطل

الأرض مكان الصراع بين الحق والباطل ((فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ)) فمن أين يأتي الغرور لمن عرف أسماء الله وصفاته، وعرف أنه هو الذي قدر المقادير، وآمن بالقدر خيره وشره، وفوض الأمر إلى الله؟ إنما يغر الإنسان إذا ضعف إيمانه أو زال، وإنما يغر الإنسان إذا وزن الأمور بموازين أهل الدنيا، وبقوة أهل الأرض، ولكن المؤمن ترتفع نفسه إلى آفاق أعلى زماناً ومكاناً. وانظر إلى هذه الآيات التي توسع أفق المؤمن، وتجعله يرى الدنيا من أولها إلى آخرها كحلقة واحدة تتضمن أنواعاً أو حلقات من الصراع بين الحق والباطل {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [غافر:5]. وتأمل ما يجعلك ترى الدنيا من أولها إلى آخرها زماناً صغيراً جداً تتكرر فيه هذه الصراعات التي حقيقتها صراع بين الإيمان والكفر، ((كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ)) أي: قبل قريش، وقبل كل أمة سارت على طريقها وعلى نهجها، وقبل كل قوم كفار، فكان قوم نوح على تكذيبهم لرسلهم، والأحزاب من بعدهم، وهذه سنة قدرها الله عز وجل أن تكون، وأن تتحزب الأمم وقوى الباطل، وتجتمع على رسلهم أصحاب دعوة الحق، ((وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ))، ومن الأحزاب فرعون وثمود والجنود التي جندوها {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ * بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج:17 - 22]. فتحزبت الأحزاب، واجتمعت القوى؛ لكي تزهق الحق، فثبت الحق وزهق الباطل، قال تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81]، {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ} [غافر:5]، فيزداد الكيد والمكر عبر مرور الأيام والشهور والسنين للدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، ويصل الأمر إلى أن قرر الكفار بأن يجتثوا الدعوة من أصلها، ويأخذوا رسولهم ويمنعوه بالكلية: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]. وحين ترى أن الله سبحانه وتعالى جعل ذلك مثالاً للمؤمنين لكي يتعظوا، فاعلم أن هذا الأمر يتكرر، وأن الكفار يريدون أن يجتثوا دعوة الرسل، فالذين قتلوا الأنبياء بالأمس هم الذين يريدون قتل دعوتهم في كل زمان ومكان، وهم لهم نصيب من ذلك، ولذلك ذم الله بني إسرائيل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وقال لهم: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة:87]، فجعلهم من قتلة الأنبياء مع أنهم لم يتمكنوا من قتل النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن لما أرادوا قتل دعوته، وهموا بقتله، وأرادوا قتل أولياء الله سبحانه وتعالى، وحزبوا الأحزاب من أجل إبادة الدعوة وإيقافها، جعلهم الله كالذين من قبلهم، وهي مسألة تتكرر في الأزمنة والأمكنة المختلفة، فطالما عادوا أولياء الله لأجل ولياتهم لله، وعادوا الدعاة إلى الله لأنهم يدعون إلى الله سبحانه، وعادوا أهل الإسلام لأنهم أسلموا، وتجد أن هذا الأمر يتكرر في المشارق والمغارب، فتجد من يحارب من التزم بالدين؛ لأجل التزامه بالدين، فهذا يحارب الله ويحارب رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا منهم، وكلهم يريدون أن يأخذوا دعوة الرسل ليوقفوها، فإن فعلوا ذلك فإن الله عز وجل سيأخذهم، قال سبحانه: ((وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ))، ولهم وسائل متعددة، فقد هموا بأن يأخذوا الرسل، وكذالك جادلوا بالباطل، فاستعملوا جميع الوسائل المتاحة لهم من القوة المادية والمعنوية ليصدوا الناس عن سبيل الله، ومحاولة إقناع الناس بأن ما جاءت به الرسل ليس هو الحجة، فإن استجابوا لهم وإلا أخذوا الرسل وبطشوا بمن تبعهم. ((لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ)) فما كان الجزاء؟ (فأخذتهم) أي: أخذهم الله وأبطل كلا النوعين من المكر، وأبطل ما أرادوا من أخذ الرسل، بل أخذهم هو عز وجل؛ لأن الله من ورائهم محيط، والقوة له جميعاً سبحانه وتعالى، ولا حول ولا قوة إلا به عز وجل، ولا يملك العباد شيئاً: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:56]. فأما ما يدعو به النبي صلى الله عليه وسلم فهو كي تستيقظ القلوب من وزن الأمور بميزان أهل الدنيا، ولكي تدرك حقائق هذا الوجود، وتدرك أين القوة ولمن تكون، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم! رب السموات السبع ورب الأرض ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، فالق الحب والنوى، منزل التوراة والإنجيل والقرآن، أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته، اللهم! أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اللهم! اقض عنا الدين، وأغننا من الفقر). فما أعظم أدعية النبي صلى الله عليه وسلم! فهي أدعية تجعل الإنسان يتجاوز زمانه ومكانه، ويستحضر أن أوامر الله نازلة، وأن أعمال العباد إليه صاعدة، وأن الدنيا كلها في قبضته عز وجل، وأن صغير الأمور وكبيرها هو سبحانه وتعالى مالكها ومدبر أمرها: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة:5]، فعندما يدرك المؤمن ذلك، ويتحرر من قيود الزمان والمكان يعظم إيمانه، فترجح كفته، وينتصر بإذن الله وتنتصر طائفته. وإنما ترجح كفة ميزان أهل الإيمان بمقدار الإيمان في قلوبهم، فتتغير الموازين من أجلهم، وينمحي الباطل بدعائهم، وإنما يكون ذلك باستحضارهم عظمة ربهم، فهؤلاء الكفار أخذهم الله قبل أن يأخذوا رسولهم، وقبل أن يوقفوا الدعوة، وفي كل مرة يظن الظان أن أمر الدعوة وصل إلى طريق مسدود، وأوشك على الانتهاء. وانظر إلى إبراهيم عليه السلام وقد ألقي في النار والظن بلا شك لكل من يزن بموازين الأرض أن دعوته قد توقفت وانتهت وماتت، وإذا بالأمور تنقلب، وإذا بذكر إبراهيم يظل إلى الآخرين: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} [الشعراء:84]، ويظل إبراهيم إماماً للمتقين، رغم أنه ما آمن به من قومه إلا لوط، وهكذا جعل الله عز وجل موسى عليه الصلاة والسلام عندما أقسم أتباعه أنهم لمدركون: {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62]، فهكذا أخذ الله الكفرة. {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ * وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر:5 - 6] فكما فعل الله بمن مضى من المكذبين سيفعل بمن يأتي منهم، ففي كل زمن، وفي كل أرض، وفي كل صراع يوجد من هذه النوعية، وإنما يريد الله أن يقع عقابه على الكافرين بالحق، ولم يعذبهم باطلاً، ولم يدخلهم النار ظلماً، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر:6]، أترون البغي والعدوان والظلم والطغيان الذي يرتكبه أعداء الله وعلى رأسهم اليهود الغادرون المكذبون الطغاة المجرمون، الذين ينشرون الفساد في مشارق الأرض ومغاربها، أتظنون أن ذلك يغيب عن الله، أو أنه خارج عن سلطانه؟ لا والله! ولكنه سبحانه يملي لهم؛ لأن كيده متين، ولأنه سبحانه يريد أن يدخلهم النار. {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر:6]، فلقد كان دخولهم النار حقاً وعدلاً بما اقتضته أعمالهم وبما كسبته أيديهم، {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [آل عمران:117]، وهم بطغيانهم هذا يقتربون من النهاية، وذلك حكم الله عز وجل وإرادته في جبر المنكسرين، وكسر المتجبرين وإذلالهم وإصغارهم، كما قال سبحانه: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص:5 - 6]، فإرادته ماضية في ذلك، كما حكى الله عن قوم موسى قولهم لموسى: {أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:129]، {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر:6].

المؤمنون هم الأكثرون في الحقيقة

المؤمنون هم الأكثرون في الحقيقة ثم بعد تجاوز حدود الزمان تجاوز أيها المؤمن حدود المكان؛ لتعلم أن الكون كله مطيع لله، فهناك عرش تحمله ملائكة كرام يسبحون الله ليلاً ونهاراً، ومن حول العرش يعظمون الله أكبر تعظيم، ويقدسونه ويسبحونه، وترى الكون كله كذلك يسبح، وأنت مرتبط بهذا الكون، بل إن الله عز وجل جعل لك شأناً عظيماً؛ حيث سخر ملائكة كراماً من حملة العرش -وما أعظمهم-، فقد أذن للنبي صلى الله عليه وسلم أن يحدث عن ملك منهم ما بين شحمة أذنه إلى عاتقة مسيرة سبع مائة سنة، وقد جعلهم الله عز وجل يستغفرون لك، ويدعون لك بالتثبيت، وهم مع كونهم منشغلون تمام الانشغال بعبادة الله، فقد جعل من عبادتهم الدعاء للمؤمنين، فأنت لست وحدك وإن كنت ترى نفسك فرداً ذليلاً ضعيفاً، لكن جنود الله عز وجل أكثر: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31]، فجعل الله سبحانه وتعالى ملائكته يدعون لعباده المؤمنين، ويستغفرون لهم، ليقيل عثراتهم، ويكفر سيئاتهم، ويثبتهم، وينصرهم، ويؤيدهم، قال سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} [غافر:7]. وكم عدد الكفرة في الأرض؟ والله مهما بلغوا الملايين، ومهما اعترضوا وأبوا واستكبروا أن يسبحوا ربهم عز وجل فإن المؤمنين والملائكة سيسبحونه وهم أكثر وأعظم، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أطت السماء وحق لها أن تئط؛ ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك قائم أو راكع أو ساجد، لا يفترون عن التسبيح والذكر وعبادة الله)، فلذلك إذا كثر الكفار فجنود الله أكثر، وإذا كثر الظلمة فمن يعبد الله ويسبحه أكثر {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31]، {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا} [الجن:24]، فيظنون أنفسهم كثرة ويقولون: {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء:56] وقالوا: ((نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ))، ومع ذلك فهم قليل، وسيعلمون ذلك إذا رأوا حقائق هذا الكون على ما هي عليه عندما ينجلي الغبار، وعندما يفيق الناس من رقدة الحياة الدنيا. أنت أيها المؤمن! تستشعر ذلك في هذه الحياة، فتسعد بها أعظم سعادة مهما كان الضيق في الأرض، فأنت ذا أفق أوسع، فالدنيا كلها بمثابة يوم، وهناك اليوم الآخر. {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:7]، وليس فقط حملة العرش فهناك غيرهم، ولكن الله ذكر أشرف مخلوقاته ليذكر إيمانهم واستغفارهم لعباد الله المؤمنين، وإلا فالكائنات كلها تسبح له كما قال: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الجمعة:1]، وقال: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الصف:1]، وقال عز وجل: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44]. فإذا استشعرت القلة والذلة والضعف فانظر إلى الكائنات من حولك، وانظر إلى الأرض التي تمشي عليها، والسماء التي يصعد إليها عملك، والطير وهي صافة بأجنحتها، وتأكد أن الكل يعبد الله، وهو يحبك، وهو يريدك أن تثبت، فيحبك إذا كنت مؤمناً، كما قال عز وجل عن آل فرعون: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} [الدخان:29]، إذاً: فالسماء والأرض تبكيان على المؤمن؛ لأنهما تحبانه وتريدان أن يبقى عمله الصالح فيهما، وكما أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الحيتان في البحر وهوامه، والطير في السماء تستغفر لمعلم الناس الخير). وكل مؤمن فإن الكون من حوله يؤيده، كما أن المؤذن يشهد له كل ما سمع صوته من الكائنات من مدر وحجر، وكذلك الملبي يشهد له يوم القيامة بذلك، حتى تنقطع الأرض من هاهنا ومن هاهنا، فالكائنات تسبح الله، حتى الملائكة فإنها تسبح بحمد الله. إذا رأيت ذلك ارتفعت نفسك عن هذه الدنيا الصغيرة الحقيرة، الضعيف أهلها، الفقراء أصحابها، فالعاجزون الذين من تمسكوا بها، وحرصوا عليها. {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا} [غافر:7]، لا بد من وجود الذنوب ولكن كن تائباً، فإن (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)، فسر على طريق الله عز وجل، والتزم بطاعته، واتق الله ليسخر الله لك من خلقه من يستغفر لك، ويطلب لك المغفرة، فقد تذنب وقد تخطئ وقد تعصي الله، ولكن كن سائراً في طريق الله، ولا تكن على خلاف ذلك، ولا تكن سائراً في غيره؛ فإنك إن كنت متجهاً إلى عبادة غير الله فأخطاؤك لن تغفر، وليس هناك من يستغفر لك، لذلك إذا كنت في الجملة مطيعاً لله عز وجل، باحثاً عن رضوانه، راغباً في ثوابه، راهباً من عقابه، محباً له، خائفاً منه، راجياً فضله؛ فعند ذلك يستغفر لك كل شيء، ويستغفر لك ملائكة الله سبحانه ويقولون: ((فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا)). ((وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ))، فالتزم بسبيل الله. {وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} [غافر:7 - 8]، فهؤلاء الذين تخشى عليهم إذا فارقتهم، وتخاف عليهم حين يصيبك مكروه أكثر من خوفك على نفسك، (أحبب من شئت فإنك مفارقه)، ومع ذلك فإنما الاجتماع هناك، فهناك السعادة الحقيقة، فكم يكون فراق أهلك ومالك ستون سنة، سبعون سنة؟ لكن هذه هي سنته سبحانه في أكثر الخلق، وأعمارهم لا تصل إلى أكثر من ذلك في الغالب، ومع ذلك فلابد من الفراق، واعلموا أنكم لن تدخلوا الجنة إلا إذا كنتم مطيعين لله. {وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [غافر:8] فالملائكة يتوسلون إلى الله بأسمائه وصفاته من أجل أن يجمعك بأحبابك في جنته التي هي كل رضوانه سبحانه وتعالى. قال عز وجل: {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ} [غافر:9]، وهي دعوة شاملة في الدنيا والآخرة، فالملائكة تدعوا ربها عز وجل أن يقي المؤمنين السيئات، ومن ضمن السيئات ما يمكره أعداء الله بالمؤمنين، كما قال عز وجل في نفس السورة عن المؤمن: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} [غافر:44 - 45]، فالله عز وجل يقي المؤمن السيئات في الدنيا، والقبر، والآخرة، وهو محض فضل الله تعالى، وإذا وقي الله المؤمنين السيئات يوم القيامة فهذه هي الرحمة: {وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [غافر:9]. اللهم اغفر لنا، واجعلنا من الذين تابوا واتبعوا سبيلك، وقنا عذاب الجحيم، ربنا وأدخلنا جنات عدن واجعلنا من الصالحين وآباءنا وأمهاتنا وذرياتنا وأزواجنا إنك أنت العزيز الحكيم، وقنا السيئات {وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ} [غافر:9]، اللهم اجعلنا من الفائزين الفوز العظيم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

مصير المؤمنين والكافرين في الآخرة

مصير المؤمنين والكافرين في الآخرة الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم. أما بعد: ذكر الله سبحانه وتعالى عقب ذلك مصير الكفار، فبدأ بذكر مصير المؤمنين، وما هم فيه من الحب الذي يحيط بهم من كل جانب، والذي يحصل لهم من الكائنات كلها، ومنهم ملائكة الله تعالى، ويكفيهم شرفاً أن الملأ الأعلى يذكرهم، وأشرف من ذلك أن الله يذكرهم في الملأ الأعلى، كما قال: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [البقرة:152]. ثم ذكر سبحانه وتعالى في المقابل المقت والكراهية التي يحيط بالكفار من كل جانب، وهذا مقتضى عدله سبحانه وتعالى! فإياك أن تغتر فتختار طريق البغضاء والكراهية والمقت من أجل زخرف الدنيا، ومن أجل تقلب سريع في البلاد سرعان ما يزول، وإياك أن تغتر بأن تترك سبيل الحق لأجل أن أهله مبعدون مطاردون، أو أن أهله عندهم من أنواع البلايا والمحن ما عندهم، وإياك أن تختار سبل الباطل أو تختار واحداً منها؛ فإن ذلك عذاب قبل العذاب: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} [غافر:10]، فحين دعي الكافر إلى الإيمان فكفر مقته كل شيء، ومقتته نفسه، فصار يحيا في المقت والكراهية، والله إنه لمن أعظم العذاب، وذلك حين يعيش الإنسان في كون يكرهه فيه كل شيء، ومقت الله أكبر من ذلك كله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر الفريقين: (إن الله إذا أحب عبداً نادى جبريل: إني أحب فلاناً فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبه، فأحبوه فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض، وإن الله إذا أبغض عبداً نادى جبريل: إني أبغض فلاناً فأبغضه، فيبغضه جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه، فيبغضه أهل السماء، ثم توضع له البغضاء في الأرض)، فيعيش في المقت حتى من الأرض التي يمشي عليها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مستريح ومستراح منه، أما المؤمن فيستريح من نصب الدنيا وتعبها، وأما الكافر أو الفاجر فيستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب) فالشجر والبلاد والأرض تمقت الكافر والفاجر وتكرهه والعياذ بالله، ومقت الله أكبر، فنعوذ بالله من غضبه ومقته وعقابه. {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [غافر:10]، أي: عذاب أشد من أن يعيش في مقت الله أبد الآبدين هذه بشارتهم يوم القيامة، وينادون بذلك: مقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم، لأنهم دعوا إلى الإيمان فكفروا: {إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} [غافر:10]، فيريدون الرجوع إلى الدنيا، ويريدون فرصة أخرى لكنهم لا يجدون، فالآن في الدنيا ما زالت الفرصة بين أيديهم ولن تتكرر في غير الدنيا، قال عز وجل عنهم {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر:11] أي: كنا أمواتاً قبل خلقنا، {وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة:28]، ((أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ))؛ فالموتة الأولى قبل الولادة حين كنا ماءاً وطيناً، والثانية بعد الولادة، ثم نحيا يوم القيامة: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} [غافر:11] وليس هناك من سبيل، لماذا؟ {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر:12]، فليس كما كنتم تدعون أن الحكم لغيره، وأن الأمر لسواه، بل الحكم لله العلي الكبير سبحانه، الذي له كل معاني العلو: علو القدر وعلو الشأن، وأنه فوق العرش سبحانه وتعالى، فهو الكبير الذي أحاط بكل شيء، وهو أكبر من كل شيء. فالحكم لله العلي الكبير حين دعوا إلى الإيمان فكفروا، ودعوا إلى التوحيد فأشركوا وردوا دعوة الرسل، وحينها كتب عليهم ذلك المقت وذلك الغضب وذلك العذاب، فيريدون الخروج من النار ومن الغم والكرب، وإنما صارت النار عذاباً لمقت الله عز وجل؛ وذلك مقتض لأنواع الآلام الأخرى المستلزم لها والعياذ بالله، فالألم الحسي إنما هو فرع عن الألم المعنوي؛ لأن الله إذا مقت عبداً مقته كل شيء، فالنار تتغيظ على الكفار من أجل أن الله مقتهم؛ لأنهم كفروا، فانظر إلى نعمة الله عز وجل عليك؛ لكيلا تغتر بزخرف الدنيا، وتنسى حقيقة هذا الدين. هناك نعمة عظيمة أنعم الله بها عليك، وهي أنك تقول: لا إله إلا الله بسهولة ورفق، ومن فضله سبحانه وتعالى عليك أن جعلك موحداً لا تشرك به شيئاً {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ * هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} [غافر:12 - 13] فدليل التوحيد ودليل أن الحكم لله أنه هو الذي يريكم آياته، وينزل لكم من السماء رزقاً، ومع ذلك فلا يتذكر إلا من أناب، فإذا وجدت قلبك بعيداً عن الاتعاظ فتب إلى الله وارجع إليه، فسوف يفتح لقلبك نوافذ من الخير تطلع منها على حقيقة الخير كله: من معرفة الله ومحبته، والتعبد له سبحانه وتعالى. {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [غافر:14] أي: لا تظنوا أنهم سيرضون عن عبادتكم لله، وعن دعوتكم إليه، ولذا لا تجعلوا رضاء الناس عن دينكم هو الميزان، ولكن التزموا ولو كره الكافرون، وأخلصوا لله عز وحل ولو كره المجرمون، وتمسكوا بطاعة الله سبحانه وتعالى ولو كره أهل الدنيا؛ فإنه: (لا تزال طائفة من الأمة على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة)، ولكن وطن نفسك على أنك لن تترك الحق ولو كرهه الناس جميعاً. {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ} [غافر:14 - 15]، والروح هو: الوحي؛ لأنه حياة القلوب: {لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ * يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:15 - 16] وكان الملك قبل ذلك له عز وجل، ولكن الناس ينازعون فيه، فأتى اليوم الذي لا منازع لله فيه، وظهرت حقيقة الأمر، فكن أنت ممن يوقن بأن الملك لله في الدنيا والآخرة قبل أن يوقن الناس جميعاً يوم القيامة بأنه لله الواحد القهار. {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [غافر:17] سوف يعتدل الميزان، وترجع الحقوق إلى أهلها، ويرد الأمر إلى نصابه، {لا ظُلْمَ الْيَوْمَ} [غافر:17] كما أخبر الله سبحانه وتعالى في كتابه: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [غافر:17]. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعز الإسلام والمسلمين، وأن يذل الشرك والمشركين، وأن يدمر اليهود والنصارى والمنافقين، وسائر الكفرة والملحدين وأصحاب الضلالة أجمعين. اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره في تدميره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين! ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر بنا، واهدنا ويسر الهدى لنا، وانصرنا على من بغى علينا. اللهم اجعلنا لك شاكرين، لك ذاكرين، لك رهابين، لك مطواعين، إليك مخلصين أواهين منيبين، وتقبل توبتنا، واغسل حوبتنا، وأجب دعوتنا، وثبت أقدامنا، واهد قلوبنا، وسدد ألسنتنا، واسلل سخيمة قلوبنا. اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا. اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا. اللهم فرج كرب المكروبين، وفك أسر المأسورين، وارفع الظلم عن المظلومين، اللهم انصر المسلمين في فلسطين، والشيشان، وكشمير. اللهم احفظ المسجد الأقصى ورده إلى المسلمين، اللهم انصرنا على القوم الكافرين، ربنا انصرنا على القوم المفسدين، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.

ولا تهنوا ولا تحزنوا

ولا تهنوا ولا تحزنوا كتب الله الخير والشر وقدره على بني آدم مؤمنهم وكافرهم، وهذا القدر الكوني قدره الله لحكمة عظيمة، فهو عذاب على الكافرين وابتلاء وتمحيص للمؤمنين؛ حتى يميز الخبيث من الطيب، ويتبين الصادق من الكاذب، وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منهم شهداء؛ ولذا لا يحزن المؤمن ولا يهن لما أصابه.

الأمراض التي حذر الله منها

الأمراض التي حذر الله منها الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم. أما بعد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ * وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ * وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ * وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:137 - 148].

مرض الوهن

مرض الوهن حذر الله سبحانه وتعالى أهل الإيمان من عدة أمراض تقع للأمم المهزومة، منها: مرض الوهن الذي أصله حب الدنيا وكراهية الموت، وتعلق القلوب بشهوات الدنيا ورغباتها، وعدم التفكر في لقاء الله سبحانه وتعالى وفي الآخرة، وهذا مرض مهلك للأمم والشعوب والطوائف والأفراد، فيهلك الإنسان ويبعده عن الله عز وجل، ويجعله يرى الدنيا كبيرة جداً، ويهون عليه أمر الآخرة، فيهون على الله سبحانه وتعالى، فينسى ذكر الله فينسى نفسه. وكما ذكرنا أن هذه الأمراض تقع للأمم المهزومة المغلوبة في معاركها مع أعدائها، والحقيقة أن الأعداء لا يحققون الانتصار بمجرد الكثرة في ميدان القتال، وإنما إذا وقع الانكسار في القلوب، وتعلقت القلوب بالدنيا، وكرهت لقاء الله عز وجل، وكرهت التفكر في الموت، ونسيت لقاء الله سبحانه وتعالى، وعلى العكس من ذلك: فإذا حصل لأهل الإيمان حب للقاء الله سبحانه وتعالى، وتعظيم أمر الآخرة وتهوين أمر الدنيا، صغرت الدنيا في أعينهم ولم يؤثر الانكسار في ميدان القتال على قلوبهم.

مرض الحزن

مرض الحزن كذلك مرض الحزن الذي حذر الله سبحانه وتعالى منه، ذلك المرض الذي يجعل الإنسان يأسى على ما فات، فيصيبه ذلك الأسى بالإحباط واليأس والشعور بالفوات، وأن كل شيء قد ضاع منه، فيلقي ما بيديه ويترك السير في الطريق، بخلاف ما إذا استبشر بفضل الله عز وجل، وعلم أن الطريق لا بد فيه من آلام، وأنه لا بد أن يصاب فيه ما قدره الله عز وجل عليه؛ فإنه حينئذ لا ينكسر ولا يبأس ولا يأسى ولا يحزن، فيعظم أمر الآخرة عنده، وتصغر كل قوى الباطل في عينيه كما صغرت في أعين الذين يظنون أنهم ملاقو الله من أصحاب طالوت -وكان فيهم داود عليه السلام- وذلك حين رأوا الجموع الكثيرة: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:249]، هذا هو والله الاستعلاء بالحق، وهذا هو العلو بالإيمان الذي ذكره الله عز وجل، فلم تضعف نفوسهم ولم تهن، ولم تحزن ولم تبتئس؛ لأنها أيقنت بأنها ستلقى الله سبحانه وتعالى، فعند ذلك يحصل العلو بالإيمان على أهل الباطل، ولا ينكسر انكسار القلوب الذي يريده الأعداء، وأنت ترى والله أن معارك تقع في الأرض كثيرة جداً تتفاوت فيها موازين القوى، ولا تنتهي المعركة إلا لمن ثبت قلبه ولم ينكسر ولم يضعف. وإذا ضعفت القلوب انهار كل شيء، وإذا انكسرت القلوب ضاع كل شيء، فهل هذه الانكسارات المتعددة لأهل الإسلام تؤثر فيهم؟ وما الذي يغير نظرتهم؟ وما الذي ماذا يغير الأمراض في حسهم؟ يغيره في حسهم ما أرشد إليه القرآن، فيجعل هذه الانكسارات لا تؤدي إلى انكسار القلوب، ولا إلى التنازل عن الطريق، ولا إلى التوقف عن السير، ولا إلى المساومة على المبادئ، ولا إلى التعلق بالدنيا، ولا إلى الحزن على ما ضحى الإنسان به في سبيل الله، فإن ما يضحي به الإنسان في سبيل الله هو أغلى وأعظم ما يقدمه لنفسه يدخره لآخرته، وهو الذي يعده ليوم فاقته، فهو قد بذل ما يحبه الله عز وجل في سبيله سبحانه وتعالى، بذل من نفسه وماله وجهده وأنواع لذاته كلها، بل قد بذلها، وهو مستعد أن يبذلها مرات لله سبحانه وتعالى، يغيره طريقة التفكر كما ذكرنا، والتدبر فيما أرشد إليه القرآن، والنهي عن الوهن الذي أصله حب الدنيا وكراهية الموت، والنهي عن الحزن وتعظيم ما فات الإنسان من الخسائر، يعظمه ويأسى عليه، لا، والله ما كان حزناً على أهل الإيمان أبداً أن ضحوا في سبيل الله بشيء، بل ذلك يفرح قلوبهم دائماً. إنما تحزن القلوب الجاهلة التي لا تدري أن ما تبذله في سبيل الله هو لها، وأن ما يبقى في أيديها هو لغيرها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟ قالوا: يا رسول الله! كلنا مالنا أحب إلينا من مال وارثنا، قال: فمالك الذي قدمت، ومال وارثك الذي أخرت)، أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، أعني بذلك: أن المؤمن لا يحزن على شيء قد أصابه في سبيل الله، وذلك لأنه يراه مكسباً ومغنماً لا مغرماً كما قال عز وجل عن مؤمني الأعراب: {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ} [التوبة:99]، فهو يراها غنيمة يكتسبها، فقد أخذ حين أعطى، وقد أخذ كثيراً حين بذل، وقد منح ووهب حين بذل وأعطى ما أمره الله عز وجل أن يعطيه، وذلك يجعله لا يحزن أبداً؛ ولذا قال بعض السلف في قول الله عز وجل عن أهل الإيمان في الجنة: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} [فاطر:34]، والله ما حزنوا على شيء أعطوه لله عز وجل، ولكن يعنون حزن من دخل النار، فأذهب الله عنهم حزن دخول النار، وأما حزن فوات الجنة، فهو الحزن الحقيقي، فلا تحزن أخي المسلم على شيء أصابك في سبيل الله، فهذا أشرف ما يمكن أن تتعرض له، ولا تتصور أنه يمكن أن تخلو حياتك من ألم، ولا يمكن أن تخلو حياة بشر من ألم، لذلك الآيات بعدها ترشد الإنسان إلى هذه القضية، قال تعالى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} [آل عمران:140]. أترون أعداءكم مستريحين؟ أترونهم لا يصيبهم ألم ولا قرح ولا خوف؟ والله بالعكس! بل الآلام عندهم مضاعفة كما قال عز وجل: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104]، فأنت مع مرارة الألم معك حلاوة الصبر التي تذهب هذه المرارة، وربما غبت بهذه الحلاوة عن أصل وجود المرارة، وذلك إذا قويت حلاوة الإيمان حتى تصل إلى درجة الرضا الذي لا تجد معه ألماً أصلاً، وهو موجود، لكن قد غطي وغلب عليه حلاوة الإيمان، قال تعالى: ((وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ))، نور الرجاء الذي يبدل ظلمات اليأس، ويذهب مرارة الألم. فهل تظن أن أعداء الله ليس عندهم خوف؟ والله عندهم خوف مضاعف، خوف سببه أصلاً الشرك الأكبر والظلم، فكلما ظلم الإنسان ازداد رعباً وخوفاً قال تعالى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} [آل عمران:151]. أما المؤمن فحين يخاف فعنده ما يذهب ألم الخوف من الأمن والإيمان والاهتداء بالله عز وجل، واستشعار قرب زوال الدنيا، وأنها بأسرها سوف تنتهي قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82]. وقال عز وجل على لسان إبراهيم: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:81 - 82].

شقاء أهل الدنيا والشهوات

شقاء أهل الدنيا والشهوات أتظن أن أهل الدنيا في غناهم وفي شهواتهم سعداء؟! والله إنه يمسهم أنواع من القرح، فكلما ازداد مالاً ازداد خوفاً عليه وتعباً من أجله، وكلما ازداد شهوة كلما ملها وقل استمتاعه بها. فأنت ترى كم أغرق الغرب بشعوبه المختلفة في حمى الجنس، وفي الشهوات الجنسية المدمرة، وترى عندهم -رغم كل مظاهر الشهوة الجنسية المبثوثة في العالم من زبالتهم وسخافة عقولهم وسلوكهم- عدم الاستمتاع بهذا الأمر، والشقاء به ما يخبرنا به الذين دخلوا في هذه المجتمعات، أي: قد أصابهم الملل من هذه الأمور حتى وهم غارقون فيها، فمثلهم مثل الغريق يشرب ماءً كثيراً حتى يغرقه في الماء، وعمره لا يلقى للماء طعماً أبداً والعياذ بالله، بل يجد عذاباً فيها، فكل غارق في الشهوات من هذا الباب ينال منها إلى غاية ما يزهق منها، فالله عز وجل جعل عذاب الإنسان في بعده عن الله سبحانه وتعالى، وفي عدم إيمانه بالله سبحانه وتعالى، ولذا لا تتصور أنك ستسلم من الألم، وأنك ستسلم من القرح قال تعالى: ((إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ))، أي: إن أصابكم قتل وجراح في أحد فقد أصاب المشركين قبلها في بدر، فالله سبحانه وتعالى قد قدر الشقاء والألم على كل من ينزل إلى هذه الأرض. قال تعالى: {فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه:117]، فعلاً الشقاء ملازم، ولكن مع المؤمن ما يزيل به أثر هذا الشقاء، والألم موجود ولكن معه حلاوة، والدواء المر يوضع معه شيء من الحلوى أو العسل فيذهب مرارته، فهذا إذا كان قوياً كان الصبر، وإذا كان أقوى منه كان الرضا، وعند ذلك يزول الألم بإذن الله تبارك وتعالى. فالصبر هو الذي يحصن النفس على ما تكره ابتغاء موعود الله سبحانه وتعالى، وأعظمه الصبر على طاعة الله وعلى ما يصيب الإنسان في سبيل طاعة الله، وذلك أن ما يصيب الإنسان في سبيل الله يجمع أنواع الصبر كلها، الصبر على الطاعة، والصبر عن المعصية، وهنا الصبر على الوهن والحزن وموافقة المشركين وأهل الباطل على ما يريدون، وغير ذلك من أنواع المعاصي التي ترتبط بفترات المحن والهزيمة والانكسار. فهذا الذي يصيب الإنسان في سبيل الله تجتمع فيه كل أنواع الصبر؛ ولذا يعظم أجره جداً، وهو مغنم لا مغرماً بفضل الله سبحانه وتعالى.

مداولة الأيام بين الناس

مداولة الأيام بين الناس لن يفر الإنسان من ألم في هذه الحياة كما ذكرنا، بل لا بد أن يصيبه من قرح، ولا بد أن يصيبه من تعب، ولا بد أن يصيبه من شقاء بدرجة ما، فليحتمل في سبيل الله أفضل من أن يحتمل في غير ذلك، وهو في معصية الله عز وجل ويجري عليه قدر الله سبحانه وتعالى، ولذا طريقة التفكير فيما يصيب الإنسان في سيره إلى الله عز وجل تجعله إما أن يستفيد من أيام المداولة بين الناس من كل فترة حياته، ومن كل أحوال سيره، فإنه يكون بين الشدة والرخاء، وبين العسر واليسر، وبين المنشط والمكره، فهو سوف تتقلب به الحياة، والله هو الذي يقلبها قال تعالى: ((إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ))، وتأمل هنا جيداً! فالله هو الذي يداول الأيام بين الناس، وليس الناس هم الذين يصنعون عسرهم ويسرهم، وليس الناس هم الذين يصنعون نصرهم وكسرهم، وليس الناس هم الذين يصنعون سعادتهم وشقاءهم، فقد كتب على ابن آدم قبل أن يولد أشقي هو أم سعيد، وذلك يشمل كل لحظات السعادة واللذات التي وجدها، وكل لحظات الشقاء والألم التي وجدها طول حياته فضلاً عن نهاية المطاف يوم القيامة، شقي هو في النار أم سعيد في الجنة. فتلك الأيام يداولها الله بين الناس، قال تعالى: ((وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ))، فلا بد أن تستحضر هذا جيداً، فهو ليس من صنعك ولا من صنع أعدائك، وهم لا يملكون لك ضراً ولا نفعاً، إذ لم يملكوه لأنفسهم فكيف يملكونه لك؟! كيف يكون بأيديهم صنع المقادير نعوذ بالله كما يقول البعض: إن أوراق اللعبة كلها في أيديهم. لا والله ما بأيديهم من شيء، هم يخوضون ويلعبون، ويظنون أنهم يملكون، وهم مربوبون مملوكون تحت قهر الله الواحد القهار، يداول عليهم عسرهم ويسرهم كما يداول علينا ذلك، ونحن معنا فضل الله عز وجل إذ أيام العسر عندنا فيها من أنواع اليسر ما هو أضعاف العسر، كما قال عز وجل: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:5 - 6]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يغلب عسر يسرين)، وذلك أن العسر معرف بالألف واللام، فهو عسر مكرر، والمذكور في الآية الثانية هو الذي في الأولى، وأما اليسر فمنكر، ولذلك يقتضي أنه يسر جديد {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:5]. وقال عز وجل: {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق:7]، فأثناء وجود العسر يوجد يسران، وأثناء نزول البلاء وحصول المشقة يوجد أنواع من النعيم واللذات، والألم عند المؤمن مصحوب باللذة، فالمؤمن ما بيده من الدنيا فهو زائد عن الحاجة كما ذكرنا عن سلمان الفارسي أنه بكى عند موته، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: عهد إلينا رسول الله فقال: (ليكن بلغة أحدكم مثل زاد الراكب)، وحولي هذه الأساود، وإنما كان حوله المطهرة والقربة والنعلان، وقد قومت تركته بخمسة عشرة درهماً، ويرى نفسه أنه قد تجاوز الحاجة. فمثل هذه الأمور العجيبة تجعل المؤمن دائماً يستحضر أن الله عز وجل يداول بين الناس، وأن الدنيا سوف تنتهي بألمها ولذتها، وبنعيمها وشقائها، وبحزنها وفرحها، وأنه يبقى بعد ذلك ما أعده الله عز وجل لأهل الإيمان، وما أعده الله لأهل الكفر من أنواع العذاب الدائم المستمر الذي لا يزول ولا يتحول، نعوذ بالله من ذلك! قال تعالى: ((إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ))، والله نحتاج جداً أن نتوقف كثيراً وطويلاً عند هذه الآيات لنعالج بها أمراض قلوبنا، ((وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ)) يقلب الأحوال كما ذكرنا بين الناس، وهذه تشمل المؤمن والكافر وتشمل الناس عامة، وكما قال الشاعر: يوم لنا ويوم علينا ويوم نساء ويوم نسر وما من إنسان إلا وفي عمره لحظات من الألم واللذة! فلماذا قدر الله ذلك على أهل الإيمان الذين يحبهم ويكره مساءتهم؟ فخيرة الخلق أنبياء الله وأولياؤه يقدر الله عز وجل عليهم أنواع المحن والبلايا، وهو عز وجل يكره مساءتهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل في الحديث القدسي: (وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته). فانظر إلى هذا الأمر العجيب لتعلم منزلة المؤمن عند الله عز وجل، فالمؤمن يكره الموت بالفطرة الإنسانية؛ لأن كلاً منا فيه فطرة بأن يهرب من الموت، أو من أي شيء مهلك، ولذا لو لسعتك كهرباء فإنك ستجد نفسك أنك بعدت عنها ورميت نفسك وابتعدت بأي طريق وأي وسيلة، فالله قدر الموت على المؤمن لأنه لا بد له أن ينتقل من هذه الدنيا، فالحياة لا تستمر، ولا بد أن ينال الخير العظيم الذي عند الله عز وجل بالموت، ومع ذلك الله يكره مساءة المؤمن؛ لأنه يسوءه الموت والله يكره مساءة المؤمن كما ترون فيما قبل ذلك، وفي الدنيا أنواع الآلام التي بعضها قد يفضل الناس الموت عليها، ولذا الناس يقولون لك: الموت أرحم، ومع ذلك يقدره الله على أهل الإيمان، وعلى أوليائه وأصفيائه من خلقه لما فيها من أنواع الحكم العظيمة، حكم بالغة لمصلحة أهل الإيمان قال تعالى: ((وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ))، وتأمل في الواو هذه ((وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ)) ليس (ليعلم) مباشرة بدون واو، إذاًَ: استقرت قاعدة: ((وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ))، على أنها جملة مستقلة. ((وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ)) أي: وبالإضافة إلى أن تشهد أن الله الذي يقدر، وأن الله الذي يداول الأيام بين الناس، وأن الله الذي يرفع من يشاء ويخفض من يشاء، ويؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، يحيي من يشاء، ويميت من يشاء، يعز من يشاء، ويذل من يشاء. بالإضافة إلى شهود المشيئة والإرادة الإلهية والملك له سبحانه وتعالى تأمل مع ذلك الحكم البالغة، فالله له الملك وتشاهده من قوله: ((نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ))، وله الحمد وتشهدها من قوله: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:140 - 141].

تمحيص الله للمؤمنين بالشدائد

تمحيص الله للمؤمنين بالشدائد تجد والله أمراً عظيم الأهمية لا يمكن إلا أن تحمد الله عز وجل عليه، تحمد الله على ما أصاب المسلمين في أحد من هذه السنين الطويلة ألف وأكثر من أربعمائة سنة، تحمد الله عز وجل؛ لأنه حصل فيها من الخير الذي نلمسه بأنفسنا الآن، ولولا ذلك الذي وقع لما وجدنا أنواع الخيرات، ولما كانت هذه الآيات تخاطب قلوباً وعتها جيداً، هذه القلوب التي وعت الدروس وتتكرر عبر التاريخ قصة غزوة أحد، فليست خاصة بالزمن الذي وقعت فيه، فهي في الحقيقة قصة متكررة، وأهل الإيمان في كل زمن يصيبهم هذا الانكسار، فيقدر الله عليهم الآلام رغم أنه يكره مساءتهم عز وجل، ويكره سبحانه وتعالى ما يقع في قلب المؤمن من كراهية الموت، ويتردد سبحانه وتعالى، ومعنى التردد: أنه يجتمع إرادتان؛ إرادة أمر محبوب وإرادة أمر مكروه عند الله عز وجل، ولكن لا بد من الموت، لا بد من أمر معين، لا بد من أن يقدر الله عز وجل ذلك المكروه ليحصل ذلك المحبوب، أما ترون أن الله يكره مساءة المؤمن للموت، فما أشد على المؤمن أن يرى مثلاً موتاً بأيدي الكفرة الظلمة المجرمين! وأن يرى تمثيلاً بالجثث! وأن يرى انتهاكاً للحرمات في خيرة خلق الله! هذا المؤمن العادي يكره الله مساءته، فما بالكم بـ حمزة رضي الله تعالى عنه وهو يراه النبي صلى الله عليه وسلم قد بقر بطنه وأخرجت كبده ولاكتها هند ولفظتها مقطعة، وجدعت أنفه، ما ترون في كراهية الله عز وجل لذلك؟! يكرهه النبي صلى الله عليه وسلم، ويكرهه أهل الإيمان، وتتألم نفوس المؤمنين عبر التاريخ من هذه الصورة. ما ترون في مصعب بن عمير رضي الله عنه وهو الذي جعله الله عز وجل سفير أهل الإسلام إلى المدينة، وقد دخل أهل المدينة في الإسلام على يديه، ويموت وهو حامل اللواء رضي الله تعالى عنه؟! مصعب بن عمير الذي أسلم أكثر أهل المدينة من الأنصار على يديه رضي الله تعالى عنه. ما ترون في هذه الأمور؟! لا شك أنها أمور يكرهها الله ويقدرها؛ لأن هناك من ورائها أنواعاً من الحكم والغايات المحمودة، والخيرات والعبودية لأهل الإيمان لا تحصل إلا من خلال هذا الأمر المكروه؛ ولذا نحمد الله عليه. كما أنك سوف تطبق هذه المسألة على كل ما يصيبك كشخص، وعلى كل ما يصيبك كطائفة مؤمنة في كل زمن من الأزمنة، وطبق هذا على واقعك، فالله يداول الأيام علينا وعلى أعدائنا. من ضمن الحكم: ((وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا))، ليعلم علماً يحاسبهم عليه، ليعلم علم شهادة بعد أن علمه علم غيب، فهو عز وجل قبل أن يخلق الخلق علم ما الخلق عاملون، علم من سيؤمن ومن سيكفر، علم من سيطيع ومن سيعصي، ولكن هو يحب أن يرى ذلك أمراً واقعاً؛ ولذا فسر ابن عباس هذه الآية الكريمة: ((وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا))، قال: وليرى، كما ذكره ابن كثير رحمه الله؛ لأن (يرى) فيها دلالة على علم الشهادة أن الله يعلمه أمراً قد وقع وأحبه عز وجل واقعاً، كما أراده عز وجل قبل أن يقع، أراد سبحانه وتعالى وجود هذا الإيمان وأحبه قبل أن يوجد، وأحبه سبحانه وتعالى حين وجد، ولذا قال: ((وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا))، آمنوا بالفعل، ووقع الفعل منهم، ولفظ (الذين آمنوا) هم كانوا مؤمنين قبل ذلك، فذكرهم هنا بلفظ الإيمان، لأن الإيمان هنا يرتفع ارتفاعاً هائلاً في مثل هذه اللحظات، أي: لحظات المعارك الفاصلة، ولحظات التضحية والبذل، ولحظات الألم الذي يصيب أهل الإيمان والمحن التي تصيبهم، فهناك أنواع من الإيمان تحصل في مثل هذه المواقف لا تحصل في غيرها، ولذا قال: ((وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا))، ولم يقل (وعملوا الصالحات)، لأنها شملت العمل الصالح، وكما ذكرنا أن أنواعاً من الإيمان تقع في هذه اللحظات لا تقع في غيرها ولا تحصل بدونها، من حب الله عز وجل، والتوكل، والرجاء، والاستعداد للبذل والتضحية، وهوان الدنيا في أعينهم، كقولهم: (ما تصنعون بالحياة بعده؟). فهذه مواقف تغير مسار التاريخ، ويستشعرها أهل الإيمان عبر العصور المختلفة فيجدون أمراً لا يمكن أن يوصف إلا أن يوجد ويذاق، كما يقول عبد الله بن جحش رضي الله تعالى عنهم: (اللهم إني أسألك أن تلقيني غداً رجلاً من المشركين شديداً حرده، شديداً كفره، فيقاتلني فيقتلني) شيء عجيب والله! لا يريد أن يقتله هو! أما نحن فنقعد نفرح، أننا انتصرنا على الكفرة وأبدناهم، هذا خير، لكن فكر في هذا المعنى الإيماني عند هذا الصحابي الجليل عبد الله بن جحش (شديداً حرده، شديداً كفره، فيقاتلني فيقتلني، ثم يجدع أنفي، ويبقر بطني؛ فتسألني يوم القيامة: فيم ذلك يا عبد الله؟ فأقول: فيك يا رب). فهذا معناه أنه مستعد للبذل والتضحية، فهو يريد أن يُفعل به هذا الفعل في سبيل الله عز وجل، وتجده عند عمر عندما يرى ضعفاء المسلمين يضربون في مكة فلا يهدأ له بال، وهو يرى نفسه ممتنعاً من الكفار بقوته فيذهب يضرب المشركين ويغيظهم، ويقرأ القرآن جهراً عند الكعبة ليضربوه ويضربهم! فهذه معاني نادرة جداً أن توجد في القلوب؛ لأن النفوس أصلاً تفر من هذه الأمور، وتفر من هذا الألم ولا تريده، ولكن تحصل لحظات تجعل الإنسان يرى هذا الأمر نعيماً في الله سبحانه وتعالى؛ لأنه أصابه في الله عز وجل. وهذه المعاني الإيمانية التي حصلت لـ أنس بن النضر رضي الله تعالى عنه، حيث وقع منه إيمان عظيم القدر لم يوجد مثله، ولا يمكن أن يوجد مثله، وذلك عندما يجد في الطريق سعد بن معاذ الذي اهتز لموته عرش الرحمن فرحاً بأن سعد قد صار من أهل السماء، سعد بن معاذ الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه: (لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير من هذه). أنس بن النضر هو الذي يثبته على الهدى! أنس بن النضر هو الذي يقول لـ سعد حين لقيه وقد ترك المعركة أو القتال فقال له: مالك؟ فقال: قد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فما تصنعون بالحياة بعده؟! فقوموا فموتوا على ما مات عليه، قال: واهاً يا سعد لريح الجنة! والله إني لأجده دون أحد! معاني إيمانية عظيمة حصلت في هذه اللحظات، وتفيض روح أنس بن النضر رضي الله تعالى عنه، يقول أنس رضي الله عنه: فما عرفته أخته إلا ببنانه، فوجدناه قد قتل وبه بضعة وثمانون ما بين ضربة بسيف، ورمية بسهم، وطعنة برمح، وما عرفته أخته إلا ببنانه أي أنه قد أصيب من جميع الجهات رضي الله تعالى عنه، فهذه المواقف الإيمانية العظيمة التي حصلت الله يحبها سبحانه وتعالى، كما قال: ((وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ))، فقد آمن من استشهد، وآمن من صبر، آمنوا إيماناً زائداً على ما كانوا عليه قبل ذلك، آمنوا إيماناً أكمل وأعظم مما كان قبل ذلك، فازدادوا إيماناً عند الله عز وجل في هذه اللحظات، والتي كانت قوة دافعة لهم في أثناء المعركة وبعد المعركة، بل أخذوا زاداً منها إلى أن فتحوا العالم بفضل الله عز وجل. الإعداد الذي أعده المسلمون في بدر وأحد والأحزاب هو الذي فتح المسلمون به العالم، هذا الإعداد الذي تحولوا بعده إلى غزو الكفار واستمروا على ذلك كان بداية الانطلاق، فهذه هي الأحوال الإيمانية التي حصلت في قلوبهم وليس فقط للأبدان، فهم حصلت لهم معاني إيمانية بالأبدان كالعمل الصالح والثبات، والتضحية في سبيل الله عز وجل، والقتال في سبيله رغم الهزيمة التي وقعت، والعودة حين سمعوا النداء لمن عاد والدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذه معاني إيمان عملية وقلبية تمت بفضل الله عز وجل في قلوبهم، وارتفعت أسهم الإيمان في قلوبهم. قال تعالى: ((وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا))، وهذا يحصل في كل ما يشابه هذه الواقعة، فيحصل من أنواع الخير في قلوب المؤمنين ما لا يمكن أن يوجد بدون تقدير الأمر المؤلم الذي هو القرح، الذي يؤلم أهل الإيمان ويسوءهم والله يكره مساءتهم، ولكن يقدر ذلك المكروه المسيء للمؤمنين لما يتضمنه من الخير الذي يحبه الله، ولما يتضمنه من الإيمان الذي يحبه الله سبحانه وتعالى، الخوف من الله دون من سواه شجاعة باهرة لـ أنس بن النضر رضي الله عنه وأمثاله، وحمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير وعبد الله بن جبير قائد الرماة، والعشرة الذين ثبتوا معه حتى قتلوا جميعاً دون من فر من الرماة الذين بقوا، وكل من استشهد رضي الله تعالى عنهم. السبعة من الأنصار الذين يقول النبي صلى الله عليه وسلم والمشركون يطلبونه: (من يردهم عني وله الجنة؟!)، فيقوم رجل من الأنصار فيقاتل حتى يقتل رضي الله عنه، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من يردهم عني وله الجنة؟)، فيقوم رجل آخر من الأنصار، ثم ثالث، ثم رابع، ثم خامس، ثم سادس، ثم سابع من الأنصار، سبعة من الأنصار! حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أنصفنا أصحابنا) أي: الذين فروا، أو (ما أنصفنا أصحابنا)، أي: المهاجرون الذين لم ينصفوا الأنصار حين تركوهم كذلك، فقام طلحة رضي الله عنه فقاتل قتال السبعة جميعاً، بل هو الذي ردهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه كلها معاني إيمانية، وهذا إيمان تجدد، فـ طلحة رضي الله عنه هو الذي أرهقهم، وهو الذي أجلاهم عن النبي عليه الصلاة والسلام، سبعة قتلوا في محاولة رد المشركين وما يزال المشركون يطلبونه، وطلحة رضي الله عنه هو الذي يقاتل حتى يجلي المشركين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع كل هذا القتال يقي النبي صلى الله عليه وسلم بيده رضي الله تعالى عنه -نحن نقول: الواحد يأتي له خطر يبعد يده كذا- ولذلك يقول بعض من رآه من التابعين: رأيت يد طلحة شلاء التي وقى بها رسول الله صلى ا

اصطفاء الله شهداء من الناس

اصطفاء الله شهداء من الناس قال تعالى: ((وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ))، حكمة أخرى بالغة عظيمة: يتخذ الله عز وجل شهداء، ويدخل في هذا موت من مات، وقتل من قتل؛ لأنه لم تذكر صيغة (قتل المشركون المسلمين) إنما قال: ((وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ))، فالله عز وجل هو الذي يتخذ، وتأمل هذه الآيات من أولها: قال تعالى: ((نُدَاوِلُهَا))، ((وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ))، ((وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ))، {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:141] كلها أفعال الرب عز وجل. ((وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ)) فالله هو الذي اتخذهم! الله الذي اجتباهم! الله الذي اختصهم! الله الذي اختارهم لهذه المنزلة! منازل عند الله عز وجل في الجنان لا تبلغها أعمال العباد، يقدر الله عز وجل عليهم من أنواع البلايا والمحن، ويقدر لهم -أقول لا عليهم- أن يثبتوا عندها، وأن يضحوا في سبيل الله إلى أن تبلغ التضحية بالأنفس التي هي أغلى ما عند الإنسان، وما يملكه الإنسان، فكل شيء بدون النفس لا يساوي شيئاً، ماذا يصنع الميت بالمال؟! ماذا يصنع بالشهوة؟! ماذا يصنع بالأهل والأولاد؟! كل ذلك قد ضاع من الميت، الشهيد قد ضحى بذلك كله حين ضحى بنفسه في سبيل الله، فالله قد كتب له وثبته حتى قتل شهيداً في سبيل الله؛ ليشهد على الناس يوم القيامة؛ وليشهد منزلته في الجنة، فسمي الشهيد شهيداً لأنه يشهد دار الكرامة وما أعد الله له فيها، بل يستمتع فيها في برزخه؛ ولأنه شهيد على الناس، وهذه الشهادة أمر عظيم، فهي اجتباء من الله عز وجل واختيار، فكم طلبها طالبون! وكم كان منهم صادقون! وكم كان منهم غير صادقين! لذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء). هذه الشهادة ليست فقط فائدة عظيمة الأهمية للشهيد نفسه، بل هي فائدة عظيمة الأهمية لا يمكن أن تتقدم الطائفة المؤمنة إلا بها، فهي فائدة للمؤمنين جميعاً، وللطائفة المؤمنة في وقتها، فبالبذل والتضحية تسير القافلة، وبدون بذل ولا تضحية لن يتحرك أهل الإسلام خطوة واحدة، وهذا أمر مشهود والله، دماء الشهداء التي تسيل في معارك أهل الإسلام مع أعدائهم هي الوقود الذي تسير به الطائفة المؤمنة، وهي الوقود الذي يزداد به الإيمان في قلوب الباقين، وتزداد الرغبة في التضحية بدون الشهادة في سبيل الله عز وجل، وبدون البذل والتضحية، وبدون الجرح والألم لن يحصل تقدم، ولن توجد الأسوة الحسنة، ولن تنجذب القلوب بمثل ما يحصل عند وجود هذه التضحية العظيمة، فعندما نسمع نحن قصص الشهداء عبر التاريخ تتحرك القلوب حركة عظيمة للبذل والتضحية في سبيل الله، والعمل بطاعة الله عز وجل، والاستهانة بالدنيا، وعدم الاستكانة للعدو، ومزيد من الثبات والالتزام بفضل الله عز وجل. ((وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ))، هذه منازل عالية، أعلى المنازل بعد النبيين والصديقين، فالله عز وجل قد جعلهم بأفضل المراتب عنده سبحانه وتعالى لما بذلوا أنفسهم في سبيل الله عز وجل. ((وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)) حتى لا يتوهم متوهم أن ما قدره الله من تمكين الكفرة، ومن قتل خيرة خلقه بعد أنبيائه والصديقين من أتباعهم أن ذلك حباً من الله عز وجل للظالمين، كما قد يظن كثير من الناس أن كل نعيم دنيوي هو علامة على حب الله لهم. {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا} [الفجر:15 - 17] ليس هذا هو مقياس الإكرام ولا الإهانة، أكثر أهل الدنيا يرون الله قد أكرمهم وأنه يحبهم حين أعطاهم شيئاً من الدنيا، فهؤلاء الظلمة يرون أنفسهم مقربين عند الله؛ لأن الله أعطاهم السلطان والتمكن من المؤمنين حتى تمكنوا من قتلهم، ولذلك عقب عز وجل فقال: ((وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)) فلا تظنوا أن تسليط الله عز وجل الكفرة على المؤمنين حتى يقتلونهم شهداء أن ذلك حباً من الله عز وجل للظالمين، لا والله! الله لا يحب الظالمين، وهذا أعظم تحذير من الظلم، أن الله لا يحب الظالمين، فلا بد أن من أبغضه الله عز وجل أبغضته الخلائق كلها حتى نفسه تمقته؛ لأن الله لا يحبه ومقته عز وجل، فمن هان على الله حتى جعله ظالماً فهذا أحقر الخلائق وأضلها وأبخسها حظاً نعوذ بالله! قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} [غافر:10] فالكافر يمقت نفسه حين كفر بالله عز وجل. ((إِذْ)) حين {تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} [غافر:10] ويمقته من حوله من البشر: (إن الله إذا أبغض عبداً نادى جبريل: إني أبغض فلاناً فأبغضه فيبغضه؛ جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه؛ فيبغضه أهل السماء، ثم توضع له البغضاء في الأرض). لا تظنوا أن من حول الظلمة من أهليهم أو أولادهم أو جنودهم أو أعوانهم يحبونهم، لا والله ثمرة من ثمرات: ((وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)) أن البغضاء تملأ قلوب بعضهم لبعض، بعضهم يكره بعض، حتى أنفسهم كما ذكرنا تكرههم، حتى الجدران والحيطان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فأما المؤمن فيستريح من نصب الدنيا وتعبها، وأما الكافر فيستريح منه البلاد والعباد، والشجر والدواب)، كل العباد والبلاد حتى الأرض نفسها، وكل ما كان من جنسها تكرههم، الأرض التي يمشون عليها تكرههم، وتستريح منهم عندما يموتوا قال تعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} [الدخان:29] كائنات لها إدراك! لها شعور! تكره الكافر والظالم فضلاً عمن جعل الله في قلوبهم أصلاً كمال الإحساس الذين هم البشر، فلا بد أن يكره بعضهم بعضاً، وإن ظهر في ظاهر الأحوال حب عظيم، وتفخيم وتكبير لهم، واستعداد أنهم يموتون في سبيلهم، ومدح وثناء وغير ذلك من أنواع التعظيم الدنيوي، لكن يفعل ذلك وقلبه مليء بالمقت والكراهية. ((وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)) فإياك أن تظن أن هذا الذي قدره الله من أن يسلط الكفرة على المؤمنين ليقتلوهم وينتصروا عليهم أن ذلك لأن الله يحبهم! لا والله: ((وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)) بل الله هو الذي اتخذ شهداء؛ لأنه لا سبيل إلى وجود هذه التضحية العظيمة بالنفس وبالدنيا بأسرها إلا بأن يتسلط الكفرة على أهل الإسلام، فهذه العبوديات التي وقعت لا سبيل إلى وجودها إلا بأن يقدر الله الأمر المكروه، فمن أجل المحبوب قدر الله المكروه، ومن أجل أن يتعبد له أهل الإيمان بأنواع العبودية -في عسرهم وفي مكرههم وفيما يسوءهم، ويبذلون في سبيل الله عز وجل ما أعطاهم سبحانه وتعالى حتى الحياة نفسها يبذلونها- قدر الله ذلك، لا حباً للظالمين ولا رضاً بالظلم: ((وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)). فائدة أخرى ذكرها ابن القيم رحمه الله في قوله: ((وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)): تحذير من ترك ما أوجب الله عز وجل على عباده -كأنه يراها تحذيراً لأهل الإيمان- عن أن يظلموا أنفسهم بترك الطاعة في فترات الشدة، كمن فر، فالله لا يحب من عصى، ولا يحب من ظلم، لكن الفائدة الأولى أقرب إن شاء الله وأولى، والثالثة ليست ممتنعة.

الأسئلة

الأسئلة

حكم التحدث مع النساء ودعوتهن بالمايك

حكم التحدث مع النساء ودعوتهن بالمايك Q ما حكم التحدث مع النساء ودعوتهن بواسطة (المايك)؟ A الحديث مع النساء في (المايك) من البلايا والمحن التي تصيب القلوب لا الأبدان، فهي فتنة عظيمة أن ينشغل الإنسان بمثل ذلك، ويضيع عمره، وما معنى أن يتكلم مع النساء؟ يريد أن يدعو إلى الله؟! يدعو الرجال إلى الله، ويترك النساء تدعو النساء، فهذا باب فتنة خطير يقع فيه الكثيرون ويستدرجهم فيه الشيطان، وإذا ضبط بالضوابط فنعم، لكن الواقع يؤكد أن هذا باب فتنة، فنسأل الله العافية. فالحذر من استدراج الشيطان في مثل هذه الوسائل، وكل واحد أدرى بنفسه، فإذا تلذذ بمحادثة النساء بهذه الطريقة فهذا يدل على ما في قلبه من الإثم والمرض الذي طمع الشيطان من أجله.

حكم الاستمرار في معاتبة من قارف ذنبا ثم تاب منه

حكم الاستمرار في معاتبة من قارف ذنباً ثم تاب منه Q إذا أخطأ الإنسان ثم تاب إلى الله عز وجل، وظل سنوات في طاعة الله عز وجل فهل يعامل بذنبه الأول ويظل يعاتب عليه؟ A قال الله عز وجل: {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} [الفرقان:71] فإذا حصلت التوبة وحسنت فإن الله سبحانه وتعالى يقبلها، وهو الذي أنعم على العبد بكل النعم بما فيها نعمة الحياة والوجود، فإذا تاب العبد تاب الله عز وجل عليه، فينبغي ألا يثرب عليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إذا زنت فليقم عليها الحد ولا يثرب عليها، ثم إذا زنت فليقم عليها الحد ثم لا يثرب عليها، فإن زنت فليبعها ولو بحبل من شعر). فإذا كان الحال الآن أننا نعجز عن إقامة الحدود لكن ذلك لا يمنع من تحصيل التوبة الصادقة، والكلام في تفسير الآيات كان على التدافع بين المؤمنين والكافرين، وأن المؤمنين مأمورون بدفع ظلم الكافرين فكيف بظلم المسلم لأخيه المسلم؛ بسبب أمور دنيوية وشهوات وحب الترأس وغير ذلك؟! دعها له إذا كانت تؤدى إلى ترك طاعة الله عز وجل، ولا تنافسه في هذه الدنيا، وإنما نافسه في الآخرة، نافسه في طاعة الله عز وجل، وانشغل أنت بما تركه هو من الطاعة، من سلامة الصدر، وسامحه فيما فعل، وعلى أي الأحوال: اجعل قضية الطاعة هي التي تحركك بمعنى: هل تتم الطاعة إذا تركتها له؟ طبعاً لاشك أن التعلق بالدنيا يمنع بركة الطاعة، لكن من أين تجزم بذلك؟ إذا كانت شهوات دنيوية فدعها ولا تنافسه عليها.

المعاصي والذنوب سبب ضعف الإيمان في القلوب

المعاصي والذنوب سبب ضعف الإيمان في القلوب Q نرى أنفسنا نبتلى بالمعاصي والفتن، هل معنى ذلك أننا ضعاف الإيمان، وأنه لم يقو بعد في قلوبنا؟ A لاشك أن هذه المعاصي والفتن من أشد أنواع البلايا، وهي فعلاً دالة على نقص الإيمان، فلا بد أن نزيد من الأعمال الصالحة، ونزيد من أعمال القلوب، ومن التفتيش في عيوب النفس حتى نعافى من هذا النوع من البلاء، نسأل الله العافية، ونسأل الله أن يفتح لنا أبواب الفضل والخير والرحمة منه سبحانه وتعالى، ولكن لا تطلب البلاء بأي نوع كان، سل الله العافية مطلقاً.

حكم كشف المرأة لعينيها

حكم كشف المرأة لعينيها Q نحن نواجه مشكلة من الأخوات بسبب النقاب السعودي الذي يبين أعينهن؟ A بعض أجزاء الوجه قد تظهر، فقد تكون الأخت وضعت كحلاً على عينيها، وهذا يفتن أكثر الناس، وأنت أيها الشخص! ما الذي جعلك تنظر إليها؟ اشغل نفسك بشيء آخر، ومالك ومال الأخوات؟! إذا وجدت حاجة سوداء أمامك انظر إلى مكان آخر، وأنا والله ما أعرف شكل النقاب السعودي، والفتاوى الصادرة من بعض العلماء المعاصرين التي فيها التحريم فيها نظر، ومسألة كشف العينين أو جزء من الوجه هذا فيه خلاف بين العلماء؛ لأن كشف الوجه كله فيه خلاف، وهو خلاف سائغ، فأنت اجتهد في غض بصرك واستعن بالله، واشغل قلبك بشيء آخر، وقضية الشهوة هذه علاجها الأساسي بعد غض البصر أن القلب يكون مشغولاً بحاجات أخرى، لكن عندما تفكر فيها قبل النوم، وعندما تسرح تفكر فيها، وعندما تقعد تفكر فيها، فهذا الأمر سيسيطر على قلبك، ولن يجعلك تغض بصرك، لكن لو كنت مشغولاً بأشياء أخرى فستنصرف عن ذلك، وهذه هي قضية إصلاح القلب، وعبادة لله عز وجل، بأن يقرأ القرآن بالتدبر، أو يتعلم العلم، أو يدعو إلى الله عز وجل، وقضايا الإسلام كلها هي التي تشغله، وآلام المسلمين تشغله فيدعو لهم ويتألم لآلامهم، فهذه الأشياء ستغير كثيراً جداً من قضية الشهوة عنده.

كيفية الانتفاع بالطاعة وتأثيرها على العبد

كيفية الانتفاع بالطاعة وتأثيرها على العبد Q عندما نفعل الطاعة لا يكون تأثيرها إلا مؤقتاً في قلوبنا، ولا يتعدى تأثيرها تأثير المسكنات فما هو العلاج؟ A لا تشبه الطاعات هكذا أبداً، فهذا تشبيه خطأ وخطر، فالطاعة هي مسكنات تأتي بالسكينة دائماً، وليس معنى المسكنات عندنا أنها حاجة ليس لها لزوم كبير، فالطاعات هي سبيل النجاة بإذن الله تبارك وتعالى، والطاعات الجليلة مثل: الصلاة والصيام والقيام والدعاء والبكاء، المواظبة عليها والاستكثار منها أمر مطلوب، وأداؤها بروح طيبة مطلوب، فالعبادة إذا أديت ولو كانت كثيرة لكن بدون روح لا تؤدي الثمرة المطلوبة، لكن إذا أديت بما يلزمها من خشوع كما قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1 - 2] فكلما خشعت في الصلاة تأثرت تأثراً لا يمكن أن ينكر، ثم إن الإنسان بطبيعته يتغير ويتقلب، وإنما سمي القلب قلباً لتقلبه كما يقال، فالقلب يتقلب على الإنسان في اليوم الواحد مرات، الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة) صلى الله عليه وسلم، هو عليه الصلاة والسلام المعصوم يصيبه الغين ويستشعر من قلبه فتوراً فيستغفر في اليوم أكثر من سبعين مرة أو مائة مرة صلى الله عليه وسلم، فلابد أن يراقب الإنسان نفسه، ولا يصلح للإنسان أن يقعد طوال الأسبوع ينشغل بالحياة ولا يفكر في نفسه، أزاد أو نقص الإيمان؟ وإلى حال قلبه ماذا جرى له؟! يترك نفسه هكذا والأمراض تعشش في قلبه ثم يقول: نحن لابد أن نفتش فيها، فإذا وجدت العبادة بالخشوع المطلوب فيها فسوف تغير فينا تغييراً جذرياً، ثم نقول بعد ذلك: هذا وضع طبيعي أن القلب يتغير بسرعة، فكلما تقلب عليك أكثر من الطاعة قال صلى الله عليه وسلم: (اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن).

حكم القراءة من المصحف في صلاة الفريضة

حكم القراءة من المصحف في صلاة الفريضة Q ما حكم القراءة في المصحف في صلاة الفريضة؟ A خلاف الأولى؛ لأن الفريضة ليست مبنية على التطويل، وإنما تجوز القراءة من المصحف في صلاة القيام لحاجته إلى التطويل.

حكم قطرة الأذن والأنف للصائم

حكم قطرة الأذن والأنف للصائم Q ما الحكم لو وضع الصائم قطرة في أذنه أو أنفه فوجد طعمها في فمه فابتلعها؟ A الصحيح عندي أنه إن فعل ذلك فقد أفطر، وأما إذا لم يجد الطعم لم يفطر، وخصوصاً في الأذن، فالأذن لن يجد طعم القطار في الحلق إلا إذا كانت مخرومة، وإذا لم يكن فيها ثقب فلن تصل إلى الجوف ولا ينزل طعمها بالأولى، لكن الأنف موصولة بالحلق، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً) فإذا وضع قطرات في أنفه ووصل حلقه فقد بالغ في الاستنشاق، وأنا أنصح أن تأخذ قطرتين على قطنة وتحطها في أنفك وأنت واقف، فأنت لو حطيتها وأنت واقف لن يحصل شيء.

مدى صحة خبر: أن سيف رسول الله في مسجد الحسين بالقاهرة

مدى صحة خبر: أن سيف رسول الله في مسجد الحسين بالقاهرة Q يقال: إن في مسجد الحسين في القاهرة يوجد سيف النبي صلى الله عليه وسلم هل هذا صحيح؟ A يقولون هذا، ولا أعرف صحته، ولو كان هو فعلاً نجزم به، لكن ليس عندنا إسناد في ذلك، ويبقى هناك فائدة وهي: التبرك بآثار النبي عليه الصلاة والسلام.

الجمع بين رفع الأعمال في شعبان وما جاء في رفعها يوم الاثنين والخميس

الجمع بين رفع الأعمال في شعبان وما جاء في رفعها يوم الاثنين والخميس Q أعرف أنه في شهر شعبان ترفع الأعمال، فما الفرق بين هذا الرفع للأعمال وبين حديث: (تعرض الأعمال يوم الإثنين والخميس)؟ A الظاهر أن عرض الأعمال يوم الإثنين والخميس يكون عرضاً في كل أسبوع مرتين، وأن عرض شعبان هو عرض السنة قبل رمضان، نسأل الله عز وجل أن يتقبل منا، وأن يغفر لنا، وأن يبلغنا رمضان، وأن يوفقنا فيه لما يحب ويرضى، فهذا وقت الإعداد لرمضان، فقد ترفع أعمال السنة فليراجع الإنسان فيها نفسه، وهذا مثل التاجر الذي يعمل جرداً كل سنة، فيحاول يعمل جرداً خلال السنة الماضية حتى يستعد لرمضان بقلب تائب منيب، نسأل الله العافية.

كيفية إقناع الزوجة بوجوب النقاب

كيفية إقناع الزوجة بوجوب النقاب Q زوجتي ترتدي الخمار، وأنا أريد أن ترتدي النقاب فتأبى وتقول: إنه ليس بفرض؟ A الخمار فرض وإن قلنا: إنه سنة فلماذا لا تطبقي السنة؟ وعندما تقتنع فسوف ترتديه، وأعطها كتاب الشيخ محمد المقدم، الذي فيه الأدلة على وجوب الحجاب، وعلى كل الأحوال اصبر عليها.

المطلوب من العبد بعد أركان الإسلام

المطلوب من العبد بعد أركان الإسلام Q أنا أصلي وأصوم وأزكي وأقوم بالعمرة إن استطعت، وأعبد الله كما أمرني، وأسعى على كسب رزقي فما المطلوب مني أكثر من ذلك؟ A هذه أركان الإسلام التي أنت قلتها: الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، ومطلوب منك أن تتعلم ما يلزمك من الحلال والحرام، كفقه المعاملات بين الناس، فهذا فرض عين عليك، حتى تتعامل بالحلال وتترك الحرام فيما يتعلق بالأكل والشرب والمال والعين والأذن، فما هو الذي تسمعه؟ وما هو الذي تنظر إليه؟! وما هو الذي تمسكه بيدك؟! وهكذا تتعلم فقه حقوق الآخرين، كمعاملة الناس، فهذا فقه واجب تتعلمه، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، ومعاملة الأهل والأولاد، وتتعلم إصلاح عيوب النفس وأمراضها، وتتعلم التخلص من الحسد والحقد والرياء والسمعة والضغينة للمؤمنين والتشبه بالكافرين. وتتعلم ما يلزمك من العبادات القلبية من حب الله، والخوف منه، ورجائه، والتوكل عليه، وكل واحدة من هؤلاء لها بابها الذي يتعلمه. ثم نتعلم فرضية أن ندعو إلى الله عز وجل، ونأمر بالمعروف وننهى عن المنكر على ما توجبه الشريعة، وأن نسعى لنصرة الإسلام، وأن تقترب من إخوانك فتحبهم في الله وتصحبهم في الله عز وجل، وتستعين بالله عز وجل على حقوق هذه الصحبة في الله سبحانه وتعالى، وتسعى لنصرة الإسلام بكل ما يمكنك، وتصلح نفسك ومن حولك وجيرانك وزملاءك، وقدر كبير جداً من الواجبات مطلوب منك أن تعملها حتى إذا تغيرنا جميعاً تغير الواقع الذي نحن فيه، فهذا الواقع الذي نعيشه نجد فيه تقصيراً منا، فنحن ليس لنا دعوة بأقوالنا وأفعالنا، ومع أدائك لكل ذلك ترى نفسك مقصراً كما ذكرنا حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة). ومن رأى في نفسه كمالاً وأنه أدى ما عليه فهو لم يؤد بعض ما عليه، فهو لم يؤد شيئاً مما عليه، بل أنت تعمل بالطاعة وترى نفسك دائماً مقصراً والله المستعان! وليس هذا تواضعاً، وإنما هذا لأنك أنت تنظر دائماً لعيوبها، كأن تصلي ركعتين فتسأل نفسك كم كنت مركزاً فيهما؟ وكم كنت مستحضراً لقراءة الآيات والأذكار فيهما؟ وهكذا أول ما تسلم تقول: أستغفر الله! أستغفر الله! أستغفر الله!

حكم الإفتاء بغير علم

حكم الإفتاء بغير علم Q شخص استوقفه شخص آخر في الطريق وسأله أنه أقسم يمين طلاق وخالف ما أقسم عليه، فأجبته بما كنت أعلم: أنه إذا نوى الطلاق فقد وقع وإلا فليس عليه شيء، ثم علمت آنفاً أن عليه كفارة يمين في حالة عدم نية الطلاق، ولا أعرف هذا الشخص؟ A أنت أخطأت أولاً في التجرؤ على الإفتاء بدون علم، وكان الواجب عليك أن تنصحه أن يسأل أهل العلم حتى يجيبوه الإجابة الكاملة الصحيحة، فتستغفر الله وتأتي لطلب العلم ولا تعد مرة ثانية، ولعل ربنا ييسر له من يفتيه بما يلزمه.

حكم من نذر مبلغا لله ثم صرفه في صالح المسجد

حكم من نذر مبلغاً لله ثم صرفه في صالح المسجد Q نذر مبلغاً لله، وبعد فترة وجد أن المسجد في حاجة للمبلغ، حيث إنه سيشتري به أشرطة وتجعل في المسجد، فهل يخرج هذا المبلغ لله أم يشتري به الأشرطة؟ A ممكن الأشرطة تكون لله، ويبدو أن نيتك مقيدة بكلمة: (نذرتها لله)، والنذر لله يصح في كل ما كان طاعة، لكن هل أنت نذرتها للفقراء؟ أي: خصصت نيتك بأن (لله) أي: الفقراء، فإذا كان للفقراء يبقى هذا المبلغ تنفقه في صالح الفقراء. وأما إذا لم يكن في نيتك في ساعة النذر هذا التخصيص فكل ما كان في سبيل الله يجزي.

علاقة الأعمال الظاهرة بالإيمان

علاقة الأعمال الظاهرة بالإيمان Q الأعمال الظاهرة هل هي شرط كمال أم شرط صحة؟ A من يقول: إن الأعمال الظاهرة شرط كمال واجب في الإيمان وليس بشرط صحة ليس مرجئاً، ومن يتهمه بالإرجاء يكون مبتدعاً، ويتهم عامة علماء الأمة بالإرجاء، ولا أعين أحداً، وممكن يكون متأولاً أو جاهلاً، لكن أنا أقول: إن اتهام من يقول بأن الأعمال الظاهرة شرط كمال واجب في الإيمان، وليس شرط صحة طالما وجد أصل الإيمان في القلب وعلى اللسان، فإن الذي بدَّعه ويقول عليه: مرجئ يكون هو المبتدع. والإيمان المطلق معناه: الكامل، ومطلق الإيمان معناه: أصل الإيمان، والإيمان المطلق صاحبه يدخل الجنة لأول وهلة؛ لأنه كمل ما عليه، فأدى الواجبات وترك المحرمات، ومطلق الإيمان هو تحت مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، وعنده أصل الإيمان لكن لا يخلد في النار.

حكم تقبيل أيدي العلماء

حكم تقبيل أيدي العلماء Q هل يجوز أن نقبل أيدي العلماء؟ A هذا الأمر ورد مرة عن الصحابة لما بشرهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد عودتهم من غزوة انسحبوا منها، فقال لهم المسلمون: (أنتم الفرارون، فقال: بل أنتم الكرارون) فقبلوا يده، لكن لم يكن هذا الفعل عادة وسنة أن الصحابة رضي الله عنهم كلهم عندما يرون النبي صلى الله عليه وسلم ينكبوا على يده، مع حبهم وتعظيمهم له أشد التعظيم، فمسألة أن تقبيل اليد يصبح سنة فهذا فيه غلو، لكن إذا وقعت نادراً فقد ثبتت أدلة تثبت ذلك كما قال: قبل زيد بن ثابت يد ابن عباس رضي الله تعالى عنه، وهذا لم يزل موجوداً لكن على سبيل الندرة لا على سبيل العادة، والله أعلى وأعلم.

حكم قول سيدنا ومولانا للعلماء

حكم قول سيدنا ومولانا للعلماء Q هل يجوز أن نقول للعلماء: سيدنا أو مولانا؟ A نعم، يجوز ذلك وليس ذلك بالمحدث من القول، لكنت ليست سنة راتبة أيضاً، فأنت لا تجد الصحابة يقولون دائماً: سيدنا أبو بكر سيدنا عمر، وإنما يذكرون الكنية، لكن هل هذا الأمر يعد بدعة ضلالة؟ لا، ليس كذلك، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن سعد بن معاذ: (قوموا إلى سيدكم). وقال: (لا تقولوا للمنافق سيداً؛ فإنه إن يك سيداً فقد أغضبتم ربكم)، فدل ذلك على أن من ليس بمنافق ولا بكافر وهو المسلم الذي لا يعرف عنه فسق يجوز أن يقال له سيد. وأما مولانا فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ زيد: (أنت أخونا ومولانا)، فالمولى لفظ يطلق على نحو عشرين معنى، منها عدة معاني صالحة للأخوة في الله، وهي: المحبة والقرب والتناصر على الدين، فهذه كلها معاني الموالاة الصحيحة، فليس هناك منع من ذلك، لكن كما ذكرنا أنها لا تصبح شعاراً بمعنى أنها تكرر مثل تقبيل اليد كما قلنا: لا ينكر مطلقاً ولا يغالي فيه، ولكن يحجم.

حكم التنفل مع المفترض

حكم التنفل مع المفترض Q صليت العشاء ثم جئت المسجد، وكانت الصلاة لم تنقض بعد، فدخلت بنية النافلة هل هذا صواب؟ A نعم، ما فعلته هو الصواب، تصلي نافلة مع الجماعة، فإن أدركت ركعة صليت أربعاً، وإن أدركت أقل من ركعة صليت ركعتين.

حكم بيع ماكينات الحلاقة والمعجون في الصيدلية

حكم بيع ماكينات الحلاقة والمعجون في الصيدلية Q عامل في صيدلية يبيع ماكينات الحلاقة والمعجون فما حكم ذلك؟ A معجون الحلاقة وماكينات الحلاقة للحالقين لا يجوز بيعها؛ لأنهما تستعملان في المعصية.

معنى حديث (من حلف على يمين ثم رأى أتقى لله منها فليأت التقوى)

معنى حديث (من حلف على يمين ثم رأى أتقى لله منها فليأت التقوى) Q ما معنى حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من حلف على يمين ثم رأى أتقى لله منها فليأت التقوى)؟ A أي: يكفر عن يمينه ويأتي ما هو أتقى لله، كأن حلف على حاجة لا يعلمها، فقال: والله لن أذهب إلى أقربائي مرة أخرى، هل هو أتقى لله أنه لا يذهب إليهم أو أنه يذهب إليهم ليزورهم؟ يذهب إليهم ليزورهم، فيصل الرحم، ويفعل التقوى ويكفر عن يمينه. والحديث هو مرسل؛ لأن التابعي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

حكم الصلاة بالملابس النجسة

حكم الصلاة بالملابس النجسة Q شخص يعمل في شركة للأدوات الصحية في الصب يقول: فعندما نأخذ التراب الذي نصب به يكون مخلوطاً بماء الصرف الصحي، ودائماً ما يصيب الملابس، وعندما يؤذن المؤذن للصلاة أضطر للصلاة في هذه الملابس، وحتى المسجد مليء بهذا التراب بسبب الطاحنات؟ A لا، هذه الملابس لا تصلح للصلاة إلا أن يكون الذي أصابها رذاذ يسير لا يدرك، لكن إذا كان يدرك، فلابد أن تعد ثوباً للصلاة، وبالنسبة للمسجد لا بد أن تفرشه بشيء نظيف يمنع من هذه الأتربة المختلطة بالنجاسة، وهذه نجاسة لا بد من الحذر منها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (استنزهوا من البول؛ فإن عامة عذاب القبر منه)، فالبول والغائط من هذا الباب، فهذا خطر، وهو من أسباب عذاب القبر والعياذ بالله! فتلبس ملابس نظيفة وتصلي فيها، تأخذها معك ووقت ما يأتي موعد الصلاة تخلع ملابس العمل وتصلي في الملابس النظيفة، والمسجد نفسه إذا كان فيه نجاسة فهذا أمر محرم لا بد أن تزال النجاسة من المسجد، وأقل شيء أنهم يفرشون شيئاً نظيفاً.

وقوع الطلاق في الحيض

وقوع الطلاق في الحيض Q هل الطلاق في الحيض مسألة خلافية؟ A هي مسألة خلافية، لكن الخلاف عندي غير سائغ، فهو خلاف ضعيف جداً؛ لأنه ثبت النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه قال: (هي واحدة) والحديث صحيح، وأئمة العلماء على ذلك، والأئمة الأربعة على وقوع الطلاق في الحيض، فعندنا لا يعرف عن أحد من السلف المتقدمين من الصحابة والتابعين وتابعيهم وأئمة أهل الإسلام خلاف في المسألة، وإنما الخلاف من شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم توهماً بفهم حديث مسلم أنه لم يعدها شيئاً، وهذا خطأ في فهم الحديث، فالمسألة عندي أنها لا يسوغ فيها الخلاف لصحة النص، والشيخ الألباني ذكر للحديث عشر طرق، الذي هو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عدها واحدة، أي: في طلاق ابن عمر في الحيض، فأنا لا أشك في وقوع الطلاق في الحيض وأرى الفتوى بخلافها فتوى باطلة مردودة.

حكم الاشتراك في موقع البزناس

حكم الاشتراك في موقع البزناس Q ما حكم موقع البزناس؟ A هذا من الميسر الذي يخدع به الناس؛ حيث يبيعون شيئاً وهمياً أو شيئاً لا قيمة له في الحقيقة بقيمة بالغة بناءً على احتمال ورود الأموال من المخدوعين الجدد، فيأتي بعض الناس يقول لك: نعمل عليها شركة، فأنت سوق لي (الكباية)، وكل شخص يأخذ شخصاً ويقول: ما رأيكم؟ نقعد نشتري بمائة دولار، وأنت لو بعت واحد في المائة من الكباية سنعطيك، وهكذا من هذا الكلام الفارغ الذي لا قيمة لها، والناس الذين يدخلون كلهم ليسوا داخلين من أجل أن يستفيدوا من الموقع، ولن يدخل أحد إلا من أجل أن يوضع اسمه على قائمة، ويأتيه الذين يسوق عندهم، وهو لا يسوق ولا شيء، وإنما هذا يخدعهم، فالبزناس هذا ميسر بلا شك وهو بيع وهمي، ولذلك أنا أقول: أن البزناس هذه أمر محرم غير جائز. فإنه من بيع الاحتمال، وهذا ميسر، وهذا بيع غرر، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر؛ لأنك لن تستفيد منه غالباً، وأنا أقول: إن اليهود وراء هذا الموضوع، فهذا بيع غرر بلا شك، والغرر الذي فيه هو: أنه يدفع في الحقيقة ويدخل في هذا الشيء من أجل احتمال أنه غيره سيعطيه وسيأخذ عمولة منه، فهذا بناء على هذا الاحتمال، وليس أن هناك سلعة مقصودة.

حكم حضور دروس العلم مع كراهة الوالدين لذلك

حكم حضور دروس العلم مع كراهة الوالدين لذلك Q أبي وأمي يكرهان ذهابي إلى دروس العلم من أجل المذاكرة مع أنني أذاكر هل هذا عقوق؟ A إذا كنت تذاكر فليس هذا بعقوق، بل واجب عليك أن تحضر دروس العلم ولو من ورائهم، لكن واجب عليك أن تذاكر دروسك من أجل ترضيهم.

كيفية المضمضة والاستنشاق

كيفية المضمضة والاستنشاق Q هل هناك دليل على أن الاستنشاق يكون بالشمال؟ A لا، هو يأخذ غرفة بيمينه فيتمضمض ويستنشق منها، ثم يستنثر بالشمال، فهذا دلت عليه الأحاديث. والحديث في صحيح مسلم، والتكريم يكون لليمين، والشمال لما سوى ذلك، فالاستنثار مما سوى ذلك.

حكم من طلق امرأته قبل الدخول بها

حكم من طلق امرأته قبل الدخول بها Q كم طلقة تكون للعاقد؟ A العاقد إذا طلق امرأته ولم يدخل بها فقد بانت منه، فإذا أراد أن يرجع رجع بعقد جديد؛ لأنها بانت منه، وإذا طلق امرأته قبل الدخول وعقد عليها من جديد، ثم طلقها ثانياً قبل الدخول فعقد عليها من جديد، ثم طلقها ثالثاً بانت منه حتى تنكح زوجاً غيره، لكن إذا أرجعها بدون عقد جديد يصير العقد باطلاً، وبعض الناس يطلقها في شجار حصل بينهم، فينحرج أن يقول لأهلها فيقول لها: قولي لي: زوجتك نفسي فيقول لها: رجعتك انتهى، فيراجعها وممكن بعد مدة يطلقها، والطلقات التي وقعت بعد هذا وقعت في غير زواج، فهي ليست امرأته فهو قد طلق أجنبية فلا تحسب.

حكم وضع اليدين بعد الرفع من الركوع

حكم وضع اليدين بعد الرفع من الركوع Q ما حكم وضع اليد بعد الرفع من الركوع؟ A يستدل على هذا بعموم فعل النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يضع يده اليمنى على اليسرى عند القيام في الصلاة، وهذا قيام، فالسنة إن شاء الله وضع اليمنى على اليسرى بعد الرفع من الركوع، وهذا فيه خلاف سائغ.

حكم الاغتسال لمن تاب بعد ردته

حكم الاغتسال لمن تاب بعد ردته Q هل لابد على من يسب الدين، أو يقول لفظاً شركياً أو كفرياً أن يغتسل ويتشهد، وكذلك من لا يصلي إذا أراد أن يصلي؟ A من سب الدين عليه أن يتشهد، وأما الغسل فإذا كان قد أجنب حال ردته فلا بد أن يغتسل، وحتى لو اغتسل دون أن يتشهد لم يجزه الغسل حتى يتشهد ثم يغتسل، والله أعلم. وأما إذا لم يكن أجنب وتاب من ساعته لم يلزمه إلا الشهادة على الصحيح، والأحوط أن يغتسل على أي حال خروجاً من الخلاف في المسألة؛ لأن بعض العلماء يقول: الاغتسال واجب للإسلام مطلقاً سواء أجنب حال كفره أو لم يجنب. أما من يقول لفظاً شركياً أو كفرياً، فهذا الكلام لا بد من النظر فيه هل هذا شرك مخرج من الملة أم لا؟ وهل توفرت الشروط وانتفت الموانع أم لا؟ فإذا ثبتت ردته فإنه يتشهد ويغتسل كما ذكرنا. وأما من لا يصلي فإذا كان تاركاً للصلاة جاحداً لوجوبها فهذا خروج من الملة فعلاً، وكان ناشئاً وسط أهل الإسلام كبلادنا مثلاً وغيرها من بلاد المسلمين التي انتشر فيها علم وجوب الصلاة، فإذا كان كذلك كان جاحداً بأن يقول: الصلاة ليست فرضاً، فهذا خرج من الملة، فعليه أن يتشهد ويقول الصلاة فرض. وأما إذا كان تركها تكاسلاً فهذا فيه قولان للعلماء أرجحهما وهو قول جمهور العلماء: أنه لا يكفر كفراً ناقلاً عن الملة، فهو كافر كفر دون كفر، كفر لا يخرجه عن ملة الإسلام؛ لذا لا يحتاج إلى الشهادة مرة أخرى.

حكم من يرى أن قاطع الصلاة قد يكون أفضل من المصلي

حكم من يرى أن قاطع الصلاة قد يكون أفضل من المصلي Q قال لي رجل لا يصلي: الذي لا يصلي قد يكون أفضل عند الله من الذي يصلي، قلت له: لا، الذي يصلي أفضل، فهل أكون تأليت على الله بهذا القول؟ A إن شاء الله ما تأليت على الله، وهذه ليست متصورة فقط إلا في المنافق، فقد يكون شخص منافق نفاقاً أكبر يصلي، يبقى: ممكن واحد لا يصلي تكاسلاً، وفي قلبه أصل الإيمان، فيكون أفضل من المنافق، لكن غير ذلك قطعاً لا يتصور يعني: الزاني والسارق والقاتل وشارب الخمر الذي يصلي أهون شراً من الذي لا يفعل ذلك ولا يصلي، وترك الصلاة أغلظ باتفاق أهل العلم من كل الكبائر.

ولقاؤك حق

ولقاؤك حق إن الموت نهاية كل إنسان، فلابد من لقاء الله عز وجل، ليحاسب كل إنسان على ما قدم في حياته، ولا بد لكل فرد من أن يقف بين يدي ربه، ليلاقي جزاء عمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر، ولذلك فإنه حري بكل إنسان أن يحاسب نفسه، ويتدارك ما فاته في عمره؛ لأن لقاء الله حق، والمصير إما إلى جنة أو إلى نار أمر لابد منه.

إعداد العدة للقاء الله عز وجل

إعداد العدة للقاء الله عز وجل إن الحمد الله نحمد ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد. قال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا * إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا * إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ * بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا} [الانشقاق:6 - 15]. هذه الآيات تحث على إعداد العدة للقاء الله عز وجل، فلنعلم أننا ملاقو الله سبحانه وتعالى، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه -أي: أيسر منه- فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أمامه فلا يجد إلا النار، فاتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة)، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في دعائه الجامع العظيم: (ولقاؤك حق)!. فلقاء الله سبحانه وتعالى حق لابد أن يتحقق ولابد أن يقع، وكل عبد يلقى الله عز وجل فرداً كما قال سبحانه وتعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:93 - 95]، وقال سبحانه وتعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ * وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:93 - 94].

هول يوم الحساب

هول يوم الحساب استحضر يا عبد الله هذا الموقف الهائل العظيم، وأنت في وسط الجموع الهائلة الكثيرة من أول من خلق الله عز وجل إلى آخر واحد منهم إنسهم وجنهم، وقد اجتمعوا في صعيد واحد، ونزلت الملائكة من السموات تنزيلاً، وأحاطت بهم، واجتمعت عليهم الأهوال، ودنت الشمس من الرءوس، وصمت الخلق جميعاً، فلا تسمع صوت أحد يتكلم، إنما تسمع نقل الأقدام إلى أرض المحشر، ومن ينادى عليه للقاء ربه سبحانه وتعالى، كما قال عز وجل: {وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} [طه:108]، وينادى على العباد فبعضهم ينادى عليه {هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [هود:18 - 19].

حساب الله للكافر والمنافق

حساب الله للكافر والمنافق سأل الصحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال: هل تضارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا، قال: فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟ قالوا: لا، قال: فإنكم ترونه كذلك، فيلقى أحدكم ربه فيقول: يا فلان! ألم أزوجك؟ ألم أسودك؟ ألم أسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع؟). (وأذرك) أي: أتركك تصبح رئيساً في قومك، وتأخذ المرباع، كما كانوا في الجاهلية يأخذ زعيم القبيلة ربع الغنيمة ويسمى المرباع، فهو قد ربعهم أي: أخذ ربع غنيمتهم في الحروب، وكما يفعل كل من ترأس في الناس فإنه يأخذ من أموال الناس عامة ما يخص به نفسه، إلا ما رحمهم الله عز وجل من أهل الإسلام القائمين بالقسط والعدل. يقول: (يا فلان! ألم أزوجك؟ ألم أسودك؟ -أي: جعلتك سيداً- ألم أسخر لك الخيل والإبل، وأذرك ترأس وتربع؟ قال: بلى قال: أفظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا، فيقول: اليوم أنساك كما نسيتني) نعوذ بالله!. (ويلقى أحدكم ربه فيقول له مثل ذلك فيقول: يا رب! صمت، وصليت، وتصدقت! ويثني بخير ما استطاع فيقول: اليوم نبعث عليك شاهدنا فيتفكر في نفسه: من ذا الذي يشهد علي؟ فيختم الله على فيه -أي: على فمه- ويقال لأركانه: انطقي، فتتكلم أركانه بما كان يعمل ثم يخلى بينه وبين الكلام، فيقول: بعداً لكن وسحقاً! فعنكن كنت أناضل). أجزاؤه هي التي تتكلم فيشهد فخذه، وتتكلم جوارحه، كما قال تعالى {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65]. فالله سبحانه وتعالى سوف ينادي كل واحد من الناس فيما بينه وبينه، ويقرره على ما فعل، والكفار والعياذ بالله يقرون، ويعترفون بذنوبهم، ويؤخذون إلى العذاب عياذاً بالله! وكذا المنافق كما جاء في هذا الحديث أنه يثني بخير على نفسه ما استطاع، ويقول: صليتُ! صمتُ! تصدقتُ! فإذا نطقت أركانه وجوارحه بما كان يعمل، ثم خُلي بينه وبين الكلام يقول: بعداً لكن أي: جوارحه؛ يدعو على نفسه وأجزائه التي شهدت عليه، فهي شاهده الذي يبعثه الله عز وجل عليه من نفسه، فهذا عدله سبحانه وتعالى، فهذا هو المنافق الذي يغضب الله عز وجل عليه، وذلك الذي يعذر من نفسه.

حساب الله للمؤمن

حساب الله للمؤمن ثبت من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه سئل: هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر شيئاً في النجوى. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يدني الرب سبحانه وتعالى عبده المؤمن فيلقي عليه كنفه -أي: ستره-، فيذكره بذنوبه، فيقول: أتذكر ذنب كذا؟! أتذكر ذنب كذا؟! فيقول: نعم)، لا يستطيع أن ينكر (حتى إذا ظن أنه قد هلك فيقول الله عز وجل: قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، فيؤتى كتابه بيمينه فيقول: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة:19]). فتخيل وتصور هذا الموقف الهائل العظيم، فوالله لو لم يكن في أمر الآخرة من شدة إلا تلك اللحظة التي يتصور المؤمن فيها أنه قد هلك؛ لأن الله عز وجل يذكره بذنوبه، ويقرره بها، ويعترف العبد بها حتى يتصور أنه قد هلك.

شدة عذاب النار وهوله

شدة عذاب النار وهوله الهلاك الذي لا نجاة بعده هو عذاب النار، يتعذب فيها الإنسان فيها بكل شيء، وفي كل لحظة من لحظاته، وفي كل جزء من أجزائه، فهو يتعذب بالنَفَس كما قال تعالى: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} [هود:106]، ويتعذب بالطعام كما قال تعالى: {وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا} [المزمل:13]. (ذا غصة) أي: طعام ذا شوك يأخذ في حلق الكافر فيظل في حلقه لا يستطيع ابتلاعه، ولا يستطيع لفظه، فيمسك بحلقه ذلك الشوك فلا يستطيع خلاصاً منه، ويتعذب بالشراب فإن شرابهم من حميم والعياذ بالله كما قال تعالى: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد:15]، وقال تعالى: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا * إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا * جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ:24 - 26]. فالغساق: هو ما يسيل من عيونهم وصديدهم وجروحهم في غاية البرودة والنتن والعياذ بالله! ويتعذبون بالملابس التي يلبسونها قال عز وجل: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الحج:19 - 22] نعوذ بالله من ذلك! والمقمعة: هي التي يضرب بها الفيل، وهي: حديدة عظيمة يضرب بها الفيل على رأسه، فينقمع هذا في الدنيا فكيف بمقامع الآخرة؟! ويعذبون في فرشهم كما قال تعالى: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأعراف:41] نعوذ بالله من النار!

لقاء الله حق

لقاء الله حق المؤمن الذي يؤتى كتابه بيمينه -أي: قد رجحت حسناته على سيئاته- ينادى عليه من وسط صفوف البشر، فإن البشر يأتون يوم القيامة صفاً، وكلهم عارٍ كما ولدته أمه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلاً، {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:104] ألا إن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم). وتأمل هذا الحديث جيداً؛ لتعلم أن كل أحد يحشر عارياً، حتى الأنبياء يحشرون عراة حفاة كما ولدتهم أمهاتهم، ثم يكسى الأنبياء، وأول من يكسى إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، كما في الحديث: (ألا إن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم)، فلن يستثنى أحد، ولن يحشر أحد في لباس، وإنما هم قائمون في أرض المحشر شاخصة أبصارهم، ينتظرون فصل القضاء، وكلهم صامت ساكت، والملائكة قد أحاطت بهم، ثم ينادى عليهم واحداً واحداً، ويلقي الله سبحانه على المؤمن كنفه، أي: ستره، ثم يقرره بذنوبه حتى يظن أنه قد هلك. فهذه اللحظة التي يظن فيها المؤمن أنه قد هلك هو كما هو في إطلاق الحديث: كامل الإيمان، الذي رجحت حسناته على سيئاته، بدليل أنه قد أوتي كتابه بيمينه، وأنه ينادي: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:19 - 20] أي: أنه أيقن أنه ملاق حسابه عند الله عز وجل، فهذا حال المؤمن في تلك اللحظة، فكيف بمن كان مفرطاً؟! وكيف بمن يعذب بذنوبه؟! وكيف بمن يلقى في النارنعوذ بالله من ذلك؟!. إن لقاء الله عز وجل حق للمؤمن والكافر، فأما الكافر فيلقاه لقاء العبد الآبق من سيده الغاضب عليه والعياذ بالله من ذلك! فيراه رؤية يعلم بها أن الله حق وأن لقاءه حق، فليست رؤية تكريم ولا تنعم، بخلاف أهل الإيمان فإنهم يلقون ربهم فيرونه وينظرون إليه، وينظر إليهم برحمته سبحانه وتعالى، فينظر إليهم نظرة يترتب عليها أنواع من الرحمات والكرامات والإنعام -حتى يدخلوا الجنات- ما لا يخطر ببال أحد، ولم تسمع به أذن، ولم تره عين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر).

قصر الدنيا بالنسبة للآخرة

قصر الدنيا بالنسبة للآخرة اعلموا عباد الله أنكم ملاقو الله سبحانه وتعالى، وأعدوا للقاء الله عز وجل عدته، فهي لحظات طويلة، فكم يبلغ يوم القيامة من السنين؟! وكم تساوي حياتنا بالنسبة لها؟ فقد قال تعالى عن طوله: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4]، فلنتدبر هذه الكلمة جيداً {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} [السجدة:5]. إن عدد الأيام من أيام الفراعنة إلى اليوم يقولون: سبعة آلاف سنة. فكم من الأديان مرت خلال هذه الفترة؟ وكم من الأحداث على الأرض وقعت؟ إن تاريخ البشر المعروف لا يتجاوز عشرة آلاف سنة على أي حال من الأحوال، والله سبحانه وتعالى يخبر فقط عن يوم القيامة أنه خمسون ألف سنة، فكم تساوي متع الحياة التي يتنافس الناس فيها، والتي من أجلها يقتل بعضهم بعضاً، ويسفك بعضهم دماء بعض، ويغتاب بعضهم بعضاً، وينم بعضهم على بعض، والتي تقطع فيها الأرحام، ويفسد من أجلها في الأرض؟ فكم تساوي هذه اللذات المشوبة بالنغص والنكد؟ فإنه لا تسلم لأحد لذة منها إلا ومعها ما ينكدها، ولو لم يكن إلا الملل منها بعد حصولها لكفى به منغصاً، فما من لذة من اللذات إذا ذاقها الإنسان إلا وشعر بالزهد فيها، وعدم الرغبة فيها، وحب التحول عنها، وأما اللذة التي لا يتحول المرء عنها فهي في الجنة فقط، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} [الكهف:107 - 108]. وأما لذات الدنيا مثل الطعام الذي تشتهيه وتحبه وأنت جائع فإذا أكلت منه لقيمات شبعت منه وقلت: لا أستطيع الزيادة، ولا أريد المزيد منه، وكذا الشراب تشرب مرة أو مرتين ثم تزهد فيه، وكذلك الشهوة الجنسية لحظات وثوان معدودة ثم يزهد بعدها الإنسان ويرغب في غيرها، ولا يريد البقاء فيها! وكذلك لذة الملك، لا تأتي إلا بالكرب والغم والخوف والقلق والصراعات والنزاعات بما لا يتمتع معه بشيء من أمور الحياة. إن هذه الحياة لا تخلو من ألم، ولابد فيها من شقاء وألم بحكم وجودنا في الأرض، فإن خروجنا من الجنة ترتب عليه شقاؤنا، قال تعالى: {فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه:117]. ومع ما في الدنيا من لذات إلا أنها تكون مشوبة بالآلام والمتاعب والنكد والاختلاف الذي يؤدي دائماً إلى ضيق الصدر وعدم انشراحه، اختلاف بين البشر حتى في الأسرة الواحدة يقع ذلك كله، فكم تساوي لذة الدنيا هذه؟! ومع ذلك فالإنسان يبقى ثلث حياته نائماً لا يشعر بشيء، وثلثها الأخير أو ربعها الأخير بعد الأربعين أو الخمسة والأربعين أو الخمسين تدب إليه الأمراض، فيعاني منها أنواع المعاناة، وأمراض الشيخوخة لا يكاد يسلم منها إلا أفراد من الملايين، وإلا فالأكثر تصيبه الأمراض والآلام، وما بين ذلك أيضاً طفولة مليئة بالبكاء، فأول ما يبدأ به الإنسان في الحياة البكاء، ويظل يبكي طوال حياته، وإن ضحك قليلاً فإنه يبكي كثيراً. وكم تساوي الدنيا في يوم القيامة في أهواله العظيمة؟ وإننا لو قارنا هذه الحياة بفترة البرزخ فقط لكان الميزان لصالح ما بعد الحياة، ولذا لا تكون الحياة الدنيا حياة فيقول الإنسان يوم القيامة كما قال تعالى: {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر:24]، وقال عز وجل: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} [الفجر:25 - 26]، فلا يعذب مثل عذاب الله أحد، ولا يوثق مثل وثاق الله أحد، هذا الوثاق الذي يقيد به الأسرى، وتعصب به أعينهم، ويقيدون به خلف ظهورهم كم هو مؤلم، فتخيل قول الله عز وجل: {إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} [غافر:71 - 72]، فهذه الأغلال ليست في الأيدي فقط، وإنما هي في الأعناق مع الأيدي والأرجل، كما قال تعالى: {فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ} [الرحمن:41]، فتجمع قدمه إلى ناصيه في سلسلة واحدة، قال عز وجل: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} [الحاقة:25 - 27]، أي: ليت الموتة التي متها كانت القاضية ولم أبعث: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28 - 29] أي: هلكت عني حجتي أو أصحاب السلطان الذين كان لهم سلطان في الدنيا يقولون يوم القيامة: {هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:29]، فيقول الله تعالى: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} [الحاقة:30]، فإذا قال الله عز وجل: (خذوه) ابتدرته الملائكة أسرع من البرق يأخذون هذا الذي أمر الله أن يؤخذ، وقوله: (فغلوه) أي: اجعلوا الأغلال في عنقه. قال تعالى: {ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ} [الحاقة:31]، الناس يخافون من أن يحبسوا في سجون يأكلون فيها ويشربون، وينامون على أرض ليست بنار، ويتغطون بغطاء ليس بنار، ويلبسون ثياباً ليست من نار، قال بعض السلف: لو توعدني الله أن يحبسني في الحمام لكان والله أجدر بنا أن نخاف وأن نرعب من هذا، فكيف وقد توعدنا أن يحبسنا في نار جنهم نعوذ بالله من النار؟! {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:32] فلا يقيد بها فقط، بل يسلك فيها أي: تجعل السلسلة في فمه، وتدخل في أمعائه حتى تخرج من دبره مثل الطيور التي تشوي، ويجعل فيها ذلك السيخ الحديدي، فهذا الكافر يسلك في السلسلة كما تسلك حبات العقد في سلكه نعوذ بالله من ذلك! {ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ} [الحاقة:31 - 36]، وهو غسالة جروحهم والعياذ بالله {لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} [الحاقة:37]. نعوذ بالله من ذلك.

خوف الأنبياء عليهم السلام من أهوال يوم القيامة

خوف الأنبياء عليهم السلام من أهوال يوم القيامة يوم القيامة يخاف الأنبياء من غضب الرب ويقولون واحداً بعد واحد: نفسي! نفسي! نفسي! فيقولها آدم عليه السلام الذي أسجد الله له ملائكة، وكلمه قبلاً، وخلقه بيده، وعلمه أسماء كل شيء، وتاب عليه وهدى، واجتباه ربه سبحانه، وجعله نبياً، ويقولها نوح عليه السلام، ويقولها إبراهيم عليه السلام خليل الرحمن الذي وقف المواقف العظيمة الذي أثنى الله عز وجل عليه بقوله: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم:37]، وبقوله: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة:124]، فإبراهيم عليه السلام يقول: نفسي! نفسي! اذهبوا إلى غيري، وكذلك موسى عليه السلام الذي وقف في مواجهة فرعون وكلمه الله عز وجل، وقربه نجياً يقول نفسي! نفسي! كذلك عيسى عليه السلام لا يذكر ذنباً، ولكن يقول: لا أسألك إلا نفسي؛ فيأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: أنا لها أنا لها أي: الشفاعة. فانظروا عباد الله إلى هذه المواقف العظيمة، واعلموا أنكم ملاقو الله، فلقاؤه حق، والجنة حق، والنار حق، والساعة حق، فهل ندرك حقائق هذه الأشياء؟ وهل نحن مؤمنون بها كما أخبرنا بها القرآن؟ إن أكثر ما ذكرنا إنما هي آيات في كتاب الله الذي يقول المسلمون كلهم عنه: نحن نؤمن به قطعاً ويقيناً وصدقاً، ولكننا نحتاج إلى أن نتدبر، وأن نستحضر هذه المواقف الهائلة التي تنتظرنا، حتى تصغر الدنيا في أعيننا، وحتى تكبر الآخرة في قلوبنا، وحتى كأننا نرى الجنة وقد دخلها أهلها وهم يتنعمون فيها، والنار وقد دخلها أهلها وهم يتعذبون فيها، وحتى كأننا ننظر إلى عرش ربنا بارزاً، وقد جاء سبحانه لفصل القضاء بين العباد الذين هم في عرصات يوم القيامة، في أرض عفراء بيضاء كقرص نقي ليس فيها معلم لأحد، أي: كرغيف الخبز المصنوع من الدقيق الذي يكون بياضه مشوباً بشيء من الصفرة، ليس فيها ارتفاع ولا انخفاض، قال عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} [طه:105 - 107] أي: ولا ترى فيها ارتفاعاً ولا انخفاضاً، ولا ترى فيها وادياً، فالعوج وهو الأرض المنخفضة، ولا أمتاً، وهو الأراضي المرتفعة عن الأرض، فيذر الأرض قاعاً أي: أرضاً مستوية، ملساء، صفصفاً أي: ملساء، لا ترى فيها ارتفاعاً ولا انخفاضاً، ولا ترى فيها وادياً ولا رابيةً، بل هي أرض مستوية، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، وهذا كله يتضمنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والساعة حق). نسأل الله عز وجل العافية، ونسأله عز وجل أن يدخلنا الجنة، وأن يعيذنا من النار، وأن يجعل خير أيامنا يوم نلقاه سبحانه وتعالى. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

صفة الجنة

صفة الجنة الحمد الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم. أما بعد: يطلب الإنسان السعادة، ويطلب اللذة، ويريد ما تشتهيه نفسه، ولكن لا لذة في هذه الدنيا تبقى، بل كل شيء فيها يفنى، فنعيمها إلى زوال، وألمها إلى زوال، وإنما العاقل من يطلب نعيم الجنة، فالجنة حق والنار حق. وقد أخبرنا الله عز وجل أن نعيم أهل الجنة أعظم نعيم من كل شيء، وقد ادخر الله عز وجل: (ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، ومصداق ذلك قوله سبحانه وتعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]. وقد جعل الله سبحانه وتعالى أعظم نعيم أهل الجنة النظر إلى وجهه سبحانه وتعالى، وهو الزيادة على الجنة المذكور في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] فقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم بأنه: (النظر إلى وجه الله عز وجل)، وقال سبحانه وتعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:35]، وقد فسره غير واحد من الصحابة والتابعين والسلف: بأنه النظر إلى وجه الله عز وجل، وقال سبحانه وتعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} [القيامة:22 - 25]، فهي باسرة أي: عابسة خائفة مرتعبة، وهي وجوه الكفار، (تظن) أي: أيقنت وعلمت أنها سيفعل بها ما يكسر فقار ظهرها، فهي سوف تقيد، وسوف تحبس، وسوف تدخل النار فتصيبها الفواقر التي تكسر فواقر ظهرها، هذه هي الفاقرة عياذاً بالله. أما أهل الإيمان فإن وجوههم قد أتتها نضره عظيمة من نظرها إلى وجه الله، قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]، وقال سبحانه وتعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} [الإنسان:8 - 10] أي: شديداً {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} [الإنسان:11]، وإنما أتت النضره للوجوه من نظرها إلى وجه الله عز وجل، وإنما سرت النفوس لما علمت برضا ربها سبحانه وتعالى عنها، فهو فوق نعيم الجنة كلها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول الله عز وجل لأهل الجنة: يا أهل الجنة! تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون: وأي شيء أفضل من ذلك؟! ألم تبيض وجوهنا، وتدخلنا الجنة، وتنجنا من النار؟! فأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً). وفي الحديث الآخر: (فيسألون النظر إلى ربهم فيرفع الحجاب، فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى وجه الله سبحانه)، فلا يكون النعيم نعيماً إلا بالقرب منه سبحانه وتعالى، وبالنظر إليه سبحانه، وذلك لمعرفة العبد بأن الله قد رضي عنه، وقال سبحانه وتعالى: {فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ * لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ * سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:54 - 58]، فربهم الرحيم سبحانه هو الذي رحمهم تلك الرحمة الخاصة، فرحمهم في الدنيا بالهداية والتوفيق للإسلام، ورحمهم في قبورهم بأن فتح لهم أبواباً إلى الجنان، ورحمهم في الآخرة بأن أظلهم في ظل عرشه سبحانه الرحيم الرحمن، ثم رحمهم رحمة خاصة بأن سلم عليهم وكلمهم من فوقهم بقوله: سلام عليكم يا أهل الجنة، فهذا الذي يسعد به الحزين، ويأمن به الخائف، وهو الذي يكون به نعيم الجنة نعيماً، ولا يحصل نعيم الجنة لأحد دون رضا الله عز وجل، وإنما صارت الجنة جنة بالقرب من الله عز وجل، وبرضاه سبحانه في أنها دار كرامته، ودار من رضي الله عنهم ورضوا عنه، وهي لا تحصل إلا لمن أطاع الله عز وجل بتوحيده واتباع رسله، وترك الشرك والكفر بما يعبد من دون الله، والكفر بالطاغوت: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:17 - 18].

آيات في ذكر صفة نعيم الجنة

آيات في ذكر صفة نعيم الجنة الله عز وجل وصف نعيم أهل الجنة بأوصاف تجعل العبد يكاد يطير قلبه شوقاً إليها، وإلى رضوان الله عز وجل فيها، قال عز وجل: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة:10 - 11]، وتأمل أنه بدأ أولاً بذكر القرب من الله كما ذكرنا؛ لأنه لا نعيم إلا بالقرب منه، ولا يتنعم إلا بقربه عز وجل، والنعيم المعنوي مقدم على النعيم الحسي. {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ} [الواقعة:10 - 13] أي: جماعة كثيرة من أول هذه الأمة على أصح القولين إن شاء الله {وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:14]، أي: من آخر هذه الأمة، وفي كل قرن من أمة محمد صلى الله عليه وسلم سابق {عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ} [الواقعة:15] أي: منسوجة من الذهب، {مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ} [الواقعة:16] أي: يقابل بعضهم بعضاً، ولا ينظر أحدهم في ظهر أخيه أو في قفاه، بل من شدة حبهم وتلاقيهم تقابل وجوههم وجوه بعض {مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ * يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} [الواقعة:16 - 17] أي: مخلدون على هيئة الولدان، فلا يسبون ولا يلغطون ولا يكبرون، وهم في غاية الجمال {كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ} [الطور:24]، {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} [الواقعة:17 - 18] أي: من الكأس التي فيها الخمر، من عين جارية على أرض الجنة، وليست في أخدود كأنهار الدنيا، وهذه الأنهار يجري فيها الخمر والعسل والماء غير الآسن واللبن كما قال تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} [محمد:15] فلا يحتاجون لآلات لرفعها، وهي معين، أي: ظاهرة على أرض الجنة، سارحة منكفة بنفسها، فلا تسيل على جوانب هذه الأنهار، وحصباؤها اللؤلؤ، وترابها المسك الأذفر. قال تعالى: {لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ} [الواقعة:19] أي: لا يصيبهم صداع كما تصيب خمر الدنيا أهلها الذين يشربونها، ولا تزول عقولهم كما تزيلها خمر الدنيا نعوذ بالله منها! {لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ * وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة:19 - 21]. إن المؤمن في الجنة ليتمنى الطير الذي يطير ويسرح في الجنة فيخر بين يديه مشوياً، فيأكل منه ما شاء، ثم يطير حيث شاء الله عز وجل، ولهم فيها {مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} [الرحمن:52]. قال تعالى: {وَحُورٌ عِينٌ} [الواقعة:22] وعندهم حور عين، أو: ويطوف عليهم حور عين، والأول أقرب؛ لأن المؤمن هو الذي يطوف على أهله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (للمؤمن في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة طولها ستون ميلاً في السماء، للمؤمن فيها أهلون، يطوف عليهم المؤمن يرى بعضهم بعضاً)، وتصور هذه اللؤلؤة في طولها في السماء، وربما عرضها على أرض الجنة مثل ذلك أو أكثر أو أقل والله أعلم، هذا طولها فقط في السماء، فكيف بما فيها من خيام وقصور وأنواع اللذات! {وَحُورٌ عِينٌ} [الواقعة:22] الحوراء: هي واسعة العين، والمرأة الحوراء: هي التي بياض عينها أنقى بياض، وسواد عينها أفضل سواد، وعين: هي المرأة العيناء، وهي واسعة العين، وهذا من جمال المرأة. {كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} [الواقعة:23] أي: المستور الذي لم تمسه الأيدي كقوله تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:56]، {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الواقعة:24]. ثم ختم الآيات بنعيم معنوي آخر فقال تعالى: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا} [الواقعة:25] أي: لا يسمعون كلاماً باطلاً لا فائدة فيه، وإنما يسمعون التسليم، كما قال تعالى: {إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا} [الواقعة:26]، أعلاه سلام الرب عز وجل كلاماً منه لهم، وبعد ذلك سلام الملائكة: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:23 - 24]. ثم يسلم الأنبياء والمرسلون، ثم الصديقون والشهداء والصالحون، فهم في حب وود عظيم لا يرى مثله. {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا} [مريم:62] أي: لا يسمعون فيها كلاماً باطلاً، واللغو عذاب يعذب به الإنسان، ويشقى به من الغيبة والنميمة والكذب، فهو نوع من أنواع العذاب الذي يعذب به الإنسان، والإثم: هو كل كلام فيه إثم يعذب به الإنسان، فأهل الجنة لا يسمعون سباً ولا شتماً ولا فحشاً، ولا يسمعون إلا الكلام الطيب {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا} [الواقعة:25 - 26].

نعيم أصحاب اليمين

نعيم أصحاب اليمين قال تعالى: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ} [الواقعة:27 - 28] هو شجر النبق المنزوع الشوك {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} [الواقعة:29] هو: شجر الموز المنتظم في هيئة بديعة عند جمهور أهل التفسير، {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [الواقعة:30] أي: ظل شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها، {وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ} [الواقعة:31] أي: على أرض الجنة منكف بنفسه {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ * وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} [الواقعة:32 - 34] فيها نساء {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} [الواقعة:35 - 36] فكلما أتاها زوجها وجدها بكراً، لا يشتكي قبلها، ولا يفتر ذكره {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا} [الواقعة:36 - 37]، المرأة العروب هي: المتحببة إلى زوجها، التي تتذلل حباً لزوجها، وتظهر رغبتها فيه، وهن أتراب متساوية أعمارهن في سن الشباب {لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ * ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:38 - 40].

عذاب أصحاب الشمال

عذاب أصحاب الشمال قال تعالى: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ} [الواقعة:41 - 42] السموم هي: الريح الحارة التي تدخل مسام الجلد، واليحموم هو: الدخان الأسود ليس ظلاً وإنما هو عذاب والعياذ بالله {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ * إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ * وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ} [الواقعة:43 - 46] أي: على الشرك بالله، {وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَ آبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ * قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ * ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ} [الواقعة:47 - 52]، فآكلون منها {فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} [الواقعة:53 - 55] أي: الإبل العطاش المريضة التي لا ترتوي {هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} [الواقعة:56].

فتح أبواب الجنة في رمضان

فتح أبواب الجنة في رمضان عباد الله! بعد أيام تفتح أبواب الجنة، وتغلق أبواب النيران كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وغلقت أبواب النيران فلم يفتح منها باب، وصفدت الشياطين)، إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت أي: سلسلت الشياطين فإذا فتحت أبواب الجنة رجا الناس، ورغبوا في أعمال أهل الجنة، وإذا غلقت أبواب النار يترتب على ذلك صعوبة أو عدم ميل النفوس إلى أعمال أهل النار، فاغتنوا الفرصة عباد الله، ونسأل الله أن يبلغنا رمضان، وأن يوفقنا فيه لما يحب ويرضى، وأن يبلغنا ليلة القدر، وإن يوفقنا لصيام هذا الشهر وقيامه، وقيام ليلة القدر إيماناً واحتساباً. عباد الله! فلنجتهد في استحضار هذه المعاني في القلوب، فإن الإيمان بها ليس مجرد معرفة، ولا مجرد تصديق، بل لا بد مع ذلك من انقياد وخوف ورجاء، وحب لله عز وجل، وإيقان بلقائه وانتظاره، ورجاء لذلك اللقاء، كما قال تعالى: {مَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [العنكبوت:5]. نسأل الله عز وجل أن يوفقنا لما يحب ويرضى. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، اللهم انصر المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم انصر المجاهدين والدعاة إليك في كل مكان، اللهم انصرنا على القوم المفسدين، اللهم من أرادنا أو أراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره في تدميره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين. اللهم فرج كرب المكروبين، وفك أسر المأسورين، وارفع الظلم عن المظلومين، ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير، ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم. اللهم أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسر الهدي لنا، وانصرنا على من بغى علينا. اللهم اجعلنا لك بكائين، ولك شكارين، ولك مطواعين، ولك رهابين، ولك مخبتين، وإليك أوابين منيبين، ربنا تقبل توبتنا، واغسل حوبتنا، وثبت حجتنا، وأجب دعوتنا، واهد قلوبنا، وسدد ألسنتنا، واسلل سخائم صدورنا. اللهم إنا نسألك الخير كله، عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله، عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم. اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل. اللهم إنا نسألك من خير ما سألك منه عبدك ونبينك محمد صلى الله عليه وسلم، ونعوذ بك من شر ما استعاذك منه عبدك ونبيك محمد صلى الله عليه وسلم. اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

خطبة عيد الفطر

خطبة عيد الفطر يوم العيد يوم فرحة وشكر؛ فرحة بإتمام الصيام على الوجه الذي يرضي الله عز وجل، وشكر لله على أن وفق عباده لصيامه، وما أولاه عليهم من النعم، ومن لوازم شكر الله عز وجل المداومة على العبادة والصيام، والحذر من المعاصي والآثام، وصلة الأقارب والأرحام، والإحسان إلى الضعفاء والمساكين.

الفرحة الحقيقية للمؤمن

الفرحة الحقيقية للمؤمن إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وسلم. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58]. إنه لا يفرح قلب الإنسان، بل قلب كل عبد من عباد الله إلا أن يتفضل الله عز وجل عليه بفضله وبتوفيقه بعبادته وإعانته على ذكره وشكره. فهذه هي الرحمة المستمرة الباقية المتصلة بالرحمة في القبر وبالرحمة يوم القيامة، ويكون العبد برحمة الله سبحانه وتعالى في الجنة. إن الله سبحانه وتعالى جعل السعادة في القرب منه سبحانه، وجعل الشقاوة والتعاسة والألم والعذاب في الدنيا والآخرة في البعد عنه عز وجل، والبعد عن شرعه وعما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم. ولما كان شهر رمضان فيه من ألوان العبادات ما لا يحصل في غيره من الشهور من الصيام والقيام، وتلاوة القرآن، والنفقة والجود، والزكاة الواجبة، وغير ذلك من أنواع الخيرات التي لم يزل المسلمون يتقربون بها إلى الله عز وجل، كان كماله فرحة. وكان من تمام فضل الله عز وجل ورحمته على المؤمنين أن جعل لهم لياليه ليجدوا فيها بداية الفرح، وليدركوا كم يكون الفرح يوم لقاء الله عز وجل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه). فاجعلوا عباد الله عيدكم العيد الباقي، فقد أتى العيد وسوف يمضي ولن يبقى إلا ما كان متصلاً بالله عز وجل، فاجعلوا عيدكم عباد الله يوم لقاءه سبحانه وتعالى. عباد الله! إن الله سبحانه وتعالى شرع لعباده الصيام ليحققوا التقوى قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]. فمن أراد أن يعلم: هل قبل صومه؟ هل قبل قيامه؟ فلينظر إلى بعد رمضان: هل هو أتقى لله عز وجل وأقرب في عبادته سبحانه وتوحيده ومعاني الإيمان به مما كان قبل ذلك؟!

أنواع الذنوب والمعاصي التي تقع فيها الأمة اليوم

أنواع الذنوب والمعاصي التي تقع فيها الأمة اليوم عباد الله! إن أمة الإسلام تمر بظروف في غاية الصعوبة، قد اجتمع عليها من بأقطار الأرض، وتكالبوا على محاولة نزع التوحيد منها، وبعدها عن هذا الدين، فلا يريدون إلا بقاء اسمه، بل لو استطاعوا أن يزيلوا اسمه لفعلوا، ولكن كما قال الله عز وجل: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} [المائدة:3]. فهذا الدين قد يئس الكفار من إزالته، ولكن لم ييئسوا من تحريفه وتبديله وتغييره في نفوس أتباعه؛ لذلك نجد هذه الحرب في كل مكان. وهذه الأمور التي تقع في أهل الإسلام من تسلط الأعداء عليهم، ومن سفك دمائهم، وانتهاك حرماتهم، واحتلال بلادهم، هو ثمرة تقصير طويل المدى لا يعالج إلا بإزالته، فلن يتغير حال أمة الإسلام إلا إذا تغير أبناؤها، فإن الله حكم عدل، ومما حكم به قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]. فلا بد من تغيير حقيقي جذري في كل واحد منا، لا بد أن يراجع كل منا نفسه مراجعة صادقة، ولا نلقي على عاتق غيرنا مسئولية تدهور حال أمة الإسلام. قل لنفسك: أنت بتقصيرك بذنبك بمخالفتك لشرع الله، سبب من أسباب تخلف هذه الأمة، ونزول البلاء بها، فإن مجموع التقصير قد وصل إلى الحال التي رأينا. إن أهم الواجبات التي افترضها الله عز وجل على عباده الإسلام: (الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً)، فهذه أصول الإسلام وأركانه، وتتمة ذلك التزام الحلال واجتناب الحرام في كل المعاملات، فلا بد أن يبحث الإنسان عما شرع الله عز وجل، فلننظر إلى التقصير في باب الإسلام فنتداركه، ولننظر إلى شهادة التوحيد كم تتعرض لما يناقضها من أصلها، أو يناقض كمالها الواجب فضلاً عن كمالها المستحب فنحذر منه. إن الله سبحانه وتعالى جعل الشرك أعظم المحرمات، قال عز وجل: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:65 - 66]، وقال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]. فقضية التوحيد هي أعظم قضية على الإطلاق، فهي وصية الأنبياء، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]. فانظر -عبد الله- إلى الشرك المنتشر في أرجاء الأمة فيما يتعلق بصرف العبادة لغير الله وارث الحال أمتك، إن الشرك يقع فيه كثير من الناس باعتقاد الضر والنفع في غير الله، وبناءً على ذلك أنداداً لله ويطلبون منهم المدد، ويذبحون وينذرون لهم، ويطوفون حول قبورهم والعياذ بالله، وتصرف لهم أنواع العبادات الأخرى من الخوف والرجاء والتقرب إليهم، والحلف بهم وتعظيم قبورهم، بالسفر إليها ونحوه، وهذا من أعظم مظاهر الخطر على الأمة. وللأسف نجد من يحاول إحياء هذه الأمور التي قد ماتت عند الكثيرين، فيحاول أن يحيي تعظيم الأموات والصالحين المبالغ فيه، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله). وهو عليه الصلاة والسلام الذي أنزل الله عز وجل عليه: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:128] فالأمر كله لله، إليه يرجع الأمر كله، فلا يملك نبي مرسل ولا ملك مقرب ولا ولي صالح مع الله عز وجل شيئاً. وانظروا كذلك إلى الشرك الذي يقع فيه كثير من الناس بإبائهم شرع الله عز وجل، وردهم أوامره سبحانه وتعالى، ولقد قال عز وجل: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، وقال سبحانه وتعالى عن اليهود والنصارى محذراً المسلمين من سبيلهم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31]، وقد فسرها النبي صلى الله عليه وسلم حين سأله عدي بن حاتم بقوله: (إنا لسنا نعبدهم -قال ذلك قبل أن يسلم- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألم يحرموا الحلال ويحللوا الحرام فاتبعتموهم؟ قال: بلى. قال: فتلك عبادتهم). فالله عز وجل وحده هو الذي يشرع لخلقه ما شاء: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:40]. وقال عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36]. وهذه المسألة ليست فقط عند التخاصم والاختلاف بين البشر، وعند وجود الجرائم والمخالفات، وإنما في كل حالة من حالات الإنسان، ففي كل أحواله وأوقاته لا بد أن يعود إلى شرع الله، وأن يطبق شرعه سبحانه وتعالى، قابلاً له، راضياً به، وإلا فإن الإباء والرد لشرع الله والاستكبار عنه من خصال إبليس التي صار بها من الكافرين قال تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34] فلم يكن تركاً مجرداً، وإنما كان إباءً ورداً نعوذ بالله من ذلك! وما أكثر من يوجد عندهم الرد لشرع الله بعد إقامة الحجة عليهم مما يقعون فيه من مخالفة لا إله إلا الله، فكثير من الناس يعتقد صلاحية أي ملة غير ملة الإسلام، ويصدق أن عبادة غير الله كعبادة الله، وكلها في نظره سواء مقبولة، وقد قال عز وجل: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85]. وما أكثر التفريط في أوثق عرى الإيمان: الحب في الله، والبغض في الله، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أوثق عرى الإيمان: الحب في الله، والبغض في الله)، وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة:51 - 52].

وجوب تعلم أركان الإسلام والعمل بها

وجوب تعلم أركان الإسلام والعمل بها عباد الله! إننا نحتاج إلى أن نراجع أنفسنا في صلاتنا، وأن نؤديها في أوقاتها، ونتعلم أحكامها، فنتعلم فقه الصلاة والطهارة ونطبق ذلك، ونهتم كذلك بالخشوع فيها، ونؤديها بقلب حاضر قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1 - 2]. ولا بد أن نتعلم الزكاة، وكيف نؤديها على الوجه المرضي الذي شرعه الله عز وجل، فكم من أصحاب الأموال لا يؤدون الزكاة لأنهم لا يعلمون كيف تؤدى، أو لا يؤدونها بالطريقة المشروعة الواجبة عليهم من حسابها في موعدها، فلا بد أن تتعلم فقه ذلك، وسل نفسك: هل حضرت درساً في فقه الزكاة؟ هل قرأت كتاباً في فقه الزكاة؟ وكذا في فقه الصيام، وكذا في فقه الحج والعمرة، فقه هذه المسائل لابد منه حتى تؤدي هذه العبادات كما ينبغي. وسل نفسك: هل تعلمت ما يلزمك من الحلال في كسبك، وفي عملك، وفي معاملتك لوالديك ولجيرانك وأرحامك؟ وفيم تتعامل به في المال والمعاشرة مع الناس، وسيما أهلك؟ فيم تتعامل به من النساء الأجنبيات عنك؟ فهل تعلمت فقه ذلك وطبقته في واقع حياتك؟

تعلم الصلاة والزكاة وتطبيقهما

تعلم الصلاة والزكاة وتطبيقهما

معرفة أركان الإيمان والإحسان وأسماء الله وصفاته

معرفة أركان الإيمان والإحسان وأسماء الله وصفاته يجب علينا أن نعرف أركان الإيمان التي ذكرها النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره). فلا بد أن تعرف ربك سبحانه وتعالى بكمال أسمائه وصفاته، وكمال ربوبيته، وألوهيته، فـ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]. ولا بد أن تتعلم كيفية الإيمان بالملائكة، والكتب، والرسل، واليوم الآخر، تفاصيله، ابتداءً من القبر وأهوال القيامة وما يكون في الجنة والنار، ولابد أيضاً من الإيمان بالقدر، فكل ذلك لا بد أن نتعلمه ونطبقه، وإذا نظرت إلى قدر التقصير في هذا الباب لوجدت شيئاً هائلاً، وهو الذي أدى بالأمة إلى هذه الحالة التي هي عليها اليوم. وكذلك الإحسان منه قدر واجب، وهو أداء العبادات القلبية الواجبة: كحب الله عز وجل ومراقبته، والإخلاص له، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك). فإيمانك بأن الله يراك فرض عليك وعلى كل مسلم ومسلمة، لا يحصل الإيمان والإسلام والإحسان إلا بأن توقن أن الله يراك، وإذا أيقنت أن الله يراك فستراقبه؛ فتخلص له وتتوكل عليه، فتعمل بشرعه، وتلتزم بما جاء به نبيه صلى الله عليه وآله وسلم. والإحسان بينك وبين الله يثمر لك كذلك إحساناً في معاملة الخلق، فبر الوالدين ثمرة من ثمرات إحسان القلب فيما بينه وبين الله، وكذا صلة الأرحام، والإحسان إلى الجيران، وهذه كلها من الواجبات، فعقوق الوالدين وإيذاء الجار من الكبائر، وكذلك قطيعة الرحم من أسباب الفساد في الأرض، ومن أسباب نزول البلاء على الأمة، ومع ذلك فهي من ثمار الإحسان. فاحرصوا عباد الله على الإحسان فيما بينكم وبين أهليكم وبين جيرانكم وزملائكم، ولا تكن العداوة والبغضاء هي الأصل في العلاقة بين المسلمين، وهي وأسبابها منهي عنها كما في الحديث: (لا تباغضوا، لا تحاسدوا، ولا تدابروا). قال تعالى: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [الحجرات:12] فحذر الله عز وجل من الغيبة. ولابد عليك أيها السملم أن تصدق في الحديث، وتؤدي الأمانة وتجنب الخيانة، ولا بد أن تفي بالوعد، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قد حذر من خصال النفاق فقال: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كان فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر).

التغيير الجذري باطنا وظاهرا

التغيير الجذري باطناً وظاهراً لا بد عباد الله أن نغير من أنفسنا، ومن داخلنا حتى يغير الله عز وجل ما بنا، لابد أن نكون ملتزمين بالإسلام التزاماً صادقاً لا التزاماً مظهرياً فقط. وإن كثيراً منا قد يكتفي بأنه أدى بعض العبادات، أو أتى ببعض المظاهر الإسلامية المحمودة، ولكن لا يكفي ذلك، بل لابد أن نزن أنفسنا حتى تتغير موازين الصراع بين الحق والباطل بين الأمة الإسلامية وأعدائها وستكون الغلبة لصالح أمة الإسلام بعون الله، فنحن لا ننتصر إلا بطاعة الله كما قال عز وجل: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ * وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:105 - 107]. فهذه هي العبودية لله، وهذا هو الصلاح الذي أمر الله عز وجل به مع الإيمان دائماً، فالذين آمنوا وعملوا الصالحات وعدهم بالنصر، قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55]، فمن حقق عبودية الله بغير شرك وعمل الصالحات كان مؤمناً وهو الموعود بالتمكين.

القيام بحق الأخوة في الدين

القيام بحق الأخوة في الدين عباد الله! نحتاج إلى أن نترابط فيما بيننا، يحب بعضنا بعضاً في الله، ونتآخى فيه سبحانه وتعالى، وننصح بعضنا بعضاً حتى نؤدي الدين لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة قيل: لمن؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم). فلا بد لكل منا أن يكون ناصحاً لأمته، ناصحاً لإخوانه في الله عز وجل، محباً الخير للعالم، يريد أن يظهر هذا الدين حتى تعم الرحمة وينتشر الخير، فإن الخير هو في اتباع شرع الله سبحانه وتعالى لا غير ذلك أبداً. عباد الله! لابد أن نكون متعاونين على البر والتقوى، قال عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] وكل ما يعين على معصية الله فهو من التعاون على الإثم والعدوان، وكل ما يعين على طاعة الله وهو محمود شرعاً فيرجى أن يقبل من صاحبه، ولابد أن يعان عليه. فكل من طلب منك عوناً على طاعة الله عز وجل فلا بد أن تعنه، ولنكن يداً واحدة، فإن المسلمين كالجسد الواحد كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر). ونحن وفي يوم العيد وقد فرحنا بإتمام نعمة الله عز وجل علينا بالصيام والقيام، وفرحنا باجتماعنا في اعتداء صلاة العيد، ونتذكر آلافاً أو ملايين من المسلمين في المشارق والمغارب منهم من فقد أباً أو أماً أو أخاً أو أختاً بسبب الظالمين والمجرمين والكفرة على بلاد الإسلام، فنذكر آلام المسلمين ونتألم لألمهم، ونفرح لفرحهم، وندعو لهم. نحتاج إلى أن نستشعر هذه الوحدة في الجسد الواحد للأمة في كل أجزائها، فإن ذلك من نعم الإيمان، ومن معاني الإسلام التي أمر بها القرآن والسنة، فلا بد لنا أن تكون قضايا الإسلام هي قضايانا، ولا بد أن نعين المسلمين بكل ما نقدر عليه، وإن عجزنا فلا أقل من أن ندعو لهم في كل مكان أن يفرج الله كربهم، وأن ينصرهم على عدوه وعدوهم.

وصايا لابد منها

وصايا لابد منها عباد الله! اجتهدوا في يوم العيد في صلة الأرحام، وفي الإحسان إلى الناس عموماً، فإنه يوم بهجة وسرور. اجتهدوا في يوم العيد في البعد عن الحرام، فليس انتهاء رمضان معناه أن نعود مرة ثانية إلى ما حرم الله عز وجل علينا، من سماع المنكرات كالمعازف والأغاني التي لا يشك عاقل فضلاً عن عالم بتحريمها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليكونن أقوام من أمتي يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف). احذروا شباب الإسلام من كل مسكر ومفتر من هذه المسكرات والمخدرات بأنواعها المختلفة، فإنها من أعظم الضرر ومن أعظم الخطر على أهل الإسلام، وإن من يعين على نشرها ولو كان لتحقيق كسب سريع فهو والعياذ بالله من المفسدين في الأرض، ويأكل الحرام ويعيش فيه. إن المعاونة على نشر هذه المخدرات في أوساط الشباب بأي درجة من درجات الإعانة أو البيع أو التجارة في قليل أو كثير من كبائر الذنوب نعوذ بالله من ذلك! احرصوا عباد الله على تجنب الربا فإنه محق للبركة قال تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة:276]، وهو مؤذن بحرب قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:178 - 279]. فكيف ننتصر على عدونا والله عز وجل هو الذي يحاربنا؟! فإنا إذا أكلنا الربا فقد حاربنا الله، نعوذ بالله من ذلك! عباد الله! احذروا من الرشوة، فكل موظف وكل من قام على أمر من أمور المسلمين فلابد أن يعلم أنه لخدمتهم، ولمصلحتهم، وإنما يأخذ أجراً من أموالهم العامة، على أداء الخدمة لهم، على أن يكون رفيقاً ناصحاً لهم، مؤدياً لخدماتهم التي ألزم بها، بل ويزيد على ذلك. ولقد انتشرت الرشوة في كل مكان، فاحذروا عباد الله منها، لا تطعم نفسك وأولادك حراماً، فما يغني عنك الصيام في رمضان إذا كنت تأكل الحرام، وتغصب أموال الناس، وإذا ترتشي وفي الحديث: (لعن الله الراشي والمرتشي والرائش بينهما) أي: الذي يسير بينهما بالواسطة في هذه الرشوة. فاحذروا عباد الله من هذه المحرمات، واحذروا من أذية المسلمين في دمائهم وأعراضهم وأموالهم قال صلى الله عليه وسلم: (كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه). إن انتشار المنازعات بين المسلمين في شوارعهم، حتى يقع الواحد منهم في عدة حدود في الدقيقة الواحدة، فيقذف الرجل ويقذف أباه، ويقذف أمه -وكلها من الكبائر- فيرد الآخر عليه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من الكبائر شتم الرجل والديه. قيل: أيسب الرجل والديه يا رسول الله؟! قال: يسب أبا الرجل؛ فيسب أباه، ويسب أمه؛ فيسب أمه) نعوذ بالله! إن انتشار استعمال الأدوات التي تؤذي المسلمين من أسلحة أو غير ذلك من أعظم الأمور خطراً، والسكوت على ذلك من أسباب الهلاك، حتى سهل على كثير من الشباب أن يطعن أخاه، أو يضربه، أو يسفك دمه متهاوناً بذلك، فلابد أن نتقي الله عز وجل في أعراض المسلمين. إن انتشار الفواحش من أعظم أسباب هلاك هذه الأمة وضياعها، ولقد هلكت بنو إسرائيل عندما اتخذت النساء الشعور المستعارة، أي: الواصلة والمستوصلة كما حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك ولعن فاعله، حيث قال: (لعن الله الواصلة والمستوصلة، والنامصة والمتنمصة، والواشمة والمستوشمة، والمتفلجات بالحسن، المغيرات لخلق الله). عباد الله! إن التبرج من أعظم الأمور خطراً على الأمة، وهو من أسباب رجوعها إلى الجاهلية، قال الله عز وجل: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33]. يا نساء المسلمين! اتقين الله عز وجل، فإذا خرجتن من بيوتكن فاخرجن في الهيئة الشرعية، إياكن وحجاب التبرج! كثير من النساء قد علمت وجوب الحجاب قطعاً ويقيناً، بل صار هذا بفضل الله وبانتشار الدعوة إلى الله عز وجل أمراً يكاد يكون معلوماً من الدين بالضرورة جملة، ولكن كثيراً من الأخوات من النساء إذا التزمن بالحجاب التزمن بحجاب ليس شرعياً، وإنما هو أقرب إلى تبرج الجاهلية الأولى، وذلك أن المرأة كانت في الجاهلية لا تشد خمارها على رأسها، كان لها خمار ولكنها لا تشده، فتظهر خصائل من شعرها، ويظهر بعض صدرها، وقد أمر الله بالضرب بالخمار على الجيب أي: على الصدر والعنق، كما قال عز وجل: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31]. فلا بد أن تغطي المرأة صدرها بالكامل بحجابها، حتى لا يظهر ارتفاع صدرها، وهذا أمر من أعظم الأمور خطراً، أي: أن نظن أننا قد ألزمنا بناتنا ونساءنا بالحجاب وهن لسن ملتزمات به. احذروا من الاختلاط المحرم الذي يقع بين الشباب والفتيات، والرجال والنساء في كثير من بلاد المسلمين، وفي كثير من شوارعهم وطرق مواصلاتهم، فاتق الله أيها المسلم ولا تلمس بيدك امرأة أجنبية؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لأن يطعن رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له). وإياك أن تزاحم بمنكبك امرأة قد خرجت لأي سبب من الأسباب، ووقعت في نفس وسيلة المواصلات! ولا يجوز هذا في أمر العورة ولو من فوق الثياب، فلا بد أن تفصل بينك وبين من بجوارك من النسوة؛ حتى لا تلمس بدنها الذي هو عورة ولو من فوق الثياب، فلقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المرأة عورة)، فكما لا يجوز باتفاق المسلمين أن يضع رجل يده على فخذ امرأة ولا صدرها، فكذلك لا يجوز بالأولى ولو من فوق الثياب أن يضع فخذه ملامساً لفخذها. فاتقوا الله عباد الله، إن كثيراً من المنكرات تقع في شوارع المسلمين، وفي طرق مواصلاتهم، وهي بمجموعها تؤدي إلى الخلل الذي يحصل لنا في حياتنا، والذي يؤدي إلى تسلط أعدائنا علينا، فإن الله ما ولى الظالمين أمور المسلمين إلا لأجل وجود الظلم فيهم، وما جعل عدوهم يأخذ بعض ما بأيديهم إلا بسبب مخالفتهم للشرع. إن احتلال الكفار لبلاد المسلمين إنما هو ثمرة هذا التقصير وهذه المنكرات، وثمرة المخالفة لشرع الله عز وجل، فإذا تبنا إلى الله عز وجل، وكل منا له دوره في إصلاح نفسه، ثم في إصلاح أسرته، ثم في إصلاح المخالفين له، فيكون ناصحاً لأمته، داعياً إلى الله عز وجل، آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر كما شرع الله، فلنبشر بالخير والنصر. قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل:125]. فلا تقل للناس: غيروا المنكر بأي طريقة أو اسفكوا الدماء، أو انتهكوا حرمات المسلمين، فإن ذلك من أعظم الأمور خطراً، وإن سفك دماء المسلمين بدعوى إقامة الدين لهو من أعظم أسباب ضياع ثمرة العمل الإسلامي، حين ينتسب إلى العمل الإسلامي من لا يراعون حرمات المسلمين، ويسعون إلى قتل من أرادوا القتل ولو على دماء المسلمين الأبرياء، ولقد قال عز وجل في صلح الحديبية: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح:25]. لكننا نقول: ندعو إلى الله بما شرع الله، وندعو بعلم وبصيرة قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]. يا أخي في الإسلام! إن كنت قد سمعت في شهر رمضان أو في هذا اليوم الكريم بفضل الله شيئاً كنت مقصراً فيه، من ترك لطاعة، أو فعل لمحرم، فاليوم اعزم عزماً أكيداً على أن تبدأ في التغيير، وعلى أن تبدأ في الطاعة، وأن تبدأ في ترك المعصية، ولنتب إلى الله جميعاً عسانا أن نفلح قال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31]. وكلنا ينوي التغيير إلى الأفضل والأحسن، ولا سبيل لذلك بأن نرجع إلى الله سبحانه وتعالى، فاستعينوا بالله عز وجل على عبادته، فهذا هو السبيل الوحيد الذي به يصل الإنسان إلى ما يحبه الله عز وجل ويرضاه، فمن استطاع منكم أن يأتيه الأجل وهو في عمل الله فليفعل، واعلموا أنكم لن تنالوا ذلك إلا بالله عز وجل. نسأل الله عز وجل أن يتقبل منا ومنكم. اللهم اجعلنا ممن صام رمضان إيماناً واحتساباً فغفرت له، واجعلنا ممن قام رمضان إيماناً واحتساباً فغفرت له، واجعلنا ممن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً فغفرت له. اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا. اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا، وقواتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا. اللهم ألف بين قلوبنا وأصلح ذات بيننا، وانصرنا على عدوك وعدونا واهدنا سبل السلام وأخرجنا من الظلمات إلى النور، واجعلنا هداة مهتدين. اللهم انصر المسلمين في كل مكان. اللهم فرج كرب المسلمين في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان والهند وكشمير، وفي مشارق الأرض ومغاربها. اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان. اللهم أنج المستضعفين من المسلمين في كل مكان. اللهم فرج كرب المكروبين، وفك أسر المأسورين، وارفع الظلم عن المظلومين. اللهم إنا نسألك بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحينا ما علمت الحياة خيراً لنا، وتوفنا ما علمت الوفاة خيراً لنا. الله

سرعة الرحيل

سرعة الرحيل إن انقضاء رمضان وسرعة رحيله ليذكرنا بالقدوم على الله عز وجل، وسرعة رحيل هذه الدنيا التي من عمرها بذكره سبحانه فقد فاز بالآخرة، ومن خربها فقد خرب آخرته، فعلى الإنسان أن يستعد للرحيل، ويتصف بصفات المتقين من التزود والاستعداد ليوم شديد الأهوال، فلا نجاة للعبد إلا بالعمل الصالح، ولا فوز له إلا بطلب رضاه سبحانه وتعالى.

وقفات رمضانية

وقفات رمضانية

الاستعداد للقاء الله والرحيل الأكبر

الاستعداد للقاء الله والرحيل الأكبر إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وسلم. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ما أسرع مرور الأيام! ها هو شهر رمضان قد أصبح مرتحلاً، ولم يبق منه إلا هذه الأيام المعدودات، فلنتذكر من ذلك سرعة رحيلنا عن هذه الحياة، وغروب شمس بقائنا على ظهر هذه الأرض، كما قال عتبة بن غزوان رضي الله تعالى عنه: (إن الدنيا قد آذنت بصرم، وولت حذاء، ولم يبق منها إلا كصبابة الإناء يتصابها صاحبها، وإنكم منتقلون عنها إلى دار لا زوال لها، فانتقلوا بخير ما بحضرتكم). ومعنى: (إن الدنيا قد آذنت بصرم) أي: قد أعلمت بالانقضاء، وذلك كما قال عز وجل: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:1]، وكما قال عز وجل: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1]. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في خطبته محذراً الناس: (بعثت بين يدي الساعة)، وقال: (بعثت أنا والساعة كهاتين، ويشير بإصبعه السبابة والوسطى يقول: وإن كادت لتسبقني). فما بقي من الدنيا بالنسبة إلى ما مضى منها إلا كما يشرب الإنسان من كوب أو نحوه، فتبقى قطرة بعد أن يشرب، فيريد أن ينهي ما بقي فيصب هذه القطرة في فمه. وهذا معنى قول عتبة: (ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء يتصابها صاحبها) أي: يحتاج إلى أن يميل الإناء ليفرغ هذه القطرة في فمه. عباد الله! هذه هي حقيقة الدنيا، فمنذ بعث النبي صلى الله عليه وسلم وقد اقتربت الساعة، وقد آذنت الدنيا بالانقضاء. وهذا معنى قول عتبة: (وولت حذاء) أي: مسرعة، وهذا حق فما أسرع مرور الأيام خصوصاً مع تقارب الزمان! فإن من أشراط الساعة أن يتقارب الزمان حتى تصير السنة كالشهر، والشهر كالجمعة، والجمعة كاليوم، فما أسرع ما يمر بنا الزمان! عباد الله! كما أوشك رمضان أن يرتحل، فقد ارتحل أناس قبلنا، كانوا معنا في العام الماضي وصاروا الآن أحاديث: كان فلان وفعل فلان رحمه الله، ويوشك أحدنا أن يكون كذلك بعد حين، فاستحضر نفسك وقد نزل بك ملك الموت من السماء مع أعوان ملك الموت، ووقف منك مد البصر، ثم يأتي ملك الموت فيقول للنفس المؤمنة: اخرجي أيتها الروح الطيبة في الجسد الطيب كنت تعمرينه، ويقول للكافر والمنافق: اخرجي أيتها الروح الخبيثة في الجسد الخبيث كنت تعمرينه، يقول للمؤمن: اخرجي إلى روح وريحان، ورب غير غضبان! ويقول للكافر والمنافق: اخرجي إلى سخط من الله وغضب إلى سموم وحميم وظل من يحموم. فاستحضر هذه اللحظات فإنها ليست ببعيدة، فقد مرت بملايين من البشر قبلنا، وإلا لما وجدنا وما بقينا على ظهر هذه الأرض قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [فاطر:15 - س17]. وقال عز وجل: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} [الأنعام:133]. فكل من كان بيننا وبين أبينا آدم عليه السلام قد انتهوا إلا من له أب أو جد وعلى أقصى التقدير أن يكون أبو جده حياً، وإلا فأكثرنا ليس بينه وبين أبيه آدم أب حي، كلهم قد رحلوا. فلنتذكر هذه اللحظات حتى لا تغرنا الدنيا، ولا تشغلنا زخارفها، فالله سبحانه وتعالى قد حذرنا من غرورها فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:5 - 6]. هل استعددنا لهذا اليوم حتى يكون يوم عيد كما نستعد الآن للعيد؟! الناس اليوم يستعدون للعيد بلبس الجديد، ويستعدون له بإعداد النفقات، والأطعمة المناسبة لهذا اليوم الذي هو يوم فرحة، فهل تعد حتى يكون يوم رحيلك عن هذه الحياة هو يوم عيد لك ويوم فرحة، وإن حزن الناس على هذا الفراق لكنك تكون فرحاً بلقاء الأحبة، فهل تعد لهذا اليوم عدته؟ وهل تريد أن يكون عيد لقائك بالرسل الكرام وبأصحابهم رضوان الله تبارك وتعالى عليهم، فتلقى الله سبحانه وتعالى وهو عنك راض؟ إن رمضان فرصة عظيمة لهذا الاستعداد، فرصة عظيمة إذا أحسنا استغلالها، وقد بقي منه أيام، ولله عز وجل في كل ليلة من ليالي رمضان عتقاء من النيران، فهناك من يعتق في الليلة القادمة، وهناك من يعتق في التي تليها وهكذا، فهناك آلاف من المعتقين، فهل نكون نحن من هؤلاء؟ نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم.

الغاية التي شرع لها الصيام

الغاية التي شرع لها الصيام عباد الله! من أراد أن يعلم هل قبل صومه وقيامه، وتلاوته للقرآن أم لا، فلينظر هل حقق الغاية التي شرع الله من أجلها الصيام؟! قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]، فهل صرت أتقى لله سبحانه وتعالى من ذي قبل؟! وهل صرت أكثر خوفاً من الله عز وجل؟! فلابد أن تستحضر موقفك بين يديه سبحانه وتعالى، وتستحضر هول السؤال وخطر الحساب، فلو أن الناس لم يكن بين أيديهم من خطر إلا فزع الموقف في القيامة لكفى به فزعاً وهولاً، فهل استشعرت الخوف من الله عز وجل؟! لو لم يكن من خطر إلا أن تظن أنك هالك حين تعرض سيئاتك على الله عز وجل، ويعرفك بها، كما في حديث ابن عمر لما سئل: هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر في النجوى شيئاً؟ فقال سمعته يقول: (يدني الرب سبحانه وتعالى عبده المؤمن يوم القيامة، ويلقي عليه كنفه -أي: ستره- فيقول: أتذكر ذنب كذا؟ أتذكر ذنب كذا؟ فيعرض عليه ذنوبه، حتى إذا رأى أنه قد هلك يقول: سترتها لك في الدنيا وأغفرها لك اليوم)، قال عتبة رضي الله عنه في هذه الخطبة التي خطبها: إن الدنيا قد آذنت بصرم، وولت حذاء، ولقد أخبرنا أن الحجر يهوي من شفير جهنم، فيظل يهوي فيها سبعين خريفاً حتى يصل إلى قعرها، والله لتملأن. (حتى إذا رأى أنه قد هلك، أي هلاك هذا عباد الله؟! أي حبس هذا الذي يظنه المؤمن؟ أي خوف يقع فيه في تلك اللحظة الرهيبة؟ (يقول الله عز وجل: إني سترتها عليك في الدنيا فأنا أغفرها لك اليوم، فيؤتى صحيفة أعماله بيمينه) فيعود إلى أصحابه فيقول: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة:19]، فهذا في الناجي يا عباد الله! هذا في الذي حسابه العرض، تمر عليه هذه اللحظة الهائلة التي يظن أنه قد هلك فيها، ويظن أنه داخل فيها النار نسأل الله العافية!

شروط التمكين في الأرض

شروط التمكين في الأرض عباد الله! وعد الله سبحانه وتعالى بالإسكان في الأرض والتمكين فيها لمن خاف وعيده عز وجل، قال الله عز وجل: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم:13 - 14]، فإن أكثر الظالمون من الإفساد في الأرض، وانتهاك الحرمات، فوعد الله عز وجل لا يخلف، فهل نحن الذين حققنا هذه الصفات؟! {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم:13]، فإن الله سبحانه وتعالى يهلك الظالمين لأجل عباده المؤمنين الذين يخافون مقامه ووعيده، فإذا استفتح الظالمون خابوا عند استفتاحهم وعند دعائهم، وعند طلبهم من ربهم أن يفتح بينهم وبين قومهم بالحق وهو خير الفاتحين كما قال تعالى: {وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} [إبراهيم:15]، فهل حققنا عباد الله هاتين الصفتين -أي: الخوف من مقام الله ومن وعيده- وهل أخذنا من رمضان عدة حتى نتهيأ لهذه الصفات؟ ومعنى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي} [إبراهيم:14]، أي: لمن خاف مقامه بين يدي الله، ولو لم يكن إلا العرض لكفى به خوفاً، فكيف وأنت لا تدري ما شأنك غداً يا عبد الله؟! كيف وأحدنا لا يدري أيناقش الحساب فيعذب، ويكون ممن يقول: {يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49]؟! فهذا الذي ينبغي أن تخاف منه خوفاً يذعن له القلب عن ورطة وسنة الغفلة، ويوقظه للرحيل عن هذه الدنيا، ويخاف وعيد الله عز وجل، يخاف النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين. فهذه عباد الله هي أهم صفات المتقي: الخوف من الجليل، فهو يخاف من الله عز وجل، وهي من أهم صفات الممكنين في الأرض، إن الله سبحانه وتعالى إنما يمكن لعباده المؤمنين ليعبدوه عز وجل وليعبدوا غيرهم له، لا ليستعلوا على الناس، ولا ليطلبوا الملك والرئاسة، فهذا قد فعله غيرهم من أهل الدنيا، وعندما يكونون كذلك يمكن الله لهم، ويهلك عدوهم من أجلهم، ويسكنهم الأرض من بعدهم؛ لكي يعبدوه سبحانه وتعالى، ولا يحصل ذلك إلا بالخوف منه عز وجل، وخوف مقامه ووعيده قال تعالى: ((ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ)). أأدركتم عباد الله مفتاح النصر على الأعداء؟! إن المسلمين في مواجهة أعدائهم، وقد مكروا مكراً تزول منه الجبال، وأحاطوا بهم من كل جانب، فلهم مفاتيح دنيوية للنصر، وسيخيب عند وجود أسباب التمكين كل الجبارين المتكبرين الذين أرواحهم وأنفسهم ونواصيهم بيده سبحانه وتعالى. فيري الله العباد آياته، وأن البشر لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، ففي لحظة يزول الإنسان عن هذه الحياة، فلا نطلب الفتح إلا إذا كنا قد حققنا الخوف من الله عز وجل، فعند ذلك يخيب الجبارون والمتكبرون والمعاندون، قال تعالى: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم:15 - 17]، فيأتيهم الموت الذي يفر الناس ويفزعون منه الآن، وهو بالنسبة إليهم أعظم المصائب، وهو الرعب الذي لا يوجد مثله، ترونه أمنية الكافر في النار، فأمنيتهم أن يموتوا، قال تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77]، نعوذ بالله من النار! الخوف من الله عز وجل أحد أهم صفات المتقين، ولا تظفر برحمته سبحانه وتعالى، حتى تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وتجتنب معاصي الله، على نور من الله، تخاف عقاب الله، فهذه التقوى. فالتقوى كما عرفها بعضهم هي: الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والاستعداد ليوم الرحيل، وكل هذه تعريفات متلازمة، فانظر إلى حال قلبك أثناء رمضان أولاً، وبعد رمضان ثانياً، لتعرف هل قبل صومك أم لا؟ نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من المقبولين، أقول قولي هذا أستغفر الله لي ولكم.

أحكام صدقة الفطر

أحكام صدقة الفطر الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم. أما بعد: قال الله عز وجل: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:14 - 15]، ومن ضمن ما يكون في عموم التزكية التي ذكرها الله عز وجل الزكاة الواجبة، ومن ضمنها صدقة الفطر، فلقد فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر من رمضان طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين، من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، أي: قبل صلاة العيد، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات. وصدقة الفطر فرضها النبي صلى الله عليه وسلم صاعاً من طعام، أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من زبيب، أو صاعاً أقط، وهذا يدل على أن القيمة ليست معتبرة؛ لأنه لو كانت معتبرة لقيمت هذه الأشياء ليس بالصاع وإنما بما يساويه قدر معين من كل منها، فإن صاع الزبيب يختلف عن صاع الشعير، وقد قدر النبي صلى الله عليه وسلم قدراً واحداً منهما وهو الصاع رغم اختلاف قيمة هذا عن هذا، فدل ذلك على أن المعتبر هو القدر المثيل لا القيمة المادية، وذلك أنها فرضت طعمة للمساكين. والصحيح الذي عليه جمهور أهل العلم: أن زكاة الفطر لا بد أن يخرجها صاحبها طعاماً، أي: لا بد أن يخرج صاعاً من طعام كما كان الصحابة رضي الله عنهم يفعلونه، وقد كانت بأيديهم الدراهم والدنانير سيما بعد أن وسع الله عز وجل عليهم، ومع ذلك فما زالوا يخرجونها طعاماً، وظلوا يخرجونها كما كانوا يخرجونها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعاً من طعام، كما قاله أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه. ولقد فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر على الحر والعبد، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين، فيجب على كل واحد أن يخرج زكاة الفطر عن نفسه، وعمن تلزمه نفقته، فإن حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الإخراج عن الحر والعبد دليل على ذلك دلالة واضحة؛ فإن العبد لا يملك مالاً في حال من الأحوال ومع ذلك وجبت زكاة فطره على سيده، فدل ذلك على أن الصغير كذلك حتى ولو لم يكن له مال، وكذلك الأنثى سواء كانت زوجة أو بنتاً، فكل إنسان عليه أن يخرج صدقة الفطر، وهي صدقة وزكاة واجبة، وليست بمعنى صدقة التطوع، فيخرج المسلم صدقة الفطر عمن تلزمه نفقته من أهله وأولاده وأقاربه. وهذه الزكاة شرعت طعمة للمساكين في العيد، ولذا جاء في الصحيح: أنها لا يصح إخراجها إلا قبل العيد بيوم أو يومين، كما قال ابن عمر رضي الله تعالى عنه، وكانوا يجمعونها قبل العيد كما في حديث أبي هريرة في قصة الشيطان الذي جاء يسرق من صدقة الفطر التي جعله النبي صلى الله عليه وسلم عليها، حتى أمسكه أبو هريرة ولم يتركه إلا بعد أن علمه آية إذا قرأها عند نومه لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح، وهي قوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] آية الكرسي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (صدقك وهو كذوب). والحديث في أوله أن أبا هريرة جعله النبي صلى الله عليه وسلم على صدقة الفطر، فدل ذلك على أنها تجمع قبل ذلك، فتصل إلى المساكين قبل العيد بيوم أو يومين، وعلى حديث ابن عمر إلى صلاة العيد، ومن أخرها عن صلاة العيد فقد أساء، ويجب عليه أن يخرجها إلى غروب الشمس من يوم العيد، وإلا فقد بخل بالزكاة الواجبة، وهو آثم إثماً عظيماً، فمن الكبائر تأخير زكاة الفطر عن غروب الشمس من يوم العيد، ويلزمه قضاؤها بعد ذلك أيضاً؛ لأنها حق معلوم للسائل والمحروم، ولو فرط عدة سنين في زكاة الفطر فإنه يلزمه قضاؤها الآن فوراً، فإن هذا الحق للمساكين لا يجوز أن يؤخر عنهم. فإن زكاة الفطر لرمضان الذي هو فيه تجب بغروب شمس آخر يوم من رمضان، فمن بقي حياً أو وجد في هذا الوقت فقد وجبت عليه زكاة الفطر، وأما من مات قبل غروب الشمس من آخر يوم من رمضان أو ولد بعد غروبها فلا تجب زكاة الفطر عليه، وإن استحب بعض السلف إخراجها عن الجنين لكنها ليست واجبة، وإنما هي صدقة تطوع لمن أحب. وهذه الزكاة مصرفها مصرف الزكاة، وإن كان الأولى أن تكون للفقراء والمساكين، حتى يغنوا عن السؤال في هذا اليوم. والتوكيل في إخراجها جائز، فيجوز أن توكل غيرك ممن هو أعلم بالمساكين، ولكن يجب التنبه إلى أنه يجب إخراجها بتحديد عدد الصاعات؛ لأنها واجبة على كل واحد من المسلمين، فلا يجوز أن تدفع مثلاً قدراً من المال إلى وكيل دون أن تحدد له العدد الذي يخرج عنه، فإنه ربما أخرج من صنف لا يكفي المال الذي دفعته لصاع عن كل واحد ممن تخرج الزكاة عنه، والأفضل -بل عند كثير من العلماء هو الواجب- أن يكون من غالب قوت البلد، وغالب قوت أهل بلدنا هو الأرز، فالأولى أن يكون من غالب قوت البلد؛ لأنه أنفع للناس، وإن كان الصحيح أنه يجزئ غير ذلك كالتمر مثلاً، وإن كان عندنا بمنزلة الفاكهة لا بمنزلة القوت الذي لا يستغني الناس عنه، فهذه بعض الأحكام في زكاة الفطر التي يجب أن نؤديها كما أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم، وهي زكاة للإنسان وطهرة له. فالصدقة المقصود منها: أن يتطهر القلب من الشح والبخل، قال الله عز وجل: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103]، وهي تشعر المسلم بحاجة إخوانه من المسلمين، فهذه القضية العظيمة التي يجب أن تظل حية في نفوسنا أي: قضية الجسد الواحد حتى نستشعر انتماءنا لهذا الجسد الواحد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم وتماسكهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر). عباد الله! ما أكثر شكوى المسلمين! ما أكثر آلامهم! فهل نرحمهم، وندعو لهم، ونتألم لألمهم، ونفرح لفرحهم، وندعوا على أعدائهم أن يكف الله سبحانه أيديهم عنهم؟! هل نستشعر آلام المسلمين في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان؟! في مشارق الأرض ومغاربها آلام كثيرة! عباد الله! سيمر علينا العيد فتذكروا أن المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها يكون العيد عليهم ألماً وحزناً لما فقدوه ولما حرموا منه ظلماً وعدواناً، من قريب قد مات وعائل قد فقد وأب قد حبس وأسير قد أسر يمر عليهم العيد في آلام تقتضي منك شفقة ورحمة، ورأفة ورقة، ودعاءً وتضرعاً لله عز وجل أن يفرج كرب المكروبين، وأن يفك أسر المأسورين، وأن يرفع الظلم عن المظلومين، وأن يرحم ضعفاء المسلمين، وأن ينجيهم من عدوهم، وأن ينصر المجاهدين في سبيله في كل مكان. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين! اللهم من ولي أمراً من أمور المسلمين فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي أمراً من أمور المسلمين فرفق بهم فارفق به! اللهم إنا نسألك رضاك والجنة، ونعوذ بك من سخطك والنار! اللهم ول أمور المسلمين خيارهم، ولا تول أمورهم شرارهم، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك. اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا! اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا! اللهم أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسر سبلنا، وانصرنا على من بغى علينا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وأعطنا ولا تحرمنا، وقربنا ولا تبعدنا! اللهم اجعلنا لك ذكارين، لك شكارين، لك مطواعين، لك رهابين، لك مخبتين، إليك أواهين منيبين، تقبل توبتنا، واغفر حوبتنا، وثبت حجتنا، وأجب دعوتنا، واهد قلوبنا، وسدد ألسنتنا، واسلل سخائم صدورنا! اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحينا ما علمت الحياة خيراً لنا، وتوفنا ما علمت الوفاة خيراً لنا! اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى، ونسألك نعيماً لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، وبرد العيش بعد الموت، والرضا بعد القضاء، ولذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين.

عذاب القبر ونعيمه

عذاب القبر ونعيمه كما أتى الإنسان إلى دنياه بلا إرادة فسوف يرتحل عنها كذلك بلا إرادة، ثم يحيا حياة أخرى في قبره وهي إما حياة نعيم أو جحيم، وهذا بعد أن يمر بساعة تلخص له حياته الدنيا، وهي ساعة الاحتضار، فمن كانت روحه طيبة فلها الهناء والسعادة، ومن كانت العكس فلها الشقاء والتعاسة.

علاقة حياة الأرواح بحياة الأجساد

علاقة حياة الأرواح بحياة الأجساد الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم. أما بعد: فإنه من كمال عقل الإنسان أن يعمل لمستقبله، وأن يفكر فيما هو مقدم عليه؛ لأنه يرى كل ما في هذا الكون يتغير وينتقل من حال إلى حال، يرى نفسه ولد من أبيه وأمه ضعيفاً عاجزاً لا يفقه أو يعلم شيئاً، كما قال الله عز وجل: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل:78]، ثم نما بعد ذلك وكبر، وأعطاه الله عز وجل العقل والأيدي والأرجل والأبصار والشهوات والرغبات، ثم هو ينتقل بعد ذلك إلى مرحلة الشباب، ثم إلى الرجولة، ثم إلى الكهولة، ثم إلى الشيخوخة، ثم يرى نفسه بعد ذلك فجأة قد انتقل عن هذه الحياة ودفن تحت الثرى كما يرى كل يوم عشرات من الناس ينتقلون عن هذه الحياة، وقد كانوا بالأمس أحد الذين يأكلون ويشربون ويتنفسون ويعيشون وسط أهليهم، ثم صاروا وحدهم في قبورهم خلوا بالشقاوة أو السعادة ولا يوجد معهم أحد، أهلوهم يتلقون العزاء في السرادقات أو في البيوت على حسب التزامهم بالكتاب والسنة. والمقصود: أن كل من دفن فهو متروك في قبره وحيداً، وأهله رغم حبهم الشديد له، ورغم معزته عندهم إلا أنهم تركوه وحده، ولا يملكون غير ذلك، وليس لهم إلا أن يستمروا في الحياة بدونه؛ فنحن نولد قهراً ونموت قهراً، نولد بلا استشارة منا، ونموت أيضاً بلا استشارة منا، والذي يتأمل مدة الحياة على ظهر الأرض بالنسبة إلى ما مضى وإلى ما سيأتي، وبالنسبة إلى مدة حياته في القبر، وما بعد ذلك من البعث والنشور؛ يعلم أن أقل مدة يعيشها الإنسان هي حياته على وجه الأرض. الإنسان خلقت روحه قبل جسده، كما قال سبحانه وتعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:172]. مسح الله ظهر آدم بيده فاستخرج منه كل نسمة هو خالقها، ونثرهم وكلمهم فقال: ((أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا))، أي: استنطق هذه الأرواح قبل أن توجد الأجساد، بعد أن خلق أبيهم آدم، وكم مرت من السنين بين تلك اللحظة وبين لحظة ميلادنا! مئات الآلاف من السنين ونحن لا ندرك ذلك، ليس لأن هذا لم يقع ولم يحدث، بل لأنه لم يكن عندنا الآلة التي نستذكر بها ذلك، كما أن كل واحد منا كان جنيناً في بطن أمه، فهل تتذكر وأنت تتحرك في بطن أمك؟ وهل تتذكر صراخك وأنت طفل ولماذا كنت تصرخ؟ ما الذي كان يؤلمك وعمرك بضعة أيام أو أسابيع أو شهور؟ وما الذي كنت تبتسم له؟! أنت لا تتذكر ذلك، مع أنك متأكد من أن هذا قد حدث، وأنك كنت تبكي، وتبتسم وتضحك عندما كانوا يلاعبونك، كما أنك تشاهد كل الأطفال يفعلون ذلك. أليس في جسمك أثر جرح أصابك وأنت صغير ثم أنت لا تذكره على الإطلاق؟ كل ذلك قد حدث ولكن العقل الإنساني في تلك المرحلة ليس عنده قدرة لاستيعاب تلك الأحداث. كما أن كل واحد منا لا يتذكر مرحلة النطفة والحيوان المنوي الذي كان يجري بحثاً عن البويضة، فكل واحد منا كان في يوم من الأيام حيواناً منوياً وبويضة، والحيوان المنوي هذا كان وسط مائة مليون حيوان منوي، وكان بويضة لا ترى إلا بالميكروسكوب، وهذا الحيوان المنوي يتسابق مع هذه الملايين الأخرى، ولو سبق حيوان منوي آخر لوجدت احتمالات أخرى تماماً، وكان المولود له شكل وجنس وصفات ثانية، فهل تتذكر ذلك؟ بالقطع لا، فالإنسان عقله لا يستوعب تلك اللحظات، وليس في عقله ما يستوعب تلك اللحظات، فبالأولى ما كان قبل ذلك، فلماذا لا نشعر بهذه المدة الطويلة بين خلق الأرواح إلى ميلاد كل واحد منا؟ لم يكن هناك أجسام أصلاً، كنا ماء وتراباً، كل واحد منا كان طيناً وماء، ثم تحول بالتدريج إلى أن صار هذا الإنسان، ولا يتذكر شيئاً على الإطلاق مما قد حدث له خلال هذه المدة، ولا أين كانت روحه في مستقر الأرواح عند الله سبحانه وتعالى، حتى أذن الله أن تنفخ هذه الروح في هذا الجسد، فبدأت تحيا في بطن أمك ثم ولدت ثم كبرت، ثم تأتي مرحلة أخرى عندما تفارق الروح الجسد مرة أخرى، ويرحل الإنسان عن هذه الحياة، وتبدأ مرحلة جديدة من ملايين أو مئات الآلاف من السنين على الأقل. والآن يقول العجوز لك: عمري سبعون سنة، وهذا يعني أنه في أواخر العمر، ومن كان في الأربعين يكون قد مضى من عمره أكثر مما بقي، والموت لا يعرف تاريخاً محدداً، فيموت الصغير ويموت الكبير، يموت الطفل ويموت الشيخ، والكل جازم بهذه النهاية، وما من يقين مثل الموت، وكل إنسان مؤمن وكافر مقر بذلك، ولا يوجد إنسان خلد في هذه الحياة.

أدلة عذاب القبر الحسية

أدلة عذاب القبر الحسية القبر لا علم للإنسان به بالكلية إلا ما علمه الله عز وجل، وبعض الكفرة والمنافقين والزنادقة والذين يزعمون أنهم يأخذون الأمور بالعقل ينكرون عذاب القبر، ويقولون: من قال لكم: إن بعد الموت حياة في القبر؟ هذا كله خزعبلات، ووالله هذا ليس بالعقل؛ لأن العقل السليم يقول: أنا لا أعرف؛ لأني لم أجرب، وما نظرت. العقل السليم يقول لمن لا يعرف: اسأل من يعرف، اسأل من قدر هذا الأمر على الإنسان من غير إرادة منه، ويسوقه رغماً عنه يوماً بعد يوم وليلة بعد ليلة، وتحمله الأيام والليالي إلى هذا المصير، اسأل الذي خلقه فأوجده فهو وحده الذي يعلم، وهو برحمته أرسل رسله، وأنزل كتبه، وأعلمنا بما يقع للإنسان عند احتضاره وبعده وبعد أن يدفن في قبره، فقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بما يكون من حياة الإنسان في القبر. والقبر لا يلزم أن يكون هذه الحفرة بل المقصود به البرزخ الذي هو ما بين الموت والبعث؛ لأن القبر قد يكون هو الحفرة في التراب، وقد يكون في جوف السباع والأسماك، وقد يكون في أعماق البحار، وقد يكون ذرات الإنسان التي ذريت في الرياح جزء منها في البر وجزء منها في البحر، وكل ذرة من الذرات لها مكان تكون فيه يكون هو القبر لهذا الإنسان، فالمقصود بالقبر ليس الحفرة التي نعلمها، ولكن الحقيقة: أن حياة القبر المقصود بها فترة البرزخ، ما بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة، من ساعة الموت إلى لحظة القيام من القبور. أخبرنا الله عز وجل بما يقع لروح الإنسان وبدنه على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم بالتفصيل، قد يقول البعض: نحن لا نرى شيئاً مما تقولون، نحن نشاهد بعض الأموات يبقون مدة طويلة قبل أن يدفنوا، وربما أحرقوا كما في بعض الديانات الكافرة، ونرى بعض الناس قد يصلب ويبقى أياماً إلى أن يتعفن، وبعض الناس يظل في بيته محبوساً لا يدرى عن موته مدة طويلة، ونحن أحياناً نفتح بعض القبور فلا نجد ما تقولون، من أن أحداً يقعد ويسأل ويقال له كذا وكذا. إذاً: فهذا شيء ليس موجوداً، وهذه أشياء لا يقبلها العقل. نقول: فهل يقبل العقل الإنساني: أنه يسمع كل ما في الوجود؟ أم أن العقل الإنساني السليم يقول: إنه يوجد أصوات كثيرة جداً موجودة ولكن نحن لا نسمعها؟ العلم الحديث يقول: إن الأذن الإنسانية لها ذبذبة معينة، فما تحتها لا تسمعه وما فوقها لا تسمعه. مثلاً جهاز الموجات فوق الصوتية: هذه الموجات وهي ذاهبة تصطدم بجسم وأنت لا تسمعها أليس كذلك؟ لأن ذبذبتها فوق مستوى الأذن الإنسانية، حتى أذن الكلاب عندها حاسة في السمع أقوى من الإنسان، لماذا؟ لأن المسافة التي ما بين هذه الذبذبة وهذه الذبذبة أوسع بكثير، فيسمع أصواتاً أقل من الذبذبة التي يسمعها الإنسان، ويسمع أصواتاً أعلى من الذبذبة التي يسمعها الإنسان. في الوقت نفسه توجد موجات كهرومغناطيسية في هذا المكان، والدليل على ذلك: أننا لو أتينا بجهاز راديو فسوف نسمع صوت قناة القرآن الكريم ومحطة ثانية تغني، أليس كذلك؟ لكننا لا نسمع هذا لأننا لا نتملك جهازاً للاستقبال، والذي يستقبل الموجات بهذا التردد ذبذبات بالآلاف والملايين في الثانية الواحدة. إذاً: فإذا كانت الأذن غير مهيئة لاستقبال هذه الأصوات فلا ننكرها، لكن بالتأكيد هي موجودة، بدليل أننا لو شغلنا جهاز الراديو، أو أتينا بجهاز تلفزيون فسوف يلتقط بالإريل الموجات الكهرومغناطيسية من قنوات متعددة ويحولها؛ لأن هذا الجهاز عنده قدرة على استقبال هذه الموجات، ومن ثم يحولها إلى صورة مرئية، وتنظر القناة الفلانية فيها كذا والقناة الفلانية فيها كذا والقناة الفضائية فيها كذا، وينقل لك شيئاً من أمريكا وآخر من اليابان وثالث من كوريا، ويأتي لك بالدنيا في هذا الوقت وأنت جالس، وهذا أمر موجود وإن كنا لا نراه، لماذا؟ لأننا لا نملك أجهزة الاستقبال التي تسمح بذلك. العين الإنسانية لا تستقبل إلا الذبذبة التي هي واحد على عشرة من الثانية، الضوء يحدث خمسين ذبذبة في الثانية وأنت لا ترى ذلك، العين الإنسانية لا تدرك هذه الذبذبة؛ لأن الإنسان له طاقة محددة في الإدراك. إذاً: فهناك أشياء كثيرة جداً موجودة ولكن لا يدركها العقل الإنساني، لكن لو وجد جهاز استقبال أو أتت أدلة على وجود الشيء حينها يقول الإنسان: لابد أقبلها. نحن في هذا الوقت نصدق أن واحداً بالريموت يجعل باب السيارة يفتح، أليس كذلك؟ لوجود مؤثرات، ولكن أنت لا ترى هذه المؤثرات ولا تسمعها، فلماذا قبلت ذلك؟ وفي نفس الوقت رفضت أن يكون الميت يسمع ويتكلم وله أحوال معينة؟ فأنكرت أن يأتيه الملكان ويقعدانه ويسألانه، وقلت: هذا لا يقبله العقل، مع أن العقل غير السليم في الحقيقة هو الذي لا يقبل الدليل الصحيح، فلا بد أن يقبل الإنسان مثل هذا الخبر. أمر آخر: وهو حال الإنسان أثناء النوم: لو وجد رجلان نائمان بجوار بعض. هذا يرى شيئاً وهذا يرى شيئاً آخر، ثم لما يقوما يقول أحدهما: أنا رأيت الشيء الفلاني، وقال لي في المنام كذا، فيقول له صاحبه: أنت كذاب. فهذا ما لا يقبله العقل، فقد كنت نائماً بجوارك وما رأيت شيئاً من هذا الذي تقوله. فهل كلام الأول ممتنع في العقل السليم؟ لا. كذلك الميت ما الذي أعلمك بأنه لا يرى شيئاً، ولا يسمع ولا ينظر، والنوم أخو الموت، بل النوم موت في الحقيقة ولكنه أصغر، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول بعد أن يستيقظ: (الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور)، ويقول إذا أصبح وإذا أمسى: (اللهم بك أصبحنا وبك أمسينا، وبك نحيا وبك نموت وإليك النشور) فالإنسان بلا شك لا بد أن يقبل عقله هذه الأمور، ويصدق بالفعل بأن فلاناً الصادق هذا الذي أخبرنا بأنه رأى في المنام كذا وكذا، وأن ذلك حصل له ذلك حقيقة في المنام، فما المانع من أن يكون الميت يرى ويسمع ويشاهد ويتكلم ولكننا لا نسمعه؟ والنبي صلى الله عليه وسلم قد أخبرنا أن الأموات يعذبون عذاباً تسمعه البهائم، وهذا من الأمور المعجزة العلمية فعلاً؛ لأن البهائم آذانها تستقبل ما لا تستقبله أذن الإنسان، لكن البهائم لا تعبر ولا تستطيع أن تخبر بلغة معينة عما تجده من أصوات، وهذا من رحمة الله بالإنسان؛ لأنه لو كان يسمع كل ما في الوجود لكانت جميع محطات الإذاعة وأصوات البشر كلها الآن في أذنه في نفس اللحظة، فلا يمكنه حينها العيش فضلاً عن أن يسمع أيضاً ما في القبور، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لولا ألا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر ما أسمعني)، ولو كانت الناس تخاف على موتاهم وما ترضى أن تدفنهم فلن تستقيم الحياة؛ لأن الأجساد ربما تتعفن ولا بد من الدفن، ولذلك من رحمة الله بالإنسان أن أعلمه بما يقع في القبور من غير أن يسمعه؛ لأنه لا يتحمل أن يسمع ذلك، ولا يقدر أن يراه، ولذلك كان من مصلحته أن يعلم ويصدق من غير أن يرى أو يسمع، وليكون أيضاً امتحاناً للإنسان في إيمانه، هل يؤمن بالله عز وجل وبرسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وبما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام على الخصوص تفصيلاً، أم يكذب ويقول: عقلي لا يقبل ذلك؟ مع أن القرآن قد دل، وإذا كان الإنسان يؤمن بالقرآن فلا بد أن يؤمن بما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام.

وصف ساعة الاحتضار في القرآن

وصف ساعة الاحتضار في القرآن أخبر القرآن بوجود حياة في القبر بداية من ساعة الاحتضار، كما قال عز وجل: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام:93]. قوله: ((وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ))، غمرات جمع غمرة، وسميت بذلك لأنها تغمر الإنسان، أي: تغطيه، بحيث لا يرى ما أمامه، والمحتضر عينه زائغة وعندما تكلمه لا يسمع، وقبل هذا كان معباً جداً، وكان يقول: لا أقدر أن أتنفس، ثم يزداد ألماً وضعفاً إلى أن يصل إلى درجة عدم القدرة على تحريك لسانه، فبالتأكيد أن الألم تضاعف جداً وزاد، والقوة ضعفت جداً لدرجة أنه لا يقدر أن يتكلم، وبدأ ينحبس نفسه، وتوجد أشياء تغطيه عن الواقع، تقول له: ماذا تعمل؟ لا يرد ولا يعرف، ربما بعد هذا لا يستطيع أن يتكلم، وبعد حين لا يسمع أصلاً، والبعض منهم يتكلم بكلام وينادي آخرين، هذه تحصل كثير جداً، فهو ينظر إلى حياة نحن لا ننظرها، ولا يعرف ماذا يريد، لكنه متعب جداً. ساعة الاحتضار -فعلاً- تغمر الإنسان وتجعله لا يحس بمن حوله، ولا يحسون بما يلاقيه، هم يرونه يتألم ويغيب عن الوعي مدة، وبعد ذلك يتوقف القلب والنفس {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ * وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:93 - 94]. فغمرات الموت يخبر الله عز وجل عنها نبيه فيقول: ((وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ))، أي: إذا رأيت أمراً عظيماً وهولاً مفزعاً، ((وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ))، فدليل أن الملائكة تحضر هذا الميت، وتأمر أرواح الظالمين بالخروج ((بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ))، أي: بالضرب وبالسوء؛ لأن هذه الروح إذا رأت الملائكة فزعت وخافت وأبت الخروج، فتخرج بالقوة، وتنزع نزعاً (كما ينزع السفود من الصوف المبلول)، الخطاطيف الحديد حين تتعلق بالصوف المبلول أو الشوك لما يكون لاصقاً في الصوف المبلول يصعب انتزاعه، ولا أن يكون نزعه إلا بالشدة، كما قال عز وجل: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا} [النازعات:1]، أي: الملائكة النازعة بشدة، (غرقاً) يعني: بالغت في الشدة في النزع، استغرق الشيء يعني: المبالغة فيه، {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا} [النازعات:1]، يعني: التي تنزع أرواح الكفار بشدة والعياذ بالله، فهناك نزع للروح من الإنسان حتى تفارقه، وهي لحظات شديدة جداً، لدرجة أن نفس الإنسان تبقى بصعوبة بالغة، والأطباء عندما ينصبوا مراكز التنفس في المخ فإن النفس الاعتيادي يكون في كل حوالي أربع أو خمس ثواني مرة، وبعد ذلك يحدث في كل خمسة عشر ثانية. قال عز وجل: ((وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ))، أي: اليوم يبدأ عذاب الهوان ومعنى: عذاب الهوان، أي: العذاب المهين، والمراد باليوم: يوم الاحتضار، من ساعة خروج الروح وقوله: ((الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ)). كل كافر ومبتدع، ومفت بالباطل، وكل من يقول على الله غير الحق له نصيب من هذه الآية، وكل من قال عن الله عز وجل ما لا يجوز كاليهود لما قالوا عن الله: إنه فقير، وكذا من قالوا: اتخذ الله ولداً كالنصارى، ومن قالوا عن الله سبحانه وتعالى: إنه ثالث ثلاثة، ومن أشركوا بالله وقالوا: اتخذ الله شركاء وأنداداً، ومن قالوا: إن لله عز وجل أعواناً في هذا الكون كل هؤلاء يقولون على الله غير الحق والعياذ بالله، وكلهم لهم نصيب من هذه الآية: ((فاليوم تجزون بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ))، ومن قال عن الحرام: إنه حلال، وعن الحلال: إنه حرام، وأنكر ما جاء به الكتاب والسنة فله نصيب فيها؛ لأنه قال على الله غير الحق. قوله سبحانه: ((وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)). سيأتي الإنسان فرداً، وساعة الاحتضار هذه من أشد اللحظات التي تؤكد أن الإنسان يكون فرداً لا أحد معه أبداً، ولا طبيب يساعده، ولا حبيب يقف بجواره، يضعون له الأجهزة وهو فاقد الوعي يعيش في غيبوبة.

عذاب الأرواح في البرزخ

عذاب الأرواح في البرزخ أثبت القرآن أن العذاب يبدأ من لحظة الاحتضار، قال الله سبحانه وتعالى عن مؤمن آل فرعون: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:45 - 46]. هذه الآية صريحة جداً في أن هذا العرض قبل يوم القيامة؛ لأنه قال: ((النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا))، معنى (غدواً): أول النهار (وعشياً): آخره، كل يوم من أيام الدنيا وفرعون وجنوده وأتباعه وهامان معهم وكل الكفرة والظلمة الذين كانوا يعظمونه، والحاشية التي كانت معه ضد الإسلام وأهله، كل هؤلاء يومياً في الصبح وفي آخر النهار يعرضون على النار، ويقال لهم هذه النار التي سوف تصلونها، وهذا مصيركم الذي ينتظركم، وبعض هذه الأرواح تكون في النار فعلياً ويعرض عليها وهو فيها والعياذ بالله. هذا قبل أن تقوم الساعة، ((وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ))، والعياذ بالله، وكما قال عز وجل عن قوم نوح: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} [نوح:25]، مع أن القيامة لم تقم بعد، لكن أدخلت الأرواح النار، (فلم يجدوا لهم من دون الله أنصاراً)، إذاً: أرواح قوم نوح في النار في هذا الوقت -والعياذ بالله- ويوم القيامة تسلك الأرواح في الأجساد بعد أن تعاد نشأة أخرى، ثم تخلد في نار جهنم، لكن بعض أرواح العصاة والمجرمين والكفار تدخل النار الآن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث يوم كسفت الشمس: (رأيت في النار عمرو بن لحي يجر قصبه في النار). وعمرو بن لحي هو أول من ابتدع بدعة عبادة الأصنام في العرب، فعشرة قرون بعد إسماعيل عليه السلام كانت على التوحيد إلى أن جاء هذا الرجل الجاهل المطاع في قومه -أي: عمرو بن لحي الخزاعي - فكان أول من سيب السوائب، وبحر البحائر، وأتاه الشيطان في منامه وأمره أن يأتي صاحب جدة فيجد عنده أصناماً معدة محفورة، وهذه هي أصنام قوم نوح التي دفنها الطوفان، وأمره أن يخرجها في العرب، وأن يعطي كل قبيلة صنماً تعبده: وهي ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، وصارت هذه الأصنام التي كانت لقوم نوح لقبائل العرب تعبدها، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم يجر أمعاءه في النار، فبدنه في الأرض وروحه جعلت في النار، وصورت بصورة رجل أمعاؤه خارج بطنه يجرجرها والعياذ بالله. والواحد منا لو أصيب بقرحة طولها واحد سنتيمتر في المعدة لا يستطيع أن يأكل أو يشرب فكيف بمن هو في النار يجر فيها الأمعاء والعياذ بالله؟ ورأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذا المقام في النار: (المرأة التي دخلت النار في هرة حبستها لا هي أطعمتها، ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض، فهي تنهشها إلى يوم القيامة) معنى هذا: أن روح الهرة في النار، والهرة هذه تعذب المرأة وتنهش منها وتنتقم، فما بالك بمن يعذبون بني آدم ظلماً وعدواناً؟! إذا كانت هذه المرأة التي عذبت قطة بأن حبستها وتركتها جائعة إلى أن ماتت فرآها النبي صلى الله عليه وسلم تعذب بها في النار فكيف بغيرها؟! ورأى النبي صلى الله عليه وسلم صاحب المحجن الذي كان يسرق الحجاج به، والمحجن: عصاة ملوية، يأخذ بها متاع الحاج، فإذا انتبه له قال: تعلق به محجني، وأنا لا أقصد شيئاً، ولكن عصاتي هي التي تعلقت في متاعك، وإن لم ينتبه إليه ذهب بما تعلق بمحجنه، فجعل في النار؛ لفعله هذا. كما أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أرواحاً أخرى في النار، ولذلك نقول: إن الآية تدل دلالة واضحة على عذاب البرزخ، والآية هي: ((مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ))، أي: بسبب خطيئات قوم نوح ((أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا))، أي: عذبوا من الماء إلى النار مباشرة {فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا} [نوح:25]. وكما قال الله عز وجل في المنافقين: {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} [التوبة:101]، فقوله: (سنعذبهم مرتين) أي: مرة في الدنيا ومرة في القبر، ثم بعد ذلك يكون لهم العذاب العظيم يوم القيامة، ففي الدنيا عذاب الأموال والأولاد كما قال سبحانه: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:55]. إذاً: فيمكن أن يكون بلاء الإنسان وعذابه بالمال والولد، فهو يجمع المال بالتعب، ويبقى في قلق عليها، ثم تحصل له مصيبة. وكذا أولاده يتعب في تربيتهم، ثم يصيرون عاقين له، ومن ثم يفقدهم ويتألم بسببهم، ويبقى هذا الأمر سبباً للنكد والشقاء والعياذ بالله من حيث يطلب السعادة. هذا عذاب الدنيا للمنافقين، والكفر دائماً يحول أي سبب للخير للشر. والعذاب الثاني في القبر، والمرة الثالثة في قوله: ((ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ)).

وصف ساعة الاحتضار من السنة

وصف ساعة الاحتضار من السنة وردت في السنة الصحيحة أحاديث كثيرة في إثبات هذا الأمر العظيم: روى الإمام أحمد رحمه الله وأبو داود وابن ماجة والنسائي والحاكم في المستدرك وعبد الرزاق في مصنفه وأبو نعيم والبيهقي وأحمد وهو حديث على شرط البخاري ورواه أيضاً مسلم وأصله في البخاري عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولما يلحد)، اللحد: هو الشق في جانب القبر، والشق هو الموازي للقبر، وهو حفرة في اتجاه القبلة يوضع فيها الميت، بحيث يصير شكل القبر كالحرف لام، بخلاف القبور عندنا فكلها شق فقط، حيث يوضع الميت ويدفن من فوق، وكلاهما جائز، ولكن السنة اللحد. قال: (فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله كأن على رءوسنا الطير)، أي: صامتين، فليس من السنة المظاهرات عند القبور أو الهتافات والدعوات الجماعية، وإنما إن وعظ واعظ فليستمع له الناس، وإن لم يكن فليدع كل إنسان في سره للميت. قال: (وفي يده عود ينكث به في الأرض، فرفع رأسه فقال: استعيذوا بالله من عذاب القبر مرتين أو ثلاثاً، ثم قال: إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال إلى الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس). هذا فيه دليل على أنه يسبق الموت مباشرة نزول ملائكة الموت، الذين هم رسل الله عز وجل، {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام:61]، وهم أعوان ملك الموت، وهناك آيات وردت بأن ملك الموت واحد، وهنا وردت آيات بأنهم مجموعة كقوله: (توفته رسلنا) وكقوله: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة:11]، في هاتين الآيتين أنه ملك واحد. والظاهر: أن ملك الموت واحد وله أعوان، وهذا الحديث يوضحه، وأن الأعوان الذين يقبضون أرواح المؤمنين بيض الوجوه: (كأن وجوههم الشمس)، أي: وجوههم منيرة مضيئة. (معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة) الحنوط: طيب يجعل للميت، فالبشر يضعون في الجنازة حنوطاً في الأرض، ويعدون الكفن، والملائكة معها كفن للروح، والناس تجعل طيباً مع الكفن في البدن، والملائكة معها أيضاً حنوط، ولكن من حنوط الجنة للروح المؤمنة. قال: (حتى يجلسوا منه مد البصر)، كمن ينظر إلى البحر فلا يدرك آخره، هكذا يجلسون منه إلى غاية ما ينتهي بصره (ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس المطمئنة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان)، فإعلان النتيجة، والنجاح الحقيقي الذي يجب على الإنسان أن يعمل له؛ إذ ليس يعقل أن الإنسان يعمل لمستقبل ثلاثين أو أربعين أو خمسين سنة، ومن ثم لا يعمل لمستقبل مئات أو آلاف السنين، والله أعلم كم سيبقى الإنسان في قبره وما بعد ذلك من المستقبل؛ لأن يوم القيامة خمسين ألف سنة، إذاً: فأين المستقبل؟ وبعد هذا الجنة أبداً أو النار أبداً. (أيتها النفس المطمئنة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من فيِّ السقاء). انظر إلى هذه النقطة وهي تقع من الكأس تقع بسهولة جداً فكذا روح المؤمن (كما تسيل القطرة من فيِ السقاء)، يعني: تخرج كانسياب قطرة ماء من فم قربة أو إناء. قال: (فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين)، يعني: الملائكة الأعوان مستعدين للعمل بسرعة. إذاً: كل روح تقع في يد ملك الموت فيأخذها أعوانه. ولم يثبت في حديث صحيح أن اسم ملك الموت عزرائيل، إنما هي آثار غير صحيحة، ونحن نعلم أن من صفة ملك الموت ما قاله الله: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة:11]، ووردت روايات إسرائيلية أن اسمه عزرائيل، لكن لا تصح عن النبي عليه الصلاة والسلام، فالله أعلم باسمه. قال: (فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين، حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض) تخرج رائحة طيبة ساعة خروج الروح؛ لأنها كانت روحاً طيبة، وكانت في جسد طيب يعبد الله. قوله: (إن العبد المؤمن) إذاً: في هذا تحقيق للعبودية، وتحقيق للإيمان، ومن هنا تخرج روحه بهذه الطريقة السهلة. قال: (فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الريح الطيبة؟ فيقولون: فلان ابن فلان. بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا)، وذلك أنه كان له ألقاب في الدنيا بعضها حسن مثل: عابد صائم مجاهد عالم كريم وليس: بيه وباشا وأفندم، ولكن الأسماء الطيبة التي كان يسمى بها في الدنيا هي أسماء الأعمال الصالحة التي كان يفعلها، قال: (حتى ينتهوا به إلى السماء الدنيا فيستفتحون له فيفتح له). إذاً: هناك أبواب للسماء الدنيا، كما قال عز وجل في حق الكفار: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} [الأعراف:40]، ونحن قد لا نرى هذه الأبواب؛ لأن أمامنا كل هذه الملايين من السنين الضوئية أو مليارات السنين الضوئية، وإذا كنا نحن لا ندرك ذلك كله من محيط السماء الدنيا، فكيف نعلم بعد ذلك بوجود أبواب؟ فيقول البعض: أين الذي تقولون عنه هذا؟ نقول: الله أخبر به، وإذا وصلتم هناك انظروا، لكنكم تعجزون أن تصلوا، فلا يمكن أن تصلوا إلى هذا النجم القريب؛ لأن الوصول إليه عبر مسافة تستغرق مثلاً مليون سنة وكل هذه المسافة فوق طاقة البشر. قال: (فيستفتحون له فيفتح له، فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها، حتى ينتهى به إلى السماء السابعة). إذاً: هناك جنازة للروح يتولاها المقربون من كل سماء، الملائكة وأرواح الأنبياء وأرواح الصالحين يشيعون هذه الروح التي أضيفت إلى أرواح المؤمنين. قال: (حتى ينتهى به إلى السماء السابعة، فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين) عليين مأخوذة من العلو، وكلما علا ارتفع واتسع، فكتابه مكتوب في مكان واسع. قال: (وأعيدوه إلى الأرض؛ فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى، قال: فتعاد روحه)، هذا دليل على أن الروح سوف يحصل لها اتصال بالبدن الذي يوضع في القبر، وأن هذه المرحلة هي التي ما بين خروج الروح وبين وضعه في قبره، حيث يشيع الناس البدن إلى القبر، والروح شيعت وصعدت إلى السماء، ثم أمر الله أن تعاد الروح مرة أخرى إلى الأرض. قال: (فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولان له: وما علمك؟)، أي: من أين عرفت؟ وهذا من الفتنة، أي: لما أن يسألوه بصيغة المجهول ينتظرون ما يقول؟ لكن كل عبد سوف يسأل عن محمد صلى الله عليه وسلم، فهذا يدل على أن من كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر بالله، وكافر برسل الله جميعاً، وليس بمؤمن بنبيه، (فيقولان له: وما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت، فينادي مناد من السماء: أن صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة فيأتيه من روحها). الروح: هو برد نسيم الريح. (فيأتيه من روحها وطيبها)، الرائحة الطيبة، وكذلك الروح الفرح والسرور، والراحة، كما قال سبحانه وتعالى: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ} [الواقعة:83 - 84]، الحلقوم: هو الحلق، فإن الروح تبلغ الحلق بعدما تنزع من داخل البدن: {وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} [الواقعة:83 - 86]، هلا إن كنتم غير محاسبين؟ {تَرْجِعُونَهَا} [الواقعة:87]، أي: ترجعون الروح إلى البدن إن كنتم صادقين، هذا لو كان الأمر بأيديكم، ولكن ليس بأيديكم، بل لابد أن تنزع روحه رغماً عنه، قال الله عز وجل: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ} [الواقعة:88 - 89]. مصداق هذا في الحديث: (يأتيه من روحها وطيبها)، الروح هو الراحة والسرور وبرد النسيم، والريحان هو الطيب الذي يأتيه من الجنة ((وَجَنَّةُ نَعِيمٍ)). قال: (فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مد البصر قال: ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك، هذا يوم الذي كنت توعد، فيقول له: من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: رب أقم الساعة، رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي، قال: وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال إلى الآخرة، نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه، معهم المسوح)، المسوح: هو كساء من الشعر الغليظ، وغالباً ما يكون أسوداً. قال: (فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب، قال: فتفرق روحه في جسده -تفزع وتخاف- فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول)، السفود: هو حديدة معطوفة ملتوية ذات شعب يشوى بها اللحم، والسفود عندما يتعلق في الصوف لا يمكن نزعه منه بسهولة. (فيأخذها فإذا أخذها

قال إني جاعلك للناس إماما

قال إني جاعلك للناس إماماً لقد جعل الله تعالى إبراهيم عليه السلام إماماً للناس، متصفاً بصفات الإمامة، من الرحمة بالمدعوين والمضي في الدعوة إلى الله تعالى دون توقف، وكثرة الضراعة إليه تعالى والعبادة له، والصبر على الأذى في سبيله، وللمتبع له المتصف بصفاته نصيب من تلك الإمامة في الدين بقدر اتباعه، وأما المخالف لهديه فهو الظالم، الذي لن ينال ذلك العهد من الله تعالى بالحصول على الإمامة، وعاقبته الخسران في الدنيا والآخرة.

إمامة إبراهيم عليه السلام للناس

إمامة إبراهيم عليه السلام للناس الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وعليه وعلى آله وسلم. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد: فقد جعل الله عز وجل إبراهيم عليه السلام إماماً للناس، وأوحى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم: أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين، وهذه الإمامة نالها إبراهيم بتوفيته للمقامات التي ابتلي بها كلها، كما قال تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124]، وإنما تنال الإمامة في الدين بتوفية مقامات العبودية حقها، قال عز وجل: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم:37]، ومن مقامات هذه العبودية الدعوة إلى الله عز وجل والصبر على الأذى، والتوكل على الله سبحانه وتعالى، والتضحية بالنفس والوطن والأهل والولد في سبيل الله عز وجل.

الصبر في الدعوة إلى الله وثمرته

الصبر في الدعوة إلى الله وثمرته من هذه المقامات -أي: مقامات العبودية- مقام الصبر في الدعوة إلى الله مع قلة المستجيبين، قال عز وجل: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت:26]، وهذا المقام مقام عظيم الأهمية في حياة المسلم، وفي حياة الداعي إلى الله عز وجل، فإبراهيم عليه السلام مع إمامته، ومع توفيته للدعوة إلى الله عز وجل حقها؛ لم يؤمن له من قومه إلا لوط عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وامرأته سارة التي تبعته على الحق، والله عز وجل قدر هذا الأمر للأنبياء جميعاً، قال سبحانه وتعالى عن نوح عليه السلام: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:40]، وقال عز وجل: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116]، وقال سبحانه: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106]. فأكثر الخلق في غفلة، والناجون قلة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ينادي الله عز وجل يوم القيامة بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: يا آدم! أخرج بعث النار. فيقول: من كلٍّ كم؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون). وهذا الأمر يثمر ثمرة عظيمة الأهمية في حياة المؤمن، ومن ذلك أنه لا يزال خائفاً من الله عز وجل، قال تعالى: {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99]، ويعلم الخطر الذي يقدم عليه هو والناس أجمعون، هو خطر الوقوف في المحشر، ورؤية أهوال القيامة، والمرور على الصراط الذي هو أدق من الشعرة وأحد من السيف، من تحته النار يحطم بعضها بعضاً، قعرها سبعون خريفاً، يهوي فيها من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، وينجو من الألف واحد فقط من هؤلاء البشر، نسأل الله العافية! فإذا كان الأمر كذلك، وعلمنا قلة من ينجو، خفنا على أنفسنا من هذه المواقف، والخوف من أعظم أسباب الأمن عند الله عز وجل، فهو من أسباب دخول الجنة، كما أنه من أسباب التمكين في الأرض، قال عز وجل: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم:13 - 14]، وقال عز وجل: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46]. والخوف عبادة ضرورية لحياة القلب، فهو الذي يوقظه من غفلة الشهوات والضلالات، ويبعده عن أن يغره الغرور، وأن تغره الحياة الدنيا، وهذا من أعظم أسباب التوفيق في سيره إلى الله عز وجل، وهو الذي يدفعه حتى يستمر في سيره إلى الله.

البعد عن الاغترار بكثرة أهل الباطل

البعد عن الاغترار بكثرة أهل الباطل ومن ثمرة الصبر في الدعوة مع قلة المستجيبين، أن لا يغتر الإنسان بالكثرة، وأن لا يزهد في القلة، فالله عز وجل من أجل القلة المؤمنة يغير موازين الحياة، وينصر رسله والذين آمنوا رغم قلتهم، ينصرهم في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، ويملي للظالمين الكثرة ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، يملي لهم سبحانه وتعالى ويستدرجهم من حيث لا يعلمون؛ لمتانة كيده عز وجل، قال تعالى: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [القلم:44 - 45]. والاغترار بكثرة من ضل حتى يصير الإنسان في ركب من يضل عن سبيل الله هو العلة التي من أجلها كفر أكثر البشر، واتبعوا الباطل بالتقليد الأعمى، والمتابعة لآبائهم وأجدادهم، ولمن حولهم من مجتمعاتهم. والمؤمن لا يرضى بهذا التقليد، ولا يتبع الكثرة إذا كانوا على الباطل، وإنما يوطن نفسه على أن يكون على الحق ولو كان وحده، والله عز وجل قد قال: {فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ} [غافر:4].

الهجرة في سبيل الله

الهجرة في سبيل الله بين سبحانه وتعالى هجرة إبراهيم ولوط عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام فقال: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:71]. وهذا يدل على أن أهل الإيمان عليهم أن يفارقوا أهل الباطل إذا بلغت الدعوة إلى الله عز وجل غايتها بإقامة الحجة على الخلق، وبلوغ الحق لكل مكلف، فبعد ذلك عليهم أن يفارقوا أهل الباطل، وأن ينشئوا مجتمعاً صالحاً يعيشون فيه، فالله سبحانه وتعالى جعل هذه العلاقة بين أهل الإيمان سبباً للرحمة العاجلة في الدنيا، فالله عز وجل يبدلهم بعلاقتهم التي ضحوا بها في سبيله خيراً منها، ويعوضهم العلاقة الوطيدة في الله عز وجل، التي بها يجد أهل الإيمان برد الود، بدلاً من جو مليء بالحقد والكراهية والحسد والبغضاء، وهذه العلاقة لا بد أن نحرص عليها، ولا بد أن تكون قوية متينة بين أهل الإيمان، فإذا استجابوا جميعاً لدعوة الحق فلا بد أن نستثمر هذه العلاقة، وأن نقوي روابط المحبة بين أهل الإيمان، والاجتماع على طاعته سبحانه وتعالى.

أهمية صحبة أهل الإيمان

أهمية صحبة أهل الإيمان جعل الله عز وجل الثواب لإبراهيم عليه السلام على تضحيته بابنه إسماعيل أن وهبه إسحاق ويعقوب نافلة، والله سبحانه وتعالى جعل صحبة أهل الإيمان والصلاح علامة على سعادة الإنسان، وسبباً لرحمته في الدنيا والآخرة، وحصول المغفرة له، والله عز وجل يأمر الأعلى بصحبة الأدنى رغم أنه السبب في هدايته، فكيف بالأدنى الذي يحتاج إلى أن يصحب الأعلى؟! كأمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن يصبر نفسه مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي، فقال سبحانه وتعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28]. فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم مأموراً أن يصحب الذين هداهم الله به إذا كانوا يريدون وجهه، وهو عليه الصلاة والسلام سبباً في إسلامهم، فما بالك بمن دونه عليه الصلاة والسلام، فالصبر معهم واجب، فيصبر على صحبتهم وعلى معاشرتهم، وهذا أمر من أعظم الأمور أهمية في حياة المؤمن، وإذا كان الأمر كما ذكرنا في حق الأعلى بالنسبة إلى الأدنى، فكيف بصحبة الأدنى لمن هو أعلى منه قدراً؟! فالإنسان دائماً يبحث عمَّن يعاونه على طاعة الله عز وجل، ولا أفضل من صحبة الأخيار، فانظر من تخالل، وانظر من تصاحب؛ فإن الله عز وجل جعل صحبة أنبيائه ورسله غاية مقصودة يطلبها النبيون والصديقون، قال إبراهيم عليه السلام: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [الشعراء:83]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم في الرفيق الأعلى) وكان هذا آخر ما مات صلى الله عليه وسلم. وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرغب في مجالسة أهل الصلاح، ويحذر من مجالسة أهل الفساد، فيقول: (مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة)، وقال عليه الصلاة والسلام: (لا تصاحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقي).

الدعوة إلى الله تعالى سائرة لا تتوقف

الدعوة إلى الله تعالى سائرة لا تتوقف وإبراهيم عليه السلام حين آمن له لوط وهاجر معه إلى الأرض المقدسة لم يتوقف، ولم تتوقف الدعوة إلى الله عز وجل، بل أرسل الله عز وجل لوطاً إلى قرية سدوم ليدعوهم إلى الله سبحانه وتعالى. وهذا دليل على أن الدعوة إلى الله لا تتوقف في أي مكان، بل حيث ما وجد الناس ووجد من يخالف شرع الله ووجد الإنسان فتبقي الدعوة إلى الله عز وجل قائمة. وإبراهيم عليه السلام قد أتاه الأضياف في طريقهم إلى إبلاغ قوم لوط، والله سبحانه وتعالى جعل من إبراهيم عليه السلام إماماً للناس، وهو كذلك في الحلم والصبر وعدم اليأس من استجابة الناس للدعوة إلى الله. فلوط عليه السلام حين أرسل إلى قومه لم يؤمن به رجل واحد، ولم يؤمن به إلا أهله فقط. وهذا يؤكد المعنى الذي ذكرناه من أن قلة من استجاب للأنبياء لا تمنع الداعي إلى الله عز وجل من ممارسة الدعوة.

حلم الداعية ورحمته بالمدعوين

حلم الداعية ورحمته بالمدعوين إبراهيم عليه السلام حين مرت به الملائكة بشروه بهلاك قوم لوط، وبشروه بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب، كما قال سبحانه وتعالى عن امرأته: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود:71]، فالله سبحانه وتعالى بشر امرأته سارة بذلك على لسان الملائكة جزاء على صبرها واحتسابها، وبعد ذلك جعل إبراهيم يجادل في قوم لوط، فقال سبحانه وتعالى: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ * إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود:74 - 75]. فهو يجادل في قوم لوط في تأخير العذاب عنهم، حيث قال: {إِنَّ فِيهَا لُوطًا} [العنكبوت:32]. فهو يريد منع العذاب العام على قرى قوم لوط؛ لأجل وجود لوط عليه السلام، وهذا من حلمه عليه السلام، وقد وصف كذلك بكثرة دعائه وقنوته لله عز وجل، كما قال تعالى: ((إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ)) أي: مسبح ذاكر لله عز وجل، قانت لله كثير الإنابة، فهو حليم لا يعجل ولا يريد إنزال العقوبة بسرعة، بل يريد تأخير العذاب لعل الله عز وجل أن يهديهم، وقد كان ابنه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم صبوراً حليماً، سيما عندما رد عليه قومه ما جاء به، وأتاه جبريل بملك الجبال يستأذنه في أن يطبق عليهم الأخشبين إن شاء، فقال: (بل أستأني بهم، فلعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئاً)، وقد كان. وبهذا تحصل للإنسان المراتب العالية من الحلم والصبر والاحتساب عند الله عز وجل، وكثرة الدعاء والإنابة والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من الأواهين المنيبين.

فزع المؤمن إلى ربه في الشدائد

فزع المؤمن إلى ربه في الشدائد كان إبراهيم عليه السلام عندما يصيبه أمر يفزع إلى الله عز وجل، ويلتجئ إلى الصلاة والدعاء، كما في قصته مع جبار مصر حين أتى بامرأته سارة إلى مصر، وعلم إبراهيم أنه لو أخبرهم أنها امرأته لقتلوه وأخذوها، فقال لها: ليس في الأرض مسلم غيري وغيرك، وأنت أختي في دين الله، فأخذها الجبار وأراد أن يتناولها، ووقف إبراهيم يصلي ويدعو الله عز وجل. وهكذا المؤمن كثير الدعاء، يدعو ربه سبحانه وتعالى في الشدائد والمحن، ويلجأ إلى الله عز وجل أن يعصمه وأهله، وأن ينجيه من كل سوء كرب. فأخذ الله سبحانه وتعالى ذلك الجبار الظالم الذي أراد أن يتناول سارة، وأكرمها سبحانه وتعالى وعصمها منه مرات متتابعة، فكان كلما أراد أن يهوي بيده إليها أخذ وشلت يده، حتى قال: اذهبوا بها، إنما أتيتموني بشيطان ولم تأتوني بإنسان، اذهبوا بها وأعطوها هاجر. فرجعت إلى إبراهيم عليه السلام وهو واقف يصلي، فلما انتهى من الصلاة قال: مهيم -أي: ما شأنك-؟ فقالت: رد الله كيد الفاجر، وأخدم هاجر. وكان ذلك من فضل الله سبحانه وتعالى. فالعبد المؤمن كثير الدعاء، والدعاء يسمعه الله عز وجل من عباده المؤمنين، وبه تتغير موازين الناس، والله سبحانه وتعالى يرفع ويخفض، وهو سبحانه كل يوم هو في شأن، يفرج كرباً، ويغفر ذنباً، ويفك أسيراً، ويطعم من يشاء، ويغني ويفقر، ويميت ويحيي، ويسعد ويشقي، وجعل سبحانه وتعالى من أسباب الخير لابن آدم كثرة الدعاء، وإبراهيم إمام في الدعاء والتضرع إلى الله سبحانه وتعالى. فعلينا بهذا السلاح العظيم الذي لو صدقنا الله عز وجل فيه، ودعونا الله عز وجل بانكسار وضعف وشعور بالفقر والحاجة إليه سبحانه وتعالى لغير الله عز وجل ما بنا، وذلك بشرط عدم الاستعجال، فكثير من الناس يقولون: نحن ندعو منذ سنين ولم يتغير الحال، ونقول: بل قد تغير بفضل الله سبحانه وتعالى، فقد كانت الأمة قبل عقود قليلة من الزمن بعيدة تمام البعد عن الله عز وجل، وأكثر شبابها ورجالها ونسائها لا يعرفون حتى الصلاة، ولا يؤدونها، بل كان أمراً معتاداً منذ سنوات ليست بالكثيرة أن يكون كل الشباب لا يحافظون على أداء الصلاة، وأن تكون المساجد خاوية من أهلها، وأن لا يكون هناك علم بالكتاب ولا بالسنة، وإنما يسير الناس في شهواتهم ورغباتهم. وإن تسلط الأعداء على الأمة فإن ذلك من أسباب ردها إلى الله سبحانه وتعالى، وعودة المسلمين إلى الله عز وجل ارتبط بأحداث جسام تقع لهم، وهذا من أسباب رحمة الله بهم، كما قال عز وجل في بني إسرائيل حين ذكر تسليط الأعداء عليهم: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ} [الإسراء:8]، فمن كان عنده بقية من إيمان، وسلط الله عز وجل عليه أنواع البلايا والمحن فلأجل أن يزداد إيماناً وتسليماً، ولأجل أن يرحمه الله سبحانه وتعالى، ولا يجوز أن نقول: دعونا فلم يستجب لنا، فإن ذلك من موانع إجابة الدعاء، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي). والاستعجال آفة خطيرة في الإنسان، وإنما تقاس أعمار الأمم بعشرات السنين بل بمئاتها، وليس بأعمار أفرادها، فكم من التغيرات تقع في حياة بشر لها مقدمات في الأجيال التي سبقتهم.

حكمة ابتلاء المسلمين بالمصائب

حكمة ابتلاء المسلمين بالمصائب وعلى قدر ما يقع في قلوب أهل الإيمان من إيمان وإسلام وإحسان يرفع الله عز وجل عنهم تسلط عدوهم عليهم، وبقدر صدقهم وامتثالهم وتذللهم لله عز وجل بقدر ما يرفع الله عز وجل ما نزل بهم، والله سبحانه وتعالى يبتلي عباده ليسمع تضرعهم، قال عز وجل: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا) [الأنعام:43]، فالله عز وجل يبتلينا لنتضرع. وقال عز وجل: ((وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} [الأنعام:42]، فلنفقه لماذا نبتلى بأنواع البلايا من الغلاء، والأوبئة، والمحن، وتسلط العدو، واحتلال البلاد، وأخذ الكبار والصغار والأولاد أسرى، وغير ذلك من أنواع البلايا، فإن ذلك لكي نزاد انكساراً لله ودعاء وتضرعاً له سبحانه وتعالى، فالكسير يجبره الله الجبار سبحانه وتعالى، ومن تجبر وطغى يكسره الجبار سبحانه وتعالى العزيز الانتقام. والله عز وجل ينزل بأسه بالناس ليعودوا إليه عز وجل، فإن لم يعودوا وازدادوا طغياناً فتح عليهم أسباب الرخاء في الدنيا ثم يأخذهم بغتة، كما قال عز وجل: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:44 - 45]. فنحن بحاجة إلى الدعاء، وأن نقتدي بإبراهيم عليه السلام في الدعاء والتضرع إلى الله سبحانه وتعالى، وكمال التوكل عليه، وصدق اللجوء إليه حتى يرفع ما بأمتنا من أنواع البلايا والمحن. وإبراهيم عليه السلام إمام في تصديق وعد الله سبحانه وتعالى، وفي إيمانه بأنه سميع الدعاء ولو طالت المدة، فإبراهيم سأل الله أن يهب له من الصالحين وهو مهاجر فقال: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات:99 - 100]. ودعا إلى الله وهو شاب ومع ذلك قدر الله عز وجل أن تستجاب هذه الدعوة بعد كبر السن، فإنما وهب له إسماعيل وهو ابن بضع وثمانين سنة، ووهب له إسحاق بعد ذلك بثلاث عشرة سنة، وعند أهل الكتاب أنه بعد أن تجاوز المائة، فقال إبراهيم: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} [إبراهيم:39]. فاليقين بالله عز وجل والثقة به من أعظم أوصاف الأئمة في الدين، قال عز وجل: {قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ * قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:55 - 56]. فإياكم والقنوط -عباد الله- من رحمة الله، فقد قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} [الشورى:28]، وذلك بعلمه وحكمته، {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى:27]. فهو عز وجل كما جعل في المطر حياة للبشر من بعد يأسهم، فكذلك في كل الكروب ينزل ما يغيث به الناس، وينشر رحمته من بعد أن يقنطوا وييأسوا، غير أن أهل الإيمان لا يقنطون من رحمة الله أبداً، وإنما يشفقون على أنفسهم من أن يصيبهم بسبب ذنوبهم عقاب الله عز وجل، ولكنهم لا يقنطون من رحمة الرحمن الرحيم، وكيف يقنطون وهم يرون آثار الرحمة تملأ هذا الكون؟! ورحمته سبحانه وسعت كل شيء، فلا تقنطوا من رحمة الله، وقولوا كما قال إبراهيم: ((وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ))، وهو سبحانه وتعالى يضيق الأرزاق؛ ليعلم الناس أن الأمور ليست بأيديهم، وأنه هو وحده سبحانه وتعالى الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر سبحانه وتعالى، وأنه بعباده الخبير البصير، وهو الذي يدبر الأمر بالعلم والحكمة، وبخبرته عز وجل وبصره بعباده، يعلم أحوالهم، ويسمع دعاءهم، ويعلم عواقب أمورهم، وهو الذي يرى عباده أزلين قنطين مشفقين يائسين فيضحك؛ لعلمه أن فرجهم قريب. وهو سبحانه وتعالى يفعل ذلك ليسمع تضرعنا، وليرى ثقتنا بوعده وحسن ظننا به عز وجل، والله عند ظن عبده به كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فأحسنوا ظنكم بالله، وثقوا في وعده، وهو سميع الدعاء، وإذا دعونا الله ونحن موقنون بذلك مع الضعف والانكسار كان ذلك من أعظم أسباب النصرة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وهل تنصرون إلا بضعفائكم) أي: بدعائهم وتضرعهم لله عز وجل، وكم من مستضعف يقسم على الله فيبره سبحانه وتعالى، كما قال صلى الله عليه وسلم: (رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره). فلماذا كانت هذه الصفة المذكور أولاً؟ إنها لبيان ضعفه وانكساره، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره) أي: من أهل الإيمان الكمل الذين يوقنون بوعد الله، ولو أقسموا على الله في الدعاء لأجاب قسمهم. فهذا المرء عند أهل الدنيا مستضعف فيهم ليس عنده من أسباب القوة الظاهرة ما يجعلهم يعتبرون بمنزلته، ولا يعتدون بمقامه.

عاقبة المتبع لإبراهيم عليه السلام والمخالف له

عاقبة المتبع لإبراهيم عليه السلام والمخالف له تلك بعض صفات إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام الذي جعله الله عز وجل بها إماماً يقتدى به ويتبع، ومن كان من ذريته على شيء من هذه الصفات فهو إمام كذلك بقدر ما فيه. وأما من ظلم ولو كان من ذرية إبراهيم فليس له عهد الله عز وجل بالإمامة في الدين، {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124]. فهناك عهد من الله تعالى له بأن يكون هناك أئمة من ذريته، ولكن لا ينال هذا العهد الظالمون، فإن الله لا يقبل لهم ولاية، ولا شهادة، ولا يجعل لهم أمانة؛ لأن الظالم عند الله عز وجل مبعد عن الله عز وجل، وعند الله سبحانه وتعالى مغضوب عليه وملعون، كما قال تعالى: {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18]. فاحذروا -عباد الله- من الظلم الأكبر، ومن ظلم بعضكم لبعض، وظلم أنفسكم، وإمامة إبراهيم عليه السلام ينالها كل من تبعه واتصف بصفاته حتى ولو كان من غير نسله؛ فإن الله سبحانه وتعالى قال عن الإسلام: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج:78]. وهو عز وجل يعلم دخول العرب والعجم في ذلك، فإبراهيم إمام لكل من تبعه على دينه وملته من ذريته ومن غيرهم، فإنما الصلة بين أهل الإيمان بالأعمال، (ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وقال صلى الله عليه وسلم: (ألا إن آل بني فلان ليسوا لي بأولياء، إن وليي الله والملائكة وصالح المؤمنين) أو كما قال النبي عليه الصلاة والسلام. اللهم ارزقنا مرافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، اللهم إنا نسألك عيش السعداء، وموت الشهداء ومرافقة الأنبياء، اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء، اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعاء لا يسمع. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اليهود والنصارى والمنافقين، وسائر الكفرة والملحدين أصحاب الضلالة ودعاة السوء، اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين. ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، ونجنا برحمتك من القوم الكافرين، اللهم فرج كرب المكروبين، وفك أسر المأسورين، وارفع الظلم عن المظلومين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على ظلمنا، وانصرنا على من عادنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا.

مكة المكرمة دعوة إبراهيم عليه السلام

مكة المكرمة دعوة إبراهيم عليه السلام إن دعوة الأنبياء عليهم السلام لها ميزات كثيرة، وخصائص غزيرة، فهي مجابة في الحال والمآل، والعاقبة لهم في سائر الأحوال، ومن بركات دعوة إبراهيم عليه السلام نشأة مكة التي كانت بقعة قفراء، فعادت عامرةً بالناس والسكنى، وهوت إليها أفئدة البشر، وأخرج الله بها زمزم وفجر، حتى إذا شب إسماعيل قام هو وأبوه ببناء البيت العتيق، وصارت الأجيال من ذرية إبراهيم وإسماعيل لها حق الصدارة، والنبوة والريادة، والديانة والصيانة، وكل هذا بفضل دعاء أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، وما محمد سيد الأنبياء وحبيب الرحمن إلا ثمرة دعوته.

دعاء نبي الله إبراهيم واستجابة الله له

دعاء نبي الله إبراهيم واستجابة الله له إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ * رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ * رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم:35 - 41]. الدعاء من أعظم أسباب تغيير الحياة على وجه الأرض. والله سبحانه وتعالى قدر أموراً وقدر لها أسبابها، ومما قدره سبحانه وتعالى: تعمير مكة المكرمة، وتعمير بيته الحرام بالطواف والقيام والركوع والسجود والاعتكاف وسائر أنواع العبادات.

مكانة مكة والخروج بهاجر وإسماعيل إليها

مكانة مكة والخروج بهاجر وإسماعيل إليها لقد جعل الله عز وجل الكعبة البيت الحرام قياماً للناس، أي: به يقوم أمر الناس، وإذا أوشكت الدنيا على الانتهاء أذن الله عز وجل قدراً في هدمه، فمن أشراط الساعة بعد زوال الإيمان في الأرض كلها أن يهدم الكعبة ذو السويقتين وهو من الحبشة، وأما قبل ذلك فلا قوام للناس إلا ببيت الله الحرام، وبتوجه المتوجهين إلى هذه القبلة المشرفة، فكيف عمرت هذه البقعة؟ وكيف اتجهت إليها قلوب الملايين؟ فالملايين من الناس في كل عام يذهبون إلى هذه البقعة المشرفة وما حولها من البقاع المقدسة، لأداء فرض الحج الذي افترضه الله سبحانه وتعالى على الناس وأمر بأدائه، وجعله ركناً من أركان الإسلام, قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان). وقد عمرت هذه البقعة بدعوة مباركة من إبراهيم عليه السلام، إذ أمره الله عز وجل أن ينقل هاجر وولدها إسماعيل بعد أن وقع شيء بينها وبين سارة التي صحبت إبراهيم عليه السلام في هجرته، والتي كرمها الله عز وجل بأن كانت من أول المؤمنين به، ورد الله عز وجل عنها كيد الملك الكافر عندما ذهب بها إبراهيم إلى مصر، فأراد الجبار أن يأخذها ويعتدي عليها، فقامت تدعو الله عز وجل، وظل إبراهيم عليه السلام بعيداً يدعو ربه سبحانه وتعالى، فكلما أراد أن يتناولها شُلَّت يده، وأخذت أخذاً شديداً، فيطلب منها أن تدعو الله له ويتركها، وفي الثالثة تركها وقال: إنما أتيتموني بشيطان ولم تأتوني بإنسان اذهبوا بها وأعطوها هاجر. فلما رجعت إلى إبراهيم قال: مهيم؟ فقالت: رد الله كيد الفاجر، وأخدم هاجر. وضربت سارة مثلاً في التضحية؛ إذ وهبت هاجر خادمتها التي وهبت لها لإبراهيم عليه السلام، وكانت سارة عقيماً لا تلد إلى ذلك التاريخ، فضربت مثلاً في التضحية والحب الحقيقي، وفي الطاعة لله عز وجل، فاتخذ إبراهيم هاجر سُرِّية، فولدت له إسماعيل، فوقع في قلب سارة ما وقع، وكان الله عز وجل قد قدر تعمير بيته الحرام بإسماعيل عليه السلام وذريته، فأمر الله عز وجل إبراهيم أن يأخذ هاجر ويهاجر بها إلى موضع مكة المكرمة. وفي هذا المكان القفر الذي لا أحد فيه لا أنيس ولا جليس ترك إبراهيم عليه السلام هاجر وابنها الرضيع إسماعيل عليه السلام، وترك لهما جريب تمر، وشنة ماء -أي: قربة ماء-، وتركهما عند دوحة قريباً من موضع زمزم، ولم يكن قد بني البيت بعد، وإنما كان مثل الأكمة المرتفعة -أي: التل المرتفع- وتركهم وحدهم في هذا المكان الذي ليس به أحد، وليس فيه نبت ولا زرع ولا ماء ولا شيء على الإطلاق من مقومات الحياة، لكن الله عز وجل اختارها يوم خلق السماوات والأرض لتكون بقعة عبادته وتوحيده إلى آخر الزمان. إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض ولم يحرمها الناس كما قال النبي عليه الصلاة والسلام، فاجتبى الله تعالى هذه البقعة، وجردها سبحانه من مقومات الحياة الطبيعية، وقدر أن تكون أزحم بقعة على وجه الأرض بمن يعبد الله عز وجل، وهذه آية عظيمة من آياته.

أثر دعوة إبراهيم وبركتها على مكة المشرفة

أثر دعوة إبراهيم وبركتها على مكة المشرفة إذ كانت هذه دعوة من إبراهيم عليه السلام، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم:35]. وفي الآية الأخرى قال تعالى: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا} [البقرة:126] فكانت الدعوة قبل تكون البلدة وبعد تكونها، وكان هذا الدعاء هو الذي غير وجه الحياة على ظهر هذه الأرض، والذي نشر الله عز وجل به التوحيد في مشارق الأرض ومغاربها، إذ من ذرية إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ولد محمد صلى الله عليه وسلم، الذي أراد الله سبحانه وتعالى بحكمته وعلمه أن يكون هو الذي يرفع لواء دعوة التوحيد، وهي دعوة الأنبياء جميعاً في أرجاء الأرض كلها، وتكون أمته من بعده حاملة هذا اللواء، فتنشر توحيد الله عز وجل، وتعلن الكلمة الخالدة: لا إله إلا الله شعاراً للحياة وشعاراً للأمة الإسلامية، فلا توجد أمة من الأمم سواء ممن تنتسب إلى الأنبياء أو ممن لا تنتسب إليهم ترفع هذا الشعار، أو تطبقه في الحياة، أو تسعى إلى إعلاء هذه الكلمة في الأرض، وإنما تجد الأمم حتى ممن تنتسب إلى الأنبياء ترفع شعارات خاصة بها على خلاف ما أوصى به الأنبياء، وهذه الوصايا مسجلة عندهم، وأول هذه الوصايا جميعاً: أن يعبد الله وحده لا شريك له. فهذا موجود في وصايا موسى العشر كما هو في التوراة، وهي وصية المسيح كما في الإنجيل، وإنما يرفع هذه الكلمة بفضل الله عز وجل ويطبقها في الحياة أهل الإسلام الذين يتجهون من كل مكان إلى هذه البقاع الطاهرة، ويخرجون في اليوم الثامن قاصدين منىً ثم عرفات، ثم يفيضون بعد ذلك إلى المشعر الحرام، ثم إلى منى، ثم إلى البيت العتيق مرة ثانية، قاصدين بذلك مرضات ربهم؛ لأنهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً. ولقد قدر الله عز وجل أن يأتي إبراهيم بإسماعيل عليهما السلام مع أمه ويتركهما في ذلك المكان، فتقول له هاجر: إلى من تتركنا في هذا الوادي الذي ليس به أنيس ولا أحد؟ وكأن هذا السؤال ما كان ينبغي أن يكون؛ لذا لم يجبها إبراهيم، ولم يلتفت إليها، فكيف تظن به -وهو الرفيق الرحيم، الشفيق بالخلق- أن يكون قاسياً على ولده فلذة كبده! وعلى امرأته التي عاشرها وعاش معها ووحدت الله عز وجل على يديه؟! وكيف يمكن أن يظن به ذلك، وهو يدعو لمن عصاه بالمغفرة والرحمة؟!

أثر دعوة إبراهيم لذريته وأتباعهم

أثر دعوة إبراهيم لذريته وأتباعهم من دعاء إبراهيم: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} [إبراهيم:35 - 36] أي: الذين دعوا إلى عبادتها أضلوا كثيراً من الناس، وليست الأصنام نفسها تضل كثيراً من الناس، فهو يعتبر بحال الأكثر، وكان يخشى على نفسه وبنيه أن يقعوا فيما وقع فيه الناس، ولذا قال من قال من السلف: من يأمن البلاء بعد إبراهيم، أي: من يأمن أن يقع فيما حذر الله عز وجل منه من الشرك بعد أن دعا إبراهيم بالنجاة له ولبنيه منه، وقد استجاب الله عز وجل دعوته، فلم يكن أحد من بنيه وعصبته مشركاً، وإنما وقع الشرك في الأجيال التالية بعد عشرة قرون متتابعة، فانظر كيف تكون الدعوة مستمرة الأثر أجيالاً متتابعة. وكذلك أثرت هذه الدعوة في حياة البشر وفي هذه البقعة إلى يومنا هذا؛ فدعوة التوحيد هذه جددها النبي صلى الله عليه وسلم، وقام بها في الأرض كلها بعد أن كان الأنبياء يقومون بها في أقوامهم، فبعث عليه الصلاة والسلام إلى الأحمر والأسود، وأرسل أصحابه إلى المشارق والمغارب، وقام بذلك من بعدهم، وأمر أمته بالجهاد لإعلاء كلمة الله في كل مكان، فانظر كيف يكون أثر تلك الدعوة، فيقول إبراهيم: ((وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ))، فمن أمن الشرك على نفسه فهو جاهل، ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم؟! قال إبراهيم: ((رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي)) وهذا هو النسب الحقيقي: اتباع إبراهيم عليه السلام، ولذلك قال عز وجل: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج:78] فإبراهيم أبو المؤمنين وإن لم يكونوا من نسبه، فهو أبوهم بالروح والقلب؛ لأن ولادة قلوبهم كانت بدعوته، والنبي صلى الله عليه وسلم أب للمؤمنين، قال عز وجل: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب:6] وذلك لأن ولادة القلوب كانت على يديه صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم ثمرة دعوة أبيه إبراهيم؛ إذ دعا ربه أن يبعث في ذريته رسولاً يتلو عليهم آياته ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويزكيهم، وتوسل إلى الله بعزته وحكمته، فقال: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة:129]. فكان محمد صلى الله عليه وسلم دعوة أبيه إبراهيم، وبشرى عيسى، ورؤيا أمه التي رأت أن نوراً خرج منها فأضاء قصور الشام، فكيف يكون الدعاء من أعظم وأمضى الأسلحة؟ A يكون عظيماً بحسب قرب الداعي من ربه عز وجل، وبحسب استعاذته بحول الله وقوته، فحينئذ يؤثر الدعاء تأثيراً عجيباً يمتد لآلاف السنين بقدرة الله سبحانه وتعالى. يقول إبراهيم عليه السلام: ((فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ))، فإذا كان إبراهيم يدعو لمن عصاه بأن يغفر الله له، ولا يغفر الله الشرك إلا بأن يتوب العبد منه، فإن من مات على الشرك وقد بلغته الحجة فإن الله لا يغفر له، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] فقوله: ((وَمَنْ عَصَانِي)) تشمل من عصى الله عز وجل بالمعاصي التي هي دون الشرك، التي يكون الاستغفار مؤثراً فيها بإذن الله، وأما من أشرك فإبراهيم يدعو له بأن يتوب الله عليه، وهذا لمن لم يمت على الشرك، أما من مات عليه فإن إبراهيم يتبرأ منه، كما تبرأ من أبيه آزر، قال تعالى: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة:114]. فإبراهيم الأواه الحليم المنيب الذي جعل يطلب تأخير العذاب عن قوم لوط المجرمين والسفلة المنحطين، الذين فعلوا الفاحشة ما سبقهم بها من أحد من العالمين، واستهزءوا بنبيهم وأرادوا إيذاءه، ومع ذلك فإبراهيم يدعو لهم لشفقته ورحمته بالخلق والله يحب منه ذلك، حتى إنه دعا في بعض الأحيان لمن لا يستحق أن يغفر له، ولمن لا يستحق أن يؤخر عنه العذاب، وأمر الله نافذ فيه، لكن الله يحب الحلم والإنابة، ويحب الأواه -أي: كثير الدعاء- وإبراهيم كان كذلك. والله يحب هذه الصفات التي ترتب عليها هذا الدعاء، حتى وإن وقع في غير موضعه، فكيف يمكن أن يظن به ألا يكون شفيقاً رحمياً بولده وأم ولده؟! وذلك مما لا يتصور، فكيف تسأل هاجر وتقول: إلى من تتركنا؟ وكيف يمكنها أن تتصور أنه يتركهم إلى غير أحد؟ فتكرر السؤال، فيعلمها إبراهيم بأن السكوت أبلغ من الكلام فلا يلتفت إليها ولا يجيب عليها، وفي الثالثة تكرر السؤال وهو لا يجيب ولا يلتفت، فتنتبه بعد ذلك فتقول: آلله أمرك بهذا؟ فهنا يجيب إبراهيم فيقول: نعم، وذلك أنه كان ينبغي أن تدرك هذا الأمر من البداية، وهذا هو الذي ينبغي أن يؤكد في النفوس، أي: أن نمتثل أمر الله، اقتداءً بإبراهيم عليه السلام حين لبى أمر ربه. والمؤمنون حين يلبون ويسمعون تلبية الحجاج: لبيك اللهم لبيك! لبيك لا شريك لك لبيك! إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، إنما يتبعون أنبياء الله عز وجل، ويجيبون الدعوة التي بلغها إبراهيم بأمر الله، كما قال تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج:27] فنادى إبراهيم قائلاً: إن لله بيتاً فحجوه، وناداهم بغير مكبر صوت أو إذاعة تملأ إرسالاتها الكرة الأرضية، ومع ذلك كان لهذه الكلمة أثراً عجيباً في البشر عبر العصور، والأزمنة ما لا تؤثره كل الوسائل الأخرى، والناس اليوم عندهم من وسائل توصيل الكلمة إلى بقاع الأرض المختلفة ما تعلمون، أو ما يسمى: بوسائل الإرسال والاستقبال، ومع ذلك! فكم من ملايين الكلمات تذهب هدراً، ولم تذهب كلمة إبراهيم هدراً؛ وللوعد الذي جعله الله سبحانه وتعالى وعد صدق، حيث تكفل الله بإيصال هذه الدعوة؛ فأجابه من في أصلاب الرجال وأرحام النساء: لبيك اللهم لبيك! فكل من لبى في تلك اللحظة فسوف يذهب إلى هذه البقاع ملبياً مجيباً دعوة إبراهيم عليه السلام، فنحن نمتثل أمر الله عز وجل مهما كان في الظاهر شاقاً وصعباً، فهو اليسر في الحقيقة، وهو الراحة والطمأنينة والسكينة. تأمل هذه البقعة المجردة من أسباب الحياة بأسرها في ذلك الوقت، ومع ذلك يترك إبراهيم ولده وأم ولده، ويأخذ بأسباب لا تغني في حقيقة الأمر، وهي جراب تمر وقربة ماء، ثم يتركهم ويذهب إلى بيت المقدس في الشام، وهي مسافة في ذلك التاريخ تقضى في أكثر من شهر، ومع هذا يرحل إبراهيم ويتركهم لله عز وجل، وهنا ترضى هاجر وتقول حين تعلم أن هذا هو أمر الله: إذاً: لا يضيعنا، وهذه ثقة عظيمة بالله وتوكل عليه. ولك أن تقارن بين تلك اللحظات وبين اللحظات اليوم التي لا يوجد موضع قدم في تلك البقعة المباركة إلا وسكنت، إلا ما شاء الله عز وجل، فيرحل إبراهيم حتى إذا كان خلف الأكمة حيث لا يريانه يتوجه بهذا الدعاء: ((رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ)). فإنما كانت هذه الرحلة والهجرة لأجل إقامة الصلاة في هذه البقعة، فهو يتوسل إلى الله بإظهار الفقر والحاجة، وذلك في قوله: ((بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ)).

فضل ماء زمزم وكيفية ظهوره

فضل ماء زمزم وكيفية ظهوره من الآيات البينات ماء زمزم التي نبعت على يد إسماعيل عندما رضيت هاجر عليها السلام بالله عز وجل مدبراً معيناً، وحافظا وكيلاً، وقالت: إذاً لا يضيعنا، وجعلت تأكل من جراب التمر وتشرب من الماء حتى نفد الماء والتمر وجاع ابنها، والله يقدر البلاء ثم يأتي الفرج، والفرج لا يأتي من البداية، وإنما يأتي بعد محنة فيها منحة عظيمة، وهكذا نبعت زمزم بعد المحنة التي تعرضت لها هاجر وابنها. يجوع إسماعيل وهو معد لأن يكون نبياً رسولاً صادق الوعد بانياً مع أبيه لبيت الله الحرام، ناشراً للتوحيد في قومه وفي ذريته من بعده أجيالاً متتابعة، ويقدر الله عليه أن يجوع طفلاً صغيراً، حتى كاد يهلك، فأخذ يبكي والأم تتألم؛ لأنها ترى ابنها يكاد يموت من الجوع والعطش وهي لا تدري ما الحل، فنظرت إلى أقرب جبل وهو جبل الصفا، فجعلت تأخذ بالأسباب وتصعد عليه تبحث لعلها تجد مغيثاً لهما، فتخرج فتصعد على الصفا وتنظر يميناً وشمالاً فلا ترى أحداً، فتنظر إلى أقرب جبل من الصفا فتجد جبل المروة فتتجه نحوه باحثة عن مغيث لهما -وفي بطن الوادي مسافة ممهدة الآن ميسرة بين العلمين الأخضرين- فأخذت تسعى سعي الإنسان المجهود، حتى إذا صعدت مشت، حتى أتت المروة فصعدت عليها -مع أن هذا الوقت تكون فيه الشمس حارقة، ولا يستطيع الإنسان السعي في هذا الوقت في عصرنا مع وجود الشراب والمكيفات، ومع ذلك تحملت هاجر عليها السلام هذه المحنة لتكون منحة لنا جميعاً في الوقوف في هذه الأماكن، متبعين هذه السنة في السعي بين الصفا والمروة سبعة أشواط، كما فعلت بين الصفا والمروة، سعت بينهما هاجر عليها السلام، تبحث عن مخرج، فهي لا تستطيع أن ترى ابنها وهو يموت، حتى كانت المرة السابعة بعد الإجهاد التام والجهد الكامل، وبعد أن بذلت آخر الأسباب في النجاة، جاءت المنحة من عند الله تعالى. سمعت هاجر صوتاً فقالت لنفسها: صه، أي: تسكت نفسها، ثم قالت تخاطب من لا تدري أين هو لكنها تسمع صوته: أغث إن كان عندك غوث، فإذا هي بالملك جبريل عليه السلام عند ابنها الذي يتلوى جوعاً وعطشاً ويوشك على الهلاك، فيضرب جبريل الأرض بعقبه أو بجناحه فتنبع زمزم، فتفرح بالماء فرحاً عظيماً، ويدركها حرص الإنسان، فتقول لها: زم زم، وكانت لا تجد قطرة ماء، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (رحم الله أم إسماعيل لو لم تقل لها: زم لكانت زمزم عيناً معيناً)، يعني: لو لم تجمع الماء ولو لم تجعل له حوضاً، لكانت زمزم عيناً ظاهرة ونهراً جارياً، فلا يحتاج إلى آلة رفع، لكن حرص الإنسان دائماً ينقص عطاؤه، ومع تعلقه بالأسباب ينقص رجاؤه، وبقدر نقص الرجاء، ينقص العطاء، وكلما انقطعت الأسباب وعظم الرجاء عظم العطاء، فكانت زمزم المباركة التي قال عنها النبي عليه الصلاة والسلام: (إنها طعام طعم، وشفاء سقم)، وقال عليه الصلاة والسلام: (ماء زمزم لما شرب له)، وبقي أبو ذر رضي الله عنه أربعين يوماً وليلة لا طعام له ولا شراب في مكة إلا زمزم، قال: حتى سمنت وتكورت بطني. أي: صار سميناً وصار هناك ثنايا في بطنه من السمنة بزمزم فقط، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنها مباركة). نسأل الله عز وجل أن يوفقنا إلى ما يحبه ويرضاه، أقول قولي هذا، وأستغفر الله.

بناء إبراهيم وإسماعيل لبيت الله الحرام

بناء إبراهيم وإسماعيل لبيت الله الحرام الحمد الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم. عندما نبع ماء زمزم شربت أم إسماعيل من الماء ورضعت ابنها، وأتت قبيلة جرهم لتسكن بجوارهم؛ لأجل الماء الذي لم يكن موجوداً في هذا المكان، وكانت أم إسماعيل تحب الأنس فأنست بهم، واستجاب الله دعوة إبراهيم، ثم شب إسماعيل وتزوج منهم امرأة لم تكن تشكر نعمة الله عز وجل وتعرف قدرها، فأمره أبوه أن يطلقها وأن يستبدل غيرها خيراً منها. ورزقه الله سبحانه وتعالى امرأةً أخرى راضية، فدعا إبراهيم لهم بالبركة في اللحم والماء. ثم يأتي إبراهيم إلى إسماعيل ويقول: إن الله أمرني بأمر، قال: فافعل ما أمرك ربك، قال: وتعينني؟ قال: نعم، قال: إن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتاً، فبنيا بيت الله الحرام، وجعل إسماعيل ينقل الحجارة وإبراهيم يرفع البناء، قال تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:127]. أي: يبنيان لله بيتاً لعبادته وتوحيده ويخافان ألا يتقبل الله منهما، ولذلك دعوا بالقبول وردا علم نيتهما إلى الله، ودعاؤهما هو: ((رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)). فمن الذي يجزم لنفسه بالإخلاص بعد ذلك، فيجب على العبد أن يعمل الصالحات ويرجو القبول من الغفور الشكور سبحانه وتعالى بفضله وعطائه ومنته، ونسأل الله عز وجل أن يجعلنا من المقبولين. وبني بيت الله الحرام، ونادى إبراهيم بالحج، وكانت هذه السنة الماضية في كل عام إلى يومنا هذا.

مسائل في يوم عرفة وأيام التشريق

مسائل في يوم عرفة وأيام التشريق يشرع التكبير من فجر يوم عرفة بعد الصلوات المكتوبات إلى آخر أيام التشريق، يعني: أن اليوم الثالث من أيام التشريق هو رابع أيام العيد، فيشرع التكبير إلى صلاة العصر، والظاهر أنه يشرع جماعة؛ لأن ابن عمر وأبا هريرة كانا يكبران في أيام العشر وفي أيام منى حتى ترتج منى تكبيراً. وكان عمر يكبر فيسمعه أهل المسجد فيكبرون، فيسمعهم أهل السوق فيكبرون، حتى ترتج منى تكبيراً، وهذا لا يقع إلا من الاجتماع عليه، وقد جرت عادة المسلمين بالتكبير عقب الصلوات، فلا حجة لمن يقول: هي بدعة، وإنما هي سنة إن شاء الله تبارك وتعالى. ويوم العيد وأيام التشريق كلها أيام أكل وشرب، ويجزئ ذبح الأضاحي في كل هذه الأيام، والأفضل أن تذبح يوم النحر؛ وذلك لأنه أعظم الأيام عند الله سبحانه وتعالى. وهي أيام أكل وشرب، فيحرم صيام هذه الأيام بما فيها يوم الثالث عشر، فيوم الثالث عشر من ذي الحجة لا يشرع صيامه، بل يحرم صيامه، إلا لمن لم يجد هدياً من الحجاج، فيصوم أيام التشريق، وأما من سواه فيحرم الصيام، وإنما من أراد أن يصوم الأيام البيض فليصم الرابع عشر والخامس عشر، ويصوم أي يوم في الشهر بعد ذلك إن أراد. وصوم يوم عرفة يكفر سنة ماضية وسنة باقية كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا لمن ليس بعرفة، ومن بعرفة يستحب له الفطر ليتقوى على الدعاء. نسأل الله عز وجل أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

وسارعوا إلى مغفرة من ربكم

وسارعوا إلى مغفرة من ربكم لقد أمرنا الله عز وجل بأوامر ونهانا بنواهٍ في معرض آيات سورة آل عمران، فمنها: الأمر بطاعة الله والرسول، والنهي عن أكل الربا، والنهي عن اقتراف الذنوب والمحرمات، والحث على المسارعة إلى طلب المغفرة والجنة، لكن أهل الجنة لهم صفات عليا لا يتصف بها أحد غيرهم، فلابد من البحث عنها والاتصاف بها حتى نكون من أهلها.

الربا حرب لله ورسوله

الربا حرب لله ورسوله الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم. أما بعد: فيقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:130 - 138]. ذكر الله سبحانه وتعالى هذه الآيات الكريمات -في أثناء سياق الكلام عن غزوة أحد- في ما يلزم أهل الإيمان حتى ينتصروا على أعدائهم من الانتصار على أنفسهم من داخلها، وترك ما حرم الله عز وجل عليهم، وإتيان ما افترض الله سبحانه وتعالى عليهم، وعلو هممهم وإرادتهم عن هذه الدنيا وزخارفها، والتي إذا ما وقع فيها الإنسان شغلته وانهزم من داخله، فانهزمت الطائفة المؤمنة أمام عدوها. وهذا هو وجه الارتباط -والله أعلى وأعلم- بين هذه الآيات التي قد يبدو للبعض أنها ليست مرتبطة بسياق غزوة أحد وبين باقي الآيات. فالربا حرب لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فكيف يتسنى لأمة ينتشر فيها الربا بأنواع كثيرة أن تنتصر على عدوها وهي تحارب الله، وقد آذنها الله بحرب منه سبحانه وتعالى؟! كما قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) [البقرة:278 - 279].

التقوى سبب للفلاح

التقوى سبب للفلاح ثم أمر سبحانه وتعالى بتقواه، والتي هي سبب الفلاح، فقال: ((وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)) وليس هناك في العربية كلمة أجمع للخير في الدنيا والآخرة من كلمة (الفلاح). وتقوى الله سبحانه وتعالى سبب لتحصيل الفلاح في الدنيا والآخرة، قال تعالى: ((وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)). والتقوى هي: أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثوابه، وأن تجتنب معاصي الله على نور من الله تخاف عقابه. ونلحظ من خلال هذا التعريف -الذي ذكره طلق بن حبيب أحد فضلاء التابعين رحمه الله تعالى- عمل الجوارح والقلب والعلم النافع الذي هو: (النور) أي: أن تقوى الله عز وجل: أن تعمل بالطاعة وتترك المعصية وأنت راج خائف، وأنت على نور من الله سبحانه وتعالى، وهذا هو العلم النافع الذي في القلب، والذي يُبصَّر الإنسان بما حوله من حقائق، وليس مجرد علم اللسان، وإنما على نور من الله.

التحذير من النار

التحذير من النار ثم حذر سبحانه وتعالى من النار، فقال: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران:131] وهذا جزء من تقواه سبحانه وتعالى، أي: أن تتقي ما يؤدي إلى دخول النار التي أعدها الله أصلاً للكافرين، وإن كان قد يدخلها بعض أهل التوحيد لذنوب اقترفوها، لكن هي أصلاً أعدت لتبقى ويبقى أهلها من الكفار. فهذه الآيات قد تضمنت التحذير من النار والترغيب في الجنة، قال تعالى: ((وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ)) وهذا لكي يعرف المؤمن مدى تقواه لربه سبحانه وتعالى. ثم ليعلم المسلم أن مفتاح هذا الخير والفلاح: أن يستحضر أمر الجنة والنار دائماً، وأن يستحضر مدى الخطر الذي ينتظره وينتظر البشرية كلها، إذا هو لم يتق الله سبحانه وتعالى، ولم يجعل لنفسه وقاية من سخط الله وعقابه. وهذه الآية الكريمة مما استدل به أهل السنة والجماعة على أن النار والجنة مخلوقتان وموجودتان الآن، وأنهما قد أعدتا لأهلهما، كما تواترت بذلك الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في وصف من رآهم من أهل النار وأهل الجنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم رأى الجنة والنار، وقد أراهما الله عز وجل من شاء من خلقه من ملائكته ومن أرواح أنبيائه.

الرد على المرجئة

الرد على المرجئة قوله: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران:131] ليس فيه حجة للمرجئة الذين يقولون: لا يدخل النار مؤمن ولو عصى، لأن النار قد أعدت للكافرين ابتداء وأصلاً، فهم أهلها الأصليين، وأما المؤمنون فوجودهم في النار عارض، وليس وجوداً مستقراً مستمراً، وإنما أناس أصابتهم النار بذنوبهم، فأماتهم الله عز وجل إماتة، ثم يخرجهم من النار سبحانه وتعالى ويحييهم.

حصول الرحمة بطاعة الله ورسوله

حصول الرحمة بطاعة الله ورسوله قوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران:132] إن طاعة الله وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ليس كما يقال: إنها تؤدي إلى المفاسد والضنك، أو إلى الشقاء والتعاسة والمتاعب، وإنما هي من أسباب النصر والفلاح، ومن أسباب الرحمة في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [آل عمران:132] وهذه الرحمة ذكرت مطلقة، فهي رحمة في الدنيا والآخرة، فيرحم الله سبحانه وتعالى من أطاعه وأطاع رسوله صلى الله عليه وسلم، فهل يتصور أن من أقبل على الله عز وجل وأطاعه، وأقبل على رسوله صلى الله عليه وسلم وأطاعه، أن يشقيه الله عز وجل؟ وهل يتصور ذلك من الرحمن الرحيم سبحانه وتعالى؟! أيها المؤمن! مهما حذرت من طاعة الله عز وجل وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن الالتزام بالدين، وما سوف يترتب على ذلك من المتاعب والاضطهاد والأذى، ومن ضياع المصالح الدنيوية، فتأكد أن كل ذلك من خداع الشيطان، فإنك إنما أمرت بهذه الطاعة لترحم، قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران:132]، وطاعة الله لا تأتي إلا بالخير، ومعصية الله لا تأتي إلا بالشر، ولا يتصور غير ذلك كما أخبرنا ربنا عز وجل، فهو يبتلي عبده المؤمن ليرحمه، فإذا أصابه بما يؤلمه فإنما فعل ذلك لينعمه وليكرمه وليرفع درجته، وهو سبحانه وتعالى جعل الرحمة مرتبطة بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وجعل الشقاء والضنك لمن أعرض عن ذكره وعن متابعة رسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال عز وجل: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124]. فكل رحمة وصلت إلى العباد فمن أسبابها طاعة الله عز وجل، وإلا فالرحمة من الله سبحانه وتعالى أكثر من أن يحصيها العباد، ولكن من أعظم أسبابها: الطاعة لله وللرسول صلى الله عليه وسلم، والشقاء الذي يصيبهم من أعظم أسبابه: معصية الله ومعصية الرسول صلى الله عليه وسلم.

المسارعة إلى مغفرة الله والجنة

المسارعة إلى مغفرة الله والجنة ثم أمر الله عز وجل عباده بطلب الجنة، وهذا أمر لا بد أن نتنبه لأهميته، قال تعالى: ((وَسَارِعُوا)) وليس فقط أن تطلب الجنة وتريدها، أو أن تدعو إليها فقط، وإنما تسارع: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133]، وكما في الآية الأخرى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} [الحديد:21]. فلا بد أن تستشعر بأنك في سباق، ولا بد أن تبذل كل ما عندك لكي تصل إلى الجنة، وليس فقط أن تطلبها بضعف، أو أن تطلبها وكأن الأمر قد برم لك، فأنت تسير سيراً متمهلاً لا يقلقك ولا يزعجك فوات وضياع هذا الذي تريد، لا، بل إنما ترجو طلب الخير وتخاف أن يفوتك، ولذا فأنت تسارع في الخير، وفي نفس الوقت تسابق غيرك. وليست هذه المسابقة فقط بأن تنظر إلى من حولك من المطيعين، بل انظر إلى من حولك ممن سبقك، وهذه هي المنافسة عبر العصور التي يستحضرها أهل الإيمان الكمل. فهذا موسى عليه السلام يبكي حينما رفع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فوقه، فقال: (غلام أرسلته من بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخل من أمتي!) أو كما قال عليه الصلاة والسلام. وهؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم عندما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث -وإن كان فيه مقال-: (للعابد في أيام الفتن أجر خمسين، قالوا: خمسون منا أو منهم؟ فقال: بل منكم). فانظر إلى هذه المنافسة والمسابقة العجيبة! رغم أنهم لم يأتوا بعد، ومع ذلك فهم يريدون ألا يكون أحد أسبق إلى الخير منهم، قال تعالى: ((وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ)). وهذه المسارعة إلى المغفرة وإلى الجنة لابد أن تظهر في سلوك كل مسارع، فلا يترك خيراً يفوته أبداً، ولذا فسرها السلف رضوان الله عليهم بتفسيرات رائعة جميلة: قال أنس رضي الله تعالى عنه كما حكى القرطبي عنه في تفسير قوله: ((وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ)) أي: إلى تكبيرة الإحرام. وقال غيره: إلى الجهاد، وقال آخر: إلى النفقة في سبيل الله، وكل منهم يذكر شيئاً ينبغي أن يسارع الإنسان فيه، ويذكرون ذلك على سبيل المثال لا على سبيل الحصر، فإن كل عمل من أعمال الخير لابد أن تسارع فيه وتسابق غيرك. وهذا أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه يمشي مع بعض الصحابة، فلا يلمح مسلماً آتياً إلا ابتدره بالسلام قبل أن يسبقه فيسلم عليه، ثم قال للصحابي الذي يمشي معه: ما لي أراك يسبقك الناس إلى الخير؟! فانظر إلى هذه المسابقة منه رضي الله عنه! وهو السابق من هذه الأمة، ومع ذلك يسابق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ويحرص على أن يبتدر من يلقاه بالسلام قبل أن يبتدره الآخر، فهو يريد الحصول على الفضيلة. فانظر إلى نفسك هل تجد في نفسك هذا الحرص، وأنت تلحظ هذه المسابقة والمسارعة في أمر يسير جداً يقع في حياة المسلم كل يوم مرات عديدة؟ إن المسابق والمسارع هو الذي يستشعر مدى خطر تعرضه لعقاب الله، وخطر فوات الجنة التي عرضها كعرض السماء والأرض، فيسارع في كل خير ويبادر إليه، لذا فلا ينبغي أن نكون دائماً من المتأخرين عن حضور صلاة الجماعة حتى تفوتنا تكبيرة الإحرام، أو أن نصلي جماعة ثانية، وقد رغب النبي صلى الله عليه وسلم في التبكير والتهجير، فقال: (لو يعلم الناس ما في التهجير والعتمة لأتوهما ولو حبواً). والتهجير: أن يأتي في الهاجرة قبل الزوال ليحضر صلاة الظهر، والوقت الذي بين الأذان والإقامة من أوله، فانظر إلى هذا الخير العظيم، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزال أقوام يتأخرون حتى يؤخرهم الله) ونسأل الله ألا يؤخرنا عن طاعته، لكن الإنسان صاحب الهمة العالية يسارع إلى مغفرة الله عز وجل، ويبحث عن كل حسنة يتقرب بها إلى الله، فيسارع إلى طلب العلم، ويسارع إلى النفقة في سبيل الله، ويسارع إلى الجهاد في سبيل الله، ويسارع إلى حضور الجماعة في أولها، ويسارع إلى الجمعة، ويسارع إلى كل أبواب الخير، ولا يرضى بأن يسبقه إلى الله عز وجل أحد. فهذا أحد التابعين عندما رأى رؤية فقصها على أحد السلف -وأظنه مالك بن دينار - فقال: رأيت أن منادياً قد نادى: هلموا إلى الجنة، فلم يقم إلا محمد بن واسع، فغشي على مالك بن دينار أو غيره عندما سمع هذه الرؤيا؛ خوفاً من أن يكون غيره قد سبقه إلى الله عز وجل، فهو يريد أن يكون هو السابق إلى الله. والمسابقة والمسارعة تؤدي إلى مزيد من الترابط بين أفراد المجتمع المسلم، فهي ليست كالمسابقة والمنافسة على الدنيا التي تؤدي إلى التباغض والحسد والضغينة، وإنما تؤدي إلى مزيد من الحب والود، كما كان حال أبي بكر وعمر وهما يتنافسان في طاعة الله عز وجل، ومع ذلك كان كل منهما شديد الحب لصاحبه. وهكذا كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يتسابقون إلى الخير، ومع ذلك يزدادون حباً لبعضهم البعض، فإذا وجدت مسابقة ما أو مسارعة ما، ثم يعقبها نوع من الحسد والضغينة والبغضاء فتأكد أن الدنيا من وراء ذلك، وليست هي المسارعة إلى الآخرة؛ لأن المسارعة إلى الآخرة تزيد من الإيمان والحب في الله، ومعنى الحب: أنك تحب أخاك لأنه يطيع الله عز وجل، فإذا علمت أنه يسارع مثلك إلى طاعة الله، ويسابقك إلى طاعة الله عز وجل وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ازددت له حباً؛ لأن الله جبل قلوب أهل الإيمان على محبة من يطيع الله عز وجل، كلما ازداد الإيمان ازداد الحب في الله، والإيمان يزداد بالطاعة فتزداد المحبة، وتقل المحبة لقلة المنافسة على الخير، وإن أخذ صورة في الظاهر أنه يسارع إلى الخير ولا يوجد من يسابقه، ولو كان كذلك لأدى إلى زيادة المحبة بإذن الله تبارك وتعالى. لكن لماذا يقع التنافس المذموم؟ ولماذا يقع التحاسد والتباغض والتفرق؟ بسبب دخول الدنيا تحت ستار المسارعة إلى الخير، فلا بد أن ننظر في هذه المسألة جيداً، وننظر في همتنا، فإن الله لم يأمرنا فقط بطلب المغفرة بل أمرنا بالمسارعة إليها، ولم يأمرنا فقط بطلب الجنة بل بالمسارعة والمسابقة إليها، قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران:133]. وانظر وتأمل في كيف كان حال أهل الإسلام في غزواتهم الكبرى التي أدت إلى حصول النصر العظيم؟! من المسابقة والمنافسة على الخير، فقد تنافس الناس بالأذان وتسابقوا فيه، فأقرع بينهم سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه، فخرجت القرعة لأحدهم فأذن، وصدق النبي صلى الله عليه وسلم إذ يقول: (لو يعلم الناس ما في الأذان ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا عليه) وبالفعل لم يكن هناك وسيلة لتحديد من يؤذن إلا الاستهام، فأقرع بينهم سعد فخرجت قرعة أحدهم فأذن. فلننظر في أحوالنا لماذا تأخرنا رغم أننا نؤدي ما ينبغي علينا أن نؤديه؟ أم لأننا فعلاً نسارع إلى أنواع من نعيم الدنيا ولذاتها ورغباتها، ونترك غيرنا يسبقنا إلى الله عز وجل، فننفق الأوقات الطوال في غير منفعة، وفي غير مسارعة إلى الجنة وإلى المغفرة من الله سبحانه وتعالى.

صفات المتقين

صفات المتقين

الإنفاق في السراء والضراء

الإنفاق في السراء والضراء ثم ذكر الله عز وجل جملة من الأعمال التي هي من صفات المتقين المسارعين إلى المغفرة وهي: قوله تعالى: ((الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ)) والنفقة في السراء والضراء علامة على بذل الإنسان لنفسه وماله في سبيل الله، وعلامة على حبه الصادق لله عز وجل، وليس فقط يعبد الله على حال واحده، ويترك العبادة على الحال الآخر، بل إنه ينفق في كل الأحوال، ويعبد الله سبحانه وتعالى بكل أنواع العبادة، فلا يحجزه حاجز عن التعبد لله سبحانه وتعالى، وليس هناك إطار محدد لا يستطيع أن يعبد الله خارجه، لا، بل هو يعبد الله بكل ما تيسر له من أنواع العبادة وعلى أي حال. قوله: ((الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ)) والنفقة في الضراء أعظم ثواباً عند الله من النفقة في السراء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سبق درهم مائة ألف درهم قالوا: وكيف؟ قال: كان لرجل درهمان فتصدق بأحدهما، وانطلق رجل إلى عرض ماله فأخذ منه مائة ألف درهم فتصدق بها) فسبق الدرهم مائة ألف درهم، وذلك أنه أنفقه في الضراء. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اتقوا النار ولو بشق تمرة) وبالفعل فقد تصدق بعض أصحابه رضي الله عنهم بشق تمرة، ولم يكن عندهم غيرها، وذلك لشدة حرصهم على الخير، وكان أصحاب الصفة رضي الله عنهم يحاملون على ظهورهم بالنهار، ثم يتصدقون ويكفون أنفسهم عن السؤال، ويقومون بالقرآن في الليل. فلذلك سبقوا إلى الله سبحانه وتعالى هذا السبق العظيم، ولم يكن عندهم مسكن ولا أهل ولا مال، ومع ذلك كانوا يعملون حمالين، وتخيَّل إنساناً لا يجد عملاً إلا أن يحمل على ظهره، كأن يسقي الماء مثلاً، أو يحمل أثقال الناس على ظهره، وهو من قراء القرآن الذين يقومون بالليل، ثم يجهدون بالنهار لكي يتصدقوا وهم فقراء. وهذه شربة لبن يصف أبو هريرة رضي الله عنه حاجته إليها، فيأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو أصحاب الصفة جميعاً ليشربوا من شربة لبن -سبعين أو ثمانين رجلاً- فشربوا جميعاً من شربة واحدة؛ لأنه لم يكن عندهم شيء، ومع ذلك يحرصون على الصدقة. وقد جاء بعض الصحابة بصاع من شعير ليتصدق به، فكانوا يجتهدون في النفقة في سبيل الله على كل حال، فلا ينفقون في السراء دون الضراء، وإنما ينفقون في السراء والضراء، وأقل من ذلك من ينفق في السراء، ويمسك في الضراء، وأسوأ الأحوال من يمسك في السراء والضراء والعياذ بالله! وذلك أنه في الضراء في هم الفقر والحاجة، وفي السراء في بخل الغنى والحرص على المزيد، وأكثر الناس كذلك، أكثر الناس كما وصف الله: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ} [المعارج:19 - 22]، فلابد أن يعود الإنسان نفسه على النفقة، وأن ينفق ولو شيئاً يسيراً. وقد كان بعض السلف يتصدق بأي شيء كل يوم، ولو لم يجد إلا بصله، فكان يجعلها في كمه ويقول: يا الله! لم أجد غيرها، فيأتي فيجعلها في كف المسكين، وما أيسر أن يتصدق الإنسان بهذا الشيء، ولكن الشيء العظيم أن يعود الإنسان نفسه على البذل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تحقرن من المعروف شيئاً، ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي) أي: يفرغ من إنائه الذي هو ملآن شيئاً يسيراً، لكنه شيء يؤدي إلى الحب والود، ويعود الإنسان على البذل والعطاء، ويؤكد صدق حبه لله عز وجل، فهذه سلوكيات مهمة جداً لا بد أن نهتم بها ونسعى إليها. وفي الحقيقة أن النفقة في سبيل الله تحرر الإنسان من أسر الناس، وتحرره من شح النفس، وتعبده لله وحده لا شريك له، وترفعه فوق روابط الأرض وجاذبيتها التي تمنع روحه من الانطلاق، فإذا تصدقت وأنفقت وكنت محتاجاً فهذه أفضل الصدقة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصدقة جهد المقل) والمقل: من ليس معه مال ومع ذلك يبذل جهده في أن ينفق في سبيل الله.

كظم الغيظ

كظم الغيظ سلوك آخر: ((وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ)) فليس الجود بالمال فقط، بل بالسلوك والمعاملة، وكظم الغيظ أن تكظم غيظك ولا تنفذه فيمن تقدر على إنفاذه فيه ممن جعلك الله فوقهم منزلة أو سلطاناً، وليس الحلم أن تحلم مع الأقوياء، وأن تحلم مع من هو فوقك وتتأدب معه بأنواع الأدب، وأن تسيء الخلق وتتكبر وتستعلي على من هم تحتك، فهذا والعياذ بالله من أسوأ الأخلاق، بأن يكون الإنسان ضعيفاً مع القوي، ومتقوياً مع الضعفاء، وإنما كظم الغيظ: أن تكون قادراً على إنفاذه فتكظمه لله سبحانه وتعالى، وهذه سلوكيات مهمة لو تمسكنا بها لانحلت عنا معظم المشكلات في داخل البيوت وخارجها، وفي المعاملات المادية والاجتماعية وغيرها؛ لأن أكثر الناس إذا ركبهم الغيظ تسلط عليهم الشيطان، وتحكم فيهم أعظم التحكمات، ولذا لو نظرت إلى حال الناس في نزاعاتهم وصراعاتهم لوجدت أنواع البلايا والمصائب تخرج من أفواههم وأيديهم بسبب الغيظ والغضب، ولوجدت سفك الدماء، وقطع الأرحام، وأنواع السباب والفسوق والعصيان، وأحياناً قد تجد كفراً والعياذ بالله! -يغيظه غيره فيسب الدين- وقذف الآباء والأمهات، وسل السلاح على إخوانه المسلمين. ومن ينظر في وسط المجتمعات الإسلامية يرى العجب مما يفعله الغضب والغيظ في أصحابه، وما يؤدي إلى المفاسد العظيمة التي تدمر المجتمع، وليس مجتمع الملتزمين بخال من ذلك، بل ما أكثر ما يقع -كما ذكرت- داخل المنازل من الخلافات الزوجية، وهذا أمر لا بد أن يكظم الإنسان فيه غيظه، فالأهل أولى الناس بحسن الخلق كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي) فليس كل خطأ تراه في البيت يفجر عندك بركان الغضب والغيظ، بل لا بد أن تكظم غيظك، وكذا الأولاد والمربون، فلو استعملنا الحلم لزال عنا كثيراً من المنازعات والخصومات، وما يترتب على هذه الخصومات من ضياع هائل للأوقات، ومفاسد عظيمة تجر إلى غليان القلب -على الأقل- بأنواع الإرادات الفاسدة والعياذ بالله! قوله تعالى: ((وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ)) دخل عيينة بن حصن -وكان من المؤلفة قلوبهم- على عمر رضي الله عنه، وكان الحر بن قيس ابن أخيه من القراء، ومن أصحاب مجلس عمر رضي الله تعالى عنه، فقال عيينة بن حصن لابن أخيه: يا ابن أخي! لك وجه عند هذا الأمير فاستأذن لي عليه، وبراً بعمه استأذن له الحر بن قيس رضي الله تعالى عنهم، فأذن له، فدخل عليه عيينة فقال: هيه يا ابن الخطاب! والله ما تحكم فينا بالعدل، ولا تعطينا الجزل والعياذ بالله! فغضب عمر رضي الله تعالى عنه، فقال الحر بن قيس: يا أمير المؤمنين! إن الله عز وجل يقول: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] وهذا من الجاهلين، فما تجاوزها عمر رضي الله تعالى عنه، وكان وقافاً عند كتاب الله. فتأمل هذا الغيظ الذي كظمه عمر وعفا عنه ولم يؤدبه! وقارن بين هذا الموقف وبين موقف أي شخص من كبراء أهل زماننا، ومن له سلطان على غيره دون سلطان أمير المؤمنين، أو دون سلطان رئيس الدولة بمراحل، وهل كان سيسمح بمثل هذا أو يعفو عمن فعل ذلك؟! ويكظم عمر غيظه في هذا المقام أمام الناس، وابن عيينة يقول له: هيه يا ابن الخطاب! فيقول لنفسه: يا ابن الخطاب! تصغيراً لـ عمر، وأمير المؤمنين لا يخاطب بهذا، ومن يحكم بالعدل إن لم يحكم به عمر رضي الله تعالى عنه؟! ومن يعطي بالجزل إن لم يعط عمر وقد فتحت الفتوحات العظيمة في زمنه؟! فهذا الأمر: كظم الغيظ والعفو عن الناس من صفات أهل الإيمان العظيمة التي يسهل بسببها التعامل معهم، ويقترب منهم الناس، وتفتح لهم قلوب الخلق، فيدخل فيها الإيمان بإذن الله تبارك وتعالى من خلال هذا السلوك الرائع، العفو عن الناس، ومن عفا عفا الله عز وجل عنه، كما قال تعالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22].

الإحسان إلى الخلق

الإحسان إلى الخلق قال تعالى: ((وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)) وهذه زيادة، وذلك أنه إذا كظم الإنسان غيظه، فربما كظمه في وقتٍ وأجل الانتقام لوقت آخر، فأتى بـ ((وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ)) فهو لا يكظمه الآن لينتقم غداً، وإنما يعفو، وليس فقط يعفو، بل ويحسن إلى من أساء إليه، فهو يعفو ويصفح ويزيد، وهذا كله من الإحسان الذي جعل الله جزاءه الإحسان، وكل هذا منبعه من كمال العبودية لله عز وجل. إن الأخلاق الإنسانية مرآة عقيدة القلب، والأخلاق السوية التي أمر الله عز وجل أن نتعامل بها فيما بيننا مرآة تكميل عبوديتنا لله حتى كأننا نراه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير الإحسان: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) وهذا هو الإحسان الذي يملأ القلب غنىً بالله عز وجل، ومع ذلك فإن القلب مفتقر فقراً شديداً إلى عبودية الله عز وجل، وإلى الحب، والخوف، والرجاء، والتوكل، والإنابة، والشكر، والصبر، وسائر أنواع العبودية، فإذا عبد الله كأنه يراه اكتملت في القلب أو زادت واقتربت من الكمال أنواع العبودية، فحصل غنىً لهذا القلب؛ لأن طاقة القلب هي العبودية التي لا يسدها أي شيء آخر، إلا أن يكمل عبوديته لله، فكلما ازداد عبودية لله عز وجل واستحضاراً لعظمة الله عز وجل في قلبه ازداد قلبه غنىً، وعند ذلك سهل عليه أن يتعامل بهذا الإحسان، بأن يعفو عمن ظلمه، ويعطي من حرمه، ويحسن إلى من أساء إليه. فهذه هي الأخلاق العظيمة التي لا بد أن يتخلق بها المؤمن عموماً، والداعي إلى الله عز وجل خصوصاً، قال تعالى: ((وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)) وهذا من أعظم الترغيب في الإحسان إلى خلق الله، وهو ثمرة الإحسان في عبادة الله عز وجل؛ لأن الغني يسهل عليه أن يسامح في حقه، بل ويبذل ويجود، ويعطي إلى من أساء إليه؛ لأنه غني. وهذا مثل رجل مليونير حصلت بينه وبين الناس مشاجرة على ربع جنيه، فالناس يريدون أخذه منه وهو ملكه، فماذا يعمل؟ يتركه لهم، لأنه عيب أن يتضارب مع الناس من أجل ربع جنيه. وهكذا هو حقك الدنيوي، فلو كنت غنياً بالله عز وجل لسهل عليك أن تتنازل عنه، ولا تقل: فلان قصر في حقي، بل أنت لا ترى لنفسك حقاً على الناس أصلاً، لأنهم لو أحسنوا إليك فذلك كرم منهم، وفي الحقيقة إنما يحصل ذلك لمن انشغل بما هو أعلى من ذلك، وإنما يذهل عن التفكير في الحجر والخشبة من انشغل بنظره وقلبه بملك الجوهرة، أما من امتلأ قلبه بحب الله عز وجل هان عليه كل ما يقصر في حقه، بل هو لا يرى لنفسه حقاً، ولا يخاطب إلا في حق الله عز وجل. وهكذا كان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو ما انتقم لنفسه قط إلا أن تنتهك حرمة من حرمات الله، وما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده امرأة ولا خادماً إلا أن يجاهد في سبيل الله صلى الله عليه وسلم. إذاً: فأعظم ترغيب في خصلة الإسلام هو قوله تعالى: ((وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)) فالمؤمن يبحث عما يحبه الله عز وجل، وهذا هو الذي يجعل قلبه يرتجف توقاً إلى الله سبحانه وتعالى، وتوقاً إلى حبه، وهذا هو الذي يدفع المؤمن أعظم من طلبه الجنة، فهو يطلب أن يحبه الله سبحانه وتعالى أعظم من أي شيء، قال تعالى: ((وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)).

محاسبة النفس والاستغفار

محاسبة النفس والاستغفار ثم صفة أخرى من صفات أهل الإيمان، وهي: محاسبة النفس، والاستغفار، والمراجعة، وعدم إهمال النفس على ما فيها من أمراض. إن المعاصي والذنوب والفواحش إنما هي دلالات على انحراف في داخل الإنسان أدى إلى ظهور خلل في العمل؛ لأن هناك تلازماً وارتباطاً مثيلاً بين الظاهر والباطن. ولذلك فالمؤمن دائماً يفتش في نفسه، ويبحث عن أمراضه، ولا يسير في هذه الدنيا تائهاً لا يدري فيما عقل، ولا يدري فيما أطلق، بل دائماً يحاسب نفسه، قال تعالى: ((وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ)) فالذكر يؤدي إلى مراجعة النفس في الفواحش، وإلى مراجعة النفس في ظلمها لنفسها، وفي ظلم العبد لنفسه، قال تعالى: ((ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ)) وإذا كانت الصلاة ذكراً لله فإنها تذهب السيئات، فلماذا لا تثمر هذه الصلاة عند أكثرنا إن لم يكن عندنا جميعاً هذا الأثر؟! لأنها خلت من ذكر الله، والذكر هو: حضور المذكور في قلب الذاكر، ثم التعبير عن ذلك باللسان، وليس تحريك اللسان فقط، لذلك فذكر الله عز وجل يؤدي إلى توبة الإنسان الدائمة، قال تعالى: ((وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ)). فلا بد أن تراجع نفسك وتحاسبها، وتفتش عن أمراضها وتبادر بعلاجها، ولا تترك الأمراض تستشري فتقع في أنواع المفاسد والبلايا وتسلط العدو، لأن هناك ارتباطاً وثيقاً بين هذه المعاني وبين الهزيمة من الأعداء، لذا كانت هذه الآيات في أثناء سياق غزوة أحد، فمن الأهمية بمكان أن ننتبه لهذا المعنى، وهذه الصفات والمعاني عندما توجد فينا عندها ننتصر على عدونا، قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] فهو يعلم صفات ربه عز وجل، ويعلم أنه لا يغفر الذنوب إلا هو سبحانه وتعالى، وأنه يأخذ بالذنب؛ وهذا يدفعه إلى الاستغفار والتوبة إلى الله عز وجل، والاستغفار إذا أطلق فالمقصود به المقترن بالتوبة؛ لأن الاستغفار بغير توبة ناقص، وإذا وجد استغفار باللسان مع استهتار القلب بالذنب فهذا ذنب يضاف إلى ذنبه، كما قال بعض السلف: استغفارنا يحتاج إلى استغفار. وقال بعضهم: المستغفر وهو مصر على ذنبه كالمستهزئ بربه. وهذا كمثل إنسان تقول له: اتق الله ودع هذا الفعل المحرم، فيتناوله ويقول لك: سوف نستغفر الله، فهو يرى أنه قد أدى حق الله عليه وزيادة؛ لأنه قال: سوف أستغفر الله، وهذا حال الجاهل الذي يمن بالقبيح والناقص، قال تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا} [الحجرات:17] فهو إسلام ظاهر بلا إيمان باطن ويمنون به! وأهل الإيمان الكمل يعرفون كيف يشكرون نعمة الله، ولا يمنون بها أبداً، لكن هذا حال الجاهل الضال، إما لزوال الإيمان أو لنقصه في قلبه، فيرى أنه لو استغفر الله فقد أدى ما عليه وزيادة، ولذلك هذا الاستغفار يحتاج إلى استغفار، لأنه كالمستهزئ بربه عز وجل. وكثير منهم يستغفر أثناء ممارسة الذنب، لا على سبيل طلب المغفرة بل على سبيل السخرية ممن يأمره بالاستغفار، فهذا بلا شك استهزاء والعياذ بالله! أما أهل الإيمان فهم يستغفرون الله عز وجل لذنوبهم، مع اقتران ذلك الاستغفار بالتوبة إلى الله عز وجل، ولذا ذكر كل واحد منهما كما في قوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [هود:90] فالاستغفار لما مضى، والتوبة للعزم والثبات على الطاعة في المستقبل، وعلى ترك المعصية في المستقبل، أو قد يقال: إن التوبة عمل القلب، والاستغفار عمل اللسان، فالاستغفار: طلب المغفرة، والمغفرة: الوقاية من أثر الذنب، فيطلب أن يستره الله فلا يفضحه، ومن ستره الله عز وجل في الدنيا ولم يفضحه فذلك من علامات إرادة الله بالعبد خيراً في الآخرة، وأن يغفر له ذنوبه. وهذه الآية فيها ذكر عدم الإصرار، فدل على أن هذا مصطلح شرعي قرآني، فلابد من العزم على ألا يعود إلى الذنب، والله قد نفى عن المؤمنين الإصرار. وقد ورد عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار، وهذا القول عليه أكثر أهل العلم، فالإصرار على الصغيرة يلحقها بالكبيرة؛ لأن الله وصف أهل الإيمان بأنهم لم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون. والإصرار غير الاستحلال والإباء والتكرار، فكثير من الناس تختلط عليه هذه المصطلحات، لأن بعضها مصطلحات وردت في الكتاب والسنة، وبعضها مصطلحات استعملها أهل العلم كالاستحلال مثلاً، فالاستحلال لفظ استعمله أهل العلم استنباطاً من الكتاب والسنة، وهو: اعتقاد العبد حل الذنب مع بلوغه الحجة، وهذا الاستحلال -حتى ولو لم يفعل الإنسان ذنباً مكفراً- يجعل العبد يخرج من الملة، فإذا استحل ما قامت عليه به الحجة بأن الله حرمه، أو استحل ترك ما بلغته الحجة أن الله أوجبه، فهذا والعياذ بالله كفر. والإباء مصطلح شرعي، قال عز وجل: {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34] وهو: رد الحق ورفض الانقياد القلبي له والعياذ بالله! فهو يرده ولا يقبله، ولا يخضع لأمر الله عز وجل، فهو قد علم أمر الله ولكنه لا يقبل أن ينقاد له، فهو ليس عنده قبول وانقياد باطن، وهذا مثله كمثل إبليس الذي قد علم أن الله أمره بالسجود لآدم، كما في قوله: {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} [الإسراء:62]، فهو يعلم أن الله قد كرم آدم عليه، وأمره بالسجود له، ومع ذلك {قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ} [الحجر:33]، فرفض شرع الله وأمره، وما أكثر من يرى أن أمر الله لا يلزمه حتى ولو علمه! فالإباء يكون مع علم القلب، والاستحلال يكون مع زوال علم القلب، أي: أنه لا يصدق أن الله حرم كذا، أو أوجب كذا، مع قيام الحجة عليه، وإعراضه كان هو سبب استحلاله للحرام، أو استحلاله لترك الواجب الذي قد بلغته حجة وجوبه، فهذا يزول معه علم القلب وتصديقه بأن الله أوجب كذا أو حرم كذا، أما الإباء فيكون معه علم بأن الله عز وجل أوجب، وأن الله عز وجل حرم، ثم يرى أن أمر الله لا يلزمه نعوذ بالله من ذلك، كإبليس وغيره من الرافضين لشرع الله سبحانه وتعالى، الآبين المستكبرين، والاستحلال والإباء كفر والعياذ بالله. أما الإصرار فليس بكفر إذا لم يكن الذنب مكفراً، فهو ليس له علاقة بالكفر ابتداءً، لكن يزيد في العقوبة، وليس هو الذي يجعل الذنب مكفراً، والإصرار معناه: العزم على ألا يتوب، وهذا الإصرار يعرفه الإنسان من نفسه أولاً، بأن يعزم أن يرجع إلى الذنب متى ما قدر عليه حتى ولو كان لا يباشره الآن، بل ربما لم يفعله من قبل، ولكنه عازم عليه، فهو كالحريص على قتل صاحبه، فهو في النار عقوبة له على عزمه الأكيد، وأخذه بالأسباب التي يقدر عليها في قتل أخيه، ولذلك يعاقب معاقبة القاتل وكأنه قتل، وإن كان ربما أقل منه في الدرجة، إلا أنه معه في النار والعياذ بالله، وكأصحاب الجنة الذين أقسموا ليصرمنها مصبحين ولا يستثنون، فهذا إصرار على معصية؛ لأنه عزم عزماً أكيداً، ولا يحدث نفسه بالتوبة والرجوع إلى الله عز وجل. والإصرار يجعل المصر الذي تقول له: تب إلى الله، فيقول: أنا لا أستطيع أن أمتنع عن الذنب، وسوف أظل على هذا الذنب، وأنا عاجز عن التخلص منه، وهو ليس بعاجز، فهو قادر على أن يتوب ويقلع عما هو فيه؛ لأنه مكلف به، أو يقول: لن أتوب الآن، وحتى ولو قال: إلى أن أموت، فهذا ليس بكافر، خلافاً لأهل البدع الذين قالوا: من عزم في قلبه على أن يظل مصراً على الذنب إلى أن يموت فهو كافر والعياذ بالله، ومخلد في النار، وهذه من ضلالات المعتزلة والخوارج وأشباههم ممن سار على طريقتهم. وقد يكون إصراره مع تكرار الذنب، وقد يكون مع عدم تكراره، فالذي يعزم أن يعود إلى الذنب فإنه مهما أمكنه ذلك ولو كان الآن مقلعاً عنه فهو مصر. ومن تكرر منه الذنب وهو عازم على أن يعود فهو مصر، لكن إن تكرر منه الذنب وهو يتوب بين الذنب والآخر، فهذا متكرر منه الذنب، فهذا ليس بمصر طالما أنه يجدد التوبة إلى الله سبحانه وتعالى. والدليل على عدم تكفير المصر على المعصية ولو كانت كبيرة إلا أن تكون كفراً قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] فعلَّق المغفرة فيما دون الشرك على المشيئة. ولو كان الأمر متعلقاً بالإصرار وعدم التوبة لما كان التائب من الشرك مغفوراً له، لو قلنا: إن معنى الآية ((وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)) أي: لمن تاب، ولكان معنى الآية: إن الشرك لا يغفر نهائياً ولو تاب؛ لأنه قسم إلى: شرك وما دون ذلك، إذاً: الشرك لا يغفر، وما دون ذلك يغفر الله لمن يشاء. وعلى هذا فالتعليق على المشيئة في قوله: ((وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)) هل هي في التائب أو في غير التائب؟ في غير التائب، والآية نص في الرد على الخوارج والمعتزلة الذين يكفرون المصر على السيئة، وهذا هو الفرق بين أهل السنة وبين المبتدعة من الخوارج والمعتزلة، إذ أن الخلاف ليس فقط في ارتكاب الذنب، وإنما الخلاف والنزاع فيمن مات مصراً، وإلا فإن الخوارج يقولون: إن التائب من الذنب والكبيرة مسلم وقد يغفر له، والمعتزلة يقولون ذلك، فلا أحد يشك في التائب، وإنما المنازعة فيمن مات مصراً، ولذلك فإن هناك فرقاًَ بين الإصرار وبين الاستحلال؛ لأن البعض يحصل عنده خلط في ذلك، فيرى أن الذي تقول له: تب إلى الله، ويقول لك: لا، لن أتوب الآن، فأنا لا أقدر على ترك الذنب، وأنا مستمر على ما أنا عليه، ودعك مني أجعلت علي رقيباً؟! فيتجرأ ليكفره فيقع في الضلال، الذي هو شر من ضلال الإصرار على الذنب، فإن البدعة شر والعياذ

أهمية العمل الصالح

أهمية العمل الصالح قوله عز وجل: {أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران:136] فيها دليل على أهمية العمل وأنه من الإيمان، وأنه سبحانه وتعالى، يرفع منازل العباد في الجنة بأعمالهم، قال تعالى: ((وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ)). قوله سبحانه وتعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [آل عمران:137] قال الإمام ابن كثير رحمه الله: يقول تعالى مخاطباً عباده المؤمنين الذين أصيبوا يوم أحد، وقتل منهم سبعون: ((قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ)) أي: قد جرى نحو هذا على الأمم الذين كانوا من قبلكم من أتباع الأنبياء، ثم كانت العاقبة لهم والدائرة على الكافرين. ولهذا قال تعالى: ((فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)). ثم قال تعالى: ((هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ)) أي: أن القرآن فيه بيان الأمور وتجليتها، وكيف كان الأمم الأقدمون مع أعدائهم. قوله تعالى: ((وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ)) أي: أن القرآن فيه خبر من قبلكم، وهدى لقلوبكم. قوله: ((وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ)) أي: زاجر عن المحارم والمآثم.

تسلية الله للمؤمنين في الآيات

تسلية الله للمؤمنين في الآيات ثم قال تعالى مسلياً للمؤمنين: ((وَلا تَهِنُوا)) أي: لا تضعفوا بسبب ما جرى. {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139] أي: العاقبة والنصرة لكم أيها المؤمنون. {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} [آل عمران:140] أي: إن كنتم قد أصابتكم جراح وقتلت منكم طائفة، فقد أصاب أعداءكم مثل ذلك كما حصل يوم بدر، فقد قتل من المشركين سبعون وأسر سبعون. قال تعالى: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] أي: نديل عليكم الأعداء تارة، وإن كانت لكم العاقبة لما لنا في ذلك من الحكمة. ولهذا قال تعالى: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} [آل عمران:140] قال ابن عباس: (ليعلم) أي: لنرى وليبين أنه ليس علماً مستأنفاً جديداً لم يكن معلوماً من قبل، بل هذا علم مشاهدة بعد أن كان علم غيب، والله عالم الغيب والشهادة، يعلم ما في غد، فإذا وقع وشهده سبحانه وتعالى واقعاً علمه واقعاً، لهذا قال ابن عباس في مثل هذه الآيات: لنرى من يصبر على منازلة الأعداء. قوله: {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} [آل عمران:140] أي: يقتلون في سبيلي، ويبذلون مهجهم في مرضاتي. قوله: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} [آل عمران:140 - 141] أي: يكفر عنهم من ذنوبهم إن كانت لهم ذنوب، وإلا رفع لهم في درجاتهم بحسب ما هو فيهم. قوله: {وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:141] أي: إنهم إذا ظفروا بغوا وبطروا، فيكون ذلك سبب دمارهم وهلاكهم ومحقهم وفنائهم، نسأل الله أن يمحق الكافرين. ثم قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:142] أي: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولم تبتلوا بالقتال والشدائد، كما قال تعالى في سورة البقرة: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214]. وقال تعالى: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:1 - 3]. فلهذا قال هاهنا: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:142] أي: لا يحصل لكم دخول الجنة حتى تبتلوا، ويرى الله منكم المجاهدين في سبيلي، والصابرين على مقاومة الأعداء. وقوله: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [آل عمران:143] أي: قد كنتم أيها المؤمنون! قبل هذا اليوم تتمنون لقاء العدو، وتتحرقون عليهم، وتودون أن لو تنالوا منهم، فقد حصل لكم الذي تمنيتموه وطلبتموه، فدونكم فقاتلوا واصبروا. وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى قال: (لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف). فلهذا قال تعالى: ((فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ)) أي: الموت، وشاهدتموه وقت لمعان السيوف، وحد الأسنة، واختلاس الرماح، وصفوف الرجال للقتال، والمتكلمون يعبرون عن هذا بالتخييل، يتخيل الموت أمامه! وهو: مشاهدة ما ليس بمحسوس كالمحسوس، كما تتخيل الشاة صداقة الكلب وعداوة الذئب، أي: تحس بها وتدركها بهذا النوع من التخييل. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وقفات مع قصة يوسف عليه السلام

وقفات مع قصة يوسف عليه السلام إن قصة يوسف عليه السلام من أعظم القصص التي ذكرها الله عز وجل في كتابه، وفيها عظات وعبر عظيمة للشباب الذي تواجهه اليوم كثير من أسباب الانحرافات والفتن، وقد واجه نبي الله يوسف الفتن في حالتي السراء والضراء، ولكنه اجتاز هذه الفتن بفضل الله ولجوئه إليه؛ فرفعه الله في الدنيا والآخرة، واصطفاه وجعله ممن يقتدى بهداه.

برهان الله الذي رآه يوسف عليه السلام

برهان الله الذي رآه يوسف عليه السلام الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال الله عز وجل في قصة يوسف: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف:24] أي: رأى علامة على لزوم ترك هذا الأمر، وقد قيلت أقوال كثيرة في بيان هذا البرهان، وكلها لا دليل عليها، والصحيح: أن نطلق البرهان كما أطلقه القرآن. فقد قيل: رأى آيات من القرآن مكتوبة على الجدار، ولعلها معاني بعض آيات القرآن مما كان موجوداً في الكتب السابقة. وقيل: إنه رأى يعقوب عاضاً على إصبعه. وقيل إنه قرأ: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:32]. والظاهر -والله أعلم- أنه رأى علامة بينة -يعني أراه الله عز وجل برهاناً ربه من عنده عز وجل، ولم يكن البرهان ظاهراً لمن عنده، وليس المراد بربه هنا العزيز، بل الله سبحانه، أي: رأى دليلاً وعلامة من عند الله عز وجل.

سجن الظالمين أهون من سجن الهوى

سجن الظالمين أهون من سجن الهوى ثم قال تعالى: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ} [يوسف:35] ليس للنساء فقط بل للكل، للنساء وأزواجهن والملأ، {بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ} [يوسف:35] أي: علموا براءة يوسف عندما رأوا قميصه قد من دبر، وعرفوا تماماً أنه بريء، ومع ذلك رأوا أن إسكات القضية تكون بسجن يوسف، وذلك حفاظاً على سمعة امرأة العزيز، وقد أقنعتهم بكيدها ومكرها أن يسجن يوسف حتى تنفذ تهديدها له، بقولها: {لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ} [يوسف:32]، ويوسف عليه السلام لو استجاب لها لكان في سجن الهوى وهو أشد، ولصار من الصاغرين فعلاً، ولو استجاب لها لصار هناك طابور طويل ينتظر الدور، وليست امرأة العزيز وحدها، وإنما كما قال عز وجل عنه: ((وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ)) يعني: أن البداية ستكون مع امرأة العزيز ثم مع هؤلاء النسوة، وستكون صورة فظيعة غير محتملة لو فعل، لكن الله عز وجل ثبته، فنسأل الله أن يثبتنا! وقوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} [يوسف:31] أي: أعظمنه، وهبنه في قلوبهن، فله هالة عجيبة، وهكذا المؤمن الصادق عندما يراه الكفرة صامداً يكون له عندهم قدر من التعظيم. وكما قال الله عز وجل عن نبيه صلى الله عليه وسلم: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ} [الأنعام:33] فقد كانوا يقولون عنه: أمين، فـ أبو سفيان مع كل العداوة التي بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم، عندما سأله هرقل: هل جربتم عليه كذباً؟ قال: لا. يعني: أنهم يشعرون بعظم منزلته ومكانته. فالنساء أكبرن يوسف وأعظمنه، فله هيبة وجلال، ولما رآه الملك قال: ((إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ)) ومعنى مكين: أي: ذو مكانة، وأمين أي: مستأمن.

كذب إخوة يوسف

كذب إخوة يوسف ثم قال تعالى عن إخوة يوسف: {إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} [يوسف:77] وهذا كذب عليه، وهم كذابون في هذه القضية، فسيدنا يوسف لم يسرق قبل ذلك، وفي الأخبار الإسرائيلية قالوا: إنه سرق صنماً لجده أبي أمه فكسره وهو صغير، وقالوا: اتهمته عمته أخت إسحاق -وقد كانت تحبه حباً عظيماً- بسرقة منطقة إسحاق حتى تأخذه لديها، وكانت تحتضنه ولا تريد أن يرجع إلى يعقوب، وهذان الاحتمالان ضعيفان؛ لأنه لا يجوز أن نتهم صهر سيدنا يعقوب بأنه كان يعبد الأصنام. وأيضاً: فإن عمته بنت نبي وأخت نبي وعمة نبي، فلا يمكن أن نتهمها بالكذب، فتقول: إن يوسف هو الذي سرق المنطقة؛ لكي تأخذه من أبيه، وقد كان في شريعتهم: أن من سرق شيئاً دفع إلى المسروق منه، فقالوا: كانت تريد أن تأخذ يوسف لتحتضنه، فحيلة منها أتت بمنطقة إسحاق التي عندها فلفتها على وسطه لكي تأخذه، ففتشوا من الذي أخذها فوجدوها على يوسف فأخذته إلى أن ماتت. وهذه الأخبار الإسرائيلية هي أولى بالرد من القبول؛ لأن هذه تهمة لابنة نبي وأخت نبي وعمة نبي، فلا يجوز ذلك عليها، والصواب: أنهم كذبوا في اتهامه بالسرقة كما كذبوا من قبل في قولهم: {فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ * وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} [يوسف:17 - 18]، وبسبب الحقد العظيم الذي في قلوبهم كذبوا عليه بعد سنين كثيرة، وما تخلصوا من الحقد إلا لما انكسروا، وأول كلمة ندم بدأت تظهر منهم هي قول كبيرهم: {وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ} [يوسف:80] وهذا هو أول شعور بالتفريط بعد سنين كثيرة، لكن إلى اللحظة الأخيرة كان لا يزال عندهم حقد على يوسف، وتشفوا بأخيهم الثاني، وحتى لو كان فعلاً قد حصل هذا من يوسف فما كان ينبغي لهم أن يظهروا هذا الأمر لعزيز مصر، وهو رجل غريب أجنبي، وكأنهم أرادوا بقولهم ذلك: أن السرقة عريقة فينا، وبعد هذا قالوا: ((فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ)) وهذا شيء عجيب جداً!! فالحقد يعمل في الإنسان أشياء سيئة جداً، فكيف يقولون: {إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} [يوسف:77]؟! هذا هو الحقد الدفين.

كرم يوسف عليه السلام

كرم يوسف عليه السلام انظر إلى كرم سيدنا يوسف عليه السلام حيث سمع منهم كلمة تسيء إليه وهو قادر أن يعمل فيهم ما يشاء، ولكنه أسرها في نفسه ولم يعمل معهم شيئاً! ومن أول الوقت الذي رآهم فيه كان يستطيع أن يأمر بسجنهم فيسجنوا، أو بضربهم فيضربوا، بل لو أمر بقتلهم لقتلوا، ومع ذلك لم يعمل شيئاً من هذا، وغاية ما كان منه أنه قال لهم: {هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ} [يوسف:89]، فكل ما عمل بهم أنه عاتبهم بهذه الكلمة فقط، فهو الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم، فقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم: من أكرم الناس؟ فقال: (الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم، نبي الله يوسف بن نبي الله يعقوب بن نبي الله إسحاق بن خليل الله إبراهيم). والله! إن هذا شرف عظيم، وهو أن يكون أكرم الناس نسباً عليه السلام، وأنه تربى في بيت النبوة، وكرم يوسف عليه الصلاة والسلام تجده من أول كلمة في القصة، وفي أدبه مع أبيه، فانظر وقارن بين أدب يوسف وإخوته؛ لأن بعض الناس يقولون: إن يعقوب عليه السلام فاضل بين أولاده، ولأجل ذلك وقع منهم ما وقع، وهذه كلمة خاطئة؛ فسيدنا يعقوب ما فاضل المفاضلة المذمومة. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اعدلوا بين أولادكم) أي: في العطاء، فواجب الأب والأم عندما يعطيان الأولاد أن يعدلا في العطاء المادي، أما في الحب فهذا مبني على الصفات، فمن أدب يوسف أنه قال: يا أبت! فهذا أدب عظيم، فكلمة (أبت) فيها الأدب والاحترام والرقة، والكسرة التي في التاء في كلمة (أبت) فيها انكسار وخضوع، يقول الله جل وعلا: ((وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ))، فالمسألة فيها خضوع، و (يا أبت) تختلف عن (يا أبي) مع أن (أبي) كلمة جميلة، لكن أبت فيها رقة أكثر، فكان بين يوسف أبيه ود واحترام عظيم، وفي نفس الوقت إخوة يوسف يقولون عن أبيهم: {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يوسف:8] ففيها سوء أدبهم مع أبيهم، وهو نبي الله، وهم لا يُعذرون بالجهل، فاتهموا أباهم وهو نبي ابن نبي ابن نبي بأنه في ضلال مبين، وهم يعرفون ما يجوز إطلاقه على الأنبياء وما لا يجوز، وقالوا مرة أخرى: {تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} [يوسف:95] ويحلفون جازمين بذلك، فانظر إلى هذه الكلمات الفظيعة والعياذ بالله! فمقياس التفضيل هو: الصفات الطيبة، كالتعليم والكرم والإحسان، فسيدنا يوسف أي إنسان يراه يهابه ويقدره، فالملك لما كلمه {قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف:54] وهو في تلك الرفعة. وصاحبه في السجن يقول: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ} [يوسف:46]، وصاحباه في السجن بمجرد ما دخلا السجن قالا له: ((إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)). وإخوته وهم لا يعرفونه قالوا له: {فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:78]، فسيدنا يوسف كرمه بائن جداً، فهو كريم فعلاً، والكرم هذا قد ظهر منه ظهوراً بيناً، فصفات النجابة ظاهرة عليه؛ ولذلك أحبه يعقوب، عندما تقرأ القصة ستحب يوسف وتبغض إخوته قطعاً، فتخيل ما مدى حب أبيه له! فعندما استأذنوه أن يخرج معهم {قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ} [يوسف:13]، فيشق عليه مفارقته مدة قصيرة من النهار، ولكن لحاجته إلى اللعب أذن لهم؛ لأنه محتاج أن يرتع ويلعب، ولكن كان حزيناً عليه في هذه المدة، ثم يأتيه الخبر أنه: أكله الذئب، يعني: لن تراه بعد الآن، فبقي عدة سنين وهو متألم لفقد يوسف عليه السلام، فحبه ما زال في قلبه. وانظر خداع إخوة يوسف حين قالوا: {يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} [يوسف:9]، والأمر بالعكس، فعندما يؤذوا يوسف لن يخلوا لهم وجه أبيهم، وإنما سيزداد حباً له وبغضاً لهم، وهكذا الشيطان يزين المنكر، ويصور للعاصي أنه سيحصل على أعظم المكاسب، ولكن الحقيقة على العكس، مثل إخوة يوسف، فلم يخل لهم وجه أبيهم، بل ظل يعقوب على حبه ليوسف رغم أنوفهم. ثم شمَّ ريحة يوسف عليه السلام على مسافة مئات الكيلومترات؛ لأنهم خرجوا من مصر وهو في فلسطين، قال الله: {وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} [يوسف:94] فبمجرد خروج العير من مصر وانفصالها منها؛ شم رائحة يوسف، فجاءوا بقميصه وبخبر الفرج، فلما شم ريحة يوسف رد الله له بها بصره. فحب يعقوب عليه السلام ليوسف كان له ما يبرره قطعاً بلا شك، فهو الذي نشأه ورباه وعلمه، وهو يعلم أن الله سيصطفيه، ويعلم أن الله سيجعله نبياً، فيعقوب عليه السلام وضع الأشياء في مواضعها، وأحب يوسف؛ لأنه ينبغي أن يحب، ولم يحب إخوته مثله؛ لكونهم ليس فيهم الصفات التي في يوسف عليه السلام، بل اجتمعت فيهم خصال المنافقين، كما في الحديث: (إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر، وإذا اؤتمن خان) فاكتملت هذه الصفات فيهم، وهذه القصة من ضمن الأدلة على أن النفاق أكبر وأصغر؛ لأن هؤلاء اجتمعت فيهم هذه الصفات ولم يكفروا.

معنى قولهم: (هذه بضاعتنا ردت إلينا)

معنى قولهم: (هذه بضاعتنا ردت إلينا) وقوله تعالى حاكياً عن إخوة يوسف: {مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا} [يوسف:65] يعني: ما نريد بعد هذا؟! فبضاعتنا ردت إلينا من رجل يكرمنا كرماً بالغاً، فهم يتوسلون إليه بإحسان عزيز مصر أي: هو رجل محسن قد أحسن إلينا وضيفنا، وفي نفس الوقت رد إلينا البضاعة، يعني: أعطانا المتاع من غير ثمن، إذاً: فهو يريد أن يحسن إلينا حتى نزداد إحساناً، {وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ} [يوسف:65]، وهذا البعير ينفعنا كثيراً.

أم يوسف

أم يوسف أم يوسف عليه السلام مذكورة في قوله: {آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ} [يوسف:99]، وعندما ذكر أنه رأى الشمس والقمر والكواكب ساجدين له، كان تأويل الرؤيا أن الشمس أبوه، والقمر أمه، ولم تذكر القصة تفاصيل خبر أمه مثل أبيه؛ لأن دور سيدنا يعقوب في تربية يوسف عليه السلام وتوجيهه أعظم بكثير.

نسخ جواز سجود التكريم في الإسلام

نسخ جواز سجود التكريم في الإسلام سجود يعقوب وأم يوسف وإخوته له هو سجود تكريم، وقد كان ذلك مشروعاً في الشرائع السابقة بلاشك، وآدم عليه السلام سجدت له الملائكة سجود تكريم وهو عبادة لله، فسجود التكريم كان مشروعاً في الأمم السابقة، ونسخ في الإسلام، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها)، ولكن لم يكن ليفعل ذلك عليه الصلاة والسلام.

اهتمام القرآن بالعبر والمعاني العظيمة في القصص دون التفاصيل

اهتمام القرآن بالعبر والمعاني العظيمة في القصص دون التفاصيل هذه السورة هي معجزة فعلاً؛ لأنها أولاً تنبه الإنسان، وهي موافقة لصفات أهل الكهف في الجملة لا في التفصيل، لكن الذي يقارن بين القصتين يجد أن مضمونهما واحد، ولكن تجد تفاوتاً هائلاً في المعاني التي ترشد إليها هذه السورة، من معاني التوحيد والإيمان، فلا يوجد موضع إلا وهو مرتبط بالعقيدة، بالإيمان بالله وأسمائه وصفاته، وآثار هذه الأسماء والصفات، ويبين ويكشف تماماً شخصيات الأنبياء والصفات العظيمة التي فيهم، فيعقوب عليه السلام في صبره وحلمه واحتسابه واستعانته وتعلقه وعلمه به عز وجل، ورجائه فضله سبحانه، وعدم يأسه من رحمته يضرب أروع الأمثلة في الإيمان بالله ورجائه، ويوسف عليه السلام في العفو والصفح والكرم والجود والحلم والصبر والاحتساب، وهذه الصفات تجد الكلام عنها في قصة أهل الكهف، ولا يمكن أن تتوفر في إنسان عادي. وعندما تقارن القرآن بكتب اليهود والنصارى تجد أن هناك بوناً شاسعاً، فنجد القرآن لا يهتم بتفاصيل؛ لأنها لا تهم المسلم، لكن بني إسرائيل دائماً يُسهبون في كل القصص، فهم أتوا بقولين في امرأة العزيز: القول الأول: أن يوسف عليه السلام تزوجها فوجدها عذراء، فقالت: إن زوجي كان رجلاً لا يأتي النساء، وكنت امرأً جميلاً؛ فاعذرني، فولدت له إسرائيل بن يوسف، قالوا: وهو والد يوشع بن نون. القول الثاني: أنها وقفت على الطريق سائلة، فقال: الحمد لله الذي جعل الملوك عبيداً بمعصيته، وجعل العبيد ملوكاً بطاعته، والله عز وجل أعلم. لكن القرآن أهمل مثل هذه الأقوال؛ لأنها لا تفيد، وبلا شك فإن الله عز وجل أعلم بالذي حصل لها، لكن الله سكت عن ذكرها حتى ننشغل بما هو أعظم وأهم. وكذلك قضية الأسماء، فقالوا: امرأة العزيز اسمها زليخا، ولم يرد ذكر هذا الاسم في القرآن. ويطيل أهل الكتاب في ذكر قصة لحظة اجتماع يوسف بامرأة العزيز ويأتون بأشياء وادعاءات تسيء إلى يوسف عليه السلام، فهم مغرمون بتهمة الأنبياء؛ لكي يبرروا لأنفسهم الفظائع التي يعملونها؛ فإذا كان الأنبياء عندهم زناة وشراب خمرة، وفعلوا الأفاعيل، وقتلوا ظلماً وعدواناً؛ فلا مانع عندهم من ممارسة هذه الأشياء التي فعلها الأنبياء بزعمهم. وعندهم أشياء منكرة، لكنك تجد القرآن لا يذكر الأحداث في اللحظات الحساسة، بل قال مثلاً: ((وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا))، فالحديث نفسه وقع في خاطره وزال بسرعة؛ ليثاب، ولكي يكون قدوة للشباب في كل وقت، فقد وجد في نفسه الرغبة ولكنه قاومها، وتركها لله لكي يبقى قدوة لغيره، ولكي لا يظن الناس أن الأنبياء لا يقع في قلوبهم ما يقع في قلوب الناس من الشهوات، فقد كان عنده ما عند الشباب، وكان غريباً ووحيداً، والفاحشة لا تسيء في حق الغريب، فهو ليس من أهل البلد؛ ولذلك تجد الذين يسافرون إلى الخارج يكون من السهل عليهم أن يقعوا في الفواحش؛ لأنهم غرباء، وخصوصاً أنه شاب وأعزب ورقيق، والتي تطلبه هي أولاً سيدته، وثانياً: هيأت الأمر له كما قال سبحانه: {وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} [يوسف:23]، فكأنها تملكه نفسها، فتقول: تهيأت لك، أو تعال إلي، فلفظة (لك) هذه فيها تمليك، وهي سيدته، فهذا امتحان صعب بلا شك.

أدب يوسف وافتقاره إلى الله

أدب يوسف وافتقاره إلى الله امتحن سيدنا يوسف في السراء والضراء، ونجح في كل الامتحانات صلى الله عليه وسلم؛ ليكون قدوة للعالم. وسبب هذه العصمة هو الإخلاص، فداء العشق وداء الشهوة يعالج بشدة الإخلاص وإرادة وجه الله، فيطرد من القلب إرادة غيره، ففي قراءة قال الله عن يوسف: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلِصِينَ} [يوسف:24]، وفي أخرى: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24] وهذا يدلك على أنك بتوفيق الله سوف تعصم، وباللجوء إلى الله عز وجل يعصمك سبحانه، ويصرف عنك كيد الكائدين، وسيدنا يوسف عمل هذا فقال: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} [يوسف:33] أي أن: نفسه ستودي به لكن يا رب! أنت الذي تعصمني وأنت الذي تنجيني: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ}، فاتهم نفسه، وشك فيها أيضاً، فافتقر إلى الله، ودعاه أن يصرف عنه إرادة نفسه أن تميل إليهن، وقال: {وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:33] فربنا هو الذي يعلمه. ولذلك نجد سيدنا يوسف في كل المواطن ينسب الفضل إلى الله، ولا ينسبه إلى نفسه أبداً، مثل قوله: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا} [يوسف:101] حتى الدين يفتقر في التوفيق فيه إلى الله عز وجل، {وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:101]. ويقول الله على لسان يوسف: {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} [يوسف:100] فالرؤيا قد تحققت ولكن من أدب سيدنا يوسف أنه قال: ((قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا)). وكذلك من أدبه أنه لم يقل: وقد خرجت من السجن، وإنما قال: {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} [يوسف:100]. وكذلك لم يقل: وجئتم من البدو، وإنما قال: {وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} [يوسف:100]. وانظروا أدبه: حيث وعد إخوته ولم يخلف الوعد، وعدهم بقوله: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} [يوسف:92] فلا لوم ولا عتاب، ولذلك لم يقل: من بعد أن نزغ الشيطان في قلوب إخوتي، ومن بعد أن عمل إخوتي ما عملوا، ومن بعد أن آذوني هذا الأذى، بل قال: ((مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي)). وكل هذه الأشياء من تعليم أبيه بعد تعليم الله عز وجل؛ لأن أباه هو الذي قال له: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يوسف:5]، فنسب الفعل إلى الشيطان، وقال له: {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} [يوسف:6] وكل هذه الألفاظ التي نسب فيها يوسف الفضل إلى الله مليئة بالافتقار. فهذه الدرجة الأولى من درجات افتقار يوسف إلى الله عز وجل. والدرجة الثانية من درجات افتقاره: أنه عليه السلام في كل شيء قد نسب الفضل فيه إلى الله، ولم ينسب لنفسه فضلاً أبداً، وأبوه هو الذي علمه ذلك. فهذه هي التربية الإيمانية العالية، والارتباط بالأسماء والصفات، وقد قال له أبوه في أول القصة: {إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [يوسف:6] وقالها سيدنا يوسف في آخر القصة: {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف:100].

الأسئلة

الأسئلة

جمال يوسف عليه السلام

جمال يوسف عليه السلام Q كيف كان جمال يوسف عليه السلام؟ A يوسف عليه السلام أجمل إنسان، فقد أعطي نصف الحسن، فلو قسم الجمال بين الناس؛ لكان ليوسف النصف وبقية البشر لهم النصف، إلا سيدنا آدم، فهو أجمل؛ لأنه سواه الله بيده، فيوسف ورث جمال آدم.

سبب تأخير يعقوب للاستغفار لأبنائه

سبب تأخير يعقوب للاستغفار لأبنائه Q لماذا قال يعقوب لأبنائه: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} [يوسف:98] ولم يستغفر لهم في ذلك الوقت؟ A أخرهم إلى السحر، فقال لهم: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} [يوسف:98]؛ لأن السحر وقت إجابة، فهو يريد وقت إجابة الاستغفار؛ رفقاً بهم وشفقة عليهم.

بطلان تفسيرهم عن يوسف بأنه هم أن يضرب امرأة العزيز

بطلان تفسيرهم عن يوسف بأنه هم أن يضرب امرأة العزيز Q ما رأيكم في تفسير قوله تعالى: ((وَهَمَّ بِهَا)) أي: هم أن يضربها؟ A إذا كان كذلك فأين السوء والفحشاء التي صرفها الله عنه، فربنا قال: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ} [يوسف:24]، وضربها شيء جيد، لكن من أدبه أنه لا يؤذي الرجل الذي أحسن إليه في امرأته بأن يضربها، فهذا الفعل ليس مناسباً، فكيف يضرب التي ربته، وهي زوجة الذي أحسن مثواه، والظلم ليس مناسباً بيوسف؛ لقوله تعالى: {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف:23] ومن أعظم أسباب البعد عن الزنا أن يعلم الإنسان أن الزنا ظلم لمجموعة من الناس، وإذا رضيت المرأة التي تزني بها فلا تستطيع أن تتخلص من حقوق الآخرين، وهم: أخوها وأبوها وزوجها وابنها، كل هؤلاء ماذا ستقول لهم؟ فإذا تخلصت من ذنب بينك وبين الله وبقية حقوق المخلوقين ماذا ستفعل فيها يوم القيامة؟ فلأجل هذا قال تعالى: {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف:23]. ولأجل هذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم لمريد الزنا: (أترضاه لأمك؟! أترضاه لأختك؟! أترضاه لخالتك؟! قال: لا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا يرتضونه)، فأنت ستؤذي أناساً بالفاحشة، فعندما تفكر في هذا سترتدع عنه؛ لأنك لن تستطيع أن تتخلص من الحقوق.

أم يوسف

أم يوسف Q هناك من يقول: إن أم يوسف ماتت قبل ذهابهم إلى مصر؟ A قد قيل: إنها خالته، وأمه قد ماتت، لكن هذا الكلام خلاف ظاهر القرآن، فما الذي يجعلنا نقبل الإسرائيليات؟! والقرآن يثبت أن أباه وأمه وإخوته سجدوا له.

يوسف وإخوته ليسوا من أم واحدة

يوسف وإخوته ليسوا من أم واحدة Q هل كان يوسف وإخوته من أم واحدة؟ A لا، كان يوسف وأخوه من أم، والعشرة الآخرون من أم ثانية.

الأسباط

الأسباط Q من هم الأسباط؟ A الأسباط هم: أنبياء بني إسرائيل الذين من نسل الأحد عشر. فإسرائيل هو يعقوب عليه السلام، وبنوه الإثنا عشر يوسف وإخوته، وذريتهم كان فيهم أنبياء عبر التاريخ، فأسباط بني إسرائيل هم الأنبياء، وليسوا الأحد عشر أبناء يعقوب عليه السلام.

سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب

سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب الصراع بين الحق والباطل سنة من سنن الله عز وجل الكونية، فقد ابتلى الله أهل الحق بأهل الباطل؛ ليمحص أهل الحق وينقيهم، كما أن الله عز وجل يؤيد أهل الحق بالنصر والغلبة في النهاية، ويقذف في قلوب أعدائهم الرعب وإن كانوا أكثر عدداً وعدة، فعلى أهل الحق الثبات عليه والدفاع عنه، فبقدر ثباتهم على الحق ينزل الله عز وجل عليهم النصر.

التحذير من طاعة الكفار والمنافقين

التحذير من طاعة الكفار والمنافقين الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: قال الله عز وجل: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ * وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ * إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [آل عمران:151 - 155]. فقد نهى الله عز وجل في هذه الآيات البينات أهل الإيمان عن طاعة الكفار، وبين عاقبة طاعتهم، وأنها تؤدي إلى الردة والانقلاب على الأعقاب والخسران المبين، وبين سبحانه وتعالى من أسمائه وصفاته في هذا المقام ما تتعلق به قلوب المؤمنين؛ حتى لا يتكلوا على أنفسهم أو عملهم أو جهادهم، ولكن ليتكلوا على الله عز وجل، مولى المؤمنين وخير الناصرين، فهو الذي يتولى شأنهم بالإصلاح، وهو الذي يحفظهم ويعافيهم من طاعة الكفار. قال ابن كثير رحمه الله: يحذر الله تعالى عباده المؤمنين عن طاعة الكافرين والمنافقين؛ فإن طاعتهم تورث الردى -يعني: الهلاك- في الدنيا والآخرة، ولهذا قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [آل عمران:149]. ثم أمرهم بطاعته، وموالاته، والاستعانة به، والتوكل عليه، فقال تعالى: {بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} [آل عمران:150]. - ومسألة طاعة الكفار من أخطر الأمور في حياة الناس، وذلك أن الكفر والنفاق والظلم والعدوان لا يتحقق إلا بطاعة طائفة من الناس لرءوس الكفر والنفاق، ولا يستقيم للكفار كيان ولا أمر إلا إذا وجد من يطيعهم، وقد ذكرنا ما ذكره ابن كثير رحمه الله في هذه الآية الكريمة: أن الله حذر عباده المؤمنين عن طاعة الكافرين والمنافقين، مع أن المنافقين لم يأت لهم ذكر، ولكن طاعة هؤلاء من أخطر الطاعات؛ لأن هؤلاء المنافقين يتدثرون بدثار الإسلام، ويبثون معاني الكفر والنفاق في المجتمع المسلم، ولذا كان التحذير من طاعة الكفرة والمنافقين متلازم، كما قال سبحانه وتعالى: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان:24]. وقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الأحزاب:1]. والآيات في التحذير من طاعة الكفرة ومن متابعتهم كثيرة جداً في القرآن العظيم، منها قول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ * فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:25 - 28]. فبين سبحانه وتعالى سبب ردة هؤلاء الذين سول لهم الشيطان وأملى لهم، فقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ} [محمد:26]، وهم الكفرة والمنافقون الذين يكرهون القرآن ويكرهون الالتزام بالإسلام، ويكرهون ما بعث به النبي عليه الصلاة والسلام، قال سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ} [محمد:26] فكيف بمن يطيعهم في الأمر كله؟ فإن طاعتهم في بعض الأمر أدت إلى الردة، ولذا قال: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} [محمد:25 - 26]، وذلك لأن النفاق كان في الزمن الماضي سراً وأصبح اليوم علانية. قال حذيفة رضي الله عنه: (كان النفاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم سراً، وأصبح اليوم علانية) فكيف لو رأى حذيفة رضي الله عنه ما يقع في أزماننا من الإعلان بطاعة الكفرة عياناً جهاراً نهاراً بلا خفاء، بل وتأكيد لزوم هذه الطاعة ولزوم هذه التبعية؟ نعوذ بالله من ذلك. قال عز وجل: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [محمد:27]، فجزاء هؤلاء الذين يطيعون الكفرة في بعض الأمر أن تتوفاهم الملائكة بالعذاب والعياذ بالله! وقوله: ((يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ)) السبب: ((ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ)) فطاعة الكفرة في بعض الأمر تسخط الله، وهم بذلك يقعون في كراهية ما يرضاه الله، وهذا أمر متلازم؛ فإن من أطاع الكفرة فلا بد أن يكره ما يرضي الله، فهم يكرهون مرضاة الله عز وجل، يكرهون ما يحبه، ويحبون ما يكرهه سبحانه وتعالى بطاعة الكفار في بعض الأمر. وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:28]، أي: أنه كانت لهم أعمال، وكانوا قد تابعوا الهدى، ثم زال ذلك، وحبط العمل بالنفاق والعياذ بالله! وبالردة التي سببها طاعة الكفار في بعض الأمر، والله سبحانه وتعالى إنما أمر بطاعة من يأمر بطاعة الله دون من يأمر بمعصية الله ولو كان مسلماً، فكيف إذا كان كافراً؟!

وجوب طاعة أولي الأمر في غير معصية

وجوب طاعة أولي الأمر في غير معصية قال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء:59]. فأمر الله عز وجل بطاعة أولي الأمر، ولكنها طاعة مقيدة بما بينه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (إنما الطاعة في المعروف)، وقال: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)، وقال: (لا طاعة لمن عصى الله)، وقال الصديق رضي الله عنه في أول خطبة خطبها بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم). فإذا كان الصديق لو أمر بمعصية فلا طاعة له، فكيف بمن دونه؟! فلا طاعة لأحد من أب أو أم أو ولي أو كبير أو عالم أو شيخ أو إمام أو ملك أو رئيس أو صاحب عمل أو أي أحد في معصية الله سبحانه وتعالى؛ لأن ذلك يقدح في أصل عظيم من أصول الإيمان، وهو أن الله سبحانه وتعالى أوجب طاعته وطاعة رسله على الخلق جميعاً، فكيف بمن يلزم الناس بخلاف ما أمر الله عز وجل به؟! فهذا خطر عظيم والعياذ بالله! ولذا كان على المسلم أن يكون منتبهاً لقضية الطاعة والمتابعة. وقد حذر الله عز وجل من اتباع أهواء الذين لا يعلمون، فقال عز وجل: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية:18 - 19]. وقال عز وجل: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف:3]، فلا بد أن يعرف المسلم لمن تكون طاعته وتبعيته، فيطيع الله ويطيع الرسول ويطيع أولي الأمر من المؤمنين وهم العلماء والأمراء الذين يقودون الناس بكتاب الله، فإن خالفوا ذلك لم تكن لهم طاعة، بل ولا يطاعون إلا إذا كانوا يتبعون ما أنزل الله عز وجل، ويتبعون الرسول صلى الله عليه وسلم، كما قال عز وجل: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:157]. وأمر الله سبحانه وتعالى إتباع نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وبين أنه مبلغ عن الله سبحانه وتعالى أمره فقال: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]. فقضية المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم جزء من العقيدة الإسلامية الإيمانية، وقد أمر سبحانه وتعالى باتباع سبيل المؤمنين وحذر من اتباع غير سبيل المؤمنين، فقال عز وجل: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115]، والمقصود هنا: اتباع الإجماع، وذلك أن المؤمنين إذا كانوا جميعاً على أمر فهذا الأمر هو الحق قطعاً ويجب اتباعه، ويلزم أن يكون الإنسان عليه، فإذا خالفه فقد اتبع غير سبيل المؤمنين، فيوليه الله ما تولى ويصله جهنم وساءت مصيراً.

مراتب طاعة الكفار والمنافقين وشروط الإكراه

مراتب طاعة الكفار والمنافقين وشروط الإكراه وحذر الله المؤمن من طاعة ومتابعة الكفرة والمنافقين والظلمة الآثمين؛ لأن طاعتهم تقود إلى الخسران فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [آل عمران:149]. وطاعة هؤلاء وكذا متابعتهم على مراتب وأنواع، فإن طاعتهم في الكفر كفر طالما لم يكن هناك إكراه، وأما المكره فهو مطيع بظاهره كاره عاص للذي أكرهه بباطنه، والله عز وجل قد وضع عن هذه الأمة الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، كما قال عز وجل: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106]، وأما من يطيع اختياراً في الكفر لأجل دنيا يصيبها أو لأجل مال أو رياسة أو جاه دون إكراه معتبر شرعاً فلا عبرة بإرادته الأولى، وأعني بالإرادة الأولى: ما كان يختاره لو لم يعرض عليه ذلك، فكثير من الناس يعرض عليه الكفر والفسوق والعصيان بثمن بخس من الدنيا فيقول: أنا لا أريد أن أفعل ذلك، ولكن ماذا أصنع والدنيا تحتاج إلى هذه الأمور؟! وماذا أصنع وأنا لا أستطيع أن أكتسب جاهاً أو منزلة أو مالاً أو وظيفة إلا بالكفر والفسوق والعصيان؟ فيكفر دون أن يوجد الإكراه المعتبر شرعاً، والذي ذكره الله سبحانه وتعالى في كتابه بقوله: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106]. وباستقراء أدلة الشرع استنبط العلماء شروطه: وهو أن يكون الإنسان المكره عاجزاً عن التخلص ولو بالفرار، وأن يكون المكرِه قادراً على إيقاع ما يهدد به، فأما إذا كان المكرِه عاجزاً وكان المكرَه قادراً على الرد وعلى أن يمنع نفسه من ذلك فليس بإكراه؛ فإنه منافٍ لأصل الكلمة، وكذا إذا كان قادراً على التخلص من إكراه المكره بالفرار في الأرض، وأرض الله واسعة، كما قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:97]. وهذه الآية نزلت فيمن خرج كارهاً لا مكرهاً من شبان قريش مع قريش لقتال المسلمين في غزوة بدر، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل بعضهم لما يعلم من أنهم لا يريدون حربه ابتداءً، ولكن إرضاء العشيرة دفعهم إلى الخروج، وكان منهم العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك قتل بعضهم؛ لأن الأنصار كانوا لا يعرفونهم، وإنما يعرفهم المهاجرون، ولقد كان يرمى أحدهم بالسهم فيُقتل أو يضرب ضربة بالسيف فيُقتل، فقال بعض الصحابة: استغفروا لإخوانكم، فأنزل الله: ((إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ))، وقد بوب عليه البخاري في صحيحه، باب: من كره أن يكثر سواد أهل الظلم والفتن، فجعلها عامة في كل من زعم الاستضعاف وشارك في ظلم وفتنة وفساد في الأرض، حتى ولو وقع ذلك من ناس مسلمين ظالمين، ولذا نهى أبو الأسود الدؤلي رحمه الله تعالى بعض التابعين عن الاشتراك في الجيوش التي تغزو عبد الله بن الزبير في الفتنة التي وقعت، واستدل بما قص ابن عباس من تفسير هذه الآية كما رواه البخاري. والمقصود: أن المكره إذا كان قادراً على التخلص ولو بالفرار لم يكن مكرهاً، وكذا إذا كان هناك فسحة من الزمن، فلا يكون الإنسان مكرهاً إلا إذا كان الإكراه فورياً وغلب على ظنه أنه يوقع به ذلك، فأما إذا لم يكن فورياً أو لم يغلب على ظنه ذلك لم يكن مكرهاً. والشرط الرابع في ذلك: ما ذكره الله في كتابه في قوله: ((وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ)). فأما من فعل وطاوع في كفر أو في معصية من غير إكراه فحكمه حكم من فعل، ويلزمه ذلك الحكم، فإن كان كفراً كان كافراً والعياذ بالله! فمن أطاع غيره في الكفر حتى ولو كان لا يريد ذلك ابتداءً وإنما يفعله إرضاءً لغيره أو يفعله كسباً لدنيا فإنه لا يعد مكرهاً بل يكون كافراً. وأما إذا أطاعه في معصية وليس في كفر فهذا يختلف باختلاف الحال، فإذا كان معتقداً أن أمر الله هو الواجب وأن معصيته محرمة ولكنه أطاعه لنيل شهوة ولم يكن الفعل كفراً كان عاصياً ولم يكن كافراً، وإن كان له نصيب من العبودية لغير الله وقع في الشرك الأصغر؛ لأنه أطاع غيره في معصية الله، وشابه الكفار الذين يبيعون دينهم بعرض من الدنيا، لكنه إذ لم يبع أصل الدين، وإنما باع جزءاً منه لنيل شهوة، أي: ترك طاعة لله عز وجل لنيل شهوة فهذا له نصيب من العبودية، فلا يصل إلى الشرك الأكبر؛ لأنه بقي معه أصل الدين فلم يبعه، فلو قيل له مثلاً: اكفر بالله حتى نعطيك من المال كذا أو نعطيك الوظيفة الفلانية أو الرئاسة الفلانية أو نحو ذلك فأبى أن يطيع، فأمروه بالمعصية فقط كأن يظلم مسلماً مثلاً، أو أمروه أن يأكل رباً، أو أمروه أن يفعل فاحشة ففعل لكنه أبى أن يكفر بالله وهو معتقد أنه آثم ومعتقد أنه عاصٍ، ومعتقد أن طاعة الله هي الواجبة وأن معصية الله محرمة؛ فهذا لا يخرج من الملة، ولكنه عبد لذلك الشيء، من الدرهم أو الدينار أو القطيفة أو الخميصة التي ترك من أجلها طاعة الله، وهذه عبودية شرك أصغر لا تخرج صاحبها من الملة وإن كانت عظيمة من العظائم. وأما إذا أطاع غيره في معصية الله وهو يرى أن له عليه الطاعة ولو خالف أمر الله عز وجل، أو يرى أن له الطاعة المطلقة، أو يرى أن لهذا الغير أن يبدل ويغير شرع الله ويعتقد ما قاله لازماً دون لزوم شرع الله سبحانه وتعالى؛ فهذا كافر، وهذا تجده كثيراً فيمن تعود على التبعية وتعود على الطاعة العمياء؛ فإنه يرى أنه لو أمر بمعصية الله فيلزمه أن يطيع، وأنه لا دخل له بذلك، فإنما عليه الطاعة، حيث تربى على ذلك ونشأ عليها، فلو أمروه بأي أمر لفعل، نعوذ بالله من ذلك! فهذا الذي اعتقد لزوم طاعة غير الله في معصية الله واستحل مخالفة شرع الله عز وجل في هذه المعصية قد استحل المعصية، وهذا -والعياذ بالله- أيضاً يكون كافراً. أما إذا رأى طاعته الطاعة المطلقة التامة في أي أمر ابتداءً، فيرى أنه لو أمره بالكفر لكفر دون أن يأمره ذلك الآمر بالكفر فإنه يكون كافراً، وهذا في الطاعة المطلقة التامة؛ لأنها تتضمن الأمر بالكفر -والعياذ بالله- ويدخل فيها ذلك فيكون كفراً. إذاً: فطاعة الذين كفروا بمخالفة شرع الله عز وجل على أقسام: منها ما يكون طاعة مطلقة، ومنها ما يكون طاعة تفصيلية. فالطاعة المطلقة: تقتضي طاعتهم ومتابعتهم في أبعاض وأجزاء ما هم عليه، وذلك متضمن للكفر، ومن يرى أن عليه أن يطيع ولو أمر بالكفر فهو -والعياذ بالله- عبد لمن أطاعه، ولا ننتظر فيمن قال ذلك أو اعتقده أن يأتي بأمر كفري لننظر في شأنه، بل من صرح بشيء فإننا نحكم عليه به؛ لأننا لا نعرف ما في باطنه إلا بأن يقول ويصرح، ولكن نقول فيما هو الحكم عند الله عز وجل: إذا اعتقد أنه يطيع الكفار طاعة مطلقة ولو أمروه بالكفر لكفر فإن هذا كافر، وهناك طائفة من الناس تربت على ذلك تربية من صغرها ومن أول نشأتها، فربي أحدهم على أن يطيع ولو أمر بالكفر، ولو أمر بالسجود لغير الله، ولو أمر بقتل الأنبياء، ومنهم من يوطن نفسه على ذلك، وبعضهم قد يتكلم بذلك ويصرح به ويقول: لو أمرونا أن نحارب الأنبياء لحاربناهم!! ولو وقف في وجههم النبي لكان واجباً علينا أن نطيعهم دون أن نطيع النبي!! وهم يصرحون بذلك، واليهود لا يأمرون بذلك فضلاً عمن دونهم، لكن هذا الذي اعتقد ذلك وتربى عليه قد خرج من الملة؛ لأنه صار عبداً عند الذي أطاعه وعزم على طاعته هذه الطاعة المطلقة، حتى ولو لم يأمره في حياته أمراً ما؛ فإن من الناس من يكون بعيداً عمن لهم الأمر، ولكنه يعتقد في نفسه أنهم لو أمروه بالكفر لكفر، ولو أمروه بالمعصية لعصى، وأنه يطيعهم الطاعة المطلقة؛ فهذا كافر. وأما الطاعة التفصيلية في أجزاء معينة فهذا الذي ذكرنا فيه التقسيم: فما كان من طاعة في الكفر فهو كفر إذا كان بغير إكراه، وأما إذا كان مكرهاً فهو معذور، وكذا سائر الموانع، فإذا كان بغير قصد أو بغير علم فإنه يبين له الأمر أولاً، فبالنسبة لشخص بعينه فلا بد أن تستوفى الشروط وتنتفى الموانع، فطاعتهم في الكفر كفر، وطاعتهم في المعصية مع اعتقاد أنها معصية معصية، وأما مع اعتقاد لزوم طاعتهم دون طاعة الله وطاعة الرسول، أو اعتقاد ما قالوه دون ما قال الله وقال الرسول فهذا من الشرك، وهو الذي ذكره الله عز وجل عن اليهود والنصارى في قوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا} [التوبة:31]، قال عدي بن حاتم: إنا لسنا نعبدهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألم يحرموا الحلال ويحللوا الحرام فاتبعتموهم؟ قال: بلى، قال: فتلك عبادتهم). أي: فاتبعتموهم في تحليل الحرام وتحريم الحلال. وهذه قضية مهمة، ولابد من الانتباه لما في هذا الحديث؛ لأن كثيراً من الناس قد لا يحسن فهمه ويظن أن أي طاعة في معصية الله تكون عبادة شركية مخرجة من الملة، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألم يحللوا الحرام ويحرموا الحلال فاتبعتموهم؟)، أي: اتبعوهم على التبديل، وعلى التحليل والتحريم، وعلى التشريع، وليس أنه أطاعهم طاعة مع اعتقاد حل ما أحل الله وتحريم ما حرمه. فمثلاً: هناك من يقول: إن الزنا أمر لا بأس به، وإنه حرية شخصية. وهناك من يرد عليه ويقول: بل الزنا حرام حرمه الله عز وجل، ولكنه يزني، وإذا قال له: تعال نزني بعد أن قال له: الزنا حرام، فسيذهب ويزني ويفعل ما حرم الله عز وجل، فهذا ليس بكافر؛ لأنه رد عليه تحليله وتحريمه ولم يتابعه على التحليل والتحريم، وإنما تابعه في الفعل المحرم. ومن الناس من يكون بعيداً عن هذا، ولا يكلف ذلك، ومع

الحذر من التشبه بالكفرة والمنافقين والفاسقين

الحذر من التشبه بالكفرة والمنافقين والفاسقين وكذا من متابعتهم: التشبه بهم، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ومن تشبه بقوم فهو منهم). فهو يشمل ما ذكرنا في الطاعة، ففيه التشبه المطلق: وذلك بأن يتشبه الإنسان بهم في كل شيء حتى في كفرهم، فلو أنكروا الأديان أنكر الأديان، ولو أنكروا التوحيد أنكر التوحيد، ولو أنكروا التشريع أنكر التشريع، فيتابعهم ويرى أن ما قالوه لابد أن يؤخذ به جملة، كما يقول دعاة كثيرون في المشارق والمغارب: إن الحضارة الغربية لا يصلح أن نأخذ منها جزء التكنولوجيا والعلم الحديث دون أن نأخذ الأفكار والمبادئ والفنون والآداب، بل لابد أن نأخذها برمتها، ولا نقول: إن هذا يوافق الدين وهذا يخالفه، بل اتركوا الدين جانباً!! وهذه الكلمة لوحدها تنقل عن الملة والعياذ بالله، أعني كلمة: اتركوا الدين جانباً، فكيف يجعل المسلم دينه جانباً ولا يلتزم به في أمر من الأمور؟! فيرون أنه يستحيل أن نأخذ الطب الحديث والهندسة الحديثة والعلوم الحديثة ونحو ذلك دون أن نأخذ الفسق والفجور وإباحة المحرمات التي حرمها الله عز وجل. فالتشبه المطلق هو مثل الطاعة المطلقة في تضمنها لأجزاء من الكفر؛ وقد وجدنا أناساً من هؤلاء -والعياذ بالله- يصرحون كثيراً في كتاباتهم وأحاديثهم بالطعن في القرآن، والطعن في الرسول عليه الصلاة والسلام، وترديد شبهات الكفرة حول القرآن من أنه ألفه الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن فيه أخطاء في كذا وكذا!! وتجد هؤلاء معظمين جداً عند القوم، وخاصة في بلاد الغرب، فإنهم يعظمونهم جداً ويقولون: هؤلاء دعاة حرية، وهؤلاء دعاة المدنية، وهؤلاء دعاة التطور، ونحو ذلك، بل ويُعطون الجوائز الغالية والثمينة على سبهم للقرآن وعلى طعنهم في الرسول عليه الصلاة والسلام فضلاً عن الطعن في الصحابة رضي الله عنهم والطعن في معاني الإسلام كلها، بل طعنهم في الأنبياء جميعاً، ومع ذلك ما زالوا يعظمونهم أعظم وأكبر تعظيم والعياذ بالله! فهم يسخرون من الأنبياء جميعاً، بل من ذات الرب سبحانه وتعالى، ويعلمون أنهم ما أخذوا الجوائز الثمينة عندهم الحقيرة الدنيئة عند أهل الإسلام إلا لأجل أنهم طعنوا في الله عز وجل وطعنوا في رسله الكرام صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ويقومون بالمدح والتفخيم والتبجيل لشخصيات لا يمكن الاقتراب منها، نسأل الله العافية. فهذا كله من التشبه المطلق، وهو مثل الطاعة المطلقة. وأما التشبه الجزئي فهو أيضاً كالطاعة التفصيلية، فالتشبه في بعض ما هم عليه ينظر فيه، فإن كان كفراً أو شعاراً عن الكفر كان التشبه بهم في ذلك كذلك، وإن كان في معصية كان معصية بشرط اعتقاد أنه معصية. وأما إذا تشبه بهم معتقداً صحة ما فعلوه دون ما شرع الله عز وجل فهذا -والعياذ بالله- يكون من المتابعة الشركية. وأما إذا فعل شيئاً يفعلونه واتفق أن فعله الطرفان دون أن يكون أحدهما أخذه عن الآخر فليس هذا من التشبه المحرم وإن سمي تشبهاً في بعض الأحوال، لكنه ليس بالتشبه المحرم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (غيروا الشيب لا تشبهوا باليهود)، فهذا الأمر يقع فينا بغير اختيار منا، فالإنسان لا يختار أن يشيب وإنما يشيب هو ويشيب غيره، فأنا لم أقع في التشبه قاصداً، وإنما وقع في هو، فإذا تركت التغيير سمي هذا تشبهاً، لكن لا يكون تشبهاً محرماً، فلذلك كان هذا النهي ليس للتحريم، فقوله: (لا تشبهوا باليهود) أي: في ترك تغيير الشيب، فيستحب أن يغير الشيب، ولكن لا يحرم أن يتركه، ولذا ترك النبي صلى الله عليه وسلم بعض شعرات في وجهه عليه الصلاة والسلام، ولكنه أمر بتغييره استحباباً. وأما الذي كان مأخوذاً عنهم أو فعله لأجل أنهم فعلوه مثل الموضة، فبعض الناس يفعلون الموضة لأجل أن غيرهم فعلها، فالموضة أن الناس يلبسوا هكذا، فيفعلون مثل ما فعل هؤلاء تماماً لأجل أنهم فعلوه، تقول لبعضهم: أنت تربي شعرك تربية غير صحيحة، فيقول لك: هذه موضة، فهذا أشد من التشبه. وهناك درجة ثانية للتشبه: وهي أن الإنسان يفعل الشيء لا لأجل أنهم فعلوه ولكن لمصلحة في نفسه، فمثلاً: عندهم يوم من الأيام يفرحون فيه كأن يكون عيداً من أعيادهم فيريد أن يلعب في هذا اليوم، لكنه ليس في ذهنه الاعتقاد الفاسد الذي بني عليه ذلك العيد، فهذه درجة من درجات التشبه، وإن كان هذا التشبه أهون من الأول، لكنه داخل في التشبه المحرم، وإن كان يقول: أنا لا أريد ذلك، أنا ليس لي غرض في التشبه بهم، لكن طالما أن هذا الفعل مأخوذ عنهم فهو من التشبه بهم. وأما إذا كان وقع اتفاقاً كالملابس المشتركة بين المسلمين والكفار فهذا ليس بطاعة ولا بتشبه في الحقيقة، وإن سمي تشبهاً، فتركه هو الأفضل من أجل المخالفة. وقد تكون المخالفة في فعل شيء مع هذا الشيء، كأمر النبي صلى الله عليه وسلم بصيام تاسوعاء مع عاشوراء مخالفة لليهود، وهذا مستحب، ولو صام العاشر فقط لما كان ذلك محرماً عليه، بل يجوز أن يصوم العاشر من محرم فقط ولا يحرم عليه ذلك. وهكذا الخلاف بين العلماء في صيام يوم السبت فمنهم من يقول: هو حرام، ومنهم من يقول: هو مكروه إذا صامه منفرداً، وإنما تقع المخالفة إذا صام معه الجمعة أو صام معه الأحد، فإذا قرن معه غيره لم يكن ذلك مكروهاً؛ لأنه خالفهم حينئذٍ بعدم موافقتهم.

طاعة الأمة المنتصرة مرض من أمراض الأمة المهزومة

طاعة الأمة المنتصرة مرض من أمراض الأمة المهزومة فهذه القضية قضية عظيمة الأهمية، ولذا تكررت في القرآن كثيراً، وهي من أمراض الأمم المهزومة، فطاعة الكفار أو طاعة الأمة المنتصرة من أمراض الأمم المهزومة، ولذا جاء هذا التنبيه بعد قوله عز وجل: {فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:146] إلى قوله عز وجل: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:148]، ثم قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [آل عمران:149]، فدل ذلك على أن طاعتهم تؤدي إلى الخسران، ودرجات الخسران تكون على حسب درجة الطاعة والمتابعة والتشبه بهم، نسأل الله أن يعافي المسلمين من ذلك.

قذف الله الرعب في قلوب أعدائه ونصره لنبيه وأوليائه

قذف الله الرعب في قلوب أعدائه ونصره لنبيه وأوليائه يقول ابن كثير رحمه الله: ثم بشرهم بأنه سيلقي في قلوب أعداءهم الخوف منهم والذلة لهم بسبب كفرهم وشركهم مع ما ادخره الله لهم في الدار الآخرة من العذاب والنكال، فقال: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} [آل عمران:151]. وقد ثبت في الصحيحين عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر)، وبالتخصيص بمسيرة شهر يدل على أنه رعب شديد، فمسافة شهر مسافة طويلة، والمسلمون ضعاف وقلة وبعاد ومع ذلك يخافهم أعداؤهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم نصر بالرعب مسيرة شهر، وهذه خصوصية له عليه الصلاة والسلام بالنسبة للأنبياء قبله، وأمته وارثته، فالأمة تنصر، ورعب أعدائهم منهم يتفاوت بحسب شدة التزامهم بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فكلما التزموا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كلما اشتد رعب أعدائهم منهم، وكلما ابتعدوا عن الالتزام بالسنة كلما هانوا على عدوهم، نسأل الله العافية. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأحلت لي الغنائم، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة) وهذا الحديث متفق على صحته. وروى الإمام أحمد عن أبي أمامة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (فضلني ربي على الأنبياء - أو قال: على الأمم - بأربع، قال: أرسلت إلى الناس كافة، وجعلت لي الأرض كلها ولأمتي مسجداً وطهوراً، فأينما أدركت رجلاً من أمتي الصلاة فعنده مسجده وطهوره، ونصرت بالرعب مسيرة شهر يقذفه في قلوب أعدائي، وأحلت لي الغنائم) ورواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وصححه الشيخ الألباني. وروى سعيد بن منصور عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (نصرت بالرعب على العدو) رواه مسلم. وروى الإمام أحمد عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعطيت خمساً: بعثت إلى الأحمر والأسود، وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لمن كان قبلي) لأن من كان قبلنا كانت تأتي نار من السماء تأكل الغنيمة؛ لأنه لا يحل الانتفاع بها، ثم أحلها الله لهذه الأمة. ومعنى كون الأرض مسجداً وطهوراً: أنه يتطهر بها بالماء أو التراب، ففي أي مكان في الأرض أدركت الإنسان الصلاة فعنده ما يتطهر به، وكذا عنده مسجد يصلي في أي مكان، بخلاف من كان قبلنا فإنهم كانوا لا يصلون إلا في البيع والكنائس وأماكن العبادة، ولو فاتتهم هذه الأماكن ما استطاعوا أن يصلوا، فالحمد لله الذي جعل الله لنا الصلاة في أي بقعة من الأرض. قال: (وأحلت لي الغنائم ولم تحل لمن كان قبلي، ونصرت بالرعب شهراً، وأعطيت الشفاعة، وليس من نبي إلا وقد سئل شفاعته) أي: سأل الدعوة التي وعده الله أن يجيبها له وأن يشفع لأحد بها، فتعجلوها. قال: (وإني اختبأت شفاعتي، ثم جعلتها لمن مات لا يشرك بالله شيئاً) وهذا لكمال شفقته عليه الصلاة والسلام.

قذف الله الرعب في قلوب المشركين يوم أحد

قذف الله الرعب في قلوب المشركين يوم أحد وقد روى العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى: ((سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ)) قال: (قذف الله في قلب أبي سفيان الرعب فرجع إلى مكة). وهذه من الأعاجيب والبينات الظاهرة، فالكفار مرعوبون من أهل الإسلام حتى في حال انتصارهم، فقد رجع أبو سفيان وهو منتصر إلى مكة مرعوباً، مع أنه لم يكن بينه وبين دخول المدينة شيء، لأن المنافقين خذلوا المسلمين، وارتد كثير ممن حضر الوقعة فاراً إلى المدينة، ولم يثبت مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا قلة قليلة، والعجب أن أبا سفيان عاد إلى مكة مرعوباً! وهذا الذي تجده في كل مكان يقع فيه صراع بين من تمسك بالكتاب والسنة وبين أعداء الإسلام، فرغم انتصارهم فهم في رعب شديد من أهل الإسلام. قال: رجع إلى مكة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أبا سفيان قد أصاب منكم طرفاً، وقد رجع وقذف الله في قلبه الرعب)، أي: أصاب طرفاً من الذين قتلهم في غزوة أحد. رواه ابن أبي حاتم.

سبب هزيمة المسلمين يوم أحد

سبب هزيمة المسلمين يوم أحد قال تعالى: ((وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ)) قال ابن عباس: وعدهم الله النصر. وقد يستدل بهذه الآية على أحد القولين المتقدمين في قوله تعالى: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران:124 - 125]، ففي تفسير هذه الآية قولان: القول الأول: أن هذا الوعد كان يوم بدر، والقول الثاني: أنه كان يوم أحد، وهذا أقرب. يقول: وقد استدلوا بهذه الآية: ((وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ)) على أن ذلك كان يوم أحد؛ لأن عدوهم كان ثلاثة آلاف مقاتل، فلما واجهوهم كان الظفر والنصر أول النهار لأهل الإسلام، فلما حصل ما حصل من عصيان الرماة وفشل بعض المقاتلة عن الاستمرار في القتال تأخر الوعد الذي كان مشروطاً بالثبات والطاعة، ولهذا قال تعالى: ((وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ)) أي: أول النهار. ((إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ)) أي: تقتلونهم، والحس: القتل، أي: تقتلونهم بإذنه، وبتسليطه إياكم عليهم. ((حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ)) قال ابن جريج: قال ابن عباس: الفشل: الجبن. ((وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ)) كما وقع للرماة. ((مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ)) وهو ظفركم بهم. ((مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا)) وهم الذين رغبوا في المغنم حين رأوا الهزيمة. ((وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ)) أي: ثم أدالهم عليكم ليختبركم ويمتحنكم.

عفو الله عز وجل عما حصل من المسلمين يوم أحد

عفو الله عز وجل عما حصل من المسلمين يوم أحد ((وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ)) أي: غفر لكم ذلك الصنيع، وذلك -والله أعلم- لكثرة عدد العدو وعددهم وقلة عدد المسلمين وعددهم، فإن عفو الله عز وجل لا يكون إلا بتوبة أهل الإيمان، وبما يعلم سبحانه وتعالى في قلوبهم من حب الله وحب رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن ما وقع منهم من الفرار لم يكن رغبة عن الدين، ولكن عن ذهول حصل لهم من هجوم العدو فجأة. فالذي سبب العفو عنهم ما علم الله في قلوبهم من الإيمان، والله يغفر للمؤمنين ما لا يغفر لغيرهم. قال ابن جريج في قوله: ((وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ)) قال: لن يستأصلكم. يعني: أن العقوبة نزلت ولم يقع معها استئصال، وهل كان بينهم وبين أن يدخلوا المدينة شيء؟ فجيش قريش كان ثلاثة آلاف قتل منهم نحو العشرة أو أكثر قليلاً بينما تفكك جيش المسلمين، لذا تعجبوا من أنفسهم فقالوا: لا محمداً قتلتم ولا الكواعب أردفتم. أي: لم تأسروا، ولم تسبوا النساء، ولم تأخذوا الغنائم، وهذا شيء عجيب! ولكن الله عز وجل قدر ذلك عفواً منه عن المؤمنين، فلو عاملنا الله عز وجل بما نستحقه لاستأصلنا الكفرة، فما هو الذي يمنعهم أن يبيدوا المسلمين؟ وهل يوجد من سلاح يمنع إبادة المسلمين الآن؟ وهل يوجد من كيان يمكن أن يقف في وجوه الكفار فلولا عفو الله عز وجل لاستأصلونا والله! فنسأل الله أن يعافينا والمسلمين في كل مكان. وقوله: ((وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ)) قال ابن جريج: لن يستأصلكم، وكذا قال محمد بن إسحاق، رواهما ابن جرير.

حكاية ابن عباس لتفاصيل معركة أحد

حكاية ابن عباس لتفاصيل معركة أحد وروى الإمام أحمد عن ابن عباس أنه قال: ما نصر الله في موطن كما نصر يوم أحد يعني: ما نصر الله رسوله صلى الله عليه وسلم في موطن كما نصره يوم أحد. قال: فأنكرنا ذلك، فقال ابن عباس: بيني وبين من أنكر ذلك كتاب الله؛ إن الله يقول في يوم أحد: ((وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ)) قال ابن عباس: والحس القتل. قال: ((حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ)) إلى قوله: ((وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)) قال: وإنما عنى بهذا الرماة؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أقامهم في موضع ثم قال: (احموا ظهورنا، فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا) وهذا تشديد وتغليظ في الثبات على ألا يفارقوا أماكنهم. قال: فلما غنم النبي صلى الله عليه وسلم وأبادوا عسكر المشركين أكب الرماة جميعاً ودخلوا في العسكر ينهبون) ففعلوا هذا مع أن ما وقع في بدر كان قد علمهم أن الغنيمة سوف تقسم على الكل، ولكن كانت هذه عادات الجاهلية، ولذا قالوا: الغنيمة الغنيمة. وهذا دليل على أنه لا يوجد أحد يظن بنفسه السلامة من الدنيا، فإذا فتحت الدنيا على الإنسان دائماً اشتهاها أكثر، فالذي جعل الرماة يتركون المكان هو أن الدنيا فتحت، والغنيمة موجودة، ولذلك من الخطر العظيم على الإنسان أن تفتح عليه الدنيا. قال: ولقد التقت صفوف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم هكذا وشبك بين يديه. يعني: ارتبكت الصفوف واختل الجيش، فلما أخل الرماة تلك الخلة التي كانوا فيها دخلت الخيل من ذلك الموضع على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضرب بعضهم بعضاً، والتبسوا، وقتل من المسلمين ناس كثير، وقد كان النصر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أول النهار، حتى قتل من أصحاب لواء المشركين سبعة أو تسعة، وجال المسلمون جولة نحو الجبل، ولم يبلغوا حيث يقول الناس: الغار، إنما كانوا تحت المهراس -أماكن في جبل أحد- وصاح الشيطان: قتل محمد، فلم يشك فيه أنه حق. أي: بسبب الارتباك، ودائماً تجد في أوقات الشدة أناساً عندهم الاستعداد لقبول أخبار الشر والسوء، وعندهم استعداد للتشاؤم، إلى أن قال: فرقى نحونا النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (غضب الله على قوم أدموا وجه رسول الله) ويقول مرة أخرى: (اللهم إنه ليس لهم أن يعلونا) قال: حتى انتهى إلينا فمكث ساعة، فإذا أبو سفيان يصيح في أسفل الجبل: اعل هبل مرتين. وهبل: اسم صنم من أصنام قريش، أين ابن أبي كبشة؟ يقصد النبي صلى الله عليه وسلم، فإنهم كانوا ينسبونه لزوج مرضعته. قال: أين ابن أبي كشبة؟ أين ابن أبي قحافة؟ أين ابن الخطاب؟ يسأل عن هؤلاء الثلاثة خصوصاً؛ لأنه يعلم أنهم أساس الإسلام، ويعلم أن وجودهم بقاء لهذا الدين. قال: فقال عمر: يا رسول الله! ألا أجيبه؟ قال: بلى، فلما قال: اعل هبل، قال عمر: الله أعلى وأجل. والمشهور أنهم لم يجيبوا حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم (ألا تجيبوه؟). قال عمر: الله أعلى وأجل. فقال أبو سفيان: يا ابن الخطاب! قد أنعمت عينها، فعاد عنها أو فعال عنها، فقال: أين ابن أبي كبشة؟ أين ابن أبي قحافة؟ أين ابن الخطاب؟ فقال عمر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا أبو بكر وهأنذا عمر. قال: فقال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، فالأيام دول، وإن الحرب سجال. قال: فقال عمر: لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار. قال: إنكم تزعمون ذلك، فلقد خبنا وخسرنا إذاً، ثم قال أبو سفيان: إنكم ستجدون في قتلاكم مثلة ولم يكن ذلك عن رأي سراتنا، أي: عن رأي سادتنا، قال: ثم أدركته حمية الجاهلية فقال: أما إنه إن كان ذلك لم نكرهه. وهذا سياق عجيب، وهو من مرسلات ابن عباس؛ فإنه لم يشهد أحداً ولا أبوه، وقد أخرجه الحاكم في مستدركه والبيهقي في دلائل النبوة، ولبعضه شواهد في الصحاح وغيرها. فقد روى الإمام أحمد عن ابن مسعود قال: إن النساء كن يوم أحد خلف المسلمين يجهزن على جرحى المشركين، فلو حلفت يومئذٍ رجوت أن أبر أنه ليس منا أحد يريد الدنيا، حتى أنزل الله عز وجل: ((مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ)) فلما خالف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعصوا ما أمروا به أفرد النبي صلى الله عليه وسلم في تسعة، سبعة من الأنصار ورجلين من قريش وهو عاشرهم صلى الله عليه وسلم، فلما رهقوه يعني: أدركوه قال: (رحم الله رجلاً ردهم عنا) قال: فقام رجل من الأنصار فقاتل ساعة حتى قتل، فلما رهقوه أيضاً قال: (رحم الله رجلاً ردهم عنا) فلم يزل يقول هذا حتى قتل السبعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبيه: (ما أنصفْنا أصحابنا أو ما أنصفَنا أصحابنا) يعني: نحن لم ننصفهم، إذ تركنا سبعة من الأنصار يقتلون ولم يقاتل واحد من المهاجرين، أو لم ينصفنا أصحابنا الذين فروا عنا، ولكن طلحة رضي الله عنه هو الذي ردهم، حيث قاتل قتال السبعة حتى ردهم رضي الله تعالى عنه. وقد كان الرسول يؤخر طلحة إلى اللحظة الأخيرة، حيث قام فقاتل قتال السبعة؛ لأنهم قتلوا ولم يردوا المشركين، أما طلحة فقد قاتل حتى ردهم، وانصرفوا عنه صلى الله عليه وسلم. قال: فجاء أبو سفيان فقال: اعل هبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قولوا: الله أعلى وأجل، فقالوا: الله أعلى وأجل) فقال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم. والعزى: إله من آلهتهم، يعني: أنه يتعزز به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قولوا: الله مولانا، والكافرون لا مولى لهم) فقال أبو سفيان: يوم بيوم، وحنظلة بـ حنظلة، وفلان بفلان، وفلان بفلان، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا سواء، أما قتلانا فأحياء يرزقون، وأما قتلاكم ففي النار يعذبون)، فقال أبو سفيان: قد كان في القوم مثلة، وإن كانت لعن غير ملأ منا. يعني: فليس الكبراء الذين أمروا بها، ثم قال: ما أمرت ولا نهيت، ولا أحببت ولا كرهت، ولا ساءني ولا سرني، يعني: ما حصل من المثلة، فإن أهل الجاهلية كانت عندهم كرامة، وكانوا يرون عدم التمثيل بالقتلى خصوصاً أنهم أولاد العم والأقارب، ومع ذلك فعلوا هذه الأفاعيل؛ لأن حمية الجاهلية كانت في نفسه، فهو يريد أن يتشفى شيئاً ما. قال: فنظروا فإذا حمزة قد بقرت بطنه، وأخذت هند كبده فلاكتها فلم تستطع أن تأكلها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكلت شيئاً؟ قالوا: لا، قال: ما كان الله ليدخل شيئاً من حمزة في النار).

الرفق في الدعوة إلى الله

الرفق في الدعوة إلى الله إن الله سبحانه وتعالى جعل إبراهيم إماماً للناس، وأوجب عليهم اتباع ملته، ووصفه بأنه أمة، وليس ذلك لشيء إلا لأنه قد وفى مراتب العبودية لله عز وجل. ولذا يجب على أهل الإسلام التأمل في سيرته ومواقفه لأخذ الدروس منها، فتعامله مثلاً مع والده الذي ما زال في شركه، كان يظهر فيه أوضح وأرقى صور الأدب والشفقة، وهذا درس عظيم جداً للدعاة، أي: أن يرفقوا بالمدعوين ويشفقوا عليهم. وكذا كان إبراهيم في صبره وتجلده في دعوته آية من الآيات، وكذا في ثباته على دينه وإعلانه العداوة والبغضاء لمن حادوا عن دربه السوي.

تكريم الله عز وجل لإبراهيم، وتشريفه له

تكريم الله عز وجل لإبراهيم، وتشريفه له إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله ألله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسله، صلى الله عليه وآله وسلم. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى قد جعل إبراهيم عليه السلام كما قال الله: {أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل:120 - 121] فقد جعله سبحانه وتعالى إمام الحنفاء، وكرمه وشرفه بأن جعله باني بيت الله الحرام، الذي أوجب الله عز وجل على المكلفين حجه وقصده تعظيماً لله سبحانه وتعالى، وإرادةً لوجهه، وجعل سبحانه وتعالى ملة إبراهيم هي الملة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم باتباعها فقال: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:123]. وجعل الله عز وجل له الثناء والذكر الحسن في الأمم كلها، فالكل ينتسب إليه، كما دعا بذلك عليه السلام فقال: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} [الشعراء:84]. وإن كان أتباعه حقاً إنما هم أتباع ملته الحنيفية التي بعث بها، وبعث بها كل الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. وحين يذهب الحجاج إلى بيت الله الحرام يذهبون معظمين لهذا البيت لبانيه، وكل ذلك عبودية منهم لله سبحانه وتعالى، مرددين نداء الرحمن على لسان الخليل عليه السلام، الذي أذن في الناس بالحج، فلباه من في أصلاب الرجال، ومن في أرحام النساء إلى يوم القيامة، حتى أذن الله عز وجل لهذه البقعة أن تعمر بذكره، وذلك حين تعمر بحجاج بيت الله الحرام. ونتذكر دعوة إبراهيم عليه السلام وسيرته التي ذكرت في القرآن العظيم مرات عديدة؛ حتى نعي منها دروساً وعبراً، وحتى نعرف حقيقة التوحيد والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، والبراءة من الشرك وأهله، والتضحية في سبيل الله. عند أن تظهر لنا معان عظيمة من آيات الله سبحانه وتعالى التي قص لنا فيها أمر إبراهيم صلى الله عليه وسلم ومواقفه المختلفة؛ نعرف لماذا اتخذه الله عز وجل خليلاً، كما قال عز وجل: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء:125]، والخلة: شدة المحبة، فهو حبيب إلى الله عز وجل، شديد الحب له سبحانه وتعالى. والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر بمنزلته عند الله وهي مقترنة بذكر منزلة إبراهيم عليه السلام فقال صلى الله عليه وسلم: (ألا إن الله اتخذني خليلاً، كما اتخذ إبراهيم خليلاً). والنبي صلى الله عليه وسلم قال له رجل: يا خير البرية! فقال: (ذاك إبراهيم عليه السلام)، وهذا قاله صلى الله عليه وسلم تواضعاً، أو قاله قبل أن يوحى إليه صلى الله عليه وسلم، لأنه سيد الخلق أجمعين. وأما إبراهيم عليه السلام فهو أفضل الخلائق على الإطلاق بعد محمد صلى الله عليه وسلم، وهو أفضل من الملائكة المقربين، وأفضل من سائر الأنبياء والمرسلين، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فهو خير الخليقة على الإطلاق، بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، لمواقفه العظيمة وإقامته لأمر الله سبحانه وتعالى، وقيامه بدعوة الحق، حتى صار من يعبد الله عز وجل في الأرض من بعده ينتسب إليه. وأعلى أمر هؤلاء العباد أن يكونوا متبعين لملة إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.

أثر دعوة إبراهيم عليه السلام مع قلة المستجيبين

أثر دعوة إبراهيم عليه السلام مع قلة المستجيبين ولقد قص الله عز وجل علينا في كتابه موافق إبراهيم العظيمة في الدعوة إلى الله وتوحيده، وإقامة أمره ودينه. مع قلة من استجاب له من قومه؛ فإنه لم يستجب له إلا رجل واحد، وامرأة واحدة، فاستجاب له لوط، كما قال عز وجل: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت:26] وأخبر سبحانه وتعالى أن امرأته كانت معه، فامرأته سارة وابن أخيه لوط هم ثمرة هذه الدعوة في زمنه، وإن كانت ثمرة هذه الدعوة لا تقاس في زمن الداعي فقط، وإنما تُرى آثارها في الأرض، وأنت إذا رأيت هذه البقعة التي لا زرع فيها ولا نبت ولا ماء ولا شيء يذكر، وإنما هي بين صخور صماء، ومع ذلك تجدها أكثر بقعة في الأرض يؤمها الناس؛ فإنه يؤمها ملايين من البشر في كل ليل ونهار، فضلاً عن وجوه مئات الملايين التي تتوجه إليها، إذا رأيت ذلك علمت ثمرة الدعوة إلى الله عز وجل، وكيف تكون؟ وعلمت أن دعوة صادقة تغير وجه الحياة على ظهر الأرض، كما دعا إبراهيم فقال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم:37]. فسبحان الله! تجد هذه البقعة التي لا ثروات فيها بوجه من الوجوه؛ فلا أرض تزرع، ولا معادن ينقب عنها، ولا سماء تمطر عليها، إلا في النزر اليسير، فلا أنهار تجري، ولا عيون تنبع، إلا عين زمزم التي إنما تفي بالشرب لا للزرع، ومع ذلك تجد هذه البقعة أكثر البقع -بحمد الله تبارك وتعالى- تهفو إليها القلوب، وتحن إليها، ولا يرى أحد أنه قد قضى منها وطراً، بل هي أمل الملايين من المسلمين، ولو علم الكفار ما في الراحة والسعادة في التوجه إلى هذه البقعة، وفي التواجد فيها، وفي عبادة الله عز وجل على أرضها، لما عدلوا عن الإسلام بديلاً، ولما رضوا بغير هذا الدين؛ لأن الله جعل هذا البيت هدى للعالمين، ولما لم يذوقوا طعم العبادة في هذا المكان رضوا بأن يتوجهوا إلى غيره، فقلوبهم مفطورة على أن تتوجه إلى هذه البقعة، لولا ما عفا عليها من الشرك والتبديل والتحريف، ولا حول ولا قوة إلا بالله! ولقد ذكر الله عز وجل دعوة إبراهيم عليه السلام لأبيه وقومه، وبين لنا الأسوة الحسنة في الدعوة إلى الله عز وجل في إبراهيم عليه السلام. فقال سبحانه وتعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا * وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} [مريم:42 - 50]. يخبر الله عز وجل عن إبراهيم أنه كان صديقاً، ومقام الصديقية جزء من مقام النبوة، وذلك أن الصديق عظيم التصديق، كثير اليقين، فهو يوقن بما أخبر الله عز وجل به من الغيب، ويصدق بكل ما أخبره الله عز وجل به. ومن كان كذلك فقد وصل إلى مراتب الإيمان العليا، وإبراهيم عليه السلام أراد أعلى المراتب، ولذا سأل ربه فقال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة:260]. علم إبراهيم أن المخبر ليس كالمعاين، فأراد المعاينة لهذا الأمر الغيبي، وهو كيفية إحياء الموتى، وليس ذلك شكاً منه عليه السلام كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (نحن أحق بالشك من إبراهيم) فإبراهيم لم يشك، ومحمد صلى الله عليه وسلم لم يشك، بل آمن كل منهما، ولكن أراد إبراهيم أن يرى بعينه، وذلك أن رؤية العين أكمل في حصول اليقين، ولذلك منَّ الله بها على نبيه صلى الله عليه وسلم في آياته الكبرى يوم المعراج كما قال عز وجل: {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم:12 - 18]. فرأى جبريل عليه السلام على صورته التي خلقه الله عليها، ورأى الجنة والنار، ورأى سدرة المنتهى يغشاها ألوان لا يقدر على أن يصفها من حسنها، وغشيها فراش من ذهب، رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بعينيه، ورُفع إلى مستوى يسمع صريف الأقلام، وهذه منزلة عالية له عليه الصلاة والسلام.

أهمية البدء بدعوة الأقربين

أهمية البدء بدعوة الأقربين كان إبراهيم عليه السلام صديقاً عظيم التصديق، وكان نبياً، وكذلك كان رسولاً إلى قومه، وبدأ عليه السلام دعوته بدعوة أبيه، كما قال عز وجل: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم:42]. وهكذا ينبغي أن يبدأ الداعي بعشيرته الأقربين، كما أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] يعني: رهطك منهم المخلصين. فبدأ النبي صلى الله عليه وسلم بدعوته قومه، ودعا أهل بيته عليه الصلاة والسلام، فآمن به من آمن، ورد دعوته من رد، وهكذا ينبغي على كل أحد أن يكون تأثيره أو دعوته أولاً لأهل بيته، والمقربين إليه من أقاربه وجيرانه وزملائه، وهذا أمر عظيم الأهمية، فليست القضية برسوم معينة لا نستطيع الدعوة إلا من خلالها، أو أشكال معينة لا تقوم الدعوة إلا بها، إنما الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى تكون بالقول، والعمل، والسلوك، وفي مخالطة الإنسان لمن حوله، ولو كان الإنسان صادقاً فإن الله عز وجل لا يجعل عمله هباءً منثوراً، خصوصاً في أقاربه وأهل بيته ومن يخالطه، فإن الله يضع للمؤمن القبول في الأرض، ولا نعني بذلك أنه لا بد أن يهتدي كل من تدعوهم من أهل بيتك، ولكن لا بد أن تبذل معهم الجهد الكبير مقدماً إياهم على غيرهم، لا أن تتركهم فريسة للشياطين التي تريد أن تفتك بهم. وهكذا كان أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين يدعون أهل بيوتهم، وهكذا كان الدعاة إلى الله عز وجل يهتمون دائماً بالمقربين منهم، ولا يعني ذلك أن تترك دعوة الأباعد والغرباء، ولكن ابدأ بأهل بيتك، واسع في إصلاح أسرتك: (فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته). كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. فتدعو الكبير والصغير، وتدعو آباءك وأجدادك، وتدعو أبناءك وأحفادك، وتدعو إخوانك وأقاربك، وتدعو كل من حولك إلى الله سبحانه وتعالى.

أهمية الرفق في الدعوة إلى الله

أهمية الرفق في الدعوة إلى الله ولتكن الدعوة بالأسلوب الرفيق الراقي الشفيق كأسلوب إبراهيم عليه السلام في دعوته، قال الله عنه: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم:42]، فناداه بقوله: (يا أبت!) ليذكره بالعلاقة بينه وبينه، والتي تقتضي كمال الشفقة، فذكره بلفظ الأبوة مضافاً إليه حرف التاء، وهذه الصيغة من أرق الصيغ التي تؤثر في نفس من شاء الله عز وجل هدايته، وهذه الكسرة التي في حرف التاء تشعر الأب بانكسار ابنه له، وهذا الانكسار من الرحمة، كما قال عز وجل: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:24]، وهذا الانكسار للوالدين لا يقع من كثير من الأبناء، فيترتب على ذلك من العقوق والقطيعة للأرحام ما لا يرضاه الله عز وجل. فالله عز وجل فرض على الابن أن يرفق بأبيه وأمه، وأمه مقدمة على أبيه في البر والإحسان وحسن الصحبة والرفق واللين، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم من سأله: (من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أمك وأباك وأختك وأخاك ومولاك الذي يلي ذاك، حق واجب ورحم موصولة). فينبغي أن تكون في أتم الحرص على إظهار هذا الرفق واللين، وإذا كان الله عز وجل قد أمر موسى وهارون أن يقولا لفرعون الطاغية قولاً ليناً، كما قال عز وجل: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44]، فأولى الناس بالرفق والقول اللين أهل بيتك، وأقاربك، خصوصاً والديك، وكن كما قال سبحانه وتعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل:125]، وأنت ليس عليك هدى أحد، ولكن عليك أن تحسن الأسلوب؛ فإن الفظاظة وغلظة القلب -خصوصاً مع الأقارب والآباء والأمهات- من أعظم أسباب نفرة الناس عن الالتزام بالكتاب والسنة، ومن أعظم أسباب سوء الفهم الذي يقع للكثيرين، فيصدقون وسائل الإفساد التي تشوه صورة الالتزام؛ لأنهم يجدون في سلوك أبنائهم البعيد عن الشرع مبرراً لتصديق ما يروجه أهل الباطل عن دعوة الحق، فلا بد أن تكون رفيقاً شفيقاً في دعوتك، فإن الله عز وجل رفيق يحب الرفق في الأمر كله، ولقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وإن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه). ولا نعني بذلك المداهنة وقول الباطل والسكوت عن الحق، وإنما نعني الأسلوب الطيب في توصيل كلمة الحق، وإظهارها، ولقد قال إبراهيم لأبيه وقومه: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} [الزخرف:26]، وقال: ((إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)) وقال عز وجل: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأنعام:74]. وليس هذا من باب السب والطعن، ولكن من باب بيان الحق، فلا نقول عن الحق: إنه باطل. فما أكثر ما يشتبه الأمر على الناس! فيصفون الباطل بأنه حق، وأنه لا بأس به، ويقولون: أسلوب حسن، ودبلوماسية في الدعوة! نعوذ بالله! فهذا هو الضلال، وهذا هو الذي يحصل به الانحراف. وإنما الأمر يكون في طريقة العرض، وفي استغلال العلاقة الأسرية، وعلاقة البنوة والأبوة والأخوة والقرابة في بيان الحق، وإظهار الشفقة، وإظهار إرادة الرحمة، والخير بمن تدعوه، وفي نفس الوقت تبين له الحق البيان الكافي والشافي، لا أن نتركه من دون بيان، ولا بد من أن يشعر منك بصدق مشاعرك في إرادة الخير له، وفي حب الخير له، فأنت بمحبتك له تحب له الخير، وتحبه ذلك الحب الفطري، فإذا لم يكن على الهدى تحب هدايته وإرادة الخير له، كما قال أبو بكر رضي الله عنه: (لإسلام أبي طالب كان أحب إلي من إسلام أبي قحافة؛ لأن إسلامه كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فهو يحب إسلام أبيه، وقد حقق الله عز وجل له ذلك. فالغرض المقصود أن تكون محباً لهداية أهلك وأقاربك، مؤثراً فيهم بحسن العشرة، والسلوك الطيب، والخلق الحسن، الذي يجعلهم يحبونك رغماً عنهم، ويصدقون كلامك وإن أظهروا التكذيب، والرد؛ فأنت ببرك لوالديك وصلتك لرحمك وإحسانك إلى جيرانك تكون قد سلكت سلوكاً مباركاً في الدعوة إلى الله، إما إذا عققت والديك وقطعت رحمك وأسأت إلى جيرانك فتكون بفعلك قد قمت بأعظم أسباب الصد عن سبيل الله. وإن كنت مظهراً أنك تدعو إلى الله، وإن كنت مظهراً أنك ملتزم بحقيقة الالتزام والدين والطاعة، فلا بد أن تكون مجتهداً في إظهار الإحسان إلى الخلق.

بيان ضعف وعجز الآلهة التي تدعى من دون الله عز وجل

بيان ضعف وعجز الآلهة التي تدعى من دون الله عز وجل قال الله عز وجل حاكياً عن إبراهيم: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم:42]، وفي هذا بيان لعجز كل ما يعبد من دون الله، وفقره وحاجته، وأنه لا يغني عن نفسه شيئاً، فكيف يغني عن غيره وهو لا يسمع ولا يبصر؟! وهذه متضمنة لإثبات صفة الكمال لله سبحانه وتعالى، فهو عز وجل السميع البصير، الغني الحميد سبحانه وتعالى. فأنت تبين أن ما يعبد من دون الله لا يملك شيئاً، فلا يسمع ولا يبصر، ولا يغني عن عابديه شيئاً. فالبشر الذين يعيشون مدة يسمعون ويبصرون، وليس سمعهم بالسمع المحيط، ولا بصرهم بالبصر المحيط، ثم هم كذلك يموتون فيذهب سمعهم، ويذهب بصرهم، وكانوا قبل ذلك في العدم، ولذا فإن من يعتقد في الأموات السمع والبصر المحيط ويسألهم على ذلك، ويعتقد أنهم يرونه ويجيبونه ويغنون عنه شيئاً، فهو -والعياذ بالله- مشرك بالله العظيم. فيقال له: ((لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا)). فالذي يعبد القبور وأصحابها، ويعبد الجن، ويعبد من يعبد من هذه الأوثان التي وضعت لترمز إلى هذه الآلهة الباطلة، فيقال له نفس الحجة: ((لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا)).

بيان شرف العلم وعلو منزلة صاحبه

بيان شرف العلم وعلو منزلة صاحبه قال عز وجل عن إبراهيم: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} [مريم:42 - 43]. شرف العلم عظيم، به يعلو الصغير على الكبير، ويرتفع الابن على الأب، ويكون الإنسان فوق غيره؛ لأن الله يرفع العبد درجات بالعلم، كما قال عز وجل: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11]، وقال: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام:83]. فالله عز وجل يرفع الدرجات بالعلم. وقوله: ((يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي))، هذا علاج لمرض ينتشر في كثير من الناس، وهو أنه لا يقبل الحق من الصغير، ولا يقبل الحق ممن دونه في السن أو دونه في المنزلة عند الناس، فإبراهيم يذكر أباه بأنه قد جاءه من عند الله من العلم ما لم يأته، فليست العبرة بطول العمر، ولا بكبر السن، ولا بالمنزلة الاجتماعية لدى الناس، وهذا أمر يستفيد المؤمن منه في دعوته إلى الله عز وجل، إذ يبين للناس أن العبرة باتباع من جاءه العلم من عند الله، والعلم من عند الله هو العلم بالوحي المنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن كان عنده من العلم شيء فينبغي اتباعه، سواء أكان كبيراً في السن أم صغيراً. كما وكان عمر رضي الله عنه يدني القراء، وكانوا في عهده رضي الله تعالى عنه أصحاب مجلسه ومشورته، كهولاً كانوا أو شباناً؛ فكان القراء الحافظون لكتاب الله هم أصحاب مجلس عمر، وكان منهم الحر بن قيس. ولم يكن رضي الله تعالى عنه يقدم أي أحد لكبر سنه، وإنما لمنزلته وعلمه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء، فأكبرهم سناً). فالإنسان إنما تكون له المنزلة بالسن إذا استوى في غيره من الفضائل مع غيره، وأما أن يحترم الكبير فنعم، ولكن لا يلزم من هذا الاحترام أن يكون متبعاً على أي حال، وإنما يحترم ويعرف قدره، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقر كبيرنا، ويعرف لعالمنا حقه). ولكن هذا الاحترام وهذا التوقير ليس معناه قبول كل ما يقوله الكبير. وقوله: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} [مريم:43]. أهدك بمعنى: أبين لك، وإلا فهداية القلب لا يملكها إلا الله، وهو سبحانه وتعالى أعلم حيث يجعل هدايته، وحيث يجعل رسالته، وهو أعلم بالشاكرين، وأعلم بالظالمين، فإنه يضع الهدى في مواضعه، كما قال عز وجل: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56] فهو سبحانه يعلم من يستحق الهدى، ومن يناسبه، ومن يقبل الهدى فينبت أنواع الطاعات ونور الخيرات في قلبه؛ لأن الأرض، والمحل قابل لهذا الخير. وقوله: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} [مريم:43]. أي: مستقيماً معتدلاً قصداً، وهو الذي يوصل إلى الله سبحانه وتعالى.

النهي عن عبادة الشيطان

النهي عن عبادة الشيطان وقوله: {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} [مريم:44]. أكثر الخلق يعبدون الشيطان، وإن كانوا لا يظهرون ذلك، وربما لا يشعرون بذلك، فلا يوجد إلا قلة هي أقرب إلى المجانين لا بل إلى البهائم بل أسوأ من ذلك ممن يقرون بعبادة الشيطان صراحة! ولكن أكثر أهل الأرض يعبدون الشيطان بطاعته في الكفر، وبعبادة ما يأمرهم بعبادته من الأوثان، والأشخاص والآلهة الباطلة من دون الله، أو مع الله عز وجل تعالى الله عن شركهم علواً كبيراً. فقوله: ((يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ)) يعني: بطاعته في دعوته إلى الكفر، وكل من عبد غير الله فقد عبد الشيطان في الحقيقة؛ قال عز وجل: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا * لَعَنَهُ اللَّهُ} [النساء:117 - 118] فهم عبدوا الشيطان حين أطاعوه فيما شرع لهم من الكفر والشرك، وكل عابد لغير الله ومكذب لأنبيائه الله ورسله وكتبه فهو عابد للشيطان؛ إذ هو الذي أمر بعبادة غير الله، وأمر بتكذيب الرسل، ولذلك كان كل كافر مشركاً، وكل مشرك كافراً؛ لأنه غير فطرة التوحيد التي فطر الله الناس عليها، فهناك تلازم بين الشرك والكفر، والله سبحانه وتعالى حذر بني آدم من عبادة الشيطان، ألا يعبدوه بقوله: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} [يس:60 - 62]. نسأل الله أن يعيذنا من عبادة الشيطان. فكثير من الناس يسبه ويلعنه، ولكنه مطيع له وعابد. كما أن أكثر الناس إذا اتبعوا أهواءهم ربما ينفون عن أنفسهم ذلك -أي: عبادة أهوائهم-، لكنهم طالما اتبعوا الهوى في الكفر كان ذلك عبادة له، كما قال عز وجل: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} [الفرقان:43]، وهذا كحال من يعبدون الدرهم والدينار والقطيفة والخميصة مع أنهم يذمون طالب الرياسة، ويجعلونها مذمة، كما ذم قوم فرعون موسى وهارون بالباطل حين قالوا لهما: {وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ} [يونس:78]، فهما بزعمهم يريدان الكبرياء، وهذه مذمة، مع أن قوم فرعون هم الذين يريدون الكبرياء. وأهل الرياسة والملك هم الذين يريدون الملك والرياسة ويقتتلون من أجل ذلك، ومع ذلك يذمون من يريد الملك والرياسة، ويزعمون أنهم لا يريدونها إلا لمصلحة الناس، ومن أجل أن يحافظوا على الطريقة المثلى، ووالله! ما هي بمثلى، ولكن هذا شأن هؤلاء القوم الذين يعبدون الشياطين، وفي نفس الوقت يذمونها. ويعبدون الأهواء، ويزعمون التبرؤ من الهوى. ويعبدون الدرهم والدينار والقطيفة والخميصة ويذمون من يريد ذلك، ويقولون: هذا إنسان تابع للمال، ويشترى بالمال، ويذمون المال، ويقولون: نحن لا نحبه، مع أنهم يقتتلون من أجله، فهؤلاء لا يغني تبرؤهم عنهم شيئاً. وكونهم لا يسمونها عبادة مع كونها عبادة لا يغني عنهم شيئاً، ولذا كان من يعبد غير الله من الأموات وإن لم يسم فعله عبادة يعبد عابداً لهم، كما أن من يعبد غير الله من الكبراء والأحبار والرهبان ممن يقبل تشريعهم من دون الله وإن لم يسم فعله عبادة فقد عبدهم، ولا ينفعه ذلك بعد بلوغ الحجة، ووصولها إليه؛ لأن هذه عبادة له من دون الله. وقوله: {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} [مريم:44]. انظر إلى هذا التعليل، وتأمل وتدبر كيف أنه جعل طاعة الشيطان لا تجوز، ولا تنبغي؛ لأنه عاص للرحمن.

سبب النهي عن عبادة الشيطان واختيار اسم الرحمن

سبب النهي عن عبادة الشيطان واختيار اسم الرحمن وذكر الله باسمه الرحمن المتضمن صفة الرحمة الظاهرة في الكون ظهوراً واضحاً جلياً بيناً لكل من يتأمل. وتظهر آثار هذه الرحمة العامة فيما خلق من البشر، وخلق في قلوبهم من أنواع الشفقة والرحمة على ذويهم، وأولادهم، وجعلها كذلك في الدواب، وآثار رحمة الله عز وجل لأهل الأرض بالمطر وبالأنهار وبالليل والنهار، وبأنواع الرحمات، وهذا أمر ظاهر، لا يخطئه متأمل. فذكره بأن الرحمن يريد بنا الرحمة، ويريد أن يرحمنا، والشيطان عصي له، فلا تعبده بطاعته في الوقوع في الكفر والعياذ بالله! ولذا كانت هذه العلة مقتضية بأن كل من كان للرحمن عصياً لا تجوز طاعته، ولا متابعته. وقوله: ((إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا))، الشيطان عصي للرحمن، وشياطين الإنس كذلك عصاة للرحمن، وكل من عصى الله فلا يطاع في معصية الله عز وجل، ولا يتابع، وإلا كان ذلك من عبادته، أو مؤدياً إليها، نعوذ بالله من ذلك. فالإنسان لا بد أن يعلم لمن تكون طاعته ومتابعته، فلا يتابع إلا الحق، ومن يأمر به، من يدعو إلى عبادة الله، وأما من يطيع غيره ممن عصى الله عز وجل فإنما يصل إلى الشقاء، ويُمنع من الرحمة. نسأل الله العافية من ذلك.

طاعة العصاة سبب الشقاء

طاعة العصاة سبب الشقاء والشقاء في هذا العالم إنما هو بسبب طاعة من كان للرحمن عصياً، وأعظمهم إبليس، ولهذا قال: {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} [مريم:44]. فلا تجوز طاعة الأثمة والكفرة، قال عز وجل: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان:24]. وقال سبحانه وتعالى لإبراهيم: ((لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ))، فالظالمون ليس لهم إمامة للناس، كما قال عز وجل: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124]. فليس الظالمون داخلين فيمن أمرنا باتباعهم وطاعتهم، ولذا ولاية الناس يجب أن تكون فيمن اتقى الله سبحانه وتعالى، ولا يجوز أن يولى على الناس من يأمرهم بعبادة غير الله، وبمخالفة شر عه، فكيف يقال للناس: إنه يلزمكم أن تطيعوا طالما أنكم في سلطان الكفرة الذين ينهونكم عن طاعة الله عز وجل، وهذا هو حقهم عليكم طالما كانوا كفاراً؟! نعوذ بالله من الظلال والطمس على القلوب؛ إذ كيف يكون الباطل سبباً لرد الحق، ولإحقاق الباطل، وكيف يكون الكفر -والعياذ بالله- سبباً لأن يكون الإنسان من حقه أن ينهى غيره عن عبادة الله. فهل الأرض أرض الكفرة والظلمة والمجرمين أم هي أرض الله، والعباد عباده؟ فلا بد أن يطيعوا ربهم عز وجل. بل نقول لكل مؤمن ومؤمنة في كل مكان في الأرض: لا تطيعوا من يعصي الرحمن؛ ولا تطيعوا من يأمر بمخالفة شرعه سبحانه وتعالى، وإن غلب الإنسان على أمر، فلا بد مع الإكراه من طمأنينة القلب بالإيمان، وليس لمجرد المصالح الوقتية الدنيوية التي يستغني الإنسان عنها، وإنما يكون الإنسان عند المخمصة والمهلكة، والضرورة التي تعجزه عن الحياة أو تفقده حياته وضروراته. أما لمجرد نيل شيء من حطام الدنيا عند الناس، فلتذهب الدنيا بأهلها إن كانت في معصية الله. نسأل الله عز وجل أن يوفقنا لما يحب، ويرضى. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

من صفات الداعي إلى الله عز وجل

من صفات الداعي إلى الله عز وجل الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم. أما بعد: قال سبحانه وتعالى عن إبراهيم عليه السلام في دعوته لأبيه: {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم:44 - 45]. فينبغي على الداعي إلى عز وجل أن يظهر الشفقة والخوف على من يدعوه إلى الله سبحانه وتعالى، وهكذا كانت الرسل دائماً يخافون على أقوامهم، ويظهرون ذلك لهم؛ لأن ذلك من أسباب إيقاظ العلاقة الحسنة التي يريد الشيطان أن لا يشعر الإنسان بها، حتى لا تستجيب الفطرة السليمة لها، وهي العلاقة الطيبة التي يستجيب بها هذا الأب لابنه ويظهر أنه مشفق عليه. وقد قال المؤمن الذي من آل فرعون نفس هذه الكلمة، قال الله سبحانه وتعالى عنه في دعوته لقومه: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ * وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ} [غافر:30 - 32]. فلا بد أيها الداعي إلى الله من أن تكون خائفاً على الناس، لا تريد أن يدخلوا النار، أو يحكم عليهم بها، أو يحكم عليهم بأنواع العقاب، وإنما عليك أن تحب لهم الخير، تريد لهم النجاة. فتخاف وتشفق عليهم فعلاً؛ لأن الدعاة إلى الله عز وجل هم أتباع الأنبياء، فيخافون عليهم كالأنبياء. وهذه الشفقة تحيي في قلوبهم الفطرة السليمة في اتباع من هذا شأنه، والله سبحانه وتعالى أرحم بعباده من الأم بولدها، فأنت إذا أظهرت صفات الرب سبحانه وتعالى كان ذلك من أسباب قبول الخير من هذا العبد وإظهار شفقتك على الناس له أساليب بأنواع مختلفة بحسب حال الداعي والمدعو.

دعوة إبراهيم عليه السلام لأبيه ورحمته به

دعوة إبراهيم عليه السلام لأبيه ورحمته به وقوله: ((يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ)) تأمل في هذه الألفاظ، فمجرد مسيس عذاب يخاف على أبيه منه فهو لا يخاف فقط أن يلقى في النار، وإنما يخاف أن تمسه النار، فهو يظهر له مدى شفقته، وأن مجرد أدنى مس للعذاب يخاف عليه منه، فتأمل ذلك! فلو كان قلب أبيه يتحرك لتحرك، ولكن قدر الله سبحانه وتعالى وما شاء فعل. ولكن إنما ذلك ليكون أسوة حسنة في الدعوة إلى الله، في الصبر والاحتمال، حتى ولو لم ير أثراً لذلك. وقوله: ((يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ))، فإذا عذبك الرحمن فمن يرحمك إذاً؟ فالرحمن الذي صفته الدائمة اللازمة له الرحمة إذا عذب فمن يرحم؟ فالله سبحانه إذا لم يرحم عبده فلن يرحمه أحد، فهو الرحمن وحده. وإنما استوجب العبد العذاب لما فعله واجترمه، وليس لأن الله عز وجل لم يرحمه؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يحرمه ما يستحق. وإنما هو الذي فعل ما استوجب به عذاب الرحمن. أما الرب سبحانه فالرحمة أحب إليه من العذاب والعقاب، ورحمته سبحانه تغلب غضبه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب كتاباً فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي تغلب غضبي، أو: إن رحمتي تسبق غضبي) أو كما قال صلى الله عليه وسلم فالله قد كتب على نفسه الرحمة، كما قال عز وجل: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ} [الأنعام:12] فرحمته سبحانه وتعالى وسعت كل شيء، فإذا عذب فقد أخرج الإنسان من رحمته وأي رحمة، ولذا لا ترحمه الملائكة، ولا المؤمنون، ولا شركاؤه في النار، ولا يرحمه أحد، بل لا ترحمه نفسه، فيمقت نفسه ويبغضها، فينادي مع أهل النار. مالكاً: (يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77]. ولهم نداء آخر ذكره الله بقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ * قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [غافر:49 - 50]، ويسترحمون المؤمنين بقولهم كما أخبر الله عنهم: {أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف:50]. نعوذ بالله من ذلك، فإذا كان الإنسان قد خرج عن رحمة الرحمن الرحيم، فلن يقع في رحمة أحد، ولن يرحمه أحد.

نعيم القرب من الرحمن وشقاء القرب من الشيطان

نعيم القرب من الرحمن وشقاء القرب من الشيطان وقوله: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم:45]. أي: فتكون من أولياء الشيطان، ومن المقربين منه. فتشقى شقاء لا نعيم بعده أبداً. وإنما يشقى الإنسان بقربه من الشيطان، ويتنعم بقربه من الرحمن، وإنما صارت الجنة جنة؛ لأنها قريبة، وأهلها مقربون إلى الله سبحانه وتعالى، وإنما النعيم أصلاً في القرب منه. وإنما يتنعم الإنسان في الدنيا إذا تقرب إلى الله، وإن كان لا يمكنه أن يتقرب ببدنه وإنما يتقرب بروحه، قال عز وجل: ((وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ)). ولذلك يسعد المقربون من الله، ويسعد من تقرب إليه سبحانه، والله يقترب منهم رحمة وإثابة منه سبحانه وتعالى؛ لتقربهم إليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: (ومن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، ومن تقرب إلي ذراعاً تقربت منه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيه هرولة). فمن قرب إلى الله سعد واستراح، وسكنت نفسه، ومن قرب من الشيطان تعس وشقي. وقوله: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم:45] النار إنما هي بعد وعذاب، ولذا كانت اللعنة بعداً؛ لأن فيها الطرد والرجم، وصف الشيطان بالرجيم أي: المطرود المبعد، كما قال عز وجل: {وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} [ص:78]. أي: عليه الإبعاد، فهو مبعد من رحمة الله. والبعد عن الله عز وجل أعظم شقاء للإنسان، والمعاصي من أسباب البعد، وإنما يشقى الإنسان بالمعصية والكفر؛ لأنه بعد عن الله سبحانه وتعالى، وقرب من الشيطان. فالشياطين إنما تأوي إلى كل قبيح، ولذا كانت مخالطة شياطين الإنس والجن والجلوس معهم في مجالس الفسوق والعصيان عذاب للإنسان، نعوذ بالله من ذلك. ونعوذ بالله من ولاية الشيطان، ومن القرب منه، ومن طاعته، وكلها متلازمة، فإن من أطاع الشيطان واتبع أمره وقرب منه صار عدواً للرحمن، وولياً للشيطان، فكان -والعياذ بالله- معذباً في دنياه قبل أخراه، نسأل الله عز وجل أن يبعدنا عن الشيطان، وعن سبله، وأن يقربنا منه سبحانه وتعالى، وأن يرزقنا القرب منه في الدنيا والآخرة، وأن يرزقنا النظر إلى وجهه. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين. اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين! ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين. ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا. اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا. اللهم انصر عبادك المجاهدين في سبيلك في كل مكان، وانصر الدعاة إليك في كل مكان، ونج المستضعفين من المسلمين في كل مكان. اللهم فرج كرب المكروبين، وفك أسر المأسورين، وارفع الظلم عن المظلومين. اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر. اللهم إنا نسألك الغنيمة من كل بر، والسلامة من كل إثم، والفوز بالجنة والنجاة من النار. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

القلب السليم

القلب السليم صلاح القلب وسلامته هو الأساس لصلاح الفرد والمجتمع، والقلب السليم يعد من أسباب النجاة يوم القيامة، بل لا ينجو في ذلك اليوم إلا من كان له هذا القلب. والقلب السليم هو سبب للتمكين في الأرض، فإن سنة الله في الأرض أن لا يمكَّن لأناسٍ مرضى القلوب؛ حتى لا يسلب بعضهم بعضاً ويقتل بعضهم بعضاً، فيجب على المسلم الاهتمام بقلبه، وأن يتجرَّد لله سبحانه وتعالى وحده، وأن يعمل العمل يبتغي به وجه الله، فلا يلتفت إلى الناس ولا يريد منهم جزاءً ولا شكوراً، وهذا هو الإخلاص الذي هو علامة سلامة القلب.

وجوب الحرص على سلامة القلب وتزكية النفس

وجوب الحرص على سلامة القلب وتزكية النفس إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. يقول سبحانه وتعالى: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ * قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ * بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ * أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ * وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ * كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ * أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ * وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ * وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ * وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ * أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ * قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ * قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ * يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ * وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ * وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ * وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ * فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ * وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ * إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ * يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق:1 - 45]. عباد الله! لقد خوفنا الله سبحانه وتعالى وعيده، وأخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقرب الساعة فقال (بعثت أنا والساعة كهاتين، وإن كادت لتسبقني)، فرسول الله صلى الله عليه وسلم بين يدي الساعة، فهل أعددنا لهذه الساعة العمل الذي يناسبها مما أمرنا الله سبحانه وتعالى به؟ وهل هربنا من وعيد الله عز وجل وخفنا من عقابه؟ واعلموا أنه لا ينجو بين يدي الله يوم القيامة إلا من أتى الله بقلب سليم، كما قال الخليل إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام في دعائه: {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:87 - 89]. فسلامة القلب هي أول صفة يجب على المكلف أن يحرص عليها، والحقيقة أن الإيمان الكامل الواجب لا يكون إلا بسلامة القلب مما لا يحبه الله ولا يرضاه، من سائر الأمراض التي كرهها الله عز وجل وأمر العباد أن يعالجوها في أنفسهم، وأن يداووها حتى لا تستفحل فتقضي على ما في القلوب من إيمان، والشرك من أعظم الأمراض خطراً، وكذلك الكبر، والعجب، والغرور، وسائر أمراض النفس التي تنشأ منها أنواع البلايا والعياذ بالله تنشأ منها صراعات الناس فيما بينهم على هذه الدنيا، وينشأ منها الشرك والعناد والكفر والنفاق؛ كل هذا بسبب أن الإنسان لم يداو نفسه، ولم يسع إلى علاج جهلها وظلمها، فالإنسان ظلوم جهول، إلا من رحمه الله سبحانه وتعالى وجعل في قلبه العدل بدل الظلم، والعلم بدل الجهل، فهو سبحانه وتعالى يعلَّم عباده بوحيه ويأمرهم أن يداووا أنفسهم، مع أنه أخبرهم أنه سبحانه هو الذي يشفي هذه القلوب ويحييها بعد موتها، ليعلمهم أنه سبحانه يفعل ذلك بأسباب كما في كل قضاء قدَّره؛ فإنه يتم من خلال الأسباب، ولذا أمر العباد أن يزكوا أنفسهم، وأمرهم أن يداووا أمراضهم، وهم موقنون مع ذلك أن الله وحده هو الشافي لا شفاء إلا شفاؤه سبحانه وتعالى، ولذا كان واجباً علينا أن نسعى في الأخذ بالأسباب في علاج أمراض النفوس، وفي تسليم القلوب لله سبحانه وتعالى، مع اليقين بأن فضل الله أسبق، وأنه سبحانه وتعالى هو الذي يزكي نفوسنا، فهو خير من زكاها، ولذا كان عليه الصلاة والسلام -وهو العبد الشكور- يقول في دعائه: (اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها). فالله عز وجل هو الذي يزكي النفوس، وقد أفلح من زكى الله نفسه، وقد خاب من دسى الله نفسه، وإن كانت التزكية أو التدسية التي تكون إنما هي عدل من الله عز وجل أو فضل، ففضل الله سبحانه ينال أهله الذين أهَّلهم الله سبحانه وتعالى لذلك، وعدل الله عز وجل يقع على من يستحقه، نسأل الله سبحانه وتعالى العفو والعافية.

سلامة القلب سبب التمكين في الأرض

سلامة القلب سبب التمكين في الأرض إن سلامة القلوب وصلاحها لا يكون إلا بفضل الله، والعون منه سبحانه وتعالى، لكن علينا أن نسعى إلى سلامة قلوبنا وصلاحها؛ لأن تسليم القلوب لله عز وجل وسلامتها وصحتها من الأمراض سبب لنجاة العبد يوم القيامة، وسبب لتمكين الله للطائفة المؤمنة في الأرض، فإن الله عز وجل إنما يغير موازين الكون وسننه التي يسير عليها من أجل الطائفة المؤمنة القليلة المستضعفة، التي ليس عندها من أسباب القوة أو العدد والعدة ما تفوق به غيرها، ولا يتحقق ذلك إلا إذا سلمت قلوبها لله تعالى، فإن الله عز وجل سوف يعطيهم رقاب العباد والبلاد، فإذا كانت النفوس لم تتزكَّ بعد ولم تنطرح ولم تسلم، فإنها إذا تمكنت أوشكت أن تجعل العباد عبيداً لها من دون الله، والله عز وجل لا يقبل من السعي إلا ما كان خالصاً لوجهه، وأما ما كان من عجب وغرور وكبر وعمل لغير الله سبحانه وتعالى فإنه مضمحل باطل لا يقبله الله سبحانه، فإذا تمكنت هذه النفوس وهي لا تزال تتعلق بالدنيا، وبنصيبها وبرؤية الناس لها، فهذا أمر لا يحصل معه الخير ولا تحصل معه الغاية من تمكين المؤمنين، والتي هي كما قال ربعي: (إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد).

الإخلاص علامة لسلامة القلب

الإخلاص علامة لسلامة القلب إن الغاية المقصودة أن يعبد الناس ربهم سبحانه وتعالى وحده لا شريك له، ولذلك كان الإخلاص لله عز وجل علامة لسلامة القلب، وهو الذي أُمرت به الأمم من قبلنا، قال الله عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5]، وقال عز وجل لنبيه عليه الصلاة والسلام: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي * فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الزمر:14 - 15]، والإخلاص عزيز نادر فلا بد على الإنسان أن يحرص عليه، وفي نفس الوقت يعلم أنه لا يناله إلا بالمجاهدة المستمرة، ولا يناله إلا بمراقبة نفسه ونيته، فلا يتركها هكذا بغير مراقبة؛ فإن من أيسر الأمور على الشيطان الدخول على النية، وأيسر شيء عليه هو أن يغير الأمر بعد استقراره، وهذا أمر عظيم الخطر، لا بد للإنسان أن يراقب نفسه على الدوام، ومن هنا فاز السابقون وانتصر المجاهدون على أنفسهم، وكان لهم عند الله سبحانه وتعالى المنازل العالية بالمراقبة الدائمة والمحاسبة للنفس. كما أمر الله عز وجل بالمحاسبة والمراقبة والنظر إلى العمل بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر:18 - 19]، ونسيان الله عز وجل إنما يحصل إذا انشغل الإنسان بحظ نفسه ونصيبها، وهذا الذي يدفعه إلى أن يراقب الناس، وأن يحاسب نفسه على ما يقتضيه موقفه عند الناس، فينسى ربه وينسى نفسه والعياذ بالله، فلا بد للمسلم أن يعمل العمل وهو متصوّر لهذا العمل والغاية منه وما موقفه بين يدي الله عز وجل من هذا العمل، وماذا سوف يجيب ربه سبحانه وتعالى عندما يسأله، نسأل الله عز وجل ألا نناقش الحساب؛ فإنه من نوقش الحساب عُذِّب، كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم.

النظر إلى مدح الناس وذمهم سبب الهلاك والخسران

النظر إلى مدح الناس وذمهم سبب الهلاك والخسران إن العبد الذي يكون مع الله سبحانه وتعالى هو العبد المخلص الذي يراقب نفسه ولا يتركها تطمح وتطمع فيما عند الناس، ولا فيما يقوله الناس ويظنونه به، هذا هو الذي ينجو بإذن الله تبارك وتعالى، أي: من يكون مع الله سبحانه وتعالى بلا نظر إلى مدح الناس وذمهم، ومدح الناس هو الذي يسعى إليه أكثر الخلق إلا من رحم الله، ومن هنا كان هلاكهم نعوذ بالله من ذلك، فقول الناس وما يظنونه دفع أناساً إلى الحسد وإلى الكفر وإلى العناد رغم علمهم بالحق، فما الذي دفع كفار قريش إلى أن يكفروا بمحمد عليه الصلاة والسلام؟ ألم يكن ذلك بسبب ما يقوله الناس: إن بني هاشم سبقوا وقالوا: منا نبي فمن أين لهم أن يكون منهم نبي وليس منا نبي؟! ولذلك قالوا: {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31] فكلام الناس هو الذي يخافون منه، وهذا من أعظم الخطر. ألم يكن سبب كفر فرعون هذا الكبر والعياذ بالله، ورؤية كمال النفس التي هي في الحقيقة من أفقر وأضعف وأحقر النفوس، ولكن الشيطان هو الذي يغذي هذا الأمر في نفس كل إنسان، فمن قاومه أفلح ونجح، ومن ترك نفسه على ما يغذيها الشيطان به من أنه هو الأفضل وهو الأحسن وهو الأعلى فهذا هو الذي يغلبه شيطانه، ففرعون قال لقومه: {يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:51 - 52]. فإن هذه هي المشكلة الواضحة عند فرعون، وهي اعتقاده بأنه أفضل من موسى، فالعقدة في نفسه هل موسى أفضل منه أم هو أفضل من موسى؟ ولذلك يوازن عند قومه بينه وبين موسى، فكان كفره بسبب هذا الكبر والعياذ بالله، ولذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)، وهذا هو الذي أدى إلى كفر إبليس والعياذ بالله، قال تعالى حاكياً عنه: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12].

خطورة النظر إلى النفس بعين الكمال

خطورة النظر إلى النفس بعين الكمال النظر إلى النفس بعين الكمال ينافي حال الأنبياء والصالحين، كيف ينظر إنسان عاقل إلى نفسه على أنه الأكمل والأحسن وهو يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق على الإطلاق وأعلاهم عند الله منزلةً يقول في دعائه: (اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي جدي وهزلي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت) ومع كل هذا الأمر يقول في خاتمة دعائه: (وما أنت أعلم به مني)، فهو يستشعر التقصير في السر والعلن، ويستشعر النقص والذنب والخطيئة فيما قدم وفيما أخر، وبعد كل هذا يقول: (أنت المقدم، وأنت المؤخر، وأنت على كل شيء قدير)، إذا كان هذا هو حال رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل للناس: (يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه؛ فإني أتوب إلى الله في اليوم أكثر من سبعين مرة)، وهو عليه الصلاة والسلام المعصوم من الذنب، وهو الذي لا يتعمَّد مخالفة أمر الله عز وجل ومعصيته بإصرار أو بمعرفة قبل ذلك، وإنما ذنبه عليه الصلاة والسلام إنما هو خطأ أو نسيان أو ترك لبعض الأَولى أو فتور عن ذكر مستحب، وهو مع ذلك يقول هذا الكلام، فكيف بمن دونه؟! وهذه نظرة المؤمن دائماً إلى نفسه؛ بأن يرى نفسه هالكاً إلا أن يرحمه الله عز وجل، وليس عنده عمل يستحق أن يقبل إلا أن يتفضل الله عز وجل عليه، لسان حاله يقول في خطابه لربه: وجئنا ببضاعة مزجاة، فما الذي جعل إخوة يوسف يطلبون منه هذا الطلب ويطمعون فيه مقابل البضاعة المزجاةٍ، أي: البضاعة البائرة التي لا تروج ولا تقبل، وبسبب طمعهم في كرمه قالوا له: {يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} [يوسف:88]، فهم يرجون منه الإكرام وأن يوفي لهم الكيل مع أن بضاعتهم مزجاة، وهكذا لسان حال المؤمن في معاملته لربه عز وجل يرى نفسه المقصر الذي لا يستحق أن يقبل له عمل، ولكن طمعه في فضل الله ورحمته يجعله يتقرب إلى الله بهذا العمل اليسير، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (واعلموا أنه لن يدخل أحدَكم الجنة عملُه، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته). فانظروا فيم كان الرجاء؟ وعلام كان التوكل؟ وبم تكون الاستعانة؟ ليس بالعمل! مع كونه عليه الصلاة والسلام في غاية الكمال بالنسبة إلى البشر؛ لأنه فيما بينه وبين الله عز وجل قد حقق ما ينبغي أن يكون عليه العبد من الذل والاستكانة والانكسار بين يدي الله؛ وما ذلك إلا لكمال هذه العبودية عنده، فهو نظر إلى النقص والتقصير ولم ينظر إلى الكمال، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من عباده المخلصين.

ضرورة معالجة أمراض القلوب

ضرورة معالجة أمراض القلوب لا شك أن القلوب تحتاج دائماً إلى مداواة لأمراضها؛ وهذا ينبني عليه تذكر الموقف بين يدي الله، وتذكر الآخرة، ومعرفة صفات الله سبحانه وتعالى على وجه الكمال، ومعرفة عجز البشر ونقصهم وضعفهم وخطيئتهم وذنوبهم، وأنه مهما كان حال العبد فإنه لا يمكن أن يصل إلى ما ينبغي أن يكون عليه، فإن الله عز وجل لو عذب أهل سماواته وأرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً لهم من عملهم. نسأل الله عز وجل أن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

النظر إلى النفس بعين التقصير من علامات الكمال

النظر إلى النفس بعين التقصير من علامات الكمال الحمد الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحد لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد: فإن الله عز جل أغنى الأغنياء عن الشرك، كما قال سبحانه في الحديث القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه)، ولذا كان العمل الذي فيه نية إرادة الناس مع إرادة وجه الله عز وجل غير مقبول عند الله تعالى، فقد سئل النبي عليه الصلاة والسلام: (أرأيت الرجل يقاتل يلتمس الأجر والذكر؟ قال: لا شيء له)، فهذا الرجل قاتل من أجل شيئين: الأجر من الله، والذكر من الناس، بأن يذكره الناس ويعرفوا مكانه، فقال عليه الصلاة والسلام: (لا شيء له) فالله عز وجل هو الغني الكريم، وهو الغني الحميد، ومن غناه سبحانه وتعالى أنه لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً لوجه، ولذا كان على الإنسان أن يراقب نيته، وأن يكون مع الله سبحانه وتعالى دون نظر إلى الناس، وعندما ينظر الإنسان إلى نفسه بعين التقصير والنقص فإنه سوف يكون في معاملته مع الناس كذلك؛ لا يرى حقاً لنفسه، ولا شك أن هذا من علامات كمال النفس وأنها استغنت بالله عز وجل، فينبغي أن يكون الإنسان في معاملته للناس ألا يرى نفسه صاحب حق، ولا صاحب منزلة، ولا يرى نفسه أكمل منهم وأنهم لا بد أن يعطوه حقه، فإن هذا فضل الله سبحانه وتعالى عليه، فليس له من الخير نصيب وإنما هو سبحانه وتعالى الذي يجري على ألسنتهم أو أيديهم ما يكون فيه مصلحته، فكيف يطلبه منهم؟! ولذلك يكون عنده من الجود والكرم والسماحة ما يستغني به عن الانتقام لنفسه، كما قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: (ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه قط، إلا أن تنتهك حرمة من حرمات الله فينتقم لله عز وجل) فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في معاملته مع الناس لا يراعي حق نفسه، والله عز وجل لم يضيعه أبداً، ولم يجعل أحداً من الناس يناله بالسوء والأذى، قال تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67] بل جعل أصحابه يتسابقون إلى معرفة قدره وإلى تعظيم حقه، وإلى مراعاة منزلته عليه الصلاة والسلام. إذاً: لم يكن عليه الصلاة والسلام ينتقم لنفسه قط، وما طلب لنفسه حقاً، وإنما جعل الله قلوب الناس هي التي تفيء إليه بالحق، وهي التي تعطيه هذا الحق امتثالاً لأمر الله من غير طلب منه، وهذا هو الجود والكرم، فالإنسان الذي قد جاد بحقه، ولا يرى لنفسه حقاً، ولا يرى أنه قد قُصِّر في حقه؛ هذا هو الذي قد استغنى بالله عز وجل، فكان مع الخلق بلا نفس يراعي حظها، ويراعي نصيبها، فهو لم يطالبهم بما له عندهم، ولذلك كان هذا من المرحومين، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا اقتضى، وكان فيمن كان قبلكم رجل كان من خلقه الجواز، كان يعامل الناس وكان يداينهم فكان يقول لغلمانه: يسروا على الموسر، وأنظروا المعسر أو ضعوا عن المعسر، فقال الله عز وجل: نحن أولى بذلك منه، تجاوزوا عنه)، لم يكن له من عمل صالح كما قال عليه الصلاة والسلام إلا أنه من خلقه التجاوز والتسامح والعفو والصفح، وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وهذه قصة ابن عم النبي عليه الصلاة والسلام وهو أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب الذي كان من أشد الناس عداوة للنبي صلى الله عليه وسلم وتحريضاً عليه، مع أنه كان ينبغي له أن يكون من أشد الناس حرصاً على النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه ابن عمه، فلما فتح الله على نبيه مكة وأسلم أبو سفيان بن الحارث كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض عنه لما كان من أذاه له ومن شدته عليه، فاشتكى أبو سفيان بن الحارث إلى علي رضي الله تعالى عنه ما يجد من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: (ائته من قبل وجهه وقل له: {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف:91] فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن قولاً منه، فجاءه من قبل وجهه وقال له: {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف:91] فالتفت إليه النبي عليه الصلاة والسلام وقال: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:92])، فهكذا كان عليه الصلاة والسلام أحسن قولاً ورداً كما كان يوسف عليه السلام أحسن قولاً ورداً؛ لأنه استغنى بالله عز وجل، والغنى بالله سبحانه وتعالى يجعل الإنسان في غير حاجة إلى ما عند الناس، ولا إلى ما يقولون أو يفعلون معه، ولا يلتفت هل أدوا إليه حقه أم لا؟ فإنه استغنى عن ذلك بالله عز وجل، استغنى بعبوديته لله سبحانه فاضمحل ما في أيدي الناس في نظره، ولم يلتفت إليهم قط، فإن عملوا شيئاً له فهم يعاملون الله به، وإن قصروا في شيء نحوه لم يشعر بهذا التقصير، ولم يلتفت إليه، فكان هذا الأمر من أخلاق النبيين. فكان عليه الصلاة والسلام يحسن استقباله بعد ذلك، ويرى فيه بديلاً عن حمزة رضي الله تعالى عنه.

الاستغناء بالله تعالى عما سواه

الاستغناء بالله تعالى عما سواه إذاً: فالإنسان الذي يستغني بالله عز وجل بافتقاره إليه دون من سواه، فإن الله عز وجل يغنيه عن كل ما سواه، ويجعل نفسه كريمة، فيها الجود وفيها السماحة، وفيها سهولة التعامل، وهكذا تضمحل الأمراض الأخرى من الحسد والتباغض، ومن التنافس على الدنيا، ومن حب الشهرة والرئاسة على الخلق، ومن حب الملك والسلطان، وما ترون في العالم كله من السعي إلى الدمار والهلاك والحرب والتنافس، وسفك الدماء وانتهاك الحرمات إلا من أجل ذلك. كذلك من افتقر إلى الخلق أفقره الله عز وجل؛ لأن النفس خلقت فقيرة إلى الله وحده، تميل إلى أن تذل وتخضع لله وحده، فمن وجد فقره إلى الله عز وجل كان أسعد السعداء، ومن ظن أنه سيستغني بشيء من المخلوقات مالاً كان أو جاهاً أو سلطاناً أو وجاهة عند الخلق، فإنه لا يزال في فقر، ولا يزال في ضنك وضيق؛ لأنه لم يخلص لله عز وجل، فالقلوب إذا سلمت وأخلصت لله عز وجل استغنت به عما سواه، وتذللت له وانكسرت بين يديه سبحانه. ومن أعظم أسباب حب الله سبحانه وتعالى للعبد هو انكساره بين يدي ربه، وأن يرى نعمه عليه ويرى عجزه وضعفه، وبذلك ينال درجة المحبوبية، وما العبودية إلا حب وانكسار وذل، بذلك يرتفع الإنسان ويعلو شأنه، وبذلك يكون قد حقق التوحيد وأخلص لله، ولم يشرك به شيئاً، فيستحق التمكين، كما قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55]. فهذه العبودية الكاملة لله عز وجل لا تحصل إلا بالانكسار والذل والخضوع لله عز وجل، ولا يحصل ذلك مع العجب والكبر والرياء، وطلب مدح الناس أو الخوف من ذمهم. اللهم اجعلنا من عبادك المخلصين. اللهم ارزقنا الإخلاص في أعمالنا كلها. اللهم اجعل أعمالنا كلها صالحة، واجعلها لوجهك خالصة، ولا تجعل لأحد فيها شيئاً. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اليهود والنصارى والمنافقين وسائر الكفرة والملحدين أصحاب الضلالة ودعاة السوء. اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين! اللهم انصر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم انصر المسلمين في فلسطين، اللهم انصر المسلمين في البوسنة والهرسك، اللهم انصر المسلمين في بورما، اللهم نجِّ المستضعفين من المؤمنين والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها. اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فدمره تدميراً. اللهم اجعل بأس الظالمين عليهم وكف بأسهم عن المسلمين فأنت أشد بأساً وأشد تنكيلاً. ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، واغفر لنا إنك أنت الغفور الرحيم.

أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله

أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله الولاء والبراء أوثق عرى الإيمان؛ لأن به يعلم الإنسان ضوابط علاقته مع المسلمين والكافرين، ومما يحتِّم وجود هذا الأمر الآن ما نراه من دعواتٍ تسارع في إرضاء الكفار وموالاتهم، في زمن نحن أحوج ما نكون فيه إلى الحذر منهم ومن أفكارهم التي هدَّمت المجتمعات، فيجب على المسلم أن يوالي الله ورسوله وعباد الله المؤمنين، وأن يتبرأ من الكفر والكافرين، وأن يحذر من الوقوع في أي مظهر من مظاهر الولاء والنصرة لهم.

الولاء والبراء وأهميته

الولاء والبراء وأهميته الحمد الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم. أما بعد: فلما كان حب الله سبحانه وتعالى هو أصل هذا الدين، وأصل تحقيق العبودية له عز وجل، مع الخضوع والذل له، ولما كان حب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو أصل متابعته والتصديق به، فإن تحقيق شهادة أن محمداً رسول الله لا يحصل إلا بذلك، فكان بيان هذه المسألة ولوازمها والحذر مما يضادها من أوجب الواجبات، وذلك أن الله سبحانه وتعالى لم يكتف من عباده بأن يعبدوه حتى يتبرءوا من كل ما يعبد من دونه، قال عز وجل: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:256]، وقال سبحانه وتعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف:26 - 28]، وقال ابن عباس رضي الله عنه وغير واحد في تفسير هذه الكلمة الباقية: هي كلمة (لا إله إلا الله)، جعلها الله كلمة باقية في نسل إبراهيم، فلا يزال في نسله من يقولها، فجعل هذا الموالاة لله والبراءة مما يعبد من دونه هي كلمة: (لا إله إلا الله). فلا يصح إسلام وإيمان عبد حتى يشهد أن لا إله إلا الله، ويشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن هنا نعلم أن بغض من يعبد غير الله سبحانه وتعالى هو أصل من أصول الإيمان، ولا يتم إيمان العبد حتى يحصل ذلك.

الولاء الواجب

الولاء الواجب إن من أخص معاني الولاء والبراء: الحب في الله والبغض فيه، وهنا نجد أن أنواع الولاء والبراء هي: الولاء الواجب: والبراء الواجب، والولاء المحرم، والبراء المحرم. والولاء الواجب: هو الحب الواجب الذي لا يتم الإيمان إلا بوجوده، ولو كان ضعيفاً فلا بد من وجود أصله؛ فإذا زال أصل الحب لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم زال أصل الإيمان، وإذا نقص نقص الإيمان، وإذا اكتمل اكتمل الإيمان. فالحب الواجب هو حب الله وحب رسوله صلى الله عليه وسلم، وحب المؤمنين، وحب الإيمان والعمل الصالح، وحب من أطاع الله عز وجل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار). تضمن هذا الحديث: الحب الواجب، والبراء الواجب، وهو كراهية الكفر، وكراهية من يعبد غير الله سبحانه وتعالى تابعة لذلك. وقد أوجب الله عز وجل حب الإيمان، قال عز وجل: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحجرات:7 - 8]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار). فقد تضمن هذا الحديث الولاء الواجب، وتضمن البراء المحرم الذي هو بغض من آمن بالله عز وجل، فإن من تبرأ ممن نصر الدين فإنه يبغض الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومن يبغض شيئاً من الدين فهذا والعياذ بالله من علامات الكفر والنفاق، كما ذكر شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله أن من نواقض الإسلام: من أبغض شيئاً مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولو عمل به. إن المؤمن لا يتم إيمانه ولا يذوق حلاوة الإيمان حتى يكون الكفر عنده بمنزلة الإلقاء في النار، قال صلى الله عليه وسلم (وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار). ولذلك نقول: إذا عَرضْتَ هذه النصوص القرآنية على ما يُدعى إليه الناس من التحاب في الإنسانية كلها، دون نظر إلى دين أو طاعة أو معصية، وأن الدين لا يفسد للود قضية، وأن الإنسان ينبغي أن يحب كل من ينتسب إلى الإنسانية، مع كون أصحاب هذه الدعوة لا يطبقونها، بل هم أعداء الإنسانية في الحقيقة، وإنما يعرفون حقوق الإنسان الذي هو من جنسهم، أما غيرهم فكأنهم لا يرونهم من البشر، بل يرونهم من الكلاب، كما نسمع هؤلاء الكفرة المجرمين، ومنهم ذلك الرجل المجرم الذي يعبر عن كراهته للإسلام وللمسلمين، ذلك اليهودي الكافر الذي صار عندهم من المقدمين، حتى صار مرشحاً لرئاسة وزرائهم، وهذا الخبيث يقول: إني أشعر بسعادة بالغة عندما أرى دم فلسطينيٍ أو عربيٍ أو مسلمٍ يراق، وذلك أن هؤلاء الكلاب ليس لهم عندنا إلا ذلك، يقصد المسلمين. وبعد ذلك يقال: إننا لا بد أن نعاملهم بالحسنى، وأن نعاملهم بالاحترام والتوقير، ولا بأس أن نقدمهم في المجالس ونحو ذلك!! وقول هذا الخبيث يدل على مدى الكراهية والبغضاء التي تستوجب منا مزيداً من الكراهية، والله عز وجل قد حذر المؤمنين من اتخاذ عدوه وعدوهم أولياء، وذكر السبب وهو أنهم كفروا، فقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة:1]، فكيف إذا انضاف إلى ذلك مزيد من الظلم والعدوان، بأن أخرجوا المؤمنين من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا: ربنا الله، وآذوا المسلمين لأنهم شهدوا أن لا إلا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. وإذا كان الإنسان ملتزماً عندهم بشيء من شعائر الدين فله من الأذى والتعذيب أضعافاً مضاعفة عمن لم يلتزم بذلك، فهذا يستوجب مزيداً من العداوة لا مزيداً من التقرب والموالاة والمتابعة، قال الله عز وجل: {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [الممتحنة:1]. هذا التحذير في الآية، مع أن ما فعله حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه كان إسراراً بالمودة من غير حقيقة وجودها، ولم يكن تصريحاً بالود، وإنما كان في صورة نصيحة، وذلك عندما راسل المشركين ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما راسلهم بما يفت في عضدهم في الحقيقة، حيث قال: إن محمداً قد جاءكم بما لا قبل لكم به، فانظروا في أمركم. وما فعل ذلك إلا مصانعة لهم على أهله وماله، فإذا كان من فعل ذلك من أجل حماية الأهل والمال فقد ضل سواء السبيل، فكيف بمن يحبهم ويتولاهم ولا يبغضهم؟! فهذا الحب والعياذ بالله لما هم عليه يعتبر من الكفر فضلاً عن أن يكون حباً من أجل الكفر، فهذا والعياذ بالله ينافي الإيمان بالله واليوم الآخر. إذاً: فالولاء الواجب هو حب الله، وحب رسوله صلى الله عليه وسلم، وكذلك حب المؤمنين لأنهم أطاعوا الله، ولا يكون الحب في الله إلا مع استحضار طاعة الله عز وجل، ومتابعة شرعه في النفس، فلا يحبه لأجل موافقة الطباع، ولا لأنه يحسن إليه في المعاملة، بل يستحضر طاعته لله عز وجل وانقياده لشرع الله، وحبه لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم فيحبه من أجل ذلك، وهذا الحب لا ينقص مع التباعد والاغتراب، بل ربما ظل الحب كما كان قبل ذلك، مع تباعد الأقطار، ومن هنا قال النبي صلى الله عليه وسلم في السبعة الذين يظلهم في ظله يوم لا ظل إلا ظله: (ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه). فلم تفرقهم الدنيا بل ظل الحب باقياً، ولم تؤثر فيه تلك المباعدة التي قدرها الله عز وجل عليهم، ومن هنا كان حب المؤمنين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأنبياء الله عز وجل قبله، ولأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحاب الأنبياء حاصل رغم تباعد الأزمنة ذلك البعد الطويل. فإذا سمع الإنسان قصصهم ورأى صفاتهم تتلى عليه في كتاب الله سبحانه وتعالى أحبهم، ولا بد من أن يحبهم إن كان في قلبه الإيمان، فهذا هو الحب الواجب أو الولاء الواجب.

الولاء المحرم

الولاء المحرم أما الولاء المحرم فهو حب الكافرين على كفرهم، أو من أجل كفرهم، كأن يقول: إن كفرهم لا يضر، أو أمر دينهم لا يعنيني واختلاف الرأي لا يفسد للود قضية. فمن يرى أن اختلاف الدين وأن عبادة غير الله سبحانه وتعالى لا تفسد للود قضية، أهذا يمكن أن يكون محباً لله عز وجل؟! أهذا يمكن أن يكون قد آمن بقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} [المائدة:51 - 52]؟! إن العذر الذي يتعللون به أنهم يخشون الدائرة؛ يخشون أن تنزل هزيمة بالمسلمين، فتراهم يصانعون المشركين والكافرين من اليهود والنصارى، وهكذا كان يفعل المنافقون: ((يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ))، قال الله عز وجل: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ} [المائدة:52 - 53]. إن هذا أمر عجيب يتعجب منه المؤمنون، يقولون: أيمكن أن يكون هؤلاء منكم وهم في نفس الوقت يسارعون في اليهود والنصارى؟! قال عز وجل: {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} [المائدة:53]، فموالاة الكفار موجبة لحبوط العمل وموجبة للخسران في الدنيا والآخرة، وجالبة للردة، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:54 - 56]. إن شروط العضوية في حزب الله هي كالآتي: أن يكون الإنسان مؤمناً، مقيماً للصلاة، مؤدياً للزكاة، يركع ويخضع لله عز وجل، لا ينحني لسواه. أرأيتم حزباً من أحزاب أهل الأرض اليوم يشترط في شروط عضويته تلك الشروط؟! بل يحرم عند القوم أن يقوم الحزب على أساس من الدين. إذاً: لا بد أن يقوم حزب الله على الدين؛ حتى ينال النصر والتمكين والغلبة، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:56] وإن ظن الناس أنهم قلة، وأنهم أذلة، وأنهم مهزومون الآن، لكن عاقبة الأمر لهم. ومن الولاء المحرم: محبة الكافرين لأنهم فصلوا الدين عن الحياة، كم من يقول: إنهم إنما تقدموا عندما أخروا الدين وتركوا هذه الخزعبلات، أو يحبهم لأنهم حاربوا الدين، كمن يحب ماركس ولينين مثلاً من الشيوعيين الذين يعتقدون أن الدين أفيون الشعوب، لا أنهم لم يطبقوا الدين في نظم الحياة، وأنهم جعلوا الدين مسألة شخصية، فهو يرى أن الفصل بين الدين والحياة هو المطلوب، وأن ذلك هو الواجب، وكمن يحب من يمنع من إقامة الحدود وغيرها بزعم أنها وحشية وتخلف ورجعية، فهذا لا يحبهم رغم كفرهم، بل يحبهم من أجل كفرهم، وهذا أشد والعياذ بالله ممن يحبهم رغم كفرهم. بل قد تجد أناساً كثيرين يحبون الكفرة لأنهم يؤذون المسلمين ويحاربونهم، فهذا شر أنواع الكفر.

أمور لا تعد موالاة للكفار

أمور لا تعد موالاة للكفار أما المحبة الطبيعية التي قد توجد في الإنسان لقرابته ومن يعاشرهم، كمن يتزوج مثلاً امرأة كتابية يهودية أو نصرانية، فقد دلت أدلة القرآن والسنة على جواز ذلك، لكن لا بد أن يبغضها لدينها، فإن كان يحب عشرتها، أو شكلها أو نحو ذلك، فليحول حبه الطبيعي ذلك إلى حبه لإسلامها وهدايتها. ومثل ذلك في الأب والأم وغيرهما، يحسن إليهما لعلهما أن يهتديا، مع لزوم البغض على الدين إلى أن يؤمنا، وإذا مات أبوه كافراً تبرأ منه كما تبرأ إبراهيم من أبيه، قال تعالى: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة:114] أي: لما مات على الكفر وتبين عداوته لله عز وجل تبرأ منه، ولذا لم يأذن الله لنبيه عليه الصلاة والسلام أن يستغفر لأمه، ولم يأذن الله لنبيه صلى الله عليه وسلم في أن يستمر في الاستغفار لعمه، بل قد استغفر له فلم يقبل استغفاره، مع أنه كان يحوطه ويحميه، ولكن كما قال عز وجل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113]. وهذا الحب الطبيعي يلزم معه وجود البغضاء على الدين، وإن أحسن عشرته، فهناك فرق بين الإحسان والبر والقسط والعدل، وبين الموالاة والمحبة، كما قال عز وجل: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة:8 - 9]. قال الإمام الشافعي رحمه الله في هاتين الآيتين: فكان ما أمروا به من البر والإقساط غير ما نهوا عنه من المحبة والموالاة. إننا نحسن إلى من لم يحاربنا في الدين، ونعدل مع كل الخلق، حتى إننا نعدل مع من حاربنا ولا نظلمه، وإن قاتلناه وحاربناه، حتى في قتله نحسن القتلة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة). إذاً: هناك فرق كبير بين أن نحسن معاملة من نريد دعوته إلى الإسلام، وبين المحبة والموالاة التي نهى الله سبحانه وتعالى عنها؛ لأنه ليس كل من نحسن معاملته نكون محبين له. إن البر والإحسان إلى الكافر أو العاصي هو أن تطعمه إذا جاع، وتكسوه إذا عري، وتمرِّضه إذا مرض وتعوده، فهذا مما لا بأس به إذا كان يعود عليه بالنفع، وذلك بدعوته إلى الإسلام، أو كف شره عن المسلمين أو نحو ذلك. وكذلك يجب التعامل معه بالعدل، كأن تبيع منه وتشتري، وتفي له بالعقد، وأن تعمل معه في إجارة أو في شركة أو مضاربة، فإن هذا لا يستلزم موالاة، ولا محبة، وإن كان الأولى أن تعامل المسلم وأن تنفعه، لكن حسب المصلحة، فلقد باع النبي صلى الله عليه وسلم واشترى من المشركين من أهل الحرب ومن أهل العهد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقر أصحابه على البيع والشراء والسفر إلى بلاد الكفار للتجارة، ويقر مجيء الكفار إلى بلاد المسلمين للبيع والشراء، وذلك عندما جاء نبطي من أنباط الشام يبيع الطعام في المدينة، فلم تكن الموالاة في البيع والشراء، كما يحاول بعض الجهلة أن يوهموا المسلمين أن مجرد البيع والشراء موالاة للكفار.

حكم المقاطعة التجارية

حكم المقاطعة التجارية إن البيع والشراء مصلحة، والإجارة والاستئجار مصلحة، ويمكننا أن نقاطع البيع والشراء، ويمكننا أن نبيع ونشتري، فقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم الأمرين، وهذا حسب المصلحة، فإن ثمامة بن أثال رضي الله تعالى عنه كان قد أسرته خيل المسلمين مشركاً قبل إسلامه، فجيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فربطه في المسجد؛ ليغير وجهة نظره عن الإسلام، بصحبة المسلمين ورؤيتهم في أثناء عبادتهم، وقد كان أبغض شيء إليه هذا الدين، فحبسه ثلاثة أيام، ففي اليوم الأول قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ما عندك يا ثمامة؟ قال: عندي يا محمد خير، إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تمنن تمنن على شاكر، وإن تسأل المال تعط منه ما شئت، فتركه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أتاه في اليوم الثاني فقال: ما عندك يا ثمامة؟ قال: ما قلت لك يا محمد: إن تمنن تمنن على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن تسأل المال تعط منه ما شئت، فتركه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان في اليوم الثالث قال له مثل ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أطلقوا ثمامة). فمنَّ عليه النبي عليه الصلاة والسلام وأحسن إليه، وكان ثمامة قد تغير في هذه الأيام الثلاثة، فانطلق ثمامة رضي الله عنه ولم يكن قد أسلم عند ذلك، وأبى أن يسلم وهو في الأسر، فأطلقه النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا من الإحسان والمن والبر به، من غير فداء، ومن غير قتل، فانطلق إلى أقرب بستان فيه ماء فاغتسل وعاد إلى المسجد، فشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: (والله يا رسول الله! ما كان من دين أبغض إليَّ من دينك، فصار أحب الدين إليَّ، وما كان من وجه أبغض إلي من وجهك، فصار أحب الوجوه إلي، وما كان من بلد أبغض إليَّ من بلدك، فصارت أحب البلاد إليَّ). انظر كيف يفعل الإسلام بمن يخالفه، فـ ثمامة لم يكن قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك ولا سكن ببلده، ولكن حبس ثلاثة أيام في المسجد، فتغير كل شيء عنده، وصار أحب شيء إليه الإسلام، ووجه النبي عليه الصلاة والسلام، وبلد النبي عليه الصلاة والسلام، ثم إنه اعتمر فقيل له: صبأت وتابعت محمداً، فقال: بل أسلمت لله عز وجل، ووالله لا تأتيكم حبة من سمراء اليمامة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان ثمامة سيد بني حنيفة، فنهى عن بيع القمح وقاطعهم مقاطعة شديدة حتى أكلوا الوبر والعلهز، وحتى أكلوا فضلات الحيوانات وأكلوا الميتة، حتى راسلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يناشدونه الله والرحم أن يأذن لـ ثمامة في أن يرسل إليهم الميرة من القمح؛ لأنهم قد جاعوا، فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم بالبيع والشراء، وامتنع عندما كانت المصلحة في ذلك. فالعبرة بالمصلحة، فما دام البيع حلالاً، ولم يكن فيه إعانة على معصية فهو جائز، أما إذا كان فيه إعانة على معصية كمن يبيع العنب لمن يتخذه خمرًا، أو يبيع السلاح في الفتنة، أو يبني لهم كنيسةً أو معبداً، أو يؤجر لهم ما يستعملونه في المنكر والعياذ بالله، أو يعينهم على شيء من كفرهم وباطلهم، فإن هذا من المحرمات، قال تعالى: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2]، وربما دخل في الكفر والعياذ بالله إذا كان مقراًً بكفرهم.

حكم قبول هدية الكافر والإهداء له وتهنئته بعيده

حكم قبول هدية الكافر والإهداء له وتهنئته بعيده إن الإنسان يمكن أن يحسن إلى قريبه الكافر ويهدي له، ويقبل هديته، فإن عمر أرسل بحلة إلى أخيه المشرك بمكة يتألفه بها، وقبل النبي صلى الله عليه وسلم هدايا بعض المشركين؛ لكي يتألفهم بها، ورد هدايا بعضهم، وقال: (إني نهيت عن زبد المشركين) أي: عطاياهم، وذلك أن من يريد بهديته المحبة والموالاة ترد هديته، ومن يريد أن تداهنه في الدين، كمن يهدي إليك في العيد لتحرج وتضطر إلى الإهداء إليه في عيده فلا تقبل منه، ولا تهدي إليه في عيده؛ لأنه لا تكون التهنئة إلا في الأعياد المشروعة، التي هي عبادة لله سبحانه وطاعة فلا يجوز أن تسوي بين الحق والباطل، بأن تهنئ الكافر بعيد يحتفل فيه بالشرك بالله، وبميلاد الرب أو بموته، أو نحو ذلك، فإن الله سبحانه وتعالى لا يرضى بالتهنئة على المعاصي، فيكف على الكفر؟! ولو أن إنساناً سب أباك أو سب قريباً لك تحبه، ثم إنك في موعد سبه من كل عام تأتي له بهدية، وتقول له: كل عام وأنت بخير، أيعقل هذا؟!! وهل يمكن أن يتصور أن من يفعل هذا يحب أباه أو قريبه؟! لا يمكن ذلك أبداً، فإذا كانوا قد سبوا الله عز وجل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: قال الله عز وجل: (شتمني ابن آدم ولم يكن له ذلك، قال: وأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولداً). فكونك تأتي في موعد السب وفي موعد الضلال وتأتي له بهدية أو تشاركه في حفله بذلك أو تهنيه على ذلك فهذا لا يفعله من يفهم شيئاً من توحيد الله سبحانه وتعالى، ويوقن بما أمر الله عز وجل به من الولاء في الله، والعداء من أجله سبحانه وتعالى. والبراء الواجب هو بغض الكافرين، كما قال سبحانه وتعالى عن إبراهيم والذين معه لما قالوا لقومهم الكافرين: {كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا} [الممتحنة:4]، أي: ظهر {بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الممتحنة:4 - 5]. هذه هي الأسوة الحسنة، مع أن إبراهيم عليه السلام لم يؤمر بقتال، وكثير من الناس يخلط بين القتال وبين العداوة والبغضاء، ويظن أن هناك تلازماً بينهما، ويظن أن كل من عاديناه لا بد أن نحاربه، وهذا غير صحيح، فيمكن أن تبغضه وتعاديه وأنت لا تحاربه ولا تقاتله؛ لأن هناك محاربة من نوع آخر، وهي فراق في الاعتقاد، وبغض بالقلب واللسان، والمعاملة التي أمر الله عز وجل أن نعامل بها الكفار بقوله: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54] وقوله: {وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة:123]، فالقتال لا يلزم في كل الأحوال؛ فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد ترك قتال المشركين مدة من الزمن ولم تكن هناك موالاة.

شبهة القول بجواز حب وموالاة المعاهدين والذميين والجواب عنها

شبهة القول بجواز حب وموالاة المعاهدين والذميين والجواب عنها إن البعض من أهل الجهل والضلال -إن لم أقل: من أهل الزندقة والنفاق-والبعض ممن ينتسب إلى الدين أو الدعوة، ربما حاول صرف الآيات التي وردت في النهي عن موالاة اليهود والنصارى، وقال: إنما هذه في المحاربين فقط دون المعاهدين والذميين، وأما المعاهدون والذميون فلا بأس في حبهم. أقول: إن هذا هو الضلال المبين؛ فإن الله عز وجل ما أذن في حب كافر أصلاً حتى ولو كان معاهداً أو ذمياً أو قريباً أو بعيداً أياً ما كان؛ لأن المرء مع من أحب، فندعو الله عز وجل أن يجعل هؤلاء مع من أحبوهم، وإن كانوا معاهدين أو ذميين أو مستأمنين أو غير ذلك، فضلاً عمن تزداد أذيته للمسلمين حيناً بعد حين. ومعلوم أن الآيات وهي على عمومها لا ينازع في عمومها عالم من أهل العلم، وإنما كما ذكرنا الذي يترك أحياناً القتال والمحاربة بالسيف، أما العداوة والبغضاء فهي من أعمال القلوب ولا تترك أبداً، فإبراهيم عليه السلام ومن معه من المؤمنين به قالوا: {وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4]، فلم يجعل هناك غاية من المصالح مثلاً أو غاية من العهد والهدنة، أو ترك القتال، أو قال: إنهم أصبحوا لا يؤذوننا الآن، أو قال: إنهم ردوا بلادنا إلينا، وما قال: إنهم أرجعوا الذين أخرجوهم من ديارهم إلى ديارهم، أو أقروا بحقهم في العودة أو نحو ذلك، فإنهم لو ردوا كل شبر إلى المسلمين وأرجعوا المسلمين إلى ديارهم آمنين، فإن رجوع المستضعفين من المسلمين إلى ديارهم تحت حكم اليهود أو المشركين ليس هو العود الذي يرضي المسلمين، إنما الذي يرضيهم أن يعودوا يعلوهم سلطان الله وحكم الله سبحانه وتعالى وشريعة الله، فهذا هو العود الذي يستحقونه، وأما أن يعودوا مواطنين من الدرجة العاشرة تحت سلطان اليهود أو غيرهم فما هذا بالرجوع المطلوب شرعاً، على أنهم لو أرجعوهم وردوا كل الحقوق إلى أصحابها، وذهبوا من الأرض التي احتلوها، وخضعوا للمسلمين خضوعاً تاماً، بل لو أدوا الجزية عن يد وهم صاغرون، لما جاز أن تترك العداوة والبغضاء بيننا وبينهم حتى يؤمنوا بالله وحده. هذا هو نص القرآن الذي لا يحتمل الأمر بياناً بعد هذا البيان: إنما تزول العداوة والبغضاء حتى يؤمنوا بالله وحده، أما القتال فيزول بالعهد، ويزول بالهدنة، ويزول بعقد الذمة، ويزول بالأمان، فيمكن أن نترك القتال لمصلحة نراها بعد ذلك، ولا يكون ترك القتال دالاً على زوال البغضاء كما يزعمون، فهذا أمر لا يقوله من آمن بكتاب الله وبسنة رسوله الله صلى الله عليه وسلم ومن آمن بالله واليوم الآخر.

البراء المحرم

البراء المحرم أما البراء المحرم فهو البراءة من المسلمين لأجل إسلامهم وطاعتهم لله عز وجل، كما ذكرنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (آية النفاق بغض الأنصار)، وكما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي الأمي صلى الله عليه وسلم إليَّ: ألا يحبني إلا مؤمن، ولا يبغضني إلا منافق). فمن أبغض المؤمنين لإيمانهم وأبغض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم أو شيئاً منه، أو أبغض الملتزم بالطاعة لأجل التزامه بها، فهذا لا يكون مؤمناً، بل هذا كافر أو منافق؛ وذلك لأن بغضه ذلك يدل على بغضه للطاعة وبغضه لأمر الله سبحانه وتعالى، وهذا لا يصدر من مسلم أبداً، كمن تجده مثلاً يحب إنساناً ويتعامل معه بالحسنى، فإذا علمه محافظاً على الصلاة أو تالياً لكتاب الله بدل المجلات العارية، أو أنه يذهب إلى مجالس العلم بدلاً من أن يذهب إلى السينما ونحوها، اتخذ منه موقفاً عدائياً، وكره ذلك منه، فهذا البغض محرم. وإذا كان البغض من أجل موقف دنيوي فإنه لا يجوز، ويدخل في المحرمات لا في الكفر والنفاق؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تباغضوا)، فلا يجوز أن نتباغض على الدنيا، ولا يجوز أن نتباغض من أجل فوات حظ منها، فكيف بمن يبغض إنساناً لأجل أنه رآه يصلي! فهذه كراهية للصلاة، أو أن يبغض امرأة محجبة لأنها تحجبت، وقد علمتم قصة تلك التركية التي دخلت البرلمان وهي متحجبة، وقامت الدنيا ولم تقعد، وأخرى في تركيا أيضاً طردوها من الكلية، بل حرموها من الجنسية، وقالوا: لا يجوز أن تكون هذه المرأة من الأمة التركية؛ لأنها تحجبت، فلا يمكن أن يكون هذا إلا بغضاً للحجاب، وبغضاً للطاعة، وبغضاًَ لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، هذا إذا كان الإنسان قد علم أنه من الدين، ولا يمكن أن يحتمل الأمر عنده جهلاً، فإن هناك أموراً قد يجهلها الإنسان ويظن أنها تطرف كاللحية مثلاً، فقد يظن أن اللحية من التطرف، فيبغض الملتحي لأجل أنه متطرف، أما إذا علم أن الكتاب والسنة قد دلا على إعفاء اللحية، وعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان ملتحياً وأمر بإعفائها، ثم حاربه بعد ذلك وأبغضه من أجل ذلك، فهذا يدخل في النفاق والعياذ بالله، وهذا من البراء المحرم.

الفرق بين الكراهية والإكراه وضابط كل منهما

الفرق بين الكراهية والإكراه وضابط كل منهما هناك فرق بين الكراهية والإكراه، فليس كل كاره يكون مكرهاً، فالكراهية عمل من أعمال القلب، والإكراه لا بد فيه من ضرر معتبر شرعاً يقع على الإنسان، سواء كان في نفسه أو في ماله أو عرضه بما يتناسب مع الأمر المكره عليه، فإذا غلب على ظنه أنه يوقع به ذلك الضرر أو تيقن وعلم أنه لا يقدر على ذلك، وعجز عن التخلص ولو بالفرار، وكان الإكراه فورياً، وكان قلبه مطمئناً بالإيمان، جاز له أن يفعل ما طلب منه ولو أن ينطق بكلمة الكفر، ولم يجز له أن يعتدي على مسلم؛ لأن حق أخيه ليس بأقل من حقه، فأنت لا تفدي نفسك بأخيك، ومن هنا أجمع العلماء كما نقل القرطبي على أنه لا يصح الإكراه على قتل مسلم، ولا انتهاك حرمته بجلد أو غيره، بل لا يصح الإكراه على قتل معصوم ذمي مثلاً؛ لأن الإكراه إنما هو فيما بينك وبين الله في حقوق الله عز وجل، كما لو أمروك أن تسجد لصنم، فانو السجود لله، ولو كان لغير القبلة، ولا يستطيعون منك غير ذلك. أما أن تكره على انتهاك عرض مسلم أو أذيته بضرب وتقول: ماذا أصنع إنما أنا عبد مأمور، فهذا الأمر لا عذر فيه بالإكراه، بل الإنسان مسئول عن تصرفاته في ذلك، فإن أتى كفراً فهو كافر، وإن أتى معصية فهو عاصٍ، فأحياناً يطلبون منه أذية مسلم بضربه، وأحياناً يطلبون منه ما هو أشد من ذلك، كأن يقولوا له: كل من وجدت من المسلمين فاقتله مثلاً، أو فحاربه، أو كل مظهر من مظاهر الإسلام فحاربه، فهذا إن أطاع في ذلك لا يكون مكرهاً. وكذلك هناك فرق بين الكراهة والإكراه؛ إذ إن هناك من لا يكره، ولكن يحرج ويكون كارهاً للأمر ويتمنى ألا يقع، وهولم يهدد ولم يرغم على ذلك، فيختار الكفر والعياذ بالله، وهذا قلبه ليس مطمئناً بالإيمان، كالرجل الذي دخل النار في ذباب، فإنه إنما دخل النار في ذباب بمجرد أن طلبوا منه ذلك قدم الذباب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مر رجلان على صنم لا يجوزه أحد إلا قرب شيئاً، فقالوا لأحدهما: قرب، قال: لا أجد شيئاً أقرب، قالوا: قرب ولو ذباباً، فقرب ذباباً فدخل النار، وقالوا للآخر: قرب، فقال: ما كنت لأقرب شيئاً لأحد دون الله، فضربوا عنقه فدخل الجنة)، فهذا يدلنا على أنه ليس بمجرد الطلب ولا بمجرد العرض تقبل أن تقع في الكفر.

البراء الواجب

البراء الواجب أما البراء الواجب فهو عداوة الكفار، وهذا يتضمن السعي في إزالة باطلهم، لا السعي في تأسيسه وتقويته ونشره في الناس، ويتضمن منع المسلمين من أن ينال هذا الباطل وهذا الكفر شيئاً منهم، ويتضمن السعي في إزالة عبادة الطواغيت من على وجه الأرض، وذلك واجب على كل مسلم كوجوب الكفر بالطاغوت؛ لأن الكفر بالطاغوت يقتضي بغضه ومعاداة أهله، والسعي في إزالة عبادة الطواغيت كما قال ربعي رضي الله عنه: (إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة). أما أن يكون راضياً مقراً -وهي درجة دون المحبة والنصرة- بأن يعبد غير الله فذلك دليل على أنه لم يشهد أن لا إله إلا الله بصدق؛ لأنه يشهد أن من عبد غير الله على حق، وكذلك يشهد أن محمداً رسول الله وفي نفس الوقت يشهد لمن كذبه أنه على حق، ويكون ذلك عنده كله سواء، كالمذاهب المختلفة التي توصل إلى المطلوب، وأن الخلاف معهم إنما هو في دائرة النبوة فقط، كما قال قائل يوماً: إن الخلاف مع النصارى ليس في التوحيد وإنما هو في النبوة فقط! أقول: كلا الكلمتين كفر، أي: الذي يقول: إن الخلاف معهم ليس في التوحيد، والذي يقول: إن الله ثالث ثلاثة، هما سواء في الكفر بنص القرآن. إذاً: ليس معنى البراء الواجب أننا سوف نسفك دماءهم، وأننا ننتهك كل حرمة لهم، بل يمكن أن نحسن عشرتهم، وليس الحل للمشكلة أننا نقر بدينهم من أجل أن نعايشهم؛ بل نعايشهم بما أمر الله عز وجل من غير ظلم ولا عدوان، وبحدود شرع الله سبحانه وتعالى، ولا يعني ذلك أن نقر الباطل، أو أن نقر الكفر والعياذ بالله؛ لأن هذا نقض لشهادة أن لا إله إلا الله، كذلك الذي يقول: إن عبادة غير الله لا بأس بها، فهذا نقض شهادة أن لا إله إلا الله، والذي يقول: إن الخلاف لم يكن إلا في أمر النبوة، ولو سلمنا ذلك فمعنى كلامه أن الذي يكذب النبي صلى الله عليه وسلم يبقى الخلاف معه يسير وسهل، ولا يفسد للود قضية والعياذ بالله، أو أن الخلاف فيه سائغ مثلاً، كما قال رجل منهم يوماً من الأيام: إن المؤمنين في اصطلاح القرآن ليسوا أتباع دين خاص، ولكنهم المؤمنون بالإله الواحد! يعني: أن المكذبين للأنبياء مؤمنون بالإله الواحد، وأن من كذب النبي صلى الله عليه وسلم يقال له: لا بأس، أنت لم تشهد أن محمداً رسول الله؛ لأنك تجوز تكذيبه، نقول لهذا وأمثاله: إن من يكذب الرسول صلى الله عليه وسلم، ويكذب القرآن، وقد قال الله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح:29] من كذب ذلك فقد كذب الله، وهل نشهد لمن صدقه بالحق ونشهد لمن كذبه بأنه على حق أيضاً؟ لا يمكن ذلك أبداً، فهذا يكذب قول الله: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]. إذاً: المعاملة بما شرع الله سبحانه وتعالى هذا باب آخر لا بد أن نعلم الفرق بين الأمرين؛ لأن الخلل في ذلك خلل خطير جداً، وهناك من يحتج على حب الكفار بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ابدءوا بجارنا اليهودي)، نقول: الإحسان إليه ليس دليلاً على الموالاة، مع أن الحديث في سنده نظر، لكن قد قبل النبي صلى الله عليه وسلم الهدية من الكفار، وأجاز الإهداء إليهم، والرسول صلى الله عليه وسلم قد أرسل بعض الهدايا إلى الكفار، وأقر إهداء بعض الصحابة لأقربائهم الكفار، وأمر أسماء أن تصل أمها، وهذا حق لا شك فيه، ولكن فرق بين هذا وبين الرضا والإقرار وترك العداوة، فالعداوة هي: أن تسعى إلى إزالة هذا الباطل، وإذا مكنك الله عز وجل من إهدار الباطل كما أمر الله حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون أذلاء، فهذا هو الواجب الذي لا يجوز غيره.

من معاني الولاء: الطاعة والمتابعة

من معاني الولاء: الطاعة والمتابعة من معاني الولاء: الطاعة والمتابعة، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيْمَاً حَكِيْمَاً} [الأحزاب:1]، وقال عز وجل: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان:24]. والولاء الواجب في ذلك هو أن تطيع الله ورسوله وأولي الأمر من المؤمنين، وهم العلماء والأمراء الذين يقودون الناس بكتاب الله، كما قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء:59]. والمتابعة: هي أن نتبع ما أنزل الله إلينا، نتبع سنة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، ونتبع ما عليه جماعة المؤمنين، ولا نتبع سبيل الكافرين؛ لأن الله يقول: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115].

مظاهر الولاء المحرم

مظاهر الولاء المحرم من مظاهر الولاء المحرم: طاعة الكافرين ومتابعتهم في الكفر -كما ذكرنا- من غير إكراه. ومن مظاهر الولاء المحرَّم: أن يرفع الصليب مثلاً، أو يعظم كفرهم وباطلهم والعياذ بالله، أو يطيعهم في أن يسب الله عز وجل أو رسوله صلى الله عليه وآله وسلم. ومن المظاهر: أن يطيعهم في أن يهين المصحف مجاملة لهم، أو أن يخرج من الدين ويقول: إننا سواء بسواء مجاملة لهم، فهذه المتابعة تقتضي طاعةً في الكفر فيكون صاحبها كافراً. أما إذا أطاعهم في المعصية فذلك على حالين: إما أن يعصي وهو يقر بأنها معصية، ويقر على نفسه بالذنب، فهذا حكمه حكم أصحاب الذنوب، وإما أن يطيعهم أو يتابعهم مع اعتقاد أنهم طالما أمروا أو فعلوا فيلزم متابعتهم حتى ولو خالفوا الشرع، ولا يجوز هذا من مسلم، لكن أن يقول: طالما أني أعمل عنده وأني موظف لديه فلو أمرني بأي شيء فلا بد أن أجيب ولو خالف أمر الله وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمثل هذا إذا استحل مخالفة الشرع، وإذا استحل المعصية، أما لو كان يريد نشر الإباحية في بلاد المسلمين، فهو لو أتيحت له الفرصة لفعل، لكن هو يرى أنه آثم عاصٍ ومقصر، ولو تكرر ذلك منه ولو عزم أن يفعله مرة ثانية، فهذا له حكم أصحاب الذنوب، أما إن كان يقول: هذه هي الحرية والمدنية، هذا هو التقدم، دعوكم من التقاليد البالية التي تقيد هذه المشاعر الإنسانية النبيلة، مثل الحب والعشق والغرام، فهذا كفر بالله تعالى. ومن مآسي هذه الدعوات أن امرأة فاجرة هربت مع جندي أمريكي وتزوجته في الكنيسة والعياذ بالله! فهاجت الدنيا ولم تقعد! ومع ذلك يقال: ما هذه التقاليد البالية التي تمنع هذه المشاعر النبيلة، ويقصد هؤلاء بالتقاليد البالية المحرمات الشرعية في الدين، وبعضهم يحارب العبادات الشرعية ويسميها: تقاليد، ويعني بذلك الصلاة والطواف بالكعبة وغير ذلك من العبادات، وعندما يرى الملايين من المسلمين يعظمون الكعبة يصاب بحقد فظيع، فمن تابع هؤلاء في ضلالهم، فيعمل المعصية ولا يقر أنها معصية، بل يرى أنها تقدم وحضارة ومدنية، فهو مطيع لهم في الكفر والعياذ بالله؛ لأن هذا قد استحل الكفر، كذلك لو أقر بأن الشرع قد حرم ذلك ولكن قال: إن الشرع لا يلزم هذا الزمان، ونحن في القرن الحادي والعشرين، فكيف نرجع إلى ما كان قبل أربعة عشر قرناً من الزمان؟! نقول: هذا متابعة على الكفر. كذلك من مظاهر موالاتهم: الصداقة لهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تصاحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقي)، وقال: (المرء على دينه خليله فلينظر أحدكم من يخالل)، وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} [آل عمران:118]، أي: لا يقصرون في اضطراب أموركم، قال تعالى: {وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} [آل عمران:118]،أي: ودوا عنتكم وتعبكم ومشقتكم. وقال تعالى: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران:118]، يعني: هذه الصداقة يعلنها أولياؤهم علانية، وربما أظهروا الحزن عليهم أعظم مما يحزنون على المسلمين لو ماتوا، بل ربما يقتل في اليوم عشرات وأحياناً مئات من المسلمين ولا يؤبنون بمثل تأبينهم رابين مثلاً، نسأل الله العفو والعافية! هذه كلها مظاهر خطيرة تتسرب إلى المسلمين من حيث لا يشعرون، وكما ذكرت التعلل والستار في ذلك أن الشرع أمر بالبر والقسط، وأن الشرع أمر بالإحسان في المعاملة، ونحو ذلك، وهذا خلل كبير لا بد من الحذر منه، وهذه القضية لا بد أن تدرس تفصيلاً، ولا بد أن يتعلمها كل مسلم وأن يتفقه في دينه، ويعلم ما هي الحقوق وما هي الواجبات، وما هو الولاء الواجب، وما هو البراء الواجب، وما هو الولاء المحرم، وما هو البراء المحرم. وهذه معظمها من فروض الأعيان خصوصاً ما يتعلق بأمر القلوب. نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بما قلنا وسمعنا، ونسأل الله عز وجل أن يعز الإسلام والمسلمين. اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا. اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا. نسأل الله عز وجل أن يعز المسلمين في كل مكان، وأن ينصر المسلمين في فلسطين وفي الشيشان، وأن يحفظ المسجد الأقصى ويرده إلى المسلمين. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

خطبة الجمعة الأولى من شعبان 1424هـ

خطبة الجمعة الأولى من شعبان 1424هـ لا يزال المؤمن مع ربه تبارك وتعالى في ارتباط واتصال، يرى بين كل وقت وآخر قدرته وحكمته، وتحقق وعده، والمؤمن مع ربه تعالى في وعوده تجاهه بين شد وجذب في الظاهر، فقد يلمح نصر ربه ويتيقن تحقق وعده فيزداد به ارتباطاً ويقيناً ومنه قرباً، وقد يبتعد نصر الله وتختفي من الكون الأمارات على تحقق وعده فهو في هذه الحال بين طريقين: إما أن يضطرب ويتشكك ويضعف إيمانه فيبوء بالخسران المبين، وإما أن يزداد به إيماناً ويقيناً، ويرى مواطن الخلل والضعف فيعالجها، ولسان حاله كما قال سبحانه عن أهل الإيمان: ((هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا)).

الوعد الحق

الوعد الحق إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. الحمد الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، الحمد لله صادق الوعد لا يخلف الميعاد، قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33]. الله سبحانه وتعالى وعد المؤمنين في هذه الدنيا بالنصر والتمكين، ووعدهم في الآخرة بالرضوان والجنان بفضله، فهو الرحمن الرحيم سبحانه وتعالى. قد يبدو للناظر المتأمل في أحوال أهل الأرض عندما يرى تسلط أعداء الله سبحانه وتعالى عليهم، قد يبدو له تأخر وعد الله عز وجل، ولكن المؤمن دائماً يرى ما أراه الله سبحانه وتعالى في كتابه، وما أراه الله عز وجل النبيين والصديقين والشهداء والصالحين من أنه صادق الوعد سبحانه وتعالى، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه الجامع: (أنت الحق ووعدك الحق) ولا بد أن يشهد المؤمن هذا المعنى {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [يونس:55] يشهده كما أشهده الله سبحانه وتعالى لأم موسى حين رده إليها كي تقر عينها ولا تحزن، قال الله تعالى: {وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [القصص:13]. فالله سبحانه وتعالى وعده في الدنيا ووعده في الآخرة حق لا يخلف كما قال سبحانه وتعالى فيما وعد به المؤمنين: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55].

تحقق وعد الله في الابتلاءات والمحن

تحقق وعد الله في الابتلاءات والمحن يشهد المؤمن عندما يقع في أنواع المحن والابتلاء أنه إنما هو من وعد الله سبحانه وتعالى، كما قال عز وجل: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22]. فكان هذا هو وعد الله عز وجل لهم، كما قال الله تعالى: ((هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ)). مع أنه كان بالابتلاء والمحنة، وبهجوم الأعداء ومحاصرتهم للمدينة المنورة المشرفة، وأوشكوا فيما يبدو للناظرين إذا لم يوقنوا بوعد الله أوشكوا أن يستأصلوا الإسلام وأهله، ولكن كان هذا هو وعد الله الذي ذكر في قوله سبحانه وتعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214]. تخطر الخواطر في القلوب، وتأتي الواردات عليها وتتفاوت في قوتها وضعفها حين تشتد المحن على أهل الإيمان، وأهل الإيمان يرون في المحن وعد الله سبحانه وتعالى الذي لا يخلف، وهو وعد لهم بأنهم يزدادون في المحن إيماناً وتسليماً، ويزدادون إيماناً بمزيد حب الله الذي يفيضه عليهم، وبمزيد التصديق بأمره سبحانه، والانقياد لحكمه، وبمزيد التصديق بسننه سبحانه وتعالى التي أخبر بها، ويزدادون رجاءً في فضله، ويزدادون خوفاً منه، وتنقطع قلوبهم إلا من التوكل عليه سبحانه وتعالى، وعن الأسباب كلها إلا من التوكل عليه، لذا كان وعداً لهم بفضله ورحمته مع أنه فيما يبدو للناظرين أمر مؤلم ومخوف، وضرر يحيط بهم فيما ينظر الناظر، ولكنه وعد الله سبحانه قدره ليرقيهم في منازل العبودية منزلة بعد منزلة، ثم تكون لهم العاقبة، كما قالها هرقل عندما سأل أبا سفيان عن النبي عليه الصلاة والسلام: قال: كيف الحرب بينكم وبينه؟ فقال: سجال، يدال علينا مرة، وندال عليه مرة، قال: كذلك الرسل تبتلى ثم تكون لها العاقبة، قال سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173]. كلمة سابقة، ونعمة من الله سابغة على أوليائه الصالحين، وعباده المؤمنين أتباع الأنبياء والمرسلين، لا يزال وعده يتحقق لهم، قال عز وجل: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [الرعد:41]. فالله سبحانه وتعالى ينقصها من حول الكفار من أطرافها، ولا يزال ينتشر الإسلام فيها مدة بعد مدة، ويدخل في دين الله أفراد بعد أفراد، ثم أمم وجماعات بعد جماعات، ولا يستطيع الكفار مهما بذلوا من جهد أن يمنعوا ذلك الأمر، فهو أمر الله عز وجل، بل قلوبهم يائسة من استئصال الإسلام يوم أن تم هذا الدين، كما قال عز وجل: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]. فأنت ترى في قول الله عز وجل: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الرعد:41] ومثلها من الآيات في هذا المعنى نزلت بمكة، والإسلام محاصر، والمسلمون مضطهدون، ومع ذلك ومع كل البذل الذي يبذله الكفار والنفقة التي ينفقونها ليصدوا بها عن سبيل الله فالإسلام ينتشر، تجد هذا المعنى كذلك عندما يجتمع على أهل الحق من أهل الإسلام من بأقطار الأرض، ومع ذلك يظلون على الحق ظاهرين، ومع ذلك يعلي الله سبحانه وتعالى بفضله كلمة الحق والدين، ومع ذلك يدخل الناس في دين الله سبحانه وتعالى؛ لأنه حكم ولا معقب لحكمه أن كلمته هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، والله عزيز حكيم. تسمع في وسط اجتماع أقطار أهل الأرض على أهل الإسلام: أن الإسلام في يومنا هذا وفي زماننا هذا هو أسرع الأديان انتشاراً في عقر ديار الكفار، وترى رغم الاضطهاد والأذى الذي يتعرض له المسلمون، وما يتعرضون له من إبادات في مشارق الأرض ومغاربها، ومع ذلك ترى كثيراً منهم يدفعه ذلك إلى مزيد الالتزام بالدين بفضله سبحانه وتعالى مقلب القلوب، فهو سبحانه وتعالى الذي سبقت منه الكلمة التي كتبها في اللوح المحفوظ ثم أنزلها في كتبه المنزلة في الزبر: {أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105]. هذا وعد الله الذي يجب أن يوقن به أهل الإيمان، وما أحوجنا أن نكرر هذا الدعاء الذي كان يدعو به النبي عليه الصلاة والسلام، حتى نوقن بهذا الأمر وإن تفاوتت في أنظار الناس الموازين، وإن رأوا أن الكفر يزداد قوة أو أن الظلم والعدوان يزداد انتشاراً، لا والله! إنه لفي مراحله الأخيرة التي يلفظ فيها أنفاسه وينتفش انتفاشة مؤقتة، كما أخبر الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36]. جمع الله في هذه الآية وعد الدنيا ووعد الآخرة، فلابد أن يتحسر الكفار على ما ينفقون من أموال ليصدوا عن سبيل الله، ولابد أن يغلبوا بعد ذلك، وهذا وعد الدنيا، ثم يحشرون إلى جهنم، وهذا وعد الآخرة، قدر الله ذلك ليميز الخبيث من الطيب، قال عز وجل: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} [الأنفال:37 - 38]. هذه سنة الله الماضية التي لا تخلف، ولا يخلف وعده سبحانه وتعالى، أنت الحق ووعدك الحق سبحانك وبحمدك. قال سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:152]. فالله صدق وعده في كل المواجهات التي وقعت بين المسلمين وبين أعدائهم، حتى فيما هزموا فيه كان صادق الوعد، وهو سبحانه وتعالى لا يخلف الميعاد، صدقهم الله وعده حين أطاعوا الله، وحين خالفوا أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم وتنازعوا وعصوا من بعد ما أراهم ما يحبون من النصر، كان وعده عز وجل لهم أيضاً خيراً لهم لا شراً لهم، كان مصلحة في حقيقة الأمر أن يهزم المسلمون ليعرفوا عاقبة المعصية، ولو أن الله نصر المسلمين على حالهم تلك لظنوا أن النصر بأيديهم، أو أن لهم منزلة لا يمكن أن تتغير عند ربهم، فيظنون بأنفسهم ما لا ينبغي لها، يظنون بأنفسهم إجلالاً وقدراً لا يستحقونه، فكان من وعد الله لهم أن نقاهم ومحصهم وهذبهم وغفر ذنوبهم، ورفع قدرهم، واتخذ منهم شهداء، فهذا فضله سبحانه وتعالى بوعده الصادق، كان وعداً منه سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين حتى بالبلاء والهزيمة، وكان خيراً عظيماً، كما قال عز وجل في قصة الإفك: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:11].

الابتلاء رفعة للمؤمنين وسفول وانحطاط للعاصين

الابتلاء رفعة للمؤمنين وسفول وانحطاط للعاصين لو تأملنا قدر الألم الذي تألمته عائشة رضي الله عنها، وتألمه أبو بكر أبوها رضي الله تعالى عنه، وأمها، وقدر الألم الذي تألمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو يسمع الأذى يصل إليه في أهل بيته، ويتهم في عرضه عليه الصلاة والسلام، ويتكلم حتى أناس من خلصاء أصحابه ممن هاجروا في سبيل الله، ممن ينافح عن دين الله، ممن يدعو لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتأييد من الله، إذا بهم يقعون في عرضه عليه الصلاة والسلام. ثم تأمل عاقبة الأمر لتعلم كيف ارتفعت عائشة رضي الله عنها إلى منزلة عظيمة لم تكن لتبلغها إلا بما وقع لها، فصار يقال عنها كلما ذكرت: الصديقة بنت الصديق، المبرأة من فوق سبع سموات، وصار ما كان بالمجتمع المسلم طهارة لهم ورحمة من الله سبحانه وتعالى. وهكذا في كل ما يصيب المسلمين من بلاء يجعله الله عز وجل كفارة وطهوراً، وتعديلاً لمسارهم حتى يدركوا ما ينبغي أن يعملوه، وينتبهوا لعيوب أنفسهم، ويتطهروا منها، فإن النفس أمارة بالسوء إلا ما رحم ربي، يقدر الله سبحانه وتعالى من أنواع المحن ما تتطهر به نفوس المؤمنين، ما تستبصر به قلوبهم، وتستنير به صدورهم في طريقهم إلى الله سبحانه وتعالى، ثم يأتي بعد ذلك وعد الله الحق الذي لا يخلف في نصرة المؤمنين، وفي هزيمة الكفرة والمنافقين، وفي عز من أطاع الله وفي ذل من عصاه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم). وقال الحسن رحمه الله تعالى: (هم والله! وإن طقطقت بهم البغال، وهملجت بهم البراذين فإن ذل المعصية لفي رقابهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه)، وأنت ترى هذا والله ظاهراً جلياً فيمن يعصي الله عز وجل، ومن يشاقق أمره سبحانه وتعالى، ويشاقق رسوله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115]، يوليه الله سبحانه وتعالى أنواع الذل والهوان والعذاب المهين، ثم يجعل له جهنم يصلاها مذموماً مدحوراً، وتأمل في عاقبة إبليس حين تكبر فصغر وأهبط عكس قصده؛ لأنه أبى أن يطيع الله، قال تعالى: {أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34] فجعل الله عاقبته إلى صغار، وهوان، وذل، وانحطاط وإهباط من المنازل العالية التي كان فيها، فاعتبر بهذا في كل ما يقع، وأيقن بأن وعد الله حق كما أخبر سبحانه وتعالى مبشراً عباده المؤمنين بعد أن أمرهم بقتال أعدائهم ووعدهم النصر على ذلك، فقال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ * وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:29 - 33]. فوعده حق سبحانه وتعالى لا يخلف، ولابد أن نوقن بذلك؛ لأن هذا اليقين هو الذي يدفع أهل الإيمان إلى الصبر والاحتساب، وإن رأوا موازين الدنيا كلها في الكفة الأخرى فإنهم يصبرون ويثبتون ليقينهم بأن وعد الله حق، وإنما تنال الإمامة في الدين بالصبر واليقين، كما قال ربنا سبحانه وتعالى عن بني إسرائيل: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24].

تكرار مشاهد تحقق وعد الله تعالى

تكرار مشاهد تحقق وعد الله تعالى وعد الله سبحانه وتعالى تجده في الأمم، وتجده في الآفاق، وتجده في خاصة نفسك، تجد وعد الله عز وجل لك بأنواع الإنعام، وأنواع الفضل والرحمة كلما أطعت الله، وتجد أنواع الألم والشقاء والعنت، وتجد أنواع النكد، وإن كانت الدنيا كلها في يديك إذا عصيت الله عز وجل، مصداقاً لوعد الله سبحانه وتعالى في قوله تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه:123 - 127]. وانظر حولك لتجد هذه الحقيقة متكررة في كل من ترى، وتذكر لحظات الرحيل لتعرف مآل الظالمين، لتعرف ما كان من أمرهم في نهاية المطاف حتى لا تغرك لحظات القوة الزائفة، ولحظات السلطان المؤقت، قال الله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ * وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:93 - 94]. هذا وعد الله في الدنيا، ووعد الله في الآخرة تجده في هذه الآيات أيضاً فأيقن به، وتأكد من أنه واقع لا محالة، وأنه قد كتبه الله، قال الله تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:21]. هكذا أخبر الله سبحانه وتعالى، ووعد المرسلين، ووعد عباده المؤمنين، فلابد أن نوقن بوعد الله لكي نحب في الله، ونبغض في الله، ولكي نصبر على ما ابتلانا الله عز وجل، ونصبر على طاعته، ونصبر عن معصيته، ولا نوافق أعداءه، ولا نرضى بضلالهم وكفرهم حتى يأذن الله عز وجل بالفرج من عنده سبحانه وتعالى، والمبشرات أكثر من أن تحصى بفضل الله، وهي كلها من كتاب الله، ثم من واقع حال الأمم، ثم من واقع حالنا بفضله سبحانه وتعالى، والله عز وجل يؤيد أولياءه بنصر من عنده، ويعلي كلمتهم، وقدرهم، ومنزلتهم، ويقدر لهم أنواع الخيرات، ويقدر لهم أنواع النعم المختلفة في السراء والضراء، ويمن عليهم بفضله عز وجل، نسأل الله عز وجل رحمته وفضله فإنه لا يملكها إلا هو. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

تحقق وعد الله في الآخرة

تحقق وعد الله في الآخرة الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم. أما بعد: فعن وعد الله عز وجل في الآخرة اسمع آيات الله سبحانه وتعالى المخبرة عما يقع للظالمين، وعما يقع للمؤمنين، وعما يقع لأعدائه أعداء الدين، الذي أشركوا بالله وصدوا عن سبيله وهم بالآخرة هم كافرون، قال سبحانه وتعالى: {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ * وَقَالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ * إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ * لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ * وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ * وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ * أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ * وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ * الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [الأعراف:38 - 51]. نعوذ بالله من ذلك، وقال سبحانه وتعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ * قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ * وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر:71 - 75]. فالله سبحانه وتعالى ينزل كل إنسان منزلته، ويعطي كل إنسان حقه، ويعتدل الميزان بمثاقيل الذر يوم القيامة، كما قال تعالى: {لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [غافر:17]، يوم لا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل أتى الله بها وكفى به حاسباً سبحانه وتعالى. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لتؤدن الحقوق إلى أهلها حتى يقاد من الشاة القرناء للشاة الجلحاء)، فالله يقضي يوم القيامة بحكمه الجزائي بين خلقه جميعاً، ويوصل كل حق إلى صاحبه فلا يظلم، ولو كان من أهل النار وله مظلمة عند أحد من أهل الجنة فلا ينبغي أن يدخل أهل الجنة الجنة ولأحد من أهل النار عندهم مظلمة، بل لابد أن يعطى حقه من المؤمن، ولو كان الكافر مخلداً في النار والمؤمن مآله إلى الجنة، لكن لابد أن تؤدى الحقوق إلى أهلها، وهذا وعده سبحانه وتعالى الذي لا يخلف، وهو الذي يراه المؤمنون ويشهدونه ويجدونه في أنفسهم، ويجدونه عند ربهم سبحانه وتعالى، ويحمدون الله عز وجل أعظم حمد عندهم، وأقصى ما يقدرون عليه من الحمد، وما يوفقهم الله له على حسب منازلهم: أن صدقهم وعده، وأورثهم الأرض يتبوءون من الجنة حيث شاءوا، فهذا فضله سبحانه وتعالى. فإذا شهد العباد أن وعد الله حق، أن وعده الحق سبحانه وتعالى عملوا لهذا اليوم، وعملوا للقاء الله سبحانه وتعالى، وصغرت الدنيا في قلوبهم وفي أعينهم، فجعلوها تحت أرجلهم، ولم يجعلوها فوق رءوسهم، ووالوا أولياء الله، وعادوا أعداءه، وأحبوا في الله، وأبغضوا في الله، حتى تتوثق عرى الإيمان في قلوبهم. إن الإيمان بأن وعد الله حق يشمل وعده في الدنيا ووعده في الآخرة، وكلاهما الإيمان به ضروري للمؤمن في كل مراحل حياته، وفي أنواع أخلاقه وسلوكه، ومن أيقن بوعد الله سبحانه وتعالى ووعيده عمل الطاعات، وترك المنكرات، وأحب أهل طاعة الله، وأبغض أهل معصية الله، نسأل الله عز وجل أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، ونج المستضعفين من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها. اللهم انصرنا على من عادانا، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا. اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا. اللهم أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسر الهدى لنا، وانصرنا على من بغى علينا. اللهم اجعلنا لك ذكارين، لك شكارين، لك مطواعين، لك رهابين لك مخبتين، إليك أواهين منيبين، تقبل توبتنا، واغسل حوبتنا وثبت حجتنا، وأجب دعوتنا، واهد قلوبنا، وسدد ألسنتنا، وأذهب سخائم صدرونا، اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإن أردت فتنة بعبادك فاقبضنا إليك غير مفتونين. اللهم إنا نسألك الخير كله عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم. اللهم إنا نسألك من الخير ما سألك عبدك ونبيك محمد صلى الله عليه وسلم، ونعوذ بك من شر ما استعاذك منه عبدك ونبيك محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل. اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، ثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، على الله توكلنا، ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، ونجنا برحمتك من القوم الكافرين، ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير، ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم، ربنا أفرغ علينا صبراً وتوفنا مسلمين.

كلمة النجاة

كلمة النجاة كلمة التوحيد هي مفتاح الجنة، ولا يدخل أحد الإسلام إلا بنطقها ومعرفة معناها والعمل بها، وقد بين العلماء التوحيد وما ينافيه من الشرك، وبينوا معنى العبادة وأركانها، فلابد لمن أراد النجاة معرفة ذلك والبحث عنه.

أعظم نعيم المؤمنين في الدنيا والآخرة

أعظم نعيم المؤمنين في الدنيا والآخرة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وسلم. أما بعد: فقد فطر الله عز وجل عباده على توحيده وحده لا شريك له، قال الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:30]. والحنيف هو: المائل إلى الله، المعرض عن غيره، فهم بفطرتهم يميلون إلى ربهم، ويشتاقون إليه، لا يقر لهم قرار إلا بمعرفته وتوحيده ومحبته وطاعته، ولا يجدون سعادة في هذه الدنيا إلا إذا توجهت قلوبهم وجوارحهم إلى خالقها وبارئها دون من سواه، وإنما الشقاء في هذا العالم يرجع إلى توجه القلوب والوجوه إلى وجهة أخرى غير ما فطرت عليه، ويرجع ذلك إلى إعراضها عن ذكر ربها. قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:124 - 126]. ولهذا كان أعظم نعيم في هذه الدنيا حب الله وعبادته، والأنس به والشوق إليه، كما أن أعظم نعيم أهل الجنة النظر إلى وجه الله تبارك وتعالى. قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]. وقد جمع بينهما النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه فقال: (أسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة). فالشوق إلى لقاء الله هو نعيم الدنيا، والنظر إلى وجه الله هو نعيم الآخرة.

أول واجب على العباد

أول واجب على العباد من رحمة الله وفضله على عباده أن جعل أول واجب عليهم هو: معرفته وتوحيده وعبادته بكل أنواع العبادة، فإن غاية وجودهم وحياتهم هي: إفراده تعالى بالعبادة، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]. وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163]، من أجل هذا أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب، ومن أجله قام الصراع بين الحق والباطل، والإيمان والكفر، ومن أجله وعليه تنصب الموازين يوم القيامة، وتؤخذ الكتب باليمين أو الشمال، وينقسم الناس إلى فريقين: فريق في الجنة وفريق في السعير.

بيان أهمية الدعوة إلى التوحيد

بيان أهمية الدعوة إلى التوحيد التوحيد فرض عين، على كل مكلف أن يعلمه ويعمل به قبل الصلاة والزكاة وسائر الواجبات، ولهذا كان التوحيد هو أول دعوة للرسل، ولأتباع الرسل، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، وفي حديث ابن عباس عن معاذ: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل معاذاً إلى اليمن فقال له: إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله)، وفي رواية البخاري في كتاب التوحيد من صحيحه: (فادعهم إلى أن يوحدوا الله، فإذا هم عرفوا الله فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة). فتبين بهذا ما يجب على الدعاة إلى الله من البدء بالدعوة إلى التوحيد وبيانه للناس، حتى أولئك الذين يزعمون أنهم يعرفون ربهم؛ لأن أهل الكتاب يقرون بوجود الله، فمعرفة الله هي التي قال عنها صلى الله عليه وسلم: (فإذا هم عرفوا الله) أي: إذا هم وحدوه. إذاً: الذي يدعي أنه يعرف وجود الله أو حتى يدعي التوحيد وهو لا يوحده حقيقة لا يعرف الله. فإذاً: لا بد أن يدعى إلى معرفة الله، وإلى توحيد الله. ولذلك نقول: إن أولى الأولويات في الدعوة إلى الله عز وجل هو الدعوة إلى التوحيد، وليس بالمناهج الكلامية ولا بالطرق الفلسفية، ولا بمعرفة محاذير الشرك فقط، بل بالتوحيد الذي هو أول واجب، والذي هو فرض على العباد أن يأتوا به، وأن يتركوا عبادة غير الله، وأن يحبوا الله ويرجوه ويخافوه ويرغبوا إليه ويتوكلوا عليه، ونحو ذلك من أعمال القلوب. فأول وأولى الأولويات بدء الدعوة بالتوحيد، حتى أولئك الذين يزعمون أنهم يعرفون ربهم، ولكنهم في الحقيقة يشركون به، فالمعلوم أن أهل الكتاب يقرون بوجود الله، ويزعمون توحيده ومعرفته، ومع ذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً أن يدعوهم إلى توحيد الله، فقال له: (فإذا هم عرفوا الله)، فدل ذلك على أن من لم يوحد الله لم يعرفه، وإن أقر بوجوده، وأقر ببعض أسمائه وصفاته.

ثمار الدعوة إلى التوحيد

ثمار الدعوة إلى التوحيد الدعوة إلى التوحيد دعوة مجربة الثمار والآثار، بدأها الرسول صلى الله عليه وسلم فأخرج الله به خير أمة مسلمة. فدعوة التوحيد هي سبب إخراج الصحابة رضي الله عنهم إلى هذه المنزلة العظيمة، فقد أخرجتهم من أرجاس الشرك والجاهلية، إلى نور التوحيد والعلم، وبها ساد أصحاب ذلك الجيل الفريد الذين هم خير الناس وأفضلهم بعد الأنبياء، جيل الصحابة رضي الله عنهم الذين كانت حياتهم ودعوتهم وجهادهم في سبيل الله، وطاعتهم في كل صغيرة وكبيرة لله وللرسول صلى الله عليه وسلم، فحياتهم هذه كانت أثراً جلياً لدعوة عقيدة التوحيد التي استقرت في قلوبهم، ونحن إذا أردنا العمل لذات أنفسنا والفوز برضوان ربنا، والسعي لنصرة دينه وإعلاء كلمته في الأرض، والرغبة في عودة الإسلام عزيزاً كما كان، وعودة الخلافة على منهاج النبوة التي بشر بها النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلا بد لنا من السير على نفس طريقهم، وسلوك نفس منهجهم الذي أصله ونقطة البدء فيه تحقيق التوحيد علماً وعملاً.

بيان عدم الارتباط بين التوحيد وعلم الفلسفة والكلام

بيان عدم الارتباط بين التوحيد وعلم الفلسفة والكلام لا شك أن التوحيد قد ارتبط في أذهان الكثيرين وللأسف بعلم الكلام والفلسفة، كأثر من آثار الابتعاد عن الكتاب والسنة، كمصدر للعقيدة والعمل والسلوك، فعند الناس أن العقيدة أصبحت علم الكلام، والسلوك أصبح تصوفاً، والعمل أصبح تقليداً للمتأخرين، واتباع المذاهب، وهذه من أعظم المخاطر التي حدثت في الانحراف، وأدت في نهايتها إلى انهيار الخلافة في أطول مدة انهيار إلى الآن، وهي الفترة التي حصلت بعد انهيار الخلافة العثمانية، وقد كانت بلا أثر في معظم أرجاء العالم الإسلامي، بل كانت كل بلاد العالم الإسلامي -تقريباً- محتلة قبل الحرب العالمية الأولى، وسبب ذلك أنه كان هناك انفصال عن الكتاب والسنة، فالعقيدة أصبحت عبارة عن علم الكلام وتأويله، وأصبح السلوك تصوفاً مبتدعاً على أعلى درجات البدع وأسوئها، وأصبح العمل تقليداً أعمى للمذاهب دون الرجوع إلى الكتاب والسنة، والبعض ارتبط بذلك في ذهنه كالفقه الذي ارتبط بالمسائل الكلامية الفرعية الدقيقة والمتون الصعبة العسيرة التي لا يمكن فكها إلا كما تحل الألغاز! فالسلوك ارتبط بالطرق الصوفية، مما أدى بالبعض إلى الظن أن مسائل العقيدة هي مسائل الترف العقلي، كما ظنوا أن التقليد هو الفقه، فقالوا: نحرق كتب المذاهب، وكما قال البعض: التصوف كله باطل، فأهمل التهذيب، وأهمل إصلاح القلوب. فكل هذا انحرف أدى إلى خلل كبير جداً في الأمة الإسلامية، فما الدين إلا الإيمان والإسلام والإحسان، والرسول صلى الله عليه وسلم بين الإسلام والإيمان والإحسان، والإسلام العمل، والإيمان الاعتقاد، والإحسان عمل القلوب. والقول بأن الكلام في العقيدة ترف عقلي قول كان يقوله الغزالي قديماً، واليوم أيضاً يقول يوسف القرضاوي: الكلام في العقيدة وفي التوحيد ترف عقلي، يجب أن تصان عنه الدعوة الإسلامية خاصة في مسيرة الصحوة الحاضرة! وكم سمعنا ذلك من الاتجاهات الإخوانية؛ خصوصاً أيام مجاهدة الأفغان، والثمرة معلومة، إنها الثمرة التي بدأت بمنهج آخر غير منهج الأنبياء، فحصل فيه تقصير شديد أدى إلى انحراف الناس بعدما حصل التوحيد، فلم يحصل قيام دولة الإسلام المرجوة، وإنما حصل التقاتل المذموم، فالبعض يقول: إن أهم شيء الآن أننا لا نكلم الناس ولا نتكلم حول العقيدة؛ لأن الأفغان عندهم شركيات كثيرة، وعندهم بدع، وعندهم تصوف، فيقول لك: لا أحد يتكلم في هذه الأمور، ونفس الأمر يحدث في مواطن عديدة. فالمسلمون بلا شك في خطر من جراء هذه الطريقة من التفكير؛ لأنها علاج الخطأ بخطأ أكبر وأعظم وأخطر، صحيح أن علم الكلام مفسدة، وصحيح أن التقليد مفسدة، وأن التصوف مفسدة، لكن علاجه ذلك ليس بإهمال الجانب كله وإهمال الأمر كله. يعني: لا نقول: إن دعوة الإسلام لا تقوم أبداً بدون عقيدة التوحيد، لكن الواجب على المسلمين أن يتعلموا هذه القضية بنفس الطريقة التي تعلم بها الصحابة، ومن بعدهم من أئمة العلم، بأدلة الكتاب والسنة الصحيحة، كما فهمها سلفنا الصالح من أهل السنة والجماعة، وهي تشمل أوضح الأدلة العقلية والسمعية معاً.

بيان خطأ من يظن أن الكلام في مسائل العقيدة والتوحيد يفرق المسلمين

بيان خطأ من يظن أن الكلام في مسائل العقيدة والتوحيد يفرق المسلمين كذلك من الخطأ البين والخطر الظاهر أن يظن أحد أن الكلام في مسائل العقيدة والتوحيد يفرق المسلمين، وينفر الكثيرين منهم، وأن المسلمين اليوم في حاجة إلى التوحد والتجمع! وللجواب عن هذا الشبهة نقول: إن الله قد قضى بعدله وحكمته أن الفرقة والاختلاف في التزام البدع، وأن الوحدة والائتلاف في التزام السنة، فمنهجنا في ذلك تحقيق كلمة التوحيد، ليحقق الله لنا وحدة الكلمة؛ فبتحقيق كلمة التوحيد منا يحقق الله لنا وحدة الكلمة. وأما من سعى إلى توحيد الصفوف مع السكوت عن البدع، أو موافقتها فلعل هذه أخطر قضية نختلف فيها مع منهج الإخوان، أو كثير من المناهج الأخرى التي تتبنى نفس الموقف، فمثلاً: جماعة التبليغ تقول: لا تكلموا الناس في العقيدة؛ لأن هذا سيؤدي إلى التفرق، وسيؤدي إلى نفرة الناس، وإنما كلموا الناس في الصلاة، وفي فضائل الأعمال الكثيرة. فلن يفلح من سعى إلى توحيد الصفوف بهذه الطريقة، سواء بالسكوت على البدع، أو بموافقتها، فمن أجل أن يتقرب منهم يقوم بمشاركتهم، مثل الذي يقول: إننا ينبغي أن ننصب خيامنا في الموالد، ونقول أشعارنا وإنشادنا الذي يخالف إنشاد الصوفية قليلاً، فقد أوجدنا لهم البديل، ونحو ذلك. وإن القريبين من الاتجاهات السلفية من الإخوان لا يعملون هذا، لكن هناك اتجاهات كثيرة يعملون هذا، فلو ضعف الاتجاه السلفي، ولم يصبح يُعمل له حساب، فإن هذه الانحرافات ستظهر بقوة شديدة جداً؛ إذ إنها موجودة في أصل المنهج، فقوة المنهج السلفي في مكان ما يجعل أصحاب البدع يستحيون من أنهم يعلنون بدعتهم بصراحة، فلن يقولوا الكفر البواح الذي يعتقدونه في كثير من المواقف، فهم سيخافون أن يقال عنهم: إنهم يدعون غير الله لكن قد يقولون: يجوز لنا أن نقول: يا سيدي فلان ادع الله لي، لكن لا يقول: ارحمني واغفر لي وأغثني. والمعتزلة كانوا سبباً في إسلام كثير من المتفلسفة؛ لأنهم ردوا عليهم بقوة في الدفاع عن الإسلام، وكذلك الأشاعرة، لكن من يسعى إلى مخالفة منهج السلف فلن يزيد سعيه للمسلمين إلا فرقة واختلافاً، لكونه لم يسلك القاعدة النبوية عند الاختلاف، وإن سلك ما أسماه بالقاعدة الذهبية، لكن القاعدة الذهبية النبوية السلفية هي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل بدعة ضلالة).

أهمية العلم بمعنى (لا إله إلا الله)

أهمية العلم بمعنى (لا إله إلا الله) لما كانت كلمة التوحيد: لا إله إلا الله عنوان التوحيد وعمدته كان معرفة معناها ومقتضياتها ولوازمها والعمل بذلك من أهم ما يجب على المكلف، ومن أهم ما يجب على الداعي أن يدعو إليه. وكلمة: (لا إله إلا الله) أمر الله بالعلم بها فقال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19]. قال البخاري: بدأ بالعلم قبل العمل. وبوب على هذه الآية: باب العلم قبل العمل، فبوب بهذه الآية، وترجم لهذه الآية، فإنه قبل ما يقول له: (استغفر)، قال: (فاعلم). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة). وقال تعالى: {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:86]، والاستثناء هنا منقطع، يعني: لكن من شهد بالحق وهم يعلمون ينجون عند الله، أو يشفعون. أما جنس الشفاعة فلله عز وجل، كما قال عز وجل: ((وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ)). فلا يملك الشفاعة إلا الله، لكن الذين يشفعون هم الذين استثناهم بقوله: ((مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)) أي: وهم يعلمون أن لا إله إلا الله، والبعض قال: هم ممن يدعى، مثل الأنبياء والصالحين، والآية عامة، ومن ضمنهم عيسى والملائكة، فهؤلاء يشفعون عند الله عز وجل، لكن الراجح أن الاستثناء منقطع، يعني: أن المستثنى ليس من جنس المستثنى منه. ومن أمثلة الاستثناء المنقطع قوله تعالى: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى} [الدخان:56]. فإن الموتة الأولى كانت في الدنيا، وليست في الجنة. فقوله: ((إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)) أي: شهد أن لا إله إلا الله وهو يعلم معناها، ويعلم حقيقتها، وهو موحد، فهؤلاء يشفعون، وإن كانوا لا يملكون الشفاعة، بل يستأذنون الله عز وجل. فالعلم بمعنى هذه الكلمة العظيمة شرط في نفع صاحبها في الآخرة، ودخوله الجنة؛ ولم نقل: إنها شرط في نفع صاحبها في الدنيا لأن العلم هذا عمل في القلب، فهذا التصديق القلبي عمل قلبي، ونحن لم نؤمر أن ننقب عن قلوب الناس، فالظاهر أن العربي إذا قال: لا إله إلا الله فهو يعلم معناها على الأقل، فهذا العلم إذاً مرده في حكمه عند الله عز وجل في الآخرة، فأحياناً ينتفع به صاحبه فيدخل به الجنة لأول وهلة، وذلك إذا كان يعلم معناها ويعمل بمقتضاها كذلك. ولكن العلم يتفاوت ومراتبه تختلف، فإن أصل العلم بمعنى كلمة التوحيد من إثبات الألوهية لله وحده ونفيها عن دونه ركن من أركان الإيمان الباطن الذي لا يثبت بدونه، أما ظاهراً فيجب إثبات الإسلام بنطقها، وحمل أمر من ينطقها على السلامة حتى يتبين منه ما يناقضها. إذاً: الأصل في أي واحد ينطق الشهادة أنه مسلم، وأنه عارف معناها، ولسنا مأمورين أن نبحث عن معرفته لمعناها، وإنما يوضح له معناها ضمن دعوته إليها. مثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أسلم تسلم، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين) وقوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران:64]. والرسول صلى الله عليه وسلم بين لهم أمور الدين إجمالاً. وأنا أذكر هذا الكلام لغرض مهم جداً وهو أن أناساً كثيرين لما نقلوا ووجدوا في كتب علماء كثر: أن العلم بمعناها والعمل بمقتضاها شرط في حصول التوحيد، دفعهم ذلك إلى أنهم يقولون: كل الناس يقولون: لا إله إلا اله، ولكن لا يعلمون معنى لا إله إلا الله، فأدى ذلك إلى انتشار جبهة التكفير أو التوقف، أو غيرها من البدع التي من هذا النوع. وذلك بسبب الخلط في قضية العلم بمعنى لا إله إلا الله بين الإجمال وبين التفصيل، وبين الظاهر وبين الباطل. فلو تبين لنا أنه نطقها ظاهراً من غير أن يدري نهائياً أي معنى لها، كمثل شخص رصت له حروف بلغته اللاتينية مثل: لا إله إلا الله، وقيل له: قل هكذا، فنطق حروف لا يعرف معناها نهائياً، فلا يثبت إسلامه، ولو قالها بالإنجليزية ولا يعرف أن يقولها بالعربية وهو يعرف معناها يثبت إسلامه. وأما إذا امتنع منها لأنها شعار، ولو قال: أسلمت لله، وهو يعرف أن المطلوب منه قول: لا إله إلا الله، فلا يكفي، وذلك مثل الأسير الذي قال للرسول صلى الله عليه وسلم: (يا محمد! إني مسلم، فقال له: لو قلتها وأنت تملك أمرك لأفلحت وأنجحت). ومثل نصارى نجران لما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: نحن أسلمنا، فقال: (يمنعكم من ذلك عبادتكم للصليب، ويمنعكم من ذلك ادعاؤكم لله عز وجل ولداً وقولكم: المسيح ابن الله)، فكونه يقول: أنا أمسلم، وهو عارف أن المطلوب أن يقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا لا يكفي. أما الذي لا يعرف أن يقولها، فقال: صبئنا، صبئنا، فإنها تقبل منه. فالذي لا يعرف أن يقولها، وذلك بأن كانت صعبة عليه، فهو يريد أن يقول: أنا أريد أن أدخل في الدين هذا، لكن لا يعرف أن يقول إلا صبئنا. فصبئنا هذه تقبل منه، ويصبح مسلماً بذلك، ويعامل كمسلم في أحكام الدنيا، وأما أحكام الآخرة فحسابه عند ربه، فلو كان قلبه صادقاً، فيكون قد دخل في الإسلام فعلاً، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث لهؤلاء الناس الذي قالوا صبئنا بالدية؛ لأنهم كانوا مسلمين وقال: (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد).

تعريف الإله

تعريف الإله الإله لغة: المعبود بحق أو بباطل، ثم غلب على المعبود بحق، قال في لسان العرب: الإله: الله عز وجل، وكل من اتخذ من دونه معبوداً هو إله عند متخذه، لكن الاستعمال الأغلب أنه المعبود بحق. وإن كان يطلق في اللغة على الاثنين، ومنه قوله تبارك وتعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان:43]، فهذه الآية بينت أن إلهه هواه. وقوله تعالى: {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً} [الأحقاف:28]، فهذه آلهة باطلة. أما قول الله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22] فالمعنى: لو كان فيهما آلهة بحق إلا الله لفسدتا؛ لأن هناك آلهة بالباطل، ولكنها لا تعبد بحق، وهذا بخلاف قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان:43] فهو اتخذه إلهاً بالباطل. فنحن نقدر كلمة بحق على الاستعمال الأغلب. فلا إله إلا الله معناها: لا معبود بحق إلا الله. فإذاً: نجعل جواب لا النافية (بحق) فنحتاج إلى تقدير (بحق)؛ لأن الجواب (إلا الله). تطلق على الأصنام، سميت بذلك لاعتقادهم أن العبادة تحق لها. وأسماؤهم تتبع اعتقادهم، لا ما عليه الشيء في نفسه، وهذا معنى أنها آلهة بالباطل. فهي آلهة في اعتقادهم فقط. ومعنى هذا الكلام: أنهم هم الذين سموها آلهة، فهي تتبع اعتقادهم، والحقيقة أنها معبود باطل. قال أيضاً عن أبي الهيثم: وأصل إله: ولاه، فيكون أصله: همزة لام هاء، أو واو لام هاء (وله) فيكون هناك أله ووله. وهما وجهان في التفسير لمعنى الإله. ومعناه: أن الخلق يولهون إليه في حوائجهم، ويتضرعون إليه فيما يصيبهم، ويفزعون إليه في كل ما ينوبهم، فإذاً يولهون إليه بمعنى: يدعونه، ويتضرعون إليه، ومن أجل هذا كان الدعاء من أخص معاني العبادة؛ لأن الإنسان يلجأ إلى ربه كما يوله كل طفل إلى أمه. وقال أيضاً عن ابن سيده: والألوهة والألوهية: العبادة. وقيل: إنه مأخوذ من أله يأله إذا تحير؛ لأن العقول تأله في عظمته. يعني: الذي تتحير العقول في عظمته، وهو معنى حق، وإن كان المشهور الأول.

بيان خطأ من يفسر (لاإله إلا الله) ببعض لوازمها

بيان خطأ من يفسر (لاإله إلا الله) ببعض لوازمها الإله هو المعبود بحق، فمعنى (لا إله إلا الله): لا معبود بحق إلا الله، ولا يلجأ العباد ويضرعون ويفزعون في كل ما ينوبهم إلا إلى الله. أي: التضرع بحق والفزع بحق، وإلا فالكثير يفزعون إلى غير الله، ولكن هذا فزع بباطل، وتضرع بباطل. وكذلك لا عظيم تحار العقول في عظمته، ولا تدرك حقيقته سبحانه وتعالى، إذ كل من دونه حقير ذليل فقير إليه. ومن هنا تعلم خطأ من ظن أن معنى لا إله إلا الله: لا خالق إلا الله، ولا رازق إلا الله فقط. فإن هذا هو جزء من لوازم المعنى فقط؛ لأن الذي يتضرعون إليه، والذي يملك أن يجيبهم، والذي يعبدونه، لا بد أن يكون هو الذي خلقهم. فهذا متضمن بالمعنى. فلو اقتصروا عليه لأصبح هذا غير صحيح؛ ولذلك فإن المشركين الذين أبوا أن يقولوا: لا إله إلا الله، كانوا يقرون أن لا خالق إلا الله، كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87]. وكذلك من معاني الإله. أنه الذي تشتاق إليه القلوب، وتميل إليه. وهذا أحد معاني الوله، كما في لسان العرب. وفي الأثر عن وهيب بن الورد قال: إذا وقع العبد في ألهانية الرب -يعني: شوقه إلى الله- ومهيمنية الصديقين، -يعني مراقبة الصديق فيراقب ربه عز وجل، فإن الصديق هذا أشد الناس مراقبة لله-، ورهبانية الأبرار -الرهبانية: الانقطاع، والبار: المخلص التام- لم يجد أحداً يأخذ بقلبه. فلو أن الإنسان وصل إلى هذا فلن يبقى شيء يعجبه في الدنيا، ولا يحب شيئاً إلا الله. ورهبانية الأبرار معناها: الانقطاع إلى الله عز وجل، ولهذا سُمي الجهاد رهبانية؛ لأنه انقطاع عن الدنيا، وعن الشهوات كلها، وفرقة للأهل والوطن والمال، واستعداد لمفارقة النفس والروح، فهو فعلاً رهبانية الأمة، وليس الانقطاع بمعنى: ترك الزواج ونحو ذلك؛ فهذه هي الرهبانية المبتدعة. فالقلوب إذاً إنما تستقر وتسكن بتوجهها إلى الله وحده، فالقلب الإنساني فيه فقر وحاجة شديدة إلى إلهه الحق سبحانه، ولا يسدها سوى عبادته والتوجه إليه، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]. فالغرض من ذكر هذا الأثر بيان معنى الإله فإنه الذي تشتاق القلوب إليه.

معنى العبادة

معنى العبادة العبادة تدور حول معنى المحبة والتعظيم، وحول معنى التضرع واللجوء، فالعبادة بصفة عامة هي الحب والذل والخضوع تابع لذلك، أي: الخضوع الذي هو الذل، ولذلك يقولون: طريق معبد، أي: طريق مذلل مهيأ، ولذلك كانت العلمانية كفراً؛ لأنها: رد حكم الله، وهي عدم الخضوع؛ لأن العلماني يرى أن الخضوع لله سبحانه وتعالى لا يلزمه. فحتى لو أحبه فإن حبه هذا لا ينفع، ما دام يرى أن شرعه هذا ليس ملزم للناس، ولا له هو والعياذ بالله، وإنما يأخذ الذي يريده، ويترك الذي يريده. فأين الذل والخضوع هنا؟ فهو يزول من أصله. ولذلك قضية تحكيم الشرع ليست قضية متعلقة بالقوانين فقط، بل هذه جزء صغير منها. وإنما القضية هذه تشمل حياة كل إنسان في خاصة نفسه، وفي جميع أمور حياته. فالقضية هنا في رؤية الإنسان أنه يجب عليه أن يخضع لله عز وجل، أما أن يرى أنه فوق أمر الله، وأنه حر في أمر الله؛ فإن هذا منافي لأصل كلمة لا إله إلا الله.

عظم التوحيد وبيان بعض أدلته

عظم التوحيد وبيان بعض أدلته الحقيقة أن طمأنينة القلب بالتوجه إلى الله دون ما سواه من أعظم أدلة توحيد الألوهية، ولكن لا يشعر بطمأنينة القلب ولا يجدها إلا المؤمنون المحبون الصادقون الذين جربوا الفرق الهائل بين الحياة والموت، وبين السعادة والشقاوة، وبين النور والظلام، وبين التوحيد والشرك، وبين الإيمان والكفر. والذي جرب هذا يعرف أن القلب فعلاً محتاج لهذا. ومن أجل أن يعرف الإنسان قدر التوحيد ينظر إلى غيره، ويتعظ بهم، فينظر إلى الكفار كيف يعيشون وكيف أنهم يحيون أسوأ حياة، وأشقى حياة والعياذ بالله! وهذا دليل على أن التوحيد دليل وجودي، يعني: يجده الإنسان ويتذوقه، قال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ} [فاطر:19 - 22]، فهذه الآيات احتج بها الله عز وجل على أن المؤمن لا يستوي مع الكافر؛ إذ لا يمكن أن يستووا، كما أنه لا يستوي الأحياء والأموات كما لا يستوي الأعمى والبصير. ولن يقول هذا الكلام إلا الذي عرف الفرق، والحي هو الذي يعرف الفرق. أما الجماد فلا يدرك الفرق، وإنما الحي هو الذي يدرك الفرق بين الحي والميت. أما توحيد الربوبية فهو الدليل الظاهر بالضرورة لجميع الخلق مؤمنهم وكافرهم، ولذلك كان الاحتجاج به على توحيد العبادة أكثر في القرآن، قال تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} [يونس:3]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [البقرة:21] فأي عاقل يقول: الذي خلق وحده هو الذي يستحق أن يعبد، يعني: يلزم من توحيد الربوبية توحيد الخالق، أي: بأن الله وحده هو المعبود، قال تعالى عن موسى لما سأله فرعون: (فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} [طه:49] أي: الذي تدعوا إلى عبادته: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50]. وكلمة (لا إله إلا الله) تتضمن في شطرها الأول نفي، وهذا هو الكفر بالطاغوت، وتتضمن الإيمان بالله في شطرها الثاني (إلا الله)، وهذا هو الإثبات، قال تعالى في بيان هذا المعنى: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:256]. قال سعيد بن جبير والضحاك: العروة الوثقى: (لا إله إلا الله)، وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله حرم دمه وماله، وحسابه على الله). فالنطق بها علامة على الكفر بما يعبد من دون الله؛ نقول هذا من أجل البعض الذي لم يفهم كلام محمد عبد الوهاب الذي يقول في تفسير هذا الحديث: (من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله) أنه لا يعصم دمه وماله بالنطق بالشهادة ولا بكونه لا يدعو إلا الله، بل لا يعصم دمه وماله حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما عبد من دون الله؛ ففهم منها بعضهم أن كل واحد لا يكفيه النطق بلا إله إلا الله، بل لابد معها من الكفر بما يعبد من دون الله. فنقول: هذا الكلام غير صحيح؛ فإن الشيخ كان يتكلم على نوعية معينة من الناس، وليس كل الناس، بل أراد الذين كانوا يعبدون غير الله، فهؤلاء هم الذين لابد لهم عند الشهادة من الكفر بما يعبد من دون الله، أما غيرهم فإن لا إله إلا الله ذاتها علامة على ذلك؛ لأن شقها الأول: (لا إله) معناها: أنا أكفر بما يعبد من دون الله. فيكفي قول: لا إله إلا الله، أو: كفرت بما يعبد من دون الله. ولا يلزم أكثر من هذا، إلا إذا كان يقول مع لا إله إلا الله بآلهة أخرى.

الطاغوت

الطاغوت لا يتم الإيمان بالله إلا بالكفر بالطاغوت، وهو: كل ما يعبد من دون الله وهو راض، وقلنا: وهو راض؛ لأن هناك من يعبد وهو غير راض، ولذلك عندما يقال: (تتبع كل أمة ما كانت تعبد) فإن الذين كانوا يعبدون عيسى لا يذهبون مع عيسى؛ لأنهم لم يطيعوا عيسى، وإنما يذهبون مع شياطينهم وطواغيتهم، ولذلك يقال: (ويتبع من كان يعبد الطواغيت)، ومن ضمن الطواغيت: هؤلاء الأحبار والرهبان الذين قالوا لهم: اعبدوا غير الله. وأما عيسى عليه السلام فبعيد عنهم.

رءوس الطواغيت

رءوس الطواغيت رءوس الطواغيت خمسة: الشيطان الداعي لعبادة غير الله؛ ولذلك كل عبادة لغير الله مردها في النهاية إلى عبادة الشيطان، ولذلك كل كافر بالله مشرك؛ لأنه عبدٌ للشيطان؛ ولأنه عبد غير الله سبحانه وتعالى. فالشيطان هو الداعي إلى عبادة غير الله، كما قال عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:60]. والمبدل لأحكام الله طاغوت، قال الله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31]. والفرق بين هذا وبين الذي قبله: أن المبدل ينسب الأمر هذا إلى الدين، ويقول: إنه إلينا، فيعتقد الناس أن له حق التبديل، مثل اعتقاد اليهود والنصارى في علمائهم وأحبارهم ورهبانهم، بأن لهم الحق أن يشرعوا لهم، فيحللون لهم، ويحرمون عليهم -والعياذ بالله- من دون الله. فمثلاً: تجد النصارى في العالم كله يأكلون الخنزير، مع أنهم معتقدون بأن الكتاب المقدس -العهد القديم والعهد الجديد- يحرمه عليهم، والعهد القديم بإجماع العقلاء كلهم فيه تحريم الخنزير، واليهود يحرمون الخنزير، ولكنهم تركوا كتاب الله؛ بسبب قرار مجمع من مجامعهم الذي قرروا فيه إباحة لحم الخنزير! وهذا يوضح تماماً اعتقادهم في أن الناس من حقهم أن يبدلوا. ومن الطواغيت الحاكم الذي يحكم بغير ما أنزل الله، وليس بشرط أن ينسبها للدين، وإن كان البعض يحاول أن يقصرها على ذلك، والحاكم بغير ما أنزل الله أسوأ؛ لأنه يدعي لنفسه حق التشريع مبدئياً من غير ما ينسبها للدين والعياذ بالله! وكلاهما طاغوت، ومتجاوز للحد، فإن بعض الدساتير تنص على أن مصدر السلطات كلها هو في يد الملك، وحتى التشريعات تصدر باسم الملك، وفي الدول الجمهورية تصدر باسم رئيس الجمهورية، وهو يقول: باسم الشعب، بل في النظام الملكي في كثير من البلاد أن الدساتير كلها هبة من الملك، فمثلاً: الدستور الياباني كل شيء يصدر عندهم باسم الإمبراطور، والإمبراطور هو مصدر السلطات، وهذه كلها -والعياذ بالله- من المناقضة لتوحيد الله عز وجل. وأصل الطاغوت من الطغيان، وهو: مجاوزة الحد، فكل من جاوز حد العبودية، وزعم لنفسه حقاً أو صفة من حقوق أو صفات الألوهية، فهو طاغوت. فالشيطان الذي يدعو الناس إلى عبادته وطاعته في الكفر بالله ورسوله، وفي مخالفة شرعه، قد جعل لنفسه حقاً من حقوق الإله الحق، وهو: الطاعة المطلقة، فمن أطاعه طاعة مطلقة حتى في الشرك والكفر وتكذيب الرسل فقد عبده، وعلى هذا فإنا نقول بأن الشعب يصبح عبداً للشيطان إذا أطاعه طاعة مطلقة، وليس كل عاصٍ يصبح عابداً للشيطان، وإنما في حالة الطاعة المطلقة التي تشمل أنه مستعد لأن يطيعه ولو في الكفر، ولو في تكذيب الرسل. كما قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس:60 - 61]، فإنه من المعلوم أن أكثر العالم كانوا لا يعبدون الشيطان بالصلاة والسجود له، أو اعتقاد ألوهيته، بل إنما كانت عبادتهم له بطاعته في الكفر. ويجب التنبيه هنا إلى أن طاعة الشيطان في المعاصي من الشرك، وإذا وجد في القلب الإنكار الباطن الذي يجعل العبد وإن عصى ربه يقر على نفسه بالذل، ويعترف بالذنب، فلا تصبح هذه المعصية عبادة للشيطان تخرج الإنسان من الإيمان، وقد قال الأبوان: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23]. والحاكم الذي يحكم بغير ما أنزل الله قد جاوز العبودية التي تستلزم تلقي أحكام الله بالقبول والإذعان، وعدم المنازعة، ونسب لنفسه صفة الربوبية بالتشريع، قال الله تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54]، فلو ادعى لنفسه أن له الخلق مثل الساحر فقد طغى أي: جاوز الحد، فهو طاغوت. ولو أن شخصاً قال: لي الأمر، فقد طغى وجاوز الحد. فالله تبارك وتعالى كما تفرد بالخلق، فهو متفرد بالأمر شرعاً وكوناً، شرعاً بمعنى: التشريعات، وكوناً بمعنى قوله: (كن) فيكون. قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21]. وقال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [يوسف:40]. فاعتقاد أن التشريع أو الحكم لله وحده من معاني توحيد الربوبية، ثم إن تطبيق ذلك بأفعال العباد بالتحاكم والحكم بما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من معاني توحيد العبادة والإلهية، فهذا الخضوع هو التوحيد العملي، والأول اعتقادي؛ ولذلك كان من أعظم عبادة الطاغوت تحكيمه في دماء الناس وأعراضهم وأموالهم وأرواحهم. وكذلك المبدل لأحكام الله الذي يدعي لنفسه حق تبديل الأحكام التي أنزلها الله حسبما يراه بعد إقراره وعلمه بأن الله أنزله، كالأحبار والرهبان الذين قال الله فيهم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ) [التوبة:31] وتفسيرها: أنهم اتبعوهم على تحليل الحرام، وتحريم الحلال، وإذا كان الله قد أنكر على المشركين طلبهم من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبدل القرآن فقال: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [يونس:15] فكيف يتصور أن يكون هذا الحق لغيره؟!! فالظن بأن لأحد من الخلق أن يبدل أحكام الله حسب نظره وهواه من ظن الجاهلية والعياذ بالله! والساحر طاغوت؛ فإنه جاوز الحد، ونسب لنفسه ملك الضر والنفع، وتقليب القلوب حباً وبغضاً وتأليفاً, وقد يزعم الخلق والإحياء والإماتة، وقد يقول: أنا سأجعل العظم حياً، أو أنا سأوقع بين فلان وفلان كذا، أو أحبب فلاناً في فلانة ونحو ذلك. وكل هذا من الطغيان؛ إذ هذه كلها من صفات الله وأفعاله وحده لا شريك له. والكاهن طاغوت، وهو الذي يدعي لنفسه صفة علم الغيب التي اختص الله بها، قال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام:59]. فكل واحد من هؤلاء قد طغى، وجاوز الحد، فصار بذلك طاغوتاً يجب الكفر به، حتى يتحقق معنى النفي في (لا إله إلا الله).

كيفية الكفر بالطاغوت

كيفية الكفر بالطاغوت صفة الكفر بالطاغوت أن يعتقد الإنسان بقلبه بطلان ما زعموه لأنفسهم من صفات الربوبية، أو حقوق الإلهية، وأن يصرح بلسانه بذلك، وأن يعلم أنه حين ينطق بلا إله إلا الله فإنه يعني تكذيبه لكل هؤلاء أو غيرهم، ممن يعبد من دون الله. ثم يكون عمله مطابقاً لقوله واعتقاده، فلا يطيع الشيطان، ولا يستجيب لدعاته فيما يأمرون به من الكفر والمعاصي. والكفر بالطاغوت: اعتقاد وقول وعمل، فكمال الكفر بالطاغوت ألا يطيع الشيطان في شيء من المعاصي، ولا يتحاكم إلى من يحكم بغير ما أنزل الله، ولا إلى من بدل شرع الله، ولا يأتي السحرة والكهنة. فاعتقاده الأول أنهم طواغيت باطلة فيما زعموا هذا الأصل، ونطقه بقوله لهم: ليس لكم من الأمر شيء، وعمله: أنه لا يذهب إليهم، ولا يأتيهم، بل يكذب ذلك بالجهاد وباليد والمال والنفس، لإبطال عبادة الطواغيت من على ظهر الأرض كلها، وإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، قال الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة:193]. فالفتنة شرك، ولذا كان الجهاد ذروة سنام الإسلام.

بيان كون الهوى من الآلهة الباطلة التي تعبد من دون الله

بيان كون الهوى من الآلهة الباطلة التي تعبد من دون الله إن من الآلهة الباطلة التي تعبد من دون الله: الهوى، قال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان:43] هذه الآية نص واضح بأن الهوى إله يعبد من دون الله، ونحن نفرده بالذكر لأجل أن واقع الحياة المعاصرة -والحياة الغربية على وجه الخصوص- ونمط الحياة الذي يراد للناس أن يَعيشوها، هي قضية الحرية وتعظيم ما يهواه الإنسان هي القضية الأولى، وربما تكون أعظم الآلهة التي تعبد هي الشهوات، وليس لمجرد اتباع الشهوات، ولكن لعبادة الهوى، وهذا فرق بين أن يتبع الإنسان الشهوة، وبين أنه يجلس يؤسس ويؤصل اتباع الهوى. فهناك فرق مهم بين شخص يقول: أنا مخطئ، وأنا أتبع هواي دون الرجوع إلى الشرع، وبين آخر يؤصل بأن كل إنسان حر في أن يفعل ما يشتهي؛ فإن الحرية هذه هي المبدأ الأول للثورة الفرنسية، وأن الناس أحرار فيما يأتون ويذرون، وعليها أسست نظام الحياة الغربية، فعندهم أن كل إنسان حر فيما يشتهي، وفيما يفعل. ولذلك مثلاً: تجد أن الدنيا تقوم ولا تقعد لو حكم على أحد بالتفريق بينه وبين زوجته بسبب الكفر فيقولون: أين الحرية؟ هو حر يفعل ما يشاء كما يشاء. وتجد أيضاً قضية الشهوات الجنسية مفتوحة تماماً في الغرب، بحيث إنه يمكن للمرأة أن ترفع قضية على زوجها أنه اغتصبها؛ لأنه جامعها بغير رغبتها! في حين أنه لو جامع غير زوجته - زنى- فإن ذلك لا يعد جريمة! فتجدهم يؤصلون قوانين الزنا، ويبينون ما هو الزنا، وما هو المحرم منه؛ فلا يكون محرماً إلا عن طريق الغصب والإكراه، ومن أجل هذا يقولون: من واقع أنثى بغير رضاها فإنه يعاقب بالأشغال الشاقة! وكل هذا تأصيل لقضية عبادة الهوى والعياذ بالله! وهذا فرق مهم جداً ينبغي أن يعيه جهلة جماعات التكفير والتوقف وأمثالها ممن يرى أن سلوك الإنسان بمجرده يحكم به على صاحبه بأنه متبع لهواه، فمثلاً: يرى المرأة المتبرجة، أو شخصاً تاركاً لبعض الواجبات، أو فاعلاً للمحرمات، فيقول: هذا إنسان يعبد الهوى، ويستدل بقوله تعالى: {اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان:43]. أو يجد شخصاً يحب الكرة أو يحب الموسيقى أو يحب المغني الفلاني، فيقول: إنه يعبد ذلك الشيء! فلا بد أن نفرق بين هذا وبين تأصيل حق الإنسان في اتباع هواه، وأن اتباع الهوى حق للإنسان والعياذ بالله! وبين شخص يفعل ذلك على جهة المعصية، ويرى أنه مخطئ إذا فعل ذلك، أو إذا كان عنده شبهة فتبين له إذا كان يرى أنه على الصواب، فهناك فرق عندما يقول أحد: الموسيقى ليس فيها شيء، وليست حراماً، وهناك علماء يقولون كذا، وأين الدليل من الكتاب والسنة؟ فإن هذا أصبح عنده أصل: أن الناس عليهم أن يرجعوا إلى الدين، ولكن القضية أن نظام الحياة العلمانية ترى أن الإنسان حر في أنه لا يرجع إلى الدين، فتأصيل مثل هذا هو عبادة الهوى. ومن أجل هذا أدخلناه في الطاغوت، مع أن المشهور أنهم يقولون: الطواغيت خمسة، لكنه فعلاً من الآلهة التي تعبد، بل ربما يكون أعظم طاغوت في واقعنا هو الهوى. قال ابن كثير في تفسير الآية: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان:43] قال: مهما استحسن من شيء ورآه حسناً في هوى نفسه كان هذا الشيء دينه ومذهبه. وإنما يكون هذا شركاً أكبر إذا كان اتباع الهوى يقود إلى الكفر والتكذيب والشرك بالله، وأما إذا كان فيما دون ذلك فهو شرك أصغر؛ ولهذا كانت المعاصي كلها من شعب الشرك، وإن لم يكن حكمها حكم الشرك الأكبر. والواجب على الإنسان أن يجعل هواه تبعاً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى يتم إيمانه، ولابد أن يعرض رغباته وغاياته وخطراته على الكتاب والسنة، فما وافقهما أخذ به، وما خالفهما ألقاه وراءه ظهرياً. فإن المعاصي في حكم الشرك، وتسمى كذلك في الجملة، لكننا في الحقيقة لا نسمي المعاصي شركاً أصغر إلا إذا ورد تسميتها بذلك، فمن ذلك -مثلاً-: عبد الدرهم، وعبد الدينار، والفواحش، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم سمى الرياء شركاً أصغر، وسمى الحلف بغير الله شركاً أصغر، فنحن نقول: إن المعاصي التي وردت فيها تسمية لا شك أننا نسميها كذلك، وإن كان في الجملة حكم المعاصي كلها أصلاً من باب الشرك الأصغر؛ يطلق ذلك عليها إجمالاً، كما نقول: المعاصي بريد الكفر، أو البدع بريد الكفر، أو المعاصي من شعب الكفر، وليس المقصود به كفر الخروج من الملة، وإنما المراد أنه شرك أصغر؛ لأنه اتباع للهوى، وذريعة للأكبر؛ ولأن كل المعاصي تقود في النهاية إلى الكفر، فمن الممكن أن تقود الإنسان إلى الكفر فعلاً إذا وصل إلى الكفر والتكذيب والشرك بالله، فهذا هو عبادة الهوى من دون الله. والشرك الأكبر صاحبه مخلد في النار، والشرك الأصغر هو من جنس المعاصي في قضية خلود صاحبه في النار. وقد جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الطيرة شرك). فوجدنا أن فيها قسمين: شرك أكبر، وشرك أصغر. ووجدنا أن في الحلف شركاً أكبر، وشركاً أصغر. فنحن محتاجون لبيان هذه الأقسام، ومن أجل هذا وضع العلماء الفرق بينهما، حيث إنه ورد أن الرسول صلى الله عليه وسلم عامل أناساً ممن كان فيهم ما سماه شركاً معاملة المسلمين، فتبين لنا بذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم عنى أنه من ضمن أن الطيرة فيها ما هو شرك أصغر، ومن ضمن أن الحلف فيه ما هو شرك أصغر، فتبين بذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم قصد ذلك.

بيان خطر المال والجاه

بيان خطر المال والجاه من الآلهة التي يعبدها الناس من دون الله وهم لا يشعرون: المال والجاه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخمصية، تعس عبد الخميلة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش). وقوله: (انتكس) يعني: رجع إلى الحال السيئ الذي كان عليه، والتعاسة خبر أو دعاء، يعني: إما أن الرسول صلى الله عليه وسلم يخبر عنه وهذا الخبر صادق لا يخلف، أو أنه دعاء قد أجابه الله عز وجل، فدعا عليه بالتعاسة والانتكاس، وأنه إذا شيك -أي: إذا دخلت في قدمه أو في جسمه شوكة- فلا انتقش، يعني: لا أُخرجت بالمنقاش. فما أشقى هذا العبد الذي دعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أخبر بتعاسته، من أجل أنه رضي لنفسه أن يكون خادماً لما خلق من أجله أصلاً؛ فإن المال واللباس والقطيفة والخميصة خلقت لأجل الإنسان، فإذا به يجعل نفسه خادماً لهذا الذي خلق من أجله؛ إذ إن المفروض أنه يكون خادماً لك، مسخراً لك، كما قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية:13]. فالإنسان إذا صار المال والجاه وكلام الناس عنه في هيئته وثوبه وغير ذلك هو كل همه في هذه الدنيا فإنه يصبح من أجله يحب ويبغض، ويوالي ويعادي، ويطلبه من حلال أو حرام، وهذا من أعظم الآلهة التي تعبد في زماننا، وخصوصاً في نمط الحياة الغربية التي يراد للناس أن يقلدوها، فإن قضية المال هي من أعظم الأشياء عندهم، أو هي كل شيء عندهم، فبالمال تغير الأديان، والرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أن هذا يكثر في فتن آخر الزمان، حيث قال عليه الصلاة والسلام: (بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً؛ يبيع دينه بعرض من الدنيا). فالرسول عليه الصلاة والسلام بين أن الفتن التي ستأتي في آخر الزمن هي من هذا النوع، فأحدهم قد يبيع دينه بعرض من الدنيا. فلا بد للدعاة إلى الله وأهل الحلم والدين أن ينتبهوا لهذا النوع، فإن الناس ممكن أن يحاربوا من بعيد اللات والعزى، وإن كانت معظم عبادة الناس ليس في اللات والعزى، مع أن الناس في الحقيقة مدفوعون دفعاً إلى أن يبيعوا دينهم بعرض من الدنيا، فأحدهم مستعد أن يكفر بالله لو أعطي مالاً، أو أعطي منصباً، ومستعد لأن يترك ما أمره الله عز وجل به من الولاء والبراء وكل الدين بسبب أنه يخاف على منصبه أو يخاف على مركزه أو يخاف على ماله أن يضيع، والعياذ بالله! فلابد من الانتباه لهذه الفتنة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (يبيع دينه بعرض من الدنيا)، فلابد للإنسان أن ينتبه لهذه الفتنة المقبلة، فقد أصبح الإنسان في هذا الزمان من أجل المال يحب، ومن أجله يبغض، ومن أجله يوالي ويعادي، ويطلبه من حلال أو حرام، ولو طلبوا دينه ثمناً لعرض منها لكان أسرع شيء إلى البيع بالثمن البخس، ولذا قال عليه الصلاة والسلام: (يصبح مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً؛ يبيع دينه بعرض من الدنيا). وهو مع ذلك لا يناله من الدنيا إلا ما كتب له، كما في الحديث الصحيح: (من أصبح والدنيا نيته، فرق الله عليه شمله، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن أصبح والآخرة نيته، جمع الله له شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة) رواه ابن حبان في الصحيح، وابن ماجة، والطبراني بإسناد لا بأس به. وفي الحديث القدسي: (يا ابن آدم! تفرغ لعبادتي أملأ قلبك غنى، وأملأ يديك رزقاً، يا ابن آدم! لا تباعد مني أملأ قلبك فقراً، وأملأ يديك شغلاً). ولذلك نقول: إن طبيعة العمل التي تستغرق وقت الإنسان وعمره تجعله غير متفرغ لكي يبذل شيئاً في سبيل الله؛ فلا يجد وقتاً لعبادة الله وذكره، ولا يجد وقتاً للدعوة إلى الله، ولا يجد وقتاً للتعلم والتعليم ونشر الخير، وهذه علامة أكيدة على أن القلب بعيد عن الله سبحانه وتعالى؛ لأنه قال: (يا ابن آدم! لا تباعد مني فأملأ قلبك فقراً، وأملأ يديك شغلاً)، فتجده دائماً ويداه مشغولة. وقد يقول قائل: الناس كلهم الآن أشغالهم تستهلك اثنتي عشرة ساعة في اليوم، وأكثر من اثنتي عشرة ساعة، وكلام النبي عليه الصلاة والسلام عن الله عز وجل يبين أن هذا سبب البعد عن الله. فلو أن القلب قريب من الله فإنه سبحانه يفتح لعبده من حيث لا يحتسب، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3]. فلابد للإنسان من أن يجعل الهم هماً واحداً، وليس معنى ذلك أن يقول: نترك العمل، ونجلس في المسجد. فهذا كلام غير صحيح، وإنما المطلوب أن تكون همة الناس همة الدين، فعند ذلك يفتح الله لهم أبواب الرزق، وأبواب الطاعة، وأبواب الخير. فالعودة إلى التوحيد الصافي من الكتاب والسنة، ونبذ الشركيات بأنواعها، واستدلال الناس على التوحيد بآيات القرآن والسنة، وإحياء القضايا الإيمانية التي في القرآن والتي أهملت في عصور التقليد خير عظيم. فأبواب الخير مفتوحة، ولكنها تريد همة عالية في التقرب إلى الله عز وجل، بحيث لا يكون هم الإنسان إلا هماً واحداً، كما قال عليه السلام عن ربه عز وجل أنه قال: (يا ابن آدم! تفرغ لعبادتي أملأ قلبك غنى، وأملأ يديك رزقاً). فهذا وعد من الله عز وجل، وإذا وجدت غير هذا فتأكد بأن هناك غلطاً، وأن هناك خللاً. وقوله: (الخميلة): كل ثوب له خمل، و (الخميصة): أيضاً نوع من الثياب الحسنة الجميلة. ولا يتصور في مؤمن يوجد في قلبه شيء من الإيمان أن يضحي بعقيدته لمن يدفع أكثر، سواء كان من الشرق أو من الغرب، أو يرضى بالكفر ويتابع عليه من يظن أنه إن لم يعطه جاع أو عطش، وقد غاب عنه قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:58]. وقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3]. وقد صارت هذه المصيبة -والعياذ بالله- مبرراً للكثيرين في المتابعة على الكفر والفسوق والعصيان؛ بل على حرب الإسلام وأهله دون جريمة؛ إلا أنهم يلتزمون بالإسلام. وذلك منهم إرضاء للمجرمين والكافرين، ومن أجل أموالهم، بل صار معلوماً أن الصفقات تعقد على ضرب الإسلام في مقابل الأموال التافهة الحقيرة، أو من أجل الاستمرار في كراسي الحكم والسلطة، فهذا الذي نراه هو حقيقة ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذه العبودية للمال في أبشع صورها. فأما من لا يوصله حب المال إلى الكفر، ولكن يوصله لفعل المعاصي -والعياذ بالله- فله نصيب من الشرك الأصغر، فما زالت هناك عبودية، لكن هذه العبودية شرك أصغر، نسأل الله أن يعيذنا من العبودية لغيره، وأن يجعلنا من عباده المخلصين.

حقيقة العبادة

حقيقة العبادة كلمة (لا إله إلا الله) مشتملة على شقين: نفي وإثبات، فالشق الأول فيه الكفر بالطاغوت، وقد تكلمنا على الآلهة التي تعبد من دون الله. والشق الثاني فيه الإيمان بالله، وحقيقة العبادة. أما الشق الثاني من كلمة التوحيد -وهو إثبات الألوهية- فهو حقيقة الإيمان بالله؛ لأن الإيمان قول وعمل، قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح. والعبادة هي كما عرفها شيخ الإسلام ابن تيمية: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة. وبهذا يظهر التطابق بين حقيقة الإيمان: أنه قول وعمل، قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح، وبين حقيقة العبادة، ومن أجل هذا قلنا: إن العبودية لله هي إثبات الألوهية، وحق العبادة لله هو حقيقة الإيمان.

أركان العبادة

أركان العبادة أصل العبادة: كمال الذل وكمال الحب، فهما ركنان لا تقوم العبادة إلا بهما. فلابد للإنسان الذي يقول: أنا أعبد الله أن يكون عارفاً بالركنين في الجملة إجمالاً، ويحققهما في ذات نفسه، أما من يدعي أنه يحب الله ولا يخضع له، فهذا لم يحقق العبودية لله عز وجل، وهذا موجود في تصورات قطاع كبير من البشر، فإن ملايين من البشر يقولون: نحن نحب ربنا، ولكن لا يلزم أن نسمع كلامه، ومعظم الغرب يقرون بوجود الله، ولكن لا يوجد منهم خضوع له، ولا انقياد لشرعه، وعلى هذا فليس عندهم عبودية لله سبحانه وتعالى، حتى لو أحبوه. فالركنان اللذان لا تقوم العبادة إلا بهما: كمال الحب، مع كمال الذل. فخضوع الانقياد هو أن العبد لا يمكن أن يضحي بأمر الله أمام أي مقابل، كما أنه لا يمكن أن يقدم على حبه لله عز وجل أي حب. والعبادة كذلك لا تصح إلا بالحب والخوف والرجاء، فلابد من العبادة في كل عمل من الأعمال، فلابد للعبد في كل عمل من أعماله أن يكون محباً لربه جل وعلا، قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165]، وأن يكون خائفاً من ربه، خوف المقام بين يديه، وخوف وعيده. قال تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم:14]، وقال سبحانه: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46]، وفيهما معنيان: الأول: الذي سبق وهو خوف المقام بين يدي الله. وأما الثاني فالمراد: أنه خاف مقام الرب عليه بالاطلاع، فهي مضافة إلى الفعل، والمعنيان صحيحان. فمقام الرب عز وجل بالربوبية: الاطلاع في كل وقت، أما مقام العبد بين يدي ربه فسيكون يوم القيامة للسؤال وللحساب.

الرد على من يقول: إنه لا يخاف النار، ولا يرجو الجنة

الرد على من يقول: إنه لا يخاف النار، ولا يرجو الجنة على العبد أن يخاف الوعيد والعقاب، ولا يكون كمن من يقول: أنا لا أخاف النار، قال عز وجل: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم:13 - 14]، وقال تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175]، وقال: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة:40]، وكذلك يجب أن يكون العبد راجياً فضل الله ورحمته وثوابه وجنته، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة:59]، فنسب الرغبة إلى الله، والحسب في التوكل على الله، والإيتاء نسبه إلى الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم. وقال عن آل زكريا: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90]. فالأنبياء وصفوا بذلك، والمؤمنون وصفوا بذلك، ومدحوا على ذلك، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ} [البقرة:218]، فمن زعم أنه يعبد الله حباً فقط، بلا رغبة ولا رهبة فهو منافق زنديق كاذب في دعواه، فلو أحب الله لأطاعه؛ فإن المحب لمن يحب مطيع، فإنه عز وجل يقول: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة:40] فلو أحب ربه لرهبه، وقالت رسله: {وَارْجُوا الْيَوْمَ الآخِرَ} [العنكبوت:36]، وقال سيدنا شعيب: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الآخِرَ} [العنكبوت:36]، فكيف تصدق دعوى الحب لله عز وجل مع مخالفة أمره؟ وكيف تصح العبودية بغير خوف ورجاء؟ وكثير من الناس اغتروا بالكلام المنسوب إلى رابعة العدوية -والله أعلم بحقيقة النسبة إليها- وهو قولها: اللهم إن كنت أعبدك طمعاً في الجنة فاحرمني منها، وإن كنت أعبدك خوفاً من نارك فأدخلني فيها! وظنوه دالاً على علو شأن المحبة. واغتروا بالتفسير المنقول عن الشيخ الشعراوي في قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110] قال: والجنة تعتبر أحداً! وهذا معناه: أن الذي يطلب الجنة مشرك والعياذ بالله! فالله سبحانه وتعالى يقول لأزواج الرسول صلى الله عليه وسلم: {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:29]، فهل هن مشركات؟! وهل الله عز وجل يرغب في الشرك؟! نعوذ بالله! وهل عندما قال الله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ) [الأحزاب:21] رغب في الشرك؟! فعندكم أن رجاء الله ورجاء اليوم الآخر شرك. نعوذ بالله! وهذا الكلام ضلال مبين، وهو كلام حقيقته الكفر، يترفع عنه حال الأنبياء والأولياء، وإنما أصله سوء اعتقاد في الله ورسله كما هو حال الصوفية والفلاسفة، فإن عندهم أنه من الممكن أن يقول الله للناس كلاماً غلطاً من أجل أنه لا ينفع معهم إلا هذا، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً. من الفلاسفة من يقول: إن الرسل أصلاً كانوا فاهمين، لكن الناس لا ينفع معهم إلا هكذا! وبعضهم يقول: إن الرسل يخدعون الناس، وأن الرسل لم يكونوا يفهمون ما هو الموضوع، والعياذ بالله! فهؤلاء المتدينون من الفلاسفة يقولون: إن الرسل كانوا يخدعون الناس، وهذا معناه أنهم كذابون. والعياذ بالله! ويقولون: بأنهم لا يفهمون أصلاً، وأن طرق الحكمة غير طرق الرسل، وهؤلاء أكفر الفلاسفة والعياذ بالله! فهذا كلام فضيع جداً، والذي يقرأ كتاب مفصل الاعتقاد لشيخ الإسلام ابن تيمية يجد فعلاً أن كلام الفلاسفة مبني على ذلك، وهم في أحسن أحوالهم يقولون: الرسل أذكياء جداً، لكن العوام من الناس لا ينفع معهم غير هذا، والذي يتلمح مثلاً عنوان كتاب الغزالي (إلجام العوام عن علم الكلام) يجده لم يلغ علم الكلام بالكلية، وإنما يلجم العوام الذين لا يفهمون. وله كتاب آخر اسمه: (المضنون به على غير أهله)، قال ابن العربي: شيخنا أبو حامد دخل الفلسفة فأراد أن يخرج منها فلم يستطع يعني: أنه ما زالت بقايا الفلسفة مؤثرة فيه، ففي كتابه (المضنون به على غير أهله) يقول: إن هناك أسراراً يضن بها على العوام! ولذلك تجدهم كلهم متفقين على أن الخوف والرجاء والرغبة والتوكل والإخلاص كل هذه من عبادة العوام، يعني: أن الخواص مترفعون عن ذلك، وهذا الكلام ذكره في مدارج السالكين، وفي كل مكان فيه صوفية تجد هذا الكلام موجوداً. ولذلك كلام الفلاسفة هذا خطير للغاية، وفساد فعلاً في الاعتقاد، وهو يرمي إلى تجريد الرسل أصلاً، فإن الفلسفة لما دخلت أثرت على الناس في عقائدهم، وبمرور الزمن أدت إلى أن يكون كلام الكفار هو الذي يعتقده قطاع عريض من أتباع الرسل إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فالأكثرية -والحمد لله- تأبى ذلك، إلا أن هناك أناساً منتسبين إليها يفعلون ذلك، فإن عقيدة النصارى منبعها من الفلاسفة الكفار، وعامة النصارى يعتقدون هذه العقيدة الكفرية والعياذ بالله! ولو أن أحداً اعتقد أن الجنة هي أكل وشرب ونكاح فإنه يصبح جاهلاً بالدين مبتدعاً؛ لأنه ينكر رؤية الله، وينكر القرب من الله؛ ولذلك فإن الجهمية من شرار الخلق؛ لأنهم ينكرون أعظم نعيم لأهل الجنة وهو القرب، فهم يقولون: إن الله لا يقرب، ولا يقرب منه؛ لأنه يلزم من ذلك الجسمية. قالوا: ولا يرى في الآخرة؛ لأنه يلزم من ذلك أنه محدود؛ ولذلك أنكروا هذا وقالوا: إن الجنة أكل وشرب ونكاح فقط، وهؤلاء من أهل البدع والضلال، فإنهم لما تركوا ذكر الله، وتركوا القرآن، وتركوا حديث الرسول عليه الصلاة والسلام؛ وقعوا في الضلال الذي ما أنزل الله به من سلطان. فحقيقة هذا الكلام هو الضلال والزندقة؛ إذ كيف يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم ويسأل أفضل أولياء الله الصالحين -وهم الصحابة رضي الله عنهم- الجنة، ويستعيذون بالله من النار، ثم يتبرأ مسلم من ذلك، أو يزدري هذه النماذج في الاعتقاد، تارة بأنها عبادة العبيد أو التجار، مثل الكلمة المشهورة الموجودة: الخوف عبادة العبيد، والرجاء عبادة التجار، وأما الحب فهو عبادة الصديقين؟ فهل كان الصحابة وآل زكريا من العبيد والتجار؟ هل أصبح هؤلاء أحسن منهم؟! كما يقول ذلك ابن عربي وغيره، وهو محي الدين الصوفي، وأما أبو بكر بن العربي فهو المالكي. وهذا الكلام ليس إلا إعراضاً عن القرآن والسنة وإجماع علماء المسلمين، بل قد صرح أئمة العلماء بكفر من قال: أنا لا أخاف القيامة، قال النووي: ولو قال: لا أخاف القيامة كفر. فانظر إلى هذه الهاوية التي سقط فيها أولئك القوم، وفتنة الناس بهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة

يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة جاء الدين الإسلامي فألغى كل مظاهر الفساد في جميع نواحي الحياة: في الاعتقاد، أو الأخلاق، أو المعاملات. ومن أعظم ما عمل على إلغائه وإنهائه: الربا، الذي هو خطر على جميع الناس، ويكفي فيه أنه: محطم للاقتصاد، مبدد للثروات، ولعل أعظم فساده وضرره: تسببه في تعرض المتعاملين به لغضب الله وسخطه وحربه، قال تعالى: (فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله).

الجنة وصفات أهلها

الجنة وصفات أهلها الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم. أما بعد: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:130 - 138].

الحث على المسارعة إلى الجنة، وصفتها

الحث على المسارعة إلى الجنة، وصفتها قال الإمام ابن كثير رحمه الله: يقول الله تعالى ناهياً عباده المؤمنين عن تعاطي الربا وأكله أضعافاً مضاعفة، كما كانوا في الجاهلية يقولون: إذا حل أجل الدين إما أن تقضي، وإما أن تربي، -تربي أي: تزيد، والربا أصلاً من الزيادة، يربو: يزيد-، قال: فإن قضاه وإلا زاده في المدة وزاده الآخر في القدر، -في قدر الدين وصار مضاعفاً-، وهكذا كل عام، فربما تضاعف القليل حتى يصير كثيراً مضاعفاً، وأمر الله تعالى عباده بالتقوى لعلهم يفلحون في الأولى والأخرى -في الأولى الدنيا، والأخرى: الآخرة-، ثم توعدهم بالنار وحذرهم منها، فقال تعالى: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}، {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}، ثم ندبهم إلى المبادرة إلى فعل الخيرات والمسارعة إلى نيل القربات، فقال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}، أي: كما أعدت النار للكافرين، وقد قيل: إن معنى قوله: ((عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ)) تنبيهاً على اتساع طولها، كما قال في صفة فرش الجنة: {بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} [الرحمن:54] أي: فما ظنك بالظهائر، إذا كانت البطانة من الحرير فالظهارة دائماً تكون أفضل من البطانة. وقيل: بل عرضها كطولها؛ لأنها قبة تحت العرش، والشيء المقبب والمستدير عرضه كطوله -كالكرة- والله عز وجل أعلم بصفة ذلك، وهذا ليس عندنا ما يدل عليه عبارة صريحة. يقول: وقد دل على ذلك كما ثبت في الصحيح: (إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة، وسقفها عرش الرحمن). هذا الحديث رواه البخاري، ولكن ليس صريحاً في أن الجنة كالقبة، فالله أعلى وأعلم. فالكيفية مجهولة بالنسبة لنا، ولكن الفردوس أعلى الجنة وأوسطها، وسقفه عرش الرحمن. قال: وهذه الآية كقوله تعالى في سورة الحديد: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} [الحديد:21] الآية. قال: وقد روينا في مسند الإمام أحمد: (أن هرقل كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم: إنك دعوتني إلى جنة عرضها السماوات والأرض فأين النار؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سبحان الله! فأين الليل إذا جاء النهار) حديث ضعيف. ورواه ابن جرير عن يعلى بن مرة قال: (لقيت التنوخي رسول هرقل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمص شيخاً كبيراً قد فند)، فند أي: بلغ الهرم، وضعف جداً، (فقال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب هرقل فتناول الصحيفة رجل عن يساره، قال: قلت: من صاحبكم الذي يقرأ قالوا: معاوية فإذا كتاب صاحبي)، ومعاوية هو الذي يقرأ الكتاب للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ليس بقارئ، وقوله: (فإذا كتاب صاحبي) أي: فإذا كتاب هرقل فيه الآتي: (إنك كتبت تدعوني إلى جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين، فأين النار؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبحان الله! فأين الليل إذا جاء النهار). وقال الأعمش وسفيان الثوري، وشعبة عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب: إن ناساً من اليهود سألوا عمر بن الخطاب عن جنة عرضها السماوات والأرض فأين النار؟ فقال لهم عمر: أرأيتم إذا جاء النهار أين الليل؟ وإذا جاء الليل أين النهار؟ فقالوا: لقد نزعت مثلها من التوراة. يعني أن هذه الحجة موجودة في التوراة بهذه الطريقة والله أعلم، رواه ابن جرير من ثلاثة طرق. ثم روى عن يزيد بن الأصم: أن رجلاً من أهل الكتاب قال: يقولون: جنة عرضها السماوات والأرض فأين النار؟ فقال ابن عباس رضي الله عنهما: أين يكون الليل إذا جاء النهار؟ وأين يكون النهار إذا جاء الليل؟ أي: حيث يعلم الله سبحانه وتعالى، وملك الله أوسع من السماوات والأرض، فالله عز وجل يفعل ما يشاء ويخلق ما يشاء سبحانه وتعالى. فمضمون الحجة أنه يكون حيث شاء الله، وملك الله عز وجل أعظم من السماوات والأرض كما ذكرنا. قال: وقد روي هذا مرفوعاً، رواه البزار عن أبي هريرة قال: (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت قوله تعالى: ((جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ)) [آل عمران:133] فأين النار؟ قال: أرأيت الليل إذا جاء لبس كل شيء فأين النهار؟ قال: حيث شاء الله، قال: وكذلك النار تكون حيث شاء الله عز وجل). يقول: هذا يحتمل معنيين: أحدهما: أن يكون المعنى في ذلك أنه لا يلزم من عدم مشاهدتنا الليل إذا جاء النهار ألا يكون اثنان وإن كنا لا نعلمه، وكذلك النار تكون حيث يشاء الله وهذا أظهر، كما تقدم في حديث أبي هريرة عند البزار. والثاني: أن يكون المعنى أن النهار إذا تغشى وجه العالم من هذا الجانب، فإن الليل يكون من الجانب الآخر كما هو معلوم الآن أن الليل يكون في جانب، والنهار في جانب آخر. فكذلك الجنة في أعلى عليين فوق السماوات تحت العرش، وعرضها كما قال الله عز وجل: ((كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ)) والنار في أسفل سافلين، فلا تنافي بين كونها كعرض السماوات والأرض وبين وجود النار، والله أعلم.

من صفات أهل الجنة: الإنفاق

من صفات أهل الجنة: الإنفاق ثم ذكر تعالى صفة أهل الجنة، فقال: ((الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ)) أي: في الشدة والرخاء، والمنشط والمكره، والصحة والمرض، وفي جميع الأحوال، كما قال تعالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً} [البقرة:274]، والمعنى: أنهم لا يشغلهم أمر عن طاعة الله تعالى، والإنفاق في مراضيه، والإحسان إلى خلقه من قراباتهم وغيرهم بأنواع البر، وقوله تعالى: ((وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ)) أي: إذا ثار بهم الغيظ كظموه، بمعنى: كتموه فلم يُعِملُوه -ولم يعملوا بمقتضاه، فلم يعملوا غيظهم في الناس-، وعفوا مع ذلك عمن أساء إليهم. وقد ورد في بعض الآثار يقول الله تعالى: (يا ابن آدم! اذكرني إذا غضبت أذكرك إذا غضبتُ، فلا أهلكك فيمن أهلك) رواه ابن أبي حاتم. وقد روى أبو يعلى في مسنده عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كف غضبه كف الله عنه عذابه، ومن خزن لسانه ستر الله عورته، ومن اعتذر إلى الله قبل الله عذره)، وهذا حديث غريب وفي إسناده نظر، وإن كان المعنى ثابتاً من أدلة الكتاب والسنة الأخرى. وقوله: ومن اعتذر إلى الله قبل الله عذره، يعني: التوبة. وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس الشديد بالصرعة) الصرعة: الذي يصرع الناس، قال: (ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) متفق عليه، رواه الشيخان من حديث مالك. وروى الإمام أحمد عن عبد الله هو ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟ قالوا: يا رسول الله! ما منا أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه)؛ لأن ماله هو الذي يتصرف فيه، قال: (اعلموا أنه ليس منكم أحد إلا مال وارثه أحب إليه من ماله). وحقيقة الحال: أن أكثر الناس مال وارثهم أحب إليه من أموالهم، وذلك كما قال صلى الله عليه وسلم: (ما لك من مالك -أي: ليس لك من مالك- إلا ما قدمت، وما لوارثك إلا ما أخرت). وأكثر الناس يحبون ادخار الأموال، وهذه الأموال المدخرة تعود للورثة، فهو ليس مالهم، وإنما مالهم ما ادخروه عند الله، قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما تعدون الصرعة فيكم؟ قلنا: الذي لا تصرعه الرجال، قال: لا، ولكن الذي يملك نفسه عند الغضب). قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما تعدون فيكم الرقوب؟ قلنا: الذي لا ولد له، قال: لا، ولكن الرقوب الذي لم يقدم من ولده شيئاً)، الذي لم يمت في حياته أحد من أولاده، فهذا الذي كأنه لا ولد له؛ لأنه لا يدري هل من يعيش من أولاده ينفعونه أم لا؟ وأما من مات من أولاد المسلمين فهم شفعاء في آبائهم وأمهاتهم. أخرج البخاري الفصل الأول منه: الذي هو: (أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله)، وأخرج مسلم أصل هذا الحديث من رواية الأعمش. حديث آخر رواه الإمام أحمد: عن رجل شهد النبي صلى الله عليه وسلم يخطب قال: فقال: (أتدرون ما الرقوب؟ قالوا: الذي لا ولد له، قال: الرقوب كل رقوب: الذي له ولد فمات ولم يقدم منهم شيئاً، قال: أتدرون ما الصعلوك؟ قالوا: الذي ليس له مال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الصعلوك كل الصعلوك: الذي له مال فمات ولم يقدم منه شيئاً، قال: ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما الصرعة؟ قالوا: الصريع) صريع: تطلق على فاعل ومفعول، يقال: بل سقط صريعاً أي: مصروعاً، والصريع بمعنى: الصارع، أي: الذي يغلب الناس بالصراع، (قال: فقال: الصرعة كل الصرعة الذي يغضب فيشتد غضبه ويحمر وجهه ويقشعر شعره فيصرع غضبه)، وفي بعض النسخ: (فيصرعه غضبه) وقوله: فيصرع غضبه: أي يغلب غضبه.

كظم الغيظ من صفات أهل الجنة

كظم الغيظ من صفات أهل الجنة وروى الإمام أحمد: عن الأحنف بن قيس عن عم له يقال له: جارية بن قدامة السعدي أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! قل لي قولاً ينفعني وأقلل علي لعلي أعيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تغضب، فأعاد عليه حتى عاد عليه مراراً كل ذلك يقول: لا تغضب). وهكذا رواه عن أبي معاوية عن هشام. وفي الراوية الأخرى: (أن رجلاً قال: يا رسول الله! قل لي قولاً وأقلل علي لعلي أعقله، فقال: لا تغضب) قال ابن كثير الحديث انفرد به أحمد، مع أنه رواه البخاري، وهذا وهم من ابن كثير رحمه الله. حديث آخر: رواه الإمام أحمد عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رجل: (يا رسول الله! أوصني، قال: لا تغضب، قال: الرجل: ففكرت حين قال النبي صلى الله عليه وسلم ما قال، فإذا الغضب يجمع الشر كله) انفرد به أحمد. وروى الإمام أحمد عن أبي ذر رضي الله عنه قال: أنه كان يسقي على حوض له، فجاء قوم فقالوا: أيكم يورد على أبي ذر ويحتسب شعرات من رأسه؟ فقال رجل: أنا، فجاء الرجل فأورد عليه الحوض فدقه -يورد عليه: يدخل إبله على إبله أثناء سقياها- وكان أبو ذر قائماً فجلس، ثم اضطجع، فقد أغاظ أبا ذر هذا الرجل جداً، وهؤلاء القوم كانوا يريدون أن يغيظوا أبا ذر فكان أبو ذر قائماً فجلس، ثم اضطجع، فقيل له: يا أبا ذر، لم جلست ثم اضطجعت؟ فقال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا: إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع) صححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع. ورواه أبو داود عن أحمد بن حنبل بإسناده. وحديث آخر رواه الإمام أحمد أيضاً عن أبي وائل الصنعاني قال: كنا جلوساً عند عروة بن محمد إذ دخل عليه رجل فكلمه بكلام أغضبه، فلما أغضبه قام، ثم عاد إلينا وقد توضأ فقال: حدثني أبي عن جدي عطية هو ابن سعد السعدي وقد كانت له صحبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء فإذا أُغضب أحدكم فليتوضأ) وهكذا رواه أبو داود وضعفه الشيخ الألباني. وحديث آخر: رواه الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أنظر معسراً أو وضع له) أنظره أي: أخر عنه المدة، ووضع له أي: ترك شيئاً من الدين الذي عليه، (قال: من أنظر معسراً أو وضع له وقاه الله من فيح جهنم، ألا إن عمل الجنة حزن بربوة ثلاثاً، ألا إن عمل النار سهل بسهوة، والسعيد من وقي الفتن) عمل الجنة حزن يعني: في الصعوبة، مثل مكان مرتفع يحتاج إلى صعود، ولن يجد الإنسان سهولة في الصعود إليه، ومثله قول النبي صلى الله عليه وسلم: (حفت الجنة بالمكاره)، (ألا وإن عمل النار سهل بسهوة) أي: أرض منبسطة، يعني: أن عمل النار سهل، (وحفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات) هذا هو المعنى، والله أعلم. قال: (والسعيد من وقي الفتن) نسأل الله أن يقينا من الفتن، (وما من جرعة أحب إلى الله من جرعة غيظ يكظمها عبد، ما كظمها عبد لله إلا ملأ الله جوفه إيماناً). انفرد به أحمد وإسناده حسن ليس فيه مجروح، ومتنه حسن. حديث آخر في معناه: رواه أبو داود عن رجل من أبناء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه ملأه الله أمناً وإيماناً، ومن ترك لبس ثوب جمال وهو أقدر) قال: بشر المنصور -هو: بشر بن منصور أحد الرواة- أحسبه قال: (تواضعاً) أي: (ومن ترك لبس ثوب جمال وهو يقدر عليه تواضعاً كساه الله حلة الكرامة، ومن روج لله كساه الله تاج الملك) بمعنى الدعوة، والله أعلم. وروى الإمام أحمد عن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رءوس الخلائق حتى يخيره من أي الحور شاء) هذا حديث حسن. والذي قبله ضعفه الشيخ الألباني، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. حديث آخر: رواه عبد الرزاق عن رجل من أهل الشام يقال له: عبد الجليل عن عم له عن أبي هريرة رضي الله عنه في قوله تعالى: ((وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ)) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كظم غيظاً وهو يقدر على إنفاذه ملأه الله أمناً وإيماناً) حديث ضعيف، لكنه شاهد لما قبله، رواه ابن جرير. وروى ابن مردويه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما تجرع عبد من جرعة أفضل أجراً من جرعة غيظ كظمها ابتغاء وجه الله) وكذا رواه ابن ماجة. فقوله تعالى: ((وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ)) أي: لا يعملون غضبهم في الناس، بل يكفون عنهم شرهم ويحتسبون ذلك عند الله عز وجل.

العفو من صفات أهل الجنة

العفو من صفات أهل الجنة ثم قال تعالى: ((وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ)) أي: مع كف الشر يعفون عمن ظلمهم في أنفسهم، فلا يبقى في أنفسهم موجدة على أحد -أي: غيظ وغضب وضيق من أحد- وهذا أكمل الأحوال، ولهذا قال: ((وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)) وهو من مقامات الإحسان. وفي الحديث: (ثلاث أقسم عليهن: ما نقص مال من صدقة، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، ومن تواضع لله رفعه الله) حديث صحيح أخرجه مسلم، ولا التفات إلى ما ذكر في بعض النسخ من تضعيفه، فهو حديث صحيح بلا شك، وبعض المحققين ذكر ضعفه وليس بضعيف، بل هو صحيح. وروى الحاكم في مستدركه عن عبادة بن الصامت عن أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من سره أن يشرف له البنيان وترفع له الدرجات فليعف عمن ظلمه، ويعطي من حرمه، ويصل من قطعه). قوله: من سره أن يشرف له البنيان أي: يرفع له البنيان عند الله في الجنان، ثم قال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. قال الذهبي: أبو أمية ضعفه الدارقطني وإسحاق لم يدرك عبادة، وإسحاق بن يحيى بن طلحة هذا فيه انقطاع، لكن له شواهد متعددة، وقد أورده ابن مردويه من حديث علي وكعب بن عجرة وأبي هريرة، وأم سلمة رضي الله عنهم بنحو ذلك، لكن أصل هذا الحديث ثابت إن شاء الله؛ لأن له طرقاً متعددة. وروى من طريق الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان يوم القيامة نادى مناد يقول: أين العافون عن الناس؟ هلموا إلى ربكم وخذوا أجركم، وحق على كل امرئ مسلم إذا عفا أن يدخل الجنة) نسأله ذلك.

التوبة والاستغفار من صفات أهل الجنة

التوبة والاستغفار من صفات أهل الجنة وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران:135] أي: إذا صدر منهم ذنب أتبعوه بالتوبة والاستغفار. روى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن رجلاً أذنب ذنباً، فقال: رب إني ذنبت ذنباً فاغفره لي، فقال الله عز وجل: عبدي عمل ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي) قوله: علم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به) أي: عاقب، فهو يعلم قدرة الله على العفو وقدرته على العقاب، فرجا عفو الله ومغفرته وخاف عقابه فاستغفر لذلك. قال: (ثم عمل ذنباً آخر فقال: رب إني عملت ذنباً فاغفره، فقال تبارك وتعالى: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي، ثم عمل ذنباً آخر فقال: رب إني عملت ذنباً فاغفر، فقال عز وجل: عبدي علم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به أشهدكم أني غفرت لعبدي فليعمل ما شاء) أي: طالما ظل على تلك الحال، ووافى الله عز وجل تائباً، أخرجاه في الصحيحين. وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه: (قلنا: يا رسول الله، إذا رأيناك رقت قلوبنا وكنا من أهل الآخرة، وإذا فارقناك أعجبتنا الدنيا وشممنا النساء والأولاد، فقال: لو أنكم تكونون على الحال التي أنتم عليها عندي لصافحتكم الملائكة بأكفهم، ولزارتكم في بيوتكم، ولو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون كي يغفر لهم، قلنا: يا رسول الله! حدثنا عن الجنة، ما بناؤها؟ قال: لبنة ذهب، ولبنة فضة، وملاطها المسك الأذفر، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران، من يدخلها ينعم ولا يبأس، ويخلد ولا يموت، لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه، ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم، تحمل على الغمام -على السحاب- وتفتح لها أبواب السماء، ويقول الرب: وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين) رواه الترمذي. والحديث له شواهده الكثيرة. ويتأكد الوضوء وصلاة ركعتين عند التوبة، لما رواه الإمام أحمد بن حنبل عن علي رضي الله عنه قال: كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً نفعني الله بما شاء منه، وإذا حدثني عنه غيره استحلفته، فإذا حلف لي صدقته، وإن أبا بكر حدثني وصدق أبو بكر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من رجل يذنب ذنباً فيتوضأ فيحسن الوضوء قال مسعر: فيصلي، وقال سفيان: ثم يصلي ركعتين فيستغفر الله عز وجل إلا غفر له). وهكذا رواه علي بن المديني والحميدي، وأبو بكر بن أبي شيبة، وأهل السنن وابن حبان في صحيحه، والبزار، والدارقطني، وقال الترمذي: هو حديث حسن، وقد ذكرنا طرقه والكلام عليه مستقصى في مسند أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وبالجملة فهو حديث حسن، وهو من رواية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عن خليفة النبي أبي بكر الصديق رضي الله عنهما. ومما يشهد بصحة هذا الحديث: ما رواه مسلم في صحيحه عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ أو فيسبغ الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله -صلى الله عليه وسلم- إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء). وفي الصحيحين عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه: أنه توضأ لهم وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه). فقد ثبت هذا الحديث من رواية الأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين عن سيد الأولين والآخرين، ورسول رب العالمين، كما دل عليه الكتاب المبين من أن الاستغفار من الذنوب ينفع العاصين. وقد قال عبد الرزاق بسنده عن أنس رضي الله عنه قال: بلغني أن إبليس حين نزلت هذه الآية: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران:135] الآية: بكى. ورواه الحافظ أبو يعلى عن أبي بكر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عليكم بلا إله إلا الله والاستغفار فأكثروا منهما فإن إبليس قال: أهلكت الناس بالذنوب، وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار، فلما رأيت ذلك أهلكتهم بالأهواء فهم يحسبون أنهم مهتدون). قال ابن كثير: عثمان بن مطر وشيخه: ضعيفان، والحديث ضعيف ولا يصح مرفوعاً. وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال إبليس: يا رب! وعزتك لا أزال أغوي عبادك، مادامت أرواحهم في أجسادهم، فقال الله تعالى: وعزتي وجلالي! لا أزال أغفر لهم ما استغفروني) حسنه الشيخ الألباني في صحيح الجامع. وروى الحافظ أبو بكر البزار عن أنس قال: (جاء رجل فقال: يا رسول الله! أذنبت ذنباً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أذنبت فاستغفر ربك، فقال: فإني أستغفر ثم أعود فأذنب، قال: فإذا أذنبت فعد فاستغفر ربك، فقالها في الرابعة: استغفر ربك حتى يكون الشيطان هو المحسور) أي: الذي ترجع عليه الحسرة. هذا حديث غريب من هذا الوجه ضعيف، لكن المعنى ثابت في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم ذكرناه قبل وفيه: (قد غفرت لعبدي فليعمل ما شاء). وقوله تعالى: ((وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ)) أي: لا يغفرها أحد سواه، كما روى الإمام أحمد عن الأسود بن سريع: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بأسير، فقال: اللهم إني أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: عرف الحق لأهله) أيضاً لا يصح، مرسل من مراسيل الحسن. وقوله: ((وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ)) أي: تابوا من ذنوبهم ورجعوا إلى الله عن قريب، ولم يستمروا على المعصية، أو يصروا عليها غير مقلعين عنها، ولو تكرر منهم الذنب تابوا عنه، والتكرار غير الإصرار، فالإصرار معناه: أن يعزم أن يعود إلى الذنب فيكون قلبه عازماً على العودة، والتكرار: يمكن أن يكون مع إصرار، ويمكن أن يكون بغير إصرار؛ لأنه سيفعل الذنب ثم يتوب، ثم يرجع إليه مرة ثانية، فهو قد تكرر منه الذنب ولم يصر، وإذا أصر ولم يتكرر منه الذنب فهو أشد ممن تكرر منه الذنب. قال: ولو تكرر منهم الذنب تابوا عنه، كما روى الحافظ أبو يعلى الموصلي عن أبي نصيرة عن مولى لـ أبي بكر عن أبي بكر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة). رواه أبو داود والترمذي، والبزار، وقال علي بن المديني والترمذي: ليس إسناد هذا الحديث بذاك، ضعفه الترمذي لأجل مولى أبي بكر، فالظاهر أنه لأجل جهالة مولى أبي بكر؛ ولكن جهالة مثله لا تضر لأنه تابعي كبير ويكفيه نسبته إلى أبي بكر الصديق فهو حديث حسن، والله أعلم. وقوله: ((وَهُمْ يَعْلَمُونَ)) قال مجاهد وعبد الله بن عبيد بن عمير: وهم يعلمون أن من تاب تاب الله عليه، وهذا كقوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [التوبة:104]، ((أَلَمْ يَعْلَمُوا)) فهم يعلمون من صفات الله أنه يغفر الذنوب، وكقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمِ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:110]. ونظائر هذا كثيرة جداً. وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه قال وهو على المنبر: ارحموا ترحموا، واغفروا يغفر لكم، ويل لأقماع القول، ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون) صححه الألباني، وتفرد به أحمد.

الأعمال سبب النجاة أو الهلاك، والنصر أو الهزيمة

الأعمال سبب النجاة أو الهلاك، والنصر أو الهزيمة ثم قال تعالى بعدما وصفهم بما وصفهم: ((أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ)) أي: جزاؤهم على هذه الصفات مغفرة من الله ((وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ)) أي: من أنواع المشروبات: من خمر، وعسل، ولبن، وماء غير آسن، ((خَالِدِينَ فِيهَا)) أي: ماكثين فيها، ((وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ)) يمدح الله تعالى الجنة. هذه الآيات الكريمة في وسط الآيات في سورة آل عمران في ذكر غزوة أحد، وقد يستغرب البعض من ذكرها في هذا الموضع بعد قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً))، ثم حذرهم سبحانه وتعالى من النار، وبين صفات أهل الجنة، فنقول: العلاقة بين ما ذكر قبل وبعد قصة غزوة أحد وثيقة جداً؛ وذلك أن المؤمنين إنما يواجهون عدوهم ويواجهون الصراع بين الحق الذي معهم والباطل الذي يعانيهم؛ إنما يواجهونه بأعمالهم فإذا كانت أعمالهم وصفاتهم على الوجه الذي يحب الله سبحانه وتعالى ويرضى وعلى وفق ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم كان في ذلك النصر بإذن الله. ولذا بوب البخاري باب: عمل صالح قبل القتال. وقال أبو الدرداء: إنما تقاتلون بأعمالكم، وإذا كان الناس يحاربون الله عز وجل، ويحاربون رسوله صلى الله عليه وسلم بأكل الربا فكيف يتصور أن يكونوا ناصرين لدين الله، وهم لم ينصروه في أنفسهم؟ وكيف يتصور أن ينتصروا على عدوهم عدو الله، وهم لم ينتصروا على أنفسهم؟ فكان هذا الأمر وثيق الصلة بأمر القتال والحرب، بل وبكل صراع يجري بين الحق والباطل، فإذا كان الربا منتشراً في أمة فهذا من علامات خرابها وضياعها، وقد يقول البعض: فالكفار يتعاملون بالربا فلماذا يسودون؟ نقول: إن الله سبحانه وتعالى يعامل أهل الإيمان والإسلام بغير ما يعامل به أهل الكفر والنفاق والعياذ بالله؛ وذلك أن الله عز وجل يبتلي أهل الإيمان والإسلام ليرحمهم، ويسلط عليهم عدوهم ليكفر عنهم سيئاتهم سبحانه وتعالى، كما قال عز وجل: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ} [الإسراء:8] فلما ابتعد أهل الإسلام والإيمان عن دينهم سلط عليهم بذنوبهم أعداءهم، قال عز وجل: {وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا * عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ} [الإسراء:7 - 8]. أما أهل الكفر فإنه يملي لهم سبحانه وتعالى حتى إذا أخذهم لم يفلتهم، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102]. قال عز وجل: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:183]. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته). فالله عز وجل يبتلي أهل الإيمان والإسلام ومن خرج منهم عن طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بما يبتليهم به سبحانه وتعالى ليطهرهم، فلذلك لا يقولن أحد: لماذا الكفار ممكنون في الأرض؟ فهذا من إملاء الله لهم حتى إذا أخذهم لم يفلتهم سبحانه وتعالى. أما أهل الإسلام فلهم شأن آخر، إذا أكلوا الربا أضعافاً مضاعفة -وسيأتي الكلام أن ذلك ليس له مفهوم- فلا ينتصرون على عدوهم؛ ذلك أن الربا حرب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:278 - 279]، فكيف ينتصر من يحارب الله ويحاربه الله سبحانه وتعالى؟ لذلك إذا رأينا أمة الإسلام تترنح تحت سلطان عدوها فلنعلم أن من أعظم أسباب ذلك انتشار الربا في مشارق أرض أهل الإسلام ومغاربها، وأكله صريحاً وبالشبهات، وبالحيل المحرمة التي حرمها الله سبحانه وتعالى، وأوضحه: الاقتراض بالفائدة مع الزيادة سواء يقترض الإنسان أو يقرض، سواء كان ذلك مع أفراد أو مؤسسات، فإن ذلك كله من الربا المحرم بلا شبهة ولا تردد، فإن توقيف ووضع الأموال في المؤسسات المالية كالبنوك وغيرها عند أهل القانون أنه كالدين والقرض، وإن سمي بأسماء أخرى، فأهل الاقتصاد متفقون على أن هذا حكمه حكم الدين، فهو يداين المؤسسة البنكية بهذا المبلغ، وبعض البنوك تقرض الناس ويسمى قرضاً صراحة، وإن سمي ائتماناً فليس بائتمان، وإنما هو قرض بزيادة، وهذا مما لا يختلف فيه أهل الاقتصاد أنفسهم في توثيق هذا العقد، وفي توثيق هذه المعاملة، والذي أتى بهذه الأشياء واصطنعها هم أهل الغرب، وهم يسمون هذه الأشياء على حقيقتها، ويوثقون العقد توثيقاً صحيحاً، فأكل الربا وتأكيله -والعياذ بالله- من أعظم أسباب المصائب التي نزلت بالمسلمين نسأل الله العافية. ثم بين سبحانه وتعالى الصفات الواجبة التي يجب أن توجد في أهل الإيمان والمستحب منها حتى ينتصروا على عدوهم، ولذا سمعنا الحديث: (ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب). وهذه الصفات الحسنة الجميلة لابد أن يقف الإنسان عندها، ويتأمل في نفسه، ويتدبر هل حققها أم لا؛ ليعلم لماذا ينتصر المسلمون؟ ولماذا ينهزمون؟ فإنهم ينتصرون إذا تحققوا بهذه الصفات، وينهزمون إذا تخلفت هذه الصفات المذكورة في قوله عز وجل: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134]. إذاً: هناك ارتباط وثيق بين المعركة في الخارج والمعركة في الداخل، فالمعركة في الخارج مع الأعداء الذين نريد أن ننتصر عليهم مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالانتصار في المعركة الداخلية في داخل كل واحد منا مع نفسه، هل انتصر عليها أم لا؟ ولذا ثبت في الحديث الصحيح: (والمجاهد من جاهد نفسه في ذات الله) ولا نقول كما في الحديث الضعيف الآخر: (رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر)، بل نقول: إن الجهاد للأعداء هو الجهاد الأكبر، ولكن هذا الجهاد الأكبر مبني على أسس وقواعد كالبناء المرتفع، ولابد أن يكون له قواعد في الأرض، وإذا كان فوق الأرض بلا قواعد ما أسهل أن تأتيه أدنى هزة فتزيله وتهدمه، فكذلك نقول: الجهاد الذي هو جهاد أعداء الله سبحانه وتعالى في الخارج فرع على جهاد النفس الأمارة بالسوء، والشيطان، والشهوات المحرمة في الداخل، وكذلك الأمة المؤمنة عندما تجاهد عدوها، فهذا الجهاد فرع على الجهاد الداخلي داخل المجتمع المسلم نفسه حتى يتهيأ ويعد بوجود الصفات الصالحة في أفراده، والتوافق والبناء على طاعة الله عز وجل بين أفراده؛ ولذلك إذا دخلنا معركة وقد انتشر الربا، ولم يتق الناس الله عز وجل ربهم، وانتشرت الصفات القبيحة، وقلَّت الصفات المحبوبة لله عز وجل، فما الظن بنتيجة هذه المعركة؟ ما نظن قبل الدخول إلا ما أخبرنا عز وجل، وهذا من معرفة سنن الله عز وجل التي قال عنها بعد هذه الآية: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [آل عمران:137]. وهناك ارتباط وثيق جداً بين صفة الأفراد وصفة المجتمع وبين نتيجة المعركة إذا دخلها المسلمون، ولا يلزم من ذلك أن يكون أهل الكفر على نفس الموازين، لا، بل أهل الكفر لهم موازين أخرى؛ لأن الله عز وجل يملي لهم؛ لأنه سبحانه وتعالى يفتح عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذهم بغتة فإذا هم مبلسون سبحانه وتعالى. إذاًَ: المسألة كما ذكرنا صراع في أحد طرفيه، فأهل الإسلام لابد أن يعرفوا سنن الله عز وجل في الصراع بين الحق والباطل، وبين أهل الإيمان، وبين أهل الكفر، وأن ذلك مرتبط بالأعمال وبالصفات الأساسية، لذلك لا نستغرب ولا نتعجب مما أصاب المسلمين في المشارق والمغارب، وما حل ببلادهم وشعوبهم من أنواع المكاره، كيف لا؟ والربا على تلك الحال المعروفة في أكثر بلادهم إن لم نقل كل بلادهم ولا حول ولا قوة إلا بالله.

النهي عن الربا

النهي عن الربا

تحريم الربا والترهيب منه

تحريم الربا والترهيب منه ورد في الترهيب من الربا جملة من الأحاديث: فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) رواه البخاري ومسلم. وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رأيت الليلة رجلين أتياني فأخرجاني إلى أرض مقدسة -أي: مطهرة- فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم فيه رجل قائم وعلى شط النهر رجل بين يديه حجارة، فأقبل الرجل الذي في النهر، فإذا أراد أن يخرج رمى الرجل بحجر في فيه فرده حيث كان، -أي: رماه بحجر في فمه فليتقمه، ويرجع حيث كان- فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر فيرجع كما كان، فقلت: ما هذا الذي رأيته في النهر؟ قالا: آكل الربا). رواه البخاري في البيوع مختصراً هكذا، وهو حديث طويل رواه البخاري في مواضع مختلفة. فآكل الربا: كأنه يأكل لحوم الناس ودماءهم، ولذا كان جزاؤه أن يلقم الحجارة، ويسبح في نهر الدم والعياذ بالله. وخصوصاً الربا الذي صار اليوم منتشراً بكثرة، حتى إذا أراد الشخص أن يتوب لم يدر لمن يرد الحقوق، فهو يتعامل مع ملايين من البشر، فيظلمون، وتغلوا أسعارهم، وتزداد الأمور فساداً بسبب النظام الربوي الذي يتربع على عرشه اليهود في العالم والعياذ بالله. وقد وصفهم الله بقوله: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [النساء:161]. ومعلوم أن أكبر البنوك العالمية يملكها اليهود، وهي التي تقرض الدول بفوائد تظل تسددها من قوت شعوبها أضعافاً مضاعفة، فالديون التي تدان بها دولة مصر مثلاً قد سددت عدة مرات، وما زالت الديون كما هي بحالها، ونسأل الله العافية؛ ولو كانت هذه المعاملة مباحة لكان مباحاً ما يجري في شعوب الأرض الفقيرة التي تسام بألوان العذاب بسبب النظام الربوي العالمي الذي يزداد به الغني غنىً والفقير فقراً، ونعوذ بالله. فلذلك كان الربا نظاماً محرماً بين الدول وبين الأفراد، فهو نظام في منتهى الخبث، وأكل للحوم الناس ومص لدمائهم. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله) رواه مسلم. وفي رواية: (وشاهديه وكاتبه) رواها ابن حبان وأبو داود والترمذي وصححه وابن ماجة. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله، وكاتبه، وشاهديه، وقال: هم سواء) رواه مسلم. الذي يأكل الربا: هو الذي يأخذ الفائدة، والذي يؤكل الربا: الذي يدفع الفائدة، وكاتبه: الذي يكتب لهم عقد الربا، وكذا الذي يحسبه ويرتبه لهم. وشاهديه: من يشهد عليه ويحضره والعياذ بالله، فكل هؤلاء ملعونون، وهذا يدل على الطرد من رحمة الله، وأن هذا من الكبائر، قال: (هم سواء) أي: في الإثم والعياذ بالله. وعن عون بن أبي جحيفة عن أبيه رضي الله عنه قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواشمة والمستوشمة، وآكل الربا وموكله، ونهى عن ثمن الكلب، وكسب البغي، ولعن المصورين). الواشمة: التي تصنع الوشم. والمستوشمة: التي تطلب من يفعل بها ذلك، وآكل الربا ملعون، وموكله الذي يدفع الفائدة. ونهى عن ثمن الكلب، وهو محرم عند الجمهور إلا كلب صيد كما ثبت في رواية النسائي، وكسب البغي هو: مهر الزانية. ولعن المصورين: أي: الذين يرسمون أو ينحتون صور ذوات الأرواح. وعن أبي هريرة رضي الله عنه الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أربع حق على الله ألا يدخلهم الجنة، ولا يذيقهم نعيمها: مدمن الخمر، وآكل الربا، وآكل مال اليتيم بغير حق، والعاق لوالديه) فيه ضعف، ولكن ذكرناه كشاهد لما قبله. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الربا ثلاث وسبعون باباً أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه) قال الحاكم: هذا إسناد صحيح، قال الإمام المنذري: والمتن منكر بهذا الإسناد ولا أعلمه إلا وهماً، لكن ثبت بأسانيد أخرى. وعن ابن مسعود أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الربا بضع وسبعون باباً، والشرك مثل ذلك). ورواته رواة الصحيح. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الربا سبعون باباً أدناها كالذي يقع على أمه) رواه البيهقي بإسناد لا بأس به. وعن عبد الله بن سلام رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الدرهم يصيبه الرجل من الربا أعظم عند الله من ثلاثة وثلاثين زنية يزنيها في الإسلام) رواه الطبراني في الكبير من طريق عطاء الخراساني عن عبد الله ولم يسمع منه، ورواه ابن أبي الدنيا والبغوي وغيرهما موقوفاً على عبد الله وهو الصحيح. ولفظ الموقوف: قال عبد الله: (الربا اثنان وسبعون حوباً -حوباً أي: ظلمة- أصغرها حوباً كمن أتى أمه في الإسلام، ودرهم من الربا أشد من بضع وثلاثين زنية) وهذا الحديث روي من وجوه متعددة. وروى أحمد بإسناد جيد عن كعب الأحبار قال: لأن أزني ثلاثاً وثلاثين زنية أحب إلي من أن آكل درهم ربا يعلم الله أني أكلته حين أكلته ربا، نعوذ بالله من الربا. وعن عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ستة وثلاثين زنية) رواه أحمد والطبراني في الكبير، ورجال أحمد رجال الصحيح، والحديث بطرقه حسنه الشيخ الألباني. وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الربا اثنان وسبعون باباً أدناها مثل إتيان الرجل أمه، وإن أربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه) رواه الطبراني في الأوسط من رواية عمر بن راشد وقد وثق. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الربا سبعون حوباً أيسرها أن ينكح الرجل أمه) رواه ابن ماجة والبيهقي. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تشترى الثمرة حتى تطعم) أي: حتى يبدو صلاحها. وقال: (إذا ظهر الزنا والربا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله) رواه الحاكم، وقال: صحيح الإسناد، وسكت عنه المنذري. وعن ابن مسعود رضي الله عنه ذكر حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه: (ما ظهر في قوم الزنا والربا إلا أحلوا بأنفسهم عذاب الله) رواه أبو يعلى بإسناد جيد. وعن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من قوم يظهر فيهم الربا إلا أخذوا بالسنة -القحط-، وما من قوم يظهر فيهم الرشا -الرشوة- إلا أخذوا بالرعب) رواه أحمد بإسناد فيه نظر. نسأل الله العافية. والأحاديث كثيرة جداً في التحذير من الربا. وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بين يدي الساعة يظهر الربا، والزنا، والخمر) رواه الطبراني وراوته رواة الصحيح، وهذا فيه إيذان بخراب الدنيا، فانتشار الربا والزنا والخمر علامة على قرب خراب الدنيا، وعلى قرب القيامة. نسأل الله العافية. وعن القاسم بن عبد الواحد الوراق قال: رأيت عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما في السوق في الصيارفة -جمع: صراف- فقال: يا معشر الصيارفة، أبشروا قالوا: بشرك الله بالجنة بما تبشرنا يا أبا محمد؟ قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أبشروا بالنار)، وذلك لكثرة تعامل الصيارفة بالربا والعياذ بالله، وهذا الحديث رواه الطبراني بإسناد لا بأس به. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أحد أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قلة)، كلما يكثر من الربا يئول أمره إلى القلة والعياذ بالله، وهذا الحديث رواه ابن ماجة والحاكم وقال: صحيح الإسناد. وفي لفظ له قال: (الربا وإن كثر فإن عاقبته إلى قُل) أي: إلى قِلة، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليأتين على الناس زمان لا يبقى منهم أحد إلا أكل الربا، فمن لم يأكله أصابه من غباره) رواه أبو داود وابن ماجة من رواية الحسن عن أبي هريرة، والجمهور على أنه لم يسمع منه.

شبهات حول الربا والرد عليها

شبهات حول الربا والرد عليها ذكرنا بعض ما ورد في التحذير من الربا الذي هو أحد أكثر الأمراض انتشاراً في زماننا، والناس من أجل التحسينات -وليس الحاجات أو الضرورات- يتعاملون بالربا، وما أيسر أن يقترض الرجل بالربا -والعياذ بالله- لكي يهيئ مسكناً، أو يزين المسكن الذي يسكن فيه، أو لكي يعطي أولاده دروساً خصوصية مثلاً، أو لكي يأتي لهم بملابس جديدة؛ لأنهم يلحون عليه عند دخول المدارس وفي الأعياد أنه لابد أن يعطيهم ملابس جديدة، نسأل الله العافية؛ وذلك من أعظم أنواع البلاء. فمثلاً: شخص يريد أن يفتح مشروعاً فيتعامل بالربا؛ لأجل أن يوسع على أهله، أو لكي يشتري سيارة، أو يشتري منزلاً أحسن مما هو فيه، وغير ذلك من أنواع التعاملات الخطيرة التي لا تدخل في باب الحاجات فضلاً عن الضرورات، بل هي من التحسينات، والذي يتعامل بالربا ولو درهم منه شر من ست وثلاثين زنية -والعياذ بالله- يزنيها الرجل في الإسلام، فأكل الربا من أعظم أسباب الهزيمة والنكال والخسران الذي يقع للمسلمين. وقوله عز وجل: {لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130] لا يفهم منه أنه يجوز أكل الربا إذا لم يكن أضعافاً مضاعفة، فمفهوم المخالفة ضعيف في هذا الموطن؛ لأنه وصف للحال الذي كان واقعاً، أو غالب تعاملاتهم كانت كذلك، ولم يزل هذا كذلك، فغالب التعاملات في الربا أنه يؤكل أضعافاً مضاعفة؛ لأن المال يتضاعف عبر السنوات، فإذا كان الأمر كذلك لم يكن له مفهوم، وإذا خرج الكلام مخرج الغالب لم يكن له مفهوم، بل لو أكل حبة من الربا، وليس درهماً لكان -والعياذ بالله- من أعظم الكبائر، ولو لم يكن مضاعفاً، كما سمعنا: (درهم من الربا شر من ست وثلاثين زينة)، فكيف بالأضعاف المضاعفة؟! فهذا وصف للحال الأغلب الذي كان عليه المشركون في الجاهلية: أنهم كانوا يأكلون الربا أضعافاً مضاعفة، فليس للكلام مفهوم في أن الربا غير المضاعف يجوز، بل لا يجوز باتفاق المسلمين، ومن ينازع في ذلك يستتاب فإن تاب وإلا قتل، ويجب قتله؛ لأن هذه ردة عن الإسلام والعياذ بالله، والقول بأنه يجوز الربا إذا لم يكن أضعافاً مضاعفة لا يقوله عالم، ولا يقوله مسلم في الحقيقة. ومن الشبهات الباطلة قول من يقول: إن الربا إنما حرم إذا كان في القرض الاستهلاكي، ولم يحرم في القرض الإنتاجي أو الاستثماري، وهذا أيضاً -والعياذ بالله- من أنواع الشبهات المضلة التي تخرج بصاحبها عن حد الإسلام، وإن كان متأولاً أو جاهلاً بين له الأمر، وأقيمت عليه الحجة، ولا يكفر معين حتى تقام عليه الحجة. والربا الاستهلاكي والربا الإنتاجي والاستثماري كله واحد بإجماع المسلمين، بل أكثر ربا الجاهلية كان في التجارات، ولم يكن من أجل إطعام الطعام، ولا كسوة العريان، وقد كان عندهم الكرم والجود، وما كانوا يتركون أحدهم يجوع ولا يوجد من يطعمه حتى يأكل الربا، وإنما كان أكثر رباهم فيمن يتاجر فيخسر فيرابي بأزيد لأجل أن يعوض الخسارة، وهكذا تستمر المسألة، فقوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً)) لا يفهم منه أن هناك بعض الأنواع جائزة. وقول من قال من العلماء: إن هذه الآية قد نسختها: ((اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا)) لا يعنون النسخ الاصطلاحي، بل يعنون: بينتها الآية الأخرى، فعندهم بيان المجمل يسمى نسخاً، بمعنى: نسخت وأزالت الإجمال الذي قد يفهمه البعض من أن الأضعاف المضاعفة هي المحرمة، وأما ما كان رباً يسيراً فليس بمحرم، ليس كذلك، بل الآية الأخرى بينتها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} [البقرة:278].

كيفية التوبة من الربا

كيفية التوبة من الربا قال النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: (ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، وأول ربا أضعه ربا عباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله). كان العباس من أكثر الناس رباً في الجاهلية فوضعه النبي صلى الله عليه وسلم، أي: أبطلة. والتوبة إلى الله عز وجل من هذا الذنب تكون: أولاً: بالامتناع من المعاملة، فلا تضع مالك مع من يتعامل بالربا، وتجعله وسيلة للتعامل بالربا، ولا تقبل أنت التعامل بالربا في حال من الأحوال، بل تتعامل فيه بما أحل الله سبحانه وتعالى من المضاربة والتجارة الحلال بالبيع والشراء. الأمر الثاني: أن يرد الحقوق إلى أهلها، بمعنى أن الفوائد التي أخذها والزيادة التي أخذها على أصل المال لابد أن يردها إلى أصحابها إذا علمهم، وإن لم يعلمهم تصدق بها عنهم كوكالة عنهم، لا أنه يريد الثواب بذلك، بل تخلصاً من الحرام، فإذا تصدق بها عنهم يرجى له أن يكون قد تاب إلى الله سبحانه وتعالى، فهذا هو العمل في مال الربا، أنه يأخذ رأس ماله ويترك ما زاد، قال عز وجل: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279]. ومن ورث مالاً فيه شيء من الربا فليعلم أنه لم يكن مال مورثه فضلاً أن يكون ماله؛ لذلك لا يصح ميراثه منه؛ لأن المال الموروث لابد أن يكون مملوكاً للمورث الذي مات، فإذا كان رباً لم يكن مملوكاً له، لأن عقد الربا عقد باطل، كما أنه عقد محرم، ولا ينتقل به الملك، ولذلك لا يثبت ملك على تلك الزيادة. فإذا كان كذلك لم يصح ميراثه، فمن ملك شيئاً من ذلك وجب أن يرده إلى أهله كذلك، فإن لم يعلمهم تصدق به عنهم. وكذلك من وضع ماله وهو صغير في البنوك الربوية، وزاد ماله أضعافاً مضاعفة بسبب هذه المعاملات الربوية، فإذا تمكن من ماله وجب عليه أن يخرج الزيادات الربوية، ولا ينفقها على مصلحة نفسه إلا أن يكون محتاجاً فقيراً يأخذ كما يأخذ فقراء المسلمين، وأما أن ينتفع بها في نفسه فلا يجوز، حتى ولو كان لا إثم عليه لأنه ليس الذي أمر بوضع المال في هذه المعاملات الربوية، ولكن بمجرد تمكنه من إيقافها، وإخراج المال من هذه المعاملة واجب عليه، ولم يثبت له ملك على الزيادة؛ لأن عقد الربا عقد محرم، وعقد باطل، ولا ينتقل به الملك. ومن هنا نقول: إن انتشار الربا في الأمة من أعظم أسباب خسارتها، ومن أعظم أسباب ضياعها، ومن أعظم أسباب هزيمتها على أيدي أعدائها، لذلك كان هذا التوافق في السياق بين النهي عن أسباب الهزيمة أولاً وآخراً في غزوة أحد، والنهي عن أكل الربا أضعافاً مضاعفة والأمر بتقوى الله سبحانه وتعالى.

أنواع الربا

أنواع الربا الربا يشمل: ربا الفضل وربا النسيئة، ربا النسيئة: هو التأخير، وهو القرض بفائدة، وقد ذكرنا أن تحريمه معلوم بالضرورة. وأما ربا الفضل فهو: بيع الذهب بالذهب مع عدم التساوي، والفضة بالفضة مع عدم التساوي، وكذلك أصناف الطعوم: الملح بالملح، والتمر بالتمر، والبر بالبر، والشعير بالشعير، فهذه الأصناف الأربعة يقاس عليها عند بعضهم كل ما كان مثلها من الطعام الذي يكال. والعلة في الطعام: الطعم، وبالنسبة للذهب والفضة فالعلة النقدية، فهذا ربا الفضل، فإذا تعامل بها مقايضة بمعنى ذهب بذهب فلابد أن يكون مثلاً بمثل ويداً بيد، ولا يجوز التفاضل فيه، وهذا كما تعود الناس عليه اليوم: من بيع الذهب القديم بالذهب الجديد مع التفاضل إما بالوزن نفسه، أو التفاضل في إعطاء مال إلى أحد الطرفين، فيكون البيع ذهباً ومالاً بذهب متفاضلاً مع عدم تساوي الذهب بالذهب في الوزن، وكذا الفضة بالفضة، وهذا نوع من الربا منتشر. ويدخل في الربا التعامل بالتقسيط في الذهب والفضة بمعنى أن يشتري ذهباً بالتقسيط، وكذلك التعامل في العملة بالتقسيط، فإن ذلك كله من ربا الفضل، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فإذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد)، فجعل اختلاف الأصناف مبيحاً للتفاضل كذهب بفضة، فيجوز فيه اختلاف الوزن، ولكن لابد أن يكون يداً بيد؛ لأنه قال: (فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد). فإذا اتفق الجنس والعلة وجب أن يتفق الوزن بالنسبة للذهب والفضة، وبالنسبة للنقود الحالية يجوز التفاضل بشرط أن يكون الجنس واحداً والعلة واحدة، والعلة هي: النقدية التي في الذهب والفضة، والطعم في الأربعة الآخرين، وإذا اتفق الجنس واتفقت العلة فلابد أن يكون مثلاً بمثل ويداً بيد، ولا يصح أن يأخذ شخص خمسة عشر جنيهاً مجتمعة بتسعة عشر جنيه مفكوكة، أو واحداً وعشرين جنيه فكة بعشرين جنيه مجمدة، أو يأخذ مائة وخمسة جنيهاً مفكوكة بمائة مجتمعة، فمثل هذا نوع من الربا، وكما ذكرنا يجوز إذا كانت العلة واحدة والجنس مختلف كذهب بفضة، وذهب بنقود، ونقود بنقود مختلفة العملة كالدولارات والريالات، ولابد أن يكون يداً بيد، ولابد أن يسلم ويستلم في نفس اللحظة، ولا يجوز أن يؤجل ولا يوماً واحداً أو ساعة واحدة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد). وكذلك بالنسبة للأرز بالقمح أو الأرز بالتمر شرطها أن تكون متقابضة في نفس المجلس. فهذا فيما يتعلق بربا الفضل، ومعلوم كيف صار الحال بانتشار الربا انتشاراً فظيعاً في هذا الزمان. ومن الربا: الحيل التي تستعمل من بيع السلع بسعرين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا). ولا نعني بذلك المنع من البيع بالتقسيط مع الزيادة، فهذا أمر لا أعلم خلافاً في جوازه بين السلف، وإنما الذي يمنع منه أن يبيع بيعتين في بيعة واحدة ويجعل الأمر معلقاً في البيعة الواحدة، يعرض لها سعرين ولا يحدد أحدهما، فيقول له: نقداً بعشرة، ونسيئة بالتقسيط باثني عشر، وإذا كان على ثلاث سنين فستة عشر مثلاً، ثم يقول له: إذا جئتك بالمال بعد يوم فسآخذها بعشرة، وإذا تأخرت فهي باثني عشر، وإذا زاد التأخير فهي بستة عشر، فهذا هو الربا المقصود في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا). ومع انتشار البيع بالتقسيط فقد دخلت هذه المسألة إلى الناس، وأصبح كثير من الناس يعقد على شيء، ثم بعد ذلك يحوله إلى شيء آخر، ويجعل هذا المال مديوناً به إن كان هو عشرة مثلاً يجعله اثني عشر بالتقسيط؛ فصار يبيع عشرة باثني عشر؛ لأن البيع تم أولاً، والسلعة استلمت، وتمت البيعة الأولى، فلا يجوز أن يغيرها، ولا أن يجعل عليه غرامة تأخير، وكثير من الجهات تجعل غرامة تأخير على التعاملات إذا تأخر في السداد، وكل هذا من الربا المحرم الداخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا).

صور ربوية منتشرة يجب الحذر منها

صور ربوية منتشرة يجب الحذر منها بيع العينة هو: أن يبيع ويشتري سلعة نقداً ونسيئة بغرض التحايل على الربا، فهو يريد أن يقترض بالربا، ولكن لا يريد أن يكون صريحاً في التعامل به، فيأتي بسلعة يعرضها للشخص الذي يريد أن يقترض منه، ويأخذ منه المال، ويقول: أبيع لك هذه بعشرة نقداً فيستلمها، وهو لا يريد بيعها، وبعد أن يتم العقد ويستلم السلعة يعطيه سلعة ويقول: بعتك إياها باثني عشر بالتقسيط، والحقيقة أن السلعة عادت ثانية، وأصبح مديوناً باثني عشر، وقبض بيده عشرة، وهذا تحايل على الربا. والراجح حرمة بيع العينة، وهناك نص في المنع منها، واختلف العلماء في مسألة التورق، وصورتها: أن يشتري الرجل سلعة من السوق لا يريد شراءها ولا التجارة ولا الربح منها، لكن يأخذها ليبيعها بثمن بخس بأقل من ثمنها في السوق لكي يحصل على المال، وليس له غرض في السلعة، إنما غرضه الورق، وهذه تسمى مسألة التورق، ويسمونها حرق البضاعة الآن؛ لانتشار هذه النوعية من المعاملة، وحرق البضاعة لها صور أخرى، مثل: أن يبيعها بسعر بخس من المال بالاضطرار إلى البيع وهي مملوكة له من البداية، ومثلها أن يشتري سلعة بنقد بالتقسيط، ثم يبيعها بنقد تحايلاً لطرف ثالث، فهذه على الراجح ممنوعة، وهي داخلة في الربا، وهو ترجيح شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو مذهب عمر بن عبد العزيز، ورواية عن مالك، وثبت النهي عن ابن عباس رضي الله عنه حيث قال: دراهم بدراهم دخلت بينهما حريرة. والله أعلى وأعلم. فمثل هذه المعاملات كلها من أسباب الفساد الذي يقع بين الناس، فلا يرفع عنا الغلاء والوباء إلا بالتوبة إلى الله سبحانه وتعالى، والناس اليوم في أنواع من الكرب، وقد يظن كثير من الناس أن المخرج من ذلك بالاستدانة بالربا، وهذا ليس بمخرج، بل هذا يزيد الفقر، ويزيد الخراب، ويزيد الضياع، بل التوبة إلى الله عز وجل هي المخرج حتى ترد الحقوق إلى أصحابها، فيرفع عنا الغلاء والبلاء، ونسأل الله العفو والعافية. ومن الأمور الربوية المنتشرة: بيع السلع قبل قبضها، فإنها من أعظم ذرائع الربا، وهي: المرابحة غير الشرعية التي تقوم بها كثير من المؤسسات المسماة بالإسلامية، ويمكن عقدها بطريقة شرعية، ولكن كثير منها يتم بطريقة غير شرعية، وكثير من الناس يقوم بها فعلياً بنفسه، وليس فقط المؤسسات، مثل أن يريد شراء أو بيع سلع بالتقسيط وهو لا يملك هذه السلعة، ويعرف من يريد شراءها، فيقول له: اذهب فخذ السلعة التي تريد من المكان الفلاني، ثم أنا أحاسب على ذلك، ولا يتم قبض السلعة فيما بين هذا وذاك، ولابد حتى يصح البيع بالتقسيط أن تكون السلعة المشتراه مملوكة للبائع، ولابد أن يتملكها وأن يقبضها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى أن تبتاع السلع حتى تقبض). ويجري هذا على جميع السلع، فكل شيء بمنزلة الطعام كما قال ابن عباس. إذاً: لابد أن يستلمها بيده، ثم يبيعها بعد ذلك، فالذي يريد أن يربح لا مانع أن يقول للمشتري صف لي الشيء الذي تريده، ولا مانع أن يذهب معه لتعيين السلعة المراد شراءها، وبعد ذلك يشتريها الشخص الذي يريد أن يربح، ويقبضها بيده، ويخرج بها من المكان الذي نهى أن تباع السلع فيه، ثم تباع. والحديث كما ذكرت: (نهى أن تباع السلع حتى تقبض) والذي يذهب فيشتريها، ثم يقبضها ويخرج بها من المكان وتدخل في ضمانه وملكه، فله أن يبيعها له بعد ذلك، وهو قد أخذ منه وعداً بالشراء، لكن هذا الوعد ليس بيعاً، فلا يبع الذي يأخذ جزءاً من الثمن، ولا يجوز أن يعقد معه عقداً ملزماً قبل أن يشتري؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تبع ما ليس عندك)، إنما يعده أن يشتري منه، ثم بعد ذلك إذا تملك السلعة وقبض باعها له. فهذه أنواع كثيرة من المعاملات تقع بطريقة غير شرعية، ومنها: أنه يقول له: اذهب وخذ سلعة ثم يئِّّس صاحب المحل أو صاحب المكان من استردادها، وهذا أمر فاسد خطير. ومن هذا الباب ما تعود عليه كثير من الناس من بيع بعض الكوبونات لبعض السلع أو بعض الحجوزات، كأن يحجز سلعة اشتراها سلماً، أو لم يقبضها بعد، وهو حاجز دوراً فيها، وهي مازالت في يد صاحب السلعة الأول الذي هو الباني -مثلاً- للشقة أو المالك مثلاً للكوبون وهي البضاعة نفسها، والكوبون هذا قيمته مائة جنيه، فيذهب فيبيعه لآخر بثمانين، أو يبيع الشقة التي حجزها وهي لم تتعين بعد، أو لم تخصص له، أو لم يستلم مفتاحها، فيبيعها قبل أن يستلمها، فهذا داخل في هذا الباب، وهو نوع من التحايل على الربا؛ لأنه دفع مبلغاً، وباعه بأقل منه حالاً، فهذا مما يجب الحذر منه حتى ينجينا الله.

فتاوى المعاملات

فتاوى المعاملات

حكم بيع البخت مقابل نقود

حكم بيع البخت مقابل نقود Q يقوم بعض الأفراد ببيع ما يسمى البخت مقابل عشرة قروش، وهذا البخت ورقة مكتوب فيها الجائزة التي يحصل عليها المشتري، فهل هذا يجوز شرعاً؟ A هذا رباً، محرم بلا شك.

حكم من تعامل بالربا ثم امتنع عن هذا التعامل وكيفية تصريف هذا المال الحاصل من الربا

حكم من تعامل بالربا ثم امتنع عن هذا التعامل وكيفية تصريف هذا المال الحاصل من الربا Q تعاملت بالربا في بعض الوقت ثم امتنعت عن هذا التعامل، وأخذت رأس المال ومعي بعض أموال الربا، فهل يجوز أن أستغل هذه الأموال في مصالح المسلمين، كشراء المصاحف والشرائط الإسلامية، والإنفاق في سبيل الله؟ A نعم، بنية التخلص من هذا المال، فتتصرف فيه تصرفاً يقبله أصحابه يوم القيامة، لأننا لا ندري عن هؤلاء الأصحاب، إلا إن كنت تعلم أصحاب هذا المال، هذا إذا كان تعاملك ليس تعاملاً مثلاً مع البنوك، وإنما كان تعاملك مع فرد، تعرف مِمَّن أخذته، لكن إذا كان هذا التعامل مع البنوك، والبنوك هذه تعاملت مع أشخاص مجهولين بالنسبة لك طبعاً وبالنسبة لنا جميعاً وبالنسبة له في نفسه؛ لأن هؤلاء غير محصورين، ولا يمكن أن تعرف مالك هذا المال؛ لأن مال الربا تجب إعادته، أي: الزيادة تجب إعادتها. فعليك أن تتصرف تصرفاً تعلم منه أنهم يرضون به يوم القيامة، وذلك بالإنفاق في كل مصالح المسلمين حسب المصلحة، منها ما ذكرت أو غيرها؛ لأنه لا يتصرف فيها عن نفسه، فإذا تصرف فيها عن نفسه عد مالاً حراماً، فلا بد أن يتصرف فيها عن أصحابها المجهولين.

حكم ترك الشخص أمواله في البنوك الإسلامية والبنوك الربوية

حكم ترك الشخص أمواله في البنوك الإسلامية والبنوك الربوية Q هل ترك المال في البنوك الربوية أو التي نسميها حساباً جارياً حرام أم حلال؟ A البنوك الإسلامية لا بأس بها إن شاء الله؛ لأنه لو وضعه في حساب استثماري وتصدق بالربح فإن هذا أولى الأشياء، هذا إذا كان يحتاج إلى وضع المال في البنك، أو إذا كان يبحث عن مشروع يستغل به ماله فيضعه في حساب استثماري مثلاً ويتصدق بالربح، أما وضع المال في البنوك الربوية فهم يستغلون أصلاً الحسابات الجارية بنسبة معينة أقل من الحسابات الاستثمارية، لكنها تستغل أيضاً، وبالتالي يتاجر من خلالها، والنصيحة أنه يجب عليه أن يترك البنك الربوي، ولا يجوز له أن يترك المال في البنك الربوي، فإن كان لا يريد إلا البنك الربوي على أن يترك ماله في حساب جار فإن هذا افتراء.

حكم مشروع التكافل الاجتماعي في النقابات

حكم مشروع التكافل الاجتماعي في النقابات Q ما حكم مشروع التكافل الاجتماعي في النقابات؟ A المشروع في غالب ظني يقوم على أن أغلب النقابات تعقد تأميناً جماعياً مع إحدى شركات التأمين أو مع بعض البنوك الربوية، وهذا الأمر يجعل المشاركة فيه غير جائزة، وصيغته أصلاً فيها نوع من الزيادة والفائدة المشترطة مسبقاً. وصفة هذا المشروع هو صفة التأمين التجاري؛ ولذلك أنا أعلم أن بعض النقابات وبعض الهيئات تعمل فعلاً عقداً تأمينياً مع بعض شركات التأمين باسم جميع العاملين في المؤسسة، فبالنسبة لهذا بلا شك لا يجوز. ويقولون: إن الاستثمار منه خمسة وستون في المائة مشروعات استثمارية، وخمسة وثلاثون في المائة ودائع في البنوك، حتى ولو كانت هكذا البنوك الإسلامية أيضاً فإن هذا ربا محرم وليس هو أمراً إجبارياً، ولا هو هبة من الدولة ولا إلى الدولة، فهذا أمر لا يجوز.

حكم ربا الفضل

حكم ربا الفضل Q هل ربا الفضل ليس بحرام محض، وأنه يأكله عن حرام محض؟ A صورته: أن أشتري ذهباً وأدفع جزءاً من الحساب ولا أستلمه حتى يكمل باقي الحساب، وهذه تفيد عظم الأمانة عند الرجل، ولا ينفع ذلك إن لم تكن أمانة، والأمانة تعني: أنَّ الرجل يضعها لوحدها ولا يأخذها، فتعد سلفاً وبيعاً مع عدم تسليم رأس المال وعدم استلام السلعة، فتصير بيعاً محرماً من عدة جهات. فإذا كان الرجل لا يأخذ النقود، وإنما يضعها لوحدها ويصرفها، ويقول لهم: لكم عندي كذا ويكتبها في النوتة، فإن هذا لا يجوز، وكذلك إذا أعطاها للرجل والرجل يأخذها ويضعها ضمن النقود التي يضعها في خزنته، ولا يعرف من أين أتت نقود الرجل، فعشرة جنيهات بعشرة جنيهات، وكأنها أمانة في يده، ولو راحت لضَمِنَها. فأنت إذا كنت صاحب محل، وجاء شخص ودفع لك خمسين جنيهاً، فتأخذها أنت أمانة عندك، وتعرف أنه لن يعطيك ثمنها قطعاً، فإن هذا لا يجوز لهذه الصورة المذكورة أي: أن الذي يعطي للرجل في كل فترة مبلغاً ثمَّ مبلغاً حتى يكمل ما عنده فيستلم الذهب، فإن هذا بيع بالتقسيط قبل تسليم السلعة، وهذا محرم لا يجوز. فإذا بعت ذهباً بنقود من غير أن تكون يداً بيد فهذا لا يجوز باتفاق العلماء المعتبرين.

حكم القياس على الأصناف الستة في البيع والشراء

حكم القياس على الأصناف الستة في البيع والشراء Q هل الأجناس الربوية هي التي حددها الشرع بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم؟ أم يقاس عليها أجناس أخرى حسبما تقوم عليه؟ A لا نزاع بين الأئمة الأربعة، وبين عامة أهل العلم على أن هذه الستة الأصناف الربوية: الذهب والفضة -كعلة واحدة- والقمح والشعير والتمر والملح يقاس عليها غيرها، ولم يقل بقصرها على الستة إلا الظاهرية، فالأرز بالأرز ربا، ولا يجوز إلا مثلاً بمثل يداً بيد؛ لأنه لا فرق بينه وبين القمح بالاتفاق، وهذا من أجلى القياس. وكذلك النقود، فالذهب بالنقود يجب أن يكون يداً بيد، والذهب بالذهب ربا، ولا يجوز أن يبيع ذهباً قديماً بذهب جديد مع التفاضل في الوزن، فلابد أن يكونا مستويين في الوزن، أو أن يشتريه بمال ثم بعد ذلك يشتري الذهب الجديد بيعاً منفصلاً عن الأول. ولابد أن يكون يداً بيد في النقود بالفضة، أما النقود بالتمر والشعير والأرز والملح فلا بأس، فالذي عليه أهل العلم أن الأصناف تقاس عليها، والصحيح في العلل أن كل نقد يقاس على الذهب والفضة، فالنقود بالنقود، والدولار بالدولار يداً بيد، يجوز مع التفاضل، كأن يكون الدولار بخمسة جنيهات مع تسليمها يداً بيد، أي: يسلم ويستلم في نفس المجلس، فكل النقود تقاس على الذهب والفضة، وكل المطعومات تقاس على الأربعة.

كيفية سحب النقود من البنوك ذات الفوائد ووجوبها

كيفية سحب النقود من البنوك ذات الفوائد ووجوبها Q هناك أموال لأولاد قصر موضوعة في البنك بفوائد محرمة، والوصية عليهم أمهم، فكيف تسحب هذه الأموال؟ A تقدم أنها محتاجة لمصاريف إلى المحكمة، أو تسحب الفلوس حسب ما تقدر، والله أعلى وأعلم.

حكم صندوق التأمين الخاص في الشركات

حكم صندوق التأمين الخاص في الشركات Q ما حكم صندوق التأمين الخاص الموجود في الشركات؟ A صندوق التأمين الخاص بما أعلمه في كثير من الأحوال هو عقد تأمين جماعي، ويتم من خلال الشركة مع شركة من شركات التأمين على الحياة أو ضد الأخطار أو نحو ذلك، وهذه الشركات تتعامل بالربا وعقد التأمين معها نوع من التعامل بالميسر. وهناك فتوى من جميع الكتب الإسلامية في حكم التأمين على الحياة أنه ميسر وربا في نفس الوقت، وقرار أيضاً من هيئة كبار العلماء ولجنة الفتوى بالمملكة العربية السعودية، وكذلك الأزهر: أن التأمين التجاري بأوضاعه كله من الربا والميسر معاً. فنحن نعلم أن هذه الأموال توضع في بنوك ربوية أو على شكل عقد مع شركات تأمين، طالما أنه اختياري، أما إذا كان إجبارياً فأنت ستسأل عن حاجة تؤخذ منك غصباً عنك، ويحسب ما يؤخذ منك وما تضعه الشركة كذلك، فالشركة تضع جزءاً وأنت تضع جزءاً. فإذا كان الأمر كذلك، فاذهب إلى شئون العاملين واستفسر من المقتطع منك عن كمية المال الموجود في هذا الصندوق وما تضعه حصة الشركة أو الحكومة، وعن كمية الأرباح في هذا الصندوق واحسب ما لك، وإذا جاء وقت إحقاقك لهذا المال فخذ ما دفعته وما دفعه صاحب الشركة، أو الشركة نفسها، أو الحكومة إن كنت تعمل مع الحكومة، وتصدق بما يتبقى بعد ذلك لأنه ليس مالاً حلالاً، ولا تتصدق به عن نفسك، ولكن عمن لا تعرف من مالكيه الحقيقيين من المسلمين؛ تخلصاً منه.

سبب تحريم إيداع الأموال في البنوك هو الفائدة

سبب تحريم إيداع الأموال في البنوك هو الفائدة Q هل تحريم إيداع الأموال في البنوك بسبب الفائدة؟ A الفائدة هنا ربا بالصريح، وكونهم يسمونها غير ذلك ليس كذلك، يقولون: ذلك قرض بفائدة، أقول: هم يسمونها بوصفها الشرعي والقانوني أن هذا قرض بفائدة، فهو قرض جر نفعاً بزيادة، فهو الربا بعينه، ثم إنهم يأتون بهذه الأموال من إقراض الناس بالربا. ولا اعتبار لمسألة أنه مشروع أو ليس مشروعاً، فالبنوك لا تعمل مشاريع أساساً، فكل أعمالها ائتمانات، والائتمان يقصد به: تسليف المشروع المال، وقليل جداً أن تكون البنوك شركات، أو يأخذ جزء رأس مال قليل منها ويكون به شركات، فأكثر هذه الأمور عبارة عن إقراض للمشاريع.

جواز أكل الطعام عند قريبة زوجها يأكل من فوائد البنوك ومن المرتب الأصلي

جواز أكل الطعام عند قريبة زوجها يأكل من فوائد البنوك ومن المرتب الأصلي Q زوج أختي يأكل من فوائد البنوك ومرتبه الأصلي، فهل يجوز أن آكل الطعام عندها؟ A طالما وأصل المرتب حلال فيجوز أن تأكلي الطعام عندها.

حكم من يدخل بعض المسابقات ويعطى جوائز في الاستثمار

حكم من يدخل بعض المسابقات ويعطى جوائز في الاستثمار Q ما حكم من يدخل بعض المسابقات، ويعطى أرقاماً، كأن يُعطى أرقام عشرة ريال في الاستثمار على شكل جوائز؟ A تأخذ ثمنها وتصرفه؛ لأن هذا دفع ثمنها من مال أصحابه فهم الذين دفعوه، فلا تأخذ فائدتها ولا جائزتها، يعني: إذا دفع المال فخذ قيمتها الاسمية، كأن تكون الشهادة بخمسين جنيه فتغيرها وتأخذ القيمة التي أخذتها بالجائزة.

حكم أخذ الفوائد من البنك وإنفاقها على الفقراء وحكم قضاء الديون بها

حكم أخذ الفوائد من البنك وإنفاقها على الفقراء وحكم قضاء الديون بها Q رجل وضع ماله في البنك للحفظ والصيانة ماذا يفعل في الفوائد التي يأخذها من هذا البنك، وهل يجوز أن يقضي منها بعض ديونه أو ينفقها على الفقراء؟ A أولاً: يجب أن يخرج هذا المال من البنك الربوي، وأقصى ما يمكن أن يضعه ففي بعض البنوك المسماة بالإسلامية، فإنها أهون حالاً بلا شك، ولا يأخذ من العائد لينفقه على الفقراء، فهذا هو الاحتياط للدين في هذا المقام. أما البنك الربوي فلا يجوز في فوائده أن ينفقها على ديونه؛ لأنها ليست ماله أصلاً إنما هو مال مغتصب، حكمه حكم المال المغتصب، بل هو شر منه، كما أنه لا يجوز أن تأخذ مالاً سرقته واغتصبته من غيرك لتسد به بعض الديون أو تدفعه لظالم ظلمك وهو يريد أخذ شيء من مالك. وكما يقول البعض: اجعله في الضرائب أو نحو ذلك، فإنه لا يجوز ذلك؛ لأن هذا ليس مالك، ولا يجوز أن تقي مالك الذي تظلم فيه بمال اليتامى والفقراء والأرامل والمساكين. فلو أن عندك مال يتامى أو مال زكاة وجاء من يريد أخذ شيء من مالك بغير حق، فلا يجوز لك أن تعطيه ذلك المال الذي جعل عندك أمانة أو وديعة، وإنما تقي مالك بمالك، وتقي بعض مالك الذي تظلم فيه ببعض مالك دفعاً عن نفسك، ولا تجعل هذا الدفع والاتقاء من مال الفقراء والمساكين، الذي يجب أن ينفق فيه هذا المال المأخوذ، فدفتر التوفير من الربا.

عدم جواز أخذ قرض يجر فائدة لسداد الديون

عدم جواز أخذ قرض يجر فائدة لسداد الديون Q رجل لديه محل، وكل ما يحتاجه من قوت يومه ومصروفاته منه، ولكنه أفلس وعليه جملة ديون يريد سدادها، فهل يمكن له أن يأخذ القرض للضرورة لسداد ديونه؟ A يأخذ قرضاً من غير ربا وغيره، بأن يشارك شخصاً آخر في المحل، أي: يبيع نصف المحل ويشارك شخصاً عليه.

نظام التأمينات الحكومية جائز وليس بمحرم

نظام التأمينات الحكومية جائز وليس بمحرم Q هل نظام التأمينات في العمائر الحكومية نظام ربا؟ A نظام التأمينات الاجتماعية عند جمهور أهل العلم المعاصرين ليس ممنوعاً منه؛ لأنه هبة للدولة مباشرة يعني: أن الدولة تدخل في ميزانيتها أموراً ربوية وأموراً غير ربوية فمالها مختلط؛ فلذلك لا يحرم الدخول في نظام التأمينات الاجتماعية، فنظام التأمينات الحكومية عند جمهور العلماء جائز وليس بمحرم.

كيفية تصريف المبلغ لرجل خرج من شركة على نظام المعاش المبكر

كيفية تصريف المبلغ لرجل خرج من شركة على نظام المعاش المبكر Q رجلٌ خرج من شركة على نظام المعاش المبكر والمبلغ الذي أخذه قليل ومعاشه قليل، ولا يستطيع أن يعمل مشروعاً، ولا توجد أي شركة يعمل فيها في السن الذي هو فيه؟ A يضع هذا المبلغ في البنك؛ ليتحصل منه على مبلغ مع المعاش البسيط، وهو على الأقل في بنك إسلامي، ويتصدق بجزء من الربح أو الزيادة والله المستعان، لكن لا يضعه في البنوك الربوية فإن الله يمحق الربا، قال تعالى: {وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة:276]، بل يضعه في البنك الإسلامي، ونسأل الله أن يجعل له فرجاً ومخرجاً.

حكم الكسب والتجارة في المصاحف

حكم الكسب والتجارة في المصاحف Q ما حكم الكسب والتجارة في المصاحف؟ A الأولى ألا يتكسب، لكني لا أقول بالتحريم.

حكم العمل في شركة تركيب وبيع الدش

حكم العمل في شركة تركيب وبيع الدش Q هذا محاسب في شركة تركيب وبيع الدش، ما حكم العمل فيها؟ A إذا كانت شركة لبيع المحمول والتجارة فيه، فإن بيع المحمول محتمل؛ لأن النفع منه أكثر من المحرمات، أما الدش فتسعة وتسعون في المائة منه غير جائز.

جواز شراء سلعة من محل ثم نقلها إلى مركب أو مكان آخر واستلامها

جواز شراء سلعة من محل ثم نقلها إلى مركب أو مكان آخر واستلامها Q هل يجوز لي أن أشتري سلعة من محل ثم أنقل السلعة إلى السيارة ثم أستلم أنا السلعة من السيارة؟ A نعم، يجوز ذلك.

حكم ما يأخذ الوكيل من مال ليشتري به شيئا بعد المفاصلة

حكم ما يأخذ الوكيل من مال ليشتري به شيئاً بعد المفاصلة Q أخ يعمل عند صاحب شركة، يعطيه مبلغاً لشراء بضاعة، مثلاً: ألف جنيه، ذهب هذا الأخ ليشتري بها البضاعة، فحصل منه أنه فاصل، أي: أخذها بتسعمائة وخمسين جنيهاً، هل يأخذ الخمسين له؟ A لا يجوز له ذلك حتى يذهب ويقول له: البضاعة هذه بألف جنيه، وأنا فاصلت، هل آخذ الخمسين؟ لأنه وكيل، وهذا المال مال صاحب الشركة، وإلا يكون خائناً للأمانة.

حكم من له متجر وأعطاه شخص آخر مبلغا من المال لاستثماره وكيفية الأرباح بينهما

حكم من له متجر وأعطاه شخص آخر مبلغاً من المال لاستثماره وكيفية الأرباح بينهما Q شخص عنده محل ملابس، أعطاه شخص آخر مبلغاً من المال لكي يستثمر هذا المال عنده، فكيف تكون نتيجة الأرباح بينهما، حتى يكون مالاً حلالاً ويبارك فيه الله سبحانه وتعالى؟ A لابد أن يحسب رأس المال الأصلي الذي هو البضاعة المعدة للبيع، يعني: بعيداً عن الدكان إلا أن يدخل نصيباً في المحل نفسه، لكن إذا كانت النقود في رأس المال الدائم فإنه يحسب نسبة هذا المال الذي يدخله في البضاعة إلى نسبة رأس المال الكلي الإجمالي. ويحسب نسبة للمضاربة فيه ونسبة لرأس المال، وبعد أن يصفي الأرباح يتفقان؛ مثلاً: على الثلث لرأس المال والثلثين للعامل، أو الثلثين لرأس المال والثلث للعامل أو النصف والنصف، حسب ما يتفقان، ويحددان أن رأس المال له نسبة كذا، وبعد ما يحسب نسبة ربحه من هذه البضاعة يكون ذلك بعد التصفية والحساب، وعليه أن يحسب، طالما أنه أخذ أموال الناس. ولا ينفع أن يعطيه كل شهر شيئاً فقط، بل يمكن أن يعطيه تحت الحساب، ويلزمه أن يأتي سنوياً من أجل أن يحسب الزكاة الواجبة عليه أيضاً، فإذا أتى للحساب ينظر بعد أن نفترض مثلاً: أن التجارة هذه كانت أصلاً بعشرة آلاف، والرجل أعطاه خمسة آلاف فتصير التجارة كلها خمسة عشر ألفاً غير الدكان وغير الأصول الثابتة بالنسبة لخمسة عشر ألفاً واحد إلى اثنين، وبعد كذا نقول: يأخذ نسبة مضاربة، النصف مثلاً؛ لأنه وجد أن البضائع والفلوس السائلة تساوي عشرين. فيكون قد كسب خمسة، اثنين ونصفاً للعامل واثنين ونصفاً لرأس المال، أي: أن اثنين ونصفاً يساوي رأس المال، سيكسبه بنسبة واحد لاثنين، وعلى ذلك يعطي الرجل واحداً، ويأخذ هو الاثنين، وعلى ذلك أخذ هو اثنين نظير رأس ماله الذي هو العشرة، وأخذ اثنين ونصف نظير عمله، وأعطى الرجل الواحد الذي هو نظير رأسه ماله، حسب النسبة. فلا بد من تحديد ذلك ولا يجوز غير ذلك، والذي يمكن أن يجوز أن يشتري بالنقود التي أتاه بها الرجل بضاعة محددة مستقلة، ويضعها في بعض الدكان، ويتاجر له فيها، حتى يبيعها كلها، ويأخذ بعد كذا نسبة العمل ويعطيه نسبة رأس المال، فإذا أراد أن يدخل في البضاعة المستقلة فعليه أن يفعل ذلك وإذا أراد أن يدخله كشريك في البضاعة ككل، فعليه أن يفعل كما ذكرت، فيحسب رأس المال وكميته النقدية ولا يجوز له أن يأخذ النقود ويستعملها هو، ويخطط لنفسه كما يريد من غير أن يدخله شريكاً في البضاعة أو في رأس المال السابق، يمكن أن يدخله على سبيل المثال في رأس المال السابق فيبقى له في الدكان نفسه وذلك دكانه هو. فإذا وزع خمسة آلاف، وأدخله في الدكان، والدكان يكون له نصيب مثلاً، كأن يكون الربع أو النصف، ورأس المال له مثلاً النصف لما يأتي، فإذا لزم عليه أن يبيع نصيبه من الدكان، فعليه أن ينظر مقدار قيمة هذا الدكان، إذاًَ: فهو يحتاج من أجل أن يدخله في الدكان إلى أن يقيم الأصول الثابتة التابعة للدخول، فلو قال: هذا الدكان يساوي عشرة آلاف مثلاً وقد أعطاه خمسة آلاف فإن هذا الرجل أعطاه نصف الدكان. فإذا كان يريد أن يصفي البضاعة وأن ينهي الموضوع يقول له: هذا الدكان قيمته تساوي خمسة عشر ألفاً، فيصير عنده سبعة آلاف ونصف، هذا إذا كان سيدخله في الأصول الثابتة نفسها وبهذا الشرط. والأسهل طبعاً أنه إذا أراد التجارة فقط ويريد أن يخرج في وقت معين، فإنه يدخله في البضاعة وكما ذكرت في المثال الأول، ولو حصلت خسارة على رأس المال، وكان هناك تقصير من العامل فإنه يتحمل هو التقصير كاملاً حتى يرجع رأس المال كما كان مائة بالمائة. فيضمن له النقص من رأس المال كما أنه يضمن له الربح، فإذا لم يحصل التقصير منه فإنه يتحمل رأس المال كاملاً، ولو قلنا: إن رأس المال أصبح خمسة عشر، وهذا أعطى خمسة، وهذا أعطى عشرة، فإنه لو حصل نقص فإن النقص يكون بنسبة واحد من اثنين، وأما إذا كان الرجل يشتغل بمجهوده من غير رأس مال منه، فكفاه خسارة لمجهوده.

حكم بيع العطور والمكياج

حكم بيع العطور والمكياج Q ما حكم بيع الروائح والمكياج؟ A بيع الروائح والمكياج للمتبرجات لا يجوز، كما أن بيع الروائح التي تحتوي على كحول لا يجوز.

حكم التعامل مع اليهود من حيث البيع والشراء

حكم التعامل مع اليهود من حيث البيع والشراء Q هل يمكن التعامل مع اليهود من حيث البيع والشراء؟ A الأصل: الجواز إلا ما فيه مضرة على المسلمين أو يكون محرماً في نفسه.

حكم العمل في الأماكن السياحية وحكم أخذ الهدية ممن يعمل فيها

حكم العمل في الأماكن السياحية وحكم أخذ الهدية ممن يعمل فيها Q شخص يعمل في الأعمال المعمارية، وأحياناً يعمل في أماكن غير طيبة، كالقرى السياحية، وكان إذا أتاني بهدايا أو طعام قبلتها من قبيل أن أمواله تعدُّ هدية من أجل المناسبات، فتحريت وعلمت أن الذي أعطاني هذا المال لا يعمل إلا في هذه القرى السياحية فما حكم ذلك؟ A من الممكن أن ترد هذا المبلغ أو أن تأخذه حسب المصلحة في ذلك، أما العمل في القرى السياحية فمحرم للمعرفة بالحكم، من أن هذه أماكن ترفيهية، لكنه يستحق الأجرة، فهذا المال ملكه، ولكنه غير طيب في حقه هو، لكن يجوز التعامل معه فيه من قبول الهدية ونحوه.

حكم استعمال الولاعات والبوتجازات

حكم استعمال الولاعات والبوتجازات Q هل استخدام البوتجاز والولاعات حرام؟ ومعلوم أن الولاعات معظمها تعمل للبوتجازات أو تستعمل للسجائر؟ A يجوز ملئ الولاعات التابعة للبوتجاز، ولا يجوز ملئ ولاعات السجائر.

حكم الإجارة غير المعلومة إلى مدة غير معلومة

حكم الإجارة غير المعلومة إلى مدة غير معلومة Q سمعنا أن قانون الإجارة القديم مخالف للشرع، هل هذا صحيح؟ وما هو الحل الصحيح الذي يحتاج المسئول إليه؟ A أستغفر الله العظيم، لا شك أن القانون القديم فعلاً فيه مخالفة للشرع؛ لأنه غير محدد المدة، وملزم للطرفين إلى مدة غير معلومة، وبالتالي فالأجرة بإجمالها أيضاً غير معلومة، ونعني بالمدة: دفع كل شهر مبلغ كذا، وهذا الأمر لا يستقيم مع تفاوت الأسعار وتفاوت المصالح واختلافها. ولا شك أنه يترتب عليه نوع من الظلم، فلا بد من تحديد مدة الإجارة باتفاق العلماء، والقانون الحديث: هو القانون الصحيح الذي يجب الالتزام به في العقود، وعدم محاولة التحايل عليه بالرجوع إلى القوانين القديمة. ومن الممكن أن تحدد مدة يبقى فيها العقار ولو طالت، كأن يقول: مائة سنة مثلاً، طالما يغلب على ظنه بقاء العقار في هذه المدة، فأما الالتزام بالقانون القديم مع مخالفته للشرع فلا يجوز، وقد نقل الإجماع على هذا غير واحد من العلماء، أعني: لزوم تحديد مدة الإجارة في عقد الإجارة، أما محاولة العمل به مع مخالفته للشرع فهو أمر لا يجوز. وإذا اضطر الإنسان إلى أن يسكن في مسكن مستغن عنه صاحبه ولا يجد غيره فإنه يعطيه أجرة المثل طالما أنه مستغن عنه صاحبه وهو مضطر إليه، فيعطيه أجرة المثل الواقعية، وليس الأجرة المسماة منذ أربعين أو خمسين سنة والتي لا تساوي قروشاً معدودة.

حكم من يستدين ولا يريد الأداء ويماطل في الوعود

حكم من يستدين ولا يريد الأداء ويماطل في الوعود Q ما حكم من يستدين ولا يريد الأداء ويماطل في الوعود؟ A من يفعل هذا فهو من السارقين، وإن كان فيما يبدو للناس أنه مستدين، وإذا كان قادراً على الوفاء وماطل فهو ظالم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مطل الغني ظلم وإذا اتبع أحدكم على مليء فليتبع).

حكم سؤال الناس للمساعدة في سداد الدين

حكم سؤال الناس للمساعدة في سداد الدين Q هل عليّ شيء إذا جاءتني أموال من عند الناس من غير السؤال في ذلك؟ وهل يمكنني إن كان علي دين أن أطلب من أهل الخير الأموال للمساعدة في سداد هذا الدين؟ A سؤال الناس لِقضاء الدين سؤال، والإنسان إذا كان محتاجاً جاز له أن يسأل، فإن كان عنده دين وما عنده مال يسدده جاز له أن يسأل، ولكن ليس تاركاً للمستحب وأصله: الجواز حتى يكفي ما عنده، وهذا إذا كان الدين مثقلاً على صاحبه وعجز عن تسديده.

حكم الدين إذا مات من عليه دين ولم يعثر على الدائن

حكم الدين إذا مات من عليه دين ولم يُعثَر على الدائن Q ماتت امرأة وكان عليها دين لرجل منذ خمس سنين، ولم يأت إلى البلد وانقطع ولم تعثر عليه لتقضي الدين الذي عليها، وأراد ولدها أن يقضي دينها بعد مماتها فلم يعثر على الرجل فما الحكم في ذلك؟ A ينفق هذا المال بنية النيابة عن صاحبه في مصالح المسلمين العامة كصدقة ونحوها، فيكون الأجر لهذا الرجل المجهول في المكان حالياً، فإن ظهر هذا الرجل يخبره بأنه أخرج هذه الأموال صدقة له، فإن أراد الأجر كان بها ونعمت، وإن أراد أمواله ردت إليه أمواله، ويكون الأجر للمتصدق.

حكم ما وجد من مال أو نحوه في أرض الكعبة

حكم ما وجد من مالٍ أو نحوه في أرض الكعبة Q إذا وجد أحد مالاً في أرض الكعبة يتركها أم يعطيها للمسئولين حتى يعثروا عن أصحابها؟ A لا بأس، إذا كان يعطيها إلى من يعرفها، إذا كانت من الأشياء المفقودة، ويضعها في الأمانات الموجودة في المسجد الحرام.

عدم جواز إنشاد الضالة في المسجد

عدم جواز إنشاد الضالة في المسجد Q إذا وجد رجل في المسجد شيئاً لأحد المصلين، هل يجوز أن يبلغ المصلين عن هذا الشيء المفقود، أم هنا نهي عن ذلك؟ A المساجد لم تبن لنشد الضالات، وعلى من وجد شيئاً أن يقف على باب المسجد ويقول: من فقد منه هذا الشيء؟

حكم من وجد شيئا له قيمة كالذهب ونحوه في بيت من يعمل عنده

حكم من وجد شيئاً له قيمة كالذهب ونحوه في بيت من يعمل عنده Q امرأة كانت تعمل عند غيرها فوجدت خاتم ذهب في أرض الشقة وحلق ذهب، فأخذته وكانت صغيرة؟ وهي الآن علمت بحرمة الأمر؛ لذا فهي تريد أن تتخلص من هذا الإثم، وهي انقطعت عن هذه المرأة، فهل تجوز عليها الزكاة في ذلك؟ A لا، لابد أن ترده إليها، أو ترد قيمته على الأقل، أو ما يوازيه إذا كان وزنه معروفاً، ولا بد أن ترجعه للتكفير عنها، إلا إذا انعدمت وسيلة الاتصال.

حكم من أخذ مصحفا من المسجد ليقرأ فيه أو يحفظ به

حكم من أخذ مصحفاً من المسجد ليقرأ فيه أو يحفظ به Q ما إثم من أخذ من مسجد مصحفاً يقرأ فيه ويحفظ به في بيته؟ A إذا كان المصحف موقوفاً على المسجد فلا يجوز إخراجه منه فإن أخذه كان آثماً على ذلك، وأما إذا كان موقوفاً من غير تحديد للمسجد، وطالما كان يقرأ فيه ببيته فلا بأس، ويعرف إمكان هذا من إمام المسجد.

حكم وسائل منع الحمل من أجل استرداد المرأة صحتها

حكم وسائل منع الحمل من أجل استرداد المرأة صحتها Q رجل عنده ثلاثة أولاد، وامرأته لا تتحمل الإنجاب مباشرة بعد الآخر، فهل من الممكن بعد ثلاث أو أربع سنوات أن تنجب زوجته من أجل استرداد صحتها، يعني: تستعمل وسائل منع الحمل، علماً بأن الزوج دخله ضعيف، وثلاثة أولاد مصاريفهم كثيرة؟ A هنا أصل الفساد، وهنا ظهرت حقيقة الأمر، فإن كان الأمر من أجل النفقة فالله هو الذي يرزقهم وإياك، فلعلك تحرم رزقاً؛ لأنك تخاف من فقد ذلك، ولكن توكل على الله عز وجل، أما إن كانت الزوجة صحياً ضعيفة، بحيث أنها تنصح طبياً بعدم الحمل فيمكن حينئذ أن تستخدم وسائل منع الحمل.

حكم إجهاض الجنين بسبب تشوهه وحكم إجهاضه خوفا على صحة الحامل

حكم إجهاض الجنين بسبب تشوهه وحكم إجهاضه خوفاً على صحة الحامل Q أخت مصابة بمرض في الدم، وتستعمل حقناً لمنع الحمل لأنه يتسبب في مشاكل كثيرة، نتيجة لهذا المرض، وقد نصحها الأطباء بعدم الإنجاب، فقدر الله لها أن تحمل مرة أخرى، فأثناء هذا الحمل أخذت حقناً لمنع الحمل، وهي لا تدري أنها حامل، ولما أخبرها الأطباء بذلك قالوا: إن هذه الحقن أحدث تشوهات في الجنين خاصة في شهور الحمل الأولى، فهل يجوز لها أن تجهض نفسها خوفاً من أن تلد الجنين مشوهاً، أو خوفاً على صحتها وهي لم تكمل الشهر الثاني من الحمل؟ A لا يجوز إسقاط الحمل بعد أربعين يوماً إلا باتفاق أطباء ثقات، على أن هناك خطراً على حياة الأم، وأما احتمال تشوهات الجنين فهذا لا يسوغ إسقاط الحمل بعد الأربعين، والله تعالى أعلم. وكإنسان مريض هذا ابنه وُلد وعنده تشوهات خلقية، هل نقتله؟ حيث أن الجنين محترم بمجرد أن تظهر عليه علامات خلق الآدمي، أي: أنه تجاوز مرحلة النطفة بيسير، والآن أهل الفطرة يستطيعون إدراك ذلك، وعند الحنابلة: أن الكلام هذا لا يمكن معرفته إلا بعد (81) يوماً. ولكن عند الشافعية: أنه يعرف ابن الثمانين إذا أخبرت القوابل أن هذا أصل خلق آدمي وجبت فيه الدية، يعني: أصبح أصل إنسان، أما الآن فإن الأطباء يعرفون بالساعات أن هذا الحمل من تاريخ كذا، فهناك خبرة سديدة جداً، والآن بإمكانه معرفة أن هذا خلق آدمي يأخذ حكم الآدمي، أما قبل الأربعين فإنَّ حكمه حكم النطفة بالاتفاق إن شاء الله، فيجوز الإجهاض قبل الأربعين إذا كان هناك مصلحة راجحة، أما بعد الأربعين فهو مع وجود تأكيد حمل الساعات ونحو ذلك، فلا يجهض هذا الحمل إلا بالاتفاق على خطورة حياة الأم وليس لمجرد تشوه في الجنين. وكل التشوهات احتمالية، وعموماً فإننا ننصح جميع الأخوات والإخوة ألا يستعملوا هذه الوسيلة لأي سبب؛ لأن حبوب منع الحمل فيه ضرر على الطفل، وقد يكون فيه ضررٌ بالمرأة.

حكم استخدام وسائل منع الحمل للتمكن من رعاية ورضاعة الطفل

حكم استخدام وسائل منع الحمل للتمكن من رعاية ورضاعة الطفل Q هل يجوز استعمال وسيلة منع الحمل لسنوات معينة حتى تتمكن من رعاية ورضاعة طفلها؟ الشيخ: استعمالها لذلك مكروه، أي: أكثر من عامين بدون سبب طبي مكروه.

عدم جواز مصافحة النساء مطلقا

عدم جواز مصافحة النساء مطلقاً Q بعض النساء الكبيرات في السن التي يتراوح سنهن ما بين الستين والسبعين يقمن بالسلام باليد علي، فهل يجوز ذلك؟ A هذا لا يجوز والأصل فيه: المنع؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لئن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له).

استحباب الزواج في سن مبكرة

استحباب الزواج في سنٍّ مبكرة Q هل الزواج في سن خمس وعشرين سنة من السنة؟ A هذا الذي وقع للنبي صلى الله عليه وسلم حسب ما قدر عليه؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن غنياً، وإنما عرضت خديجة الزواج عليه بفضل الله سبحانه وتعالى. فلو توفر للشاب أن يتزوج منذ أول شبابه، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج) وأما إذا لم يتيسر فالله المستعان.

حكم عدم معرفة صيغة العقد في الزواج

حكم عدم معرفة صيغة العقد في الزواج Q تزوجنا ولا ندري كيف كانت صيغة العقد، ولا ندري أكان الزواج مثلما نحن ندرسه الآن أم لا؟ فما الحل؟ A الأصل: صحة الزواج، وحمل أمر المسلمين على السلامة، والكلام فيما إذا علم فساد العقد، أما إذا تم الزواج، ولا ندري هل هذا الزواج على الصيغة أم لا؟ فالأصل: أن أمر المسلم يحمل على السلامة، والأصل: صحة العقود.

إباحة الزواج من امرأة لا ترتدي الحجاب وإرغامها على الحجاب طالما أنها من أصل طيب

إباحة الزواج من امرأة لا ترتدي الحجاب وإرغامها على الحجاب طالما أنها من أصل طيب Q هل يجوز أن أتزوج فتاة ترتدي حجاباً ينقصه تغطية الوجه والكفين؟ وهي تعتقد وجوبه، وهل تمتنع من ذلك رغم أن الظروف كلها مؤاتية وهي تعمل والأصل طيب؟ A نقول: لا مانع من أن يتزوج هذه الفتاة، ويرغمها إذا دخلت بيته بالحجاب الشرعي، ويلزمها ألا تخرج من البيت، أنا أنصحه بأن يفعل ذلك، طالما أن الأمور ميسرة والزواج فرض عليه وهذا متيسر له والفتاة طيبة من أصل طيب، يتزوجها ويلزمها بعد ذلك.

حكم اشتراط الزوجة ألا يتزوج عليها الزوج

حكم اشتراط الزوجة ألا يتزوج عليها الزوج Q ما حكم اشتراط الزوجة ألا يتزوج عليها الزوج؟ A هذا الشرط أدى في الحقيقة في نهاية الأمر إلى تحريم زواج الزوج من أخرى، بالإضافة إلى أنه إذا فعل ما أمرت به الزوجة فسينفسخ العقد، وهذا مستحيل طبعاً، ومن حقه أن يتزوج ويطلق هذه، وهذا الأمر لا يماثل من يعلم شخصاً بأنه إذا عمل عنده في مصنعه فعليه ألا يطلق لحيته. فحلق اللحية معصية، وعدم زواجه ليست معصية، فإن لم يتزوج الرجل امرأة أخرى فهذا ليس بمعصية، فهناك فرق؛ فلذلك نقول بهذا إذا تم الاشتراط عند العقد.

حكم من يقول لصاحبه: زوجتك ابنتي، فقال الآخر: قبلت، وهي ما زالت طفلة

حكم من يقول لصاحبه: زوجتك ابنتي، فقال الآخر: قبلت، وهي ما زالت طفلة Q رجل قال لصاحبه: زوجتك ابنتي، فقال الآخر: قبلت، وكان هذا أمام مجموعة من الناس، وكانت الابنة طفلة، فما الحكم إذا كانوا يمزحون؟ A انعقد الزواج، بنص الحديث: (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد)، حتى لو كانت طفلة في المهد.

عدم جواز أن يقول الإنسان: لم يوفقهما قدر الله

عدم جواز أن يقول الإنسان: لم يوفقهما قدر الله Q ما حكم من يقول: كان أخوه أو أخوها متقدماً لخطبة فتاة ولم يوفقهما قدر الله تعالى؟ A هذا لا يجوز، والصحيح: أن يقول: ولم يوفقهما الله، ولم يقدر الله بينهما، ولا نترك التفريق للقدر، فنحن نقول: لم يقدر الله ولا نقول: إن القدر هو الذي يفعل، بل نقول: إن الله هو الذي يفعل بقضاء وقدر. ويقول: شاء الله، ولا يقول: شاءت إرادة الله، فلا يجوز أن ننسب الأفعال إلى الصفات، بل ننسب الأفعال للفاعل عز وجل، قال تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود:107].

تحريم الكلام من قبل المرأة مع خاطبها وتحريم الخضوع في القول

تحريم الكلام من قبل المرأة مع خاطبها وتحريم الخضوع في القول Q امرأة تقول: إنها اتصلت بخطيبها، وحدثته في التلفون، وأريد أن أمنعها؛ لأن هذا خطأ، فماذا أقول لها؟ A تقول لها: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32] والكلام في التلفون مع وجود خطبة سابقة من أعظم أسباب وقوع المرض في القلب.

جواز تقبيل أم الزوجة لزوج ابنتها بشرط عدم وجود الشهوة

جواز تقبيل أم الزوجة لزوج ابنتها بشرط عدم وجود الشهوة Q هل يجوز لأم الزوجة تقبيل زوج ابنتها، وكذلك الصلاة أمامه؟ A هذا الأمر مبني على وجود الشهوة أو عدم وجودها، فالأصل: جوازه، لكن بشرط ألا توجد الشهوة، فلو وجدت الشهوة كان محرماً.

تحريم لبس الدبلة للنساء

تحريم لبس الدبلة للنساء Q هل لبس الدبلة للنساء فيه تشبه بالرجال أو إحدى أنواع البدع؟ A لبس الدبلة للنساء مثل التشبه باليهود.

اختلاف العلماء في خلوة الرجل بزوجته والدخول عليها

اختلاف العلماء في خلوة الرجل بزوجته والدخول عليها Q هل يُعَدُّ إغلاق الرجل الباب على زوجته دخولاً عليها؟ A بل يعقد قرانها إذا خلا بها زوجها تماماً وأغلق الباب ولم يحدث إيلاج، وليس عليها العدة وعليه فقط نصف المهر، وبعض المشايخ الأفاضل يقول: إذا أغلق الباب فقد تم الدخول، وعليه المهر كله وعليها العدة. وأيُّ مسألة بين العلماء فإنه يشرع فيها الاختلاف، فهذا قول الإمام الشافعي رحمه الله، والشيخ الذي ذكر قوله قال بقول مالك وأبي حنيفة وأحمد في المشهور عنهم، بل هو المذهب، لكن المسألة خلافية، وهذا من أيام الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وهناك من يفتي بذلك، وهو منقول عن عمر رضي الله عنه. والقول الآخر: قول ابن عباس رضي الله تعالى عنه: في أنه إذا لم يمسها فلها نصف المهر، وأنا قلت بظاهر الآية، فطالما أن الصحابة قد اختلفوا في المسألة فلن يكون بعضهم حجة على بعض. فقال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:49]، فلم يذكر الله باباً ولا ستراً وإنما ذكر المسيس، والمسيس: هو الجماع كما قال ابن عباس ترجمان القرآن، فهذا هو الظاهر والله أعلى وأعلم. فالمسألة خلافية اجتهادية والخلاف فيها سائغ، وإذا حصل في هذه المسائل اختلاف فإن المرد فيها يكون إلى التحكيم بمعنى: أنهم يتحاكمون إلى شخص، فما حكم به لزمهم، كما أن القاضي أو الحاكم إذا حكم بمسألة فيها اجتهاد لزم حكمه على الطرفين، سواء كان مذهبهم أو غير مذهبهم.

حكم زواج فتاة بعد أن طلقها الأول وقد خلا بها، ولكن لم يحدث إيلاج

حكم زواج فتاة بعد أن طلقها الأول وقد خلا بها، ولكن لم يحدث إيلاج Q فتاة عقد قرانها وخلا بها زوجها فلم يحدث إيلاج، فتم طلاقها وتزوجت بعد ذلك، فهل الزواج هذا صحيح بأن ليس عليها العدة وهو يرى أن الزواج ثابت، حيث أنه أغلق الباب، واختلى بها ولابد من فسخ العقد، ما مصير هذه الفتاة في حكم الزواج؟ A إذا كانت تريد أن تعرف حكمها الشخصي فتأخذ بقول من تثق به من أهل العلم، مثل أي مسألة فيها خلاف بين العلماء، فإنهم يأخذون بقول من يثقون به من أهل العلم، ويردون الأمر لمن يروه عندهم أوثق، فإذا أفتاهم بشيء أخذوا بكلامه، ويلزمهم ذلك، وهذه ليست أول مسألة فيها خلاف بين العلماء قديماً وحديثاً.

حكم خطبة الرجل لامرأة أبوها له علاقة بالسحر

حكم خطبة الرجل لامرأة أبوها له علاقة بالسحر Q ما حكم شاب خطب له أبوه، وأبو مخطوبته له علاقة بالسحر؟ A إذا كانت هي ملتزمة فلن يضرها عمل أبيها، ولكن لا تأخذ منه شيئاً، بل تبتعد عنه.

عدد الرضعات التي تحرم

عدد الرضعات التي تحرم Q كم عدد الرضعات المحرمة؟ A خمس رضعات، وأما ثلاث رضعات أو رضعتان فلا تحرم، والأحوط الابتعاد، لكن الصحيح أنه لابد من خمس رضعات معلومات، ومعلومات معناها: الذي يذكر ويكون معتبراً، والاحتياط والورع أن يبتعد. فمن قال: أنا لا أذكر الأم أو نحو ذلك، فالاحتياط أن يبتعد، ولكن لا يحرم حتى تكون خمس رضعات معلومات.

حكم من ترتدي النقاب ثم يراد منها خلعه في الخطبة أو أي مناسبة أخرى

حكم من ترتدي النقاب ثمَّ يراد منها خلعه في الخطبة أو أي مناسبة أخرى Q ما حكم الأخت التي تنقبت حديثاً وأمها تريد لها خلع النقاب في يوم الخطبة، والخطبة ستكون عائلية جداً، فتقول لها: إن لم تخلعه لن تحضر الخطبة؟ A لا يعملون خطبة، وهنا أحسن؛ لأن الخطبة سيحضرها خطيبها، وسيرى وجهها وهي متزينة، ووجود الزينة الفظيعة في يوم الخطبة ويوم العقد ويوم الزفاف لا يجوز أن يراها إلا المحارم أو الزوج، وغير هؤلاء لا يجوز أن يروها مهما كان الأمر.

عدم جواز خلع المرأة ثيابها بالكامل في غير بيتها

عدم جواز خلع المرأة ثيابها بالكامل في غير بيتها Q هل يجوز للمرأة خلع الثوب في المسجد أو عند أختها وخلع الخمار والجلباب، نعرف ذلك بحديث: (أيما امرأة خلعت ثوبها في غير بيتها إلا هتكت الستر بينها وبين ربها)؟ A خلع الثوب في هذا الحديث المقصود به: خلع الثياب بالكامل في الحمام، أما أن تضع خمارها فليس بممنوع طالما لم يشهدهن رجل.

عدم لزوم تذكر الرجل شكل مخطوبته إذا نسي شكلها

عدم لزوم تذكر الرجل شكل مخطوبته إذا نسي شكلها Q ما حكم الذي نسي شكل المخطوبة وهي كانت تعجبه؟ A لا يلزم أن يتذكرها، فيعقد إن شاء الله.

حكم عقد رجل على امرأة والخلو بها أكثر من مرة مع عدم حصول إيلاج، ثم طلقها قبل أن يبني عليها

حكم عقد رجل على امرأة والخلو بها أكثر من مرة مع عدم حصول إيلاج، ثم طلقها قبل أن يبني عليها Q رجل عقد على امرأة من وليها، واقتضت الظروف أن يخلو بها أكثر من مرة، وكان يفعل كل شيء معها إلا الإيلاج، ثم طلقها قبل أن يبني بها، هل عليها عدة يراجعها فيها؟ A لا، والمسألة خلافية، ولكن الراجح عندي: أنه لابد من عقد جديد ومهر جديد؛ لأن الدخول: هو الجماع.

الأصل في النظر: المنع، والنظر إلى المخطوبة لا يجوز إلا مرة واحدة

الأصل في النظر: المنع، والنظر إلى المخطوبة لا يجوز إلا مرة واحدة Q هل النظر إلى المخطوبة دائماً حرام، أم عند التقدم لها فقط؟ A النظر الأصل فيه: المنع؛ لقول الله عز وجل: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30] لكن إذا كان يخطبها ويتقدم لها فقد أذن الشرع في ذلك، فالأصل: المنع إلا ما ورد فيه الدليل، فإذا نظر إلى ما يعجبه، والدليل على هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اذهب فانظر إليها)، وقال: (ومن خطب امرأة فلينظر إليها، فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل)، فهذا دليل: على أنه ينظر إليها بهذا القدر، فإن وصل الأمر إلى غايته، ونظر إلى ما يعجبه منها، لم يعد النظر مرة ثانية.

عدم جواز أخذ الخاطب من مخطوبته صورة فوتوغرافية

عدم جواز أخذ الخاطب من مخطوبته صورة فوتوغرافية Q هل يجوز أن يأخذ الخاطب من المخطوبة صورة فوتوغرافية؛ لأن مدة الخطوبة طويلة جداً، ووالدها لم يوافق على العقد؟ A لا يأخذ صورة فوتوغرافية؛ لأن هذا من أعظم أسباب الفساد.

تغليظ حرمة ترقيق الحواجب للنساء والرجال

تغليظ حرمة ترقيق الحواجب للنساء والرجال Q هل يجوز ترقيق الحواجب للنساء والرجال؟ A لا يتصور أن يفعلها الرجال، لكن إذا فعلتها النساء فهي من الكبائر، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله النامصة والمتنمصة)، فنمص الحواجب حرام، وهي كبيرة من الكبائر، بأي أداةٍ كانت. وأما في الرجال فهي أشد وأغلظ؛ لأن الرجال لا يحتاجون إلى الزينة، فإذا كانت المرأة التي تحتاج إلى الزينة حرم عليها ذلك؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله النامصة والمتنمصة)، والنامصة: هي التي تعملها لنفسها ولغيرها، والمتنمصة: هي التي تذهب إلى أخرى وتطلب منها ذلك. فكيف إذا كان الرجل هو الذي يفعلها؟! فهذا أعظم من فعل المرأة، بل هو أكبر من الكبائر.

زواج المسلم من الكتابية المتدينة التي لم يكن لها زوج كتابي من قبل زواج صحيح

زواج المسلم من الكتابية المتدينة التي لم يكن لها زوج كتابي من قبل زواج صحيح Q هل زواج النصارى زواج جاهلية؟ يعني: مثل زواج النصارى واليهود؟ A زواج الجاهلية الذي تحدثنا عنه هو أقرب، طالما أنه كان بإعلام، وطالما كانا متدينين بذلك، يرون حل هذا الفرج ويرون حرمة الزنا، فهذا الزواج يعتبر زواجاً صحيحاً، وعلى سبيل المثال: رجل نصراني تزوج امرأة نصرانية زواجاً على شريعتهم وعلى حسب دينهم، فهل يجوز للمسلم أن يتزوج هذه المرأة؟ لا يجوز أن يتزوجها، أما إذا كانت غير متزوجة فيجوز أن يتزوجها؛ لأن الله قال: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة:5] فيمكنه أن يتزوجها إذا كانت بلا زوج.

حكم زواج أهل الكتاب من بعضهم

حكم زواج أهل الكتاب من بعضهم Q ما حكم زواج أهل الكتاب من بعضهم؟ A هو زواج معتبر صحيح، وبالتالي ينظر في مسألة الإحصان فيه، إذا كان قد تزوج أو لم يكن قد تزوج.

عدم صحة زواج الرجل من المرأة ما دامت في ذمة الزوج الأول

عدم صحة زواج الرجل من المرأة ما دامت في ذمة الزوج الأول Q امرأة تركت منزل زوجها منذ عشر سنوات ولم تقض المحكمة بطلاقها أو نفقتها، فهل يصح الزواج منها إن تقدم لزواجها رجل آخر؟ مع العلم أنها متهمة بالزنا؟ A هي ما زالت على ذمة هذا الزوج؛ حتى ولو زنت؛ لأن الزنا لا يقطع الزوجية؛ حتى يقع طلاق أو إقامة حد أو شيء آخر، ولا تنقطع الزوجية لمجرد الزنا، فهذه المرأة ولو زنت فهي ما زالت على ذمة زوجها الأول، فلابد أن يدعوها إلى التوبة ويستعين لذلك بكل من يمكن أن يستعين به لمنعها من هذا المنكر من أهلها، لكن لا يتهمونها بالزنا من غير أن يثبت ذلك.

سعي المسلم لزواج كتابي من كتابية لا حرج فيه ولا إثم

سعي المسلم لزواج كتابي من كتابية لا حرج فيه ولا إثم Q إذا سعت أخت مسلمة في زواج نصراني من نصرانية فهل عليها ذنب؟ A ليس عليها ذنب؛ لأن الزواج أغض للبصر وأحصن للفرج بالجملة للرجال والنساء، ولو كان هناك كافر يزني، وكافر لا يزني، فالكافر الذي لا يزني أهون شراً من الكافر الذي يزني، لكن لا تنبغي الصداقة أصلاً.

حكم قص أو ترقيق الشعر الموجود بين الحاجبين

حكم قص أو ترقيق الشعر الموجود بين الحاجبين Q هل يجوز قصُّ الشعر الموجود بين الحاجبين بالذات للمرأة؟ A الذي أراه أن الشعر بين الحاجبين هو جزء من هذا الحاجب، فلا تزيله المرأة ويدخل في الحديث: (لعن الله النامصة والمتنمصة).

حكم من تريد أن تلبس النقاب وزوجها يرفض بشدة

حكم من تريد أن تلبس النقاب وزوجها يرفض بشدة Q ماذا تفعل من تريد أن تلبس النقاب وزوجها يرفض بشدة؟ A سبحان الله، أوما علم الرجل أن هذا الأمر نزل فيه القرآن صريحاً ومباشراً للنساء جميعاً، وفيه أمر بالنقاب وليس أمر استحباب بل هو أمر وجوب، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب:59]؟ فإن في الآية دليلاً على أن تتنقب كل النساء، فكيف بالمرأة التي بلغت؟ وعلى العموم فإنها تظل على ذلك مع زوجها، وتأتيه بالأدلة الشرعية لعل الله أن يهديه.

حكم رسم الحناء على الأيدي للنساء

حكم رسم الحناء على الأيدي للنساء Q هل رسم الحنا على الأيدي للنساء حلال؟ A نعم، الحنا شيءٌ يقتضي زواله، فلا بأس به، وبدلاً من الرسم يطبعونه طبعاً، والرسم بالحنا يجوز.

لا يجوز طاعة المرأة لزوجها في معصية الخالق

لا يجوز طاعة المرأة لزوجها في معصية الخالق Q هذه امرأة زوجها يطلب منها أن تخفف من شعر حاجبيها وهي ترفض ذلك، وتذكره بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله النامصة والمتنمصة)، وهو يقول: إن تزين المرأة لزوجها له ثواب عظيم؟ A ليس له أن يطالبها بذلك، والنمص: تغيير لخلق الله، فعليها أن تعصيه لله عز وجل، وكما أنها تطيعه ابتغاء مرضاة الله فهي تعصيه ابتغاء مرضاة الله، فليس له أن يأمرها بالتنمص، فالتنمص محرم.

النقاب أحوط من الحجاب لسد الذريعة وتجنب الأذى

النقاب أحوط من الحجاب لسد الذريعة وتجنب الأذى Q ما حكم فتاة في سن السادسة عشرة يقول الناس لها: بأن ترتدي النقاب، ولكنها ترتدي الحجاب، وكلما مرت من مكان تعاكس من الشباب الذين لم يهتدوا، وهي لا ترضى بذلك؟ A فلتلبس النقاب إذاً، فهو أستر لها وأنفع لها عند الله عز وجل، ومسألة أنها مقتنعة أو غير مقتنعة هذا ليس راجعاً إليها، فلا شك أن النقاب أحوط، وأظن إن شاء الله أن ما سمعت من الأحاديث سوف يكون دافعاً لها أن تتحجب الحجاب الكامل، أعني: النقاب.

عدم جواز سفر المرأة من غير إذن زوجها

عدم جواز سفر المرأة من غير إذن زوجها Q يقول: تعليق على قانون الأحوال الشخصية الجديد: وهو عدم استئذان الزوج في سفر الزوجة، والزوج لا يرضى بهذا الوضع فما الحل في ذلك؟ A إن هذا القرار يلزم إصداره من قبل مجلس الشعب وليس من وزير الداخلية، وعلى مجلس الشعب أن يسن القوانين الموافقة للشريعة، وليس من حق وزير الداخلية أن يقرر ذلك. وهذا القرار مجرد أمر إجرائي، لكن فيه خطورة بلا شك. وسفر المرأة من غير إذن زوجها لا يجوز شرعاًً، فالزوج له الولاية على زوجته بلا نزاع، بإجماع أهل العلم. ومسألة تغطية الوجه للمرأة فيها اجتهاد، والخلاف فيها سائغ، وأنا لم أجزم بأحد القولين في إجابتي؛ لأنه قد يكون هناك أدلة قوية في مسألة عدم الوجوب، لكن الأحوط: هو تغطية الوجه.

حكم لبس الخواتم بالنسبة للخطوبة والزواج

حكم لبس الخواتم بالنسبة للخطوبة والزواج Q ما حكم لبس الخواتم بالنسبة للخطوبة والزواج؟ A لبس الخاتم خصوصاً للزواج أمر عرف عن النصارى، وذلك إذا لبس خصوصاً في الإصبع التي تسمى (رينج فينجر)، يعني: إصبع الدبلة، أما إذا كان خاتماً وليس بدبلة يلبس في الخنصر وليس له تعلق بالزواج وإنما هو الذي تيسر مثلاً، من أن يهدي الرجل لزوجته عند الزواج خاتماً، فإنه لا بأس بذلك ضمن ما يكون. لكن تخصيص الدبلة واعتبار أنها علامة على المرتبط أو المتزوج فكل هذه الأمور لم تؤخذ عن أهل الإسلام، وبالتالي فهذا الأمر أخذ أكبر من حجمه. وجعل هذا الأمر علامة للود والحب أو البغض والكراهية يدل على التشبه بالنصارى، فإنهم يعتقدون ذلك، بل يقولون: هو كعرق في هذا الإصبع مرتبط بالقلب إذا ربط بالدبلة ربطت المحبة، وإذا نزعت نزعت المحبة، وهذا أصل اعتقادهم، أو أن القسيس كان يضع هذا الخاتم بعد أن يقول على الأصابع الثلاثة قبله، قل: باسم الأب، والابن، وروح القدس، إله واحد آمين، ويضع الخاتم على الإصبع الرابعة والعياذ بالله. فعلى كلَّ هم يضعون هذا في الإصبع؛ لأنه أصل مأخوذ عنهم، فلا يجوز التشبه بهم، سواء كان عرقاً من هذا الإصبع إلى القلب يربط المحبة، أو أنه في اعتقادهم الشركي في التثبيت والعياذ بالله.

حكم تحدث الخاطب مع مخطوبته بالهاتف وبإذن أبيها

حكم تحدث الخاطب مع مخطوبته بالهاتف وبإذن أبيها Q هل يجوز للخاطب أن يحدث خطيبته بالهاتف وبإذن أبيها؟ A إنما يحادثها لما يجوز أن يحادث به الأجنبي الأجنبية، كما قال سبحانه وتعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [الأحزاب:32] يعني: لا يجوز أن تتصل امرأة برجل، أو رجل بامرأة فتسأل عن سؤال، أو تقضي حاجة، أو تبيع أو تشتري، ولا يجوز أن يتسامرا بالهاتف ويتضاحكا ونحو ذلك مما يقع في المحادثات الهاتفية، وما يبث من مشاعر الحب والود والغرام. إن ذلك مما لا يجوز بين الأجنبي والأجنبية، وليس هذا من القول المعروف، وهذا يؤدي إلى المفاسد الكبيرة، لكن إذا كانت امرأة مثلاً تتصل فأجبتها فهذا يجوز، وغير ذلك لا يكون من القول المعروف.

جواز أخذ المرأة من مال زوجها بغير إذنه بالمعروف لتقصيره في احتياجات المنزل

جواز أخذ المرأة من مال زوجها بغير إذنه بالمعروف لتقصيره في احتياجات المنزل Q امرأة تأخذ من وراء زوجها بعض المال؛ لأنه لا يأتي باحتياجات البيت، فهل هذا جائز؟ A يُنظر هل هذه احتياجات بالفعل؟ يعني: إذا كان الزوج يقصر في المعروف فيما يناسب المستوى الاجتماعي الذي تعيش فيه هذه الأسرة وبما جرت به العادة في مثل هذا الحال، فإنه يجوز لها أن تأخذ بغير إذنه بالمعروف. كما قال النبي عليه الصلاة والسلام لامرأة أبي سفيان هند بنت عتبة: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)، وأما إذا كانت تأخذ هذا المال من غير علمه وهو لا يقصر في الاحتياجات الأساسية للمنزل، فلا يجوز لها ذلك.

عدة المرأة المتوفى عنها زوجها والحكمة من ذلك

عدة المرأة المتوفى عنها زوجها والحكمة من ذلك Q المرأة التي مات عنها زوجها هل عليها عدة؟ A نعم بلا شك، عليها أربعة أشهر وعشرة أيام، والحكمة من العدة في حالة ظروفها هذه: هي مراعاة الرابطة الزوجية العظيمة، فضلاً عن التأكد والتيقن من براءة الرحم، والله أعلم بحكمة تشريع ذلك، فمراعاة الروابط الزوجية وإظهار الحزن على الزوج بالحداد وإظهار المودة التي كانت بينهما أمر مشروع بلا شك.

عدم جواز الكذب أو الحلف كذبا، وجواز استعمال التعريض في حالة الظلم

عدم جواز الكذب أو الحلف كذباً، وجواز استعمال التعريض في حالة الظلم Q هل يجوز أن يحلف الإنسان ليتخلص من ظلم وقع عليه في الضرائب مثلاً، وهل يجوز أن يكذب دون حلف؟ A لا يتجنى بالحلف، بل يستعمل التعريض خروجاً من الكذب، والتعريض: هو خروج من الكذب، فلا يحلف في ذلك، وليس هناك حاجة إلى الحلف للضرائب وغيرها.

حكم من ألزم ابنه بحلق لحيته معلقا ذلك بيمين الطلاق لأمه

حكم من ألزم ابنه بحلق لحيته معلقاً ذلك بيمين الطلاق لأمه Q أنا شاب ملتزم، ونظراً لظروف خاصة أقسم والدي بيمين الطلاق معلقاً لأمي إذا ما حلقت لحيتي، ما حكم هذا اليمين؟ A واضح أنَّ أمك ليس لها دخل بالموضوع، وإنما يريد هو أن يلزمك بحلق اللحية، وبراً بأبيك وأمك لا تحلق إن شاء الله وإنما مُره أن يُكَفَّر، لأنك لو أطعته في هذا لتحمل من الأوزار على الدوام، فكل لحية تحلقها يأخذ عليها ذنْباً، فأنت تريد أن تبره أليس كذلك؟ فبراً بأبيك ورحمة به وشفقة عليه لا تطعه في هذا الأمر، وعليه أن يكفر عن يمينه في الطلاق.

كفارة اليمين على الترتيب، والخيار يكون بين الثلاثة الأول

كفارة اليمين على الترتيب، والخيار يكون بين الثلاثة الأوَل Q هل كفارة اليمين على الاختيار أم لا؟ A الخيار حاصل ما بين ثلاثة كفارات وهي: إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة، لكن لا بد من الترتيب، بمعنى: أنه لا يجوز أن يصوم إلا إذا عجز عن واحدة من الثلاثة، لكن أي واحدة من الثلاثة تجزئ، فيأتي مثلاً بكسوة للمساكين، فيكسو كل مسكين بما يستر به عورته ويجزئه ذلك. أو يطعمهم طعاماً يشبعهم، كأن يكون كيلواً وربعاً من أرز لكل مسكين مثلاً، أو يحرر رقبة، فهو مخير بين الثلاثة، فإذا عجز عن الثلاثة ينتقل إلى صيام ثلاثة أيام متتابعة.

من يحلف بكتاب يلزمه كفارة يمين

من يحلف بكتاب يلزمه كفارة يمين Q رجل حلف بالمصحف أن لا يفعل كذا، ما كفارة هذا؟ A الحلف بكتاب الله عز وجل يلزمه كفارة يمين.

حكم من أقسم ألا يعمل مع صاحب العمل، ثم أراد أن يعود للعمل

حكم من أقسم ألا يعمل مع صاحب العمل، ثم أراد أن يعود للعمل Q شخصٌ أقسم ألا يعمل مع صاحب العمل إلا أن يعطيه أجرة معينة، ولم يعطِهِ أجرة، ويريده أن يعود إلى العمل؟ A يكفر عن يمينه ويعود، فيطعم عشرة مساكين، ويطعم كل مسكين كيلواً وربعاً من أرز.

حكم الرجل يكون عليه نذر وله دين عند أحدهم فيأمر المستدين بالوفاء بالنذر عنه

حكم الرجل يكون عليه نذر وله دين عند أحدهم فيأمر المستدين بالوفاء بالنذر عنه Q شخص عليه نذر مائة جنيه وله دين مائة جنيه فهل يلزم من عليه الدين بدفعه عنه؟ A لا، وإنما يقبضه ثم يدفعه بنفسه.

حكم من نذر في وقت محدد أو في غير وقت محدد ثم لم يستطع الوفاء بالنذر

حكم من نذر في وقت محدد أو في غير وقت محدد ثم لم يستطع الوفاء بالنذر Q رجل نذر أنه عندما تلد امرأته فسوف يذبح خروفاً، ولم يتمكن من ذلك فماذا يفعل؟ A إن كان نذره في وقت محدد يكفر عن يمينه وإن كان النذر ليس لوقت محدد وإنما عندما تلد في أي وقت فإنه ينتظر، ويكون النذر في ذمته إلى أن ييسر الله عز وجل له قضاء هذا النذر والوفاء به.

النذر المعلق بالمشيئة حكمه حكم الحلف تماما

النذر المعلق بالمشيئة حكمه حكم الحلف تماماً Q ما حكم النذر المعلق بالمشيئة، كأن يقول: إن رد الله علي غائباً فسأتصدق بألف جنيه إن شاء الله؟ A هذا لا يجعله نذراً، وإنما هو مثل الحلف، فإذا لم يتصدق فليس عليه شيء، ولكن الأولى أن يفعل.

النذر المعلق على معصية معصية

النذر المعلق على معصية معصية Q ما حكم من نذر أنه إن فعل معصية فعليه كذا وكذا؟ A إذا علق النذر عليه فهو معصية، يعني: لو أن واحداً قال: لله علي إن نظرت إلى امرأة أجنبية أن أصوم شهراً، وإلا عمل المعصية المعلقة بالنذر، كمثل بعض الناس يحاول أن يمنع نفسه مثلاً من فعل معاصٍ متعود عليها، كشرب السجاير أو ممارسة العادة السرية أو عمل أي شيء خطأٍ، فيرغم نفسه ويخوفها، فيتعبد بعبادة معينة. فهذا يلزمه ويحرم عليه فعل المعصية، لكن إن وقع النذر المعلق بالمعصية، فهو نذرٌ مكروه كما ذكرنا، ويكره أن العبد لا يفعل شيئاً إلا بمقابل.

حكم من أراد تزويج ابنته من رجل صالح وهي تريد الزواج من رجل آخر

حكم من أراد تزويج ابنته من رجل صالح وهي تريد الزواج من رجل آخر Q رجل يريد أن يزوج ابنته من رجل صالح، وهي تريد الزواج بآخر، هل يجوز لها أن تجعل غير أبيها ولياً لها، كأن يكون عمها أو خالها ولياً لها، وما الحكم إن زوجها أبوها ذلك الرجل؟ A أولاً: إذا لم تكن راضية بالزواج من ذلك الرجل الصالح فهي حرة ولا يزوجها أبوها رغماً عنها، ثانياً: إذا امتنع أبوها من أن يزوجها بالرجل الذي تريد -إذا كان صالحاً- سقطت ولايته وانتقلت الولاية إلى غيره فيجوز أن تجعل عمها ولياً لها، أما الخال فليس بولي. يعني: شرط أساسي في الرجل الذي تريد أن تتزوجه أن يكون صالحاً، أما لو كان فاسقاً فمن حق الأب أن يعترض؛ لأن الكفاءة معتبرة في الدين.

حكم رفض الفتاة لشخص يتقدم لخطبتها بسبب عدم إطلاق اللحية

حكم رفض الفتاة لشخص يتقدم لخطبتها بسبب عدم إطلاق اللحية Q هل يجوز للفتاة رفض شخص يتقدم لخطبتها بسبب عدم إطلاق اللحية؟ A نعم، يجوز لها ذلك، هي كما تشاء جزاها الله خيراً، ثبتها الله على ذلك.

حكم الرجل يكتب إرثه لإحدى زوجاته وأحد أبنائه هربا من الظلم لا قصدا للتمليك، مع العلم أن هناك ورثة غير هذه المرأة وابنها

حكم الرجل يكتب إرثه لإحدى زوجاته وأحد أبنائه هرباً من الظلم لا قصداً للتمليك، مع العلم أن هناك ورثة غير هذه المرأة وابنها Q هذا رجل كان عليه قضايا، وتخلصاً من القضايا كتب المنزل لزوجة له، وكتب السيارة باسم أحد أبنائها وهو يعرف جيداً أن حق الورثة محفوظ، ثم توفي الوالد، والظاهر أن الورثة لم يستطيعوا الحصول على هذه الأوراق ولكن عندهم تصوير من أن أباهم إنما كتب ذلك للتخلص من الظلم الذي يقع عليه فقط، ولا يقصد التمليك. فأرادت زوجته أن تأخذ البيت وهي تقول: إنه لا حق لأحد فيه؟ A طالما أنه على يقين من أن والده قد كتب هذا المنزل للتخلص من الظلم فقط، ليس على سبيل الهبة، فكونهم أخذوا بصمة الزوجة على عقد البيع دون علمها، يعني: بحيلة لهذا المنزل، فهذا أمر ليس مخالفاً للشرع، إنما هو إعطاء كل ذي حق حقه، فطالما أنها ستأخذ حقها في المنزل وفي السيارة فذلك لا بأس به، والله أعلى وأعلم.

عدم جواز أكل لحم لم يذكر اسم الله عليه، والأصل في المسلم السلامة

عدم جواز أكل لحمٍ لم يذكر اسم الله عليه، والأصل في المسلم السلامة Q إذا دخلت المنزل فوجدت لحماً مثلاً، أنا أشك في أن البائع يذكر اسم الله عليه عند الذبح، فهل آكل أم لا، مع أنه مسلم؟ A طالما وأنه مسلم فالأصل فيه: أنه يسمي الله تعالى؛ لأن الأصل في المسلم السلامة.

حكم اللحوم المستوردة وذبائح الكتابيين

حكم اللحوم المستوردة وذبائح الكتابيين Q أفتى الإمام محمد عبده بأكل ذبائح الكتابيين، فعلى أي أساس كان هذا الإفتاء؟ A قلنا: إن الشيخ محمداً عبده والشيخ ابن باز يفتيان بذلك ويحلان اللحوم المستوردة بناءً على أنهم من أهل الكتاب، وأن الأصل في ذبائحهم: الحل، لكن الكلام يبقى في توصيف الواقع، والخلاف في هذا في تحقيق المناط وفي تطبيق الفتوى على الواقع. فهل هم أهل كتاب أم لا؟ وهل هم يذبحون أمْ لا؟ وهل يسمون بالله أم لا؟ فالواقع الآن: أنهم في الغالب والأعم لا يسمون ولا يذبحون، والاختلاط بينهم وبين الذين ليس لهم دين عندهم كثير جداً في بلاد أوروبا؛ ولذلك نقول: الأصل فيه: الذبح حتى نتأكد. والحكم في ذبح الرقبة كاملة، فإن وصل الذبح إلى آخر الرقبة فهو خلاف السنة، لكن إذا بدأ بالذبح من الحلق حلت الذبيحة؛ لأنه حصل الذبح في الشرع قبل موت الذبيحة، والذبائح المحلية كالهمبرجر والكفتة إذا كانت مذبوحة على الشريعة، كأن تكون مذبوحة في مصر، فالأصل فيها: الحل. والآكل في المطاعم مثل: ماكدونالد والدجاج كنتاكي نسأله: هل هو دجاج مستورد أم مصري؟ فالدجاج إذا كان مصرياً حلَّ أكله، وإذا كان مستورداً فلا يجوز وإن كان مكتوباً عليه: ذبح بالشريعة الإسلامية. واللحوم المستوردة الراجح فيها: المنع، حتى نتأكد أنه مذبوح على الطريقة الإسلامية من مسلم واحد.

حكم التجسس لصالح الكفار

حكم التجسس لصالح الكفار Q هل حكم التجسس لدولة مثل إسرائيل، القتل أم السجن؟ A هذا مرده إلى إمام المسلمين، وإمام المسلمين هو من ينظر في المصلحة وفي مدى تكرر هذه الجريمة، فجريمة التجسس تبيح قتل هذا الإنسان الذي يتجسس، وتبيح عقابه بما هو أقل حسب المصلحة، وحسب تكرر هذا الأمر، والضرر الذي وقع من هذا الرجل.

حكم حرق الكفار بالنار أثناء المعارك

حكم حرق الكفار بالنار أثناء المعارك Q هل يجوز حرق الكفار بالنار أثناء المعارك؟ A إن معظم الحروب المعاصرة وجلها فيها استعمال للنار، فلا نزاع حالياً في جواز هذه الأمور في قتال الكفار.

الجمع بين قوله تعالى: (وجاهدهم به جهادا كبيرا) وقوله صلى الله عليه وسلم: (إنما جئتكم بالذبح) وبين أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالصبر خلال فترة الاستضعاف، وغضبه لما أراد خباب الاستنصار منه

الجمع بين قوله تعالى: (وجاهدهم به جهاداً كبيراً) وقوله صلى الله عليه وسلم: (إنما جئتكم بالذبح) وبين أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالصبر خلال فترة الاستضعاف، وغضبه لما أراد خباب الاستنصار منه Q كيف نجمع بين قول الله تعالى: {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان:52] وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر أهله بالصبر خلال فترة الاستضعاف، وقتد غضب لما أراد خباب الاستنصار، وبين قوله عليه السلام: (إنما جئتكم بالذبح). A هذا يكون في المستقبل، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالجهاد الكبير لهذه الدعوة، والبيان لهذه الحجة، وأمرهم بالصبر عن جهاد اليد والسنان إلى أن يحين وقته، وقوله: (إنما جئتكم بالذبح) إشارة إلى قوله تعالى: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر:45] حيث نزلت هذه الآية ولم يكن هناك جمع، ولم يكن هناك للمسلمين جيش، ومع ذلك نزلت بأنه سوف تقع ونحن على يقين كما نجزم الآن يقيناً وقطعاً أننا سنقتل اليهود، فإن أردنا أن نقتلهم الآن، وذهب ذاهب منا إلى الحدود مثلاً يريد أن يطبق ذبح اليهود كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، فلا شك أنه سيرد ويمنع ويحبس وربما يقتل. ولذلك نقول: كفوا أيديكم الآن إلى أن يأتي وقت الذبح، ونحن جئناهم بالذبح عندما يكون هناك حاجة إليه. والأمر متفاوت في هذا، فأحياناً تكون هناك شدة، وأحياناً يكون هناك تغليظ في الكلام ودعاء عالمي عليهم، ويظهر أثره بإذن الله تبارك وتعالى، وهذا من الأمور العظيمة في الدلالة على أهل الحق، ولا مانع في ذلك، بل هذا مشروع مستحب، وقد يجب أحياناً أن يغلظ عليهم في مواقف معينة وتظهر لهم القوة، وكما ذكرنا فإنه يُدعى عليهم كما دعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم علناً. وعند ذلك يظهر بإذن الله تبارك وتعالى أثر هذا فيعلمون أنه الحق، لأنهم يوقنون أن الدعاء من أهل الإيمان مستجاب بإذن الله، وهناك شواهد عديدة في ذلك ليس في الزمان الماضي ولكن في زماننا.

قبول الجزية من الكفار الوثنيين هو الصحيح، والخلاف في تكفير الحجاج خلاف ضعيف جدا

قبول الجزية من الكفار الوثنيين هو الصحيح، والخلاف في تكفير الحجاج خلاف ضعيف جداً Q ما هو الراجح في الكفار الوثنيين، هل تقبل منهم الجزية أم لا؟ وهل الخلاف في تكفير الحجاج خلاف سائغ؟ A الراجح في الوثنيين وفيمن يدفعون الجزية هو قول مالك رحمه الله، وقول أبي حنيفة في غير مشركي العرب ورواية عن أحمد، وهذا أصبح موافقاً لقول مالك فهو قول الجمهور: إن كل الكفار من جميع الملل إن عرضوا الجزية قبلت منهم، أما تكفير الحجاج فقول ضعيف جداً مرجوع، والخلاف فيه ضعيف وليس بخلاف.

حكم من قاتل من المسلمين في صفوف الكفر ضد المسلمين

حكم من قاتل من المسلمين في صفوف الكفر ضد المسلمين Q ذكر أهل العلم: إن المسلم الذي يقاتل في صفوف الكفار ضد المسلمين يعامل معاملة الكفار، فكيف يتفق هذا مع ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر المسلمين بعدم مقاتلة نفر من المسلمين خرجوا مع كفار مكة لمقاتلة المسلمين؟ A إن الرسول صلى الله عليه وسلم ما أمرهم بترك مقاتلتهم، وإنما أمرهم بترك قتلهم لعل الله أن ينجيهم من هذه المعركة، فيتوبون إلى الله عز وجل، فهم لم يكونوا يريدون حرب الإسلام ولكن ننظر فيمن قتل من هؤلاء، فإن بعضهم كان شباباً غير معروفين من الأنصار فقتلهم الأنصار؛ لأنهم وقفوا مع المشركين. فقال بعض المسلمين: استغفروا لهؤلاء فإنهم كانوا سالمين، يعني: كانوا قد أسلموا، فأنزل الله في ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:97]. فدل ذلك على أنهم كفار، وكذلك لم يُعطِ النبي صلى الله عليه وسلم أحداً منهم دية، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم العباس أن يفدي نفسه وابن أخيه، الفضل بن أبي طالب ونوفل كذلك. فلو أنه كان مسلماً لكان ماله حراماً، ولا يجوز أن يؤخذ منه مال، ولكنه استدل بذلك: على أنه يعامل معاملة الكفار؛ لأن ذلك كان هو الظاهر، ومثلما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بعدم قتلهم نصيحة، لعل الله أن يبقيهم فيتوبون إلى الله، كذلك حينما جاء ملك الجبال واستأذن النبي صلى الله عليه وسلم أن يطبق عليهم الأخشبين وقد كانوا يستحقون ذلك، ولو حدث ذلك لماتوا كفاراً، ولكن أبى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فقال: (بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من لا يشرك به شيئاً)، فطلب حياتهم لعل الله أن يتوب عنهم.

طلاق الحامل طلاق سنة وتنتهي عدتها بوضعها حملها

طلاق الحامل طلاق سنة وتنتهي عدتها بوضعها حملها Q طلق رجل زوجته وهي حامل، فهل يقع هذا الطلاق؟ A اتفاق بين العلماء: أن طلاق الحامل طلاق سنة، فإذا كانت حاملاً فقد وقع الطلاق بالاتفاق، ومدتها وضع الحمل، فلو طلقها ثم بعد تسعة أشهر، أو يومين، أو يوم واحد، أو لحظة، وضعت انتهت العدة، قال الله عز وجل: {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4].

الطلاق الذي يقصد به التهديد عليه كفارة يمين على الأصح

الطلاق الذي يقصد به التهديد عليه كفارة يمين على الأصح Q رجل قال لزوجته: أنت طالق إن أنا أتيت باللبن فما حكم ذلك؟ A كان ينوي التهديد؛ لأنه لم يأت باللبن، فيكفر عن يمينه على الصحيح، وكم من الناس يحلفون بالطلاق وتختلف الصيغ، فلا بد أن ينظر في كل واقعة فيما قال. فالذي يقول: علي الطلاق، يسمونه: حلفاً بالطلاق، والذي يقول لامرأته: إن عملت كذا فأنت طالق، ينظر في الأمر، فإن كان القول صريحاً فلا يبحث عن نيته. فإن قال لامرأته: أنت طالق، ثم يقول: أنا لم أنوِ الطلاق، فهذا لا يجدي؛ لأن اللفظ الصريح لا عبرة بمخالفته، وإن قال لها: أنت طالق إذ لم تفعلي كذا أو قال: علي الطلاق ينظر، هل يقصد الطلاق أم يقصد التهديد والوعيد؟ فإن كان يقصد الطلاق طلقت، وإذا فعلت خلاف ما أمر وهو يقصد التهديد فعليه الكفارة، وهذا هو الأصح.

من زار مريضا فأكل أو شرب عنده فلا حرج في ذلك

من زار مريضاً فأكل أو شرب عنده فلا حرج في ذلك Q هل من زار مريضاً فأكل أو شرب عنده يضيع أجره؟ A لا، ليس في هذا أثر فيما أعلم، بل لا بأس أن يقبل ما ضيفه به المريض فإنه ينزل ضيفاً عليه، ولا حرج أن يقدم له أو أن يأكل عنده.

انتفاع الميت بما يهديه له الحي من النوافل إلا صلاة الفريضة

انتفاع الميت بما يهديه له الحي من النوافل إلا صلاة الفريضة Q هل ينتفع الميت بمن يهدي له صلاة أو صياماً أو صدقة جارية؟ A الصحيح نعم، إلا صلاة الفريضة. وصل اللهم وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين

قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين إن النظر في عواقب الماضين، وقراءة تاريخ السابقين، يولد عند الإنسان العبرة والعظة، حيث يرى عاقبة المتقين وعاقبة المكذبين، ومآل كل منهما، ولهذا أمر الله سبحانه وتعالى عباده بالتفكر في العواقب، ولكن لن يستفيد من التاريخ إلا من نظر إليه نظرة إسلامية، وعرف حقيقة الصراع الدائر بين الأمم من خلال النظر الإسلامي الصحيح. وإن ما نراه اليوم من الضعف والوهن في الأمة هو بسبب النظرة الخاطئة في أصل الصراعات القائمة بين الأمة، فعلى الأمم النهوض من غفلتها ورفض الوهن والضعف، والتمسك بحبل القوي العزيز.

سورة آل عمران معلم أساسي في تاريخ الأمة

سورة آل عمران معلم أساسي في تاريخ الأمة قال الله تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ * وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ * وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ * وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:137 - 148]. سورة آل عمران معلم أساسي في تاريخ أمة الإسلام، ودرس للمؤمنين عبر العصور وفي كل الأزمنة والأمكنة، وبيان لسنة الله سبحانه وتعالى، وقراءة إسلامية للتاريخ، يحتاج إليها المؤمنون في كل زمن وفي كل حال من أحوالهم. فالأحوال دائماً في تغير وتبدل، والله يداول أيام العسر واليسر، والكثرة والنصرة بين الناس، فهو سبحانه وتعالى قد جعل للأمم سنناً يسير عليها البشر في الأزمنة المختلفة، وإن كانت أعمار الأمم لا تقاس بالسنوات وإنما تقاس بعشراتها أو مئاتها، وتقاس بالقرون، وإن أمة لم يتجاوز سلطانها مائة أو مائتين من السنين ثم تتعرض للاضمحلال والزوال لهي أمة مهينة، ولننظر في تاريخ أمة الإسلام لننظر ولنعلم كيف استقر بفضل الله عز وجل سلطانها قروناً متعددة، وبما انتصرت؟ وفي كم انتصرت من الزمن؟ ولماذا ضعف سلطانها وتسلط عليها أعداؤها؟ وفي كم من الزمن وقع ذلك أيضاً؟ حتى لا يغرنا تقلب الذين كفروا في البلاد، وحتى لا تغرنا القوة الزائفة الزائلة التي يقدرها الله سبحانه وتعالى لأهل الكفر في أزمنة مختلفة ليبتلي بها عباده، بذلك ويختبر ما عندهم، وينظر ماذا يعملون، ولو تأمل متأمل في الأرض والسموات لأيقن وجزم وقطع لمجرد التأمل أن البشر وجودهم وقوتهم وملكهم وما بأيديهم لا يساوي شيئاً، فتأمل وجود البشر بالنسبة إلى الأزل وإلى الأمد، بل بالنسبة إلى ما مضى فقط من حياة البشر على ظهر الأرض وما بقي منها، وكم يعيش الإنسان بالنسبة إلى هذا الدهر الطويل، لتعرف قدر الإنسان في الزمان بأنه كالهباء فعلاً، أو كاللحظة العابرة، أو كالخاطر الذي يخطر على البال أو أقل من ذلك، فوجودنا أصغر بكثير مما يشعر به الكثيرون منا من أن حياتهم طويلة، وتأمل حجمنا في المكان، وانظر إلى مصير كل منا في الأرض، كم يشغل منها بالنسبة إلى مساحتها الكلية؟ وكم تشغل الأرض من هذا الكون الواسع الفسيح؟ وكم تشغل من المجموعة الشمسية مثلاً؟ وكم تشغل من المجرة؟ وكم تشغل المجرة من آلاف الملايين من المجرات مما لا طاقة للبشر ولا علم ولا سمع ولا بصر يصل إليه فضلاً عن أن يحيط به؟ وكل هذا في السماء الدنيا، وكلما ارتفعنا اتسع الأمر لتعلم صغر الإنسان. ثم تأمل ما بأيدي الناس من القوة في دنياهم التي يعيشون بها على ظهر هذه الأرض، ثم قارن بينها وبين القوة التي أودعها الله عز وحل في شيء واحد فقط فضلاً عن أشياء متعددة، في البحر مثلاً، كم من الطاقة في هذه البحار التي لو أمرها الله عز وجل أن تغرق الناس لأغرقتهم؟ كم في الرياح من طاقة وقوة هائلة تدمر ما بأيدي البشر في لحظات معدودة؟ ففي أيام معدودة وليال يدمر الله عز وجل أمماً بأسرها، ويقع ذلك في كل زمان، وليس هذا فقط في زمن عاد، بل يتكرر أمام أعين البشر في زماننا في كل عام مرة أو مرتين، فتسمع عن إعصار، وتسمع عن غرق، وتسمع عن حرب، وتسمع عن دمار، وتسمع عن زلازل، فهناك قوة مودعة في الأرض، هذه الأرض التي لو أمرها الله أن تبتلع الكفرة والظلمة والمنافقين لابتلعتهم في لحظة، ولضيقت عليهم، وانشقت بهم، ولو أمر الله عز وجل ما في السموات من المذنبات أن تحصد الأرض وتصيب ما شاء الله عز وجل أن تصيب لكان شيئاً واحداً منها مدمراً لقارات بأكملها، فسبحان الله! أبعد هذا يغتر المغتر ويظن أن الأمر بأيدي الناس؟! ما يملك البشر وما بأيديهم إنما هو أصغر من الهباء بالنسبة إلى ما أودع الله عز وجل في بعض مخلوقاته من القوة، فالقوة لله جميعاً، لذا تأكد وأيقن أن الأمور تجري بمقدار من عند الله سبحانه وتعالى، وهي أثر من آثار قدره الماضي سبحانه، وأثر من آثار السنة التي قد مضت فيمن قبلنا، وأثر من آثار قوة الله عز وجل وقدرته على خلقه حتى لا تغرنا البدايات، وحتى لا نيئس من النهايات، وحتى لا نزن الأمور بموازين ما بأيدي الناس، حتى كأن القوة الوحيدة هي ما بأيديهم، حتى كأن التخطيط والتدبير إنما هو الذي يصنعونه، والأمر ليس كذلك، فهناك تدبير آخر، وهناك سنن يقدرها الله سبحانه وتعالى، ويجعلها سبحانه وتعالى هداية لأهل الإيمان، وموعظة لهم، ويبين بها لسائر الناس ما يفعله عز وجل بأوليائه وأعدائه؛ ليظهر لكل أحد أن الأمور من عنده سبحانه وتعالى نازلة، فالله عز وجل يقلب الأمور، ويداول الأيام، ويغير الأحوال والموازين، فإذا لحظنا ذلك بقلوبنا، ووعته أفئدتنا، كان ذلك سبباً لسلوكيات وأفعال معينة من طاعة الله سبحانه وتعالى، ومن الصبر والثبات، والتخلص من أمراض عديدة تصيب الأمم في فترات الضعف والمحن، كالوهن، والحزن، والاستكانة للعدو ولباطلة، والمتابعة له على الباطل، فكل ذلك بسب عدم ملاحظة سنن الله سبحانه وتعالى أن الأمور من عنده عز وجل.

الأمر بالتفكر في أحوال السابقين لمعرفة سنن الله في خلقه

الأمر بالتفكر في أحوال السابقين لمعرفة سنن الله في خلقه قال تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [آل عمران:137]. فهذا أمر، والأمر للوجوب، فهل انتبهنا إلى هذا الأمر ونظرنا في عاقبة المكذبين ونحن نسير في الأرض؟ حتماً ويقيناً أن أكثرنا لا ينظر، بل كل البشر إلا من رحم الله، فنستثني أقل القليل ممن ينظر في عواقب الأمور وفي نهايات المطاف، ويقرأ التاريخ قراءة إسلامية، وقد ذكر الله عز وجل الأمر بالنظر في سنن من قبلنا مرات عديدة في كتابه، فقال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} [الأنفال:38]. وقال عز وجل: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]. وآيات كثيرة متكررة بهذا المعنى تأمر بالسير في الأرض؛ لننظر، لا لمجرد الأكل والشرب، ولكسب المكاسب، ولكن لنقرأ التاريخ قراءة إسلامية.

القراءات الفلسفية الأرضية لحقيقة الصراع

القراءات الفلسفية الأرضية لحقيقة الصراع أكثر الفلسفات والتفجيرات البشرية الأرضية تحاول أن تقرأ التاريخ؛ لتعرف مواطن الصراع ومحاوره بين البشر، وطالما لم يستضئ القارئ بنور الوحي المنزل على رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ولم ينشرح قلبه لحقائق الإيمان، فإنه يذهب مذاهب شتى في تفسير التاريخ والصراع الذي يجري على وجه الأرض، ويحاول أن يستخلص النهايات على حسب فهمه وإدراكه، وإذا لم يكن هناك إيمان بما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام كان هناك التخبيط وخلط الأمور، ولذا يسيرون سير العميان، بل أسوأ من ذلك، يسيرن في وسط وهاد وأودية مهلكة تهلكهم والعياذ بالله، ويلعبون كالمجانين، وأعني بذلك الكفرة والمجرمين الذين يحادون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويسعون في الأرض فساداً، ويحاربون دينه، فيظنون أن الأمور بأيديهم، ويتكبرون في الأرض بغير الحق ويقولون: من أشد منا قوة؟! ويعيثون في الأرض فساداً، ترى آثارهم فسادهم في المشارق والمغارب، وتلف من أمثالهم وأشباههم ممن جعلهم الله عز وجل عبرة وعظة للمؤمنين، وإنما ينتفع بقراءة التاريخ قراءة صحيحة من هداه الله. إنما يهتدي البشر بنور الوحي المنزل من عند الله عز وجل، فقد تكلم أناس كثيرون في أن حقيقة الصراع الذي يجري بين البشر محوره المال، والسلطان التابع له، والقوة الاقتصادية عندهم هي المحرك الحقيقي لكل الصراعات، ولهذا تجد أحدهم يلقن لطوائف أو لملايين من البشر من الشعوب المختلفة، أن معظم الحروب التي قامت، هي من أجل المال والثروة والسلطان، وقد يتأكد ذلك في حس الكثيرين بأنواع الحروب القائمة المعاصرة على الثروات المختلفة، وصراع البشر من أجل المال، ونظروا بناء على ذلك أن الإنسان إنما قيمته ما معه من المال، وأصلوا أننا سوف نحارب، ونسالم، ونوالي، ونعادي، على حسب الأموال، فمن يعطينا أكثر نكون تبعاً له، نظرة تجد أمماً وشعوباً تصدقها، بل آلاف الملايين من البشر قد استوعبت هذه الفكرة واقتنعت بها، وعاشت من أجلها، ولو نظرت من حولك في الناس الذين يعيشون معك لوجدت من هذا النوع ملايين متعددة، لا تعيش إلا لأجل المال، وبعضهم يرضى بأقل القليل من لقمة العيش، لا يعرفون من الدنيا إلا الحصول عليها، ولو بأن يبيعوا دينهم بعرض من الدنيا قليل ليس بعرض ذا بال عند أهل الدنيا، بل بعرض رخيص لا يساوي شيئاً، يبيعون دينهم من أجله؛ لأنهم اقتنعوا بأن الإنسان إنما يساوي ما معه من المال. والأمم المفتونة بالمال ليت فقط آحاد البشر، بل شعوب كاملة المال هو المحرك الأساسي لها، والصراع عندهم ليس صراعاً بين أولياء الرحمن وأوليا الشيطان، إذ لا يعرفون إلا أولياء الشيطان فقط، وإنما الصراع من أجل المال. ومن النظرات التي تفرع منها وهي نظرة مادية محضة، النظرية الشيوعية، والاشتراكية التي مدراها على الصراع بين الطبقات من أجل المال، وأنه لابد أن تسود الطبقة العاملة، وأنشأها عمال في بداية الأمر، ثم انتقلت النظرية إلى بلاد فيها فلاحون، وقالوا: لابد أن تسود هذه الطبقة على غيرها، ومن هنا جعلوا في مجالسهم التشريعية نسباً معينة لهذه الطبقة؛ لتكون هي السائدة، ولتكون هي الغالبة، نظرية عاش البشر بها نحواً من ثمانين سنة أو ما زال بعض البشر يعيشون في ظلها إلى يومنا هذا، شقوا بها، وأشقوا غيرهم، ومات ملايين بل آلاف الملايين، وأجيال تلو أجيال عليها فشقيت بهذه النظريات، وأصلت الصراع بين طبقات المجتمع بدلاً من التعاون بين طبقاته، وزرع التواد والتحاب، فقراءة معينة للتاريخ أخرجت هذا الفكر الذي أخرجه ماركس، ثم طبقه لينين، وسار عليه بقية الأنعام، وما اختلفوا كثيراً عن أمثالهم ممن يعظم المال، بل القضية واحدة، فنظرية الرأس مالية التي عاش ويعيش الناس بها حقبة من الزمن، قد شقوا بها أنواع الشقاء، وهذه النظرية مدارها على الربا، الذي حذر الله عز وجل منه، فبها يزداد الغني غناً وسلطاناً، ويطحن الفقير طحناً، وأمم تحاول أن تستغل كل ثروات الآخرين، وتأكل ما بأيديهم وتعيشهم أذل حياة والعياذ بالله. فطريقة تفكير وقراءة للتاريخ أنبتت هذه النظريات المنحرفة وآخر يرى في التاريخ أن الصراع الحقيقي بين البشر والمحرك الأساسي له هو الشهوة الجنسية، فالبشر إنما يعيشون لأجل شهوة الرجل للمرأة والمرأة للرجل، ولذا يقدسون هذا الأمر، ومن علامات تقديس ذلك عندهم الكم الهائل من الشهوات المطروحة على البشر، وتعظيم من عنده هذه البضاعة من أهل الإعلام والفن والشهوات المحرمة كلها، وما يدور حول هذا المحور من أنواع التجارات والأعمال، وإنفاق الملايين على الأفلام والأغاني والملاهي التي تدور حول قضية واحدة هي قضية الجنس، وأعمار تنفق لأجل هذه القضية، وتجد هناك من يعيش جامعاً هذه الخزعبلات، ويفسر التاريخ على ذلك، وأسس نظريته على هذه الخزعبلات، وأقنع بها الكثيرين، ثم صارت هذه الأمور هي التي بها تدرك الشخصيات، ويقدم أناس ويؤخر غيرهم، ويملك أناس ويزال غيرهم، بتخطيطات كلها تدور حول هذه المسألة، وحول الشهوات المحرمة في ذلك، وأنواع أخرى كثيرة من النظريات التي مبناها على قراءة خاطئة للتاريخ، ومحاولة باطلة لتفسير السنن التي يقدرها الله عز وجل.

قراءة أهل الإيمان لحقيقة الصراع

قراءة أهل الإيمان لحقيقة الصراع أما أهل الإيمان فيرون أن ما يجري على الأرض صراعاً بدأ بالصراع بين آدم وحواء عليهما السلام، وبين إبليس العدو اللدود للإنسان، والصراع حول قضية الطاعة والمعصية، طاعة الله عز وجل أو معصيته، فهناك من يطيع الله فيعبده ويوحده، ويتبع رسله، وهناك من يكفر به ويعصيه، ويخالف رسله ويعاديهم، ويسعى في الأرض فساداً، وهذا هو الذي يجري عليه محور الصراع، إذ بين البشر هو بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، وحول قضية التوحيد والشرك، وقضية الإيمان والكفر. ومن هنا يفهم أهل الإسلام والإيمان الذين اتعظوا بمواعظ القرآن أنهم لا يصح لهم بحال من الأحوال أن يغفلوا عن هذه الحقيقة، أو يقبلوا خداع الشيطان وأولياءه من زخرف القول الغرور، الذي يوحيه بعض الشياطين من الإنس والجن إلى بعض؛ لصرف الناس عن حقيقة الصراع؛ ولكي يقعوا في دوامات الفتن، ويغفلوا عن مصدر القوة الحقيقية، ومصدر النصر الآتي بإذن الله لأهل الإيمان والإسلام. فإذا فقدوا فهمهم وقراءتهم للتاريخ قراءة صحيحة وفق كتاب الله عز وجل فسوف يغرقون في فتن عجيبة، وإذا جعلنا محور الصراع الذي يقع في الأرض هو حول المال، أو الجنس، أو الأرض، أو حول علو قومية معينة فلنبشر بالدمار، فهناك خمسة وخمسون مليون إنسان قتلوا من أجل فكرة خطرت في بال واحد، هي أن الجنس الألماني هو الذي لابد أن يسود، فالحرب العالمية الثانية قامت من أجل ذلك، فوقع خمسة وخمسون مليون إنسان قلتى، والجرحى أضعاف ذلك، كل ذلك لأجل فكرة سيطرت على إنسان وأقنع بها ملاييناً فساروا في حروب مدمرة، فـ هتلر هو الذي رأى أن الجنس الألماني يجب أن يسيطر، وأن الأمم الأخرى لابد أن تخضع، ومثلها وإن كانت أوسع قليلاً نظرية التفرقة العنصرية ووجوب علو الجنس الأبيض، وما زالت هذه قائمة في الحقيقة، حيث يرى الأوروبيون البيض وأمثالهم من الأمريكان أن الأمم الأخرى لابد أن تكون حقيرة وذليلة لهم، واليهود يفكرون بنفس الطريقة، حيث يقولون: إنهم سادة العالم، فلذا يريدون السيطرة على العالم من خلال كل الوسائل، فالمال يسخرونه، والجنس يسخرونه، والصراعات دائماً يسخرونها؛ لأجل سيطرتهم على العالم. فهل نغفل نحن عن حقيقة أو مفتاح الصراع بين البشر؟ فإن الصراع الحقيقي يدور بين الإيمان والكفر، وبين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، ومحور الصراع: هو قضية التوحيد والشرك، وقضية الطاعة والمعصية، فنريد أن نطيع الله، وأن يطيعه البشر ويتبعوا رسله ويصدقوهم، ويلتزموا أوامرهم، ونريد أن يعبد الله وحده لا شريك له في الأرض كلها، ويريد أعداء الإسلام غير ذلك، فيريدون أن يعبد الشيطان، وأن يعبد المال، وأن تعبد الشهوات، وأن يعبد البشر، وأن تعبد الأحجار والأشجار وغير ذلك، والصراع يقع ويجري، وسنة الله عز وجل في هذا الصراع عبر التاريخ واحدة، وموازينه تسير في مراحل ثابتة، وتنتقل من مرحلة إلى مرحلة في توقيت يعلمه الله سبحانه وتعالى، بناء على صفات وأحوال الأمم والأفراد المنتمية لهذه الأمم، ولذا كانت تلك المقدمة بالغة الأهمية، ونعني: الآيات التي وردت ذكرت صفات المؤمنين، من أول التحذير من الربا وعدم أكله، ثم ما تلا ذلك من الأمر بأوامر عظيمة الأهمية من تقوى الله عز وجل، والمسارعة والمنافسة في جناته التي عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين قال الله: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:134 - 135].

زمن انتهاء الصراع وكيفيته

زمن انتهاء الصراع وكيفيته علمنا مفتاح تغير الموازين والقوى، لكن كيف ستتغير موازين القوى وخرائط الواقع؟ وكيف سينتهي هذا الصراع ونحن حلقة من حلقاته؟ ولكي تعرف الجواب ارجع إلى ما بدأنا حديثنا به من أن أعمارنا صغيرة جداً، ولكننا كجزء من حلقات هذا الصراع لا نقيس هذا الصراع بأعمارنا نحن، فنحن صغار دائماً، وعمرنا صغير دائماً، ولكن وسع أفقك قليلاً؛ لتعرف أن أعمار الأمم كما ذكرت أوسع من أعمار البشر، وهذا كله بالنسبة إلى الأجل والأبد شيء يسير جداً، والله هو الذي يقدر مقادير الأمور كلها. قال تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [آل عمران:137]. فأمر التكذيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولرسل الله جميعاً له عاقبة معينة، وانظر في تاريخ الأمم لتعرفها، فهذه آثار عاد في حضرموت في جنوب جزيرة العرب تنبئك عن أثر تكذيب عاد لنبيهم هود، وهذه ديار ثمود في شمال جزيرة العرب تنبئك عن أثر تكذيب ثمود لصالح، وهذه آثار قوم لوط في الأردن تنبئك عن الدمار الذي حل بهم لما كذبوا لوطاً، وهذه آثار الفراعنة تؤكد أنهم كانوا أمة قد ضربت بأوتادها في الأرض قوة وتمكناً، وسلطاناً، وعتواً، وملكاً ظاهراً تام السيطرة عليها وعلى من حولها من الأمم، ثم ترى كل ذلك قد زال، أمم سادت ثم بادت، وزلت وهانت، وأبيدت بالكلية بعد أن تسلط عليها أعداؤها مدة. وتأمل تاريخ بني إسرائيل؛ لتعرف سنة الله فيهم وفي أمثالهم عندما يؤمنون ويكفرون، ولتعرف نهاية حلقتنا من الصراع، فإنها سنن ماضية لا تتغير ولا تتبدل، وإن كانت الموازين بأعين الناس الذين لا يبصرون إلا الأمور المادية التي بأيديهم، ولا يرفعون أبصارهم وأفئدتهم إلى ما هو أوسع من تحت أرجلهم من أرض وسماء، ولا ينظرون إلى ما قبلهم وبعدهم من الزمان، فهذه النظرة التي ينظرون بها تؤدي بهم إلى الجزم بأن الموازين في صالح أعداء الإسلام، وأن الأمر بأيدي الكفار، فلابد من السمع والطاعة لهم، الدوران في فلكهم، ونسأل الله العافية. وهذا كله من أعظم الخطر علينا، فلابد أن نستوعب دروس التاريخ، ونعلم ما قال ربنا سبحانه وتعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ} [آل عمران:137]، فإما أن تسير بأقدامك لترى بعينك، وإما أن تكتفي بإخبار الله سبحانه وتعالى وسير السائرين الآخرين الذين نقلوا لك، وأنت لابد سائر، ولكن لابد أن تتأمل آثار من قبلك في سيرك، فما من موطن إلا وترى فيه قبور السابقين، وترى مصارع الناس، وترى آثار الأمم السابقة، إذ لا يوجد بلد خال من ذلك فضلاً عما يتناقله الناس، وقبل ذلك كله ما أخبر الله عز وجل به عن الأمم قبلنا، وحقيقة الصراع الذي دار بين الرسل وبين أعدائهم.

التعرف على عاقبة المكذبين من خلال قراءة سيرهم

التعرف على عاقبة المكذبين من خلال قراءة سيرهم قال تعالى: {فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [آل عمران:137]. أي: تأمل؛ لتعرف مآل المكذبين، ففي زماننا تأمل في حال الذين يكذبون كتاب الله، والذين يكذبون رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذين يسعون في الأرض فساداً: {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ} [الأعراف:45]، فسوف ترى أمراً عظيم الأهمية. فـ هرقل رغم كفره كان يعرف من سنن الله عز وجل ما ذكره لـ أبي سفيان حين سأله هل حاربتموه؟ قال: نعم، قال: فكيف الحرب بينه وبينكم؟ قال: سجال، يدال علينا مرة، وندال عليه مرة، قال بعد أن سأله أسئلة أخرى وكذلك الرسل تبتلى ثم تكون لها العاقبة، فسنة الله ماضية، وأهل الإيمان سائرون على نهج الرسل الكرام صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. ولذلك السنن ماضية متكررة، ليس في وجود الأنبياء فقط، بل في كل صراع يوجد بين أهل الإيمان وأهل الكفر، بين ما جاءت به الرسل وأوليائهم من جانب، وبين التكذيب والمخالفة والإباء والرد والصد عن سبيل الله من أعداء رسله من جانب آخر، أتظنون أن أبا جهل وأبا لهب هما أعداء الرسول صلى الله عليه وسلم فقط؟ أو أن فرعون هو عدو موسى فقط؟ ليسوا هم الأعداء فقط، بل كل من يعادي ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ويعادي ما جاء به موسى وعيسى، ويعادي ما جاء به إبراهيم، ونوح، وهود، وصالح من التوحيد، والإيمان بالله واليوم الآخر، والإيمان بالكتب، والرسل، والقدر، وكلما جاءت به الرسل من التزام شرع الله عز وجل، فهم أعداء محمد صلى الله عليه وسلم، وهم أعداء موسى وعيسى وإبراهيم، وهم والله! كثيرون، بل هم أكثر أهل الأرض، بل هم أهل الأرض إلا من رحم الله، نسأل الله العافية. فالعداوة والتكذيب لرسل الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين تكون بالإباء والرفض لما جاءوا به، وهو أمر لم يزل مستمراً قائماً إلى أن يرث الله عز وجل الأرض ومن عليها، وإلى أن يأذن سبحانه وتعالى بهلاك الكفر وأهله من الأرض كلها.

فائدة القرآن وبيانه لا تكون إلا للمؤمن

فائدة القرآن وبيانه لا تكون إلا للمؤمن قال تعالى: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ} [آل عمران:138]، أي: قد حصل البيان بأن بلغ الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذا القرآن العظيم فيه بيان الأمور على حقيقتها كما يقول ابن كثير، وكيف كانت الأمم قبلنا مع أعدائهم، فمن كذب القرآن جملة فقد قامت عليه الحجة بذلك، ومن صدقه جملة نفعه ذلك نفعاً إجمالياً، إلا أنه لن ينتفع نفعاً تفصيلياً، ولم يعتدل الأمر معه اعتدالاً حقيقياً كاملاً إلا بأن يعرف تفاصيل هذا البيان، ويستضيء بنور القرآن وثنائه، فيرتفع به عن الأرض وموازينها وشهواتها. وتأمل أن البيان للناس والهداية والموعظة للمتقين؛ لتنظر كيف تنتفع بالقرآن، وكيف تجد طعمه، وكيف ترى نوره، فليس كل الناس يهتدي بهذا البيان، وقد بين الله بهذا الكتاب العظيم ما تقوم به الحجج، فمن قصر في طلب العلم منه فهو آثم، ومن أعرض عنه بالكلية فهو الكافر والعياذ بالله. وإنما ينتفع به من اتقى الله، فإن كنت تريد أن تنتفع بالقرآن، وتهتدي به وتتعظ بمواعظه، فاعمل بما علمت منه، واعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وتجنب معاصي الله على نور من الله تخاف عقاب الله، وتستشعر وقوفك بين يديه، وحضورك يوم القيامة مسئولاً عن القليل والكثير، والنقير والقطمير، والكتاب الذي يعرض عليك {لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف:49]، فتخاف وتتقي، فأنت إن عصيت تسير في طريق شوك، وهذا الشوك الذي يؤلم أجرك هو معاصي الله، ومخالفة شرعه، رغم أن أكثر البشر يظنون أنهم يسعدون بهذه الشهوات، ونسال الله العافية. فأنت كماش في طريق الشوك ينظر أين يضع قدمه، وكم من الأشواك في حياتنا، بل قل: ألغاماً تنفجر كل يوم، تصيب أحدنا فتدمر قلبه، وتدمر إيمانه وإسلامه، وتذهب بطاعته لله عز وجل، وأكثر الناس لا يشعرون، ويستمرون في مشيهم دون أن ينظروا إلى مواضع الأقدام، فتقوى الله العمل بطاعته، وعلى قدر ما علمت يفتح لقلبك هدايات، قال تعالى: {وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:138] فلا يهتدي ويتعظ إلا من اتقى الله قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282]، فإذا أشكلت عليك الأمور، واضطربت الأحوال، فلا تدري ما تأتي وما تذر، فاعمل بما تيقنت أنه طاعة من صلاة وصيام، وقراءة قرآن، وغض بصر، وحفظ فرج، وترك ظلم، رباً وغيرها، واترك ما تشك فيه، فإذا عملت بهذا فسوف تهتدي، لكن المشكلة أننا قاعدون ولم نتغير كما ينبغي، ولا ينبغي أن ننظر إلى ما نقدر عليه ثم نتباكى على عجزنا.

تغير حال الأمة يكون بتغير الشعوب لا بتغير آحادهم

تغير حال الأمة يكون بتغير الشعوب لا بتغير آحادهم أمة الإسلام لديها طاقات وثروات هائلة، ولديها ملايين البشر القادرين ببضعة آلاف منهم على تغيير وجه العالم بالكلية، ولو وجدت هذه النوعية من الآلاف المؤمنين المتقين في بلد واحد فقط لتغيير وجه العالم بأسره، لكن بشرط أن يكونوا ملتزمين التزاماً حقيقياً، وعندهم تقوى حقيقية، فبمثل هؤلاء تنصر الأمة. أما إذا فقدنا التقوى، الشعور بأننا في طريق ذا شوك فلا ننظر إلى مواقع الأقدام، وكذا إذا فقدنا الشعور بأننا في أزمة تقتضي الجدية في كل أمر من الأمور، في طلب العلم، وإصلاح النفس، والعمل، والعبادة، والذكر، والدعوة إلى الله عز وجل بما شرع الله سبحانه وتعالى وبما نقدر عليه، فلن نغير من واقعنا، ولن نقدر على إصلاح شيء ذا بال منه، مع أن الذي نقدر عليه كثير، وما نراه اليوم من ضعف وقلة حيلة ليس لقوة الأعداء حنكتهم وإنما هو مقدر من عند الله عز وجل، وأيضاً هو بسبب التقصير الذي عند جملة الأمة، ولو وجد أفاضل البشر على الإطلاق في وسط جمع مقصر لضاع الفضل بين زخم التقصير كما سيأتي في هذه السورة، وكما قال الله عز وجل: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [آل عمران:152]. فالعشرة المبشرون بالجنة كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جيش المسلمين في غزوة أحد، ومع ذلك وقعت الهزيمة، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فهل ندرك ما ينبغي علينا أن نعمله؟ فعلينا تقوى الله، ومعالجة أمراضنا، كمرض الوهن والحزن والاستكانة وغيرها. قال تعالى: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:138]، أي: كلما اتقيت الله عز وجل فيما بينك وبينه، فراقبته وعاملته، وأخلصت له، وصدقته، واجتهدت في اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، كلما كان النصر حليفك، وليس يصلح أن يكون هذا في آحاد الناس، بل لابد أن يكون سمة عامة للأمة والطائفة الملتزمة بالطاعة، التي تقول إنها على الحق، لا يضرها من خالفها وخذلها حتى تقوم الساعة، أو تريد أن تكون كذلك، أما إذا كانت السمة العامة لهؤلاء الذين يسمون أنفسهم بالملتزمين أو بالمتقين للجهل مثلاً أمراض القلوب، أو ضعف الحب والود، أو أنواع من الصراعات على الدنيا والتنافس عليها، فحينئذ لا يكون لهؤلاء النصر والغلبة، وعلى ذلك وجب على الأمة تغيير نفسها؛ ليغير الله حالها، فإن الأمور سنن من عند الله، وليست مجرد أمور أرضية، ولقد قال عمر رضي الله عنه عندما أتوه بالبرذون ليركبه -وكان البرذون يتبختر به ويريدونه أن يركب عليه؛ ليليق بمقام أمير المؤمنين- فنزل منه عمر وقال: أركبتموني على شيطان، ما نزلت منه إلا أنكرت نفسي، قال: أتظنون الأمر من ههنا، أي: من الأرض؟ إنما الأمر من ههنا، أي: من السماء، وأشار إلى فوق، فلذلك لابد أن نعمل بما علمنا وبما نقدر عليه، فمن عمل بما علم رزقه الله علم ما لم يعلم، ومن عمل بما قدر عليه رزقه الله القدرة على ما لا يقدر عليه، ووالله! إن القوة كامنة كمون النار في الزناد في هذه الأمة، وشرر يسير منها يرعب الأعداء، وهم يدركون ذلك جيداً، ويعرفون السنن، ولكن هل سنستخرج هذه القوه ببديل التقوى؟ وهل نحولها من هذا الخمول إلى الواقع بالعمل بطاعة الله سبحانه وتعالى؟ أم نظل مستكينين في أنفسنا؟

سبب ضعف الأمة وإهانتها

سبب ضعف الأمة وإهانتها سبب ضعف الأمة هو وجود الوهن الداخلي في كل فرد منها ثم أدى إلى الوهن العام فيها، مع أن بأيديها من القوة ما لا يحيط به الأعداء، ولست أقصد الوهن الداخلي في المجتمع الذي نعيش فيه فقط، بل وحتى الوهن الداخلي في نفس كل واحد منا، قال الله عز وجل: {وَلا تَهِنُوا} [آل عمران:139]، أي: لا تضعفوا: {وَلا تَحْزَنُوا} [آل عمران:139]، أي: على ما فات، {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139] أي: العاقبة والنصرة لكم، وهذه الآية في شأن غزوة أحد تنهى المؤمنين عن الضعف بسبب ما جرى، والضعف الذي يصيب الأمم المغلوبة هو محصلة وهن داخل كل واحد منها، فاجتمعت هزيمة كل فرد فهزمنا جميعاً، وأعداء الإنسان داخل نفسه هم الشيطان، والنفس الأمارة بالسوء وأمراض أخرى في الداخل، وكلها تسعى في أرض القلب فساداً، فأدت إلى حصول هذا الوهن، وأدى الوهن في مقاومتها إلى الوهن العام الذي أدى بدوره إلى الضعف. والوهن: هو حب الدنيا وكراهية الموت، والصراع على شهوات الدنيا، هذا المرض الذي يعرف الأعداء جيداً أثره فيسعون إلى نشره، وأكثر الناس يأكلون الطعم، ويتنافسون على الدنيا أحقر المنافسات، نسأل الله العافية. والحزن أن يظل الإنسان يفكر فيما مضى، لا لينتقل منه إلى عمل في المستقبل، بل لمجرد الأسى والحزن، ويتذكر الآلام لا ليستفيد من التجربة؛ لينطلق إلى عمل جديد، ولكن لكي يتألم فقط، أو يندب حظه، وهذا دائماً يجر سلسلة أمراض منها: العتاب على القدر ولومه، والشعور بالظلم، وأنه كان ينبغي أن يقع غير ما وقع، وعتاب الآخرين ولومهم وادعاء تقصيرهم في حقه، وهو المقصر، وأنواع من الأمراض التي تؤدي إلى أمراض أخرى، كمرض الحزن، والمقصود به المنهي عنه الذي يؤدي في نهاية المطاف إلى اليأس من رحمة الله، وإلى الاستسلام، والاستكانة التامة للعدو الداخلي والخارجي، فييأس من الإصلاح الداخلي، وييأس أيضاً من إصلاح ما حوله، فيقبل الواقع، ويغرق في شهوات الأرض، نعوذ بالله من ذلك قال تعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139]، فدلهم على الاستعلاء بالإيمان رغم الضعف الظاهر، والهزيمة في أحد، وقتل منهم سبعون، وجرح من جرح، فقد جرح النبي عليه الصلاة والسلام، وكاد المشركون أن يقتلوه، ولا حول ولا قوة إلا بالله. والذين فقدوا من المجتمع المسلم في غزوة أحد وزنهم في ميزان البشر بأمم، فـ حمزة أسد الله رسوله صلى الله عليه وسلم، ومصعب بن عمير الذي أدخل الله على يديه أهل المدينة في الإسلام وأمثالهم، فكم يساوي هؤلاء الشهداء الأفاضل الذين قتلوا؟ قد أخبرنا الله عز وجل بأن الواحد منهم بأمم لا بأمة وحدها، فالواحد منهم يغير مجرى التاريخ، ومع ذلك ينزل قوله الله تعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139]، فكل ما فقدناه بالنسبة إلى فقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وحمزة ومصعب ومن معهما، رضي الله عنهم أجمعين هين وقليل، فينبغي علينا من باب أولى أن لا نهن أو نضعف، بل لابد أن يتم السير إلى الله عز وجل بكل قوة، وفي الطريق الصحيح، والطاعات كثيرة جداً، فلا تقتصر على صورة معينة، بل تستطيع أن تعبد الله عز وجل في كل حال وفي كل مكان، على العسر واليسر، والمنشط والمكره، وهناك أنواع عديدة من العبودية التي تؤديها في حالة الضعف والإحباط الذي يقع، والذي يملأ النفوس اليوم بسبب الأحداث الأليمة التي تمر بها الأمة في الداخل والخارج، وبسبب أنواع البلايا والمحن، وتسلط الأعداء بأنواعهم المختلفة. إذاً: فلابد أن تكون لك قوة في طاعة الله، بما تقدر عليه وما تعلمه، حتى يفتح الله عز وجل عليك ما لا تعلمه، وما يغيب عنك، وما لا تقدر عليه، فلابد أن لا نهن أو نضعف في أداء أي عمل في طاعة الله عز وجل، ونعمل بما في أيدينا بكل قوة، ولا نحزن على شيء قد فاتنا، إذ لاشك أن المسلمين في أحد كانوا يريدون نصرة الإسلام، وعلو كلمة الحق، أو على الأقل طائفة عظيمة منهم فيها من هذه الإرادة ما لا يوجد في الأمة اليوم بأسرها، ففيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي وباقي المبشرين، ولا شك أنما فات بفعل الغزوة كان أمراً عظيماً، ومع ذلك فلا يجوز الحزن عليه، أفترى وسيلة من الوسائل التي عجز المسلمون عنها اليوم بالمقارنة إلى ما فات المسلمين في أحد يقتضي منك حزناً على ما فات؟ إن ما فات المسلمون في أحد بالنسبة إلى نصرة الإسلام في الأرض أعظم من كل الوسائل، فالقتال كان وسيلة لنصرة الإسلام، ومع ذلك فقد فاتهم ما فاتهم بسبب تصرف بعضهم، ونحن قد فاتتنا أشياء عجزنا عنها، نتمناها ونرجوها، ونحدث أنفسنا بها، ومع ذلك فليس ذلك الفوت مبرراً للحزن، أو للضعف، بل تعلم أنك كلما حققت معاني الإيمان كلما علوت به من الله تبارك وتعالى. إذاً: فلابد أن نعلم جميعاً أنه كلما زاد رصيدنا من الإيمان، كلما رجحت كفتنا في الصراع مع الأعداء، وبالعكس من ذلك فإن حصل فينا داء الضعف، كحب الدنيا، وكراهية الموت، والحزن على ما فات حزناً يجذبنا إلى الأرض، ويدفعنا إلى اليأس، وإلى الإحباط، وإلى عدم التغيير المطلوب من الداخل أي: من النفوس حتى تصلح، وحتى يغير الله ما بنا من هذه الأمراض، فإنه كلما حصل ذلك كلما ضعف الإيمان، وكلما ضعف الإيمان كلما نزلنا إلى الأسوأ، فحال القلب بالنسبة لهذه الأمراض يشبه صاروخاً يريد أن يرتفع، ولكن فيه ضعف في قوته، وبه روابط تجذبه إلى الأرض، فإذا كانت قوته ضعيفة، والأربطة التي ربط بها إلى الأرض قوية فلن ينطلق، فلابد أن نتخلص من السببين: الأول: روابط الأرض التي تجعل المسلم يخلد إلى الأرض ويتبع الشهوات، ويحب الدنيا حباً مذموماً، فعليه أن يتخلص منها ويعظم الرغبة في الآخرة. والثاني: قوة دافعة للارتفاع، وهي في الحقيقة قوة الإيمان، والإيمان علم وعمل وتصديق بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم يقيناً، وحب، وخوف، ورجاء، وتوكل، وعبادة، وصلاة، وصيام، وزكاة، وعبادات تؤدى لا كصورة، ولكن بالحقائق الباطنة، فلا تصم عن الطعام والشراب، ولم تصم ألسنتنا عن الغيبة والكذب، ولم تصم قلوبنا عن الحقد والحسد والضغينة والبغضاء، ولم تصم جوارحنا عن معاصي الله، فهذا الصيام أصبح صورة لا حقيقة له، ومعلوم: أنه لن يكون باطلاً فيؤمر صاحبه بالإعادة، إلا أنه لا يثقل الميزان، ومع ذلك لا يحكم على صاحبه بالكفر؛ لأن كل واحد عنده ذرة إيمان ينجو بها من الخلود في النار، لكن هذه الذرات لن ترجح الكفة في الصراع مع الأعداء، إذ لابد من أمر ثقيل كما قال تعالى: {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139]. فعدم علونا يدل على أننا لسنا مؤمنين الإيمان الكامل، ولا أقصد بذلك الآحاد أيضاً؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم، والعشرة المبشرين، والشهداء الذين قتلوا، وجماعات من الصحابة، قد شهد لهم ربهم فقال: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [آل عمران:152]، فهناك أناس تريد الدنيا وليسوا منافقين، إذ أن المنافقين أمثال عبد الله بن أبي بن سلول رجعوا عن المعركة، والباقون هم أهل الإيمان، لكن إرادة الدنيا عندهم كانت مؤثرة على المجموع، فحصل لهم ما حصل. نسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى، أقول قولي هذا وأستغفر الله.

الأسئلة

الأسئلة

حكم إحياء ليلة النصف من شعبان

حكم إحياء ليلة النصف من شعبان Q في هذه الأيام يرغب البعض في إحياء ليلة النصف من شعبان فهل صح شيء في ذلك؟ A هناك أحاديث متعددة في فضيلة ليلة النصف من شعبان، وأن الله عز وجل يغفر لكل خلقه إلا مشرك أو مشاحن، أي: بينه وبين أخيه شحناء، فكل من بينه وبين أخيه شحناء فليسع إلى إزالتها حتى يغفر له إحيائها بهذا الأمر، ولكن لا يشرع الاجتماع على قيام الليل في تلك الليلة، ولم يصح شيء في دعاء مخصوص فيها يسمى دعاء ليلة النصف من شعبان، ولكن هي ليلة فاضلة؛ لأن الله عز وجل ينزل فيها إلى السماء الدنيا، وهذا حديث حسن أيضاً. وصيام يوم الخامس عشر من شعبان مشروع أيضاً؛ لأنه ضمن الأيام البيض، وإن كان لا يخصص وحده، بل ينبغي أن يصام معه الثالث عشر والرابع عشر، ويجوز صوم يوم الست إذا كان قد صام قبله يوم الجمعة، أو كان له سبب كما إذا كان من أيام البيض كما ذكرنا، والله أعلم. وبعض الأفاضل يضعف الأحاديث، ولكن الظاهر أن لها أصلاً لا تقل عن رتبة الحسن، وقد حسنها الشيخ الألباني والإمام المنذري وغيرهما.

حكم قضاء الصوم لمن في صومه جهد ومشقة

حكم قضاء الصوم لمن في صومه جهد ومشقة Q لي بنتان تصومان رمضان بجهد، فهل الأيام التي تفطران فيها بسبب الحيض يجوز لي الإطعام بدلاً عنهما، أم لابد من الصيام؟ A، لابد من صيامها طالما أنها تستطيع وليست مريضة مرضاً مزمناً لا يرجى برؤه، فيجب عليهما القضاء ولو في أيام الشتاء.

حكم أخذ الأموال من مكان الوظيفة كتعويض عند الاستقالة

حكم أخذ الأموال من مكان الوظيفة كتعويض عند الاستقالة Q ما حكم الأموال التي تؤخذ من الشركات كتعويض للعاملين مقابل الاستقالة؟ A إن كانوا هم الذين عرضوه نتيجة فسخ العقد أو إنهاء العقد فلا بأس بذلك، لكن لا توضع في بنك ربوي، بل يسعى إلى استغلالها في أي مشروع يكون أولى وأفضل، فإن أراد وضعها في بنك فلا يضعها إلا في بنك إسلامي ويتصدق بجزء من الربح.

تعصيب الأخوات للبنات في الميراث

تعصيب الأخوات للبنات في الميراث Q امرأة توفيت وعندها أربع بنات فقط، ميراثها يقسم على أولادها فقط أم أخوات هذه السيدة لهن نصيب؟ A أخواتها لهن نصيب؛ لأن البنات الأربع يأخذن الثلثين، فإن كان منهن ذكراً فله الثلث الباقي؛ لقوله تعالى: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11] وإن لم يكن مع البنات إلا أخوات الميتة فهن أيضاً عصبة في الثلث؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اجعلوا الأخوات مع البنات عصبة).

بيان مكان إخراج الفطرة

بيان مكان إخراج الفطرة Q من ذهب لأداء العمرة في آخر شعبان وعاد في شوال فكيف يخرج زكاة الفطر؟ A يخرجها في المكان الذي يفطر فيه، وإن أخرجها في بلده، أو وكل أحداً بإخراجها جاز ذلك.

حكم عمرة المرأة بدون محرم

حكم عمرة المرأة بدون محرم Q ذهبت أختي إلى العمرة ولم يكن عندها علم أنه يجب عليها أن تذهب مع محرم، فهل يتقبل الله منها بدون محرم؟ A إذا كانت لا تعلم مع أنه كان يلزمها السؤال فنسأل الله عز وجل أن يغفر لها، وأن يتقبل منها، والعمرة صحيحة وإن كانت تأثم لسفرها بدون محرم إلا أن مسألة الرفقة الآمنة فيها اجتهاد سائغ، وإن كنا نرجح عدم جواز السفر إلا بمحرم.

حكم أرباح أسهم الشركات

حكم أرباح أسهم الشركات Q أرباح الأسهم التي تكون في شركة أدوية أحرام هي أم حلال؟ A طالما أن نشاط الشركة نشاط مباح، فالأرباح -إن شاء الله- تكون مباحة.

حكم شركات (بزناس) والاشتراك فيها

حكم شركات (بزناس) والاشتراك فيها Q هناك شركة ذهب تقوم بعمل قلائد بأحجام صغيرة لا تتعدى الخمسة جرام، وعملية التسويق تتم كالآتي: عندما يقوم شخص بالشراء من إحدى شركات السبائك لا يقبض الذهب ولكن يستلم شهادة للسبيكة، ويستلم كرتاً فيه رقم سري يتم تسجيله على موقع الشركة على الإنترنت، وبذلك يسجل المشرتي كعضو في الشركة، ويقوم العضو بعد ذلك بالتسويق للسبائك وله عمولة على ستة أفراد يشترون عن طريقه، وهؤلاء العملاء يأخذون عملة على غيرهم وهكذا، فما حكم ذلك؟ A هذا نوع من الخداع، وهذه الأنظمة كلها أظن أنها أشياء وهمية مجردة، وأول خطأ في هذا الأمر أنه يجب على من اشترى الذهب أن يقبضه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (يداً بيد) فشراء الذهب لابد أن يكون حاضراً بحاضر، فهذا الموضوع خداع، وهو عبارة عن وهم، وهي نفس طريقة البزناس، لكنها هذه المرة على ذهب وهمي، وحتى لو كان حقيقياً فلابد من التسلم والاستلام، فمن يدخل في هذا يدخل من أجل العمولة التي هي في الحقيقة مبنية على احتمال أنه سيخدع قدراً كبيراً من الناس الذين سيخدعون غيرهم، إلى أن تصل الشركة إلى مرحلة معينة، فهذه الشركات الوهمية غالب ظني أنها لو كانت صحيحة فهي لا تجوز؛ لعدم التقابض.

قوة الشعوب والأمم في إيمانها لا في عدتها وعتادها

قوة الشعوب والأمم في إيمانها لا في عدتها وعتادها Q الناس اليوم لا تعرف إلا رغيف العيش والحياة المستورة؛ لضغط الظروف الاقتصادية عليهم، فكيف نطلب ممن همه رغيف العيش أن يعمل للإسلام، وكيف نعالج من حاله: لا حياة لمن تنادي؟ A أنا موقن أن هناك حياة في من أناديهم، وانظر إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ كانوا ثلاثمائة مع أبي عبيدة رضي الله عنه في سرية زادها جرام تمر، ومصير كل واحد منهم وهم يذهبون إلى قتال الأعداء تمرة كل يوم، وفات أحدهم ذات يوم تمرته فوقع الرجل لعجزه عن الحركة حتى شهد له أصحابه أنه لم يأكل تمرته فأعطاها له، ونفد التمر حتى أخرج الله لهم حوت العنبر، فهؤلاء كانت عندهم همة للإسلام. وحديث صحيح يرويه ابن عمر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب إلى عيادة سعد بن عبادة ومعه خمسة عشر صحابياً تقريباً، وليس عليهم قمص، ولا عمائم، ولا أردية، ولا خفاف، ولا نعال، إلا الأزر، فهذا كان حال أهل الإسلام الأول، وهؤلاء هم الذين أدخلنا الله بهم في الإسلام، وهم الذين جاهدوا وتحملوا الصعاب حتى انتصر الإسلام، ورغيف العيش الذي تهمه وتقلله في نظرك يصبح بكثرة تذكر الآخرة، وبكثرة التذكر للقاء الله عز وجل، وبتعظيم ما عظمه الله عز وجل من معاني الإيمان نعمة عظيمة، وتشعر بأنك قد أخذت كثيراً جداً، وحينها اعلم أن الله عليك بفهم آية؛ لأنك أغنى من كل أصحاب الملايين؛ ولأنك تذوقت طعم آية أو حديث عرفته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو ذقت حلاوة سجدة دعوت الله فيها صادقاًَ من قلبك. روى سهل بن سعد قصة زواج الواهبة نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم والصحابي الذي يريد أن يتزوجها وليس معه إلا إزار، فيقول سهل رضي الله عنه: ما له رداء، ويقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهب فالتمس شيئاً، فذهب يلتمس وأتى وقال: لم أجد شيئاً، فقال: اذهب فالتمس ولو خاتماً من حديد، فذهب يبحث ثم رجع ولم يجد خاتماً من حديد، قال: لكن يا رسول الله! هذا إزاري فلها نصفه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما تصنع بإزارك! إن لبسته لم يكن عليها منه شيء)، وتخيلوا أن الإنسان يتزوج ولا يجد شيئاً، إذ لو كان عنده نعل لأعطاه، ولو كان عنده رداء لأعطاه، فهو لا يجد في البيت شيئاً ولا حتى خاتماً من حديد، فهذه طبيعة الحياة التي عاشوها، فكانوا دعاة ومجاهدين لا يبالون بالدنيا، ولنقرأ كتاب فضل فقر الصالحين، ونتشبه بهم في الكماليات، ولسنا قادرين أن نستغني عنها، حتى أصبحت بالنسبة لنا ضروريات، وانظروا إلى من أراد أن يتزوج كيف يشترط عليه شروط، ويشترط عليهم شروطاً فوق طاقة الأب الذي سيزوج ابنته، وهذا مثال فقط حتى نرى ما نحن فيه من العبث.

فألقي السحرة ساجدين

فألقي السحرة ساجدين إن للحق نوراً يقذف في قلب صاحبه فيجعله يتحول من أسفل سافلين إلى أعلى عليين، وذلك ما يظهر بجلاء في سحرة فرعون حين سطع الإيمان في قلوبهم. وقصة سحرة فرعون ذات حكم وأسرار، إذ أنها كانت مناظرة تاريخية بين الحق والباطل، ولذا فإن الله ذكر تفاصيلها وكرر ذكرها؛ لأنها قصة نصر وعزة، وما كان كذلك فالقرآن يفصله أكثر؛ حتى تطمئن قلوب المؤمنين بالحق التي هي عليه.

حال السحرة قبل كفرهم

حال السحرة قبل كفرهم الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم. أما بعد: فإن من بيان القرآن العظيم بيان ما يفعله الإيمان في شخصية الإنسان، وتحويله هذه الشخصية تحويلاً عجيباً في لحظات، فيرفع صاحبه من أسفل سافلين إلى أعلى القمم، وهذا ما نلحظه في حال السحرة، فلقد جاء السحرة من كل مكان ولهم هم واحد وهو المال، يسيل لعابهم للأجر الذي يتوقعونه من فرعون، وذلك مما يُشْعر بالجشع وحقارة النفس، وقد قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الشعراء:41 - 42] أي: أنه زادهم أكثر من المال وهو التقريب من فرعون، فالتقرب منه له منافع عديدة عندهم، وسوف يؤدي إلى مصالح أكثر من الأموال بكثير، فيجدون أموالاً مستمرة، ووجاهة ومنزلة، وهكذا كانوا يرون قبل هدايتهم أن هذا الذل الذي هم فيه هو سعادتهم، مع أن فرعون كان يكرههم على السحر، لكنهم كانوا يرون أن هذه هي أنسب طريقة للبحث عن العلو في الأرض والكبرياء، وكان لديهم اهتمامات شيطانية وحيوانية والعياذ بالله، قال عز وجل عنهم: {قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا} [طه:63]، والعجيب أنه لم يحصل مرة أن سيدنا موسى طلب منهم أن يخرجوا من الأرض، ولكن فرعون اخترع هذا وافتراه، وأقنع به كل من حوله حتى صارت عندهم قناعة أن موسى يريد أن يخرجهم من الأرض، مع أن الطلب الذي يريده موسى هو أن يؤمنوا بالله وبرسله، أما خروجهم من مصر فلم يطلبه منهم، وإنما هذا كذب من فرعون، فتابعه قومه في غباء وجهل عظيم. قال تعالى: {قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} [طه:63] أي: أن الطريقة التي كانوا عليها يرونها أنسب طريقة، مع ما فيها من الخلل العقائدي والفكري والعملي والسلوكي، والتبعية المهينة والعبودية لفرعون، فكان يقول: أنا ربكم الأعلى، والناس قد تعودوا على الطاعة العمياء إلى درجة أنهم دخلوا البحر وراءه في مغامرة عجيبة والعياذ بالله، ومع ذلك يرون أنها الطريقة المثلى {فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى} [طه:64] وهذا العلو من الاهتمامات الشيطانية التي كانوا يتمنونها.

تحول حال السحرة بعد إيمانهم

تحول حال السحرة بعد إيمانهم تحول هائل قال عز وجل: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الشعراء:46 - 48]، وهذا تشريف عظيم لموسى وهارون عليهما السلام، {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} [الأعراف:123]؛ لأنه تعود أن كل عمل يحتاج إلى إذن منه حتى الإيمان والعياذ بالله، فكأنه يقول: كيف تعملون هذا دون إذني، فقال تعالى: {آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * A=6001077> لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف:123 - 124]. وإن الذي يبحث على المال والقرب من فرعون، والعلو في الأرض، عندما تنزل عليه هذه العقوبة غير المحتملة فإنه سوف يدع الكل ويرجع ليركع مرة ثانية، ولكن إذا بالسحرة الذين صاروا مؤمنين ولم يعودوا سحرة كما كانوا، تغير حالهم كما قال: عز وجل عنهم: {قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ} [الأعراف:125]، وأصبحت عندهم اهتمامات أخرى وهي: قضية الإيمان بالآخرة ولقاء الله عز وجل، والانقلاب والرجوع إليه سبحانه وتعالى: {قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ * وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا} [الأعراف:125 - 126]، أي: أن حقيقة الأمر أنه لا يوجد مكر مكرناه، بل هو صاحب المكر، فهو الذي جمع السحرة من كل مكان، وحقيقة الأمر أنه ما نقم منهم إلا أنهم آمنوا وقالوا: {وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا} [الأعراف:126]، وذلك لقوله تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8]. فواجهوه بهذا الدعاء، فإذا بهم يعرفون الله عز وجل، وأنه هو الذي يصبر عباده، وأنه هو الذي يتوفى من شاء على الإسلام، ويقلب القلوب سبحانه وتعالى: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [الأعراف:126]، وقد قال السحرة كما في سورة الشعراء: {قَالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ * إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:50 - 51]، وهنا صارت لهم منافسات أخرى، فكان طمعهم في المال فصار طمعهم في مغفرة الخطايا، وهنا طلبوا أن يكونوا مقربين من الله، وأن يكونوا أول من آمنوا، وقبل هذا كان الذي يغريهم هو القرب من فرعون، وأرادوا الآن التنافس في أن يكونوا أسبق إلى الله: {أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:51].

صبر السحرة على الابتلاء

صبر السحرة على الابتلاء قدر الله عز وجل أن يسلط فرعون على أبدانهم، وأن يصلبهم ويقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، أي: يقطع اليد اليمنى مع الرجل اليسرى، أو الرجل اليمنى مع اليد اليسرى، ويصلبهم في جذوع النخل، ورغم هذه الهزيمة الفظيعة لفرعون، والتي كانت بالحجة إلا أن فرعون وجد من يطيعه ويفعل ذلك. قال ابن عباس عن السحرة: كانوا أول النهار سحرة وآخر النهار شهداء بررة. أي: أن هذه آية على حسن الخاتمة، وأن الله يهدي من يشاء، فإن هؤلاء الناس عاشوا حياتهم كلها في السحر والضلال، والتلبيس على الناس، وإعانة فرعون على باطله، إلا أن خمس أو ست ساعات جعلت نهايتهم أسعد النهايات. قال عز وجل عن فرعون: {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} [طه:71]، والعجيب أن الله ساق على لسان فرعون ما يثبت به السحرة، لأنه لفت نظرهم فقال الله على لسانه: ((وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى))، إلى أنهم أيقنوا أن الله أشد عذاباً وأبقى، ومن أجل هذا استحضروا أنهم قادمون على الله، فصغرت الدنيا عندهم، وصغرت المدة التي يهددهم فرعون فيها بالتعذيب والنكال الفظيع، فأجرى الله على لسان فرعون ما ثبتهم الله عز وجل به، وذلك أنهم عندما قارنوا -بدلالة أفعل التفضيل التي تقتضي التفاضل- بعذاب فرعون عذاب الله أيقنوا أن عذاب الله أشد، وفرعون يظن أنه هو الأشد عذاباً وأبقى والعياذ بالله، فلما قارنوا وكانت المقارنة محسومة: {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72]، وهذا جواب على قوله: {أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} [طه:71]، ثم قالوا: {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} [طه:73]، وهذا دليل أن بداية ممارستهم للسحر كان إكراهاً، فلما تعودوا على الإكراه واستمرءوا الأمر أصبحوا جنوداً لفرعون والعياذ بالله. وليس بعذر للمرء أن يختار الباطل إذا بُدئ بإكراه إذا لم يكن قلبه مطمئناً بالإيمان، فهم قالوا: {وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:73]، فأعلنوا أن الله عز وجل خير ثواباً وأبقى سبحانه وتعالى. قال تعالى حاكياً قولهم: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى} [طه:74 - 75]، هذا وعمرهم في الإيمان ساعتان أو ثلاث ساعات، ولكن -سبحان الله- لقد خرجت هذه الكلمات المنيرة التي خلدها الله عز وجل بذكرها في القرآن العظيم منهم، وهذه الأقوال كانت مما يذكرهم بها سيدنا موسى عليه السلام، ولكنهم لم يكونوا متنبهين لها قبل ذلك، ولكن الإيمان هو الذي نقلهم إلى الإحساس بها والشعور بها فقالوا: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} [طه:75 - 76]، فحسن التزكية وتطهير النفس، سبب في دخول الجنة

طريقة القرآن في تناوله لأحداث التاريخ

طريقة القرآن في تناوله لأحداث التاريخ إن مما جعل الله عز وجل في القرآن أنه شفاء لما في الصدور وهدى ورحمه للمؤمنين، فالله عز وجل يشفي به صدور المؤمنين من الآلام والهموم والأحزان، وذلك مما علمه النبي صلى الله عليه وسلم للمهموم، فأمره أن يدعو فيقول: (اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي). ومن عظمة القرآن أنه عند طريقة تناوله لأحداث التاريخ، تشعر عند قراءتك له أنك تتجاوز الزمان والمكان، وتعيش في اللحظات المسعدة المبهجة، وكأنك واقع فيها؛ لأن الإنسان إنما يتألم ويحزن على الواقع المؤلم الذي هو فيه، وعلى قهر الرجال وغلبة الدين، وعلى الظلم والفساد، وعلى ضياع أشياء كثيرة جداً، وأهل الإيمان يكون من همومهم وغمومهم عدم التمكن من إقامة الدين، وتسلط الكفرة والمجرمين والظالمين، ولا شك أن هذا من أشد ما يؤلم أهل الإيمان، ويجعل في قلوبهم غيظاً، كما قال عز وجل: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} [التوبة:14 - 15]، وهذا ألم يحتاج إلى شفاءً، وكما يجد كل مؤمن في زماننا هذا الألم مما يفعله اليهود والنصارى والمشركون بالمسلمين في أقطار الأرض ولا يجد له شفاء إلى الآن، فلم ير ما يشفي صدره، ولهذا فإن الناس يفرحون بأي مصيبة تنزل بالكفرة حتى ولو كانت فيها مفاسد أخرى، وهذا الغيظ هو مما يفعله الكفار، وتأمل طريقة القرآن لعلاج هذا الهم والحزن، فنجد أن القرآن يتحدث عن لحظات النصر والتمكين للمؤمنين في مساحة واسعة، ومذكورة بتفصيل رائع، حتى يأخذ القرآن القلب بعيداً عن الواقع المؤلم الذي يكون فيه، ويظهر ذلك في سورة الأعراف، وهي سورة مكية، ومثلها سورة يوسف، وسورة القصص التي تناولت قصة بني إسرائيل وقصصاً أخرى. فالقارئ تأخذه الآيات بعيداً عن هذا الواقع، وتجعله يعيش في لحظات انتصار الحق وكأنه حاضر تلك اللحظة، فهذا من أعظم أسباب السعادة وشفاء الغيظ والجرم والهم والحزن. وإننا نشهد عبر التاريخ انتصارات متعددة، ليست خيالاً بل حقيقة، ولحظات الابتلاءات رغم أنها طويلة الزمن، ولكنها تذكر في القرآن في كلمتين أو سطرين أو قريباً من ذلك، ولحظات التمكين والنصر والعز لأهل الإيمان، رغم أنها قد تكون ساعات أو لحظات معدودة، إلا أنها تفرد بمساحة واسعة، وتذكر بأدق تفاصيلها؛ ومنها: الموقف الذي وقع فيه نصر الله عز وجل لموسى يوم الزينة، فيجد القارئ تفاصيل الموقف قد ذكرت في عدة مواطن من القرآن بأروع تفصيل؛ لتفاعل خلجات النفوس عند تفصيلها، كل لحظة بلحظتها.

صورة من أسلوب القرآن في قصة يوسف عليه السلام

صورة من أسلوب القرآن في قصة يوسف عليه السلام سيدنا يوسف من الابتلاء بمكان، حيث قد خلد الله في القرآن ذكره بأسلوب رائع، وذلك أنه بقي في السجن بضع سنين، ومضت المدة، وذكرت في جملة واحدة قال تعالى: {فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف:42]. ولكن نرى لحظات التمكين في هذه القصة ذكرت بتفصيل دقيق من قوله تعالى: {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ) [يوسف:43] إلى قوله: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55]، وكلها تفصيل دقيق، بحيث يعيش القارئ فترة من السعادة، فيوسف في السجن والناس يحتاجونه، فلما ذهبوا إلى السجن، وسألوه عن تفسير رؤيا الملك فأجابه يوسف بكل عزة وكرم، وما قال: صفني عند الملك، ولا أعطى له سيرة ذاتية، بل قال لهم ما يحتاجونه، وما قال للسائل: أنت نسيتني عند الملك، فلماذا لم تقل له؟ بل الرجل نفسه يقول له: فسر هذا لعلي أرجع إلى الناس، يعني: يرجع ويتركه في السجن، ولم يقل للملك: أخرجوا يوسف، وإنما قال الرجل: أرسلوني أنا، حتى يأخذ لنفسه مكانة، قال تعالى حاكياً عن الرجل: {أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ} [يوسف:45]، فذهب إليه، وأخذ من يوسف تأويل الرؤيا، ولكن ربنا قدر ذلك؛ لتكون هذه القضايا بمثابة سلالم ومراحل يرتفع بها سيدنا يوسف. وقد أساءوا إليه أعظم إساءة، وسجنوه سبع سنين أو خمس سنين ظلماً وعدواناً، على ما اتصف به من الطهارة والنقاء، وليس على جريمة ومع ذلك يؤول لهم شيئاً شغلهم، وليس فقط يؤول لهما الرؤيا، بل يحل لهم مشكلة اقتصادية سوف تحصل: {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ} [يوسف:47]، إذاً فلم يخبرهم بالخطب فقط، بل أعطاهم الحل أيضاً: {فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ} [يوسف:47] أي: لا تأكلوا كثيراً، بل كلوا قليلاً واتركوا الباقي في السنابل؛ لأن هذا سينفعكم. {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ} [يوسف:48] أي: ادخروا وتحصنوا، ثم زادهم فأخبرهم عن شيء لم يرد في الرؤيا: {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ} [يوسف:49] وهذا مما جاءه من الوحي، {وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} [يوسف:49] أي: سوف يأتي لكم فرج بعدها، والإنسان عندما يكون في بلاء ويتوقع فرجاً يكون أهون عليه، لكن لو لم يكن عنده أمل في الفرج ولا يعلم متى تنتهي مشكلته، سيكون في وضع يبقى صعب جداً، ويوسف عليه السلام أخبرهم بأنه سوف يأتي فرج دون أن يطلبوا منه ذلك، فصلى الله وسلم على يوسف، ما أحلمه وما أكرمه! قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو كنت مكانه لما أولت لهم الرؤيا -الحديث في معناه- حتى يخرجوه)، أي: حتى أشترط أن يخرجوني من السجن، والحديث فيه إرسال لكن معناه حسن، فانظروا لما كان الأمر فيه نعمة تكلمت عنه الآيات بتفصيل رائع جداً، وكلها ترفع من قدر يوسف عليه السلام. ثم قال تعالى: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ} [يوسف:50]، وهذه غير (ائتوني به) التي بعدها، لذا كان بقدرة سيدنا يوسف أن يخرج بشفاعة الخمار وأن يقول له: هناك شخص مسجون فأخرجوه، لكن الشيطان أنسى الفتى أن يذكر يوسف، وكان ذلك في الحقيقة لمصلحة يوسف، لأن خروجه بشفاعة الخمار غير خروجه بشفاعة الملك، ولذا فإن الملك بعدها قال: {ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} [يوسف:54]، فارتفع يوسف أكثر بهذا الكلام، ولكنه مع ذلك يقول: (ارجع إلى ربك)، فأصبح السجن عنده ليس هماً أكبر، بل أكبر من ذلك طلب إثبات براءته، فكأنه يقول: إثبت براءتي قبل أن أخرج من السجن، وكان بإمكانه أن يقول: أخرجوني واعملوا الذي تريدونه، ولذا جاء في الحديث الصحيح: (لو كنت مكانه لأجبت الداعي) أي: داعي الخروج. قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [يوسف:50]، أي: أن ربك لا يعرف شيئاً، لكن ربي ((بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ))، ففي مملكة الملك تحصل أشياء لا يعرفها الملك، ولكن يسأل الملك ويتثبت فتفتضح امرأة العزيز بطريقة عجيبة، فعلاً إنها لحظات مبهجة للنفس، إذ أن الباطل يضمحل: {الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ} [يوسف:51]، ويأتي الملك بالناس والنسوة كلهن، وكأن يوسف سيدخل تهمة فظيعة: {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف:51]، فسأل وعرف قبل أن يواجه الجميع؛ لأنه يقرر حقيقة وهي أنكن راودتن يوسف عن نفسه {قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ} [يوسف:51]، سبحان الله! وتنزيه لربنا أن يحصل ذلك من شخص بهذه المثابة، {مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ} [يوسف:51] وهذه تبرئة عظيمة جداً {قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ} [يوسف:51] وهذه تبرئة أكبر ليوسف عليه السلام، فهذه امرأة العزيز برأته، والنسوة برأنه، وثبتت براءته عند الملك، ولك أن تتخيل هذه الفضيحة للنسوة، وقد أنزل الله بهن جزاء وفاقاً؛ لأنهن راودن يوسف عن نفسه وكدن به، وهو قد دعا فقال: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ} [يوسف:33]، فافتضحن أمام الملك وأمام أزوجهن، وتخيل زوج كل منهن ماذا سيكون موقفه، ولكنهم هم السبب؛ لأنهم أزوجهن الذين أدخلوا يوسف السجن وليس النساء، فكان ذلك موقفاً مخزياً للباطل ومظهراً للحق، فقارئ هذه الآيات يلاقي شيئاً جميلاً، فيجعله يستريح وهو جالس في أي مكان {قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف:51]، يا للذل! إن المرأة نفسها تخجل أن تقول لزوجها مثل هذا الكلام، بل المرأة الحقيقة قد تخجل من هذا الكلام فيما بينها وبين زوجها، فضلاً عن أن تقوله أمام الناس، بل الأدهى أن تقول ذلك عن شخص أجنبي وأمام كل الملأ: {أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف:51]، فهذا ذل، وقد قالت من قبل: {وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ} [يوسف:32] فمن الذي صغر هنا؟! إنها هي التي صغرت صغاراً عجيباً.

صورة من أسلوب القرآن في قصة فرعون مع موسى وبني إسرائيل

صورة من أسلوب القرآن في قصة فرعون مع موسى وبني إسرائيل إن فرعون قد امتد تعذيبه لبني إسرائيل من قبل ولادة سيدنا موسى إلى بعد وجود سيدنا موسى، فهو الذي يقول: {سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف:127]، وهذا كان بعد واقعة السحرة بزمن، أي: أقل تقدير فيه أربعون سنة، والموجود في التوراة نقلاً عن بعض أهل العلم أن المدة أربعمائة سنة والله أعلم، وأعتقد أنها مدة طويلة جداً، قال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:4]، وذلك التسلط والبلاء الذي لم يوجد مثله قط في التاريخ، صورة غير محتملة من التعذيب، والناس يحزنون لأنهم يدخلون السجن خوفاً من الضرر، والطفل الذي يولد يقتل ويذبح أمام أمه، بل {وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} [القصص:4] أي: للخدمة، فتخيل اليوم الكفرة عندما يقتلون أولاد المسلمين خوفاً منهم، أو يأخذون بعض النساء كالعراقيات أو الفلسطينيات في إسرائيل ليخدموا من في بيوت اليهود، ويقيدونهن في بيوتهم، أيضاً المسلمون في معظم البلاد الإسلامية يتعرضون لانتهاكات كثيرة، وفرعون كان يقتل أولادهم الذكور، ولم يقل: هذه السنة سوف نعفي الناس من ذلك، وكلمة (ويذبح) أشد من يقتل؛ لأن في الذبح تعذيب للنفس الإنسانية، ويصعب على الشخص أن يرى ابنه يذبح، وسيدنا موسى جاء الذباحون معهم السكاكين، ولهذا فإن أم موسى ألقته في اليم، وكان ذلك أهون عليها من أن تراه يذبح أمامها. ومكث فرعون على ذلك مدة طويلة، ولكن الله ذكرها في جملتين، وأما لحظات النصر من أولها تطول وتكرر، وأسرار التكرار في القرآن شأنها عجيب جداً؛ لأن كل موضع مختلف عن الموضع الثاني، فيأتي لك بأجزاء من القصة، بحيث تجد فيها تفصيلاً غير التفصيل الآخر، فتعرف في النهاية مجمل المسائل التي حصلت. قال تعالى: {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} [طه:59] فحدد ذلك التوقيت، وهو يوم الزينة عند اجتماع الناس في وقت الضحى. قال تعالى: {فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى} [طه:60]، وتخيل الموقف إذ فرعون آتٍ بأبهة وغرور، فحضر الملك والجنود والسحرة والوزراء وكل الناس {وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ} [الشعراء:39]، وهناك إعداد نفسي: {لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} [الشعراء:40] أي: هم الذين سيغلبون فنتبعهم، وقد جاء الحوار في سورة طه وفي غيرها، وتفاصيل هذا اليوم مذكورة بالتفاصيل؛ لأنه يوم نصر وعزة {قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [طه:61]، فكرر عليهم هنا موسى الدعوة مرة أخرى، وهذا هو المقصود أصلاً من الدعوة إلى الله عز وجل، وإن كان جمع الناس ليبين لهم معجزة مادية، ولكن قبل ذلك لا بد من الكلام المعنوي المهم، وهو التذكير بمعاني الإيمان والدعوة إلى الله عز وجل: {وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى * فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} [طه:61 - 62]. فلمجرد أخذ رأي ثان ترددوا قليلاً، وفي هذا دليل على أن الباطل ليس مستقراً، بل هو مزعزع؛ لأنه دائماً يسير في طريق القطيعة، ويتبعه ضعفاء الإيمان الذين تقال لهم الكلمة فيذهبون وراءها دون عقيدة راسخة. قال تعالى: {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى * قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى * فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى} [طه:62 - 64]. ومثله في سورة يونس: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ) [يونس:78]. فسيدنا موسى يريد أن يقول: هل تتخيلون أن الناس كلهم مثلكم، وأن القضية بالنسبة لهم: من الذي له الكبرياء؟ أو من هو المستعلي على الآخر؟ وكان سيدنا موسى يمكن أن يتهمهم كما يتهمون أهل الإيمان دائماً أنهم يريدون الرياسة والملك، ولا يريدون الدين، أو أنهم يريدون الكبرياء في الأرض، ويريدون أن يتفضلوا على الناس. {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى} [طه:65]، فقال: (بل ألقوا). وفي سورة الأعراف قال عز وجل: {قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ} [الأعراف:113 - 115]. وهذا دليل على أنهم بمجرد ما سمعوا من فرعون ذلك الوعد استعدوا للمواجهة، وقالوا: ألق يا موسى! ونحن سنلقي: {إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ * قَالَ أَلْقُوا} [الأعراف:115 - 116] وهذا أمر، وفى سورة طه: {قَالَ بَلْ أَلْقُوا} [طه:66] ففي الآية الأولى: (ألقوا) أي: أنتم، وهذا استهانة بهم وتحقيراً لشأنهم. وتلك لحظات عظيمة جداً أفردت بمساحة واسعة جداً في الذكر؛ حتى تشفي صدور المؤمنين من فرعون، فهو الظلم الغشوم، وهو إمام يدعو إلى النار، والرسول صلى الله عليه وسلم قد قال عن أبي جهل: (هذا فرعون هذه الأمة) أي: أن كل أمة لها فرعون، ففرعون شخصية طاغية متكررة الأوصاف قال تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} [القصص:41] أي: بسلوكه وعمله، أما هو فقد مات، لكن طريقة فرعون ومنهجيته في الظلم مسجلة في التاريخ، ولها أناس يمشون عليها، وسيغرقون نفس غرقه والعياذ بالله من الهلاك. فمن شفاء القرآن لما في الصدور أن اللحظات العظيمة تذكر بالتفصيل، وهذا يبهج النفوس المؤمنة، ويذكرها بأيام الله سبحانه وتعالى قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} [إبراهيم:5]، فالتذكير بأيام الله من أعظم أسباب الثبات على الحق؛ لأنه هناك لحظات من أيام لله عز وجل قد ينطفئ فيها الإيمان وتمكث مدة طويلة، حتى إن الأمة تضجر، وتقول: متى تأتي لحظة الفرج؟ فعندما تتذكر أمثالها من أيام الانتصار والفرج تهون مصائب الطريق، ويهون البلاء، ويمر سريعاً دون أن يؤثر في النفس المؤمنة. وقصص الأمم السابقة التي أخبر الله عنها لم تكن عربية، وإنما الخطابات في القرآن هي ترجمة أو لمعاني كلامهم بأدق شيء، وهذا من إعجاز القرآن، فهذه الكلمات التي وقعت وعبر عنها بهذه الدقة البالغة، فالمعاني كانت موجودة في ألسنتهم لكن لا يوجد أحد يترجمها من البشر بهذه الطريقة القرآنية أبداً، فذكرت هذه الألفاظ لبيان تلك المعاني بأكمل وجه. وتفاصيل القرآن للقصة الواحدة في عدة مواطن له حكم وفوائد وأسرار عظيمة، فهي ليست مجرد تكرار عادي، وفي بعض المواطن تكرار ظاهري فقط، فمثلاً: السحرة كانوا عدة آلاف، وقد يكون بعضهم قالوا: (أئن لنا مرة)، ومرة أخرى قالوا: (إن لنا) فكل هؤلاء يريدون أن يظهروا تبعيتهم لفرعون، ولا مانع أيضاً أن يكون بعضهم قال: (رب موسى وهارون) وبعضهم الآخر قال: (آمنا بربنا) فحكى الله القولين. وبعضهم قال أيضاً: (رب هارون وموسى) فبعضهم قدم اسم موسى وبعضهم قدم هارون، فمن قال: (هارون وموسى) فهو قاله مراعاة لسيدنا هارون، لأن سيدنا هارون أكبر في السن، ومن قال: (موسى وهارون) راعى موسى من جهة الدين.

فتنة بني إسرائيل

فتنة بني إسرائيل بعد أن من الله على بني إسرائيل بأن أنقذهم من فرعون أمر الله موسى أن يخرج بهم جميعاً لوعد الله، فتقدم موسى وكلمه ربه، فكان سيدنا موسى في قمة السعادة وهو يسمع كلام الله عز وجل، ومن شدة الشوق إلى الله سأل الله عز وجل النظر إليه وقال: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُر إِلِيْكَ} [الأعراف:143]، ومكث سيدنا موسى أربعين ليلة يصوم نهارها ويقوم ليلها، وتخيل سيدنا موسى عليه السلام الذي أنزل الله عليه الوحي ويصوم النهار ويقوم الليل ماذا سيفعل الأربعين يوماً فيه؟! بلا شك أن الإنسان سيجد في نفسه اختلافاً عند صيام النهار وقيام الليل، فوجد في نفسه حالة عظيمة جداً من الشوق إلى الله عز وجل، إضافة إلى ذلك أنه يسمع كلام الله، فلم يتحمل موسى لترك هذا الطلب مع أنه طلب، ولكنه من شدة الشوق قال: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف:143] قال ذلك شوقاً إلى الله وحباً له عز وجل، ونتيجة للعبادة العظيمة المتواصلة أربعين يوماً، وعجل سيره ليرضى الله عز وجل عنه، وإذا به يسمع هذا الخبر المؤلم؛ والله سبحانه وتعالى يبتلي عبادة بما شاء، فهذا ليس منافياً لكرامة سيدنا موسى عند ربنا، لكن الله سبحانه غضب؛ لأن أتباع موسى وقعوا في الفتنة.

غضب موسى من ضلال قومه

غضب موسى من ضلال قومه قال تعالى: {فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} [طه:85] وإذا بسيدنا موسى يصاب بحالة غضب وأسف، وحزن شديد جداً، كما قال تعالى: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ} [الأعراف:150]، والعجيب أنهم ما كانوا متمسكين بالعقيدة كتمسكهم بسيدنا موسى، فأخذ سيدنا موسى العجل وحرقه ونفثه في البحر، وهم سامعون مطيعون، وسيدنا هارون قد قال لهم: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي} [طه:90]، وكادوا يقتلونه والعياذ بالله وقالوا: {لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} [طه:91] وإذا بسيدنا موسى من شدة الغضب يريد أن يعمل شيئاً، فأمسك بأخيه هارون؛ لأنه كان في ظنه أن هارون مقصر، ولم ينصح القوم مع أنه نبي مثله ورسول، فألقى الألواح ليتفرغ لذلك، ولم يلقها إهانة لها، بل ألقاها كشخص في يده شيء، ويريد أن يتخاصم مع شخص فيرى ما في يده، وما فعله موسى كان غضباً لله عز وجل، كيف أن سيدنا هارون تركهم، (وأخذ بلحيته) وكان سيدنا موسى قوياً، فإذا به يجره إليه من شدة غضبه لله عز وجل، وسيدنا هارون أكبر منه سناً، لكن من شدة الغضب لله عز وجل، فعل ذلك {قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه:92 - 93]، وسيدنا هارون كان لديه طريقة جميلة للرد (قال يبنؤم) أي: أنه ابن أبيه وأمه، ولكن تذكيره له بصلة الرحم من جهة الأم هنا أنسب؛ لأن الأم الرقيقة الحنونة التي رعت سيدنا موسى وضحت من أجله، وفي سورة الأعراف: {قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأعراف:150]، فكان بهذه الطريقة أن سكن غضب موسى، ودعا واستغفر لأخيه: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي} [الأعراف:151]، فبدأ بنفسه؛ لأنه هو الذي أخذ أخاه وجره إليه، وقد قال له هارون: ((قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي)). وأتى له بعدة أعذار منها: أنهم كادوا أن يقتلوه ((إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي))، ومنها: لكيلا يشمت به الأعداء ((فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ)) ومنها: عملك هذا سوف يجعلهم يقولون: إني ظالم، وأنا لم أظلم، ((وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)) فلا تعاملني معاملة الظلمة، ومنها كما في سورة طه: {قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه:94] فموسى لو كان مكان هارون فسوف يأخذ المؤمنين ويترك الكفرة، فرأى سيدنا هارون أن المصلحة تقتضي أن يجعل بني إسرائيل في مكان واحد، لا أن يتفرقوا، وهو قد دعاهم إلى الله، والله قد شهد له أنه بلغ، كما قال: {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ} [طه:90]، فهو لم يقصر في الدعوة، ولا في إنكار المنكر، ولكنهم لم يستجيبوا له، ولديهم تبعية عجيبة لسيدنا موسى، وتبعية لما يقولونه حيث يسمعوا كلامه في قتال الجبابرة، فسيدنا هارون أتى بحجج متعددة: عدم استجابة بني إسرائيل، وأنه مستضعف، وأنهم كاد أن يقتلوه، وأنه قد بلغهم فعلاً ولم يكن من الظالمين، وأنه يجوز إشمات الأعداء به، فهنا لان موسى عليه الصلاة والسلام، وخصوصاً عندما ذكره أنه ابن أمه، وهذه طريقة جميلة لتسكين غضب الأخ.

استشكال وجوابه

استشكال وجوابه قد يقول قائل: ما هو الفرق بين طلب بني إسرائيل رؤية الله وبين طلب سيدنا موسى لذلك؟ و A أن الفرق بينهما كالفرق بين الثرى والثريا، فهؤلاء أناس قالوا: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة:55] أي: أنهم ليسوا بمؤمنين والعياذ بالله، بل يستحقون نزول الصاعقة عليهم، ومع ذلك يشترطون لإيمانهم بالله رؤيته. أما طلب سيدنا موسى فكان من شدة الشوق والحب لله عز وجل، وطلبه ليس مشروطاً لإيمانه بل هو مؤمن، ولكنه يريد الدرجة الأعلى، وإلا فكمال الحب كيف يوجد مع الشك أو عدم الإيمان؟! فالذين قالوا: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً) [البقرة:55] فد كفروا بعبادة العجل وليسوا كلهم عبدوا العجل، فقوله: ((فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ)) أي: بعض قومك، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ} [الأعراف:152]. إذاً: هناك أناس اتخذوا العجل، وهنا أناس ليسوا كذلك، وقوله تعالى: (اقتلوا أنفسكم) أي: اقتلوا الذين عبدوا العجل، وإن كان هذا الخطاب عاماً في ذم بني إسرائيل؛ فهو يتناول الأغلب الأعم، ويعد في التاريخ من فعل بني إسرائيل، وذلك يعم الموجودين أيام النبي عليه الصلاة والسلام، ويعم الموجودين في أيامنا ممن يعملون هذه الكفريات، فيقال لهم: أنتم الذين عملتم؛ لأنكم أنتم راضين بهذا أو بمثيله، أو عملتم مثيله. ولما أمر الله موسى عليه السلام للخروج مع رجال معه إلى ميقات الله تعالى اختار رجالاً وكان ذلك بانتقاء، لأنه لا ينفع العدد الكبير، فاختار موسى سبعين رجلاً هم قادة الأمة، واختار الأمثل فالأمثل. إن من أهم الأشياء عمل القلب، والسحرة قالوا لفرعون: إنا آمنا. والإيمان هو: قول وعمل في القلب، فهم تركوا الباطل وصروا على إيذائهم كما قالوا: ((رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا)) وهذا عمل، ((وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ)) ونطقوا بالشهادة وهذا عمل، وهذا إيمان وعمل عظيم جداً ليس له نظير من كثير من الناس. وسبب كثرة تكرار هذه القصة في القرآن: أن هذه قصة بناء أمة ليس لها نظير في الأمم السابقة، وأشبه سيرة بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم في الناس، فكانت هذه السيرة بمثابة الوقود والنور الذي يبين للنبي صلى الله عليه وسلم ولأصحابه الكرام ما يلزم فعله في مواجهة الباطل، وسوف تبقى عبر العصور كذلك؛ لأن هذه السيرة أكثر قصة تكررت في القرآن من قصص الصراع بين الحق والباطل بوضوح وجلاء بين، فيحتاج المسلمون أن يعرفوا تفاصيل هذا الصراع لكي يستفيدوا منه. ثم إن الصفات القبيحة التي وقعت من بني إسرائيل أراد الله بذكرها في القرآن تحذيراً للأمة، أن لا تعمل مثلهم، وهذه الصفات القبيحة ذكرها الله أيضاً لكي نعرف عدونا الذي سوف يستمر معنا بمعرفتنا صفاته عبر التاريخ.

إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين

إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين يبين الله عز وجل في آيات محكمات من سورة آل عمران أن الهزيمة التي وقعت للمسلمين في غزوة أحد إنما كانت بسبب ذنوبهم، ومخالفتهم لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنه تلطف بهم، وصد المشركين عنهم، وقذف في قلوبهم الرعب، وأزال من رءوسهم فكرة استئصال المسلمين.

أمراض الشعوب المهزومة التي حذرنا الشرع منها

أمراض الشعوب المهزومة التي حذرنا الشرع منها

مرض الضعف والوهن

مرض الضعف والوهن الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد: فيقول الله تعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ * وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ * وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ * سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ * وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139 - 152]. قال ابن القيم رحمه الله في فوائد هذه الآيات والدروس المستفادة من قصة غزوة أحد: لما علم القوم أن العدو إنما يدال عليهم بذنوبهم، وأن الشيطان إنما يستزلهم ويهزمهم بها، وأنها نوعان: تقصير في حق، أو تجاوز لحد، وأن النصرة منوطة بالطاعة ((قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا))، ثم علموا أن ربهم تبارك وتعالى إن لم يثبت أقدامهم وينصرهم لم يقدروا هم على تثبيت أقدام أنفسهم، ولم ينتصروا، فوفوا المقامين حقهما، مقام المقتضي وهو التوحيد والالتجاء إلى الله عز وجل، ومقام إزالة المانع من النصرة وهي: الذنوب والإسراف. ثم حذرهم سبحانه من طاعة عدوهم بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ}! فحذرهم سبحانه من طاعة عدوهم، وأخبر أنهم إن أطاعوهم خسروا الدنيا والآخرة، وفي ذلك تعريض بالمنافقين الذين أطاعوا المشركين لما انتصروا يوم أحد. وهنا قضية عظيمة الأهمية في هذه المواقف وفي أمثالها عبر العصور؛ وذلك أن الأمراض التي تصيب الأمم المهزومة في معاركها العسكرية، هي أمراض خطيرة مدمرة، بها تزول حضارات الأمم، وبها تضمحل مناهلهم. ومن هذه الأمراض: مرض الضعف، وهو أن يضعفوا في القيام بالحق الذي معهم نتيجة الهزيمة، ويتركوا القيام بما أوجبه الله عز وجل عليهم. وكذلك مرض الوهن، وهو التعلق بالأرض وحب الدنيا وكراهية الموت، وهذا يسلط العدو أكثر حين ينشغل الناس بدنياهم، وحين تكون قضيتهم في الحياة هي الرواتب التي لم تصرف، والأطعمة التي توزع، والملابس التي يكتسون بها ويكسون أولادهم، حين تصبح قضيتهم هي قضية الصراع على الدنيا يزداد العدو تسلطاً، ويأكل الثروات ويلقي بالفتات ولا حول ولا قوة إلا بالله، والشعوب المغلوبة المقهورة حين تضيع قضيتها تصبح كذلك فيصيبها الضعف والوهن.

مرض الاستكانة لغير الله تعالى

مرض الاستكانة لغير الله تعالى والمرض الثالث: مرض الاستكانة، وهو: الخشوع والخضوع والذل للعدو، ومظهر ذلك: طاعته التي أتت الآيات تحذر منها تصريحاً ونصاً، فالله عز وجل ابتلانا بالهزائم والانكسار لننكسر له عز وجل، ولنلتجئ إليه، ولنتضرع إليه، قال تعالى: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام:43]، والله عز وجل ذم من لم يستكن له، ومن لم يتضرع له، قال سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون:76]. فتبين أن في هذا المقام نوعان من الاستكانة: استكانة محمودة، وهي استكانة لله عز وجل، وشعور بالانكسار لله سبحانه وتعالى، والضعف والعجز وطلب القوة منه سبحانه وتعالى، والشعور بالضعف والعجز وأنه لا قوة له إلا بالله، وأنه لا يثبت إلا أن يثبته الله، وهذا مقام أهل الإيمان الذين امتدحهم الله عز وجل حين قال: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:147] وهذه الاستكانة المحمودة. أما الاستكانة المذمومة، فهي التي قال الله عز وجل نافياً إياها عن المؤمنين من أتباع الأنبياء: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:146] وهذا المقام، وهذه الأحوال نصيبها وحظها من العبودية عبودية الصبر، وعدم الاستكانة للعدو، والاستكانة للعدو قد تقع للإنسان وهو في الظاهر ممكن ومتسلط على غيره، وكبير يفعل في قومه ما يشاء، وهذه هي التي تحصل من المنافقين الذين يبتغون العزة بموالاة الكافرين، ويتابعونهم على باطلهم، ويطيعونهم في أوامرهم التي هي حرب للدين، والتي هي بغض لما أنزل الله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} [محمد:26] فيكون هذا الأمر موجباً لارتدادهم عن الدين على أدبارهم، نعوذ بالله من ذلك، وموجباً لحبوط أعمالهم؛ فإن موالاة الكافرين وطاعتهم تجلب الخسران وتجلب الضياع والعياذ بالله، وتجلب ضياع الدنيا والآخرة، وكما ذكرنا يلقي العدو الفتات ويأخذ حتى دنيا هؤلاء القوم، ولا يترك لهم شيئاً، فلا يظفرون لا بدين ولا دنيا، وإنما يبوءون بالذل والهوان والخسران المبين نعوذ بالله من ذلك. هذه الاستكانة للعدو قد تقع لإنسان يكون في الظاهر على أنه حر طليق، وكبير وزعيم، وملك على قومه، ولكنه في الحقيقة في منتهى المهانة، وذلك أنه يستمر على الباطل، فيطيع بالمنكر ويطيع في الكفر والنفاق، وينشر ما يريده الأعداء والعياذ بالله، فيترك منهجه ودينه والتزامه، ويطيع في الكفر والفسوق والعصيان، نعوذ بالله من ذلك. والاستكانة مرض من أمراض الشعوب المهزومة، والتي غالباً ما تقع عقب الهزائم العسكرية، وربما تقع بعد مدة، بعد عدة أجيال أو عدة سنوات، أو ربما بعد العشرات من السنين، فيخرج من يتكلمون باسم الناس وهم في الحقيقة يتكلمون بلسان العدو والعياذ بالله. وقد وقع هذا في تاريخ المسلمين مرات عديدة عندما تقع هزيمة، ثم يقع بعد ذلك من يخرج ويروج لفكر ومناهج وحضارة الأعداء، وفي نفس الوقت ربما يزعم معاداة الأعداء، حتى يكون له منزلة لدى قومه، وحتى يتصدر ويرأس عليهم، ثم بعد ذلك يسوم قومه سوء العذاب، ولا حول ولا قوة إلا بالله. فهذه الاستكانة المذمومة، وهذه الطاعة المحرمة التي حذر الله عز وجل منها.

صور لأصحاب العزة

صور لأصحاب العزة وقد يكون الإنسان أسيراً في الظاهر ذليل مهان، ولكنه لا يرضى أن يتكلم بالباطل، ولا أن يقر بالمنكر، ولا يرضى بما يريده الأعداء، فهو في الحقيقة عزيز كريم. ومن أمثال هؤلاء: خبيب رضي الله تعالى عنه وهو مصلوب عند قريش، وهم يريدون أن يحصلوا منه على كلمة يقدح فيها بمحمد صلى الله عليه وسلم، حتى ولو تمنى أن يكون مكانه، قال أبو سفيان: أتتمنى أن تكون في بيتك وأن يكون محمداً صلى الله عليه وسلم مكانك؟ فيقول: لا أتمنى أن أكون في أهلي وفي بيتي ومحمد صلى الله عليه وسلم تصيبه شوكة فما فوقها، فكان موقفاً عزيزاً، يدل على عزة وعدم استكانة، رغم أنه مصلوب، فيتركه المشركون يصلي ركعتين، فيصلي ويطيل، ويقول: لولا أن يظنوا أنه جزع من الموت لأطال، ثم يقول وهو مقبل على الموت: اللهم احصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تبق منهم أحداً. يقول: ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع عزة عجيبة الشأن. وهذا النبي صلى الله عليه وسلم عندما يفر أصحابه عنه في غزوة حنين فينزل من على بغلته ويقول: (أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب)، فهو يعرف الناس بنفسه، فمن أراد أن يناله بسوء فليأت إليه. وكان النبي صلى الله عليه وسلم وكل الأنبياء والرسل في فترات الاستضعاف أعزة، رغم أنهم غير ممكنين، ورغم أنهم كان ينالهم من الضرب والجراح، والأذى والشتم والسب، وأحياناً الحبس والسجن، وأنواع البلاء المختلفة: كالإلقاء في النار والقتل، ولكنهم ثابتون لا يركنون إلى الذين ظلموا، ولا يقبلون باطلهم، ولا يرضون بمنكراتهم، وهذه قضية عظيمة الأهمية في حياة المؤمن. فليس العز والذل مرتبط ببدن الإنسان، ولكنه بروحه وثباته على دينه ومنهجه وعقيدته، فكم من أحرار الأبدان أسرى الأرواح، وكم من أسرى الأبدان أحرار الأرواح، أرواحهم طليقة حرة، حررها التزامها بشرع الله عز وجل من عبودية البشر، ووجدت سعاة عظيمة هائلة في القرب من الله عز وجل، فتجاوزت حدود هذه الأرض بما فيها من قوة ظاهرة للكفرة والظلمة، تجاوزتها وارتفعت، ورأتها ذرة صغيرة في كون واسع فسيح لا ملك فيه إلا لله عز وجل، حقيقة يقينية قطعية، ما أن ترتفع الأنظار عن الأرض إلا وتراها بينة جلية. لكن أكثر الناس أبدانهم وأرواحهم حبيسة الأرض، فأخلدوا إلى الأرض واتبعوا أهواءهم، وتسلط الشيطان عليهم حتى جعلهم لا يرون إلا موازين الكرة الأرضية، رغم أن الموازين في داخل هذه الكرة الأرضية -عند حقيقة التأمل- ليست ملك البشر، ولكن أكثرهم لا يرون إلا ما يحسون من شهوات، من أموال ومن أمور ظاهرة. ولكن أرواح المؤمنين انطلقت فوجدت كوناً فسيحاً واسعاً، وترسخت في قلوبهم أن الله سبحانه وتعالى هو الملك، فقالوا: ولك الحمد أنت ملك السماوات والأرض ومن فيهن، فهو سبحانه الملك الحق، ولذا لم يخضعوا لغيره، ولم يذلوا ولم يستكينوا إلا له سبحانه وتعالى، وأبوا أن يستكينوا للعدو، وأبوا أن يقولوا باطلاً، وأن يعاونوا العدو على منكره وكفره وشركه، وأن ينافقوا كما نافق المنافقون، فاللهم يا مقلب القلوب! ثبت قلوبنا على دينك، واللهم يا مصرف القلوب! صرف قلوبنا على طاعتك. قال عز وجل: ((وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ)) أي: وكم من نبي وهم كثير، ((قَاتَلَ مَعَهُ)) وفي قراءة أخرى (وقُتِلَ) والقراءتان متواتران، وكلاهما لهما معنى صحيح واجب التدبر، فقد قاتل الأنبياء طوائف وجماعات كثيرة، وقتل منهم جماعات، وقُتل بعض الأنبياء، وقتلت جماعات من المؤمنين الذين معه، ((قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ)) وفي قراءة أخرى (وقُتِلَ معه ربيون كثير) قُتِل هو أي النبي، وكان معه ربيون قتلوا وبقيت جماعة: ((فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا))، ما وهن المقتولون عند ملاقاة القتل، بل تلقوه بالاستبشار والترحيب به، ولسان حالهم يقول: فزنا ورب الكعبة، وقالوا: اليوم نلقى الأحبة محمداً وصحبه. فكانوا يقبلون عليه، وما وهنوا عند الموت وما ضعفوا وما استكانوا، وما وهن الباقون، وما تعلقوا بالدنيا، وما ضعفوا في القيام بالواجب عليهم من الالتزام بشرع الله عز وجل، وما استكانوا لعدوهم، ((وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ))، والمؤمنون دائماً ما يسألون ويبحثون عما يحبه الله، فإذا علموا ذلك طاروا إليه. فأعظم ما يأخذ بقلوبهم إلى الله عز وجل أن يعلموا أن الله يحب من يفعل أفعالاً معينة، فهو عز وجل يحب المتقين، ويحب الصابرين، ويحب المحسنين، وانظر وتأمل جمع الله بين الصبر والإحسان في قوله: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:146 - 148]. فالصبر والثبات هو الذي يحرك قلوبهم، والصبر في هذا المقام صبر يجمع كل أنواع الصبر: صبر على الطاعة، وصبر على المعصية، والتي هي: موالاة أهل الكفر وطاعتهم، وهو مقام يقع فيه الكثيرون من الذين يبيعون دينهم، ويصيرون من جنود الكفار، فبالأمس كانوا جنوداً -فيما يبدو- للحق، ثم لما انتصر الباطل صاروا جنوداً له، وكم من الناس مستعد أن يكون كذلك، وأن يطيع الكفرة إلى درجة الحرب في صفهم ولا حول ولا قوة إلا بالله، ودائماً يظهرون وخصوصاً بعد الهزيمة ونعوذ بالله. فلذلك المؤمنون صبروا على المعصية، وعن هذا الضلال والكفر والنفاق. وصبروا على الأقدار المؤلمة، وعلى ما يصيبهم من آلام في مقام نصرة الدين وفي سبيل الله، وخصوصاً عند حصول الهزيمة، فإنها تصيب الناس بأنواع من الآلام الكثيرة، ومجرد رؤية البلاد والعباد يسقطون في أيادي الأعداء هو أمر في غاية الألم وغيظ للمؤمنين.

الدعاء من أقوى الأسلحة

الدعاء من أقوى الأسلحة قال تعالى: ((وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا)) فالدعاء من أمضى وأقوى الأسلحة، وكذلك التضرع إلى الله بأسمائه وصفاته وخاصة الربوبية منها، والاعتراف بالذنوب؛ فإنها عمل صالح؛ لأنهم يحاسبون أنفسهم، ولأنهم ليسوا كالذين يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون، فكم من المحن تنزل، ولكن الكثير من الناس لا يعي ولا يتوب ولا يتذكر إلا من رحم الله. وليسوا كالذين دائماً ينظرون إلى جانب الكمال في أنفسهم وما هو بكمال، بل هي نقائص وأمراض، ومع ذلك يرون أنفسهم أكمل الناس وأفضل الناس، وأعلمهم بالدين والدنيا ونعوذ بالله من ذلك، فهذا أمر في غاية الخطورة. أفلا نعي الدروس؟! ألا نستفيد من المحن؟! ألا نستفيد من البلايا؟! ألا نراقب الله ونراجع أنفسنا؟! {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} [التوبة:126]، وهذا هو حال المنافقين نعوذ بالله من النفاق، أما أهل الإيمان فإنهم راجعوا أنفسهم، والله لم يقدر تخطيط الأعداء ومكرهم إلا لنرجع إليه، ولذلك بادروا وأقروا على أنفسهم بالإسراف، وإياك أن تظن بنفسك أداء الحق وأنت لم تؤد حتى عشره، وهذا موطن خطير جداً، عندما يتأمل كل واحد منا في نفسه ولا يراها مقصرة، ويجلس وحيداً بعيداً عن الناس، ثم يسأل نفسه: هل تؤدي ما عليك فيما بينك وبين الله؟ وفيما بينك وبين الناس؟ وفي أداء الواجبات؟ وفي ترك الذنوب؟ وفيما أوجب الله عليك من نصرة الدين؟ فإذا حدثتك نفسك وقالت لك: أنا أديت ما علي، والتقصير إنما هو من غيري، والناس هم السبب، والبلايا والمحن جاءت من غيري، فتأكد أننا لن نتغير، وأن الواقع يحتاج منا إلى عمل طويل الأمد، في داخل النفوس قبل أن يكون في خارجها، ولابد أن تكون صادقاً في قولك: ((رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا))، ولابد أن تعترف فعلاً بينك وبين الله عز وجل، ليس على سبيل التواضع وهضم النفس وأنك تراها مستحقة لغير ذلك، ولكنك تعترف من باب الاقتداء بالمؤمنين الذين قالوا ذلك، أو الترديد باللسان لهذه الأدعية، ولابد أن تكون صادقاً حين تقول: ((رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا))، ولا بد أن تستشعر أن الأمة أُتيت من قِبلك، ومن ناحيتك، ومن الثغرة التي أنت عليها، وأنت على ثغرة بلا شك، فكل واحد منا على ثغرة من ثغرات العمل من أجل الإسلام، وإذا وجدت أن نفسك تقول لك: أنا أفضل وغيري هو المقصر، فاعلم أننا ذاهبون إلى مزيد من البلايا والمحن ونسأل الله العافية، وإنما كان قول المؤمنين كما قال الله: ((وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا)) توسل إلى الله بالربوبية، وتوسل إلى الله بالاعتراف بالذنب، وقد ورد في الحديث: (أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت). فالذنوب هي التي هزمتنا، وهذا أمر حقيقي واقع، وكل منا له ذنوب وتقصير وإسراف على نفسه، وأكثر الناس يجود بعمره ووقته ويسرف على نفسه، ويسرف على شهواته ورغباته، فيجود بالزمان وبالوقت ليضيعه في معصية الله، ولو كان في المباحات لكان بخساً على الإنسان، فكيف بمن ينفق عمره وساعاته في معصية الله عز وجل؟ فهذا هو حقيقة الإسراف، وهذا هو التقصير الحقيقي. قوله تعالى: ((وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا)) المقصود بتثبيت الأقدام: حسي، ومعنوي. فالحسي في معركة القتال، والمعنوي على الصراط المستقيم، حتى لا تزل القدم في أهواء مضلة، وحتى لا ينحرف الإنسان إلى الهاوية، إما إلى شبهات مضلة وإما إلى شهوات مغوية، والمسلم محتاج إلى التثبيتين، فكم من إنسان عنده معرفة نظرية وعندما تأتي لحظات المواجهة والشدة لا يثبت، بل ينهار تماماً رغم أنه كان على علم، فليس العلم هو العلم الذي على اللسان، إنما العلم النافع هو العلم الذي في القلب، وهذا يظهر في فترات الشدائد والمحن، وفي مثل هذه اللحظات من الهزيمة. ((وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا)) يعلمون أن الله هو الذي يثبت القلوب والأقدام، وأنه سبحانه وتعالى إن لم يثبت أقدامهم لم يثبتوا، والإنسان يلحظ في قوله تعالى: ((رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا)) التزام بالشرع وإيمان به وانقياد له، وفي قوله: ((وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا)) إيمان بالقدر، وتحقيق لقوله سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] وأما قوله: ((وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا)) دليل على معرفة العبد المؤمن بأن الله هو الذي يثبت قلبه ويثبت قدمه على الصراط المستقيم، حتى لا ينحرف ولا يزل ولا يضل ولا يكون غاوياً نعوذ بالله من ذلك. ففيه إيمان بالقدر ولجوء إلى الله، وهذا مقام التوحيد كما ذكر ابن القيم رحمه الله، مقام الصبر، ومقام اللجوء إلى الله والتضرع إليه، والتوسل إليه بأسمائه وصفاته، والتوسل إليه بأعمالنا الصالحة، من الاعتراف بالذنوب وطلب قضاء أعظم الحاجات، وهي الثبات على الصراط المستقيم. قوله تعالى: ((وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)) وهذه هي التي يرجوها أهل الإيمان، وليس هذا لتحقيق نفع دنيوي، وإنما لإبطال الكفر، ولذا وصفوا قومهم بالكافرين في هذا المقام، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة -في غزوة أحد- يحاربون قريشاً، وقريش هي التي تحاربهم وهم من نفس القبيلة، ومن نفس الوطن، ومن نفس القومية، وعلى الرغم من ذلك وصفوهم بالقوم الكافرين؛ لأنهم إنما يريدون نصرة الدين، فهم لا يقاتلون لأجل منصب، ولا يقاتلون لأجل قومية أو قبلية أو وطنية أو غير ذلك، وإنما يقاتلون لأجل الدين، فكيف بمن صار لا يقاتل لا حمية ولا شجاعة ولا نصرة للدين ولا لقومية ولا لوطنية؟ أصبحت أمور عجيبة في زمننا هذا نسأل الله العافية، وصار الناس يقاتلون لأجل ألا تباع أوطانهم، وألا تهدم قومياتهم، وصار من ينادي الآن بالقومية أقرب حالاً نسأل الله العافية، فأي بلاء هذا الذي نزل بنا؟ مهانة عجيبة، لكن أهل الإيمان إنما يقاتلون لكي يبطل الكفر. فهم وصفوا قومهم في هذا المقام بالقوم الكافرين، لكي يؤكدوا البراءة منهم وأنهم يريدون إبطال كفرهم، وإبطال شركهم، وألا يظهر كفرهم على وجه الأرض، والنصر من عند الله عز وجل اعتقاد يقيني لأهل الإيمان.

الخسران المطلق لمن أطاع أعداء الله

الخسران المطلق لمن أطاع أعداء الله قال سبحانه وتعالى: ((فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ)) جمع الله لهم الدنيا والآخرة، فأتتهم الدنيا وهي راغمة؛ لأن الله أمرها أن تأتي إليهم، آتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة، وتأمل هذا الجمال أن الله عز وجل لم يقل في (ثواب الدنيا) حسن ثواب الدنيا؛ وذلك أن الدنيا وإن كان فيها نعيم فإنها لا تكمل لأحد، وليست خالصة بل لابد أن تشاب، وأما ثواب الآخرة فهو الثواب الحسن، وهو الذي يستحق أن يوصف بالحسن؛ ((وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ)) فهو عاملهم الله بأحسن ما عملوا، وآتاهم أحسن الثواب بفضله عز وجل: ((فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ)). وأما من أطاع الكفار فإن الآيات تبين أنه خسر ((فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ))، الخسران المطلق، وهذا يشمل خسران الدنيا وخسران الآخرة، ونعوذ بالله من ذلك، والله ما ينالون دنيا ولا ينالون آخرة هؤلاء الذين أطاعوا الكفرة. قال عز وجل عن المؤمنين: {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} وهذا الإحسان في هذا المقام هو إحسان فيه عبادة الله عز وجل، وهو كما فسره النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، ((وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)) والإحسان الذي يحبه الله عز وجل هو الإخلاص، والتوكل على الله، واللجوء إلى الله عز وجل، والتضرع لله سبحانه وتعالى، والصبر، وعدم الوهن، وعدم حب الدنيا، وعدم الضعف في طاعته، وعدم الاستكانة للعدو، والتحمل في سبيل الله عز وجل، فإذا حققت عبادات القلب صرت محسناً، والإحسان في عبادة الله عز وجل -فيما بينك وبين الله- يثمر، وينعكس الإحسان إلى الخلق من الإحسان في عبادة الله عز وجل، فإذا أحسنت في عبادة الله وفقك الله عز وجل للإحسان إلى الناس، فأحبك الله عز وجل وأحبك الناس، ومن أحبه الله سبحانه وتعالى قذف محبته في قلوب الخلق، ونادى جبريل في أهل السماء: (إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض)؛ وذلك أن الله عز وجل أحبه، فأحبه جبريل وأحبه أهل السماء وأحبه أهل الأرض، والمؤمنون الصادقون هم علامة أو خلاصة أو حقيقة أهل الأرض. أما الذين يعيشون على وجه الأرض كالأنعام بل هم أضل، فإنه لا قيمة لحبهم ولا بغضهم ولا أثر له، وإنما علامة حب المؤمنين بأن يوضع له القبول في الأرض، فترى قلوب المؤمنين تفد إليه بأنواع البر والإحسان والحب والقبول، فهم شهداء الله في أرضه. وأما إذا وجدت الكفار يحبون -مثلاً- زعيماً لهم؛ لأنه سلطهم على من خالفهم، أو لأنه خدعهم بأنواع الخداع مثلاً، فأحبوه أكثر، فليس هذا بالأمر المعتبر، فهم لا قيمة لهم ولا عبرة بهم وليسوا بشهداء الله في أرضه. إذاً: فالحشيش مثلاً والزروع هي أحب شيء؛ لأن الأبقار والأغنام تأكل ذلك، فهؤلاء كالأنعام بل هم أضل، فلا عبرة بحبهم وبغضهم، وإنما يعرف ذلك بمحبة أهل الإيمان وبغض أهل الإيمان، والمفتاح العظيم لجذب قلوب المؤمنين هو تحقيق الإحسان، وتحقيق الصبر، وترك الوهن وترك الضعف، وترك الاستكانة للكفار، وترك موالاتهم وطاعتهم، قال عز وجل: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ)) فكشف لنا حقيقة ما يريدون، حتى لا يقول قائل: هم لا يحاربون الإسلام! وهم لا يريدون أن نترك الدين! فالله قد بين لنا ما يريد الكفرة من المشركين وأهل الكتاب، ولفظة (المشركين) عند إطلاقها يقصد بها: عباد الأوثان وغيرهم ممن ليسوا بأهل كتاب، ويدخل فيهم أهل الكتاب الكفرة في الحقيقة، لكن يخصوا بذلك، قال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران:100 - 101]. فالكفار بأنواعهم المختلفة يريدون إبعادنا عن الدين، ويريدون ردة المسلمين، ويريدون أن يردونا على أعقابنا، فماذا بعد أن بين الله نيتهم؟ وماذا بعد أن كشف الله خبايا ضمائرهم؟ فهل نقول بعد ذلك هم لا يريدون ذلك؟ وهم لا يحاربون الإسلام؟ فمن قال: إن الكفرة لا يريدون منا عدم الالتزام بالدين، وإنما يريدون تعليمنا الحضارة والديمقراطية، وتعليمنا ما ينبغي أن نتعلمه من التقدم، فهو يخدعنا من يقول ذلك، وهم والله لا يريدون إلا حرب الإسلام، وهذه قضية مكشوفة في القرآن، وبينها تمام البيان، فهم لا يريدون بنا خيراً قطعاً، ومن ظن غير ذلك فهو واهم أو مخدوع، أو هو في الحقيقة مخادع وهو لا يظن غير ذلك، بل يعلم، ولكن يشارك في الجريمة ونعوذ بالله. فالقضية قضية واضحة، كما بينها الله جل وعلا في قوله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ))، النتيجة: ((فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ)) أي: من انقلب على عقبيه، أو من ارتد عن الدين ولو كان بالنفاق، فليس لازم أن يقول: إنه شخصياً ترك الإسلام، ولا أنه لا يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله، فهم الآن ليس من مصلحتهم أن يتنكر الناس لهاتين الكلمتين؛ لأنه سوف يفقد رصيده في عامة المسلمين، وهم لا يريدون ذلك، والأمور ستهيج، إلا أن يكون المتسلط من جلدتنا ويتكلم بلساننا، فهذا هو الذي يحقق المكاسب الكبيرة لأعداء الله، ولذا نجد ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية -كما سنذكره- يقول: ينهى الله عز وجل المؤمنين عن طاعة الكفار والمنافقين. ويقول أيضاً: يحذر الله تعالى عباده المؤمنين من طاعة الكافرين والمنافقين، ولفظة (المنافقين) ليست موجودة في الآية، لكنها دخلت تحت قوله: ((إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا)) فلذلك ذكر ابن كثير رحمه الله ذلك ليس سبق قلم منه، والله تعالى أعلى وأعلم. يقول: يحذر الله تعالى عباده المؤمنين من طاعة الكافرين والمنافقين؛ فإن طاعتهم تورث الردى في الدنيا والآخرة، ولهذا قال تعالى: {إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} [آل عمران:149 - 150]. مشكلة صعبة تواجه أهل الإيمان ييسرها الله عز وجل، ويبين علاجها؛ ذلك أنه إن لم نطع الكفار ماذا نصنع والأمور بأيديهم؟ والموازين موازين القوة المادية، وهي في صالحهم، فأكثر الناس يقول: لابد أن نسير في ركبهم، لابد أن نقبل هذا الواقع، ونردد ما يقولون وننفذ ما يريدون -ونعوذ بالله من ذلك- وحتى لو كانت حرباً على الإسلام، وصرف الناس عن دين الله عز وجل، وصدهم عن سبيل الله سبحانه وتعالى، ونسأل الله العافية. وهذا ليس في زماننا فقط، بل عبر التاريخ تجد عقب الهزائم دائماً يقع ذلك والعياذ بالله، طوائف تنقلب خاسرة، فتردد هذه الكلمات الخبيثة: أننا لابد أن نطيع الكافرين، فعلى المؤمنين في هذه الحالة -وليس بأيديهم شيء- أن يتوكلوا على الله، ((بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ)) أي: أن الله ناصركم، فالله هو الذي يتولى أمركم بالإصلاح، فتوكلوا على الله في دفع أذاهم، وفي دفع مكرهم. قال تعالى: ((وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ)) أي: خير من ينصر عباده المؤمنين، وليس لكم نصير من الأرض، لكن لكم خير الناصرين وهو الله عز وجل.

الرعب للكافرين بما أشركوا مقابل الأمن للمؤمنين

الرعب للكافرين بما أشركوا مقابل الأمن للمؤمنين قال تعالى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} [آل عمران:151]. يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: ثم أخبر سبحانه أنه مولى المؤمنين، وهو خير الناصرين، فمن والاهم فهو المنصور، ثم أخبرهم أنه سيلقي في قلوب أعدائهم الرعب، الذي يمنعهم من الهجوم عليهم والإقدام على حربهم، وأنه يؤيد حزبه بجند من الرعب ينتصرون به على أعدائهم؛ وذلك الرعب بسبب ما في قلوبهم من الشرك بالله، وعلى قدر الشرك يكون الرعب، فالمشرك بالله أشد خوفاً ورعباً، والذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بالشرك لهم الأمن والهدى والفلاح ((لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ))، والمشرك له الخوف والضلال والشقاء. قسمة عدل من الله عز وجل، فتجد الكافر عنده من أنواع القوة المادية كثرة هائلة، ومع ذلك هو في رعب عجيب، تلحظه في عيونه، وفي فلتات لسانه، واعترافاته، والأمراض النفسية التي تظهر فيه، والمسلمون لا يبلغون معشار معشار قوة الكفرة، ومع ذلك -ولو كانوا في أنواع المخاطر، وسط النيران، ووسط أنواع الفتن والمحن- تجد عندهم سكينة وأمن، يقول تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82]، والظلم الأصغر يحقق قدراً من الرعب والخوف بقدر ما ظلموا، والظلم الأكبر -الذي هو الشرك- يزيل الأمن بالكلية في الدنيا والآخرة كما قالها إبراهيم عليه السلام: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:81 - 82]. فالشعور بالخوف شعور مشقي للإنسان، وهو من أعظم ما يتعب الإنسان، ولا يجعله يستمتع بأكل ولا بشرب ولا بنوم، ولكن الله ابتلاهم الله بشيء من الخوف، وانظر إلى التقليل في قوله تعالى: ((وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ))، فتأمل وقارن بين حالي القلبين: حال قلب المؤمن، وحال قلب الكافر، قال تعالى في الكافر: ((سَنُلْقِي)) فيحس المستمع بقوة شديدة، ولذلك تجد ردود الأفعال عنيفة جداً بدار الإسلام وأهله، ولكن الحقيقة أنهم هم الذين يشقون، وأهل الإيمان رغم أسباب الخوف المجتمعة إلا أن عندهم من الإيمان مما يؤمنهم، فالله يؤمنهم بإيمانهم قال تعالى: {يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} [يونس:9]. قال تعالى في المؤمنين: ((وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ)) فيحس المؤمن كأن هناك شيئاً يلمسه من بعيد، وأما الكفار فيحس بشيء يلامس قلبه ويجعله يغرق والعياذ بالله. قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ} [البقرة:155] ومعه الدواء: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة:155] دواء الصبر: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:156 - 157]. فهذا عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، والحجاج يرمي الكعبة بالمنجنيق، فأُلقي حجر من أحجار المنجنيق بجواره مباشرة وهو ساجد يصلي، وأحرق جزءاً من ثيابه، وما شعر به، ولم يحس بما حدث، ولذلك ما قتل إلا لأنه كان يطلع لوحده، والناس تفر من حوله من أجل المال، ومن أجل الجاه المنتظر! فالمؤمن في أمان بإذن الله تبارك وتعالى كما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم -في غزوة الأحزاب- في أمان عجيب، وكما كان إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وكما كان موسى عليه الصلاة والسلام في مواجهة فرعون، وفي كل المواقف مثبت من عند الله، قال تعالى: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} [طه:67] أوجس شيئاً خفيفاً جداً من أجل أن نعلم أنهم بشر، ومن أجل أن نقتدي بهم إذا أصابنا ذلك. فطمأنه الله تعالى بقوله: {قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى} [طه:68]، ولذلك تغير موسى صلى الله عليه وسلم في التو واللحظة، وواجه القوم قبل أن يلقي عصاه، قال: {مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ * وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [يونس:81 - 82] ومعنى (سيبطله) أي: لم يحصل بعد، ولما رمى عصاه أبطل الله عز وجل سحرهم وكيدهم: {فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} [الشعراء:45]، {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ} [الأعراف:118 - 119]. فكل مؤمن هو الأعلى؛ لأن الله عز وجل يقول: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139]. إذاً: نحتاج إلى معالجة لأحوال القلب، فلو امتلأ إيماناً امتلأ أماناً، ولو امتلأ ذنوباً امتلأ خوفاً، فكلما تبعد عن الإيمان ينقص الإيمان، فيحصل الخوف، ويحصل القلق، ويحصل الاضطراب، والكافر والظالم أشد الناس اضطراباً وقلقاً ورعباً وخوفاً، فهناك كثير جداً من الظلمة -رغم كل الحراسات والأسلحة وغير ذلك- لا ينامون إلا بالمنومات، ولا يجدون للنوم مهنأً، وهذا من آيات الله سبحانه وتعالى، وكلما أشرك كلما ظلم، وكلما أفسد في الأرض كلما كان الأمر أشد، نسأل الله العافية. ((سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ)) والرعب هو: أشد الخوف، فهم يخافون من المرض، ويرتعبون من الموت رعباً عجيباً جداً، ويخافون من الفقر وإن كان بعيداً عنهم، ولذلك يطلب مالاً أكثر، ويكسب من الحرام ولا يشبع أبداً، فيصيبهم من الكآبة والحزن بما ظلموا، كلما ازدادوا ظلماً كلما ازدادوا خوفاً ورعباً، ولذا قال: ((وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ)) فالشرك والظلم قرينان، والظلم الأصغر يقود صاحبه إلى الظلم الأكبر، والظالم أقرب الناس وقوعاً في الشرك والعياذ بالله، فالذي يظلم ظلماً ولا يتوب منه على خطر عظيم، إذ أنه بتأسيس ظلمه وترسيخ مكانته يسهل عليه أن يبيع دينه بعرض من الدنيا.

النصر لزيم الطاعة

النصر لزيم الطاعة قال ابن القيم رحمه الله: ثم أخبرهم أنه صدقهم وعده في نصرتهم على عدوهم، وهو صادق الوعد، وأنهم لو استمروا على الطاعة ولزوم أمر الرسول صلى الله عليه وسلم لاستمرت نصرتهم، ولكن انخلعوا عن الطاعة، وفارقوا مركزهم، ففارقتهم النصرة، فصرفهم على عدوهم عقوبة وابتلاء، وتعريفاً لهم بسوء عواقب المعصية وحسن عاقبة الطاعة: ((وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ)) وتنازعتم في الأمر بين الرماة، وعصيتم حين تركتم أماكنكم أيها الرماة، ((مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ))، أي: نصرتكم على عدوكم، وقتل أصحاب لواء المشركين، وجري نساء المشركين هاربات.

عفو الله عن المؤمنين يتمثل في صرف عدوهم عنهم

عفو الله عن المؤمنين يتمثل في صرف عدوهم عنهم قال تعالى: ((وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ)) يقول ابن القيم: ثم أخبر أنه عفا عنهم بعد ذلك كله، وأنه ذو فضل على عباده المؤمنين، قيل للحسن: كيف يعفو عنهم وقد سلط عليهم أعداءهم حتى قتلوا منهم من قتلوا، ومثلوا بهم، ونالوا منهم ما نالوه؟ فقال: لولا عفوه عنهم لاستأصلوهم، ولكن بعفوه عنهم دفع عنهم عدوهم بعد أن كانوا مجمعين على استئصالهم. فهو سبحانه وتعالى جعل في قلوب المشركين الانصراف، مع أن لحظات الهزيمة كانت لا تمنع من شيء، وكان من الممكن أن يدخلوا المدينة فعلاً؛ لأنه ليس هناك من يدفع أو يقاتل، فقد كان حول النبي صلى الله عليه وسلم عدداً قليلاً جداً يدافع عنه، ويقاتل قتالاً مستميتاً كما يقولون، وقد قتل بين يديه سبعة للدفاع عنه عليه الصلاة والسلام، وغير ذلك ممن قاتل حتى أوجب في يوم واحد، كـ طلحة استوجب الجنة في قتال يوم أحد رضي الله عنه، فكان الأمر أمراً عظيماً، ومع ذلك صرف الله عز وجل المشركين عفواً عن المؤمنين. قال ابن كثير رحمه الله: لما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أحد، وقتل من قتل منهم نادى الشيطان: ألا إن محمداً قد قتل، ورجع ابن قمئة إلى المشركين فقال لهم: قتلت محمداً، وإنما كان قد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فشجه في رأسه، فوقع ذلك في قلوب كثير من الناس، واعتقدوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل، وجوزوا عليه ذلك كما قد قص الله عن كثير من الأنبياء عليهم السلام أي القتل، فحصل ضعف ووهن وتأخر عن القتال، ففي ذلك أنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم: ((وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ)) فإنه له أسوة بهم في الرسالة، وفي جواز القتل عليه، وأن القتل ليس مما يعصم منه الأنبياء. قال ابن أبي نجيح عن أبيه: أن رجلاً من المهاجرين مر على رجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه، فقال له: يا فلان! أشعرت أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد قتل؟ فقال الأنصاري: إن كان محمد قد قتل فقد بلغ، فقاتلوا عن دينكم، جزاء ما وهنوا عند القتل، فقد قتل ولكنه ليس عنده وهن، وإنما يأمر غيره بالثبات فنزل: ((وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ)) رواه الحافظ أبو بكر البيهقي في دلائل النبوة. ثم قال تعالى منكر على من حصل له ضعف: ((أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ)) أي: رجعتم القهقرى كما ذكرنا أن الانقلاب هو ترك الواجب، إما بترك الدين بالكلية كالمنافقين، وإما بترك بعض الواجب كالقتال. قال تعالى: ((وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)) أي: الذين قاموا بطاعته وقاتلوا عن دينه واتبعوا رسوله صلى الله عليه وسلم حياً وميتاً، وكذلك ثبت في الصحاح والمسانيد والسنن وغيرها من كتب الإسلام من طرق متعددة تفيد القطع، وقد ذكر ذلك في مسندي الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أن الصديق رضي الله عنه تلا هذه الآية لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم. روى البخاري عن عائشة: أن أبا بكر أقبل على فرس من مسكنه بالسبح، فكان في أطراف المدينة ضاحية من ضواحي المدينة، حتى نزل فدخل المسجد فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة فيمم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مغشى بثوب حبرة، أي: مغطى صلى الله عليه وسلم بثوب، فكشف عن وجهه ثم انكب عليه وقبله وبكى، ثم قال: بأبي أنت وأمي، والله لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك فقد متها. وقال الزهري: حدثني أبو سلمة عن ابن عباس: أن أبا بكر خرج وعمر يحدث الناس فقال: اجلس يا عمر! فأبى عمر أن يجلس، فأقبل الناس إليه وتركوا عمر، فقال أبو بكر: أما بعد: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال الله تعالى: ((وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ)) إلى قوله: ((وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)) قال: فو الله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها عليهم أبو بكر، فتلقاها منه الناس كلهم فما سمعها بشر من الناس إلا تلاها. قال: وأخبرني سعيد بن المسيب أن عمر قال: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت -وقع في الأرض- حتى ما تقلني رجلاي وحتى هويت إلى الأرض. وقال أبو القاسم الطبراني بسنده عن ابن عباس أن علياً كان يقول في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ)) والله لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله، ووالله لئن مات أو قتل لأقاتلن على ما قاتل عليه حتى أموت، والله إني لأخوه ووليه وابن عمه ووارثه فمن أحق به مني؟ يقصد -إن صح الأثر وإلا ففيه ضعف- وارثه أي: وارثه في العلم، فالعلماء ورثة الأنبياء، وأخوه في الله في الإسلام صلى الله عليه وسلم، ورضي عن علي، ووليه قريبه، وابن عمه رضي الله عنه.

الموت لا يأتي إلا بعد استيفاء الأجل

الموت لا يأتي إلا بعد استيفاء الأجل وقوله تعالى: ((وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا)) فلا يموت أحد إلا بقدر الله، وحتى يستوفي المدة التي ضربها الله له، ولهذا قال: ((كِتَابًا مُؤَجَّلًا)) كقوله: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} [فاطر:11]. وكقوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} [الأنعام:2]، وهذه الآية فيها تشجيع للجبناء وترغيب لهم في القتال؛ فإن الإقدام والإحجام لا ينقص من العمر ولا يزيد فيه، كما روى ابن أبي حاتم عن حبيب بن صهبان قال: قال رجل من المسلمين وهو حجر بن عدي: ما يمنعكم أن تعبروا هذه النطفة إلى العدو -يعني دجلة- يسمى النهر نطفة تصغير لدجلة: ((وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا))، ثم أقحم فرسه في دجلة، فلما أقحم أقحم الناس بعده، فلما رآهم العدو قالوا: مجانين فهربوا، إنهم يركبون النهر كالجن، ولا يساعدهم أي شيء فهربوا، سبحان الله! وعبروا دجلة فعلاً -في حروب الفرس- على خيولهم بفضل الله عز وجل، واليقين بالقدر يغير الله به الأسباب المادية.

الأعمال بالنيات

الأعمال بالنيات وقوله: ((وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا)) أي: من كان عمله للدنيا فقط نال منها ما قدره الله له، ولم يكن له في الآخرة نصيب، ومن قصد بعمله الدار الآخرة أعطاه الله منها مع ما قسم له في الدنيا، كما قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى:20]. وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء:18 - 19]. وهكذا قال: ((وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ)) أي: سنعطيهم من فضلنا ورحمتنا في الدنيا والآخرة بحسب شكرهم وعملهم.

معنى قوله تعالى: (وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير)

معنى قوله تعالى: (وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير) ثم قال تعالى مسلياً للمؤمنين عما وقع في نفوسهم يوم أحد: ((وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ)) قيل: معناه: كم من نبي قُتِل معه ربيون من أصحابه كثير، وهذا القول هو اختيار ابن جرير؛ فإنه قال: وأما الذين قرءوا: (قُتِلَ معه ربيون كثير) فإنهم قالوا: إنما عني بالقتل النبي وبعض من معه من الربيين. قال: ومن قرأ (قاتل) فإنه اختار ذلك؛ لأن الباقين هم المقاتلين الذين ليس في قلوبهم وهن؛ لأنه قال: لو قتلوا لم يكن لقول الله: ((فَمَا وَهَنُوا)) وجه معروف؛ لأنه يستحيل أن يوصفوا بأنهم لم يهنوا ولم يضعفوا بعدما قتلوا، وفي نظر الكلام هذا له وجه معروف، وأنهم استقبلوا الموت بقوة وجرأة، وساعة الموت يعني حين قتلوا بشجاعة. يقول: ثم اختار قراءة من قرأ: (قُتِلَ معه ربيون كثير)؛ لأن الله عاتب في هذه الآيات والتي قبلها من انهزم يوم أحد، وتركوا القتال لما سمعوا الصائح يصيح بأن محمداً صلى الله عليه وسلم قد قتل، فعذلهم الله على فرارهم، أي: عاتبهم على تركهم القتال، وقال لهم: أفائن مات أو قتل أيها المؤمنون! ارتدتم عن دينكم؟ انقلبتم على أعقابكم؟ وقيل: وكم من نبي قتل بين يديه من أصحابه ربيون كثير، وليس النبي الذي قتل، إذاً: قتل ربيون، إذاً: قتل معه جماعات كثيرة قتلوا بين يديه. وكلام ابن إسحاق في السيرة يقتضي قولاً آخر، قال: أي: وكأين من نبي أصابه القتل ومعه ربيون، أي: جماعات، فما وهنوا بعد نبيهم، -وهذا القول في الحقيقة شبيه جداً بقول ابن جرير - فما وهنوا بعد نبيهم وما ضعفوا لعدوهم، وما استكانوا لما أصابهم في الجهاد عن الله وعن دينه؛ فجعل قوله: ((مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ)) حالاً، وقد نصر هذا السهيلي وبالغ فيه وله اتجاه في قوله: ((فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)) الآية. وهكذا حكاه الأموي في مغازيه عن كتاب محمد بن إبراهيم، ولم يحك أحد غيره. وقرأ بعضهم: ((قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ)) قال سفيان الثوري، عن عاصم، عن زر، عن ابن مسعود: ربيون كثير أي: ألوف. قال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، والحسن، وقتادة، والسدي، والربيع، وعطاء الخراساني: الربيون الجموع الكثيرة. وقال عبد الرزاق، عن معمر، عن الحسن: ربيون كثير أي: علماء كثير. فسرها بمعنى رباني، ولكن هذا تفسير مرجوح. يقول: وعنه أن معنى ربيون: علماء صُبُر أبرار أتقياء. وحكى ابن جرير عن بعض نحاة البصرة: أن الربيين هم الذين يعبدون الرب عز وجل، قال: ورد بعضهم عليه فقال: لو كان كذلك لقيل: الرَبيون بفتح الراء. وقال ابن زيد: الربيون الأتباع والرعية، والربانيون: الولاة الأولياء، والله أعلم. وقول جمهور العلماء: الربيون أي الجماعات.

شجاعة رغم الإشاعة

شجاعة رغم الإشاعة ((فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا)). قال قتادة والربيع بن أنس: وما ضعفوا بقتل نبيهم وما استكانوا، فما ارتدوا عن نصرة دينهم أن قاتلوا حتى لحقوا بالله، وما ارتدوا عن نصرتهم للدين ولا عن دينهم، ألم نقل: إن الاستكانة قد تكون بالردة الكاملة، وقد تكون بترك الواجب. وقال ابن عباس: ((وَمَا اسْتَكَانُوا)): تخشعوا. وقال السدي وابن زيد: وما ذلوا لعدوهم. وقال محمد بن إسحاق والسدي وقتادة: أي: ما أصابهم ذلك حين قتل نبيهم. {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:147] أي: لم يكن لهم هجيراً إلا ذلك، أي: ليس لهم كلام يرددونه على الدوام ويكررونه إلا ذلك. ((فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا)) أي: النصر والظفر والعاقبة. ((وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ)) أي: جمع لهم الثوابين، ((وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)).

الأسئلة

الأسئلة

ذكر أن هدف أعداء الله اجتثاث الإسلام

ذكر أن هدف أعداء الله اجتثاث الإسلام Q قلتم في أثناء الكلام ما معناه: إن نظرية المؤامرة على الإسلام وأهله هي تدمير الإسلام واستئصال شوكته فهل يفهم من ذلك أنه وجد ذلك في بروتوكولاتهم منذ أن وضع إلى اليوم والنصارى تجعل المسلمين حسب تلك الخطة؟ A هذه ليست نظرية، بل هذا هو كلام ربنا، فهو يخبرنا أن الكفرة يريدون اجتثاث الإسلام وأهله، وليس صحيحاً أن هذا على حسب بروتوكولاتهم، فهذه البروتوكولات قد تكون مخترعة، وقد تكون صحيحة، وليس لازماً أن هذا محقق الوقوع.

جواز الدعاء في السجود بآيات من القرآن

جواز الدعاء في السجود بآيات من القرآن Q هل يجوز الدعاء بآيات القرآن في السجود، مثل قوله تعالى: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201]؟ A نعم، يجوز ذلك.

وجوب الإعلام بالزواج

وجوب الإعلام بالزواج Q إذا تزوج رجل بامرأة بولي وشهود وتوثيق، لكنه لم يعلن هذا الزواج أمام الناس، فهل زواجه صحيح؟ A هذا خلاف السنة، ويمكنه أن يعلن في محيط آخر غير محيط الأهل وزملاء العمل، وذلك إذا خشى الضرر منهم. كأن يعلن وسط مجموعة أخرى من المسلمين، لكن لابد أن يحدث لهم من الإعلام، وأكثر العلماء لا يرون هذا واجباً، لكن الصحيح أن الإعلان واجب وليس بشرط في صحة النكاح، وإنما الشرط أنه لا بد من حضور الولي وشهود العقد، وأن يكون عن طريق ولي، وأن يحضره شاهدا عدل، ولكن الإعلام وسط الناس يمكن يكون في مكان بعيد عن أهله أو بناته أو عمله أو غير ذلك. وينبغي أن يكون الإعلان في المسكن الذي سوف يأتي إليه لزوجته الثانية، لئلا تتهمن، فلابد أن يعرف الناس أن هذا الذي يدخل عليها زوجها.

المفرط في المال ضامن

المفرط في المال ضامن Q رجل سُرِق منه مبلغ من المال كان موكلاً بتوزيعه في الصدقات والزكوات في شهر رمضان، حيث أنه وضع الكيس جوار مكتبه وذهب للرد على تلفون في مبنى آخر فرجع فلم يجده، فما حكمه؟ A الظاهر أنه كان بتفريط منه، حيث كونه يضعه بجانب المكتب ويترك الباب مفتوحاً ويذهب إلى مكتب ثانٍ، فلا بد أن يكون ضامناً، ويلزمه أن يضمن هذا المال ويكون دين عليه، وحتى لو كان مستحق لهذه الصدقات والزكوات فلازم أن يخرجه.

إقامة الحجة شرط قبل تكفير أحدا من الناس

إقامة الحجة شرط قبل تكفير أحداً من الناس Q هل يصح تكفير من يقاتل مع الكفار ضد المسلمين، أم أنه لابد من إقامة الحجة؟ A لا بد من إقامة الحجة، فهي شرط عموم في التكفير.

معنى كلمة (العابدين) في قوله تعالى: (قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين)

معنى كلمة (العابدين) في قوله تعالى: (قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين) Q ما معنى (العابدين) في قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف:81]؟ A أكثر المفسرين على أن العابدين بمعنى: الآنفين أي: يأنفوا من ذلك، وقيل: قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول من يعبده على أنه له ولد على مشهور كلمة العبادة، يعني: على معناها المعروف الذي هو الذل، فبمعنى أنه سوف يعبده على أن له ولد، وهذا مستحيل في حق الله عز وجل.

حكم شراء البضاعة المستعملة المشكوك في أنها مسروقة

حكم شراء البضاعة المستعملة المشكوك في أنها مسروقة Q ما الحكم في شراء بضاعة من سوق معروف أنه يباع فيه السلع المستعلمة، سواء كانت مستعملة أو جديدة؟ A هو يخشى فقط من البضائع أن تكون من المسروقة في هذا المكان، فحسب غلبة الظن إذا كانت مستعملة وبسعر المستعمل المعروف أنها غالباً مباعة، ويغلب الظن على أنها غير مسروقة فلا بأس من الشراء، وأما ما كان مما يغلب على الظن أنها مسروقة، ككونها مثلاً جديدة جداً وبسعر بخس ومما يظن بها أنها مسروقة فلا يشتري.

نفي تعارض الشرع مع قول علماء الفلك: بأن القمر جسم معتم يستمد ضوءه من الشمس

نفي تعارض الشرع مع قول علماء الفلك: بأن القمر جسم معتم يستمد ضوءه من الشمس Q هل ما يقوله علماء الفلك من أن القمر جسم معتم يستمد ضوءه من الشمس يتعارض مع الشرع؟ A لا يتعارض.

تحريم العمل في تصنيع أمواس الحلاقة

تحريم العمل في تصنيع أمواس الحلاقة Q هل يجوز العمل في المصانع التي تصنع أمواس الحلاقة؟ A لا يجوز العمل فيها؛ لأن الأغلب استعمالها في حلق اللحية.

حكم الهدية التي قدمت للمخطوبة من خاطبها قبل الفسخ

حكم الهدية التي قُدمت للمخطوبة من خاطبها قبل الفسخ Q خطب شاب فتاة وقدم إليها شبكة، وبعد فسخ الخطوبة لم يتقدم للمطالبة بالشبكة أو إرسال أحد من طرفه ليطالب بها، وقد مر حوالي سنة ونصف على فسخ الخطبة وما زالت الشبكة بأيدي أهل الفتاة، هل من الواجب شرعاً على أهل الفتاة إرجاع الشبكة إلى الخاطب حتى ولو لم يطلبها، أم يجوز لهم الانتفاع بها؟ A إذا كان الفسخ من قبل الفتاة وأهلها ردوا هذه الهدية، وأما إذا كان من قبل الخاطب وهو الذي فسخ فهي لهم ويجوز لهم أن ينتفعوا بها.

علاج الوسوسة في الوضوء والصلاة وغيرها

علاج الوسوسة في الوضوء والصلاة وغيرها Q ما العلاج من أمراض الوسوسة في الوضوء وفي الصلاة وغير ذلك؟ A يبدأ العلاج بمقاومتها وعدم الاستجابة لها، وعدم البناء على هذه الوسوسة، سواء في عدد المرات أو في المبالغة في غسل الأعضاء أو نحو ذلك، وصرف التفكير في شيء آخر إذا لم يستطع، وأعتقد أن العلاج الطبي قوي في هذا الباب، فيمكن أن يعالج هذا المرض النفسي.

الصدفة لا تنافي أنها من القدر

الصدفة لا تنافي أنها من القدر Q هل هناك حرج شرعي بأن أقول: فعلت كذا صدفة، وقابلت فلان صدفة أم أن الأفضل أن أقول: قدراً، وما التعارض بين القدر والصدفة؟ أليست الصدفة من القدر؟ A الصدفة من القدر، معناها: على غير ميعاد، فقد ورد حديث تميم الداري يقول: (فصادفنا البحر حين اغتلم) يعني: ركبوا البحر وهم لا يعلمون أنه سيكون هائج. فالصحيح أن كلمة صدفة لا تنافي أنها من القدر، ولا بأس أن يقولها الشخص.

إثبات صفة الغيرة لله تعالى

إثبات صفة الغيرة لله تعالى Q هل يغار الله عز وجل؟ A نعم، فقد جاء في الحديث: (إن الله عز وجل يغار من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن)، وغيرة الله عز وجل صفة لائقة بجلاله لا تشبه صفات المخلوقين.

وجوب القضاء على من أفطر في رمضان عامدا

وجوب القضاء على من أفطر في رمضان عامداً Q هل يجب قضاء رمضان على من أفطر بالطعام والشراب في النهار متعمداً؟ A نعم، ولا يقاس على عدم قضاء الصلوات؛ لأن عندنا نص في المسألة، وهو حديث قضاء الكفارة، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الرجل المجامع في نهار رمضان بقوله: (واقض يوماً مكانه) والقضاء يجب بأمر جديد، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أفطر في رمضان ناسياً فلا قضاء عليه ولا كفارة)، مفهوم المخالفة: أن من أفطر عامداً فعليه القضاء والكفارة.

كفارة الغش في الامتحان

كفارة الغش في الامتحان Q ما كفارة الغش في الامتحان؟ A كفارة الغش في الامتحان يتوب إلى الله عز وجل ولا يغش مرة ثانية.

بيان متى يكون الإنسان متأليا على الله

بيان متى يكون الإنسان متألياً على الله Q كيف يكون الإنسان متألياً على الله؟ A الذي قال: والله لا يغفر الله لفلان، ووالله ربنا سيدخل فلاناً النار، فهذا هو المتألي على الله.

من أدرك من الصلاة الركوع فلا ركعة له

من أدرك من الصلاة الركوع فلا ركعة له Q هل إذا حضرت صلاة الجماعة في الركوع هل أحتسب ركعة أو لا؟ A قولان لأهل العلم أصحهما إن شاء الله: أنه لا يحتسب بها ركعة حتى يقرأ الفاتحة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة إلا بأم الكتاب).

جواز صلاة ركعتي المسجد والإمام يخطب

جواز صلاة ركعتي المسجد والإمام يخطب Q إذا حضرت صلاة الجمعة والإمام يخطب هل يصح أن أصلي ركعتين؟ A صل ركعتين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أحدكم المسجد والإمام يخطب فلا يجلس حتى يصلي ركعتين).

العلاج من مرض العجب والرياء

العلاج من مرض العجب والرياء Q كيف يعالج الإنسان نفسه من داء العجب وكذا الرياء؟ A يدعو الله عز وجل أن ينجيه من هذه الأمراض، وينظر في عيوب نفسه الكثيرة، ويطالع هذه العيوب بصدق ويفتش فيها جيداً، وينظر في عيوب نفسه حتى يرى النقص فيها، ويقارن بينه وبين الصالحين، ويقرأ سير الصالحين ليعرف أنه لا يساوي شيئاً. وأما الرياء: فجاهد نفسك في كثرة التفكر في القيامة، والموقف بين يدي الله جل وعلا، والجنة والنار، واقرأ كثيراً في ذم الرياء وخطره، وادع الله وقل: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً أعلمه، وأستغفرك لما لا أعلمه. وعليك بكتاب: (تهذيب وموعظة المؤمنين) فهو كتاب جيد في هذا المقام.

حكم صيام من دخل البلغم فمه

حكم صيام من دخل البلغم فمه Q هل البلغم إذا دخل الفم يبطل الصيام؟ A إذا وصل إلى تجويف الفم وكان على طرف اللسان ثم ابتلعه فهذا فيه قولان: الراجح أنه يفطر؛ لأنه يمكن الاحتراز منه، لكن الشخص الذي يحصل عنده باستمرار من غير ما يخرجه إلى فمه ليس عليه حرج، وما لا يمكن الاحتراز منه لا يفطر به.

جواز قضاء الرواتب للمداوم عليها

جواز قضاء الرواتب للمداوم عليها Q هل يجوز قضاء السنن المؤكدة في الصلاة كلها بعد العشاء إذا كان معتاد المواظبة عليها، ولكنها فاتته؟ A نعم، إذا فاتته وهو معتاد المواظبة عليها، فالأفضل أن يقضيها.

حكم استعمال السبحة

حكم استعمال السبحة Q ما حكم استعمال السبحة في الذكر؟ A بعض العلماء يقول: هي بدعة، والراجح عندي أنها خلاف الأولى، ولكن ليست بدعة طالما لم يعتقد أنها سنة.

وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة السرية والجهرية

وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة السرية والجهرية Q هل لابد من قراءة الفاتحة في الصلاة السرية بنفسي؟ A في السرية والجهرية لا بد من قراءة فاتحة الكتاب؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب).

حكم عملية إصلاح غشاء البكارة

حكم عملية إصلاح غشاء البكارة Q ما حكم عملية إصلاح غشاء البكارة لمن وقعت في خطيئة؟ A لا تجوز، لأنها عملية خداع ومكر.

واجعلوا بيوتكم قبلة

واجعلوا بيوتكم قبلة قسم الله سبحانه وتعالى العطايا والأرزاق بكل أنواعها بين عباده؛ لكي يعبد بكل أنواع العبادة، وأعطى أعداءه سلطاناً يتسلطون به على المؤمنين؛ ليعبدوه على صدق، ولنا في قصة موسى مع فرعون وقومه آيات وعبر، فإن المحبة والتآلف، وإعمار البيوت بعبادة الله والصلاة من أسباب النصر على الأعداء وتفريج الهموم واستجابة الدعاء، وقد أمر الله بتبشير المؤمنين حتى لا يدخل اليأس في قلوبهم.

تكليف الله عباده بجميع أنواع العبادة بتقسيمه بينهم الأرزاق والعطايا بأنواعها

تكليف الله عباده بجميع أنواع العبادة بتقسيمه بينهم الأرزاق والعطايا بأنواعها إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله وعليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فقد خلق الله سبحانه وتعالى الخلق لعبادته، وقسم سبحانه وتعالى الأرزاق والعطايا، والسعة والضيق، والسرور، والحزن بينهم، وأنواع الأرزاق كلها؛ لتتنوع عبودية أهل الإيمان، فالله سبحانه وتعالى يحب أن يعبد بأنواع العبادة كلها، وجعل سبحانه وتعالى في الأرض من يفسد فيها، ويسفك الدماء، ومن يخالف شرعه، ويكفر ويصد عن سبيله؛ ليحقق أهل الإيمان أنواع العبودية لله سبحانه وتعالى على كل حال، وفي كل حين. وقدر سبحانه وتعالى أن يعطي أعداءه سلطاناً ظاهراً مدة من الزمن، يتسلطون خلاله وبه على عباده المؤمنين؛ ليصبر أهل الإيمان، ويتعبدوا لله سبحانه وتعالى باليقين في وعده، وإن بدت الأمور كلها على خلاف ما يظهر، وإن بدت الأمور كلها على خلاف هذا الوعد، ولكنهم يوقنون بوعده سبحانه وتعالى فيصيرون أئمة بذلك.

آيات وعبر من قصة موسى مع فرعون وقومه واستضعاف فرعون لبني إسرائيل

آيات وعبر من قصة موسى مع فرعون وقومه واستضعاف فرعون لبني إسرائيل لقد جعل الله عز وجل في قصة موسى عليه الصلاة والسلام آيات وعبر يتعظ بها أهل الإيمان على الدوام، قال الله عز وجل: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ * وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} [يونس:87 - 92]. يخبر الله سبحانه وتعالى عن أمره لموسى وهارون بعدة أوامر تحتاجها الطائفة المؤمنة حين يتسلط عليها عدوها، وحين تكون مستضعفة في الأرض، وما جعل الله ذلك إلا خيراً لهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عجباً لأمر المؤمن! إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له). ولم يقدر الله عز وجل أن يتسلط فرعون على بني إسرائيل، ولا أن يتسلط كل ظالم وكافر على أهل الصلاح والإيمان إلا لأجل أن يزدادوا إيماناً وتسليماً؛ لأنه يحب ذلك، والكفرة أهون على الله من الجعلان، والدنيا بأسرها أهون على الله عز وجل من جناح بعوضة، ولو كانت تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها كأساً، وكيف لا، وقد مد الله عز وجل عمر أعتى أعدائه إبليس مدة الدنيا بأسرها، لا يموت فيها إلى يوم يبعثون؟ فإذا وجدت من يمد في عمره وسلطانه سنين، فلن يكون شيئاً بالنسبة إلى عمر إبليس، وإبليس أشد عداوة، وهو مصدر الكفر والشرك، والظلم، والفساد في الأرض بوسوسته لبني آدم، فإذا رأيت ذلك علمت أن الله سبحانه وتعالى لهوان الدنيا عليه، وهوان الكفرة والمجرمين من أعدائه عليه، أعطاهم ما أعطاهم، وهو سبحانه وتعالى قدر ذلك لتنفذ أوامره عن طريق أهل الإيمان، ليقتربوا من الله عز وجل أكثر. قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا} [يونس:87] أي: اتخذا بيوتاً لقومكما، واعلما مواقع هذه البيوت، وذلك حتى تبقى هذه الرابطة بين النبي وبين أتباعه وبين أهل الإيمان بعضهم بعضاً، وذلك أن هذه الرابطة القوية والأخوة في الله سبحانه وتعالى، رابطة الحب في الله، هي من أعظم ما يهون على المؤمنين البلاء الذي يصيبهم في مرحلة استضعافهم.

معنى قوله: (واجعلوا بيوتكم قبلة)

معنى قوله: (واجعلوا بيوتكم قبلة) قال كثير من المفسرين في قوله عز وجل: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} [يونس:87] أي: اجعلوا بعضها يقابل بعضاً، وذلك حتى يقترب بعضهم من بعض، وتتوثق العلاقة فيما بينهم، وتباعد القلوب هو من أعظم أسباب تسلط الأعداء، وإذا اقتربت القلوب كان ذلك من أسباب النصر بإذن الله تبارك وتعالى، ونهى الله عز وجل عن التنازع والفشل، إذ هو سبب الخسران والهزيمة بلا شك. ونحن نرى أثر ذلك في أمة الإسلام في زماننا هذا وقد بلغت أكثر من ألف مليون إنسان، ومع ذلك يتسلط عليها عدوها لما افترقت كلمتهم، وتباعدت قلوبهم، ولا شك أن التقاء الأبدان على طاعة الله سبحانه وتعالى سبب لاجتماع القلوب بإذن الله، ولو عجزوا عن أن تجتمع أبدانهم، إلا أن الرابطة الإيمانية التي بينهم، إذا قويت وتمكنت، كانت بإذن الله تبارك وتعالى سبباً لنصرتهم على عدوهم. قال سبحانه وتعالى: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:62 - 63]. فجعل النصرة قرينة الألفة، حيث جعل نصرته لنبيه صلى الله وعليه وسلم قرينة تأليف القلوب بين المؤمنين، بعد أن كانوا أعداء، كما ذكر سبحانه وتعالى ذلك في قوله: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران:103]. فالأخوة التي يحبها الله عز وجل هي الأخوة فيه ولأجله، والتحاب فيه سبحانه وتعالى موجب لمحبته، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل: حقت محبتي للمتحابين في، حقت محبتي للمتجالسين في، حقت محبتي للمتباذلين في، حقت محبتي للمتناصحين في)، أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل. وهذه الأخوة التي يحبها الله سبحانه وتعالى من أعظم أسباب تهوين ما يحصل لأهل الإيمان في فترة بلائهم، وامتحانهم بتسلط عدوهم. والتفسير الثاني في قوله سبحانه وتعالى: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} [يونس:87] أي: صلوا في بيوتكم، وذلك إذا عجزوا بسبب تسلط آل فرعون عليهم من أن يصلوا في أماكن عبادتهم في مساجدهم، وذلك أمر عظيم الأهمية، وهو أن تكون البيوت محل العبادة، فإذا عمرت بعبادة الله عز وجل وذكره، كان ذلك من أعظم أسباب سكينة القلوب، ومن أعظم أسباب نزول النصر من عند الله عز وجل. ولا بد أن تكون الأحوال الإيمانية لأهل الإيمان مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بتصورهم عما يقع لهم في ميزان القوة والضعف مع عدوهم. فكلما اقتربوا من الله عز وجل بصلاتهم وصيامهم وذكرهم وتلاوتهم قواهم الله عز وجل، واقترب ما وعد الله سبحانه وتعالى من الوعد الحق بنصرة الحق وأهله بإذن الله. وإذا نقص الإيمان والإسلام في قلب العبد، أو في قلوب الطائفة المؤمنة كان ذلك إيذاناً بطول فترة المحنة والبلاء. نسأل الله العافية.

النهي عن جعل البيوت قبورا لا يصلى فيها وفضل صلاة الرجل للنافلة في بيته

النهي عن جعل البيوت قبوراً لا يُصلَّى فيها وفضل صلاة الرجل للنافلة في بيته لا شك أن الصلاة في المساجد أفضل من الصلاة في البيوت في الفريضة، وهذا الذي يؤمر به في الفرائض كلها إذا أمكن ذلك، ولكن قال النبي صلى الله وعليه وسلم: (اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبوراً). فالبيت الذي ليس فيه صلاة كالقبر لا يصلى فيه؛ لأن القبور لا يصلى فيها، فينبغي لأهل الإيمان أن يكثروا من الصلاة في بيوتهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (صلاة الرجل في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلا المكتوبة). وإذا كنت أيها المسلم تتشوق إلى الصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشد الرحال للصلاة هناك، فهي عبادة وقربة لله عز وجل إذ (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، -قال النبي صلى الله عليه وسلم- ومسجدي هذا). فإذا كان الإنسان يشد الرحال والمسافات البعيدة، ليصلي في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه يمكنه أن يحصل على أفضل من صلاته في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في أمر النافلة، وهو أن يصلي في بيته، حيث ذلك أقرب إلى الإخلاص، وإلى الخشوع، وإلى أن ينزل الله عز وجل السكينة على أهل البيت، ويدفع عنهم السوء، وتتربى الأمة تربية عبادية تختلف عن تلك التربية التي يكون الناس فيها أمام بعضهم بعضاً، فكلنا يحتاج إلى ذلك بلا شك، قال تعالى: ((وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً))، وكلا التفسيرين معناه صحيح، والأمر الذي دل عليه وهو: اجعلوا بيوتكم يقابل بعضها بعضاً لتتوثق العلاقة بينهم، وتزداد الأخوة فيما بينهم، وأن يصلوا في بيوتهم، ويكثروا من العبادة، كلا الأمرين من أعظم أسباب إزالة سلطان الكفرة والمجرمين وأعداء الدين. فهذه واجبات مرحلة الاستضعاف التي قدر الله عز وجل أن يمر بها أهل الإيمان، وأن تمر بها الطائفة المؤمنة وذلك لحكمته البالغة؛ لكي يتعبد أهل الإيمان بأنواع العبادات، ولكي يتضرعوا إلى الله سبحانه وتعالى، ولكي يخلصوا له وحده، ولكي تتعلق قلوبهم به سبحانه وتعالى دون من سواه، ولكي تنقطع الأسباب أمامهم فلا يجدون مفراً ومهرباً إلا إلى الله عز وجل، قال تعالى: {لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ} [التوبة:118].

الخشوع في الصلاة سبب للفلاح ومفتاح لنصرة الأمة على أعدائها

الخشوع في الصلاة سبب للفلاح ومفتاح لنصرة الأمة على أعدائها لإقامة الصلاة أمر عظيم الأهمية في حياة المسلم، إذ الصلاة صلة بينه وبين الله عز وجل، وذلك بأن يقيم ركوعها وسجودها وخشوعها، حتى يحصل على الفلاح وتطمئن نفسه وتقر عينه، فإن الطمأنينة وقرة العين في الصلاة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وجعلت قرة عيني في الصلاة). (وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة). (وكان يقول: أرحنا بها يا بلال)، وذلك إذا حصل الخشوع، ولم تكن ثقيلة على الإنسان، قال عز وجل: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:45 - 46]. وإنما تكون الصلاة ثقيلة إذا لم يجد الإنسان لها طعماً لعدم خشوعه فيها، فتصير تحريك عضلات، وقياماً على الأقدام، وكلفة بلا طعم، فلا تكون مؤثرة أثراً إيجابياً في حياته، فينصرف منها كما دخل فيها، فإنه لا يكتب للمرء من صلاته إلا ما عقل منها. ونسأل الله العافية. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ينصرف المرء من صلاته وليس له إلا نصفها، ثلثها، ربعها، خمسها) وعد النبي صلى الله عليه وسلم حتى ذكر عشرها. فانظر يا عبد الله، ماذا يكتب لك من صلاتك؟ فإن صلاتنا مفتاح نصرنا، وإنما ننصر بالصلاة والدعاء، والتضرع إلى الله سبحانه وتعالى، والله عز وجل أمر بإقامة الصلاة في كل المواضع ولم يقل: صلوا وإنما قال: ((وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ)) وهذا أمرٌ إضافيّ زائد على مجرد الصلاة، وهو قوله تعالى: ((وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ)) وليس في موضع من القرآن: (وصلوا) وإنما أمر بإقامة الصلاة، والله أعلى وأعلم. وذلك لأن حضور القلب فيها سبب أساسي لتأثيرها المطلوب، وحضور ذكر الله عز وجل في القلب هو أعظم غايتها، كما قال عز وجل لموسى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14]. وكما قال عز وجل: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران:42 - 43].

ذكر الله في الصلاة أكبر من النهي عن الفحشاء والمنكر

ذكر الله في الصلاة أكبر من النهي عن الفحشاء والمنكر قال سبحانه وتعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45]. فالصلاة تتضمن نهياً للإنسان عن الفحشاء والمنكر، وما فيها من ذكر الله أكبر من النهي عن الفحشاء والمنكر، وذلك أن النهي عن الفحشاء والمنكر هو من باب العلاج، وذكر الله هو من باب غذاء القلوب التي لا تحيا إلا به، فإنّ فعل المأمور وهو ذكر الله عز وجل به حياة القلوب، والذي به تستنير، وترى حقائق الوجود، والذي به تحيا من بعد موتها، وتطمئن إلى الله عز وجل، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]، فالذكر أعظم مقصود؛ ولذا كان ذكر الله أكبر.

من منافع ذكر الله في الصلاة تفريج الهموم واستجابة الدعاء

من منافع ذكر الله في الصلاة تفريج الهموم واستجابة الدعاء ذكر الله في الصلاة أكبر مما تضمنته من أنواع المنافع الأخرى، وذلك أن ذكر الله عز وجل هو سبب السبق، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سبق المفردون، قيل: ومن المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات)، وليس الذكر مجرد تحريك اللسان بهذا الذكر المأمور به، بل الذكر حضور المذكور في قلب الذاكر، ثم التعبير عن ذلك باللسان، وإذا صحت صلاتنا وأقمناها كان ذلك من أعظم أسباب تفريج الكربات، وزوال الهموم، بل لا نبعد إذا قلنا: إنّ الأمور العظمى التي غيرت وجه الحياة على وجه الأرض، إنما أعطيها أهل الإيمان من الأنبياء والأولياء في الصلاة، ففي ليلة غزوة بدر عبد الله عز وجل بها في الأرض النبي صلى الله عليه وسلم طول الليل وهو قائم يصلي ويبكي ويستغيث بالله عز وجل وفي ذلك أنزل الله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [الأنفال:9]، فكانت هذه نقطة التحول التي انقلب فيها الأمر على المشركين، والتي تغيرت بها موازين القوى على ظهر الأرض إلى يوم القيامة، وخسر إبليس أعظم خسارة، لم يُر في صورة أدحر، ولا أصغر، ولا أذل منه يوم بدر، وإنه يرى يوم عرفة في أدحر صورة وأذلها، لكنه في يوم بدر رئي في صورة أذل، فقد أعطي النبي صلى الله عليه وسلم النصر في تلك الليلة بدعائه وتضرعه بالدعاء إلى الله عز وجل. وكما أعطى الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين ما أعطاهم وهم في محاريبهم وعبادتهم، فدعوة صادقة في ركعة خاشعة، وفي سجدة يقترب الإنسان بها من الله، تنقلب بها موازين الأرض والسموات بإذنه سبحانه. أما علمنا دعوة نوح عليه السلام كيف تغيرت لها الأرض والسموات، حين سمع الله دعاءه ففتح السماء قال تعالى: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} [القمر:12 - 13]. فقد استجاب الله عز وجل دعوته، وكذلك الأنبياء، بل لا نبعد إذا قلنا: إن سبحانه يبتلي عباده المؤمن بما يكرهه عز وجل، فإنه يكره مساءة المؤمنين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل (وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض عبد مؤمن يكره الموت وأكره مساءته). فالله يكره مساءة المؤمن، ولا بد له من الموت، ولذا قدره عز وجل، فإذا كانت هذه المساءة يكرهها الله عز وجل سبحانه وتعالى لأنه يحب عبده المؤمن، فكيف بما يحصل من أمور عظيمة من الفساد وانتهاك الحرمات، وسفك الدماء في الأرض ظلماً وعدواناً وطغياناً من الكفرة؟ فإن الله عز وجل يكره ذلك، ومع ذلك قدره، وما تردد فيه تردده في قبض عبده المؤمن، وذلك لأن الله عز وجل يحب أن يسمع تضرع المؤمنين، فهل نستفيد مما قدر الله عز وجل علينا من الآلام والمحن؟ فلنعلم أنه ما قدرت هذه الأمور إلا ليسمع الله تضرع المحبين ودعائهم، ويرى تقلبهم في الساجدين، كما كان النبي عليه الصلاة والسلام يدعو ربه عز وجل ويقوم، كما أخبر الله سبحانه وتعالى: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء:219] فالله عز وجل يراه وهو يتقلب في الساجدين من أمته صلى الله وعليه وسلم، وهو أولهم وأعظمهم قدراً، فالله سبحانه وتعالى قدر ذلك لنقيم الصلاة ونسعد ونتضرع، قال عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:42 - 43]. فنسأل الله أن يعافي المسلمين في كل مكان.

أمر الله بتبشير المؤمنين

أمر الله بتبشير المؤمنين أمر الله موسى وأخاه هارون بتبشير المؤمنين فقال: ((وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ))، وذلك بقرب النصر والفرج، وعظيم الأجر والثواب عند الله سبحانه وتعالى. فالأمور لا تقف عند طريقة واحدة، بل كلها تتقلب في أمور الدنيا، كلها تتقلب موتاً وحياةً، وقوةً وضعفاً، ورفعاً وخفضاً، وعزاً وذلاً، فالله عز وجل هو الذي يملك ذلك، وهو الذي يدبر، وهو الذي وعد المؤمنين بخير الدنيا والآخرة، فلا بد ألا يستطيل أحد فترة البلاء والمحنة، وهذا الأمر تبشير المؤمنين حتى لا تيئس النفوس، فإن اليأس من طول فترة البلاء ربما يدخل إلى القلوب، كما قال الله عز وجل عن الرسل وأتباعهم: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214]. قال ابن عباس: كانوا بشراً، قال عز وجل: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:110]. حتى الرسل أتتهم مثل هذه الخواطر من شدة البأس الذي أصابهم، فكان لا بد من البشارات التي يبشر الله بها أهل الإيمان، وهذا التبشير إنما يكون بوعد الله، وذلك الذي يوقظ معاني الإيمان في قلب المؤمن، فيؤمن بأن الله حق، وقوله حق، ووعده حق سبحانه وتعالى. فلذلك إذا سُمِعت آيات الله عز وجل يُسْتَبشَر بها، وتذهب هذه الخواطر التي تقع في نفس الإنسان بوسوسة الشيطان، أو بوسوسة نفسه كذلك، فإن الرسل وقع في قلوبهم شيء من ذلك، ولكنه في حقهم كالبرق الخاطف، وسرعان ما يزول، ويعود إليهم الطيب النافع من الخير، وتعود الحياة، ويعود إليهم ما كانوا عليه من اليقين بوعد الله سبحانه وتعالى، وقدر الله ذلك ليكونوا أسوة للبشر فيما إذا أصابهم شيء من ذلك أن يفزعوا إلى حقائق الإيمان، وإلى تلاوة آيات الله عز وجل التي فيها الحكم القاطع، والنصر الجازم، لأن النصر آت من عند الله قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33]. وقال عز وجل: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173]. وهذا متكرر في كل الكتب السماوية، قال عز وجل: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء:105 - 106]. والزبور: اسم جنس للكتب التي تزبر، أي: تكتب من عند الله عز وجل من بعد الذكر الأول الذي هو اللوح المحفوظ، فلقد كتب الله في اللوح المحفوظ أن الأرض يرثها عباده الصالحون، وكتب ذلك في الكتب المنزلة من عنده إخباراً عما كتبه عز وجل في اللوح المحفوظ، وفي الكتاب الأول وفي الذكر الذي فيه كل شيء آت، وكل ما علم الله عز وجل وقوعه وهو واقع قطعاً. فهذه البشارة تحيي في قلب المؤمن معاني الإيمان، وتجددها وتصقلها، وتؤكدها وتذهب عنه وساوس الشيطان والنفس الأمارة بالسوء التي تقول له: لست على شيء، وإن كان الأمر قد يزداد مع بعض الناس على حسب درجة الإيمان، وكلما اقتبس الإنسان من نور الأنبياء زال عنه سريعاً ما يلقيه الشيطان في نفسه، أو تلقيه نفسه الأمارة من يأس، أو استبطاء لوعد الله عز وجل، وتعجل لإجابة دعوته، فالله عز وجل نهانا عن الاستعجال، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف:35]. وقال: {فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم:84]. وذلك بأنه كيده متين سبحانه وتعالى، فلا نستبطئ وعد الله عز وجل، وذلك لأن القلوب تنمو وتكبر من خلال وقاية لها في فترات البلاء، والبلاء للمؤمن كقشرة البيضة للفرخ الذي يحيا به بعد مدة يسيرة بإذن الله، ولو أن الفرخ كسر قشر بيضته قبل اكتمال نموه لهلك، ولكن حين أحياه الله سبحانه باكتمال سمعه وبصره وقلبه وحياته في داخل القشرة، نقرها نقرتين، فانفضت كأن لم تكن، وخرج شيئاً جديداً بعد أن كان في صفرة وبياض، وصار حياً ناطقاً سميعاً بصيراً فسبحان الله! فكذلك قلب المؤمن يحتاج إلى أن ينمو ويكبر، والبلاء كالقشرة له، والبعض يظنه هلاكاً له، وليس كذلك، بل هو لحمايته، ولحفظه واكتمال نموه، فإذا جاء الحين الذي قدره الله، وليس ذلك إلى الفرخ، وليس إلى الناس، ليس إلا إلى الله، فالله هو الذي يقدر متى ينكسر ذلك القشر لمصلحة ذلك الفرخ، فكذلك البلاء قدره الله للمؤمن لمصلحته ولمنفعته وتكميل عبادته وكمال حياة قلبه وسمعه وبصره، ووعيه وعقله وإدراكه لحقائق هذا الوجود، فعلى ذلك يقدر الله ذلك البلاء ثم ينكسر في لحظة، ويتحول الأمر إلى شيء آخر بقدرته عز وجل. لهذا كان لزاماً على المؤمنين أن يستبشروا بوعد الله، قال تعالى: ((وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ))، وأن يبشر بعضهم بعضاً، وأن يستبشروا باليقين بوعد الله، وهذا الذي تنال به الإمامة في الدين، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24]. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من الصابرين الموقنين.

من أسباب إجابة الله تعالى للدعاء اختيار الألفاظ الحسنة في الدعاء

من أسباب إجابة الله تعالى للدعاء اختيار الألفاظ الحسنة في الدعاء ذكر الله عز وجل أمراً آخر قام به موسى وهارون عليهما السلام، وذكر موسى تشريفاً وهارون كان مؤمناً على دعائه، قال عز وجل: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [يونس:88 - 89]. الدعاء سلاح المؤمن، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الدعاء هو العبادة)، وتأمل في هذه التوسلات التي توسل بها موسى صلى الله وعليه وسلم في دعائه، قال: ربنا، فالتوسل إلى الله عز وجل بالربوبية فيها شهود تدبير الخلق كله خلقاً وإيجاداً، ورزقاً وإعطاءً وقسماً وتنويعاً للعطايا والأرزاق بين البشر والرب المالك لكل ذرات هذا الوجود، والمالك لكل ما سواه، وهو السيد الآمر الناهي المطاع قال تعالى: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54]. عندما تقول: يا رب، أو تقول: ربنا، أو تقول: ربي، فإذا استحضرت هذه المعاني كان ذلك من أعظم أسباب إجابة الدعاء، ثم التوسل إلى الله بشئون تدبيره وعطائه ومنعه، فإن موسى عليه السلام ورحمة الله وبركاته قال: ((رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ))، ولم يقل: يا رب فرعون عنده كذا، ولم يقل: فرعون له من السلطان والأموال كذا، وإنما قال: إنك آتيت، فالله هو الذي يؤتي، وإنها لحقيقة جلية ظاهرة، مع أنها تشبه الموت في كون أكثر الناس يشكون في أن الله هو الذي آتى من آتى ملكاً ومالاً وزينة وسلطاناً، مع أنها حقيقة قاطعة لا يشك فيها عاقل إذا تدبر بداية الإنسان ونهايته، وإذا تدبر أن كل من أعطي مالاً ولد من عدم، وولد بعد أن كان في بطن أمه لا يملك شيئاً، قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:78]. أين كانت أموال الأغنياء منذ مائة سنة؟ كانت في أيدي غيرهم، أين السلطان الذي بيد أهل السلطان اليوم؟ أين كان قبل مائة سنة، أو قبل مائة وخمسين سنة؟ هل كان لأحد منهم ذرة سلطان على وجه الأرض؟ وهل كان يملك أحد منهم أن يوجد نفسه فضلاً عن أن يعطيها شيئاً من العطايا؟ لا، هو الذي ولد وأعطي السمع والبصر والفؤاد، وكان في قدرة الله ولم يزل أن يحرم العبد ذلك وهو يكفر بالله، ويشرك به ويظلم، ويفسد في الأرض، ولا يحرمه من يده ورجله، ولا يحرمه من سمعه وبصره، ولا يحرمه من عقله وفكره، أليس في كل يوم يولد على وجه الأرض أعمى أو أصم أو متخلف عقلياً؟ أليس يولد من الناس من لا تبطش يده، ولا تتحرك رجله؟ أليس في قدرة الله عز وجل أن يحرم الظلمة والكفرة والمجرمين والمنافقين من هذه العطايا كلها حتى لا يكفرون؟ فالله هو الذي يؤتيه ذلك ويحرمه. وهذه قضية يقينية لا يشك فيها عاقل، أنهم ما أعطوا وما أتوا به من قبل أنفسهم، والذين في قلوبهم مرض يشكون في هذا، بل ربما جزموا بضعف عكسها، جزموا بأن السلطان بأيدي البشر، وجزموا بأن المال هو من كدهم وصنعهم دون أن يكون عطية من الله، ولذا تجدهم يرجون ويخافون غير الله، ويعملون حساب الزينة والأموال في الحياة الدنيا. وأما موسى فيتوسل إلى الله بشهوده فعل الله عز وجل، قال تعالى: ((وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا))، ويشهد أمراً آخر فقال: ((رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ)). تأمل هذا الأمر العظيم الأهمية والعجيب، أنَّ الله هو الذي أعطاهم ليضلوا عن سبيل الله، فالله عز وجل لو شاء لهدى الناس جميعاً، قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس:99].

إضلال الله سبحانه وتعالى للكفرة ليضلوا عن سبيله سبب في كمال أهل الإيمان وزيادة إيمانهم

إضلال الله سبحانه وتعالى للكفرة ليضلوا عن سبيله سببٌ في كمال أهل الإيمان وزيادة إيمانهم قال سبحانه: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} [هود:118]، وهو الذي قدر سبحانه أن يضلوا عن سبيله ابتلاءً وامتحاناً، وكما ذكرنا أنَّ اكتمال عبودية أهل الإيمان بأن خلق الله الكفرة لكي يتمموهم عبوديتهم لله، فأوجد الله عز وجل من يضل عن سبيله سبحانه وتعالى، ليعلم المؤمنون أنه كفى بالله هادياً ونصيراً، وليعلم أهل الإيمان أن الله بيده الأمر كله، وإليه يرجع الأمر كله، وله غيب السموات والأرض، قال تعالى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود:123]. فالله سبحانه وتعالى هو الذي قدر أن يوجد من يضل عن سبيله، ولو شاء لجعلهم جنوداً له عز وجل، ولكنهم هانوا عليه وصاروا في أحقر صورة، فجعل الله حياتهم لغيرهم، قال تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر:19]، وجعل الله عز وجل إضلالهم عن سبيل الله سبباً لكمال أهل الإيمان، وزيادة إيمانهم وتسليمهم بقدرته وعلمه وحكمته وعدله عز وجل، فهو ما وضع هذه الأشياء إلا في مواضعها، وهو سبحانه وتعالى ما قدر إضلالهم عن سبيل الله، وجعلهم يضلون عن سبيل الله إلا أن ذلك يناسبهم، وهم قد فعلوه بأنفسهم، وهذا فيه شهود القدر، فموسى عليه السلام يشهد القدر في العطايا والأموال والزينة، ويشهد القدر في أفعال العباد، يشهد عطية الله عز وجل في الأموال والزينة، ويشهد أنه هو الذي قدر أن يوجد من يضل عن سبيله سبحانه قال تعالى: ((رَبَّنَا لِيُضِلُّوا)) أي: أعطيتهم ليضلوا، وهي حكمة بالغة له سبحانه وتعالى. وكان فرعون قد بلغ في الإجرام والعتو ما جعل موسى يدعو عليه ألا ينتفع بالآيات، وذلك لخبثه، ولربما يكون قد أوحي إليه أن فرعون لن يؤمن؛ ولذلك دعا عليه، وإن كان الله قد اختار لنبيه صلى الله عليه وسلم مثل ما اختار لإبراهيم عليه السلام في أن يتأنى ويرجو أن يخرج الله من أصلاب الكفرة من يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، ولكن موسى دعا دعوة مشروعة على فرعون وملئه في أن يطمس على الأموال، فلا ينتفع بها، قال تعالى: ((رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ))، حتى تقسوا والعياذ بالله، والقسوة من شدة الظلم والعدوان، تحصل للإنسان بالتدريج ثم تصل إلى درجات أقسى من الحجارة وأشد والعياذ بالله، وعند ذلك لا تنتفع بالموعظة، ولا تشهد آية، ولا تؤثر فيها معجزة، ويرون الآيات وهم عنها معرضون غافلون. نعوذ بالله. قوله تعالى: ((وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ)) أي: القسوة والعياذ بالله، فشيء فظيع إذا أصاب القلب الإنساني ما يدمره تدميراً، يشد عليه فلا ينتفع بشيء. قوله تعالى: ((رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ)) أي: فلا ينتفعوا بها، ((وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ))، فأجيبت دعوة موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام، وهلك فرعون وآله عدلاً منه وحكمة سبحانه وتعالى. نسأل الله عز وجل أن يعز الإسلام والمسلمين، وأن يذل الشرك والمشركين، وأن يدمر أعداء الدين، اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره واجعل تدميره في تدبيره واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين. ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، اللهم متعنا بأسماعنا، وأبصارنا، وقواتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا. ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، ونجنا برحمتك من القوم الكافرين. اللهم نجِّ المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك والدعاة إليك في كل مكان. ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.

من ترك شيئا لله

من ترك شيئاً لله لقد جعل الله تعالى أنبياءه ورسله أسوة حسنة في البذل والتضحية في سبيل الله، والصبر على ما يصيبهم في جنب الله تعالى؛ ولذلك فإن الله سبحانه جعل لهم من الكرامة والمكانة العظيمة في الدنيا والآخرة، ففي قصة إبراهيم مع أبيه وقومه أعظم وأبرز شاهد ودليل على البذل والتضحية في ذات الله تعالى، فعلى العلماء والدعاة أن يقتدوا بأنبياء الله ورسله، ويستشعروا الأجر العظيم الذي سيحصلون عليه مقابل ذلك، ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه.

إكرام الله لإبراهيم لمفارقته لوطنه وقومه

إكرام الله لإبراهيم لمفارقته لوطنه وقومه إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. من ترك شيئاً لله سبحانه وتعالى أعطاه الله عز وجل خيراً منه، ومن ضحى بشيء في سبيل الله فلابد أن يجزيه الله سبحانه وتعالى حياة طيبة في الدنيا، وثواباً آجلاً يوم القيامة. ولقد جعل الله أنبياءه ورسله الأسوة الحسنة في البذل والتضحية في سبيل الله سبحانه وتعالى، وفي اللجوء إلى الله عز وجل، والرضا به مدبراً ومعيناً، وجعلهم سبحانه وتعالى قدوة للعباد في الصبر على ما يصيبهم في سبيل الله، وبين الله ما فعل بهم سبحانه وتعالى من الكرامة في الدنيا والآخرة، قال الله سبحانه وتعالى عن إبراهيم عليه السلام في محاورته لأبيه: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا * وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} [مريم:48 - 50]. هاجر إبراهيم عليه السلام بعد أن استنفد أغراض الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى في قومه، بأن أقام عليهم الحجة وهدى الله عز وجل به من شاء، هدى به لوطاً عليه السلام، قال تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت:26]، وهدى به سارة وصارت امرأته، وكانت فيما يذكرون ابنة أحد ملوكهم أو أمرائهم أو كانت ابنة عمه، فالله عز وجل أعلى وأعلم، لكنها كذلك آثرت أن تهجر قومها وأن تهاجر في سبيل الله. هاجر إبراهيم عليه السلام، وترك الأهل والمال والوطن لله سبحانه وتعالى وذهب إلى ربه عز وجل، وذهب إلى الأرض المقدسة، وسكن في ديار لم يسكنها من قبل، {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات:99]. ولما فارق أهله لله عز وجل عوضه الله سبحانه وتعالى خيراً منهم، وأي صحبة أحسن من صحبة الأنبياء، وأي صحبة أحسن من صحبة الأهل والأبناء الذين يعبدون الله سبحانه وتعالى، فهذه هي الصحبة الحسنة التي عوضه الله عز وجل بها عن مفارقته لقومه، وكذلك كل من يترك شيئاً لله فإن الله سبحانه يأتيه بما هو خير منه. والخير الكثير في صحبة أهل الخير والإيمان، وصحبة الأنبياء سعادة بالغة عظيمة، فالنبي صلى الله عليه وسلم وهو بالمحل الأعلى وهو أفضل خلق الله عز وجل كان يقول في مرض موته: (في الرفيق الأعلى). والله سبحانه وتعالى قد أمر بصحبة الصالحين، فقد أمر من هو أفضل منهم بصحبتهم، فقال لنبيه عليه الصلاة والسلام: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28]. فلما اعتزل إبراهيم عليه السلام داره وأهله وقومه، وترك كل ذلك لله؛ آتاه الله عز وجل الذرية الصالحة إسحاق ويعقوب، ولم يذكر الله في هذا الموضع إسماعيل مع أنه الابن البكر لإبراهيم؛ وذلك لأنه إنما ذكر ذلك في مقام الامتنان عليه بالصحبة، ولقد كان إسماعيل عليه السلام بعيداً عن صحبته إذ جعله الله عز وجل مع أبيه إبراهيم سبباً لتعمير بيت الله الحرام، فكان في مكة المكرمة مع أمه هاجر، وإنما ذكر الله عز وجل إسحاق وابنه يعقوب عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام؛ لأنهما اللذان صحبا إبراهيم عليه السلام، ولا شك أن هذا فيه من النعمة على إبراهيم عليه السلام ما يجعلنا ننتبه إلى هذه المسألة المهمة، وهي نعمة صحبة أهل الخير والإيمان، ونعمة صحبة الصالحين والبحث عنهم، ومفارقة أهل السوء واعتزالهم ومخالفتهم رضاً بما أمر الله سبحانه وتعالى.

إكرام الله لإبراهيم بالذرية الصالحة

إكرام الله لإبراهيم بالذرية الصالحة إبراهيم عليه السلام إنما وهب ذلك الولد وولد الولد بعد عمر طويل، كما قال عز وجل عنه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} [إبراهيم:39]، ونتبين بذلك أن الله سبحانه وتعالى قد يؤخر إجابة دعوة عبده المؤمن وهو سبحانه وتعالى قد قضاها، ولكنه يؤخر ظهورها فترة من الزمن لحكم بالغة، وليوقن المؤمن رغم مرور الزمن بأن الله يجيب دعوته، فإبراهيم عليه السلام لم يقنط من رحمة ربه أبداً، رغم ما بلغه من الكِبَرِ، وتعجب حين بلغه نبأ وبشارة ولادة إسحاق عليه السلام، وقالت له الملائكة في بشارتهم: {بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ * قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:55 - 56]، فهو على الكبر لم ييئس من رحمة الله، وكان يعلم أن الله عز وجل يجيب دعوته، فقد قال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات:100] فبشره الله سبحانه بإسماعيل أولاً ثم بإسحاق ثانياً وبعد إسحاق يعقوب بن إسحاق، وكل ذلك من فضل الله سبحانه وتعالى، فلا نستعجل في الدعاء، ولا نقول: دعونا فلم يستجب لنا؛ فإن الله عز وجل لم يجعل للمؤمن شقاء مع الدعاء، {عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} [مريم:48] فإذا دعا العبد ربه سبحانه وتعالى فقد كسب في دنياه وآخرته، وقد حصل على ما يريد أو أفضل مما يريد، فإما أن يستجيب الله عز وجل دعوته، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها، وإما أن يدخر له يوم القيامة من الثواب ما يتمنى معه أن لو لم يكن قد استجاب الله له شيئاً من دعائه في الدنيا، وإلا فكل دعواته مجابة، قال سبحانه: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]، وقال عز وجل: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الشورى:26]، فهو عز وجل يستجيب دعاء المؤمنين ولكن بما هو خير لهم، وبما لا يحسن المؤمن تصوره، وربما ظن خيراً في أمر ويجعل الله سبحانه وتعالى في غيره خيراً منه لعبده المؤمن، فالله يدبر أمر عباده المؤمنين بعلمه وحكمته وفضله ورحمته سبحانه وتعالى، فعلى العبد أن يرضى بما قضاه الله عز وجل، ويوقن بوعد الله، ويوقن بإجابة الدعوات، وعليه أن يظل متضرعاً منكسراً لله سبحانه وتعالى، ولا يشك في وعد الله، فإن الله لا يخلف الميعاد: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]. وقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186]. فالله سبحانه وتعالى وعد عباده المؤمنين بالإجابة وهو أكبر وأكثر فضلاً، وإذا أكثروا من الدعاء أكثر الله عليهم من العطاء، وكلما تضرع الإنسان إلى الله وانكسر جبره الجبار سبحانه وتعالى بفضله ورحمته، فعلينا أن نكثر من الدعاء دائماً ولا نستعجل ولا نقول: دعونا فلم يستجب لنا، فإبراهيم عليه السلام هاجر بعد دعوته إلى الله عز وجل، وبقي بأرض فلسطين مدة طويلة من الزمن إلى أن وهبه الله إسحاق ويعقوب، قال تعالى: {وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا * وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا} [مريم:49 - 50]، فالله عز وجل يهب من رحمته بالهداية وبالإيمان وبالتوفيق للعمل الصالح بأن جعلهم أئمة يهدون بأمره، فهذه الرحمة الخاصة -الرحمة بالدين وبالعمل الصالح- أكبر وأعظم أثراً من الرحمة العامة التي يرحم بها المؤمن والكافر بالطعام والشراب والنفس والنعم الدنيوية، إن الرحمة الباقية هي الرحمة التي سببها عطاء الله عز وجل وتوفيقه بالعمل بطاعته، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} [الأنبياء:73] فهذا معنى: {وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا} [مريم:50]. فهي الرحمة التي يخص الله عز وجل بها عباده المؤمنين، وهي التي تبقى وتستمر معهم، قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأعراف:156]، وذلك أنه إذا رحمه الله عز وجل بطاعته كان ذلك سبباً لرحمته المستمرة المستقرة التي لا عذاب معها ولا شقاء أبداً، وذلك أن تكتب له الرحمة في الآخرة. قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا} [مريم:50] فكل من وهب الله عز وجل له نعمة الإيمان ووهب له نعمة العمل الصالح ووفقه للعمل بطاعته فقد قسم الله له من رحمته ما لم يقسم لغيره؛ فليشكر نعمة الله بالثبات، وليشكر نعمة الله سبحانه وتعالى بمزيد الطاعة والخير، وهداية الناس إلى صراط الله المستقيم بأمر الله سبحانه وتعالى، ومزيد العبودية لله عز وجل: {وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} [الأنبياء:73].

إكرام الله لإبراهيم وأهله بالثناء الحسن عليهم

إكرام الله لإبراهيم وأهله بالثناء الحسن عليهم قال تعالى: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} [مريم:50] لقد جعل الله لإبراهيم ولإسحاق وليعقوب ولآل إبراهيم جميعاً لسان صدق في الآخرين، وذلك أن الناس تثني عليهم، واجتمعت الأمم على مباركتهم والدعاء والثناء لهم، كما أخبر الله سبحانه وتعالى عن دعوة إبراهيم عليه السلام: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} [الشعراء:83 - 84]، واللسان الصدق هو الثناء الحسن من أهل الإيمان، وهذا هو المقصود، وهو لسان علي رفيع القدر؛ لأن أهل الإيمان إذا أثنوا على أحد فإن الله سبحانه وتعالى يوجب له الخير، وليس هناك اعتبار إلا بثناء أهل الخير والإيمان؛ فإنهم شهداء الله عز وجل في أرضه، كما في الحديث: (مر بجنازة فأثنوا عليها خيراً فقال عليه الصلاة والسلام: وجبت وجبت، ثم مر بجنازة فأثنوا عليها شراً فقال: وجبت وجبت، فسألوه عن ذلك، فقال: هذه أثنيتم عليها خيراً فوجبت لها الجنة، وهذه أثنيتم عليها شراً فوجبت لها النار، ثم قال: أنتم شهداء الله في أرضه). فالمعتبرون في الثناء والمدح والذكر الحسن هم أهل الإيمان، وأما أهل الباطل فمدحهم وذمهم لا قيمة له: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:44]، فهم يمدحون الباطل ويذمون الحق، فلا اعتبار بهم ولا تقبل شهادتهم عند الله.

قصة إبراهيم مع أبيه وقومه ودعوته لهم

قصة إبراهيم مع أبيه وقومه ودعوته لهم ذكر الله سبحانه وتعالى في مواضع أخرى دعوة إبراهيم عليه السلام لقومه بالتفصيل، قال سبحانه وتعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ} [الأنعام:74 - 84]. قال الله عز وجل مبيناً في هذه الآيات دعوة إبراهيم لأبيه وقومه، وقص علينا في سورة مريم قصته مع أبيه، وفي هذه الآيات قصته مع قومه كذلك، فهو يدعو القريب والبعيد إلى الله عز وجل، وبدأ بالأقرباء ولم يترك الآخرين، بل دعا إلى الله كل من لقيه، فهكذا المؤمن الداعي إلى الله عز وجل يدعو كل من لقيه إلى الله سبحانه وتعالى، فليست الدعوة إلى الله محصورة في طائفة معينة من الناس لا تتعدى إلى غيرهم، أو في قومية معينة أو وطن معين، بل المؤمن يدعو إلى الله عز وجل القريب والبعيد، ويبدأ بأهل بيته وأهل بلده.

دعوة إبراهيم لأبيه

دعوة إبراهيم لأبيه قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ} [الأنعام:74] وهذا فيه بيان أن آزر هو أبو إبراهيم، وليس كما يقول من ينقل عن أهل الكتاب: إنه عمه؛ فراراً من أن يقال: إن أبا إبراهيم مات كافراً، وهذا كلام باطل مخالف لنصوص الكتاب والسنة؛ فإن النسب لا ينفع إذا لم يكن هناك إيمان ولم يكن هناك طاعة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه) وإنما يغالي في أمر الأنساب من لا يفقه حقيقة النسبة التي جعلها الله عز وجل بين عباده المؤمنين، وهي نسبة الدين، فهي أغلى وأعلى قدراً من أمر النسب، ولذلك يتكلمون كثيراً في أقارب النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا احتج عليهم بأن أبا إبراهيم بنص القرآن مات كافراً، قالوا: كان هذا عمه، وليس ذلك بصحيح إنما هو أبوه، كما قال الله عز وجل: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً} [الأنعام:74]، وهذا الاستفهام للإنكار عليه وعلى قومه، {إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأنعام:74] أي: ضلال بين، إن الأدب مع الوالد وغيره لا يعني كتمان الحق، ولا يعني تلبيس الحق بالباطل، ولا وصف الباطل بأنه حق أو الضلال بأنه هدى، بل الأدب أمر يستعمل في الألفاظ وطريقة الحوار، لكن لا يعني ذلك أن تنقلب الحقائق، ولا أن يجامل على حساب الدين، ولا أن يداهن في قضية الاعتقادات والأعمال والمبادئ التي بعث بها الأنبياء.

دعوة إبراهيم لقومه ومناظرته ومحاججته لهم بالآيات المشهودة

دعوة إبراهيم لقومه ومناظرته ومحاججته لهم بالآيات المشهودة إن عبادة أحد من دون الله هو الضلال بعينه، قال تعالى: {وَمَنْ أَضلْ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:5 - 6]، والذي يظهر أن قوم إبراهيم إنما كانوا يعبدون هذه الأصنام على أنها ترمز للنجوم التي جعلوها آلهة، ولذا ناقشهم إبراهيم وجادلهم بهذه الحجج العقلية الواضحة، وقد أراه الله عز وجل الأدلة المرئية في ملكوت السماوات والأرض، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأنعام:75] وكان ذلك في أول نشأته، كما قال سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} [الأنبياء:51]، وكانت هذه الأقوال التي قالها إبراهيم على سبيل المناظرة لقومه، أي: فلنفترض أن هذا الكوكب رب، أو لننظر هل يصلح هذا القمر أن يكون رباً أو نحو ذلك، كما في صحيح مسلم أن إبراهيم عليه السلام في يوم القيامة يقول: (إني كذبت ثلاث كذبات: ثنتان منهما في ذات الله، وعد منهما: قوله عن الكوكب: هذا ربي). فهذه من كذباته في ذات الله سبحانه، أي: لإقامة الحجة. فقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأنعام:75] أي: ليرى منها كيف يحتج على الكفرة والمشركين، وكيف يحصل له اليقين بآيات الله سبحانه وتعالى التي يشاهدها، كما يؤمن بآيات الله التي يسمعها إذا أنزلها الله عز وجل عليه. والآيات المرئية المشهودة والآيات المسموعة المنزلة كلاهما تدلان على شيء واحد: هو حقيقة ملك الله سبحانه وتعالى، وأنه المتفرد بالربوبية والألوهية وبكمال أسمائه وصفاته سبحانه وتعالى، وكل ذلك أمر يشهده كل ذي عقل لمن تدبر هذا الملك الواسع.

الحكمة من إطلاع الله إبراهيم على ملكوت السماوات والأرض

الحكمة من إطلاع الله إبراهيم على ملكوت السماوات والأرض قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأنعام:75] كما أراه الله ضلال أبيه وقومه إذ عبدوا الأصنام آلهة من دون الله، كذلك أراه الله ملكوت السماوات والأرض، وذلك أن الحق في قلب ابن آدم إنما يتضح بالبراءة من الباطل، وبحصول اليقين بفضل الله سبحانه وتعالى، فلابد من أن يتنظف ذلك القلب وأن يتطهر من أرجاس الجاهلية، فإذا رأى ضلال من يعبد غير الله كانت تلك الخطوة الأولى إلى اليقين، ثم يتدبر في ملكوت السماوات والأرض، والملكوت هو الملك، فيرى ملكاً عظيماً باهراً، يرى تدبير هذا الكون الواسع في أرضه وسماواته وفي أرزاقه وحياته ومماته، يرى كيف يحيي الله من يشاء ويميت من يشاء، كيف يدبر الله عز وجل أمر الشمس والقمر والنجوم والرياح والسحاب، كما أرشد الله عز وجل إلى هذه الآيات بأية طريقة؛ حتى نتدبر ونعلم أن القوة لله جميعاً، قال عز وجل: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} [البقرة:164 - 165] أي: من رأى ملكوت السماوات والأرض أيقن أن القوة لله جميعاً، فكم أودع الله عز وجل في هذه المخلوقات من أنواع القوى مما ليس بأيدي البشر!

دعوة إلى التأمل في ملكوت السماوات والأرض

دعوة إلى التأمل في ملكوت السماوات والأرض تأمل القوة التي أودعها الله عز وجل فقط في هذا الهواء، إذا أراد الله عز وجل أن يسلط شيئاً من الأعاصير أو الرياح على أهل بلد أو على أهل قرية من القرى ماذا يصنع الله عز وجل بهم؟ هكذا ظن الإنسان نفسه قوياً قادراً حين ركب الهواء في الطائرات، وسار في الفلك على الماء، ومع ذلك لم ينتبه أن قوته لا تساوي شيئاً، لحظات يسيرة يفقد الإنسان فيها سيطرته عل كل شيء، وتنتهي حياته في لحظه، ويسقط من أعلى، ويغرق إلى أسفل، وتتزلزل الأرض من تحت قدميه. إذا تأملنا القوة التي أودعها الله عز وجل في هذه البحار الزاخرة، لو أنها خرجت على الناس لأغرقتهم في لحظة. لو أن الإنسان تأمل القوة التي جعلها الله عز وجل في هذه الأرض، كيف إذا تزلزلت خرجت طاقات مدمرة هائلة تدمر كل شيء على وجه الأرض، لا يملك قوي ولا ضعيف من البشر لها دفعاً ولا رفعاً إلا ما شاء الله. وتأمل فيما حولك من السماوات والأرض، هذه النجوم وهذه الكواكب السائرة في أفلاكها، كم فيها من القوة والطاقة والقدرة التي لو أن الله سلطها علينا لأهلكتنا في لحظات؟ كم من المذنبات تسير في هذه الأكوان الواسعة في السماء الدنيا، لو أنها سقطت على أهل الأرض لدمرتهم في لحظات ودمرت حضارتهم تدميراً. ثم ليتأمل الإنسان فيما في الأرض من ملك الله عز وجل في نفسه وفي رزقه، فإنه ما أحيا نفسه ولا أوجدها، ولا يملك لها سمعاً ولا بصراً ولا صحة ولا استمرار حياة، ولا نبض قلب، لمن هذا الملك؟ لله الواحد القهار، هذا يشهده كل عاقل كما يشهده كل مؤمن، ولا يعقل هذه الآيات إلا العالمون بالله سبحانه وتعالى وبشرعه، فالله عز وجل يري من شاء ملكوت السماوات والأرض؛ ليكون من الموقنين بوحدانية الله وعظمته وقوته وقهره، وإذا كانت هذه القوة التي جعلها الله في المخلوقات فكيف بالقوة التي هي صفته سبحانه وتعالى؟! وهو سبحانه وتعالى الرزاق ذو القوة المتين، إذا أيقن العبد بذلك ارتفع نظره عن هذه الأرض وعما يبدو له من سلطان وملك للناس يغفل به أكثر الخلق عن ملكوت السماوات والأرض، وأن الملك الحقيقي لله، فيعيشون في هذه الدنيا في غفلة، وهم معرضون عن آيات الله الدالة على ملكه وعظمته وقدرته وقوته ووحدانيته، فيعيشون في هذه الحياة يتبعون من يظنونه يملك، ويطيعون من يظنونه بيده الأمر ويدبر الأمور، والله وحده هو الذي بيده الأمر كله، وإليه يرجع الأمر كله، وبيده الخير كله سبحانه وتعالى، إن العبد إذا أيقن بوحدانية الله وقدرته صغر الناس في عينه زماناً ومكاناً، وعرف مقدار قوتهم التي جعلها الله عارية في أيديهم؛ ليرى ما يصنعون، قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس:14]، فإذا كان الأمر كذلك لن يضره ملك الظالمين، ولم يسر في فلكهم كما يريدون، وإنما يفرد ربه سبحانه وتعالى بالعبادة والوحدانية.

إقامة إبراهيم الحجة على قومه في بطلان عبادتهم لغير الله

إقامة إبراهيم الحجة على قومه في بطلان عبادتهم لغير الله قال الله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا} [الأنعام:76] يريد أن يقيم الحجة على قومه في بطلان عبادتهم لغير الله، وأنه لا يصح أن يعبد من يأتي أحياناً ويغيب أحياناً. فقوله: ((فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ)) أي: ستره الليل، ((رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي)) إما على سبيل الاستفهام: أيصلح أن يكون هذا ربي؟ يريد أن يستثير فهمهم وعقولهم، أو على سبيل الإنكار، والأول أظهر، ثم يأتي الجواب بعد حين: ((فَلَمَّا أَفَلَ)) أي: غاب، ((قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ))، والعبودية أصلها المحبة. والإنسان في قلبه فطرة أساسية دافعة قوية لمحبة إلهه الحق، فقد فطر على ذلك أشد من حاجته إلى النفس والطعام والشراب، فبدنه يحتاج إلى الهواء وإلى الماء وإلى الطعام، فجعل الله في نفسه شبقاً إلى هذه الأشياء، فهو يشتهي أن يأخذ النفس ولا يستغني عنه دقيقة واحدة، وربما يستغني عن الماء والغذاء أياماً، ولكنه لا يبقى بدونهما كذلك. وأما القلب فشأنه شأن آخر، فإن الله فطره على أن يحب من لا يغيب عن محبته لحظة، وإذا غاب عن محبته فإنه يمرض ويموت، وربما تتعثر بعض القلوب حين يطول بقاؤها دون أن تحيا بماء الحياة المنزل من عند الله سبحانه وتعالى. فالله يحيي الأرض بعد موتها، ويحيي القلوب بما ينزل من الوحي من عنده عز وجل، فقلب العبد يحتاج إلى أن يحب من لا يغيب عن حبه لحظة، وأما إذا غاب القلب عن حب الله، فإنه يأتيه من أنواع الأمراض وأنواع المتاعب وأنواع النكد والشقاء ما لا يستطيع معه أن يستمتع بحياة، ولولا سكر الشهوات وسكر المعاصي لما بقي الناس أصلاً بأبدانهم على ظهر الأرض، ولماتت قلوبهم، وقد شقوا شقاء عجيباً لا يدرون ما وجهه إذ أعرضوا عن الله عز وجل؛ لأنه لا يصلح أن تتوجه القلوب إلا إلى الله سبحانه وتعالى الذي لا يغيب، كما قال تعالى: {وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} [الأعراف:7]، بل هو مطلع على خلقه، سميع بصير قدير قوي في ملكه سبحانه وتعالى، لا يزول ملكه ولا ينقص، وهو سبحانه وتعالى حي باق لا يموت، قال عز وجل: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255]، والآثار العقلية شاهدة بذلك فضلاً عن الآثار والأدلة السمعية المنزلة من عنده سبحانه وتعالى، فهي ترشد العقول إلى أقصد الطرق لمعرفة الله سبحانه وتعالى ومحبته. فقوله: ((لا أُحِبُّ الآفِلِينَ)) أي: أن العبد يحتاج إلى الحب، ولن ينال هذا الحب إلا بالتوجه إلى الله عز وجل، فإذا وجهت وجهة القلب لغير الله وأحب غير الله مرض ومات، وكان والعياذ بالله كما قال الله: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ} [الأنعام:122] فالكافر مثله في الظلمات ليس بخارج منها، وهو ميت لا يحيا، وإنما تحيا القلوب بمعرفة الله ومحبته سبحانه وتعالى.

حقيقة العبودية لله عز وجل ومعناها

حقيقة العبودية لله عز وجل ومعناها إن العبودية لله عز وجل ليست مجرد تكاليف شاقة وأموراً صعبة، بل هي اللذة التي لا ينال العبد سعادة بدونها، وهي من دقائق نعيم أهل الجنة، فإنما صارت الجنة جنة للقرب من الله عز وجل، وإنما صارت محل السعادة لأنه سبحانه رضي عن أهلها وأرضاهم، وكلما عملت بمرضاة الله في الأرض نلت شيئاً من هذا النعيم، وكلما تقربت إلى الله بأنواع القربات قربك الله عز وجل إليه؛ فشعرت بالراحة، ورزقك محبته، ورزقك من نعيم مناجاته ولذة الشوق إليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم جامعاً بين الأمرين: (وأسألك لذة النظر إلى وجهك) فهذا في الآخرة (والشوق إلى لقائك) فهذا في الدنيا (في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة) أي: إنما تكون الفتن ملهية عن الشوق إلى الله عز وجل إذا أضلت العبد، فإذا كان الإنسان بعيداً عن الفتن وجد لذة الشوق إلى الله، كما أنها قرينة لذة النظر إلى وجه الله في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أن كليهما من باب واحد، وهو باب القرب والحب لله سبحانه وتعالى، ولا يصلح غير الله من أهل أو مال أو ولد أو حجر أو شجر، أو كبير أو زعيم أو ملك أو درهم أو دينار مما يحبه الناس، بل لابد أن يغيب ولا بد أن يأفل ولابد أن يبتعد عن الإنسان، إما أن يموت هو وإما أن يموت الإنسان عنه، وإما أن يبتعد عنه في حياته فيشقى به بحبه وبالبعد عنه، ولا يسعد العبد ولا يصلح قلبه إلا بحب الذي لا يغيب سبحانه وتعالى.

من أدلة استحقاق الله تعالى للعبادة دون غيره

من أدلة استحقاق الله تعالى للعبادة دون غيره قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} [الأنعام:77] أي: إن العبادة إنما تكون لمن يملك الهداية، فالله عز وجل هو الذي يستحق الحب؛ لأنه هو الذي يهدي، وهذه الكائنات الأخرى التي تعبد من دون الله لا تملك هداية، قال عز وجل: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ} [الأعراف:148] فلابد من هداية البيان، وهذه الهداية التي أنزلها الله على رسله صلوات الله وسلامه عليهم من الوحي المنزل لابد أن يلتزم العبد بها. إن الإقرار بوجود الله لا يصلح ولا يكفي إذا لم يكن معه التزام الهداية التي أرسل الله بها رسله. فقوله: ((لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ)) فلا تعبدوا من تشقوا بحبه، ولا تعبدوا من لا يهديكم سبيلاً، ولا يبين لكم أمراً ولا نهياً، وبهذا يتبين بطلان من يزعم إيمان من يقر بوجود الله دون أن يتبع الرسل الذين أتوا بالهداية من عند الله؛ فإن من ترك هداية الرسل فقد ضل ضلالاً مبيناً. أقول قولي هذا وأستغفر الله.

تبرؤ إبراهيم عليه السلام من كل ما يعبد من دون الله تعالى

تبرؤ إبراهيم عليه السلام من كل ما يعبد من دون الله تعالى الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم. أما بعد: فقال عز وجل: ((فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ)) أي: هذه الشمس أكبر ضوءاً وأكبر قدراً وأكثر انتشاراً في نورها، ولكن لابد لها أن تغيب. وقال تعالى: ((فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ)) تدرج معهم حتى وصل بهم إلى الحقيقة التي قد هداه الله إليها من قبل، وهي وحدانية الله والبراءة من الشرك وأهله. فقوله: ((فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ)) هذا قضية إبراهيم عليه السلام وقضية كل الأنبياء، وهذه القضية هي الشق الأول من كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، قضية النفي، وهي البراءة من الشرك وأهله والبعد عن الباطل، فلابد من هدم الجاهلية حتى يبنى الإسلام الحق؛ لأنه لا يتحقق في قلب ابن آدم الحق إلا بهدم الجاهلية وبيان بطلانها والبراءة مما يعبد من دون الله، ولا يكون موحداً من أقر بعبادة غير الله ولو لغيره، فلو أن إنساناً قال: أنا أعبد ربي وأنتم تعبدون آلهتكم، وكل منا على حق، وكل منا يختار ما يريد؛ لكان مشركاً بالله عز وجل، حتى ولو قال: أنا لا أعبد غير الله؛ وذلك لأن إقراره بالملل الباطلة وبعبادة غير الله دليل على أنه لم يشهد أن الله لا إله إلا هو، وإنما أقر أن الله إله من الآلهة، وهل كان شرك المشركين بإنكار ألوهية الله أم بإنكار وحدانيته؟ كان بإنكارهم لوحدانيته عز وجل، قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] , ولذا لم تكن كلمة الإيمان هي كلمة الله إله، وإنما لا إله إلا الله، فنبدأ بالنفي قبل الإثبات، وهذا النفي لكل معبود من دون الله، فلا بد أن نقر بأن عبادة غيره باطلة، ونشهد بأنه الإله المعبود بحق، فلا يعبد بحق إلا الله سبحانه وتعالى. قال تعالى: ((إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ)) أي: وجهت وجهتي وإرادتي وقصدي لله رب العالمين، فبعد شهود كمال الربوبية بتدبير ملك السماوات والأرض، لابد أن يكون الإنسان منفعلاً متأثراً بهذا الذي شهده من ملكوت السماوات والأرض، وأنه لله، بأن يجعل توجهه وإرادته وقصده وتوحيده الطلبي الإرادي لله عز وجل. فقوله: ((إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ)) أي: أن أعظم دليل على توحيد الربوبية هو خلق السماوات والأرض على غير مثال سابق. قال تعالى: ((حَنِيفًا)) أي: مائلاً إلى الله، وهذا هو الدليل الثاني، وهو المذكور في قوله: ((لا أُحِبُّ الآفِلِينَ)) أي: أنا محتاج إلى محبة دائمة، محبة من لا يغيب، وقد فطرت القلوب على أن تميل إلى الله؛ لأن الحنيف هو المائل إلى الله المعرض عن غيره، هكذا فطرت القلوب، وهذا كله من أدلة التوحيد، فإن القلب لا يسعد إلا إذا توجه إلى الله، فإذا ذاق عبودية الله علم أن لذات الدنيا سراب بالنسبة إليها، وأنها لا قيمة لها إذا لم تكن مع عبودية الله والتحنف والميل إليه، والبعد عما يعبد من دونه. قال عز وجل: ((وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)) أي: أتبرأ من أهل الشرك كما أتبرأ من الشرك نفسه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الاستفتاح: (وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين). ما أحوجنا عباد الله إلى أن ترتفع أنظار قلوبنا عن هذه الأرض الضيقة، عما يظن فيها من ملك وسلطان، عما يظن فيها من قوة وقدرة للمخلوقين، ما أحوجنا إلى أن ننظر في السماوات والأرض وخلقهما؛ لنعلم حقيقة البشر وضعفهم وعجزهم، وبالتالي لا نتوجه إليهم من سعي في رضاهم أو فرار من سخطهم إلا فيما يرضي الله سبحانه وتعالى، وإنما نحب الله عز وجل ونميل إليه، ونعرض عمن سواه وعما يعبد من دونه، فبهذا يحصل للعبد حقيقة التوحيد، وبهذا يرفعه الله عز وجل الدرجات العلى، فهو يرفع درجات من يشاء سبحانه وتعالى. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين. اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب. اللهم اغفر لنا ذنوبنا كلها دقها وجلها، أولها وآخرها، قديمها وحديثها، صغيرها وكبيرها، خطأها وعمدها، سرها وعلانيتها، ما علمنا منها وما لم نعلم، ما تقدم منها وما تأخر. اللهم وفقنا لما تحب وترضى. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وأقم الصلاة.

§1/1