دروس للشيخ نبيل العوضي

نبيل العوضي

الجهاد في سبيل الله تعالى

الجهاد في سبيل الله تعالى إن الجهاد في سبيل الله هو سبيل انتصار المؤمنين في تاريخهم، وما زال إلى اليوم هو الطريق لعزتهم وكرامتهم، وإن أعداء الإسلام اليوم من داخل الصفوف وخارجها يتخطفون الأمة من كل جانب، فلا سبيل إلى النجاة ولا مخرج إلا بالعودة إلى الله، ثم إعداد العدة للجهاد. فهذا خالد نازل الكفار في أكثر من معركة فما هزم في واحدة منها لأن شعار قتاله (لا إله إلا الله). أما نحن فقد قست قلوبنا بالشهوات، وأصابتنا العطالة والبطالة والتهور والكسل عن أفرض فرائض الإسلام وأكبر أركان الإسلام، وكذا عن ذروة سنام الإسلام الجهاد في سبيل الله.

الجهاد في سبيل الله طريق للنصر والتمكين

الجهاد في سبيل الله طريق للنصر والتمكين إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عُمياً، وآذناً صُماً، وقلوباً غُلفاً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان وسلَّم تسليماً كثيراً. أما بعد: عباد الله! في زمن الفتن والمحن، إن أردنا أن ندفع عنا غائلة أعدائنا فالشرط قائم شرط وحيد واضعه رب العالمين: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} [محمد:7] خطاب للأمة في مجموعها، لا بد أن يكون نصر الله في ثنايا حياتنا في سياستنا، واقتصادنا، وتعليمنا، وإعلامنا في معاهدنا، وجامعاتنا، وبيوتنا، ومساجدنا، ومنتدياتنا، وأسواقنا؛ ننصر الله بالاستجابة لأوامر الله ننصر الله بالاستجابة لداعي الجهاد على كافة الأصعدة جهاد النفس عن نوازع الهوى، وجهاد أعداء الله، وأصحاب الهوى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:111]. الخفض والرفع بيد الله العز والذل بيد الله، والنصر والهزيمة بيد الله، وقد جعل الله لذلك طريقاً جعل الله للنصر طريقاً، وجعل الله للخلاص طريقاً، فما هو؟ إنه الجهاد في سبيل الله الجهاد طريق إلى الخلاص والحياة بعز. لا إله إلا الله! كيف صوَّرَه المولى على هيئة مبايعة حقيقتها أن الله اشترى أنفس المؤمنين وأموالهم فلم يعد لهم منها شيء، والثمن هو الجنة، والطريق هو الجهاد، والنهاية هي النصر أو الاستشهاد بيعة معقودة بعنق كل مؤمن، وسنة جارية لا تستقيم الحياة بدونها، لا بد للحق أن يكافح، ولا بد لكلمة الله أن تعلو، ولا بد للمقدسات أن تُحفظ وتُصان، مادام في الأرض أعداء للحق وأنصار للشيطان، الجهاد بيعة معقودة بعنق كل مؤمن: {من مات ولم يغزُ ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق}. أمتي! في زمن الفتنة يجب أن يكون حديث الشباب، والشيوخ، والنساء، والأطفال، عن الجهاد، وعن العدة والاستعداد. يا أمتي وجب الجهاد فدعي التشدق والصياحْ ودعي التقاعس ليس ينصر من تقاعس واستراحْ ما عاد يجدينا البكاء على الأقارب والنواحْ لغة الكلام تعطلت إلا التكلم بالرماحْ إنا نتوق لألسن بُكْمٍ على أيدٍ فصاحْ

واقع الأمة اليوم بين العزة والذلة

واقع الأمة اليوم بين العزة والذلة يا عباد الله! يا مسلمون! كثير من الناس اليوم يعيشون حياتهم ولا يعنيهم منها إلا طعام يشبِع، وشراب يروِي، ولباس يُتَزَيَّن به، ورفاهية ينعمون بها، تراهم يسعون في الأرض ويجدُّون، وماء وجوههم في سبيلها يريقون، لا يفكرون فيما وراء ذلك من عزة نفس، أو علو همة، فكأنهم لا يعقلون. أولئك الصنف من الناس عن كرائم الغايات مُبْعدون، وفي سبل الشهوات يعمهون، إذا ما دعا الداعي للجهاد -ومواقف الجهاد تقتضي أن يتنازل الإنسان على رفاهيته، وأن يتخلى عن كثير من ضرورات حياته- إذا ما دعا الداعي هؤلاء نكص كل منهم على عقبيه، ورضي بأن يكون مع الخوالف، وحق عليه قول الله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11]. ولا إله إلا الله! ما أكثر هذا الصنف بين المسلمين! وهو سبب الذل، والمهانة، والهزيمة، والعار، والهوان. لكنَّ هناك صنفاً آخر -وإن عزَّ وقلَّ- لا يرضى إلا بالحياة العزيزة الكريمة يرفض العيش في ظل الاستعباد يرفض انتقاص الكرامة. هذا الصنف إذا ما أذن مؤذن الجهاد: يا خيل الله اركبي! جعل الدنيا بما فيها من زينة وبهجة خلف ظهره، وحمل السلاح، وضحى في سبيل الله بكل غالٍ ونفيس، إنه يُضحي بأسرته؛ وأسرة الإنسان أعز ما عنده، ويُضحي بأمواله؛ والمال عند الكثير شقيق الروح، ويُضحي بالمسكن؛ والمسكن على القلوب عزيز، كل ذلك في سبيل من فراغ؟ في سبيل الله جل وعلا. يحمل الإيمان في قلبه كالجبال، قبل أن يحمل السلاح، أولئك الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً.

خالد بن الوليد مواقف وبطولات

خالد بن الوليد مواقف وبطولات أيها المسلمون: حيرتنا الأحداث المتلاحقة، ولا ندري عم نتكلم وبم نتكلم، وقد تكلمنا ثم تكلمنا، لكن حسبنا أن نقف قليلاً مع سيرة فارس الإسلام مع سيرة ليث المشاهد وسيف الله خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه، ليكون لنا نموذجاً في المحن والحوادث، وقدوة في زمن الحيرة، وأسوة في زمن رخص دماء المسلمين، في زمن لم يعد فيه لدم المسلم ثمن، بل قيمته شهوة حاكم، أو جرة قلم قيمته حلم طاغية بالامبراطوريات قيمته رغبة في التسلط وتلذذ بمناظر دماء المسلمين وهي تراق، مأساةٌ أن تذهب الشعوب الإسلامية ضحية أطماع المغامرين. ما أحرانا أن نرجع إلى سيرة خالد، فنعم القدوة خالد، فهو من اقتدى بقائدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم. يأيها الشاب من هذه الأمة في هذا الزمن! بمثل خالد فتأسَّ، وبصحبه فاقتدِ، وعلى سيرته فاعكف؛ فإنها النور والسرور في حوالك الظلام وزمن الحيرة وانطفاء النور. كن كالصحابة في زهد وفي ورع القوم هم ما لهم في الناس أشباهُ عبَّاد ليل إذا جن الظلام بهم كم عابد دمعه في الخد أجراهُ وأسد غاب إذا نادى الجهاد بهم هبوا إلى الموت يستجدون رؤياهُ إنه خالد بن الوليد، مَن أبوه؟ أبوه كافر، صنم من الأصنام، لكن الله يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها. أخرج الله من صلب الوليد المجرم الكافر خالداً الذي طبع على كل جسده بطابع الشهداء، ومات على فراشه، فلا نامت أعين الجبناء! إنه أبو سليمان، الذي نازل في أكثر من مائة معركة، فما هزم في واحدة منها، لأن شعار قتاله (لا إله إلا الله). إنه شارب السم إنه المتوكل على الله، يُعرض عليه سم في قارورة كما ذكر ذلك الذهبي في سيره، يقول له مشرك وثني: إن كنتم أيها المسلمون تزعمون أنكم تتوكلون على الله فيكرمكم، فاشرب هذا السم يا خالد ولا تمت أو كما قال، فقال خالد بلسان الواثق من ربه: باسم الله توكلت على الله، ثم شرب القارورة كلها، فلم يصبه إلا العافية، وما زاده ذلك إلا عزة وكرامة. من هو خالد؟ إنه من احتبس كل شيء في حياته لله دروعه وعتاده وماله في سبيل الله. فيا من جعل الدنيا أكبر همه، قد جعلها خالد تحت قدميه، فرفع الله ذكره في العالمين.

ثناء النبي صلى الله عليه وسلم على خالد

ثناء النبي صلى الله عليه وسلم على خالد يقول عمر رضي الله عنه وأرضاه: {أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم لأقبض زكاة الناس وصدقاتهم، فقبضتها حتى انتهيت إلى خالد، فمنعني الزكاة، وأتيت العباس فمنعني الزكاة، وأتيت ابن جميل فمنعني الزكاة، قال: فعدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله دفع الناس كلهم زكواتهم إلا عمك العباس، وخالد بن الوليد، وابن جميل، فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال: أما عمي العباس فهي عليّ ومثلها لسنتين، ألا تدري يا عمر أن عم الرجل صنو أبيه؟! -أي: مثل أبيه، فأنا أدفعها عنه لأنني ابنه وهو في مثابة أبي- وأما خالد فإنكم تظلمون خالداً، لقد احتبس أدرعه وعتاده وماله في سبيل الله} فكيف يزكي مالاً احتبسه كله في سبيل الله؟! كيف يزكي دروعاً وسلاحاً وسيوفاً قد جعلها وقفاً في سبيل الله؟! يقولون معن لا زكاة لماله وكيف يزكي المال مَن هو باذلُهْ ولو لم يكن في كفه غير روحه لجاد بها فليتق الله سائلُهْ ثم يقول صلى الله عليه وسلم: {وأما ابن جميل فما ينقم على الله إلا أنه كان فقيراً فأغناه الله جلَّ وعلا}. ها هو خالد ذلك المظلوم الذي ظلمه التاريخ والمؤرخون، سكتوا عن خالد وذكروا نابليون، وهتلر، ولينين، واستالين، أعداء الإنسانية، وقتلة البشرية، الذين دمروا المدن، وقتلوا الآمنين، وسفكوا دماء النساء والأطفال والرجال والمسلمين. سكتوا عن خالد وظلموه وهضموا حقه لكن لن يظلمه رب العالمين سيوفيه حسابه، ويحفظ أجره ومثوبته: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89]. يقول خالد أتيت المدينة لأسْلِم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، دخلت حيياً خجلاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآني قام وحياني، وهش وبش في وجهي وعانقني. عانقه صلى الله عليه وسلم معانقة الأبطال، وحياه محيا الشجعان، لأنه سوف يكون سيفاً في يده صلى الله عليه وسلم. ومن تلك اللحظة أعطاه صلى الله عليه وسلم حقه في الإسلام احترمه وقدره، وأنزله منزلته؛ لأن الله أخرجه حياً من ظهر ميت كافر عنيد.

بطولات خالد يوم معركة مؤتة

بطولات خالد يوم معركة مؤتة وتأتي معركة مؤتة بين المسلمين والكفار، قريباً من معان في أرض الأردن، ويحضرها خالد مع جنود الله مع الذين يشهدون أن لا إله إلا الله بحق، كانوا ثلاثة آلاف من المسلمين، والروم ما يقارب مائتي ألف مائتا ألف كافر يقابلون ثلاثة آلاف، قُتِل قواد رسول الله صلى الله عليه وسلم الثلاثة؛ زيد، وجعفر، وابن رواحة، فنادى المسلمون بعضُهم بعضاً: أين أبو سليمان ليأخذ الراية؟ فأخذ الراية بيساره، ونزل في أرض المعركة نزول الأبطال، وقال للمسلمين: احموا ظهري وناولوني السيوف؛ ناولوه السيف الأول -كما يقول ابن جرير - فأخذ يضرب به من صباح النهار في صدور أعداء الله وفي نحور الفجرة المعارضين لدين الله حتى تكسر ناولوه السيف الثاني، والثالث، والرابع، حتى كسر تسعة أسياف في يديه وهو يضرب أعداء الله، وقتل عدداً كثيراً من الكفار، وما ثبت في يده إلا صفيحة يمانية، كان يضرب بها في صدور الأعداء، وانتهت المعركة بالنصر لعباد الله الموحدين، استقبله صلى الله عليه وسلم وحياه وعانقه، ودعا له بالأجر والمثوبة.

موقف خالد يوم فتح مكة

موقف خالد يوم فتح مكة ويأتي فتح مكة، يوم فتح الله على رسوله صلى الله عليه وسلم مكة، يوم قال الله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:1 - 2] دخل صلى الله عليه وسلم ومعه عشرة آلاف مقاتل من الصحابة، وقد أخضع الله له الشرك والمشركين تساقطت الأصنام بين يديه، ماذا فعل؟ هل تكبر كما يتكبر المتكبرون؟ هل تجبر كما يتجبر المجرمون يوم يروعون الآمنين، وينتهكون أعراض المسلمين، ويدَّعون أنهم مجاهدون، ويصفق لهم المتآمرون المدعون الإسلام وما أظنهم بمسلمين؟ لم يتكبر بل نكَّس رأسه، ودمعت عيناه صلى الله عليه وسلم حتى أن لحيته تمس رحل ناقته، أما خالد فكان من أبطال هذا الجيش، كان من جهة شرقي مكة، من الخندمة يقود الكتائب المسلمة -كتائب تموج كموج البحر- فتلقاه عكرمة بن أبي جهل قبل إسلامه بجيش كافر يريد أن يصد هجوم خالد، فتظاهر خالد بالهزيمة وتراجع إلى الصحراء، فظن الكفار أنه انهزم، وما كان له أن ينهزم والله معه، فلما خرجوا إلى الصحراء، عاد بجيشه يُعْمِل سيفه فيهم حتى أدخلهم بيوتهم، ودخل أحد الكفار بيته وأغلق عليه بابه، وكان معه سيف يشحذه بالسم شهراً، يقول: أقتل به محمداً -يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم- فلما فر من خالد قالت له امرأته تعيره: أين سيفك؟ ما أغنى عنك شيئاً -تشحذه بالسم شهراً فما أغنى عنك- قال لها مرتجزاً: إنكِ لو شهدتِ يوم الخندمةْ إذ فر صفوان وفر عكرمة والمسلمون خلفنا في غمغمةْ يلاحقونا بالسيوف المسلمة لم تنطقي باللوم أدنى كلمةْ ودخل خالد وشكر الله سعي خالد الذي لم يهزم في معركة.

بطولات خالد في قتال المرتدين

بطولات خالد في قتال المرتدين ثم تُفْجَع الأمة بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتولى أبو بكر الصديق، فيعرف أن خالداً سيفٌ سلَّه اللهُ على المشركين ما كان له أن يُغمده، فأخرج الله وساوس الشيطان من رءوس المرتدين على يدِ خالد، وأوَّلُهم مسيلمة الكذاب، خرج في اليمامة يدَّعي النبوة، يدعي أن الله أرسله وأنه يوحِي إليه، نعم. كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [الأنعام:112]. لما سمع أبو بكر أن مسيلمة ادعى النبوة في اليمامة وقف على المنبر، وأخذ راية لا إله إلا الله، وقال: آدَّعَى مسيلمة النبوة؟! والله لأزلين وساوس الشيطان من رأسه بـ أبي سليمان خالد بن الوليد، قم يا خالد خذ الراية وقاتله حتى تقطع دابره من الأرض. وخرج في جيش من أهل بدر، وغيرهم من الصحابة، فلما تلاقى الجمعان، كان جيش بني حنيفة كثيفاً جداً، كالجبال يمور موراً، فلما رآهم الصحابة قال بعضهم: فلنلتجئ إلى سلمى وأجا -جبلين في حائل - فدمعت عينا خالد، وقال: إنما ننتصر عليهم بهذا الدين: [[لا إلى سلمى وإلى أجا، ولكن إلى الله الملتجا]]. لا إله إلا الله! ما أعظم اليقين! ثم تكفن، ولبس جيشه أكفانه، ولسان حالهم يقول: فإما حياة بعز وإلا ممات وشهادةْ. كنا نرى الأصنام من ذهب فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا لو كان غير المسلمين لصاغها حلياً وحاز الكنز والدينارا أرواحنا يا رب فوق أكفنا نرجو ثوابك مغنماً وجوارا لما رأى بنو حنيفة خالداً أصابهم الهلع والرعب في قلوبهم، وأنزل الله الهزيمة بهم: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:45]، وقتل الله مسيلمة الكذاب، وانتهت هذه الأسطورة؛ لأن من كان مع الله كان الله معه، ومن قاتل بالله كان النصر في حوزته: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7].

خالد يوم اليرموك

خالد يوم اليرموك وتستمر الأيام، وخالد من نصر إلى نصر، ومن معركة إلى معركة، ويصل إلى اليرموك، ويقف في جنود الله، في ثلاثين ألفاً يقاتلون مائتين وأربعين ألفاً، قال بعض المسلمين: [[يا خالد! ما أكثر الروم! قال له: اسكت، بل ما أقل الروم! إنما يكثر القوم بنصر الله، وددتُ أنهم قد أضعفوا لنا العدد وأن الأشقر قد برئ من وجعه]]. الله أكبر! شفاء عقب فرس خالد بربع مليون جندي. لبس أكفانه، وقال: موعود الله أتى، وخرج وصفَّ جيشه، فخرج له قائد من قادات الروم يقال له جرجة عليه السلاح والرماح، فلما خرج على فرسه لقيه خالد فقال جرجة: يا خالد! اصدقني في هذا اليوم ولا تكذبني، لماذا خرجتم؟ قال: خرجنا لندعو الناس إلى (لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله)، قال له جرجة: فمن أطاعكم؟ قال: من كان منا وكان أفضل منا، قال: كيف يكون أفضل منكم؟! قال: لأننا رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعجزاته وآياته فصدقناه، ومن آمن الآن لم يره، فيؤمن بالغيب، قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فأخذه خالد إلى خيمته، وأنزله فيها، وقال: اغتسل وتوضأ وصلِّ ركعتين، واخرج معنا، علَّ الله أن يرزقك الشهادة، فتوضأ بعد أن اغتسل وصلى ركعتين وخرج، فقاتل حتى استشهد، فقال خالد: رحمك الله! عَمِلت قليلاً وأجرت كثيراً. ولما رأى الروم هذا الموقف ذُهلوا! وأخرجوا له ابن قوقل وهو فاجر من الفجار، فلما رآه خالد أراد أن يدعوه كما دعا جرجة إلى الإسلام فعرض عليه الإسلام ولكن الله طبع على قلبه، ولو علم الله فيه خيراً لأسمعه، فلما علم أن لا حل معه، قال ابن قوقل: يا خالد لماذا جئتم؟ قال: نحن قوم نشرب الدم، وسمعنا أن أحسن الدماء وألذها دماء الروم، فجئنا اليوم نشرب دماءكم، فأوقع الله الرعب في قلوبهم، وبدأت المعركة، وتنتهي بالنصر، وجاءوا بالشهداء، وجلس خالد يستقبل الشهداء، يُحملون على أكتاف الرجال، وجاء صديقه عكرمة، فوضع وهو مقتول بين يديه في آخر رمق، وفي آخر سكرة، وهو ينظر إلى خالد دموعه تسيل على خديه، ودموع خالد تسيل على خديه، ويؤتى بثلاثة من الشهداء في آخر رمق من الحياة، فيصيح خالد عليَّ بالماء؛ ليشربوا فقُدِّم لهم ماء بارد في شدة حرارة الصيف، وقد انتهوا من المعركة، فأعطى خالد الماء لـ عكرمة، فرفض أن يشرب وأشار إلى أخيه أن يشرب قبله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9] أعطى خالد زميل عكرمة الماء، فأشار إلى زميله، وأشار الزميل إلى زميله، فعاد الماء إلى عكرمة، فإذا هو قد مات، وعاد إلى الثاني، فالثالث، فالرابع، فإذا هم قد ماتوا، فجهش خالد بالبكاء، ورمى بالكوب مليئاً بالماء البارد، وقال: [[يا رب! اسقهم من جنتك فإنهم تركوا الماء البارد لمرضاتك]]. وأثناء معركة اليرموك مات أبو بكر رضي الله عنه، وتولى الخلافة بعده عمر رضي الله عنه، فكان أول مرسوم اتخذه عمر في خلافته الجديدة أن يعزل خالد بن الوليد ويولي أبا عبيدة، ويأتي الأمر أبا عبيدة، فيُخفي كتاب عمر، ولا يخبر خالداً، ولما انتهت المعركة، قام أبو عبيدة وأخبر خالداً، فقال خالد: [[ولِمَ لا تخبرني؟ والله ما قاتلتُ بالأمس لـ عمر، ولن أقاتل اليوم لـ عمر، ولكني أقاتل لله رب العالمين]] يقاتل لله وهو قائد، ويقاتل لله بعد أن يعزل وهو جندي، لأن من أراد بعمله وجه الله آجره الله، ورفع الله مثوبته، لا يهمه منصب ولا قيادة، ومن أراد بعمله الدنيا، فما له عند الله من خلاق. ليت أبا سليمان وأمثال أبي سليمان يعلمون أننا اليوم قست قلوبنا بالشهوات أصابتنا العطالة، والبطالة، والتهور، والكسل عن أفرض فرائض الإسلام، وعن أكبر أركان الإسلام، وعن ذروة سنام الإسلام، نسكن الفلل، ونجلس على الفرش الوثيرة، ونركب السيارات أقوياء في الدنيا شجعان للدرهم والريال أذكياء في أعمالنا ووظائفنا، وفيما يجلب لنا العيش في هذا الدنيا؛ لكننا مع الله لم نقم بواجبنا، وصحابة رسول الله في جوع وشدة وعطش ولكنهم في جهاد، يقومون الليل ويصومون النهار، ويتلون كتاب الله، ويجاهدون في سبيل الله. يا رب فابعث لنا مِن مثلِهم نفراً يشيدون لنا مجداً أضعناه يا أمة الإسلام هبوا واعملوا فالوقت راحْ إنهم أسود على بعضهم، نعاج مع أعدائهم. يا أحفاد خالد! يا أبناء الكرام! يا أبناء من أنار بالإسلام المعمورة! يا أحفاد من بنى منائر الحق! مَن غير أجدادكم رفع (لا إله إلا الله)؟ مَن غير أجدادكم سجد لله؟ سلوا المحيطات والبراري والقفار والبحار عن أجدادكم: سلوا التاريخ عنا كيف كنا نحن أسسنا بناءً أحْمَدِيَّا أنتم كَهُمْ، ومَن يشابه أبَهُ فما ظلم. فلنعد عودة صادقة لهذا الدين، ولنتحمس لهذا الدين كيف لا يكون ذلك وآباؤنا هم الذين رفعوا راية الله، لكن قَدْ يَخْلُفُ النارَ رمادٌ، فنعوذ بالله أن نكون الرماد، ونعوذ بالله من شر خلف بعد خير سلف، ونعوذ بالله أن نضل أو نزل أو نظن أن غيرنا سبقونا إلى المجد والكرامة. اللهم أصلح لنا ديننا ودنيانا وآخرتنا. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

خالد بن الوليد بعد معركة اليرموك

خالد بن الوليد بعد معركة اليرموك الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان، وسلَّم تسليماً كثيراً. أما بعد: عباد الله: يجاهد خالد لإعلاء كلمة الله، حتى استقرت في غالب أصقاع المعمورة، ويأتي خالد رضي الله عنه بعد أن تنتهي المعارك، بعد أن يسمع (الله أكبر) تدوي في غالب أنحاء المعمورة، يأخذ رضي الله عنه فرسه، ويأتي إلى حمص في أرض الشام، ليعود إلى أهله بعد رحلة الجهاد الطويل، يقبل الناس بعدها على الغنائم وعلى رفع الدور والقصور، ويقبل خالد على آيات الله وكلام الله وذكره كان إذا صلى الفجر أخذ مصحفاً فينشره بين يديه ويقرأ حتى يقترب وقت الظهر. يقول أهل العلم: كان إذا قرأ يبكي، ويقول: شغلني الجهاد عن القرآن يتحسر على حياته، ووالله ما ضاعت، إنها لحياة محفوظة عند الله، ما شغله عن القرآن إلا الجهاد؟! فماذا نقول نحن ونحن في زمن الفتن؟! هل شغلنا الجهاد عن القرآن لنعتذر به عند الله يوم القيامة؟! لا والله، بل شغلتنا شهواتنا، ومعاصينا، ولهونا، ولعبنا شغلنا طلب الأماني والسهر على الأغاني، ما شغلنا الجهاد ولا شغلنا القرآن! أوَّاهُ! في الليلة البهيمة في منتصفها، ما تسمع إلا أصوات الأغاني تفوح -والله- من بيوت المسلمين، لتفري كبد المسلم الغيور. أوَّاهُ أوَّاهُ الأولى بنا في هذا الوقت أن نعكف على كلام الله نقرؤه ونتدبره. يا أمة القرآن! اعمروا لياليكم بالقرآن اعمروا لياليكم بذكر الله اعمروا لياليكم بالقيام اتركوا أصوات الشياطين، فالذي لا يحتسب عمره من اليوم، والذي لا يفكر في ثوانيه ودقائقه من الآن فليبكِ على عمره، والله لَيُسْلَبَنَّ عمرُه من بين يديه وهو ينظر، والله لَيَهْلِكَنَّ مالُه وولدُه، فلا يغني ولا يدفع، والله ليُسْأَلَنَّ عن كل شيء يوم القيامة على مرأىً ومسمع. هاهو خالد! يقف ليُنْهي حياته بالقرآن، أما ليله فقيام وبكاء، وأما نهاره فتدبر لآيات الله، ولمثل هذا فليعمل العاملون، وفي مثله فليتنافس المتنافسون.

خالد أثناء مرض الموت

خالد أثناء مرض الموت طلب خالد الشهادة في مائة معركة فما وجدها، لكنه وجدها على فراشه: {من تمنى الشهادة صادقاً من قلبه رُزِقَها وإن مات على فراشه}. قال عند موته: [[لقد حضرتُ كذا وكذا معركة، وما في جسمي موطن شبر إلا وفيه ضربة بسيف، أو طعنة برمح، أو رمية بسهم، وهأنذا أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء]] وتفيض روحه إلى الله: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30]. ويأتي الصحابة يحملون جنازته -يحملون جثمانه على أكتافهم إلى القبر الذي سوف نعرفه إن جهلناه اليوم، وسوف ننزله إن هجرناه اليوم، وسوف نبصره ونراه إن تعامينا عنه اليوم- يحملونه وهم يبكون، تقول أخته وهي تبكي: إنا لله وإنا إليه راجعون! أنت خير من ألفِ ألفٍ من القو مِ إذا ما كُبَّت وجوهُ الرجالِ ومُهِين النفس العزيزة للذكْـ ـرِ إذا ما التقت صدورَ العوالي

حال عمر عند سماعه خبر موت خالد

حال عمر عند سماعه خبر موت خالد ويأتي الخبر عمر رضي الله عنه وأرضاه بـ المدينة، وهو الذي يعرف قيمة خالد، فيظل واقفاً يرتعش ويرتعد، ويقول: [[إنا لله وإنا إليه راجعون! والله يا أبا سليمان، لقد عشتَ سعيداً، ومتَّ حميداً، وما عند الله خيرٌ، ثم يبكي رضي الله عنه ويقول: مضوا وخلفوني وحدي، مضوا وخلفوني وحدي]]. فترتج المدينة بالبكاء والنحيب لبكاء عمر ومصابهم بـ خالد. ويأتي رجل إلى عمر، ويقول: يا أمير المؤمنين! إن نساءنا يبكين، ويندبن خالداً، قال: [[ثكلتك أمك! على مثل أبي سليمان فلتبكِ البواكي]] لكن لا صراخ ولا قلقلة. إي والله! على مثل أبي سليمان فلتبكِ البواكي. وتأتي وصية خالد لـ عمر: [[إنك أنت المتصرف في تركتي والقائم على أبنائي]] فرضي الله عنهم أجمعين. نَمْ يا أبا سليمان حتى يبعث الله الناس ليوم لا ريب فيه؛ ليوفيك أجرك ومثوبتك وخدمتك لهذا الدين؛ لأنك بذلت كل غال ورخيص، وذهبت عن الفتنة وبقينا لها، جمعنا الله بـ خالد في عليين، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. عباد الله! بمثل خالد وصحبه وبِفَهْمهم الواعي لمعنى الجهاد انطلق المسلمون في شرق الأرض وغربها، ينشرون كلمة التوحيد، ويرفعون راية الله، ليقف قائد من قادتهم أمام رستم -قائد الفرس- ويقول في عزة المؤمن: [[إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام]].

الجهاد في سبيل الله ماض إلى قيام الساعة

الجهاد في سبيل الله ماضٍ إلى قيام الساعة يمضي المسلمون في تاريخهم الطويل، يؤكدون سنة الله في الأرض، فكان لهم النصر عاشوا لعقيدتهم يستعذبون الصعاب في سبيلها، أما إذا تخلوا عن طريق الجهاد فسوف يحيون مستضعفين في الأرض يتخطفهم الناس في كل مكان. نعم! حين كانوا يخرجون لله يثبت الله أقدامهم وينصرهم على أعدائهم كانوا يخرجون وفي أذهانهم قول محمدٍ صلى الله عليه وسلم: {والذي نفس محمد بيده! ما من كَلِيْمٍ يُكْلَمُ في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته يوم كُلِمَ، لونه لون دم، وريحه ريح المسك، والذي نفس محمد بيده! لولا أن أشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبداً، والذي نفس محمد بيده! لوددت أن أغزو في سبيل الله فأُقتل، ثم أغزو فأُقتل، ثم أغزو فأُقتل}. لا إله إلا الله! الجهاد سبيل انتصار المؤمنين في تاريخهم، وما زال إلى اليوم هو الطريق لعزتهم وكرامتهم، والأمة اليوم يتخطفها الأعداء من كل جانب أعداء من خارجها، وأعداء من داخل صفوفها، ولا مخرج ولا سبيل إلى النجاة إلا بالعودة إلى الله، ثم إعداد العدة للجهاد. إن الأعداء لا يخشون إلا الأقوياء، فعلى المسلمين أن يأخذوا بأسباب القوة، فليكُن بأيدينا مثل السلاح الذي بأيديهم، والسلاح في يد المؤمن يزداد بإيمانه قوة. لا بد من صنع الرجال ومثله صنع السلاحْ لا يصنع الأبطال إلا في مساجدنا الفِساحْ في روضة القرآن في ظل الأحاديث الصحاحْ شعب بغير عقيدة ورقٌ تذر به الرياحْ أيها الأخيار! اجمعوا صفوفكم، ووحدوا كلمتكم، وثقوا بربكم، وارغبوا فيما عنده، واستعلوا على متعكم، وعيشوا واقعكم بمعرفة لا بغيبوبة، وتدربوا على فنون الرماية، واخدموا دينكم ما استطعتم، فالله سوف ينصر دينه على أيديكم أو على أيدي غيركم. اغتنموا الفرصة وادخلوا في الركب، وكونوا من أنصار الله، وأعلوا كلمة الله، وسيروا في موكب الله، وأعِدوا أنفسكم للدفاع عن مقدساتكم، وللذوذ عن كراماتكم، يكتب لكم ربكم النصر والتوفيق. اللهم أخرج من أصلاب هذه الأمة أمثال: خالد، وسعد، وزيد، وجعفر. اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد، يُعَزُّ فيه أهلُ طاعتك، ويُذَلُّ فيه أهلُ معصيتك، ويُؤْمَر فيه بالمعروف، ويُنْهَى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء. اللهم أرنا في الظَّلَمَة يوماً أسود كيوم فرعون، وهامان، وقارون. اللهم أرنا في صدام ومَن شايعه عجائب قدرتك، اللهم أرنا في الظالمين عجائب قدرتك، اللهم زلزل الأرض تحت قدميه، اللهم زلزل الأرض تحت قدميه، اللهم اجعله عبرة للمعتبرين، اللهم خذه أخذ عزيز مقتدر، اللهم لا تسلطه على المؤمنين، اللهم لا تسلطه على المؤمنين، اللهم أنزل به بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم لا ترفع له راية، اللهم لا ترفع له راية، واجعله لمن خلفه آية، اللهم لا ترفع له راية، واجعله لمن خلفه آية. اللهم آمِنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، ووفق علماءنا. اللهم كن لنا ولا تكن علينا، واختم بالصالحات أعمالنا، واشفِ اللهم مرضانا، وارحم موتانا. اللهم ارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، ولا تخيب اللهم فيك رجاءنا. اللهم لا تسلط علينا البعثيين والملحدين والكافرين. ربنا إن أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفرطين، ولا مفتونين. رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ، رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

حروف تجر الحتوف

حروف تجر الحتوف إن من أعظم ما يفكك بنيان الأمة، ويهد أركانها، ويهدد الفضيلة الطعن في الأعراض والاستطالة على الحرمات، خاصة في حق أبناء الأمة المخلصين من علماء وطلاب علم، وفي هذه المحاضرة يبين الشيخ هذا الخطر ببيان شاف، ومواعظ بليغة

حالة الأمة اليوم تقتضي الاستيقاظ والتأهب

حالة الأمة اليوم تقتضي الاستيقاظ والتأهب

مقدمة ترحيبية وابتهالات

مقدمة ترحيبية وابتهالات الحمد لله الحمد لله عظيم المنة وناصر الدين بأهل السنة نحمده وفقنا إلى الهدى حمداً كثيراً ليس يحصى عددا وبعد حمد الله إني أشهد أن لا إله مستحقاً يعبد إلا الإله الواحد الفرد الصمد من جل عن زوجٍ وكفءٍ وولد اللهم إني أحمدك على ما علمت من البيان، وألهمت من التبيان، وأسبغت من العطاء، وأسبلت من الغطاء. اللهم إنا نعوذ بك من فتنة القول والعمل، وشرة اللسن ومعرة اللكن، والسلاطة والهذر والعي والحصر، اللهم إنا نسألك أن تكفينا الافتتان بإطراء المادح وإرضاء المسامح، وأن تقينا إزراء القادح وهتك الفاضح، نستغفرك اللهم من نقل الخطوات إلى الخطيئات، وسوق الشهوات إلى الشبهات. اللهم هب لنا توفيقاً إلى الرشد، وقلوباً تتقلب مع الحق، وألسنة تتحلى بالصدق، ونطقاً يؤيد بالحجة، وعزائم تقهر الهوى، وأنفساً تأنف الخنا، اللهم أسعدنا بالهداية، وأعضدنا بالإعانة على الإبانة، اللهم قنا غوائل الزخرفة، فلا نرد مأثمة ولا نقف مندمة، وتولنا فيمن توليت، ولا تضلنا بعد الهدى يا ذا العلا. أشهد أن محمداً عبدك ورسولك؛ ختمت به النبيين، وأعليت درجته في عليين، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى آله وصحبه والتابعين: يا رب صل على النبي المصطفى ما لاح برق في الأباطح أو قبا يا رب صل على النبي المصطفى ما قال ذو كرمٍ لضيفٍ مرحبا اللهم اجعلنا لهديه متبعين، وانفعنا بمحبته واتباعه أجمعين. أما بعد: فيا معشر الإخوة والأخوات والبنين! أشرف التحايا ما مازج النفس وخالط الروح، وأثار المشاعر وحرك الضمائر، ولا والله الذي لا إله إلا هو لا أعلمها إلا تلك التحية الفطرية؛ التي جاء بها دين الفطرة رمزَ أمان وعنوانَ إيمان، فالسلام عليكم ورحمه الله وبركاته تحيةً ينبعث معها الروح إلى القلوب، وينبث معها الاطمئنان إلى الجنوب، قدمتم خير مقدم، ووقيتم المأثم والمغرم والمندم، وبؤتم بحسن المنقلب، اللهم أعذني وإخوتي من قول الزور، وغشيان الفجور، ومن الغُرور والغَرور، اللهم لا أكون وإخوتي مستكثري حجج، كالباحث عن حتفه بظلفه، وكالجادع أنفه بكفه، فنلحق بالأخسرين أعمالاً {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف:104]. بك يا رب نعتضد، ونعتصم بك مما يكون، عليك توكلنا وإليك أنبنا، وبك نستعين وأنت المعين: أنت ربي في تصاريفك خير الأحكمين أنت بي أعلم مني أنت خير الأكرمين أنت أولى بي مني فأعني يا معين

وجوب التلاحم والاتحاد وشكر نعمة الإسلام

وجوب التلاحم والاتحاد وشكر نعمة الإسلام معاشر الإخوة! لا يخفاكم أن الجراح في أمتنا غائرة، وفي أنفسنا قائمة بالغة: جراحنا بالغات تعيي الطبيب الفطينا وجرح دون جرح جرح الحسام له آسٍ يطببه وما لجرح قناة الدين من آسٍ إن الفرد والأمة في يومها ينبغي أن تكون في حالة استنفار وجهاد مع النفس وحظوظها وسهام الأعداء وزحوفها وسمومها، ويا عار وهزيمة فردٍ أتيت الأمة من ثغرة يقوم على حراستها! أما إن التقصير في جهاد النفس وأداء الواجب وشد بنيان الأمة والشعور بالجسد الواحد اليوم يعد جريمة، لأن حالنا اليوم كحال اليتيم الضائع الجائع؛ إذا لم يسع لنفسه مات، فإذا قصرنا في العمل لديننا، ووجهنا سهامنا إلى صدورنا؛ فمن ذا يقوم على ثغر أمة الإسلام؟ أمن يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم؟ أمن يقولون: إنا معكم حتى إذا خلوا بأسيادهم قالوا: إنما نحن مستهزئون؟ أمن يمنعون الماعون، ويداوون الحمى بالطاعون، ويترصدون بالأمة الغوائل؛ يرقبون الخلس، ويدرعون بالغلس؟ إن كان ذلك فقد وهى السقا، وأهرق بالفلاة الماء، واتبع الدلو الرشا، وهلك الناس من الظما، ولم يبك ميتٌ ولم يفرح بمولود. لقد كنا -معشر الإخوة- في عصرنا هذا أول من نام وآخر من استيقظ، فمن الحزم أن نتلاحم، ثم لا نقطع الوقت فيما يكره الله من قيل وقال، وهلهلة البنيان، واغتيابٍ وعتاب، وملام وطعن، وحرب بالكلام، فإن ذلك إطالة للمرض، وزيادة في البلاء على المريض، وذلك عين ما يريده أعداء الدين. أما إن التبعة كبيرةٌ ثقيلةٌ جدُّ ثقيلة، إننا نحتاج في يومنا إلى أن نرفع الأنقاض، ونبني ونعمر، ونؤدي فريضة الوقت، ونقضي الفوائت، ونؤدي الكفارات مع العوائق والمثبطات، ومن كان هذا حاله شمر وانبرى، وجد وبذل وضحى، وضبط حياته بوحي الله؛ شكراً لله سبحانه وتعالى على نعمته، وأجلها أن هدانا لهذا الدين وجعلنا من خير أمة، أعني أمة خاتم النبيين، عليه صلوات وسلام رب العالمين. {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34] فكم وكم لله من نعمة سابغة للعبد في هدايته أولاً، ثم في أعضائه وجوارحه ومنافعه وقواه غير ملتفت إليها ولا شاكرٍ عليها! ولو عرضت الدنيا بما فيها بزوال واحدة من هذه النعم، لأبى المعاوضة، وعلم أنها معاوضة غبن: {إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:34] ولو فقد شيئاً منها لتمنى أنها له بالدنيا وما عليها، فاللهم لك الحمد الحمد لله العزيز الباري ما ذكر الرحمن في الأقطار وزين السماء نجم ساري عبد الله! ومن شكر نعمة الله عليك في جوارحك؛ ضبطها بوحي الله، العين لا ترى، والأذن لا تسمع، واللسان لا ينطق، والعقل لا يفكر ويخطط، والقلب لا ينعقد، واليد لا تكدح، والرجل لا تسعى ولا تخطو إلا فيما يرضي المولى؛ حالك: أنا أدري غايتي أعرف منهاج حياتي قد تجلى لي مصيري إذ تلوت النازعات أو كحال عروة رحمه الله حين قطعت رجله لآكلة دبت فيها فغشي عليه، ثم أفاق وحمد الله، وأخذ ساقه المبتورة، وقال وهو يقلبها في يده: أما والذي حملني عليك في عتمات الليل إلى المساجد؛ إنه ليعلم أني ما مشيت بك إلى حرامٍ قط فيما أعلم: خلق ورثنيه أحمد فجرى ملء دمائي وشغافي لم يزلزله على طول المدى بطش جبارٍ ولا كيد ضعافِ أو كحال أحد السلف وقد كانت له زنجية مملوكة غمته بعملها، فرفع السوط عليها يوماً، ثم قال: أما والله لولا الله ثم القصاص يوم القيامة لأغشينك به، ولكني أبيعك ممن يوفيني الثمن أحوج ما أكون إليه؛ اذهبي فأنت حرة لوجه الله! فيا لله من مواقف يعجز اللفظ أن يعبر عنها! فالسكوت هو اللسان الفصيح.

اللسان سلاح ذو حدين

اللسان سلاح ذو حدين معشر الإخوة! الجوارح جوارح، وأخطرها شأناً أداة البيان اللسان، ترجمان الجنان، كاشف مخبئات الصدور، زارع الضغينة والفتنة في الصدور، تسل السيوف وتدق الأعناق بكلمات، تقوم صراعات وتثور فتنٌ بكلمات، تضيع أوقات، وتشاع اتهامات، وتقذف محصنات غافلاتٌ مؤمنات بكلمات، تهدم حصونٌ للفضيلة وتزرع الهموم والحسرات بكلمات. بكلماتٍ يقال على الله بلا علم وذاك قرين الشرك أكبر الموبقات، السبُّ والهمز واللمز واللعن والغيبة والطعن والنميمة والقذف والفحش والبذاءة كبائر بكلمات، إنها شجرات لا قرار لها؛ مجتثات مستأصلات خبيثةٌ سماؤها وأرضها وماؤها. فإن شئت عنا يا سماء فأقلعي ويا ماءها فاصبب ويا أرض فابلعي وفي المقابل تستيقظ الضمائر، وتحيا المشاعر، وتلين الجلود، وتحيا القلوب، وتذرف العيون، ويسعد المحزون، وتعلو الهمم بكلمات، إنما هي شجراتٌ طيبات، تؤتي أكلها كل حين بإذن الله رب الأرض والسموات. بين الجوانح في الأعماق سكناها فكيف تنسى ومن في الناس ينساها؟! البيان ما البيان؟ إنه ذو حدين أحدهما -وهو المقصود- خطر جسيم، وشأنٌ عظيم، سلاحٌ فتاك؛ إن لم يضبط أهلك الحرث والنسل وزرع الشتات، يلدغ كالأفعى؛ ويحرق كاللظى، بحروفٍ تقطع الأواصر وتفصم العرى، وتكدر النفوس، وتضيق الصدور، ويهجر المسلم أخاه وأمه وأباه: وهاجت سيوف وماجت حتوف وسال دم فوق مجرى دمي وأصبح القول والأسماع تنبذه كأنه نسمٌ في جوف موءود

أم المؤمنين تهجر ابن الزبير بسبب كلمات

أم المؤمنين تهجر ابن الزبير بسبب كلمات روى البخاري من حديث عوف بن الطفيل وعروة بن الزبير قال: كان عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أحب البشر إلى خالته عائشة رضي الله عنها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبيها أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، وكان أبر الناس بها، وكانت تكنى به، فيقال لها: أم عبد الله، والخالة بمنزلة الأم، وهي هنا أم لجميع المؤمنين بنص كتاب الله، وكانت رضي الله عنها لا تمسك شيئاً مما جاءها من رزق الله إلا تصدقت به لأن راحتها بحرٌ وليس لها ردٌ ومن ذا يرد البحر إن زخرا بحرٌ ولكنه صافٍ مواهبه والبحر تلقى لديه الصفو والكدرا فقال عبد الله حدباً على خالته في بيعٍ أو عطاءٍ عظيم أعطته، وقيل: في دارٍ باعتها وتصدقت بثمنها؛ قال: والله لتنتهين خالتي عائشة أو لأحجرن عليها، ينبغي أن يؤخذ على يديها. قد فاته القول الرقيق فمال نحو غليظه فقالت رضي الله عنها وأرضاها: أيؤخذ على يدي؟ أهو قال ذا؟ لله علي نذر ألا أكلم ابن الزبير أبداً. يقول ابن حجر رحمه الله: عائشة أم المؤمنين وخالة عبد الله، ولم يكن أحدٌ في منزلته عندها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبيها، ورأت في كلامه هذا نوع عقوق، والشخص يستعظم من القريب ما لا يستعظمه من الغريب، فكان جزاؤه عندها أن تركت كلامه كما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كلام كعبٍ وصاحبيه لتخلفهما عن تبوك، ثم إن هجر الوالد ولده والزوج زوجه لا يتضيق بثلاث، فقد هجر النبي صلى الله عليه وسلم نساءه شهراً، ويحمل على ذلك ما صدر عن عائشة رضي الله عنها وكثيرٍ من السلف من الهجر لبعضهم مع علمهم بالنهي عن المهاجرة والله أعلم. وطال الهجر على ابن الزبير، وضاقت به الأرض، وضاقت نفسه حتى صار: كأنه فارس لا سيف في يده والحرب دائرة والناس تضطرب أو أنه مبحرٌ تاهت سفينته والموج يلطم عينيه وينسحب أو أنه سالك الصحراء أظمأه قيظ وأوقفه عن سيره التعب فاستشفع إليها بالمهاجرين، فقالت: والله لا أشفع فيه أحداً، ولا أتحنث في نذري ولا آثم فيه لكأنك به وهو يهمهم ويقول: وضاقت بي الأرض حتى كأني من الضيق أصبحت في محبسي وعندها كلم المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن الأسود، وهما من أخوال النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت أرق شيءٍ لهما لقرابتهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهما: ناشدتكما الله لما أدخلتماني على خالتي عائشة! فإنه لا يحل لها أن تنذر قطيعتي إلى أبد، إن كانت عقوبة على ذنبي، فليكن لذلك إلى أمد فأقبل به المسور وعبد الرحمن مشتملين بأرديتهما حتى استأذنا على عائشة، فقالا: السلام عليك ورحمة الله وبركاته؛ أندخل؟ قالت عائشة: ادخلوا، قالوا: كلنا، قالت: نعم كلكم -لا تعلم أن معهما ابن الزبير - فقالا له: إذا دخلنا، فاقتحم عليها الحجاب، فلما دخلوا اقتحم عليها الحجاب، فاعتنق أمه عائشة وطفق يناشدها ويبكي، والمسور وعبد الرحمن يناشدانها إلا ما كلمته وقبلت منه، ويقولان لها: يا أم المؤمنين! قد نهى صلى الله عليه وسلم عما علمت من الهجر، وأكثرا عليها من التذكرة والتحريم، وطفقت تذكرهما وتقول: نذرت والنذر شديد، ولم يزالا بها يكلمانها حتى كلمته وعفت عنه. فلا تسل لكأنه عبدٌ مملوكٌ أعتقته، أرسل إليها بعد ذلك عبد الله بعشر رقاب فأعتقتهم جميعاً لوجه الله، ثم لم تزل تعتق حتى أعتقت أربعين رقبة، كل ذلك مبالغة منها في براءة ذمتها رضي الله عنها، وكان يكفيها عتق رقبة، ولكن: طابت منابتها فطاب صنيعها إن الفعال إلى المنابت تنسب يا بنة الصديق طيبي وانعمي ذاك حكم الله خير الحاكمين وكانت تذكر نذرها ذلك، فتبكي حتى تبل دموعها خمارها، فرضي الله عنها وأرضاها: بعض المعادن قد غلت أثمانها ما خالص الإبريز كالفخار بين الخلائق في الخلال تفاوت والشهد لا ينقاس بالجمار وكم من حروفٍ تجر الحتوف!

خطر اللسان وعاقبته على الأعمال

خطر اللسان وعاقبته على الأعمال إنها الحروف لو قُدِّر كون بعضها سائلاً ثم مزج بماء البحر لأفسده وغيَّره، بحروفٍ ملفوظةٍ أو مكتوبة يهوي المرء أو يرفع، ويرضى عنه أو يسخط عليه، قال صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه كما في الصحيحين: {إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجاتٍ في الجنة -وفي رواية: يكتب الله له رضوانه بها إلى أن يلقاه- وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً؛ يهوي بها في جهنم} وفي رواية: {يكتب الله له بها سخطه إلى أن يلقاه}. ضوابط دقيقة وزواجر عظيمة: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36]! وكم من الحروف تجر الحتوف! وإن الإنسان -معشر الإخوة- يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام والظلم والربا والسرقة وشرب الخمور والنظر المحرم وغير ذلك، ومع ذلك يصعب عليه التحفظ من حركة لسانه، حتى إنك لترى الرجل يشار إليه بالدين والزهد والعبادة، وهو يتكلم الكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يزل بها أبعد مما بين المشرق والمغرب كما قال ابن القيم رحمه الله. فكم رجلٍ متورعٍ عن الفواحش والظلم ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات لا يبالي ما يقول، وإن أردت أن تعرف ذلك، فانظر إلى ما رواه الإمامان مسلم وأحمد: {أن رجلاً مجتهداً وجد أخاه على ذنب فقال له: أقصر، فاستمر على ذلك، فلم يزل يكرر عليه أقصر أقصر، فغضب منه ذلك، وقال: خلني وربي، أبعثت علي رقيبا؟ فقال هذا الغيور: والله لا يغفر الله لك يا فلان، فقال الله: من ذا الذي يتألى علي ألا أغفر لفلان، أكان بي عالماً وعلى ما في يدي قادراً؟ قد غفرت له وأحبطت عملك يقول أبو هريرة رضي الله عنه: والذي نفسي بيده لقد تكلم بكلمة أوبقت دنياه وأخراه} فكان أضيع من لحمٍ على وضم وصار يقرع منه السن في ندم وفي صحيح الترغيب للألباني بسندٍ حسنٍ لغيره: {أن غلاماً استشهد يوم أحد، فوجد على بطنه صخرة مربوطة من شدة الجوع، فمسحت أمه التراب عن وجهه، ثم قالت: هنيئاً لك يا بني الجنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وما يدريك لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه} يالله! يستحسن البعض ألفاظاً إذا امتحنت يوماً فأحسن منها العجم والخرس

المقصودون بمحاضرة (حروف تجر الحتوف)

المقصودون بمحاضرة (حروف تجر الحتوف) أيها المسلم! فاعمل عملاً ترجو حصاده، دون تحريف وتبديلٍ ولغوٍ أو زيادة، لهذا كله -معشر الإخوة- كانت هذه الحروف المُعْنَوْنَ لها بـ (حروف تجر الحتوف) وكم من حروفٍ تجر الحتوف ومن ناطقٍ ود أن لو أن سكت

أولا: الرافضة

أولاً: الرافضة أوجهها حجةً إلى من غلبت عليهم شقوتهم، وضلوا عن علم، وهلكوا عن بينة، فوقعوا في خيار أهل الملة ممن كان لهم شرف الصحبة لمن قال: {لا تسبوا أصحابي}. فلا رحم الرحمن من لا يحبهم وأخزى معاديهم بدنيا وآخرة فوالله الذي لا إله إلا هو لا أرى مثلاً لهؤلاء الموتورين الذين يتطاولون على القمم الشماء؛ إلا كذبابةٍ حقيرةٍ سقطت على نخلة عملاقة، فلما همت بالانصراف قالت باستعلاء: أيتها النخلة تماسكي فإني راحلة عنك، فقالت النخلة العملاقة: انصرفي أيتها الذبابة؛ فهل شعرت بك حينما سقطت عليَّ لأستعد لك وأنت راحلة عني؟ ألم تر أن الليث ليس يضيره إذا نبحت يوماً عليه كلاب لا يضير السماء العواء ولا أن تمتد لها يد شلاء: وإطفاء ضوء الشمس أدنى لراغبٍ وأيسر من إطفاء نور الشريعة وكم من حروف تجر الحتوف!

ثانيا: من يترقون المناصب عند أعدائهم على أعراض العلماء

ثانياً: من يترقون المناصب عند أعدائهم على أعراض العلماء أرسلها لمن نشأ وتربى في حجر الأفاعي -أعني عدوه- فهو آلةٌ صماء في يد عدوه يديره كيفما يشاء، ويريده على ما شاء فيجده أطوع من بنانه، يحركه للفتنة فيتحرك، عقربٌ لا تلدغ إلا من يتحرك ولا غرابة: من كان في جحر الأفاعي ناشئاً غلبت عليه طبيعة الثعبان وكم من حروفٍ تجر الحتوف! أهديها بلا ود؛ لمن يبنون الفروع على غير أصولها، فيبوءون بضياع الأصل والفرع معاً. بل إلى من جعلوا الفرع سلماً للأصول، بل للوصول؛ على طريقة أبي دلامة حين حكمه الخليفة في جائزته، فاقترح كلب صيد، ثم طلب خادماً له، ثم جارية تطبخ الصيد، ثم داراً تؤوي الجميع، أكلاً للعنقود حبة فحبة مع لحافٍ وجبة: فإنهم كقطيعٍ لا عقول لهم يكفي لإسكاتهم ماء وأعلاف وكم من حروف تجر الحتوف! اعرضها على من يريد بقلمه ولسانه أن يداوي علة الأمة بعلل، ويقتل جرثومةً فيها بزرع جراثيم، كطبيبٍ يجرب معلوماته في المرضى ليزيدهم مرضاً، ثم يعيش على أمراضهم التي مكَّن لها فيهم، فهو حاميها وحراميها، سرطانه دواء سلها هو طالحٌ لا صالحٌ لكنهم غلطوا فلم يضعوا العصا في رأسه وكم من حروفٍ تجر الحتوف! أشير بها إلى حملة الأقلام المسمومة، والأفكار الكاسدة، مورثة الضغائن، موقظة الفتن، لقطاء الكتابة، لابسي جلود الضأن على قلوب الذئاب. والذئب أخبث ما يكون إذا بدا متلبساً بين النعاج إهابا الأدعياء الذين اقتحموا عريناً ظنوا أن قد نامت آساده لكأن القائل عناهم يوم قال: لقيط في الكتابة يدعيها كدعوى الجعل في بغض السماد فدع عنك الكتابة لست منها ولو لطخت وجهك بالمداد وكم من حروف تجر الحتوف! لا أعني بها أولئك الرعاع الذين اتخذوا دين الله هزواً ولعباً، وعلوم الشريعة هراءً ولغباً، ليس لهم في العلم إنعام، إن هم إلا كالأنعام! لست أعني هؤلاء مباشرة وإن أشرت وأهديت ووجهت، ففيهم من انفصمت عنه الرابطة، فنحن منه برآء، ومنهم من لا يرعوون ولا يفهمون، فخطابهم لغوٌ وهراءٌ وبلاء: ومن البلية نصح من لا يرعوي عن غيه وخطاب من لا يفهم الله حسيبهم على ما اقترفوا ويقترفون؛ في يومٍ لا ينفع فيه مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلبٍ سليم.

ثالثا: الشباب الصالح الذي قد يقع في هذا الوباء

ثالثاً: الشباب الصالح الذي قد يقع في هذا الوباء إن المعني بهذه الحروف أولاً وآخراً هم شيوخ الأمة العقلاء، وشبابها المستقيمون الفضلاء، الدم الجديد في حياتها أنا وأنت وأنتِ وهو وهي، وكل مسلمٍ على قدرٍ من دينٍ وخلقٍ وحياء، دفعني إليها الرغبة في صون هذا الدم عن أخلاط الفساد، ليتمثل فيه الطهر والعفة والرشاد، فينشأ على قول الحق رافع الهام والحسام، لا على البذاء وعورات الكلام، متفاهمين على الغاية المنشودة، متجهين إلى البناء لا الهدم، إلى الإنصاف لا الحيف، يقيم بعضهم بعضاً إذا كبا، ويستره إذا عري حساً أو معنى، مدركين أنه إذا تصالح ندامى الحان، وتشاكس إخوان المسجد، انكسرت المئذنة، واستولى السكارى على المحراب وحضني عليها رغبتي في إبراء الذمة بنصح النفس والأمة، فمن أعظم ما عبد الله به نصيحة خلقه، وما تصدق رجلٌ بصدقةٍ أفضل من موعظةٍ يعظ بها قوماً فيتفرقون وقد نفعهم الله بها، فاللهم انفع وارفع.

حرمة وشناعة الاستطالة على الحرمات

حرمة وشناعة الاستطالة على الحرمات خذها أيها الدم الجديد خذها وصايا بألفاظٍ مطولةٍ فيها لمن يبتغي التبيان تبيانُ وكم من حروفٍ تجر الحتوف!

حالقة الدين

حالقة الدين معشر الإخوة والأخوات والبنين والبنات! إن مواضع الزلل لا تكاد تنحصر ولا تختصر، ومن أخطر وأسوأ هذه المواضع: الاستطالة على الحرمات، وتتبع العورات، إنها الحالقة، بل الآفة الخطيرة والمزلق العظيم الذي اشتد نكير رسول الله صلى الله عليه وسلم على من اتصف به فيما ثبت عنه، قال: {يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه! لا تؤذوا المسلمين، ولا تعيروهم، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه، تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته، فضحه ولو في قعر داره إنه موقفٌ حاسمٌ، ووعيدٌ زاجر يملأ النفس الحية خوفاً وهيبة وحذراً، ويقرر مبدأ صيانة العرض، وأن الجزاء من جنس العمل، وجرح اللسان كجرح السنان، والجروح قصاص: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِه} [النساء: 123]. بذلك تواترت النصوص الشرعية في غاية العظمة والإحكام؛ لتدل على عظيم منزلة المؤمن وبشاعة الاستطالة على حرمته، نظر عبد الله بن عمر رضي الله عنهما إلى الكعبة يوماً ثم قال: [[ما أعظمك! وما أعظم حرمتك! وللمؤمن والله أعظم حرمة منك]] إنها كحرمة يوم النحر في شهر ذي الحجة في البلد الحرام: لو قد عقلنا ذاك ما كنا نرى بعضاً يجرح مسلماً ويجرم هب أن فينا مخطئاً فيما ادعى فهل السباب هو العلاج الأقوم؟ كيف الوقوف أمام خلاق الملا والعلم ظنٌّ والحديث مرجم؟ ثبت في البخاري من حديث أبي بكرة رضي الله عنهما: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر، فقال: {أي يوم هذا؟ أي شهر هذا؟ أي بلدٍ هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميها بغير اسمها، ثم قال: أليس بيوم النحر؟ أليس بذي الحجة؟ أليست بالبلدة الحرام؟ قلنا: بلى يا رسول الله! قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام؛ كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربكم ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم، قال: اللهم فاشهد} {كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه}. لقد خاب من يسعى لإيذاء مسلمٍ كما خاب من يرجو سراباً بقيعة وكم من حروف تجر الحتوف! إن من أخص سمات المسلم سلامة المسلم منه يداً ولساناً، والعاقل يطمح إلى هذا الوضع ليكون ممن جعلوا سلاطة ألسنتهم على أعداء الله وحلو كلامهم لأولياء الله، محققين قول الله في وصف أصحاب رسول الله: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29] وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده} ويقول ابن القيم عليه رحمة الله: أهل الصراط المستقيم كفوا ألسنتهم عن الباطل، وأطلقوها فيما يعود عليهم بالنفع في الآخرة، فلا ترى أحدهم يتكلم بكلمة تذهب عليه ضائعة بلا منفعة، فضلاً عن أن تضره في الآخرة، وإن العبد ليأتي يوم القيامة بحسناتٍ أمثال الجبال فيجد لسانه قد هدمها كلها، ويأتي بسيئاتٍ أمثال الجبال فيجد لسانه قد هدمها من كثرة ذكر الله وما اتصل به. فللسان احفظ ولا تكلم إلا بخيرٍ أو فصمتاً الزم وخشية الله فلازم وانتهِ عما نهاك وامتثل لأمره ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ معاذ: {كف عليك هذا، ويشير إلى لسانه، فقال معاذ: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به يا نبي الله؟! -وفي رواية: أوكلما نتكلم به يكتب علينا يا نبي الله؟! - فقال: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟} إنك ما تزال سالماً ما سكت، فإذا تكلمت كتب عليك أو لك، فاللهم سلم سلم! يكب الفتى في النار حصد لسانه فحافظ على ضبط اللسان وقيدِ وكم من حروف تجر الحتوف!

الفرق بين الغيبة والبهتان

الفرق بين الغيبة والبهتان يا عبد الله! ذكرك أخاك بما يكره في حضوره سب وشتم، وبما يكره في غيبته لو بلغه؛ في بدنه، أو دينه، أو دنياه، أو نفسه، أو خَلقه، أو خُلقه، أو ماله، أو ولده، أو زوجه، أو خادمه، أو ثوبه، أو حركته، أو طلاقته، أو عبوسه، ذكره بواحدةٍ من هذه بلفظٍ، أو إشارة، أو رمزٍ، أو كتابةٍ، أو حكاية غيبة، أو همزٌ ولمزٌ وقدح إن كان فيه، فإن لم يكن فيه ما قلت فغيبةٌ وبهتانٌ وظلمٌ وكذب، ظلماتٌ بعضها فوق بعض، مع تعدٍ لحدود الله: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:229]. فاحذر حدود الله وارج ثوابه حتى تكون كمن له قلبان وكم من حروف تجر الحتوف!

أربى الربا

أربى الربا معشر الإخوة! الربا ما الربا؟ الربا: إيذان بحرب من الله على من يتعامل به، ومحارب الله محروب، ودرهم ربا أشد من ستٍ وثلاثين زنية كما ثبت، وأدنى الربا مثل إتيان الرجل أمه، ونعوذ بالله من ذلك، فما أرباه؟ وما أشده تحريماً؟ وما أعظمه وبالاً؟ ثبت من حديث البراء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {الربا اثنان وسبعون باباً، أدناها مثل إتيان الرجل أمه، وإن أربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه المسلم بغير حق}. يا لله! إن العرض أعز على النفس من المال وغيره حقيقةٌ لا تدحر، وحجةٌ لا تنقض، أفلا نعقل؟ فأين المفر؟ {بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام}. شنعاء صلعاء عوراء أن يقال في المؤمن ما ليس فيه أو ما يكرهه، فاحذروا ثم احذروا، وكونوا عباد الله إخواناً. ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {من قال في مؤمن ما ليس فيه، أسكنه الله ردغة الخبال وهي عصارة أهل النار} وفي رواية للإمام أحمد: {ومن رمى مسلماً بشيءٍ يريد شينه به، حبسه الله على جسر جهنم حتى يخرج مما قال} يحبس حتى يرضى خصمه أو يشفع فيه، أو يعذب بقدر ذنبه أجارنا الله، وقد ثبت أن أبا الدرداء رضي الله عنه قال: [[أيما رجل أشاع على امرئ مسلمٍ كلمة هو بريء منها ليشينه بها، كان حقاً على الله أن يعذبه يوم القيامة في النار حتى يأتي بنفاذ ما قال]]. ذاك وربي موقفٌ عسير ورسل الإله تستجير يا رب سلم إنه لمأزق من شدة الهول يشيب المفرق وكم من حروف تجر الحتوف!

السخرية بالدين

السخرية بالدين معشر الإخوة! ومما يحسب أنه هينٌ وهو عند الله عظيم: السخرية بالدين وما اتصل به من تقليد خلق أهله، ومحاكاة أفعالهم وحركاتهم لإضحاك الناس وتسليتهم، وجعل ذلك مهنةً أو زينة مجلس، وربما قالوا بقول سلفهم: {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66]. إليهم ما قال صلى الله عليه وسلم فيما ثبت في مسند أحمد: {إن الرجل ليتكلم بالكلمة ليضحك بها جلساءه يهوي بها في النار أبعد من الثريا} وفي رواية: {ألا عسى رجلٌ يتكلم بالكلمة ليضحك بها أصحابه، فيسخط الله عليه بها لا يرضى عنه حتى يدخله النار} فإلى الهازئين الضاحكين المضحكين، مختلقي الأكاذيب لذلك، من يصدق على أحدهم: ما زلت أعرفه قرداً بلا ذنب صفراً من البأس مملوءاً من النزق أقول لهم: دونكم دونكم! كم ضاحكٍ بملء فيه والله ساخطٌ عليه. تالله لو علمت ما وراءكا لما ضحكت ولأكثرت البكا وكم من حروف تجر الحتوف!

الوشاية

الوشاية ومن المصائب -والمصائب جمة- أن يبتلى المرء بصديقٍ له يأمنه، يعرف منه ما لا يعرفه غيره، فيغدره بالسعي إلى عدوٍ له ذي سلطانٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، ليذكره عنده بغير الجميل، ويتعرض له بالوقيعة والأذية، ليجاز بجائزة إنما هي لعاعة من الدنيا، طعامٌ أو كساء أو دينار أو إطراء لا بارك الله له فيها، إنما هي بمثلها في جهنم. روى أبو داود وصححه الألباني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {من أكل برجلٍ مسلمٍ أكلة، فإن الله يطعمه مثلها في جهنم، ومن كُسي برجلٍ مسلمٍ ثوباً، فإن الله يكسوه مثله في جهنم، ومن قام برجلٍ مسلمٍ مقام سمعةٍ ورياء، فإن الله يقوم به مقام سمعةٍ ورياءٍ يوم القيامة}. فيا للرزية! وكل هذا في سبيل إشباع البطون! ألا أبعد الله خبزةً أهتك بها ديني، وأخاطر من أجلها بآخرتي، وأعق بها سلفي، وأهين بها نفسي، وأهدم بها شرفي، وأكون بها حجة على تاريخي وأمتي، أين من يعقل؟ أين من يعي؟ إن لم تتب: فلا زلت دوماً في احتياجٍ وفاقةٍ إلى أن بلغت السن والغاية التي تحس بأن الجعل منك اشمأزت ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {لما عرج بي مررت على قوم لهم أظفارٌ من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم، قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم} {جَزَاءً وِفَاقاً} [النبأ:26] {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49]. إذا كان هذا فعل عبدٍ بنفسه فمن ذا له من بعد ذلك يُكرم؟ {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج:18] وأخرج الإمام أحمد وصححه الألباني من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: {جاء الأسلمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهد على نفسه بالزنا أربع شهادات، يقول: أتيت امرأة حراماً فطهرني يا رسول الله! فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرجم فرجم، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين من الأنصار يقول أحدهما لصاحبه: انظر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم يدع نفسه حتى رجم رجم الكلب، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم سار ساعة، فمر بجيفة حمار شائن، انتفخ بطنه فارتفعت رجله، فقال صلى الله عليه وسلم: أين فلان وفلان؟ قالوا: نحن ذا يا رسول الله! فقال لهما: كلا من جيفة هذا الحمار! قالا: يا رسول الله! غفر الله لك ومن يأكل هذا؟! فقال صلى الله عليه وسلم: ما نلتما من عرض أخيكما آنفاً أشد من أكل هذه الجيفة، والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها} الله أكبر! الله أكبر لفتةٌ من آيبٍ لاح الطريق له فشمر وانبرى عبد الله! إن آكل جيفة الحمار مع خبثها وحرمتها لم يؤذ مسلماً، ولم ينتهك عرضاً، ولم تنشغل ذمته بحقوق العباد التي سيسأل عنها يوم القيامة، فهو خيرٌ ممن يأكل لحوم البشر، وفي كلٍ شر: فاهجر من الكلام ما قد أفعما بالزور والتضليل والبهتانِ أهل الوقيعة هم خصومك دائما لا يلتقي بمحبةٍ خصمانِ وكم من حروف تجر الحتوف! عبد الله! ما الحيوان الذي يأكل لحم أخيه بعد موته؟ الأسد؟ النمر؟ الثعلب؟ لا لا تألفها بل تأنفها، لا يفعلها إلا ذلك الحيوان الذي إذا ولغ في الإناء؛ احتيج إلى غسله لا مرة بل إلى سبع والتراب؛ إنه الكلب، لا يفعلها إلا كلب، وشبه الشيء منجذبٌ إليه: ألم تقرأ القرآن عمرك مرةً فما لك تعمى عنه في كل مرة قال الله: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات:12]. فاسمع إذا حدثت وافـ ـهم كيف عاقبة الأمور والحروف تجر الحتوف! واعجباً لمسلم -يا معشر الإخوة- قبل أن يتعلم مسألة من مسائل الدين، يتعلم كيف يقع في إخوانه المسلمين، من أين له الفلاح؟! كيف يفلح من ديدنه الطعن في أقوامٍ لعلهم حطوا رحالهم في الجنة منذ سنين؟! ذلكم والله المسكين، قد ذبح بغير سكين: كم صك آذاناً بجندل لفظه وأطال محنتنا بطول لسانه ما زال يعلن بيننا عن نفسه حتى استغاث الصم من إعلانه ألسنةٌ كالسياط، أدبها ودأبها التربص، فالتوثب على الأعراض في اعتراض، أشرفت علينا بقرون الفتنة لتضرب الثقة في قوام الأمة، طبع أصحابها -كما يقول ابن القيم عليه رحمة الله- طبع خنزير، يمر على الطيبات فلا يلوي عليها، فإذا قام الإنسان عن رجيعه ولغ فيه، وقمح، يسمع منك ويرى من المحاسن أضعاف أضعاف المساوئ فلا يحفظها، ولا ينقلها، ولا تناسبه، فإذا رأى سقطةً أو كلمةً عوراء ولو في فهمه، وجد بغيته وجعلها فاكهته، ألا بئس المنتجع وبئست الهواية، ويا ويلهم يوم تبلى السرائر يوم القيامة!

من أخبار الصالحين في تحاشي الغيبة

من أخبار الصالحين في تحاشي الغيبة عبد الله! أمة الله! إن الوقيعة في الأعراض بضاعة الجبناء، وكفُّ اللسان عن المسلمين سمة العلماء، وكل إلى جنسه يحن؛ العلماء الربانيون حفظوا الله فحفظهم وطهر ألسنتهم، اجتنبوا الغيبة والطعن والهمز واللمز كما تجتنب النجاسات، لا يسمحون بأن تدار في مجالسهم كما لا يسمحون لكئوس الخمر -أجارهم الله- أن تدار فيها. يقول أحدهم: صحبت فلاناً عشرين سنة والله ما سمعت منه كلمة تعاب. ويقول آخر: والله ما اغتبت مسلماً مذ علمت أن الله حرم الغيبة، حالهم: فإن مررت بنادٍ لا تجيف به أهل السفاهة فانزل ذاك نادينا

الشنقيطي يرى قتل الولد ونهب المال أهون من أخذ الحسنات

الشنقيطي يرى قتل الولد ونهب المال أهون من أخذ الحسنات هاهو العلامة/ محمد الأمين صاحب الأضواء عليه رحمة رب العالمين، قد عُرف بهذا الخلق العزيز، وهو شدة التجافي عن الوقوع في أعراض الناس، كان محارباً مرابطاً على ثغر، لا يسمح لأحدٍ بنسف عرض أخيه في مجلسه، فيحمي نفسه ويحمي مجلسه، ويؤدب على ضبط النفس من يلوذ به، فيعينه على ما ينفعه ويرفعه، ويربأ به عما يضره، إنه محمد، واقتدى بمحمد صلى الله وسلم على نبينا محمد: ومن ينحرف عن خط سير محمد يصر في يد الشيطان مثل البهيمة ولا تحسبن السير خلف محمد كرحلة صيد أو كمشوار نزهةِ يقول: لقتل الأولاد ونهب الأموال أهون عندي من أخذ الحسنات من رجلٍ كبيرٍ مثلي. ثم لا يغتاب ولا يسمح بالغيبة، ويقول: إذا كان الإنسان يعلم أن كل ما يتكلم به يأتي في صحيفته يوم القيامة، فلا يأتين فيها إلا بالطيب فرائدٌ خردٌ ترسو جواهرها فوق الكواكب لا بطن التجاليد وفي رحلة الحج سجَّل هذا الموقف العظيم، يقول: ثم جئنا آخر النهار قرية نائية، فالتمسنا رجلاً عربياً نبيت عنده، فدعانا رجلٌ عربي فأنزلنا منزلاً يعوي منه الكلب، وأغلق علينا الباب من الخارج، فبتنا ليلة لا أعاد الله علينا مثلها، ذكرتني ليلة النابغة التي يقول فيها: كليني لهم يا أميمة ناصب وليلٍ أقاسيه بطيء الكواكب تطاول حتى قلت ليس بمنقضٍ وليس الذي يرعى النجوم بآيب وليلة المهلهل التي يقول فيها: إذا أنتِ انقضيت فلا تحوري وأنقذني بياض الصبح منها وقد أنقذت من شيء كبير يقول: فكان صبح تلك الليلة أحب غائبٍ إلينا، يقول -واسمع إلى ما قال، وهذا هو موطن الشاهد- يقول: والله الذي لا إله إلا هو ما سألت عن اسمه ولا عن اسم أبيه خوفاً من أن أقع فيه: فسما بأروقة الجوى فأحلها فرع الثريا وهي في أصل الثرى حتى ظننا الشافعي ومالكاً وأبا حنيفة وابن حنبل حُضَّرا

البخاري وابن دقيق العيد يحذران الغيبة

البخاري وابن دقيق العيد يحذران الغيبة ومن قبل هاهو صاحب الصحيح الإمام أبو عبد الله البخاري عليه رحمة الله يقول: إني لأرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أني اغتبت أحداً، والإمام ابن دقيق رحمه الله يقول: ما تكلمت بكلمة ولا فعلت فعلاً إلا وأعددت له جواباً بين يدي الله: سلفٌ إذا مر الزمان بذكرهم وقف الزمان لهم مُجِلاً مكبرا كانت الدنيا عروساً بهمُ فهي اليوم تكون الأرمله

ما يصنعه من ابتلي بمجلس غيبة

ما يصنعه من ابتلي بمجلس غيبة

إزالة المنكر قدر الاستطاعة أو الانعزال

إزالة المنكر قدر الاستطاعة أو الانعزال معشر الإخوة والبنين! ولقائل إن يقول: فإن بلي المرء بالجلوس في مجلس طعنٍ أو غيبة وما في حكمها، فماذا يصنع؟ نقول: إن عليه أن يردها، ويزجر قائلها بالكلم أولاً، وحاله ومقاله كحال ذلك الشيخ/ محمد الأمين، حين جاءه رجل كبير، وكم من كبير يحق عليه، عقله عقل طائرٍ وهو في هيئة الجمل، فبدأ يغتاب عنده في مجلسه، فنهاه الشيخ في هدوء: وهدوء أمواج البحار تأهبٌ للمد يكتسح الشواطئ صرهرا فقال المغتاب: أنا المتكلم لا أنت، يعني: عليَّ تبعة كلامي، فقال الشيخ: أنا شيخ بين جنبي سورة البقرة، إما أن تسكت بأدب أو تخرج، حاله: فإن أر حقاً كنت للحق تابعاً وإن أر غير الحق أطلق قذيفتي وإني على هذا يراعي ومقولي وذلك أسلوبي وتلك طريقتي فإن لم ينزجر، فباليد إن كانت لك ولاية، فإن لم تستطع باليد ولا باللسان، ففارق ذلك المجلس، لا خيار لك، إن بقيت فإنك إذاً مثلهم، قال الله: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68]. فإن أعيتك الحيل ولم تستطع المفارقة حرم عليك الاستماع والإصغاء، ولزمك أن تسل قلبك من بينهم كسل الشعرة من العجينة، تذكر الله في عزلة شعورية، تكون معهم فيها حاضراً غائباً، قريباً بعيداً، يقظان نائماً، تنظر إليهم ولا تبصرهم، تسمع كلامهم ولا تعيه، قد انشغل قلبك بتصور عظمة من تناجيه جل جلاله وتقدست أسماؤه، فأنت في وادٍ وهم في وادٍ؛ حالك: يا ربى الوادي ويا كثبانه رددي همسي وغني بهديلي سامعاً غير مستمع، مأجوراً بإذن الله غير مأزور، وليس شيءٌ أصعب ولا أشق على هذا من النفس، ولكن من صدق الله كان الله له وكان معه: تبارك من إن ندن منه تَقَرُّباً بشبرٍ دنا منا ذراعاً برحمة

الذب عن عرض المسلم

الذب عن عرض المسلم معشر الإخوة والبنين! وحق المسلم على أخيه أن ينصره إذا ظلم، ويذب عن عرضه إذا خيض فيه من منافق أو ظالم أو فاسقٍ لا يخشى يوم الحساب، فإن في ذلك أجراً عظيماً، وفي خذلانه إثماً مبيناً، والمؤمن مرآة المؤمن يحوطه من ورائه. ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {من نصر أخاه بالغيب، نصره الله في الدنيا والآخرة، ومن حمى مؤمناً من منافق بعث الله له ملكاً يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنم، ومن رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة، وما من امرئ ينصر مسلماً في موضعٍ ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته، إلا نصره الله في موطنٍ يحب نصرته} وهذا ما التزمه القدوات أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حق إخوانهم إمامهمُ دون الأنام محمدٌ وليس لهم من دونه من أئمة ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في القوم في تبوك قال: {ما فعل كعب بن مالك؟ -وقد تخلف عن تلك الغزاة كما تعلمون- فقال رجل: يا رسول الله! حبسه برداه والنظر في عطفيه، فقال معاذ: بئس ما قلت، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيراً} فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم مقراً لإنكار معاذ على ذلك المغتاب لأخيه، ومشرعاً لمثله بالرد والذب. وليس أخي من ودني وهو حاضر ولكن أخي من ودني وهو غائب يدعى أحد السلف لطعامٍ، فلما جلس، قالوا: إن فلاناً لم يأت، فقال رجل منهم: إنه رجلٌ ثقيل، فقال: أوه، إنما فعل هذا في بطني حين شهدت طعاماً اغتبت فيه مسلماً، ثم خرج فلما يأكل ثلاثة أيام وحاله: إليكم فإني لست ممن إذا اتقى عضاض الأفاعي نام فوق العقارب ويذكر رجل بسوءٍ أمام صاحبه فقال للمغتاب: أغزوت الترك؟ قال: لا، قال: أغزوت الروم؟ قال: لا، قال: سلم منك الروم والترك ولم يسلم منك أخوك! أنسيت حق الله أم أهملته شرٌّ من الناسي هو المتناسي معشر الإخوة! إن المغتاب أو الطعان لو لم يجد آذاناً صاغيةً لما وقع واسترسل، ولكسدت بضاعته وما نفقت، فالحزم الحزم معشر الإخوة! لا يجوز مجاراة الطاعنين بحال، ويعظم ذلك حين يكون الوقوع في عالمٍ أو داعيةٍ أو مصلحٍ، ذاكم هو الداء الدوي، والموت الخفي؛ في زمن ما أحراه بقول من قال: زمان رأينا فيه كل العجائب وأصبحت الأذناب فوق الذوائب

وجوب الذب عن أعراض العلماء وبيان عظم حرماتهم

وجوب الذب عن أعراض العلماء وبيان عظم حرماتهم من هتك ستر عالمٍ وتكلم فيه بغير حق، ابتلي بسوء ذنبه، وقد يختم له بخاتمة السوء حين مصرعه، كما قال ابن عساكر: وعادة الله في هتك أستار منتقصي العلماء معلومة، ومن أطلق لسانه في العلماء بالثلب؛ ابتلاه الله قبل موته بموت القلب: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63] تلك والله -معشر الإخوة والأخوات- سيما ضعاف النفوس، يشعرون دائماً بضآلة أنفسهم، فيسعون إلى هدم القمم الشماء لتتساوى الرءوس في الحفر، لا يرون الصعود إلا على أشلاء العمالقة الجهابذة العلماء العاملين، فواحدهم يصدق عليه قول القائل: فكالهر يخشى شرب ماءٍ بجدول ويشرب من أوساخ ماءٍ بحفرة ومن ثم ينصبون مشانق الطعن والتجريح لإلغاء الثقة في العلماء العاملين، لو رأيتهم يتواثبون ويقفزون -والله أعلم بما يوعون- لأدركت فيهم الخفة والطيش في أحلام الطير: صم ولو سمعوا بكم ولو نطقوا عميٌ ولو نظروا بهتٌ ولو شهدوا كأنهم إذ ترى خشبٌ مسندةٌ وتحسب الركب أيقاظاً وما رقدوا يتداولون غيبة العلماء ويتعاطونها فيما بينهم، ويدار عليهم بها كما يدار بكأس الماء على العطشى، فمقلٌّ ومستكثر، فعابوا أموراً يعلم الله أنهم أحق بها وصفاً وأولى بعيبةِ فواحدهم يلقي الكلام مجازفاً على حسب ما يأتي بغير روية ِ لحوم العلماء مسمومة؛ من شمها مرض، ومن أكلها مات، لحوم أهل العلم مسمومة، ومن يعاديهم سريع الهلاك فكن لأهل العلم عوناً وإن عاديتهم يوماً فخذ ما أتاك البلاء موكلٌ بالمنطق، والجزاء من جنس العمل، وكم طاعنٍ ابتلي بما طعن. يقول أحد السلف: إني أجد نفسي تحدثني بالشيء، فما يمنعني من قوله إلا مخافة أن ابتلى. لو شاء ربك كنت أيضاً مثلهم فالقلب بين أصابع الرحمن يحكى أن رجلاً كان يجرئ تلامذته على الطعن في العلماء وإهانتهم وتتبع زلاتهم، وذات يوم قام يتكلم بكلامٍ لم يرق لأحد طلابه، فقام إليه ذلك الطالب، فصفعه على رءوس الأشهاد، ليقول بلسان الحال: حصادك يوماً ما زرعت: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [آل عمران:182]. إن السعيد لمن له من غيره عظة وفي التجاريب تحكيمٌ ومعتبر وكم من حروفٍ تجر الحتوف! من خاض في أعراض العلماء، ودعا إلى ذلك، فقد سن سنةً سيئةً، عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، فالدال على الشر كفاعله، والسعيد من إذا مات ماتت معه سيئاته، قال الله: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس:12]. وما من كاتبٍ إلا سيلقى غداة الحشر ما كتبت يداه وما من قائلٍ إلا سيلقى غداة الحشر ما نطقت شفاه العلماء حراس الديانة الأمناء، والغض من مكانة الحارس معناه استدعاء اللصوص، العلماء عقول الأمة، والأمة التي لا تحترم عقولها غير جديرةٍ بالبقاء، العلماء حملة الشريعة وورثة الأنبياء، والمؤتمنون على الرسالة، حبهم والذب عنهم ديانة، ما خلت ساحة من أهل العلم إلا اتخذ الناس رءوساً جهالاً يفتونهم بغير علم، فيعم الضلال، ويتبعه الوبال والنكال، وتطل عندها سحب الفتن تمطر المحن، ومن الوقيعة ما قتل، فنعوذ بالله من الخطل، وما عالم برع في علمه يؤخذ بهفوته، وإلا لما بقي معنا عالم قط، فكلٌ رادٌّ ومردودٌ عليه، والعصمة لأنبياء الله ورسله، والفاضل من عدت سقطاته، وليتنا أدركنا بعض صوابهم، أو كنا ممن يميز خطأهم على الأقل، وإذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث وما عبر الإنسان عن فضل نفسه بمثل اعتقاد الفضل في كل فاضل وليس من الإنصاف أن يدفع الفتى يد النقص عنه بانتقاص الأفاضل وكم من حروفٍ تجر الحتوف!

تنكر الطالب لشيخه شنيعة شنعاء

تنكر الطالب لشيخه شنيعة شنعاء والشنيعة الشنعاء معشر الإخوة، والداهية الدهياء التي تستحق جز الغلاصم، وقطع الحلاقم، ولدغ الأراقم، ونهش الضراغم، فهي البلاء المتلاطم المتراكم: تنكر الطالب لشيخه الذي طالما أفاده وعلمه، وأحسن إليه وأدبه، ولمن كان سبباً في هدايته لهوىً في نفسه يجحد ما مضى من إحسانه إليه، ويسل لسانه عليه، فيقول بقول كافرة العشير: ما رأيت منك خيراً قط، ثم يذم ويشنع، ويقبح ويبدع، يصدق عليه قول القائل: له بطن تمساحٍ وقلب حمامةٍ وأنياب ضرغامٍ ومنخر هرةِ سلاحه رث، وحديثه غث! مساوٍ لو قسمن على الغواني لما أمهرن إلا بالطلاق فيا عجباً لمن ربيت طفلاً ألقمه بأطراف البنان أعلمه الرماية كل يومٍ فلما اشتد ساعده رماني أعلمه الفتوة كل حينٍ فلما طر شاربه جفاني وكم علمته نظم القوافي فلما قال قافية هجاني بليت به جهولاً جاهلياً ثقيل الروح مذموماً بغيضا ولم يك أكثر الطلاب علماً ولكن كان أسرعهم نهوضا فله ولمن كان على شاكلته أقول: قعوا أو غِيروا ما ذلك بضائرنا ولا بضائرهم، ووالله ما هو بنافعكم، وإذا أكثرتم الرماد، فأثارته الريح، فلا تلوموها ولوموا أنفسكم، ألا هل جزاء الإحسان إلا الإحسان، والموعد الله. ومن يعتلق حبل الدعاوى ترد به فحبل الدعاوى ذو خيوطٍ ضعيفة

عقاب الطاعنين في الأعراض

عقاب الطاعنين في الأعراض ألا إن أعراض المسلمين حفرةٌ من حفر النار، لم يزل يتقحم فيها كثيرٌ من الناس مساكين، مسكين ذلك الذي يجتهد في فرائضه ونوافله يومه كله، ثم يبيت يوم يبيت ولا حسنة له. يا لله! أين ذهبت فرائضه؟ أين ذهبت نوافله؟ أين ذهب بره وإحسانه وأمره بالمعروف ونهيه؟ فرقها بلا حساب، يجمع ولا ينتفع، يتعب ولا يستفيد، ذاكم هو المفلس حقاً، كما ثبت عند مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال صلى الله عليه وسلم: {أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع} فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يبين أن الإفلاس الحقيقي هو في إضاعة الحسنات، في يومٍ لا يتاح فيه لمضيِّع أن يكسب أو يعوض فقال: {إن المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاةٍ وصيامٍ وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه، أخذ من سيئاتهم وخطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار}. يا رب! كم من الأخطاء قد أتينا وكم على أنفسنا جنينا لكننا نرجوك يا من يغفر وللذنوب والعيوب يستر إن من كمال عدل الله -يا معشر الإخوة- ألا يدع مظلوماً في ذلك اليوم حتى ينتصف له من ظالمه، ولن يجاوز جسر جهنم ظالم حتى يؤدي مظلمته حتى اللطمة حتى البهائم يقاد لبعضها من بعض، ثم يقال لها: كوني ترابا، فقائلٌ: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً} [النبأ:40] وآخر: {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر:24] وثالث: {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً} [الفرقان:28]. قد ضوعف الكرب على النفوس ودنت الشمس من الرءوس واقتص للمظلوم ممن ظلمه بحكمه العدل كما قد علمه قال صلى الله عليه وسلم: {لتؤدنَّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء}. فإلى أصحاب القرون الذين ينطحون بها -وهم كثر- ليشفقوا على أنفسهم ورءوسهم؛ يا ناطحاً بماله أو سلطانه أو جاهه، أو بقرن غيره، أو بلسانه وقلمه، الله يعلم وسيقضي بينكم يوم القيامة، فهو الحكم العدل، كل ذلك في كتابٍ عنده لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، وسيقتص حتى للذرة من الذرة: فلا تنس أنك يا صاحبي ستسأل عن حبة الخردل فإن تك في شك من ذلك: فأقسم بالرحمن إنك واهم أضل من الخفاش في ضوء ضحوة أخرج الطيالسي وأحمد وصححه الألباني عن أبي ذر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى شاتين تنتطحان، فقال لـ أبي ذر: {أتدري فيم تنتطح هاتان؟ قال: لا. قال: لكن الله يعلم وسيقضي بينهما يوم القيامة}. فاغفر لنا ما كان من ذنوبنا وزين الإيمان في قلوبنا

توجيهات تحذيرية ونصائح للمغتابين

توجيهات تحذيرية ونصائح للمغتابين إلى الطاعنين القعدة الذين صرفوا وجوههم عن آلام أمتهم، وقالوا: {هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص:42]، فصاروا ألماً مضافاً إلى أمتهم، يحق في أحدهم: خطبت فكنت خطباً لا خطيباً أضيف إلى مصائبنا العظام إليهم أقول: احذروا، ثم احذروا، ثم احذروا! وقول ابن القيم: تأملوا كم أورثت التهم الباطلة من أذىً لمكلوم، عبَّر عن جرحه بخفقة صدر، ودمعة عين، وزفرة تظلم ارتجف منها فؤاده بين يدي ربه في جوف الليل؛ لهجاً ملحاً لكشفها، ماداً يديه إلى مغيث المظلومين، وكاسر الظالمين، والظالم يغط في نومه، وسهام المظلوم تتقاذفه، وعسى أن تصيب ما اقتناه. فيا لله ما أعظم الفرق بين من نام وأعين الناس ساهرة تدعو له، ومن نام وأعين الناس ساهرة تدعو عليه! تحلل فما زال للصلح باب وبالموت يغلق باب المتاب قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: {من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو شيءٍ منه، فليتحلله اليوم قبل ألا يكون درهمٌ أو دينار، إن كان له عملٌ صالح أخذ بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسناتٌ أُخذ من سيئات صاحبه، فحمل عليه قال الله: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47] لكل حتفٍ سبب من السبب، فيا ويل من زلت به القدم ولم يتب، وترك الحبل لحروفه، يضطرب من شرٍ قد حل، لا أقول: قد اقترب؛ أقلع عن الذنب، وكف عن العيب، واندم فالندم توبة، والتائب كمن لا ذنب له، واعزم على عدم العودة. إنما المؤمن من إن خرق الثوب رفا وعن التقصير والأنام خوفاً عزفا عونك الله ربي أنت حسبي وكفى تحلل ممن اغتبته وطعنت فيه، واطلب عفوه وإبرائه إن بلغه ما قلته، وإن لم يبلغه؛ فاستغفر له ولا تخبره، فإن في إخباره مفسدةً محضةً لا تتضمن مصلحة، أثن عليه بما فيه من خير في المواطن التي طعنت فيه لتصلح ما أفسدته، فوالله إن الأمر لشديد، وإن الحروف لتجر الحتوف: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر:31]. فكم من حروفٍ تجر الحتوف وكم ناطقٍ ود أن لو سكت ومع هذا كله: فالقدح ليس بغيبةٍ في ستةٍ متظلمٍ ومعرفٍ ومحذر ولمظهرٍ فسقاً ومستفتٍ ومن طلب الإعانة في إزالة منكر

حروف تجر لخير منيف

حروف تجر لخير منيف

ذكر الله

ذكر الله معشر الإخوة والأخوات والبنين! والشيء بالشيء يذكر، وبضدها تتميز الأشياء، فكما أن الحروف تجر الحتوف، فإن الحروف تجر للخير المنيف. فاعلم هُديت: حروفٌ للدلالة على الخير، {فمن دل على خيرٍ فله مثل أجر فاعله}، حروفٌ في إدخال السرور على مسلم: {فأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرورٌ تدخله على مسلم}: {والكلمة الطيبة صدقة} حروفٌ في الإصلاح بين الناس: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:114] {لا يزال لسانك رطباً بذكر الله} {خير الأعمال وأزكاها وأرفعها للدرجات، وما هو عند الله خيرٌ من ضرب الأعناق والإنفاق في سبيل الله ذكر الله} {كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم} {لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة، وباب من أبواب الجنة، وغرس من غراس الجنة}، والباب واسع ليس هذا موضعه. أعظم الذكر كلام الله؛ من قرأ منه حرفاً فله حسنة، والحسنة بعشر، ومن علَّم آيةً منه، كان له ثوابها ما تليت، يرفع الله به أقواماً ويخفض به آخرين، فاقرأ وتدبر، واعلم واعمل وبلغ، واعمر بيتك ووقتك وحياتك به، وارج الله أن تكون ممن ينادى عليه يوم القيامة: {اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها}. لا تذكر الكتب السوالف عنده طلع الصباح فأطفئ القنديلا

تبيين الحق عند رواج الشائعات

تبيين الحق عند رواج الشائعات وأخرى تجر لخيرٍ منيف، الجهاد بالحروف ضربٌ من ضروب الجهاد في سبيل الله، لا يقل أثراً عن جهاد النفس والمال، فجاهدوا بألسنتكم حين تروج الشائعات الكاذبة، ويطعن في عرض مسلم بريء، فالكلمة الصادقة والحوار المقنع لدفع ورفع ذلك جهاد في سبيل الله؛ حداء صاحبه: يا لساني كان الكلام حراماً فانطق الآن فالسكوت حرام رجل من أهل الكوفة كان ذا قدر ومنزلة وصاحب كلمة مسموعة، يزعم فيما يزعم أن عثمان ذا النورين رضي الله عنه كان يهودياً وظل على يهوديته، ونعوذ بالله مما قال: مقال ليس يقبله كرام ولا يرضى به غير اللئام لكن: كل من عاش يرى ما لم يره والقلب يعمى مثل ما يعمى البصر سمع أبو حنيفة رحمه الله بذلك، فمضى إليه، وقال له: لقد جئتك خاطباً ابنتك فلانة لأحد أصحابي، فقال: أهلاً ومرحباً بك، مثلك يا أبا حنيفة لا ترد حاجته؛ لكن من الخاطب؟ فقال أبو حنيفة: رجل موسومٌ في قومه بالشرف والغنى، سخي اليد، مبسوط الكف، حافظٌ لكتاب الله، يقوم الليل كله في ركعة، كثير البكاء من خشية الله، فقال الرجل: بخٍ بخ، حسبك يا أبا حنيفة! فقال: لكن فيه خصلة لا بد أن أذكرها لك، فقال: ما هي يا أبا حنيفة؟ قال: إنه يهودي، فانتفض الرجل، وقال: يهودي؟ أزوج ابنتي من يهودي؟! والله لا أزوجها منه ولو جمع خصال الأولين والآخرين! فقال أبو حنيفة: تأبى أن تزوج ابنتك من يهودي، وتنكر ذلك أشد نكير، ثم تزعم للناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوج ابنتيه كلتيهما من ذي النورين؛ من يهودي هو عثمان رضي الله عنه؟ فعرت الرجل رعدة، وارفض عرقه، وقال: أستغفر الله من قول سوءٍ قلته، ومن كل فرية افتريتها، وجاء الحق وزهق الباطل بعصا الحروف. إذا جاء موسى وألقى العصا فقد بطل السحر والساحر فذب الله النار عن وجه أبي حنيفة، كما ذب عن عرض ذي النورين الخليفة.

تفنيد الشبهات

تفنيد الشبهات وأخرى تجر لخيرٍ منيف، حروفٌ في مناظرة لتفنيد شبهة، وإحقاق حق، وإزهاق باطل، في قوة حجة وبرهان، وحكمة ومصابرة إنما هي جهاد في سبيل الله فهلا قمت في النادي خطيباً لك الكلم الحسان لها ثياب في السير للذهبي: أن محمد بن الخليفة الواثق يقول: كان أبي إذا أراد أن يقتل أحداً أحضرنا، وفي ذات يومٍ أتي بشيخ مخضوبٍ مقيد، فأدخل على الواثق، فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقال: لا سلمك الله، فقال: يا أمير المؤمنين، بئس ما أدبك مؤدبك، إن الله يقول: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:86] فقال ابن أبي دؤاد أحد زعماء الفتنة: الرجل متكلم، فقال الواثق: كلمه. يرجو دواء القلب من ذي علةٍ ويريد وصف الشمس من عميان فقال: يا شيخ! ما تقول في القرآن؟ فقال الشيخ: لم ينصفني أيها الأمير والسؤال لي عند النطاح يعرف الكبش الأجم فقال: سل. قال: ما تقول يا ابن أبي دؤاد في القرآن؟ قال ابن أبي دؤاد: مخلوق، قال الشيخ: هذا شيء علمه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر والخلفاء الراشدون، أم شيء لم يعلموه؟ فقال ابن أبي دؤاد: بل شيء لم يعلموه، فقال الشيخ: سبحان الله! شيء لم يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم، علمته أنت! فخجل ابن أبي دؤاد، وقال: أقلني، قال الشيخ: المسألة بحالها، علموه أم لم يعلموه؟ فقال: بل علموه، فقال الشيخ: علموه ولم يدعوا الناس إليه؟ قال: نعم، قال الشيخ: أفلا وسعك ما وسعهم. يا شاعراً بسقوطه لم يشعر ما كنت أول طامعٍ لم يظفر أفما استحيت ولا احتسبت جواب ما تحكيه كيف يخيف ليثاً ثعلب والله ما أدري أأنت على الثرى أم أنت في طي التراب مغيب {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ} [الأعراف:118 - 119] قام الواثق الخليفة ودخل مجلسه واستلقى على ظهره، وهو يقول: سبحان الله! شيء علموه ولم يدعوا الناس إليه، أفلا وسعك ما وسعهم؟! وسقطت الوساوس من رأس الخليفة، وسقط ابن أبي دؤاد من عينه، وأمر برفع قيد الشيخ، وأمر له بأربعمائة دينار، ورفعت المحنة فما امتحن أحدٌ بعده، فأثاب الله الشيخ على ما كشف من غمة فما يعرف الإنسان إلا بغيره وما فضلت يمناك لولا يسارها فيا أيها العبد المحدث نفسه ألا هل على دعواك جئت بحجة فإن أنت لم تفعل فإنك كاذب وذو الصدق يبدو صدقه بالأدلة

كلمة ذي جاه يقود بها أتباعه إلى الجنة

كلمة ذي جاه يقود بها أتباعه إلى الجنة وأخرى تجرُّ لخيرٍ منيف، كلمة متبوعٍ ذي منزلةٍ وقدرٍ وجاهٍ عند أتباعه لإنقاذهم برحمة الله من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن المعصية إلى الطاعة، له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم الدين، وهي خيرٌ له من حمر النعم، والقدوة في ذلك سعد بن معاذ سيد الأوس رضي الله عنه، من اهتز له عرش الرحمن، يوم أسلم ووقف على قومه، فقال: يا بني عبد الأشهل كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأياً، وأيمننا نقيبة، فقال في إيمانٍ ويقينٍ، وشجاعةٍ فذةٍ، وحزمٍ نافذ: فإن كلام رجالكم ونسائكم عليَّ حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله، فوالله ما أمسى في بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلماً أو مسلمة. الله أكبر موجةٌ من ناصف عبرت غواربها المحيط الأكبرا نصيحةٌ تلك لم يحلم بها أحدٌ فوق المكاييل جاءت والمقاييس

كلمة حق عند سلطان جائر

كلمة حق عند سلطان جائر وأخرى تجرُّ لخيرٍ منيف، كلمة حقٍ يصدع بها صاحبها، لا يخاف في الله لومة لائم، ولا يترخص إن رأى في نفسه قوة التحمل والصبر، فيعيش فاعلاً متفاعلاً عزيزاً وإن قتل، فلعله يكون من سادات الشهداء الذين قال فيهم صلى الله عليه وسلم: {سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائرٍ فأمره ونهاه، فقتله}. هاهو الإمام/ عبد القادر الجيلاني رحمه الله يأمر وينهى، وينكر على من يولي الظلمة لا تأخذه في الله لومة لائم، ولي القضاء في زمنه أبو الوفاء الظالم، فقام الجيلاني وقال لمن ولاه: وليت على المسلمين أظلم الظالمين، ما جوابك غداً عند رب العالمين أحكم الحاكمين؟ فارتعد الخليفة وبكى وعزل القاضي المذكور لوقته. ألا ما أحوج الأمة إلى صادعٍ بالحق يصدع رءوساً قد تشبعت وتصدعت من كثرة الإضراء والملق، وصرفت عن تدبر آيات الله ونذره، ونصبت أنفسها آلهةً تقول فلا يرد قولها، فمن لها إلا العلماء الربانيون الذين إذا قالوا بطل قول كل قائل فليشعر الخلق أن الغيل مأسدةٌ إن غاب رئبالها جاءت برئبال. ولكم سلف؛ قام أبو هريرة رضي الله عنه إلى مروان وقد أبطأ بالجمعة، فقال له: [[أتظل عند ابنة فلان تروحك بالمراوح، وتسقيك الماء البارد، وأبناء المهاجرين والأنصار يصهرون من الحر؟! لقد هممت أن أفعل وأفعل]] اسمعوا. كم صامتٍ شرواه إن قال ارتدت أقواله تحكي لغات الأرقم وهاهو ابن أبي ذئب عليه رحمة الله، المهيب الآمر الناهي؛ يجيء إلى أبي جعفر، ثم يقول له: قد هلك الناس، فلو أعنتهم من الفيء يا أبا جعفر، فقال أبو جعفر: ويلك لولا ما سددت من الثغور؛ لكنت تؤتى في منزلك فتذبح، فقال ابن أبي ذئب: هون عليك! قد سد الثغور وأعطى الناس من هو خيرٌ منك؛ الفاروق عمر رضي الله عنه إذا أخصبت أرضٌ وأجدب أهلها فلا أطلعت نبتاً ولا جازها الزرع فنكس المنصور رأسه، والسيف في يد صاحبه، ثم قال: دعوه هذا خير أهل الحجاز. لا يعلم إلا الله ما سيكون إن لم يقل الربانيون كلمة الحق، المسلمون ينحدرون من هاويةٍ إلى هاوية يتقهقرون يتهافتون، وحذو القذة بالقذة لأعداء الله يتبعون. ألفت الأمة الآثام حتى أمست جزءاً من كيانها تتمسك به، وتدافع عنه، زين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم، كانت الأقذار الجنسية تتم في خفاء، ثم صارت تبدو على استحياء، ثم تواطأ عليها الرعاع حتى دخلت إلى أعماق البيوتات عن طريق الشبكات والقنوات، ثم صارت قانوناً يعمل به في بعض البلاد، ثم انعقدت لها مؤتمراتٍ عالمية تدعو إليها لا ترى فيها عوجاً، فمن للفضيلة إن سكت الربانيون؟! فئةٌ بائسة تكره الدين، وتنقم على الوحي، وتريد تحت ثوب النفاق أن تعيدنا إلى النفاق وعمل الجاهلية قبحت منابتها وشاه نباتها بسوى الفضائح نبتها لم يثمر من لهؤلاء إن سكت الربانيون؟ لا أبطل من الباطل إلا السكوت عليه، والساكت عن الحق شيطان أخرس، كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق، لما ولي السفاح ظهر الجور في أفريقيا، فوفد p=1000569> ابن أنعم قاضي أفريقيا نعَّم الله عينه من آمرٍ وناه، وفد وهو عالمها وقاضيها على أبي جعفر مشتكياً، فقال له: ما بك يـ ابن أنعم؟ قال: جئت لأعلمك بالجور في أفريقيا بلادنا، فإذا هو يخرج من دارك، فغضب وهمَّ به، ثم قال له: كيف لي بأعوان، قال: إن عمر بن عبد العزيز كان يقول: الوالي بمنزلة السوق يجلب إليه ما ينفق فيه. له منطق ينبيك عن بأسه كما يدل على بأس الأسود زئيرها فأطرق، ثم أومأ إلى حاجبه أن يخرجه، فخرج وقد أدى ما عليه. له قلب أشد من الرواسي وذكرٌ مثل عرف المسك فاحا معشر الإخوة! أكثرت الأمثلة من باب: على آثارهم سيروا تكونوا خير ركبان إن على القائمين بأمر الله ودينه علماء ودعاة ومن دونهم -كل بحسبه- أن يؤدوا أمانتهم التي استحفظوا عليها، فيقفوا في وجه الشر والفساد والطغيان، نصحاً أو تغييراً أو إنكاراً؛ لا يخافون لومة لائم، سواءً هذا الشر قد جاء من حاكمٍ متسلطٍ بالكفر، أو غنيٍ متسلطٍ بالمال، أو أشرارٍ متسلطين بالأذى، أو جماهير متسلطة بالهوى، منهج الله هو منهج الله، والخارجون عليه سواء، وكلٌ بحسبه، وقد الرءوس في الشرف بقاء، ولحظةٌ من حياة الأسد خيرٌ من حياة الشاة مائة عام، فليكن الحال: ولما رأيت الحرب حرباً تجردت لبست مع البردين ثوب المحارب يا لله! أكل سوقيًّ ونبطي ومنافقٍ وعامي ومن لا يعرف له أصلٌ وأبٌ في العلم يريد أن يطرح علينا بسوئه؛ لتصير الرذيلة ديناً، ثم يخرس أهل الحق: اجهر برأيك لا يأخذك ترويع لا ينفع الصوت إلا وهو مسموع إن أفضل الجهاد كلمة حق تقال عند سلطانٍ جائر، لا يثقلنك الطمع، ولا يوهننك الفزع ما استطعت إلى ربك أعذر وما استطعت فانه ومر، وغيِّر أو أنكر، زادك الإيمان، وسندك الرحمن: إن تكن في مثل نيران الخليل أسمع النمرود توحيد الجليل وإلا فالحتوف، والضيم كل الضيم أن يتنمر المتنمرون وأنت خاضع.

الجهاد بالأدب نظما ونثرا

الجهاد بالأدب نظماً ونثراً وأخرى تجر لخيرٍ منيف، حروف نظمٍ أو شعر، أو نثر في الدعوة إلى الله، ونصرة دين الله؛ تفصم عرى الباطل، وتلهب القلوب بسياط الحق، وتملأ الآذان وتصك الجنان، وتأسر المشاعر أسراً: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء} [محمد:4]. هاهم شعراء رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاهدون بسنانهم ولسانهم، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم في نظم حسان: {والذي نفسي بيده لهو أشد عليهم من رمي النبل}. ابن رواحة يعيرهم بالكفر، وحسان يذكر عيوبهم وأيامهم، وكعب بن مالك يقول: فعلنا ونفعل ويتهددهم، فكانت كلماتهم أسرع في العدو من السهم في غلس الظلام. والشعر إن لم يكن ذكرى وموعظةً أو حكمة فهو تقطيع وأوزان لقد أسلم فئام من دوس فرقاً من تهديد كعبٍ حين قال: قضينا من تهامة كل وثر وخيبر ثم أجممنا السيوفا نخيرها ولو نطقت لقالت قواطعهن دوساً أو ثقيفا نجاهد لا نبالي من لقينا أأهلكنا السلاد أم الصليفا قالوا حين بلغهم ذلك: انطلقوا فخذوا لأنفسكم، لا ينزل بكم ما نزل بثقيف. حصحص الحق وانتهى كل شيءٍ فمن الحزم أن نجيب الرشادا فلله دره من شاعر؛ ببيتٍ واحدٍ تسلم قبائل بأسرها خوفاً وفرقاً. فما هو إلا البحر يلقاك ساكناً ويلقاك جياشاً مهول الغوارب فرضي الله عنهم جميعاً. هم البحر إلا أنه طاب ورده وكم من بحار لا يطيب ورودها أسود غاب ولكن لا نيوب لهم إلا اللسان مع الهندية القضب هذه صورةٌ مضيئة مختصرة من البيان الحق تنقل لأصحاب الأقلام، والألسنة العيية في الحق، التي تحمل الموت وأسباب الموت، من تلبس القاتل لباس الناسك، وتسم الخلي بسمة الولي، وتؤزر أبناء الحرام بإزار الإحرام، وتخلع على الصعلوك ألقاب الملوك من نصبها عدو الأمة لرفع الأمة لكن إلى أسفل، وهو من ورائها يتوارى بها كما يتوارى سائق الحمار بالحمار، ثم ينخره ليندفع على غير هدي الغريزة الحمارية، فلا يفهم الناس أن وراء الحمار سائقاً، وأنه يسوقه إلى ما ليس في طبعه وقدرته؛ فهو مسخرٌ لخدمته، غافلٌ عن عاقبته، لأنه إذا تم لمسخره فيما أراد عاد عليه فدمره، فلو كان في أقسام الإضافة في النحو العربي ما هو بمعنى: على، لخلعنا على واحدهم لقب حجة الإسلام، يعني: الحجة على الإسلام. وهي كذلك رسالةٌ إلى الأدباء الخاملين الخائرين الكسالى البطالين، من أدبهم لا يبعث الروح ولا يثير الطموح، شعرٌ بارد من قلبٍ بارد، أدبٌ ميت يصدر عن أديب ميت، لا يحمل في عينه دمعة ولا في قلبه لوعة، بيانٌ ولا هم، وأرضٌ مخصبة ولا زمزم، ومن لم يحرك المشاعر فما هو بشاعر. ألا إن السيف يحتاج إلى ساعدٍ قوي، والقلم واللسان يحتاج إلى فكرٍ مسدد، والله لا يصلح عمل المفسدين. وكريمة الكرائم؛ قلم صدق يحرر، ولسان حقٍ يعبر، وعقلٌ منضبط بوحي المولى يدبر، فإذا ضاعت هذه فالوجود العدم. إن المنابر في الإسلام ما رفعت إلا لترفع صوت الحق في الناس فاختر لأعوادها لا من يلين له بالحق عودٌ ولا يصغي لخناس وإلا فالحتوف!

كلمات عطرة في الثبات عند البلاء

كلمات عطرة في الثبات عند البلاء وأخرى تجر لخيرٍ منيف، حروفٌ وكلمات ومواقف في الثبات حين البلاء على دين الله وإرهاب أعداء الله، لو وُزِّعت على جبناء أهل الأرض لشجعتهم، جديرةٌ بأن تتداول وتثار وتدرس، والعبر منها تؤخذ في وقتٍ يراد لأبواب الجهاد تحت وطأة التهديد أن تقفل فلا تطرق، وتهمل أسبابه فلا ترمق، وتدفن خيوله فلا تُركض، وتصمت طبوله فلا تنبض، وتربض أسوده فلا تنهض، وتمتد أيادي الكفار إلى المسلمين فلا تقبض، ويرضى بالحياة الدنيا من الآخرة، وتطمس السوافي ما قلدته القوافي، وتعيث الهوافي بالقوادم والقوافي، وتفترس العوافي ما نامت عنه العيون الغوافي. يا صامتاً فلتنطقن، يا وانياً لا تقعدن، يا ساهياً لا ترقدن، يا خاملاً لا تزهدن، ولا تغب بل اشهدن، تخشى الردى فلتخلدن. هاهو معاذ رضي الله عنه وأرضاه يفاوض وجهاء الروم في أجنادين، فقالوا له: اذهب إلى أصحابك؛ فوالله لتفرن إلى الجبال غداً، فقال معاذ في عزة المسلم: أما إلى الجبال فلا، ولكن والله الذي لا إله إلا هو لتقتلنا عن آخرنا أو لنخرجنكم من أرضكم أذلة وأنتم صاغرون: ننزل بالموت إذا الموت نزل الموت عندنا أشهى من العسل فما كان الغد إلا والروم يفرون إلى الجبال، فيقتلون ويأسرون، نعم: نكوي أناسي أعيا الطب داؤهم والكي آخر ما تأتي العقاقير وهاهم أبطال القادسية في ثياب العزة يطلقون حروفاً فتكون على عدوهم حتوفاً، يقول أحدهم: اجعلوا حصونكم السيوف، وكونوا عليها كأسود الأجم، وتربدوا لهم تربد النمور، وثقوا بالله، فإذا سلت السيوف فإنها مأمورة، فأرسلوا عليهم الجنادل، فإنه يؤذن لها فيما لا يؤذن للحديد فيه: لي وإن كنت كقطر الطل صافي قصفة الرعد وإعصار السوافي إنما تخاطرون بالجنة ويخاطرون بالدنيا، فلا يكونُن على دنياهم أحوط منكم على آخرتكم. فاطلبوا المجد على الأرض فإن هي ضاقت فاطلبوه في السماء وهاهو الصديق رضي الله عنه وأرضاه يوم ارتدت الجزيرة، وظهر أدعياء النبوة، وأحاطت الجيوش بـ المدينة، وهددت أهلها، يقول بعض من عنده: لا طاقة لنا بحرب العرب جميعاً يا أبا بكر، الزم بيتك وأغلق بابك: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] فهب كالأسد: لمس الزند فاشتعل محنة أمرها جلل وهو بين ذا وذا في أسى ليس يحتمل رأب الصدع واشتمل قال في هيئة البطل [[والله الذي لا إله إلا هو لا نبالي من أجلب علينا من خلق الله، إن سيوف الله مسلولة ما وضعناها بعد، والله لنجاهدن من خالفنا كما جاهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يبغين أحدٌ إلا على نفسه]. لقد أكمل الله الهدى بمحمدٍ فمن يرتدد فالسيف قاضي القضية وشهدت الطباق السبع والأرضون السبع أن أبا بكرٍ وفى لدين الله، وقام مقاماً لا يقومه أحد غيره، وفي أقل من سنتين يدمر جيوش المرتدين، ولم يمت إلا وجيوشه تحاصر فارس والروم. ستشهد في التاريخ أنك لم تكن فتى مفرداً بل كنت جيشاً عرمرما ولقائل أن يقول: أنت تحدثنا عن عصر كله خير وسعادة، نشأ أهله في أحضان النبوة ومدرسة القرآن، فكيف يتوقع مثل هذا من رجالٍ تأخر عصرهم وبعد مصرهم واختلفت هيئتهم؟ فأقول: إن كتاب الله لم يزل محفوظاً يغرس الله عليه غرساً يستعملهم في طاعته إلى يوم القيامة، وإن الجهاد لو قسمت فرائضه، لكان لنا منه حظان بالفرض والتعصيب، فلا غرابة! أحد المجاهدين العلماء في الهند في أواخر القرن الثالث عشر يصدر عليه حكمٌ بالإعدام شنقاً من قاضٍ إنجليزي، يقول القاضي الإنجليزي: هأنذا أحكم عليك بالإعدام، ومصادرة جميع ما تملكه من مالٍ وعتادٍ، ولا يسلم جسدك إلى ورثتك، بل تدفن في مقبرة الأشقياء بكل مهانة، وسأكون سعيداً حين أراك معلقاً مشنوقاً، فتهلل وجه العالم فرحاً وسروراً وحسن ظنٍّ بالله سبحانه وتعالى، ثم بدأ يتمثل بقول القائل: هذا الذي كانت الأيام تنتظر فليوف لله أقوام بما نذروا حاله: آذنت شمس حياتي بمغيبي ودنا المنهل يا نفس فطيبي أما والذي نفسي لديه لساعة من الغزو خير من عبادة حقبة وهنا تقدم ضابط إنجليزي، وقال: لم أر كاليوم قط! يحكم عليك بالإعدام وأنت مسرور مستبشر! فقال: ومالي لا أفرح ولا أستبشر؛ وأنا أرجو أن تكون شهادة في سبيل الله، وأنت لا تدري ما حلاوتها لكأنه من شوق الجنة في الجنة، ومن انتظار النعيم في النعيم، قد تمثلت له الحور والقصور، والموت في سبيل الله حبور لو حنطوك بقولٍ أنت قائله غَنِيت عن نفحات المسك والعود وهاهو مجاهدٌ آخر بقلمه ولسانه في عصره يقاد إلى القتل، وذنبه أنه يريد فيما نحسبه: أن تكون كلمة الله هي العلياء، ويريد الشهادة معها في سبيل الله، والشهادة حقاً -معشر الإخوة- أن تشهد أن شريعة الله أغلى عليك من حياتك، علق في حبل المشنقة كالطود الشامخ، فانقطع الحبل به، فقال في عزة المؤمن وشموخه على الباطل وأهله: جاهليتكم رديئة وحتى حبالكم رديئة، ولقي الله وحاله: جد بالدما من غير من إن لم تذد عنها فمن؟ فرحمه الله من فردٍ في أمةٍ ولودٍ للذرية، ولأسباب حياة الذرية.

كل يعمل قدر جهده وفيما يحسنه

كل يعمل قدر جهده وفيما يحسنه أخيراً معشر الإخوة والأخوات والبنين والبنات! إننا نعيش عصراً تتسارع فيه الفتن كقطع الليل يرقق بعضها بعضاً والأمة الوسط استكان حدها وأرى بغاث الطير لا تتلعثم حلفاء أبي لهبٍ فيه كثير، والمهتدون بهدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم قليل، ألا إنه لن يتم الاندفاع بهدى محمد الأمين عليه صلوات وسلام رب العالمين، إلا بالانقطاع عن خزي أبي لهب مع بيان سبيل المجرمين، ولا يصح الإيمان بذي العزة والجبروت والملكوت إلا بالكفر بالطاغوت، وإلا فالحتوف. كن في الفتنة كابن لبون لا ظهر فيركب ولا لبن فيحلب، وإلا فالحتوف. إن وقفة الرجل في محرابه متضرعاً، وبقلمه ولسانه في المحافل موجهاً يدفع شبهة، ويرفع شهوة، ويوقظ ضجعة، كوقفته بسلاحه يقصف جحافل الأعداء ويريق الدماء. إن أقلام وألسنة الكتاب المخلصين لا تقل مضاءً عن سيوف المجاهدين، إن مداد أقلامهم في الدفاع عن الدين لا تقل بإذن الله عن دماء المجاهدين، فسخِّر حروفك لخدمة دينك المنيف، وإلا فالحتوف. الظلم ظلمات يوم القيامة، ومن عادة الشيطان أن يرتفع بضحيته، ليكون الهبوط بقدر الصعود، فاحذره، وإلا فالحتوف! المسلمون وأنت فرد منهم هم الأمة الشاهدة الوسط الخيار الأخيرة؛ لا أمة بعدها، فإذا ضاعت ضاعت الرسالة، وإن هلكت غرقت السفينة، فاسع في نقل الأمة من غثائيتها إلى ربانيتها جهدك، وامض على الصراط المستقيم، ولا تلتفت للوراء ولو كثر العواء؛ حرصاً على الواجبات والأوقات، فكل دقيقة يصرفها العاقل في مجاراة هؤلاء النابحين هي مقتطعة من العمر قاطعة عن العمل، وماذا يقول العقلاء في من نبحته الكلاب جرياً على عادتها وطبيعتها، فقطع وقته في مجاراتها ومحاورتها، لاشك أنهم يقولون: عقله كعقول الكلاب. فارفع شعار سلام ومر مر الكرام وإلا فالحتوف. إن الحياة جهادٌ والجدير بها من غالب العاصفات الهوج والنوبا وإن من أحكم الأقوال تجربةً أعدت الراحة الكبرى لمن تعبا فغالب الباطل، وأَتعب قواك في الحق دهرك، وإلا فالحتوف. أيها الجيل! لديك أعظم ميراث وأكبر ثروة عرفها التاريخ، وثيقتك كتبت من أربعة عشر قرناً أو تزيد، كتبتها المحابر، وأذن بها على المنائر، وصلي بها في المحاريب، وخطب بها على المنابر، وحررت بها العقول والحقول، وفتحت بها الأقطار والأمصار، وقطعت بها البيد والقفار، لن تضل بإذن الله ما تمسكت بها؛ إنها نبع الوحي ما اختلط بطين، لأنه محفوظٌ من رب العالمين، فخذها بقوة، وعض عليها بالنواجذ، وإياك والمحدثات، وإلا فالحتوف. {من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فيقل خيراً أو ليصمت} إن عجز اللسان عن قول الخير، والساعد عن حمل السيف، فلا يعجزن اللسان عن الصمت، ولا الساعد عن حمل القلم، وإلا فالحتوف. بالحروف من الوحي خاطب الأرواح بلغتها، وائت البيوت من أبوابها، فإذا رأيت أرض الأفئدة قد اهتزت وربت، وهضابها القاسية قد تقلبت، فشمر عن الذراع واغتنم خفقان الشراع، والإسراع الإسراع، وإلا فالحتوف. وكم من حروفٍ تجر الحتوف وأخرى تجر لخير منيف وكم ساكتٍ ود أن لو نطق وكم ناطقٍ ود أن لو سكت. هذا مجمل القول عدلت فيه عجزاً عن الوابل إلى الطل، فخرجت كالطيف خطرة طيف، وسحابة صيف، وأرجو أن تكون قد فهمت، فمن الحيف ألا تفهم لغة الضيف: وما ذاك مني بل من الله وحده بفتحٍ وإمدادٍ وفضلٍ ونعمةِ فإن أك فيها مخطئاً أو مغالطا فمن ذات نفسي كل خطئي وغلطتي أتوب إلى الرحمن من كل خطأةٍ وأستغفر الرحمن لي ولإخوتي وأسأله جلَّ اسمه بصفاته وأسمائه الحسنى قبول كليمتي يا محيي القلوب بالإيمان اكفنا زلل القدم والقلم واللسان، يا غافر الذنب ويا قابل التوب نستغفرك من كل تصريحٍ أو تلميحٍ بنقصان ناقصٍ كنا متصفين به، نستغفرك من كل وعدٍ وعدناه فقصرنا في الوفاء به. اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المسلمين، اللهم عليك بأعداء الدين، اللهم عليك باليهود ومن هاودهم، اللهم عليك بالنصارى ومن ناصرهم، والمنافقين ومن وافقهم، والمشركين ومن شاركهم، والشيوعين ومن شايعهم، اللهم عليك بجميع أعداء الدين، اللهم فرق جمعهم، اللهم شتت شملهم، اللهم اجعل الدائرة عليهم، اللهم أذق بعضهم بأس بعض، اللهم أذهب ريحهم، اللهم اجعلهم غنيمةً باردةً للمسلمين، اللهم كن لإخوتنا المستضعفين والمأسورين والمضطهدين والمجاهدين في فلسطين وأفغانستان وكشمير والشيشان وكوبا والفلبين وأندونيسيا وجميع العالمين، اللهم كن لهم أجمعين، اللهم أفرغ عليهم صبراً وثبت أقدامهم وانصرهم على القوم الكافرين، اللهم اشف جرحاهم، اللهم فك أسراهم، اللهم تقبل في الشهداء موتاهم، اللهم ارفع علم الجهاد، واقمع أهل الشرك والزيغ والنفاق والعناد والفساد، يا من له الدنيا والآخرة وإليه المعاد. اللهم بصرنا بعيوبنا، وألف بين قلوبنا، اللهم لا تجعلنا في العمل لهذا الدين كأهل الجحيم؛ كلما دخلت أمة لعنت أختها، أنت مولانا نعم المولى ونعم النصير، والحمد لله رب العالمين , والصلاة والسلام على خاتم النبيين، وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

من أسباب تخلف المسلمين

من أسباب تخلف المسلمين يوم نقلب صفحات ماضينا المجيد، ويوم نتدبر القرآن الكريم؛ نأسى ونتحسر ونحن ننظر إلى واقعنا. فقد كنا قادة الركب وأصبحنا في آخر الركب، بل قد تبرأ منا الركب. ولهذه المشكلة أسباب وآثار ولها حلول. فلتجتنب الأسباب، وليعمل بالحلول عسى الله أن يرفع ما بنا.

حسرات على أحوال المسلمين اليوم

حسرات على أحوال المسلمين اليوم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً أدخرها لي ولكم إلى يوم المصير {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89]، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمةً للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسانٍ وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: عباد الله: اتقوا الله عز وجل، واعلموا أني مطيلٌ فاصبروا واحتسبوا، وأسأل الله الإعانة لي ولكم، واسألوا وسائلوا: سائلوا التاريخ عنا كيف كنا نحن أسسنا بناءً أحمديا واليوم: اسألوا التاريخ عنا كيف صرنا نحن أصبحنا مثالاً تبعيا سامنا الأعداء ذلاً ومهاناً نال ذاك الشيخ منا والصبيا أيكون المثل اليوم لينين وشارون وريغان الشقيا أنسيتم الصديق والفاروق وذا النورين والصحب الرضيا خاب من يستبدل الخير بشر يا من أنادي يا أخيا إخوتي إن أخانا رافع التوحيد أما من سواه فعديا وإن كان اسمه سعدا رضيا يوم نقلب صفحات الماضي المجيد، ويوم نتدبر القرآن الكريم يوم يقول: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] يوم نقلب ونتدبر ونتأمل؛ نأسى ونتحسر، نتحسر ونحن ننظر إلى واقعنا مع نظرنا لماضينا. نتحسر يوم نجد البون شاسعاً والفرق هائلاً، نتحسر يوم كانت هذه الأمة تهابها فارس والروم، ثم أصبحت غثاءً كغثاء السيل. نتحسر يوم كنا سادةً قادةً، ثم أصبحنا غوغاء أتباعاً. نتحسر يوم صار عددنا ألف مليون مسلم، ثم لا قيمة لهم، ولا وزن، دماء الكلاب أغلى من دمائهم هذه الأيام. نتحسر يوم نسمع بين الناس أخبار السافلين تملؤ الساحات ولا نسمع شيئاً عن أخبار المسلمين. نتحسر يوم يقذف بالمئات كل يوم في ساحات الوغى من المسلمين، والأعداء بنا يتربصون ونحن ساهون لاعبون لاهون. نتحسر يوم يرفع الناس أبطالاً على ساحات الوغى الخضر يلعبون ويقتلون أوقاتهم ويضيعون شبابهم وزهرة أعمارهم، ونتحسر اليوم أن الأبطال الحقيقيين في ساحات الوغى الحمر لا أحد يعلم عنهم، أو يقيم لهم وزناً، جراحٌ على صلبين كل يوم جديد يُنكأ الجرح الذي نكاد ننساه فيجمع من جديد، تلك جراحات الإسلام المحارب في كل أصقاع المعمورة، يتجمع عليه الكفر وأهله، يحاربون الإسلام وأهله {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ} [البروج:8]. نتحسر يوم تجد الحيوانات من يناصرها ويؤيدها وينشئ لها الجمعيات التي ترفق بها والمسلمون لا يجدون من يعزيهم في شهدائهم في كل مكان ومآسيهم وجراحاتهم في كل زمان ومكان، بالمئات يموتون يومياً تهراق دماؤهم وتملأ السدود والأنهار، لم تبق بقعةٌ إلا ارتوت بدمائهم، نتحسر ونقول: هل سأل عنها أحد؟ هل قبض على جرحها أحد فداواه؟ هل على الأقل بكينا لأجلها، ولأجل ما يحل بها؟ نتحسر يوم تكون دماء شهدائنا رخيصةً في كل مكان لا لشيء إلا لأنهم ليسوا بفنانين ولا أصحاب قوميات ولا وطنيات، وطنهم لا إله إلا الله، وفنهم سبحان الله، وغناؤهم الله أكبر. نتحسر يوم يرقد مليار مسلم لا يسمعون أنةً ولا صدىً لوقوع الأجساد على تراب فلسطين وأفغانستان، لم يرحم أحد أشلاءهم الممزقة، ولم يرحم أحد أطفالهم الرضع وشيوخهم الركع، لم يرحم أحد ثكالاهم اللائي ما فارقت الدموع مآقيهن، لكن يرحمهم أرحم الراحمين. لمثل هذا يذوب القلب من كمدٍ إن كان في القلب إسلامٌ وإيمانُ نتحسر ونتألم، ونقول: متى ينزاح السواد الحالك من الذلة والمسكنة، والتبعية المخيمة على هذه الأمة؟ متى ينزاح سواد الخنوع والركوع لغير الله جل وعلا؟ متى ينبري خالد وصلاح الدين والقعقاع، فيحرروا المسلمين من عبودية اليهود والنصارى والشيوعيين؟ متى يكون الأمان لأمة محمد صلى الله عليه وسلم أن تشهد أن لا إله إلا الله، وتدعو مطمئنةً دون خوف ترصُّد أو ترقُّب؟ لا يكون والله حتى نرى في نفوس المجرمين العلمانيين الذين يسرقون خيرات الأمة، ويدبرون لها المكائد في الظلام ما تقر به عيون الموحدين: {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً} [الإسراء:51] {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [إبراهيم:20]. متى نحيي في قلوبنا سورة (الأنفال) و (براءة) و (آل عمران) لننسف المنافقين والكافرين نسفاً {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً} [الإسراء:51] لا إله إلا الله! ماذا دهى هذه الأمة ماذا أصابها؟ يوم ننظر لواقعها ونتذكر ماضيها يعصرنا الألم والأسى والحسرة، لا يملك الإنسان إلا أن يقول: أواه أواه لو تجدي أواه! أزماتنا متكررة ونحتاج لعودة للماضي وما تذكرناه إلا ذبنا ألماً. إني تذكرت والذكرى مؤرقة مجداً تليداً بأيدينا أضعناه أنى اتجهت إلى الإسلام في بلد تجده كالطير مقصوصاً جناحاه كم صرفتنا يدٌ كنا نصرفها وبات يملكنا شعبٌ ملكناه بالله سل خلف بحر الروم من عرب بالأمس كانوا هنا واليوم قد تاهوا سل دمشق وسائل صخر مسجدها عمن بناه لعل الصخر ينعاه هذي معالم خرس كل واحدةٍ منهن قامت خطيباً فاغراً فاه الله يعلم ما قلبت سيرتهم يوماً وأخطأ دمع العين مجراه استرشد الغرب بالماضي فأرشده ونحن كان لنا ماضٍ نسيناه نذوب حزناً، ونقول ونتساءل: لم تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟ لم وصلنا إلى ما وصلنا إليه من التخلف والتأخر والانحطاط؟ لم نحن الآن في آخر الركب، بل قد تبرأ منا الركب، وقد كنا قادة الركب فيما مضى؟ فلنبحث عن الأسباب علنا أن نشخص الداء ونجد الدواء، والله المستعان!

أسباب تخلف المسلمين

أسباب تخلف المسلمين

فصل الدين عن الدولة

فصل الدين عن الدولة أعظم سبب يا عباد الله لتخلف المسلمين الآن هو: جعل الدين في المسجد لا صلة له بالدولة ولا الحياة، بمعنى: لا يُحكم البشر بشريعة رب البشر، فإذا أبعدت الشريعة عن الساحة؛ حُكم البشر بسنن البشر، والبشر قاصر وعاجز، وبهذا يحل ما حل من المصائب. وكل يوم نرى للدين نازلة يا أمة الحق لا سمعٌ ولا بصر يزداد الألم يوم نسمع كثيراً من المنتمين لهذا الدين ينادون بفصل الدين عن الدولة، أي: بالعلمنة، أي: بالجاهلية مع أن أهل الجاهلية أنفسهم يئنون تحت وطأتها، هاهو أحد رؤساء الدول الغربية في انتخاباته الرئاسية يرفع الإنجيل، ويقول: آن الأوان لعودة حكم الدولة بالدين، لا إله إلا الله! رجلٌ منحرفٌ يقول هذا! والمسلمون بسخرية وسذاجة يقولون: ما لله لله، وما لقيصر لقيصر، ونقول: الكل لله، والملك لله، والأمر لله، ولا إله إلا الله! كثيرٌ من المسلمين لا يعون ولا يدركون خطورة هذا الأمر، خطرٌ داهم، وشرٌ قائم، ومع ذلك فالمسلمون في غالبهم الآن يُحكمون بقوانين الشرق والغرب، لا يخضعون لحكم الله. وسنة الله التي لا تتبدل ولا تتغير أن من تخلى عن حكم الله؛ تخلى الله عنه، ثم لا يبالي في أي وادٍ هلك، أفغير دين الله يبغون؟! {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50].

الهزيمة النفسية

الهزيمة النفسية وسبب آخر وهو هزيمتنا النفسية، هزيمتنا أمام عدونا سببٌ لتخلفنا وانحطاطنا، لأن هذا الداء ما تسلط على أمةٍ إلا ساقها إلى الفناء والزوال والسقوط، سُئل علي رضي الله عنه ذلك الشجاع المقدام: يا أمير المؤمنين! إذا هجمت على عدوك نجد أنك تكبر تكبيرةً تنخلع لها القلوب، فلم؟ قال: [[إني أفعل ذلك لأني أقدم على عدوي وأنا موقنٌ بأني سأقتله، عندي من الثقة بالله ثم بنفسي ما يجعلني أثق بقتله، وهو لديه ثقةٌ بأني سأقتله، فأكون أنا ونفسه عليه، فكيف ينتصر؟]] الهزيمة النفسية أشد من السرطان على الأمة، والأمة والله قد أصيبت بها، وما دخل علينا الأعداء إلا يوم أصبنا بالهزيمة النفسية، أصبح لدى كثيرٍ من المسلمين قناعة أنه لن يُهزم أعداؤنا أبداً؛ مع أنه -ويا للأسف- من أمة تُنصر بالرعب مسيرة شهر كما أخبر بذلك نبيها محمد صلى الله عليه وسلم، لكن متى تُنصر بالرعب؟ إذا تمسكَتْ بهدي محمد صلى الله عليه وسلم. وسبب تخلفنا سببٌ واحد نشأت عنه أسباب كثيرة لما حل بأمتنا اليوم من تجرع لكئوس الذل والهوان، وعامل نتج عنه عوامل كثيرة ما يبلغ الأعداء من جاهل ما يبلغ الجاهل من نفسه ومن أسباب تخلفنا: إعجابنا بالغرب، واعتباره القدوة الصالحة، إعجاباً يبينه ويظهره البعض ويبيته البعض الآخر ويخفيه، حتى وصل الإعجاب بنا بالغرب أن أصبح الذهاب إلى بلادهم أمنية يتمناها كثيرٌ من شباب المسلمين، أصبحنا نبحث عن العلم في بلاد الغرب، وبعضنا يدرس الشريعة في بلاد الغرب، ولا إله إلا الله! يشعر البعض منا بنقصٍ إذا قال أحمل شهادةً من بلد إسلامي، لكنه يرفع رأسه إذا حمل شهادة من بلاد أوروبا والغرب كله. وصل الهوان بنا أنه لو تبرع لاعب نصراني لأحدنا (بفانيلة) لاعتبرها كنزاً لا يفنى، ووالله إنها لمهزلة ما بعدها مهزلة ومأساة ما بعدها مأساة إن رضينا بذلك، فهي العقوبة لا تبقي ولا تذر. بفحش وقلة حياء يتسابق شبابنا لتوقيع ورقة تذكار من لاعب نصرانيٍ كافر، ويعتبرون هذا التوقيع أجل من مخطوطات المسلمين جميعها، ثم نرجو النجاة أواه! أي فحشٍ مظل وعن فساد القوم نم أي خيبة هبطت لها هذه الأقوام والأمم إعجابنا بالغرب طغى على الأولاد، لو اشتهر منهم رجلٌ برذيلة، يقلَّد عندنا بعد ساعات، يسأل أحد الشباب: ما مثلك الأعلى؟ فيقول: مارادونا؛ وهو لاعبٌ كافر، والفتيات من مثلهن الأعلى؟ إنها ديانا، لا إله إلا الله حقائق تنطق بإعجابنا بالغرب، وهواننا على الله يا أحفاد محمد بن عبد الله! يا أمة الإسلام! أمتي كم صنم مجدته لم يكن يحمل طهر الصنم لا يلام الذئب في عدوانه إن يك الراعي عدو الغنم

إفساد بعض المسلمين

إفساد بعض المسلمين ومن أسباب تخلفنا وانحطاطنا وتأخرنا وهواننا: الإفساد من البعض في الإصلاح والتطور وعدم الأخذ على أيديهم {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} [البقرة:11 - 12] قدوتهم فرعون يوم يقول: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26] ولا إله إلا الله باسم الإصلاح انتُزعت أهم خصائص مؤسسات الأمة الإسلامية! باسم التطور ضاعت جامعات من أعرق جامعات العالم الإسلامي! باسم التطور تنتهك حرمات الله! باسم التطور يضرب بأوامر الله عرض الحائط! {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [إبراهيم:42]. عباد الله: الأعداء متفرقون متشتتون بطبعهم، ذاك قول الله: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر:14] لكنهم مع تفرقهم يجتمعون علينا ويتفقون جميعاً على ضرب الإسلام، وعلى ما يهيننا ويذلنا، ونحن نختلف في كل شيء إلا في الولاء لهم إلا من عصم الله، هذا يلجأ لذاك، وذاك يلجأ لهذا، وما لجأنا إلى الله، ناسين أو متناسين {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173] فحصل التأخر والتخلف من أمة مسلمة، ووالله لن ترتفع وتعزَّ الأمة إلا بما عزَّ به أسلافها. بعضنا ذهب إلى أوروبا وجاء لينشر ما تعلمه هناك على أنها مُثل لا تقبل النقاش والجدل، فالأمر ما أمروا والعلم ما ذكروا، يقول أحدهم: علينا أن نلحق بـ فرنسا حتى في لباسنا، ومنهم من تولى مناصب قيادية في الأمة المسلمة، فقادوا المسلمين إلى الهاوية، قادوهم إلى التأخر والتقهقر والتدهور باسم التطور، وهم يعيشون بيننا الآن ويتكلمون بلغتنا، أسماؤهم محمد وعبد الله، والله منهم براء {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة:10]. في قومنا من يدعي صدق الهوى ودم الهوى في عرقه يتخثر

ضعف القدوة وخيانة بعض المسلمين

ضعف القدوة وخيانة بعض المسلمين من أسباب تخلف المسلمين: ضعف القدوة لدى طلبة العلم والعلماء والقادة، لم يعد كثيرٌ من هؤلاء أهلاً للاقتداء بهم، ولذلك اقتدى الناس بالمنحرفين، وحمَّلوا الأمة الهوان والذل. يا معشر القراء يا ملح البلد من يُصلح الملح إذا الملح فسد ومن أسباب تخلفنا: خيانة بعض المسلمين لدينهم وأمتهم، أصبحوا عملاء للشرق والغرب، فخانوا الله والرسول وأماناتهم، فحسيبهم الله الذي لا إله إلا هو.

تفرق المسلمين إلى أحزاب وجماعات

تفرق المسلمين إلى أحزاب وجماعات وجماع هذه الأسباب، بل من أعظم هذه الأسباب التي أدت إلى التأخر والتخلف: نشوء العصبيات والقوميات والوطنيات، والإقليميات. تعلمون -أيها الإخوة- أن العرب أمةٌ مشتتةٌ مفرقة حتى جاء الإسلام فجمعها، فهل اجتمعت تحت لواء قريش؟ لا. هل اجتمعت تحت لواء الأوس أو الخزرج؟ لا. إنما جمعتهم ووحَّدتهم لا إله إلا الله، {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} [الأنفال:63] دان الشرق والغرب كله لهذه الكلمة، وأهان ذلك الأعداء، فرأوا أن أحسن طريقٍ لبُعدنا عن ديننا نشوء العصبيات، فأنشئوا القوميات، ثم جاءوا بالوطنيات، ثم جاءوا بالإقليميات حتى أصبح أهل الوطن الواحد يتفرقون إلى شيع وأحزاب، ولا زال ينحدر كثير من الناس في هذا الطريق، ذبحونا بعشق الوطن والكلمات المائعة عن الوطن حتى قال قائلهم: بلادك قدِّمها على كل ملةٍ ومن أجلها أفطر ومن أجلها صُم وقال الآخر: وطني لو شغلت بالخلد عنه لنازعتني إليه في الخلد نفسي لا إله إلا الله ما أحلمك يا رب! ما أكرمك! أيُقدَّم الوطن على الجنة؟! إنها الوطن الذي نسعى إليه، لكنه ليس لها بأهل، ولن يكون الأول والآخر ممن يتكلم بهذا، وطننا وأرضنا وسماؤنا وهواؤنا وتنفسنا هو: لا إله إلا الله، من عمل بمقتضاها فهو أخٌ حميم ولو كان عبداً حبشياً، ومن رفضها فهو عدوٌ لدودٌ ولو كان حراً قرشياً. أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيسٍ أو تميمِ إن يختلف ماء الوصال فماؤنا عذبٌ تحدَّر من غمامٍ واحدِ أو يفترق نسب يؤلف بيننا دين أقمناه مقام الوالد عباد الله: والجبن والخوف والهلع وحب الدنيا وكراهية الموت وترك الجهاد أدت بنا إلى ما نحن فيه من التخلف والانحطاط. هذه -يا عبد الله- بعض أسباب الضعف والانحطاط التي حلت بالمسلمين، وغرزت فيهم الهزيمة التي استطاع الشاعر أن يعبر عنها بقوله: كم صرفتنا يدٌ كنا نصرفها وبات يملكنا شعبٌ ملكناه

آثار تخلف المسلمين

آثار تخلف المسلمين

انحراف في الفكر

انحراف في الفكر عرفنا أسباب التخلف والتأخر، فما الآثار التي نتجت عن هذا التأخر والتخلف؟ لا إله إلا الله ما أعظم الآثار! لكن قلوبنا غلف، نتج عن ذلك انحراف في الفكر، يتمثل في الإلحاد وانتشار المذاهب الهدامة -وما الحداثيون منا ببعيد- وفساد بعض المناهج في البلاد الإسلامية، وخللٌ اجتماعيٌ اعترى الأسر حتى صارت أوضاع الأسر مؤلمة محزنة، ولو ذهبنا لمراكز التربية الاجتماعية أو المحافل لوجدنا ما يدمي القلوب من المشاكل الاجتماعية. المرأة استخدمت سلاحاً فتاكاً للقضاء على القيم والمثل، استغلها أعداؤنا استغلالاً بشعاً، الإسلام صانها وأكرمها، وفي عصرنا لا دين، ولا حمية، ولا غيرة، وجهوا لها السهام، واستغلوها أبشع استغلال؛ أكثر من ستين مجلة على غلاف كل واحدة منها امرأة، هذا ما يرى، وما يمنع دخوله كثير وكثير، استخدمت المرأة للدعاية حتى على الحراثات -استخدمت صورة المرأة مع الحراثة للدعاية- فيا سبحان اللهَ! هل في الحراثة جمال؟ لا. وهل في المرأة قوة؟ لا. إذاً ليس الهدف جمالاً ولا قوةً، ولكنه استغلالٌ بشعٌ للمرأة باسم المدنية لتحقيق مخططاتهم وأغراضهم، ونجحوا في ذلك. أوضاع كثيرٍ من نسائنا مؤلمة، ضعيفات كُذِب عليهن فصدقن وطبقن فكانت الكارثة، وكان الخلل، وهو من آثار التخلف والانحطاط. أين القوامة يا رجال؟! أمانةٌ شرفٌ أليس لكم إباءٌ يذكر وفي المقابل انحراف كثيرٍ من الشباب يوم يذهبون لبلاد العهر والكفر ليقضوا أوقاتهم على كأس وغانية، ويموت بعضهم في أحضان باغية، ماذا دهانا؟! إنه أثرٌ من آثار تخلفنا وانحطاطنا. وقليلٌ -يا عباد الله- في هذا العالم من يعمل بنظام الاقتصاد الإسلامي، ما عرفنا الرأسمالية والشيوعية إلا بعد تدهورنا وتخلفنا، أين تستثمر أموال الأمة المسلمة يا عباد الله؟ إنها تستثمر في بلاد النصارى. إن مشروعاتنا تقوم بها شركات شرقية أو غربية، إن أرصدتها عند أعدائها، لو سحبت أرصدة المسلمين من أوروبا وأمريكا لانهارت بعد ساعات، لأنهم يشتغلون بأموال الأمة، وذلك منشؤه التخلف والتأخر ولا تيئسوا. ستظل طائفةٌ على إيمانها منصورة تبني الكيان الأكبرا يا أمة الإسلام وجهك لم يزل بالرغم من هول الشدائد مسفرا

ذلة المسلمين في كل مكان

ذلة المسلمين في كل مكان من آثار تخلفنا: أن المسلم لم يصبح كما كان، كان مهاباً عزيزاً كريماً، وأصبح ذليلاً مهاناً، يُتَنَدَّر عليه ويُسْخَر منه، بل أصبح رمز السخرية والضعف والهزيمة، يقول ولا يفعل، بل يفعل عكس ما يقول. قومٌ يثيرون الكلام قنابلاً فليشتك مما نقول المنبر نزع الله المهابة من قلوب أعدائنا لنا، لأننا لم نخف الله ولم نطعه، ولم نحفظه، فتحولنا من سادة وقادة إلى ما يسمى بالعالم الثالث والعالم النامي، وسمانا بذلك من؟ أعداؤنا، ونرددها ببلاهةٍ وهوانٍ وضعف، هانوا على الله فأذلهم، ولو عزوا عليه لعصمهم وأعزهم. يئس الناس وقنطوا، وتبلدت أحاسيسهم بمشكلات الأمة، وانشغل كل فرد بمستقبله عن مستقبل أمته، همُّ الواحد أن يملك بيتاً وزوجةً ومالاً ورغيفاً، ولا إله إلا الله ما أرخصها من أمنية! أين أمنية التحرير لبلاد المسلمين؟ أين أمنية للمخرج مما نحن فيه؟ أين أمنية لرفع راية الجهاد وإعلاء كلمة الله؟ عباد الله: هذه بعض أسباب وآثار تخلف المسلمين وتقدم غيرهم، فعودة عودة إلى الله أيها المسلمون! إن كلامنا هذا منطلق مما نراه ونشاهده من إعراضٍ وتيهٍ رغم كل الأحداث، ورغم إحاطة البلاء بالأمة، ورغم حاجتنا الملحة إلى الله، فعودةً وتوبةً وأوبةً إلى الله، صحوةً منظَّمةً، فضحاً فضحاً لأعداء الأمة، وإبطالاً إبطالاً لكيدهم، ونصراً لله تنصروا. يا أمتي أصبحتِ في دائرة مستحكمة ما بين إلحادٍ له أطماعه المقتسمة وبين بعثٍ ظالمٍ يحني ظهور الظلمة يا أمتي لا تخدعي بالشفة المبتسمة أخشى على أمتنا من فتنة محتدمة أقسمت بالله الذي أسدى علينا نعمه لن يدفع الشر الذي صب علينا حممه إلا يقينٌ صادقٌ إخلاصنا فيه سمة نطلب فيه النصر من ذي القوة المنتقمة. اللهم ارفع ما بالمسلمين من بلاءٍ وخورٍ وتأخر، اللهم ارفع ما بهم من ضعفٍ وهوان، اللهم أعد للإسلام والمسلمين عزهم وقوتهم ومجدهم إنك على كل شيءٍ قدير، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

حلول مشكلة تخلف المسلمين

حلول مشكلة تخلف المسلمين الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: عباد الله: تتوالى على المسلمين النكبات والهزائم، وستظل تتوالى ما بقي المسلمون على حالهم من حربهم لله ولرسول الله وتركهم الجهاد في سبيل الله {ما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا} وما انتصر المسلمون الأوائل بالعدد ولا بالعدة، ولكن انتصروا بالله، فلنراجع صلتنا بالله ونحن نعيش في هذا الزمن العصيب الدقيق، الذي فيه: دم المصلين في المحراب ينهمر والمستغيثون لا رجعٌ ولا أثرُ والقدس في قيدها حسناء قد سلبت عيونها في عذاب الصمت تنتظرُ سل الملايين من أبناء أمتنا كم ذُبحوا وبأيدي خائنٍ نُشروا سلوا بلاداً من الأفغان ما برحت دماؤنا في ثراها بعدُ تستعرُ وسائل الليل والأفلاك ما فعلت جحافل الحق لما جاءها الخبرُ هل جُهزت لحياض الدين أبنيةٌ هل في العراق ونجدٍ جلجل الغُيُرُ هل قام مليون مهديٍ لنصرتها؟ هل قامت الناس؟ هل أودى بها الضجرُ هل أجهشت في بيوت الله عاكفةً كل القبائل والأحياء والأسرُ آمالنا من صلاح الدين يعتقنا وقد تكالب في استعدادنا الغجرُ يا أمة الحق إنا رغم محنتنا إيماننا ثابتٌ بالله نصطبرُ غداً بين يدي الجبار سيسألكم الله حكاماً وشعوباً ماذا عملتم تجاه دينكم؟ ما دوركم في عز هذا الدين بعد أن تخلف المسلمون وانحطوا اليوم عن دينهم وبعدوا؟ إن الدور عظيم، والمواقف المنتظرة منكم هي المواقف المنتظرة من رجال الأمن. ما العلاج لما نحن فيه؟

العودة الصادقة إلى الإسلام

العودة الصادقة إلى الإسلام إن العلاج لتخلفنا نحن المسلمين يتمثل في عودةٍ صادقةٍ إلى الإسلام، وتحكيمٍ لشرع الله، فوالله لا حياة، ولا عز، ولا فخر إلا بالعودة إلى الله وتحكيم شرع الله في أرض الله، ومتى ما تخلينا عن ذلك تخلى الله عنا: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38].

التربية الجهادية

التربية الجهادية وعليكم بالتربية الجهادية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن لنتساءل: هل ربينا أبناءنا على حب الجهاد؟ هل ربيناهم على الاستعداد للموت في سبيل الله؟ لا والله، تركنا الجهاد، وأخذنا وراء الدنيا نلهث ونركض، فحل بنا ما حل من تأخر وتخلف وفساد: [[لن يُصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها]] وبمَ صَلُح أولها؟ بالجهاد في سبيل الله. أعداؤنا يحيكون المؤامرات، ونخشى أن يقضوا علينا بين عشيةٍ وضحاها، أحاطوا بنا إحاطة السوار بالمعصم، فأين المهرب؟ أين المفر يا عباد الله؟ ففروا إلى الله، وعودوا إلى الله، وربوا الشباب على الرجولة، شبابنا في غالبهم مائعٌ ضائع لا يتحمل لسعة الهواء، ولا ضربة الشمس، هل هؤلاء على استعداد ليواجهوا عدوهم؟ في ملعب من الملاعب يجتمع أكثر من ثلاثين ألف متفرج لمشاهدة مباراة، ويتساءل المسلم لو نادى منادي الجهاد: حي على الجهاد! كم سينطلق من هؤلاء الذين ناداهم منادي إبليس فأجابوه. والله لئن بقي شبابنا على أساليب تربيتهم الآن، فهي الكارثة، فلا تلوموا إلا أنفسكم: [[نحن قومٌ أعزنا الله بالإسلام، ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله]].

وقاية المجتمع بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

وقاية المجتمع بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتجتمع كلمة المسلمين، وليلتف الشباب حول العلماء وطلبة العلم، ولتُصْلَح المناهج والوسائل، ولننصح ولنأمر ولننه لا نخشى إلا الله، أطالبكم: من رأى منكراً في صحيفة، أو جهاز، فليكتب إلى المسئولين، لا نستكين ولا نلين، فكلٌ منا على ثغرة، فالله الله أن يؤتى الإسلام من قبلك يا عبد الله! ثم لنهتم بالأسرة: {فكلكم راعٍ وكلكم مسئولٌ عن رعيته {وما من راعٍ استرعاه الله رعية، فبات غاشاً لهم إلا حرم الله عليه رائحة الجنة} القائد مسئول، والأب مسئول، والكل مسئول، والأم مسئولة، والأم مسئوليتها تعظم وتعظم هذه الأيام، نريد أماً صادقة تضحي في سبيل دينها بكل شيء، لا في سبيل ما يريد أعداؤها منها من غزوٍ في أزيائها، وخروجٍ بها إلى الشوارع سافرة، وتضييعٍ لبناتها مع السائقين والخدم. والأم مدرسةٌ إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراقِ والأم مدرسةٌ إذا أفسدتها أفسدت شعباً طيب الأعراقِ نريد أماً قدوتها عائشة وحفصة وخديجة وزينب، ونعم القدوة هن، انتبهوا لنسائكم يا عباد الله! أصابهن الداء، والبعض منا لا يدري. فإن كنت لا تدري فتلك مصيبةٌ وإن كنت تدري فالمصيبة أعظمُ تخلينا عن قيادتنا في بيوتنا، تركناها لآلات اللهو والخدم، وأصبح الأب يمارس بطل مسرحية الضياع في بيته، النار فيه تلتهب وهو جالس لا يحس أين العقول؟ أما لديكم حكمةٌ؟ أين القلوب، أما تحس وتشعرُ؟ لابد من وقاية المجتمع، لابد من تطهيره إن أردنا العزة والمنعة والمجد، والإسلام عزيزٌ بدونكم، محفوظٌ بدونكم، واعلموا أنه باقٍ ما بقي الليل والنهار ومهما تطاولت الأيدي، ومهما كثر الأذناب والخونة والمجرمون والمنافقون الذين يملأ الجبن قلوبهم، لا يقاتلون مبارزة، بل يطعنون من الخلف، ويتقنعون بالإسلام والإسلام منهم براء، نحن نقول هذا: والله لا نخاف على الإسلام بقدر خوفنا عليكم -أيها المسلمون- أن يتزعزع إيمانكم ويصل اليأس إليكم فتتزلزل قلوبكم، أو يصيب الوهن عزائمكم، لأنكم ترون الخذلان يجتمع عليكم من كل صوب، وترون شراسة العدو وخيانة الصديق، لكن اعلموا أن الكفر كله تجمع يوم الأحزاب يريد القضاء على دين الله، فخاب وخسر {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} [الأحزاب:10 - 11] وما ظن المؤمنون بالله إلا خيراً {وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ} [الأحزاب:22] ماذا قالوا؟ {قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [الأحزاب:22]. الله أكبر! انظر أخي المسلم وأنت تعيش الفتنة كيف إيمان هؤلاء؟ وكيف تعلقهم بالله؟ كيف كانت عاقبتهم يوم تجمع الأحزاب عليهم؟ {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} [الأحزاب:25] والذين ظاهروهم ماذا عمل فيهم؟ {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً * {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَأُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} [الأحزاب:26 - 27]. يا عباد الله: ألا لا يداخلنكم ريبٌ في ذلك ولا شك، فما ترونه اليوم من علو للباطل، فإنما هو سرابٌ خادع وابتلاءٌ من الله، والله أغير منا على دينه وهو حكيمٌ عليم غير غافلٍ عما يعمل الظالمون، لكن كل ذلك ليميز الخبيث من الطيب، وليبتلي ما في صدوركم، وليمحص ما في قلوبكم، ويمحق الكافرين، فالكفر ذليل مهما حاول كسب العزة: {فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} [النساء:139]. نحن والله لا نقول هذا الكلام تيئيساً، فإننا والله نعلم أن العاقبة للمتقين، لكن حزننا اليوم على أنفسنا أن لم نكن أهلاً لحمل راية الله، ولا لحمل صفات المتقين. حزننا على غفلتنا عن عقيدتنا وعن إخوةٍ لنا في كل مكان لا نسمع أنينهم ولا نواسيهم، حزننا وخشيتنا أن يستبدل الله قوماً غيرنا ثم لا يكونوا أمثالنا، حزننا أننا على اللهو عاكفون والسُّخف، وأعداؤنا يخططون ويدبرون ويمكرون، والله خير الماكرين. أنا أقسمت بالذي برأ الكون من عدم وكسا ثوب عزةٍ كل من بالهدى اعتصم ورمى مدمن الضلال بسوطٍ من النقم إن قنعنا بسُخطنا وركنا إلى النعم فخطا الخصم ماضيات من القدس للحرم عندها يندم الجميع ولا ينفع الندم اللهم ارفع ما حل بالأمة المسلمة، اللهم ارفع ما حل بالأمة المسلمة، اللهم ارفع ما حل بها من انحطاط وذل وهوان، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم وأهلك الطغاة والمجرمين والمنافقين، وأرنا فيهم يوماً أسوداً كيوم فرعون وهامان وقارون، نجعلك اللهم في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم، اللهم من أرادنا وأراد الإسلام بسوءٍ، فأشغله بنفسه، واجعل تدبيره تدميره يا أكرم الأكرمين، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في عهد من خافك واتقاك واتبع رضاك برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منا وما بطن، ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، ربنا وارحمنا برحمتك التي وسعت كل شيءٍ يا أرحم الراحمين. اذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.

اجتهاد السلف في العبادة

اجتهاد السلف في العبادة لقد بلغ السلف الصالح في عبادتهم الثريا، وعلى رأسهم خاتم المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم. وفي هذا الدرس تكلم الشيخ عن عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن اجتهاد الصحابة من بعده في العبادة، ثم ذكر العديد من قصص التابعين وغيرهم ممن لنا بهم الأسوة والقدوة.

عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم

عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فإن العنوان كما استمعتم: (اجتهاد السلف في العبادة) ومن هم السلف؟ كل من سبقنا بخير فهو سلفنا -إن شاء الله تعالى- ونتكلم عن اجتهادهم في العبادة؛ لنعرف تقصيرنا، وكل واحد منا عندما يسمع هذه الكلمات يعرف كم هو مقصر، وكم هو كسولٌ في طاعة الله، وما الذي ينبغي علينا أن نصل إليه؟ ثم بعده نرجو رحمة الله عز وجل. اسمع إليهم -يا عبد الله- وإياك إياك أن تيأس من روح الله، فإنه من اجتهد يسر الله له السبيل: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69]. ثانياً: اعلم أن كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون، واعلم أن باب الرحمة مفتوح، وباب التوبة مفتوح حتى تطلع الشمس من مغربها، واعلم يا عبد الله! أن رحمة الله وسعت كل شيء، وهو أشد رحمة من الأم بولدها لعباده، اسمع يا عبد الله وتدبر!

تعبده في الليل

تعبده في الليل إذا ذكرنا السلف كان في مقدمتهم خير الخلق محمد عليه الصلاة والسلام، اسمع إليه -يا عبد الله- كيف كان يتعبد ربه جل وعلا وهو الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟! يقول حذيفة: (في ليلة من الليالي صليت وراءه فاستفتح سورة البقرة، يقول: فقلت سوف يركع عند المائة فأكمل، قلت: عند المائة الثانية فأكمل، حتى ختم سور البقرة بركعة، يقول: ثم ركع فكان ركوعه نحواً من قيامه، ثم رفع رأسه نحواً من ركوعه -وفي رواية-: أنه قرأ البقرة والنساء وآل عمران والمائدة والأنعام في أربع ركعات) إنه النبي صلى الله عليه وسلم. يدخل عليه بلال في ليلة من الليالي وقد قام حتى تفطرت قدماه، فقال: (يا رسول الله! تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلا أكون عبداً شكوراً، لقد أنزلت عليَّ الليلة آيات، ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكر فيها: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190 - 191]). يقول علي بن أبي طالب: [ما منا فارسٌ يوم بدر غير المقداد -يتحدث عن معركة بدر - ثم يقول: ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم -أي: كلنا نمنا من شدة المعركة- يقول: غير رسول الله عليه الصلاة والسلام فإنه كان تحت شجرة يصلي ويبكي حتى الصباح]. نام الصحابة كلهم إلا هو، قائمٌ تحت شجرة يقرأ القرآن ويصلي حتى أصبح الصباح، أرأيت؟ نعم غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؛ ولكن إنه العبد {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى} [الإسراء:1] هل قال: برسوله؟ هل قال: بنبيه؟ لا. بل قال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} [الإسراء:1] هذا مقام تشريف، كيف شرف الله نبيه بهذا الاسم، بأنه عبد لله عز وجل وقد أمر الله بالعبودية فقال: {وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس:61]. يقول ابن مسعود: (بأبي أنت وأمي يا رسول الله! قمت الليل بآية واحدة إلى الصباح تبكي وترددها، لو فعلها واحدٌ منا لوجدنا عليه -أي: حزنا عليه، ليلة كلها تقوم بهذه الآية؟: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118] يرددها طوال الليل، حتى سجد وبكى وقال: اللهم أمتي أمتي، اللهم أمتي أمتي، فأوحى الله إلى جبريل: يا جبريل! أخبر محمداً أنا سنرضيك في أمتك) يبكي الليل كله ويقومه بآية إنها العبودية. إنه مقام عظيم لا يصله أي إنسان تتشقق الرجل وهو لا يشعر بها إنها حالٌ ترقى بالإنسان إلى درجة أنه يتلذذ بالعبادة ولا يشعر بالألم، لو تفطرت القدمان لا يشعر بهما؛ لأن قلبه متصلٌ بالخالق، إن الجسد على الأرض وإن الروح في السماء، يطير في الملكوت الأعلى، قلبه تحت العرش، كيف يتألم من هذا حاله؟! اسمع يا عبد الله! إلى من تحته ومن بعده.

عبادة الصحابة رضوان الله عليهم

عبادة الصحابة رضوان الله عليهم

عمر وعبادته لله

عمر وعبادته لله يقول الفاروق عمر رضي الله عنه: [لولا ثلاث ما أحببت البقاء في الدنيا -ما هي الثلاث؟ دينار؟ درهم؟ قصور؟ أكل وشرب؟ لا يا عبد الله، يقول: لولا أن أحمل على الجهاد في سبيل الله] الأولى: الجهاد، يقول: هذا الذي يبقيني في الدنيا الجهاد في سبيل الله، أصوات الخيل، ونحن نقول الآن: سل المجاهد ما هي أحلى أيام حياتك؟ يقول: والله لو فكرت في الدنيا وتصفحت أيامها فإن أحلى أيامها تلك الليلة التي كنا نسمع فيها أصوات المدافع، وإطلاق الصواريخ، وعلى رءوسنا الطائرات، يقول: تلك كانت أحلى الليالي في الحياة، فهذا عمر كان يعيش في هذه الروح. والثانية: [مكابدة الليل] الليل مجاهدة، يا عبد الله! إن من الناس اليوم أول ما يأتيه الليل ينام وهو لا يشعر، أمام التلفاز، أو يجالس فلانة، أو في المباريات، أو عند الأفلام، أو يستمع للأغاني، من منا في الليل يجاهد نفسه ويتعب نفسه في قيام الليل؟! والثالثة: [مجالسة أقوام ينتقون أطايب الكلام كما ينتقى أطايب الثمر]. يقول هشام بن حسن: كان عمر يمر بالآية في ورده فتخنقه العبرة، يقرأ القرآن فيبكي حتى يختنق من شدة البكاء، فيسقط على الأرض، ثم يلزم بيته حتى يعاد يحسبونه مريضاً، هل به مرض؟ لا. إنه القرآن إنها العبادة إنه الخوف من الله جل وعلا. صلى يوماً بالناس فقرأ سورة يوسف فوصل إلى قول الله جل وعلا: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف:86] فتوقف، وأخذ يبكي، حتى سُمع نشيجه من وراء الصفوف، ولم يستطع أن يتم الصلاة، عمر يبكي من هذه الآية؟! عمر في يوم من الأيام وأد بنته وكان يسجد للصنم، أما اليوم فإنه يبكي من هذه الآية، ما السبب؟ إنها العبودية لله جل وعلا، إنه حب الله سبحانه وتعالى، إنه الخوف من عذابه تبارك وتعالى.

وقفة مع عثمان وعبادته

وقفة مع عثمان وعبادته عثمان؛ إنه الخليفة الثالث الراشد رضي الله عنه، كان يقوم الليل كله فيختم القرآن. إياك أن تقول: خلاف السنة، ثم إن كان خلاف السنة، فأين نحن من السنة؟ أين نحن من قيام الليل؟ أين نحن من قراءة القرآن؟ أين نحن من الخشوع؟ أسألك بالله: متى قمت الليل؟ بعضكم يجيب يقول: من رمضان إلى اليوم، واقترب رمضان الآخر. كم مرة قمت الليل؟ هل تصلي الوتر؟ كم مرة من المرات قمت آخر الليل ورفعت يديك لله عز وجل؟ كان عثمان من شدة اللذة ينسى نفسه يختم القرآن في ليلة واحدة، إنه عثمان الذي قال ابن عباس في قوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ} [الزمر:9] ذاك عثمان، قانت ماذا يفعل؟ سهران على التلفاز قانت في المجالس يشرب الشاي والقهوة؟ {قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9].

ثبات عباد بن بشر في صلاته

ثبات عباد بن بشر في صلاته اسمع يا عبد الله إلى عباد بن بشر! انظر إلى باقي الأصحاب، وبقية السلف! هذا عباد بن بشر رضي الله عنه أحد الصحابة، يقوم حارساً للنبي صلى الله عليه وسلم هو وعمار على ثغر المسلمين، فيأتيه أحد المشركين في الليل وهو يصلي، فيراه أحد المشركين فيرميه بسهم وهو يصلي، فنزع السهم ورماه وأكمل صلاته، فرماه السهم الآخر، فنزع السهم ثم أكمل صلاته، ورماه بالسهم الثالث، فأتم صلاته وخففها، فانتبه عمار فقال له: ويحك لِمَ لَمْ توقظني؟ قال: والله لقد كنت أقرأ سورة وخشيت أن أقطعها، والذي نفسي بيده لولا أني كنت على ثغرٍ أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظه لكان خروج نفسي أحب إليَّ من أن أقطع هذه السورة: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] بعض الناس يطمئن قلبه بسماع أغنية فلان أو فلانة، أو بمجلس طرب، أو أمام التلفاز، أو في ملاعب الكرة، يقول: هنا يطمئن قلبي! بئس القلب الذي مات وقسا، وران عليه ما ران، أما قلوب المؤمنين إذا سمعت ذكر الله اطمأنت واستبشرت، وانشرح الصدر بذكر الله جل وعلا: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].

عبادة عبد الله بن عمر بن الخطاب

عبادة عبد الله بن عمر بن الخطاب ابن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعن أبيه كان إذا قام الليل صلى -كل يصلي الليل إلا قليلاً منه ينامه- كان يقوم الليل ثم يسأل نافع بعد الركعتين، فيقول له: يا نافع! -مولاه- أسحرنا؟ فيقول: لا بعد، فيصلي، وبعد الركعتين يسأله: يا نافع! أسحرنا؟ فيصلي وهكذا حتى الفجر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم في يوم من الأيام قال له: (نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم الليل). جرب قيام الليل يا عبد الله! أنصحك نصيحة هذه الليلة اعزم القيام وإياك أن تبدأ بقوة وحماس فتصلي نصف الليل ثم في اليوم الثاني لا تصلي شيئاً، ابدأ قليلاً قليلاً وعود النفس ابدأ هذه الليلة بثلاث ركعات ربع ساعة نصف ساعة، ابدأ شيئاً قليلاً، وفي اليوم الثاني زد، وفي الثالث زد، وعوِّد النفس حتى تقوم ثلث الليل، وخير القيام قيام داود.

التابعون وعبادتهم

التابعون وعبادتهم

عبادة علي بن الفضيل بن عياض

عبادة علي بن الفضيل بن عياض اسمع يا عبد الله إلى الفضيل بن عياض! وأنا أظن أن أكثركم قد سمع بـ الفضيل بن عياض الذي يسمى بعابد الحرمين، هذا الرجل من عبادته أنه كان إذا ذكر عنده الله أو سمع القرآن ظهر عليه من الحزن والخوف ويبكي حتى يرحمه من بحضرته، له ولد اسمه علي كان إذا صلى علي خلفه س وهو إمام في الصلاة، كان لا يرتل القرآن، لأنه يخاف على ابنه، لأن ابنه لا يتحمل القرآن، فكان إذا رأى ابنه خلفه قرأ القرآن قراءة عادية، وفي يومٍ من الأيام دخل ابنه في الصلاة، ولم يكن الفضيل يعلم أن ولده خلفه، فرتل الآيات، ووصل إلى قول الله جل وعلا: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47] سمع ابنه يبكي، فخفف الصلاة، وبعد الصلاة وجد ابنه على الأرض، فحملوه ولكن فاضت الروح إلى بارئها: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47]. نعم! إنهم صالحون يخافون من ذلك اليوم يخاف أن يبدو له شيء آخر، أين أولئك الغافلون؟ أين الذين لا يصلون الفجر حتى تطلع الشمس؟ أين الذين قطعوا الأرحام؟ أين الذين نظروا للنساء وتمتعوا بالنظر إليهن؟ أين سماع الأغاني والطرب؟ أين هم؟ إن الصالحين يخافون إذا لقوا الله جل وعلا: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47].

عبادة سفيان الثوري

عبادة سفيان الثوري سفيان الثوري رحمه الله يقول عنه عطاء: ما لقيته إلا باكياً، فقلت له: لماذا تكثر من البكاء؟ -واسمع للإجابة ثم ضعها في قلبك وتفكر فيها، واجلس دقائق معدودة فكر في هذه الكلمات- قال سفيان الثوري: أخاف أن أكون في أم الكتاب شقياً، أخاف أن الله كتب أنني في النار، أخاف أن الله في اللوح المحفوظ حكم علي أنني من أهل جهنم: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60]. أكثر أحيانه يرى كأنه في سفينة يخشى الغرق، دائماً يقول: اللهم سلم سلم، اللهم سلم سلم، تجده باكياً، ويدعو بهذا الدعاء. يقول ثابت البناني رحمه الله: كنا نتبع جنازة فلا نرى سفيان -أي: الثوري - إلا متقنعاً باكياً متفكراً، يقول: هذه حاله، كلما رأيناه يبكي، نراه يخفي وجهه في الجنازة، ويجلس على زاوية ثم يأخذ يبكي، يتفكر في أحوال الموتى، اسمع إلى قول الشاعر ماذا يقول، وتفكر يا عبد الله: يا غافلاً عن منايا ساقها القدرُ ما الذي بعد شيب الرأس تنتظرُ عاين بقلبك إن العين غافلةٌ عن الحقيقة واعلم أنها سقرُ سوداء تزفر من غيضٍ إذا سعرت للظالمين فما تبقي ولا تذرُ لو لم يكن لك غير الموت موعظة لكان فيه عن اللذات مزدجرُ

عبادة ثابت البناني

عبادة ثابت البناني ثابت البناني: يقول عنه جعفر: بكى ثابت حتى كادت عينه أن تذهب -أي: يعمى- فجاءوا بالطبيب قالوا: أدرك هذا الرجل سوف يصاب بالعمى، سوف تذهب عيناه، فقال له الطبيب: أعالجه على أن يطيعني قال: وما هو؟ قال: إذا أردت بقاء عينيك فلا تبكِ، فقال ثابت رحمه الله: وما خيرهما إن لم تبكيا؟ إذا كانت العين لا تبكي من خشية الله فما فائدتها؟ عينٌ لا تبكي من خشية الله لا خير فيها عينٌ لا تتأثر لما تسمع من آيات النار وآيات جهنم وأهوال القيامة ولا تدمع فلا خير فيها، يقول الله عن الصالحين: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} [الإسراء:109].

عبادة زياد بن جرير

عبادة زياد بن جرير يقول حفص بن حميد: واسمع إليهم يا عبد الله ثم حاسب نفسك، وانظر إلى حالك وحالهم- قال لي زياد بن جرير: اقرأ، قال: فأخذت أقرأ القرآن حتى وصلت إلى قول الله جل وعلا: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} [الشرح:1 - 3] قال: فإذا به يبكي كما يبكي الصبي، فقلت: مالك؟ قال: فعل هذا برسول الله: {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} [الشرح:2 - 3] يقول: كيف بنا نحن؟! وزر رسول الله الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر عليه الصلاة والسلام أنقض ظهره، ماذا نعمل نحن يا عباد الله؟!

عبادة الفضيل بن عياض

عبادة الفضيل بن عياض وهذا الفضيل بن عياض، يقول عنه إسحاق بن إبراهيم: كانت صلاته بالليل أكثر ذلك قاعداً لا يتحمل القيام، كان يقعد في الليل فيصلي، تُلقى له حصيرة في المسجد -الآن تخيل حال هذا الرجل- فيصلي من أول الليل ساعة، حتى تغلبه عينه فيلقي نفسه على الحصيرة في المسجد، فينام قليلاً ثم يقوم: فإذا غلبه النوم نام، ثم يقوم فيصلي ثم ينام، ثم يقوم فيصلي، حتى يطلع الفجر، ثم يقول لمن حوله: أشد العبادة ما يكون هكذا: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات:17]. تأتي بنت فتقول لأبيها: يا أبت! الناس ينامون وأنت لا تنام؟! لم لا تنام يا أبي فكل الناس ينامون في الليل إلا أنت؟ فيقول: يا بنية! حر النار أذهب عن أبيك حب النوم: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18]. يقول محمد بن واسع: [أدركت رجالاً -لعلهم تابعين أو صحابة- كان الرجل له وسادة واحدة مع امرأته: قد بل ما تحت خده من دموعه وزوجته لا تشعر به] يبكي على وسادة واحدة في الليل وزوجته لا تعرف ذلك، لا يأتيه النوم من البكاء، أتعرف لمَ؟ إن الجواب في قوله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة:16] النوم لا يأتيهم. قال بعضهم: عجباً لمن كانت النار تسعر تحته، والجنة تزين فوقه كيف ينام؟! ما رأيت مثل الجنة نام طالبها، وما رأيت مثل النار نام هاربها، كيف ينام هذا الرجل؟! النار يا عبد الله! تحتك تتسعر، والجنة تزين وقد أزلفت للمتقين، والحور العين تنتظرك! فكيف تنام الليل كله؟!: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة:16].

عبادة داود الطائي

عبادة داود الطائي تقول أم سعيد ابنة علقمة: كان بيننا وبين داود الطائي جدار قصير، وكنت أسمع حنينه عامة الليل. تقول: أسمع بكاءه في الليل. ماذا تسمع الآن في بيوت المسلمين؟ مر بالقرب منها فماذا تسمع فيها؟ الأغاني، والطرب، والتلفاز، والبث المباشر. عباد الله! ما الذي تغير؟ إن حب الله تغير وقل في القلوب إلا من رحم الله محبة الله قلت في قلوب الناس، ذكر الله أصبح في الألسنة قليل حتى أن بعضهم يقوم للصلاة وهو كسلان: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:142] وكأنه إذا دخل بيت الله دخل في سجن! وكأنه إذا قرأ القرآن يمل حتى ينتهي من المصحف، وإن كان عليه ورد قال: متى أنتهي من هذا الورد؟ سبحان الله! أصبحت عبادة الله سجن لبعض الناس. قبل قليل ولا أكتمكم خبراً جئت من الطائرة إلى هذا المكان فرأيت أمراً عجباً، ركبت في الطائرة وفيها بعض المسلمين وأكثرهم لعلهم نصارى من أشكالهم وهيئاتهم، وأول ما ركبنا الطائرة وطارت كان هناك معنا بعض الخليجيين، والله الذي لا إله غيره فزعوا من مقاعدهم ورجعوا إلى الخلف -انظر ما الذي جرى- كل منهم يأتي بكأسٍ من خمر ليشربها، لم يصدق أن الطائرة تطير، كأنه في قيد محبوس، يتمنى أن يتخلص من هذا القيد ليشرب كأساً مسكين لا يعلم أن هذا هو الحبس الحقيقي هذا هو السجن الأسر أسر الشهوة، العبودية إما لله وإما للشيطان، والشهوة إما في حلال أو في حرام، أنت عبدٌ، إما أن يأسرك هواك، وإما أن تعبد الله جلَّ وعلا وهذه هي الحرية الحقيقية! أنك لا تعبد إلا الله، ولا تقدم قولاً على غير الله، ولا تتلذذ إلا بطاعة الله جلَّ وعلا.

عبادة عامر بن عبد الله بن الزبير

عبادة عامر بن عبد الله بن الزبير عامر بن عبد الله بن الزبير بن العوام يروى عنه أنه في حالة الاحتضار قبل الموت سمع الأذان لصلاة المغرب، فقال لأولاده: احملوني، قالوا: يا أبتِ! أنت معذور وتحتضر فاجلس وصلِّ في البيت، قال: لا إله إلا الله! أسمع الأذان ولا أجيب، احملوني إلى الصلاة، فحملوه إلى المسجد وهو في صلاة المغرب، وفي السجدة الأخيرة سلم الروح إلى خالقها. انظر للعبادة! انظر للذة! انظر كيف أكرمه الله جلَّ وعلا!

عودة إلى عبادة ثابت البناني

عودة إلى عبادة ثابت البناني انظر إلى جعفر بن سليمان يروي عن ثابت البناني الذي كادت عيناه أن تذهبا، اسمع إليه حين قرأ قول الله جلَّ وعلا: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ * الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ * كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ} [الهمزة:1 - 7] يقول: تأكله إلى فؤاده وهو حينئذٍ، هكذا يبلغ بهم العذاب ثم انفجر بالبكاء، وأبكى الذين حوله جميعاً، أخذ يتفكر بأنه لا يموت يصل النار إلى القلب، تأكل النار قلبه وهو حي يشعر بالنار ولا يموت: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56]. ما طريق هذه النار يا عبد الله؟! بداية هذه النار: الشهوات نظر إلى امرأة استماع للأغاني نوم عن الصلاة أكل الربا ظلم الناس الغيبة والنميمة الاستهزاء على خلق الله جل وعلا أكل الحرام استماع الحرام، هذه هي بداية النار، هذه أبوابها. لا تقل: أنا -الحمد لله- أقول: لا إله إلا الله، اعلم أن ممن يقول: لا إله إلا الله تصيبه النار، ومنهم من يمكث في النار سنين طويلة، ينسى ثم يخرج من النار كل موحد. يا عبد الله! الأمر ليس بهين، يؤتى في النار إلى الرأس والأقدام ثم تلصقان فينكسر ظهره: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ} [الرحمن:41] يؤخذ برأسه وقدمه فيكسر ظهره ثم يرمى في النار، هل تخيلت هذا يا عبد الله؟! يأكل طعاماً فيغص به فلا يستطيع بلعه ولا إخراجه يأكل الشوك من شدة الجوع! يقول بعض السلف: إن الجوع في النار مثل عذاب النار، إذا سال فروج الزواني تسابق أهل النار ليأكلوها من شدة الجوع: {يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم:17]. عبد الله! هذه هي النار، يجوع أهل النار فيأكلون طعاماً ذا غصة لا يستطيع أن يخرجه ولا يبتلعه، فيستغيث بالماء فيأتيه ماء، قال تعالى عنهم: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً} [الكهف:29] يؤتى بماء كالمهل فعندما يقرب رأسه ليشرب تسقط فروة رأسه قبل أن يشرب، فإن شرب تقطعت الأمعاء، وخرج الماء من دبره: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً} [الكهف:29]. ثم تأتي فتسألني: لمَ كل هذا القيام؟ ولم هذا الصيام؟ ولمَ كثرة قراءة القرآن؟ ولمَ كانوا يبكون؟ لعلك عرفت لمَ كل ذلك، إذا عرفت فانتبه، واستقم على طاعة الله.

خوف السلف من الله

خوف السلف من الله قال يوسف: قال لي سفيان: ناولني المطهرة -إناء فيه ماء- يقول: ونحن نتوضأ في المسجد فناولته في المسجد، فوضع يده اليمنى على خده الأيمن، ووضع يساره على خده الأيسر -تخيل منظره الآن- يقول: ثم نمت، بعد أن رأيته على هذه الحال قال: فاستيقظت وقد طلع الفجر، فقلت له: يرحمك الله! منذ أن تركتك وأنت على هذه الحال؟ قال: نعم. تعرف لمَ؟ يقول: ما زلت أتفكر في أمر الآخرة: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور:37]. من يجلس في المسجد؟ كل الناس يخرجون من يجلس بعد العصر إلى المغرب؟ بل من يجلس بعد الفجر إلى طلوع الشمس؟ كل الناس يخرجون يهربون من بيوت الله لمَ؟ بيعٌ وشراء إلا من رحم الله: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور:37] تعرف لمَ هذا المكث في بيوت الله: {يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور:37] ماكث على هذه الحال من أول الليل إلى طلوع الفجر يقول: أتفكر في أمر الآخرة: {يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور:37]. يروى عن عبد الله بن المبارك أنه كان إذا صلى العصر، أتى إلى مسجد في المدينة يذكر الله حتى غروب الشمس، هذه حالهم كل يوم، بعد العصر لا يكلم أحداً ولا يكلمه أحد: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق:39]. هل سمعت برجل اسمه مسروق؟ هذا الرجل أحد العلماء العباد الزهاد، تقول زوجته: إنها تجلس خلفه، وما كان يصبح -أي: لا يطلع الفجر- إلا وساقاه منتفختان أمن اللعب؟ أم من المباريات؟ أم لكثرة النوم؟ لا. تقول: وساقاه منتفختان من القيام، فإذا أذن الفجر تجلس خلفه تبكي على حاله، فإذا طلع الفجر يزحف كما يزحف البعير من شدة قيام الليل. ثابت البناني يقول عن نفسه: أنه كان إذا أذن الفجر عصر رجليه حتى يستطيع أن يمشي عليهما. من قدوتهم؟ إنه المصطفى عليه الصلاة والسلام إنه الذي كان إذا قام الليل تفطَّرت قدماه.

قصة استجابة الله لدعاء إسكافي

قصة استجابة الله لدعاء إسكافي محمد بن المنكدر له قصة عجيبة غريبة، يقول: في يومٍ من الأيام قحط أهل المدينة، فخرجوا يستسقون فما سقوا -أي: ما نزل المطر- كل أهل المدينة، ومن أهل المدينة؟ إنهم الصالحون العباد، يقول: وكنت في تلك الليلة في المسجد وكان المسجد مظلماً، وقد اتكأت على سارية فدخل رجل لا أعرفه، ولم ينظر إليَّ وكان متوشحاً ببردة، فتقدم إلى المسجد، وجلس في الصف الأول وأخذ يصلي، وبعد أن انتهى من صلاته رفع يديه وأخذ يدعو الله ويثني عليه، ثم قال: أقسمت عليك يا رب لما سقيتهم -يقسم على الله أن يسقيهم المطر- يقول محمد بن المنكدر: قلت في نفسي: هذا الرجل مجنون، كل أهل المدينة خرجوا إلى الله يستسقونه وما سقاهم، وأنت تقسم على ربك أن ينزل المطر، فوالله ما أنزل يديه إلا والسماء ترعد، والمطر ينزل، يقول: فعجبت من أمره يقول: فأخذ يبكي، وهو يقول: من أنا حتى تستجيب لي؟ من أنا حتى تستجيب لي؟ عذت بحولك وقوتك، ثم أخذ يثني على ربَّه جلَّ وعلا، وأخذ يصلي حتى الفجر، يقول: فتبعته بعد الفجر حتى علمت منزله، وجئته في الصباح، فدخلت ونظرت فإذا هو إسكافي -أي: يصلح الأحذية- فقلت له: يا فلان! أنا صاحب البارحة الأولى في المسجد -أي: نظرت إليك وعلمت ما الذي جرى- فقال: يا أبا عبد الله! ما شأني وشأنك؟ يقول: فخرجت وانتظرته في اليوم الثاني فما جاء المسجد، وكذا اليوم الثالث فما جاء، يقول: فذهبت إلى البيت لأسأل عنه فقالت عجوزٌ عند البيت: يا أبا عبد الله! ماذا فعلت معه، منذ أن فارقته جمع أمتعته وخرج من البيت ولم يرجع إلى هذه الساعة، يقول: بحثت عنه في المدينة كلها فلم أره ولم أسمع به. انظر إلى هذه العبادة وإلى هذا الإخلاص يتلذذ بعبادة الله، ولا يحب أن يراه أحداً، ولا يسمع به أحد: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} [الزمر:11].

وقفة مع الإمام أحمد بن حنبل

وقفة مع الإمام أحمد بن حنبل الإمام أحمد يقول عنه ابنه عبد الله: دخلت عليه يوماً من الأيام في غرفة مظلمة، فوجدته متربعاً يبكي، فقلت له: يا أبي! ما شأنك؟ لمَ تجلس هذه الجلسة وتبكي؟ قال: يا بني! أتفكر في القبر وأهواله أتفكر في اليوم الآخر. فقلت: يا أبي! هلا اتكأت؟ -أي: أنت رجل كبير في السن هلاَّ استندت على الحائط؟ - قال: أستحي أن أناجي ربي وأنا متكئ.

شدة خوف الإمام أحمد من الله

شدة خوف الإمام أحمد من الله يدخل على الإمام أحمد أديب في يوم من الأيام فيقول له الإمام أحمد: ما عندك؟ -أي: من شعر- اسمع ماذا يقول الرجل قال: إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيبُ ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما يخفى عليه يغيب فلما سمع الإمام أحمد الشعر قام من الدرس، ودخل الغرفة وأخذ يبكي وهو يردد هذا البيت.

زهد الإمام أحمد

زهد الإمام أحمد عبد الله! يقول الإمام أحمد هل كان في الدنيا مثلنا؟ يعني أنه في خير ونعمة، يقول ابنه: كان عنده حذاء مكثت معه ثمان عشرة سنة، يقول: وكلما خرم الحذاء خصفه بيده، كان يصلح حذاءه بيديه.

عبادة الإمام أحمد وصبره في السجن

عبادة الإمام أحمد وصبره في السجن دخل الإمام أحمد على المعتصم فقال له المعتصم: يا إمام! قل مثل أصحابك فإني مشفقٌ عليك -أي: قل: إن القرآن مخلوق- لكنه ثبات على المبدأ والعقيدة، قل: القرآن مخلوق وانج بنفسك، فما قالها لأن القرآن كلام الله، فجاءوا إليه بأحد أصحابه، فقال له: يا إمام! قلها وانجُ بنفسك، فقال: يا فلان! انظر فنظر فإذا التلاميذ ألوفٌ مؤلفة بيدهم المحابر ينتظرون ماذا يقول الإمام أحمد؛ لينقلوا عنه للأمة؛ ليحفظ لها دينها. فإذا بـ المعتصم يأمر الجلادين ثم يعلق ويضرب مائة وستين سوطاً، لو ضرب بها البعير لمات، وهو يقول كلما يفيق: لا إله إلا الله حسبي الله ونعم الوكيل، ثم بعد أن ضرب رمي بالسجن ثمانية وعشرين شهراً، ولما رمي في السجن وكان السجن مظلماً، والجو بارداً يقول: تحسست بيدي فوجدت ماءً بارداً فتوضأت، فأخذت أصلي حتى الفجر، انظر إلى العبادة! إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة ثمانية وعشرين شهراً سرد فيها الصوم كلها حتى ينجيه الله عزَّ وجلَّ مما هو فيه. يأتيه الملك -الخليفة- ويتعجب من أمره، فيأتيه بالطعام اللذيذ -الطعام الطيب- ويقول الإمام أحمد: والله لا أذوق له طعاماً، فكان يأكل من السويق؛ أردأ أنواع الطعام، يأكله ليسد به جوعه حتى حمل بعد أن خرج من السجن على فرس كاد أن يموت، ورمي في البيت طريحاً وكاد أن يموت رحمه الله. أرأيت العبادة؟! في أحلك الظروف وأضيقها صلاة وصياماً: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114].

وقفة مع عمر بن عبد العزيز

وقفة مع عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز تقول عنه زوجته فاطمة: أمسى مساءً -ليلة من الليالي- وقد فرغ من حوائج يومه -انتهى من حاجياته وجاء الليل، والأمر فيه عبرة فاستمع وتخيل- فدعا بسراجه الذي كان يوقد له من ماله ثم قام فصلى ركعتين، تقول زوجته فاطمة: ثم وضع رأسه بين يديه، تخيل شكله وهو جالس والرأس بين يديه، تقول: تسيل دموعه على خده يشهق شهقة أقول: قد خرجت روحه، أو انصدعت كبده، ثم لم يزل كذلك حتى برق الصبح ثم أصبح صائماً، تقول: في ليلة قرأ قول الله جلَّ وعلا: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} [القارعة:4] تقول: فصاح حتى سقط على الأرض فخفت وظننت أنه قد مات وقد خرجت نفسه. ثم هدأ فسمعت صوته، ثم أفاق إفاقة، ثم وثب فجعل يدور في الدار يتحرك وهو يقول: ويلي ليومٍ يكون الناس فيه كالفراش المبثوث، تقول: ثم سقط كأنه ميت، فلم يفق إلا على نداء الصلاة، فكلما تذكرت تلك الليلة، بكيت على حاله. صلى بالناس ليلة -انظروا الآن يا أخوة- عندما نصلي هل نتدبر؟ هل نخشع؟ تدخل المسجد فلا تكاد ترى خاشعاً، تسأل الناس بعد الصلاة ماذا قرأ الإمام -إلا من رحم الله- فلا يمكن أن يجيبك إلا القليل أما البقية فلا. والذين تذكروا هل خشعوا؟ هل دمعت عيونهم؟ فقرأ قول الله: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى} [الليل:14] فسكت، فظن الناس أنه نسي، فأعاد الآية: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى} [الليل:14] فسكت، فظن أنه سوف يعيد ويكمل وهو يكرر الآية ولا يستطيع أن يكملها هل تعرف ما بعدها؟ إنها هذه الآية: {لا يَصْلاهَا إِلَّا الْأَشْقَى} [الليل:15] فما استطاع أن يقولها، ماذا فعل؟ بكى ثم ترك هذه السورة وقرأ سورة غيرها. كان أبو حنيفة -رحمه الله- يقوم الليل كله بآية، تعرف ما هي هذه الآية؟ إنها قوله تعالى: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:27] كل الليل في هذه الآية يقومها يا عبد الله.

شاب يصرع لسماع آية

شاب يصرع لسماع آية اسمع -يا عبد الله- إلى هذا الشاب وهذه الكلمات التي خرجت من قلبه وهو يرددها، يقول منصور بن عمار: نزلت سكة من سكك الكوفة، فخرجت في ليلة مظلمة مستحلكة، فإذا أنا بصوت شاب يدعو ويبكي وهو يقول: كن كحال هذا الشاب، وتفكر في هذه الكلمات واجعلها تخرج من قلبك الآن يا عبد الله: إلهي وعزتك وجلالك ما أردت بمعصيتي مخالفتك، ولقد عصيتك إذ عصيتك وما أنا بنكالك بجاهل، ولا بعقوبتك متعرض، ولا بنظرك مستخف، ولكن سولت لي نفسي فأعانتني عليها شقوتي، وغرني سترك المرخي علي، فقد عصيتك وخالفتك بجهلي، فإلى من أحتمي؟ ومن من عذابك يستنقذني؟ ومن من أيدي زبانيتك يخلصني؟ وبحبل من أتصل إذا أنت قطعت حبلك عني؟ فيا ويلي كم أتوب وكم أعود ولم أستحِ من ربي واشباباه! واشباباه! يقول منصور: فلما سمعته أخذت أقرأ قول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] يقول: وبعد أن ختمت الآية سمعت اضطراباً شديداً، ثم سكت، ثم هدأ الصوت، وجئت في اليوم الثاني أريد أن أعرف خبره، فوجدت جنازة، وعندها عجوزٌ تبكي، فقلت: ما هذه الجنازة يرحمك الله؟ قالت: هذا ولدي، زل عن كبدي، ومن كنت أظن أنه سيدعو لي من بعدي، كان يبكي في الليل على ذنوبه ويتكسب، فجعل كسبه أثلاثاً، ثلثاً يطعمني، وثلثاً للمساكين وثلثاً يفطر عليه، تقول: فمر علينا البارحة رجل لا جزاه الله خيراً قرأ عليه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6] فجعل ابني يبكي ويبكي حتى فاضت روحه إلى بارئها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6].

الحث على الطاعات والتحذير من السيئات

الحث على الطاعات والتحذير من السيئات يا عبد الله: إذا كان القلب لا يزال عليه ران فاستعن بالله جل وعلا، واعلم أنها دقائق وتمضي، وأيام وتذهب، اذهب وزر المقابر يوماً من الأيام، وانظر إلى أهلها هل قضوا أشغالهم وأمتعتهم؟ هل انتهوا من أحلامهم؟ هذا رجل كان يظن أنه سوف يسافر في العطلة، وهذا آخر كان يبني البيت ولم يسكن فيه، وذاك كان يريد الزواج ويخطط له، وهذا كان يدرس ويتمنى أن يحصل على شهادة، وهذا خرج من البيت ليشتري أمتعة أهله ويرجع إليهم، ولكن المنية والأجل كان أقرب منهم. اسمع وتفكر في ذلك اليوم: إذا النبيون والأشهاد قائمة والجن والإنس والأملاك قد خشعوا وطارت الصحف في الأيدي منشرة بها السرائر والأخبار تطلع فكيف سهوك والأسباب واقعة عما قليلٍ ولا تدري بما يقعُ أفي الجنان وفوز لا انقطاع له أم الجحيم فلا تُبقي ولا تذرُ تهوي بساكنها طوراً وترفعهم إذا رجو مخرجاً من غمها قمعوا طال البقاء فلم ينفع تضرعهم هيهات لا رقة تغني ولا جزعُ لا ينفع العلم قبل الموت عالمه قد سال قومٌ بها الرجعى فما رجعوا عباد الله! لنكن قوماً إذا استمعوا إلى هذا الحديث اتبعوا أحسنه قوماً نتعلم العلم ونستمعه ونعقله ثم نعمل به، فإن هذا الكلام إما حجة لنا وإما حجة علينا. عبد الله! ارجع إلى البيت وليكن الحماس منضبطاً: (أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل) قليلٌ دائم خيرٌ من كثير منقطع، عاهد النفس جزء من الليل للقيام بعض أيام الشهر للصيام اجعل لك ورداً لقراءة القرآن، لا بد وأن تختم القرآن -أضعف الإيمان- في الشهر مرة. كان الصحابة يجادلون يقول أحدهم: أقوى أكثر من هذا، قال: اقرأه في السبع، قال: أقدر أكثر من هذا، قال: أقرأه في ثلاث، قال: أقدر أكثر من هذا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يفقه القرآن من قرأه في أقل من ثلاث). رويدك رويدك!! هوِّن على نفسك لا أقول لك: اختم القرآن في ثلاثة أيام، بل أقول لك: في الشهر مرة، صم ولو في الشهر ثلاثة أيام، هذا صيام الدهر. وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: (بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أني أسرد الصوم، وأُصلي الليل، فإِما أرسل إليَّ، وإِما لقيتُه، فقال: ألم أخبر أنك تصوم ولا تفطر، وتصلي؟ -وفي رواية: فإنك إذا فعلت ذلك هجمت العين، ونقهت النفس- فصم وأفطر، وقم ونم؛ فإن لنفسك عليك حقاً، وإن لأهلك عليك حقاً. قال: إني لأقوى لذلك. قال: فصم صيام داود عليه السلام. قال: وكيف؟ قال: كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، ولا يفر إذا لاقى، قال: من لي بهذه يا نبي الله؟ -قال عطاء: لا أدري كيف ذكر صيام الأبد- قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا صام من صام الأبد). عباد الله: هؤلاء هم سلفنا، وقدوتنا، فهلا كنا لهم متبعين، وعلى خطاهم متمسكين، وبآثارهم سائرين؟ عباد الله! لنشمر ساعد الجد، فإن الجنة تحتاج إلى جد واجتهاد، وبذل وعزم، قال: (من خاف أدلج، ومن أدلج -أي: من رأى الليل- بلغ المنزلة، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة) اترك كل ما يلهيك من تلفاز وأغانٍ وطرب. نعم يا عبد الله! تقول لي: لا أخشع عندما أقرأ القرآن، ولا أتلذذ بالقيام، أقول لك: أتسمع الغناء؟ تقول لي على استحياء: نعم أحياناً، أقول لك: لن تتلذذ بالقرآن أبداً. حب الكتاب وحب ألحان الغنا في قلب عبد ليس يجتمعان اعتزل الغناء اهجر الطرب والمعازف قاطع التلفاز اترك مجالس السوء، ثم تدبر كلام الله جل وعلا تجده كالماء يطفأ به النار، تجده -يا عبد الله- لذة حتى أنك تنادى فيقال لك: يا فلان! عمل، يا فلان طعام شراب، فتقول لهم: ولوا عني واتركوني، أنا متلذذٌ بقراءة القرآن. طعن عثمان تسع طعنات وهو يقرأ القرآن، حتى سال دمه على المصحف، تقول زوجته: قتلتموه وإنه ليحيي الليل بالقرآن. أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الأسئلة

الأسئلة

نصيحة للنساء في العبادة

نصيحة للنساء في العبادة Q حبذا لو توجه كلمة تنصح بها النساء وخاصة في العبادة، ولعل السائل أيضاً يشير إلى أن أكثر الذين ذكرتهم من الرجال فهل هناك من النساء من كان لهن في ذلك نصيب؟ A أما بالنسبة للنساء: فهذه عائشة رضي الله عنها أم المؤمنين، يقول عروة: [دخلت عليها يوماً من الأيام في الصباح، وكانت عادتي أن أسلم عليها في الغداة، فوجدتها تصلي وتقرأ آية، وهي قوله تعالى: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:27] قال: فرددت الآية وهي تبكي، فقلت في نفسي: لعلها تطيل فأذهب إلى السوق وأقضي حاجتي ثم آتيها، فذهبت إلى السوق وقضيت حاجتي ثم رجعت بعد مدة طويلة، فدخلت عليها في البيت فوجدتها تردد الآية نفسها وتبكي] إنها عائشة أم المؤمنين. أما نصيحتي للنساء في العبادة، فهو تنبيه: إن المرأة تمر عليها بعض الأيام تسمى أيام حيض، تنقطع فيها عن الصلاة، ويحرم عليها الصيام، فماذا تفعل؟ إن كان الصيام عليها محرم، والصلاة عنها محرمة، وقراءة القرآن عند بعض أهل العلم لا يجوز لها، فإن الذكر لا يجوز أن ينقطع عن لسانها، فإنها تعوض الصلاة والصيام وقراءة القرآن بذكر الله، قال تعالى: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] يأتي رجل فيقول: (يا رسول الله! إن شرائع الإسلام قد كثرت عليَّ فدلني على أمرٍ أتشبث به؟ قال: لا يزال لسانك رطباً بذكر الله). أمَةَ الله: أنصحكِ في تلك الأيام وهذه الليالي أن تكثري من الذكر، عوضاً عن الصلاة والصيام والقرآن على بعض قول أهل العلم، لم شرعت الصلاة والصيام والحج؟ يقول ابن القيم: كل العبادات إنما شرعت لغاية وهي ذكر الله جل وعلا، قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14] وانظر الحج، كله شعائر وتهليل وتكبير وذكر لله جل وعلا، بل حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمار؛ لإقامة ذكر الله). إذاً المرأة لا تعذر في أيام الحيض عن ذكر الله جل وعلا. أيتها النساء! أنتن دوركن عظيم لبناء هذه الأمة وهذا الجيل، من يربي الأولاد غيركن؟ ومن يخرج لنا جيلاً صالحاً إسلامياً غيركن؟ إن الرجال في هذا الزمن -إلا من رحم الله- غافلون عن تربية أولادهن، لا يعلمون عنهم إلا قليلاً. إن فتنة النساء على الرجال هي أعظم فتنة على وجه الأرض، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما تركت بعدي فتنة أشد على الرجال من النساء) تقول فاطمة رضي الله عنها: [خير للنساء ألا يراهن الرجال، ولا يرين الرجال] تقول: خير للمرأة ليس فقط ألا يراها رجل، لكن أيضاً ألا ترى هي أيضاً رجلاً، انظروا إلى الحياء، فلما سمعها النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فاطمة مني وأنا منها) نعم! إنها حكيمة وعاقلة. أمة الله! (المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان) ولم يستثنِ النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث لا وجهاً ولا كفاً ولا ساعداً ولا ساقاً ولا شعراً ولا غيره، فإياكِ إياكِ أن تتشبثي بحديثٍ ضعيف، أو بعض أقوال لأهل العلم أخطئوا فيها، أو لبعض العقول التي تصرفك عن سبيل الهدى. اعلمي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المرأة عورة) وهل يعقل -يا عباد الله! - أن الله جل وعلا يحرم صوت خلخال في رجل المرأة مخفي ووجه المرأة حلال؟! لا يعقل هذا في شرع الله. واعلموا يا عباد الله! أن النساء شقائق الرجال، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد وصانا قبل ألفٍ وأربعمائة سنة بهن، فقال: (استوصوا بالنساء خيراً، استوصوا بالنساء خيراً، استوصوا بالنساء خيراً، فإنهن خلقن من ضلعٍ أعوج) وأنا أوصيك يا عبد الله! فكم من الرجال من ضيع حقوق النساء كم وكم؟ قال عليه الصلاة والسلام: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي) كان يقوم في حاجة أهله، حتى يروى أنه كان يرقع الثوب، ويخصف النعل، ويخدم أهله في البيت، من منا يفعلها؟! فإذا أذن المؤذن كأنه لا يعرف أحداً ولا يعرفه أحد. هذه وصية للرجال وللنساء والله أعلم.

حكم العمل في مكان يؤمر فيه بحلق اللحى

حكم العمل في مكان يؤمر فيه بحلق اللحى Q هذا شابٌ يشتكي، ويقول: أنا أعمل في دائرة حكومية منذ اثني عشر عاماً، وعملي رزقٌ حلال طيب إن شاء الله تعالى، ولكن القائمين عليه لا يسمحون لنا بإرخاء اللحية، فماذا نفعل، علماً أننا نبكي عندما نحلق لحانا أفتونا مأجورين وماذا نفعل؟ A قال سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3] رزقك مكتوب في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق الله السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، ولن تموت نفسك ولن تخرج من جسدك حتى تستكمل رزقك، اضمن الرزق من الله جل وعلا: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22]. أما طاعة المخلوق في معصية الخالق فحرام، فابحث لك من الآن عن فرصة أخرى للعمل، وعن مجالٍ آخر؛ لأن هذا المكان يحرم عليك أن تبقى فيه، لا تقل لي: ليس هناك، ابحث: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك:15] ابحث لك عن فرصة أخرى للعمل، وإن كان المعاش أقلَّ، وإن كان العمل متعباً أكثر، فإن طاعة الله عزَّ وجلَّ أغلى وأثمن.

الحفاظ على قيام الليل وصلاة الفجر

الحفاظ على قيام الليل وصلاة الفجر Q عبادة الله عز وجل أمرٌ عظيم، ولكن يشتكي البعض من أنهم يرجعون من العمل في وقت صلاة المغرب متعبين، وهذا يعيقهم عن صلاة الفجر، ويقومون بصعوبة، وربما قد يقول هذا الأخ أيضاً: لقد هجرنا قيام الليل وقراءة القرآن ولا حول ولا قوة إلا بالله؟ A الذي يقول: نعمل إلى المغرب ولا نستطيع أن نقوم الليل، فقد علم الله عز وجل عنهم، وأنزل فيهم آية، تتعجب وتقول: ما هي هذه الآية؟ أقول لك: إنه قول الله: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل:20] أي: عندهم أعمال، يبتغون من فضل الله: أي: الرزق: {وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [المزمل:20] ماذا يفعلون هؤلاء يا رب؟ قال: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل:20] أي: حتى أولئك: اقرءوا ما تيسر منه ليسوا معذورين، هذا في صلاة الليل، ما تيسر ولو كانت عشر دقائق، يقول عليه الصلاة والسلام: (من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين). ألا تستطيع يا عبد الله؟! لا أحد يقول لي: لا أستطيع، أقول لك: تستطيع ولو بعشر آيات، وإياك إياك أن تفرط بالوتر، ولو كان قبل النوم كما قال أبو هريرة عن وصية النبي صلى الله عليه وسلم: (وأن أوتر قبل أن أنام) أفضله آخر الليل، فإن كنت لا تستطيع فأوتر أول الليل، ولا تقل: لا أستطيع القيام لصلاة الفجر فإنه لا عذر لك، لا عذر بالتخلي عن صلاة الفجر، لا عمل ولا غيره، هذه خمس صلوات، كانت خمسين فجعلها الله خمساً، فهي خمسون في الأجر وخمسٌ في العمل، وبعد هذا تتكاسل لا يا عبد الله! ليصدقن فيك قول الله جل وعلا: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً * إِلَّا مَنْ تَابَ} [مريم:59 - 60] تب إلى الله جل وعلا، واعلم أن صلاة الفجر لا عذر لك فيها، أما قيام الليل فخففها واجعلها ركعات بسيطة ولو كانت بعشر آيات. والله أعلم.

أسباب عدم التأثر بالقرآن

أسباب عدم التأثر بالقرآن Q ما هي الأسباب التي جعلتنا لا نتأثر بآيات الله عز وجل، حتى عند ذكر الجنة والنار؟ A أول سبب هو المعاصي والذنوب، قال الله جل وعلا: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] تقول لي: أنا الحمد لله لا أشرب الخمر، أنا الحمد لله لا أزني، أقول لك يا عبد الله: من الصغائر ما تصل إلى درجة الكبائر، تقول لي: وكيف؟ أقول لك: كم ترى في اليوم والليلة من امرأة؟ تلفت النظرة الأولى بل أكثر، هل تستمع إلى أغاني أو موسيقا بحجة أخبار، بحجة فيلم أو مسلسل؟ بل من أباح لك النظر إلى هذه المسلسلات أليست فيها عورات؟ أليس فيها ما يلهي عن ذكر الله جل وعلا؟ هل يزل اللسان فتغتاب أحداً؟ تتكلم في عرض أخيك تنم بين اثنين تكذب تسخر؟ هل تفعل هذا يا عبد الله؟ هذه الصغائر. لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى صغيرة على صغيرة على صغيرة، كما قال الله جل وعلا: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49] أول سبب الصغائر. ثاني سبب: التفريط في الطاعات والواجبات التفريط في الصلوات إلا من رحم الله تفريطٌ في النوافل. ثالث الأسباب يقول ابن القيم: من أسباب قسوة القلوب: الإفراط في المباحات. وهي من خطوات الشيطان، يأتيك فيقول لك: يا فلان! هل هذا حرام؟ الحمد لله هذا ليس بحرام، اجلس في المجلس بعد العشاء ساعتين أو ثلاث ساعات وأنت تشرب الشاي والقهوة هل تتحدثون بذكر الله؟ لا. إنما تتحدثون في الأسواق، وفي أسعار العملات، وفي الدول الثانية، وأخبار المباريات، وفلان فعل وفلان ترك ساعتين وثلاث ساعات كل ليلة على هذه الحال، ثم يقول: لا أتأثر إذا ذكرت الله؟ أقول لك: كل هذا المباح {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} [الفرقان:72] قد يجلس ساعة وساعة، ولكن لا يكثرون منها. دخل عليه الصلاة والسلام يوماً على الصحابة وقد أكثروا في الضحك مع أن الضحك حلال، ولكن إذا زاد عن الحد الذي حده الله قسى قلبي؟ قال عليه الصلاة والسلام: (والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، فغطى أصحاب رسول الله وجوههم ولهم خنين من البكاء). نعم يا عبد الله! المباحات إياك إياك والإكثار منها؛ فإنها سببٌ لقسوة القلب كثرة الأكل والشرب، كثرة النوم، كثرة حديثٍ لا معنى له ولا فائدة منه، كثرة التجول في الأسواق بغير داعٍ ولا معنى، فكثرة المباحات تقسي القلوب، واعتكف على طاعة الله، جرب يومين ثلاثة أيام قيام الليل، واترك المعاصي والذنوب، واعتكف على قراءة القرآن يوماً ويومين وثلاثة ثم انظر إلى القلب كيف يتأثر. هذا هو علاج القلب يا عبد الله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].

أسباب عدم استجابة الدعاء

أسباب عدم استجابة الدعاء Q نحن نقوم الليل وندعو فلا يُستجاب، فما هو السبب؟ وما هو أفضل وقتٍ للقيام؟ وكذلك هنا حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من صلى العشاء في جماعة أو التزم في الجماعة فكأنما قام الليل كله) فما رأيك: هل هذا يغني عن القيام أم لا؟ A لو كان يغني عن القيام لأغنى محمداً عليه الصلاة والسلام وأصحابه الذين بلغوا المنازل العليا وبعضهم بشر بالجنة، وما أغناه هذا عن القيام، هذا كأنما قام الليل كله في الأجر فقط، فالذي يصلي العشاء والفجر في جماعة ليس كالذي قام الليل معهما. ثانياً: يا عبد الله! بالنسبة للدعاء، لماذا ندعو ولا يستجاب لنا؟ أسباب كثيرة: منها: فتش مطعمك ومشربك وملبسك هل يدخله حرام ربا، رشوة، غش، خداع، سهم من شركات ربوية، أخذ أموالٍ بالكذب والخداع والتزوير، والظلم وقهر الناس؟ سل نفسك! هل هناك شيء من الحرام؟ إن كان هناك شيء من الحرام يحول الله بينك وبين الإجابة، وذكر: (الرجل يطيل السفر أشعث أغبر قال: يرفع يديه) تخيل مسافر والمسافر يستجاب له، أشعث أغبر، حاله رثة أحرى أن يستجيب له، يقول: يا رب! {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180] ويرفع يديه -وهذا أدب من آداب الدعاء- ويقول: (يا رب! يا رب! -فيقول عنه النبي صلى الله عليه وسلم-: ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنَّى يستجاب له؟) كيف يستجيب الله لهذا؟ قال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي} [البقرة:186] إجابة بإجابة، تريد أن يستجيب الله لك استجب لله جل وعلا، بعض الناس أمواله كلها في البنوك الربوية، ثم يقول: أنا أدعو ولا يستجيب الله لي، وكيف يستجيب الله لك؟! وقد يستجيب الله لك فتنةً واستدراجاً من الله جل وعلا. سبب آخر لعدم إجابة الدعاء: ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً ثم تدعونه فلا يُستجاب لكم). ثالثاً: من أسباب عدم إجابة الدعاء: الاستعجال (يستجاب لأحدكم ما لم يستعجل، قالوا: وما يستعجل يا رسول الله؟ قال: يقول دعوت فلم يستجب لي) دعا أسبوعين أو ثلاثة قال: ما استجاب الله لي، ما يدريك يا عبد الله! الله يحبك ليس شيءٌ أكرم على الله من الدعاء. ومن الأدعية المستجابة: دعاء المظلوم واسمع إلى هذه المرأة كما ذكر هذه القصة الذهبي في الكبائر قال: كان عندها كوخ بقرب قصرٍ لملك، وكانت العجوز ليس عندها أحد إلا الله، تخرج كل صباح تبحث عن لقمة عيشها، فتأتي آخر النهار إلى الكوخ لتجلس إلى اليوم الثاني وتذهب تطلب لقمة العيش عجوز مسكينة في كوخٍ صغير بجانب قصرٍ شاهقٍ عظيم لملك، وفي يوم من الأيام خرج هذا الملك يتجول في فناء القصر مع الحرس والجنود، فنظر إلى فخامة القصر -متمتع الآن بجمال هذا القصر- ثم نظر إلى كوخٍ بالقرب من قصره، فقال للجنود: ما هذا؟ قالوا: كوخٌ لامرأة عجوز، قال: لقد شوه منظر القصر أزيلوه اهدموه، فذهب الجنود وذهب العسكر إلى ذلك الكوخ، ورجعت العجوز إلى بيتها آخر النهار فرأت ما حل به، ليس عندها أحدٌ إلا الله، فرفعت يديها وهي تبكي وتقول: اللهم إن كنت غائبة فأين أنت؟! فرفع الله القصر وقلبه على أهله، في لحظات خسف الله به الأرض وبداره، فانظر خطورة دعاء المظلوم. إياك أن تظلم أحداً وإن كان كافراً، فإن رفع يديه فليس بين دعائه وبين الله حجاب، يستجيب الله له، وفي بعض الروايات قال: (وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين). تحرى -يا عبد الله- أوقات الدعاء المستجاب، ومنه: آخر الليل، (وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد).

الفراغ وخطره

الفراغ وخطره Q كثير من الشباب في أيامنا هذه نجدهم يجلسون ويسمرون على معصية الله ورسوله بين شرب الدخان والشيشة، وكذلك يسألون عن حكم الدخان والشيشة والقات، فنرجو توجيه نصيحة لهؤلاء الناس وربما تكون شبهتهم أنه ليس عندهم ما يفعلونه وإنما وقت فراغ؟ A أرجو المعذرة، أنا أرد على الإخوة الذين يسمونهم الناس غير ملتزمين مثلاً، أو يسمي نفسه أنه إنسان عادي لا مطوع ولا فاسد الحمد لله! أصلي وأجلس في هذه المقاهي بعض الأحيان، والمباريات، وأطالع التلفاز مرة وأترك مرة، وبعض هؤلاء الصنف من الناس ينظرون إلي الآن، ويقول: هل يقصدني الشيخ؟ نعم أقصدك، أقصدك أنت. أسألك بالله يا عبد الله! أنت الآن رجل -إن شاء الله مسلم- وتقول: لا إله إلا الله، ولم تأتِ إلى هذا المسجد إلا لأنك غير الشباب الآخرين، وفيك إيمان، وفيك حب لطاعة الله، وإلا لما جئت إلى هذا المسجد أحدثك وأوجه إليك هذه الكلمات: هل تعلم ما الذي يجري الآن للمسلمين في العالم؟ أسألك بالله! هل تدري أن أخوات لك -يا عبد الله- تنتهك أعراضهن ولا نصير لهن في الدنيا إلا الله جل وعلا؟ هل تعلم ما الذي فُعل بأخواتنا قبل سنوات في سراييفو أو الشيشان أو الصومال أو جنوب أفريقيا أو شرق آسيا أو الفلبين أو كشمير هل سمعت بأخواتنا ما الذي حدث لهن؟ هل سمعت يوماً من الأيام أن بعض أخواتنا كانت تحمل في بطنها رضيعها فبقر بطنها ثم أخرج ولدها وهي حية ورمي به في أكياس القمامة وهي تنظر إليه يموت؟ هل سمعت بهذا يا عبد الله؟ أسألك بالله: هل هذه الحالة التي نحن فيها في الشيشة ساعتين وثلاث ندخن نتحدث في أمور الدنيا، هل يرضيك هذه الحال؟ المسلمون في ذل وقهر واستعباد، حتى شئوننا الداخلية يتحكم فيها البيت الأبيض والكونجرس، أليس هذا بصحيح؟ حتى إن إسرائيل خمسة ملايين ما تعدو بصاقاً لعربي في هذه البلاد، تعيش بين ألف مليون مسلم، الخمسة تعادل ألفاً، ولا يستطيع الألف مليون أن يجابهوها هل رأيت الذل الذي نحن فيه يا عبد الله؟ ألا تأخذك الغيرة على هذا الدين؟ ألا يدخل في قلبك الحماس أين المسلمون؟ لماذا هذا الذل الذي نحن فيه؟ أين الرجال؟ هذا أحد السلف وقف على المحيط الأطلنطي -وكان عمره لا يجاوز خمسة وعشرين سنة- وبيده السيف، وهو يركب الفرس، فتح شمال أفريقيا كلها حتى وصل إلى الأطلسي ودخل بقوائمه على البحر، ثم قال: والله لو أعلم أن خلف هذا البحر قوماً لخضته بفرسي هذا. ما كان يعلم أن هناك أقواماً. جعفر الطيار يحمل الراية بيده اليمنى ثم تُقطع فيحملها بيده اليسرى فتقطع، هل هرب وقال: قطعت يداي لا. فمسك الراية بعضديه، ثم تكسرت الرماح على ظهره وهو يتلفظ أنفاسه الأخيرة، ويقول: يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وباردٌ شرابها والروم روم قد دنا عذابها كافرة بعيدة أنسابها وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، يقول للنصارى -نسميهم اليوم الأوروبيين المتحضرين والمسيحيين أو إخواننا في الإنسانية كما يقولها بعض المتأقلمين-: والروم روم قد دنا عذابها كافرة بعيدة أنسابها أسمعت بابني عفراء؟ شابان صغيران يأتيان إلى عبد الرحمن بن عوف في معركة بدر؛ أول معركة للمسلمين، يغمزه عن يمينه فيلتفت عبد الرحمن بن عوف - أيها الشباب! يا من ضاع وقته في الشيشة والدخان، وبين الأغاني والطرب، هل استفدت شيئاً؟ لا أظن، أظن أن بعضكم فيه من الغيرة على الإسلام أكثر ممن هو معتكفٌ في بيوت الله، نحتاج إلى هذه الغيرة نحتاج إلى حماسك يا عبد الله نحتاج منك إلى كلمة نحتاج منك إلى مال إلى دينارٍ واحد، لربما -ما يدريك- ينصر الله الإسلام على يديك، لم لا تقولها في نفسك؟ لماذا لا تقول: لم لا أكون أنا الذي يفتح الله على المسلمين بي؟ لم لا تقل هذه الكلمات ما الذي يردك؟ وسوف يأتيك بأخبار في هذه العصور- هذا الشاب غمز عبد الرحمن بن عوف فالتفت عبد الرحمن بن عوف فقال له هذا الشاب: أين أبو جهل؟ أي: مثلما يقول الآن واحد منا اليوم في معركة ما: أين نتنياهو؟ أين زعيم الكفر؟ فقال له هذا الرجل: وما شأنك وشأنه يا بني؟ طفل صغير، قال: سمعت أنه يسب رسول الله، فوالله لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا. هل رأيت هذا الحب لرسول الله؟ هل رأيت مثل هذا الحب الآن عند المسلمين؟ اليهود الآن يدنسون المسجد الأقصى أولى القبلتين، صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم وهؤلاء يدنسوه ويحرقونه ويحفرون تحته ليهدموه، والمسلمون في المباريات ساعتين وثلاث ساعات يصفقون ويزمجرون هل رأيت يا عبد الله؟ يريدون أن يدخلوا في قلوبنا الغيرة، أصبح العداء لإخواننا في الإسلام لأجل المباراة، يعادي هذا الشعب كله لأجل مباراة حقيرة تافهة، الحكم فيها لعله التحريم إذا وصل إلى هذا الأمر. يقول عبد الرحمن بن عوف: تعجبت! فإذا بشابٍ آخر يغمزني عن شمالي فقلت له: ماذا تريد يا بن أخي؟ قال: يا عم! أين أبو جهل؟ قال: وما شأنك وشأنه يا بني؟ قال: سمعت أنه يسب رسول الله فوالله لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا، قال: وبعد أن حمي الوطيس وحميت المعركة قلت لهما: هذا صاحبكما، يقول: فوالله لقد انقضا عليه كما ينقض الصقر على الفريسة - أبو جهل صنديد من صناديد العرب، رجل لا يجابهه الرجال- يقول: انقضا عليه كالصقر إيمان جعلهما كالرجال، يقول: فلا زالا يضربانه حتى قتلاه، أردوه صريعاً، ثم ذهبا إلى رسول الله، كل واحد منهما يقول: يا رسول الله أنا قتلته، وهذا يقول: لا. أنا قتلته، يفتخران عند رسول الله أن كل واحد منهما قتل صنديد الكفر. وأنت جالس ساعتين وثلاث في مقهى يا عبد الله! الإسلام يحتاجك يا عبد الله! الإسلام يناديك يا عبد الله! شعوب المسلمين تُذل من يحكمها؟ من يدير أمرها وشئونها؟ ألف مليون غثاء كغثاء السيل قد أوهن قلوبهم حب الدنيا وكراهية الموت. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أخطاء في الولائم والأفراح

أخطاء في الولائم والأفراح إن للوليمة سنناً وأحكاماً وضوابط لابد من مراعاتها منها: عدم الإسراف، ووجوب إجابة الدعوة ما لم ير منكر، فإذا وجد لم يجز الذهاب، ووجوب الالتزام بالضوابط الشرعية للضرب بالدف وغيرها. أما ما يحصل من كثير من الناس من مخالفات شرعية فيجب تركه والعزوف عنه وإلا كنا ممن يقابل نعمة الله بالكفران.

سنن وليمة العرس

سنن وليمة العرس إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المسلمون: ففي هذه الأشهر المقبلة من كل سنة تكثر الولائم، وتزداد الأعراس، ولا بد لنا عند هذه الولائم من وقفة: السنة فيها، ثم حال بعضنا معها. قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (إنه لا بد للعرس من وليمة) وليمة العرس: أحكامها، والسنة فيها، وما يخالف الناس فيه من الشرع في هذه الأيام، قال عليه الصلاة والسلام: (إنه لا بد للعرس من وليمة) قال العلماء: إنها واجبة، وقال بعضهم: بل مستحبة. إليكم بعض السنن في الوليمة:- أولاً: يجب في ولائم الأعراس عدم الإسراف:- فقد أوْلَمَ النبي صلى الله عليه وسلم بعد خيبر في عرسه وبنائه على صفية رضي الله عنها، وانظروا كيف كان زواج خير الخلق؛ يقول الراوي وهو أنس: (بسط في نطع -أي: الجلود على الأرض، هذه وليمته- ووضع فيها التمر والعذق والسمن، فتجمع الناس وأكلوا حتى شبعوا) فكانت وليمة خير الخلق عليه الصلاة والسلام التمر والسمن. وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب رضي الله عنها فأولم، فكانت وليمته من أكثر ولائم نسائه، أتدرون ما قدرها؟ شاة واحدة، ذبحها ووزعها وأكل الناس منها، فهذه هي وليمته عليه الصلاة والسلام. ويستحب في الوليمة أن يكون فيها اللحم كما قال عليه الصلاة والسلام لـ عبد الرحمن بن عوف، وهو من أغنياء الصحابة، قال: (أوْلِمْ ولو بشاة) وذلك إن تيسر اللحم. ثانياً: ويستحب فيها: أن يُدعى الصالحون ولو كانوا فقراء، ويُترك الفُساق وإن كانوا أغنياء، قال عليه الصلاة والسلام: (لا يأكل طعامك إلا تقي) والوليمة من الطعام، لذا قال: (إلا تقي) وبعض الناس هذه الأيام يحرص أن يأتي الأغنياء والوجهاء والكبراء وأهل المناصب، ولعله يصورهم، ويفتخر عند الناس بهم، وإن أتاه الفقراء -ولو كانوا مصلين- أصابه الضيق والحسرة، لا. بل عليه أن يدعوهم إلى الولائم، ولا يدعو الأغنياء، وأهل المناصب، قال عليه الصلاة والسلام: (شر الطعام طعام الوليمة يُدعى إليها الأغنياء، ويُترك الفقراء) ولو نظرت إلى واقعنا لرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم من علم النبوة، ومن وحي الرحمن جل وعلا. ثالثاً: يجب عليك إن دُعيتَ إلى وليمة عرس أن تجيب:- قال عليه الصلاة والسلام: (ومن لم يجب الدعوة -أي: دعوة الوليمة- فقد عصى الله ورسوله). وقال: (ولو دُعيت إلى كِراع لأجبت) أي: إن دعيتَ إلى وليمة عرس ولم يكن هناك ثَمَّ منكر في الوليمة، ولم يكن عندك أمر أوجب من هذه الوليمة، يجب عليك أن تلبي الدعوة وتستجيب لها. أما إن أتيت إلى العرس فرأيت فيه منكراً، فلا يجوز لك أن تحضره، وارجع -يا عبد الله- ولو كنت مدعواً إليها، فعن علي قال: (دعوت النبي صلى الله عليه وسلم فأتى، ثم رجع فقلت: يا رسول الله! دعوتُك فلم تأتِ، قال: إن في البيت تصاوير، وإن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة) رأى ستراً فيه تصاوير، فرجع، ولم يأتِ إلى صهره وإلى ابن عمه، وإلى خير الناس بعد أبي بكر وعمر وعثمان، رجع ولم يُجِب دعوته؛ لأن في البيت صورة، ماذا نقول في أعراسنا وولائمنا: كيف نحضرها إن كان فيها منكر أكبر من الصورة؟! وقيل: إن عمر دعاه نصراني في الشام، وقال له: إني أحب أن تتضيف عندي أنت وأصحابك يا عمر! فقال له عمر رضي الله عنه: [إنا لا نسكن كنائسكم من أجل الصور التي فيها] لا نسكن هذه الكنائس؛ لأن فيها منكراً، هي الصور، ولا ندخل مكاناً فيه منكر. ولو اعتاد الصالحون وأهل الفضل منا، والناس جميعاً ألا يدخلوا هذه المجالس التي تعلَّق فيها الصور، أتظنون أن أصحابها سوف يستمرون بتعليقها؟! أم تظنون أنهم سوف يصرون على تعليقها على الجدران؟! لا والله، بل سوف يزيلونها إرضاءً للناس قبل أن يكون إرضاءً لله. أيضاً إن أتيت إلى العرس، يُستحب لك أن تدعو بالسنة، تقول: بارك الله لك وبارك عليك، وجمع بينكما في خير. وغيرها من الكلمات التي اعتادها الناس، وليس فيها محظور شرعي، أما ما يقوله بعض الناس: بالرفاء والبنين، فهذا فيه محظور، ويجب تركه لماذا؟ لأن العادة في الجاهلية أنهم كانوا يتمنون البنين على البنات، ويفضلون البنين على البنات، فلهذا كان يدعو بعضُهم لبعض: بالرفاء والبنين، أما البنات فلا: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ} [النحل:58]. أما في ديننا فلا فرق بين البنين والبنات؛ فتدعو بما سنه لك رسول الله صلى الله عليه وسلم: بارك الله لك، وبارك عليك، وجمع بينكما في خير، وغيرها من الكلمات التي اعتادها الناس وليس فيها محظور. ثم يستحب إعلان النكاح، وإظهاره في الناس؛ لئلا يكون مستوراً ولا مخفياً، وقال عليه الصلاة والسلام: (فرقوا ما بين النكاح والسفاح بالضرب بالدفوف) والصوت حتى يُعلم النكاح، وحتى يفرق بينه وبين السفاح، وما يفعله الناس من أضواء، قالوا: لإعلان النكاح وغيرها من الخيام؛ لأن فيها شيئاً من إعلان النكاح.

ضوابط الضرب بالدف والغناء في الأعراس

ضوابط الضرب بالدف والغناء في الأعراس أما الضرب بالدفوف، والغناء في الأعراس فإن في هذا ضوابط وحدوداً فاسمعها يا عبد الله: أولاً: الأصل في المعازف والغناء والموسيقى التحريم، إنما أبيح في حالات محدودة:- الضرب بالدف، فلا يباح غيره في الأعراس، فلا تباح الموسيقى ولا الطبول ولا غيرها من أنواع المعازف. ثانياً: إنما الذي يباح له أن يغني في العرس الجواري الصغيرات، كما سمع النبي صلى الله عليه وسلم جارية تغني في يوم عرسه ووليمته. ثالثاً: إن غنت الصغيرة البالغة فإنه لا يجوز أن يسمعها الرجال، وإن غنت الكبيرة بالدفوف لا غير، وبالكلام الحسن لا الفاحش ولا البذيء، فإنه يكون في مكان لا يسمعها الرجال، إذا كانت المرأة تُنهَى عن الأذان، وتنهى عن رفع الصوت بالصلاة إذا سمعها الرجال، وإذا أخطأ الإمام فلا تسبح، فكيف بالأغاني وسط الأعراس؟! فإنها تُنهى أن ترفع صوتها فيسمعها الرجال. أما إن كُنَّ صغيرات وليس في أصواتهن فتنة، فإنه يُباح رفع أصواتهن، والضرب بالدفوف، قال عليه الصلاة والسلام عندما زفت عائشة امرأة كانت ترعاها وتكفلها، فلما كبرت زفتها إلى أحد الأنصار، قال لها عليه الصلاة والسلام: (أما كان معكم لهو؟! -أي: شيء من الغناء المباح- فإن الأنصار يعجبهم اللهو، ثم قال لها: أرسلي لها جارية تغني لها -أي: بنتاً صغيرة- قالت عائشة: ما تقول؟ قال: لتقل: أتيناكم أتيناكم فحيانا وحياكم ولولا الحبة السمرا ما كبرت عذاريكم ولولا الذهب الأحمر ما حلت بواديكم ) كلمات ليس فيها فُحش، ولا بذاءة، ولا تغزل بالنساء، ولا وصف لعوراتهن، ولا غيرها من الكلمات البذيئات. ثم -يا عبد الله- اسمع إلى عرس النبي صلى الله عليه وسلم عندما تزوج إحدى نسائه، فقال لـ أنس: (يا أنس! اذهب فادعُ فلاناً وفلاناً وفلاناً، ومن لقيتَ من المسلمين -فأتت أم سليم وصنعت شيئاً من الطعام المتواضع، ووضَعَته في أناء من نحاس، فأتت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم) هذه وليمته- قال لـ أنس: ادعُ فلاناً وفلاناً وفلاناً ومن لقيتَ من المسلمين، قال أنس -وكان خادماً للنبي صلى الله عليه وسلم- فذهبتُ ودعوتُهم، ومن لقيتُ من المسلمين، قال الراوي: كم كان عددهم؟ قال: زهاء الثلاثمائة. وصل عددهم ثلاثمائة تقريباً، ملئوا بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وليس عنده إلا طعام في إناء واحد من نحاس، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم ووضع يديه فيه ودعا بالبركة، وقال: ما شاء الله! ثم قال لـ أنس: أخبر الناس ليتحلقوا عشرة عشرة، ثم قال لـ أنس: أعطهم، وقل لهم: ليسموا الله، وليأكلوا مما يليهم، قال أنس: فأعطيناهم الطعام، فأكلوا وشبعوا جمعياً، قال: فقال لي رسول الله: ارفعه يا أنس! فرفعتُه فلا أدري أكان عندما وضعتُه أكثر أم عندما رفعتُه، ولم يأكلوا منه شيئاً، وشبع الناس جمعياً معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم، هكذا كانت ولائمه- قال: فأكل الناس، ثم جلسوا وانتظرو عليه الصلاة والسلام حتى يخرج، فجلسوا يتحدثون ويتسامرون، وأعجبهم الجلوس، وامرأته قد أقبلت مختفية خلف الحائط، ووجهُها إليه، يقول: فخرج عليه الصلاة والسلام فرأى الناس جالسين، ثم رجع، ثم خرج، ثم رجع، ولَمْ يُرِدْ أن يخرجهم، وكأنه تضايق منهم، فأنزل الله جل وعلا: {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} [الأحزاب:53] أي: اخرجوا، وليذهب كل منكم إلى عمله وإلى منزله، فخرج الناس جميعاً. هكذا كانت وليمته عليه الصلاة والسلام، وهكذا كان التلطف فيها، وهكذا كانت سنته في الولائم. أقول هذا القول. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

مخالفات شرعية في الأعراس

مخالفات شرعية في الأعراس الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. أما بعد: نظرة سريعة إلى أعراسنا وولائمنا، وإلى الخيام التي توضَع وفيها ما فيها من مخالفات شرعية:- أولاً: بعض الناس يأتي بالفرق الشعبية، التي تعزف وتغني:- بل بعضهم يأتي لهم بأموال طائلة، لعل أموال الفرق تعدو أو تربو على أموال العرس كله، وعلى أموال الزواج كلها. ثانياً: بعضهم يضع مكبرات الصوت فوق البيوت؛ لتغني تلك المغنية:- وبعضهن -نعيذكم بالله من الفاجرات- تقول كلاماً بذيئاًَ، وبعضهن لا تستحي من بذاءة كلامها؛ فترفع الأصوات، ويسمعها الرجال، وتزعج البيوت، ويظن بعض الناس أنه من غناء النكاح، لا والله، إن هذا من المجاهرة بالمعصية وبالإثم، إنما العرس الذي هو على السنة: جوارٍ صغيرات يغنين، ويضربن بالدفوف بكلام حسن ليس فيه فحش ولا بذاءة، إما إن كُنَّ كبيرات فلا يسمعهن رجل مهما كان. ثالثاً: لننظر إلى أعراس النساء وما فيها من الملابس الفاضحة:- فإن المرأة تلبس في الأعراس من الملابس الفاضحة ما لا تلبس في غيرها، بل يحصل في كثير من الأعراس من الاختلاط ما لا يعلمه إلا الله، الزوج يدخل على زوجته أمام النساء، من يرى؟ يرى فلانة متعطرة متطيبة، وفلانة متبرجة، وفلانة كاشفة، وفلانة فيها ما فيها، ويدخل بين النساء، من الذي أباح له ذلك؟! ومن الذي سمح له بذلك؟! وأين الرجال الغيورون؟! أين الرجال الذين يمنعون نساءهم أن يدخل عليهن الرجال؟! يا عباد الله! قال عليه الصلاة والسلام لأصحابه: (إياكم والدخول على النساء، قالوا: يا رسول الله، أفرأيت الحمو؟! -الحمو أخو الزوج- قال: الحمو الموت) فما بالكم بالغريب؟! ما بالكم بابن العم؟! ما بالكم بذلك البعيد الذي يدخل في صالة النساء وهن متبرجات متعطرات؟! بل يحدث أكثر من هذا، لا يدخل الزوج فقط، بل يدخل معه بعض الرجال، إلى صالات النساء، وما أدراك ما فيها، بل إن المتحجبة فيهن من تغطي وجهها، وتستر نفسها، وترضى بالمنكر، نعم، ولقد أصابها شيء من الإثم، لكنه أهون من غيرها. رابعاً: ما يحدث في كثير من ولائم المسلمين في هذا الزمان من الإسراف ومما لا يعلمه إلا الله:- انظروا بعض الأعراس ماذا يحدث فيها من الأرز واللحوم والطعام المنتشر، بل تكاد براميل القمامة أن تمتلئ بهذا الطعام، الذي لو أُعطي قبيلة كاملة في بلد من الصومال أو غيرها لعله يشبعهم ويكفيهم، وهنا يُرمى في الزبالات والقمامات، لِمَ؟ ليقال: فلان كريم، وليقال: أولم بعشرين شاة، وليقال: نَحَرَ جَزُوراً، وليقال: سالت الدماء، وليقال: انظروا إلى كرمه، كل هذا افتخاراًَ وكبراً ومباهاة بين الناس: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر:8] نعم، والله الذي لا إله غيره سيسأل عن هذا الطعام حبة حبة، وطعاماً طعاماً، أليس منا رجل رشيد يأخذ هذا الطعام المتبقي ويوزعه على الفقراء؟! أليس منا رجل عاقل يقدِّر الطعام: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف:31]. خامساً: ما يحصل في كثير من الأعراس من وضع مَنَصَّة:- وما أدراك ما المنصة! تلك البدعة الجديدة، وتلك العادة الغريبة التي أُدخلت على بلاد المسلمين، حيث يجلس الرجل بجانب زوجته ليلاً؛ ليراه النساء، وليتمتعن بمشاهدته، ولينظرن إلى شكله. يا عبد الله! إن كنت من الصالحين فلا تسمح بهذا، وإن كنت من عباد الله المتورعين المتقين فلا تسمح بهذا. ؛ إن كان عرسك أو عرس غيرك فعليك بمنعه، كيف يجلس الرجل أمام النساء متزيناً متطيباً والنساء ينظرن إليه؟! بل وينظر إليهن، بل أزيدكم أن في بعض الأعراس -أعاذنا الله وإياكم منها- من يُقَبِّل زوجتَه أمام الناس، وهذا حصل في بلاد المسلمين، والأمر غريب، والأمر عجيب! من أين تأتينا هذه العادات؟! بل يأتي من يصوره مع زوجته في وضع غريب وفي عادة سيئة، والنساء ينظرن إليه: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:31]. سادساً: ما يحصل في بعض أعراس المسلمين من إسراف في إيجار بعض الصالات:- كصالات الفنادق، وما أدراك ما تلك الإيجارات! إيجارات غالية، يستطيع أن يستبدلها ببعض الصالات الرخيصة التي يوفر فيها الأموال والأكل؛ إنها السمعة! إنه الفخر! إنه الكبرياء! إنها المباهاة! لا بد أن يكون في أفخم الصالات وأغلاها، وأرقى أنواع الأطعمة، وأكثر الأموال، بل في بعض الأعراس ما تُرمى فيه الأموال رمياً، وتنثر على كثير من المغنيات، وعلى كثير من الفرق؛ ليقال: انظروا إلى فلان كريم، وفلان عنده أموال، وفلان لا يبالي بالأموال: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميلة، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش). أسمعتم بقصة قارون؟! ما الذي خسف به الأرض؟! إنه الفخر والكبرياء. سابعاً: ما يحصل في تلك الأعراس من لباس فيه حد يفوق الإسراف والله:- بل لا أعرف له اسماً في مصطلح الشرع، تلبس بعض النساء فستاناً وثوباً بعضه يفوق آلاف الدنانير، لتلبسه ليلة واحدة، ثم أين؟ ترميه ولا تلبسه مرة أخرى؛ لتقول بين النساء: ثوبي في ليلة العرس بألف دينار، وبعضه من ألف وخمسمائة دينار، وبعضه من ألفي دينار، ثم لتلبسه ليلة واحدة، ثم تضعه، وبعض أولئك ما يكون من أعلاه إلى أسفله الذهب والفضة والجواهر الغالية التي والله أظن كما يظن غيري أنه فوق حد الإسراف، بل تجاوز حد شكر النعمة. ثامناً: ما يحصل في أعراسنا من منكرات -وهذه بعضها، والمنكرات كثيرة- من تصوير للنساء بالأفلام والصورة الفوتوغرافية:- ثم إذا أنت تطبع هذه الصور، وما أدراك من يراها؟! ولا تستحي -يا عبد الله- أن تنتقل هذه الصور بين الناس، وبين الرجال، وبين أقارب الزوج وأصدقائه، وأقرباء الزوجة وأصدقائها، ثم ينظر الناس، من هذه؟ ومن تلك؟ بنت مَن هذه؟ وأخت مَن هذه؟ وزوجة مَن هذه؟ أتعلمون لِمَ؟ لأننا سمحنا شيئاً فشيئاً بهذه المنكرات حتى أصبحت الأعراض أرخص ما لدينا، بل أصبح كشف أعراضنا، واختلاط نسائنا بالرجال أهون ما لدينا. عباد الله: لنتق الله عزَّ وجلَّ، وليكن يوم العرس ويوم الوليمة يوم شكر لله، ولنعمة الله، لا يومَ كفر لله عزَّ وجلَّ، ولا للإسراف، ولا للزينة المحرمة والغناء المحرم، وليكن يوماً نذكر الله فيه ليبارك لنا في هذه الليلة، لا يوماً نكفر الله عزَّ وجلَّ فيه، فيلعن أصحاب تلك الليلة: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7]. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اللهم أعداءك أعداء الدين. اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.

التائبون

التائبون التائبون العائدون إلى الله كثير، ولهم قصص تذرف لسماعها العيون، وتدمي القلوب، وفي هذا الدرس المبارك قصص لشباب عادوا إلى الله، فلنسمعها ولنتعظ بها، فإن في قصصهم عبرة.

أب يتوب على يد ابنته

أب يتوب على يد ابنته بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: أيها الإخوة الكرام أيها الأخ المستمع! أوجه إليك هذا الحديث ليس من باب التسلية ولكن من باب العبرة، والإنسان يعتبر بمن حوله، والسعيد من اتعظ بغيره، ولا يقول الإنسان: أنا غير محتاج إلى هذا الكلام، فالحمد لله أنا مؤمن، فإن الله عزَّ وجلَّ أمر المؤمنين فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ} [التحريم:8] فالمؤمن يحتاج إلى توبة، والصادق يحتاج إلى توبة، وقائم الليل يحتاج إلى توبة، وصائم النهار يحتاج إلى توبة، وقارئ القرآن يحتاج إلى توبة، فكيف بالغافل عن ربه! وكيف بالذي ينظر إلى النساء يمنة ويسرة! وكيف بالذي يستمع إلى الأغاني! وكيف بمن يصر على المعاصي ويظن أن الله لا يراه! ألا يحتاج إلى توبة؟! اسمع إلى ما يقوله الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ} [التحريم:8] لمن تتوب؟ ولمن ترجع؟ ولمن تفر؟ ولمن تتوجه؟ إلى الله {تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً} [التحريم:8]. عبد الله! اسمع إلى بعض التائبين إلى الله جل وعلا، كيف قذف الله في قلوبهم التوبة؟ ولتكن أنت أحد هؤلاء الذين سطروا وذكروا وترحم الناس عليهم. اسمع -يا عبد الله- إلى هذا الرجل؛ كان مغرماً بالمعاصي والذنوب، لا يعرف من دنياه إلا اللهو والطرب والخنا والزنا، خرج في ليلة من الليالي بعد أن أكرمه الله بزوجة، ورزقه منها ببنت، وقد أكملت خمس سنين، ولكنه لم يعف نفسه، أباح له الله النكاح ولكنه ما عف فرجه، خرج في تلك الليلة يبحث عن صاحب سوء ورفقة فاجرة يخالطها في المعصية، ذهب وبحث عنهم فإذا بهم قد سبقوه وغادروا، تضايق وأصيب بالحزن والحسرة والضيق والندم، رجع إلى البيت فإذا به يعوض تلك السهرة وتلك المعصية بفيلم خليع. واسمع -يا عبد الله- إلى هذا النبأ العظيم، يجلس آخر الليل، أين زوجه؟ زوجته نائمة مع ابنتها الصغيرة في غرفة النوم، ويغلق على نفسه غرفة المجلس، وينظر إلى التلفاز وهو يشاهد فيلماً جنسياً خليعاً، أما يتقي الله؟! أما يستحيي من الله؟! لو قبض الله روحه في تلك الحالة تظنه كيف يبعث؟! يبعث على ما مات عليه، والله عزَّ وجلَّ في تلك اللحظات قد نزل إلى السماء الدنيا، وقد كان أقرب ما يكون من العباد، ويقول: (هل من داعٍ فأستجيب له؟ هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟) وهو غارق في شهواته، ومتلذذ بمعاصيه، ينظر إلى المحرمات، وفي لحظة من اللحظات يُفتح الباب، من الذي فتحه؟! ينظر! فإذا ابنته الصغيرة فتحت الباب، نظر إليها فأغلق التلفاز مسرعاً، فقالت له ابنته الصغيرة: يا أبي! اتق الله عيب عليك! اتق الله عيب عليك! فإذا به يرتجف وتهزه تلك الكلمات، ثم غادرت البنت إلى غرفة النوم ووقف على حاله، يفكر (يا أبي! عيب عليك اتق الله عيب عليك اتق الله) يقول: فظللت أفكر في تلك الكلمات في سكون وهدوء الليل حتى قطع صمت الليل صوت -أتعرف ما هذا الصوت؟ - الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، يقول: إنه صوت أذان الفجر، فإذا بي أذهب فأغتسل من الجنابة، وأذهب إلى المسجد متوجهاً إلى بيت الله، من الذي يشده؟ من الذي يدعوه؟ من الذي يهديه؟ إنه الله جل وعلا. يقول: دخلت في صلاة الفجر، وفي السجدة الأخيرة أجهشت بالبكاء، فلما سلَّم الإمام ظللت أبكي، فسألني من بجنبي: ما لك يا فلان تبكي؟ قال: إليك عني سبع سنوات ما سجدت لله سجدة -سبع سنوات لو قبض الله روحه تظنه كيف يكون مصيره؟! - يقول: وظللت أبكي حتى طلعت الشمس وأنا أقرأ القرآن. يقول: فذهبت إلى الدوام والعمل، ثم جلست مع صاحب لي في العمل وأخبرته بالقصة، فرجعت إلى البيت وصليت الظهر، فلما دخلت البيت فإذا الزوجة تبكي، قلت: سبحان الله! ما يبكيكِ؟! قالت: يا فلان! أدركنا، قلت: ما الخبر؟ قالت: ابنتك الصغيرة قد ماتت -ابنته الصغيرة التي قالت له: (عيب عليك اتق الله، عيب عليك اتق الله) - فيقول: أجهشت بالبكاء، واتصلت على صاحبي فصلينا العصر ودفناها، وأنا أقول للناس: والله إني لا أدفن ابنتي ولكنني أدفن النور الذي عرفت به طريق السعادة. قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135].

توبة شاب كان مغرما بالأغاني والطرب

توبة شاب كان مغرماً بالأغاني والطرب عبد الله! اسمع إلى هذه القصة الغريبة والنبأ العجيب: إنه شاب كان مغرماً بالأغاني والطرب، يحب مغنية حباً شديداً، حتى أولع بها، وكان له جار شيخ يعظه كل فترة، وينصحه في الله ويذكره، يقول الشيخ: وكان يبكي، ولكنه سرعان ما يعود إلى ماضيه ومعاصيه، قال: فظل على هذه الحالة فترة طويلة، انظر كيف إذا أراد الله أن يهدي إنساناً، كيف يسخر له أسباب الهداية، وفي يوم من الأيام نصحته فأطال في البكاء، وذكرته ووعظته فإذا به يزيد في البكاء، وعاهدني أن يتوب إلى الله، فجئته في اليوم الآخر فإذا به يأتي بأشرطة الأغاني أشرطة تلك الممثلة، فقال لي: يا فلان! خذ هذه الأشرطة وأحرقها، قلت له: ما الخبر؟ ما الذي جرى؟ قال: عندما نصحتني وذهبت إلى البيت، أخذت أفكر في كلامك، حتى نمت في الليل، ورأيت في المنام أنني كنت على شاطئ البحر، فإذا برجل يأتي ويقول: يا فلان! فقلت له: ما شأنك؟ فقال لي: أتعرف فلانة المطربة؟ قلت: نعم. قال: أتحبها؟ قلت: نعم أعشقها، قال: اذهب فإنها في المكان الفلاني، يقول: فركضت ركضاً سريعاً إلى تلك المطربة، فإذا برجل يأخذ بيدي، فالتفت فإذا برجل وسيم، وجهه كالقمر، وإذا به يقرأ عليَّ قوله تعالى: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك:22] وإذا به يردد الآية بترتيل، يقول: وأنا أرددها وأرتل معه، حتى استيقظت من نومي، فإذا بي أبكي وأردد هذه الآية بترتيل: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك:22] يقول: أرددها وأبكي، حتى دخلت أمي عليَّ ونظرت إلى حالي، فأخذت تبكي معي، وهي تبكي، وأنا أبكي معها وأنا أردد هذه الآية: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك:22]. يا معشر العاصين جود واسع عند الإله لمن يتوب ويندما يأ يها العبد المسيء إلى متى تفني زمانك في عسى ولربما بادر إلى مولاك يا من عمره قد ضاع في عصيانه وتصرما واسأله توفيقاً وعفواً ثم قل يا رب بصرني وزل عني العمى يقول عليه الصلاة والسلام: (لو أخطأتم حتى تبلغ خطاياكم السماء ثم تبتم لتاب الله عليكم). انظر إلى رحمة الله وإلى سعتها!

توبة شاب كان ماجنا فأصبح مجاهدا

توبة شاب كان ماجناً فأصبح مجاهداً اسمع إلى هذا الخبر: شاب أسرف على نفسه بالذنوب والمعاصي، لا يعرف في الدنيا إلا الذنوب، حتى الصلاة لا يصليها، رجل ضاقت به الدنيا بما رحبت يعاشر النساء، ويشرب الخمور، ويستمع إلى الأغاني، ولكنه ما حصل على السعادة. وسل وابحث في قلوب أولئك العصاة هل تجد فيها سعادة؟! لا والله، إذا جاء الليل وحل ضاقت عليهم الدنيا بما رحبت، قلوب مظلمة، وصدور موحشة، ووجوه قد أغشيت كقطع من الليل مظلما. يقول: ضاقت بي الدنيا بما رحبت، فسافرت إلى بلد آخر إلى أخي كي أزوره وكان أخوه صالحاً، فسلَّم عليه وقال له أخوه: ما الذي جاء بك؟ قال: أصبت بالضيق وبالضنك، ولا أدري إلى أين أذهب، فجئت أجلس عندك، فرحب به أخوه، وبات عنده تلك الليلة، ولم يقم لصلاة الفجر، فجاءه صاحب لأخيه، وكان في الديوانية، فأيقظه للصلاة، وقال له: يا فلان! قم لصلاة الفجر، فقال له: اذهب عني واغرب عن وجهي، فذهب وجلس يفكر في تلك الكلمات، حتى كان يقول له ذلك الرجل: يا فلان! جرب الصلاة، جرب الراحة في الصلاة لن تخسر شيئاً، جرب الركوع، والسجود، والقرآن، جرب أن تقف بين يدي الرب تبارك وتعالى، ألا تريد السعادة؟! ألا تريد الراحة؟! قال: فأخذت أفكر في تلك الكلمات، حتى اغتسلت من جنابة وتوضأت وذهبت إلى بيت الله، فأخذت أصلي، ثم بكيت ولم أشعر بالسعادة منذ زمن طويل، وما شعرت بها إلا لما خررت ساجداً لله جل وعلا، يقول: ثم مكثت يوماً عند أخي، ثم سافرت إلى أمي في البلد الذي كنت فيه، وأقبلت على أمي أبكي، تقول: ما شأنك؟ ما الذي غيرك؟ قلت لها: يا أماه! تبت إلى الله جل وعلا يا أماه! رجعت إلى الله يا أماه! أنبت إلى الله. يقول الذي يروي عنه الرواية: ومكث أياماً ثم جاء إلى أمه، فقال: يا أماه! أطلب منك طلباً، أرجو ألا تردي هذا الطلب، قالت: وما هو؟ قال: أريد أن أذهب إلى الجهاد في سبيل الله أريد أن أقتل شهيداً في سبيل الله. انظر -يا عبد الله- إلى سعادة الإيمان، وانظر إلى لذة الطاعة، وانظر إلى سعة الدنيا والآخرة يا أماه! أريد أن أذهب إلى الجهاد، فقالت أمه: يا بني! ما رددتك وأنت تسافر إلى المعصية فهل أردك وأنت تذهب إلى الطاعة؟! اذهب -يا بني- إلى أي مكان تشاء، فذهب إلى الجهاد في سبيل الله. وفي يوم جمعة وقد كان في المعركة معه أصحابه، جاءت طائرة فرمت تلك المتفجرات والصواريخ، فأصيب صاحبه -وليس هو- بشظية فحمله ليسعفه، فإذا بصاحبه تفيض روحه إلى الله جل وعلا، فحفر لصاحبه قبراً فأدخل صاحبه في القبر، ثم رفع يديه وقال: اللهم إني أسألك ألا تغرب عليَّ شمس هذا اليوم حتى تقبلني شهيداً عندك يا ألله، يقول: ثم أنزل صاحبه، فإذا بغارة فيتحرك من مكانه، فإذا بشظية تأتيه، فإذا بنفسه تفيض إلى بارئها: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30] نرجو له الشهادة. يا عبد الله! أتعلم كيف يبعث؟! يبعث وجرحه يثعب دماً اللون لون الدم، والريح ريح المسك، يدفن هكذا -لا يغسل ولا يكفن- في ثيابه ودمه، يدفن -يا عبد الله- حتى يبعث عند الله شهيداً في سبيل الله.

شاب يتوب بسبب زانية

شاب يتوب بسبب زانية عبد الله: اسمع إلى هذا الرجل كيف تاب؟ وكيف سخر الله عزَّ وجلَّ له التوبة؟ هذا رجل ذهب إلى بلد ليزني وليفعل الخنا والفجور، فإذا به يواعد عاهرة داعرة، فدخلت معه في الغرفة، فلما تزينت وتعطرت إذا بها تقول كلمة لا تقصدها ولم تردها، لكنها تلفظت بهذه الكلمة، فقالت: لا إله إلا الله، فسمع تلك الكلمات فارتجف، ثم تذكر ربه العظيم، فقال لها: يا فلانة! البسي ثيابك واخرجي من هذه الغرفة، قالت: ما شأنك؟ ما الذي جرى؟ ما الذي حدث؟ قال: لقد ذكرتيني بعظيم، ولم أكن لأعصي هذا العظيم: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً} [الفرقان:68 - 70]. لا تقل -يا عبد الله- لي ذنوب عظيمة، ولا تقل: إن معاصيّ لا يغفرها الله لي، ولا تقل: إن خطاياي قد بلغت عنان السماء، اسمع إذا كانت توبتك صادقة: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان:70] لا تسوف، ولا تقل: غداً، ولا تقل: لما أصل البيت، ولا تقل: إن شاء الله في رمضان، ولا تقل: لما أحج، ولا تقل: لما أتزوج: (إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرر). يا عبد الله! لعلها تأتيك منيتك وأنت تقود السيارة، أو وأنت نائم، أو وأنت تلهو وتلعب، لا تعلم -يا عبد الله- متى تأتيك منيتك.

تائب يحفظ القرآن في أربعة أشهر

تائب يحفظ القرآن في أربعة أشهر اسمع إلى هذا الرجل -جندي-: كان هذا الرجل عاصياً، لا يعرف حتى الصلاة، وفي يوم من الأيام كان واقفاً يحرس في مكان عمله، وكان يوجد بالقرب من مكان عمله مسجد، وقد زار ذلك المسجد داعية يدعو إلى الله جل وعلا، فإذا بهذا الداعية يتكلم في السماعات الخارجية، وهذا الرجل الجندي يسمع لهذه الموعظة، وإذا بهذا الواعظ يذكره بالموت، وبالجنة والنار، وبالمصير عند الله جل وعلا، ويذكره بيوم يقف فيه مع الله جل وعلا، يحاسبه ويذكره ويعظه، وإذا بهذا الرجل ينتبه ويتذكر ويتعظ ويخاف يوماً كان مقداره خمسين ألف سنة، وإذا به يبكي، ومن كثرة البكاء سقط على الأرض مغشياً عليه، فجاءه أصحابه يرفعونه فيقولون له: ما لك؟ ما شأنك؟ قال: اتركوني ودعوني، فإذا به يزداد في البكاء، ثم تركهم وذهب واغتسل من الجنابة، فإذا بدمعته تغسل ذنوبه، وإذا به يأتي إلى المسجد الذي كان يعظ فيه ذلك الداعية، فيصلي ركعتين ويستمع إلى حديثه وهو يبكي، وهو يتذكر ذنوبه ومعاصيه وخطاياه، فلما انتهى جلس مع ذلك الداعية، وأخبره عن شأنه، فقال له ذلك الداعية: أريد أن أجلس معك؟ فجلس معه، فإذا به يتذكر قوله جلَّ وعلا، والداعية يذكره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر:18] ولتنظر نفس ماذا قدمت للغد؟ نظر للنساء، أم استماع للأغاني، أم زنا وخنا، أم نوم عن صلوات، ماذا قدمت لله؟ إذا وقفت بين يديه، أتظن أن الله قد نسي، أو يغفل ولا يراك. يا عبد الله! انتبه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18] ثم أخذ يبكي يجهش بالبكاء، يقول: حتى ذهب إلى فراشه، أتعرف ما الذي جرى له؟! ختم القرآن كله في أربعة أشهر حفظاً؛ لأن الله قذف في قلبه الإيمان، وأناره به، وشرح صدره بالإسلام: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزمر:22]. عبد الله: ليلة كاملة ينام على الفراش لا يأتيه النوم، تعرف لماذا؟! {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:22] يا نفس توبي فإن الموت قد حان واعصي الهواء فالهوى لا زال فتاناً أما ترين المنايا كيف تلقطنا لقطاً فتلحق أخرانا بأولانا في كل يوم لنا ميت نشيعه نرى بمصرعه آثار موتانا يا نفس مالي وللأموال أتركها خلفي وأخرج من دنياي عريانا أبعد خمسين قد قضيتها لعباً قد آن أن تقصري قد آن قد آنا يقول عليه الصلاة والسلام: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له). أقبل على الله، ارجع إلى الله. هذه امرأة في السبي تلتفت يمنة ويسرة تبحث عن رضيع لها قد أضاعته، وتخيل أماً قد أضاعت رضيعها، والصحابة ينظرون، ثم وجدت رضيعها من بين الناس فأخذت رضيعها، ثم ضمته إلى صدرها، فألقمته ثديها، ثم بكت من شدة الفرح، فقال عليه الصلاة والسلام: (أتظنون هذه ملقية ولدها في النار؟ قالوا: لا يا رسول الله! قال: لله أرحم بعباده من هذه بولدها) {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأعراف:156] لمن؟ إن رحمت الله قريب ممن يا عبد الله؟ من المحسنين والتائبين والنادمين والراجعين والذين يعزمون على التوبة ويصدقون فيها.

أربعة شباب في المرقص

أربعة شباب في المرقص اسمع -يا عبد الله- إلى هؤلاء الأربعة من النفر، كانوا قد أذهبوا دنياهم من المعاصي والزنا والخنا، قرروا أن يسافروا إلى بلد يعاقرون النساء ويشربون الخمر، فإذا بهم يدخلون في مرقص. اسمع -يا عبد الله- ولعل الله ينقذك كما أنقذ بعضهم، ثم نظروا فإذا بمرقص فخم قرروا أن يدخلوه في تلك الليلة، أتعرف من ينتظرهم؟! إن ملك الموت قد سبقهم وينتظرهم، دخلوا في ذلك المرقص، وفي جوف الليل الآخر والرب يرى، والله عزَّ وجلَّ لا تخفى عليه خافية، إذا بهم في سكرهم ولهوهم وطربهم وكل واحد منهم قد عانق امرأة يراقصها ويقبلها، وفي تلك الأثناء إذا بأحد من هؤلاء الأربعة يسقط على الأرض مغشياً عليه، فأقبلوا عليه وفزعوا ونظروا إليه فقال أحدهم له: يا فلان! قل: لا إله إلا الله، يا فلان! قل: لا إله إلا الله، وإذا به ينتبه فقال له: زدني كأس الخمر وتعالي يا فلانة، فإذا به يردد تلك الكلمات وخرجت نفسه إلى الله جل وعلا. يلقى الله على تلك الكلمات، ويبعث بين الخلائق وهو يقول هذه الكلمات وهو سكران ويريد أن يعانق النساء ويعاشرهن. فنظر الثلاثة وأجهشوا بالبكاء وأصيبوا برعب شديد، ثم خرجوا من المرقص كل منهم قد قرر التوبة إلى الله جل وعلا، أتعرف كيف رجعوا إلى ديارهم؟ كان البعض يظن أنهم سوف يرجعون بالهدايا وبما يشترونه لأهليهم وأقربائهم! لا والله، رجعوا بجثة صاحبهم، في المطار كشفوا عن وجهه يفتشون الجثة، يقول أحدهم: لما نظر إلى تلك الجثة من سوادها وقبحها وظلامها خرَّ مغشياً عليه، ولكنهم رجعوا وقد تابوا إلى الله جل وعلا: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135]. امرأة تأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقول: (يا رسول الله! زنيت) من منا يستطيعها؟ ومن منا يقوى عليها؟ أتعرف ما المصير وما الحكم؟ إنه الرجم حتى الموت بالحجارة. فقالت: (يا رسول الله! زنيت، قال: لعلك فعلت كذا وكذا، قالت: لا يا رسول الله زنيت، قال: اذهبي حتى تضعي) ذهبت أشهراً ثم رجعت، فقالت: (يا رسول الله! هذا ولدي، أنا التي أتيتك قبل أشهر وقلت لك: قد زينت وهذا ولدي، فقال عليه الصلاة والسلام -أراد أن تستر على نفسها-: ارجعي حتى تفطميه) فذهبت ورجعت بعد أشهر طويلة وفي يدها كسرة خبز تطعم ولدها، فقالت: (يا رسول الله! هاهو ذا قد فطمته يا رسول الله فطهرني) لا تتحمل الذنب والمعصية، لا تتحمل أن تلقى الله بهذا الجرم العظيم، تريد أن يطهرها الله ولو كان بالقتل ولو كان بالموت (فأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك الولد فأعطاه لأحد الصحابة، ثم أمر بحفرة فحفرت، ثم وضعت في تلك الحفرة، وأمر الصحابة أن يرجموها، فرجموها، فإذا بأحد الصحابة يقع عليه شيء من الدم، فتكلم عليها -وكأنه سبها- فقال عليه الصلاة والسلام: مه، مه، لقد تابت توبة لو وزعت على أهل المدينة لوسعتهم). إلهي لا تعذبني فإني مقر بالذي قد كان مني فكم من زلة لي في البرايا وأنت علي ذو فضل ومن إذا فكرت في ندمي عليها عضدت أناملي وقرعت سني ومالي حيلة إلا رجائي وعفوك إن عفوت وحسن ظني يظن الناس بي خيراً وإني لشر الناس إن لم تعف عني عبد الله: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: يابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي. يابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك. يابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة) ما الذي يمنعك عن الله؟ ما الذي يصدك عن سبيل الله؟ أقبل على الله يا عبد الله، اطرح بين يديه، اسجد له ولتدمع العين، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله) {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف:16].

شاب يتوب قبل وفاته بإسبوعين

شاب يتوب قبل وفاته بإسبوعين أختم حديثي معك -يا عبد الله- بقصة شاب كان مع فتاة يعاشرها ويعاقرها، إذا بهذا الشاب يأتيه من ينصحه ويذكره ويعظه، جاءه في الشارع فوجده معها، فأتى لينصحه ولينصحها فإذا بالفتاة تهرب، ثم يقف أمام هذا الشاب، يقول: وأخذت أنصحه وأذكره في الله جلَّ وعلا وأعظه، وأذكره بالموت وبالساعة وأن هولها عظيم، يقول: وإذا بحديثي لا ينتهي إلا والعينان تدمعان، وقد ذرفت عيناه بالدموع. فلما انتهيت من الحديث أخذت رقم هاتفه وأعطيته رقمي، ثم ذهبت وذهب، وبعد أسبوعين وأنا أقلب أوراقي وإذا بي أقرأ رقمه ورقم هاتفه فاتصلت عليه وكان في الصباح، فسلمت عليه فقلت له: يا فلان! أتعرفني؟ قال: وكيف لا أعرف الصوت الذي كان سبباً لهدايتي، فقلت: الحمد لله! قلت: يا فلان! كيف حالك؟ قال: منذ تلك الكلمات وأنا بخير وبسعادة وأنا أصلي وأذكر الله جل وعلا، فقلت: لا بد أن أزورك اليوم، قال: حياك الله، قلت: سوف آتيك بعد العصر، وعندما صليت العصر جاءني ضيوف فأخروني عن الموعد، فلما جاء الليل قلت: لا بد أن آتيه ولو تأخرت في الموعد، فأتيته في الليل وطرقت عليه الباب، فخرج شيخ كبير فقلت له: أين فلان؟ قال: لقد دفناه في المقبرة، قال: لا كيف وقد كلمته اليوم في الصباح، قال: إنه صلى الظهر ثم نام في القيلولة، وقال: أيقظوني لصلاة العصر، فجئنا نوقظه فإذا هو جثة هامدة، وإذا نفسه قد فاضت إلى بارئها، قال: فبكيت، ثم قال لي: ومن أنت؟ قلت: تعرفت على ابنك قبل أسبوعين، قال: أنت الذي كلمته؟ قال: نعم أنا. يقول: دعني أقبل رأسك، قلت: لا. قال: دعني أقبل الرأس الذي أنقذ ابني من النار، يقول: فقبل رأسي: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} [آل عمران:193].

شروط التوبة

شروط التوبة عبد الله: إن عزمت وقررت التوبة وإذا أردت الإنابة فعليك بثلاثة أمور:

الندم على المعصية

الندم على المعصية أولها: اندم على ما مضى، من الليالي الحمراء، والأفعال القبيحة، واندم على ذنوبك العظيمة يا عبد الله، ولينكسر القلب، ولتكن الحسرة صادقة وخارجة من قلبك.

الإقلاع عن المعصية

الإقلاع عن المعصية ثانياً: يا عبد الله! أقلع عن جميع الذنوب والمعاصي كيف تقلع؟ أن تكسر تلك الأشرطة، وأن تفارق تلك المجالس، وأن تحرق تلك الأوراق، وأن تمزق تلك الصور، أقلع ولتكن التوبة صادقة.

العزم على عدم العودة إلى المعاصي

العزم على عدم العودة إلى المعاصي ثالثاً: اعزم من قلبك عزماً صادقاً ألا ترجع إلى الذنوب مرة أخرى، فإن غلبتك نفسك وسرت مع الصالحين، ومشيت في طاعة الله، وغلبتك نفسك وأذنبت مرة أخرى، فعد فإن الله كان للأوابين غفوراً، وكلما غلبتك نفسك وعدت إلى المعصية فعد، فإن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها. وإياك إياك أن تصر على المعصية، وإياك إياك أن تعزم في قلبك أنك تعود إليها. عبد الله! لتكن التوبة صادقة، وليكن هذا الكلام الذي تسمعه مني هو بداية ميلاد جديد وحياة جديدة بينك وبين الله جلَّ وعلا. أقول هذا القول، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

التوحيد

التوحيد التوحيد أعظم القضايا، وهو غاية كل الأنبياء، ومفتاح الجنة، فلا يدخلها أحد إلا به، والفشل فيه معناه دخول النار خالداً مخلداً. ولعظم هذه القضية المصيرية تحدث الشيخ عنها، مستعرضاً اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بغرس شجرة التوحيد في النفوس واجتثاث الشرك. كما تطرق إلى أسلوب القرآن في عرض الدعوة إلى التوحيد والتحذير من الشرك، ثم ختم حديثه ببيان معنى شهادة أن محمداً رسول الله.

بيان منزلة التوحيد

بيان منزلة التوحيد إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71] أما بعد: أيها الإخوة الكرام: معنا في هذه الخطبة قضية عظمى من أجلها خلق الله الخليقة، وأنزل الكتب وأرسل الرسل القضية العظيمة التي لا يقبل الله عز وجل بخلافها صرفاً ولا عدلاً القضية التي بها يدخل الناس الجنة وينجون من النار؛ إنها قضية التوحيد، قال الله جل وعلا: {وما أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] وما أرسل الله رسولاً وما أنزل كتاباً إلا لتقرير هذه القضية؛ قضية التوحيد في الأمة، أن يصرف الناس عبادتهم لله جل وعلا: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة:5] إنها القضية الكبرى التي شهد الله بها: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ} [آل عمران:18] شهد الله جل وعلا بأنه لا إله إلا هو، وهو أول أمر معلوم بالضرورة: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد:19] وبها يخلق الناس ويخرجون من أرحام أمهاتهم، وهي الفطرة التي خلق الله الناس عليها، فما من مولود يولد إلا يولد على الفطرة يولد على أنه لا إله إلا الله، ويطلب منه أن يموت عليها (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة) وهو بين هذا وهذا يعيش عليها {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162].

اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بغرس التوحيد ومحاربة الشرك

اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بغرس التوحيد ومحاربة الشرك يأتي عليه الصلاة والسلام في الناس؛ في أمة تعبد الأصنام وتذبح للأصنام، وتنذر لها في أمة تعبد غير الله ومع الله جل وعلا، فيذبحون ويقولون: هذا لله -جل وعلا- وهذا لشركائنا؛ وهذا شرك بالله جل وعلا، يأتون فيقولون وهم يحجون إلى بيت الله: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك، يشركون بالله، فأخبرهم أن الله واحد، فسألوه عن ربه؟ فقال عليه الصلاة والسلام: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4] فهو بهذه السورة التي تعدل ثلث القرآن؛ رد على المشركين واليهود والنصارى، بسورة قصيرة يحفظها عموم المسلمين. {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] صدع بها بلال، فقال: أحد أحد، فجر على الرمضاء وهو يقول: أحد أحد لا شريك له. فأخذ يخبرهم أن الإله واحد، فانطلقوا في الناس يتعجبون! {أجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] هذا أمر عجيب، وهذا أمر غريب!! أتى إلى أحدهم وهو من عبدة الأصنام، فقال له: (كم إله تعبد؟ قال: سبعة، قال: ومن هم؟ قال: ستة في الأرض وواحد في السماء، قال: من تجعله لرغبك ورهبك؟ قال: الذي في السماء، قال: إذاً اترك الذين في الأرض واعبد الذي في السماء، قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله). أتى لتقرير هذه القضية؛ أول قضية بعث بها، وبعث إليها، ومات عليها عليه الصلاة والسلام، فقبل أن يموت كان يخاطب أصحابه فيقول: (قاتل الله اليهود والنصارى! اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) يحارب الشرك وهو في آخر حياته. ويروى عنه: (أنه رأى رجلاً على كتفه خيطاً، فقال: ما هذا؟ قال: يا رسول الله! من الواهنة -أمره مشعوذ أو عراف أن يربط هذا الخيط على يده حتى يتشافى من مرضه- فقطعه عليه الصلاة والسلام، وقال: انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهناً) لا يرضى بالشرك، ولا يرضى أن يمس جناب التوحيد بشيء عليه الصلاة والسلام. سمع بعض الصحابة يقول له: ما شاء الله وشئت، وهو أعظم الناس، وأشرف الناس، وأحب الناس، قالوا له: (ما شاء الله وشئت قال: أجعلتني لله نداً! -جعلتني لله شريكاً- قل: ما شاء الله وحده). وكان يفزع بها فيقول: إني لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعاً، لا أملك لنفسي ضراً ولا رشداً: {قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ} [الجن:23] إنه التوحيد الذي ما كان يرضى عليه الصلاة والسلام أن يمس بسوء.

التوحيد في القرآن الكريم

التوحيد في القرآن الكريم اسمع إليه يتلو آيات الله في التوحيد، والقرآن كله توحيد، وكله يحمي جناب التوحيد، ويدل على التوحيد؛ إما ربوبية، أو ألوهية، أو في أسماء الله وصفاته، قال الله جل وعلا: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأحقاف:4] انظروا إليهم! أصنام كهان عرافين أولياء وسادة {إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ} [الزمر:38] إن أرادك الله بمرض، أو بحادث سيارة، أو بمصيبة، أو بفقر، أو بموت، هل يدفع السيد أو الولي عنك ذلك؟ أم تدفع هذه التي تعلقها في السيارة تدفع عنك هذا الحادث؟ أم ذبحك للشاة وتلطيخ الدم بجدران البيت أو السيارة يدفع عنك ذلك؟ كلا والله! {إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} [الزمر:38] لو أرادك الله بنعمة أو رحمة هل يمنعك هذا السيد، أو هذا القبر، أو ذلك الخيط، أو ذلك المشرف، أو هذا الساحر، أو الكاهن، هل يمنع عنك هذه الرحمة؟ إن الهدهد وهو مخلوق من المخلوقات لم يميزه الله بعقل كما ميز الإنسان، اسمع إليه لما رأى الشرك كيف استنكره، وكيف عظمه، ولم يرض به، جاء إلى سليمان عليه السلام يقول: {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل:23] اسمع إليه كيف يستنكر: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [النمل:23] يا سليمان! إن النبأ عظيم، وإن الخطب جلل، وإن المصيبة كبرى، وجدت أناساً خلقهم الله لعبادته يسجدون للشمس من دون الله، إنها جريمة، حرم الله بسببها الدخول إلى الجنة: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} [المائدة:72]. إن المسلم الموحد مهما عصى الله فيما دون الشرك فإن مآله الجنة يدخلها برحمة الله، أما لو عبد الله طوال حياته وأتى بشرك واحد أكبر فإن الله قد حرم عليه الجنة، فلو سجد لله طول عمره ثم دعا غير الله، فقال: يا فلان أنقذني، أو المدد يا فلان؛ فإنه بهذا قد حبط عمله: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65] هل تعرف من يخاطب الله؟ إنه يخاطب أعبد الناس إمام الموحدين سيد البشر، يقول: لئن أشركت يا محمد {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65] الجهاد، والصلاة، والصدقات، والذكر؛ كله يحبط، ويجعلها الله هباءً منثوراً أتعرف لم يا محمد؟ بشرك واحد (من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه). إن لقمان حرص على ابنه أكبر الحرص من هذه القضية؛ فجلس مع ابنه الصغير وهو صغير فأخذ يعلمه، لأنها أول العلوم وأول ما يبدأ به الداعية إلى الله، العقيدة أولاً وأخيراً: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]. نعم! لو عصيت الله واستغفرته غفر الله لك، بل حتى لو لم تستغفره ومت على التوحيد فإنك إن دخلت النار فإنك لن تخلد فيها، لكن الشرك {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]. ألم تسمع أن بعض المسلمين يأتي إلى بيوت الله فيشهد الشهادتين، ويسجد لله، ويعبد الله، ثم إذا خرج من بيت الله ذهب بابنه أو بزوجته أو بمريضه إلى كاهن أو عراف: (من أتى كاهناً أو عرافاً فسأله عن شيء فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد). أسمعت بهم! يؤمنون بالله لكنهم مشركون: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106].

خطورة الشرك

خطورة الشرك عباد الله: إنها قضية عظيمة حري بنا أن نتفحص أنفسنا بها، وأن نحاسب أنفسنا أين نحن من توحيد الله؟ أين نحن من الإيمان بالله؟ {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] لما نزلت هذه الآية قال الصحابة: (وأينا لم يظلم نفسه يا رسول الله! قال: ليس هو الذي تذهبون إليه، ألم تسمعوا إلى قول الله: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]) هذا هو الظلم الذي لا يقبل الله به صرفاً ولا عدلاً، لو أتيته بقراب الأرض ذهباً وفضة وافتديت به لله لا يقبل الله ذلك؛ لأن الله كتب أنه من أشرك به فقد أحبط عمله. التوحيد -يا عباد الله- هو أن تصرف جميع أنواع العبادة لله. ومن الشرك ما يكون أصغر لا يخرج صاحبه من الملة، لكن صاحبه قد يقع في الشرك الأكبر وهو لا يدري، ومن الشرك الأصغر: الرياء، وهو أن تصلي لله -مثلاً- ولكن تريد مع الله غيره، فإذا جئت إلى المسجد وعلمت أن من الناس من ينظر إليك حسنت الصلاة، وأطلتها وجملتها؛ هذا من الشرك بالله، لا يقبله الله جل وعلا، وإن كان أصغر لكنه ربما يؤدي بك إلى الشرك الأكبر الذي يخرج صاحبه من الملة، أو إذا رأى بعض الناس جلوساً أخرج من جيبه مالاً ليتصدق، كأنه يقول: انظروا إليَّ، فهذا لم يعبد الله في هذه العبادة، بل عبد غير الله جل وعلا، فلنحذر من الرياء يا عباد الله! {الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون:6 - 7] توعدهم الله بالويل.

أهمية تعلم التوحيد

أهمية تعلم التوحيد عباد الله! لنسلَم توحيدنا من الشرك، ونخلَصه من الكفر، وكل منا يتعلم التوحيد، ولا يظن أحدنا أنه سيظل على الفطرة إلى أن يموت، انظروا في الناس لتعلموا أن من الناس من إذا مرض أو افتقر لا يلتجئ إلى الله، وإذا أصابته مصيبة توجه إلى غير الله ودعا غيره، لنعلم أن بعض الناس وإن ادعى الإيمان فإنه مشرك بالله جل وعلا. أقول: إن هذه القضية على خطورتها يجهلها كثير من الناس، وإن كان البعض يظن أنها معلومة، ولكن الله عز وجل لعله عافاه، فإن كثيراً من المسلمين في هذا الزمان -ونحمد الله أن سلم مجتمعاتنا- يجهلون التوحيد، يظن أن التوحيد هو شد الرحال إلى قبرٍ من القبور في بلد من البلاد، يطلب منه أن يأتي له بالولد، أو يرزقه المال، أو يشفي مريضاً له، وإن كثيراً من الناس إذا مرض له مريضاً ذهب به إلى المشعوذ أو الكاهن ليعطيه ورقات، أو خيط، أو كيس لا يدري ما فيه، أو يأمره بذبح شاة لونها كذا وكذا لا يذكر اسم الله عليها، أو يأمره بكذا وكذا؛ كل هذا -يا عباد الله- من الشرك! وبعضه من الشرك الأكبر الذي لا يقبل الله به ديناً ولا يدخل صاحبه الجنة.

معنى شهادة أن محمدا رسول الله

معنى شهادة أن محمداً رسول الله أما القضية الثانية يا عباد الله! فهي: شهادة أن محمداً رسول الله، محمد عليه الصلاة والسلام هو الرسول الذي لا طريق إلى الجنة إلا من طريقه، ولا يعرف الله إلا من خلاله، ومعنى شهادة أن محمداً رسول الله: أن نطيعه فيما أمر، ونجتنب ما نهى عنه وزجر، ونصدقه في كل ما أخبر، ولا يعبد الله إلا بما شرع عليه الصلاة والسلام، دين محمد عليه الصلاة والسلام كامل، ففي حجة الوداع أنزل الله عليه قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] فقام في الناس يبلغهم فقال: (ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم. فقال: اللهم فاشهد! اللهم فاشهد! اللهم فاشهد!) يشهد الله على أن الدين كامل لا يحتاج إلى إضافة أو تصحيح، فمن زاد في الدين فقد قال في النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) فمن صلى صلاة لم يشرعها الله ولا رسوله، أو أتى بذكر أو بعبادة مبتدعة فإن (كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار). عباد الله! كل دين جديد، وكل عبادة لم يأذن بها عليه الصلاة والسلام فاعلم أن صاحبها على خطر. قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله قد حجب التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدع بدعته) فلا ينفع مع البدعة أن تقول: أستغفر الله، حتى تدعها وتتركها فيتوب الله عز وجل عليك. عباد الله: إن البدعة أمرها خطير، ولهذا قال العلماء: إنها شر من المعصية، ولأن البدعة بريد إلى الكفر والشرك بالله، حتى قال الإمام مالك: "من زعم أن في الدين بدعة حسنة فقد زعم أن محمداً خائن". أي من قال: هذه بدعة لكنها حسنة، فقل له: كلامك يستلزم أن محمداً عليه الصلاة والسلام قد خان الرسالة، كيف تكون حسنة ولم يخبرنا بها عليه الصلاة والسلام؟! ولم يبلغنا إياها؟! وهو الذي قال: (ما تركت من شيء يقربكم إلى الجنة إلا أمرتكم به) وقال: (تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك) ولهذا يأتي يوم القيامة على الحوض يرد مع الناس فتأتي الملائكة تدفع بعضهم وتزيح بعضهم، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أصحابي أصحابي! فيقولون: إنك لا تدري ماذا أحدثوا بعدك) لقد زادوا وشرعوا وابتدعوا في دين الله. عباد الله: إن القضية الكبرى؛ قضية أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والمسألة شديدة، والمسألة كبيرة؛ لأن بها يدخل الناس الجنة وينجون من النار، فعلينا أن نتعلم ما معنى لا إله إلا الله؟ وما شروطها؟ وأركانها؟ ومقتضياتها؟ ونتعلم معنى أن محمداً رسول الله؟ ليست القضية علم فقط بل لابد من تطبيق، فالذي يعلم أنه لا إله إلا الله لا يلتجئ إلى غير الله، ولا يستعين فيما لا يقدر عليه غير الله إلا بالله، ولا يستغيث إلا بالله، ولا يدعو غير الله. والذي يشهد أن محمداً رسول الله يحتاج إلى واقع عملي، لا يزيد في دين الله، ويلتزم بسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، وبهذا يكون قد أتى بمعنى الشهادتين علماً وعملاً، اعتقاداً وتطبيقاً، نسأل الله عز وجل أن يميتنا عليها. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اللهم أعداء الدين. اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات.

الدار الآخرة

الدار الآخرة إن الله سبحانه وتعالى قد أنذر عباده المؤمنين ما سيكون في الدار الآخرة من عذاب وحساب وهول عظيم، وقد وصف الله الدار الآخرة وما فيها من نعيم مقيم، أو عذاب أليم، وجاءت الأحاديث الكثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تصور الرحلة والانتقال من دار الدنيا إلى دار الآخرة، فقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الموت وحال روح المؤمن أو الكافر عند خروجها، وعذاب القبر ونعيمه، والحساب ووقوف الناس على أرض المحشر للقضاء والفصل بينهم، ووصف الجنة، والنار وغير ذلك.

حال الإنسان في الحياة البرزخية

حال الإنسان في الحياة البرزخية الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين: أما بعد: اليوم الآخر كلمة طويلة عريضة، ولعل من اسمها يتبين أنه لا يوم بعده، وتبدأ أول مشاهد هذا اليوم بحادثة مثل هذه الحوادث، فاستمع إليها يرحمك الله، قد يكون هذا الرجل يبدأ يومه وهو على الفراش طريحاً، وقد أحس بالروح تخرج، ولعله بدأ يحس بالنزع، وهذا هو النزع الأخير، ولربما تكون زوجه بجانبه، وأولاده عنده، ولربما بكت البنت وسقطت على حضنه، فقالت: أبي، ما لك لا تجيب؟ ولعل زوجه تنوح، وأبوه ينادي بالطبيب، وأخوه يناديه، ولعل الطبيب قد جاء، وحاول أن يرجع الروح إلى صاحبها، ولكن: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} [القيامة:26] {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} [القيامة:27 - 28] ظن: أي علم وتيقن أنه الفراق، فراق ماذا؟ فراق المنصب فراق الدنيا فراق السيارة فراق الزوجة فراق الأهل فراق الأولاد والأحباب فراق البيت والأثاث فراق الأصحاب فراق الدنيا بما فيها: {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} [القيامة:28] ثم لما مات وخرجت الروح من صاحبها ومن الجسد حمل على الأكتاف ولف في الكفن: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} [القيامة:29] إلى أين؟ {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:30] هنا تبدأ أول مشاهد اليوم الآخر، ولعل هذه ميزة حسنة اسمع إلى تلك الميزة التي بدأ فيها ذلك الإنسان يومه الآخر بأسوأ ما يكون، واسمع إليها لا ندري كيف تكون نهايتنا؟ هذا رجل -أجلكم الله- كان في هذه البلاد لا يحصل على ما يريد، فسافر إلى دولة إباحية تعطيه كلما يشتهي، فجاء إلى أحد الفنادق، فحجز له غرفة، ثم طلب زجاجة الخمر -أم الخبائث، أم الفواحش، الخمر الرجس النجس، ذلك المشروب الذي حرمه الله جل وعلا- فأخذ يشرب ثم يشرب ثم يشرب بعد حرمان طويل، حتى جاء -أجلكم الله- إلى غرفة دورة المياه ليخرج ما شربه؛ لأنه أحس بالغثيان والإعياء، وبعد ثلاثة أيام طرقوا عليه الباب فلم يفتح، فكسروا عليه الباب، فإذا -أجلكم الله- رأسه في مصرف المجاري، وقد زهقت نفسه قبل ثلاثة أيام، وأنتن جسده ورأسه في مصرف المجاري: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99 - 100] يا رب! ساعة فقط يا رب! ساعتين فقط، أصلي جميع الصلوات التي فاتت أرجع الأموال التي أخذتها من الناس ظلماً إلى أهلها أتوب من جميع الذنوب والمعاصي، فيرد الله عليه: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ} [المؤمنون:100] أي: كلمة يقولها طول عمره لكنه كاذبٌ فيها، يذكر هذا الرجل أنه لما أصيب بمصيبة بكى، فقال: يا رب! لئن كشفت عني هذه المصيبة أتوب وأصلي والتزم دينك، فلما انكشفت عنه المصيبة رجع كما كان، أراد أن يفضح، رجع إلى ربه وتوسل إليه: يا رب! لئن سترت علي لأفعلن وأفعلن، ستر الله عليه فرجع إلى حاله: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100]. رجل أصيب بمرضٍ شديد، فقال لأبنائه: احملوني إلى المسجد، سمع المؤذن قالوا له: يا أبتاه، أنت رجلٌ مريض وقد أعذرك الله، صل في البيت، قال: لا إله إلا الله، أسمع حي على الصلاة ولا أجيب، أسمع حي على الفلاح ولا أجيب، احملوني إلى المسجد، فحملوه إلى بيت الله جل وعلا، وهو رجل كبير في السن، وأوقف في الصلاة، فلما صلى مع الإمام وكان في السجدة الأخيرة قاموا من الصلاة فإذا نفسه قد فاضت إلى بارئها، وقد ختم الله جل وعلا له في سجوده بين يديه هل يستوي هذا وذاك؟! {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:35 - 36] هل يجعل الله ذلك الذي يبعث وهو ساجد، وذلك الذي يبعث وهو ملبي، وذلك الذي يبعث وهو صائم، وذلك الذي يبعث وهو يطيع ربه يقرأ القرآن، وذلك الذي يبعث وهو بين يديها، أو عند فرجها أجلكم الله، أو يبعث وهو سكران يشرب الخمر، أو يبعث وهو تاركٌ للصلاة، هل يستوي ذلك وذاك؟! {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28] نعم! هم في الدنيا سواء، هذا في كرسي جوار هذا، ويحصل على المال مثل هذا: {كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} [الإسراء:20] ولكن اليوم الآخر هو الفصل، والموعد، وهو الذي يفرق الله فيه بين الناس.

حال خروج الروح وشدة النزع

حال خروج الروح وشدة النزع يبدأ ذلك اليوم -كما أخبرناكم- بذلك المشهد الكئيب، ولعله يكون وما مات بحادث سيارة، أو لعله يكون وهو نائم، مسكين لا يشعر! ينام فإذا هي النومة الأخيرة لا يستيقظ بعدها، ما أدركته ولا تداركه، وكان دائماً يُقال له: يا فلان! تب، يا فلان! استقيم، يا فلان! صل، الصلاة عمود الإسلام، يقول: إن شاء الله من الغد إن شاء الله من رمضان القادم، بعد رمضان إن شاء الله من الحج بعد الحج إن شاء الله عندما أتزوج بعد الزواج إن شاء الله لما أفعل وأفعل فإذا به لا يتدارك نفسه إلا وملك الموت عند رأسه، فيقول لها: يأ يتها النفس الخبيثة -اسمع إلى تلك الكلمات والناس من حولك يبكون- اخرجي -إلى أين؟ - إلى سخطٍ من الله وغضبه، الله جل وعلا قد غضب عليه كيف يخرج؟ الروح تتفرق في الجسد، لا تستطيع الخروج، ولا تتحمل أن تخرج، كيف تخرج إلى سخطٍ من الله وغضب؟ فيبدأ ملك الموت ينزع: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً} [النازعات:1 - 2] فتتوزع الروح في الجسد، فينتزعها ملك الموت كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، تعرف كيف ينزع الروح؟ ينزعها بقوة حتى تتقطع العروق والمفاصل. ألم تر رجلاً يحتضر؟ ألم تر بعضهم كيف يصرخ؟ ألم تسمع بهم كيف ينوحون؟ إن بعضهم يتغير لون وجهه، يزرق وتزرق عينه من شدة الألم وذلك التعب -لا إله إلا الله- (إن للموت سكرات) لا يشعر الإنسان بمن حوله، ينزع تلك الروح فإذا نزعت خرجت كأنتن ريحٍ وجدت على وجه هذه الأرض، رائحة -والله- لو شمها من حوله لما استطاع أن يقف بجانبه، كأنتن ريح جيفة على وجه الأرض. أين ذلك الوجه الجميل؟ أين تلك الرائحة العطرة؟ أين ذلك الشكل الحسن؟ كأنتن جيفة على وجه الأرض، يحملها ملك الموت. أتعرف -أخي الكريم- أن هذا الرجل وهو على الفراش يرى ملائكة على مد البصر يرى وجوههم وجوه ملائكة العذاب، مد بصره قبل أن تخرج الروح؟ عرف المصير، وعرف أين هو المستقر من يأخذ الروح؟ كل ملك يدفعها إلى من عنده، لا يريد أن يوصلها إلى السماء، فإذا أتت إلى سماء الدنيا تسألهم ملائكة السماء: روح من هذه الخبيثة؟ فيقولون: روح فلان بن فلان بأقبح اسمٍ له على وجه الأرض، ثم لا تفتح لهم أبواب السماء: {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} [الأعراف:40] نعوذ بالله. أخي الكريم! اسأل الله العافية، إذا لم تفتح لك أبواب السماء فإنه لا جنة بعدها: {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} [الأعراف:40] أين يُذهب بها؟ تقذف من السماء إلى الأرض، والأمر حقيقة لا جدال فيها: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق:13 - 14] لا تتحمل أن تسقط من أعلى بناية كيف لو تسقط من السماء الدنيا؟ تطرح روحه إلى الأرض طرحاً، تقذف من السماء. عبد الله! أتعرف أين تأتي هذه الروح؟ تأتي وقد حملت على الأكتاف وهي تصيح، تقول لمن يحملها على الأكتاف: يا ويلها أين تذهبون بها؟ {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ * فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة:30 - 32] ماذا يتذكر في الدنيا؟ لياليه أين قضاها؟ أيامه هل كان يستيقظ على صلاة الفجر، أم على ذكرها وحبها؟ هل كان يذكر بلسانه الله جل وعلا، أم كانت الأغاني والأفلام والمطربين والمطربات؟ ماذا كان يقرأ؟ هل كان يقرأ كتاب الله أم المجلات الخليعة الماجنة؟ ماذا كان يسمع؟ هل هو ذكر الله والكلام العطر والطيب والنزيه، أم كان يسمع ويتكلم في أعراض الناس، وكان يتكلم في الفحش والبذاءة؟

سؤال الميت في القبر

سؤال الميت في القبر عبد الله! هو على الأكتاف الآن محمول، فلا توضع روحه في تلك الحفرة المظلمة الضيقة -التي لا يستطيع أحدنا أن يتحمل منظرها كيف بمن يعيش فيها- إلا وعينه قد فتحت، وزال القطن من على عينيه، ويستمع إلى الناس فوق القبر، لقد دفنوه ولربما يرشون الماء الآن على قبره، ولربما الآن كل واحد منهم يعزي جاره وأخاه، يستمع إليهم والأقدام تمشي على القبر، يستمع إلى قرع نعالهم، فيجلس في قبره، يجلسه ملكان أسودان أزرقان ينتهرانه ويدفعانه ويجلسانه في تلك الحفرة الضيقة كيف؟ إن المؤمن يؤمن بالغيب، يؤمن بكل هذا، لو حضرناه لوجدنا هذا كله، ولكنه غيبٌ في علم الله جل وعلا، يحدث حقيقة. يُجلس فيقال له: يا فلان! من ربك؟ فيقول من شدة الخوف: هاه هاه لا أدري، كان يعرفه في الدنيا لكنه نسي. ما دينك؟ هاه هاه لا أدري. ماذا تقول في الرجل الذي بعث فيكم؟ هاه هاه لا أدري، ما كان يعرف شيئاً عن الإسلام، ما كان يلتزم بحدوده ولا يلتزم بأوامره، كان يستهزئ بسنة النبي عليه الصلاة والسلام كيف يجيب؟ أم كيف يقول: إنه هو محمد رسول الله وهو لا يدري عنه شيئاً؟ يقول: هاه هاه لا أدري، فيقول له الملك: هو محمد رسول الله، أجب! قل: هو محمد رسول الله فيقول: كنت أسمع الناس يقولون كلاماً فأقول مثلهم، كنت أسمع أهل المساجد، كنت أسمع أهل الدين، كنت أسمع الصالحين الذين يلتزمون على الأقل بالصلوات الخمس يقولون: هو محمد رسول الله، كنت أقول مثلهم، فإذا به يسمع صوت منادٍ ينادي: أن كذب عبدي، نتيجة الاختبار الأول؛ فأفرشوا له من النار، وافتحوا له باباً إلى النار.

عذاب العاصي في القبر

عذاب العاصي في القبر عبد الله! الأمر حقيقة، ولا ندري لعلها لحظات ويبدأ هذا اليوم، وما ندري لعلَّ الشمس لا نراها تغرب علينا، فيحيى هذا الرجل، فإذا بمطرقة يضرب بها رأسه، لو ضرب بها جبل لصار تراباً، يصير تراباً ثم يعاد مرة أخرى، ثم يضرب بالمطرقة مرة أخرى فيصيح صيحة، يسمعه كل من حول القبر إلا الجن والإنس، ولو سمعه الجن والإنس لصعقوا، ولما دفنوا موتاهم، ثم بعدها يفتح بابٌ إلى الجنة، فيقال له: يا فلان! انظر إلى القصر انظر إلى الأنهار انظر إلى الحور العين انظر إلى هذه الأشجار والثمار انظر إلى هذا النعيم، هذا كله لك لو كنت أطعت الله، لو كانت هذه الخمسين أو الستين السنة القليلة التي لا تساوي شيئاً لو قضيتها في طاعة الله لكان هذا لك، فيغلق الباب ثم يُفتح له بابٌ إلى نارٍ تلظى: {كَلَّا إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى} [المعارج:15 - 16] حرها يفصل اللحم عن العظم هذا حرها فكيف بنارها؟! {تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى} [المعارج:17] تدعو من يذكر في الله فيدبر، ومن يجمع المال فيتولى تدعوه وتناديه، فتقول: هل من مزيد؟ قد أبدلك الله به هذا، فإذا بريح النار، وسمومها، وعذابها يأتيه وهو في القبر.

إتيان العمل في القبر على صورة رجل

إتيان العمل في القبر على صورة رجل ثم بعدها يرى رجلاً قبيح المنظر، منتن الريح، قبيح الثياب، فيقول له: من أنت فوجهك الوجه الذي يجيء بالشر؟ فيقول: أنا عملك الخبيث، أنا ترك الصلاة، أنا فلانة التي كنت تتصل بها، أنا ذلك المنكر الذي كنت تشربه، أنا تلك الليالي الحمراء، أنا تلك السفرات الفاضحة، أنا تلك الليالي الفاسدة، أنا هذه المعاصي التي كنت تفعلها، فوالله ما علمتك إلا بطيئاً لطاعة الله يا فلان! عندنا درس؛ بطيء، يا فلان! تعال صل، يصلي لكنه ببطء، يا فلان اقرأ القرآن! يأتي ولكنه في ثقل سريعاً إلى معصية الله، سريعاً لسهرة، لأغنية، لطرب، لممثلة، لداعرة، يأتي سريعاً ولا يتأخر، إذا به ينظر إليه، فيقول: يا رب! لا تقم الساعة يا رب! أكون في هذا المكان في الحفرة الضيقة المظلمة مع هذا الذي هو منتن الريح، وقبيح الوجه، أكون معه ولا تقم الساعة، لأن الساعة أدهى وأمر.

خروج الناس إلى أرض المحشر

خروج الناس إلى أرض المحشر إذا به بعد سنين طويلة يسمع بصيحة ما هذه الصيحة؟ كأنه قد سمع بها من قبل، وكأنه قد وعد بها، إذا به يرى القبر يُفتح فوقه، وإذا به يرى الناس يخرجون من تحته، فيخرج ينفض الغبار عن جسده أتعرف إلى أين؟ يرى السماء تتفطر، والأرض تتزلزل، والجبال تدك، والبحر يحترق، والوحوش تحشر: {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس:52] فيرد عليهم الصالحون: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس:52] يخرج فإذا الناس يخرجون من تحته، البشر من عهد آدم إلى آخر إنسان تخيل كم عددهم؟ بل ما شكلهم؟ كالجراد المنتشر. أما الجبال فتحسبها جامدة {وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ} [النمل:88]، البحار من عظمها تتفجر وتحترق، وتخيل الأرض من تحته تتزلزل، إلى أين يذهب؟ قال تعالى: {كَلَّا لا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ * يُنَبَّأُ الْأِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [القيامة:11 - 13] يقف كل الناس على أرض بيضاء عفراء -أي: تميل إلى الحمرة- وتخيل هذا المنظر، الأرض كقرصة نقي مستوية مستقيمة ليس فيها ارتفاع لأحد على أحد. أتعرف ما أشكالهم؟ حفاة عراة غرلاً، غير مختونين غير مطهرين، كما خلقه الله {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف:29] كلهم على أرضٍ واحدة ينتظرون الحساب، والمدة طويلة، وارتفاع الشمس على الرءوس قدر ميل ثلاثة أيام أسبوع، مللنا الانتظار شهر شهرين، سنة سنتين: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4] خمسين ألف سنة والناس وقوف. يا مسكين! أراد الله منك عبادة خمسين أو ستين سنة، فأبيت إلا أن تقف تحت الشمس خمسين ألف سنة.

وقوف الناس في أرض المحشر

وقوف الناس في أرض المحشر عبد الله! الأمر ليس هو بالهزل، والله ليمل الناس من أول سنة، بل من أول يوم، ولكنهم يقفون على الأقدام حفاة، والرءوس تنصلي بحر نار الشمس، ومع هذا يقفون مقدار خمسين ألف سنة، لا مراء في هذا ولا شك، خمسون ألف سنة والعرق يتصبب، منهم من يصل العرق إلى كعبيه، ومنهم إلى ركبتيه، ومنهم إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً، يصل عرقه إلى فمه إلى موضع لجام الفرس، ولا مغيث ولا نصير، أما الصالحون أتظنهم تحت الشمس؟ لا والله، الصالحون تحت ظل عرش الرحمن. يقفون خمسين ألف سنة؟ لا والله، يقفون كما بين صلاة الظهر والعصر فقط، ويأتيهم من الهواء البارد الكريم، ويكفيك أنهم تحت ظل عرش الرحمن جل وعلا، في كنفه يقفون، وهؤلاء الضلال الفسقة الفجرة، الذين ما سجدت وجوههم لله جل وعلا، وما استقاموا على أمره جل وعلا، تحت حر الشمس خمسين ألف سنة، ثم ماذا؟ ثم يموتون؟! لو كان الموت لكان خيراً لهم، يأتي الرب جل وعلا لفصل القضاء.

الإتيان بجهنم وتذكر الإنسان عمله

الإتيان بجهنم وتذكر الإنسان عمله بعد خمسين ألف سنة يسمعون صوت السلاسل، وصوت الأحزمة، وصوت الملائكة، بل إنه صوت جهنم تجر، لها سبعون ألف زمام -حزام- يجر كل حزام سبعون ألف ملك، واضرب سبعين ألفاً في سبعين ألف لتعرف عدد الملائكة التي تجر جهنم، يرونها من مكان بعيد جداً، إذا رأوها خر الناس كلهم الأمم، حتى الصالحون والأنبياء يخرون على الركب: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} [الجاثية:28] حتى الأنبياء يخرون على الركب، يقولون: اللهم سلم سلم، اللهم سلم سلم. يقول الله للناس: انظروا هل هذه النار التي كانت تظنونها هزل {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} [الطور:15] هل هذا سحر؟ هل هذا هزل؟ هل هذا ضحك كما كنتم تضحكون في الدنيا وتلعبون؟ تذكر تلك اللحظة وانتبه، وتذكر هذا الكلام، وستذكرون ما أقول لكم، وسوف يأتي الأمر حقاً، وسوف تذكر هذا المجلس، في تلك اللحظة يمر عليك شريط الحياة تتذكر الدنيا كلها تذكر فلانة وفلاناً، وتلك الليلة، وذلك الفيلم، وذلك الشريط، وتتذكر يوم كنت تنام عن الصلاة، وتتذكر يوم كان يأتيك ذلك الرجل الصالح يذكرك وكنت تأبى، وينصحك وكنت تضحك، ويناديك وكنت تدبر، تذكر هذه الأيام وتلك الليالي لحظة لحظة: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ} [الفجر:23]؛ ولكن: {وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} [الفجر:23] ماذا تنفعه الذكرى؟ يبكي وينادي ويقول: {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر:24] يا ليتني قدمت لهذا اليوم! يا ليتني عملت لهذا اليوم! يا ليتني صليت الصلوات في بيت الله! على الأقل عمود الإسلام أنجو من النار، يا ليتني ويا ليتني؟! ولكن: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} [مريم:39] هذا هو يوم الحسرة، يبكي حتى الصالحون على ساعة ما قضوها في طاعة الله حتى الأنبياء والرسل يتحسرون على لحظة ما قضوها في طاعة الله.

بدء فصل القضاء والحساب يوم القيامة وشهود الجوارح

بدء فصل القضاء والحساب يوم القيامة وشهود الجوارح ثم يبدأ الفصل، ويبدأ الحساب، والله سريع الحساب، يحاسب الناس جمعياً في لحظة واحدة، من آدم إلى آخر البشر يقول: أنت فلان بن فلان، فترتعد الجوارح وتضطرب ولم تعد الرِجل تحمل صاحبها، وإذا به يبكي، ويريد الفرار والنجاة، والملائكة تسوقه إلى الرب جل وعلا سوقاً، لا يستطيع أن يمشي على قدمه، فيقف بين يدي الرب جل وعلا الذي لا تخفى عليه خافية: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق:9] تخرج وتفضح ذلك يوم الخزي، فيقول لهم الرب جل وعلا، وتخيل -أخي الكريم- أنك في هذا الموقف، يقول لك الرب: عبدي! ألم أصح لك الجسد؟! ألم أسقك من الماء البارد؟! ألم أنعم عليك بكذا وبكذا ويعدد عليك النعم طوال الحياة؟! ثم يقول لك الرب جل وعلا: عبدي ما الذي جرأك علي؟! عبدي! أتذكر هذا الذنب؟! أتذكر هذه المعصية؟! أتذكر هذه الجريمة؟! عبدي! أتظن أني لا أرى؟! {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:14]. ثم يقول له: يا رب! ما فعلت، يكذب على ربه جل وعلا مسكين! لا زال في جرأته، ولا زال في عناده وكبره، يقول: يا رب! ما فعلت شيئاً يا رب! هذا كله كذب وبدأت الشهود الملائكة تشهد، والصالحون يشهدون رب أعطيته في اليوم الفلاني شريطاً لكنه رماه، رب في اليوم الفلاني طرقت عليه الباب ونصحته لكنه ضحك علي، رب في اليوم الفلاني عملت له محاضرة وذكرته ونصحته ولكنه استمر على هذا، يأتي الشهود، كل الناس يشهدون عليه، والملائكة تشهد، فيقول: يا رب! لا أقبل شاهداً إلا من نفسي، لا أقبل الشهود يا رب! أنت العدل، كيف تأتي بشهود وأنا لا أقبل إلا شاهداً من نفسي؟ فيقول له الرب جل وعلا: لك ذلك، لا يشهد عليك أحدٌ إلا نفسك، فإذا بالفم يختم عليه، وإذا باليد تنطق، والجلود تتكلم، والفخذ والخد ينطقان، وإذا به: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65] تتكلم: يا رب! في اليوم الفلاني لمس فلانة بالحرام، وفتح ذلك الفيلم على الحرام، وكتب تلك الرسالة، وفتح هذه المجلة، وقبض هذه الرشوة، وضرب فلاناً، وبطش وفعل، والرجل: يا رب! ذهب بي إلى المكان الفلاني والفلاني والفلاني والفلاني ينظر إلى الجلود تنطق: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ} [فصلت:21].

سحب المجرمين والعصاة إلى النار

سحب المجرمين والعصاة إلى النار ثم بعد هذا يعلم أنه لا نجاة ولا محيص، ولا فرار من الله جل وعلا، فينادي الرب جل وعلا على الملائكة: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} [الحاقة:30] أي: اربطوه بالسلاسل: {ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:31 - 32] يسحب بسلسلة، أتعرف ما حجم هذه السلسلة؟! كل حديدة بقدر حديد هذه الدنيا كلها، وهي سبعون ذراعاً، والذراع من ذراع الملائكة وليس من ذراعات الناس، يدخل من منخره فيخرج من دبره، ثم يلف بالسلاسل ويسحب على وجهه إلى جهنم: {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [الطور:14]. إذا به أول ما يأتي النار تفتح أبوابها، يرى في جهنم أصحابه في الدنيا قد سبقوه، يرى فلاناً الذي كان يدعوه إلى تلك الأماكن الفاسدة، يرى صاحبه الذي كان يصده عن الصلاة، كلما أراد التوبة قال له: يضحكون عليك تريد أن تتعقد؟ تريد أن تتزمت؟ يا فلان! عندنا فلانة، عندنا سهرة، عندنا فيلم، عندنا سفرة، عندنا كذا وكذا. يا فلان! يضحكون عليك، كلما أراد التوبة صده ورده، فيراه قد سبقه إلى النار: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً} [الأعراف:38].

وصف نار جهنم

وصف نار جهنم عبد الله! لا أريد في هذه الدقائق أن أبخس وصف النار، النار وصفها لا نتحمله، بل كان بعض السلف إذا سمع وصفاُ واحداً من النار بكى وخر على الأرض صريعاً. عبد الله! يكفي أن تعلم أن النار -أعاذنا الله وإياكم منها- قبل أن يدخلها أهل النار الشرارة الواحدة تتطاير منها بحجم القصر، شرارة نار الدنيا لو تقع عليك لا تؤثر، ولا تحرق، أما شرارة نار جهنم فهي بحجم القصر الكبير: {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ * كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ} [المرسلات:32 - 33]. عبد الله! نار جهنم إذا علمت عن بعض أوصافها لا تنام الليل: [عجبت من النار كيف نام هاربها؟! وعجبت للجنة كيف نام طالبها؟!]. عبد الله! أهل النار يجوعون، أتعرف ماذا يأكلون؟ يأكلون ضريعاً، أتعرف ما هو الضريع؟ شوك في جهنم ينبت، من شدة الجوع يأكلون هذا الشوك، فإذا أكلوا هذا الشوك -وتخيل وتفكر- يقف الشوك في حلوقهم، لا يبتلعونه ولا يخرجونه، يتعلق، فتغص الحلوق، يريدون أن يشربوا الماء فيستغيثون ربهم جل وعلا: يا رب! الماء يا رب! الماء يا رب! الماء: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ} [الكهف:29] انظر رحمة الله، يعطون الماء، يقترب من الماء ليشرب من شدة العطش وتلك الغصة، فإذا قرب الوجه تسقط فروة الوجه من شدة حر الماء: {يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ} [الكهف:29] يشوي وجهه قبل أن يشربه، فإذا شربه تتقطع الأمعاء، ويخرج من الدبر من شدة حره، حميماً آنٍ بلغ من شدة حره ما لا يطاق، بل لا يستطيع أحداً أن يشربه؛ لكن يشربه من شدة الجوع والعطش. يرون الزواني في النار يخرج من فروجهن -أجلكم الله- صديدٌ وقيح ونتن، فإذا خرج من فروجهن تسابق أهل النار إليه ليأكلوه من شدة الجوع، أهل النار -كما أخبرناكم: {لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى} [المعارج:15 - 16]- تتشقق جلودهم فيخرج منها الصديد، يتساقط إليه أهل النار ليأكلوه من شدة الجوع: {يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} [إبراهيم:17]، وللأسف! {وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} [إبراهيم:17] في تلك الحال نار من فوقهم، ونار من تحتهم يلتحفون النار، ويفترشون النار، بل يأكلون في بطونهم النار: {أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ} [البقرة:174].

المجيء بالموت على هيئة كبش وذبحه بين الجنة والنار

المجيء بالموت على هيئة كبش وذبحه بين الجنة والنار عبد الله! في ذلك العذاب والحميم والجحيم ينادي منادٍ، يقول لهم: يا أهل النار! يرفعون الرءوس يفرحون يظنون أنهم سوف يخرجون منها يا أهل النار! يرفعون الرءوس، فيقال لهم: تعرفون من هذا؟ فإذا بكبش أملح، يقولون: نعم. إنه الموت نعرفه ورأيناه، فيُذبح بين الجنة والنار، فيقال لأهل النار: خلودٌ فلا موت. عبد الله! تعرف ما معنى خلود فلا موت؟ مليون سنة؟ مليونين؟ عشرة ملايين؟ مائة مليون سنة في هذه النار؟ خلودٌ فلا موت {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56].

خلود المجرمين في جهنم

خلود المجرمين في جهنم عبد الله! والله لو كان مصيرهم الموت لكان أعظم نعيم ينادون: {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77] يجيبهم بعد آلاف السنين: {قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف:77 - 78] قرئ عليكم القرآن وذكرتم ووعظتم {وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف:78]. عبد الله! الخلود في جهنم، مصير الكفرة الملاحدة، من بينهم تاركو الصلاة (بين الرجل والكفر والشرك ترك الصلاة) {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:42 - 43] أول جريمة أوردتهم سقر وجهنم: {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:43] ما كنا نصلي مع الناس، وما كنا نحافظ عليها: {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:43]. عبد الله! هذا مصير صنفٍ من النار، ولعله إن شاء الله سوف يكون بيننا وبينكم في يوم من الأيام الخالية بإذنه جل وعلا إن أبقانا الله وأحيانا يومٌ أحدثكم فيه عن مصير الصالحين مصير أهل الصلاة، وأهل الذكر، وأهل الطهر، وأهل العفاف، الذين هم في الدنيا من أهل السعادة، وفي الآخرة من أهل النعيم، سوف يكون -إن شاء الله- بيننا وبينكم لقاء حتى يتشوق الإنسان إلى مصيرهم، وإلى حياتهم الكريمة السرمدية الأبدية. عبد الله! في الختام أدعوك لأمرٍ واحد أن تبكي هذه العين على تلك الذنوب والمعاصي، أن تفكر ماذا أسلفت؟ وماذا قدمت؟: {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18] واعلم -يا عبد الله- أن الموت يأتي بغتة، وأن شروط التوبة ثلاث: أولاً: الندم على ما مضى. ثانياً: العزم على ألا تعود إلى تلك الذنوب والمعاصي. ثالثها: أن تقلع تقطع الصور تحرق تلك الأفلام الخليعة تترك هذه المجالس النتنة تبتعد عن السوء وأهل الفسق والفجور وتلتحق في رفق الصالحين، واعلم -يا عبد الله- أن الله جل وعلا يعينك: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] ومن تاب تاب الله عليه، لعلها دمعة يمسح الله بها جميع الذنوب والمعاصي، وتبدأ بينك وبين الله صفحة جديدة أسأل الله عز وجل أن يغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، ويثبت أقدامنا. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

خروج الناس إلى أرض المحشر

خروج الناس إلى أرض المحشر إذا به بعد سنين طويلة يسمع بصيحة ما هذه الصيحة؟ كأنه قد سمع بها من قبل، وكأنه قد وعد بها، إذا به يرى القبر يُفتح فوقه، وإذا به يرى الناس يخرجون من تحته، فيخرج ينفض الغبار عن جسده أتعرف إلى أين؟ يرى السماء تتفطر، والأرض تتزلزل، والجبال تدك، والبحر يحترق، والوحوش تحشر: {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس:52] فيرد عليهم الصالحون: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس:52] يخرج فإذا الناس يخرجون من تحته، البشر من عهد آدم إلى آخر إنسان تخيل كم عددهم؟ بل ما شكلهم؟ كالجراد المنتشر. أما الجبال فتحسبها جامدة {وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ} [النمل:88]، البحار من عظمها تتفجر وتحترق، وتخيل الأرض من تحته تتزلزل، إلى أين يذهب؟ قال تعالى: {كَلَّا لا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ * يُنَبَّأُ الْأِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [القيامة:11 - 13] يقف كل الناس على أرض بيضاء عفراء -أي: تميل إلى الحمرة- وتخيل هذا المنظر، الأرض كقرصة نقي مستوية مستقيمة ليس فيها ارتفاع لأحد على أحد. أتعرف ما أشكالهم؟ حفاة عراة غرلاً، غير مختونين غير مطهرين، كما خلقه الله {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف:29] كلهم على أرضٍ واحدة ينتظرون الحساب، والمدة طويلة، وارتفاع الشمس على الرءوس قدر ميل ثلاثة أيام أسبوع، مللنا الانتظار شهر شهرين، سنة سنتين: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4] خمسين ألف سنة والناس وقوف. يا مسكين! أراد الله منك عبادة خمسين أو ستين سنة، فأبيت إلا أن تقف تحت الشمس خمسين ألف سنة.

وقوف الناس في أرض المحشر

وقوف الناس في أرض المحشر عبد الله! الأمر ليس هو بالهزل، والله ليمل الناس من أول سنة، بل من أول يوم، ولكنهم يقفون على الأقدام حفاة، والرءوس تنصلي بحر نار الشمس، ومع هذا يقفون مقدار خمسين ألف سنة، لا مراء في هذا ولا شك، خمسون ألف سنة والعرق يتصبب، منهم من يصل العرق إلى كعبيه، ومنهم إلى ركبتيه، ومنهم إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً، يصل عرقه إلى فمه إلى موضع لجام الفرس، ولا مغيث ولا نصير، أما الصالحون أتظنهم تحت الشمس؟ لا والله، الصالحون تحت ظل عرش الرحمن. يقفون خمسين ألف سنة؟ لا والله، يقفون كما بين صلاة الظهر والعصر فقط، ويأتيهم من الهواء البارد الكريم، ويكفيك أنهم تحت ظل عرش الرحمن جل وعلا، في كنفه يقفون، وهؤلاء الضلال الفسقة الفجرة، الذين ما سجدت وجوههم لله جل وعلا، وما استقاموا على أمره جل وعلا، تحت حر الشمس خمسين ألف سنة، ثم ماذا؟ ثم يموتون؟! لو كان الموت لكان خيراً لهم، يأتي الرب جل وعلا لفصل القضاء.

الإتيان بجهنم وتذكر الإنسان عمله

الإتيان بجهنم وتذكر الإنسان عمله بعد خمسين ألف سنة يسمعون صوت السلاسل، وصوت الأحزمة، وصوت الملائكة، بل إنه صوت جهنم تجر، لها سبعون ألف زمام -حزام- يجر كل حزام سبعون ألف ملك، واضرب سبعين ألفاً في سبعين ألف لتعرف عدد الملائكة التي تجر جهنم، يرونها من مكان بعيد جداً، إذا رأوها خر الناس كلهم الأمم، حتى الصالحون والأنبياء يخرون على الركب: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} [الجاثية:28] حتى الأنبياء يخرون على الركب، يقولون: اللهم سلم سلم، اللهم سلم سلم. يقول الله للناس: انظروا هل هذه النار التي كانت تظنونها هزل {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} [الطور:15] هل هذا سحر؟ هل هذا هزل؟ هل هذا ضحك كما كنتم تضحكون في الدنيا وتلعبون؟ تذكر تلك اللحظة وانتبه، وتذكر هذا الكلام، وستذكرون ما أقول لكم، وسوف يأتي الأمر حقاً، وسوف تذكر هذا المجلس، في تلك اللحظة يمر عليك شريط الحياة تتذكر الدنيا كلها تذكر فلانة وفلاناً، وتلك الليلة، وذلك الفيلم، وذلك الشريط، وتتذكر يوم كنت تنام عن الصلاة، وتتذكر يوم كان يأتيك ذلك الرجل الصالح يذكرك وكنت تأبى، وينصحك وكنت تضحك، ويناديك وكنت تدبر، تذكر هذه الأيام وتلك الليالي لحظة لحظة: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ} [الفجر:23]؛ ولكن: {وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} [الفجر:23] ماذا تنفعه الذكرى؟ يبكي وينادي ويقول: {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر:24] يا ليتني قدمت لهذا اليوم! يا ليتني عملت لهذا اليوم! يا ليتني صليت الصلوات في بيت الله! على الأقل عمود الإسلام أنجو من النار، يا ليتني ويا ليتني؟! ولكن: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} [مريم:39] هذا هو يوم الحسرة، يبكي حتى الصالحون على ساعة ما قضوها في طاعة الله حتى الأنبياء والرسل يتحسرون على لحظة ما قضوها في طاعة الله.

بدء فصل القضاء والحساب يوم القيامة وشهود الجوارح

بدء فصل القضاء والحساب يوم القيامة وشهود الجوارح ثم يبدأ الفصل، ويبدأ الحساب، والله سريع الحساب، يحاسب الناس جمعياً في لحظة واحدة، من آدم إلى آخر البشر يقول: أنت فلان بن فلان، فترتعد الجوارح وتضطرب ولم تعد الرِجل تحمل صاحبها، وإذا به يبكي، ويريد الفرار والنجاة، والملائكة تسوقه إلى الرب جل وعلا سوقاً، لا يستطيع أن يمشي على قدمه، فيقف بين يدي الرب جل وعلا الذي لا تخفى عليه خافية: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق:9] تخرج وتفضح ذلك يوم الخزي، فيقول لهم الرب جل وعلا، وتخيل -أخي الكريم- أنك في هذا الموقف، يقول لك الرب: عبدي! ألم أصح لك الجسد؟! ألم أسقك من الماء البارد؟! ألم أنعم عليك بكذا وبكذا ويعدد عليك النعم طوال الحياة؟! ثم يقول لك الرب جل وعلا: عبدي ما الذي جرأك علي؟! عبدي! أتذكر هذا الذنب؟! أتذكر هذه المعصية؟! أتذكر هذه الجريمة؟! عبدي! أتظن أني لا أرى؟! {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:14]. ثم يقول له: يا رب! ما فعلت، يكذب على ربه جل وعلا مسكين! لا زال في جرأته، ولا زال في عناده وكبره، يقول: يا رب! ما فعلت شيئاً يا رب! هذا كله كذب وبدأت الشهود الملائكة تشهد، والصالحون يشهدون رب أعطيته في اليوم الفلاني شريطاً لكنه رماه، رب في اليوم الفلاني طرقت عليه الباب ونصحته لكنه ضحك علي، رب في اليوم الفلاني عملت له محاضرة وذكرته ونصحته ولكنه استمر على هذا، يأتي الشهود، كل الناس يشهدون عليه، والملائكة تشهد، فيقول: يا رب! لا أقبل شاهداً إلا من نفسي، لا أقبل الشهود يا رب! أنت العدل، كيف تأتي بشهود وأنا لا أقبل إلا شاهداً من نفسي؟ فيقول له الرب جل وعلا: لك ذلك، لا يشهد عليك أحدٌ إلا نفسك، فإذا بالفم يختم عليه، وإذا باليد تنطق، والجلود تتكلم، والفخذ والخد ينطقان، وإذا به: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65] تتكلم: يا رب! في اليوم الفلاني لمس فلانة بالحرام، وفتح ذلك الفيلم على الحرام، وكتب تلك الرسالة، وفتح هذه المجلة، وقبض هذه الرشوة، وضرب فلاناً، وبطش وفعل، والرجل: يا رب! ذهب بي إلى المكان الفلاني والفلاني والفلاني والفلاني ينظر إلى الجلود تنطق: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ} [فصلت:21].

سحب المجرمين والعصاة إلى النار

سحب المجرمين والعصاة إلى النار ثم بعد هذا يعلم أنه لا نجاة ولا محيص، ولا فرار من الله جل وعلا، فينادي الرب جل وعلا على الملائكة: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} [الحاقة:30] أي: اربطوه بالسلاسل: {ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:31 - 32] يسحب بسلسلة، أتعرف ما حجم هذه السلسلة؟! كل حديدة بقدر حديد هذه الدنيا كلها، وهي سبعون ذراعاً، والذراع من ذراع الملائكة وليس من ذراعات الناس، يدخل من منخره فيخرج من دبره، ثم يلف بالسلاسل ويسحب على وجهه إلى جهنم: {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [الطور:14]. إذا به أول ما يأتي النار تفتح أبوابها، يرى في جهنم أصحابه في الدنيا قد سبقوه، يرى فلاناً الذي كان يدعوه إلى تلك الأماكن الفاسدة، يرى صاحبه الذي كان يصده عن الصلاة، كلما أراد التوبة قال له: يضحكون عليك تريد أن تتعقد؟ تريد أن تتزمت؟ يا فلان! عندنا فلانة، عندنا سهرة، عندنا فيلم، عندنا سفرة، عندنا كذا وكذا. يا فلان! يضحكون عليك، كلما أراد التوبة صده ورده، فيراه قد سبقه إلى النار: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً} [الأعراف:38].

وصف نار جهنم

وصف نار جهنم عبد الله! لا أريد في هذه الدقائق أن أبخس وصف النار، النار وصفها لا نتحمله، بل كان بعض السلف إذا سمع وصفاُ واحداً من النار بكى وخر على الأرض صريعاً. عبد الله! يكفي أن تعلم أن النار -أعاذنا الله وإياكم منها- قبل أن يدخلها أهل النار الشرارة الواحدة تتطاير منها بحجم القصر، شرارة نار الدنيا لو تقع عليك لا تؤثر، ولا تحرق، أما شرارة نار جهنم فهي بحجم القصر الكبير: {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ * كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ} [المرسلات:32 - 33]. عبد الله! نار جهنم إذا علمت عن بعض أوصافها لا تنام الليل: [عجبت من النار كيف نام هاربها؟! وعجبت للجنة كيف نام طالبها؟!]. عبد الله! أهل النار يجوعون، أتعرف ماذا يأكلون؟ يأكلون ضريعاً، أتعرف ما هو الضريع؟ شوك في جهنم ينبت، من شدة الجوع يأكلون هذا الشوك، فإذا أكلوا هذا الشوك -وتخيل وتفكر- يقف الشوك في حلوقهم، لا يبتلعونه ولا يخرجونه، يتعلق، فتغص الحلوق، يريدون أن يشربوا الماء فيستغيثون ربهم جل وعلا: يا رب! الماء يا رب! الماء يا رب! الماء: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ} [الكهف:29] انظر رحمة الله، يعطون الماء، يقترب من الماء ليشرب من شدة العطش وتلك الغصة، فإذا قرب الوجه تسقط فروة الوجه من شدة حر الماء: {يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ} [الكهف:29] يشوي وجهه قبل أن يشربه، فإذا شربه تتقطع الأمعاء، ويخرج من الدبر من شدة حره، حميماً آنٍ بلغ من شدة حره ما لا يطاق، بل لا يستطيع أحداً أن يشربه؛ لكن يشربه من شدة الجوع والعطش. يرون الزواني في النار يخرج من فروجهن -أجلكم الله- صديدٌ وقيح ونتن، فإذا خرج من فروجهن تسابق أهل النار إليه ليأكلوه من شدة الجوع، أهل النار -كما أخبرناكم: {لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى} [المعارج:15 - 16]- تتشقق جلودهم فيخرج منها الصديد، يتساقط إليه أهل النار ليأكلوه من شدة الجوع: {يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} [إبراهيم:17]، وللأسف! {وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} [إبراهيم:17] في تلك الحال نار من فوقهم، ونار من تحتهم يلتحفون النار، ويفترشون النار، بل يأكلون في بطونهم النار: {أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ} [البقرة:174].

إتيان الموت على هيئة كبش فيذبح بين الجنة والنار

إتيان الموت على هيئة كبش فيذبح بين الجنة والنار عبد الله! في ذلك العذاب والحميم والجحيم ينادي منادٍ، يقول لهم: يا أهل النار! يرفعون الرءوس يفرحون يظنون أنهم سوف يخرجون منها يا أهل النار! يرفعون الرءوس، فيقال لهم: تعرفون من هذا؟ فإذا بكبش أملح، يقولون: نعم. إنه الموت نعرفه ورأيناه، فيُذبح بين الجنة والنار، فيقال لأهل النار: خلودٌ فلا موت. عبد الله! تعرف ما معنى خلود فلا موت؟ مليون سنة؟ مليونين؟ عشرة ملايين؟ مائة مليون سنة في هذه النار؟ خلودٌ فلا موت {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56].

مكوث وخلود المجرمين في جهنم

مكوث وخلود المجرمين في جهنم عبد الله! والله لو كان مصيرهم الموت لكان أعظم نعيم ينادون: {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77] يجيبهم بعد آلاف السنين: {قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف:77 - 78] قرئ عليكم القرآن وذكرتم ووعظتم {وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف:78]. عبد الله! الخلود في جهنم، مصير الكفرة الملاحدة، من بينهم تاركو الصلاة (بين الرجل والكفر والشرك ترك الصلاة) {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:42 - 43] أول جريمة أوردتهم سقر وجهنم: {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:43] ما كنا نصلي مع الناس، وما كنا نحافظ عليها: {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:43]. عبد الله! هذا مصير صنفٍ من النار، ولعله إن شاء الله سوف يكون بيننا وبينكم في يوم من الأيام الخالية بإذنه جل وعلا إن أبقانا الله وأحيانا يومٌ أحدثكم فيه عن مصير الصالحين مصير أهل الصلاة، وأهل الذكر، وأهل الطهر، وأهل العفاف، الذين هم في الدنيا من أهل السعادة، وفي الآخرة من أهل النعيم، سوف يكون -إن شاء الله- بيننا وبينكم لقاء حتى يتشوق الإنسان إلى مصيرهم، وإلى حياتهم الكريمة السرمدية الأبدية. عبد الله! في الختام أدعوك لأمرٍ واحد أن تبكي هذه العين على تلك الذنوب والمعاصي، أن تفكر ماذا أسلفت؟ وماذا قدمت؟: {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18] واعلم -يا عبد الله- أن الموت يأتي بغتة، وأن شروط التوبة ثلاث: أولاً: الندم على ما مضى. ثانياً: العزم على ألا تعود إلى تلك الذنوب والمعاصي. ثالثها: أن تقلع تقطع الصور تحرق تلك الأفلام الخليعة تترك هذه المجالس النتنة تبتعد عن السوء وأهل الفسق والفجور وتلتحق في رفق الصالحين، واعلم -يا عبد الله- أن الله جل وعلا يعينك: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] ومن تاب تاب الله عليه، لعلها دمعة يمسح الله بها جميع الذنوب والمعاصي، وتبدأ بينك وبين الله صفحة جديدة أسأل الله عز وجل أن يغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، ويثبت أقدامنا. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الأسئلة

الأسئلة

اسم السجن الذي في جهنم

اسم السجن الذي في جهنم Q هناك في جهنم سجن وقد أوردت هذا السجن ولكن للأسف ما هي الكلمة، وقد رواه الإمام أحمد في كتاب: الفتن والملاحم لـ ابن كثير؟ A هذا السجن يسمى (سجن بولس) وهو حديث صحيح رواه الإمام أحمد، وذكره الألباني في الصحيحة، وهو أحد السجون في جهنم، ولجهنم أوصاف وأمور فوق الخيال وفوق التصور، ومهما وصفنا وتخيلنا فهو أعظم بكثير جداً، بل لا تستطيع أن تتخيل ناراً أشد من نار الدنيا بسبعين مرة، بل لا تستطيع أن تتخيل النار التي يجرها سبعين ألف زمام، مع كل زمام سبعين ألف ملك، ما تتخيل ولا تتصور!!

كيفية ذكر الله وأنواع الذكر

كيفية ذكر الله وأنواع الذكر Q وصف الله المؤمنين بالذاكرين، فكيف يكون الذكر أرشدنا جزاك الله خيراً؟ A أما عن الذاكرين الله كثيراً والذاكرات؛ فالذكر أيها الإخوة ثلاثة أصناف: الأول: ذكرٌ باللسان. بعض الناس يذكر بلسانه لكنه لا يستشعر، مثل بعض الناس يذكر الله وهو يمشي، إنا لله وإنا إليه راجعون، لا إله إلا الله، يقولها لكن لا يستشعرها بقلبه، هذه أقل درجات الذكر، يؤجر لكنها أقل درجات الذكر. الذكر الثاني: ذكر القلب، لا ينطق بلسانه لكنه يتذكر ربه دائماً قلبه حي يخاف من الله يرجو الله يستعيذ بالله، لكن لسانه لا يذكر ربه. الثالث: هو أعلى الدرجات، وهو ما واطأ اللسان والقلب، يذكر ربه بلسانه وبقلبه، إذا قال: أستغفر الله، فهي من اللسان ومن القلب. والذكر -يا عبد الله- ليس فقط باللسان، بل حتى بالجوارح، الصلاة ذكر، والصيام ذكر، والزكاة ذكر، والأمر بالمعروف ذكر، وطلب العلم ذكر، كل هذا ذكر يا عبد الله، كلما فعلت من طاعة فهو ذكرٌ لله جل وعلا. وهناك أذكار مقيدة، وأذكار مطلقة، فمن الأذكار المقيدة: أذكار تكون عند مناسبات، مثل: عند دخول البيت، والخروج منه. قبل أيام سمعت عن شاب جاءني والده يقول: دخل -أجلكم الله- الحمام، يقول: فسقط في الحمام وجلس إلى الصباح، يقول: ومن ذلك اليوم -يوم سقط- يبكي ويفزع من النوم، سألت هذا الشاب، وقلت له: لما دخلت -أجلك الله- الحمام هل ذكرت الله أو لم تذكر الله؟ رجل صالح لكن نسي تلك اللحظة أن يذكر الله. باسم الله! اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث، الحشوش والحمامات ممتلئة بالشياطين، وبعض الشياطين خبيث يترقب لبعض الناس، خاصة بعض الناس الذين يريد أن يصدهم عن الذكر وعن الصلاة والطاعة، فإذا غفل عن ذكر الله أصابه، وهذا يحدث كما قال الله جل وعلا: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة:275] يعني: أن بعض الناس يتخبطه الشيطان من المس، وهذا لعله يراه بعض الناس، ما الحصن؟ ذكر الله، إذا دخلت البيت، وقلت: باسم الله؛ انحبس خارج البيت ولا يدخل، فإذا قلت عند العشاء: باسم الله؛ منع عن العشاء والطعام فيجوع، وهذا أمرٌ حقيقة، بل بعض الناس كما قال الله جل وعلا: {وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ} [الإسراء:64] يجامع زوجته معه -نعوذ بالله- ألا تغار على زوجتك، بعض الناس الشيطان يجامع زوجته معه، وهذا في القرآن موجود، إذاً ما الحصن؟ تذكر الله جل وعلا، تقول: باسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، هذا حتى عند الجماع، إذاً ذكر الله عند حالات ومناسبات يحصنك من الشيطان. وهناك ذكر مطلق في جميع الأحيان: سبحان الله، الحمد لله، لا إله إلا اله، الله أكبر، لا حول ولا قوة إلا بالله (كلمتان خفيفتان على اللسان) سهلة -يا أخي- تنتظر الدوام، وأنت في السيارة ذاهب للعمل، وأنت راجع إلى البيت، تنتظر دورك عند مستوصف عند جمعية في أي مكان تنتظر اذكر الله. عبد الله! حرك اللسان (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان) أنت لا تعرف أجرك يا عبد الله عندما تذكرها (حبيبتان إلى الرحمن -ما هي؟ - سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم). سبحان الله العظيم وبحمده، لو قلتها مرة غرست لك نخلة في الجنة، وما من شجرة في الجنة إلا ساقها من ذهب ولا حول ولا قوة إلا بالله، كنز من كنوز الجنة. إذا كانت عندك ذنوب، كل يوم الواحد يذنب، لا يوجد إنسان لا يخطئ ولا يذنب: (من كان -أي: في سيارته في دابته- خالياً بالله وذكره) أي: يذكر الله سواءًَ بشريط قرآن، أو درس، أو محاضرة، أو يذكر الله في السيارة، أتعرف من الذي يجلس عنده؟ أنت لا ترى بعينك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إلا كان ردفه ملك -في السيارة- قال: ومن اختلى بالشيطان وذكره -أي: مثل الغناء والموسيقى والفجور والمعاصي في السيارة- قال: إلا كان ردفه الشيطان) أعاذنا الله وإياكم منه، هذا لو أصيب بحادث هل يذكرك بلا إله إلا الله؟ الإنسان هذا إذا أصيب بحادث صاحبه الملك يذكره بالشهادتين، أما ذاك فيذكره بالفساد والمنكر، إذاً يتعود حتى يكون لسانه رطباً بذكر الله، حتى إذا جاءت منيته أول ما يتذكر لا إله إلا الله (ومن كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة).

تفسير قوله تعالى: (النار يعرضون عليها غدوا وعشيا)

تفسير قوله تعالى: (النار يعرضون عليها غدواً وعشياً) Q ما معنى قوله تعالى في سورة غافر: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46]؟ A هذه الآية استدل بها أهل السنة والجماعة على إثبات عذاب القبر، وعلى وقوع عذاب القبر قبل اليوم الآخر وقبل قيام الساعة، وذكرنا القبر في هذا الدرس من باب أنه بداية اليوم الآخر، وهو أول منازل اليوم الآخر، والله عز وجل وصف آل فرعون، جاء رجل من آل فرعون يدعوهم إلى الله هذا من آل فرعون قصته عجيبة، اقرأ سورة غافر وتسمى سورة المؤمن، مؤمن آل فرعون، هذه السورة عجيبة جداً فيها قصة عظيمة، هذا الرجل علم أن فرعون وحاشيته ووزراءه سوف يقتلون موسى موسى رجل ضعيف، فيدعو فرعون إلى الله، ذكره في الله، أبى فرعون وتجبر وطغى، وجمع الحاشية، أشار لهم قال: اقتلوه، هذا الرجل من الحاشية والوزراء من البطانة لكنه فيه خير، آمن وكتم إيمانه، ولكن لما سمع أنهم سوف يقتلون موسى ما رضي، إنكار المنكر يصل إلى حد معين بعدها لا نسكت، ذهب بسرعة وفر إلى موسى، يخبره وينذره، وجاء إلى فرعون ومن معه يخبرهم ويذكرهم ويدعوهم إلى الله، قال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [غافر:28] ما ضركم فيه، يدعو ربه ويدعو إلى الله ما ضركم؟! قال: {وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ} [غافر:28] أي: إذا كان كاذباً لم يضر إلا نفسه: {وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} [غافر:28] يصيبكم بهذا العذاب الذي يتوعدكم به، اتركوه: {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ} [غافر:29] اليوم لكم القصور والنعيم وهذه القوة والعسكر والجيش لكن: {فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} [غافر:29] دعاهم إلى الله فأبوا، ذكرهم في الله فقتلوه، أو طردوه فنجاه الله جل وعلا، أتعرف ما الذي حصل بآل فرعون؟ أغرقهم الله عز وجل في اليم، كان يقول فرعون الجبار الطاغية: هذه الأنهار تجري من تحتي، فأجرى الله الأنهار من فوقه تجري من تحتك يا فرعون؟! اليوم تجني هذه الثمرة تجري الأنهار من فوقك، أغرقه الله ونبذه الله في اليم {وَهُوَ مُلِيمٌ} [الذاريات:40]. كان فرعون في يوم من الأيام يقول لجيشه: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى} [غافر:29] اسمعوا: الذي أراه ترونه، والذي أعتقده تعتقدونه، دينكم ديني، الذي أراه هو الدين: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:29] أنا أدلكم على الجنة على الخير. على النعيم، يضحك على قومه: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} [الزخرف:54] جاء إلى موسى، أتعرف ماذا قال فرعون في موسى؟ قال: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ} [غافر:26] يا ناس! يا شعب! أخاف أن يضيع دينكم هذا: {أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26] أخاف أن يفسد في الأرض، ويثير الفتن في الأرض، سبحان الله! يقول ابن كثير: سبحان الله! صار فرعون خطيباً، صار فرعون يخاف على دين الله، ويخاف على الصلاح، ويخاف الفساد في الأرض، قال: {أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26] فجاء الله عز وجل بهذا الرجل ونجاه الله منهم، ولربما قتلوه فإذا به يغرق، قال الله عن فرعون وحاشيته: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً} [غافر:46] أي: في بداية النهار {وَعَشِيّاً} [غافر:46] في نهاية النهار، مرتين في اليوم، أي: في قبرهم إلى أن تقوم الساعة، تعرض عليهم النار، يحترقون فيها إلى أن تقوم الساعة: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] فرعون والحاشية والجنود والعسكر والزمرة كلها التي كفرت بالله، وعارضت شرع الله، وحاربت الأنبياء والرسل كلها معه في نار جهنم: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] هذا هو تفسير الآية. والله أعلم.

الدليل على عذاب القبر من القرآن

الدليل على عذاب القبر من القرآن Q أريد دليلاً على عذاب القبر من الكتاب، وإذا قيل له: ذكر في السنة المطهرة لا يقبل إلا بالدليل من الكتاب، فكيف يرد عليه؟ A هذه الآية التي ذكرناها قبل قليل هو قوله جل وعلا: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ} [المؤمنون:100] البرزخ: هو عذاب القبر أو نعيمه، الحياة الذي بين الحياة الدنيا واليوم الآخر، قال الله جل وعلا: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100] أي: قبل البعث هناك برزخ. ما هو البرزخ؟ هي حياة بين الدنيا وبين الآخرة فمن أهل الدين ومن أهل الإيمان من يعذب في قبره حتى يتخفف من الذنوب، هو مصلٍ وراكع وساجد لكن عنده ذنوب ومعاصي، يتعذب في قبره حتى يصفيه الله عز وجل وينقيه قبل اليوم الآخر. إذاً هو موجود في هاتين الآيتين في كتاب الله، وهناك آية أخرى، كما قال الله جل وعلا: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الأنفال:50] وهذه الآية من أدلة عذاب القبر، وهناك من السنة الأدلة الكثيرة المتواترة الصحيحة كلها عن النبي صلى الله عليه وسلم في إثبات عذاب القبر، وهذا لعله يكون فيه من الأدلة واليقين ما تطمئن به قلوب المؤمنين، وتتيقن بصحته. والله أعلم.

الرد على من يعصي الله ويقول: إن الله غفور رحيم

الرد على من يعصي الله ويقول: إن الله غفور رحيم Q كيف يتوب الإنسان من المعاصي، وإذا كان لا يصلي ويتهاون بالصلاة، وإذا سئل عن ذلك قال: إن الله غفور رحيم؟ A لا حول ولا قوة إلا بالله، إن الله غفور رحيم لأوليائه لعباده الصالحين. أخي الكريم! لعلك تقول: الصالحون لا يحتاجون مغفرة، نقول: إن أفضل الخلق غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، يحتاج إلى المغفرة عليه الصلاة والسلام، الله عز وجل غفور رحيم لأهل صلاة الفجر لأهل الذكر لأهل الدعوة إلى الله لأهل الصلاح، هؤلاء يحتاجون مغفرة الله، أما للفجار والفساق فهو شديد العقاب، فهو عزيزٌ ذو انتقام، لا تخفى عليه خافية فهو يستدرج كما قال الله عز وجل: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:182 - 183]. عبد الله! إن الصالحين قال الله عنهم: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون:60] قالت عائشة: (يا رسول الله! الزناة، شاربو الخمور، السراق، هم الذين يخافون، قلوبهم وجلة -أي: خائفة- قال: لا يا بنة الصديق، هم المصلون، الصائمون، الصالحون، الذين يعملون ويخافون ألا يتقبل منهم) الرجل الصالح يخاف أن الله لا يقبل عمله، والعجيب من الفاجر الذي يأمن مكر الله! قال عبد الله بن مسعود: [المؤمن يرى ذنوبه -المؤمن الصالح إذا أذنب، وكل إنسان يذنب- كأنها جبل يوشك أن يقع على رأسه -كالجبل سوف يقع عليه- والفاجر يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه، فقال به هكذا] قد يشرب خمر، قد يترك صلاة، قد يفعل معاصي كبيرة، وكأنه ذبابة وقعت على أنفه فقال بها: هكذا، ولا يبالي، هذه علامة المنافق وتلك علامة المؤمن. عبد الله! نتكلم الآن عن الفسقة، أما عن الذين لا يصلون فحدث ولا حرج، فحديثهم حديث الكفار -نسأل الله العافية- كيف تكون التوبة؟ بالندم والعزم والإقلاع عن هذه الذنوب والمعاصي.

الاحتجاج بالقدر على المعاصي

الاحتجاج بالقدر على المعاصي Q ما رأيك فيمن نقول له: صل أو تب إلى الله، وهو يقول: إذا هداني الله سأصلي؟ A يقول هذا كما قال المشركون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لما دعاهم، قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام:148] إذا أراد الله أن يهديني سيهديني أراد الله لي بالصلاة سوف أصلي، وهذه عقيدة الجبرية؛ وهي عقيدة ضالة ليست من عقائد أهل السنة، لأن أهل السنة كما قال الله جل وعلا فيهم: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً} [محمد:17] ابدأ يا عبد الله، ولا تقل: إذا أراد الله أن يهديني اهتديت، أسألك بالله الآن سؤال: أنت لم تأتِ إلى هذا المكان، وتلبس هذا الزي، وتحضر الدوام؟ لماذا؟ لأجل المعاش والراتب، طيب لماذا لا تجلس في البيت وتقول: إذا أراد الله أن يرزقني فسيرزقني؟ تأتي وتتعب وتقوم من نومك مبكراً، وتحضر الدوام؛ تسعى حتى تحصل على الرزق هل إذا جعت جلست في بيتك تنتظر وتقول: إذا أراد الله أن يشبعني يشبعني؟! لا تفعلها، بل تذهب إلى المطبخ، وإلى الثلاجة، وإلى المطعم، وتأكل حتى تشبع، لمَ تبذل السبب؟ لأجل الدنيا، لكن عندما نقول لك: صلِّ؟ تقول: إذا أراد الله أن أصلي صليت! سبحان الله! هنا تعمل لأجل الدنيا؛ ولكن لأجل الآخرة لا تبذل ولا تسعى! قال الله جل وعلا: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5] أنت الذي جنيت على نفسك، ولا تقل: لو أراد الله أن يهديني اهتديت، هذه كلمة كاذبة من ناصية خاطئة. عبد الله! إذا سعيت إلى الهداية وفقك الله، وإذا بذلت أعانك الله، وإذا سعيت فتح الله لك أبواب الجنة، أما أنك تجلس في البيت وتقول: لو أراد الله أن يهديني اهتديت؛ هذا كله ضحك، ولا تخدع إلا نفسك يا عبد الله.

الدقائق الغالية

الدقائق الغالية الوقت هو الحياة، والإسلام ينظر إليه على أنه كنز نفيس؛ إذا فات لا يعوض. فالحياة ما هي إلا مجموع الدقائق والثواني، التي تمر على الإنسان، وتنقضي فينقضي هذا الإنسان. والدقائق الغالية تشمل كل دقائق الحياة بلا استثناء. وقد تكلم الشيخ حفظه الله في هذه المادة عن استغلال السلف لأوقاتهم، بذكر نماذج منهم عرفوا قدر الوقت فاجتهدوا في العلم وأتقنوا العمل. كما تضمنت هذه المادة بعض الآداب التي ينبغي لطالب العلم أن يراعيها أثناء الطلب.

ما هي الدقائق الغالية؟

ما هي الدقائق الغالية؟ الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: أستسمحكم عذراً عن التأخير؛ حيث أن المنطقة بعيدة، وكلكم يعلم هذا، وهذه الدقائق التي مضت من الدقائق الغالية التي سوف نتكلم عنها. العنوان مبهم يُبْهِم الموضوع، والبعض منكم يدور في باله الآن (الدقائق الغالية) لعلها الدقائق التي قبل الموت. والبعض يظنها دقائق الهداية. والبعض يظنها الدقائق التي يساق فيها الإنسان إلى الجنة. والبعض كذا كل منكم يدور في ذهنه شيء. والحقيقة -أيها الإخوة- أن الدقائق التي سوف أذكرها هي دقائق الحياة كلها، الدقائق التي تمر دقيقة بعد دقيقة هي في الحقيقة غالية؛ ولكن لا نحس بها، ولهذا قال ابن هبيرة: والوقت أنفس ما عنيتَ بحفظه وأراه أسهل ما عليك يضيع أما الحياة فهي كلها مركبة من ماذا؟ من دقائق دقيقة بعد دقيقة دقيقة بعد دقيقة، ثم تفنى الحياة، ولهذا قيل: دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثوان الحياة كلها مركبة من دقائق، والعجب العجاب من شخص لا يبالي بدقيقة تلو دقيقة تلو دقيقة، حتى تفنى الحياة وهو لا يشعر بِها. إذا بُعث الناس عند الله جل وعلا سألهم، فيقول لهم جل وعلا: {كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ} [المؤمنون:112]؟ فيجيب بعضهم فيقولون: {لَبِثْنَا يَوْماً} [الكهف:19] يوم واحد. يستدرك البعض فيقولون: {أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [البقرة:259] حتى يوماًَ ما عشنا في الدنيا يا رب إنما هي عشية أو ضحاها، ساعات كانت قليلة. يقولون بعدها يؤكدون: {فاسْأَلِ الْعَادِّينَ} [المؤمنون:113]. فيقول الله مجيباً لهم: {قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً} [المؤمنون:114]. الآن فكر! كم سنة مضت من حياتك؟! عشرون؟! بعضكم خمس عشرة سنة؟! بعضكم ثلاثون سنة؟! كيف مرَّت؟! كلمح البصر، بل هو أقرب، ذهَبَت ووَلَّت كَحُلُم.

الحكمة من الحياة ودقائقها الغالية

الحكمة من الحياة ودقائقها الغالية قال سبحانه: {قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً} [المؤمنون:114 - 115] أتظن -أخي الكريم- أن الله خلق هذه الدنيا كلها؛ السماوات، والأرض، والبحار، والجبال، وخلقك فيها، وجعل لك العينين، والسمع، واللسان، والشفتين، والعقل، واليدين، عبثاً؟! تقول: حتى تركب سيارةً، أو تلعب الكرة وقت اللعب، أو تأكل، وتشرب، وتشبع، أو تنكح وترضي الفرج؟! أتظن أن الحياة لهذا خُلِقَت؟! {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً} [المؤمنون:115] فيكون شأننا والحيوانات سواء! إذاً بِمَ ميزنا الله عز وجل؟! {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115]. وهنا يأتي Q إذا كان الله عز وجل لم يخلقنا عبثاً، وخلقنا للغاية التي تعرفونها كيف نقضي هذه الحياة؟! بل كيف نعيش فيها؟! وتعجب كل العجب من ملتزم مُلْتَحٍ يعرف ربه وأوامر ربه جل وعلا! يقول: كيف أقضي فراغي؟! سبحان الله! وهو يحفظ قوله جل وعلا: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح:7 - 8] ويسمع حديث رسوله عليه الصلاة والسلام: (اغتنم خمساً قبل خمس) (لن تزول قدما عبدٍ يوم القيامة)، وقال في الحديث الآخر: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ). ثلاث ساعات في العصر، تسأل شاباً ملتزماً: ماذا فعلت فيها؟ الحمد لله! استغليت الوقت. فيم؟ قرأت القرآن. كم قرأت القرآن؟ نصف ساعة. مغبون وأنت لا تدري، تقول: قرأت القرآن في وقت العصر نصف ساعة، وأضعت ثلاث ساعات، كمن يشتري سلعة بألف دينار ويبيعها بخمسمائة ريال، حصل على خمسمائة؛ لكنه مغبون خاسر، خسر خمسمائة دينار، وهكذا خسر هذا الرجل، (مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ).

أهمية استشعار نعمتي: الصحة والفراغ

أهمية استشعار نعمتي: الصحة والفراغ أنت الآن لا تشعر بالصحة زر أحد مستشفيات يخبر أحد المشايخ عن شاب اسمعوا إلى نعمة الصحة التي لا نشعر بها الآن، يقول هذا الشاب عن نفسه: دخلت على أمي يوماً فقالت لي: يا بني! اذهب بي إلى جارتنا إلى فلانة بالسيارة، قال: لا أستطيع، قالت: يا بني! إن لها علي حقاً، قال: لن أذهب بك -أين طاعة الوالدين؟ - فألحت عليه، فقال لها: بشرط -يشترط على أمه، تباً له- أن آتيك بعد ثلاثين دقيقة بالضبط، وأضرب الهون مرة واحدة، فإن لم تخرجي تركتكِ، قالت: حسناً! انظر إلى الشرط العسير على أمه التي صبرت عليه تسعة أشهر، وأرضعته عامين وتعبت حتى كبر، والآن يشترط عليها ثلاثين دقيقة، يقول: فأتيتها بعد ثلاثين دقيقة، فضرب الهون مرة واحدة، ولم تخرج، فذهب وتركها، وأسرع في الطريق، فلم يمضِ قليلاً إلا وانقلبت به السيارة، الشيخ الذي زاره يقول: رأيته على هذه الحال سنوات، يقول: لا يستطيع أن يحرك في جسمه إلا رأسه فقط، لا يد ولا رجل، سنوات على هذه الحال أصيب بالشلل، عافانا الله وإياكم. ماذا يتمنى هذا الرجل؟ زُر بعضهم، عشر سنوات على ظهره وهو لا يتحرك إنما يُحمل، حتى قضاء الحاجة لا يستطيعها. أخي الكريم! ماذا يتمنى هذا لو خرج لو عوفي؟ يتمنى لو طاف حول البيت يتمنى لو حضر هذه الحلقات يتمنى لو صلى في بيوت الله يتمنى لو حج إلى بيت الله، يتمنى لو جاهد في سبيل الله يتمنى لو أمر بمعروف أو نهى عن منكر يتمنى كل هذا، لكن أنى له؟! (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ). وإليك -أخي الكريم- بعض ما نستغل به أوقاتنا في هذه العطلة، ولعل الواحد منا بعض الأحيان يشتكي لك من كثرة الأعمال، ولو فتَّشْتَ في وقته لرأيتَ الفراغ الكبير، وهو لا يدري، بل جاءني بعض الشباب فقال لي: مشغولٌ مشغولٌ مشغول! قلت: وما شغلك؟! فأعطاني بعض الأعمال، في العصر عمل، والمغرب عمل، والعشاء عمل، قلت له: الظهر، تضيِّع ثلاث ساعات على وجبة غداء، وتقول لي: مشغول؟! ثمان ساعات في الصباح تضيع عليك على مراجعة في مكان واحد وترجع، وتقول لي: مشغول؟! الليل تجلس وتضحك وتلعب حتى منتصف الليل، وتقول لي: مشغول؟! مشغولٌ بِمَ يا عبد الله؟! بعض الناس يضحك على نفسه وهو لا يشعر، بل بعض الناس خاسرٌ أشد الخسارة، وإن رأيتَه يقول: الحمد لله! أنا أستغل وقتي وأستفيد منه.

أطفال استثمروا أوقاتهم (خمسة نماذج من السلف)

أطفال استثمروا أوقاتهم (خمسة نماذج من السلف) اسمع -أخي الكريم- إلى بعض أحوال سلفنا، وكيف كان الواحد منهم يستغل وقته اسمع واعتبر! وأريد منك بعد هذا المجلس أن تعمل مثل الساعة، وأن توقف نفسك لله جل وعلا، لأن هذا العمر قصير، فتستغل فيه كل دقيقة غالية إن شعرت أنها غالية، واعلم أن الله عز وجل قد عظم الوقت في آيات كثيرة، فأقسم به، قال سبحانه: {وَالضُّحَى} [الضحى:1]، وقال: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس:1]، وقال: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل:1]، وقال: {وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} [الليل:2]، وأقسم وقال: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:1 - 2] أقسم بالوقت في آيات كثيرة لبيان أهميته. فاسمع -أخي الكريم- إلى بعض أحوال سلفنا، قبل البداية أقص لك قصة خمسة أطفال.

النموذج الأول: البخاري

النموذج الأول: البخاري الطفل الأول: اسمه محمد بن إسماعيل: وُلِد في بخارى، والعلماء -الآن- كلهم عالة على هذا الصبي، كان صغيراً في السن، يأتي إلى مجالس أهل العلم -واسمع إلى هذه القصص وصدق أو لا تصدق- فيجلس بينهم، فيسأله المؤدب -يسمونه: المؤدب- لأن العالِم ليس فقط يحفِّظهم؛ بل يؤدبهم، وكان الشيخ هو المربي، وكان الذي يحفَظ العلم يتعلم مع العلم الأدب، كان الإمام أحمد يجلسُ قليل من الطلبة حوله يأخذون منه العلم، أما الألوف المؤلفة فكانوا يأخذون من أدبه وحسن سمته. فقال له المؤدب: كم كتبت اليوم؟ فقال: اثنين، ولم يقل: حديثين إنما قال: اثنين، الإمام البخاري رحمه الله كان صبياً صغيراً، فضحك منه الناس، مجلسٌ لا يكتب فيه إلا حديثين، صبي صغير يعني: بالغصب يكتب له حديثاً أو حديثين، فقال لهم رجل: لا تضحكوا عليه، فلربما يضحك عليكم يوماً ما، وضحك البخاري عليهم يوماً ما، وتعجبوا من أمره، وما ذُكر أحد منهم في التاريخ، وما سُمي، وما اعتبر لأحد منهم، أما هو فالعلماء كلهم عالة على علمه. البخاري رحمه الله جالس وهو صبي عند شيخ يحدِّث، أخذ يقرأ الأحاديث، فقال: حدثني فلان، عن فلان، وأخذ يحدِّث، فلما قال حديثاً عَلِم محمد بن إسماعيل هذا الصبي الصغير أن الشيخ قد أخطأ، فراجعه فرد الشيخ مرة ثانية، فراجعه فرد الشيخ مرة ثالثة، فراجعه محمد بن إسماعيل، وهو صبيٌ صغير، فقال الشيخ: مَن هذا؟ قالوا: هذا ابن إسماعيل، فنظر في نفسه وراجع، فقال: صدق، خذوا منه، إن هذا يكون يوماً من الأيام رجلاً، صبي صغير لا يفارق مجالس أهل العلم أتعرف كم حفظ؟ أكثر من سبعين ألف حديث وهو صبي صغير أين أولو الهمم العالية؟! تعجب من بعض الإخوة يقول: ليس عندي وقت! فتِّش في وقته؛ يشرب شاي وقهوة، سوالِفٌ وضحك، يَفِرُّ بالسيارة، يجلس في البيت يفكر! ماذا أفعل؟ ثم يذهب النهار كله وهو يقلب كفاً على كف، يقول: ما أدري ماذا أفعل! يحفظ سبعون ألف حديث وهو صغير.

النموذج الثاني: ابن تيمية

النموذج الثاني: ابن تيمية الطفل الثاني: يُسمى ابن تيمية، هذا الصبي الصغير سمع به أحد الشيوخ من دمشق، فأتى إلى بلده يسأل عنه، قال: سمعت أن شاباً يقال له: ابن تيمية، له حافظة قوية أين هو؟ فقال له أحد الناس: اجلس اجلس، فهو يمر في هذا الطريق إلى الكُتَّاب إلى الدرس، فجلس ينتظر حتى جاء ومعه لوح كبير، وهو صبي صغير، واللوح ربما كان أكبر منه، يحمل اللوح وتَخَيَّلْ هذا المنظر! يا ليتنا ننظر إلى هذه المناظر، شاب يحمل كتابه أو قلمه أو دفاتره وهو صغير في السن، يأتي إلى مجلس أهل العلم ليحفظ ولو كان في مجلس الشيوخ أو العلماء، ويكتب ويحفظ، لقد افتقدنا هذه المناظر منذ زمن ونراها اليوم تبذر هذه البذور الجديدة لبعض الشبيبة؛ لكن تتخطفهم الشهوات والأهواء، وأنى لهم أن يصبروا وهذه الشهوات قد امتلأت من كل مكان، إلا من ثبته الله جل وعلا. يقول: فنظر إليه فأوقفه، قال: أنت ابن تيمية؟ قال: نعم، قال أعطني اللوح، فأعطاه، وكتب له ثلاثة عشر حديثاً من حِفْظِه، قال: اقرأ، فقرأ، ثم أخذ منه اللوح، قال: اقرأها علَي، فقرأ الثلاثة عشر حديثاً وما أخطأ فيها، فتعجب منه، فكتب للأحاديث أسانيد: حدثني فلان عن فلان، وكتب له أسانيد كثيرة، قال: اقرأها، فقرأها مرة واحدة، كلها، فقال: إن هذا الصبي لم يُعرف في عصره مثله، وسوف يكون له شأن، فصار شيخ الإسلام وشيخ هذا الدين ابن تيمية عليه رحمة الله، انظر وهو صغير ماذا يفعل!

النموذج الثالث: النووي

النموذج الثالث: النووي الصبي الثالث: اسمه يحيى بن شرف الدين أبو زكريا النووي، رحمه الله، كان عمره عشر سنوات، فكان الصبيان يُكرِهونه على اللعب ولا يلعب معهم حتى كان يبكي، يُكرِهونه بالغصب، لا بد أن تلعب معنا فلا يسمع لهم بل كان يجلس يقرأ القرآن اللعب قليل عنده، وفي يوم من الأيام أرغمه أبوه على أن يأتي معه في الدكان ويعمل معه، وكان يأتي إلى الدكان ولا يجلس مع أبيه، يقرأ ويحفظ القرآن، وربما أرسله أبوه فيمكث في الطريق، فيسأل أهل العلم عليه رحمة الله، حتى جاءه رجل فنظر إليه، فقال: إنه سوف يكون له شأن، فقيل له: أمؤدب أنت؟ قال: لا، ولكن أنطقني الله جل وعلا.

النموذج الرابع: أبو يوسف

النموذج الرابع: أبو يوسف اسمع إلى الرابع وهو عجيب: اسمه أبو يوسف! مَن أبو يوسف؟ ومَن منكم لا يحدث عن أبي يوسف يعقوب؟ صاحب أبي حنيفة، لما كان صبياً توفي أبوه ولا عذر لليتيم في طلب العلم، توفي أبوه، وكانت أمه تغزل وتجمع المال، فقالت لولدها: يا بني! اذهب إلى هذا القصار (رجل ينظف الثياب) حتى تتكسب، أنت يتيم وليس عندك مال، فكان يذهب إلى القصار، ترسله إلى القصار فعندما تذهب أمه يهرب إلى أين؟ إلى الملعب إلى الشوارع إلى النوادي؟ أو يتجول في الأسواق؟ لا، إنه أبو يوسف يفر إلى حلقة أبي حنيفة، فيجلس ويكتب العلم ويحفظ معه، وكان أبو حنيفة يعجب به ويقدمه على غيره؛ لحرصه على العلم، فتبعته أمه يوماً وقد علمت أنه يهرب، فدخلت عليه في مجلس أبي حنيفة فقالت لـ أبي حنيفة، وتَخَيَّلْ! هذا المنظر دخلت الأم وكانت تجر الولد ويأتي مرة ثانية وتجر الولد -في الحلقة- ويهرب مرة ثانية يأتي إلى الحلقة، انظروا الإصرار والهمة العالية، فأتت إلى الشيخ يوماً من الأيام، فقالت لـ أبي حنيفة: ما أعلم لهذا الصبي فساداً غيرك، أنت الذي أفسدت علي هذا الصبي، إنه صبي يتيم ليس معه شيء، وأنا أنفق عليه بمغزلي، فاتركه يعمل ويتكسب له شيئاً ينتفع به، فنظر إليها أبو حنيفة، وقال: اذهبي يا رعناء فها هو ذا يأكل الفالوذج بدهن الفستق، الفالوذج أغلى أنواع الطعام حتى الأمراء لا يأكلونه إلا القليل، فقالت المرأة الأم: أما أنت فشيخ قد خرفت فذهب عقلك وتَرَكَتْه وذهبت. قال أبو يوسف: فمرت الأيام -انظروا الهمة العالية كيف يستغل الإنسان وقته- يقول: فكان أبو حنيفة يعطيني من ماله ولا يترك حاجة إلا أعطاني إياها، ومكث ينفق علي حتى فتح الله علي في العلم، وصرت قاضياً، وكنت أدارس هارون الرشيد الخليفة، فأجلس معه على مائدة واحدة، وفي يوم من الأيام قال لي هارون الرشيد: تقدم يا يعقوب وكل من هذا الطعام؛ فإنه لا يكون لنا في غير هذا اليوم مثله، فقال: وما هذا الطعام؟ فقال هارون الرشيد: هذا فالوذج بدهن الفستق، قال أبو يوسف: فضحكت، فقال لي الخليفة: وما أضحكك؟ فقلت: قصة حدثت، قال: فألح علي حتى أخبرته الخبر، فقال هارون الرشيد وكان رشيداً: إن هذا العلم والله لينفع في الدنيا والدين رحم الله أبا حنيفة كان ينظر بعين عقله ما لا ينظر بعين رأسه، فأكل الفالوذج بدهن الفستق، صبي صغير يهرب من أمه إلى أين يا غلام؟ إلى حلقة من حلقات العلماء والمشايخ يجلس ويكتب ويحفظ العلم ثم يرحل في سبيله.

النموذج الخامس

النموذج الخامس شاب صغير يسمى سهل: هذا الصبي ذََكَرَ الله وعمره ثلاث سنوات، وهذا طبيعي فإن كثيراً من الصبية الآن عمره ثلاث سنوات يتكلم، فمنا من يحفِّظه الكلمات والأغاني، وبعضنا يحفظه: الله، ولا إله إلا الله، الله أكبر سبحان الله، ورأيت صغاراً يحفظونها، وصام وعمره خمس سنوات، بدأ بصيام رمضان إلى أن مات، وحفظ القرآن وعمره ست سنوات، وسافر في طلب العلم وعمره تسع سنوات. هؤلاء الصبية الخمسة، وغيرهم كثير. فهذا الإمام أحمد كان صغيراً، وكانت أمه لا تتركه يخرج من البيت، تخاف عليه من صغر سنه وكان يذهب للعلم رحمه الله. وعمر بن عبد العزيز كان في صغره يذهب إلى المدينة وطلب من أبيه هذا أن يجلس مع الفقهاء ويتعلم منهم. ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه كانت تربيته في الصغر تربية رجال مَن ربته؟ إنها أمه هند بنت عتبة، هذه المرأة هي التي ربت معاوية حتى كان إذا اعتزى كان يقول: أنا ابن هند، قال لها رجل يوماً من الأيام: هذا معاوية سوف يسود قومه، فقالت: ثَكِلْتُه إذاً -أي: أموت إذا كان يسود قومه فقط- إذا كنت لم أربه ليسود الأقوام كلهم.

صور من ضياع الأوقات والأعمار

صور من ضياع الأوقات والأعمار نبدأ أيها الإخوة الكرام ببعض الأحاديث والآثار ونسردها سرداً ونقرأها، والواحد منا يعتبر، ولكل حادثة عبرة، واسمع أخي الكريم واعتبر، ثم انظر في حالك وفي يومك وليلتك. وقال بعض السلف: واسوأتاه واسوأتاه مم؟ قال: من شيخ جاهل رجل طاعن في السن، ولا يعرف ربما جزءاً واحداً، لا يحفظه ولا يعرف تفسيره، بل بعض الإخوة الصالحين ظل سنوات في الالتزام، قل له: اقرأ {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [البينة:1] تراه يتلكأ فيها، والبعض منهم سله سورة الإنسان في أي جزء؟ يقول: لا أدري والبعض منهم قل له: فسر لي أصغر سورة في القرآن {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} [الكوثر:3]؟ لا يدري، وبعضهم سله عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أو بعض أبنائه أو بعض الغزوات، ومتى كانت؟ يقول: هاه هاه لا أدري! أي علم تعلمته في عمرك؟ لهذا مدح الله جل علا أهل العلم في آيات كثيرة واسمع إلى هذه الأخبار واعتبر منها وصدق بعضها أو لا تصدق فأنت حر، ولكن اعلم أن القوم قد وصلوا، وأن المجد قد وصله قوم وحين تخلفنا عنه.

اقتران العلم بالفقر

اقتران العلم بالفقر اسمع إلى أولهم وهو البخاري لما كبر يقول عمرو بن حفص الأشقر: فقد البخاري أياماً من كتابة الحديث في البصرة، أياماً لا يكتب الحديث، أين هو أبو عبد الله عليه رحمة الله؟ فقال: فطلبناه فوجدناه في بيت وهو عريان، ما عنده ملابس، يقول: وقد نفد ما عنده، ولم يبق معه شيء بليت الثياب، وما عنده نقود يشتري ثياباً، قال: فاجتمعنا وجمعنا له الدراهم حتى اشترينا له ثوباً وكسوناه، ثم اندفع معنا في كتابة الحديث، الفقر والعلم قرينان، ويندر أن تجد فقيهاً غنياً وتعجب كل العجب! من طالب علم ترك العلم لأجل التجارة، معاشه قد بلغ الخمسمائة أو الستمائة بل بعضهم الألف ولا يرضى بهذا إلا ويقضي ساعات في فتح محلات تجارية، والتجارة ليست بحرام بل نِعم المال الصالح للرجل الصالح؛ لكن أيهما تقارن يا عبد الله: طلب علم أو طلب مال فكر وقارن!

منزلة أهل العلم بالنسبة لغيرهم

منزلة أهل العلم بالنسبة لغيرهم يقول الله جل وعلا: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]. هل يستوي رجل من الصباح يحفظ القرآن، فإذا أشرقت الشمس صلى، ثم يجلس على قراءة الكتب، ويعكف على التلخيص، ثم يكتب ويبحث ثم يحفظ ويردد، ثم إذا جاء الضحى صلى، ثم غفا غفوة قليلة، ثم استيقظ للظهر، ثم جلس بعد الظهر يقرأ، ثم صلى العصر وحفظ، ثم ذكر الله وكتب، ثم بعد المغرب حضر الدروس، ثم بعد العشاء أخذ يراجع ويردد، ثم بعدها إذا جاء الليل ركع ركعات ثم صلى الفجر، ثم قام في يومه الثاني كما هو في اليوم الأول. ورجل آخر في الصباح نائم في العصر مجالس لغو في المغرب يتجول في الطرقات في العشاء لا يحضر إلا درساً بسيطاً ثم يرجع إلى البيت يلهو ويلغو هل يستوي هذا وذاك؟ {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر:9].

صور من تضحيات السلف

صور من تضحيات السلف يقول مالك رحمه الله إمام دار الهجرة: "لا يُنال هذا الأمر -أي: العلم- حتى يذاق فيه طعم الفقر" لا بد أن تضحي. بعض الإخوة لو تُعرض عليه ساعتان زيادةً في الدوام وله مائتا دينار زيادة، هل يتردد؟ لا يتردد! مائتا دينار لعله يفكر في أفكار جديدة في شراء سيارة في أثاث في ترف في أمور كماليات لا يحتاج إليها، فيزيد ساعتين تطلب منه طلباً آخر، تقول: يا فلان! نحضر درساً واحداً لمدة ساعة واحدة ولك الأجر العظيم عند الله؟ يقول: لا. أنا مشغول، والله لا أستطيع! عندي الزوجة والأولاد، وعندي أعمال وأشغال كثيرة سبحان الله! أتقارن هذا بذاك؟!

تضحية الإمام مالك في طلب العلم

تضحية الإمام مالك في طلب العلم الإمام مالك يقال عنه: إنه أفضى به طلب العلم -أتعرف إلى أي حال وصل به الإمام مالك هل أحد منا ما يسمع به انظروا يا إخوان- يقول ابن القاسم عنه "أفضى به إلى أن نقض سقف بيته فباع خشبه" ما عنده نقود، أنزل السقف وأخذ الخشب فباعه؛ ليتكسب ويستمر في طلب العلم؛ هل وصلنا إلى هذه الدرجة أن الواحد منا يضحي بساعات قليلة من العمل، الزيادة في العمل إذا كنتُ منشغلاً في طلب العلم ليس لها داعي، ولا داعي للتجارة إذا كانت تشغلني عن طلب العلم، ولا داعي للمال والأثاث الزائد إذا كان يشغلني عن حلق العلم.

افتقار ابن معين في سبيل تحصيل الحديث

افتقار ابن معين في سبيل تحصيل الحديث يا عبد الله! قارن واعلم أن الله جعل الشهود بعد شهادته وشهادة الملائكة شهادة أولي العلم. يروى عن يحيى بن معين رحمه الله وكل أهل العلم قد سمع به كل طالب علم لا بد أنه قد سمع بهذا الرجل رحمه الله، خلَّف له أبوه ألف ألف درهم -مليون- والدرهم من فضة، ولعل اليوم يصبح عندنا هذا الرجل مليونير تَخَيَّلْ! تصبح في الصباح فإذا أنت مليونير ماذا تفعل بهذه الأموال؟ يقال عنه رحمه الله -والله يا إخوة قلوب تعلقت بالسماء تمشي الرِّجل على الأرض والرأس في الثريا أما الرِّجل في الثرى، الواحد منهم يمشي على الأرض ولا تعدل عنده جناح بعوضة، مليونير، بيوم وليلة- يقال عنه: إنه أنفقها كلها على تحصيل الحديث، حتى لم يبق له نعل يلبسها، مشى حافياً، وما ترك درهماً واحداً يشتري به نعلاً، كلها أنفقها في طلب العلم هل وصلنا إلى هذا المستوى؟ همة عالية -والله- تنطح الجبال، وتبلغ السماء، والرِّجل تمشي على الأرض.

صور أخرى للتضحية في طلب العلم

صور أخرى للتضحية في طلب العلم اسمع إليهم كيف كانوا يجوعون لأجل أن يحفظ الواحد منهم حديثاً واحداً. يقول بكر بن حمدان المروزي: سمعت ابن خراش يقول: شربت بولي في طلب الحديث خمس مرات، في سفر صحراء عطش يموت وللضرورة أحكام، وتباح المحرمات وقت الضرورات من شدة العطش، في الطريق ما عنده ماء، فيشرب بوله -أجلكم الله- هل يرده هذا عن العلم؟ لا استمر في طلب الحديث ولا يبالي بالجوع. أقول لك أخي الكريم: تقول: ما عندي وقت؟ أقول لك: فرط يوماً واحداً من الأيام في الغداء فهل تستطيع أن تتحمل معنا درساً بعد العشاء؟ إلى متى يستمر؟ إلى الثانية عشرة. لكن العشاء متى أتعشى؟ سبحان الله! طالب العلم لا يفكر في العشاء، طالب العلم لا يقارن الغذاء بطلب العلم غذاؤه وروحه هذا العلم، بل بعضهم لو تضع أشهى أنواع الطعام عنده والكتاب لا يبالي بالطعام؛ لأن ألذ ما عنده هو هذا العلم. اسمع إلى غيرهم! يقول ابن الجوزي: كنت في زمن الصبا، آخذ معي أرغفة يابسة، فأخرج في طلب الحديث، وأقعد على نهر ميسان، فلا أقدر على أكلها، خبز لا يستطيع الواحد أن يأكله، إلا عند الماء، فكلما أكلت لقمة شربت عليها، وعين أمتي لا ترى إلا لذة تحصيل العلم، يترك الطعام كله ويشبع بكسرة خبز لا يستطيع بلعها إلا بشربة ماء كل هذا لماذا؟ يجلس ويحفظ الأحاديث ويطلب العلم. حتى النوم لا ينامون إلا قليلاً. الجوع قلنا: لا يأكلون إلا قليلاً. المال قلنا: لا يجمعون واسمع إلى أخبارهم، وتعجب من رواياتهم! تقول فاطمة بنت الشافعي -أما الشافعي فله غرائب وله كرامات رحمه الله، وهذا رجل لم تلد النساء مثله في يومه، رجل قلَّما تجد مثله في التاريخ- تقول عنه فاطمة: ربما أوقدت له في ليلة سبعين مرة، أتعرف لماذا؟ لطلب العلم؛ ليكتب فائدة أو يتذكر شيئاً يكتبه، سبعون مرة في ليلة واحدة، أنت تفعلها مرتين؟ بل بعضنا لا يفعلها لصلاة الفجر لا يوقَد له سراج، ولو قلت لك: هناك حلقة علم الساعة الثانية في الليل هل تحضرها؟ هذا يوقَد له سبعين مرة في ليلة واحدة ويقوم وينام ويقوم وينام؟ يقول أسد بن الفرات وهذه أيضاً فيها غرابة -وهو تلميذ الإمام مالك، انظر إلى هؤلاء الرجل الأفذاذ وانظر ماذا خرجوا- يقول: أتى محمد بن الحسن، فقال: إني غريب! قليل النفقة، والسماع منك نزر، أي: صعب لا أستطيع أن أسمع منك العلم والطلبة عندك كثير فما حيلتي؟ قال: اسمع مع العراقيين بالنهار -يقول محمد بن الحسن لهذا الرجل- يقول: أحضر الدروس في النهار، ولا تتركها، وأجعل لك الليل وحدك في الليل لا يسمع بك أحد فتبيت عندي وأسمعك ما رأيك؟ قال أسد: وكنت أبيت عنده وينزل إلي يعني: في الليل، ويجعل بين يدي قدحاً فيه ماء، ثم يأخذ في القراءة يشرح، قال: فإذا طال الليل ونعست، نام، النهار كله علم، والليل يجلس يسمع، قال: فإذا طال الليل ونعست ملأ يده ونضح وجهي بالماء فأنتبه، قال: فكان ذلك دأبه ودأبي حتى أتيت على ما أريد منه من السماع عليه. هل جربت هذا؟ أم هل تصورت هذا؟ الواحد من الدرس تنعس عينه إذا صار الدرس ساعة ونصف لا نتحمل، سبحان الله! انظر إلى هؤلاء الرجال وكيف وصلوا. يقال عنه: إن جميع أوقاته كانت كلها في دروس حتى في الطريق، وكان ربما سقط في حفر الطريق، يمشي وحوله التلاميذ وربما سقط وهو لا يدري؛ لأنه يدرس، قال: وكان ربما سقط في جرف أو خبطته دابة وهو لا يشعر.

شغف مكحول بالعلم

شغف مكحول بالعلم يقول مكحول رحمه الله أُعتقت بـ مصر -كان عبداً مملوكاً، وتَخَيَّلْ! المملوك إذا أُعتق مثل الأسير حين يرجع ماذا يتمنى؟ يذهب يرتاح، يترفه- قال: أُعتقت بـ مصر فلم أدع بها علماً إلا حويت عليه فيما أرى، يقول: كل نواحي مصر ما أظن فيها علماً إلا حصلت عليه، نحن نقول عن الكويت هذه البلدة الصغيرة هل حويت على كل علم فيها؟ تسمع بالعلماء لعلهم في منطقة أخرى ما هي بعيدة، إذا ما كان في مسجدي أو ما أحضر يقول: مصر كلها ما فيها علم إلا حويت عليه هل اكتفى؟ يقول: لا. ثم أتيت العراق، ثم أتيت المدينة فلم أدع بهما علماً إلا حويت عليه فيما أرى، يقول: أول شيء مصر ثم العراق ثم المدينة هل بقي شيء يا مكحول؟ قال: ثم أتيت الشام فغربلتها وما تركت فيها شيئاً، ماذا بعد مصر والعراق والمدينة والشام؟ لم يدع علماً إلا حوى عليه فيما يرى! انظر الهمة العالية، والله إنها لدقائق غالية تمر في أعمارنا وتمضي وتذهب، ثم يقلب الواحد منا كفيه، ثم يقول: {يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر:56] يا حسرتا على هذا الشباب! يا حسرتا على الأوقات التي ضاعت! يا حسرتا على العمر! يا حسرتا على هذه الساعات! بل إن بعضنا يقدر أوقاته الضائعة ليست بالدقائق، بل يقدر الآن الوقت بالساعات، بل بعضنا بالأيام، تمر عليه الأيام تلو الأيام، ولم يستفد منها علماً انظر إليهم وقارن نفسك بهم.

أهمية الحفظ والتكرار لطالب العلم

أهمية الحفظ والتكرار لطالب العلم العلم لا يكفي بأن تحضر درساً ثم ترجع، لا بد من الحفظ والتكرار، فمثلاً تحضر درساً في الصباح، والواحد منا لو حضر درساً في الحديث، يحفظ خمسة أحاديث في البخاري وشرحها، هل يغنيك هذا؟ لا يغنيك إلا أن تأخذ بعض هذه الأحاديث وتردد الحديث مرة وعشرة ومائة حتى تحفظ الحديث هكذا العلم، فالعلم لا ينال بالراحة لابد من التعب، الصوت يذهب من كثرة التكرار، تتعجب من بعضهم يقول: عشرون سنة مضيتها ما حفظت إلى الآن إلا خمسة أجزاء في القرآن، والبعض يقول: خمس سنوات كل ما حفظت أنساه ما السبب؟ ما الذي يجري؟ بل بعضنا يحضر في اليوم أفي الأسبوع خمسة دروس أو عشرة دروس وحصيلته في العلم لا شيء، اسمع إليهم كيف كانوا يحفظون؟ يقول جعفر بن المراغي دخلت مقبرة في تستر، فسمعت صائحاً يصيح في المقبرة، يقول: والأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة، والأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة، والأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة، يقول: فتعجبت! ساعة طويلة وهو يردد ويردد ويردد، فكنت أطلب الصوت وأبحث عنه إلى أن رأيت ابن زهير أحد الأئمة عليه رحمة الله، وهو يدرس مع نفسه من حفظه حديث الأعمش! جالس مع نفسه وهو يردد السند حتى يحفظه هلا فعلناها مع آيات الله يجلس الواحد منا فيقرأ؟ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكٌَ} [التحريم:1] ويردد ويردد ويردد، حتى يحفظ الآية، ثم التي بعدها، ثم التي بعدها، ولا يكل ولا يمل، هلا فعلناها؟ أما أن الواحد منا يحضر الدرس ثم يرجع يلخص، ثم ماذا استفدت؟ لا شيء. في الأسبوع القادم سله؟ يقول: هاه هاه لا أدري. واسمع إلى غيرهم! يقول أبو زرعة عن أحمد بن حنبل: "كان يحفظ ألف ألف حديث" أي: مليون حديث قد يكون لمتن الحديث الواحد خمسون طريقاً، فتعتبر الطرق خمسين حديثاً وهو حديث واحد؛ لكن بكثرة الطرق تُعدَّد الأحاديث، فكان يحفظ من هذه الأحاديث ألف ألف عليه رحمة الله، فقيل لـ أبي زرعة: كيف عرفت هذه الأحاديث وعددها؟ فقال: ذاكرته وأخذت عليه الأبواب كلها، انظر إليهم كيف كانوا يستغلون أوقاتهم. واسمع إلى هذا الرجل قبل الموت كيف كان يستغل وقته؟ اسمع هذه القصة العجيبة يقول الفقيه أبو الحسن عن ابن عيسى: دخلت على أبي الريحان البيروني وهو يجود بنفسه عنده حالة الاحتضار، يقول: قد حَشْرَجَ نَفَسُه واحتضر، نَفْسُه تكاد تخرج قبل الموت، قال: حَشَرَج نَفَسُه، وضاق به صدره، فقال لي في تلك الحالة: كيف قلت يوماً حساب الجدات الفاسدة؟ هذه مسألة في المواريث، يسأله قبل الموت، فقلت له إشفاقاً عليه: أفي هذه الحالة تسأل السؤال؟ قال لي: يا هذا! أودع الدنيا وأنا عالم بهذه المسألة، ألا يكون خيراً من أن أخليها وأنا جاهل بها؟ قال: فأعدت ذلك عليه، وحفظ المسألة قبل الموت، قال: فخرجت من عنده وأنا في الطريق فسمعت الصراخ حوله وقد ذهبت نفسه عليه رحمة الله. البعض منا لو تقول له: يا أخي! أدرس هذا الباب في العلم، يقول: ماذا أستفيد؟ سبحان الله! تلقى الله وفي صدرك العلم خير لك من أن تلقى الله جاهلاً {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هو} [آل عمران:18] أعظم قضية شهد الله عز وجل بها ثم مَن بعد الله، {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هو وَالْمَلائِكَةُ} [آل عمران:18] بعد الله جل وعلا الملائكة تشهد، بعد الملائكة من يشهدون؟ {وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} [آل عمران:18] بعد الملائكة أهل العلم (فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم). وقال أيضاً عليه الصلاة والسلام: (إن صاحب العلم يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحر) تستغفر لصحاب العلم وفرق بين هذا وذاك. أبيت سهران الدجا وتبيته نوماً وتبغي بعد ذاك لحاقي

بعض آداب طالب العلم

بعض آداب طالب العلم أخي الكريم! عليك ببعض الآداب أثناء الطلب:

تعلم الأدب مع الطلب

تعلم الأدب مع الطلب أول أمر: تعلم مع الطلب الأدب، فلا خير في طالب علم لا يحسن الأدب، وكم هم أهل العلم في هذا الزمان الذين لم ينشروا علمهم بسبب سوء أدبهم، بل لعلك تعجب بعض الأحيان من شاب يحفظ كتاب الله، وسنة رسول الله، وأقوال أهل العلم، فإذا جلس مجلساً أساء الأدب على هذا، وتكلم في هذا، واغتاب ذاك، وسب ولعن وشتم وسفك دماء الناس ما السبب؟ إنه تعلم العلم ولم يحسن الأدب. اسمع إلى الشافعي! مَن شيخُه؟ مالك، يقول عن نفسه: كنت أفتح الكتاب صفحاً رقيقاً هيبة له ألا يسمع الصوت انظروا إلى الأدب -يا إخوة- هل رأينا هذا الطالب مع هذا الشيخ في هذا الزمان؟ لم أرَ طالباً مع شيخه يفتح الكتاب بهدوء حتى لا يزعج شيخه هيبة له، والجزاء من جنس العمل. تلميذ للشافعي يسمى الربيع، يقول الربيع عن نفسه: لم أتجرأ أن أشرب الماء والشافعي ينظر إلي هيبة له، يقول: أستحي أن أشرب الماء أمامه. انظروا إلى الأدب! وكم سمعنا عن طلبة علم يجلسون مع الشيوخ، فعندما يأخذ أحدهم بعض العلوم، ويظن أنه قد وصل، وقد علم بعض الشيء، وقد اعتمد على نفسه خرج في الناس يقول: انظروا إلى الشيخ الضال المضل! انظروا إليه عنده خطأ كذا! وفيه عيب كذا، وسوءته كذا، وأخذ يفضحه بين الناس ويسيء الأدب أعلمه الرماية كل يوم فلما اشتد ساعده رماني وكم علمته نظم القوافي فلما قال قافية هجاني واعلموا -أيها الإخوة- أن هؤلاء قلة لا كثرهم الله جل وعلا، فاحرص يا عبد الله على الأدب أثناء الطلب. ولهذا لا حاجة لنا في هذا الزمان لطلاب علم لا يعرفون كيف يتعاملون مع الناس، ويحسنون أخلاقهم، ولهذا سمعت الألباني حفظه الله يوماً يقول: إن الأمة الإسلامية تشهد صحوة علمية، يقول: أما الصحوة التربوية فلا! وصدق حفظه الله وكأنه ينظر بعين ثاقبة إلى أحوال هذه الأمة، العلم ينتشر أما التربية أما الأدب أما حسن الخلق؛ فقلَّما تجد شاباً طالباً للعلم يحسن خلقه مع الناس، هذا نادر في الوجود إلا فيمن وفقهم الله جل وعلا.

البدء في الطلب بالأولويات

البدء في الطلب بالأولويات الأمر الثاني يا عبد الله: عليك أثناء الطلب بالأولويات، فبعض الناس لا يعرف في أثناء الطلب ماذا يقدم على ماذا؟ وقد سمعت أحد المشايخ يخبر عن أحد الطلاب، يقول: إنه يحفظ اثني عشر طريقاً لحديث (من أتى الجمعة فليغتسل) يحفظ اثني عشر طريقاً، ولا يعرف آداب غسل الجمعة! بالله عليكم أيها الإخوة، أيهما أولى: أن يتعلم أولاً آداب غسل الجمعة ليحسن عبادته أولاً أو يتعلم هذه الطرق؟ كلاهما مهم لكن هناك أولويات، لا بد أن نتعلمها، ولهذا تعجب من بعض الإخوة حيث تجده بعض الأحيان يجلس يقول لك: فلان وثقه فلان -مهتم منكب على هذا العلم، وهذا علم مهم، ولا بد من تعلمه، وهو من فروض الكفايات- وفلان ضعفه فلان وفلان ضعيف، وفلان صادق، وفلان فيه كذا وفلان قال كذا، ولكن سله عن تفسير القرآن؟ ما قرأ تفسيراً واحداً لكتاب الله، وأقل القليل للمبتدئين تفسير ابن كثير هل قرأت؟ يقول: لا، قرأت جزءاً أو جزأين بالله عليكم أيهما أولى؟ طالب العلم أول ما يقرأ كتاب الله، ويتعلم معانيه، ويحفظه ويقرأ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتعلم معانيها، ويحفظها ويتعلم شيئاً من الفقه في عبادته، وشيئاً من العقيدة لإيمانه ودينه، ويتعلم بعض العلوم شيئاً فشيئاً، أما أنه يريد أن يصل إلى أعلى الدرجات من البداية، فإنه سوف يسقط، وهذا غالباً ما يصيبه العجب والغرور ثم تضيع حياته وما استفاد شيئاً. وأنصحك في باب الأولويات، بالتدرج في طلب العلم؛ فإن كثيراً من الشباب يسأل: بماذا أبدأ من الكتب الآن؟ فيضع له جدولاً وبرنامجاً في هذه العطلة فمثلاً: يقرأ في التفسير تفسير ابن كثير وفي الحديث مختصر صحيح البخاري للزبيدي مثلاً، وابدأ في الفقه بمتن بسيط أو احضر عند بعض المشايخ، وفي التوحيد اقرأ فتح المجيد، أو اسمع أشرطة الشيخ ابن عثيمين فيه، أو اقرأ كتابه، وفي النحو كذا، وفي المصطلح كذا، وفي الأصول كذا، وضع له جدولاً، أحيلك أخي الكريم إلى كتاب مختصر مبسط بعنوان: برنامج تفصيلي لطالب العلم، ولعله وزع عند كثير من الشباب، هذا يختصر لك التدرج في طلب العلم، وكيف تبدأ وبأي الكتب، ولا تنتقل من كتاب إلى ما بعده حتى تختم ما يوازيه من الكتب، وبهذا تكون قد تدرجت في طلب العلم.

الحرص على الرفقة الصالحة

الحرص على الرفقة الصالحة ثالثاً: عليك بالرفقة الصالحة أثناء الطلب، لا يشترط أن يكون ملتحياً قد يكون ملتحياً لكنه مثبِّط، قد يصلي الفجر لكنه في العلم مثبِّط، إذا أردت أن تحرص على طلب العلم فاحرص على طلاب العلم أن تصحبهم، أصحاب الهمم العالية، تجلس مع الواحد فيقول لك: قرأت اليوم (200) صفحة هذا وردي في اليوم القراءة، وذاك يتحسر ويندم أن ربعه الذي يراجعه قد فاته هذا اليوم؛ لأن بعضهم تدمع عيناه إذا فاته ورده، هذا تحرص عليه وتحرص على ذاك الذي إن طرقت عليه الباب فقلت له: ما رأيك نشرب قهوة عند فلان؟ يقول لكم: اسمحوا لي وقت الراحة ليس هذا الوقت؛ لأن هذا وقت الحفظ أو وقت التلخيص، وأنا لا أفرط في هذه الأوقات، احرص على هؤلاء وعض عليهم بالنواجذ، وإياك والبطالين الذين ما عندهم في اليوم والليلة إلا الزيارات والتجول، في الصباح يقضي بعض المراجعات، وفي الظهر ينام أو يقرأ الجريدة، وإذا جاء العصر زار فلاناً، وآخر العصر زار آخر، وبعد المغرب شرب قهوة عند فلان، وجاء في الليل وقال: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، اليوم قضيناه كله في طاعة الله زيارةً للإخوان، هذا بطال فقد أضاع وقته وأضاع وقت غيره، إياك إياك وهؤلاء! حتى أن ابن الجوزي جعل لهؤلاء فصلاً، فقال: الفراغ بلاء، يقول لم أستطع أن أرد الزوار يقول: إن استطعتُ أن أعتذر اعتذرت بلباقة، وإن لم أستطع فأختصر الكلام وأستغل الوقت في تبرية الأقلام، وتقطيع الكتب، وتسطير الأوراق وغيرها، استغلالاً للوقت في طلب العلم في تجهيز أوراقي لطلب العلم، احرص على وقتك ألا يضيع مع رفقة هممهم دنية، واحرص على أصحاب الهمم العالية، وإن كان لك أصحاب من هؤلاء فحثهم لعلك أن تكون ممن سن سنة حسنة.

عدم انشغال الطالب بعيوب الناس

عدم انشغال الطالب بعيوب الناس الرابع: لا تنشغل أثناء الطلب بعيوب الناس، واسمعها مني نصيحة! أثناء الطلب وقراءة الكتب واستماع الأشرطة وحضور الدروس، سوف تقع على زلل كبير حتى على أكبر العلماء، تفتح الكتب فتجد بعض العلماء يسقط ويزل زلة كبيرة، وبعضهم لعله يقع في خطأ شنيع، وسوف تمر على هذا أثناء الطلب، من منا لا يقرأ فتح الباري، وأي طالب علم لا يعتمد على شرح النووي، ومن منا لا يرجع إلى بعض هؤلاء العلماء: كـ القرطبي أو غيره، وسوف يجد في أثناء قراءته لهؤلاء العلماء بعض الزلل وبعض الخطأ ولكن وعين الرضا عن كل عيب كليلةٌ ولكن عين السُّخط تبدي المساويا إن كان قلبك سوف ينشغل بعيوب هؤلاء الناس، وفي مجالس أهل العلم تسمع بعض الأخطاء وتسجلها، فاعرف أنك قد مُكر بك، كما قال بعض السلف: إذا رأيت أحدهم منشغلاً بعيوب الناس عن عيبه، فاعلم أنه قد مكر به، كلما رأيت عيباً لا تقبل به ورده واتركه، وامض في طلب العلم واستمر؛ فإنك سوف تقع على زلل كبير وخطأ كثير.

تقسيم الأوقات

تقسيم الأوقات أيها الأخ الكريم: عليك أثناء الطلب بتقسيم الأوقات، فإذا أردت أن تجعل لنفسك وقتاً في طلب العلم فقسم الأوقات، وكن منظماً، واجعل لك جدولاً: وقتاً للحفظ، ووقتاً للمراجعة، ووقتاً للتلخيص، ووقتاً للكتابة، ووقتاً لحلق العلم، ووقتاً للراحة وللاستجمام، ولكن ساعة وساعة ولا بد منها، ولا تضحك على نفسك تبدأ أياماً تضغط عليها ثم تنفجر وترجع وتصبح عندك ردة فعل. ثم إياك والدقة الخيالية، فبعض الشباب يجعل وقته بالدقيقة من الساعة الرابعة إلى الخامسة: قراءة الكتاب الفلاني من الخامسة إلى السادسة، الكتاب الفلاني من السادسة إلى السابعة والأربعين دقيقة إلى أذان المغرب، الكتاب الفلاني وقت المغرب كله كذا لا تستطيع اجعل لك -أيها الأخ- أوقاتاً للراحة والفراغ للطوارئ فلان جاءك بحاجة ضرورية، وفلان من الجيران دعاك للعزاء أو لصلاة جنازة أو اتباعها، وفلان مريض لا بد أن تعوده، وأمك طلبت منك حاجة اجعل لنفسك أوقات فراغ تحسباً لهذه الطوارئ ولهذه الظروف.

الحذر من الغرور والعجب

الحذر من الغرور والعجب أقول لك أخي الكريم: إياك إياك أثناء الطلب أن تصاب بالغرور والعجب فمثلاً: حفظتَ القرآن؟ كان أحدهم عمره سبع سنوات يحفظ القرآن يعني ماذا؟ حفظتَ القرآن وصحيح البخاري ومعه صحيح مسلم هل يحق لك أن تفتي؟ بعض الناس ما قرأ إلا بعض الكتب وحفظ بعض الأجزاء، فتسأله بمسألة فيقول: أنا أرى!! من أنت حتى ترى؟ ويقول: أنا أرجح!! لا يضحك عليك الناس من أنت حتى ترجح؟ أو يقول: الشيخ الفلاني جانب الصواب. أخي الكريم! كن عاقلاً وتدبر، أسمعت بهؤلاء في الصغر يحفظ سبعين ألفاً من الأحاديث عمره ست سنوات وقد ختم القرآن عمره تسع سنوات يسافر في طلب العلم، إذا أردت ألا يصيبك الغرور، فاقرأ في تراجمهم وسيرهم، واعلم أنك مهما وصلت من العلم فإنك ضعيف وقليل في العلم، والاجتهاد اتركه للمجتهدين، أنت يحق لك أن تنقل الفتوى إذا سئلت: يا فلان! عندك علم فيها؟ تقول: نعم! قال الشيخ ابن عثيمين حفظه الله في المسألة كذا، وسمعت الشيخ الألباني يقول كذا، وقال الشيخ الفلاني كذا، أما أنك تزيد وترجح وترى رأياً جديداً فاعلم أن هذه من علامات العجب والغرور، قد يصاب به الطالب في بداية طلبه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة نسأل الله عز وجل أن يجزي الأخ نبيل خير الجزاء، وهناك حديث أحببت أن أذكر به الإخوة طالما أن الأخ تكلم في موضوع: (الديمومة على الأعمال) حديث أبي هريرة الذي أخرجه الإمام البخاري، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إن الدين يسر، ولن يُشادَّ أحدٌ الدين إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة). ويقول يحيى بن يحيى: قال الزهري: طلبنا العلم فأصبنا منه شيئاً كثيراً، وطلبنا الأدب فوجدنا أن أهله قد ماتوا.

نصيحة لمن آثر العزلة

نصيحة لمن آثر العزلة Q أحد الإخوة يسأل سؤالاً فيقول: ما هي نصيحتك لشاب اعتزل الشباب لوحده، ولا يحضر الدروس، والسبب هو مضايقة بعض الشباب له؟ A أظن أن صاحب السؤال يعرف الجواب، ولكن أذكره بقول النبي صلى الله عليه وسلم (الشيطان مع الواحد). أخبركم بقصة عايشتُها مع شاب كان حريصاً على طلب العلم، وكان من شدة حرصه أن زاده الشيطان حرصاً فقال له: اترك الشباب فإنهم يضيعون وقتك بين طلعة وديوانية ومجلس وغيرها من هذه الأنشطة الكثيرة التي تضيع الأوقات، اجلس واعتكف واطلب العلم، فنصحته ألا يقطع نفسه عن الإخوان في الله، وأن يجالسهم لأنهم عون له، يذكرونه إذا نسي، ويعظونه إذا غفل، ويسددونه، وهو مسكين لا يشعر، فجلس لوحده واعتزل وأبى أن ينتصح، مرت به الأيام فتحولت كتب العلم إلى مجلات ثم إلى جرائد ثم إلى تلفزيون ثم إلى فيديو ثم ترك الصلاة. أيها الأخ الكريم! اعرف أنها حيلة من حيل الشيطان (الشيطان مع الواحد) يريدك لوحدك ولو كنت تقرأ فتح الباري لكن تكون لوحدك. ولهذا -أيها الأخ- الرفقة الصالحة تعينك على المنافسة، ثم إنهم يقومونك إن زللت، والمؤمن مرآة أخيه، ثم إن أخطأ عليك الشباب، وإن قصروا في حقك، وإن أساءوا إليك، فقد قال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه: [كدر الجماعة ولا صفو الوحدة] أكون مع الجماعة على كدر وعلى بعض المضايقات، وعلى بعض الأذى، أصبر قال: [ولا صفو الوحدة] ولهذا كان يحذر عليه الصلاة والسلام من الوحدة حتى في السفر، قال: (الراكب شيطان، والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب، وقال: وخير الركب أربعة)، (نهى أن يبيت الرجل وحده) لِمَ أيها الإخوة؟ لأن الله جل وعلا يقول: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} [الكهف:28] كلما اجتمع الإخوة كثرت الرحمة، بل كان يوماً من الأيام في مسير مع أصحابه وقد تفرقوا فجمع الناس وناداهم، فلما اجتمعوا قال: (ما لي أراكم عزين، إن تفرقكم هذا من الشيطان). إذاً أخي الكريم انتبه واعقل واعلم أن إخوانك في الله هم الذين أرشدوك للعلم، وهم الذين وجهوك للكتب، فكيف تتركهم بعد أن دلوك على هذا الطريق؟! فهم المعينون وقت الضيق والشدة، وهم المسددون إذا أخطأت، وهم المنافسون لك في العلم، وإذا كانت هناك بعض المضايقات فتوضح (الدين النصيحة). تقول: يا أخي! لاحظ أنا تضايقت من كلمة قلتها لي، يا فلان صار بيني وبينك موقف ماذا تقصد به؟ وعليك بإحسان الظن لأن بعض الناس لا يتحمل إخوانه، فكل كلمة يسيء فيها الظن عشرين ظناً، وقال عمر: [لا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءً وأنت تجد لها في الخير محملاً]، وقال ابن المبارك رحمه الله: " المؤمن يتطلب المعاذير " كل ما تكلم أحد أو حدث منه موقف أو زلة، هذا المؤمن يتطلب المعاذير، يقول: لعله كذا، لعله نسي، لعله لا يدري، لعله لا يقصدني، لعله يقصد كذا، يتطلب المعاذير قال: " والمنافق يتطلب العثرات " المنافق يبحث عن الزلات، ويفتش ويبحث عن السقطات وينشرها بين الناس، يقول: هذه صفات المنافق عندنا، أما صفات المؤمن فيتطلب المعاذير، وأحسن الظن بإخوانك، وانصحهم إن كان ولا بد والله أعلم.

نصيحة للنساء باستغلال الأوقات

نصيحة للنساء باستغلال الأوقات Q نريد توجيه الأخوات الحاضرات في الدرس في إجازة فترة الصيف، وخصوصاً ما يخص قضاء وقت الفراغ في الهاتف، أو في الخروج أو في الرفقة؟ A أولاً: ما قيل للرجال فهو للنساء سواء. ثم أمر ذَكَّرَني به السائل، وهو قضية الهاتف من مضيعات الأوقات الهاتف -أيها الإخوة- لو نحسب أوقات الهاتف التي نتصل فيها فإنها من أعظم مضيعات الأوقات علينا في هذا الزمان، بل تعجب من بعض الإخوة يظل نصف ساعة يتحدث، ماذا عنده؟ لا شيء، يسأل ما هي الأخبار؟ ماذا فعلت بفلان؟ أين ذهبت اليوم؟ نصف ساعة على أحاديث لا طائل منها، لغو {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:3] لا أقول لك أخي: الهاتف حرام والأحاديث المباحة حرام! لا؛ لكن الكثرة والاستغراق فيها تضيع الأوقات، وهذا ليس في النساء خاصة بل حتى في الرجال، والآن نعجب أن الناس يطالبون بتخفيض أسعار المكالمات الهاتفية النقالة، لأن الوقت عندهم أهون وأرخص من المال، بل لو كان المال أو كانت المكالمات غالية الثمن، لعرفنا قدر هذا الوقت ولاختصرنا الكلام ولكن نريد أن ينخفض الثمن حتى نكثر في الكلام، ولست أدعو إلى زيادة الأسعار، ولعل البعض عندما يسمع هذا الكلام يظن أنني أدعو إلى الزيادة في الأسعار، والزيادة في الضرائب، وأن أثقل على كاهل الناس، ولكن أخبرك -أخي الكريم- أن الوقت أثمن من جميع المال؛ بل أغلى حتى من الذهب، فلا تضيعه في هاتف، ولا في تقليب جريدة لا طائل منها، بعض الأخبار مهمة لكن تَخَيَّلْ! شاب ملتزم يظل يقرأ الجريدة أتعرف أي صفحة؟ صفحة الرياضة وما شأنك بها؟ بل تعجب من بعض الجرائد ربما أربع صفحات لها في الرياضة، وما نحتاج من هذه الأخبار، أو فلانة حصل فيها كذا، أو خبر طريف في المكان الفلاني، أو حادثة ما الذي نستفيد من هذه الأخبار؟ والله كلها مضيعات للأوقات. كما قلنا: ما قيل للرجال فهو أيضاً للنساء عامة، وكم هن النساء اللواتي أصبحن عالمات، واقرأن التاريخ، وليقرأ كل منا التاريخ، ليسمع أن بعض أهل العلم قد تتلمذ على نساء، ومن شيوخه نساء تتلمذ على أيديهن، نعم! هناك حاجز وحجاب بينه وبينها، وعائشة رضي الله عنها كان الرجال الأفذاذ الفحول يأتونها في بيتها يسألونها عن حديث واحد، وعن مسائل فقهية رضي الله عنها؛ فإذاً العلم ليس خاصاً بالرجال فقط، بل للرجال والنساء عامة والله أعلم.

نصيحة للذين يهجرون كتاب الله

نصيحة للذين يهجرون كتاب الله Q كثير من الناس هاجروا كتاب الله عز وجل، وأخص بالذكر الشباب الملتزم، أرجو توجيه نصيحة لهم في هذه الجلسة؟ A عثمان بن عفان رضي الله عنه من منا أكثر منه شغلاً؟ الخليفة الراشد الثالث رضي الله عنه، في الجهاد هو الأول، وفي الإنفاق هو الأول، وفي التعليم هو الأول، وفي إدارة الأمة هو الأول أعماله كثيرة يروى عنه أنه كان يختم القرآن كل ليلة، وسوف يخرج من يخرج من هذا المجلس، ويقول: خالف السنة، والسنة لا تقرأه في أقل من ثلاث. أقول لك أخي الكريم: إن خالف عثمان رضي الله عنه السنة، فأين أنت من السنة؟ هل من يطبقها الذي لا يختم القرآن في الشهر مرة؟ هل هذا طبق السنة؟ أو الذي يمر عليه من رمضان إلى رمضان وما ختم القرآن، هل طبق السنة؟ إذا كان الذي ختم القرآن في ليلة واحدة قد خالف السنة، فأين أنت عن السنة؟ تعرف ماذا أنزل الله في عثمان رضي الله عنه؟ كان يقوم الليل بالقرآن، فأنزل الله جل وعلا فيه: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً} [الزمر:9] نزلت في عثمان {سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] ما هو أثر العلم؟ الآن تعلمنا فتح الواحد منا صحيح البخاري وقرأ بعض الأحاديث في فضل قيام الليل، هذا علم لكن ماذا استفدت من هذا العلم إذا كنت بعده لا تقوم الليل؟ إذاً عندما تقرأ بعض فضائل صيام التطوع ولا تصوم، ماذا نفعك هذا العلم؟ أخي الكريم! {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] من منا لا يعرف فضل قراءة القرآن؟ قال صلى الله عليه وسلم: (من قرأ حرفاً من كتاب الله كتب الله له به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: (ألم) حرف، ولكن (ألف) حرف و (لام) حرف و (ميم) حرف). من منا لا يعرف هذا الفضل ولو قرأت آية واحدة ربما تعدو المائة أو المائتين أو الثلاثمائة حسنة! آية واحدة بل بعض الآيات تعدل آلافاً من الحسنات، بل الصفحة تعدل آلافاً من الحسنات، من منا حرص على هذه الأجور؟ تعجب من شاب ملتزم، أو داعية إلى الله، أو طالب علم ليس عنده ورد، يقرأ القرآن ولو ربع حزب في اليوم والليلة وهذا قليل جداً. أخي الكريم! نصف حزب، أو حزب في اليوم والليلة، والله ليس قليلاً على نفسك أن تقرأ هذا القرآن {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} [الفرقان:30] إي والله! مهجور قراءةًَ وتلاوةً وحفظاً وتدبراً وعملاً وحُكما ًبه فالله الله بتلاوة القرآن! والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

العبادة في رمضان

العبادة في رمضان إن لله ليالي وأياماً وشهوراً فضلها على سائر الليالي والأيام والشهور، منها: شهر رمضان، فهو شهر القرآن. وإن لنا في سلفنا الصالح أسوة حسنة، حيث كانوا إذا أقبل رمضان تركوا سائر الأعمال واعتكفوا على قراءة القرآن وتدبره، وهذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم.

أخطاء تقع في قراءة القرآن في رمضان

أخطاء تقع في قراءة القرآن في رمضان الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده: إن شهر رمضان هو شهر القرآن، فيه يفتح الناس المصاحف بعد هجر طويل، وفيه ينفض الغبار عن تلك المصاحف التي ركنت في البيوت، وعلى الأرفف، وفي بعض المساجد، فتفتح بعد غلق طويل، وينفض الغبار عنها، فإذا الصائمون يفتحون المصاحف؛ ليستعيذوا بالله من الشيطان الرجيم ثم يعكفون على قراءته، وللناس في قراءة القرآن أخطاء ومثالب سوف أنبه عليها. أولاً: يا عبد الله! اعلم أن شهر رمضان شهر قرآن لا شهر جرائد وقصص، ولا حكايات وأخبار لا معنى لها ولا فوائد منها، رمضان شهر القرآن، قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185] لِمَ؟ {هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة:185] هدى للناس. يا عبد الله: كم من رجل وكم من امرأة سمع آية من كتاب الله فهداه الله، قال تعالى: {هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة:185]. هذا أحد الصحابة يسلم بعد أن كان مشركاً، أتى إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن في الخلق أبغض عنده من رسول الله عليه الصلاة والسلام، فاقترب فإذا النبي عليه الصلاة والسلام يصلي في الناس صلاة المغرب، وهذا المشرك ينتظره متى يتم الصلاة، فينفرد به ليقتله، والنبي عليه الصلاة والسلام يقرأ سورة الطور في صلاة المغرب فيصل إلى قوله جل وعلا: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35] ففكر جبير إي والله أم خلقوا من غير شيء فكر بنفسك -يا عبد الله- هل خلقت من عدم؟ لا. أم خلقت نفسك؟ {أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ} [الطور:36] أم أنت الذي خلقت السماوات، أم أنت الذي خلقت الأرض؟ كلا. إذاً لا بد أن هناك خالقاً، فإذا به يسمع هذه الآية فيطير قلبه ويتعلق بالله فيؤمن به جل علا، ويعلن الشهادتين ثم يقول عن نفسه: [فما كان مخلوق أحب إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم]. يا عبد الله: إنه القرآن الذي فتح الله به قلوباً غلفاً، وأعيناً عمياً، وآذاناً صماً، إنه القرآن الذي هدى الله به البشرية.

حال السلف مع القرآن في رمضان

حال السلف مع القرآن في رمضان كان الإمام أحمد إذا أقبل رمضان جلس في بيت الله واعتكف على قراءة القرآن، وكلما مر وقت ذهب وتوضأ ثم رجع إلى القرآن يقرؤه ويتلوه. يا عبد الله: كان الإمام أحمد يترك فتاواه ومسائله ومجالس العلم ليعكف على كتاب الله، أما الإمام مالك فإنه إذا أقبل رمضان هجر جميع المجالس حتى مجالس الحديث؛ ليعكف على كتاب الله، وهذا الإمام الشافعي عليه رحمة الله كان يختم القرآن في رمضان ستين ختمة. وهذا الإمام الزهري يقول: شهر رمضان شهر قرآن وإطعام طعام لا ثالث. فشهر رمضان شهر قرآن وإطعام طعام لا غير هذا.

فضل تدبر القرآن والعمل بأحكامه

فضل تدبر القرآن والعمل بأحكامه عبد الله: إن كثيراً من الناس -وهذه بعض أخطائهم- ليقرأ القرآن فيكون همه أن يختم القرآن ختمتين أو ثلاثاً في رمضان، هذا هو همه. فهل استفاد من قراءته؟ لا. هل اعتبر من قراءته؟ لا. هل ترسل وتدبر؟ لا. هل فهم وعقل؟ لا والله. تجد بعض الناس يقرأ القرآن والقرآن يلعنه، يقرأ قول الله: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [البقرة:83] وتجده يعق والديه، يقرأ قول الله: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد:22] وإذا به يقطع أرحامه. يقرأ قول الله: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا} [البقرة:278] ثم يخرج من المسجد إلى بنوك ربوية يتعامل معها. يقرأ قول الله: {لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْم} [الحجرات:11] ثم يسخر من أصحابه وزملائه يقرأ قول الله ويخالفه، ورب قارئ للقرآن والقرآن يلعنه. عبد الله: والله لأن تقرأ في رمضان جزءاً واحداً بتدبر وتعقل وتفهم، وتطبيق لأحكامه خير لك من أن تختم القرآن عشرين ختمة ولم تعقل منه شيئاً، يقول الله: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29] فالله أنزل القرآن لنتدبر الآيات ونتذكر ونتعقل، أما أن نقرأ القرآن هذاً وننثره نثراً، فلم ينزل الله القرآن لهذا: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]. كان بعض السلف يقوم الليل كله بآية واحدة يتدبرها ويعقلها ويفهم معناها، وهذا سيد الأنبياء وإمام المرسلين عليه الصلاة والسلام يقوم الليل كله بآية واحدة: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118]. القرآن يقرأ للتدبر، ويسمع بإنصات للتعقل والاستجابة لأحكامه والعمل بها. فكم من الناس يتدبر بل لعله يبكي ثم لا يستجيب لآيات الله وأحكامه، ولا يطبق كلام الله على نفسه وأهل بيته ومجتمعه. يا عبد الله: ما أنزل الله عز وجل القرآن لهذا، فهذا ابن عمر عليه رحمة الله درس سورة البقرة وحفظها وعقلها في ثماني سنوات، فثماني سنوات يتدارس سورة البقرة، وهي سورة واحدة لعل بعضنا يقرؤها في ساعة أو ساعتين وابن عمر درسها في ثمان سنوات؛ فكان إماماً فقيهاً عالماً عابداً زاهداً، عقل معنى سورة البقرة، وسورة البقرة ليست كأي سورة فإنها من أعظم السور، وهي التي لا تستطيعها البطلة، يعني: السحرة. يا عبد الله: القرآن يقرأ بتمهل وتدبر وتعقل واعلم -يا عبد الله- أن لك بكل حرف حسنة والحسنة بعشر أمثالها، ومن الناس من تضاعف الحسنة إلى أكثر من عشر حسنات، فإذا حسبت بعض السور لربما تكون لك بالملايين لو عقلت وتدبرت. فرمضان شهر قرآن لا شهر لعب، وزمر وطرب، ومباريات ونوادٍ، ولهو ورقص ومجون، وفسق وفجور، وتجول في الأسواق وأكل وشرب، ثم يخرج رمضان ولم نستفد منه شيء. رمضان شهر القرآن -يا عباد الله- فالله الله أن نعتكف في بيوت الله، وأن نتدارس كلام الله، وأن نستمع آيات الله، وأن نعرف معاني كلام الله، وأن نطبق كلام الله في بيوتنا وأهلينا وعلى أنفسنا، فإذا خرج رمضان نكون حقاً قد استفدنا من رمضان، ومن كلام الله جل وعلا. أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

هدي النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان

هدي النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. أما بعد: أيها الإخوة في الله: كان عليه الصلاة والسلام من أحسن الناس خلقاً، وكان خلقه في رمضان يزداد حسناً، فقد كان عليه الصلاة والسلام أجود وأكرم الناس بماله وخلقه وسعة صدره، وكان أجود ما يكون في رمضان، وكان جبريل يأتيه فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة، وكان يقول لأصحابه: (الصوم جنة، فإذا كان صوم يوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب) يحفظ لسانه ولا يرفع صوته ولا يشتم ولا يكذب ولا يغتاب قال صلى الله عليه وسلم: (فإن سابه أحد، أو شتمه -اعترض عليك إنسان أو ظلمك أو سبك- فإن سابه أحد أو شتمه فليقل إني امرؤ صائم) إني امرؤ صائم حدث بها نفسك يا عبد الله، فكلما نظرت إلى امرأة حدث نفسك وقل: إني صائم ألا تستحي؟ ألا تتقي الله؟ إذا دعتك نفسك لسماع الأغنية أو النظر إلى فيلم أو مسلسل أو بعض المحرمات فحدث نفسك وقل: إني امرؤ صائم. يا عبد الله: إذا دعتك نفسك إلى فجور أو معصية فحدثها وقل إني امرؤ صائم. كم من الناس أثناء نهار رمضان لا يتحمل أحداً؛ فإذا عارضه أحد سبه وشتمه بحجة أنه صائم! وإذا كان في عمله فأتاه مراجع يسأله فإذا به يغلظ عليه بالكلام ولربما يطرده من مكتبه، وكم من الناس من يأتي إلى زوجته فإذا رأى خطأً في البيت أو الأولاد فلربما يتعدى من اللسانه إلى الضرب باليد، ولربما يشتم، ولربما يغضب وكأنه لم يصم أحد قبله ولا بعده، وكأنه الصائم الأول والأخير.

الصوم مدرسة الأخلاق

الصوم مدرسة الأخلاق يا عبد الله: الصوم جنة فتعلم فيه حسن الخلق، فإذا سبك أحد فلا ترد أنت بالسب وعود نفسك على أنك صائم، وأنك متبع لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وأنك عبد لله. قال عليه الصلاة والسلام: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه) ماذا ينفعك يا عبد الله أنك تترك الطعام والشراب ثم تأتي فتقع في أعراض الناس، وتغتاب المسلمين، وتكذب، وتتعامل بالربا؟!! يا عبد الله: انتبه واعلم أن من الناس من يصوم وليس له من صيامه إلا الجوع والعطش ولم يكتب له من صيامه ولا حسنة واحدة.

بيان عاقبة ترك الصلاة

بيان عاقبة ترك الصلاة يا عبد الله: اعلم أن كثيراً من الناس إذا أتى رمضان أقبلوا على المساجد فلا يمر في رمضان يوم أو يومان أو ثلاثة أو أربعة إلا وتجد المساجد تنقص والصفوف تقل، والناس بدءوا يضعفون شيئاً فشيئاً فلا تجدهم إلا في ليلة القدر، نخبر أولئك بأن أول ركن في الإسلام بعد الشهادتين هو إقامة الصلاة، والذي لا يصلي لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً، ولو صام العمر كله، ولو حج طوال عمره ولو اعتمر في كل شهر مرة، ولو تصدق بجميع أمواله ولو حفظ القرآن كاملاً ولو فعل وفعل فإن الله يوم القيامة لا يقبل منه صرفاً ولا عدلاً، قال الله جل وعلا: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتً} [مريم:59] يتركون الصلاة ويذهبون إلى شهواتهم وملذاتهم، وإلى مبارياتهم وملاعبهم، وإلى أغانيهم وطربهم وتلفازهم! ما مصيرهم يا رب؟ {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59] يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة] ويقول عبد الله بن شقيق، يقول: [ما كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يرون في الإسلام شيئاً تركه كفر إلا الصلاة] فإن تركها كفر يا عبد الله! (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر) أتعرف ما معنى كفر يا عبد الله؟ لو أنك عاقل وفهمت معناها تعرف أنك إذا مت على تركك للصلاة فإنك خالد مخلد في نار جهنم، الأمر ليس مليون سنة أو مليونين، وإنما خالد مخلد في نار جهنم: {لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى} [طه:74] طعامه الضريع والغسلين، والغساق والصديد، ويفترش من النار، ويلتحف النار، ويأكل في بطنه النار، ويصب على رأسه الحميم، في جحيم وسقر، إذا ألقي فيها فلا يصل إلى قعرها إلا بعد سبعين عاماً!! كيف بمن يعيش فيها ويخلد فيها؟! أتعرف لِمَ يا عبد الله؟ لأنه ترك الصلاة. قال عليه الصلاة والسلام: (أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة) لا ينظر إلى برك لوالديك، ولا إلى صلتك لأرحامك، ولا لأمرك بالمعروف، ولا إلى نهيك عن المنكر، ولا إلى قراءتك للقرآن، ولا إلى عمرتك ولا إلى حجك وصدقاتك: (أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت صلح سائر العمل، وإن فسدت فسد سائر العمل) فسد الحج والعمرة وفسد الصيام والصدقات، وفسدت الأعمال كلها. يا عبد الله: الصلاة الصلاة! حافظ عليها في رمضان وفي غير رمضان فإنها عمود الإسلام، ومن مات وهو على غير صلاة فإن النصارى واليهود خير منه وأولى، لأنهم أهل كتاب، أما هو فليس بصاحب كتاب، فإن هذا الدين بريء منه حتى ذبيحته لا تحل وذبيحة اليهودي والنصراني تحل، حتى الزواج من غير المصلية لا يحل، إما الزواج من اليهودية والنصرانية يحل بشروط. عبد الله: تارك الصلاة إذا مات لا يغسل ولا يكفن، ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا يرث ولا يورث. يا عبد الله: انتبه فتارك الصلاة شر من اليهود والنصارى ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة. عباد الله: الله الله في الصلاة، ولنحافظ عليها في رمضان من أوله إلى آخره ثم بعد رمضان نحافظ عليها إلى أن يتوفانا الله جل علا. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اللهم أعداء الدين، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم تقبل منا صلاتنا وصيامنا ودعاءنا وقيامنا وسائر أعمالنا إنك ولي ذلك والقادر عليه، وصلِ اللهم وسلم على نبينا محمد، وأقم الصلاة.

العظمة

العظمة لن يستطيع أحد الثناء على الله سبحانه حق الثناء، فإن الله سبحانه لا يقدره حق قدره أحد. وإن في آياته في الأنفس والآفاق خير شاهد على عظمته سبحانه. وإن الناظر إلى عظمة الله تارك للعصيان، مسارع بالتوبة، فليبادر كل متخلف عن طاعة مولاه بالتزام الطاعة.

تجلي الله للجبل

تجلي الله للجبل إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: أيها الإخوة الكرام: أيها الإخوة الحضور! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. مهما تكلمنا في هذه المحاضرة ومهما تحدثنا فنحن مقصرون، ولن نثني على الله عز وجل حق الثناء، فالله جل وعلا له الأسماء الحسنى والصفات العلى، نثبت كل الأسماء وكل الصفات لله جل وعلا على ما تليق به: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:91]. موسى عليه السلام كلم الله جل وعلا مباشرة، فكان كليم الله، وبعد أن كلم الله اشتاق لرؤيته، والنظر إليه، فطلب من ربه هذا الطلب: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف:143] أريد رؤيتك وأشتاق لرؤيتك، قال الله جل وعلا: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143] في هذه الدنيا لن يراه أحد. أما يوم القيامة فيراه المؤمنون: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23] {قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ} [الأعراف:143] انظروا إلى الشرط الذي اشترطه الله على موسى قال: انظر إلى الجبل الأصم الشامخ العظيم إن أطاق رؤيتي فسوف تراني، فإذا بالرب جل وعلا يتجلى للجبل قال ابن عباس: [قدر رأس الإصبع] فإذا بالجبل العظيم يندك ولا يبقى من الجبل شيء. وموسى لما رأى المنظر خر على الأرض صعقاً، ولما أفاق: {قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ} [الأعراف:143]. {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:143] {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:91].

سعة ملك الله عز وجل

سعة ملك الله عز وجل هل من ترك الصلاة قدر الله حق قدره؟ هل من أكل الربا قدر الله حق قدره؟ يقول الله جل وعلا لمن أكل الربا: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279] قال ابن عباس ترجمان القرآن: [يأتي يوم القيامة فيعطى رمح ويقال له يوم القيامة: بارز ربك] حارب الله جل وعلا، لأنه أكل الربا في هذه الدنيا: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279] {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:91]. يقول بشر رحمه الله: [لو تفكر الناس في عظمة الله جل وعلا ما عصوا ربهم جل وعلا]. يقول سعد بن بلال: لا تنظر إلى صغر المعصية -لا تقل ليس فيها شيء أن أنظر إلى فلانة أو أتكلم معها أو أختلي بها، أو أسمع الأغاني، أو أنام عن الصلاة، أو أعق الوالدين، أو أقطع الأرحام- ولكن انظر إلى من عصيت تعرف قدر المعصية، ولو عرف الناس قدر عظمة الله ما عصوا ربهم جل وعلا. أرأيت هذه السماوات السبع، والكون كله، نحن على الأرض لا شيء، والأرض في المجموعة الشمسية لا شيء، والمجموعة الشمسية في المجرة لا شيء، والمجرة ضمن المجرات لا شيء، فنحن نقطة في فضاء كامل لا نراه، يقيس علماء الفلك الآن الفضاء بالسنوات الضوئية، شيء عجيب وكون فسيح حتى نصل إلى السماء الدنيا، ثم بين كل سماء والتي تليها مسيرة خمسمائة عام، ثم بين كل سماء والتي تليها مسيرة خمسمائة عام. أرأيت هذه السماوات العظيمة وهذا الكون الكبير الفسيح هذا كله بالنسبة إلى كرسي الرحمن كحلقة ملقاة في أرضٍ فلاة -أي في صحراء- هذا الكون كله والسماوات السبع كحلقة، أرأيت؟! أتخيلت؟! أتصورت؟! نحن ماذا نساوي داخل هذه الحلقة؟ لاشيء. ثم اعلم أن هذا الكرسي بالنسبة لعرش الرحمن جل وعلا كالحلقة بالنسبة للغلاة -الصحراء- تخيل وتصور!! {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]. يعلم ما توسوس به كل نفس، يسمع دبيب النملة على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:91]. {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [البقرة:255] أعظم آية فيها صفة الرب {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] حي لا يموت، حي لا ينام، قيوم: قائمٌ بنفسه مقيم لغيره، ما من دابة إلا وهو آخذ بناصيتها {الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255].

اطلاع الله تعالى على عباده

اطلاع الله تعالى على عباده تقول عائشة: (جاءتنا المجادلة -المجادلة التي في سورة قد سمع الله- تشتكي إلى رسول الله من زوجها، تقول عائشة: وليس بيني وبينها إلا ستارٌ رقيق، تقول: لا أسمع بعض كلامها، وإذا بالرب ينزل: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة:1]) لا تظن عندما تختلي بنفسك في معصية أو تغترب عن الأرض؛ لتعصي الله جل وعلا، أو تغلق على نفسك الباب وتطفئ الأضواء لتعصي لا تظن أن الله قد غفل عنك: إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل عليّ رقيب ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفيه عنه يغيب لهونا لعمر الله حتى تتابعت ذنوب على آثارهن ذنوب الإمام أحمد بن حنبل لما سمع هذه الأبيات ترك مجلس العلم، ودخل في غرفة وأغلق الباب على نفسه، وانتظره طلابه فلم يخرج، فجاءوا إلى الغرفة يريدون طرق الباب، فسمعوا الإمام أحمد يردد هذه الأبيات وهو يبكي. إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل عليّ رقيب ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفيه عنه يغيب لهونا لعمر الله حتى تتابعت ذنوب على آثارهن ذنوب فيا ليت أن الله يغفر ما مضى ويأذن في توباتنا فنتوب يقول وهب رحمه الله: [خف الله على قدر قدرته عليك] خف من الله. زين العابدين علي بن الحسين رضي الله عنه وعن أبيه وجده: كان إذا توضأ اصفر لونه، فيقولون له: لم يصفر لونك عند الوضوء؟ بعض الناس يكبر للصلاة ولا يدري عن الصلاة شيئاً، هذا الرجل إذا توضأ اصفر لونه قالوا: لم؟ قال: [أتدرون بين يدي من أقف؟! أقف بين يدي الله أقف بين يدي الله] أين الذين يكبرون للصلاة وقلوبهم في الأسواق وفي الدنيا وشهواتها؟ تجده يسمع قول الله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:2 - 4] والقلب ما زال في الدنيا: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر:67] وأدع هذه الآية إلى آخر المحاضرة.

التحدي بخلق الذباب

التحدي بخلق الذباب شاب كان جالساً في الطريق يمر ملكٌ طاغية ظالم فاجر طاغوت يعبده الناس من دون الله، وكان الشاب صالحاً متديناً، فرأى الناس يتجمعون حول هذا الملك الطاغية كلٌ منهم يتقرب إليه، ويتوسل إليه، ويريد منه القربى والزلفى وأموراً من الدنيا، فنظر إلى الناس، ونظر إلى هذا الملك وحوله الجنود، وحوله الحرس. فإذا ذبابة تطير حول الملك، كلما اقتربت ووقفت على وجهه هشها من حوله، فذهبت ثم رجعت والناس يتعجبون، كلما أراد إزالتها ذهبت الذبابة ثم رجعت على وجه الملك والناس يستغربون، ذبابة ما استطاع دفعها! فإذا بالشاب المسلم الصالح يستغل الموقف، فإذا به يرتل قول الله أعوذ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} [الحج:73] كل الناس يستمعون، فالله يضرب مثلاً ويقول للناس استمعوا لهذا المثل، واسمع إلى هذا المثل: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً} [الحج:73] الله أكبر! أرأيت هذا المثل في هذا الموقف؟ أرأيت هذا الملك وجنده بل كل من في الأرض جميعاً الشرق والغرب بالتكنولوجيا التي اكتشفوها ووصلوا بها إلى القمر ودخلوا إلى الأرض وكسروا الذرة، هل يستطيعون أن يخلقوا ذبابة واحدة، تحدٍ من الله: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج:73] هذا التحدي الأول. التحدي الثاني: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً} [الحج:73] لو أن الذباب يأخذ شيئاً من طعامهم أو شيئاً من شرابهم فإن كل أهل الأرض ما يسترجعونه؛ لأن الذباب حشرة إذا دخل الطعام مباشرة في جوفها يتحلل الطعام ويتغير مباشرة ويتفكك: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:73 - 74]. فإذا بالناس كل منهم يكبر ويقولون: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله والله أكبر! وانفض الناس عن ذلك الملك: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:91].

رسالة إلى كل غافل

رسالة إلى كل غافل أخي الكريم: يا من تنام عن الصلاة! أخي العزيز: يا من هجرت القرآن! أختي الفاضلة: يا من مازلت تترددين هل تتحجبن أو لا تتحجبن؟

إلى الغافل عن أوامر الله ونواهيه

إلى الغافل عن أوامر الله ونواهيه أخي الفاضل: يا من مازلت تبيع الحرام، أو تشتري الحرام، أو تأكل الحرام، نحن لا نتعامل مع بشر، نحن نتعامل مع رب البشر جل وعلا، الذي قال عن نفسه: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:28] الله أكبر! الله يحذر البشر نفسه، ومازال بعض الناس في غيبته وغفلته. وبعض الناس لا ينتبه، أتعرف متى ينتبه؟! إذا كان ملك الموت عند رأسه، فهنا يتذكر ويقول: {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون:99] الآن عرفت ربك؟ الآن عرفت قدر الله عز وجل؟ أليجمع أموالاً؟ ينظر أفلاماً ومسلسلات؟ يتمتع ببيته الجديد؟ أو يعانق زوجته وحبيبته؟ أو يقبل أولاده؟ لا. نسي الدنيا كلها، ويريد شيئاً واحداً: {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100].

إلى الغافل عن عظمة الله

إلى الغافل عن عظمة الله يوماً من الأيام والنبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه، فإذا به يقول لهم: (تسمعون ما أسمع؟ قالوا: لا يا رسول الله) واسمعوا هذا الحديث، وأريد كل واحدٍ منكم أن يتصوره، قال: (أطت السماء) والأطيط: هو صوت الحمل على الناقة إذا كان ثقيلاً ومشت الناقة يظهر له صوت، بعضكم لعله سمع أو يتخيل هذا الصوت، وأي حمل على السماء؟ (أطت السماء وحق لها أن تئط) ما الذي حدث؟ ما الذي جرى؟ السماء العظيمة فيها حمل ثقيل، أتعرف ما الذي فيها؟ (ما من موضع شبرٍ إلا وفيه ملك ساجدٌ أو راكع) الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر! (ما من موضع شبرٍ إلا وفيه ملك ساجد أو راكع). هؤلاء الملائكة الذين {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] إذا بعثوا يوم القيامة تعرف ماذا يقولون؟ سبحانك ما عبدناك حق عبادتك! لا يعصون الله، حياتهم عبادة، وركوع وسجود وتنفيذ لأوامر الله، لا يعصون الله ما أمرهم، يسبحون الله ولا يفترون، ثم ما عبدناك حق عبادتك، تعرف لماذا؟ تعرف لِمَ؟ لأن تقديرهم لله أعظم من تقديرنا لله، بعضنا يَمنُّ على الله أنه صلى خمس صلوات في المسجد، ماذا تعني خمس صلوات؟! لا شيء، كانت خمسين فجعلها الله خمساً، وهي خمس في العمل خمسون في الميزان، ومع هذا يَمنُّ على الله أنه صلاها في اليوم والليلة، يَمنُّ على الله إذا حج بيت الله، يَمنُّ على الله إذا صام الإثنين والخميس: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17]. أرأيت أو أسمعت بوصف أفضل الملائكة جبريل؟ جبريل له ستمائة جناح؛ كل جناح يغطي الأفق كله، فتخيل، وتصور! هذا جبريل صاح صيحة دمر قرية كاملة. جبريل بطرف جناحه قلب قرية على رأسها. جبريل هذا المخلوق العظيم رآه النبي صلى الله عليه وسلم في المعراج في السماء السابعة كالحلس البالي، كالثوب الخلق، تعرف لِمَ؟ لأن جبريل قد اقترب من الله فزاد خوفاً وهلعاً: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر:67]. أرأيت السماوات السبع العظيمة؟ يطويها الرب جل وعلا كطي السجل للكتب: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ} [غافر:15] الله، {ذُو الْعَرْشِ} [غافر:15] الله {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ} [غافر:15] يوم القيامة {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ} [غافر:16] كل الناس حفاة عراة، ويقبض الرب عز وجل الأرض بيمينه والسماوات بيده الأخرى وكلتا يديه يمين، فيقول للخليقة كلها: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ من يرد عليه، من يجرأ أن يرد على الله في ذلك اليوم؟ أين ملوك الأرض؟ أين السلاطين؟ أين المتجبرون على أمر الله؟ على شرع الله؟ على دين الله؟ أين المتكبرون عن السجود لله عز وجل؟ {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16].

نماذج للغافلين

نماذج للغافلين شرف لك -يا عبد الله- أنك تطبق أوامر الله، وتسجد لله، كم من الناس في الدنيا اليوم محروم عن السجود لله؟ كم من الناس اليوم لا يعرف ربه؟ ولا يعرف ملة يهتدي بها في هذه الدنيا؟ أسمعت إلى ذلك الشاعر الذي يقول: جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت ثم أبصرت قدامي طريقاً فمشيت لست أدري لست أدري شئت هذا أم أبيت لست أدري نعم هو لا يدري من أين جاء؟ ولا يدري إلى أين المصير؟ {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً * إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ} [الإنسان:1 - 2] من الذي خلقه؟ الله. أرأيت إلى العالم المتحضر: رجل حصل على شهادة فوق الدكتوراه، ولعله بروفيسور ولعل عنده من علوم الدنيا ما عنده؛ لكنه يسجد لبقرة، أو يدعي أنه لا إله في الأرض، أو يعبد شهوته وهواه سبحان الله!

وما قدروا الله حق قدره

وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7] في يوم القيامة عندما يجمع الله الأولين والآخرين، يأتي الناس إلى أبي البشر ليشفع لهم فيقولون له: أنت أبونا، وأنت أول من خلقك الله اشفع لنا عند ربك، ماذا يقول آدم؟ ماذا يقول نوح؟ ماذا يقول إبراهيم؟ ماذا يقول موسى؟ ماذا يقول عيسى؟ أتعرف ماذا يقولون؟ كلهم يقولون: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب مثله، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح، اذهبوا إلى إبراهيم، اذهبوا إلى موسى، اذهبوا إلى عيسى، اذهبوا إلى محمدٍ عليه الصلاة والسلام، هل يقول اذهبوا إلى غيري؟ تقف الشفاعة عنده، فإذا به يقول -بأبي هو وأمي-: أنا لها أنا لها أنا لها فيذهب إلى ربه جل وعلا فيخر ساجداً بين يديه، ولا يحق لأحد أن يقوم هذا المقام إلا هو، فيخر ساجداً ويلهمه الله عز وجل تسابيح وتحاميد ما كان يقولها في الدنيا، ثم يقول الله عز وجل لحبيبه ولخليله محمدٍ عليه الصلاة والسلام: (يا محمد! ارفع رأسك وسل تُعط واشفع تشفع) تظنه ماذا يقول؟ هل يطلب النجاة لنفسه؟ هل يطلب النجاة لأولاده وأحبابه فقط؟ يقول: (اللهم أمتي أمتي، اللهم أمتي أمتي، اللهم أمتي أمتي). {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً} [الفرقان:1 - 2] {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر:67] (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه) أسمعت بهذا الحديث؟ الله يكلمك ويكلم كل الناس، بعض الناس لقلة إيمانه وضعف يقينه يقول الله يكلم كل البشر؟ نعم، أليس الرب جل وعلا الآن يسمعنا جميعاً؟ لو كل واحد في الأرض دعا ربه لسمعه الله، بل كل واحدٍ في الصلاة في مشارق الأرض ومغاربها إذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، يرد الله عليه فيقول: حمدني عبدي، الرب جل وعلا عظيم. فإذا بالرب جل وعلا يكلمك (ما منكم من أحد ألا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان) لا توجد واسطة، (فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم) هل قدم قيام الليل؟ هل قدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ هل قدم صيام النافلة؟ هل قدم الصدقات والزكاة؟ هل قدم الدعاء والذكر؟ أم ماذا قدم؟ هل قدم النوم عن الصلاة؟ هل قدم النظر إلى النساء والخلوة بهن؟ هل قدم استماع الأغاني والطرب؟ كل شيء فعله في الدنيا يراه، قال الله: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:4]. لا تنظر إلى صغر المعصية، لا تقل صغيرة، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، الواحد منا اليوم إذا كان في مجمعٍ من الناس يستحي أن يعصي ربه، أمام والده يستحي أن يرتكب بعض المنكرات، أمام إخوانه، أمام شيخ المسجد، أمام بعض الصالحين يستحي من بعض المعاصي، لكن إذا لم يكن أحدٌ يراه لا يستحي من الله جل وعلا: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:1] ألا يعلم هذا الرجل وهذا العاصي بتلك العاصية أن الله عز وجل مطلع عليه فيها، أن الله يراه. عمر بن الخطاب يتجول في الصباح الباكر فإذا به يسمع امرأة تقول لابنتها: امذقي اللبن بالماء، قالت البنت الصغيرة: يا أماه! إن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب قد منع الناس من مذق الماء باللبن، فقالت أمها: إن أمير المؤمنين الآن لا يرانا، كل الناس يمذقون فامذقي يا بنية! فقالت البنت المؤمنة: إن كان عمر لا يرانا فإن الله يرانا: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة:7] الله يرى ويسمع. يا عبد الله: هل فكرت أن ترجع إلى الله؟ يا من تتوجه بيديك وقلبك إلى البشر، هلا توجهت إلى الله؟ هلا كنت صادقاً في توجهك إلى الله؟

أمن يجيب المضطر إذا دعاه

أمن يجيب المضطر إذا دعاه رجل تاجر كان يوصل براحلته من مكان إلى آخر، فإذا به -اسمع ما الذي حدث- يركب على راحلته رجل، وقال له: أوصلني، قال: إلى أين؟ قال: أوصلني إلى بلد الفلاني، قال: أوصلك، يقول: وأثناء الطريق دخلنا وادٍ مظلم، ورأيت جماجم الناس متناثرة، يقول: فخفت، وعلمت أن في الأمر شيئاً، يقول: فقال لي: انزل عن البغلة، قال: ماذا تريد؟ قال: فأشهر سكيناً قال: أريد قتلك، يقول: فهربت منه، يقول: فتبعني حتى قبض عليّ، ثم قلت له: يا فلان خذ البغلة وما عليها واتركني أعيش، قال: أما المال والبغلة فهي لي، أما أنا فأريد قتلك، قال: فإن كان ولابد فدعني أصلي ركعتين قبل أن تقتلني، قال: لك ذلك، ولكن أوجز فيهما. يقول: فكبرت للصلاة، ومن شدة الخوف نسيت القرآن كله، ولم أتذكر إلا آية واحدة، أي آية؟ {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل:6] يقول: وما إن انتهيت من الصلاة إلا وجاء فارس من قلب الوادي قد أشهر رمحه يقول: فلما اقترب ضرب الرجل في قلبه فلم يخطئه فخر صريعا، فقلت: سبحان الله! من أنت؟ فقال لي: أنا رسول الذي يجيب المضطر إذا دعاه، الله أكبر! الله أكبر بكرة وأصيلا وله الثناء مرتلاً وجميلا الله أكبر كلما هتفت به مهج العباد وسبحته طويلا الله أكبر ما تطوف محرم بالبيت أو لبى له تبتيلا الله أكبر في السماوات العلى والأرض حيث تجاوبت تهليلا الله أكبر! الله أكبر! {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر:67]. أخي العزيز: أختي الفاضلة! أتعرف أن الرب العظيم الجليل الكبير المتعال يحب عبده إذا رجع إليه؟ أتعلم أن الله العظيم يفرح إذا أقبل عبده إليه تائباً؟ لو أمضى سنوات من حياته في المعاصي، وأسرف على نفسه بالذنوب، وأكثر من الذنوب والمعاصي، ثم أراد أن يرجع إلى الله قبله الله، وأحبه، وفرح به {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222]؟ من أنا حتى يحبني الله؟ من أنا حتى يفرح الله عز وجل بي؟ أنا الذي أذنبت وأسرفت وأكثرت من المعاصي والذنوب، ولطالما عصيت الله، والآن يحبني الله؟ نعم. لو رجعت وتبت وندمت على ما مضى فإن الله عز وجل يحبك. رجل من بني إسرائيل عَبَدَ الله أربعين سنة؛ ثم انتكس فعصى ربه أربعين عاماً، ثم بعد أربعين سنة من المعصية أراد التوبة، فقال وهو يبكي ويدعو: رب عبدتك أربعين عاماً، وعصيتك أربعين عاماً، فهل لي من توبة إن أنا رجعت إليك؟ فإذا به يسمع هاتفاً يقول له: عبدي عبدتنا فقربناك، وعصيتنا فأمهلناك، وإن رجعت إلينا قبلناك {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:8] {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر:67]. أسأل الله تبارك وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعل هذا الحديث وهذا المجلس في موازين أعمالنا. اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الفتور

الفتور يتحمس المرء للدعوة إلى الله بداية أمره، فتراه مندفعاً في كل خير، ثم إذ به بين بكرة وعشية يضعف ويفتر، وقد يصل الأمر إلى الانقلاب إلى الوراء، وهناك أسباب وراء هذا الفتور تحتاج إلى تأمل وعلاج. هذه الأسباب منها ما هو حقيقي نتج عن قصور الفهم، ومنها ما هو خيالات، أو حيل نفسية ترمي بسهامها عن بعد، فيجب توضيحها وعلاجها.

الفتور في الدعوة إلى الله

الفتور في الدعوة إلى الله الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: أيها الأخ العزيز: أعرني سمعك، فإني سوف أتحدث عن بعض الإخوة، ولعلي أُعنِّف بعض الشيء، ولكن لا بأس فهي كلمات من أخٍ إلى أخ؛ فليتحملها الإخوة إن شاء الله. هي قصة رجل التزم فبدأ يدعو إلى الله، كان يوماً من الأيام ينصح إخوانه وجيرانه، وأهله، وزوجته، وأبناءه. كان يوماً من الأيام إذا مرَّ في الشارع فرأى منكراً توقف فنصح. هي ذكريات مضت، أما الآن فيجلس في مجلس ويستمع فيه إلى المنكرات، ويتلذذ بها ولا يتغير، بل إن لم يكن يفعلها هو، تغيَّر الحال، وتبدلت الصورة. كان يوماً من الأيام يقوم في المسجد يتكلم في الناس وينصح. تذكر معي أخي في الله: يوماً من الأيام كنت تجمع الناس إلى المسجد، كنت إذا ذهبت إلى الصلاة طرقت الأبواب، تذكر عندما أعطيت فلاناً شريطاً وقلت له: استمع إليه، لعلَّ الله أن ينفعك به. تذكر عندما كنت تجتهد في الدعوة إلى الله، وتنصح، وتذكر، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، فما الذي جرى؟! أنا أتكلم عن ذلك الشخص الذي بدأ الفتور يدب إليه ويحسب أنه على خير، إذا نظر في المرآة فالصورة لم تتغير، واللحية لا زالت طويلة، والإزار ما زال قصيراً، -والحمد لله- ما زال يصلي، والمسكين لا يشعر أنه قد فتر في الدعوة إلى الله، بدأ يتهرب من جميع المسئوليات، بل إن وكِّلتْ إليه مسئولية في الدعوة إلى الله تهرب منها وتنصَّل، وتركها إلى غيره يقول الله عز وجل عن همِّ الدعوة وذلك الرجل: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72] أتعرف ما هي الأمانة؟ إنها أمانة هذا الدين.

استمراء المنكرات

استمراء المنكرات أخي في الله: مالك بدأت تستمع إلى المنكرات؟! تمرُّ في السوق فتكلمها وتكلمك نعوذ بالله! ألم تكن في يوم من الأيام تقول لها: احتجبي، استتري بارك الله فيكِ؟ أما الآن فتغير الحال، بدأت أنت الذي تكلمها، بدأت أنت الذي تختلي بها، ما الذي جرى؟! إن جلستُ معك أرى حديثك قد تغير، بدأت تتكلم في الدنيا، كنت يوماً من الأيام لا همَّ لك إلا الدعوة، كان حديثك: المسلمون في بلاد كذا، المسلمون يُقتلون، الناس في ضلال، الناس في ضياع، كان هذا حديثك في السابق، أما اليوم فلا أراك تتكلم إلا عن الصفق في الأسواق، وعن أخبار المباريات، وعن أسعار العملات، وعن التجارة، وعن البيع، وعن الشراء، وعن الدنيا، وكأنك لم تسمع أو تناسيت قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} [التوبة:38] إذا قيل لك: تعال معنا ندعو إلى الله، قلت: عندي الآن الزوجة، والأولاد، والبيت، والسيارة، والأثاث، والمزرعة، وغيرها من الأعذار! نناديك أن تدعو إلى الله؛ فتعرض {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة:38] تغير حديثك، بدأت تتكلم، لكنَّ العمل لا أثر له، وتحسن الجدل، والكلام، إن جلست في مجلس وكأنك أكبر الدعاة وكأنك أفضل المجاهدين، لكن لا نراك بعد هذا المجلس تفعل شيئاً، نرى الكلام تحسنه أما العمل فلا تتقنه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2 - 3] بل وصل بك الأمر إلى الجدل فأصبحت لا تتقن إلا الجدل، تجادل في كل أمر، وتنتقد كل شخص، وكأنك المبرأ من العيوب، وكأنك الذي يُسأل ولا يسأل.

احذر الرجوع إلى الوراء

احذر الرجوع إلى الوراء نراك قد انقطعت غيرتك؛ فلا تنكر منكرا، بل إن جلست في مجلس أُدير فيه المنكر واستُمِعَ فيه إلى الحرام ضحكت وابتسمت، وقلت: سيقوم بهذا الأمر غيري، أو لا فائدة، أو غيرها من الأعذار. من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرحٍ بميتٍ إيلامُ نعم. القلب بدأ يموت، حتى أصبح لا يتأثر بالجروح، نراك كلما ناديناك إلى الدعوة، إلى عمل أو مشروع خيري: يا فلان، شارك معنا، ضع يدك في أيدينا، نحتاج إليك. تقول: أنا مشغول! تخدع نفسك، لا تخدع غيرها! تتظاهر بالشغل وإن فتشت في نفسك فلا ترى إلا ضياع الوقت في النوم والأكل واللعب والسفر في المباحات، وفي أمور الدنيا ضاع وقتك، وضاع عمرك {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115]. إن دخلت في عملٍ في الدعوة إلى الله تغيرت، وأصبحت لا تعرف إلا الفوضى، تأتي يوماً وتتركنا أياماً، وتظن أنك على خير إن بدأت في عمل لا تلبث أن تتركه إلى غيره، أصبحت لا تعرف إلا الفوضى في الدعوة إلى الله وكأن الأمر لعب وضحك ألا تذكر آخر آية كنت تحفظها؟ لا أدري هل نسيتها أم تناسيتها؟ في آخر سورة الصف التي بدأها الله بالقتال وختمها بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ} [الصف:14] سل نفسك وحاسبها من صباحك إلى ليلك: هل أنت من أنصار الله؟ أم أنت من الذين لا همَّ لهم في الدنيا إلا المباح؟ ما الفرق بينك وبين جارك؟ ما الفرق بينك وبين فلان الذي كنت تنكر عليه؟ كنت يوماً من الأيام ترأف لحاله، فما الفرق اليوم بينك وبينه؟ أصبح الظاهر: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا} [المنافقون:4] إن جلس في مجلس {تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون:4] لكنَّ الحقيقة {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون:4]. اسمح لي -أيها الأخ العزيز- فلعلي قد عنفت عليك بعض الشيء، ولكن سماعها مني أفضل من سماعها من غيري.

أسباب الفتور

أسباب الفتور سوف أتطرق إلى بعض الأسباب، فلعل ما عندك يكون منها أو من غيرها، فاسمع وصارح نفسك. واعلم أن الله عز وجل يقول: {بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة:14] كل منا يحاسب نفسه.

عدم الإخلاص لله تعالى

عدم الإخلاص لله تعالى لعل السبب: أنك كنت تدعو إلى الله، فدخل في قلبك شيء لغير الله. لعلك يوماً من الأيام أردت أن يشير الناس إليك بالبنان، أو أردت أن تحصل على المناصب، أو أردت أن تدعو لكن دخل في قلبك شيءٌ لغير الله، إنه الرياء، وما أدراك ما الرياء! من الذي يتعثر في الدعوة إلى الله؟ إنما يتعثر من لم يخلص عمله لله، وإلا فالدين ما زال بحاجة إلى رجال، والدعوة ما زالت بحاجة إلى دعاة، الدين لا زال يضربه ويشتمه ويسبه كثيرٌ من الناس ما الذي جرى؟ لعلك لم تكن مخلصاً لله، أو أخلصت ودخل في قلبك شيء، لعلها الدنيا: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم) ألم تعلم أن رسولك -هو خير الناس على وجه الأرض- مات ولم يخلِّف إلا بغلة وبعض الدراهم، ودرعاً مرهونة عند يهودي، كان ينام على الحصير حتى يؤثر في جنبه يمر الهلال تلو الهلال تلو الهلال ولا يوقد في بيته شيء، ويأتي عائشة في الصباح. فيقول لها: (هل عندكم طعام فتقول: لا) بيت أفضل الخلق ليس فيه طعام! وأنت لا هم لك في اليوم والليلة إلا أن تجمع الطعام والأموال، والرصيد، والسيارة ليست كسيارة فلان، والسفر إلى الخارج، وغيرها من الترهات والتفاهات. يأتيها ويقول لها: (هل عندكم طعام؟ فتقول: لا. فيقول: فإني صائم) الله أكبر! ويربط عمر بن الخطاب بطنه وهي تقرقر ويقول لها: [قرقري أو لا تقرقري فوالله لن أشبع حتى يشبع عيال المسلمين]. ألم تتذكر قوله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ} [الحديد:20]؟ ألم تعلم أن أبا أيوب الأنصاري يقول: [جاهدنا مع رسول الله، فقلنا بيننا وبين أنفسنا: إن أموالنا قد ضاعت -ضيعوا المزارع والبيوت من أجل الجهاد في سبيل الله- لو أنَّا التفتنا إلى أموالنا وأقمنا فيها فأصلحنا ما بها- لقد جاهدوا مع رسول الله، ولكن أرادوا أن يصلحوا بعض ما هلك من أموالهم- فأنزل الله تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195] ويروى عن أبي أيوب أنه ما زال بعد هذه الآية يغزو في سبيل الله حتى قبضه الله].

الانشغال بالأهل والمال

الانشغال بالأهل والمال لعلك تعتذر بزوجتك وكأنك أول من تزوج، ألم تعرف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج أكثر من امرأة واحدة؟ تعتذر بأولادك وكأنك الوحيد الذي أنجب الأولاد وملك الأموال وأثث البيوت ألم تعلم أن المنافقين عندما كان يدعوهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الجهاد كانوا يقولون: {شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا} [الفتح:11]؟ كانوا يتعذرون بالأزواج، وبالأولاد، وبالبيوت {يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً} [الأحزاب:13]. نعم، لأهلك عليك حق، ولنفسك عليك حق، ولزوجك عليك حق، ولربك عليك حق، فأعطِ كل ذي حقٍ حقه. كم تقضي وقتاً مع أهلك؟ وكم تقضي في الدعوة إلى الله؟ حاسب نفسك وكن منصفاً، وعادلاً. أما تذكرت قصة حنظلة؟ أظنك سمعتها مراراً كلاماً يقال، لكنها في الحياة بلا تطبيق حنظلة ذلك الصحابي الجليل في ليلة عرسه وزواجه يجامع زوجته، ويسمع منادي الجهاد: يا خيل الله! اركبي. فينتفض من عند زوجته، ويقوم ليجاهد في سبيل الله فيقتل، فتغسله الملائكة!! أتذكر تلك القصة أم أنك نسيتها؟ ألا تعرف قصة صهيب الرومي الذي خرج من مكة، وترك أمواله، وترك كل ما كان يتعب في الحياة الدنيا من أجله، مَنَعه المشركون فقال: ماذا تريدون؟ خذوا أموالي فهي في مكان كذا وكذا، واتركوني أهاجر إلى الله ورسوله. وهاجر وحيداً فريداً، ترك كل أمواله، فإذا به يقدم المدينة فينظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم مستبشراً فيقول له: (ربح البيع أبا يحيى! ربح البيع أبا يحيى! ربح البيع أبا يحيى!). يقول لك إخوانك: نريد منك بعض المال للدعوة إلى الله، فتقول: لا أستطيع عندي سيارة، وعندي بيت، وعندي أثاث، وعندي القسيمة، وعندي وعندي

الصحبة والذنوب والمعاصي

الصحبة والذنوب والمعاصي لا أدري ما هو السبب الذي غيرك بهذه الصورة؛ حتى أصبحت تظن أن المجالس لشرب الشاي والقهوة من دون الدعوة إلى الله؟ أصبحت تظن أنَّ هذا المجلس تستمع فيه إلى درس ثم ترجع فيه إلى البيت فتصبح به داعياً إلى الله؟ مسكين إن ظننت هذا الظن! لا أدري ما السبب الذي أوصلك إلى هذه الحال؟ لعلها صُحْبَتُك لذوي إرادات ضعيفة، وهمم دنيئة، لعلك كنت تصاحب أناساً لا هم لهم إلا التجارة، والمال، والسفر، والبيوت، والعقارات، كنت تخالطهم حتى أصبحت مثلهم، وكما قال عليه الصلاة والسلام: (المرء على دين خليله) وقل لي من تجالس أخبرك من أنت. لعل السبب هو الذنوب والمعاصي، فانظر إلى نفسك، وحاسبها، وتذكر: يوماً من الأيام قمت لصلاة الفجر، واستمعت إلى الأذان، فرجعت ونمت، لعله السبب الذي به خذلك الله عن الدعوة إليه. استمع إلى ما قاله ابن القيم رحمه الله، يقول: ومن عقوباتها -أي: المعاصي- أنها تضعف سير القلب إلى الله وإلى الدار الآخرة. تضعف السير، لا تجعلك تسير، ولا تتقدم في الدعوة إلى الله أو تعوقك وتوقفك وتعطلك عن السير، فلا تجعلك تخطو إلى الله خطوة، حتى لا تستطيع أن تنصح نصيحة واحدة بسبب الذنوب والمعاصي. أتذكُر تلك الليلة عندما أغلقت على نفسك الباب ففعلت فعلتك التي فعلت؟ أتذكر ذلك اليوم عندما فتحت الجريدة فنظرت إليها؟ ومسكين أنت تظن أنه لا يراك أحد {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:14]. يقول ابن القيم متمماً كلامه: هذا إن لم ترده عن وجهته إلى الوراء. أي: الذنوب والمعاصي {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة:46] ثبطهم الله عندما علم ما في قلوبهم من الذنوب والمعاصي، ولعلها هي التي أقعدتك بعض الشيء.

عدم وضوح الهدف

عدم وضوح الهدف لعلَّ من الأسباب: عدم وضوح الهدف لعلك كنت تلتزم مع إخوانك الصالحين، وتدعو إلى الله، لكن لم تعرف ما هو هدفك في الحياة، إلى متى تدعو إلى الله، ولماذا تحضر هذه الديوانية، وهذه المجالس، وهذه الدروس، وتحفظ القرآن، لماذا كل هذا؟ يقول: لا أدري إلى أين المصير؟ لا أعرف. استمع إلى هذه القصة: إنها قصة لـ عمر بن عتبة أحد السلف الصالح: خرج مع أصحابٍ له، يقول ابن عمه فنزلنا في مَرج حسن؛ أرض خضراء لو نزلت فيها لتمنيت أن تنزل مع أهلك أو أصحابك لتلعبوا فيها قال: فنظرت إليه، فقال: ما أحسن هذا المرج! لو نادى منادٍ: يا خيل الله! اركبي فيكون رجل في أول الصف فيصاب فيقتل فيدفن في هذه الأرض. فما هي إلا لحظات، فإذا منادٍ ينادي: يا خيل الله! اركبي -انظر إلى الأمنية وكيف حققها الله له- يقول: فالتحم الصفان، فقيل لأبيه أبي عمر: القصة والخبر، فقال لهم: إليَّ بـ عمر أحضروه. فهو يعرف أنه لا يتمنى شيئاً إلا ويحققه الله له، يقول: فبحثنا عنه فإذا هو مصاب، فما دفن إلا في مركب رمحه، في تلك الأرض هذا هو همه، وهذه هي أمنيته، لو سألته: ماذا تريد في الحياة؟ لقال: أن ينصر الله دينه، سوف أدعو إلى الله إلى آخر رمق، وأجاهد في سبيل الله، وأنفق جميع أموالي في سبيل الله، حتى ينصر الله دينه: عش عزيزاً ومت وأنت كريمٌ بين طعن القنا وخفق البنود

عدم الصبر على المعوقات والمصائب

عدم الصبر على المعوقات والمصائب ومن الأسباب: معوقات ومصائب ما تحملتها؛ فجلست وركنت، وجلست في مثل هذه المجالس تقول: للدعوة رجال، أما نحن فلسنا من أهلها. ولعل السبب أنك أصبت بمالك، فخسرت بعض الشيء في الدنيا الناس قد حصلوا على العمارات والعقارات، وحصلوا الأثاث والبيوت، أما أنت فجلست تنظر إلى حالك فرحمتها، فقلت: الدنيا الدنيا، ليس لي مكان بين هؤلاء الناس، لا أستطيع الدعوة إلى الله. لعله قد استهزأ بك رجل، أو ضحك عليك أقوام، فقلت: لا أستطيع أن أتحمل، فتقاعست عن الدعوة إلى الله. ألم تعلم أن أصحاب نبيك كانوا يسحبون على الشوك في الشمس، وتوضع الصخور على صدر أحدهم وهو يقول: أحدٌ أحد، أحدٌ أحد. يقول ابن عباس: حتى إن أحدهم لا يستطيع الجلوس من العذاب، ومن الضرب، حتى إنَّ الكافر ليمر عليه فيقول له: هذا إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم، هذا إلهي من دون الله، يكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان. ألم تسمع بقصة ذلك الصحابي الذي نظر إلى أمه تطعن في فرجها برمحٍ حتى أزهقت روحها، وهو صابر محتسب، يمر عليهم عليه الصلاة والسلام فيقول لهم: (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة). ألم يخنق حبيبك صلى الله عليه وسلم؟ خنقه عقبة بن أبي معيط فما فكه إلا أبو بكر ألم يوضع على ظهره سلى الجزور فما رفعه عن ظهره إلا ابنته الصغيرة فاطمة رضي الله عنها. ألم تسمع بـ أبي ذر حينما قام للناس وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فضُرِب حتى سال منه الدم، فما فكه عنهم إلا أحد المشركين، ثم يقوم في اليوم الثاني فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فيُضرب حتى يدمى. ثم هكذا في اليوم الثالث. ألم تُكسر رباعية نبيك عليه الصلاة والسلام؟ ألم يُشج وجهه؟ ألم يُطعن في عرضه؟ ألم تدمى أصبعه؟ ألم يسقط في حفرة حتى كاد أن يُقتل؟ ألم يحصل له كل هذا؟ ألم تسمع بقصة ماشطة بنت فرعون، والحديث وإن كان في إسناده شيء إلا أنه يتقوى ببعض الطرق (مرَّ عليه الصلاة والسلام برائحة طيبة، فقال لجبريل: ما هذه الرائحة؟ قال: هذه رائحة ماشطة بنت فرعون قال: وما خبرها؟ قال: كانت تمشط ابنة فرعون فسقطت المدرة من يدها -المشط- فأخذتها وقالت: باسم الله، فقالت ابنة فرعون: أبي؟ قالت: ربي وربُ أبيك الله رب العالمين، قالت: أُخبر أبي. قالت: أخبريه. فأخبرت فرعون -الذي طغى، وتجبّر، وقتل الرجال، وسفك الدماء- فناداها فقال لها: أولك ربٌ غيري؟ قالت بصبر وصمود وثبات: ربي وربك الله رب العالمين -وهي تعرف أنه ليس وراءها إلا الموت- فقال: ائتوا بأولادها، فأتوا بأولادها الصغار، فبدأ يحرق أولادها واحداً تلو الآخر أمام عينها، فقالت له: لي إليك حاجة. فظن أنها سوف ترتد عن عقيدتها، فقال: وما هي؟ قالت: أن تجمع عظامي مع عظام أبنائي في ثوبٍ وتدفننا جميعاً. قال: ذلك لكِ من الحق علينا. حتى انتهى إلى رضيعٍ كانت تحمله، فأرادت أن ترمي بنفسها في الزيت الذي يغلي، فكأنها تقاعست ليس لأجلها ولكن لأجل رضيعها، فأنطق الله ذلك الرضيع في المهد -وقال ابن عباس: إن الله أنطق أربعة منهم هذا- فأنطق الله ذلك الرضيع فقال: يا أماه! عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فرمت بنفسها ورضيعها). ألم تسمع بتلك القصص أم أنك نسيتها؟! {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ} [البقرة:214] أما أنت فماذا مسك؟ وماذا أصابك؟ كلمات سمعتها من فلان، أم أنه مرضٌ أصابك، أم أن الوظيفة قد فقدتها، أم أنه بعض الدنانير قد خسرتها ماذا أصابك؟ {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214] هل هذا هو السبب الذي أوصلك إلى هذا الحال؟ ألا تتحمل المصائب؟ أم أنك لا تحتمل كلام الناس؟ أم أنها ثقلت عليك الهموم والغموم؟ مسكين إن كانت هذه حجتك!

عدم الشعور بالتحدي

عدم الشعور بالتحدي ومن الأسباب: أنك لم تشعر بأن أعداء الله قد تكالبوا علينا وعلى الدعاة ألم تعلم أن الدعاة يسجنون، ويضربون، ويهانون؟! ألم تعلم -يا عبد الله- أن دعاة الباطل في كل وادٍ يهيمون، وأنهم يفعلون، وفي الجرائد يكتبون، وفي الإعلام يتكلمون، وفي كل مكان يعملون صباحَ مساءَ سراً وجهار؟ أما معاشر الدعاة إلى الله فما يعمل أحد معم فترة إلا ويترك أخرى. ألا تشعر بالتحدي؟ ألم تسمع قوله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]. ألا تشعر أننا في صراع، وفي حرب دائمة؟ لِمَ تركت إخوانك؟ ولِمَ تقاعست؟ ولِمَ جلست تنظر إلى المعركة من ينتصر فيها؟ ألم تعلم أن رسولك قد قال: (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها)؟ إن بعض من يتسمون بالإسلام في هذه الأيام هم أول من يحاربون الإسلام ألم تسمع بشيوخ تقتَّل؟ وبأطفال ييتموا؟ وبنساء ترمل؟ ألم تسمع أنَّ أخواتك في الله تهتك أعراضهن بالألوف ولا يستطعن حولاً، ولا دفعاً، وليس لهنَّ نصيراً؟ وليس لهم ذنب {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8] في غياهب السجون يعذبون، الواحد منهم يهتك عرض أخته أمام عينيه ولا يستطيع أن يتحرك، وأنت جالسٌ في النعيم تشرب الشاي والقهوة، وتضحك حتى تبدو نواجذك، وإذا قيل لك: يا فلان تعال معنا اعمل معنا ادع إلى الله انصح جيرانك انصح أهلك، تقول: لا أستطيع لست لها، لست لها!

عدم العمل بما ندعو إليه

عدم العمل بما ندعو إليه ولعل من الأسباب: أنك في البداية كنت تدعو الناس ونسيت نفسك، كنت مقصراً في الطاعات، ولا نراك في صلاة الفجر، ولا نراك تقرأ القرآن في المسجد منذ متى جلست بعد الفجر إلى الشروق تقرأ القرآن وتذكر الله؟ متى تصوم الإثنين والخميس؟ أو تصوم صوم التطوع؟ لعلك كنت قد قصرت في هذا؟ ألم تسمع بـ عبد الله بن المبارك؛ كان من المجاهدين في سبيل الله، فإذا جاء الليل ورأى الناس قد ناموا قام يصلي لله تعالى، وكان إذا صلى العصر يجلس في المسجد يذكر الله وكأنه لا يعرف أحداً ولا يعرفه أحد، يذكر الله حتى غروب الشمس فكان في النهار مجاهداً، وفي الليل عابداً زاهداً راهباً. ألم تسمع بـ سفيان الثوري الذي كان إذا أصبح رفع رجليه على الحائط حتى يعود الدم إلى رأسه من قيام الليل! وكان في النهار يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يصارع الطغاة، ويجاهد الظالمين، حتى إنه يخفي كراريسه في الأرض خوفاً عليها، وإذا درَّس تلاميذه فيدرسهم في الخفاء؛ حتى لا يراه أحد، وإذا جاء الليل يضع يده اليمنى على خده اليمنى فيجلس من أول الليل إلى الفجر على هذه الحال يتفكر في يومٍ كان مقداره خمسين ألف سنة، فيسأله صاحبه: أكنت على هذه الحال من أول الليل؟ قال: إي والله، ما تركتني حتى أذن الفجر وأنا على هذه الحال، أفكر في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة. ولعلَّ السبب أنك لم تحافظ على الأذكار، ولم تقرأ القرآن، ولم تجلس مع نفسك وتحاسبها.

اليأس من نصر الله

اليأس من نصر الله ولعل السبب أنك قد يئست من نصر الله، جلست سنوات تدعو إلى الله ثم نظرت يمنة ويسرة فإذا الدين يهان، وإذا أهل الدين مهانون، وإذا الدعوة إلى الله اضمحلت، ولعلها قَلَّتْ، فقلت: لا نستطيع أن نفعل شيئاً، فجلست في البيت وقد يئست من نصر الله ألم تسمع قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} [الحج:15] ألم تسمع قوله تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103]؟ جاء في صحيح مسلم: (يأتي النبي يوم القيامة ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان، والنبي وليس معه أحد) فما بالك! أيئست من نصر الله؟ يأتي خباب فيقول للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: كان فيمن كان قبلكم يؤتى بالرجل فتحفر له الحفرة فيوضع فيها، ويؤتى بالمنشار فيفرق فرقتين، ويؤتى بأمشاط الحديد فيمشط ما دون لحمه وعظمه لا يرده ذلك عن دينه شيئاً، ولكنكم قوم تستعجلون) دعوت إلى الله عشر سنوات، ثم نظرت فإذا الدولة ضدك فقلت: لا فائدة، فضربت كفاً على كف وجلست في البيت! نوح عليه السلام يدعو تسعمائة وخمسين سنة، ألف سنة إلا خمسين عاماً، وما آمن معه إلا قليل، كان يدعو إلى الله بدون توقف، ولولا أن الله قال له: {لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود:36] لاستمر في الدعوة إلى الله.

الخلاف مع الإخوان

الخلاف مع الإخوان لعل السبب كان خلافاً بينك وبين إخوانك على بعض الأمور، فتركتهم واعتزلتهم، ثم جلست في البيت وقلت: هؤلاء لا يصلحون للدعوة إلى الله. وإذا كانوا لا يصلحون فأنت لا تصلح أيضاً؟ ما بالك جلست؟ ألا تستطيع أن تنفق شيئاً من جيبك وتشتري بعض الأشرطة وتوزعها للناس؟! ألا تستطيع أن تشتري بعض الكتب وتوقفها للمسلمين؟ ما بالك لا تطرق الباب على جيرانك وتدعوهم إلى الصلاة؟ هل إخوانك هم السبب؟ يقول يونس الثقفي: ما أعقل الشافعي! يقول: ناظرته يوماً فاختلفنا في المسألة فافترقنا وكم من الإخوان يختلفون في مسائل فيفترقون -نسأل الله العافية- يقول: فافترقنا، فلقيني يوماً -انظر إلى فقه الشافعي - فلقيني يوماً فأخذ بيدي فقال لي: يا أبا موسى! ألا يستقيم أن نكون إخواناً ولو لم نتفق في مسألة؟ لنختلف في جميع المسائل لكن القلوب تبقى صافية، وتبقى الألفة، ويبقى التعاون على البر والتقوى، وتبقى الأخوة وإن اختلفنا في بعض المسائل فقههم يختلف عن فقهنا، وقلوبهم تختلف عن قلوبنا.

النظر إلى من هم أقل منه منزلة

النظر إلى من هم أقل منه منزلة لعل السبب أنك تنظر إلى من هو دونك، تنظر إلى كبار طلبة العلم وأهل الشهادات وخريجي الجامعات يجلسون في البيت ولا همَّ لهم إلا كيف يُصلِح بيته وكيف يُصلِح سيارته وكيف يجلس ويشرب الشاي والقهوة واليوم العشاء عند فلان، وغداً عند فلان، واليوم النزهة إلى المكان الفلاني، والسفر إلى المكان الفلاني، وكنت تقول: هذا فلان قد تخرج من جامعة شرعية، وحصل على أعلى الشهادات، وهو خطيب في المسجد وهذه حاله، فأنا أفضل منه، لأنني قد نصحت زوجتي وأبنائي. سبحان الله! تنظر إلى من هو دونك! أسألك -أخي العزيز- أن تحاسب نفسك، وتعرف السبب، ثم تعالجها، وتسمع قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:187]. أسمعت بقصة حبيب بن زيد؟ يروى أنه أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى مسيلمة -انظر إلى خدمة هذا الدين، وإلى التضحية في سبيل الله، وأنت ماذا فعلت حتى تكون في صفهم؟ - أرسله إلى مسيلمة، فأعطاه رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغضب مسيلمة وقال له: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: أشهد أن محمداً رسول الله قال: أتشهد أني رسول الله؟ فرد عليه حبيب مستهزئاً: إنّ في أذني صمماً، فربطه وأراد أن يعذبه، وقال: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: أشهد أن محمداً رسول الله. قال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: إنَّ في أذني صمماً، يستهزئ به، فقال للجلاد: اقطع منه جزءاً، فقطع منه طرفاً من جسده فتدحرج، والدم يسيل منه، وقال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: إن في أذني صمماً، فلم يزل الجلاد يقطِّعه قطعةً قطعة حتى صار قطعاً على الأرض منثورة، وهو يلفظ آخر أنفاسه ويقول: أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله. أخي العزيز: ماذا قدمت لهذا الدين؟ سمعت الخبر فماذا سيكون دورك؟ أتسمع الخبر وتقول: لهذا اليوم أعددته، وعند الله أحتسبته! نقول هذا لنسائنا وزوجاتنا، نقول لهنَّ تلك القصة، أين أنتنَّ من أم حبيب؟ ثم إنَّ أم حبيب تقول: بايع حبيب رسول الله صلى الله عليه وسلم صغيراً ووفى اليوم كبيراً. أسمعت بقصة عباد بن بشر رضي الله عنه، الذي استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم حارساً للمسلمين، هو وعمار بن ياسر، يقول عباد بن بشر لـ عمار: أتريد أن تكون أول الليل حارساً أم آخره؟ فقال عمار: أنام أول الليل وأكفيك آخره، فنام عمار، وقام عباد على ثغر رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي، فرآه أحد المشركين في الليل، فرماه بسهمٍ حتى وقع فيه، فنزعه وأكمل صلاته، والدم يسيل منه. والآن أنت في موقفٍ في الدعوة إلى الله، أنت على ثغرٍ من ثغور المسلمين، ماذا أصابك؟ ماذا دهاك أخي في الله؟ أصابتك كلمةٌ من أحد إخوانك فتركت الدعوة وأهلها، أصابتك مصيبة، فتركت الدعوة برُمَّتِها ثم يصيبه المشرك بسهم آخر، فينزع السهم ويكمل صلاته، ثم يصيبه بالسهم الثالث، فينزعه ويكمل صلاته، ثم يقطع صلاته ويوقظ عماراً، فيقول عمار: ما لك رحمك الله؟ لِمَ لم توقظني من أول سهم؟ قال: كنت في سورة فما أحببت أن أقطعها، وايمُ الله لولا أني على ثغرٍ أمرني رسول الله أن أحفظه لكان قطع روحي أحب إليَّ من قطع تلك السورة. هكذا يكون استشعار العمل، هكذا تكون الدعوة إلى الله، أما حالنا -نسأل الله العافية- فلنبك ولنندب أحوالنا.

نصيحة للتخلص من الفتور

نصيحة للتخلص من الفتور أنصحك -أخي في الله- أن تتعاهد إيمانك، وتحاسب نفسك، اجلس مع نفسك هذه الليلة ثم سلها: ماذا تقدم لدين الله؟ ماذا قدمت -يا نفس- في الدعوة إلى الله؟ هل أنت من الذين يخادعون أنفسهم، الذين لا همَّ لهم إلا الجلوس والحديث واللغو والكلام، ثم يرجع إلى البيت فينام، وهكذا حياته كلها؟ حاسب نفسك ثم أكثر من العبادات {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201] ينتبهون فيبصرون، ينفض الغبار عن نفسه، ويرجع إلى إخوانه، ويضع يده في أيديهم، ويقول: أرجع معكم مرة أخرى، ماذا تريدون؟ ماذا تطلبون؟ أموالي للدعوة إلى الله، وقتي للدعوة إلى الله، جسدي للدعوة إلى الله، ماذا يريد الله مني؟ {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111] فهل بعت نفسك؟ وهل تمت الصفقة؟ ما هو الثمن؟ إن الثمن هو الجنة: {بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111]. بعها وتوكل على الله، وسر في طريق الدعوة، ولا تقل: عندي ذنوب ومعاص، فكل الناس يذنبون ولو لم يعظ في الناس من هو مذنب فمن يعظ العاصين بعد محمدِ كل الناس عصاة ومذنبون، فما بالك تمنعك المعاصي والذنوب، وعليك ألاَّ تجمع ذنباً على ذنب، ولا تجمع معصية إلى معصية، وأدعوك أن تصفِّي قلبك مرة أخرى، ضع يدك في يد إخوانك، وابدأ معهم طريقاً جديداً وصفحةً جديدة، وقل مع إخوانك: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10]. قيل للبخاري: إن أقواماً يقولون فيك كذا وكذا، فالتفت إليهم وقال: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [النساء:76] {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر:43] قالوا: ألا تدعو عليهم؟! قال: سمعت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (اصبروا حتى تلقوني على الحوض) إنها قلوب كبيرة، وصدور شُرحت بالإسلام. وهذا الإمام أحمد يبكي ليلة كاملة، فيقال له في الصباح: ما بالك -رحمك الله- تبكي في الليل؟ قال: مر عليَّ في الدرس قوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40] فتذكرت المعتصم الذي كان يأمر بجلدي، فسجدت لله في الليل أبكي أن يحلله الله مني. الله أكبر! هل وصلنا إلى هذه الدرجة؟ هل وصلنا إلى هذه السورة؟ قلوبنا -أيها الإخوة- قد دخلت فيها الذنوب، وران عليها الذنوب، حتى أصبح أحدنا لا يتحمل أخاه، ولا يحتمل كلمة. وهذا سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب في منى يزاحمه رجل فيلتفت إليه فيقول له: إني لأظنك رجل سوء، فيبتسم سالم ويقول: ما عرفني إلا أنت. نعم والله، الناس يظنوني رجل خير لكنك الوحيد الذي عرفتني. ويأتي الحسن بن الحسن، ويتكلم على زين العابدين، فذهب إليه في البيت وطرق عليه الباب، فخرج وتعجب! ما باله يأتيه في الليل؟! فقال له: يا فلان! إن كان حقاً ما قلته عني فغفر الله لي، وإن كان كذباً فغفر الله لك، والسلام، وتركه ومضى، فلحقه الحسن بن الحسن، فعانقه وأخذ يبكي ويطلب منه أن يعفو عنه، فقال: لا بأس عفا الله عنك. حتى رثى لحاله وهو يبكي، وقال: لا والله لا أعود لأمرٍ تكرهه بعد هذا. ألا نكون مثلهم؟ ألا نأتي إلى إخواننا ونضع أيدينا في أيديهم، ونبدأ معهم مرة أخرى في الدعوة إلى الله؟! أقلَّ القليل أن ندعو إلى الله فيما نتفق عليه، فنحن متفقون أنه يجب علينا أن ندعو الناس من الكفر إلى الإيمان، ومن ترك الصلاة إلى إقامتها، ومن البدعة إلى السنة، ثم إن اختلفنا ينصح بعضنا بعضاً. وأنصحك -أخي الحبيب- أن تنظم وقتك مرة أخرى، وتحاسب نفسك: كم ساعة للدعوة إلى الله؟ وكم ساعة لنفسك ولأهلك ولزوجك؟ وتكون عادلاً، وتنصف في توزيع الأوقات، ساعة في الدعوة على الأقل وخمس ساعاتٍ لأهلك ونفسك، فكن عادلاً ولا تظلم نفسك ولا تبخسها حقها. وأنصحك أن تقرأ سير الأنبياء والصالحين ألم تسمع بنبي أخذ من بين يدي أبيه وأمه صغيراً، ثم رمي في الجب وكاد أن يُقتل، ثم بيع في الأسواق زهيداً رخيصاً عبداً يباع ويشترى، ثم أصبح خادماً في قصر العزيز، ثم تعرض للفتن، ثم ساءت سمعته في الناس وتكلم الناس في عرضه، ثم يُقذف في السجن بضع سنين، فعندما دخل وجد صاحبين في السجن فقال لهم: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف:39] فلو دخلت السجن كن داعية إلى الله، وفي المدارس، والوظائف، في العمل، والسيارة، والبيت، والشارع، والمسجد، وكل مكان كن داعية إلى الله. ألم تسمع قصة نوحٍ عليه السلام؟! ألم تسمع قصة ذلك المجاهد الشاب عقبة بن نافع، وكيف كان يدعو إلى الله بسيفه وفرسه، حتى وصل إلى المحيط الأطلسي وعمره خمسٌ وعشرون سنة، فيدخل بفرسه إلى البحر، ويبلل حوافر الفرس، ويرفع سيفه وهو يقول: والله لو أعلم أن خلف هذا البحر قوماً وأرضاً لخضته بفرسي هذا هكذا يكون الجهاد! ألم تسمع بـ جعفر الطيار الذي حمل راية الدعوة والجهاد بيده اليمنى فقطعت، ثم حملها بيده اليسرى فقطعت، ثم حملها بين عضديه فتكسر الرماح في ظهره وهو يقول: يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وباردٌ شرابها والروم رومٌ قد دنا عذابها كافرة بعيدةٌ أنسابها وأنصحك أن تدعو بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتنفض الغبار عن نفسك، وتقول: (اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل) تدعو بهذا الدعاء صباح مساء، ليل نهار، ثم تنفض عن نفسك الغبار وترفع يدك إلى الله وتدعو الله عز وجل أن يعينك، وتقول: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:250]. يقول زيد بن ثابت: لقيت سعد بن الربيع في إحدى المعارك وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة ويقول لي:: بلِّغ رسول الله صلى الله عليه وسلم مِنَّي السلام، وقل له: إني أجد ريح الجنة. ثم قال له: قل لقومي الأنصار: لا عذر لكم عند الله إن يخلص إلى رسول الله وفيكم عين تطرف. ثم فاضت روحه إلى الله. فلا عذر عند الله، إن يتكلم في الدين ويهان الدين في كل مكان ويستهزأ بسنة سيد المرسلين، وفينا عين يطرف. أقول هذا القول، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وجزاكم الله خيراً.

الأسئلة

الأسئلة

معنى: من كانت فترته إلى سنتي فقد نجا

معنى: من كانت فترته إلى سنتي فقد نجا Q قد يحصل للإنسان فتور عن العبادات كما ذكر، فنرجو التوضيح؟ A يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لكل عمل شرة، والشرة إلى فترة)، وفي رواية: (ولكل شرة فترة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد نجا، ومن كانت إلى غير ذلك فقد هلك) وفي رواية: (فقد ضل) فالحديث صحيح، وحسنه بعضهم لكنه صحيح، ومعنى: {من كانت فترته إلى سنة} أي: أنه يظل على الواجبات مثلما قال الشيخ جزاه الله خيراً، أي: فلا يرتكب المحرمات ولا يفرط في الواجبات فهذا قد نجا. مثاله: رجل فتر حتى أصبح -مثلاً- لا يقوم الليل، أو فتر حتى أصبح لا يصوم الإثنين ولا الخميس، أو فتر حتى أصبح لا يجلس بعد الفجر إلى الشروق، فهذا الفتور إلى السنة، لكن عليه أن يحاول أن يرجع، نسأل الله أن يجدد لكم إيمانكم، وهذه درجات دنيا، لكن المصيبة أن يؤدي الفتور إلى ضلالة، حتى يصبح الرجل كما ذكرنا يجلس في مجلس فيه منكر، فإنه فتور غير محمود، أو يمر في الأسواق ويكلمها وتكلمه ويضاحكها وتضاحكه، ويظن أن هذا الفتور لا بأس به، بل إنه يترك الدعوة إلى الله برمتها، والدعوة واجبة على كل مكلف، بل قال عليه الصلاة والسلام: (بلغوا عني ولو آية) وهذا الرجل لا هم له في الدعوة إلى الله بتاتاً، ثم يقول: هذا فتور طبيعي! لا، هذا فتور إلى ضلالة. فجزاه الله خيراً إذ نبه على أن الفتور نوعان: فتور في ترك السنن والمستحبات، وهذا طبيعي، قال بعض السلف: لا بد من الغفلة، لكن لا تطل النوم. فانتبه، اقرأ القرآن حتى يزداد الإيمان مرة ثانية، لعلك تموت على ضعف الإيمان، تحصل على الدرجات الدنيا، وقد يكون الفتور في ضلالة ونحن ما نشعر، نقول: هذا فتور عادي وطبيعي.

حق النفس والأهل على الإنسان

حق النفس والأهل على الإنسان Q نرجو توضيح حديث: (إن لنفسك عليك حقاً الحديث)؟ A حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لجسدك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولربك عليك حقاً) قد تعجب من هذا الشخص كيف كان في الدعوة إلى الله، فإذا رأيت وجدت أهله أول من يحتاج الدعوة إلى الله، ثم إذا كبر أبناؤه فهم يحتاجون إلى تربية، تجد أبناء بعض الدعاة في الشوارع وهو يدعو إلى الله، ناسياً أن أول من يحتاج دعوته أبناؤه: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ} [البقرة:132] ولما هاجت الأمواج كان من أول دعاء نوح عليه السلام هو ابنه {يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} [هود:42] وبعض الدعاة إلى الله لو سألت عن حاله، لقيل لك: يمكث في المزارع في الشاليهات، لا يدخل البيت إلا الساعة واحدة في الليل أو الساعة الثانية عشر في الليل، وليس ذلك في الدعوة إلى الله، فإن الدعوة إلى الله لا تكلف ساعة في اليوم، ولكن الأوقات الأخرى تقضى في السوالف والأحاديث والسمرات، وغيرها من الأمور التي لا تسمن ولا تغني من جوع، وإذا دخل البيت الساعة الثانية عشر في الليل، فقالت زوجته: أين كنت؟ قال: كنت مشغولاً في الدعوة إلى الله. يا مسكين! لا تخدع نفسك، ليكن أول من تدعو أهلك قال تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] والنبي صلى الله عليه وسلم دعا خديجة أولاً وأبا بكر، وابن عمه عليه الصلاة والسلام، قال تعالى {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132] بل كان بعض السلف يجلس مع أهله ويدرسهم ويحدثهم، ويذكرهم بالله، وهذه هي الدعوة إلى الله، أما أن يغفل عن بيته ويدعو الناس فلا. فهذا من الأمور المهمة الخطيرة جداً، فقد أهملت حتى صار بعض الدعاة يؤتون من قبل بيوتهم، لأنه يدعو إلى الله فيلتفت خلفه فإذا أبناؤه في الشوارع، وزوجته قد فعلت وتركت، ثم يأتي وإذا الفضيحة والعار، ثم يترك الدعوة إلى الله ويترك إخوانه الصالحين، بحجة أنه سوف يدرك أهله، ثم لا هو بالذي دعا أهله، ولا هو بالذي صلح بدعوته مع الناس، فعلى الداعية أن ينتبه ويوازن نفسه.

أحوال مختلفة لمجالسة أهل السوء

أحوال مختلفة لمجالسة أهل السوء Q هذا يسأل عن حكم بقائه في مؤسسة أو عمل ومعه جلساء سوء يعملون المنكرات؟ A إذا كان وجودك أصلح من خروجك فاجلس، كأن يكون وجودك سبباً يمنعهم عن منكر أكبر أو تدعوهم إلى شيء أفضل مما هم فيه، مثل الصلاة، أو تحدثهم عن الدين فابق عندهم فإن هذا من مصلحة الدين، أما إذا وجدت نفسك بدأت تتأثر بالجلوس معهم، وأخذت تلعب معهم، وتعشق ما يفعلونه، فاخرج، وفر من المجذوم فرارك من الأسد. واعلم أن إنكار المنكر على درجات، فقد تنكر المنكر وتجعل مكانه معروفاً وهذا واجب، وقد تنكر المنكر فيأتي منكر أضعف منه وهذا مستحب، وقد تنكر المنكر ويأتي منكر مثله فهذا موضع اجتهاد وقد يكون غير مشروع، قد تنكر المنكر ويأتي منكر أكبر منه وهذا محرم لا يجوز.

الكلام على العلماء واتهامهم بالتقصير

الكلام على العلماء واتهامهم بالتقصير Q بعض الإخوة يتكلم على العلماء، ويقدح فيهم بحجة أنهم لا يصدعون بالحق، وأن شرع الله لا يحكم، وأن المنكرات منتشرة جهاراً، وهؤلاء العلماء لا ينصحون المسئولين بزعمه وقد يقول: إنهم منافقون وهكذا، فنرجو التوضيح. A جزاك الله خيراً، واعلم أنه لن تصلح أمة لا توقر علماءها وولاة أمرها، والعلماء هم ولاة الأمور، فإذا كان كلام الأمة في علمائها فلن تصلح هذه الأمة، بل هذا الرجل الذي يطعن في العلماء يقول: الناس وصلوا وفعلوا، وهؤلاء لا يزالون يدرسون كتب الفقه والعقيدة، ماذا فعلوا؟ وماذا نصحوا؟ فقل له: أنت لا درست ولا وصلت، أنت لم تفعل فعلهم ولا فعلت فعل غيرهم، بل أنت جالس في البيت، وما يدريك أن الذي ينصح ينصح لله ولا يشتهر في نصحه ليقول للناس: انظروا أنا نصحت، وكما أخبرني كثير من الثقاة أن الشيخ ابن باز ينصح، وما يأتيه رجل من الكبار والصغار إلا وينصحه، كذلك غيره من العلماء ينصحون؛ لكن ليسوا كغيرهم من الذين إذا نصحوا قالوا: يا ناس انظروا فنحن نصحنا وفعلنا. ثم نسأل: هل الدعوة إلى الله واجب العلماء فقط؟! نعم قد قال الله: {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ} [التوبة:122] نعم نعيب على طلبة العلم الذين تخرجوا من الجامعات وجلسوا في البيوت، لكن أقول لمثل هذا: أنت ماذا فعلت؟! تكلم أولاً عن نفسك: (بلغوا عني ولو آية) ألا تحفظ آية؟ ألا تحفظ قول الله عز وجل: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء:103] ألم تحفظ قوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11] لم لا تأمر الناس بالصلاة؟ جاء بعض الأعراب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم، ثم سأل عن الشهادتين وبقية أركان الإسلام، ثم ذهب إلى قومه يدعوهم، فأسلمت قبيلته كلها، فهكذا تكون الدعوة، أما أنك تلقي اللوم على غيرك من العلماء وطلبة العلم، فقل لنا: ماذا فعلت؟ وكم آية تحفظ؟ وكم حديث قرأت؟ فهل بلغته؟ إذا كنت الآن تحفظ الحديث ولم تبلغه فكيف إذا حفظت الكثير؟ فسوف تكون كمن يأمر الناس بالبر وينسى نفسه، ينشغل بغيره عن نفسه، وهذه مصيبة وطامة. وأشير هنا إلى قول الحافظ ابن عساكر رحمه الله: "واعلم أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، ومن أطلق لسانه فيهم بالثلب ابتلاه الله قبل موته بموت القلب" وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ومن تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه ولو في قعر بيته) وقال الشاعر: أقلوا عليهم لا أبا لأبيكم من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا كف اللوم عن العلماء والمصلحين والدعاة، أو على الأقل سد المكان الذي يسدونه، فأنت لا تستطيع أن تفعل فعلهم، فما بالك تتكلم عليهم؟!

أهمية علم الداعية بما يدعو إليه

أهمية علم الداعية بما يدعو إليه Q بعض الإخوة يدعو إلى الله بغير علم، فما توجيهكم؟ A جزاك الله خيراً، هذه نقطة مهمة، لا تدعو إلا بعلم، صحيح لا تدعو بجهل فتخرج الناس من منكر إلى منكر أكبر منه، فكم من رجل يدعو إلى الله وهو يأمر بالبدعة، يظن أنه يدعو إلى الله وما فعل إلا الشر، ومعنى أن تدعو بعلم أن تعرف أن الصلاة واجبة فهذا علم تدعو إليه، ويكفيك دليل واحد من القرآن أو السنة، تعرف أن الحجاب واجب، وعندك دليل من الكتاب أو من السنة، فاذهب وادع النساء إلى الحجاب، ولكن لا تتكلم بأمر لا تعلم عنه. وكذلك العلم بحال المدعو وفي الحديث: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب) فانظر كيف يقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ معاذ بن جبل وذلك لأن لكل قوم سجايا تحتاج إلى مراعاة وفهم. كيفية الدعوة: دخل رجل المسجد فجلس، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أصليت ركعتين؟ قال: لا يا رسول الله! قال: قم فصل ركعتين) فانظر حال المدعو، واعرف حاله، لتعرف كيف تدعو إلى الله. وجاء رجل فبال في المسجد فهمَّ به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (دعوه لا تزرموه! فلما أتم بوله، أمر بذنوب من ماء فأهريق عليه، فأتى هذا الرجل وقال: اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً) فينبغي أن توجد الحكمة في الدعوة إلى الله، وانظروا إلى إخواننا من جماعة التبليغ، فبعضهم حجة لبعض؛ لكن عنده أسلوب، لا يمر في الشارع إلا واهتدى على يديه جماعة بفضل الله، ويتوبون إلى الله، ثم يدخلون إلى المرافق؛ إلى أماكن شرب الخمور، بل إلى الكفار فيخرج الكافر يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، نعم. نحن لا نقرهم على بعض أعمالهم؛ لكن هذه من أعمالهم الخيرة التي نشجعهم عليها. والمهم أنك إذا أردت أن تدعو فادع بعلم، ولا تدع إلى بدعة، ولكن هل صحيح أننا ليس عندنا ذلك العلم الكافي حتى ندعو إلى الله؟ لنحاسب أنفسنا فسنجد أننا نعرف أن الصلاة واجبة، والحجاب واجب، والزكاة واجبة، ونعرف أن الأغاني حرام وهكذا.

النفور من التدين بسبب اختلاف المتدينين

النفور من التدين بسبب اختلاف المتدينين Q بعض الناس ينفر عن الدعوة بسبب الخلافات، ويترك الدعوة بحجة الخلافات. ماذا توجه له من نصيحة؟ A ما ذكرته يعتبر من أسباب الفتور في الدعوة إلى الله، ونحن لم نذكر جميع الأسباب، ومنها الفردية في الدعوة، فإن كثيراً من الناس مرت به فترة من الدعوة وهو نشيط جداً، وأظن بعضكم يذكر البعض. حين كان من أنشط الناس في الدعوة إلى الله ثم إذا به يتراجع، فما الذي حدث له؟ حدث أنه كان يدعو إلى الله لكن لوحده وما عليه من غيره، وهو ينسى أن ديننا دين جماعة، دين تحاب، قال تعالى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} [الأنفال:63]، وأمر رسوله فقال: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2] فأنت لا تستطيع لوحدك، وديننا دين جماعة، دين تآلف، دين وحدة. {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:4] فلو جاء الجهاد فأظن أن هذا الذي يدعو وحده ويقول: أنا لا أدعو إلى الله مع هؤلاء لأنه توجد عندهم أخطاء ومخالفات، سيبقى وحده، فنقول: هؤلاء متفقون معك على أصول أهل السنة ولكن عندهم بعض الإشكالات التي تختلف أنت معي فيها، ويختلف فيها كبار أهل العلم، لكن ينبغي أن ندعو إلى الله: {صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:4] أسألك: لو جاء الجهاد في سبيل الله فماذا سوف تفعل؟ لا أظنك سوف تجاهد معي، لأنك الآن لا تدعو إلى الله معي، بل لو أتى الجهاد في سبيل الله فلا آمن أن ترفع السلاح في وجهي، هذا الذي حصل في كثير من بلاد المسلمين يرفع أحدهم السلاح في وجه الآخر، فالحاصل أنه ينبغي الاجتماع والتعاون.

الوقت وأهميته

الوقت وأهميته إن الوقت هو الحياة، وهو عمر الإنسان، ورأس ماله، لذلك لابد من الاهتمام به والحفاظ عليه وعدم تضييعه، فيا ترى كيف تقضى الأوقات؟ هذا هو ما تحدث عنه الشيخ، ذاكراً الأمور التي تقضى بها الأوقات كالصلاة على وقتها، ثم تحدث عن العلم وفضله ومنزلته وأهميته، وفضل طالب العلم، معرِّجاً على نماذج من السلف في طلبهم للعلم ثم بين كيفية تنظيم الأوقات، محذراً من مضيعات الأوقات، ومبيناً علامات الوقت الضائع، وكل ذلك ليبين أهمية استغلال الوقت في طاعة الله تعالى، وعدم تضييعه.

قيمة الوقت

قيمة الوقت الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين. أما بعد: فهذه الكلمة بمناسبة بداية العطلة الدراسية، وهي للطلبة خاصة، لكنها للناس عامة، فكل الناس في هذا الزمان يشكون من الفراغ، قال الله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} [المؤمنون:115 - 116] ووقتك هو حياتك، وإذا ذهب وقتك فقد ذهبت حياتك، وكلما مر الوقت كلما ذهبت الحياة، قال صلى الله عليه وسلم: (اغتنم خمساً قبل خمس وذكر منها: حياتك قبل موتك) أي: اغتنم هذه الحياة قبل أن تذهب، ويخلفها الموت، قال ابن هبيرة: والوقت أنفسُ ما عنيتَ بِحفظهِ وأراه أسهلَ ما عليك يضيعُ فالوقت أغلى شيء وأسهل شيء في الضياع، ولهذا يُقال في المثل: الوقت من ذهب. وهذا المثل خاطئ، فالوقت لا يقدر بالثمن، ولهذا تجد بعض الناس يشكون من الفراغ، ويسمونه الفراغ القاتل، يكاد يقتله هذا الفراغ ولا يعرف ماذا يفعل به، بل إن بعضهم يقتل نفسه من ألم الفراغ، وبعضهم يتعاطى المخدرات ويفعل المنكرات ليتخلص من هذا الفراغ، فراغ قاتل، إن لم تشغله بالخير شغلك بالشر. قالت رابعة لـ سفيان: إنما أنت أيام معدودة، فإذا ذهب يوم ذهب بعضك، ويوشك إذا ذهب البعض أن يذهب الكل. فإنك تذهب مع الوقت، وأنت تعلم فاعمل. عندما مات محمد بن جرير الطبري، شيخ المفسرين، حسبوا أوراقه التي صنفها، ثم قسموها على أيام حياته فوجدوا كأنه ألّف كل يوم أربع عشرة ورقة. في كل يوم من حياته، منذ أن بلغ الحلم إلى أن مات، كأنه ألّف أربع عشرة ورقة، تأليفاً لا قراءة. وقال أبو جعفر لأصحابه: أتنشطون في كتابة تفسير القرآن؟ قالوا: كم يكون قدره؟ قال: ثلاثون ألف ورقة، تكتبون وأنا أمليكم. قالوا: هذا مما تفنى الأعمار قبل تمامه. سوف نموت وما انتهينا من ثلاثين ألف ورقة. فاختصره في نحو ثلاثة آلاف ورقة. ثم قال: هل تنشطون لكتابة تاريخ العالم منذ آدم إلى وقتنا هذا؟ قالوا: كم قدره؟ فذكر نحواً مما ذكره في التفسير، أي: ثلاثين ألف ورقة، فقالوا: تفنى الأعمار قبل أن تفنى هذه الأوراق. ثم اختصره إلى ثلاثة آلاف، ثم قال رحمه الله: إنا لله! ماتت الهمم في كتابة ثلاثة آلاف! ونحن في هذا الزمان لو أملى الشيخ على التلميذ ثلاث ورقات لملَّ الطالب، ووضع الورقة وتعب، وهؤلاء اختصر لهم الكتاب في ثلاثة آلاف ورقة!

مرور الأيام يفني الأعمار

مرور الأيام يفني الأعمار كل يوم يمر يأخذ بعضي يورث القلب حسرة ثم يمضي يذهب يوم بعد يوم، وتذهب ساعة بعد ساعة، ويضيع العمر وأنت نائم لا تشعر في أيام المدرسة كنت تقضي ست ساعات في الدراسة، والآن لقد أتت العطلة فماذا تفعل في الست الساعات هذه؟ هل وضعتَ لك هدفاً؟ هل وضعتَ لك برنامجاً؟ وغير الست الساعات كنت تدرس وتحل الواجبات، وكنت تذهب إلى المدرسة وترجع من المدرسة، وكنت تذاكر للاختبارات هذه الأوقات كلها ذهبت، وأتى بعدها فراغ، ماذا سوف تفعل فيه؟ كنتَ تحضر دروساً، وكنتَ تطلب العلم، وإذا ظللت على حالك هذا فسوف تقضي سبع ساعات من الفراغ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: وذكر منها: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه) سوف تُسأل عن كل دقيقة بعد الأخرى، فماذا ستجيب ربك؟ تقول: نمت ولعبتُ وجلست أمام التلفاز، أو تقلب الجريدة والمجلة، أو تتجول على هذا بعد هذا، أو تتكلم مع هذا بعد هذا، وضاعت الأوقات بالأحاديث التي لا طائل منها، وباللغو الذي لا فائدة فيه، وبالطعام والشراب وباللعب واللهو، وإن لم تكن بالمحرمات ضاعت فبالمباحات. يقول أبو الوفاء بن عقيل الحنبلي عن نفسه: لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري. ألَّف كتاباً يسمى الفنون، يقع في ثمانمائة مجلد، من غير كتبه الأخرى، ألَّف هذا الكتاب ومع ذلك يقول: إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري. أتظن أن هذا كانت تضيع أوقاتُه بالنوم، أو باللعب، أو بالأحاديث الفارغة، أو بالمشي، أو بالزيارات التي لا طائل منها ولا فائدة ولا هدف منها؟! إذا كنتُ أعلم علماً يقيناً بأن جميع حياتي كساعةْ فلم لا أكون ظنيناً بها وأجعلها في صلاح وطاعة وإذا كنت متيقناً أن الحياة كلها كساعة واحدة، كأنك تغمض عينك فتفتحها وإذا العمر قد فات، فلماذا لا تغتنم وقتك؟! ولذلك يقول الله عزَّ وجلَّ يوم القيامة للمشركين: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [المؤمنون:112 - 113] لعله أقل من يوم، أو جزء من يوم، بكرةً أو عشية أو ضحاها {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْأَلِ الْعَادِّينَ} [المؤمنون:113] اسأل أهل الحساب، اسأل الذين كانوا يعدون الأيام {قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً} [المؤمنون:114 - 115] أتحسب أنَّ الوقت -الذي هو نعمة من نعم الله- وأعطاك الله عزَّ وجلَّ إياه، أتحسب أنه عبث؟ أتظن أن الله لن يسألك عنه؟ أتظن أنك ستأتي يوم القيامة وتقول: يا رب، على الأقل أنا ما فعلتُ منكرات؟! بل إنك سوف تحاسب؛ لأنها نعمة {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر:8] وإذا كنت لا تشعر أنها نعمة فاعلم أن بعض الناس يتمنى قراءة المصحف فلا يجد وقتاً، يذهب إلى العمل منذ طلوع الفجر حتى تغيب الشمس، ثم يرجع إلى البيت فيأكل لقمة، ثم تغلبه عيناه فينام، ثم يستيقظ في الفجر ليذهب إلى العمل ويكدح ويتعب حتى تغرب الشمس، ثم يرجع إلى بيته، وهكذا طول حياته، لا إجازة ولا راحة، وأنت الآن مترف منعم بهذا الوقت، يأتيك الطعام والشراب والمال، وتنام في بيت بارد هنيء مريح، وعندك الكتب ما تشاء منها، بل عندك المشايخ، الأشرطة، ثم بعد هذا تتكاسل! وتظن أن الله لن يسألك عن هذا!!

ليكن لك هدف

ليكن لك هدف لن تستغل وقتك حتى تجعل لك هدفاً، قبل أيام كانت هناك اختبارات، وكم كان الوقت ثميناً عند الطلبة؟ كان الطالب لا يضيع دقيقة، وإذا طلب منه أحدٌ شيئاً قال: أنا مشغول. يريد أن يقرأ ويذاكر، فقد عرف قيمة الوقت؛ لأن عنده هدفاً، وهو الاختبار، وهذا هو الذي جعله يستغل الوقت. فليكن لك هدف، أما أن تحفظ القرآن في العطلة، على الأقل تحفظ عشرة أجزاء، وتنتهي من تفسير القرآن الكريم كله ولو مختصراً، وتنتهي من حفظ متن في الفقه، فتعرف أحكام الفقه كلها، وتحفظ بضعة أحاديث، أو تدعو إلى الله وإذا لم يكن لك هدف فاعلم أنك لن تستغل وقتك، ومِن الناس مَن يخطط مِن الآن لأهداف مثل النوادي الصيفية، أو المراكز، ولعب الكرة، أو يدخل نادياً يتقوى فيه، فهدفه أن تنتهي العطلة وقد قوي جسده يا خادم الجسم كم تتعب لراحته أتعبت نفسك فيما فيه خسرانُ أقبل على النفس فاستكمل فضائلها فأنت بالنفس لا بالجسم إنسانُ فالمهم النفس {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:7 - 10]. وما هي الفائدة التي يجنيها هؤلاء؟ يتعب سنوات من عمره وتضيع هباءً وهدراً، ثم بعد هذا يحصل على الكأس، ويصبح نجم الكرة، ثم بعد سنوات يُنسى ويُطوى في التاريخ، كما نُسي غيره، ثم يعقب هذا كله الندم والخسران والألم والحسرة! هذا إن أصبح نجماً، فما بالك إن لم يصل إلى هذه المنزلة أو إلى هذه الدرجة! ماذا سيكون حاله؟ سوف يُنسى كما نُسي غيره. وبعض الناس هدفه في هذه العطلة أن يسافر إلى دول الفجور والخنا والزنا، يجمع المال من الآن، ويخطط مع أهله، فيذهبون إلى تايلاند، أو إلى بانكوك، أو إلى إنجلترا، أو إلى فرنسا أو إلى باريس، أو إلى غيرها من الدول، ويظن أنه سوف يتمتع وبعض الناس يخطط في هذه العطلة أن يستمع الموسيقى، ويصبح مغنياً مطرباً، فيدخل معهد الفنون والموسيقى. ومنهم ذلك الشاب الذي ما إن انتهت الدراسة إلا وقد عزم وأصر أن يختم القرآن في هذه العطلة، فما إن تنتهي الدراسة وتبدأ العطلة، إلا ويبدأ يعكف على كتاب الله، يقرؤه آناء الليل وأطراف النهار، ويراجع ما فاته من الحفظ، ويبدأ في الحفظ ويتقن حفظه، حتى ينتهي من حفظ القرآن، ثم يبدأ في حفظ حديث النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين الثرى والثريا {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل:4]. قد هيئوك لأمر لو فطنتَ له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهَمَلِ أيها الأحبة: كل الناس أغلبهم عنده هدف، وانظر إلى أهداف بعضهم الدنيئة والحقيرة: منهم في هذه العطلة من يريد أن يجمع المال، وبعد جمع المال، ما الذي سوف يحصل؟ المال تتعب قبل جمعه وبعد جمعه، أما العلم فسوف يريحك، وسوف ينعمك في هذه الدنيا. ومنهم من يحرص على متابعة برامج التلفاز، ويجمع الأموال ليشتري جهاز فيديو، بل يشتري جهازاً للبث المباشر؛ ليتابع البرامج الغربية الخلاعية وغيرها أهذا الهدف خير أم هدف ذلك الشاب الذي ينوي في هذه العطلة أن يطلب العلم، وأن يدعو إلى الله، فما أن تنتهي العطلة إلا وقد طرق كل بيت من بيوت الجيران، يعاهد ربه ما أن تنتهي العطلة إلا وقد ختم هذه الكتب كلها، فينتهي من الكتب المختصرة، ثم الموسعة، ثم المفصلة، فتنتهي العطلة وقد تعلم في ثلاثة أشهر ما لا يتعلمه غيره في سنوات.

ثبات يرفع القدر

ثبات يرفع القدر أعرف بعض الشباب جدوله هو الجدول، كان في أيام الدراسة من الصباح إلى الظهر في المدرسة، ثم انتهت الدراسة وإذا هو ذلك الشاب، من الصباح إلى الظهر عاكفاً على الكتب. أيها الإخوة: ما هو الفرق؟ كنت تذهب كل يوم إلى المدرسة من السابعة إلى الواحدة، فلماذا تكاسلت في العطلة؟ لأن الأمر ليس فيه جائزة مادية محسوسة، أما تلك ففيها شهادة المؤمن دائماً يفكر في أجور فضل طلب العلم، وفضل الدعوة، وفضل بر الوالدين، وفضل صلة الأرحام، وهكذا ولهذا إن جلس بعد الفجر إلى الظهر فلا يمل ولا يكل ولا يتعب ولا يسأم، ولو كان لوحده، ولو نام الشباب، ولو نام الناس، ولو ضاع الناس، ولو تركوا العلم والكتب فهو عاكف عليها. دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثوانِ فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها فالذكر للإنسان عمر ثانِ تدارك نفسك، وتدارك عمرك، واعلم أن كل لحظة تمر يذهب شيء من عمرك، وكل دقيقة مرت سوف تسأل عنها يوم القيامة. إن من الناس من لو سألته: ما هدفك في العطلة؟ لقال: ما أدري. سبحان الله! هذا أتعب الناس وأتعس الناس، كل من الناس جعل له هدفاً، أما هو فيقول: ما أدري. ما الذي سوف تفعل في العطلة؟ أوقات الفراغ كيف ستقضيها؟ يقول: ما أدري إما أن يقضيها في المزارع، أو في الصيد، أو في السيارة يتجول، أو يزور الناس فيضيع أوقاتهم، أو أن يسافر كل يوم إلى منطقة من المناطق، ويظن أنها صلة رحم، ويضحك على نفسه، ويضيع عمره ووقته من غير أن يشعر.

كيف تقضى الأوقات

كيف تقضى الأوقات بعد هذه المقدمة -ولعلنا أطلنا فيها- ندخل في صلب الموضوع، وهو: كيف نقضي الأوقات؟ بدأت العطلة وبدأ الفراغ، وبدأت الأوقات تمر، ومن قال: غداً أبدأ، فاعلموا أن فيه شيئاً من الضعف، ومن لم يستغل وقته من اليوم من بعد صلاة الظهر، ومن بعد انتهاء الدراسة؛ فاعلموا أنه قد بدأ في الضعف، وبدأ بالتسويف، وهذه خطوات الشيطان، كل يوم يقول له: اجلس اليوم، وغداً ابدأ في الدراسة، اجعل لنفسك راحةً قليلاً ثم ابدأ بعدها بطلب العلم والدعوة اعلم أن هذه من خطوات الشيطان.

أداء الصلوات الخمس

أداء الصلوات الخمس أول أمر تحرص عليه في هذه العطلة وفي غيرها من الأيام هو الصلوات الخمس، قال الله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59] والله لن ينفعك هذا الكلام ولا هذا الدرس إذا لم تكن حريصاً على الصلوات الخمس، فإنك سوف تأتي يوم القيامة وأول ما تحاسب عليه الصلاة، فإن لم تصلح صلاتك فقد خبت وخسرت، وفسد سائر عملك ماذا ينفعك العلم والدعوة والنشاط والحركة والجهاد، إذا لم تكن حريصاً على الصلوات الخمس التي هي عمود الإسلام؟ وبعض الناس يحرص على طلب العلم وتفوته صلاة الفجر! واسمعوا إلى هذه الحادثة: أخرج مالك في الموطأ: أن عمر بن الخطاب فقد سليمان بن أبي حثمة في صلاة الصبح؛ فذهب عمر في ذلك اليوم إلى السوق -وكان مسكن سليمان بين المسجد والسوق- فمر عمر على الشفاء أم سليمان، فقال لها: لَمْ أَرَ سليمان في الصبح. فقالت: إنه بات يصلي فغلبته عيناه. كان يقوم الليل، فنام عن الفجر، فقال عمر: [لأن أشهد صلاة الصبح في جماعة أحب إليَّ من أن أقوم ليلة] صلاة الفجر في جماعة أفضل من أن أقوم الليل كله. فيا من أضعت وقتك، تقوم الليل كله بقراءة كتاب، وتمضيه في سماع شريط، وتلخيصه، ثم تنام عن صلاة الفجر؟! ماذا نفعك العلم؟ ذاك رجل بال الشيطان في أذنه، وضحك الشيطان عليه، يقول الله تعالى في الحديث القدسي: (ما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضتُه عليه) لا تقم ليلة فيفوتك الفجر، ولا تطلب العلم في الصباح، ثم تنام عن صلاة الظهر، ولا تطلب العلم بعد الظهر ثم تنام على الكتاب وقد فاتك العصر، أي علم هذا؟! لا تظن أنك سوف تستفيد من وقتك وأنت تضيع الصلوات فأول شيء تحافظ عليه الصلوات الخمس؛ لأنك إن حافظت عليها تَنَظَّمَ وقتُك، وتستطيع أن تستغله، وتحافظ عليه، بل أن الله عزَّ وجلَّ يبارك لك في الوقت، ويبارك لك في العلم، وحافظ على الصلاة في جماعة، واحرص -أيها الأخ- في هذه الأوقات -أوقات الفراغ- ما إنْ يؤذن المؤذن إلا وأنت في المسجد فإنك في فراغ وليس هناك أي مانع.

طلب العلم وفضله

طلب العلم وفضله الأمر الثاني -ولعله هو أكثر ما سنتحدث عنه في هذه الليلة- هو طلب العلم واسمع إلى فضل طلب العلم: إذا لم يكن عندك حماس، ولا همة في طلب العلم، ولم تتشجع لقراءة الكتب، واستماع الأشرطة، فاسمع الآية تلو الآية، والحديث تلو الحديث، والأثر تلو الأثر، والقصة تلو القصة، لعل الهمة فيك تقوم وتعلو. أيها الإخوة: إنه والله مسكين من ترك العلم، كما قال بعض السلف: واسوأتاه! ما أقبح من شيخ جاهل! أي: (شيخ كبير في السن وجاهل) ما أقبح هذا! والله عيب ما بعده عيب، ولو كان الرجل مشلولاً أو مريضاً أو عاجزاً أو مقعداً، أو قبيحاً وجهه؛ لكن عنده علم، فإن الله عزَّ وجلَّ يرفع شأنه، ولو كان أجمل الرجال وأعلاهم قدراً ومنزلة ومالاً وما عنده علم فإن الله عزَّ وجلَّ يضعه بين الناس حقيراً ما يسأله أحد، ولا يلتفت إليه، ولا ينظر إلى كلامه؛ لأنه جاهل. قال الله تعالى في فضل العلم: {يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] قال بعض المفسرين: أي العلماء. انظر مرتبتهم؛ بعد الله رسوله، وبعد رسوله هم العلماء، وقال الله تعالى: {قل هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] لا يستوون؛ هذا جالس طول الليل يقرأ كتاباً ويلخص، ويكتب في الهامش، ويرجع إلى الأحاديث صحيحها من ضعيفها، ويسمع الشريط ويلخص، وهذا جالس على التلفاز والجريدة هل يستوون؟! والله لا يستوون عند الله {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر:9]. وقال عليه الصلاة والسلام: (فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم) كفضل النبي صلى الله عليه وسلم على أدنى واحد من الصحابة، وقال (طالب العلم -ليس شرطاً أن يكون عالماً- يستغفر له كل شيء حتى الحوت في البحر) حتى السمك في البحر يستغفر له! هل هناك أفضل من هذا؟! أأنت خير أم من يجلس وقته كله يقرأ الجريدة أو المجلة أو ينام على الفراش؟ هل سمعتمُ عن بعض الناس ينام من المغرب ولا يقوم إلا عصر اليوم الثاني؟ ينام في اليوم والليلة ثماني عشرة ساعة، كم سيستيقظ؟ ست ساعات، ربع العمر، وثلاثة أرباعه في النوم، هل يستوون؟ وقال عليه الصلاة والسلام: (خصلتان لا يجتمعان في منافق: حسن سمت، وفقه في الدين) الله أكبر! خصلتان إن كانت فيك فحري بك أن يصرفك الله عزَّ وجلَّ عن النفاق: حسن سمت، وفقه في الدين وقال عليه الصلاة والسلام: (فضل في علم خير من فضل في عبادة) وقد سئل الإمام أحمد: أيهما أفضل: قيام الليل أم طلب العلم؟ فقال: طلب العلم. ولو خيرتَ بين أمرين: هل تصوم التطوع أم تطلب العلم؟ لأن بعض الناس يقول: لو صمتُ لما استطعت أن أقرأ، وإن أفطرت سوف تكون لي همة في القراءة، فأيها أفضل؟ إن فضل صوم التطوع عظيم! يباعد الله عزَّ وجلَّ بينك وبين النار مسافات عديدة، لكن طلب العلم أفضل، وإن استطعت أن تجمع بين الأمرين فهو خير على خير. وقال عليه الصلاة والسلام: (ما من خارج خرج من بيته في طلب العلم) هذا هوا الفضل، وهذا هو الشرف، وليس هذا الفضل للملك وللأمير وللوزير ولا للشريف ولا للغني، إنما هذا الشرف وهذا الفضل لرجل ولو كانت ثيابه ممزقة نتنة، ولو كان الناس يستقبحونه، خرج ليطلب العلم (ما من خارج خرج من بيته في طلب العلم إلا وضعت له الملائكة أجنحتها رضاً بما يصنع حتى يرجع) منذ أن يخرج من البيت ذاهباً إلى درس في مسجد إلى أن يرجع يا إخوان: تحسسوا هذا الأمر، ومن استشعر هذا الأمر لا يمل، فمن حين يخرج والملائكة تضع أجنحتها له، والملائكة لها أجنحة عظيمة، تتواضع لهذا الرجل ولهذا الشاب ولو كان طفلاً صغيراً. وقال عليه الصلاة والسلام: (طلب العلم فريضة على كل مسلم) أي: واجب، وهناك واجب عيني وواجب كفائي.

العلم رفعة وتشريف لصاحبه

العلم رفعة وتشريف لصاحبه قال أبو الأسود الدؤلي: العلم زَين وتشريف لصاحبه فاطلب هُدِيتَ فنون العلم والأدبا العلم كنز وذخر لا نفاد له نعم القرين إذا ما صاحباً صحبا قد يجمع المرء مالاً ثم يُحْرَمُه عما قليل فيلقى الذل والنصب وجامع العلم مغبوط به أبداً ولا يُحاذر منه الفوت والسَّلَبا يا جامع العلم نعم الذخر تجمعه لا تعدلن به دراً ولا ذهبا والله لو يعدلون به الذهب، ولو تُعطى ما تُعطى فإياك أن تفوت العلم، خصوصاً في هذا العمر، وفي هذا الزمان، وفي هذا الوقت الذي لا يشغلك فيه شاغل، ولا يصرفك صارف لا أبناء، ولا بيت، حتى الذي عنده الأبناء والبيت معاشه يأتيه آخر الشهر وهو لا يتعب، بل إن بعض الناس يشتكي من الفراغ في دوامه، يقول: أذهب إلى الدوام وأجلس. سبحان الله! إنها نِعْمَة والله (نعمتان مغبون فيهما كثيرٌ من الناس: الصحة والفراغ) نِعْمَة ما يشعر بها كثير من الناس، وليس شرطاً في طلب العلم وفي فضله أن تصبح عالماً، يكفيك أن تتعلم مسألة فتعلمها غيرك، قال عليه الصلاة والسلام: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه) انظر إلى هذا الفضل العظيم، تتعلم المسألة ثم تعلمها أحد الناس، سنة تعلمتها ثم ذهبت وعلمتها بعض الناس، يكون لك مثل أجور من علمتهم، ثم ذلك يعلمها غيره، ثم يعلمها رجلٌُ ثالث، ثم رابع، ثم خامس، ثم سادس، ثم عاشر، ثم بعد هذا ينتشر العلم بين الناس، وأنت لم تشعر بهذا الأجر قلتَ كلمة في مجلس أوفي مسجد، أو ذهبتَ ونصحتَ إنساناً، وبعد هذا انتشر العلم بين الناس، ويأتيك الأجر ولو كنت في قبرك. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين).

طلاب العلم هم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم

طلاب العلم هم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم أتعرف أن طلبة العلم وصى بهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقد وصى أصحابه بطلبة العلم من بعده، قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه عندما جاءه طلبة الحديث: [مرحباً بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم] فقد وصى قبل موته بهؤلاء الطلبة؛ طلبة العلم، طلبة الحديث، ما هم بطلبة نوم، ولا طلبة الأكل والفراغ واللعب واللهو والضَّياع، إنما وصى بطلبة العلم وطلبة الحديث قال: [مرحباً بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصينا بكم] كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصي أصحابه بطلبة العلم. أيها الأخ: اطلب العلم فسوف يأتي عليك يوم يرفعك العلم إلى أعلى عليين، ولا تطلب هذا العلم لأجل هذه المنزلة، ولكن اعلم أن العلم سوف يرفعك بين الناس، قال أبو معاوية الضرير وهو أحد العلماء، وكان ضريراً، أي: أعمى البصر؛ لكن الله عزَّ وجلَّ أنار قلبه يقول: أكلتُ مع الرشيد يوماً -وهو خليفة المسلمين، وكان الخلفاء في السابق يحترمون العلماء، ويُعطونهم قدرهم- يقول: أكلتُ مع الرشيد يوماً، ثم صب على يدي رجل لا أعرفه -ليغسل يده- يقول: ما أعرف من هو هذا الرجل، ثم قال الرشيد: أتدري من يصب عليك؟ قلتُ: لا. قال: إنه أنا، وذلك إجلالاً للعلم. يقول الخليفة: أنا أصب على يديك الماء ليس لأجلك، ولكن لأجل العلم الذي تحمله. فانظروا إلى العلم كيف يرفع صاحبه! أتعرفون من هو الأعمش؟ ما هناك طالب علم إلا وسمع به، وقد مر على وفاته إلى الآن قرون عديدة، وإلى الآن يُذكر على الألسنة، ويُترحم عليه، ويُستفاد من علمه يقول الأعمش: لولا القرآن لكنت بقالاً يقذرني الناس أن يشتروا مني. ولكن العلم رفعه! وهذا عطاء بن أبي رباح، كان عبداً لإحدى نساء مكة، عبد يباع ويشترى، أنفه أفطس، شكله إن نظرتَ إليه تستقبحه، ثم أصبح مولى لـ ابن عباس يذكر عنه أنه رجع إليه أهل مكة كلهم في الفتوى، لا يستفتون أحداً في مكة إلا عطاء بن أبي رباح، حتى إن أبا حنيفة كان يستفيد منه يقال عنه: أنه كان يجلس في المجلس، فيأتيه الطلبة ويجلسون عنده، ويقولون: كنا نهاب أن نسأله حتى يتنحنح، فإذا تنحنح بدأنا نسأله. وذلك من هيبته، واحترامه هذا الذي كان عبداً يباع ويشترى، ثم تعلم العلم فرفعه الله عزَّ وجلَّ. وانظروا إلى العلماء في هذا الزمان كيف يُترحم عليهم، ويُدعى لهم، وإذا مات أحدهم انظروا كيف تقوم الدنيا ولا تقعد! قدم هارون الرشيد الرقة -إحدى المناطق- فانجفل الناس خلف عبد الله بن المبارك، وتركوه وقد تقطعت النعال وارتفعت الغبرة تخيلوا هذا الموقف، قدم هارون فاجتمعوا حوله، فلما ظهر عبد الله بن المبارك ذهبوا كلهم خلفه، والغبار يعلو، والنعال تتقطع، ما الذي حصل؟ ما الذي جرى؟ قالوا: فأشرفت أم ولد أمير المؤمنين من برج الخشب -وهي زوجة هارون الرشيد - فلما رأت الناس قالت: ما هذا؟ قالوا: هذا عالم خراسان قدم الرقة، يقال له: عبد الله بن المبارك، فقالت: هذا والله الملك، لا ملك هارون الذي لا يجمع الناس إلا بشُرَط وأعوان. إي والله، لا ملك الوزراء والأمراء والملوك والأغنياء، الذين يمشون بحرس وبعسس، بل إن بعضهم لا يسَلَّم عليه إلا لمصلحة ولا يصافَح إلا طلباً للمصلحة، ويتمنى من حوله زواله، أما أهل العلم فقد كان بعضهم تُقَبَّل يدُه وكان الإمام البخاري، أثناء الحلقة يقوم ويجلس، ثم يقوم ويجلس، ثم يقوم ويجلس، فسئل: ما بالك؟ قال: نظرت إلى باب المسجد -وكان الصبيان يلعبون- وكلما مر صبي قمت وجلست. قالوا: من هذا الصبي؟ قال: هذا ابن شيخ كان يدرسني. فكان كلما مر الابن قام احتراماً لأبيه، الله أكبر! انظروا كيف رفع الله شأنهم! إذاً: العلم يرفع شأنك ولو كان الناس يستقبحونك. قال الإمام الشافعي -وهي حكمة عظيمة لعلك تستشعرها- قال: من تعلم القرآن عظمت قيمته، ومن نظر في الفقه نبل قدره، ومن كتب الحديث قويت حجته، ومن نظر في اللغة رق طبعه، ومن نظر في الحساب جزل رأيه، ومن لم يصن نفسه لم ينفعه علمه. فكل علم له فائدة وثمرة، حتى الحساب، فإنه يجزل رأيك به، وتكون صاحب رأي. أيها الإخوة: إن العلم -كما قلنا- أفضل من العبادة، فهو أفضل من صلاة النافلة، وأفضل من صوم النافلة، وأفضل حتى من جهاد التطوع قال الحسن رحمه الله: لأن أتعلم باباً من العلم فأُعلِّمه مسلماً أحب إلي من أن تكون لي الدنيا كلها في سبيل الله. أي: لأن أقرأ باباً وأُعلِّمه مسلماً أحب إلي من أن أنفق جميع الدنيا في سبيل الله.

مراتب العلم

مراتب العلم يقول النبي صلى الله عليه وسلم -وهذا الحديث فيه كما يقول ابن القيم مراتب العلم الأربع-: (نضَّر الله امرءاً سمع مقالتي، فوعاها، فبلغها كما سمعها، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) أي: حسَّن الله صورته، وجمَّل الله وجهه، بعض الناس شكله ليس بحسن، لكن الناس تحب منظره، وتحب الجلوس معه، وتحب مخالطته. قال: (نضَّر الله امرءاً سمع مقالتي) هذه أول مراتب العلم: السماع. المرتبة الثانية قوله: فوعاها، والوعي هو الفهم، فبعد السماع لابد من الفهم. المرتبة الثالثة: المراجعة والحفظ والتكرار، فما يكفي أنك تسمع وتفهم، فإن بعض الناس تسأله: ما هو طلب العلم عندك؟ فيقول: أحضر درس الشيخ الفلاني والشيخ الفلاني والحلقة الفلانية، وألخص الأشرطة، وأقرأ الكتب. فإذا سألته لم يعرف شيئاً، وكلما سألته سؤالاً يقول: لحظة، فيذهب ويفتح كتاباً ويقرؤه، ويقول: هذه الإجابة لا ينفعك العلم إذا كان هكذا، بل لا بد من الحفظ، تقضي ساعة في الدرس، ثم ساعات في الحفظ، أما أن تسمع وتسمع وتسمع فلا. لابد من سماع، ثم فهم، ثم حفظ (نضَّر الله امرءاً سمع مقالتي، فوعاها، فبلَّغها) المرتبة الرابعة: التبليغ، ويقول صلى الله عليه وسلم: (بلغوا عني ولو آية) ثم قال عليه الصلاة والسلام: (فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) كم من رجل يحفظ حديثاً، ثم يبلغ رجلاً آخر فيفهم أكثر منه، وهذا في الناس كثير، فإنك تجد رجلاً حافظاً للقرآن لكنه لا يفقه منه شيئاً، ورجلاً حافظاً أحاديث كثيرة ولا يعرف يطبق منها حديثاً واحداً.

لا يستطاع العلم براحة الجسد

لا يستطاع العلم براحة الجسد لا يُستطاع العلم براحة الجسد فإذا كنت تريد أن تطلب العلم فنظم وقتك من الآن، فطالب العلم لا يصلح أن يطلب العلم ساعة واحدة، فهذا ليس بطالب علم، طالب علم ينام من الفجر إلى الظهر كيف سيطلب العلم؟! هذا سوف يطلب لكن بقدر ضعيف جداً طالب العلم لا يقضي ساعة على الأكل، ولا يحتاج إلى ثلاث أو أربع ساعات يلعب ويلهو طالب العلم لا بد أن يتعب الجسد، فاللحم يذهب، والشحم يذهب، والعظام تتعب، والعين تحمرّْ أتريد أن تبلغ الدرجات العالية في العلم وأنت نائم على الفراش؟! تحضر درسين في الأسبوع وتسمي هذا طلب علم؟! يقول ابن أبي حاتم: كنا بـ مصر سبعة أشهر لم نأكل فيها مرقة، في نهارنا ندور على الشيوخ، وفي الليل ننسخ ونقابل. إذا أتى الليل نكتب ونقابل النسخ، يقول: فأتينا يوماً أنا ورفيقٌ لي شيخاً فقالوا: هو عليل. -أي مريض- فرأينا سمكة فأعجبتنا فاشتريناها، وذهبنا إلى البيت لنأكل السمكة، فحضر وقت مجلس بعض الشيوخ، فمضينا، فلم تزل السمكة ثلاثة أيام، وكادت أن تنتن ثلاثة أيام ما عندهم وقت يشوون السمكة، هؤلاء هم طلبة العلم، أما طالب علم ويقول: مللت من الفراغ، ماذا أفعل بوقتي؟! ويفكر ما عنده شيء يقضي به الوقت، ويسمي نفسه طالب علم! يقول: ثلاثة أيام حتى كادت أن تنتن، فأكلناها نيئة، ولم نتفرغ نشويها. ثم قالوا -اسمع إلى هذه الجملة واحفظها، وكلما تعب الجسد اذكر هذه الجملة- قالوا: لا يستطاع العلم براحة الجسد. فالذي ينام ويكثر من النوم اعلم أنه لن يبلغ من العلم مبلغاً عظيماً. وقيل للشعبي -وهو أحد العلماء الحفاظ- قيل له: من أين لك هذا العلم كله؟ فقال: بدفع الاعتماد -ما يعتمد على غيره- والسير في البلاد، وصبر كصبر الجماد انظر إلى الجماد، هل يتعب أو يمل؟! فلو جلس في درس أربع ساعات، لم يقل: قد أطلت، وقد مللنا، ويقفل الكتاب، ويضع القلم، لا. ولكن وصبر كصبر الجماد، وبكور كبكور الغراب. أقول هذه الكلمة لمن يسهر طوال الليل ثم ينام عن الفجر، ولا يقوم إلا وقد ارتفعت الشمس، واحترت الأرض، أقول له: وبكور كبكور الغراب، أتريد الحفظ؟ عليك بأول النهار، أتريد العلم؟ عليك بأول النهار. وسئل الطبراني عن كثرة حديثه، فقيل له: كيف تحدث كل هذه الأحاديث؟ فقال: كنت أنام على البواري -أي: على الحصير- ثلاثين سنة. يقول: أتريدون أن تعرفوا هذا العلم الذي جمعتُه؟ إني كنت أنام على حصير ثلاثين سنة. أما أن تريد أن تنام وأنت مرتاح وما تقوم إلى بعد أن شبعت من النوم، وما تجلس إلا في أفضل الأماكن، ولا تقرأ إلا أفضل الكتب، وأسهلها، وما تقرأ دقيقة إلا وترتاح عشر، فهكذا لن تتحصل على العلم أبداً. ويقول مكحول الشامي -رحمه الله-: أُعتِقت بـ مصر كان عبداً وأُعتق بـ مصر، يقول: فلم أدع علماً إلا حويته فيما أرى، ثم أتيت العراق سافر من مصر إلى العراق، لماذا يا إخوان؟ أللنزهة؟ أو لكي يسلم على فلان ويرجع؟ أو لكي يقضي الوقت؟ أو لكي يضيع الوقت؟ يقول: ثم ذهبت إلى العراق والمدينة، فلم أدع علماً إلا حويته فيما أرى. انظروا إلى الهمة، وإلى الجد والاجتهاد! ليس مثل بعض الناس، يحضر درسين في اليوم، ويظن أنه يطلب علماً!! يقول: ثم أتيت الشام فغربلتها. أي: ما تركت مكاناً في الشام إلا وأتيته لطلب العلم. فما الذي بقي بعد مصر والعراق والمدينة والشام؟! وكان الإمام البخاري رحمه الله يستيقظ في الليلة الواحدة من نومه، فيوقد السراج وإيقاد السراج ليس بالأمر السهل في ذلك الزمن، بل كان يحتاج إلى وقت، وليس الأمر مثلما نحن عليه اليوم الضوء مباشرة، السراج يحتاج إلى وقت طويل حتى توقده، فليست شمعة توقدها مباشرة بـ (كبريت)، فيوقد السراج، ويكتب الفائدة تمر بخاطره وهو نائم يفكر في فائدة وخاطرة علمية، فيقوم من النوم ويشعل السراج ويكتب الفائدة، ثم يطفئ سراجه، ثم يقوم أخرى وأخرى وأخرى، حتى كان يتعدد منه في الليلة الواحدة عشرين مرة، يقوم عشرين مرة حتى يكتب فائدة. أما نحن اليوم فإننا نقول: عليك بالقيام لصلاة الفجر، فلو قمت لها لصلح حالك، ولا نأمرك بأن تقوم لفائدة، فهذا ليس فينا، إنما هو في الأسبقين. وبعضهم كان يسافر الشهر ليسأل عن حديث واحد. وبعضهم كان يسير على رجله أميالاً عديدة، حتى إن بعض العلماء كان يضع الكتب الثقيلة على ظهره ويسافر أميالاً عديدة، فلم يكن معهم طائرة، ولا سيارة، ولا وسائل عصرية حديثة، بل كان يمشي على رجله، والكتب على ظهره، ويسافر أميالاً عديدة حتى يسأل عن حديث واحد. فقد سافر بعضهم إلى الشام وإلى بغداد، وهو يريد أن يسمع حديثاً من رجل، فلما أتاه سأل عنه فقيل له: قد نُعي قبل قليل، مات -أي: مات- فيبكى بكاءً شديداً؛ لأن ذلك العالم قد مات، ويقول: كادت مرارتي أن تنشق من الحسرة والندم كان يسافر أميالاً عديدة ليسأل عن حديث، وليسمع سنداً، وليسأل رجلاً. وبعضهم كان يسير إلى مالك بن أنس أشهراً عديدة ليسأله بعض الأسئلة. وهذا محمد بن إبراهيم آل الشيخ في هذا العصر، رحمه الله، أتعرفون كيف كان يقضي وقته؟ إن هذه السير والله ليست لأناس من حديد، ليست لأناس مخلوقين غير خلقنا، بل من لحم ودم وشحم، من أناس مثلي ومثلك، عندهم شعور، ويحتاجون إلى النوم والأكل والشرب والجماع والراحة. محمد بن إبراهيم -رحمه الله- كان يصلي الفجر ثم يجلس بعد الفجر فيدرس ثلاثة دروس في النحو، المستوى الأول، والمستوى الثاني، والمستوى الثالث، ثم بعد هذا كان يدرس الفقه، ثم الحديث، ثم يذهب إلى بيته، يلبث شيئاً قليلاً، ثم يرجع إلى المسجد، فيدرس، فيُقرأ عليه أمهات الكتب حتى قبيل صلاة الظهر، ثم يذهب إلى البيت، ثم يرجع لصلاة الظهر، وبعد صلاة الظهر يدرس حتى صلاة العصر، وبعد صلاة العصر يدرس التوحيد والفقه والحديث والنحو حتى المغرب، ثم بعد المغرب كان يدرس الفرائض حتى قبيل صلاة العشاء، وقبيل صلاة العشاء كان عنده درس عام في تفسير ابن كثير، ثم يصلي العشاء، وبعد العشاء يذهب إلى البيت ليستقبل الناس ويقضي لهم حوائجهم، وبعد ذلك يجلس مع أهله، ثم ينام فيستيقظ قبل الفجر ليقوم الليل ويتهجد ويقرأ القرآن ويدعو، ثم يذهب إلى المسجد قبل الفجر وهكذا أربعين سنة. هل هو من كوكب آخر؟! هل هو رجل وأنت لستَ برجل؟! هل هو مخلوق آخر؟! لا. بل إن حاله كحالك، لكن رفع الله شأنه ورفع ذكره، لأنه كان يعرف كيف يقضي وقته، أما أنت فتحب الكسل والدعة والراحة والفتور.

بادر فالعلم لا ينتظر

بادر فالعلم لا ينتظر أيها الأخ: اعلم أن العلم لا ينتظرك، والعلماء يذهبون، فكل يوم يموت عالم، وكلما مر الوقت تسمع فلاناً من العلماء مات، ولعلك تبكي وتتحسَّر وتتضايق، لأنه مات الشيخ الفلاني، وبعد أيام سوف يتصل عليك أحد الشباب: هل سمعت بالخبر؟ ما الخبر؟ لقد مات فلان، إنا لله وإنا إليه راجعون! عالم بعد عالم، ثم يأتي عليك يوم تطلب فيه العلم، وتأتي إلى مسألة وتصعب عليك، وتريد أن تذهب إلى العلماء فتتذكر فلاناً رحمه الله، فمن يحلها لك؟ وتأتي إلى سند من الأسانيد لا تعرف صحته، ولم تدر ما قال فيه العلماء، ثم تريد أن تسأل عن العالم الفلاني، فلا يحلها إلا عالم واحد، تسأل عنه فإذا به قد مات وتعرض لك مشكلة في الفقه، فتبحث عنها في الكتب وفي المصادر والمراجع وتسأل عنها، فما أحد يجيبك عنها، وتتحير، ثم تريد أن تذهب إلى عالم من العلماء فإذا به قد مات فتدارك نفسك قبل أن يموت العلماء.

أمور لابد منها عند الطلب

أمور لابد منها عند الطلب إذا أردت أن تطلب العلم فعليك بأمور، نذكر بعضها:

لا تطلب العلم منفردا

لا تطلب العلم منفرداً الأمر الأول: ألا تطلب العلم بمفردك. تعاون مع إخوانك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الجماعة رحمة) وفي الجماعة البركة، وتنزل الرحمة، وتغشاهم السكينة، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، قالوا: يا رسول الله! وما رياض الجنة؟ قال: حلق الذكر. ثم قال عليه الصلاة والسلام: فإن لله سيارات من الملائكة، يطلبون حلق الذكر، فإذا أتوا عليهم صفوا بهم) الله أكبر! انظر إلى الحث على الجماعة، فلا تطلب العلم بمفردك، بل إذا وجدتَ حلقاً للذكر فاجلس فيها، ولا تجلس في البيت، وتقول: أنا أقرأ كتاباً وأطلب العلم وأحفظ وما عليَّ من الناس؛ فإن الرحمة لا تنزل عليك، ولا تغشاك السكينة، ولا يذكرك الله عزَّ وجلَّ فيمن عنده، فإن هذا الفضل لمن يجتمع مع الإخوان ومع الأصحاب. ثم طالب العلم لوحده تكثر أخطاؤه، ويكثر زلَلُه، وتكثر عنده الشبهات، ثم طالب العلم لوحده مَن ينافس؟ ما عنده أحد ينافسه، أما طالب العلم مع الجماعة ومع الأقران فإنه ينافس هذا وذاك، وهذا يحاول أن يعلو عليه، وهكذا يتحمس ويتشجع، أما لوحده فلن يحصل على هذا.

العلم يعصم من الفتن

العلم يعصم من الفتن الأمر الثاني: اعلم أن العلم يعصمك من الفتن. أتذكر الأزمة التي مرت بنا، من صمد في الأزمة برأيه وبعقله؟ إنهم العلماء، أما أكثر الناس فتخبطوا، هذا يقول: افعل، وهذا يقول: لا تفعل، هذا يقول: اقتل، وهذا يقول: لا تقتل، هذا يقول: الزم، وهذا يقول: لا تلزم وكل الناس في شعب وأفكار، وهذا تزعزع، وهذا اضطرب، حتى إن بعضهم خرج من البلد ونسي ابنته في البيت، أما أهل العلم فقد ثبتهم الله عزَّ وجلَّ، لأن العلم يثبت أهله.

الشعور باللذة

الشعور باللذة الأمر الثالث: أثناء طلب العلم لا بد أن تشعر باللذة. ما هي هذه اللذة؟ إذا لم تحصل لك فاعلم أن هناك لذة ما يحصل عليها إلا من جربها، فإذا وقعت لك مشكلة أثناء طلب العلم، كأن تعرض لك مسألة فقهية، ما عرفت حلها، فتبحث عنها وتقلب الكتب والمراجع والمصادر، وتسأل، وتمر عليك أيام وأنت تبحث، حتى تحصل عليها، فتقول: وجدتُها، وجدتُها ما أحلاها من لذة! والله إنها لذة عظيمة. طالب حديث يبحث عن سند فلا يجده، ثم يبحث حتى يجده في النهاية، والله إنها لذة عظيمة، ما يشعر بها إلا من جربها. بات بعض العلماء قلقاً يفكر، أصابه القلق والمرض من الحاجة والفقر، يقول: فعرضت لي مسألة في الفقه، ثم تجلت هذه المسألة أخذ يفكر ويفكر في المسألة، حتى انحلت، فقام فرحاً بعد أن كان قلقاً، ثم قال: أين الملوك؟ تقول أمه: نظرتُ إليه فتعجبت من حاله، لقد كان قلقاً، والآن أصبح فرحاً، ما الذي حصل؟! إنها لذة طلب العلم. جرِّب -أيها الأخ- عندما تُلخص أشرطة، كعشرين شريطاً للشيخ ابن عثيمين أو غيره من العلماء، فعندما تصل إلى الشريط الأخير تحس بلذة، وسوف ترى أن الشريط الأخير ينتهي بسرعة، وتتمنى أنه ما انتهى ما يشعر بها إلا من دخل في طلب العلم، فإن بداية العلم صعبة، ثم بعد أيام ستشعر بلذة، ولو دعيت إلى اللهو واللعب لما التفت إليه أبداً لأنك في لذة وفي نعمة لا يعلمها إلا الله.

المنهجية في طلب العلم

المنهجية في طلب العلم رابعاً: عليك بالمنهجية في طلب العلم. إياك أن تكون فوضوياً في طلب العلم! اطلب العلم لكن بمنهجية، فابدأ بالأهم ثم المهم، ابدأ بحفظ القرآن، وقراءة معاني القرآن، ثم بالسنة وقراءة معاني أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ثم بقراءة الفقه، ثم العقيدة وهكذا. ومن العجيب أن بعض الناس ينشغل بالفروع عن الأصول، فتجده يحفظ اثنتي عشرة طريقاً في حديث: (من أتى إلى الجمعة فليغتسل) وهو ما يعرف آداب الغسل! وتجده يعرف مسائل دقيقة جداً في الفقه، حتى إن بعض العلماء ما سمعوا بها، ولكن لو تسأله عن صلاته لما عرف كيف يصلي، ولا يعرف مسنونات الصلاة، ولا يعرف ماذا يفعل، حتى لسانه يقع في محرمات وهو لا يشعر!!! فعليك بالأهم ثم المهم، وكل الدين مهم لكن هناك أمر أهم من غيره، وعليك بالتدرج. عليك ألاَّ تنشغل بالأدوات عن الهدف، فإن بعض الناس ينشغل بالأدوات مثل النحو ومصطلح الحديث، وينشغل به، وهو ليس إلا أداة لتعرف حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وتتعلم معانيه، أما أن تنشغل بهذه الأداة عن الهدف الأساسي فهذا خطأ في طلب العلم.

إياك وتتبع الزلات

إياك وتتبع الزلات وبعض الناس ينشغل أثناء طلب العلم بعيوب الناس، وهذه مصيبة، فيتكلم في الشيخ الفلاني، وفي العالم الفلاني، وفي الداعية الفلاني، ويجمع الأشرطة والكتب، حتى إن بعض الناس تجده يجمع الأوراق والأشرطة والكتيبات، وكل كتاب يكتب في أوله أخطاء ذلك العالم، وهو لو قرأ عليك القرآن لما قرأه قراءة صحيحة، ولو أخطأ في صلاته لما عرف إصلاح صلاته، ولا يعرف معاني آيات في القرآن، ثم بعد هذا ينشغل بعيوب الناس، ويأتي ليتكلم في أمور كبار للعلماء، في الجماعات، وفي الفرق، وفي أهل البدع، يرد على شبهات أهل البدع وهو لا يعرف عقيدة أهل السنة والجماعة فهذا من الخطأ ومن الجهل والفوضى في الطلب، فلا يطلع كتاب إلا واشتراه، يذهب ويسأل صاحب المكتبة: ما هي الكتيبات الجديدة؟ وكل يوم فقط يقرأ الكتبيات الجديدة، هذا طلب علم لكنه فوضى، فطالب العلم الجاد يقرأ العلم من الأصول، فيقرأ القرآن، ومعانيه، وتفسيره، والحديث، ومعناه، والفقه أما أن يكون علمه في الكتيب الجديد في الساحة فهذا لا يستفيد من طلب العلم.

تعلم العلم مع الأدب

تعلم العلم مع الأدب خامساً: لابد من تعلم العلم مع الأدب. إياك إياك أن تتعلم العلم بغير أدب! وانظر إلى الأدب عند بعض العلماء وعليكم أن تتحملوا فإن هذا الدرس تطبيق عملي لما قلناه من الصبر، ومن احتمال الكلام، ومن التصبر في طلب العلم. يقول الشافعي رحمه الله -وانظروا إلى الأدب مع شيخه- يقول: كنتُ أصفح الورقة بين يدي مالك صفحاً رقيقاً هيبة له لئلا يسمع وقعها. هذا هو الأدب، وماذا نستفيد من طلب العلم بغير أدب؟! طالب علم حافظ للقرآن وحافظ أحاديث كثيرة، وما جلس مجلساً إلا ولسانه سليط على الناس، يبدِّع الناس، ويفسقهم ويكفرهم ويضللهم، ولو ناقشته في مسألة لفسقك وبدَّعك، ولا تستطيع أن تناقشه أصلاً، فإنه يرفع صوته عليك، ولا بد أن يكون منتصراً هذا عنده علم لكنه قليل في الأدب، فلا ينفع علمه هذا إلا إذا وجد معه الأدب. يقول الربيع بن سليمان، وهو تلميذ الشافعي، فلأن الشافعي أحسن أدبه مع شيخه، أحسن تلميذه معه الأدب، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان، يقول الربيع: والله ما اجترأت أن أشرب الماء والشافعي ينظر إليَّ هيبة له. وبعض الناس قليل أدب، يجلس أمام شيخه، والشيخ يتكلم، فينادي باسمه، أو يتصيد أخطاءه، أو يفضحه بين الناس وكل عالم وشيخ له أخطاء، وله زلات، لكن هذا ليس عنده إذا جلس في مجلس إلا أن يقول: سمعتم الشيخ ماذا قال؟ ويبدأ يتكلم ويجرح سبحان الله! أتعب نفسه في جمع الأدلة على الشيخ فلان، أتعب نفسه ووقته وضيع عمره وقل أدبه.

تنظيم الأوقات وتقسيمها

تنظيم الأوقات وتقسيمها سادساً: عليك بتقسيم الأوقات. لا يكون وقتك سَبَهْلَلاً، بل يكون لك وقت في الحفظ، ووقت مطالعة، ووقت كتابة، ووقت تلخيص، ووقت مدارسة، ووقت مراجعة، ووقت حضور درس ولا بد أن يكون لك وقت للراحة، فطالب العلم لا بد أن يرتاح، ولا بد أن يستجم، ويلهو لهواً مباحاً، كما قال عليه الصلاة والسلام: (ولكن ساعة وساعة) فلا تضحك على نفسك، تتحمس من البداية ولا تجعل لك وقتاً ولو ربع ساعة تلهو أو ترتاح، ثم تستمر يوماً أو يومين أو ثلاثة أو أربعة، (إن الله لا يمل حتى تملوا) وطبيعة الإنسان ساعة وساعة، فإذا وصلت إلى مرتبة العلماء، بعد هذا نقول: اجعل وقتك كله للناس، وأما من الآن فلا تجعل أوقاتاً تلعب أو تمرح أو تتنزه فيها هذا من الخطأ، اجعل أوقات فراغك مع إخوانك، في الأنشطة، وفي البرامج، وفي الرحلات، والنزهات، اخرج معهم ولو كان على حساب طلب العلم؛ لأن النفس تحتاج، ولو لم تقضِ هذا الوقت مع إخوانك فسوف تقضيه مع غيرهم، ولو أن تجلس لوحدك في البيت للراحة.

عدم الاستعجال في الفتيا

عدم الاستعجال في الفتيا سابعاً: إياك أن تستعجل الفُتيا. فإن بعض الناس يحفظ القرآن وعمره سبع سنوات، ويحفظ معه مائة أو مائتي حديث، ويظن أنه قد بلغ مرتبة الفتيا، وأنه يحق له أن يفتي، يا أخي: إلى الآن لم تبلغ مرتبة الفُتيا، الفُتيا لها شروط ولها ضوابط، وانظروا إلى السلف كيف كانوا يتهربون من الفُتيا، أما الآن فإنك إذا سألت أحداً قال لك: أنا أرى في المسألة وأرجِّح كذا. من أنت حتى ترجح؟ أو يقول أنا أقول في هذه المسألة كذا. من أنت حتى تقول أصلاً؟ أنت إما أن تنقل رأي العلماء وفهمهم أو تسكت، أما أن ترجح وتفصل وتقول: والله أظن أن الشيخ الفلاني جاءنا بالصواب. سبحان الله! إما أن تسمعها من شيخ وإلا إياك أن تتعجل حتى تبلغ هذه المرتبة. يقول حجاج بن عمير بن سعيد: سألتُ علقمة عن مسألة، فقال: ائت عبيدة فاسأله -يتهرب من المسألة- قال: فأتيت عبيدة، فقال: ائت علقمة. فقلت: علقمة أرسلني إليك. فقال: ائت مسروقاً فاسأله. فأتيتُ مسروقاً فسألتُه، فقال: ائت علقمة فاسأله -أرجعه إلى الأول- فقلتُ: علقمة أرسلني إلى عبيدة، وعبيدة أرسلني إليك. فقال: ائت عبد الرحمن بن أبي ليلى. فأتيتُ عبد الرحمن بن أبي ليلى يبحث عن سوال واحد، ولو سئل به أحد الناس لأجاب مباشرة قبل أن يكمل السؤال قال: فأتيت عبد الرحمن بن أبي ليلى، فسألتُه فكرهه. كره الإجابة، مع أنهم علماء! يقول: فكرهه، ثم رجعتُ إلى علقمة، فأخبرتُه، فقال: كان يُقال: أجرأ القوم على الفُتيا أدناهم علماً. إذا أردت أن تعرف أضعف الناس علماً فهو الذي يفتيك بسرعة، الذي كلما سألتَه بسؤال أجابك، فهذا أضعف الناس وأقلهم علماً.

كل ميسر لما خلق له

كل ميسر لما خلق له لا تقل: أنا لا أصلح للعلم، فكل إنسان يصلح، ولا تقل: قد جربت فما فلحت. بل جرِّب مرة أخرى، ومرة ثالثة، ورابعة، وتجرب حتى يدركك الموت وأنت تجرب وتحاول. ومن الأمور التي تستغل وقتك بها أثناء العطلة: الدعوة إلى الله، ومنها: صلة الأرحام، ومنها: بر الوالدين، ومنها: زيارة الإخوان في الله، ومنها: عيادة المرضى، ومنها: اتباع الجنائز، ومنها: أن تعين مريضاً أو ضعيفاً، ومنها: أن تعمل أمراً يخدمك في الدنيا، وينفعك عند الله عزَّ وجلَّ، وهناك أمور كثيرة، فالذي لا يصلح لطلب العلم يصلح في أمور أخرى. فلا تقل: أنا لا أصلح لطلب العلم، بل اطلب العلم الواجب واستغل وقتك في أمور أخرى، فهناك أمور كثيرة، وكما قال عليه الصلاة والسلام: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له) وبعض الناس يطلب علماً قليلاً جداً، يقضي به فرضه، ثم إذا كان عنده وقت فراغ كبير يقول: ما أصلح لطلب العلم، نقول له: عندك دعوة، عندك زيارة الإخوان، عندك بر الوالدين، عندك صلة الأرحام، عندك عيادة المرضى، عندك توزيع شريط أو نشره، عندك مساعدة الإخوان في الله وإذا لم تستطع هذه فطاعة الله عزَّ وجلَّ كثيرة، المهم أن لا يمضي الوقت إلا في طاعة الله عزَّ وجلَّ. وأفضل الأعمال على حسب الأوقات، فمثلاً: قراءة القرآن، الحسنة بعشره أمثالها، ولكن أيهما أفضل: قراءة القرآن أم الترديد خلف المؤذن؟ قراءة القرآن أفضل من الترديد خلف المؤذن، لكن لو أذن المؤذن، ففي هذه اللحظة يكون الترديد خلف المؤذن أفضل، لأن لكل وقت ما يناسبه وبين الأذان والإقامة، الأفضل هو الدعاء، فإن لم تفعل فاقرأ القرآن أو اذكر الله عزَّ وجلَّ، ولا تخلط بين الأوقات، ولا تخلط بين الأمور، فإذا أمرك أبوك بأمر، فلا تقل: أنا مشغول، أنا أطلب العلم! هذا خطأ، فإن هذا أفضل، وهذا وقته، وصلة الأرحام لها وقتها، وعيادة المريض كذلك ويأتي إليك إخوانك في الله ويقولون لك: فلان من الناس مات، هناك جنازة، فلا تقل: أنا مشغول، أنا أطلب العلم! هذا خطأ، هذا وقت اتباع الجنائز، ولكل شيء وقت، وإذا مرض جارك، أو أخوك في الله فاذهب إليه، ولا تقل: ليس عندي وقت، أريد أن أحفظ القرآن سبحان الله! [لأن أمشي في حاجة أخي خير لي من أعتكف في مسجدي هذا شهراً] وإذا جاءك جار لك وقال: يا أخي أوصلني، سيارتي تعطلت، فلا تقل: لست بفارغ، الآن جدولي أن أحفظ قرآناً. هذا خطأ يا أخي، ولكل وقت ما يناسبه، ولكل حالة ظروفها. المهم أن يمضي الوقت في طاعة الله، بأي شيء. إن العاقل دائماً يشتكي ويقول: ما عندي وقت، أما البطَّال فيقول: ما أفعل بالوقت؟ وقتي فارغ، علموني، أعطوني أشياء أعملها.

كيف تنظم وقتك

كيف تنظم وقتك وهنا نصائح سريعة -قبل ختام الدرس- فحاول أن تحفظها، وإذا ما حفظتها فاسأل غيرك ممن حفظها، كما كان بعض السلف في طلب العلم، كان أحدهم يطلب العلم والآخر يعمل، ونحن نقول: البعض يطلب العلم، والبعض ينام، ثم إذا استيقظ هذا يعلِّم هذا.

رتب شئونك أولا

رتب شئونك أولاً قبل أن تبدأ في طلب العلم رتب أمورك، ورتب جدولك، وفي كل يوم يكون عندك ورقة صغيرة تكتب فيها الأمور التي تريد أن تعلمها اليوم ماذا سأفعل أزور فلاناً، وأدعو إلى الله، وأقرأ هذا الكتاب، وأراجع، وغيرها من الأعمال، فاجعل لك ورقة صغيرة، خاصة إذا كنت من كثيري النسيان، وممن وقته ضائع سَبَهْلَلاً، فاجعل لك ورقة تكتب فيها هذه الأمور, ونظم نفسك قبل مجيئك لطلب العلم. بعض الشباب عنده مكتبة لا تعرف أين مكان كل كتاب منها، فإذا أردت أن تخرج كتاباً تجلس نصف ساعة حتى تجده، ولعلك قد لا تجده فعليك أن تقضي ولو يوماً كاملاً في بداية العطلة لترتيب المكتبة، وكذلك الأشرطة، واجعل لك فهرساً، يسهل لك البحث عن الكتب. إذاً: رتب نفسك قبل بداية طلب العلم.

لا تخطط بدقة

لا تخطط بدقة نصيحة أخرى: لا تخطط تخطيطاً دقيقاً. فلا تكن مثالياً، إلى درجة أنك تقول: أنا من الساعة الخامسة إلى الساعة السادسة في الكتاب الفلاني، ومن السادسة إلى السابعة إلا ربع في الكتاب الفلاني، وبعد المغرب من الساعة السابعة والربع إلى الساعة الثامنة إلا ربع في الكتاب الفلاني، حتى تنام، وهكذا من الصباح إلى الليل لا تضحك على نفسك، ولا يكن تخطيطك بهذه الدقة، فلا بد أن تجعل لك أوقات فراغ، وراحة، تحسباً للطوارئ وللظروف، ولراحة الجسد، فإن العين تمل، والنفس تمل، فلا بد أن تكون مسايراً للواقع، تقول: بعد العصر لهاتين الشغلتين كله، أو بعد المغرب لهذه الشغلة، حتى إذا كانت هناك أوقات فراغ فما يضيع عليك جدولك. أيضاً أيها الأخ: اعلم أن الأمور الطارئة ليست فشلاً في جدولك، فقد تضع اليوم جدولاً لقراءة كتاب، وحفظ متن، فيأتيك أخ لك ويقول: تعال معنا لعمل شيء ما، أو لتوزيع شريط إسلامي أو زيارة، أو غيرها فلا تقل: أنا اليوم عندي جدول لأقرأ هذا الكتاب هذه أمور طارئة، لا بد منها، واعلم أنها ليست فشلاً لجدول إذا كانت لله عزَّ وجلَّ، وفي طاعة. أيضاً اعلم أن بعض الناس بغيض، تجلس معه نصف ساعة فيقول: اسمح لي، انتهى وقتك، هذا هو الوقت المحدد للزيارة، حتى إن بعض الناس قيل له: أريد أن أجلس معك، فقال: كم تريد؟ قال: ربع ساعة قال: لا بأس، وأول ما جلس أخذ يراقب الساعة، فلما انتهت الربع الساعة قام، فقال: ما أكملت حديثك، بغير سلام ولا كلام ولا استئذان، فهذا الأمر يجعلك عند بعض الناس بغيضاً نعم لابد من الدقة، لكن ليس إلى هذه الدرجة، على الأقل اعتذر له، ولو بلباقة. أيها الإخوة: أعلموا أن البداية لا بد أن تكون بقوة، فلابد أن تبدأ طلب العلم والنشاط في هذه العطلة بقوة، لكن عليك بالحكمة، فقد يكون حماسك بتهور ثم تنقطع ابدأ بقوة لكن بحكمة وبعدل واعتدال. ثم عليك ألاَّ تكون وحدك، استشر، وكوِّن لك مجموعة قرناء، واعلم أن القرين إذا كان ضعيفاً سيحبطك، بل اجعل لك قريناً أعلى منك مرتبة، أو على الأقل يساويك في الرتبة في العلم، حتى تتنافس معه.

لا استثناء في البداية

لا استثناء في البداية إذا عزمت على ألا تنام بعد الفجر إلى الشروق، ثم بعدها تنام ساعتين، فلا تجلس يومين أو ثلاثة ثم تنقض، ليس هذا العزم بعذر من الأعذار، وإياك أن تستثني من أول الأيام؛ حتى يتعود الجسد، فإنه قد يحتاج إلى شهر أو شهرين حتى يتعود، فإذا تعوَّد ستأتي الاستثناءات، فقد تكون يوماً مريضاً، ويوماً عندك شيء ضروري، ويوماً نمت متأخراً، أما في البداية فإياك إياك من الاستثناءات، فإن النفس كالطفل، كما قيل: النفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطمِ أيضاً عليك أن تعلم أن بر الوالدين ليس ضياعاً للوقت. وبعض الناس يقول: والدي ضيَّع عليَّ وقتي. لا يا أخي، حمل الحاجات والذهاب إلى صلة الأرحام، وحمل الأهل إلى مكان من الأماكن، وقضاء حاجاتهم، والجلوس معهم، والحديث معهم، هذا ليس بمضيعة للوقت، لا تكن إلى هذه الدرجة صخراً وجافاً، لا يجلس معك أحد، ولا تداعب الإخوان والأهل، ولا تجلس معهم، ولا تقضِ لهم حاجاتهم.

مضيعات الأوقات

مضيعات الأوقات من مضيعات الأوقات:

النوم

النوم أولاً: النوم: بعض الناس ينام ثماني ساعات، ويقول: قال العلماء: النوم ثماني ساعات، وهذا ليس بشرط، بعض العلماء كان ينام أربع ساعات، وأعرف شيخاً قال لي: والله أنا لا أنام إلا أربع ساعات. وعشرون ساعة علم ودعوة وشغل، ونحن نقول: الجيد فينا من ينام ثماني ساعات، هذا إذا لم ينَم أكثر من ثماني ساعات، فإياك أن تضيع العمر في النوم، فإن النوم موت، ولهذا يسمى النوم أخو الموت، وفي هذه الأيام نرى بعض الناس يسهر إلى الفجر، ثم يصلي الفجر، ثم ينام إلى الظهر، هذا خطأ يا أخي، فإن ساعة من النوم في الليل تعدل ساعات من النوم في النهار، ولهذا فإن من ينام أغلب النهار يحس بتعب وإرهاق؛ لأن نوم النهار ليس كنوم الليل، فلابد أن تنام من الليل {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً} [النبأ:10 - 11] قال عليه الصلاة والسلام: (أما أنا فأنام وأقوم) ثم عليك بنوم القيلولة لحديث: (قيلوا فإن الشياطين لا تقيل) نَمْ في الظهر لكي تتنشط في طاعة الله عزَّ وجلَّ، وإياك أن تتعب نفسك، فلا تعطيها حقها ولا راحتها من النوم ثم لا تستطيع أن تقرأ كتاباً، فكلما قرأتَ صفحةً نعستَ، وكلما صليتَ ركعةً نعستَ، وكلما جلستَ مجلساً نِمتَ، وكلما دعوتَ إلى الله تعبتَ، فعليك أن تعطي نفسك من الراحة ولكن لا تزِد عن حدِّها.

الأكل

الأكل ثانياً: الأكل. سمعتُ عن بعض الناس أنه يجلس على الغداء ساعة كاملة، فيجلس حتى يأتي الأكل يتحدث، ثم يأتي الأكل ويتركه ليبرد، ثم يبدأ يأكل لقمة من هذا ولقمة من هذا، وأحاديث وكلام ولغو حتى ينتهي، ثم يأتي ما يحلي به الطعام، ثم إذا شبع جلس حتى يشرب الشاي، ثم بعد هذا يشرب البيبسي، ثم بعد هذا يجلس ليرتاح، ثم بعد هذا ينام، فإذا بالعصر قد ذهب وقته ساعة كاملة على الأكل ما هذا يا أخي؟ تضيع وقتك ثم تقول: ما عندي وقت! أعرف بعض الناس -وهذه لعلها مبالغة- يجلس على الأكل وعنده كتاب، وهذا من حرصه على طلب العلم، وعلى استغلال الأوقات.

الكلام

الكلام ثالثاً: الكلام. بعض الناس ما عنده إلا الكلام، لو جلس عندك سبع ساعات لما تعب لسانه، ويأتي بقصة بعد قصة، وحادثة بعد حادثة، وسالفة بعد سالفة، وكلام بعد كلام، ولا يمل، سبحان الله! كل الناس عندهم أحاديث طيبة، يُمْضِي الإنسانُ نصف ساعة يسلي بها الوقت والمجلس، لا بأس بهذا، والكلام إذا كان فيه فائدة، وترويح عن النفس فلا بأس به، لكن بعض الناس يضيع وقته في الكلام، ينتهى من هذا، وهذا كأنه أحس بالملل، فيذهب عند فلان، ويجلس معه ساعة أو ساعتين، ثم يذهب إلى الثالث، ويضرب عليه الهاتف: هل عندك شيء؟ فيجيب: ليس عندي شيء، فيقول: أتمنى أن أقعد وإياك قليلاً، فيجلس وإياه ساعة أو ساعتين، ثم يذهب إلى الرابع، فيقول: يا فلان أنا جالس مع نفسي وأريد أن أجلس معك، وهكذا ثم يأتي الليل فينام ويقول: الحمد لله، اليوم قضيت وقتي كله في طاعة الله، فقد زرتُ فلاناً وفلاناً. وهو لا يعلم أنه قد ضيع وقته كله، وأن هذا الكلام كله سيحاسب عليه عند الله عزَّ وجلَّ. والزيارة لا بد منها، ولابد عليك أن تكرم الضيف، ولا تقل: أنا طالب علم، ليس عندي وقت. هذا خطأ، بل عليك أن تكرمه، وإذا كان ضعيف الإيمان يريدك أن تنصحه، وقد يكون عنده مشكلة، فعليك أن تكرمه مهما كان، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) لكن بعض الناس ليس عنده شغل إلا الزيارات، رجل فارغ، يجلس من العصر إلى أذان المغرب، ولولا الأذان لما خرج، ولو أتاك بعد الفجر، فسيجلس إلى الظهر، حتى لو قلت له: يا فلان أنا مشغول، يقول: سأذهب معك إلى ظروفك. يريد أن يخرج معك في شغلك، حتى ولو كنت تريد أن تجلس، سبحان الله! بعض الناس هكذا، يريد أن يضيع أوقات الناس، لكن المهذب، لا تقل له: اخرج أنت فارغ، لا يا أخي، اجلس معه، بالتعريض، تأتي بكتاب وتقرؤه عنده، أو تضع شيئاً وتكتب، فسيفهم إذا كان ذكياً، أو يأخذ كتاباً آخر ويقرأ عندك، فتكون قد استفدت وأفدت. ابن الجوزي يأتي أمثال هؤلاء فيقول: إن أنكرتُ عليهم صارت بيني وبينهم وحشة، وإن سكت ضاع العمر، فكنت آتي بالأقلام لأبريها، والدفاتر والأوراق لأقطعها ويسطر. لأن هذه تأخذ عليه وقت، لم يكن عندهم مثلنا، تشاكيل وقلم جاهز، بل الأقلام تُبَرَّى، والأوراق تُقَطَّع وتُسَطَّر، يقول: آتي بهذه التي لا تحتاج إلى شغل الذهن، ولا تمنع عن المحادثة، آتي بها عند الضيوف، وأبدأ أستغل الأوقات بتقطيع الأوراق وتجهيز الأقلام، حتى إذا ذهبوا بدأ في الكتابة، وفي النسخ، وفي العلم، وفي المطالعة، انظروا كيف استغل الوقت! وبعض السلف كان صريحاً، حتى إن بعضهم يقال له: لعلنا شغلناك. فيقول: صدقتم؛ لقد كنتُ أقرأ كتاباً فلما أتيتموني تركتُ الكتاب وأتيتكم. وعليك بحسن الاعتذار، فتقول لإخوانك: يا فلان عندي شغل، اسمح لي جزاك الله خيراً، فإني كنت ألخص في شريط وما عندي إلا هذا الوقت، أراك إن شاء الله بعد المغرب بأسلوب جميل، باعتذار لبق، بأدب، لا تقفل الباب في وجهه، أو تدعو عليه، وبعض العلماء من شغله لو تذهب وتطرق عليه الباب بالسماعة يرد عليك، ليس عنده وقت، ولو جلس يستقبل كل إنسان، ويجلس مع كل إنسان، لما استفاد الناس من علمه، ولما صار علمه إلا لحاجة الناس، والكلام الفارغ مع فلان وغيره. وبعض الناس عنده عقدة نفسية، كلما قلتَ له شيئاً قال: أنا مشغول، يريد أن يظهر أنه طالب علم، وأنه داعية إلى الله، كلما قلت له شيئاً قال: اسمح لي لا أستطيع أنا مشغول. وإذا قلتَ له: يا فلان عندنا اليوم نشاط رياضي، قال: أنا مشغول. وإذا قلت: عندنا طلعة، قال: اسمحوا لي، لا أستطيع، أنا مشغول، أريد أن أحفظ، وأريد أن أقرأ، لا تصل إلى هذه الدرجة من العقد، قد يكون هذا رياء والعياذ بالله، تريد أن تقول للناس: لاحظوا أني ما امتنعت من مجيئي معكم في الطلعة إلا ليقول الشباب: فلان -ما شاء الله- ليس عنده وقت يطلع أو يأكل. وكأن الأمر أصبح رياءً، يا أخي أنت لابد أن يكون لك وقت للراحة فاجعله مع إخوانك؛ أما أن تظهر الانشغال، فهذا مرض وعقدة نفسية فانتبه لها.

الهاتف والمباريات والجرائد

الهاتف والمباريات والجرائد رابعاً: ومن مضيعات الأوقات: الهاتف. بعض الشباب يقول: وأملُّ من بعضهم، وأعرف عن البعض أنه كان يجلس الساعة والساعتين يكلمني في التليفون، فكنت أسكت وأفكر أن أغلق في وجهه، فأستحي منه، أما الآن فإني أقول له: يا أخي معذرة أنا مشغول، وأعتذر له، فإنه يجلس ساعة ونصف بالهاتف يتحدث ويضيع الوقت. والمباريات وما أدارك ما المباريات! طالب علم يريد أن يقضي وقته في حفظ القرآن وفي طلب العلم، ويأتي ليشاهد المباريات، أما يستحي؟! يا أخي ما أحد ينظر إليك إلا الله عزَّ وجلَّ {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:14] وتأتي تضيع وقتك أمام المباريات!! كذلك الجريدة، أتعرف أن الجريدة بعض الأحيان تأخذ ساعة إلا ربع أو ساعة كاملة؟ يمر الوقت بسرعة في مجلة تافهة، ويا ليتها مجلة علمية، فتأتي وتقرأ من العصر وما تشعر إلا وقت أذان المغرب، وقد ضاع وقتك وأنت لم تشعر، في مسابقات ومجلات. وبعضهم يضيع وقته في الاستحمام، فيسبح ساعة إلا ربع، وهذا من مضيعة الوقت، ولابد أن تقدر لكل أمر قدره، اجعل لكل شيء قدره، فالاستحمام له وقت، والراحة لها وقت، والنوم له وقت، والأكل له وقت، والجريدة لها وقت، وكل شيء له وقت، وإياك أن تفرط في الأوقات أو أن يضيع عليك الوقت. جد ابن تيمية رحمه الله كان إذا ذهب إلى الحمام للاستحمام أو لقضاء الحاجة كان يقول لحفيده: اقرأ عليَّ الكتاب حتى لا يضيع عليَّ الوقت. وهو في الحمام -أجلكم الله- ويستمع إلى ولده وهو يقرأ عليه الكتاب. أما نحن فلا نبالغ إلى هذه الدرجة، لكن شغّل المسجل، هذا إذا كان وقتك ضيق إلى هذه الدرجة، لكن ما أظن أحداً وقته ضيق إلى هذه الدرجة، أنه يستحم أو يقضي حاجته وليس عنده وقت، لكن شغل الشريط واستمع، وليس ذلك عيب، بل هو استغلال للوقت.

علامات الوقت الضائع

علامات الوقت الضائع ما هي علامات الوقت الضائع؟ علامته: بعد أن ينتهي يحس بضيق، يشاهد المباراة ساعة ونصف ويصفقون ويضحكون ويشجعون، وبعد أن ينتهي اسأل عن حاله، يقول: لا أعلم ماذا أصابني، صدري ضيق، ويجلس عند التليفزيون، ويشاهد مسرحية ثلاث ساعات، ويضحك بل لعله يسقط على بطنه من الضحك، وبعد أن ينتهي البرنامج ويقفل التلفاز اسأله عن حاله، فسيقول: أحس بضيق في الصدر. هذه هي علامة الوقت الضائع، وكذلك لو جلس وتحدثت مع الشباب، فسوف تحس بعد ساعة بضيق في الصدر، لأنه قد ضاع الوقت، ولا يعني هذا ألا تتحدث مع الشباب، ولا تجلس معهم، فإياك إياك! واجعل لكل شيء قدراً. ثم عليك ألا تضيع الأوقات التي تذهب، كأن تكون في السيارة، فإن بعض الشباب الموظفين يقول: ما عندي وقت. نقول له: وأنت في الطريق ضع شريطاً واستمع، وكل يوم استمع إلى شريط علمي، وستسمع في الشهر ثلاثين شريطاً، وفي الشهرين ستكمل كتاب التوحيد كله على شرح الشيخ ابن عثيمين أليس هذا الأمر سهلاًَ؟! الخطيب البغدادي رحمه الله كان يمشي وفي يده جزء يطالعه، وبعض العلماء كان يمشي ويقرأ، فكان ربما يمر بالحفرة فيسقط فيها، وتمر به الدابة فتضربه وهو لا يشعر، فكانوا يستغلون أوقاتهم حتى في الطريق. والبعض كان يقرأ على بعض العلماء جزءاً كاملاً في الطريق، فهذا ابن عثيمين كان يمشي مع السعدي -رحمهم الله- إذا علم أن عنده زيارة، أو عنده وليمة من مسجده أو من بيته، ويسأله إلى أن يصل إلى بيت الضيف، ما كان يضيع هذا الوقت، حتى إذا ذهب إلى بيت الضيف، كان ربما دخل معه، وربما رجع مع الشيخ، انظر استغلال الوقت! أما نحن فنضيع الأوقات في الانتظار عند الطبيب، وفي الجمعية، وفي الإدارة، وفي الوزارة، وفي كل مكان! فلا تضيع وقتك، وعليك أن تقرأ كتاباً ولو كان صغيراً.

ضرورة الحذر من التسويف ومخالطة أهل الضياع

ضرورة الحذر من التسويف ومخالطة أهل الضياع لا تقل سوف فسوف، يضيع عليك العمر، وهذه من أساليب الشيطان، وإذا كان عندك مهمة صعبة وبحث كبير فجزئه، ولا تقل: أحفظ القرآن كله، لا، بل: احفظ جزءاً في كل شهر، ولا نقول لك: احفظ القرآن كله في سنة، فهذا الأمر صعب، بل نقول: في كل سنة احفظ عشرة أجزاء، فإن الأمر صار سهلاً، إذاً: عليك أن تجزئ الأمور حتى لا تعظمها، ولا تقول: الأمر صعب، وكبير جداً، ولابد من أوقات راحة كما ذكرنا. لا تخالط أهل ضياع الأوقات، الذين لا هم إلا اللعب واللهو والضحك، واعلم أنه كلما مر الزمان كلما ازداد شغلك، وازداد همك. يُحكى أن أحمد بن محمد السلفي، الحافظ الكبير، يقول عن نفسه: أنه حدَّث سنة اثنتين وتسعين وما في وجهه شعرة، كان شاباً صغيراً، كان يحدث الناس وعمره سبع عشرة سنة. يقول الحميدي: سمعتُ زنجي بن خالد، يقول للشافعي: أفتِ يا أبا عبد الله، فقد والله آن لك أن تفتي. وهو ابن خمس عشرة سنة، ويقال له: أفْتِ، فقد وصلت إلى درجةٍ تَفْتِي الناس. انظروا إلى الهمة العالية التي تنطح الجبال! عباد الله: إنَّا لنفرح بالأيام نقطعها وكل يوم مضى جزء من العمُرِ يقول الشاعر: والوقت أنفسُ ما عنيتَ بِحفظهِ وأراه أسهلَ ما عليك يضيعُ أقول هذا القول، وصلى الله وسلَّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

الأسئلة

الأسئلة

اللهو المذموم

اللهو المذموم Q ذكرتَ أن طالب العلم لا بد أن يكون له وقت يلهو فيه، وما ذكَر الله اللهو في القرآن إلا وذمَّه، فماذا تقصد باللهو؟ وما معنى اللهو في القرآن؟ A اللهو في القرآن هو الذي يصد عن الله وعن الدارة الآخرة، فهذا هو المذموم، لكن لَهْوٌ يعينك على طاعة الله، ويحببك لإخوانك، ويزيد بينك وبينهم الألفة والتعارف، فهذا لََهْوٌ محمود، أما اللهو الذي يصد عن ذكر الله فهو اللهو المذموم الذي يصرفك عن طاعة الله، والذي يزيدك غفلة على غفلة، وهذا أكثر لَهْوِ أهل الدنيا.

كتب ينصح بقراءتها

كتب ينصح بقراءتها Q ما هي الكتب التي تنصح بقراءتها في الصيف؟ A كل واحد بحسب مستواه، لكن يبدأ الإنسان بالقرآن وتفسيره، ثم بالحديث ومعانيه، ثم بالفقه، وبالعقيدة، هذه هي الأمور الأساسية، ثم أهم شيء أن يجلس مع إخوانه في الدروس وحلق العلم، كما قال علي: [كدر الجماعة، ولا صفو وحدة] فلأن تجلس مع إخوانك مع الكدر والضيق ومع قلة الفائدة أفضل من أنك تجلس لوحدك، وبعد أيام يفترسك الشيطان، فإن الشيطان مع الواحد.

لحوم العلماء مسمومة

لحوم العلماء مسمومة Q أرجو توجيه كلمة لبعض الشباب الذين يتكلمون في العلماء والمشايخ، والانشغال بالفروع البسيطة في الدين؟ A أكثر ما يصدر هذا إما من أناس جُهَّال بدين الله عزَّ وجلَّ، فيبدأ يتكلم في العلماء والمشايخ، أو من أناس أصابهم الغرور والعُجب، فيظنون أن مستواهم أعلى من الشيوخ والعلماء، فيبدأ يطعن فيهم، أو من إنسان يظن أن العلماء معصومون، فإذا رأى خطأً من عالم أقام الدنيا وأقعدها، سبحان الله! يا أخي كل الناس يصيبون ويخطئون، (كل بني آدم خطاء) فيبدأ يجمع أخطاء الشيخ الفلاني وأخطاء الشيخ الفلاني، ويبدأ يتكلم ويضيع وقته وعمره، يقول ابن عباس: [من آذى فقيهاً فقد آذى رسول الله] أتعرف لماذا يا أخي؟ لأن العلماء ورثة الأنبياء، ومن الذين يرثونك؟ إنهم أقرب الناس إليك، أبناؤك وزوجتك وإخوتك، ولهذا لما كان العلماء ورثة الأنبياء فهم أقرب الناس إلى الأنبياء، وهذا يتكلم فيهم في المجالس، من أنت؟ هذا جمع من الحسنات أمثال الجبال، وأنت ماذا جمعتَ؟ حتى الفجر ربما لم تصله، وكل مجالسك غيبة ونميمة، ولو سألناك عن سورة الأنعام ربما لم تحفظها، وهذا الإنسان قد أفنى عمره في العلم والدعوة والجهاد، ولعله أخطأ بعض الأخطاء التي لا يسلم منها أحد. وأسألك سؤالاً: رجل يحفظ سورة الإخلاص، ورجل يحفظ القرآن، أيهما تكثر أخطاؤه؟ من المعلوم أن الذي يحفظ القرآن كله أخطاؤه أكثر؛ لأنه حافظ كل القرآن، ولهذا كثرت أخطاؤه، أما الذي يحفظ الإخلاص فقط فهذا ليس عنده أي خطأ؛ لأنه ليس عنده علم، ولأنه جاهل، وربما تكون جالساً في المنطقة الفلانية، ولا يعرفك أحد، ولا يراقبك أحد، وليس لك ولا درس واحد، ولو كان لك درس فسنخرج عليك مائة خطأ، حتى اللغة العربية لا تعرف أن تنطقها، لغتك أعجمية، تنصب الفاعل، وترفع المفعول، ومع هذا تجلس في مجلس وتقول: الشيخ الفلاني فعل، والشيخ الفلاني ما فعل، والشيخ الفلاني مبتدع، والشيخ الفلاني كذا. فهذا إما جاهل وإما مغرور. وهذا إن لم يتب ويصلح أمره فسوف يفضحه الله عزَّ وجلَّ ولو بعد حين.

البداية المحرقة تؤدي إلى نهاية مشرقة

البداية المحرقة تؤدي إلى نهاية مشرقة Q من لم تكن له بداية محرقة لم تكن له نهاية مشرقة ما هو تعليقكم على هذا؟ A جزاك الله خيراً، فإن الذي ليس له بداية محرقة يحترق، وكما قيل: (ومن طلب العلى سهر الليالي). وقال الشاعر:- أأبيت سهران الدُّجَى وتبيته نوماً وتبغي بعد ذاك لحاقي؟! هذا يتعب ويسهر ويجني، وترى أثر التعب عليه من طلب العلم، ومن قراءة الكتب، وهذا قد انتفخت عينه من النوم، ومن الأكل، ومن الشرب، ومن اللعب، ومن المرح، فهل يستوي هذا وهذا؟ لا والله لا يستويان عند الله {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9].

العلم لا ينتهي

العلم لا ينتهي السؤل: سمعتُ الحث على طلب العلم، وقد يفهم الشباب من هذا الدرس أن العلم يؤخذ كله في هذه العطلة، ويريد أن يصبح عالماً، فيأخذ العلم كله في هذه العطلة، فهل هذا صحيح؟ A العلم لا ينتهي، اطلب العلم حتى تموت، موسى عليه السلام سئل: من أعلم الناس؟ قال: أنا. موسى الذي اصطنعه الله على عينه، وكان أفضل من يمشي على الأرض، علمه الله منذ صغره ورباه وأوحى إليه، قيل له: من أعلم الناس؟ قال: أنا، فعاتبه الله، كيف أنت أعلم الناس؟ هذه كلمة عظيمة، اذهب إلى البلد الفلاني فإن فيها رجلاً يعلم علماً لا تعلمه يا موسى {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء:85]. والعلم ثلاثة أشبار: الشبر الأول: التكبر، أول ما يبدأ الشباب في طلب العلم يصيبهم الكبر، ويظن أنه ما أحد مثله في العلم. الشبر الثاني: التواضع، إذا توغل في العلم تواضع. الشبر الثالث: يعلم أنه لا يعلم. قال الشافعي: كلما ازددتُ علماً ازددت علماً بجهلي. فالمتكبر هو الذي عنده قليل علم، فاعرف أنه جاهل، فما تكبر إلا جاهل، وما تواضع إلا عالم، وكلما ازددتَ في العلم كلما ازداد تواضُعك. أيها الإخوة: ليس العلم كل شيء، الذي لا يستطيع أن يطلب العلم في هذه العطلة، عليه أن يتجه لعبادة أخرى (اعملوا فكل ميسر لما خلق له). بعض الناس أعطاه الله عزَّ وجلَّ قوة في اللسان، وفي البلاغة. وبعض الناس أعطاه الله عزَّ وجلَّ حسن أخلاق، فهو يستطيع أن يكسب الناس إلى الدين. وبعضهم أعطاه الله مالاً ينفقه في سبيل الله. وبعضهم أعطاه الله عزَّ وجلَّ أسلوب الكتابة. وبعضهم أعطاه الله عزَّ وجلَّ قوة في الجسد، وهكذا {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل:4]. المهم أن يكون وقتك في طاعة الله، علم، دعوة، عبادة، صلة، أي عمل خيري، وليس شرطاً أن تكون طالباً للعلم، المهم أن تتعلم العلم الواجب عليك، والفرض، فهناك فرض كفاية وفرض عين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه. وجزاكم الله خيراً على حسن استماعكم.

إلى متى الغفلة؟

إلى متى الغفلة؟ الغفلة داء عضال، وقد لا يكتشف إلا في ساعة الاحتضار. وإن الناظر في سيرة السلف الصالح ليتجلى له مدى خوفهم من هذا الداء، وقدر استعدادهم للحظة اللقاء مع الله. وفي هذا العصر أيضاً صور لأناس استيقظوا من غفلتهم قبل فوات الأوان.

الغفلة والانتباه في ساعة الموت

الغفلة والانتباه في ساعة الموت الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: حياكم الله في هذا المجلس، وأسأل الله تبارك وتعالى أن يكون اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً. أيها الإخوة الكرام: هذه موعظة لنفسي قبل أن أعظكم، والإنسان منا -نسأل الله العافية- يغفل، وتصيبه بعض الأحيان الغفلة، ولعله ما ينتبه منها إلا بعد أن يفوت وقت الندم، ومن الناس من يعيش في غفلة ما ينتبه منها إلا ساعة الوفاة: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} [ق:22] فيعيش في الدنيا -نسأل الله العافية- بين الأكل والشرب والنكاح والمأكل والملبس، أهم شيء عنده في الحياة أن يؤثث البيت أضخم أثاث، هذه غايته، أمنيته أن يتزوج الواحدة والاثنتين والثلاث، فلا هم أعلى من هذا، همه في الدنيا أن يلبس أحسن الملابس، ويعتلي أعلى المناصب، ويجمع الأموال {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} [الهمزة:3] {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22].

الموت يأتي ويقطع الآمال

الموت يأتي ويقطع الآمال من الناس من ينتبه في ساعة الوفاة، كان يجلس مع أهله كل ليلة يسامرهم، ويضاحكهم، ويلاعب أولاده، وعدهم بالسفر في الصيف، وعد البنت الصغيرة بلعبة، أما الزوجة فوعدها بالذهب والفضة، والملابس الوفيرة، أحلام وأوهام يعيشها ويعيِّش أولاده بها، نام وقال لزوجته: أيقظيني الساعة السابعة للعمل، أين صلاة الفجر؟ ليست بحسبانه، وليست في باله، أيقظيني للعمل، نام في تلك الليلة، والمسكين كان على موعدٍ لا يعلم عنه شيئاً، انتبه وفزع! رأى شيئاً بجنبه قال: من أنت؟! قال: أنا ملك الموت. ما الذي جاء بك؟! قال: جئت أنتزع الروح انتظر قليلاً لم يريد الانتظار؟ أتعرف يا أخي الكريم؟ عنده أمانات ما أرجعها لأهلها، عنده ذنوب ومعاص إلى الآن ما تاب منها، انتظر قليلاً: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون:99] صاح فإذا أهل البيت يجتمعون، فزعت الزوجة وقامت -وهذه القصة واحدة من قصص كثيرة تحصل للناس- فزعت الزوجة: ما الذي بك؟ ما الذي جرى؟ -لا يستطيع أن يجيبها، هو الآن في همٍ آخر، هو الآن في علمٍ آخر، هو الآن في حياة أخرى، يا أخي الكريم! ما تدري أنت بها؟ - وإذا بالأولاد يجتمعون عنده، وإذا بالأب وبالأم يأتون، ينظر إليهم ولكن -للأسف- لا يستطيع أن يجيب أحداً منهم {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ) [القيامة:26 - 28] تخيل هذا المنظر البنت على صدره تبكي، تقول: يا أبي! ألم تعدني تلك الليلة بهذه اللعبة؟ لمَ لا تجيب؟ الابن يقول: يا أبي! وعدتنا بالسفر، لمَ الآن لا تجيب يا أبي؟ تقول له الزوج: يا فلان! لمن تتركنا؟ أما الأم فإنها تبكي وتقول: يا بني! غادرتنا صغيراً، أما الأب فقد جاء بالطبيب، والحالة عنده بكاء وفزع وعويلٌ ولعلها نياحة: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [القيامة:26 - 27] تقول: لمَ هذه السكتة؟ أقول لك: لعلها العبرة قد خنقت القارئ، ولعلها فترة فكر ونظر في هذا المشهد العظيم {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} [القيامة:27 - 28] علم أنه يفارق، يفارق ماذا؟ هل يفارق مصحفاً كان يقرؤه؟ لا. هل يفارق صلوات في آخر الليل؟ لا. إلا من رحم الله، هل يفارق الدعوة إلى الله والجهاد في سبيل الله؟ لا. إلا من رحم الله. تعرف ماذا يفارق؟ يفارق سيارة جديدة، يفارق أثاثاً وفيراً، يفارق -يا أخي الكريم- زوجة لم يتمتع بها، يفارق ذلك البيت الذي بناه وأثثه ولكن لم يسكنه إلى اليوم {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} [القيامة:28 - 29]. رجل كان يعيش في حلم لم ينتبه منه، كان يقود سيارته مسرعاً -كحال أكثر الشباب هذا الزمن- والموسيقى قد ارتفعت، والأغاني قد تولع بها، ويعيش في عالمٍ آخر يفكر في عشيقة أو حبيبة، أو في أغنية، أو همٍ يحرق قلبه، وفجأة انقلبت به السيارة، وجاءه ذلك الشرطي، وسحب جثته، فعلم أنه يلفظ أنفاسه الأخيرة، قال: يا فلان! قل: لا إله إلا الله، أتعرف ماذا قال؟ قال: هو في سقر، هو في سقر، هو في سقر، ثم فارق الدنيا {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ} [المدثر:27 - 29]-تقول لي: لِمَ دخل سقر؟ - {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:42 - 43] ما كان يصلي، ولا يذكر الله جلَّ وعلا، وما كان يعكف على قراءة القرآن. الآن وقد قربنا من شهرٍ كريم -أيها الأخ الكريم- أسألك بالله: متى ختمت القرآن آخر مرة؟ لو دخل بيننا ملك الموت ونزع هذه الروح، هل أنت الآن مستعد؟ هل صليت خمس صلوات اليوم في جماعة بخشوعٍ وخضوع؟ هل أنت اليوم لم ترتكب محرماً إلا وتبت منه، عندك ذنوب سابقة، هل تبت منها؟ هل تخلصت منها؟ مظالم بينك وبين البشر، هل تحللت منهم؟ هل أنت الآن مستعد؟ أم أنك سوف تقول إذا جاءك الملك: {رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون:99] لماذا؟ {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً} [المؤمنون:100] أعمل صالحاً، يا رب! أرجعني فقط وأنا والله ما أرفع رأسي عن السجود، الآن عرف الحقيقة، الآن انتبه من النوم، الآن تيقظ من تلك الغفلة، ولكن لا ينفعه {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99 - 100] يرجع حتى يقبل بناته؟ أو حتى يسلم على أمه أو يودع أباه، أو يوزع أمواله؟ لا. أتظن أنه يرجع حتى يبني البيت أو يسكنه؟ لا والله. بل يرجع لقضية واحدة {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:100]. الآن كن أنت هذا الرجل، أسألك بالله منذ رمضان الماضي إلى اليوم كم مرة ختمت القرآن؟ كم مرة قرأته قراءة تدبر؟ فالقضية ليست قراءة، بل القضية تدبر {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24].

عظم الموت عند السلف

عظم الموت عند السلف الله عز وجل أنعم عليك بالنعم، فهل أديت شكرها؟ كم من الناس من هو عقيم لا يلد له، يتمنى أن يسمع كلمة (أبي) فتجده يتمناها، ويحترق قلبه عندما يرى أولاد المسلمين وهو ليس له ولد، أعطاك الله الولد، وأعطاك الذرية، وكبرت الذرية فهل شكرت الله فيها؟ هل حجبت البنات؟ اتق الله فإنهن سوف يتعلقن برقبتك عند الله جل وعلا يوم القيامة. من أتى لهم بالتلفاز، أليس هو أنت؟ من أدخل للبيت تلك الملاحق القذرة، أليس هو أنت؟ سوف تأتي يوم القيامة وتُسأل عن هذا {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا} [السجدة:12] هل الآن أبصرت؟! الآن لا ينفعك البصر، هل الآن سمعت؟ أين أنت في الدنيا فهي وقت العمل؟ الآن لا ينفعك شيء في يوم الحسرة ويوم التغابن. يا أخي الكريم: كن مستعداً وصادقاً مع نفسك، لا تقل مثلما قال فلان: في العمر متسع، وإذا جاء رمضان إن شاء الله أو وقت الحج أتوب، أو لما يحصل كذا وكذا سوف أصلح، هل تضمن أن تدرك ذلك اليوم؟

أبو العتاهية وهارون الرشيد

أبو العتاهية وهارون الرشيد دخل أبو العتاهية على هارون الرشيد وقد مدح الناس قصره، فقال له: ماذا تقول أنت يا أبا العتاهية؟ قال أنا أقول: عش ما بدا لك سالماً في ظل شاهقة القصور قال الملك: هه، يعني زد، ما أعظم هذا الشعر!! يجري عليك بما أردت من الغدو من البكور ففرح الملك فقال: فإذا النفوس تغرغرت بزفير حشرجة الصدور فهناك تعلم موقناً ما كنت إلا في غرور فبكى الملك حتى سقط على الأرض من البكاء، ثم لما أفاق قال للجنود وللحرس: اهتكوا الستر، وأغلقوا الأبواب فإني راجعٌ إلى بيتي القديم. {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [آل عمران:185] مصيبتنا -والله- في الدنيا، حتى بعض الصالحين مصيبته في الدنيا، حتى بعض من يتظاهر بالالتزام مصيبته في الدنيا، كبَّر وما زال قلبه في البيت، سجد ومازال يفكر في الدوام، يقرأ القرآن وهو يتذكر زوجته وأشغال البيت، إنا لله وإنا إليه راجعون، {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185].

عمر بن عبد العزيز أمام القبور

عمر بن عبد العزيز أمام القبور الخليفة عمر بن عبد العزيز هل سمعتم به؟ إنه أمير المؤمنين، هذا الرجل صار أميراً للمؤمنين، أتعرف ماذا فعل؟ كان يأتيه أحد الولاة، فيدخل في بيت -أو كوخ أمير المؤمنين أمير المؤمنين يسكن كوخاً! - فيسأله أمير المؤمنين عن أحوال الرعية وعن شئون المسلمين -لا يغيب عن المسلمين- فلما انتهى قال الوالي: أما الآن فإني سائلك يا أمير المؤمنين عن أهلك وولدك، قال: انتظر، وكان في الغرفة سراج، فأطفأ السراج وأظلمت الغرفة فقال الوالي: لم فعلت هذا يا أمير المؤمنين؟ قال: هذا السراج من أموال المسلمين أشعلته لأسأل عن أحوالهم، أما أن تسألني عن أهل بيتي وأولادي فلا يحق لي أن أشعل هذا السراج، إنه من أموال المسلمين. كان لا يملك إلا ثوباً واحداً، إذا غسلته زوجته فاطمة يجلس في البيت لا يخرج حتى يجف اللباس ثم يخرج إلى الناس ويلبسه. هذا الرجل في يوم من الأيام صلى بالناس العيد إماماً، وبعد الصلاة مرَّ على مقبرة فنزل عن بغلته -هذا موكبه- وعنده بعض أصحابه، فقال لمن عنده: انتظروا، فذهب إلى المقبرة وأخذ ينظر إلى القبور أسألك -أخي الكريم! وأطلب منك طلباً: اذهب للمقبرة في غير يوم جنازة، لا تقل: أذهب لجنازة قريب أو صاحب، لا. اذهب يوماً من الأيام لوحدك هكذا، وانظر إلى القبور، وكلمها، هل يجيبك أحد؟ سلها هل يرد عليك أحد؟ - قال عمر وهو ينظر إلى المقابر: أيها الموت! ماذا فعلت بالأحبة؟ أيها الموت -يكلمهم- ماذا صنعت بهم؟ فلم يجبه أحد، ثم خرَّ على ركبتيه وهو يبكي ويردد شعراً فيقول: أتيت القبور فناديتها أين المعظم والمحتقر تفانوا جميعاً فما مخبرٌ وماتوا جميعاً ومات الخبر فيا سائلي عن أناسٍ مضوا أما لك فيما مضى معتبر فإذا به يبكي بكاءً مراً حتى اجتمع الناس حوله، حتى هدأ رحمه الله. إنها القبور، إنه منزلك يا أخي الكريم! مر عليه يوماً من الأيام وتفحصه، هل تحمل معك أثاثاً؟ أو يدخل معك فيه أحد؟ بعد أيام ولعله بعد لحظات سوف تسكنه وأنت لا تدري، غفلة وأي غفلة! {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:185] القضية أكبر من هذا، لو كان موتاً لكان هيناً، يقول الشاعر: فلو أنا إذا متنا تركنا لكان الموت راحة كل حيٍ ولكنا إذا متنا بعثنا ونسأل بعدها عن كل شيء

عثمان يبكي إذا رأى القبور

عثمان يبكي إذا رأى القبور القضية أكبر من الموت يا أخي الكريم! القضية هي ما بعد الموت. عثمان بن عفان رضي الله عنه ثالث الخلفاء، إذا وقف على المقبرة بكى، يروى أنه كان يختم القرآن كله في ليلة، وقد أنزل الله فيه آيات هي: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] هذا هو العلم الحقيقي، العلم الذي يوصلك إلى خشية الله ومخافته، عثمان قتل وبيده مصحف، قال له الصحابة: نقاتل عنك؟ قال: دعوهم، فدى الأمة بدمه، قال: دعوهم واتركوهم. خوارج كفَّروا عثمان، كفروا أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام، اقتحموا عليه الباب -انظر إلى الوقاحة- ودخلوا وهو يقرأ القرآن، وزوجته عنده فطعنوه تسع طعنات، طعنه الشقي وقال: أما ثلاث فلله، وأما ست فلشيء وقر في الصدر، وكذب والله، فالتسع كلها ليست لله عز وجل، ألله قتل عثمان؟ أعوذ بالله! لما قتل سال الدم على المصحف، فبكت زوجته على أمرٍ واحد، قالت: قتلتموه وإنه ليحيي الليل بالقرآن: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9].

السعادة الحقيقية في طاعة الله

السعادة الحقيقية في طاعة الله أخي الكريم: القضية سعادة الدنيا والآخرة، أتريد السعادة؟ ما منكم من أحدٍ إلا ويقول: نعم. أتعرف أين هي؟ إنها في ركعات في آخر الليل، هي في صلاة الفجر وبعدها إلى طلوع الشمس، والله الذي لا إله غيره إنها السعادة. اجلس مع بعض الأتقياء الورعين الصالحين قل لهم: ما هي أسعد لحظات الحياة؟ يقول لك: إنها ساعة الإفطار عندما كنت في الحرم وأسمع الأذان يؤذن وبيدي رطبات أفطر عليها. سل الآخر، يقول لك: كنا في مسجد فلان نقوم الليل وكنا نبكي من خشية الله، فهي أسعد لحظات الحياة. سل الثالث يقول: متى أسعد لحظات الحياة؟ يقول: لما كنا نسمع أصوات المدافع والرشاشات وكنا في الصف الأول فكانت تغمر قلوبنا سعادة لم نشعر بها مرة أخرى، إنها السعادة الحقيقية {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].

المعاصي لا تأتي إلا بالضنك

المعاصي لا تأتي إلا بالضنك قبل أيام اتصل بي شاب قال: أنت الشيخ؟ قلت: نعم تفضل، قال: يا شيخ! لم تخطر على بالك معصية ولن تخطر على بالك معصية إلا وقد فعلتها، قلت: وماذا تريد؟ قال: يا شيخ! كل شيء فعلته في الدنيا، قلت: وما طلبك؟ قال: مللت حياة الدنيا، كرهت الحياة، وكأنه يريد الانتحار، ففتحت له باب التوبة، وفتحت له باب الرجاء، يقول: يا شيخ! كلما أفعل المعاصي كلما ازددت ضيقاً وهماً وغماً. أتدري ما هو السبب؟ لأن الله جل وعلا يقول: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124] أعرض عن ذكر الله. بعض الصالحين يقول: عندي أحياناً ضيق في الصدر، تسأله: هم الأمة؟ هم الناس؟ إصلاحهم؟ يقول: لا. إذاً ما همك؟ هم القيامة؟ هم الآخرة؟ يقول: لا. ما همك؟ هم القبر؟ يقول: لا. يقول: ما أدري هم في الصدر، أقول لك: فتش في نفسك عن ذنبٍ ارتكبته، فتش في نفسك، نظر إلى امرأة، سماع أغنية، غيبة زل بها اللسان، نوم عن صلاة، هذا هو ضيق الصدر، يقول الله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125].

السعادة في السجود

السعادة في السجود أحد الناس يقول عن نفسه: ما من معصية إلا وفعلتها، ضاقت بي الأرض بما رحبت، قررت السفر، مللت الحياة، يقول: سافرت، فإذا به يذهب إلى أين؟ إلى بلدٍ أخرى فيها أخوه، وكان أخوه صالحاً، يقول: طرقت الباب ودخلت عليه، قال: ما الذي جاء بك؟ قال: يا أخي والله مللت هذه الحياة -والشيء بالشيء يذكر، السويد من أكثر الدول إباحية، ليس فيها حرام، أو ممنوع، افعل ما تفعل، حتى الرجل يتزوج مثله، وعندهم لذلك قانون، ومع ذلك هذه الدولة أعلى نسبة انتحار فيها، يذهب إلى أعلى عمارة ويرمي نفسه من الأعلى، هذا مصيرهم- يقول هذا الشاب: سافرت إلى أخي وجلست عنده. يقول: نمت أول ليلة عند أخي، وفي الفجر جاءني رجل يوقظني، قال لي: قم، قلت: إلى أين؟ قال لي: قم لصلاة الفجر، فنظرت إليه، فقلت له: أنا لا أصلي، قال: أعوذ بالله مسلم لا يصلي؟! فقلت: أنا لا أصلي دعني أنام، قال: قم صل ولو مرة، قلت: لا أصلي، واغرب عن وجهي، قال: جرب الصلاة مرة، ثم ذهب، وجلست أفكر على الفراش بكلامه: جرب الصلاة ولو مرة، يقول: فقمت واغتسلت، وذهبت إلى المسجد وصليت، ثم رجعت إلى أخي فقلت له: يا أخي! وجدتها، قال: ما وجدت؟ قلت: وجدت السعادة التي كنت أبحث عنها، قال: أين؟ قلت: في سجودي في الصلاة: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} [الزمر:22] نسأل الله ألا يقسي قلوبنا {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} [الزمر:22] يسمع ذكر الله ولا يتأثر، لا يقشعر الجلد ولا يبالي، كأنها قصص أو كأنها أحاديث الناس {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:22]. قال أخوه: إذاً نعمت السعادة ونعمت الهداية فظل يوماً أو يومين، ثم قال لأخيه: سوف أرجع إلى بلدي، فرجع إلى أمه وطرق الباب عليها، ففتحت أمه الباب وقالت: يا بني! ما الذي جاء بك مسرعاً هذه المرة؟ -كان متعوداً للسفر إلى الحرام- قال: يا أماه! وجدت الذي أبحث عنه، قالت أمه: وما هي؟ قال: وجدت السعادة، قالت: يا بني! أين وجدتها؟ قال: وجدتها في الصلاة، وجدتها في القرآن، وجدتها بالذكر، ففرحت أمه، فظل يوماً أو يومين ثم قال: يا أماه! أطلب منك طلباً؟ قالت: وما هو يا بني؟ قال: أريد السفر يا أماه، قالت: إلى أين يا بني؟ قال: أريد السفر للجهاد في سبيل الله، قالت أمه: يا بني! ما منعتك وأنت تسافر للمعصية أفأمنعك وأنت تسافر للطاعة؟! اذهب وتوكل على الله. سافر الشاب التائب إلى الجهاد، وتدرب شهوراً ثم دخل في المعركة وكان بجانبه صاحبٌ له، اشتدت المعركة وقويت الغارة فإذا بصاحبه يصاب بشظية، فحمل صاحبه ليسعفه وأسرع به ولكن المنية أقرب، غادر صاحبه الدنيا، ما غسله ولا كفنه؛ لأن الشهيد لا يغسل ولا يكفن، يبعث عند الله اللون لون دم والريح ريح مسك، أول قطرة من جسمه تغسل جميع ذنوبه، ولو تقطع بالحديد أو تراه يحترق فإنه لا يحس إلا كقرصة نملة. حفر لصاحبه حفرة وأنزله فيها ثم رفع يديه وقال: اللهم إني أسألك ألا تغرب عليَّ الشمس هذا اليوم إلا وقد قبلتني شهيداً عندك يا رب، ثم قبل أن يدفن صاحبه اشتدت المعركة، حمل السلاح وتقدم، فإذا به يصاب بضربة تودي بحياته ويدفن مع صاحبه في تلك الحفرة: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30]. لا تقل: بي هم وغم، إن كان هم الدعوة هم الإسلام هم المسلمين هم القيام هم المعاد هم القبر، فأقول لك: نعم الهم، أما إن كان هم الدنيا فبئس الهم، أما إن كان هم الدنانير والدراهم فبئس الهم، أما إن ضاق صدرك بالذنوب والمعاصي فبئس الضيق يا أخي الكريم، واعلم أنها بداية شر وأنها شؤم تلك المعاصي، اتق الله عز وجل، وراقبه ولا تقل: لا أحد يراني، والناس يظنون بي الخير، اسمع إلى ما يقول الشاعر عن نفسه: إلهي لا تعذبني فإني مقرٌ بالذي قد كان مني فكم من زلة لي في البرايا وأنت علي ذو فضل ومنِّ إذا فكرت في ندمي عليها عضضت أناملي وقرعت سني وما لي حيلة إلا رجائي وعفوك إن عفوت وحسن ظني يظن الناس بي خيراً وإني لشر الناس إن لم تعف عني نرضى بكلام الناس ومدحهم، يا شيخ! أيها الصالح! أيها التقي! نفرح بتلك الكلمات، ونسأل الله العافية، ثم إذا جئنا يوم القيامة {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47].

صور من عبادة السلف

صور من عبادة السلف

قتيل القرآن

قتيل القرآن هل سمعت عن علي بن الفضيل بن عياض؟ إنه ابن عابد الحرمين، هذا الرجل إذا صلى خلف أبيه -وقد كان أبوه إماماً- فإن أباه لا يرتل القرآن، بل يقرأ قراءة عادية، خوفاً على ابنه؛ لأن ابنه إن خشع وتدبر لا يتحمل نفسه، في يوم من الأيام دخل ابنه ولم يعرف عنه أبوه، فكان يرتل فسمع صوت ابنه يبكي، فأكمل الصلاة مسرعاً فإذا ابنه على الأرض مغمىً عليه يبكي؛ لأنه قرأ قول الله: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد:16] أتعلم هذا الرجل ماذا يسمى؟ إنه يسمى قتيل القرآن، يروى أنه مات عند آية: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ} [الأنعام:27] فسكت، فنظروا إليه فإذا هو قد غادر الدنيا. تقول لي: مبالغة، تقول لي: أصحاب النبي ما حصل لهم هذا، أقول لك: أين السنة؟ النبي صلى الله عليه وسلم قرأ عنده أحد الصحابة (فإذا به يقول له: حسبك -قف ولا تكمل القراءة- قال: فنظرت فإذا عيناه تذرفان) يبكي عليه الصلاة والسلام. يقول ابن مسعود: (يا رسول الله! قمت الليل بآية واحدة؟ -كل الليل بآية واحدة- لو فعلها أحدنا لوجدنا عليه) أتعرف ماذا يقرأ؟ {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} [المائدة:118] هم الأمة {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118] فكان يبكي وهو يرددها الليل كله.

عبادة أبي حنيفة

عبادة أبي حنيفة الإمام أبو حنيفة يقول عنه رجل: هذا الرجل لا يصلي كثيراً، وصلاته مثل الناس، ثم يقول: لا بد أن أراقبه لأعلم لمَ رفع الله شأنه؟ أتظن أن الأئمة الأربعة ليس هناك من يفوقهم، أو يوازيهم؟ لا. هناك أئمة كثر، ولكن رفع الله هؤلاء الأربعة، واسمع: يقول هذا الرجل: راقبته، فصلَّى العشاء ودخل البيت، فانتظرت عند باب البيت -وبعد العشاء كان الناس ينامون ولا أحد يخرج- يقول: وراقبت البيت، فلما هدأ الناس خرج فتبعته، فإذا به يرجع إلى المسجد، يقول: فدخلت خلفه، فإذا به يصلي بعد العشاء إلى طلوع الفجر، بآية واحدة يرددها ويبكي: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:27] وهذا من حديث أهل الجنة، فهم يتلاقون ويتزاورون فيقول بعضهم: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:27] ليلة كاملة يرددها ويبكي.

عبادة الإمام أحمد وصبره

عبادة الإمام أحمد وصبره الإمام أحمد رحمه الله، لمَ رفع الله شأنه؟ هذا الرجل حفظ ألف ألف حديث في صدره، وإذا قلنا: إمام أهل السنة والجماعة فإنه لا يستحق غيره هذا الاسم، أحمد بن حنبل يلبس نعالاً ثماني عشرة سنة، ما غير نعله، كلما تقطع نعاله رقعه وخصفه بيديه، دخل عليه ابنه في يوم من الأيام وهو متربع في غرفة مظلمة، يبكي، فقال له ابنه عبد الله: يا أبت! لمَ تصنع هذا؟ قال: يا بني! تفكرت في القبر وحالي بعد الموت، قال: يا أبت! لمَ لا تستند على جدار؟ قال: يا بني! أستحي أن أناجي ربي وأنا مستندٌ على الجدار، جاءه شاعر في يوم من الأيام فقال له: اعطني مما عندك من الشعر؟ فقال له شعراً، فقام الإمام أحمد ودخل غرفة وطال المقام فسمعه أحد التلاميذ يبكي ويردد هذه الأبيات: إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفيه عنه يغيبُ تصدى لأهل البدع، وقال قولته المشهورة: القرآن كلام الله غير مخلوق، فجيء بالجلادين وقال المعتصم: كل واحد منكم يجلده أقوى ما عنده جلدتين فقط، أقوى ما يستطيع، فجلد وكلما يجلد يسقط على الأرض، ثم يفيق، ثم يجلد، مائة وستين ضربة، هل ترجع يا إمام؟ قال: لا أرجع؟ حمل إلى السجن، وهو رجل كبير في السن، يقول عن نفسه في ليلة باردة قارسة، وقد رمي في السجن يقول: أخذت أتحسس بيدي، حتى وقعت يدي على ماءٍ بارد، يقول: فأخذت الماء وتوضأت به، ثم صليت حتى الفجر، تعرف كم يوماً جلس في السجن؟ ثمانية وعشرين شهراً، أكثر من سنتين في السجن؛ لأنه قال: القرآن كلام الله، وقد سرد الصوم فيها، وما أفطر يوماً واحداً. يأتيه الوالي بطعام لعظم موقفه، بأفخم أنواع الطعام، والإمام أحمد يقول: والله لا أذوق لهم طعاماً أبداً. يأتيه الشيطان عند الموت، فيقول: يا إمام! لقد فتني، وهو يقول: لا بعد، لا بعد، لا بعد.

العودة العودة إلى طاعة الله

العودة العودة إلى طاعة الله {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات:17]. نحن ماذا فعلنا يا إخوان؟! {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18] لِمَ يأتيك الضيق وذلك الهم؟ سل نفسك: كم تعبد الله جل وعلا؟ تأتي عائشة فتقول: (يا رسول الله! هذه الآية: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60] قالت: هؤلاء الذين يسرقون ويزنون ويقتلون، قال: لا يا بنة الصديق! هم الذين يصلون ويصومون ويتصدقون ويخافون ألا يتقبل الله منهم). ابن عمر يتصدق فيقول له ابنه: [تقبل الله منك يا أبي، فضحك، وقال: لو علمت أن الله تقبل مني ما كان غائباً أحب إلي من الموت] لو علمت أن الله قبل مني حسنة لكنت أتمنى الموت، {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27] لا تقل لي: يا شيخ! ضيقت باب التوبة، يا شيخ! أين الرجاء؟ يا شيخ! أين رجاء رحمة الله جل وعلا؟ أقول لك: نعم، الله وصف نفسه بأنه غفار، ولم يقل غافر، بل قال: غفار، لكن لمن؟ اسمع: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ} [طه:82] أولاً: تب إلى الله، فهل يعقل أن يكون صالحاً وهو لا يصلي الفجر إلا بعد طلوع الشمس؟! هل يمكن أن تتصور صالحاً تمر عليه السنة لم يختم القرآن مرة؟! هل تتصور صالحاً يكبر للصلاة ويفكر في الدنيا؟! هل تتصور -يا أخي الكريم- صالحاً يرى منكراً في مجلس ويجلس فيه؟! أيها الأخ الكريم: اتق الله: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ} [طه:82] فقط؟ لا {لِمَنْ تَابَ} [طه:82] فقط؟ لا {لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82]. أيها الإخوة الكرام: هذه جلسة محاسبة، وهي موعظة لعلها تخرج من القلب إلى القلب، وما ندري قد لا نلتقي بعد هذه اللحظات، بل قد لا تلتقي بأهلك، بل قد لا تخرج من هذا المجلس. هنيئاً لمن جلس في هذا المكان واستمع هذا الحديث، وقالها من قلبه ندماً وحسرة: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:84]. هنيئاً لمن عاهد الله وهو يستمع إليه ألا تضيع منه ليلة إلا بركعات أول الليل أو آخره. هنيئاً لمن عاهد الله ألا يهجر القرآن، هنيئاً لمن عزم الآن ألا تفوته صلاة جماعة في بيتٍ من بيوت الله. هنيئاً لمن عزم الآن وهو جالس أن يخرج تلك الصور وتلك الأفلام وأن يخلص بيته من ذلك الجهاز الخبيث. هنيئاً لمن عاهد الله ولمن استقام على أمر الله جل وعلا: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر:18] لن أقول لك: سوف تأتينا فرصة رمضان، فلعلنا لا ندرك رمضان يا أخي الكريم! أقول لك: فرصة هذه الليلة، فرصة هذا المجلس، فرصة قبل رجوعك إلى البيت، فما تدري. تزود من التقوى فإنك لا تدري إذا جن ليلٌ هل تعيش إلى الفجرِ فكم من صحيح مات من غير علة وكم من سقيمٍ عاش حيناً من الدهر وكم من صغارٍ يرتجى طول عمرهم وقد أدخلت أجسادهم ظلمة القبرِ وكم من عروسٍ زينوها لزوجها وقد نسجت أكفانها وهي لا تدري تزود من التقوى فإنك لا تدري إذا جن ليلٌ هل تعيش إلى الفجرِ هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وجزاكم الله خيراً.

أمسك عليك لسانك

أمسك عليك لسانك إن من أخطر ما يواجه دين الإنسان وعقيدته لسانه، ومن مخاطره التي يجب الحذر منها: الولوغ في أعراض المسلمين إطلاقه بالسب والشتم واللعن النميمة. فعلى المسلم أن يحذر هذا الخطر الكبير، وليصن لسانه بشغله في طاعة الله، فإن لم يستطع فالصمت خير له.

اللسان وخطره

اللسان وخطره الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وخاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فإن هذا الموضوع خطير؛ لأنه يتعلق بمصير العبد عند الله سبحانه وتعالى، يتعلق بدخول الجنة أو دخول النار، وهي هذه التي حولها ندندن، ونرجو من الله سبحانه وتعالى دخول الجنة والنجاة من النار. جاء في الحديث الصحيح: (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين فخذيه أضمن له الجنة) ولما سئل: عن أكثر ما يدخل الناس النار قال: (الفم والفرج) ولما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم يُعلّم معاذ بن جبل أركان الإسلام وشرائع الدين، وعمَّا يحبه الله عزَّ وجلَّ وعمَّا يبغضه، قال: (أولا أدلك على ملاك ذلك كله؟ -ما يحفظ لك دينك- قال: بلى يا رسول الله! قال: أمسك عليك هذا، وأمسَك بلسانه). إن أخطر ما يواجه دين الإنسان وعقيدته لسانه، بل إن اللسان به يدخل الإنسان الإسلام، وبه يخرج من الدين، واللسان كما قيل: احذر لسانك أيها الإنسان لا يلدغنك إنه ثعبان كم في المقابر من قتيل لسانه كانت تهاب لقاءه الشجعان فاللسان خطير، ومن خطورته أن أعضاء الجسم في كل صباح تحذر اللسان، وتقول: (اتق الله فينا، فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا) ويقول الله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] كل كلمة وكل لفظة تُسجَّل. وكم يجلس الإنسان في المجالس! ويأخذ في الكلام، فإذا بهم قد جاءوا بفلان من عباد الله، ووضعوه بينهم وهو ميت، فأخذوا ينهشون في لحمه! بل كم نرى من الأمثلة من عباد صالحين مصلين! يذهبون إلى العمرة وإلى الحج، ويتصدقون ويصومون النوافل، ولكن كما قال ابن القيم: كم ترى من رجل متورع عن الفواحش والظلم ما شاء الله عليه! تجده حتى السواك لا يتركه، وبعض المكروهات عنده كالمحرمات، وبعض المباحات يتركها خوفاً من الوقوع في المحرمات، والشبهات يجتنبها كم من رجل تجده متورعاً عن الفواحش والظلم، يقول ابن القيم: ولسانه يسري في أعراض الأحياء والأموات ولا يبالي بما يقول!

الولوغ في أعراض المسلمين

الولوغ في أعراض المسلمين تعرفون حادثة الإفك، وما الذي جرى؟ ولِمَ أنزل قرآن بسببها؟ والرسول صلى الله عليه وسلم شهر كامل لا يدري ماذا يصنع، أتعرفون ما الذي حدث؟ كل المصيبة كانت من اللسان {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:15] أتحسب أن الأمر هين عندما تجلس في مجلس وتتكلم على فلان أو علان، أو في أعراض المسلمين؟! {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:15]. بل إن النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة المعراج لمَّا عٌرِج به -وأرجو أيها الأخ العزيز، أن تتخيل المشهد- (رأى رجالاً لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم، وصدورهم -تخيل الدم ينزل، ولو رأيته لقلت إنه مجنون، من يفعل بنفسه هذا الفعل؟ هذا الإنسان يخمش وجه وصدره- فقال: سبحان الله ما هذا؟! فقال: هؤلاء الذين يقعون في أعراض الناس، ويتكلمون في أعراض المسلمين) (ونظر إلى الكعبة وقال: ما أعظم حرمتك! لكنَّ حرمة المسلم أعظم منك). إذاً: فالمؤمن الذي يشهد الشهادتين له حرمة عند الله سبحانه وتعالى، فإياك إياك! فإن الكلمة عندما تخرج لا تعود مرة أخرى، وسوف تجدها عند الله سبحانه وتعالى في المحشر {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا} [الكهف:49] يدعون على أنفسهم بالويل والثبور! لماذا؟ {يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف:49]. أي لفظة صغيرة كانت أو كبيرة. قال أهل العلم: الغيبة -غيبة المسلم- من الكبائر. ولاشك أنكم سمعتم بحديث المفلس، ولكن هل تفكرتم فيه؟ نعم. فنحن نحفظ حديث المفلس، بل بعضنا يحفظ روايات لهذا الحديث، وبعضنا يحفظه من صغره، بل إن البعض منا يعرف أقوال العلماء في ضوء هذا الحديث، لكنَّ المصيبة أين نحن من واقع هذا الحديث؟ هل تفكرنا فيه؟ يقول صلى الله عليه وسلم: (المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة، وصيام، وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا. فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم، فطرحت عليه، ثم طرح في النار). فكر وأنت الآن جالس تستمع إليّ، كم من إنسان تكلمت عليه بسوء؟! من الناس من يقول: هم ألوف لا أستطيع أن أحصيهم، فكلهم سيكونون خصماءك عند الله يوم القيامة، فيخاصمونك إلى الله {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49]. أتظن أن الأمر هين؟! تجلس في مجلس فتغتاب أخاك، وتتكلم فيه وتطعن، وتتكلم بما يسوءه ويكرهه، ويتركك الرب جل وعلا؟! لا. إن الأمر فيه عدل، وميزان عند الله سبحانه يوم القيامة {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:7 - 8] {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47] {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] يقول أنس رضي الله عنه: [خدمت رسول الله تسع سنين، فوالله ما نهرني، ولا قهرني، ولم يقل لشيء لم أفعله: لِمَ لم تفعله] أسمعت هذا الأدب الرباني، أدب النبي عليه الصلاة والسلام مع خادمه، تسع سنوات ما قال له يوماً من الأيام: لماذا فعلت هذا الشيء؟ أو لِمَ لَمْ تفعل هذا الشيء؟ ويقول أنس: (ما مسست ديباجاً ولا حريراً ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم) أرأيتم إلى الأدب؟ فإياك إياك أن يتكلم اللسان إلا بعد أن تفكر، يقول أحدهم: جاهدت نفسي عشر سنوات وما زلت أجاهدها على أمر وسوف أدركه قالوا: وما هو؟ قال: أن أصمت عما لا يعنيني. يا أخي ما الذي يعنيك؟ ما شأنك وشأنه؟ ما الذي ألزمك أن تتكلم في عرضه؟ من الذي أجبرك على أن تلوِّث لسانك بعرض فلان، وتلوكه بحرمة فلان، وتتكلم في عورة فلان؟ من الذي ألزمك بهذا؟ قال عليه الصلاة والسلام: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) وقال عليه الصلاة والسلام: (من صمت نجا) والحديث في صحيح الجامع.

إطلاق اللسان بالسب والشتم واللعن

إطلاق اللسان بالسب والشتم واللعن من الناس من يطلق لسانه -للأسف حتى من بعض المسلمين- في السب والشتم، فإذا غضب سب وشتم، بل إن بعضهم تجده يصلي، لكنه إذا غضب لا يمسك لسانه، قال عليه الصلاة والسلام: (المتسابان شيطانان) وفي بعض الأحيان تجد في الطريق، أو في الدوام، أو في البيت، اثنين هذا يسب هذا، وهذا يتكلم على هذا، يقول عليه الصلاة والسلام: (المتسابان شيطانان يتهاتران ويتكاذبان). وأعظم السب الذي يخرج من اللسان على وجه الدنيا هو سبُّ الرَبّ جل وعلا، وسبُّ الرَبِّ بنسبة النقص له سبحانه وتعالى، أو بنسبة الولد له، هذا كله سب وشتم لله، ويأتي تحته درجة أقل منه: وهي سب الأنبياء والرسل، وسب الملائكة، وسب الصالحين، وعلى رأسهم الصحابة، في الحديث الصحيح: (من سب أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) فكم من الناس من لا يبالي فيسب أصحاب رسول الله! أسمعت أولئك الذين يتكلمون في عرض أصحاب رسول الله؟! فقد قال بعضهم: ما رأينا أكبر منهم بطوناً ولا أجبن عند اللقاء. ألسنة تكلمت بهذا الكلام، فأنزل الله عز وجل آيات من فوق سبع سماوات: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة:65] كنا نقضي الأوقات حتى تمر الساعات {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66] كلمات أُطلقت أَوبقت دنياهم وآخرتهم، ومن الناس من يطلق لسانه بأشد من هذا، أو بمثله من اللعن؛ واللعن من أخطر الأمور، فإياك أن تلعن أحداً يوماً من الأيام! قال عليه الصلاة والسلام: (لعن المؤمن كقتله) أرأيت إنساناً يمسك بالسلاح فيقتل؟ ستقول: أعوذ بالله من القتل، ولن تصل إلى هذه الدرجة بإذن الله، لكن (لعن المؤمن كقتله). واللعن هو الطرد من رحمة الله ويقول صلى الله عليه وسلم: (ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء) تخرج اللعنة إلى السماء فإن استحقها صاحبها وإلا رجعت على قائلها، قال بعض أهل العلم: حتى الكافر الحي في حال حياته لا يعيَّن باللعن، وما يدريك؟ فلربما يسلم ويؤمن ويتوب قبل أن يموت، هذا في الكافر، فما بالك بمن يلعن المسلمين؟! ما بالك بمن يصفهم بلسانه بالكفر، فيضلل فلاناً ويفسق فلاناً، ويبدع فلاناً؟ وقد جاء رجل يوماً من الأيام إلى صاحبه، وكان ينكر عليه كل يوم، فقال له ذات يوم: (والله لا يغفر الله لك -من غضبه وحماسه وشدة إنكاره للمنكر، قال: أنت على هذه الحال، فلا يغفر الله لك- فقال الله عز وجل: من ذا الذي يتألى عليَّ؟ قد غفرت له وأحبطت عملك) أحبط الله عمل الصالح وغفر لصاحب المنكر، قال الإمام الشافعي: قال كلمة أوبقت دنياه وآخرته. يقول الله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36] لا تتكلم في شيء لا تعلمه، لا تتكلم في شيء من حقوق الألوهية أو الربوبية، فإن سلب الإيمان من الإنسان، أو لعنه، أو إخراجه من دين الله، هذا يحتاج إلى شروط، فاحذر من خطر اللسان {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36]. اجلس في مجالس الناس اليوم وانظر: من منهم يجلسون على ذكر الله؟! أغلب المجالس اليوم إما غيبة للناس، أو لغو بالباطل، والله عز وجل يقول: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:3] إن لم تكن مجالس فحش وبذاءة. والله جل وعلا وصف مجالس الناس فقال: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ} [النساء:11] أكثر نجوى الناس لا خير فيها {إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:11].

أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم

أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم هل يتجرأ واحد منا أن يأكل ديناراً من ربا؟ ولو أعطيتك ديناراً من الربا فهل ستأخذه؟ أعوذ بالله من الربا (درهم ربا -يأكله وهو يعلم- أشد عند الله من ست وثلاثين زنية) (إن أدنى الربا مثل أن يأتي الرجل أمه) وإن أشد تصوير لجريمة في القرآن هو للربا، قال تعالى: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:27] قال ابن عباس: [يعطى صاحب الربا يوم القيامة رمحاً فيقال له: بارز ربك!] تأكل الربا طول عمرك فالآن حارب ربك! ومن منا يقوى على تلك العقوبة؟! إن الربا شنيع، وإن أربى الربا وأشد الربا الاستطالة في عرض المسلم، قال عليه الصلاة والسلام: (وإنَّ أربى الربا استطالة المرء في عرض أخيه) وإذا كانت حرمة المسلم أعظم حرمة عند الله من الكعبة، فما بالك يا أخي العزيز! وما الذي جرأك؟! وبأي حجة تلقى الله؟ وبأي عذر تواجه ربك؟ يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12] انظر الآن إلى الخطوات الربانية! انظر إلى القرآن وتسلسله! أول خطوة يبدأ الإنسان بها: إساءة الظن، فيبدأ يراقب، ويتتبع العثرات، ويتجسس، ويبحث عن العورات، ولعله يسجل عليك، لم كل ذلك؟ لأنه أساء الظن بداية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12] ما الذي يحصل بعد الظن؟ {وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات:12] ثم بعدها بدأ يتجسس، ويجلس في المجالس، ويقول: لقد رأيت فلاناً يفعل كذا وكذا، وفلان الذي يدعي أنه داعية إلى الله، وأنه صالح، وأنه مصلح أتعرفون ماذا يصنع في بيته؟ وماذا عنده؟ وماذا فَعَل في العام الماضي؟ ثم يبدأ يغتابه {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:12] وقالوا عن ميمون -وهذه قاعدة فاعمل بها، ويكفي من هذه الكلمة هذه القاعدة، وميمون هو أحد القراء، يقولون-: كان لا يغتاب أحداً ولا يدع أحداً عنده يغتاب، بل كان ينهاه وإلا قام وتركه. وأنت جرب هذا من هذه اللحظة، أمسك لسانك عن غيبة المسلمين، فإن اغتاب رجل فانصحه بالتي هي أحسن، وقل له: جزاك الله خيراً، بارك الله فيك، دعنا من الناس، فإن عاد فعد وقل: يا أخي! بارك الله فيك، لنتكلم بما ينفعنا وما يفيدنا، ولا نأتي بأسماء الناس في مجلسنا، ونغتاب الناس. فإن انتهى وإلا فقم واتركه. إني أدعوك إلى هذا الصنيع، وقد تقول: لا أستطيع. أقول لك: بل إنك تستطيع، ووالله الذي لا إله غيره، لو طبقنا هذه القاعدة لانتفعنا خيراً الكثير، ولعلمنا حقاً أن أكثر مجالسنا لا تنفع، إلا ما ذكر فيها الله عز وجل: {إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:11] أتظن أن الكلمة عندما تخرج تذهب! لا. بل {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة:6] هذه هي المصيبة؛ أننا نسينا في الجد كم تكلمنا؟ لكنَّ الله جلَّ وعلا قد أحصى ذلك كله، يقول الحسن: [الغيبة أسرع في دين المؤمن من الآكلة في الجسد]. وأرجو أن تتأمل معي في هذه اللحظات كم من رجل كان يدعو إلى الله، وكان من رواد المساجد، بل كان لا يترك الصف الأول في صلاة الفجر، وربما يجلس إلى الشروق، وكان يقرأ القرآن، وكان يدعو إلى الله، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، أين هو الآن؟ ما الذي جرى له؟ وما الذي حصل؟ لو رأيت إلى أكثرِهم لوجدت أن السبب هو الغيبة، كان لا يتورع عن غيبة الناس، بل إن بعضهم كان يغتاب الدعاة إلى الله، والعلماء، والمصلحين، فأصابه ذلك السم، قال الحسن: [الغيبة أسرع في دين المؤمن من الآكلة في الجسد] أرأيت الآكلة؟ هي الآن مثل السرطان، الرجل سليم -ما شاء الله- ليس فيه شيء، ولكن لحظة من اللحظات وقع، يُفحص جسمه فإذا السرطان قد انتشر فيه، ويقول الطبيب: سيبقى أياماً ثم يموت، انتهى أمره! إذاً: الغيبة أسرع في الدين من الآكلة في الجسد، ويقول أحد السلف: إذا رأيت الرجل منشغلاً بعيوب غيره عن عيب نفسه فاعلم أنه قد مُكِر به. جعل يتكلم على الناس ونسي نفسه، فيا من تتكلم على غيرك بالسوء هل نسيت نفسك؟! سبحان الله! يرى أحدكم القذا في عين أخيه ولا يرى الجذع في عينه! يحاسب أخاه لأنه قد أخطأ في شيء قد اجتهد فيه، أو زلَّ في أمر لم يقصده، وينسى جرائمه وفضائحه! تجده لا يصلي الفجر ولا يهتم بها، وتجده عاقاً لوالديه ويستهين بهذا الأمر، وتجده قاطعاً للرحم؛ وهذه كلها كبائر ملعون صاحبها، فلا يبالي بهذا كله، ولكنه يشتغل بأعراض الناس ويتكلم عن سوآتهم. قال: إذا رأيتم الرجل ينشغل بعيب غيره عن عيب نفسه فاعلموا أنه قد مكر به. هذا الرجل مستدرج، وقد مكر به، فانتظر عليه أياماً وشهوراً وسنوات، فسوف يأتي يوم وتسمع خبره، لأن أولئك العلماء وأولئك الصالحون لما تكلموا بهذه الكلمات رأوها بأعينهم قبل أن يتكلموا بها بألسنتهم، سنة الله في خلقه، بل (من تتبع عورة أخيه -تكلم في عورته- تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه ولو كان في عقر داره) والله يقول: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ} [الانفطار:10 - 11] فكل شيء يُكتب وسوف تحاسب عليه عند الله جلَّ وعلا.

النميمة وخطرها

النميمة وخطرها ما بالكم بالذي يتكلم ليفسد بين الناس فيمشي بالنميمة؟ فإن من أخطر الأمور وأكبر آفات اللسان: النميمة يأتي إلى فلان ويقول: سمعت فلاناً قال فيك كذا، وسمعت أن فلاناً صنع كذا، ويجلس حتى يفرق بين الأحبة يقول تعالى: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم:10 - 11] أي: يمشي بين الناس بالنميمة. قال ابن مسعود: [والله الذي لا إله غيره ما من شيء أحوج إلى طول سجن من اللسان] ويأتي عمر إلى أبي بكر فينظر إليه جاذباً لسانه، فيقول: [مه يا أبا بكر غفر الله لك؟ فيقول: هذا الذي أوردني الموارد] من يقول هذا الكلام؟ إنه أبو بكر الذاكر، العابد، الصالح، التقي، الورع، يقول: هذا الذي أوردني الموارد، فماذا سنقول نحن؟! وفكر في لسانك اليوم فقط، هل وقعت في غيبة مسلم؟ بل قد يكون المسلم في ناحية من نواحي الأرض، في أقصى الشرق أو الغرب ونحن جالسون في هذا المجلس قد نقع في عرضه! فهل فكرت يوماً من الأيام أن تحاسب هذا اللسان؟ عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عندما جادل النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية، وهو كان يريد الحق، ويريد الرفعة لهذا الدين، قال: [أنعطي الدنية في ديننا؟] وأخذ يخاطب أبا بكر والنبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يقاتل الكفار حماية لهذا الدين. انظر إلى هذه الكلمات التي قالها عمر، ظل يتذكرها إلى أن مات، وقال لمن عنده: [ما زلت أعمل لذلك أعمالاً]. يقول: أخاف أن أحاسب على تلك الكلمات، فعملت لها أعمالاً، لعل الله أن يعفو عني (واتبع السيئة الحسنة تمحها) {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة:6 - 11]. قال عليه الصلاة والسلام: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة يُضحِكُ بها جلساءه -كلمة في مجلس أضحك بها الجالسين- يهوي بها أبعد من الثريا) والحديث صحيح. هذه كلمة فما بالكم بكلمتين! ما بالكم بالمجلس كله من أوله إلى آخره! يُضحك، ويكذب، ويقع في أعراض المسلمين، يتكلم بكلمات وهدفه أن يضحك بها الناس، من طلب منك أن تُضحِك الناس بما حرَّم الله؟ وهل أنت ملزم بهذا؟ وماذا ينفعك هذا المجلس عند الله سبحانه يوم القيامة؟ إذا رأيت في الصحيفة: فلان تكلمت عليه، وفلان وقعت في عرضه، وفلان سببته، وفلان اغتبته ما الذي سينفعك عند الله إن جئت بهذه الأعمال؟ فكر، فالمسألة خطيرة! ولهذا لما قال معاذ للنبي صلى الله عليه وسلم: (وهل نحن مؤاخذون بما نتكلم به يا رسول الله؟) أي: الخمر نؤاخذ عليه، والزنا نؤاخذ عليه، والقتل نؤاخذ عليه، هذه الأعمال علمنا أنها فواحش ومنكرات وكبائر، لكن اللسان، الذي يستهين به أكثر الناس، حتى اللسان؟ بعض المرات نمزح، نقضي المجلس، نُضحِك الناس، ولا نقصد شيئاً: (أوَنحن مؤاخذون بما نتكلم به يا رسول الله؟! قال: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم) ما الذي يدخل الناس النار أيها الإخوة؟! إنه اللسان، فانظر إلى خطورته. ويقول الله تعالى في وصف عباده: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} [الفرقان:72] اللغو: هو الكلام الذي لا ينفع، فما بالكم بالكلام الذي يضر! إن من أخطر الكلمات التي يطلقها الإنسان شهادة الزور. وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الكبائر، فلما جاء إلى شهادة الزور قال الراوي: (وكان متكئاً فجلس -وقد تغير وجهه- فقال: ألا وشهادة الزور، ألا وشهادة الزور، ألا وشهادة والزور) يقول الحسن رحمه الله: [من كثر كلامه كثر كذبه] فالذي يكثر من الكلام في كل مجلس لغير فائدة، يكثر كذبه. والشافعي عليه رحمة الله كان لا يتكلم إلا فيما ينفع، حتى إنه إذا تكلم لم يكن يرفع صوته، يقول ابن بنت الشافعي: ما سمعت أبي ناظر أحداً يوماً فرفع صوته. حتى رفع الصوت! يقول: ما رأيته يوماً يرفع صوته، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً، وأنا زعيم ببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً) كل واحد منا يحفظ الحديث، لكن من يريد منا هذا البيت في الجنة؟ وكم من الناس من يكذب ليضحك به الناس، وهو لا يشعر أنها كذبة وقد سجلت عليه.

ضرورة انشغال اللسان بما ينفع

ضرورة انشغال اللسان بما ينفع أخي العزيز: ما الذي تشغل به لسانك؟ اشغله بذكر الله، اشغله بطاعة الله، بالتسبيح، بالتحميد، بالتهليل، بالاستغفار لقد كان النبي عليه الصلاة والسلام في المجلس الواحد يستغفر الله سبعين مرة، فهل استغفرنا مرة واحدة في المجلس؟! كم ضيعنا من الأجور والحسنات ونحن نجلس نتحدث في المجالس ولا ندري ما الذي نتفوه به، يقول عليه الصلاة والسلام: (من قال: سبحان الله العظيم وبحمده غرست له نخلة في الجنة) وليس في الجنة شجرة إلا ساقها من ذهب، فهل جربت هذا؟ لن تأخذ منك إلا ثانيتين أو ثلاث ثوان، ولو أردنا أن نزرع نخلة كم ستأخذ منَّا؟ ستظل شهوراً حتى تثمر، وربما لا تثمر، لكن في خلال ثلاث ثوانٍ تحصل على نخلة في الجنة ساقها من ذهب هل جربت في المجلس أن تقول: سبحان الله وبحمده مائة مرة، ولن تأخذ من وقتك خمس دقائق، وما الذي يحصل؟ (من قال: سبحان الله وبحمده مائة مرة حطت عنه خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر) والله يقول: {إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:114] فاشغل لسانك بالخير، وقد تقول: لقد تكلمت بالخير، وبالصالحات، وسألت عن أحوال المسلمين، وتكلمت عن شجونهم، وتكلمت عن مآسي المسلمين، شغلت لساني بهذا وانقطع الخير، فماذا أصنع؟ أقول لك ما قاله عليه الصلاة والسلام: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) وقال عليه الصلاة والسلام لأحدهم لما قال: لا أستطيع، قال: (إن لم تطق ذلك فكف لسانك إلا عن خير). أسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعني وإياكم بما ذكرت، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وجزاكم الله خيراً على حسن استماعكم.

إن أكرمكم عند الله أتقاكم

إن أكرمكم عند الله أتقاكم ميزان التفاضل بين الناس إنما هو التقوى، وفي هذه الخطبة بين الشيخ خطر الافتخار بالأنساب، ووضح أن ذلك من أمور الجاهلية، كما ذكر عقوبة من يفتخر بأنسابه الفجار أو الكفار، وأن النسب لا يغني يوم القيامة عن الفاجر شيئاً.

الافتخار بالأنساب من أمور الجاهلية

الافتخار بالأنساب من أمور الجاهلية إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المسلمون: معنا في هذه الخطبة داء عظيم وشر عريض انتشر في صفوف كثير من المسلمين، بل في بعض أصحاب الدين، وهذا الشر وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه، وهو شر عظيم، إن مات عليه الإنسان فقد مات على الجاهلية، وهذا الشر -أيها الإخوة الكرام- حذَّر الله جل وعلا منه ورسوله عليه الصلاة والسلام، فاسمع وانظر إلى واقعنا وواقعك قبل هذا، هل أنت تقع في هذا الشر أو أصابك هذا البلاء؟ إن كان ذلك فاستعذ بالله منه ثم تخلص منه، فإنك إن لقيت الله جل وعلا به فقد لقيته بشر عظيم. هذا الشر الذي حطمه الله جل وعلا في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13]. قالوا: يا رسول الله من أكرم الناس؟ قال: (أكرم الناس عند الله أتقاهم، قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: أكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: تسألوني عن معادن العرب؟ قالوا: نعم. قال: خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا) هذا هو ميزان الله جل علا، وهذا هو المقياس عند الله، أكرم الناس وأشرفهم وأعلاهم وأعظمهم هو أتقاهم لله جل علا. ومن عقيدة لا إله إلا الله أنك تحب في الله وتبغض في الله جل علا، ولن يصل الإنسان إلى أعلى مقامات الإيمان إلا بهذا، أن يحب لله ويبغض لله، أن يحب فلاناً الذي خالفه في اللون والأصل والجنس وخالفه في البلد لله جل وعلا، ويبغض فلاناً ولو كان من أمه وأبيه؛ لأن الله عز وجل يبغضه ولا يحبه.

التحذير من الافتخار بالآباء والأجداد

التحذير من الافتخار بالآباء والأجداد واسمع إلى النبي صلى الله عليه وسلم عندما رأى العصبية الجاهلية في بعض أصحابه، حيث إن منهم من كان يتعصب لقبيلة، ومنهم من كان يتعصب لأصل، ومنهم من كان يتعصب لبلد، رأى هذا في أصحابه صلى الله عليه وسلم فقال: (إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية -أي: فخر الجاهلية أو عيب الجاهلية- وفخرها بالآباء، الناس من آدم، وآدم من تراب) أي: إذا أردت أن تفتخر بالأصل فافتخر بما تطأه تحت رجلك، فتفخر أن أصلك من تراب، هذا الذي يهيله الناس ويطئونه بأقدامهم افتخر به؛ لأن هذا هو الأصل الذي نرجع إليه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الناس بنو آدم، وآدم من تراب، إنما هو مؤمن تقي وفاجر شقي) مقياس الناس مؤمن تقي فهذا هو الكريم، وفاجر شقي فهذا هو اللئيم، قال: (لينتهين أقوام عن فخرهم برجال إنما هم فحم من فحم جهنم) أي: كفوا عن هذا؛ لأن بعض الناس إذا افتخر يفتخر بفلان الذي يرجع أصله إليه، فإن جئت لترى سيرته تجده فاجراً أو فاسقاً أو غير مشهود له بصلاح ولا بعلم ولا جهاد.

عقوبة من يفتخر بنسبه وهم عصاة

عقوبة من يفتخر بنسبه وهم عصاة إذاً: تفتخر بماذا يا عبد الله؟ قال: (إنما هم فحم من فحم جهنم) ثم اسمع إلى عقوبة أولئك الذين يفتخرون بأولئك الرجال قال: (أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع النتن بأنفها) أرأيت تلك الحشرات التي تمشي على الأرض تدفع النتن بأشرف شيء في جسدها ألا وهو الأنف، قال: إذا افتخروا بأولئك الرجال يكونون عند الله أهون من هذه الجعلان؛ لأن المؤمن إذا افتخر فإنما يفتخر بعمله الصالح، وإن فرح فإنما يفرح بنسبه إلى الله جل علا، وهو التقوى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:101] يأتي الناس يوم القيامة ويأتي من كان يفتخر ويعجب ويعظم نفسه على الناس؛ لأنه من قبيلة كذا، يأتي يوم القيامة فيقول الله لهم: (رفعتم أنسابكم ووضعتم نسبي). نعم يا عباد الله! رفعنا أنسابنا ووضعنا نسب الله -إلا من رحم الله- فتجد الواحد منا يحقر فلاناً مع أنه يحفظ القرآن الكريم كاملاً أو من الذين يصلون الفجر، أو ممن يطيع الله جل علا، يحقره لأنه من بلد كذا أو من لون كذا، ونعظم ونشرف فلاناً ولعله يجاهر بالمعصية، بل لعله فاسق فاجر، نعظمه لأنه من أنسابنا قال: (رفعتم أنسابكم ووضعتم نسبي -هذا يوم القيامة- فاليوم أرفع نسبي وأضع أنسابكم). {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:101] فيخرج المجرم الأثيم في ذلك اليوم فيقول: رب أحرق قبيلتي وعشيرتي كلها في النار وأنقذني منها يا رب! فيرد الله جل وعلا عليه: {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ * وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ * كَلَّا إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى * تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى * وَجَمَعَ فَأَوْعَى} [المعارج:11 - 18].

انقطاع الأنساب يوم القيامة

انقطاع الأنساب يوم القيامة كلا يا فلان: كلا أيها المجرم! يا من رفعت نسبك في الدنيا ووضعت نسب الله جل وعلا! اليوم لا تنفعك القبيلة ولا تنفعك العشيرة. هذا نوح عليه السلام ماذا استفاد ابنه منه، أبوه كان أول رسول على وجه الأرض لكن هل انتفع بهذا النسب أم نفعه ذلك الأصل؟ كلا. عندما شفع له نوح عليه السلام قال الله جل علا: {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود:46] فلا ينفعك الأصل ولا النسب عند الله جل وعلا. وهذا عليه الصلاة والسلام، اصطفاه الله جل علا من خير الأقوام ومن خير العشائر، بل كان من أفضل قبيلة على وجه الأرض، وكان في هذه القبيلة من أفضل فخذ وعائلة، نسب قد استله الله عز وجل من شريف ثم من شريف ثم من شريف حتى خرج أفضل الخلق عليه الصلاة والسلام، فلما خرج في الناس جمع قبيلته وعشيرته الشريفة التي خرج منهم أفضل الناس عليه الصلاة والسلام فقال: (يا معشر قريش!) خير القبائل في ميزان الناس: (يا معشر قريش! اشتروا أنفسكم من الله لا أغني عنكم من الله شيئاً -لا تنفعكم القرابة ولا ينفعكم النسب ولا ينفعكم أنني من قبيلتكم ومن عشيرتكم- اشتروا أنفسكم من الله لا أغني عنكم من الله شيئاً) ثم اقترب من أصله: (يا بني عبد مناف! -هذا هو الفخذ الذي ينتسب إليه قال:- اشتروا أنفسكم من الله لا أغني عنكم من الله شيئاً) لا ينفع الأصل ولا النسب ثم جاء إلى عمه: (يا عباس بن عبد المطلب! لن أغني عنك من الله شيئاً، يا صفية عمة رسول الله! لن أغني عنك من الله شيئاً، يا فاطمة بنت محمد! سليني من مالي ما شئتِ لن أغني عنك من الله شيئاً) ولو جاءت فاطمة يوم القيامة فقال لها الله: ماذا فعلت يا فاطمة؟ فقالت: إن أبي محمداً عليه الصلاة والسلام، فإنه لن يغنيها من الله شيئاً. عباد الله: إن هذه المسألة خطيرة، وإن هذا الأمر لجلل، وإن كثيراً ممن يزعم لا إله إلا الله ويسجد لله جل وعلا قد رسب في هذا الاختبار، اختبار التقوى واختبار محبة الله جل وعلا، أن نحب من يحب الله وأن نبغض من يبغض الله، ولو كان أقرب الناس إلينا، بل ولو كان أخاك من أمك وأبيك، إذا كان لا يُعرف بصلاة ولا بذكر ولا بعبادة لله جل وعلا، فإننا نبغض من أبغض الله جل وعلا وهكذا كما قال بعضهم كن ابن من شئت واكتسب أدباً يغنيك محموده عن النسب إن الفتى من يقول هأنذا ليس الفتى من يقول كان أبي

من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه

من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه ولو قلت -يا عبد الله- أنا أرجع في أصلي إلى فلان بن فلان، وماذا يا عبد الله؟ أنت تقاس بعملك الصالح وتقاس بصلوات الفجر وتقاس بذكرك لله، ومدى قراءتك للقرآن وتطبيقك لشرع الله، أما نسبك فلن ينفعك عند الله شيئاً، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه) من بطأ به عمله، قصر في الطاعات والواجبات لم يسرع به نسبه عند الله ولن ينفعه نسبه. وإذا وضع الصراط على النار يوم القيامة جاء الناس يمشون، فهذا يمشي كسرعة الريح وذلك كالجواد، وهذا يركض وهذا يمشي، وهذا يزحف وهذا يتلبط على بطنه فيقول: يا رب يا رب لمَ بطأت بي؟ فيرد الله جل وعلا عليه يوم القيامة فيقول: (إني لم أبطئ بك يا فلان، إنما بطأ بك عملك) لقد تخلفت عن الصلوات، لقد تخلفت عن قراءة القرآن، إنك لم تُحسن العمل معي، في الدنيا تأخرت عن الطاعات، وهكذا يتلبط على بطنه على متن جهنم نعوذ بالله وإياكم منها. أقول هذا القول وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. أما بعد: جاء أبو ذر رضي الله عنه، ومن منا يعلو في عمله الصالح أبا ذر؟ ومن منا يستطيع أن يصل إلى مستوى أبي ذر رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ رأى أبو ذر رجلاً فقال له: [يا بن السوداء] وما يضر اللون وما ينفع؟ هذه هي حكمة الله جل وعلا أن جعل هذا أحمر وهذا أصفر وهذا أبيض وهذا أسود، نعمة من الله جل علا عليهم جميعاً، وجعل هذا من بلد كذا وهذا من بلد كذا، أم أنك اخترت أنك من بلد كذا قبل أن تولد؟ أم أنها بقدرتك وبشجاعتك وبذكائك اخترت أن تكون من لون كذا؟ أم أنك اخترت أباك وأمك يا فلان؟ كله بقدر الله جل وعلا قال أبو ذر: [يا بن السوداء] فسمع ذلك عليه الصلاة والسلام، ذلك النبي العظيم الذي أسس دولته على تقوى من الله جل علا، فلا فرق بين الناس إلا بالتقوى، فقال عليه الصلاة والسلام: (أعيرته بأمه يا أبا ذر؟ -فسكت- قال: أعيرته بأمه يا أبا ذر؟! إنك امرؤ فيك جاهلية) ولو كنت من العباد والزهاد، ولو كنت ممن تقوم الليل وتصوم النهار وتطعم المساكين، إنك امرؤ فيك جاهلية، نعم هي الجاهلية -ورب الكعبة- التي تجعل الإنسان يقيس الناس بألوانهم وبجنسياتهم وببلدانهم وبأصولهم فيحقر فلاناً، لأنه من أصل كذا أو من قبيلة كذا أو من بلد كذا: (أربع في أمتي لا يتركونهن من الجاهلية) والحديث صحيح، فإلى أن تقوم الساعة وهذه في أمة محمد ممن هم ضعاف الإيمان فدخلت الجاهلية في قلوبهم وانظر ماذا قدم قال: (الفخر بالأحساب). اجتمع الناس يفتخرون بأنسابهم، كل منهم بحسبه وبقبيلته وبأصله، وكان بينهم سلمان رضي الله عنه فهذا قال: أنا ابن كذا، وأنا ابن كذا فقيل: يا سلمان! انتسب، فقال رضي الله عنه: [لا أعرف لي أباً في الإسلام، ولكني سلمان ابن الإسلام] نعم وصدق الشاعر: دعي القوم ينصر مدعيه ويلحقه بذي الحسب الصميم أبي الإسلام لا أبَ لي سواه إن افتخروا بقيس أو تميم نعم افتخر بنسبك إلى كذا، أما أنا فأفتخر بنسبي إلى صلاة الفجر، أما أنا فأفتخر بنسبي إلى قراءة القرآن، أما أنا فأفتخر بنسبي إلى الدعوة إلى الله وإلى الجهاد في سبيل الله.

وقفة أخيرة مع الافتخار بالأنساب

وقفة أخيرة مع الافتخار بالأنساب بل -عبد الله- لو كان من أنسابك من هو مجاهد أو عالم أو عابد أو زاهد، فإنه لا يحل لك أن تفتخر به. ولسنا وإن كرمت أوائلنا يوماً على الأحساب نتكل نبني كما كانت أوائلنا تبني ونفعل مثلما فعلوا نعم يا عبد الله! لو كان أبوك صالحاً ومجاهداً وعالماً أينفعك هذا؟ إلا أن تتأسى به في دين الله جل وعلا، كيف بمن انتسب إلى غير هذا؟ عباد الله! ولا ينفع الأصل من هاشم إذا كانت النفس من باهلة نعم لا ينفع الأصل إذا كانت النفس خبيثة، وإذا كان الرجل يكذب، وكان ينظر إلى النساء، وكان غشاشاً، وكان يعادي دين الله جل وعلا، ويحارب الله جل وعلا، لا ينفعه الأصل ولو كان من هاشم ولو كان من أصل محمد صلى الله عليه وسلم، أسمعت بـ أبي لهب؟ ذلك الرجل النسيب من القبيلة العظيمة والعشيرة النسيبة، إنه أبو لهب: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} [المسد:1 - 5]. نعم يا عباد الله! لم ينفعه ماله ولا أصله ولا عشيرته ولا قبيلته، بل حكم الله عليه أنه في النار، ويلعنه المسلمون إلى قيام الساعة فيقول صغيرهم وكبيرهم: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1] ولو كان من أصل عظيم، ولو كان من جنس عظيم، هذا عمر رضي الله عنه يقول: [يا أيها الناس! لو كان سالم مولى أبي حذيفة -مولى أي: عبد من العبيد- حياً لجعلته خليفة على المسلمين]. دين الله لا يحابي أحداً ولا يجامل أحداً، وهذا أبو عبيدة رضي الله عنه يقوم في الناس فيقول: [يا أيها الناس! إني رجل من قريش أعظم القبائل وأشرف القبائل -لكن اسمع ماذا قال- ولا أعلم رجلاً يفضلني بتقوى -أحمر أو أسود أو من أي لون كان ومن أي جنس كان- إلا تمنيت أني في مسلاخه] تمنيت أنني هو. ولو كان من ذلك الأصل، أو ذلك اللون، أو ذلك الجنس، أو تلك القبيلة، نعم إنه قول الله جل علا الذي دخل قلوبهم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} [الحجرات:13] آدم وزوجه حواء: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ} [الحجرات:13] لمَ يا رب جعلتنا شعوبا وألواناً وقبائل؟ لمَ يا رب كل هذا؟ {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:13] وكأن الله عز وجل ينبه على هذا الأمر، أن من الناس من سوف يفتخر بقبيلته وبشعبه فقال الله: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13]. نعم أيها الإخوة! إنه دين الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، شاء من الناس من شاء، وأبى من الناس من أبى، ورضي من رضي، وسخط من سخط، فإنها عقيدة لا إله إلا الله وشريعة سيد المرسلين عليه الصلاة والسلام، الذي كبر في الصلاة فصلى خلفه سلمان من فارس، وصهيب من الروم، وأبو بكر من قريش، وبلال من الحبشة، كل منهم يستوي مع أخيه لا يتقدم أحد على أحد، ولا يتأخر أحد على أحد، إنها عقيدة الإسلام وكلمة لا إله إلا الله. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اللهم أعداءك أعداء الدين.

بلغوا عني ولو آية

بلغوا عني ولو آية تكلم الشيخ حفظه الله في هذه المحاضرة عن أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث إن الله سبحانه وتعالى قد رتب عليه الخيرية والصلاح والنجاح والنجاة والاجتماع لهذه الأمة المحمدية، وقد أصبحنا في عصر انتشر فيه الفساد وادلهمت الفتن، ولا يوجد آمر بمعروف أو ناه عن منكر؛ وكل هذا يرجع إلى أسباب أدت إلى الفتور عن الدعوة.

سبب خيرية هذه الأمة

سبب خيرية هذه الأمة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: يقول تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] أخرجت هذه الأمة للناس، ماذا تفعل؟ {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:110] بل أمر الله جل وعلا هذه الأمة كلها نساءً ورجالاً، شباباً وشيباً، قال الله جل وعلا: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} [آل عمران:104] أي: لتكونوا كلكم أمة، ما تفعل هذه الأمة؟ ماذا تصنع؟ تلعب؟ تلهو؟ تأكل؟ تشرب؟ تنام؟ تنكح؟ لا، {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:104]. الفتور في الدعوة: كان رجلاً داعية إلى الله جل وعلا، لا يرى منكراً إلا أنكره، وزجر عنه، يصدع بالحق لا يخاف في الله لومة لائم، يدخل في المجالس يذكرهم بالله، إذا ذهب إلى الصلاة ومر في الطريق على بشر قال لهم: الصلاة يا قوم، الصلاة، أذكركم الصلاة، كان إذا خرج من المسجد ورأى منكراً، لا يتركه إلا أنكره بيده إن استطاع، وإن لم يستطع فبلسانه، كان آمراً ناهياً داعياً إلى الله جل وعلا. ما الذي أصابه؟! أصابه الفتور، وبدأ يضعف، بدأ الآن يرى المنكرات فيولي، ويستطيع الكلام لكن لا يتكلم، يدخل في محل فيه الموسيقى والمعازف لا يتكلم، كان في السابق يقف عند الباب، أأطفأتم المعازف والموسيقى وإلا لا أدخل؟ أما اليوم تغير الحال، بدأ يدخل، لا يبالي سواءً أأُطْفِئت الموسيقى أم لَمْ تُطْفَأ، بل بدأ يتطور الأمر، بدأ يجلس مجلساً فيه المنكر، ويُعمَل فيه بالحرام، ويتكلم فيه بالإثم، وهو مبتسم، لا يبالي! ما الذي جرى؟! ما الذي حدث؟! أكثر من هذا: بدأ يتصور الأمر، بدأ يفعل هو المنكر، بدأ يقع فيه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة:71] أنت وليي وأنت أخي وأنت خليلي، لِمَ؟ لنأمر بالمعروف ولننهى عن المنكر! ولَمْ يَسْتَثْنِ الله جل وعلا النساء، قال: حتى النساء، المرأة في بني جنسها، المرأة في بيتها، المرأة بين قريباتها، داعية إلى الله جل وعلا. أسمعتَ بـ عائشة كيف حفظت لنا شيئاً كثيراً من ديننا؟! كانت تدعو إلى الله جل وعلا، وتُعلم الدين، وكم سمعنا في التاريخ من نساء، كن عالماتٍ، آمراتٍ بالمعروف، ناهياتٍ عن المنكر بين بنات جنسهن.

أسباب الفتور في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

أسباب الفتور في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أيها الأخ الكريم: الدعوة إلى الله قد يصيب صاحبها الفتور والضعف والخمول، ولهذا أسباب، سوف نتكلم عنها في هذا المجلس، فأعرني سمعك، وانتبه، ولا تقولن: إن الدعوة إلى الله وظيفة الإمام، أو وظيفة الشيخ، أو وظيفة لجنة من اللجان، أو هيئة خيرية، أو هذا عمل وزارة الأوقاف، أو العلماء والدعاة؟! كلا، كل مسلم هو داعية الله جل وعلا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بلغوا عني ولو آية). ألا تحفظ آية من كتاب الله؟! بلغها يا عبد الله، ألم تحفظ حديثاً من أحاديث رسول الله؟! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نضَّر الله امرءاً سمع مني مقالة فوعاها فبلغها، فرب مبلغ أوعى من سامع). هذا رجل في أقصى المدينة، سمع أن في آخر المدينة قوماً كفروا بالله، جاءهم رسول يأمرهم بالمعروف فما استجابوا، نهاهم عن المنكر فما انتهوا، بلغهم دعوة الله فما استجابوا له وكذبوه، هل جلس وقال: هم بعيدون عني؟! هل قال: يهلكوا إن هلكوا، وأنا الحمد لله نجوت بديني؟! ما قال هذه الكلمات، بل ركض على رجليه، ما مشى، أخذ يركض ويسعى ليبلغهم دين الله، قال الله عن هذا الرجل: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} [يس:20] من أبعد مكان في المدينة، بعض الناس تقول له: جارك لا يصلي، يقول: ما لي علاقة به. يا أخي: في المحل الذي بالقرب منك، هناك منكر يُباع، هلاَّ بلغت ولو مرة في حياتك، قال: أنا الحمد لله ما أبيع، ما لي علاقة بالناس: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} [يس:20] يركض على رجليه، أتعرفون ماذا قال؟! {قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس:20 - 21]. في النهاية بعد دعوته إلى الله، هل قالوا: جزاك الله خيراً، كما يُقال لنا اليوم؟! هل قالوا له: جزاك الله خيراً؛ لكن لا تعيد الكرَّة؟! لا. بل قتلوه؛ لأنه دعا إلى الله جل وعلا، جاء من آخر المدينة، يركض على رجليه، ينقذ الناس من النار، فكانت النتيجة والثواب: أنهم قتلوه. فبعثه الله جل وعلا: {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ} [يس:26] إلى الآن مشفق على قومه، قتلوك أيها الداعية! ذبحوك أيها المبشر المنذر! ومع هذا تشفق على قومك؟! نعم. إنها الرحمة على الناس: {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس:26 - 27]. لمَ يترك كثير من الناس الدعوة إلى الله؟ يدعو سنة أو سنتين ثم يترك الدعوة إلى الله، انظر واستمع إلى هذه الأسباب.

الدعوة لغير الله وترك الإخلاص

الدعوة لغير الله وترك الإخلاص السبب الأول يا عبد الله: بعض الناس يدعو لكن لغير الله، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، لكن لغير الله جل وعلا، يدعو لنفسه، يدعو لسمعة، يدعو لوجاهة؛ حتى يصل إلى منصب، حتى يقال في الناس: فلان ما شاء الله اهتدى على يديه عشرة، يتمنى هذه الكلمات، ما يريد وجه الله تبارك وتعالى. يريد أموالاً من الناس، يعلِّم القرآن، يدرِّس الناس، يهديهم إلى الله جل وعلا من أجل حفنة دنانير، لَمْ يدعُ إلى الله جل وعلا؛ ولكن دعا من أجل هذه الدنانير، وكانت الأنبياء تقول لأقوامها: {يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ} [هود:51]. إنما يتعثر وينقطع عن الدعوة من لم يخلص لله، هل حقاً كنت تدعو إلى الله؟ فما بالك اليوم جلست؟! هل الله تبارك وتعالى الذي كنت تدعو إليه في السابق غاب الآن؟ انظر لنوح عليه الصلاة والسلام، انظر للمخلص، تعرف كم ظل يدعو إلى الله تبارك وتعالى؟! ألف سنة إلا خمسين عاماً، كلها دعوة إلى الله جل وعلا: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً} [نوح:5] ما كان هناك دوام، في الليل أدعو وفي النهار ما أدعو، لا، كل حياته دعوة إلى الله، سواءً أكنتُ في العمل أو في البيت، أو في المسجد، أو في الشارع، أنا داعية إلى الله تبارك وتعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلَّا فِرَاراً * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} [نوح:5 - 7] هل جربتَ أن تدعو إنساناً فيضع أصبعيه في أُذنيه حتى لا يسمع؟ {جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ} [نوح:7] يضعوا الثياب على وجوههم حتى لا يسمعون نوحاً: {وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً} [نوح:7] انظروا! عنادٌ وعتوٌّ وفجور؛ لكن نوح كان يدعو لله، لا يدعو لأجل السمعة، لأجل المال والدنانير، لأجل المناصب، بل يدعو لله جل وعلا، بعد تسعمائة وخمسين سنة قال الله جل وعلا: يا نوح! انتهى الأمر: {لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود:36]. أغلقت أبواب التوبة، ما هناك أحد سيهتدي يا نوح. ونوح عليه السلام الآن يخاف على المؤمنين أن يضلوا، لأن باب الضلال لم يُقْفَل، فماذا قال نوح عليه السلام؟ قال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً} [نوح:26 - 27]. يخاف على قومه أنهم إذا ولدوا فسيولدون كفاراً، وإذا بقوا لعلهم يضلوا، اسمع -يا عبد الله- في آخر حياته لما قال الله له: فاركب على السفينة، أتعرفون ماذا قال الله؟ ما حصيلة تسعمائة وخمسين سنة من الدعوة؟ أمثل ما في هذا المسجد ثلاثمائة أو أربعمائة رجل؟! لا. قال الله جل وعلا بعد تسعمائة وخمسين سنة دعوة إلى الله: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:40] إنا لله وإنا إليه راجعون! تسعمائة وخمسون سنة؟! ما فَتَر، ما تَعِب، ما سئم، أتعرفون لِمَ؟ لأن الله يعلم أن الله خلقه لعبادته، والدعوة إلى الله من أشرف العبادة: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} [فصلت:33]. إذاً: أول أمر -يا عبد الله- الإخلاص. أنت تدعو لله أم للذين كفروا؟! لِمَ الآن تغيرت يا عبد الله؟! لِمَ كنتَ في السابق خطيباً داعياً واعظاًَ، أما اليوم نجدك في المقاهي تستمع إلى الأغاني، وتغتاب المسلمين، وتلعب بعض الألعاب المحرمة؟! ما الذي جرى؟! ما الذي حدث؟! كنت في السابق تجول وتصول، تصدع بالحق، أما اليوم على مدرجات الملاعب تصفق وتزمجر، ما الذي حدث؟! هل كنت تدعو إلى الله حقاً أم كنتَ تدعو لغيره؟!

الركون إلى الدنيا

الركون إلى الدنيا السبب الآخر الذي به يفتر الناس عن الدعوة -واستمع لهذه الأسباب، وابحث عن دائك، فإن بعض الناس لا يدري أصلاً، ولعل أحد هذه الأسباب أو أكثرها تقع عليك يا عبد الله- آفة النسيان: الركون إلى الدنيا:- همه قلبه حياته مماته لأجل الدنيا يعيش من أجلها يموت من أجلها لا يتمنى ولا يطلب غيرها قلبه منشغل بها واسمع إلى ما يقوله الرب جل وعلا: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} [هود:15] كان يوماً من الأيام يأمر بالمعروف، دخل في تجارة، وليست بحرام، ولكن انشغل عن الدعوة، بدأ في تجارته يتعامل بالربا، بدأ يسلف النساء، بدأ يعاقر الحرام، بدأ يتساهل في دين الله شيئاً فشيئاً: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16]. شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله يدخل على الملك، فيقول له الملك الطاغية: يا بن تيمية! سمعنا أنك تريد ملكنا، وملك آبائنا؟ أتعرفون ماذا قال ابن تيمية؟! كان آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر لا يخاف في الله لومة لائم، سُجن مرات عديدة، رُمي في بئر عاماً كاملاً، لا يرى الشمس فيه، يُنزل إليه الطعام بالحبل، يقضي حاجته في مكانه، عاماً كاملاً في السجن. استدعاه الملك فقال له: سمعنا أنك تريد ملكنا؟ انظروا إلى أهل الدنيا، يخافون من الدعاة إلى الله، يظنون أن الدعاة يريدون الحكم، يريدون الملك، يريدون المنصب، لا والله، الدعاة إلى الله جل وعلا ما يريدون شيئاً من الدنيا، فقال له شيخ الإسلام، وقد أخذ حفنة من تراب بيده، ثم قال له: والله ما ملكُك ولا ملك آبائك وأجدادك يساوي عندي حفنة من هذا التراب. انظر يا عبد الله إلى الدنيا في قلب شيخ الإسلام، مات ولم يتزوج، ليس رغبة عن الزواج، ولكنه لم يتفرغ للزواج، من سجن إلى آخر، من سجن إلى آخر، حتى توفي في سجن دمشق وقد ختم القرآن إحدى وثمانين مرة، حتى وصل في المرة الحادية والثمانين إلى قول الله جل وعلا: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:54 - 55] ثم خرجت روحه إلى بارئها، انظروا لمن تبرأ من الدنيا! لمن ترك الدنيا! كيف عوضه الله جل وعلا! لعله يحصل على مقعد صدق عند مليك مقتدر. صهيب الرومي: جاء فقيراً إلى مكة، فجمع المال، انظر -يا عبد الله- الفتنة، جمع المال، وكان ثرياً غنياً تاجراً معروفاً في قريش، فلما آمن وأراد الهجرة إلى المدينة، قال له صناديد قريش: جمعتَ أموالنا، وتريد أن تذهب بها؟! والله لا ندعَك، الآن لو يُقال لك: تريد أن تدعو إلى الله؟! تريد أن تنشر دين الله؟! اترك جميع أموالك، اترك هذا العمل، اترك المنصب الذي أنت فيه، اترك الدنيا وزينتها، هل تفعل؟! قال صهيب الرومي: [يا قوم! تريدون أموالي وتتركوني أهاجر بديني؟ قالوا: نعم، نريد أموالك، قال: اذهبوا إلى مكان كذا وكذا ففيه جميع أموالي وما جمعتُه] فذهبوا يأخذون أمواله فإذا بـ صهيب الرومي يهاجر، فلما أقبل إلى المدينة قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ربح البيع أبا يحيى! ربح البيع أبا يحيى!). {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر:5] إن المنافق إذا أمرته بعمل دعوي، أو شجعته لنشاط دعوي يحسب حسبته: هل هناك مصلحة مادية؟! هل هناك أموال من ورائها؟! هل هناك عَرَضٌ قريب، شهرة، منصب، أموال، فإذا لم يجد يتعذر بالأعذار: {لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لَاتَّبَعُوكَ} [التوبة:42] والله الذي لا إله غيره لو كانت الدعوة إلى الله جل وعلا فيها أموال، وفيها مناصب، وفيها كنوز لاتبع أكثر الناس سبيل الدعوة إلى الله جل وعلا، ولكن بالعكس، فيها تضحيات، فيها بذل من المال، فيها بذل من الوقت والنفس ولعلها الروح يا عبد الله!. ولهذا ما يتبعها إلا قليل، وإذا سألتهم يعتذرون بالتجارات، يعتذرون بالأعمال، يعتذرون بالأولاد، يعتذرون بالأهل، يقولون لك: {شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا} [الفتح:11] هذا عذرهم في السابق وهذا عذرهم في اللاحق. اسمع يا عبد الله إلى أبي بكر رضي الله عنه، لما علم أن الدعوة إلى الله تحتاج منه بعض المال، تحتاج الآن الدعوة إلى الله مالاً، وأنت فقير ما عندك شيء، أتعرف ماذا فعل أبو بكر رضي الله عنه؟! جاء بكل ماله، لم يفكر في غده، ولم يفكر في أولاده، وأهله، الإيمان إذا بلغ هذه المرتبة، لا يفكر الإنسان بحطام الدنيا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بكر! ماذا تركت لأهلك؟! قال: تركتُ لهم الله ورسوله) أسألك بالله، هل سمعت أن ابناً لـ أبي بكر أو بنتاً لـ أبي بكر مات جوعاً؟! لا يا عبد الله! {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6]. عبد الله: إذا كنت تخاف بعض الأحيان على منصب، أو رزق، أو أموال، أو تجارات تضيع، فاعلم -يا عبد الله- أن الرزق: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22] لا أقول لك: اجلس في المسجد، أو اترك العمل نهائياً، لا يا عبد الله! ولكن ادعُ إلى الله ولو كنت في العمل، ادعُ إلى الله ولو كنت في تجارة، ادع إلى الله جل وعلا ولو كنت تبيع وتشتري، كن داعياً إلى الله جل وعلا صباح مساء، في السر والعلن، في البيت وخارج البيت، كن داعياً إلى الله تبارك وتعالى.

عدم الصبر

عدم الصبر السبب الثالث: من الأسباب التي يترك بعض الناس بها الدعوة إلى الله: عدم الصبر:- فهو يترك الدعوة إلى الله جل وعلا، لسب أو شتم، أو قرار فصل، ولعلها إهانة، أُغلق الباب في وجهه، أو طُرد من البيت، قال: لن أتعب نفسي لأجل هذه المساجد، أجلس كما كنتُ في السابق، أعبد الله، وليس لي علاقة بأحد، ويتحدث بقول الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة:105]. اسمع يا عبد الله للسابقين كيف صبروا؟! وأضرب لك أمثلة للنساء قبل الرجال، لتعلم أيها الرجل! أن من النساء من صبرن على الدين، ومن الرجال من لم يصبر. انظر إلى هذه المرأة التي شم النبي صلى الله عليه وسلم رائحتها في السماء، رائحة طيبة، قال لجبريل: (ما هذه الرائحة الطيبة؟ قال: هذه رائحة ماشطة بنت فرعون) خادمة، وظيفتها تمشِّط شعر بنت فرعون، الذي كان يقول لقومه: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] أنا إلهكم، فاستحيا النساء، وذبح الأبناء، الدماء تسيل في الشوارع، بذنب وبغير ذنب، فرعون كان يقوم في الناس فيقول لهم: {يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ} [الزخرف:51] أدلة الربوبية عنده، أنه يملك مصر: {وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51] انظر السخافة: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} [الزخرف:54] حتى إنه قال لهم يوماً: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24] أعوذ بالله! وليس أي رب، بل قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24] كانت عندهم آلهة، لكن كان يقول: أنا الأعلى، أعوذ بالله: {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ} [النازعات:25] قوله: الأعلى: {وَالْأُولَى} [النازعات:25] قوله: ربكم. جاءت هذه الماشطة فآمنت بالله، خادمة عندها أولاد صغار رُضَّع، وكانت تقوم بتمشيط بنت فرعون، وفي يوم من الأيام، وكانت تكتم إيمانها، سقط المشط، فأخذت المشط، وقالت: باسم الله، فقالت البنت: مَن؟ أبي؟ قالت: بل ربي وربكِ ورب أبيكِ الله رب العالمين، طفح الإيمان، وانفجر الإيمان من القلب، لم تبالِ بقتل ولا بسفك دماء، ولا بغير هذا، لم ترفق بأولادها، قالت: بل ربي وربكِ ورب أبيكِ الله رب العالمين، فتهددتها وقالت: سأخبر أبي، قالت: أخبريه، فأُخْبِر فرعون، فاستدعيت الماشطة، إنا لله وإنا إليه راجعون! ثم سألها -وراءك أولاد، وراءك بيت يا عبد الله! وراءك أهل تنفق عليهم، هذه ليس وراءها رجل، وراءها أولاد صغار، جيء بالماشطة في قصر فرعون- قال لها فرعون: أَوَلَكِ ربٌ غيري؟! قالت والموت ينتظرها، والدماء تسيل في الشوارع، والأولاد خلفها قالت: نعم، ربي وربكَ الله رب العالمين. انظر إلى الداعية إلى الله، بدأت الآن تدعو فرعون إلى الله جل وعلا، فتقول: ليس ربي فقط بل ربي وربك، أي: ارجع إلى الله يا فرعون! امرأة خادمة ماشطة، قال: ما تقولين؟ قالت: أقول: ربي وربك الله ورب العالمين، أي: فافعل فما تريد، ما قتلها، بل جاء بأولادها الصغار، والأم تقتل نفسها ولا ترى أولادها يصيبهم شيء، فجيء بأولادها الصغار، الرضع يا عبد الله! وأحميت القدور. أحميت القدور، وجيء بولدها، وتخيل المنظر، الولد لما يُجَر، يلتفت لمن؟ لأمه، وتخيل المنظر، يظنه لا يبكي، نعم يبكي، المشهد يقتضي أنه يبكي، وأن يستنجد بأمه، وأن قلب الأم قد تفطر، وأن الموت أمامه، والجنود يسحبونه، ولعلهم يتضاحكون، وفرعون أمامها، وينتظر منها كلمة تنقذ أولادها، ولكنه الصبر، أُخذ الولد الأول، فيرمى في القدر وهو حي يصيح، ويحترق، وينفصل اللحم عن العظم، وهي تراه، حتى طفحت العظام وذابت اللحوم، والولد الآخر -والقصة حقيقية يا عبد الله- الولد الآخر هكذا، والأطفال ينظرون إلى إخوانهم، والولد الثالث، حتى فني أولادها جميعاً، ما بقيت إلا العظام، جيء بها الآن تُجر إلى ذلك القدر، فقالت لفرعون والتفتت: لي إليك حاجة، فرح فرعون، ظن أنها سوف ترجع عن دينها، قال: ما تريدين؟ قالت: أسألك: أنك إن أحرقتني أن تجمع عظامي وعظام أولادي في كفن واحد، وتدفننا جميعاً، عجب فرعون وقال: ذلك لك من الحق علينا، فإذا بها ترمى في القدر وتحرق معهم. {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2] * {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [العنكبوت:3] لا تظن -يا عبد الله- أن هذا الدين هكذا، الحمد لله نصلي في المسجد ونرجع، ولا شيء، أتعرف لِمَ؟ لأنه يُبتلى المرء على قدر دينه، فإن كان في دينه قوة وزيادة اشتد عليه البلاء، وأشد الناس بلاءً الأنبياء. فهذا زكريا تبعه قومه ليقتلوه، تخيل، نبي يدعو إلى الله، ليتهم طردوه من بيته بل تبعوه ليقتلوه، زكريا -يا عبد الله- الذي ما كان بدعاء ربه شقياً، لو رفع يديه لأهلك الله قومه، تبعوه فدخل في الغابة، وهم يركضون خلفه، والشيطان معهم، حتى فتح الله له شجرة، فدخل فيها، وأغلق الله الشجرة عليه، ولكن بقي شيءٌ من ثيابه خارج الشجرة، فجاء الشيطان يدل الناس على مكانه، فقال: هذا مكان زكريا، دخل في الشجرة وهو حي، فإذا بقومه يأتون بالمنشار، لينشروا زكريا، فإذا به لما بدأ المنشار ينشره يئنُّ من الألم، فقال الله: وعزتي وجلالي لئن لم يسكن أنينك لأقلبن الأرض عليهم، فسكت زكريا، وتحمل العذاب، حتى لا يهلك الله قومه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200]. الواحد منا يدعو سنة أو سنتين قال: مللتُ، ماذا يا عبد الله؟! أنت داعية إلى الله جل وعلا حتى تخرج روحك من جسدك، ادعُ إلى الله في السوق، ادعُ إلى الله في الشارع، بعض الناس للأسف إذا أُغلق الباب في وجهه ترك الدعوة إلى الله جل وعلا، وإذا بصق في وجهه قال: بطَّلنا الدعوة إلى الله، هذا محمد عليه الصلاة والسلام يسجد عند الكعبة، فإذا بـ أبي جهل يقول لقومه: [من يذهب إلى سلى جزور بني فلان، فيرميه على ظهر محمد؟] عليه الصلاة والسلام، فيقوم أشقى القوم إلى سلى جزور بني فلان فيأتي به فيرميه على ظهره عليه الصلاة والسلام، قذارة، ونجاسة البعير، يرميها كلها على ظهره عليه الصلاة والسلام، ولم يستطع أن يرفع رأسه عليه الصلاة والسلام، ولم يستطع أحد من الصحابة أن يتحرك، كل منهم قد كتم إيمانه، وآمن سراً، فإذا بـ فاطمة وكانت بنتاً صغيرة جويرية تركض ركضاً إلى أبيها، وهي تبكي، حتى جاءت إليه تزيح الدم وسلى الجزور عن ظهره عليه الصلاة والسلام. أناس يُضربون بالسياط، أناس يُحمى الحديد فيطفأ في ظهورهم، أناس يوضعون على الجمر، فينسلخ الجلد عن اللحم، عمار يقف وأمه أمامه تضرب وتجلد، ويمر عليه الصلاة والسلام عليهم فيقول: (صبراً آل ياسر -ما عنده شيء، ما عنده جنود، ما عنده جيش- فإن موعدكم الجنة) تريدون الجنة؟ هذا طريقها، جنة بغير بلاء ومكاره، ليست هناك جنة: (حفت الجنة بالمكاره) فإذا بـ عمار ينظر إلى أمه فيقوم أبو جهل الطاغية فرعون هذه الأمة، فيأخذ حربة بيده، فيطعن أم عمار في فرجها، فيسيل الدم، وهي تصيح حتى تموت، من ينظر إليها؟ عمار يا عبد الله، ابنها الصغير، ينظر إلى أمه تعذب هذا العذاب، لكنه صبر في سبيل دين الله جل وعلا. خباب قال: (يا رسول الله! ألا تدعو لنا؟! ألا تستنصر لنا؟!) جاع الصحابة ثلاثين يوماً، ليس عندهم طعام ولا شراب، أطفالهم يصيحون من الجوع، والمشركون يأكلون اللحوم والأطعمة، حتى يقول عليه الصلاة والسلام: (ليس لي ولـ بلال طعام إلا ما يواريه بلال تحت إبطه) يخفي الطعام بلال تحت إبطه حتى يأكله عليه الصلاة والسلام، أكلوا ورق الشجر، ونحن للأسف لأجل وجبة غداء تركنا الدعوة إلى الله، لأجل وجبة عشاء نترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأجل بطوننا، لأجل فروجنا، إلا من رحم الله جل وعلا، فيأتي خباب فيقول: (ألا تدعو لنا؟! -ماذا يريد خباب؟ يريد دعوة إلى الله، أتعرف ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم؟ - قام مغضباً وقد تغير لون وجهه فقال: يا خباب! إنه كان فيمن كان قبلكم، يؤتى بالرجل -انتبه! - فتحفر له الحفرة -وتخيَّل! - فيوضع فيها، ويؤتى بالمنشار فيوضع على مفرق رأسه -فيفرق فرقتين، ليس هناك مخدر، تخيل المنشار على رأسك، ويبدأ ينشر الرأس، ولا تموت إلا بعد ملل، إنا لله! لِمَ كل هذا؟ - قال: ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه -يفصل اللحم عن العظم وهو حي- قال: لا يرده ذلك عن دينه لكنكم قوم تستعجلون). انظر يا عبد الله! إلى هذا العالم الداعية، دعا إلى الله جل وعلا في بلده، وأطلق فتوى تعارض الطاغية في بلده في ذلك الحين، وسمع الملك الطاغية أن عالماً في بلده أصدر فتوى تعارض سياسته، فاستدعاه في القصر، وكان طاغية جباراً ظالماً، يسفك الدماء، فاستدعى ذلك الرجل العالم الداعية، فقال له: سمعنا أنك أفتيت فتوى، قال: وما هي؟ قال: سمعنا أنك تقول: لو كان عندك عشرة أسهم لرميت النصارى بتسعة، ورميتنا بسهم واحد، هل قلت هذا؟ لو قال: نعم، يقتل الآن. فقال هذا العالم الداعية: لا والله ما قلت هذه الفتوى، ففرح الطاغية، وقال: إذاً ماذا قلتَ؟ قال: قلتُ: لو كان عندي عشرة أسهم لرميت النصارى بسهم واحد، ورميتكم بتسعة. صححِّ الفتوى، أنتم تسعة أسهم، والنصارى واحد، فقال: ماذا تقول؟ قال: أقول ما تسمع. فما قتله الملك، بل صلبه بين الناس، وقال ليهودي -أشد الناس عداوة-: اسلخ جلده من رجليه إلى رأسه، ولا تقتله. اسلخ الجلد وهو حي، فجاء أمام الناس والناس ينظرون. للأسف ينظرون إلى هذا العالم يُضرب، وهذا يُقتل، وهذا يُسجن، وهذا يُبعد، وهذا يُضيق عليه، والناس يتفرجون، كل منهم يخاف على أولاده، وعلى ماله، وعلى نفسه، إلا من رحم الله، فإذا بهذا اليهودي يسلخه من رجليه، تخيل الآن المنظر، يسلخ الجلد وهذا العالم الداعية يقول: {حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة:129] ويرددها: {حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة:129] وإذا به يسلخه حتى وصل إلى صدره، وهو يردد هذا الذكر، فتأخذ اليهودي رأفة؛ فيطعنه بالخنجر في قلبه، حتى مات: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2]. وهذه امرأة تحمل رضيعاً بيدها، وأمامها أخدود مليء بالنيران، يقال لها: ترجعي عن دينك أو ترمي بنفسك والرضيع في النار؟ قالت: أرمي بنفسي، فلما أرادت أن ترمي نفسها، ترددت، وقالت: ما ذنب هذا الرضيع؟! أنا أحرق نفسي لله، لا بأس، روحي فداء لدين الله، لكن هذا الرضيع ما ذنبه؟! ما جريمته؟! لِمَ أحرقه بهذه النيران؟! فإذا بها تتردد وتتقاعس، فينطق الله الرضيع في المهد فيقول: يا أماه! اثبتي فإنك على الحق. فترمي بنفسها ورضيعها في النار: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} [البروج:4 - 7]. لم كل هذا؟! {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8]. لا تقل يا عبد الله: أنا ما أُبتلى! أقول: يبتلى المرء على قدر دينه.

ضعف الإيمان

ضعف الإيمان السبب الرابع: من أسباب ترك الدعوة إلى الله جل وعلا: ضعف الإيمان: فلان يدعو إلى الله ثلاث سنوات، ثم يترك الدعوة! ما السبب؟! ضعُف الإيمان، فتَر، بدأ يرتكب بعض الذنوب والمعاصي. فتش في نفسك يا عبد الله، لِمَ كنت في السابق إذا رأيتَ منكراً انقبض الصدر، تضجرت، خرجت من هذا المجلس، ما تتحمل منكراً في الأرض؟! أما اليوم تنظر إلى التلفاز صباح مساء، الأفلام العارية الداعرة، المجلات القذرة تقرؤها صباح مساء، ما الذي جرى؟! إنها الذنوب والمعاصي. أتذكر يا عبد الله تلك النظرات؟! أتذكر تلك المسلسلات؟! أتذكر تلك الأشرطة؟! أتذكر تلك الليالي الحمراء؟! أتذكر عندما كنت تغلق الباب على نفسك وتفعل ما تفعل؟! هذا الذي ثبطك عن الدعوة إلى الله! {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة:46]. ولهذا يا عبد الله إن الدعوة إلى الله متناسبة مع الإيمان، كلما ارتفع الإيمان ازدادت الدعوة إلى الله، وكلما ضعف الإيمان قلت الدعوة إلى الله. واسمع إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده) الواجب الأول باليد، إذا رأيت تلفازاً والأهل ينظرون فأغلق التلفاز في بيتك، أنت صاحب البيت ورب الأسرة، تستطيع أن تمنع المنكر فامنع بيدك، أنت مدير في مؤسسة، أنت مسئول في مكان، أنت صاحب المحل، أنت صاحب السلطة، أنكر المنكر بيدك، إلا إذا رتب منكراً أكبر من هذا، فهنا يحرم الإنكار. قال: (فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه) يا عبد الله! ما الذي يمنعك من اللسان؟! {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر:94] اصدع يا عبد الله، هل تخاف في الله لومة لائم؟! هل تخاف كلام الناس؟! هل تتثبط لاستهزاء المستهزئين؟! اصدع بما تؤمر. ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن لم يستطع -الدرجة الثالثة- فليغيره بقلبه). كيف يغير بالقلب؟! قالوا: يخرج من المجلس، يتضايق، يغادر هذا المكان، يبين لمن حوله: أنني صحيح لم أستطع أن أتكلم؛ لكن لتعلموا أنني لا أرضى بهذا المنكر، أخرج من هذا المكان. ثم قال صلى الله عليه وسلم: (وذلك أضعف الإيمان) أضعف الإيمان، يعني: أقوى الإيمان الإنكار باليد، ثم اللسان، وقد يتفاوت، فأحياناً يكون الإنكار باللسان خير من اليد. عبد الله: الإيمان يتناسب مع تغيير المنكر، مع الأمر بالمعروف، مع الدعوة إلى الله، ولهذا قال الله جل وعلا: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِوَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} الإيمان بالله جل وعلا. تذكر ذنوباً، تذكر معاصٍ كنت تفعلها يا عبد الله صدتك عن طريق الدعوة إلى الله جل وعلا.

عدم التوكل على الله سبحانه

عدم التوكل على الله سبحانه السبب الخامس: وهو يمنع كثيراً من الناس عن الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، ويصيبهم بالضعف والفتور وهو: عدم التوكل على الله:- يعتمد على أسبابه، يظن أنه إذا دعا اهتدى الناس! لا يا عبد الله! الأمر كله معلق بالله جل وعلا، أسمعت بمؤمن آل فرعون؟! فرعون كان في قصره مؤمن، كتم إيمانه، وخاف، لكن لما اجتمع فرعون والحاشية وكان هو موجوداً، واتفقوا على قتل موسى، هذا الرجل ما استطاع كتمان الإيمان، فأظهر إيمانه وقال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [غافر:28] أتفعلون هذا الفعل في رجل يدعو إلى الله جل وعلا؟! أتسجنون هذا الرجل؟! ما جريمته؟! ألأنه دعا إلى الله جل وعلا تطردونه، وتضربونه، وتقتلونه، وتستهزئون به؟! هذا المؤمن الداعية إلى الله جل وعلا ما تحمل وقال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} [غافر:28]. وأخذ يجادلهم، وأخذ يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ويناقشهم، ويقنعهم بالدعوة إلى الله، وبصحة هذا الدين، وفي النهاية ماذا قال؟ {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44] قال: ستذكرون هذا الكلام، وأنا أفوض أمري إلى الله، ومتوكل على الله جل وعلا، أنا فقط عليَّ البلاغ، ومتوكل على الله. قبل قليل قال لهم: {فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} [غافر:29]. عباد الله: يقع زلزال في خمس ثوانٍ فيدمر جميع البيوت، هذا جندي من جنود الله، فهذه ريح أرسلها الله على قوم عاد سبع ليالٍ وثمانية أيام دمَّر الله القرية كلها، حتى إنه كانت الريح تأخذ الواحد منهم إلى أعلى السماء ثم تطرحه على الأرض فينفصل الرأس عن الجسد. العجوز كانت تختبئ في البيت من شدة البرد، ريحٌ صرصر بارد، تجلس في البيت فتغلق الباب على نفسها، وتشعل النار، فتموت من البرد وهي في بيتها. وسمعتم بذلك الرجل، الذي قتل، وقد قدمنا قصته أول المحاضرة، هل أرسل الله عزَّ وجلَّ جيشاً؟! هل أرسل الله ملائكة؟! هل أرسل الله عزَّ وجلَّ عباداً له؟! لا يا عباد الله! انظر ماذا قال الله عزَّ وجلَّ: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ} [يس:28] ما أنزل الله ملائكة. ماذا فعل الله؟! {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} [يس:29] صيحة واحدة، جندي من جنود الله جل وعلا: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31]. توكل على الله، وفوض أمرك إلى الله جل وعلا، وإياك إياك أن تعتمد على حساب الماديات، تعتمد على حولك وقوتك ونشاطك وذكائك! لا يا عبد الله. انظر إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام، رمي في النار بالمنجنيق، شهر كامل يجمعون الحطب لحرق إبراهيم، فلما جمعوا الحطب وأشعلوا النار، يمر الطير من فوق النار فيسقط من حرارتها، إبراهيم ما استطاعوا أن يأتوا إلى النار فيقذفوه فيها، بل رموه بالمنجنيق، فلما كان في الهواء جاءه جبريل في اللحظة الأخيرة، قال: ألك إليَّ حاجة؟ -جبريل ينقذه الآن- فقال إبراهيم: أما إليك فلا، وأما إلى الله فنعم: حسبي الله ونعم الوكيل، فلما سقط في النار، قال الله جل وعلا: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} [الأنبياء:69 - 70]. توكل على الله أيها الداعية، لا تقل: أنا بقوتي وبنشاطي وبعملي سوف أكره الناس جميعاًَ! لا يا عبد الله! {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس:99] ما تستطيع يا عبد الله! إذاً توكل على الله تبارك وتعالى.

شدة الخلاف والنزاع بين الدعاة

شدة الخلاف والنزاع بين الدعاة السبب السادس: عبد الله، من أسباب الفتور في الدعوة -واستمع لهذا السبب وانتبه له-: كثرة الخلاف، وانتشار الشقاق والنزاع، هذا يسب هذا، وهذا يشتم هذا، وهذا يطعن في هذا، وهذا يغتاب هذا، حتى صار بعض الدعاة والخطباء الواعظين الآمرين بالمعروف والنهاة عن المنكر يحتاجون إلى من يدعوهم إلى الله تبارك وتعالى! ما السبب؟! دخل في هذه المتاهات، بدأ يختلف مع إخوانه، وهل كلما اختلفنا افترقنا يا عباد الله؟! نحن المسلمون للأسف كما قال صلى الله عليه وسلم: جعل الله بأسنا بيننا، بأس هذه الأمة بينها، كلما اختلف رجل مع أخيه تفرقا وتهاجرا، حتى قال شيخ الإسلام: إن كان هذا الأمر صحيحاً ما بقي أخَوان. عباد الله: نحن نتفق في أصول الإسلام، نتفق في أصول أهل السنة والجماعة، وماذا بعد هذا؟ {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:10]. هذه الحادثة والله لو حدثت في زماننا ولم تحدث قبلنا، لرأيت النزاع والشقاق، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة) ففهم بعض الصحابة أنه حتى ولو فات وقت العصر فلن يصلوا العصر إلا في بني قريظة، وبعض الصحابة فهم أمراً آخر قالوا: لا يقصد النبي صلى الله عليه وسلم إلا الاستعجال، فلما حان وقت الصلاة صلوا في الطريق. اختلفوا يا عباد الله! هل سمعت أن الصحابة تقاتلوا وافترقوا لأجل هذه المسألة؟ لا. يا عبد الله: الصدور أوسع مما تظن، والحمد لله هذا الدين يسع كثيراً من الخلاف، ولهذا رأينا الشافعي يخالف الإمام أحمد، ومالك يخالف أبا حنيفة، هل سب أحد منهم الآخر؟! هل شتمه؟! هل حذر منه؟! هل نفر الناس عنه؟! هل حذر من التتلمذ والدراسة عليه؟! لا يا عباد الله. أتعرف لماذا؟ لأن عندهم قاعدة: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10] نحن والحمد لله ندخل تحت لواء أهل السنة والجماعة، فليعذر بعضُنا بعضاً. نعم، نتناصح، نتناقش، نتجادل، وسألتُ بعض الناس سؤالاً، قلتُ لهم يوماً: لو رأينا رجلاً شيخاً وقوراً صاحب دين وصدق، أكل لحم جزور، ونحن نعلم أن لحم البعير ينقض الوضوء، وبعد أن أكل لحم البعير قام ليصلي بنا، فقام بعض الناس يقول له: يا شيخ! لحم البعير ينقض الوضوء، وهذا هو القول الصحيح، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم حينما سئل: (أنتوضأ من لحم الجزور؟ قال: نعم) فقال الشيخ: لا، لحم البعير لا ينقض الوضوء. فقلنا له: يا شيخ، صلاتك لا تصح، قال: لا، أنا مقتنع بأن لحم البعير لا ينقض الوضوء، فقام وصلى بنا، هل تصلي خلفه وأنت تعتقد أن لحم البعير ينقض الوضوء؟ يقول الشيخ محمد الصالح بن عثيمين: يصلي خلفه، وصلاته صحيحة، وصلاتك صحيحة، أرأيت ما أعظم هذا الدين! أرأيت ما أعظم فهم العلماء وفقههم الدقيق. يقول: بما أنه يعتقد أن هذا لا ينقض الوضوء، وهو ليس متبعاً للهوى، بل متبعاً للدليل، وهذا قول جمهور العلماء أن لحم الجزور لا ينقض الوضوء، وهم يقولون: إن هذا الحديث منسوخ، إذاً هو متبع للدليل ومجتهد، وإن أخطأ فله أجر، فتصلي خلفه، وبما أن صلاته صحيحة، فصلاة من خلفه صحيحة. أرأيتم يا عباد الله! كيف أن بعض الناس ضاقت أنظارهم، صار لا يرى في أخيه إلا الخطأ، لا يرى فيه إلا السوء، لا يرى فيه إلا الزلل، لا يعرف حسناته وفضائله. سُئل الشيخ ابن عثيمين حفظه الله في الحج الماضي: عن تقويم الناس، وتقويم الجماعات والطوائف، يقولون له: إن بعض الناس يقول: لا يجوز إذا أردت أن تقيم إنساناً أن تذكر حسناته، تذكر العيوب التي فيه فقط؟ أتعرف ماذا قال الشيخ ابن عثيمين؟! قال: إذا كنت تريد أن تقيم إنساناً يجب عليك وجوباً أن تذكر حسناته وسيئاته. ليس استحباباً، بل وجوباً؛ لأن هذا تقييم، هذا ميزان العدل والإنصاف يا عبد الله، أما إذا أردت أن تحذر من بدعة أو خطأ، فلا يجب عليك أن تذكر الحسنات، بل تحذر من البدعة، وتحذر من الخطأ، ولا بأس بهذا كله. إذاً: يا عباد الله! لتتسع صدورنا للناس. نعم، نتعاون، نتناصح، نتذاكر، نتناقش، إمامنا ورائدنا كلام الله وكلام رسوله عليه الصلاة السلام وإجماع الصحابة، هذه حجتنا القاطعة التي ليست بعدها حجة؛ ولكن يا عباد الله! لتكُن صدورنا أوسع مما هي عليه الآن.

وجود الشبه المثبطة

وجود الشبه المثبطة السبب السابع: من الأسباب التي تجعل بعض الناس يترك الدعوة إلى الله جل وعلا: شُبَهٌ -وسوف أسردها سريعاً- يتعلق بها كثير من الناس. لِمَ لا تدعو إلى الله؟ لِمَ لا تأمر بالمعروف؟ لِمَ لا تعمل معنا في طريق الدعوة إلى الله؟ اسمع لهذه الشُّبَه: الشبهة الأولى: بعض الناس يقول: الواقع مرير، والفساد كبير، والسيل جارف، ولا تستطيع أن تعمل شيئاً، اجلسوا في بيوتكم، عليكم أنفسكم. وهذا الرجل المسكين ما قرأ كتاب الله حقاً؛ لأن الله جل وعلا يقول لنبيه: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} [الشورى:48] ما عليك شيء، {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165] حتى ما يكون هناك حجة علي، فقط بلِّغ: {إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ} [الغاشية:21 - 22]. ماذا قالت بنو إسرائيل؟ {لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ} [الأعراف:164] ما فيهم خير؟ القوم ضاعوا وفجروا وتركوا دين الله، والفساد منتشر، لا تستطيعوا أن تفعلوا شيئاً: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف:164] لا نيئس من رحمة الله جل وعلا. الشبهة الثانية: بعض الناس يقول ضد هذا، يقول: الحمد لله، الناس في خير، لِمَ هذا التعب؟! لِمَ هذا الصياح؟! لِمَ الأمر بالمعروف؟! لِمَ النهي عن المنكر؟! الحمد لله المساجد ممتلئة. نقول: هذا الرجل ينظر بعين واحدة، ولا ينظر بالعين الأخرى. عبد الله: أما ترى الفساد منتشراً؟! ألا ترى التبرج في كل مكان؟! أين نحن من صلاة الفجر؟! أيها المصلي صلاة الفجر: ألا ترى الفرق بينها وبين صلاة العشاء؟! ألا ترى الفرق بين هذا وهذا؟! الصلاة تقام وما زالت المحلات مفتوحة! وبعض الناس يعمل ولا يبالي بالصلاة، ألا ترى هذا يا عبد الله؟! ألا ترى سب النبي صلى الله عليه وسلم في الصحف؟! كيف تجرأ الناس إلى هذا؟! يأتي ذلك فيقول: ليس هناك دليل، لا من القرآن ولا من السنة على وجوب الحجاب! إنا لله وإنا إليه راجعون. ألا ترى الآخر يقول: ليس هناك دليل في القرآن ولا في السنة على تحريم الخمر؟! ألا ترى هذا يا عبد الله؟! فجور سب لله سب لرسول الله تحريف لهذا الدين، وأنت جالس تقول: الحمد لله، الناس بخير! أي خير هذا يا عبد الله؟! إن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظمُ الشبهة الثالثة: اسمع يا عبد الله إلى شبهة أخرى: بعض الناس يقول: تعال يا أخي، نريد أن نوزع شريطاً في الشارع، في المحلات، في ذلك المجمع، جمعنا بعض الأشرطة ونريد أن نوزعها في ذلك المجمع، في ذلك السوق، تعال معنا، فيقول: إني أخاف. لِمَ تخف يا عبد الله؟! قال: أخاف الفتنة، أخاف أن أنظر إلى النساء، أخاف أن يتعلق قلبي بهن، اتركوني في البيت، في المسجد، سبحان الله! لَمَّا يذهب لحاجياته لا يقول: أخاف الفتنة. إذاً يا عبد الله! إن كنت تخاف الفتنة، لِمَ لا تدعو في مكان الرجال؟! لِمَ لا تدعو في عملك؟! لِمَ لا تدعو في المقاهي التي تجلس فيها؟! تدعو إلى الله جل وعلا: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي} [التوبة:49] استأذن عن الجهاد، اعتذر عن الجهاد، أتعرف لِمَ؟ الجد بن قيس قال: (يا رسول الله! ما أستطيع أن أذهب إلى الجهاد، قال: لِمَ؟ قال: أخاف فتنة بني الأصفر) أخاف أن أفتتن بالنساء، قال الله جل وعلا: {أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة:49]. الشبهة الرابعة: بعض الناس يحتج بشبهة أخرى: يقول: أنا لا أصلح للدعوة إلى الله، أو بعضهم يقول: أنا عندي ذنوب، وعندي معاص، كيف أدعو إلى الله جل وعلا؟! اسمع! كل منكِر مطالب بالدعوة ولو كان عنده بعض المعاصي. ولو لَمْ يعظ الناس من هو مذنبٌ فمن يعظ العاصين بعد محمدِ هل هناك بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام إنسان لا يعصي الله؟! حتى أبو بكر: (كل ابن آدم خطَّاء، وخير الخطَّائين التوابون). إذا كان كل إنسان يقول: أنا عندي معاصٍ، حتى أترك المعاصي ثم أدعو إلى الله. أخطأت يا عبد الله، صحيحٌ: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة:44] هذا إثم؛ لكن لا تجمع مع الإثم إثماً آخر، ما هو الإثم؟ ألا تدعو إلى الله جل وعلا، وقلها صادقة من قلبك: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ} [يوسف:108]. أول الناس في هذا الطريق محمد عليه الصلاة والسلام، وأيضاً من يسير في طريق الدعوة إلى الله؟! قال: {أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108] كل من ادعى اتباع النبي صلى الله عليه وسلم يجب أن يدعو إلى الله، وهذه الآية -يا عبد الله- تدل على أن من تمام الاتباع الدعوة إلى الله.

عدم الشعور بالتحدي

عدم الشعور بالتحدي السبب الثامن: ختاماً: من أسباب ترك الدعوة إلى الله: عدم الشعور بالتحدي: أيها الإخوة الكرام: كل منا مطالب بالدعوة إلى الله، ألا تشعر أننا يتحدانا أُناس يريدون أن ينشروا الرذيلة بين صفوفنا؟! ألَمْ تسمع بهذا؟! ألا تعلم أن اليهود والنصارى همهم الآن -في هذه البلاد خاصة- أن يجردوها من الإسلام؟ أن يغير فكر المسلم الذي يصلي إلى فكرٍ غربي، بحيث يصبح همه في الحياة المادة، وهذا حصل لكثير من الناس. جاءني أحد الأيام شاب، بعد أن صليت الظهر، قال لي: يا فلان! أما زلتم تصلون؟! قلتُ: نعم، قال: الناس وصلوا إلى القمر وأنتم ما زلتم تصلون؟! قلت: أنت لَمْ تَصِلْ إلى القمر ولَمْ تُصَلِّ، نحن الحمد لله صلينا، وإن شاء الله سوف نصل إلى أعلى من القمر، بإذنه جل وعلا، فنحن نأمل أن نصل إلى الفردوس الأعلى. عبد الله: ألا تشعر بالتحدِّي؟! هناك كتَّاب في الجرائد يسخرون من دينك، يستهزئون بك، يشككون الناس حتى في العقيدة، هناك أناس يشككون الناس حتى في دين الله، بعضهم يشكك أن دين الإسلام لا يصلح، لو أردتَ أن تطبق فتطبق أي مذهب؟! انظر التشكيك، وبعضهم يأتي بشُبه حتى يشكك العجائز وكبار السن في دينهم يا عبد الله، أين أنت؟! يقول أحد الشباب: كنت في بلاد ألمانيا في صبيحة كل يوم أخرج للدراسة، وفي يوم من الأيام طرق عليَّ الباب طارق، فتحتُ الباب فإذا امرأة من الدعاة النصرانيات، يتجولن كل صباح على الناس، تخيَّل! نصارى، يقول: فلما علمت أنها تدعوني إلى النصرانية، أغلقتُ الباب في وجهها. انظر لعزته بدينه، يقول: وجلستُ في البيت، يقول: والله! أسمعُها تدعوني إلى دينها من وراء الباب نصف ساعة. نصف ساعة تتكلم، تنشر دينها، ولا تبالي، أُغْلِقَ الباب أم لم يُغْلَق؛ لكن تدعو إلى مبدئها، ودينها الباطل، أين المسلمون؟! أين الدعاة إلى الله جل وعلا؟! نحن متحدَّون يا عباد الله، النصارى يغزوننا، اليهود يغزوننا، ليس غزواً عسكرياً، بل غزواً إعلامياً وثقافياً، والآن سوف يكون الغزو في المرحلة القادمة اقتصادياً، وأنت أعلم بهذا. عباد الله: ما دورنا؟! ما عملنا؟! الواحد يكفي أنه يصلي ويرجع إلى البيت؟! لا والله، لا يكفي هذا، ما يكفي أنك تفتح المصحف ثم تدرس في البيت، ألم تسمع قول الله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:110]. يا عباد الله: الآن في هذا الزمن من يفكر في أمريكا، وفي بريطانيا، وفي روسيا كيف يدمروا ديننا وكيف يفسدوا عقيدتنا؟! تتعجب من هذه المخدرات في الآونة الأخيرة انتشرت في كل البلاد الإسلامية، وهذه الخمور في كل الأحياء. قبل أيام ركبتُ طائرةً، زذهبت لإحدى الدول لإلقاء الدروس والمحاضرات، هذه الطائرة أغلب ركابها نصارى -والله أعلم- بحيث يعرفون من أشكالهم، ولم يكن معي من المسلمين إلا القلة، ممن يلبسون اللباس الإسلامي -الهيئة الخليجية- والله الذي لا إله غيره، لما ارتفعت الطائرة في السماء؛ نزع كل منهم حزامه، فرأيت بعض الناس يرجع إلى الخلف، ثم اكتشفت أنهم يرجعون لأخذ الخمور وشربها، والله إن هؤلاء المسلمين العرب سبقوا النصارى لهذه الخمور!! للأسف يا عباد الله! بعض النساء تشتكي وتقول: تزوجته صالحاً، وبعد زمن تعرف على شلة فاسدة، فبدءوا يأتونه في البيت، ترك الصلاة، بدأ يشرب الخمور، حتى وصل به الحال أنه يجبر زوجته على أن تعاشر أصحابه، هذا في بلاد المسلمين بلاد التوحيد -يا عباد الله- ألسنا في تحدٍ؟! إلى الآن ألَمْ تعلم أن من الناس من يفكر في إفساد دينك ودين أولادك، حتى في أرحام الأمهات، هناك من يخطط لإفساد الأولاد في أرحام أمهاتهم! أما تعلم بهذا يا عبد الله؟! بعد عشرين أو ثلاثين سنة تكبر وتشيخ، وسوف يعيش أولادك في هذا المجتمع، وإذا لم يصلح المجتمع -يا عبد الله- فسوف يكون أولادك أول ضحية، وإني مذكرك: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ} [غافر:44] ستذكر هذه الكلمات. سوف يأتي يوم من الأيام ابنتك لا تستطيع أن تدرسها، بعض البلاد الإسلامية اليوم ممنوعٌ أن تظهر المرأة بحجاب، كونها تخرج من البيت بحجاب تعتبر جريمة، لو كنت مكانهم ماذا تفعل يا عبد الله؟! فحتى لا نصل إلى مثل هذه الحال، علينا أن نبادر إلى الدعوة إلى الله جل وعلا، لنبلغ دين الله تبارك وتعالى، لنأمر بالمعروف، لننهَ عن المنكر، حتى لا يأتي يوم ندعو الله جل وعلا فلا يستجيب لنا، ثم يسلط الله عزَّ وجلَّ عباداً علينا، ندعوه فلا يكشف عنا السوء، حتى لا يأتي يوم يصبح المنكر معروفاً، والمعروف منكراً، حتى لا يأتي ذلك اليوم علينا أن نجتهد في تبليغ دين الله جل وعلا: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]. قال الله تبارك وتعالى: {وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ * وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ} [هود:121 - 122]. أقول هذا القول. وصلِّ اللهم وسلِّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ثغرات في البيوت

ثغرات في البيوت إن الله سبحانه وتعالى لم يكتف بأمر العبد بإصلاح نفسه، بل أمره بإصلاح أهله وتربيتهم التربية الحسنة الصالحة، فقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً) والوقاية من النار تكون بالصلاح والإصلاح والطاعة لله سبحانه، فلذلك يجب على المؤمنين إصلاح بيوتهم، خاصة وقد أصبحنا في عصر المغريات والشهوات والشبهات والعياذ بالله.

لماذا الاهتمام بالبيوت

لماذا الاهتمام بالبيوت الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين. ثم أما بعد: موضوع المحاضرة -أيها الإخوة- ثغرات في البيوت، وحينما أردت أن أعد الموضوع رأيت أن الثغرات كثيرة، وأنني لن أستطيع أن أحصيها في هذا المجلس، ويكفينا بعض الثغرات نقضي بها هذا الوقت نسأل الله أن يصلح لنا بيوتنا، ولكن بداية ومقدمةً لماذا نهتم بالبيوت؟ يقول الله عز وجل: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً} [النحل:80] إذن الله عز وجل يمتن علينا بهذه البيوت، فكم من رجلٍ يفترش الأرض ويلتحف السماء، وكم من أسرة لا تجد بيتاً يأويها، ولهذا كان عليه الصلاة والسلام إذا أوى إلى الفراش حمد الله الذي آواه، وجعل له هذا المسكن. ثانياً: أن في هذه الكلمات وفي هذه الدروس وقاية لنا ولأهلينا من عذاب النار وقد قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6] فلا يكفي المسلم أن يقي نفسه من النار، بل يجب عليه أن يقي والدته ووالده وإخوته وأبناءه وزوجه وكل من في البيت {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6] أتعرف كيف صفتها؟ {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6] أترضى عبد الله أن ترى أمك يوم القيامة تحترق في هذه النار؟ تصور أن ترى أختك وأخاك يحترقان في تلك النار، أو ترى أولادك الصغار الذين طالما سهرت على راحتهم أن تراهم يحترقون في النار {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6] ولهذا جعل الله الخسران الكبير ذلك اليوم {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر:15]. ثالثاً: يقول عليه الصلاة والسلام: (إن الله سائل كل راعٍ عما استرعاه، أحفظ أم ضيع) حتى يسأل الرجل عن أهل بيته. رابعاً: عبد الله! إذا اشتدت الخطوب، وزادت الفتن، وكثرت على المسلم إلى أين يلتجئ؟ إلى أين يذهب؟ كيف يحتمي؟ يقول عليه الصلاة والسلام: (سلامة الرجل في الفتنة أن يلزم بيته). خامساً: أن أكثر الناس يقضون أوقاتهم في البيوت، ولهذا حق لنا أن نتكلم عن ثغراتٍ في البيوت. عباد الله! يسأل الصالحون متى يصلح الله هذه الأمة؟ ومتى يصلح الله هذا المجتمع؟ ومتى تزول المنكرات؟ ومتى يحكم بشرع الله؟ لكن نسألك قبل هذا السؤال متى تصلح بيتك؟ يا من عجز عن إصلاح بيته، كيف يصلح المجتمع؟ يا من لم يستطع أن يطبق شرع الله في بيته، كيف ستطبقه في المجتمع؟ يا من ينظر إلى الجيران، وإلى الأسواق، وقد كثرت فيها المنكرات، ألا تنظر إلى بيتك؟ ألا تلتفت إلى غرفتك؟ ألا تنظر إلى أمك وأبيك؟ ثم تنظر إلى غيرهما؟ عبد الله! ماذا يحدث لو أصلح كلٌ منا بيته؟ لو فرضنا أن هذا المجلس يحوي مائتي رجل مصلح داعية إلى الله، استمع إلى الكلام وذهب بيته، ولنفرض أن متوسط الاعداد في البيوت سبعة، إذاً لعله يصلح بنا بعد هذا المجلس ما يزيد على ألف وأربع مائة رجل وامرأة. انظروا يا عباد الله! كيف لو أصلح كلٌ منا بيته، ماذا سوف يحدث في المجتمع؟ أبو بكر يأتيه عليه الصلاة والسلام في القائلة متخفياً فيقول: بأبي هو وأمي، لا يأتي في هذا الوقت إلا لحاجة، فيدخل فيقول: (أريدك في أمر) وكانت عائشة في البيت، فيقول: هم أهلك يا رسول الله! أي أن عائشة تحفظ السر ولكن أي سر؟ سر الهجرة، فيقول أبو بكر: هم أهلك يا رسول الله! أي: لن يفشوا لك سراً، ثم يخبر عليه الصلاة السلام بالسر الأعظم، وبالأمر الكبير الهجرة إلى المدينة، فهل تفشي عائشة سراً؟ إنه بيتٌ صالح لا يفشي سراً، ولا يعرف منكراً، يريد الخروج للهجرة، من الذي يقوم عليهما؟ ابنته الثانية أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها، تريد أن تحفظ لهما الطعام فلا تجد إلا نطاقها فتمزقه اثنتين ثم تربط به الطعام. إنه بيتٌ صالح. وأي بيت وبيت عمر رضي الله عنه من الذي خرج منه؟ خرج منه عبد الله بن عمر بن الخطاب. وبيت علي بن أبي طالب من الذي خرج منه؟ خرج منه سيدا شباب أهل الجنة الحسن والحسين وذرية طيبة بعضها من بعض.

بعض ثغرات البيوت

بعض ثغرات البيوت الثغرات نسردها ثغرة ثغرة، وكلما ذكرنا ثغرة فقف في بيتك ولو لبرهة، وادخل غرفة غرفة، وفرداً فرداً وانظر في هذه الثغرات، هل هي حقاً موجودة في بيتك؟ لتتعاهدها وتصححها ولا تنتظر مني الحلول، فسوف أذكر كل ثغرة وأعرض لحلٍ بسيط، والحل يبدأ من نفسك.

ضعف الإيمانيات والعبادة

ضعف الإيمانيات والعبادة الأولى: ضعف الإيمانيات والعبادة فيها. حتى لا تكاد تجد فيها مصلياً، أو داعياً، أو قارئاً للقرآن، أو ذاكراً لله، أو تالياً آيات الله، أو باكياً، أو رافعاً يديه، يقول عليه الصلاة والسلام: (مثل البيت الذي يذكر الله فيه والذي لا يذكر الله فيه كمثل الحي والميت) فهل رأيت الفرق بينهما؟ ويقول الله عز وجل لموسى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً} [يونس:87] لمَ؟ ماذا نجعل في هذه البيوت يا رب؟ لقد كان فرعون يقتل الرجال ويستحيي النساء، ويتبعهم ويلاحقهم ويعذبهم، فما حاجتنا لهذه البيوت؟ قال الله تعالى: {أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} [يونس:87] قال ابن عباس: [أمروا أن يتخذوها مساجد] ليلزم كلٌ بيته، وليغلق على نفسه الباب، وليأتي إلى زوجته وأبنائه وإخوانه وأخواته فليقيموا فيه الصلاة. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153] أين بيوتنا من تلك البيوت؟ ولنسرد عليكم بعض صفات بيوت الصالحين وقس بيتك على بيوتهم: عتبان بن مالك أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم البدريين يقول: (أتيت رسول الله، فقلت: يا رسول الله! قد أنكرت بصري -يعني: ضعف بصري- وأنا أصلي لقومي، فإذا كانت الأمطار وسال الوادي الذي بيني وبينهم لا أستطيع أن آتي مسجدهم فأصلي بهم، وددت يا رسول الله! -انظر إلى طلبه وقس نفسك عليه- أنك تأتيني فتصلي في بيتي فأتخذه مصلى) أي: تصلي فأجعل مكاناً في بيتي مصلى أصلي فيه، فأين هذا المصلى في بيتك؟ ابحث عنه، هل هو في غرفة نومك؟ أم في غرفة الجلوس؟ أم المكان الذي يجتمع فيه أهل البيت؟ سل نفسك هل يوجد هذا المصلى في بيتك تصلي فيه النوافل؟ قال: (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سأفعل إن شاء الله، قال عتبان: فغدا علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر حين ارتفع النهار، فاستأذن رسول الله فأذنت له فلم يجلس حتى دخل البيت ثم قال: أين تحب أن أصلي من بيتك؟ -أي مكانٍ تحب أن تجعله مصلى- قال: فأشرت له في ناحية البيت، هذا المكان يا رسول الله! قال: فقام رسول الله، فكبر فصففنا فصلى ركعتين ثم سلم) رواه البخاري {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس:87]. عبد الله! هل تتذكر آخر مرة صليت فيها نافلة في بيتك؟ قال عليه الصلاة والسلام: (اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم ولا تتخذوها مقابر) عندما تصلي في البيت ويأتي أخوك الصغير، فينظر إليك، فماذا سيفعل؟ وعندما تأتي أختك الصغيرة، فتنظر إليك وأنت تصلي النافلة، وتراقب، فماذا تظنها فاعلة؟ سوف تقلدك في الصلاة، تخيل -عبد الله- وأنت تصلي هل يجرأ أحدٌ في البيت أن يغني، أو يرفع أصوات الغناء؟ فوالله إن الشياطين لتفر من البيت، فلتجعل لبيتك من صلاتك النافلة. يقول ابن عباس -انظر الابن إذا رأى زوج خالته يصلي ماذا يفعل؟ - يقول ابن عباس: (بت في بيت خالتي ميمونة -أم المؤمنين رضي الله عنها، زوج رسول الله- قال: فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء -تخيل غلام صغير يقص تلك القصة، انظر كيف تأثر بذلك القدوة- ثم جاء إلى منزله قال: فصلى أربع ركعات، ثم نام، ثم قام فقال: نام الغليم -يعني ابن عباس - يقول: وأنا أنظر إليه -يراقبه ابن عباس صغير قال: فتوضأ ثم قال: فقمت من النوم فتوضأت مثل وضوئه ثم صففت عن شماله وصليت -غلام صغير إذا رآك تصلي يفعل مثلك؟ - قال: فجذبني بأذني وجعلني عن يمينه، يقول: فصليت معه حتى صلى خمس ركعات، قال: ثم صلى ركعتين، فنام حتى سمعت غطيطه) انظر كيف تأثر الصبي انظر كيف يتأثر أفراد البيت بمن يصلي في البيت؟ كان عبد العزيز بن أبي روَّاد رحمه الله إذا جن عليه الليل يأتي إلى فراشه فيمر يده على فراشه فيقول: إنك للين، ووالله إن في الجنة لألين منك. نعم إن الفراش لين، لكن في الجنة ما هو ألين منه، ولا يزال يصلي الليل كله {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة:15 - 16]. ومعاوية بن قرة كان يقول إذا صلى العشاء: يا بني! نوموا، يا بني! نوموا لعل الله أن يرزقكم من الليل خيراً، يأتي بعد العشاء وينوم أهل البيت حتى يقوموا آخر الليل. وانظر إلى الأم كيف تتأثر بابنها إذا صلى! تقول أم الربيع بن خثيم إذا رأته قام بالليل، يصلي فيبكي: يا بني! لعلك قتلت قتيلاً -أخبرني اعترف- فيقول: يا أماه قتلت نفسي {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9]. وانظر كيف تتأثر البنت بأبيها عندما يصلي! تقول ابنة عامر بن عبد قيس: يا أبتاه! مالي أرى الناس ينامون ولا أراك تنام! فيقول: يا بنية! إن جهنم لا تدع أباك ينام {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً} [طه:132]. عبد الله! أين أنت من صلاتك في البيت؟ انظر إلى أولئك الصالحين، تقول زوجة مسروق: كان إذا قام الليل جلست خلفه أبكي عليه، فإذا صلى انتفخت قدماه، فإذا انتهى من صلاته لا يستطيع أن يمشي من شدة القيام، تنتفخ قدماه، تقول: أبكي خلفه وأسأل الله عز وجل أن يعينه. انظر كيف تتأثر الزوجة بزوجها؟ وانظر كيف يتأثر الابن بأبيه يقول: عبد الله بن الإمام أحمد: كان أبي يقرأ كل يوم سُبعاً، يعني سبع القرآن، يصلي بالليل سبع القرآن، يعني في كل سبعة أيام يختم القرآن كله، يقول: وكان ينام نومة خفيفة بعد العشاء ثم يقوم إلى الصباح يصلي ويدعو. يقول وكيع: كان علي والحسن ابنا صالح بن حي وأمهم قد جزءوا الليل ثلاثة أجزاء -تخيل- يقول: فكان علي يقوم الثلث ثم ينام، ويقوم الحسن الثلث ثم ينام، وتقوم أمهما الثلث ثم تنام. يعني الليل كله صلاة في صلاة، وتدخل البيت فلا تسمع -كما تسمع في بيوتنا- تلفازاً ومسلسلات وأغاني ومجوناً وطرباً وفساداً وتنتشر الشياطين وتعشعش في البيوت، لا والله إن دخلت فالليل كله قراءة في قراءة، من أوله إلى آخره، فماتت الأم فجزآ الليل بينهما، أحدهما نصف الليل والثاني النصف الآخر، قال: ثم مات علي، فقام الحسن الليل كله، حتى لا تمر دقيقة في الليل إلا وفي البيت مصلي. زيد بن الحارث أتعرف ماذا يفعل؟ كان يجزئ الليل مع ابنيه ثلاثة أجزاء، له جزءٌ، ولابنه جزءٌ، ولابنه الثالث جزء. حتى لا تبقى في الليل ثانية إلا ومصلٍ أو راكعٍ أو ساجدٍ أو قارئ للقرآن. ويقول إبراهيم بن وكيع: كان أبي يصلي فلا يبقى في دارنا أحدٌ إلا صلَّى حتى جارية سوداء. كل أهل البيت يصلون حتى الخادمة تصلي معهم في الليل. ويقول أبو عثمان النهدي: تضيفت أبا هريرة -جلست عنده ضيفاً- سبع ليال، يقول: فكان هو وامرأته وخادمه يعتقبون الليل أثلاثاً، تخيل حتى الخادمة تصلي معهم الليل {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً} [مريم:54] أتعرف ماذا كان يفعل؟ {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً} [مريم:55]. عبد الله! إن قمت لصلاة الفجر فمن يقوم معك؟ إن قمت الليل فمن يصلي معك؟ سلوا أنفسكم وانظروا إلى بيوتكم، كلٌ منا ينظر إلى بيته، هل يقوم أهل البيت؟ هل يقوم الوالد والوالدة؟ هل يقوم الإخوة والأخوات؟ هل يقوم الأبناء؟ هل تقوم الزوجة؟ هل يقوم الأهل؟ يقول رفعة بن صالح: كان له أهلٌ وبنات كان يقوم فيصلي ليلاً طويلاً، فإذا كان السحر، يعني: إذا جاء آخر الليل أتعرف ماذا يفعل؟ يصلي لوحده، فإذا جاء آخر الليل نادى بأعلى صوته: يا أيها الركب المعرشون أكل هذا الليل ترقدون ألا تقومون فتصلون. يقول: فيهب أهل البيت جميعاً صغيراً وكبيراً، فمن باكٍ، ومن مصلٍ، ومن داعٍ، ومن متوضئٍ، ومن ذاكرٍ لله، يقومون حتى صلاة الفجر، لا يبقى أحدٌ في البيت إلا وقام. وتزوج رياح القيسي رحمه الله امرأة -وهو رجل صالح- يقول: فلما جاء الليل في الليلة الأخرى قال: قامت تصلي، وأراد أن يختبرها، فقامت ربع الليل فلما انتهى ربع الليل قالت: يا رياح! قم فصلِّ، قلت: سوف أقوم، ورجعت ونمت، أريد أن أختبرها، يقول: فمضى الربع الآخر، نصف الليل وهي تصلِّ، فقالت: يا رياح! قم فصلِّ، تريده أن يصلي لتنام، يقول: فقلت: سأقوم ونمت، أريد أن أختبرها، يقول: فذهب الربع الثالث فقالت: يا رياح! قم فصلِّ، يقول: فقمت ورجعت فنمت، يقول: فقالت لي: مضى الليل وعسكر المحسنون وأنت نائم، ليت شعري من غرني بك يا رياح! أي أنه لا يقوم الليل، فكيف بحال بيوتنا؟ لا يصلي بعضهم حتى الفجر، يقول: فقامت حتى الصباح، قامت الليل كله. عبد الله! هل يُقرأ في بيتك القرآن؟ قال عليه الصلاة والسلام: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، فإن الشيطان ينفر من البيت الذي تُقرأ فيه سورة البقرة).

ضعف العلم الشرعي

ضعف العلم الشرعي الثغرة الثانية: ضعف التعليم الشرعي في البيوت. انظر إلى بيتك، أهلك، أمك وأبيك، هل حقاً يتعلمون العلم الشرعي؟ بعض الصالحين يهتم بالجيران، ويهتم بأهل المسجد، ويهتم بالناس، ولا يهتم بأمه ولا أبيه. يروى أن أحد الصالحين جاء إلى أمه وقد كبرت في السن، قال: يا أماه! اقرئي عليَّ القرآن، قالت: يا ولدي لا أعرف إلا سورة واحدة أقرأ بها في جميع صلاتي، ظن أنها الفاتحة، قال: يا أماه! اقرئي عليَّ تلك السورة، فاستعاذت وسمت، ثم قالت: إن لله عباداً فطنا طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا قال: يا أماه! القرآن، قالت: هذا أقرأ به في جميع صلاتي، قال: يا أماه! والفاتحة؟ قالت: والله لا أحسن غيرها. من المسئول؟ يقول عليه الصلاة والسلام والحديث في البخاري: (ثلاثة لهم أجران) ليس أجراً واحداً بل أجران يا من فرط بالأجور! يا من يبحث عن البعيد وأقرب الناس إليه قد فرط فيه! قال: (من الثلاثة: ورجلٌ كانت عنده أمة) ليست زوجته ولا أمه ولا أبناؤه، بل أمة، فكيف بالزوجة والأم، قال: (فأدبها فأحسن تأديبها، وعلمها فأحسن تعليمها، ثم أعتقها فتزوجها فله أجران). تأتي امرأةٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقول: (يا رسول الله! غلبنا عليك الرجال فاجعل لنا يوماً -أي: تعلمنا وتحدثنا وتفقهنا في أمور ديننا- قال: موعدكن بيت فلانة، فكنَّ يجتمعن، ويأتي عليه الصلاة والسلام ويدرسهن). عبد الله! هلا جعلت في بيتك يوماً في الأسبوع تدرس فيه الأهل، تقرأ عليهم من رياض الصالحين، أو تفسير السعدي، أو بعض القرآن، أو تقرأ عليهم بعض القصص، أو تعلمهم بعض أمور الدين. عبد الله! هلا جعلت في بيتك مكتبة سمعية وأخرى مرئية، هلا جعلت في بيتك مكتبة فيها بعض الكتيبات، وبعض القصص، وبعض المجلات، وبعض الأوراق والنشرات، لعلك -يا عبد الله- قد غفلت عن هذا. عبد الله: إن من أهم الأمور أن تجعل في بيتك مجلساً تدرس فيه الأولاد، والزوجة، والأم، ما يحتاجونه من أمورهم، ولنضرب على ذلك أمثلة: تجلس معهم جلسة في الأسبوع تقرأ عليهم بعض القصص، وبعض الأحكام التي يحتاجون إليها؛ في الطهارة، والصلاة، والتفسير، تفسر لهم الفاتحة، وبعض السور القصيرة، وتعلمهم بعض أحكام البيوت، وأحكام الطعام والشراب، وأحكام اللباس، وأحكام المجلس، وأحكام النوم، وآداب الاستئذان، وآداب المزاح. يقول أبو قتادة: وكان يريد أن يتوضأ فقربوا إليه إناءً فيه ماء، فلما أراد أن يتوضأ جاءت هرة فشربت وولغت فيه ثم ذهبت، فتوضأ فقالت له زوجته: (تتوضأ وقد ولغت فيه الهرة! فقال لها يعلمها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيها: إنها ليست بنجس، إنها من الطوافين عليكم والطوافات) تنظر إلى أخيك الصغير يشرب وهو قائم فتعلمه، تقول له: اجلس (نهى رسول الله أن يشرب الرجل قائماً) وتنظر إليهم وقد فعلوا بعض المنكرات -وسوف نأتي إلى بعضها- فتخبرهم بأن هذا الأمر حرام. واطلب العلم قبل أن تعلم غيرك، واجعل لهم مسابقات في البيت في حفظ القرآن، وفي حفظ الأحاديث، وفي حل بعض الأسئلة، وفي قراءة كتاب، واجعل لهم جوائز مادية، وجوائز معنوية، كأن تذهب بهم رحلات إن أجابوا على هذه الأسئلة، وإن حفظوا تلك الأجزاء أو السور، يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6]. ومن الوسائل: أن تدعو في بيتك بعض الصالحين، قال نوحٌ عليه السلام {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً} [نوح:28] فادع بعض الصالحين إلى بيتك، واجعل لأهلك يوماً تدعو فيه أحد الصالحين وتجعل لهم مجلساً يذكرهم وينصحهم ويعظهم كما كان يفعل رسول الله عليه الصلاة والسلام.

انتشار المنكرات والمعاصي

انتشار المنكرات والمعاصي الثغرة الثالثة: انتشار المنكرات والمعاصي في البيوت. وسوف نسرد بعض المنكرات وتخيل بيتك وتذكر، وتجول في الغرف؛ لتنظر هل هذه المنكرات توجد فيه، ولعل المنكرات لا تعد ولا تُحصى ولكن هذه بعضها: أول المنكرات وهي من أعظمها وأشدها: اختلاط النساء بالرجال، ودخول غير المحارم على النساء. قال عليه الصلاة والسلام: (إياكم والدخول على النساء! قال رجل من الأنصار: يا رسول الله! أرأيت الحمو؟ -يعني قريب الزوجة أو قريب الزوج- قال: الحمو الموت) أي: الحمو بمثابة الموت. انظر ماذا يحدث في بيوتنا؟ وتذكر من يدخل على أخواتك؟ هل يدخل عليهن من ليس بمحرمٍ لهن؟ من يدخل على أمك؟ من يدخل على زوجتك؟ من يدخل على بناتك؟ هل يدخل عليهن من ليس بمحرمٍ لهن ويختلي بهن وهن بغير حجاب؟ قال الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب:53] أتعرف فيمن نزلت؟ لقد نزلت في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في الصحابيات العفيفات الطاهرات، فكيف بك أنت وكيف بنا نحن في هذه العصور التي كثرت فيها المعاصي وانتشرت؟! ثانياً من المنكرات: السائقين والخادمات. وفي ذلك من المنكرات ما الله بها عليم، واسمع إلى الحديث وكفى بهذا الحديث عبرة، يقول أبو هريرة وزيد بن خالد: (كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقام رجل فقال: أنشدك الله -يسأل رسول الله- إلا قضيت بيننا بكتاب الله فقام خصمه وكان أفقه منه، فقال يا رسول الله: إن ابني كان عسيفاً عند هذا) أي: خادماً عند هذا، انظروا إلى خطورة الخدم والسائقين والخادمات، ودخولهم إلى البيوت بغير حرمة وبغير استئذان. قال: (إن ابني كان عسيفاً عند هذا -يعني خادماً- قال: فزنا بامرأته) أتعرف هذه القصة فيمن نزلت؟ وأين وقعت؟ في عهد رسول الله (قال: فزنا بامرأته فافتديت ابني منه بمائة شاة وخادم) حتى أحل المشكلة ويسكت أعطيته مائة شاة وخادم، والآن ماذا يحدث؟ إذا زنا ابنه بالخادمة ماذا يفعل؟ يسكتها ببعض المال ويرسلها إلى بعض الدول لتقتل الولد الذي حملت به، فيجمع بين الزنا والقتل ثم يرسلها إلى بلدها، انظر إلى الجرائم التي تحدث في بيوت المسلمين بسبب خادمة تأتي بغير حاجة، وتختلط مع أهل البيت بغير ضرورة، وبغير حاجة، وبغير ضوابط. قال: (ثم سألت رجالاً من أهل العلم فأخبروني أنما على ابني جلد مائة وتغريب عام، وعلى امرأته الرجم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله -لا مجاملة، حكم الله ينزل- قال: المائة شاة والخادم رد عليك -رجع له المائة الشاة والخادم، لأن ذلك ليس حكم الله- قال: وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام لا مجادلة فيها ولا مجاملة، ابنك يجلد مائة جلدة ويطرد سنة كاملة- قال: واغدُ يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها، فذهب أنيس إلى تلك المرأة فاعترفت فرجمها) رواه البخاري. فانظر ماذا يحدث مع السائقين! عبد الله! تخرج أختك مع السائقين لوحدها، أليست خلوة؟ أليس الشيطان ثالثهما؟ ثم تسأل بعدها: أختي لم تلتزم؟ زوجتي لم تصلح؟ ألا تسأل ابنك: لِمَ يجلس في البيت والخادمة موجودة؟ ألم تحاسب الخادمة: كيف تخرج متبرجة؟ من الذي أجاز لك أن تستقدم الخادمة ثم ترسلها بين المسلمين عارية متكشفة؟ من الذي أباح لك هذا؟ من الذي أجاز لك أن تأتي بكافرة إلى بلاد المسلمين؟ عبد الله! إن في الخادمات والسائقين والخدم خطورة لا يعلم بها إلا من عرفها. ثالثاً: من المنكرات: التلفاز. الشاشة، مدمرة البيوت، ومفسدة الأخلاق، والله إن في الشاشة لأخطار لا يعرف حقيقتها إلا من عرف دين الله، وعرف شرع الله، وذلك في العقيدة، يجلس الأبناء أمام التلفاز فماذا يرون؟ يرون النصارى واليهود، ويحبون هذا الممثل، وتلك الممثلة، وهذا اللاعب، وتلك المطربة، وهم نصارى ويهود، وبعد هذا يهدم الولاء والبراء من نفوسهم. ماذا يرون؟ الصليب يمسح على مريض فإذا به يُشفى، سبحان الله صغار سن! ماذا يرون؟ تأتي الراهبة تخرج من الكنيسة، فتذهب إلى ذلك الميت تقرأ عليه فإذا به يحيا، سبحان الله! ما الذي يرون؟ يرون رجلاً يموت فتذهب روحه إلى السماء، فتأتي إلى الذي يحاسبه من؟ الله!! فينظر الطفل إلى الرب يحاسبه ماذا يفعل. يرسله إلى الجنة أو إلى النار!! سبحان الله! ما الذي سوف يُغرس في قلوب هؤلاء الأولاد، تظن عبد الله أنك سوف تعلمه العقيدة؟ أي عقيدة؟ ومن أخطاره في الاجتماع، انظر كيف يؤثر التلفاز على روابطنا الاجتماعية! التلفاز يدعو إلى الجريمة، من الذي علم أولئك الأولاد كيف يسرقون؟ أم كيف يغتصبون؟ أم كيف يضربون ويبطشون؟ أم كيف يقتلون؟ أم كيف يفعلون ويفعلون؟ من الذي دربهم وعلمهم شيئاً فشيئاً خطوة فخطوة إنه التلفاز، ونحن لا نشعر، ونقول: إذا أخرجنا التلفاز فكيف يقضون الأوقات؟ مساكين ما عندهم شيء غير هذا التلفاز. كذلك أخلاقياً، ما الذي يثير شهوة البنت؟ أختك، أتعرف ماذا ترى؟ ترى العراة وشبه العراة في كل ليلة. تخيل عبد الله أن أختك أو زوجتك ترى هذا المنظر! أو أن أمك رأت ذلك المنظر! هل تتحمل تلك الشاشة؟ أم تملكك نفسك؟ عبد الله أين الغيرة؟ أين الشهامة؟ أين الرجولة وزوجتك وأختك وأهل بيتك ينظرون إلى العراة، وإلى شبه العراة في كل ليلة، وأنت ساكت، وأنت لا تبالي، وبعد هذا تقول: فسد البيت، فسد البيت، وانتشرت المنكرات، ولم يستمع إلى نصحي أحد؟؟ أيضاً: في الإجازة كيف يستطيعون أن يصلوا الفجر وهم يسهرون على التلفاز؟ انظروا ماذا يحدث في النساء إذا أراد الرجل أن يتزوج عليها، ماذا تقول؟ تقول: الزواج من المرأة الأخرى ظلم، وتعدي ولا يجوز، وهذا حرام، وهذا رجلٌ ظالم، من الذي علمها؟ ومن الذي أفسد عقيدتها وعبادتها؟ إنه التلفاز وأنت لا تشعر يا عبد الله. وتاريخياً: يفسد التاريخ، ويكذب على الناس وكم كذب عليهم! وصحياً: يضعف البصر والجسد، ومالياً: يرهق رب الأسرة، التلفاز يتبعه جهاز الفيديو، وبعده الأشرطة، وبعدها التصليح، وبعده يريدون جهازاً أكبر، ثم البث المباشر وما أدراك ما البث المباشر؟ ونترك هذا فكلٌ منكم يعرف خطورته. أيضاً: من المنكرات يا عبد الله! الهاتف. يقول أحد المصلحين: ما مررت على جريمة إلا وكان الهاتف وسيطاً فيها، الزنا، السرقة، حتى الأعراض، الهروب من البيت، المخدرات، المسكرات. يا مسكين! يرفع رجلٌ سماعة الهاتف، أين فلان؟ صاحبه، من الذي ترد عليه؟ أختك، أو زوجتك، فلان ليس هنا، وبعضهن نسأل الله العافية ترقق صوتها وتجمله، والذي في قلبه مرضٌ يطمع، فيتصل بعد فترة ويقول: أين فلان؟ فتقول: غير موجود، فيقول: إذا أتى قولي له فلان اتصل عليك، ثم المرة الثالثة، ويسأل المرة الرابعة: أين ذهب؟ متى ذهب؟ ألم تخبريه، ثم يتحدث معها وهي ترد عليه، الرابعة الخامسة السادسة العاشرة، ثم بعدها نظرة فابتسامة فكلامٌ فموعد فلقاء، من الذي أوصلها إلى تلك الجرائم، وذلك الحضيض؟ إنه الهاتف ولا أحرمه، فإن فيه فوائد كثيرة، وفيه مصالح عظيمة، ولكن تضبط بضوابط الشرع يا عبد الله! هل يصح أن يظل الهاتف في غرفة أختك الساعات الطوال؟ من تكلم؟ تضحك عليك، أكلم فلانة، من فلانة؟ لا تدري؟ الهاتف وضع للاحتياجات الضرورية، تكلمها في حاجة ضرورية ثم بعدها تضع الهاتف وتغلقه، وإن كان هناك رجل لا ترفع المرأة الهاتف، ما الذي يجعلها ترفع الهاتف وهناك رجل، وزوجها موجود وأخوها موجود فهو الذي يرفع الهاتف، فإن كان ولا بد فرفعت الهاتف فلتلتزم قول الله: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32] وكم من المصائب كانت بدايتها الهاتف؟ ومن المنكرات التي تنتشر في البيوت وابحث عنها في بيتك يا عبد الله، وأصلحها شيئاً فشيئاً حتى لا تؤتى من قبل البيت: رموز الديانات الكافرة. ابحث في بيتك، إن كان هناك صليب فاكسره ولا تبالغ، ولا يصيبنك الوسواس، كلما رأيت خطين متقاطعين قلت هذا صليب وكسرته، لا، ما كان يشبه الصليب فأزله، تقول عائشة رضي الله عنها في البخاري: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يترك في بيته شيئاً فيه تصاليب إلا نقضه). السادسة: صور الأرواح. ادخل كل غرفة إن كانت لك سلطة، وإلا فبالتي هي أحسن، بالحكمة والموعظة الحسنة، ادخل كل غرفة، فإذا رأيت صورة معلقة، أو تمثالاً موجوداً، أو على أي مكان، يقول عليه الصلاة والسلام في حديث علي: (أيكم ينطلق إلى المدينة فلا يدع بها وثناً إلا كسره، ولا صورة إلا لطخها) يعني طمسها، من مثله يفعل؟ يذهب إلى البيت ويبحث في كل غرفة، إن كانت هناك صورة بدأ بالتي هي أحسن وقال: هذا حرام، تقول عائشة: (اشتريت نمرقة فيها تصاوير، فدخل عليه الصلاة والسلام فرآها فوقف عند الباب، فرأيت في وجهه كراهة، فقلت: يا رسول الله: أستغفر الله وأتوب إليه ما أذنبت؟ قال: ما هذه النمرقة؟ يا عائشة! أما علمتي أن أصحاب هذه التصاوير يعذبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم، يا عائشة! ألم تعلمي أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلبٌ أو صورة). عبد الله! هلا كان لك بهذا الموقف أن تأتي إلى أبيك فتخاطبه بالتي هي أحسن فتقول له: يا أبتاه! إن هذه الصورة حرام تمنع الملائكة من دخول البيت، فلا تجعلوها تدخل البيوت، وكم انتشرت المنكرات في بيوتنا، يقول عليه الصلاة والسلام: (إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة، ولا تجعلوا بيوتكم مقابر) هل المقابر فيها صور؟ المقابر والحشوش والخلاء ينتشر فيها الشياطين لأنه لا يذكر فيها الله، هل فيها صور؟ ليس فيها صور، فكيف لو جاءت الصور؟ كيف لو كثرت التماثيل؟ كيف تنتشر الشياطين؟ ثم بعدها نسأل: لِمَ هذا المس الذي يصيب كثيراً من الناس؟ امرأة تصاب بمس، وشاب يصاب بمس، وينتشر السحر، وينتشر الجن والشياطين في البيوت، فما السبب؟ وما الذي يحدث؟ انظروا إلى بيوتنا كيف انتشرت فيها المنكرات. السابعة: التدخين. وهو من المنكرات، فلا تسمح أن يدخن في بيتك، إن كنت صاحب سلطة كالأخ الكبير، والزوج، والأب، يقول الله عز وجل: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] والدخان منها، والدخان حرام، ومنكر شرعاً، ولا يجوز لك أن تجلس في مجلسٍ يدخن فيه، فإن كنت تستطيع أن تنكره بيدك فافعل فإن لم تستطع فبلسانك فإن لم تستطع ففارق هذا المجلس، ولا تجلس في مجلسٍ كهذا، ولك أن تضع لوحة في المجلس -إن كنت لا تستطيع ويغلبك الحياء- تمنع بها التدخين، واطلب من الكبار أن يمنعوا كل من يدخن، ولا تجعل في بيتك أدوات طفايات أو ولاعات أو غيرها للمدخنين، لا تسمح في بيتك لهؤلاء، من أراد أن يدخن ليخرج ويدخن ثم يرجع إلى البيت، حاول قدر المستطاع، إن لم تستطع ففارق هذه المجالس التي يدخن فيها. ومن المنكرات: الإسراف في تجميل البيوت وتزويقها. تقول عائشة: (إن رسول الله خرج في غداة فأخذت نمرقة فسترته على الباب -قماش على الباب- تقول: فلما قدم فرأى النمرقة، عرفت الكراهية في وجهه، تقول: فهتكته -قطع القماش- فقال: يا عائشة! إن الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين) ما أمرنا أن نزين الحجارة والطين، وليس تجميل البيوت بحرام (إن الله جميل يحب الجمال) ولكن المذموم الإسراف والمبالغة في هذا، يقول عليه الصلاة والسلام

ضعف الروابط الأسرية

ضعف الروابط الأسرية كذلك من الثغرات التي في البيوت: ضعف الروابط الأسرية في البيوت. أخاطب الصالحين، أخاطب الدعاة بهذا بعض الصالحين يتعجب أن الأهل لا يستجيبون. أنكر المنكر فلا أحد يستجيب، وأنصحهم بالصلاة فلا أحد يصلي، أقول لهم: أبعدوا التلفزيون فلا يبعدونه، فماذا أفعل؟ أقول لك يا عبد الله! أد دورك في البيت يستجب الأهل لك، فما دورك في البيت؟ يدخل بعض الصالحين ولا يتكلمون، يستمع إلى شريط، ثم يقرأ في كتاب، فإذا أذن المؤذن خرج المسجد فحضر الدرس وجلس مع الصالحين، ثم رجع البيت، تعشى ثم نام، ثم قام في الصباح إلى المدرسة، ثم رجع وهكذا. أمه تقول له: تذهب إلى السوق؟ يقول: ما أستطيع عندي درس، اشتر الأغراض يوجد غيري فليذهب. هناك ضيوف في البيت من الذي يستقبلهم؟ الديوان موجود. أبوك سيسافر يحتاج إلى أغراض؟ يوجد غيري في البيت، ثم بعد هذا يسأل هذا الرجل يقول: لماذا لا يستجيب الأهل؟ سل نفسك يا عبد الله! واعلم أن البيت ليس فندقاً، تسلم ثم تأكل وتشرب ثم تذهب، لا بل أنت مسئول في البيت حالك كحال غيرك، عليك وظيفة كما على غيرك وظيفة، لا يصلح أن يأتي ذلك الفاسق فيقوم بأعباء البيت وأنت الصالح التقي لا تقوم بالأعباء، واسمع إلى تلك الأحاديث واعجب لها، تقول عائشة: (كان رسول صلى الله عليه وسلم يخيط ثوبه) تخيل يخيط ثوبه، إمام المسلمين، وخير الناس على وجه الأرض يخيط ثوبه، قالت: (ويخصف نعله، ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم) فهل تعمل هذا يا عبد الله؟ عبد الله! ما بالك لا تبر بوالديك، والوالدة لا تعطف على ولدها، والزوج لا يراعي حقوق زوجته، ولا الزوجة تراعي حقوق زوجها. عبد الله! انظر إلى هذا الحديث يقول عليه الصلاة والسلام: (كل لهو ابن آدم باطل إلا ثلاث -وذكر منها- مداعبة الرجل زوجته) فهل تداعب الزوجة؟ (هلا بكراً تلاعبها وتلاعبك، وتضاحكها وتضاحكك) هلا بكراً، كان عليه الصلاة والسلام يمازح عائشة ويتسابق معها، بل تقول رضي الله عنها: (كنت أغتسل أنا ورسول الله من إناء واحد بيني وبينه واحد فيبادرني -انظر يمازحها وهو يغتسل وهي تغتسل- تقول: فيبادرني حتى أقول: دع لي دع لي، فتقول: ونحن جنبان) انظر كيف كان يمازحها وهو على جنابة، وهي على جنابة، بل كان إذا أتى من سفر يستقبله الصبية في البيت، فيعانقهم ويحتضنهم عليه الصلاة والسلام، انظروا إلى دورنا في البيوت، ثم نسأل عن دور الأهل؟

ضعف الرقابة والمحاسبة

ضعف الرقابة والمحاسبة ومن الثغرات: ضعف الرقابة والمحاسبة في البيوت. أين الرقابة؟ وأين المحاسبة؟ وما دورك في البيت؟ ألا تسأل أختك عندما خرجت أين ذهبتِ؟ ولا تبالغ فيها، بل كن وسطاً فيها، أين ذهبت؟ من الذي أوصلك؟ وليس كل مرة حتى لا يضيق الأهل منك، ولكن بعض المحاسبة والمراقبة يا عبد الله! في البيت: مع من رجعت؟ لم تأخرتِ؟ والأب يسأل ابنه، فهذا النبي صلى الله عليه وسلم تأتي فاطمة فيقول لها: (أين كنتِ؟ فتقول: كنت في جنازة لبني فلان، فقال: لعلك بلغت معهم -يعني المقبرة- تقول: يا رسول الله! كيف أفعل وقد سمعتك قلت فيه ما قلت! قال: أما إنك لو فعلت -أي دخلتِ المقبرة- ما دخلت الجنة حتى يدخلها جد أبيك). وعائشة رضي الله عنها تقول: يخرج النبي صلى الله عليه وسلم ليلاً إلى البقيع قالت: فأذهب خلفه وأنظر ماذا يفعل؟ تقول: ودخل المقبرة، ثم رجع، فرجعت، فهرول فهرولت ودخلت البيت وسبقته فدخلت تحت اللحاف وغطيت نفسي، فدخل عليه الصلاة والسلام فجلس عندها فاستمع إليها تتنفس بسرعة، قال: (ما شأنك يا عائشة؟ قلت: لا شيء يا رسول الله! قال: لتخبرني أو ليخبرني اللطيف الخبير، قالت: يا رسول الله! كنت خلفك، قال: أما إنك كنت السواد الذي رأيته؟ قالت: بلى يا رسول الله! أنا السواد، قال: يا عائشة! أخفت أن يحيف الله عليك ورسوله، يا عائشة! أتاني جبريل وخشي أن يدخل عليك وأنت على غير حجاب فخرجت فكلمني وقال لي: إن الله يأمرك أن تذهب إلى أهل البقيع فتستغفر لهم، فذهبت فاستغفرت لهم). انظر كيف كان يسألها، وكيف كان يحاسبها، فهلا حاسبت زوجتك؟ وهلا حاسبت إخوانك؟ وهلا حاسبت أهل بيتك؟

إهمال الأولاد في البيوت

إهمال الأولاد في البيوت من الثغرات: إهمال الأطفال الصغار في البيوت. عباد الله! كلٌ منا له إخوة صغار، وله أبناء، فما دورك معهم؟ هلا جلست معهم تقص عليهم القصص؟ تعلمهم أصول العقيدة، كيف كان النبي عليه الصلاة والسلام مع ابن عباس يعلمه أصل العقيدة؟ (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك) هلا قصصت عليه قصة نوح، أو قصة أصحاب الكهف، أو قصة أصحاب الغار، وتعلمهم الآداب، وتحفظهم كتاب الله، وانظر هلا جلست تمازحه في البيت فقد كان عليه الصلاة والسلام يمازح الأطفال الصغار. يقول يعلى بن مرة -واستمع إلى هذا الحديث العجيب- (خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فإذا الحسين يلعب في الطريق، يقول: نخرج الآن -تخيل إمام المسلمين وسيد الخلق أجمعين يخرج مع أصحابه فإذا حفيده في الطريق، انظر ماذا فعل؟ - قال: فأسرع النبي في المشي أمام القوم، ثم بسط يديه، فجعل الغلام يفر هاهنا، ويفر هاهنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتبعه، قال: ويضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى أخذه فجعل إحدى يديه تحت ذقنه، والأخرى فوق رأسه فقبله عليه الصلاة والسلام، يقول: ونحن ننظر إليه) وكان عليه الصلاة والسلام يأتي الأطفال الصغار فيقول لأحدهم: (يا أبا عمير ما فعل النغير؟) وكان يأتي الأطفال فيحملهم على ظهره، وكان يمسح على رءوسهم، ويداعبهم، ويضحك معهم، يقول: (كان رسول الله ليجمع لسانه للحسن بن علي، فيرى الصبي حمرة لسانه فيندهش له) أي يضحك، ويسر له عليه الصلاة والسلام. أخيراً عبد الله ما هو الحل؟ الحل ذكرناه آنفاً في طيات الكلام، ولكن الله عز وجل يقول ونختم بهذه الكلمات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] إياك عبد الله والاندفاع، فلا ترجع إلى البيت اليوم، وتهتك الصور، وتزيل الهاتف، وتزيل التلفاز، إياك يا عبد الله! كن متدرجاً، وكن حكيماً، وكن فطناً، ابدأ معهم بالأولويات، بالأهم ثم المهم. أولاً: بأمرهم بالصلوات الخمس، بالفروض والواجبات، وحببهم إلى الدين، وحسن أخلاقك معهم، وقم بواجباتك، شيئاً فشيئاً تتدرج معهم، ولا تطلب المستحيل أن ينقلبوا في يوم وليلة، وتأمل في حاله عليه الصلاة والسلام، ثلاثة عشرة سنة يعلم أصحابه وما أمروا بأكثر الشريعة، حتى تقول عائشة: لو أمروا بترك الخمر ما فعلوا في مكة، وما أمروا إلا بعد الهجرة إلى المدينة، فكن متدرجاً وكن صابراً {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132] لم يقل الله عز وجل: واصبر، قال واصطبر، فتحمل واصبر عليهم، وكن رفيقاً بهم، وكن حليماً عليهم، أقول هذا القول وصلى الله وسلم على نبينا وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

الأسئلة

الأسئلة

التدرج في تعليم الأهل

التدرج في تعليم الأهل Q أريد أن أعلم أهلي العلم الشرعي فبماذا أبدا؟ A أظن في الكلام الذي ذكرناه، يبدأ معهم بأصول العقيدة، بأحكام الفقه التي يحتاجونها، وليس كل أحكام الفقه بل التي يحتاجونها، من الطهارة والصلاة والعبادات والزكاة وغيرها مما يحتاجون إليه، ويحببهم في الدين بالرقائق وفضائل الأعمال مثل رياض الصالحين وغيرها من الكتب.

نصيحة لإحدى الضرات

نصيحة لإحدى الضرات Q أمي تصلي وتصوم وتقوم الليل ولا أزكيها على الله، ولكنها لا تحب امرأة أبي، يعني ضرتها، وتتشاجر معها دائماً، فماذا تنصحها يا شيخ؟ A هذا يحصل، حتى إنه حصل مع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان يحصل بينهن خلاف، بل انقسم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إلى حزبين، حزب مع عائشة، وحزب مع أم سلمة، وكان يقع بينهن من الخلاف الشديد، بل مرة أتت إحدى أزواح النبي صلى الله عليه وسلم بصحن فيه طعام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرأته عائشة فكسرته من الغيرة الطبيعية التي تحصل بين النساء، ولكن نحاول أن نسدد ونقارب، وهي تتحمل، وتلك تتحمل، وكل منهما تكتم غيظها وغيرتها في قلبها، فإن رأت ما تكره من زوجة زوجها فعليها أن تتذكر محاسنها وفضائلها لكي تصبر وتتحمل، فلعلها تهدم صلاتها وصيامها ببعض أخلاقها السيئة.

المعين على قيام الليل

المعين على قيام الليل Q أريد قيام الليل ولكن الشيطان يوسوس لي، فماذا أفعل؟ A اترك الذنوب والمعاصي يعينك الله عز وجل على قيام الليل.

نصيحة للنساء

نصيحة للنساء Q ما نصيحتك للنساء وخاصة أن هناك نساء كثيرات؟ A النصيحة التي ذكرناها هي للرجال وللنساء، بل أعظم الناس حلولاً في هذه القضايا وهذه الثغرات هن النساء، لأنهن ربات البيوت، وهن أكثر من يجلس في البيوت، فإذا صلحت ربة البيت والأم التي تجلس في البيت صلح البيت كله، فعليهن صلاح الأولاد، وصلاح الذرية، وصلاح أهل البيت كله.

صحة إمامة الرجل زوجته في النوافل

صحة إمامة الرجل زوجته في النوافل Q هل يجوز لزوج أن يؤم الزوجة في صلاة الليل أو بالعكس؟ A نعم يجوز أن يؤم بها وتصلي خلفه، والصحيح أنه هو الذي يؤم بها، ولا تؤم المرأة الرجال.

حكم الألعاب التي على هيئة صور مجسمة

حكم الألعاب التي على هيئة صور مجسمة Q ما حكم ألعاب الأطفال التي تكون مجسمة على أشكال الحيوانات أو يكون فيها صور؟ A لو تساهلت في البداية في بيتك في أمور صغيرة فسوف تكثر عليك الأمور وتتشعب وإن الجبال من الحصى، فإياك أن تتساهل في البداية، ولو كانت للبنات، فلا تأتي بعروسة شكلها مجسم تماماً، فلو كانت العروسة ممسوحة الوجه، أو ليست بهيئة إنسان مائة بالمائة، فلا بأس بهذا، لكن أن تأتي بتمثال، بهيئة إنسان مائة بالمائة فلا، فهذا لا يجوز، أو تأتي بملابس لأطفالك عليها صور ذات أرواح وما ذكرناه في الدرس من الصور نقصد بها ذات الأرواح، أن تأتي بملابس الأطفال فيها صور لذوات الأرواح، وإن تساهلت في هذه الأمور شيئاً فشيئاً فسوف تسمح بالصور تعلق على الجدران، ثم تسمح بالتماثيل، ثم تسمح بجميع المنكرات، فاقطع الشر من دابره، نعم هناك صور لا تستطيع أن تتخلص منها مثل التي على المعلبات فلا حرج فيها، أو في الجرائد فقد تأتي فيها صور لكن بعد قراءتها عليك أن ترميها من البيت، وأحياناً تأتي بعض الصور داخل بعض الكتب فلا بأس لكن لا تكون على الأغلفة، الآن هناك مشقة في بعض الأمور والمشقة تجلب التيسير.

حكم لبس الساعة التي فيها شكل صليب

حكم لبس الساعة التي فيها شكل صليب Q بالنسبة لساعة اليد التي عليها صليب وهي غالية الثمن، وليس هناك سبيل لتغييرها، وشكل الصليب الذي فيها ليس بواضح؟ A إن كان هذا الشكل الذي ذكره فهذا ليس بصليب، لكن ينتبه إذا كان يقترب من شكل الصليب فالأولى أن يتركها (ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه) حتى إن أحد الرجال الصحابة كان يلبس خاتماً من حديد فنزعه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (هل يجرؤ أحدكم إلى جمرة من نار فيضعها على يده وأخذها ورماها على الأرض، فلما ذهب عليه الصلاة والسلام قالوا له: خذها وابتعها وانتفع بثمنها، قال: لا والله. لا آخذ شيئاً رماه رسول الله صلى الله عليه وسلم) فاتركها إن كانت أقرب إلى الصليب. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

حياؤك إيمانك

حياؤك إيمانك إعداد المرأة وتربيتها هو الخطوة الأولى في طريق الإصلاح الشامل للمجتمع. والإسلام منهج لإعادة صياغة الإنسان فكراً وعقيدة وأخلاقاً، وقد أنتج هذا التوجه نماذج رائعة من النساء الرائدات، وجدير بكل مؤمنة أن تأخذ ذلك بعين الاعتبار حين تنظر إلى موقعها في خارطة الصلاح والفساد. والدعوة إلى طريق هؤلاء النساء والتحذير من مسالك شياطين الإنس، الذين يخططون لسلب المرأة أغلى ما لديها، هو الموضوع الأساس لهذه المحاضرة.

وقفة مع أم أيمن

وقفة مع أم أيمن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. ثم أما بعد: أختي الكريمة: أسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعني وإياكِ في هذا المجلس، وأن يكون ما نقول في هذا المجلس حجة لنا لا حجة علينا. أبدأ حديثي إليكِ بقصة لا علاقة لها بالموضوع عن طريقٍ مباشر فاسمعي إليها: لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر لـ عمر رضي الله عنهما: مر بنا إلى أم أيمن، من هي أم أيمن؟ إنها إحدى الصحابيات إنها امرأة وهي واحدة من بنات جنسك عاشت في العصر الأول وفي الصدر الأول من يزورها؟ إنهما خير من يمشي على وجه الأرض حين ذاك، إنهما أبو بكر وعمر -الشيخان- رضي الله عنهما. قال: مر بنا إلى أم أيمن نزورها كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها، فلما وصولا إليها بكت أم أيمن، فقالا لها: ما يبكيك رحمك الله؟ إن ما عند الله خيرٌ لرسوله، تبكين على رسول الله؟! رسول الله غادر هذه الدنيا الملعونة الحقيرة إلى ما هو خير، إلى ما هو أعظم، فلم تبكين؟ فقالت: إني لأعلم أن ما عند الله خيرٌ لرسوله، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صار إلى خير مما كان فيه، ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع عنا من السماء، فهيجتهما على البكاء، فجعل أبو بكر يبكي، وجعل عمر يبكي، وبكى الثلاثة جميعاً أن الوحي قد انقطع من السماء. إن أم أيمن تبكي وإن المرأة في القرن العشرين تبكي، لكن ما الفرق بين البكائين؟! ما هَمُّ أم أيمن؟! همها أن الوحي قد انقطع، أما الآن فلا وحي جديد، ولا قرآن ينزل، لهذا بكت، هذا هَمُّ أم أيمن، وما هم فتاة القرن العشرين؟! تبكي آخر الليل لفراق حبيبها، وتبكي أول النهار لسماعها ذلك المطرب وهو يتغزل بالنساء، تبكي لأنها ما لقيت عشيقها في تلك الليلة، تبكي لأنه تزوج ولم يتزوجها! فرقٌ بين أم أيمن وبين فتاة القرن العشرين، أم أيمن تبكي لأنها تسمع قول الله: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً} [الزمر:23] اسمعي إلى أم أيمن كيف كانت تستشعر إلى هذا القرآن {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} [الزمر:23] تقشعر الجلود، تدمع العيون. هذا المصطفى عليه الصلاة والسلام يقول لأحد أصحابه: (اقرأ، قال: اقرأ عليك وقد أنزل القرآن عليك! قال: أقرأ، إني أحب أن أسمعه من غيري، قال: فقرأت حتى وصلت إلى قول الله تعالى في سورة النساء: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء:41] قال: حسبك -لمَ حسبك؟ - قال: فنظرت فإذا عيناه تذرفان) ما تحمل عليه الصلاة والسلام ذلك الكلام، يقوم الليل كله بآية، فهلا جلسنا هذه الساعة كما جلست أم أيمن تبكي لأن الوحي قد انقطع. أختي الكريمة: كيف حالك مع القرآن؟! هل دمعت عينك يوماً ما؟! سلي نفسك هذا السؤال، كم تقرئين في اليوم والليلة؟ كيف أنت مع أوامر القرآن ونواهيه وأحكامه؟ كم تحفظين من القرآن؟ هلا سألت نفسك هذا السؤال؟ هل هذبت به النفس، وطهرت به القلب، ورفعت به الإيمان؟ هل عملت به؟ هل دعوت إليه؟ هل شغلت به الأوقات؟ أم أنها المسلسلات والمجلات والأغنيات والفيلم والمرآة والزيارات وغيرها، إننا نفقد أم أيمن في هذا الزمن.

المرأة بين الجاهلية والإسلام

المرأة بين الجاهلية والإسلام أختي الكريمة: ولنبدأ بموضوعنا: حياؤك إيمانك. إن المرأة قبل الإسلام لا شيء، إن المرأة قبل الإسلام في متاعب بل هي أحقر حتى من الدواب، المرأة قبل هذا الدين وقبل هذه الشريعة المتاع خيرٌ منها، بعض الدواب تُرحم أما هي لا ترحم، إذا مات زوجها هل ترث منه شيئاً؟ لا بل هي تورث، يرثها إخوان الزوج، أقرباء الزوج يرثونها كالمتاع الساقط اللاقط، بل البنت كانت يوماً من الأيام عاراً وفضيحة. انظري إلى عبد الله بن المغفل بعد أن أسلم كان يبكي، لماذا؟ لأنه طلب من زوجته أن تزين تلك البنت، من؟ إنها ابنته، زينيها، فأخذها وقلبه يرق لها ولكن يخشى العار والفضيحة، فإذا به يذهب بها إلى ذلك البئر الذي قد جف منه الماء، فيتردد هل يلقيها في ذلك البئر والبنت تداعبه وتلاعبه، وقد زينتها أمها بأحسن زينة، وهو يتردد بين عاطفة الأبوة وبين الجاهلية الجهلاء، من خوف الفضيحة والعار يتردد ويتلكأ، ثم إذا به بعد لحظات يسقطها من شفير البئر إلى قاعه لتسقط بجسدها في ذلك البئر الذي جف فتناديه تقول: يا أبتِ! ضيعت الأمانة! يا أبتِ ضيعت الأمانة! يأتي رجل ويقول: (يا رسول الله! كانت لي في الجاهلية اثنتي عشرة بنتاً وأدتهن كلهن فقال: من لا يرحم لا يُرحم). {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ} [النحل:58] قبل الإسلام، قبل شريعة محمد عليه الصلاة والسلام، قبل هذا القرآن الذي بين يديك {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} [النحل:58 - 59] يتردد بين هذا وهذا، هل يمسكه على هونٍ وذلٍ وفضيحة وعار، أم يدسه في التراب؟ يدس من؟ تلك البنت الصغيرة التي شرفها الله، بل جاء الإسلام ورفع شأنها حتى جعل سورة كاملة في القرآن وسماها "النساء"، بل وسورة أخرى سماها "مريم"، بل سورة ثالثة سماها "المجادلة"، كل هذا لمن أختي الكريمة؟ تكريماً وتشريفاً لك يا أمة الله! إن المرأة في هذا الدين قسيمة الرجل، لا فرق بينها وبين الرجل {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ} [الأحزاب:35] نعم، لها ما للرجل وعليها ما على الرجل إلا فيما اختصت به، وإلا فيما اختص به ذلك الرجل. أختي الكريمة: جاء الإسلام ليرفع من شأنك وليعزك، هذا الإسلام الذي جاء موافقاً لفطرة المرأة، المرأة مفطورة على ماذا؟ مفطورة على الحياء، مفطورة على الحجاب، على الستر، على العفاف، هذه فطرة المرأة فطرت عليها، ولهذا لما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمهن ذلك الأدب، ويحثهن على ذلك الحياء، قال لهن لما خرجن من المسجد: (استأخرن، فإنه ليس لكن أن تحققن الطريق، عليكن بحافات الطريق) لا تمشين في الوسط، لا تزاحمن الرجال في الطرقات، هذا وهي ليست خارجة من مسرح، أو ملهى، أو مقهى، أو مطعم! لا. أختي الكريمة، بل وهي خارجة من بيت الله قال: (استأخرن، فإنه ليس لكن أن تحققن الطريق -أي تتوسطن الطريق- عليكن بحافات الطريق). هل اعترضت إحداهن؟ هل قالت: كيف وكيف؟! هل قالت: أنا امرأة لي الوسط كما للرجل؟! هل قالت المرأة هذا الكلام؟ لا، قال الراوي: (فكانت المرأة تلصق بالجدار حتى إن ثوبها ليلصق بالجدار من لصوقها به) الثوب يلصق بالجدار، فطر الله المرأة على هذا. أيما امرأة خالفت حياءها وعفتها فإنها خالفت فطرتها، ومسخت فطرتها؛ لأن الله جل وعلا يخاطبها بالفطرة فيقول: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:59] هل أنتِ من نساء المؤمنين؟ إذن اسمعي: {وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59] قال بعضهم: أي يضعن الغطاء من الرأس إلى الصدر فلا تبدو إلا عينٌ واحدة للطريق فقط، حتى ترى بها الطريق، عينٌ غير مكحلة، ولا مزينة {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الأحزاب:59].

امرأة من أهل الجنة

امرأة من أهل الجنة عن عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس: [ألا أريك امرأة من أهل الجنة قلت: بلى يا ابن عباس] امرأة في الدنيا تمشي وهي من أهل الجنة الله أكبر! كيف استحقت الجنة هذه المرأة؟ قال: [هذه المرأة السوداء انظر إليها] انظر إليها إنها من أهل الجنة وهي تمشي على الأرض، أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (إني أصرع وأتكشف فادع الله لي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن شئتِ صبرت ولك الجنة -الصبر على هذا الصرع، وهذا البلاء ما الثمن؟ الجنة، الجنة يا أختي الكريمة- وإن شئتِ دعوت الله أن يعافيك -تريدين المعافاة؟ أو تريدين الصبر على البلاء ثم الجنة؟ - فقالت: بل أصبر يا رسول الله). القضية جنة أختي الكريمة، جنة عرضها السماوات والأرض، جنة فيها الأنهار تجري من تحتهم، جنة فيها القصور لبنة من ذهب ولبنة من فضة، جنة عرضها السماوات والأرض، قالت: (بل أصبر ولكني أتكشف فادع الله لي ألا أتكشف، فدعا لها صلى الله عليه وسلم) نعم. أحب الجنة، وسوف أصبر على هذا البلاء وأتحمل هذا المرض، وأتحمل هذا الصرع إلا شيئاً واحداً لا أتحمله، ما هو؟ إنه التكشف {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200]. نعم، أختي الكريمة إنها صبرت لكنها لم تصبر على التكشف، والسبب حياؤها، تقول: يا رسول الله! نعم أريد الجنة، لكن لا أتحمل أن أتكشف، فيراني الرجال، ففرحها بالجنة لم ينسها حياؤها.

ضرورة التمسك بالحياء والصبر على ذلك

ضرورة التمسك بالحياء والصبر على ذلك أختي الكريمة: إياك إياك! أن تبالي بالدعوات السافرة، قالوا: معقدة، قالوا: متزمتة، قالوا: من يتزوجك؟ قالوا: انظروا إلى الخيمة التي وضعتها على رأسها، قالوا: انظروا إليها لا تستطيع أن تمشي، من سوف يقودك إلى الجامع؟ إلى المدرسة؟ من قال لك: إن الحجاب واجب؟! ومن ألزمك بالحجاب؟! دعوات ما تحملتها تلك المرأة فإذا بها تقول لهم: كفى كفى. لا أتحمل هذا، فنزعت حياءها، وتعرت من جلبابها، ورمت حجابها، ثم انكشفت أمام الناس، والله جل وعلا يقول لها ولأمثالها: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31] قال العلماء: يعني الثوب الخارجي، هذا الذي يظهر، هل لك على العباءة سبيل؟ لا، العباءة لا بد أن تظهر، وكل الصحابيات كُن َ كالغربان السود، أرأيت الغراب الأسود؟ هل يُرى منه شيء أبيض؟ لا، فهن كالغربان السود، يمشين في الطرقات، ويلتصقن بالجدار، فيتعلق ثوبها بالجدار. أرأيت: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31] بعض الناس يقول: ما ظهر أي: الوجه والكفان لا، خاب وخسر، والكفان، تقول عائشة: [كنا محرمات فإذا مر علينا الرجال أسدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها] تسدل الواحدة جلبابها على وجهها، وهي محرمة لا يجوز لها أن تغطي وجهها، ولكن كشف الوجه أشد، لا بد أن تغطي وجهها إذا مر عليها الرجال، ولكن تقول: [فإذا جاوزونا كشفناه] نعم، إذا جاوزونا كشفناه {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [الأحزاب:59] ثم قال في نهاية الآية، اسمعي وعي: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور:31] يعني: حتى لو كان في رجلك خلخال، أو أي شيء يوضع في الرجل، أو كان كعب عالٍ؛ فانتبهي، لا يجوز لك أن تضربي بالرجل على الأرض، بل ما الذي دعاك ودهاك فلبستي هذا الخلخال؟! أختي الكريمة: أين الحياء؟ (الحياء والإيمان مقترنان، إذا ذهب أحدهما ذهب الآخر) واسمعي ما يقوله بعضهم: إنا سمعنا أختنا شيئاً عجاب قالوا كلاماً لا يسر عن الحجاب قالوا خيام علقت فوق الرقاب قالوا ظلام حالكٌ بين الثياب قالوا التأخر والتخلف في النقاب قالوا الرشاقة والتطور في غياب نادوا بتحرير الفتاة وألفوا فيه الكتاب رسموا طريقاً للتبرج لا يضيعه الشباب يا أختنا هم ساقطون إلى الحضيض إلى التراب يا أختنا هم سافلون بغيهم مثل الكلاب يا أختنا هذا عواء الحاقدين من الذئاب يا أختنا صبراً تذوب ببحره كل الصعاب يا أختنا أنت العفيفة والمصونة بالحجاب يا أختنا فيك العزيمة والنزاهة والثواب فالنار مثوى الظالمين لهم عقاب والله يكشف ظلمهم يوم الحساب والجنة المأوى ويا حسن المآب

قصة تبين أثر العفة

قصة تبين أثر العفة أختي الكريم: أسمعت بـ سارة؟ من هي؟ إنها زوجة الخليل إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، سارة أخذت عنوة إلى ذلك الظالم الطاغية الذي كان يحكم مصر في ذلك الزمن. قام جنوده بالقبص عليها، قبضوا على من؟ على العفيفة الطاهرة سارة، ليذهبوا عفتها، وليسلبوا كرامتها، أخذوا زوجة خليل الرحمن! فإذا بها تربط وتحبس لتنتظر مصيرها الأسود المظلم، فرفعت يدها وقلبها إلى الله جل وعلا وهي تبكي فقالت: اللهم إن كنت تعلم أني أؤمن بك وبرسولك وأحصنت فرجي إلا على زوجي فلا تسلط عليَّ هذا الكافر، اللهم اكفنيه بما شئت، اللهم اكفنيه بما شئت. فاقترب منها الكافر ليسلب منها ما يريد، فإذا بجسمه ينشل، وإذا بجسمه يتجمد، وإذا به لا يستطيع الحراك، فيصرخ ويصيح، فإذا تركها زال ما به، ثم إذا اقترب منها مرة أخرى يتجمد جسمه مرة ثانية وينشل ولا يستطيع أن يحرك الجسد، وكلما أراد الاقتراب منها تجمدت يده وانشل جسمه وصرخ: أخرجوها من عندي ما جئتموني إلا بشيطان، ثم أرسلها إلى زوجها ومعها هدية هاجر فأصبحت جارية لإبراهيم خليل الرحمن {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8].

واقع المرأة في العصر الحديث

واقع المرأة في العصر الحديث أختي الكريمة: هذا الزمن الأمر تغير، والنساء تغيرن، أين الحياء؟ تجدين المرأة في هذا الزمن تجلس مع رجل، وتختلي معه في غرفة، وتغلق الباب وهي معه، بحجة ماذا؟ دكتور في الجامعة، أو في الكلية، تناقشه في رسالتها، أو تسأله بعض الأسئلة، أو تبحث معه بعض المواضيع الدراسية، من هو؟ هل هو رسول الله؟! من هو؟! هل هو أبو بكر؟! لو كان أبو بكر فإنه لا يجوز. وإن كنَّ بعض النساء تأتي بحجة أنها مريضة، فتذهب إلى المستشفى، أو إلى المستوصف فتدخل على الطبيب وتخلو به لوحدها، بلا محرم من محارمها كالأب والأخ وغيرهما، حتى ولا أمٌ ترافقها، تدخل على الطبيب لوحدها، فيغلق الباب فيسألها عما شاء، وينظر إليها كيف شاء، بل والمصيبة والأدهى والأمر أ، يكشف منها ما شاء! الله أكبر! أين الحياء؟! أين العفة؟! أين الطهارة؟! إلى هذه الدرجة تنازلت المرأة؟! إلى هذه الدرجة -أختي الكريمة- تساهلتِ في الحياء؟! عفتكِ عندك لا شيء؛ إن المرأة لا تساوى شيئاً بغير عفة، المرأة بغير حياء لا تساوى شيئاً، لا تساوى ذلك المنديل الذي ترميه في القمامة، إي والله! أختي الكريمة: هل نسيتِ نداء الله جل وعلا؟ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59]. أختي الكريمة: بعض النساء تذهب مع زوجها، أو أخيها، أو حد محارمها. إلى أين؟! تذهب إلى ملهى، أو إلى مطعم تقول: هذا مكان مخصص للعائلات وفيه اختلاط الرجال مع النساء، وهي تقول: هذا مكان للعائلات، هل هذه حجة؟ هل هذا تأويلٌ أم تحريف لنصوص الشرع؟ وبعضهن تذهب للأسواق بحاجة وبغير حاجة، لم؟ تقول: أريد أن أخرج من البيت، مللت هذا السجن، مللت هذا البيت، أريد أن أذهب كي أتسكع في الأسواق، ثم تقول: الحمد لله لست بمفردي، مع من تذهبين؟ أذهب مع السائق! الله أكبر! أين الحياء؟! أين العفة؟! إيمانك مرتبطٌ بالحياء، كلما قل الإيمان قل الحياء، وإذا ذهب الحياء: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت). تجلس بعض النساء في أماكن مختلطة وليس لها في ذلك حاجة، مثلاً: تذهب إلى المستشفى هناك طبيبة أو طبيباتٌ وطبيبٌ واحد، وتقول: لا أريد طبيبة، أريد طبيباً بحجة أنها ضعيفة، إنها لا تفهم مثل غيرها، تريد طبيباً، الله أكبر! أين حياؤك؟ أين عفتك؟ هل وضعتي الحياء في البيت ثم خرجتِ! اسمعي أختي الكريمة: إن هذا الوجه الذي طالما كنتِ في الدنيا تحسنيه، وتجمليه، وهذا الجسد كم كنت في الدنيا تحرصين على نعومته، وهذه الثياب التي تلبسينها، أتعلمين -يا أختي الكريم- أنه سوف يأتي يوم إن كنت من الغافلات، وكنتِ ممن ذهب عنهن الحياء وضاعت منهن العفة، اسمعي يا أختي الكريمة إلى هذا الوجه، ما الذي سوف يحصل له {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} [الأحزاب:66] أرأيتي السمكة كيف تشوى في النار؟ وهكذا يتقلب هذا الوجه الحسن، والوجه الجميل، ما الذي حدث له؟ ما الذي جرى له؟ أين جمالك؟ أين تلك النضارة؟ {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} هل تعرفين ما السبب؟ {يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا} [الأحزاب:66]. يا ليتنا أطعنا الله عندما قال: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59] يا ليتنا أطعنا الرسول عندما قال: (المرأة عورة) (صنفان من أمتي من أهل النار لم أرهما، وذكر منهما نساء كاسيات عاريات) نعم تلبس لكن اللبس عارٍ، تجعل أسفل الثياب شقوقاً وخرقاً لماذا؟ بحجة أن تمشي على راحتها، ولم تجعلين الثياب ضيقة؟ من أباح لك هذه الثياب الضيقة؟ وتجعل أعلى الصدر فتحة، وعند الساقين فتحة، وإذا الأكمام قصيرة حتى بدا الساعدان، والثياب ضيقة حتى انكشفت الصدور، واتصف الجسد.

المصير المحتوم للمرأة المتبرجة

المصير المحتوم للمرأة المتبرجة أختي الكريمة: أتعلمين ما الذي سوف يحدث لهذا الوجه الذي كنتِ طالما تحسنيه وتجمليه {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا} [الكهف:29] يستغيثون في النار، يستغيثون يريدون الماء يريدون الشراب البارد، يريدون أي شيء حتى الموت ولا يحصلونه. {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ} [الكهف:29] انظري إلى رحمة الله، يعطيهم الله عز وجل الماء، يقتربون ليشربوا من الماء فإذا بفروة الرأس تسقط، وإذا بالوجه يشوى، أرأيت كيف يشوى اللحم؟ يشوى الوجه قبل شرب الماء {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً} [الكهف:29]. هذا الجلد الناعم، أتعرفين ما الذي سوف يحصل له؟ {كَلَّا إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى} [المعارج:15 - 16] نزاعة للشوى: ينفصل العظم عن اللحم، يظهر العظم دون اللحم، لم؟ من شدة حر النار {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56] يا من تلبسين الملابس الفاتنة، وتخرجين إلى الناس لتقولي لهم: هيت لك! يا من تلبسين الملابس التي هي من فرنسا وأمريكا وبريطانيا، مجلات داعرة، حتى إن بعض المسلمات تسبق الكافرات باللباس الفاتن، يا من تخرجين إلى الناس، وتظنين أنه لا أحد يراك، وقد فتحت في الثوب فتحة، أو رميت العباءة، أو وضعتها على الكتف، أو تلبس البنطلون، نسأل الله العافية! الله أكبر! أختي الكريمة: كوني صادقة، ارجعي إلى نفسك، حاسبيها حساباً صادقاً، أتعرفين ماذا يلبس أهل النار؟ اسمعي أختي الكريمة! اسمعي وتفكري واستشعري {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ} تفصل لهم ثياب، أتعرفين ما هذه الثياب؟ من حرير؟ أم ممَ؟ {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} [الحج:19 - 20] بل أكثر من هذا، يلبسون قبل دخولهم النار ثياباً، أتعرفين ممَ؟ من نحاس منصهر، تخيلي النحاس إذا انصهر، هل تستطيعي أن تضعي إصبعك فيه؟! أهل النار يلبسونه رجالاً ونساءً {وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} [إبراهيم:49 - 50]. أختي الكريمة: لقد سمعنا أن امرأة تأتي إلى بائعٍ في محل فتداعبه، وتضاحكه، بحجة ماذا؟ حتى يخفض السعر، سبحان الله! الدينار أغلى عندك من الحياء؟! الدرهم والدينار صارا عند بعض النساء أغلى من العفة والكرامة، وأغلى من العرض. أختي الكريمة: كيف تختلي امرأة في محلٍ مع بائع وقد كشفت وجهها وساعديها وتنظر إليه وتكلمه ويكلمها، وكأنه محرمٌ لها، اسمعي لما يقول الشاعر، وتفكري وتدبري واجعلي نفسك مثلما يقوله هذا الشاعر: كيف احتيالي إذا جاء الحساب غداً وحشرجت بي أثقالي وأوزاري وقد نظرت إلى صحفي مسودة من شؤم ذنبٍ قديم العهد أوطار وقد تجلى لبسط العدل خالقنا يوم المعاد ويوم الذل والعار يوم الذل، ذل والله! {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:87 - 89]. وقد تجلى لبسط العدل خالقنا يوم المعاد ويوم الذل والعار يفوز كل مطيعٍ للعزيز غداً بدار عدلٍ وأشجار وأنهار لهم نعيم خلود لا نفاد له يخلدون بدار الواحد الباري ومن عصى في قرار النار مسكنه لا يستريح من التعذيب في النار فابكوا كثيراً فقد حق البكاء لكم خوف العذاب بدمع واكفٍ جاري

العفة في أعلى مراتبها نماذج وشواهد

العفة في أعلى مراتبها نماذج وشواهد فاطمة بنت محمد بن عبد الله رضي الله عنها وصلى الله وسلم على أبيها، أسمعتي بها؟ هل جاءتك أخبارها؟ هل تشكين فيها يوماً من الأيام؟ اسمعي إليها وهي تحاور صديقة لها، من هي؟ إنها أسماء بنت عميس، تقول لها: [يا أسماء -اسمعي للحوار، وعيه، وانتبهي إليه، وتدبري معانيه- إني لأستحي أن أخرج غداً على الرجال من خلال هذا النعش] أتعلمين ماذا تقصد؟ تقول: يا أسماء أخاف أن أحمل يوماً من الأيام على الأكتاف، فينظر الناس إلى جسمي، وقد وصف هذا الجسم تقول: أخاف من هذا المنظر، أخاف من هذا الموقف، لا أتحمله، نعم تخاف على حيائها بعد الموت، وتخشى على عفتها بعد الموت، تريد أن تعيش عفيفة وتموت عفيفة وتحشر إلى الله عفيفة. فقالت لها أسماء: [يا فاطمة! أولا نصنع لك شيئاً رأيته في الحبشة؟ تقول: فصنعت لها النعش المغطى من جوانبه] مثل الصندوق، توضع فيه المرأة فلا يراها من حولها، وتحمل على الأكتاف لا يراها الناس، الله أكبر! الله أكبر! تقول فاطمة: ما أحسن هذا وأجمله، سترك الله كما سترتني. أرأيت -أختي- عفافاً مثل هذا العفاف؟ أرأيت طهراً أفضل من هذا الطهر، تقول فاطمة يوماً من الأيام: [خيرٌ للنساء ألا يرين الرجال ولا يراهن الرجال]. هي بنت من هي زوج من هي أم من من ذا يداني في الأنام علاها أما أبوها فهو أفضل مرسلٍ جبريل بالتوحيد قد رباها وعلي زوج لا تسل عنه سوى سيف غدا بيمينه تياها أختي الكريمة: يا من بدأ الناس يتكلمون على عفتك، وحيائك، وحجابك! قوليها صادقة: لست من تأسر الحلي صباها فكنوزي قلائد القرآن وحجابي الإسلام فوق جبيني هو عندي أبهى من التيجان لست أبغي من الحياة قصوراً فقصوري في خالدات الجنان {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31]. هذه امرأة قتل ولدها في المعركة، فجاءت بعد المعركة تبحث عن ولدها بين القتلى، تبحث عنه يمنة ويسرة، تبحث عنه بين القتلى فلا تجده، امرأة متنقبة محتجبة محتشمة تبحث عن ولدها القتيل بين القتلى، فرآها الرجال تبحث عن ولدها، فقالوا لها: يا فلانة اكشفي النقاب لتبحثي عن ولدك حتى تريه، أتعلمين ماذا قالت؟ إن حزن فقد ولدها لم ينسها عفتها وكرامتها وحياؤها، قالت تلك المرأة كلماتٍ عجيبة قالت: لأن أفقد ولدي خيرٌ لي من أن أفقد حيائي وديني. يعيش المرء ما استحيا بخيرٍ ويبقى العود ما بقي اللحاء فلا والله ما في العيش خيرٌ ولا الدنيا إذا ذهب الحياء

نساء في الهاوية

نساء في الهاوية قبل أيام جاءني بعض الإخوة -واسمعي وانتبهي فالخطب جلل- من الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، من الدعاة الصادقين، رأوا بعض العمارات التي يدخلها النساء غير الشريفات، عمارات وشقق مخصصة لهذه الدعارة الفاضحة الماجنة، فانتظروا تلك المرأة حتى خرجت، فجاءوا إليها يكلموها وينصحوها، فاتضح أنها تملك بيتاً وزوجاً وأولاداً وبناتاً، لا إله إلا الله! من الذي جرها إلى هذا؟ من الذي ضحك عليها؟ من الذي غرها؟ أختي الكريمة: إن هذا الحياء الذي نطالبك به وذلك الحجاب، وأن تصبح المرأة كلها محجبة محتشمة ليس طاعة لفلان أو علان، وليست عادة، وليست تقاليد، أو موروثات، لا يا أختي الكريمة، إنما هي طاعة لله ولرسوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36] ليست لك الخيرة، إنه أمر الله، وأمر رسوله عليه الصلاة والسلام. أختي الكريمة: كلها ستين أو سبعين سنة ثم ماذا؟! ثم سوف تقفين بين يدي الجبار العزيز القهار، الذي لا تخفى عليه خافية {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:30]. أختي الكريمة: سوف تقفين بين يدي العزيز القهار الجبار، يقول لك: يا فلانة! ألم أوجب عليك الحجاب؟! يا فلانة ماذا فعلت بالحياء؟! يا فلانة ألم تعلمي أنني أراك وأنت تكلمين ذلك الرجل؟! ألم تعلمي أنني أسمعك وأنت ترفعين سماعة الهاتف فتكلمي فلاناً ويكلمك فلان؟! فلانة ما الذي غرك بي؟ ألم أصح لك جسدك؟ ألم أسقك من الماء البارد؟ وإن كذبت على الله وقلتي: يا رب ما فعلت شيئاً، يا رب ما ارتكبت شيئاً، ما كلمت رجلاً قال: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65] تنطق اليد فتقول: يا رب! في اليوم الفلاني فتحت تلك المجلة، وذلك التلفزيون، ونظرت إلى ذلك المسلسل، يا رب! في اليوم الفلاني صافحت ابن عمها، وصافحت ابن خالها، يا رب! في اليوم الفلاني لمست ذلك الرجل ولمسها ذلك الرجل، إنها الفضيحة، إنه العار، والذل بين يدي العزيز القهار، ذلك اليوم تصبح المرأة -واسمعي إلى حالها-: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2]. هل تتحملين يا أختي الكريمة وقوفك أمام الله جل وعلا، الجلد يتكلم، والرجل تنطق، تقول: يا رب في اليوم الفلاني سافرت بغير محرم، يا رب في اليوم الفلاني ذهبت إلى ذلك المطعم، ولذلك الملهى، ولذلك النادي، وإلى ذلك السوق {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ} [فصلت:21].

حوار شعري مع متبرجة

حوار شعري مع متبرجة اسمعي إلى هذا الرجل وهو يخاطب تلك المرأة التي كشفت عينيها المكحلتين، وشيئاً من خديها، والكفين وشيئاً من الساعدين، بل لما كانت تمشي تنزل من السيارة تظهر شيئاً من ساقيها، أو تصعد السلالم تظهر شيئاً من ساقيها ولا تبالي ولا تهتم، اسمع إلى هذا الشاعر كيف يخاطبها يقول لها: هذي العيون وذلك القدُ والشيح والريحان والندُّ من أين جئت أأنجبتك رؤىً بيض فأنت الزهر والوردُ قالت وفي أجفانها كحلٌ يغري وفي كلماتها جدُ عربية حريتي جعلت مني فتاةً ما لها ندُّ أغشى بقاع الأرض ما سنحت لي فرصةٌ بالنفس يعتدُّ عربيةٌ فسألت مسلمةٌ قالت نعم ولخالقي الحمدُ فسألتها والحزن يعصف بي والنار في قلبي لها وقدُ من أين هذا الزي ما عرفت أرض الحجاز ولا رأت نجد هذا التبذل يا محدثتي سهم من الإلحاد مرتد فتنمرت ثم انثنت صلفاً ولسانها لسبابها عبدُ قالت أنا بالنفس واثقة حريتي دون الهوى سد فأجبتها والنار تلفحني أخشى بأن يتناثر العقدُ ضدان يا أختاه ما اجتمعا دين الهدى والكفر والصد والله ما أزرى بأمتنا إلا ازدواجٌ ما له حدُ ألا تفكرين في ذلك اليوم؟

أين المتبرجات من هذه المرأة

أين المتبرجات من هذه المرأة أختي الكريمة: والله إن الأب ليتبرأ، وإن الأم لتهرب، وإن الأطفال ليتبرءون منك عند الله جل وعلا، تأتين إلى ابنك، أو إلى زوجك، أو أخيك تطلبين منه حسنة أو شفاعة فكلٌ منهم يقول: نفسي نفسي {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37]. أختي الكريمة: هذه عجوزٌ ذهبت إلى المستشفى لتعمل عملية في عينيها، فلما خرجت من العملية ونجحت، بكت هذه العجوز، فقيل لها: ما يبكيك يا فلانة وقد نجحت العملية؟ فقالت: لا أبكي على عيني، وإن فقدتها، ولكني أبكي أن رجلاً قد كشف عن وجهي ولم ير وجهي أحدٌ من الناس طوال هذه السنين، عجوزٌ تبكي لأن رجلاً نظر إلى وجهها مع الضرورة ومع الحاجة لها، ولكن: إنه الحياء، إنها العفة يا أمة الله! انظري إلى نساء هذا الزمن، كل يوم يرتخي الثوب، كل يوم يقصر الثوب، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة، فقالت أم سلمة: كيف يصنع النساء في ذيولهن؟ -إلى أعلى من الكعب، يا رسول الله المرأة ما تتحمل هذا الشيء- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يرخينه شبراً -يعني يرخين الثياب على الأرض شبراً- قالت أم سلمة رضي الله عنها: إذاً تنكشف أقدامهن -يعني شبر لا يكفي يا رسول الله- قال: يرخينه ذراعاً ولا يزدن عليه). أختي الكريمة: الأمر خطير، المرأة هذا الزمن بدأت فقط لا تكشف من ساعديها ولا شيئاً من ساقيها، بل وصل الأمر إلى الركبتين. لحد الركبتين تشمرينا بربك أي نهرٍ تعبرينا كأن الثوب ظلٌ في صباحٍ يزيد تقلصاً حيناً فحينا تظنين الرجال بلا شعورٍ لأنك ربما لا تشعرينا أختي الكريمة: في هذا الزمن أصبحت بعض النساء تلزم زوجها أن يأتي في حفلة الزفاف وفي ليلة العرس فيدخل أمام النساء على شيء مثل المنصة ليقف عليها أمام الناس، لينظر إلى النساء بغير حياء، ولا عفة، أو طهر، يدخل الرجل أمام النساء لينظر إليهن واحدة تلو الأخرى، بل صارت المرأة تخالط ابن عمها وابن خالها وابن خالتها وتجلس معه، بل وتركب معه في السيارة، بل ويصافحها وتصحافه، بحجة أنه من القبيلة، أو أنه من العشيرة، بل صارت المرأة هذا الزمن تختلط حتى بالسائقين وتختلي بهم، تذهب معهم إلى أين؟ إلى السوق، أو الطبيب، أو المدرسة، أو الكلية، سائقٌ يخلو بها لوحدها، لا محرم، حتى الأم لا تركب معها، ما الذي حدث؟ ما الذي جرى يا أختي الكريمة؟ (إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت) حقاً وصدقاً. عائشة كانت فتاةً صغيرة، تقول: (كنت أنظر إلى الحبشة يلعبون بالمسجد وأنا متسترة بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يسترني بردائه) وهي فتاة صغيرة، والنبي صلى الله عليه وسلم يسترها وهي تنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد، أرأيت الحياء؟! أرأيت الستر؟! أرأيت العفاف؟! {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33]. اسمعي إلى هذا الحديث، يقول عليه الصلاة والسلام: (ثلاثة لا تسل عنهم -يعني هالكون- وذكر من الثلاثة: امرأة غاب عنها زوجها، وقد كفاها مؤنة الدنيا فتبرجت بعده) فلا تسل عنهم، خرج زوجها وتركها في البيت لا تحتاج أحداً، فإذا بها ترفع سماعة الهاتف، أو تضع ذلك الفيلم، أو تواعد فلاناً، أو تخرج من البيت بغير إذنه، أو تخالط فلاناً وفلاناً من الناس، الله أكبر! أين العفاف؟! أين الحياء يا أختي الكريمة؟! هذه امرأة امتنعت عن تقديم اختبارٍ للقرآن الكريم في الكلية -إحدى الكليات الشرعية- وكانت من الذكيات المجتهدات المتقدمات في الدراسة، لكنها امتنعت عن الاختبار الشفهي للقرآن فقيل لها: لمَ امتنعتي عن هذا الاختبار؟ قالت: كيف يسمع صوتي أحد من الرجال؟! ولو كان مدرس القرآن، ولو كان شيخاً من الشيوخ، ولو كان رجلاً صالحاً، ولو كان غيره من الناس.

حقائق عن دعاة تحرير المرأة

حقائق عن دعاة تحرير المرأة أختي الكريمة: يا من تكشفين شيئاً من الوجه، أو شيئاً من الذراعين، أو من الساعدين، أو الساقين، ألا تقدرين الله عز وجل حق قدره؟! من الذي أمرك بالحياء؟ من الذي أمرك بالعفة؟ إنه الله جل وعلا، أتعرفين من هو الله؟! {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67]. أتعرفين من الذي أمرك بالحياء، والحجاب، والعفة، والطهارة، والنزاهة؟ إنه الله جل وعلا {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19]. أختي الكريمة: إن الغرب الآن الذي يعيش فيما يسميه بالحرية وفيما يسميه بالتقدم والحضارة في أمريكا قبل سنوات طويلة عملوا إحصائية فوجدوا أن في كل سنة يوجد عندهم مليون طفل مرمي من الزنا، مليون طفل من الزنا في كل سنة! كيف يعيش هذا الولد؟! كيف يحيا بغير أم، وبغير حنان، وبغير أبوة، وبغير عاطفة؟! يمشي ويعيش في الأرض وقد امتلأ قلبه بالحقد الدفين والغل على هذه الأمم، وعلى هذه الشعوب. عشرون ألف حالة اغتصاب سنوياً في دولة واحدة، قبل سنوات وليس اليوم عشرون ألف حالة اغتصاب، أين الحرية المزعومة؟! أين حرية المرأة؟! وأين كرامتها المزعومة يا أختي الكريمة؟! يقول بعضهم: لا تستقيم حالة الشرق الإسلامي حتى يرفع الحجاب عن وجه المرأة ويغطى به القرآن {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الأحزاب:59].

رحلة فتاة من الظلمات إلى النور

رحلة فتاة من الظلمات إلى النور أختي الكريمة: قبل أن نختم حديثنا، اسمعي إلى قصة هذه الفتاة، فتاة غرتها المجلات، فتاة ضحكت عليها تلك المقالات، سمعت بدعاة تحرير المرأة، قرأت لهن، وكتبت إليهن، واستمعت إليهن، فإذا بها تسير وراءهن، داعيات تحرير المرأة، هدى شعراوي هل سمعتي بها؟ أم تلك التي تسمى صفية زغلول امرأة سعد زغلول هل سمعتي بها؟ أولئك اللواتي استقبلن سعد زغلول بعد تحرير مصر استقبلن سعد زغلول كما يسمونه الرجل الوطني الهالك، استقبله أفواج من النساء متحجبات في الظاهر، أما الباطن لا يعلم به إلا الله، ثم يسيرون مسيرة إلى ميدان الإسماعيلية، ليجتمع الناس الحشود الهائلة والجماهير الغفيرة، إلى قادات المجتمع، وإلى سيدات المجتمع، من؟! هدى شعراوي؟ صفية زغلول؟ وغيرهن من الهالكات، فإذا بهن يرمين الحجاب ويطأنه بأقدامهن ثم يحرقنه وسط تصفيق الجماهير الحاشدة، أرأيت كيف؟ هذه الفتاة غررت بتلك الدعوات، كانت لما تقرأ على صفحات المجلات صورة من؟ صورة فلانة النجمة الموهوبة، أو الممثلة الواعدة، أو المطربة الشهيرة، فلانة بنت فلان، كيف تطبع هذه المجلة؟ كم نسخة؟ عشرون ألف، ثلاثون ألف، بل بعض المجلات مئات الآلاف تطبع؛ ليقرأها وليرى صورتها كل ساقطٍ ولاقط، وكل حقير ووغد، وكل ساقطٍ ومجرم فاسق، ينظر إلى صورتها ويتمتع بها، هل تساوى هذه المرأة شيئاً؟! فاغترت هذه الفتاة بهذه المجلات، وبهذه القصص، وبتلك الوعود، تقول عن نفسها: ضياعٌ في التفكير، ضياعٌ في المشاعر، تقول: كل من حولي كان سافراً، أمي سافرة، أخواتي سافرات، صديقاتي سافرات، تقول: كيف يدعوني أحدٌ للحجاب والكل من حولي سافر؟! تقول: كنت لم أتجاوز السابعة عشر من العمر، رافقت أختي وخالتي في السيارة لكي نذهب إلى أهلي، يقول: ومع السرعة الشديدة وعدم تحكم السائق انقلبت بنا السيارة، تقول كان حادثاً رهيباً، واقتربت ساعة الموت {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ} [المؤمنون:99] فهل تظنين -أختي الكريمة- أن هذه التي كانت كل يوم في موضة، وكل يوم في سهرة، وكل يوم معها صديق، هل تظنينها ماذا تفعل عند لحظة الوفاة؟ {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون:99] تقول: حادث رهيب لم أنسه حتى اليوم، توفيت أختي وخالتي، تقول: ونجوت وحدي ولله الحمد. تقول: وبعد هذا الحادث، رأيت في المنام أحلاماً مفزعة، تقول: أرى في المنام رأسي ويدي ورجلي مسودة، تقول: الرجل مسودة، واليد مسودة، والرأس مسوداً تقول: ففهمت الرسالة، وعلمت أنها الأعضاء المكشوفة، وأنه الجسد المكشوف. تقول: فأقوم من نومي فزعة، وتقول: هاأنا اليوم أعلنها بغير تردد، عازمة متوكلة على الله تقول: تحجبت والتزمت بالصلاة، والتزمت بالعفاف، ورضيت بالحياء، وتقول: لن أفارق المصحف، ولن أفارق الصلاة ولا الصيام، تقول: محاولات كثيرة وعديدة من شيطانات الإنس يحاولن إعادتي للسفور، وللضياع، وإعادتي للدنيا ولكن لا أمل لهن {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].

العاقبة الحسنة للعفيفة

العاقبة الحسنة للعفيفة قوليها صادقة بملئ فيك أختي الكريمة: حيائي قبل كل شيء، عفتي وإن لم يرض الناس جميعاً، كرامتي في ستري. أختي الكريمة: قوليها صادقة، توكلي على الله، ابدئي حياة جديدة، حياة الستر، والعفاف، والطهر، حياة الحياء، الحياء لا يأتي إلا بخير، أتعرفين ما النهاية؟! أتعرفين ما هو المصير؟! {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]. إذا كانت الحورية في الجنة الياقوتة على رأسها خيرٌ من الدنيا وما فيها، وتلبس سبعين حلة يرى مخ ساقها من وراء الحلل، والحورية في الجنة لو اطلعت على الأرض لأضاءت ما بين السماء والأرض، ولملأته ريحاً، ونصيفها على رأسها خيرٌ من الدنيا وما فيها، وكل فترة وزمن تزداد حسناً وجمالاً، هذه الحورية في الجنة كأمثال اللؤلؤ المكنون، فكيف يكون مصير المؤمنة إذا دخلت الجنة؟! جاء في بعض الآثار أنها سوف تكون سيدة الحور العين، وأجمل من جميع الحوريات، وأحسن من جميع الحوريات. أختي الكريمة: هذا جزاؤك في الجنة، وهذا مصيرك في الجنة، في الدنيا نعيم وفي الآخرة سعادة أبدية، قوليها صادقة من قلبك: صفحة جديدة بينك وبين الله {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:84]. اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين. أقول قولي هذا وأصلي وأسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

خطوات الشيطان

خطوات الشيطان إن العداوة بين الإنسان والشيطان قديمة، منذ أن خلق الله آدم عليه السلام، والشيطان مستمر في إغوائه لعباد الله وأوليائه؛ لذلك لابد من اليقظة والحذر من الشيطان ومن خطواته ومداخله هذا ما تحدث عنه الشيخ، مذكراً بقصة إبليس مع العابد برصيص، واستدراجه له وإغوائه إياه.

العداوة بين الإنسان والشيطان

العداوة بين الإنسان والشيطان إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المسلمون: ذكر أهل التفسير قصة عجيبة سوف نوردها عليكم في هذه الخطبة، وفيها عبر جمة، تدلك -يا عبد الله- على أن للشيطان خطوات يبدؤها بعبد الله الصالح خطوة خطوة، وغايته العظيمة ومناه الأكبر أن يكفر الناس بالله رب العالمين، فإن كفر الناس فرح وإلا حزن. ولنعلم -عباد الله- أن العداوة بين الشيطان وبني آدم قديمة، منذ أن خلق الله عز وجل آدم وقبل أن ينفخ فيه الروح، كانت تلك هي بداية العداوة، والحسد، والحقد، والصراع بين الإنسان والشيطان. حتى إذا خلق الله آدم أمره بالسجود، ولكنه: {أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34] ثم تهدد بني آدم كلهم فقال: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف:16] انظروا كيف الكافر المتكبر ينسب الغواية لله، يقول: أنت الذي أغويتني، ويقول بسبب أنك أغويتني {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ}.

قصة إبليس مع العابد برصيص واستدراجه له

قصة إبليس مع العابد برصيص واستدراجه له واسمعوا -يا عباد الله- إلى هذه القصة كيف قعد لهم صراط الله عز وجل المستقيم. يروي أهل التفسير أن هناك عابداً من بني إسرائيل كان يعبد الله عز وجل أربعين سنة، ولم يصبر عنه الشيطان، واسم هذا العابد برصيص، ولنسمع إلى حكايته، وإلى العجب في أمره: أربعون عاماً لم يقدر عليه إبليس ولا أعوانه، فجمع إبليس الشياطين والمردة، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن لإبليس عرشاً على الماء يجمع فيه أعوانه والمردة من الشياطين، ثم يرسلهم على بني آدم) يرسلهم على فلان المصلي، وعلى فلان الصائم، وعلى فلان الراكع، وعلى فلان الساجد، وعلى فلان الذي أسلم حديثاً أو قديماً ليضلهم عن سبيل الله. فجمع أعوانه فقال لهم: من منكم يقدر على هذا العابد؟ لنا أربعون عاماً لم نقدر عليه، فجاء الشيطان، ووصفه يسمى الشيطان الأبيض الذي كان يتصدى للأنبياء والمرسلين، وقال: أنا أتكفل به. قال: اذهب إليه، فتمثل هذا الشيطان بصورة رجل راهب عابد ساجد لله، فأتاه في الصومعة، فدخل عليه يناديه فلم يجيبه برصيص، وقد كان يصلي عشرة أيام، ولا يرتاح بعد العشرة الأيام إلا يوماً واحداً، فدخل عليه الشيطان في صورة راهب، وتمثل له أنه يصلي بجنبه، وأخذ يصلي بجنبه عشرة أيام وانظروا إلى صبره وانظروا إلى طول نفسه، وإلى خطواته خطوة خطوة. فلما انتهى من العشرة أيام، نظر إليه العابد من بني إسرائيل، وقال: ما تريد؟ وما شأنك؟ قال: جئت أتمثل بك، وأتعبد الله عز وجل مثلك، وأصلي وأركع وأتأسى بك، فتركه ذلك العابد وجلس معه يصلي، فزاد ذلك العابد في صلاته، فكان لا ينقطع عن الصلاة إلا بعد أربعين يوماً، ويصوم أربعين يوماً، ويفطر يوماً، حتى يختبره هل يصبر أو لا يصبر، فكان الشيطان لخبثه ولمكره يصلي معه أربعين يوماً، ويصوم معه أربعين يوماً، ولا يفطر إلا يوماً واحداً، ولا يرتاح إلا يوماً واحداً، فتحمله سنة كاملة على هذه الحال، يصلي ويصوم ويذكر الله معه، وتمثل له بأنه عابد راكع خاشع زاهد لا يريد من الدنيا شيئاً، فلما انتهى الحول، قال له الشيطان: ظننت -يخاطب العابد- ظننت أنك تعبد الله خيراً من هذا، فقد أخبروني عنك أنك تعبد الله وما كنتُ أظن أنك بهذا الضعف في العبادة. قال: ماذا تقول؟ قال: أريد أن أبحث عن غيرك يعبد الله أكثر منك. قال له: اجلس. وكأن العابد قد تشوق إليه. قال: لا. سوف أتركك لأبحث عن غيرك، ولكني أعلمك كلمات احفظها ينفعك الله بها، قال: وما هي هذه الكلمات؟ قال: كلمات إذا قلتها على مريض شافاه الله، وإذا قلتها على مبتلى عافاه الله، قال: وما هي هذه الكلمات؟ فعلمه كلمات ثم ذهب وتركه ثم جاء إلى إبليس، فقال له إبليس: ما صنعت بذلك الرجل؟ قال: قد أهلكته، قال: كيف هذا؟ قال: اصبر، فذهب الشيطان إلى رجل بين الناس فخنقه وصرعه، فسقط مجنوناً، فبحث الناس عن طبيب، فتمثل الشيطان على صورة طبيب، فجاء إليهم، فقال للناس: أنا أعالجه وأطببه، فأتوا بهذا المجنون إلى ذلك الطبيب، فقال لهم الطبيب: إن به جنوناً لا يقدر عليه إلا رجل واحد من الناس، قالوا: ومن هو؟ قالوا: برصيص العابد، يقدر عليه ويعالجه، فذهبوا به إلى ذلك العابد، فقرأ عليه تلك الكلمات، فتخلى الشيطان عنه، فإذا به يرجع معافىً كما كان، فخنق الشيطان ثالثاً، ورابعاً، وخامساً، فانتشر بين الناس أن هذا العابد عنده كلمات إذا قرأها على رجل مريض شافاه الله، حتى جاء الشيطان إلى جارية للملك ولحاشيته، فصرعها فذهبوا بها إلى هذا العابد الزاهد. فقال لهم: إنني لا أقرأ على النساء وطردهم. فقال لهم الشيطان: اجعلوها في غار عنده، فإذا جُنَّت وصُرِعت أتاها وقرأ عليها فشفيت بإذن الله، فجعلوها في الغار. وانظروا إلى خطواته! والله جل وعلا يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [النور:21] ليست خطوة ولا اثنتان بل هي خطوات طويلة، وانظروا إلى السنوات التي ترقَّب فيها ذلك العابد. أتاه الشيطان فقال له: هذه جارية مريضة مسكينة اقرأ عليها لتذهب إلى أهلها، لِمَ تجلس في هذا الغار لوحدها؟ لربما أتاها أهل السوء، ولربما فعلوا فيها كذا وكذا، انزل إليها، واقرأ عليها ولتذهب، فنزل ذلك العابد المسكين من صومعته إلى ذلك الغار، فلما اقترب من الغار صرع الشيطان تلك الفتاة، فلما صرعها ألقت ما عليها من ثياب وهي لا تشعر، فلما دخل ذلك العابد نظر إلى جسد لم ينظر إليه طوال حياته، ولم يره طوال عمره، نظر العابد إلى ذلك الجسد فالتفت، فوقع الشيطان في قلبه، فقال: أرأيت؟ فأخذ يذكره بتلك الصورة، وقال: ارجع إليها فاقرأ عليها، فرجع فنظر فإذا الجسد عار، فلا زال به مرة ومرتين وثلاث حتى وقع العابد على تلك المرأة، فزنى بها!! أربعون عاماً يعبد الله! لكن الشيطان إلى الآن لم يرضَ بهذا؛ فأخذ يراوده مرتين وثلاث وأربع حتى وقع عليها مرات طويلة، حتى حملت منه، فجاءه الشيطان وقال له: يا فلان! أتفعل هذا؟ لو أتى أهلها فنظروا إليها لَفُضِحت ولانكشف أمرك ولتكلم الناس عليك وعلى أمثالك من العباد. فقال للشيطان: ماذا أفعل؟ قال: اقتلها، ثم تب إلى الله فإن الله غفور رحيم. فأتاها ذلك العابد بعد أن زنى وارتكب الجريمة الفاحشة، قتلها وقتل ما في بطنها، ثم قال له الشيطان: اذهب فادفنها في مكان كذا وكذا، حتى لا يراك أحد، فإذا أتاها أهلها فقل: إن الشيطان صرعها وذهب بها فدفنها ثم لما جاء أهلها يسألون عنها: أين فلانة يا فلان؟ -وانظروا إلى الجريمة الثالثة: الزنى، ثم القتل، ثم الكذب- قال لهم: إن الشيطان قد أتاها وصرعها وذهب بها، ولا أدري إلى أين، فأخذوا يبحثون عنها، فلما أيسوا رجعوا إلى بيوتهم وقد صدقوا ذلك العابد، فرجعوا إلى البيوت. فجاء الشيطان في المنام إلى الثلاثة الذين كانوا يبحثون عن الفتاة فقال لكل واحد منهم: إن أختكم وجاريتكم لم يذهب بها الشيطان، إنما قتلها ذلك العابد بعد أن زنى بها، قتلها ودفنها عند جبل كذا وكذا، فلما استيقظوا قال الأخ الأصغر: أنا رأيت في المنام كذا وكذا، فقال الأوسط: وأنا كذلك، وقال الكبير: وأنا كذلك، لكنهم ذهبوا إلى العابد فقالوا له: رأينا في المنام كذا وكذا، فقال لهم: تتهموني وأنا العابد؟! تتهموني وأنا المصلي الراكع الساجد؟! تتهموني بهذا؟! قالوا: لا والله لا نتهمك. ثم رجعوا إلى أنفسهم، فجاءهم الشيطان مرة أخرى وقال لهم: لقد كذب عليكم مرة ثانية، اذهبوا إلى مكان كذا وكذا، وسوف ترون بعض ثيابها لم يُدفن، فذهبوا إلى المكان، فحفروا فإذا بأختهم مقتولة، وإذا بجنينها معها، فذهبوا إلى ذلك العابد وقالوا له: كذبت علينا قاتلك الله! فأخبروا الملك، فأمر بصلبه، فهدموا صومعته ومسجده، ثم ربطوا عنقه بحبل وجروه بين الناس ليفتضح أمره، ثم جيء به إلى الملك أمام الناس ليقتل ويُصلب، فجاءه الشيطان فقال له: هل عرفتني؟ قال: لم أعرفك، قال: أنا الذي عبدتُ الله معك سنة كاملة، وعلمتُك الكلمات، قال له: ماذا تريد؟ قال: إنك إن قُتلتَ افتضح أمرك، وإن قُتلتَ تكلم الناس على أمثالك من العباد، قال: كيف المخْلَص؟ قال: هل تريد أن تتخلص من هذا الذي أنت فيه؟ قال: نعم، قال: ولا يراك الناس؟ قال: نعم، قال: اسجد لي سجدة واحدة وأنا أخلصك مما أنت فيه، فلما استكان له واستجاب له وهو يريد الخلاص، سجد له سجدة واحدة، فلما سجد قال الشيطان له: إني بريء منك، فقتله الملك على الكفر بالله جل وعلا، قال الله تعالى: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} [الحشر:16 - 17]. أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم. , أو

مداخل الشيطان وخطواته

مداخل الشيطان وخطواته الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. أما بعد: أيها الإخوة الكرام: إن للشيطان مداخل كثيرة وخطوات طويلة، فلعله يبدأ ببعض الناس بالطاعة، ثم لا يزال به يستدرجه، ثم يستدرجه حتى يكره العبادة لله جل وعلا، ويبدأ ببعض الناس بالمباح؛ بلعب الكرة أو بالسهر أو بمجالس اللغو، أو ببعض الألعاب المباحة، يبدأ بها فلا يزال به حتى يرتد عن دين الله جل وعلا، ويبدأ ببعض الناس بالمكروهات فيأتيهم ويقول لهم: ليس الأمر بحرام إنما هو مكروه، ويأتي لبعض الناس بالصغائر ويقول لهم: إن الحسنات يذهبن السيئات، ويقدر على بعض الناس بالفواحش العظام وهو يقول لهم: إن الله يقبل التوبة عن عباده فافعل وتب إلى الله. وهكذا له خطوات، كما قال الله جل وعلا على لسانه: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:16 - 17]. نعم. وصدق الكذوب: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13] انظر في الناس وفتش ثم ابحث: أين فلان الذي كان يصلي يوماً من الأيام؟ أين فلان الذي كان يركع ويبكي لله جل وعلا؟ أين هو الآن؟ لا يستجيب لنداء الله جل وعلا أين فلان الذي كان يحفظ القرآن في صدره؟ الآن لا يعرف إلا الأغاني والطرب أين فلان الذي كان يدعو الناس إلى الله؟ الآن يصد الناس عن سبيل الله، ما الذي حدث؟ وما الذي جرى؟

إبليس وإغوائه لآدم عليه السلام

إبليس وإغوائه لآدم عليه السلام لقد بدأ طريقه وخطواته بخطوة أولى مع آدم عليه السلام، أتى إلى آدم وحواء فقال لهما: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ} [الأعراف:20] واسمع إلى هذه الخطوة التي كانت بداية الشقاء للبشرية جمعاء، وهي بداية النزول من النعيم إلى دار البلاء، قال لهما: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف:20] فبدأ يوسوس لهما ليبدي لهما ما وُري عنهما من سوءاتها، بدأ يدلهما بغرور، حتى جاءهما بلباس الناصح الأمين، ولباس الشيخ الوقور، وقال لآدم: يا آدم أتريد الخلد في هذه الجنة؟ أتريد أن تصبح مَلَكاً من الملائكة؟ قال آدم: نعم. ومن منا لا يريد هذا؟! قال: كل من هذه الشجرة، يا آدم! أحل الله لك كل ما في الجنة إلا هذه الشجرة، ما شأنك تريد الأكل منها؟! الشيطان يا عباد الله! إنه يأمر بالفحشاء والمنكر، فإذا بآدم يأكل، وإذا بالسوءة تنكشف، وإذا بأول معصية من آدم لله: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:121] ثم تاب آدم فتاب الله عليه، ولكن جُبِلَت أمته على هذا الأمر، نسي آدم فنسيت ذريته، وجحد آدم فجحدت ذريته.

الحذر من فتنة الشيطان

الحذر من فتنة الشيطان عباد الله: لا بد أن نكون متيقظين منتبهين، كل منا ينتبه على دينه؛ فإن الشيطان لنا بالمرصاد، وأقسمُ بالله أنه حق، كما قال: يأتينا من بين أيدينا -من أمامنا- ومن خلفنا، وعن أيماننا، وعن شمائلنا، يأتينا الشيطان الخبيث من كل مكان؛ ليصدنا عن سبيل الله جل وعلا، يأتينا بالمباح، يأتينا بالمكروه، يأتينا بالصغائر، يأتينا ببعض المشتبهات؛ ليضلنا عن سبيل الله، وعندما يضل الناس يأتيهم يوم القيامة ليخطب بهم خطبته الشهيرة، ويجمع الناس الله الإنس والجن تحته ليقول لهم: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ} أي: لست بمنقذكم: {مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم:22] يكفر بهم، ويكفر بما كانوا يعبدونه من دون الله. إنها الحسرة والندامة لأتباع الشيطان وللشيطان نفسه يا عباد الله! اللهم أعذنا من الشيطان الرجيم. اللهم إنا نعوذ بكلماتك التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما خلق وبرأ وذرأ، ومن شر ما ينزل من السماء، ومن شر ما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض، ومن شر ما يخرج منها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر كل طارقٍ إلا طارقاً يطرق بخير يا رحمن. أقول هذا القول وأقم الصلاة.

رسالة إلى صانعة الأجيال

رسالة إلى صانعة الأجيال النساء شقائق الرجال، وإصلاح المرأة وتربيتها واجب لا بد منه، وهو إصلاح للمجتمع وللجيل القادم. إن دور المرأة لا يقل عن دور الرجل، إلا أن الفطرة والدين يجعلان لكل منهما اختصاصاً وميداناً للعمل ليس للآخر، بحيث تتحقق السعادة في ظل إبداع كل منهما في مجاله، فيرضى الخالق عن هؤلاء المخلوقين. في هذه المادة بيان لما يجب تركه من العادات الخاطئة، ووسائل الإعلام الهدامة، والذهاب إلى السحرة، مع بيان لمسائل لا تستغني عنها أي مسلمة.

نداء للمرأة المسلمة

نداءٌ للمرأة المسلمة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه. أما بعد: أيتها الأخوات الكريمات! هذه رسالة إلى صانعة الأجيال، صانعة المجتمعات، هذه رسالة إلى المرأة التي جاءت تطلب الأجر من الله جل وعلا في صناعة هذا الجيل. أيتها الأخت الكريمة! لعل الناظرة منكن إلى هذا المجتمع وإلى هذا الجيل الذي نعيش فيه، تجد أن الفساد وأن الشر قد انتشر، وأن الضلال قد عم، وأن المنكر قد استفحل، كما قال الله جل وعلا: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم:41] ففي البيوت فساد، وفي الأسواق فساد، وفي الشوارع فساد، وفي المدارس فساد، وفي الجامعات فساد، في كل الدنيا فساد، الشر قد انتشر، والله عز وجل ينتدبنا مؤمنين ومؤمنات، وصالحين وصالحات: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ} [التوبة:71] وصفتهم: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71] وهذه الولاية وذلك التعاون من أجل: {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة:71]. نعم. المؤمنون بعضهم أولياء بعض، والمؤمنات بعضهن أولياء بعض، يأمرن بالمعروف وينهين عن المنكر؛ المنكر الذي قد انتشر في البيوت والأسواق، وفي المدارس والجامعات، وفي كل مكان، الله عز وجل انتدبك يا صانعة الأجيال! ويا مربية الأنبياء والرسل! من أين خرج موسى؟ وكيف تربى عيسى؟ ومن أين ظهر نوح عليهم الصلاة والسلام؟ ومن الذي أرضع محمداً عليه الصلاة والسلام؟ إنها المرأة، إنها صانعة الرجال. أختي الكريمة، إليك أوجه هذه الكلمات، وإن كانت النصيحة في الوقت قصيرة، لكن أرجو أن تكون ثمينة فلرب كلام قليل يدل على خير كثير. أختي الكريمة: يا من تعيشين في البيت والله عز وجل أمرك أن تقري فيه! ألا ترين حولك في البيت أن المنكرات قد انتشرت، والفساد قد عم، أين دورك؟ وما هي وظيفتك في البيت؟ أكل وطبخ وشرب وتنظيف فقط، إن التنظيف الأول والمطلوب الأول منك يا أمة الله: تنظيف البيت من المنكرات قبل القاذورات! وإن تطييب البيت المطلوب تطييبه بالصالحات، من صلاة وذكر وقرآن قبل أن تكون بالروائح الطيبة.

احذري التلفاز

احذري التلفاز أختي الكريمة: ألا ترين ذلك التلفاز الذي يجثم في بيوتنا، وما يظهر فيه من المنكرات من المعازف والأغاني، ألا ترين ابنك كيف يدخل في غرفته فيغلق على نفسه الباب ليشاهد تلك المسلسلات والأفلام، بل بعضهم يتمادى ويأتي ببث مباشر ينقل له الشر والخطر والمجون من بلاد الغرب، ويغلق على نفسه الباب لينظر! أختي الكريمة: أين دورك؟ ما هي التربية التي ربيت بها أولئك الأبناء؟ هل هذا التلفاز جاء رغماً عن أنفك؟ أم لك دور في تربية الأبناء منذ الصغر على توجيه هذا التلفاز، وعلى تقييده، وعلى التحذير من شره؟

احذري الصور

احذري الصور أختي الكريمة: ألا ترين تلك الصورة المعلقة على الجدار؟ صورة الجد، والعم، والأب، والأخ، والأولاد؛ لمَ تعلق على الجدران؟ أجيبك بهذه الإجابة: حتى تطرد الملائكة من البيت، وتأتي الشياطين لتعشعش في هذا البيت المسلم. أختي الكريمة: من الذي أباح لك أن تعلقي هذه الصور؟ وما دورك في البيت؛ طباخة، كناسة، نعم هذا عمل شريف وعظيم، لكن أعظم من هذا أن تكنسي البيت من تلك الصور: (إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب أو صورة).

احذري الخادمات الكافرات

احذري الخادمات الكافرات أختي الكريمة: من الذي أباح لك أن تعلو في البيت أصوات الموسيقى والمعازف؟ بل من الذي أباح لك في البيت أن تأتي بأولئك الخادمات الكافرات اللواتي يربين الأبناء، وعلامَ يربين الأبناء؟ خادمة نصرانية، ألم تسمعي بطفل يعيش في بلاد المسلمين لأبوين مسلمين، كبر هذا الطفل فوجد يعلق على صدره صليباً، فلما سئل قال: مربيتي ومعلمتي هي التي علمتني، قالوا: أمك؟! قال: لا. بل الخادمة، لأنه يعيش مع الخادمة أكثر من الأم. أين دورك يا صانعة الأجيال؟ هل خلقنا لأجل مجالس اللغو والشاي والقهوة، ولنقلب المجلات، ولنقرأ الجرائد؟ ثم الأولاد من الذي يربيهم؟ الخادمة. أيا صانعة الأجيال أين دورك في البيت؟ أختي الكريمة: أنتِ حارسة للبيت، تمنعين الشر من دخوله، وكل ضلال وفساد إنما يعرض عليك قبل الدخول في البيت، ثم يمنع.

احذري الساحرات

احذري الساحرات أختي الكريمة: البيت المبارك لا يسمح أن يدخل فيه كفر ولا زندقة ولا ضلال، وإليك ذلك الكفر الذي دخل بيوت المسلمين، اسمعي إلى هذا الكفر، وهذا نبأ عظيم، وأمر جلل دخل بيوت كثير من المسلمين فأفسدها، وهذا الأمر أرجو أن ننتبه له أيتها الأخوات، صار بعض النساء مجنونات، وصار بعضهن موسوسات، لا تعرف أباها من أمها، بل صار بعضهن لا تتحمل الصلاة ولا قراءة القرآن، أتعرفن لمَ؟ لدخول السحر والشعوذة في بيوت كثير من المسلمين. وإليك أيتها الأخت علامات تعرفين بها تلك الساحرات الكافرات الفاجرات، اللواتي أفسدن بيوت كثير من المسلمات، هذه العلامات احفظيها، وأرجو أختي الكريمة، أن تعلمي هذه العلامات لكل النساء، من جارات وصديقات وقريبات، علميهن هذه العلامات، علامات الكافرات الساحرات، اللواتي أمرنا الله عز وجل أن نستعيذ من شرهن، قال الله جل وعلا: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق:1 - 4]. إذا أردت أن تربي أهل بيتك على الصلاح والعفة، فاسمعي إلى علامات تلك الساحرات اللواتي أفسدن بيوت كثير من المسلمين:

التسمي بأسماء محببة إلى النفوس

التسمي بأسماء محببة إلى النفوس العلامة الأولى: أنها قد تسمى مطوعة: أو لعلها تسمى باسم من الأسماء المحببة إلى النفوس، لكن من علاماتها: بعضهن تسأل المريض -وهذه أمور أرجو أن نفضح بها كل الساحرات- عن اسمه واسم أمه، وماذا تريد من اسم أمه؟ وهؤلاء كثيرون من السحرة والساحرات يسألون عن اسم أم المريض، وذلك لأنهم يستغيثون بالشياطين وبمردة الجن ليعالجوا هذا المريض، ولن يستطيعوا أن يسلطوه على مريض أو على زوج أو على زوجة إلا بعد أن يعرفوا اسم أمه.

أخذ بعض آثار المريض

أخذ بعض آثار المريض العلامة الثانية: أنهن يأخذن أثراً من آثار المريض، إذا ذهبت إلى المطوعة، أو إلى رجل يسمى مطوعاً، أو شيخاً، أو عنده من هذه الأمور التي يلبس بها على كثير من الناس، وقال: أعطوني أثراً من آثاره، ثوباً، منديلاً، طاقية، غترة، ساعة، نعلاً، أي شيء من آثاره، إذا طلبه هذا الشيخ أو تلك المطوعة أو هؤلاء الدجالون المشعوذون، فاعلمن أنها ساحرة، وأنه ساحر، وحكم الساحر في الشرع أنه كافر بالله العظيم، وحده القتل. أيتها الأخوات! الأمر خطير، ليس الأمر شفاء مريض فحسب، الأمر كما قال عليه الصلاة والسلام: (من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم) تعلمن ما معنى كفر؟ معناها: أن الصلوات، وصيام رمضان، وقراءة القرآن، والصدقات كلها صارت هباءً منثوراً.

أمر المريض بذبح حيوان موصوف

أمر المريض بذبح حيوان موصوف العلامة الثالثة: من علاماتهن: بعضهن يطلبن من المريض حيواناً، شاة، أو دجاجة، أو ناقة، لونها كذا، تذبح بغير أن يذكر عليها اسم الله، ثم تدفن في مكان كذا، أو ترمى في مزبلة كذا، أو في تلك الخربة، أو في ذلك المكان، أو عند غروب الشمس، أو عند شروق الشمس، صفة معينة يذبح بها هذه الشاة، شكلها كذا وصفتها كذا، بشرط ألاَّ يذكر عليها اسم الله، هذه إذا سمعتنها من امرأة أو رجل، فاعلمن أيتها الأخوات أنهم مشعوذون دجالون.

قراءة آيات ثم إلحاقها بتمتمات وطلاسم

قراءة آيات ثم إلحاقها بتمتمات وطلاسم العلامة الرابعة: يبدءون القراءة ببسم الله الرحمن الرحيم، والفاتحة، ويقرءون بعض الآيات ثم يتمتمون ببعض الطلاسم، وهذه من علاماتهم، وهم يستغيثون بشياطين من الجن: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} [الجن:6]. بعض الناس من العوام الجهلة، يسمون هؤلاء الجن أجاويد أو أجواد، وبعضهم عير ذلك، وهذا من الجهل والبعد عن شريعة الله جل وعلا، ولو كانت تقرأ القرآن لسمعت قوله جل وعلا: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} [الجن:6]. كان هذا فعل الجاهلية، فعل الكفار، يستغيثون ويطلبون الإعانة والاستعانة من الجن. والمصيبة كل المصيبة أنه يلبس على الناس أن أسماءهم مطاوعة وشيوخ، وأنهم أهل دين، وأنهم أهل قرآن، بعضهم يعلق المصحف أو أنه يعلق بعض الآيات في بيته، وكل هذا دجل، وكذب وضحك على الذقون.

كتابة الطلاسم

كتابة الطلاسم العلامة الخامسة من علاماتهم: أن بعضهم يأمر المريض أن يأخذ بعض الأوراق، مكتوبة فيها طلاسم، مربعات أرقام حروف. تكتب الآيات في الأعلى والأسفل وفي اليمين والشمال لكن في وسط الورقة طلاسم، وكلمات غير مفهومة، كلمات تضحكين عليها، حروف وأرقام، وهو كفر بالله، واستغاثة بالشياطين، هذه استعاذة واستعانة بغير الله جل وعلا، والله عز وجل أمرنا ألا نستعين إلا به: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]. بعضهم يقول للمريض: اجلس في غرفة مظلمة، لا يدخل عليك فيها أحد فترة معينة من الزمن، أياماً معدودة، هذه من علامات بعضهم. وبعضهم يطلب من المريض ألا يمس الماء مدة من الزمن، لا يغتسل ولا يتوضأ. وبعضهم يعطي المريض أشياء يقول: هذه خذها وادفنها في أرض كذا وكذا. وبعضهم يعطي المريض أوراقاً يقول: هذه احرقها وتبخر بها، وبخر البيت، وبخر الغرفة كل يوم بها. هذه كلها من علامات الدجالين المشعوذين، وبعضهم يتمتم بكلام غير معروف. وبعض الساحرين والساحرات يخبر المريض أول ما يدخل يقول: أنت فيك كذا، ومبتلى بكذا، ووقع لك كذا، وسقطت في الحمام، وأتاك فلان، وترى في المنام كذا، وما يدريك؟ إنه يدعي علم الغيب؟ لا. هو يستعين بالجن والشياطين، ليعلموه هذه الأمور. أختي الكريمة: يا صانعة الأجيال! بيوت المسلمين والمسلمات ممنوع عليها أن تدخلها أولئك الساحرات، لأن الله جل وعلا يقول عنهم: {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:69]. كيف نتصرف معهن؟ نطردهن، نفضحهن، نمنعهن، نحاربهن في كل مجلس، تعلمن عن أم فلان؟ تعلمن عن فلانة المطوعة؟ ألا تعلمن أنها تفعل كذا وكذا؟ هي مشعوذة، هي ساحرة، هي دجالة، ولا تخافي إلا من الله، لأن الله يقول: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:102] {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة:51].

واجب المرأة في التربية والدعوة

واجب المرأة في التربية والدعوة أختي الكريمة: اجلسي في البيت، هل تعودت يوماً من الأيام أن تجلسي مع ابنك الصغير الذي عمره ست أو سبع سنوات تعلميه كتاب الله؟ هل جربت أن تجلسي مع البنت الصغيرة وتقرئي عليها الفاتحة، وتقرأ معك الفاتحة، والمعوذتين، وسورة الإخلاص، وإنا أعطيناك الكوثر؟ تعلمين الصبي الصغير كيف يتوضأ، والبنت الصغيرة تربينها منذ الصغر على العفاف والحياء، والحشمة، تعلمينها ولو كان عمرها ست أو سبع سنوات، أنها لا تخرج إلا متحجبة متعففة، لا تقلد الغرب، لا تقلد أولئك الكافرات، هل جربت أن تصلحي البيت؟ ما بال البيت أختي الكريمة لا نسمع فيه القرآن؟ ولا يتلى فيه كتاب الله جل وعلا، ما الذي جرى في البيت؟ بيوت الصالحات السابقات، إذا دخلت البيت ترينها آخر الليل الزوجة والزوج يقومان الليل، فإذا أذن الفجر استيقظ أهل البيت -كل من بلغ سبع سنوات- ليصلوا الفجر، ما بالنا في بيوتنا أختي الكريمة لا نرى في صلاة الفجر ضوء يضاء، ولا ناراً تشعل، ولا سراجاً يضيء؟ ما لنا أختي الكريمة! نرى البيوت لا تستيقظ إلا بعد طلوع الشمس، بيوت نسأل الله العافية، أزال الله عنها البركة؟ أختي الكريمة: يا صانعة الأجيال! أراك تذهبين إلى المدرسة، وتخالطين الفتيات، وتجلسين مع بعض المتبرجات، ما أراك تتكلمين بكلمة، أو تهديهن شريطاً أو كتيباً أو تنصحينهن بنصيحة؟! ألم تسمعي قول الله جل وعلا: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} [يوسف:108]. أينما كنت أيتها الأخت الكريمة؛ في المدرسة، والبيت، والشارع، والسوق، والوظيفة، أنت داعية إلى الله جل وعلا، لا فرق بين الرجل والمرأة. المرأة تدعو النساء، والرجل يدعو الرجال في الفصل، وإذا خرجتن من المدرسة، إذا جلست بين الحصص تجلسين مع فلانة، تقولين لها: اسمعي هذا الشريط لعل الله أن ينفعك به، فلانة! ما رأيك بهذا الكتيب هو هدية مني إليك، فلانة! عندنا مجلس للذكر، نجتمع فيه عند بيت فلانة، نستمع إلى أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، نتدارس القرآن، نتعلم بعض الخير، ما رأيك أن تأتي إلينا إلى هذا المجلس؟ فلانة ما لي أراك لا تتحجبين، ألا تخافين من نار الله جل وعلا؟ ألا تخشين عقوبة الله؟ ألا تعلمين أن المتبرجة لا تدخل الجنة، ولا تجد رائحة الجنة؟ أختي الكريمة: عندما تذهبين إلى الأسواق، مالي أرى حالك كحال كثير من النساء، لا تبالي بحلال أو حرام، تخرج متعطرة، متبرجة، متزينة، وكأنها تقول للرجال: انظروا إلى هذا الجمال، وانظروا إلى هذا الوجه، ومن منكم يتبعني؟ ومن منكم يلحقني؟

التنبيه على بعض المنكرات في الأسواق

التنبيه على بعض المنكرات في الأسواق أختي الكريمة: دورنا في الأسواق: أولاً: لا نخرج إلى الأسواق إلا متحجبات، محتشمات، متسترات، متعففات، بعض الأسواق لا يجوز لنا أن ندخلها، لأنها مريبة، بعض الأسواق فيها شبه، بعض الأسواق أيتها الأخت والله لو كنت صالحة عفيفة، لا يصلح أن تدخلي تلك الأسواق ولو كانت الحاجة ما كانت، الحمد لله لن تموتي من الجوع، الحمد لله أنت عندك ملابس تسترين بها العورات، ولا ينقصك شيء. بعض الأسواق أيتها الأخت الكريمة -وأنت تعلمين عنها- لا تسلم منها حتى الصالحات، ما نذهب إليها إلا لعلة إذا كان عندنا محرم. أختي الكريمة: بعض المحلات لا بد أن نقاطعها، نقاطع هذه المحلات التي تبيع أشرطة للأغاني، ومجلات خليعة، وملابس فاضحة، وتعلق بعض الصور التي هي أشبه ما تكون للنساء العاريات، هذه المحلات نقاطعها، وتلك المحلات نهجرها، بل نأمر الناس بحربها وبتركها، أيتها الأخت، هذه وسيلة من وسائل الدعوة إلى الله، ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. مالي أراك أيها الأخت إذا ذهبت إلى السوق تكلمين البائع أو أخوك، وكأنه زوجك، تضحكين معه، وتتلطفين في العبارة معه، والله جل وعلا يقول لنساء النبي صلى الله عليه وسلم وهن أشرف النساء على وجه الأرض: {إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} [الأحزاب:32] المرأة لا تتلين في الكلام، ولا تتميع في الحديث مع البائعين، والتجار، والمارين، بل بعضهن أعاذنا الله وإياكن من هذا، إذا رفعت سماعة الهاتف، وكأنها في الحديث تتميع وتتلين، وتخضع بالقول، كأنها تقول لهذا الرجل: هيت لك، أعوذ بالله من تلك الأساليب. بل إن بعض الصالحات، وكما حدثنا عنهن -ثبتهن الله- كانت إحداهن تدرس في كلية الشريعة وتدرس مادة القرآن على شيخ صالح، وهذه المادة فيها اختبار شفوي، وعليها درجات، هذه المرأة المتسترة صاحبة العفاف والحياء، تقول: تنازلت عن هذا الاختبار، وضحيت بتلك الدرجات وأخذت في الاختبار صفراً تقول: لا أريد أن يسمع رجل صوتي، لا أريد أن يسمع رجل صوتي. نساء المسلمين في الأسواق نسمع أصواتهن من خارج المحلات يضاحكن البائعين، وكأنهم أزواج لهن، وكأنهم إخوان لهن، إذا دخلت المحل أزالت الحجاب، تقول: حتى أرى البضاعة. أختي الكريمة: إذا كان هذا حالنا فلنعلم بأن الله عز وجل سوف يؤاخذنا بما نفعل، ولعل العقوبة تكون في الدنيا قبل الآخرة. أختي الكريمة: إذا ذهبت إلى الأسواق، مالي أراك تشترين من الحلال والحرام؟ مجلات خليعة ما أنزل الله بها من سلطان، ادخلي المكتبات والجمعيات ماذا ترين فيها؟ مجلات تدعو إلى الجنس والشهوة، افتحيها ماذا فيها؟ فيها أخبار ممثلين وممثلات، ومسلسلات وأفلام، ودعوة إلى الفحش والدعارة، وبعض القصص الغرامية، تأتين بالمجلة، أولاً: حرام عليك أن تقرئي هذه المجلات، ثانياً: لو أتيت بهذه المجلة ورميت بها في البيت من يقرأ هذه المجلة؟ أيتها الأم! أيتها الزوجة! لنكن صادقين، إذا الزوج فتح المجلة، ونظر إلى تلك الصورة الجميلة، أتعرفين ماذا سوف يفعل؟ سوف يستقبح صورتك، وسوف يكره منظرك، لأنه نظر إلى صورة أجمل من صورتك، إذا شاهد تلك المسلسلات، ونظر إلى تلك الصور الابن المراهق، تعلمن أيتها الأخوات ماذا سوف يحدث؟!

الانتباه للأطفال وصونهم من الانحلال

الانتباه للأطفال وصونهم من الانحلال الآن في هذا المجتمع، وفي هذه البلد نسأل الله أن يعافينا، يقول لي أحد الإخوة: أن بعض صغار السن، ما تجاوز اثنتي عشرة سنة، تعلمن ماذا يفعل؟ يتعاطون المخدرات، من التي ربته؟ ومن الذي رباه؟ ومن أي بيت تخرج؟ وما قرأ؟ وكيف رضع؟ وأين عاش هذا الشاب؟ هذا أمه منذ الصغر ما كانت تعرفه، ما كان يعرف إلا هذه الخادمة وذلك السائق، ثم لما كبر شيئاً ما، خرج من البيت لا يأتي إلا في منتصف الليل، أين الأم؟ مع سماعة الهاتف، أو أمام المسلسل، أو تقلب المجلات إلى منتصف الليل، وجاء إلى غرفة المجلس رأى تلك المجلات، وهذه الأفلام والأشرطة، فأخذها وذهب إلى الغرفة وأغلق على نفسه الباب، ليكمل مسيرة الفساد، والذي أفسده؟ الأم والأب: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالرجل راع في بيته ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها).

واجب المرأة تجاه منكرات الأعراس

واجب المرأة تجاه منكرات الأعراس أختي الكريمة: يا صانعة الأجيال! تستطيعين أن تغيري شيئاً كبيراً في هذا المجتمع، ولك دور عظيم، تستطيع هذه المرأة أن تغير كثيراً من مراسيم الزواج، ومن العادات البالية، ومن التقاليد التي عفا عليها الدهر وهي مخالفة لشرع الله، وإليك بعض الأمور التي أنت أيتها الأخت تستطيعين أن تغيريها بإرادتك، وباستطاعتك، وبالوقفة الصادقة من النساء الصالحات يستطعن أن يغيرن هذه العادات الدخيلة على عاداتنا، وعلى مجتمعاتنا، وأقصد مجتمعات المسلمين، ومجتمعات الصالحين. أولاً: المرأة في هذا الزمن -إلا من رحم الله- لا تبحث عن رجل صالح، بل تبحث عن رجل وسيم، صاحب سيارة ضخمة، وصاحب منصب، وصاحب رفعة، واسمه كذا، ومن القبيلة الفلانية، هذا الذي تبحث عنه كثير من المسلمات، هداهن الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه؛ إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض). غلاء المهور: بعض المسلمات يفتخرن على غيرهن، تقول: كم مهرك؟ أنا مهري خمسة آلاف فقط!!! فتجيبها خمسة آلف يا مسكينة! أنا مهري سبعة آلاف، وما تدري هذه الجاهلة أن المهر كلما زاد كلما قلت بركة المرأة، وهذا بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (أقلهن مؤنة -أي مهراً- أكثرهن بركة) يعني: التي مهرها عشرة دنانير أعظم بركة من التي مهرها ألف دينار، والتي مهرها ألف دينار أعظم بركة من التي مهرها ألفين، ما بالك بالتي مهرها سبعة آلاف أو ثمانية آلاف دينار، أين البركة فيها؟! لعلك تقولين: أنا مجبورة، وأنا مقيدة بالعادات. أقول لك يا أمة الله: قوليها صريحة: بأنني لا أريد إلا ما أجهز به نفسي للعرس، ولا أظن أن امرأة تريد أكثر من ألف دينار لتجهز نفسها، ولكنها العادات، نسأل الله عز وجل أن يعافينا منها، والله جل وعلا يقول: {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً} [الإسراء:26 - 27]. في بعض عادات النساء في الأفراح تسمع أصوات الغناء، والدفوف، والطار، وبعض المعازف والأغاني تخرج خارج الصالات، وخارج البيوت مكبرات ليسمع تلك الأصوات كل من مر عند البيت، وكل الجيران، وهذا حرام، فالذي أباحه لنا الشرع دف تضربه بعض الجواري بينهن ولا يسمعهن الرجال، ومعه كلمات لا تشتمل على فحش ولا على بذاءة ولا على سب ولا ما يخالف الدين، وكلام بسيط، وذلك الدف بغير معازف ولا أغاني هذا الذي أباحه لنا الشرع في العرس. ثم أختي الكريمة: بعض الأعراس يكون فيها السهر، حتى إن بعض النساء تخرج في الساعة الثانية عشرة، أو الواحدة ليلاً، فتذهب لتنام وتترك صلاة الفجر. وما يحدث في كثير من الأعراس من تبرج واختلاط، حتى إن بعض الرجال يدخل صالة الأفراح، ومن الذي أباح للزوج أن يدخل في الصالة يأخذ زوجته يقول: هذه عادة؛ لكن يدخل في الصالة ويجلس مع الزوجة أمام النساء ليتمتع برؤية الوجوه، ليرى نساء جميلات وإذا نظر إلى زوجته عافها واستقبحها وكره منظرها، لأنه رأى خمسمائة أو أربعمائة امرأة كل واحدة أجمل من الأخرى، من الذي أباح له أن يدخل؟ ومن الذي سمح له أن يدخل على النساء؟ هل هو رجل أم امرأة؟ فإن كان رجلاً فلنحترم أنفسنا ولنعظم شرعنا، بأنه لا يجوز له أن يدخل كما قال عليه الصلاة والسلام: (إياكم والدخول على النساء، قال رجل: يا رسول الله! أفرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت، الحمو الموت). أختي الكريمة: يا صانعة الأجيال! كما قلت لك: إن الفساد كثير، والمنكرات كثيرة، فلنخرج من هذه الصالة كل واحدة منا بيدها وفي لسانها وبجهدها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، تدخل في البيت تفتش، تذهب إلى المدرسة تأمر بالمعروف تنهى عن المنكر، وفي الوظيفة، وفي كل مكان بالضوابط الشرعية بينها وبين النساء، تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وقائدنا وشعارنا: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ} [هود:88]. أسأل الله العلي القدير أن ينفعنا بما سمعنا، هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

صفات المنافقين

صفات المنافقين إن النفاق داء عضال قد انتشر في هذه الأمة، وقد بين الله عز وجل ورسوله عليه الصلاة والسلام صفات المنافقين للحذر منها والابتعاد عنها؛ لأن النفاق خطر يوشك أن يخرج صاحبه من الدين إن كان نفاقاً أصغر، وإن كان نفاقاً أكبر فإنه يخرج صاحبه من الملة بالكلية.

حقيقة المنافقين

حقيقة المنافقين إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المسلمون: إن مما ابتلى الله عز وجل به هذه الأمة: أن جعل بين صفوفها صنفاً من الناس لا تعرفهم، يتكلمون بألسنتنا ويدَّعون ويظهرون الإسلام والإيمان، ولكنهم في حقيقتهم كفار، يبطنون الكفر ويظهرون الإيمان، يصلون مع المؤمنين، ويصومون معهم، ويحجون معهم، ويجاهدون معهم، لكنهم كفروا بالله العظيم. {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة:8 - 10]. إنها فتنة عظيمة في هذه الأمة، وبلاء عريض قد انتشر فيها، وهذه من حكمة الله جلَّ وعلا، أن يبتلي المؤمن فيراه يصبر أو لا يصبر، ويراه ينخدع بهم أو لا ينخدع بهم، ولم يترك الله عز وجل هذه الأمة إلا وقد بين لهم صفات هؤلاء المنافقين: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:30]. وقد ذكر الله عز وجل كثيراً من صفاتهم؛ بل جعل لهم سورة كاملة سماها باسمهم، وجعل أغلب سورة براءة وسورة التوبة في التحذير منهم وفي بيان صفاتهم، فاسمع رعاك الله إلى بعض أوصاف هؤلاء المنافقين، ولا تعجب إن رأيت بعضهم يصلي، وإن سمعت بعضهم ينطق الشهادتين، وإن علمت أن بعضهم يحج إلى بيت الله الحرام، فهو وإن كان هذا ظاهره؛ فباطنه الكفر بالله العظيم.

صفات المنافقين

صفات المنافقين اسمع إلى بعض صفاتهم، واعلم أن النفاق نوعان: نفاق عملي لا يخرج صاحبه من الملة، ولكن صاحبه على خطر يوشك أن يخرج من هذا الدين. ونفاق آخر أكبر اعتقادي يخرج صاحبه من الملة: وهو ما يبطن به الكفر ويظهر به الإيمان. وكلاهما لهما أوصاف، فاسمع إلى هذه الأوصاف حتى تتبرأ أنت منها يا عبد الله أولاً! ثانياً: إن رأيت هذه الأوصاف قد اجتمعت في رجل يحارب الله ورسوله، فاعلم -وإن تظاهر بالإيمان- بأنه منافق، فاحذره يا عبد الله!

الكسل في العبادات

الكسل في العبادات أول صفة من صفات المنافقين: أنهم كسالى في العبادات. إذا قام إلى صلاة، أو إلى ذكر، أو إلى دعوة إلى الله، أو إلى جهاد في سبيل الله، فهو لا يقوم لها إلا بكسل وعجز، قال الله جل وعلا: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:142]. بل كثير منهم يتخلفون حتى عن صلاة الجماعة، كما قال ابن مسعود عنهم: [ولقد رأيتنا لا يتخلف عنها -أي: عن صلاة الجماعة- إلا منافق معلوم النفاق] أي: قد علمنا نفاقه، هذا إن كان تخلفه بغير عذر من الأعذار الشرعية.

لمز المطوعين من المؤمنين

لمز المطوعين من المؤمنين أيضاً -أيها الإخوة- من علامات هؤلاء المنافقين، واسمعها يا رعاك الله! فإنهم كثر لا كثرهم الله، بل منهم من يتقلد المناصب، ومنهم من يكثر كتابته في الجرائد، ومنهم من يطلق لنفسه العنان في المؤتمرات والمجتمعات، يتكلم باسم الله ويختم بحمد لله، ويصلي على رسول الله وهو من أعداء الله، من صفاتهم: لمز المطَّوِّعين من المؤمنين. يلمز الصالحين، ويستهزئ بالمتدينين في كتاباته ومقالاته، ومجالسه، وأحاديثه، كلما استهزأ فإنه لا يستهزئ إلا بالصالحين، لسانه قد برئ من الوقيعة في الكفر وأهله، لا يتكلم على النصارى، ولا يطعن في اليهود، ولا يطعن في العلمانيين، إنما كلامه واستهزاؤه وهمزه ولمزه بالمتدينين، قال الله جلَّ وعلا عنهم، وفضحهم في سورة الفاضحة: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة:79]. بل لعلَّ بعضهم قاتلهم الله، يكتب مقالات طويلة عريضة كلها في سب الصالحين، وفي الوقيعة في أعراض المتدينين، لا همَّ ولا حرب له إلاَّ هؤلاء، قاتلهم الله أنَّى يؤفكون. وصفهم الله في وصف آخر وأخبر عن ألسنتهم، قال الله جلَّ وعلا: {سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} [الأحزاب:19] ألسنة كأنها السيوف على الصالحين، حتى جاء أحدهم إلى ابن المبارك، وقد وقع في أعراض المتدينين، أو أحد العلماء الصالحين، فقال له: غزوت فارس، قال: لا، قال: غزوت الروم؟ قال: لا، قال: سلم منك فارس والروم ولم يسلم منك المؤمنون.

الاستهزاء بالقرآن والسنة

الاستهزاء بالقرآن والسنة أيضاً من صفاتهم يا عباد الله: أنهم يستهزئون بالقرآن، ويسخرون من السنة؛ بل يضحكون حتى على أفضل هذه الأمة محمد عليه الصلاة والسلام، سيد الناس ولا فخر، يتكلمون عليه وعلى سنته؛ بل بعضهم تجده في الجرائد والمجالس والمجتمعات يستهزئ بسنته عليه الصلاة والسلام: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66]. وكم رأينا وسمعنا من أناس يدَّعون الإسلام -عافنا الله وإياكم من هذا- يستهزئ ببعض سنن النبي صلى الله عليه وسلم الظاهرة ويسخر منها؛ بل إن بعضهم قرأت له مقالاً -أسأل الله لنا وله الهداية- يستهزئ بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم؛ بل بعضهم يخبر أن سنته قد بليت وانتهى وقتها وعفا عليها الدهر، وأن هذا القرآن لا يصلح لهذا الزمن، وأن الرجوع إلى أحكامه وإلى شريعته عليه الصلاة والسلام إنما هو رجوع إلى الخلف وإلى الوراء، وإلى عصور الظلام قاتلهم الله أنَّى يؤفكون. استهزاءً به عليه الصلاة والسلام وبدينه وبقرآنه وبشريعته عليه الصلاة والسلام: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] وإذا رأيته في مقالاته تجده -هذا المنافق- أشد أعدائه هو صاحب اللحية، وصاحب الثياب القصيرة، فتجده يصدر مثقالاً يقول فيه: وجدت صاحب لحية كثيفة يقول: كذا وكذا، ثم يكيل عليه التهم والسباب والشتائم، وما شأن لحيته بهذا. وإذا بدأ مقالته أو مجلسه أو كلامه فإن أول ما يبدأ به وصف سنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول: دخل عليّ شاب ثيابه قصيرة فقال: كذا وكذا، وما شأن ثيابه القصيرة بكلامه يا منافق! يا عدو الله! تجده في المجالس إذا تكلم، فبحكم من أحكام الله، وإذا سب فهي آية من آيات الله، وإذا استهزأ فهو على شرع من شريعة الله جلَّ وعلا؛ يظهر الإيمان ولكنه يبطن الكفر (هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، دعاة على أبواب جهنم، من أطاعهم قذفوه فيها).

التخذيل والإرجاف

التخذيل والإرجاف وأيضاً من أوصافهم قاتلهم الله: التخذيل والإرجاف. كلما أراد المؤمنون أن ينصروا الله خذلوهم، وكلما أرادوا أن يقيموا شرع الله أرجفوا بينهم. تجدهم يقفون عند أبوابهم، وفي طرقات الناس ومسالكهم، فإذا أرادوا أن يذهبوا إلى الجهاد قالوا: لما تذهبون إلى الجهاد؟ إن أعداء الله أقوياء وإنكم لا تستطيعون عليهم، أتذهبون إلى الموت والقتل؟ ما الذي يجعلكم تفعلون هذا؟ أنتم ضعاف لا قوة لكم ولا شأن: {وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ * فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [التوبة:81 - 82]. كانوا يقفون عند أبواب المدينة لما أراد النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه أن يذهبوا إلى الجهاد، ووقفوا في طريقهم عقبات، فأخذوا يخذلون ويرجفون، فيقولون: ما الذي يخرجكم؟ فإن الحر شديد، وإن الأمر صعب، وإن الأعداء أقوياء، فما الذي يخرجكم في هذا الحر؟ فرد الله عليهم فقال: {قل نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة:81] لا يفقه المنافقون هذا! والكفار لا يعلمون هذا؛ لا يعلمون أن النار هي نار جهنم، ولكنهم لا يفقهون.

الاعتراض على قدر الله

الاعتراض على قدر الله وأيضاً يا أيها الإخوة من أوصافهم: الاعتراض على قدر الله. وكلما نزلت مصيبة، أصابهم الجزع والهلع، وكلما نزلت كارثة أخذوا ينسبونها إلى الأسباب ولا يرجعونها إلى الله جل وعلا، فلما مات بعض الصحابة في غزوة أحد، وقتل منهم من قتل، وجرح منهم من جرح، أخذوا يضحكون عليهم ويعترضون على القدر، فقال الله عنهم: {الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَأُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران:168] لو جلسوا معنا وما ذهبوا إلى الجهاد ما ماتوا وما قتلوا، كما يقول بعض الأعداء -قاتلهم الله-: لو لم يذهب إلى الجهاد، لو لم يقم لله جل وعلا آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر ما أصابته مصيبة، وما نزلت عليهم هذه المصيبة. ولهذا إذا أصاب أحدهم منهم موت عزيز أو قريب أو حبيب؛ يصيبه الجزع والهلع، تجده متضايقاً يرد أمر الله وقدره؛ بل سمعنا عن بعضهم في هذا الزمان -وليس كل هذه الأوصاف دليل على النفاق الأكبر، فلربما يكون نفاقاً أصغر- يعترض على قدر الله في الإنجاب، فإذا جاءته بنت اعترض على القدر وتضايق، وإن جاءه ولد فرح؛ بل إن بعضهم هداه الله يشترط على زوجته إن أنجبت بنتاً فإنه يطلقها، وإن أنجبت ولداً فإنه سوف يبقيها في ذمته، وسمعنا عن هذا من بعض الناس، إما أنه يدل على جهل في أمر دينهم، أو ضعف إيمان، أو نفاق عافنا الله من هذا.

الإفساد في الأرض

الإفساد في الأرض أيضاً من علاماتهم: أنهم يفسدون، وإذا أنكرت عليهم قالوا: إنما نحن مصلحون: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} [البقرة:11 - 12]. بل يتكلم بأنه الذي يريد الإصلاح لهذه الأمة، وهو يخاف عليها من الفتن، ومن الظلام، ويريد منها أن ترجع إلى الوراء، ويخاف عليها من هؤلاء المتدينين، وهو الذي يريد بهذه الأمة الفساد، وإذا تكلم أحسن الكلام: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة:204]؛ بل لعله يُصدِّر كلامه بالآية وبالحديث وبسنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم، {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْأِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة:205 - 206]. فهو الذي ينشر الفاحشة في الذين آمنوا، وهو الذي يثير بينهم الفساد والفتن، وهو الذي يبث بينهم السموم، ولكنه إذا تكلم ونطق يقول: أنا المصلح الأمين لهذه الأمة، أنا الذي أريد لها الخير، أنا أخاف عليها من الضياع، أنا أخاف على دينها، كما قال قائده الأول وزعيمه الأكبر فرعون عليه لعنة الله: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26] واعجباً من فرعون! يقوم في الناس يقول: أخاف على دينكم، وأخاف أن ينشر بينكم موسى الفساد، أفيخاف فرعون على الناس من الفساد؟! تشابهت قلوبهم، والله يعلم ما يخفون في صدورهم {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران:118]. أقول هذا القول وأستغفر الله.

الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف

الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. أما بعد: أيها الإخوة المسلمون: إن أوصافهم كثيرة، وكل هذه الأوصاف ذكرها الله عز وجل ليفضحهم، وليخرج ما في قلوبهم، وليشهد عليهم الناس، فاسمعوا -أيضاً- إلى بعض منها في هذه الخطبة: من أوصافهم: أنهم يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف. فهم يأمرون بالفاحشة، وبالتبرج للنساء، ويأمرون بالزنا ومقدمات الزنا، ويأمرون بالخمور، وينهون الناس عن الصلاة وعن القرآن وعن الحكم بشريعة الرحمن: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [التوبة:67 - 68]. إن جاءتهم وليمة، أو دعا ضيوفاً له وأقرباء؛ فإنه يذبح لهم ما يذبح من الولائم، ولعلها تبلغ السبعين وليمة وهم سبعة أشخاص، فإذا وجاء وقت طاعة الله والإنفاق للجهاد في سبيل الله ولمشاريع الخير {وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة:54] يقبضون أيديهم إذا كان لله، فلا يخرج شيئاً من جيبه، أما لنفسه ولسمعته ولدنياه فإنه يخرج كل ما في جيبه؛ بل يستدين لهذا، أما لله فلا.

التربص بالمؤمنين

التربص بالمؤمنين أيضاً من صفاتهم يا عباد الله: أنهم يتربصون بالمؤمنين. فإن نزلت بالمؤمنين كارثة، أو أصيبوا بهزيمة، أو سحقهم الكفار، فرحوا وطربوا وأخذوا يغنون في المجالس ويتذاكرون ويفرحون بمصيبة المؤمنين، أما إن أصاب المؤمنين نصر، ونصرهم الله بين الناس، تضايقوا وحزنوا، كما قال الله عنهم: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ} [التوبة:50]. وهاهم يتربصون بالمؤمنين في كل زمان ومكان، فإن أصاب المؤمنين نصر أو فوز فإنهم يكيلون لهم التهم والشتائم، وأنهم يريدون الملك، وأنهم يريدون الدنيا، وأنهم عملاء لأعداء الله، وأنهم يريدون كذا وكذا، وإذا أصابتهم هزيمة قالوا: انظروا إليهم، إن دعوتهم لباطلة، وإن دينهم على غير الحق، كل هذا كفر بالله وبرسوله.

التشدق والتفيهق والتكلم بالدين بغير علم

التشدق والتفيهق والتكلم بالدين بغير علم يتكلم وكأنه أحد الفقهاء والأئمة الأربعة، وهو لا يفقه من الدين شيئاً، يتكلم بجزئيات في الشريعة، إذا سمعته تظنه إمام المسلمين، وهو العالم المفوه، وهو العلامة الذي ليس بعده ولا قبله، وإذا سألته لتجدنه أجهل الناس، كما قال الله جل وعلا عنهم: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون:4] ولكنهم في الحقيقة كما قال الله جل وعلا: {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون:7]. يتعلم جزئيات من التاريخ، وبعض الشبه في الدين، لينشرها كأنه يتكلم باسم إمام المسلمين، وسله عن أبسط مقدمات المسلمين، وأصول هذه الملة، ستجده جاهل بها لا يعرف حقيقتها. أيها الإخوة: هذه بعض من صفات المنافقين، الذين قد نجدهم بين أظهرنا، ونجدهم يجلسون بيننا؛ بل بعضهم يتسمى باسم عبد الله ومحمد وأحمد وعبد الرحمن، ولكنه عدو للرحمن ولي للشيطان. أيها الإخوة: هذه حقيقة لا يجوز أن ننكرها؛ وهي أن المنافقين في هذه الأمة باقون إلى قيام الساعة، يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، ولعلهم يصلون بيننا؛ بل بعضهم يصلي حتى الفجر، ولكنه في قلبه عدو لله ولرسوله. فنسأل الله عز وجل أن يعافينا وإياكم من النفاق وأهله، إنه ولي ذلك والقادر عليه. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين. أقول هذا القول وأقم الصلاة.

صفة التثبت

صفة التثبت التثبت خلق عظيم يجب أن يتحلى به المرء يوم أن فقده كثير من الناس اليوم إلا من رحم الله، وإن عدم التثبت في الأخبار له الأثر الكبير في تفرقة الإخوان وتدمير الأسر والبيوت، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم تثبت في أمر بني سلمة، وعبد الله بن عمرو وماعز وكذا في حادثة الإفك.

أهمية التثبت والتبين في واقع الناس

أهمية التثبت والتبين في واقع الناس إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المسلمون! نتابع ما ذكرناه في الخطبة الماضية حيث ذكرنا أدباً وخلقاً عظيماً، وهذا الخلق هو العدل والإنصاف بين الناس، وأن يتحلى الداعية إلى الله وطالب العلم والأخ مع أخيه بخلق العدل والإنصاف، وأن ينتهي عن خلق الجور والظلم الذي أصيب به كثير من الناس، فأصبحوا لا يرون إلا بعين واحدة، هي عين الإساءة، وعين العيوب، ولا يرون بغيرها، حتى قال بعضهم: "لو أصبت تسعة وتسعين مرة، وأخطأت واحدة، لعدوا عليّ خطئي" أي: نسوا فضائلي ومحاسني وما تذكروا إلا الأخطاء. واليوم نتكلم عن خلق آخر يجب أن يتحلى به جميع الناس، بل أمرنا الله جل وعلا به، والله جل وعلا لا يأمر إلا بخير، وهذا الخلق كان لتركه أثر في طلاق كثير من الناس لنسائهم، وكان له سبب في افتراق كثير من الإخوان عن إخوانهم، وتدمير كثير من أعمال الخير. فلو تحلينا بهذه الصفة لاستمر هذا الخير، هذه الصفة من أعظم الصفات التي لا يتحلى بها إلا من أطاع أوامر الله جل وعلا، واسمعها -يا عبد الله- وحاول أن تتخلق بها، وهي صفة (التثبت والتبين). عبد الله! كم وكم من الناس قيل له: فلان قال: كذا فلان يقول: كذا. فيقول: عليه من الله ما يستحق، هو الذي فيه كذا وكذا، ولو أنه تثبت وتبين لعلم أن فلاناً ما قالها، أو قالها وما أراد كذا، أو قالها في سياق كذا وكذا، ولكنه وللأسف! العجلة التي هي من الشيطان، كما قال عليه الصلاة والسلام: (التأني من الرحمن، والعجلة من الشيطان).

حث القرآن الكريم على التثبت والتبين

حث القرآن الكريم على التثبت والتبين اسمع إلى قول الله جل وعلا: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [الحجرات:6] من المخاطبون؟ إنهم المؤمنون إنهم الذين آمنوا بالله رباً، وبمحمد نبياً، الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر، الذين يؤمنون أن لهم موقفاً بين يدي الله جل وعلا فيحاسبهم على كل كلمة قالوها. قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6] وعامة قراءة أهل المدينة (فتثبتوا) لمَ يا رب نتبين؟ لمَ نتمهل ونتثبت من الكلام؟ قال: {أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ} [الحجرات:6] كم وكم أصبنا قوماً بجهالة؟ وكم جاءنا إنسان فقال لنا: فلان الذي يدعو إلى الله فلان ذلك الرجل الصالح الذي يتظاهر بالصلاح فيه كذا وكذا يتعامل بالربا، وإذا بنا نتهمه ونبغضه، قال الله: (بجهالة) فهي عين الجهالة، والجهل ضد العلم، ولو تبين لعلم أنه أخطأ بالحكم عليه: {أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ} [الحجرات:6]. ثم ماذا يحصل بعد أن تكبر الخصومة، ويظهر الحق: {فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6] تندم -يا عبد الله- إن لم تندم في الدنيا، فإنه سوف يصيبك الندم عند الله جل وعلا يوم القيامة، فيأتيك فلان، فيقول: يا رب! تكلم فيّ فلان، فيأتي هذا يأخذ من حسناته، وهذا يأخذ من حسناته، كيف إذا كان الأمر ليس متعلقاً بواحد، بل بمجموع كبير من الناس؟ الجماعة الفلانية فيها كذا وكذا من قال لك ذلك؟ قال لي: فلان. هل تبينت؟ هل تثبت؟ هل جئت وسألتهم؟ لا والله، قال: فلان كذا وكذا. ومن فلان؟ فلان رجل صالح ثقة! والله يقول: فاسق، أما فلان فليس بفاسق، رجل عدل ثقة، ولكن -يا عبد الله- من أخبرك أن هذا الثقة نقل الخبر عن ثقة مثله.

حرص السلف الصالح على التثبت والتبين

حرص السلف الصالح على التثبت والتبين كم وكم من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي أسقطها العلماء في الأحكام ولم يوردوها في الأخبار، ذلك أن أحد رجال السند لا يصلح للنقل لأنه ليس بحافظ ولا ضابط ولو كان رجلاً صالحاً، واسمع إلى أبي الزناد، يقول: "أدركت بـ المدينة مائة كلهم مأمون" أي: كلهم رجال صالحون مأمونون قال: "لا يؤخذ عنهم الحديث، يقال: ليس من بأهله"، أي: رجل صالح أمين تقي ورع، ولكن لا يقبل منه الحديث، لأنه ليس من أهله حيث إنه لا ينقل الحديث بالنص ولا يحفظه فكيف نأخذ منه الرواية؟ يقول وكيع بن الجراح وذكر له رجلاً من السلف، قال: "ذلك رجل صالح -وليس أي رجل- وللحديث رجال" نعم! مع أنه صالح وصاحب دين وعلم، لكن لا يؤخذ عنه الحديث، ولا أخبار الناس، ولا تقبل روايته إلا بعد أن نتبين ونتثبت، والله جل وعلا يقول: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36] أي: لا تقل شيئاً ولم تتأكد وتتثبت منه، ثم يظهر لنا بعض الناس يقول: أنا لا أتكلم على أحدٍ، إذن: بهذه الطريقة لا نتهم أحداً. أقول لك يا عبد الله: كفى بهذا الأمر شرفاً وعزاً أن تأتي عند الله -جل وعلا- ولم تحمل على ظهرك أوزاراً للناس، ولم تتكلم على أحد من البشر، إلا بعد أن تثبت وتبينت وتأكدت من الخبر.

سليمان عليه السلام وتثبته من خبر الهدهد

سليمان عليه السلام وتثبته من خبر الهدهد واسمع -يا عبد الله- إلى هذه القصص وتلك المواقف من أفعال الأنبياء والمرسلين، كيف كانوا يتثبتون ويتبينون وإن كان الخبر من أوثق الناس؟ قال الله جل وعلا وهو يحكي قصة سليمان مع أحد جنوده، ألا وهو (الهدهد) وكان الهدهد مقرباً إلى سليمان عليه السلام، بحث عنه يوماً من الأيام فلم يجده بين الجيش تفقده فلم يجده {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [النمل:22] أي: لم ينتظر إلا قليلاً، فإذا بالهدهد قد قدم، فقال له الهدهد: {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [النمل:22] يا سليمان! جئتك بعلم لم تعلمه أنت يا رسول الله: {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِيْن} [النمل:22] جئتك من سبأ وملكة سبأ، بخبر وأي خبر؟ قال: (بنبأ يقين)، وليس بالأمر المشكوك فيه، بل هو علم وأعلى درجات العلم. قال: أي: أنني متيقن من الذي سوف أقوله لك، ثم قال له الخبر وقصة بلقيس مع قومها، أتعرف كيف رد سليمان عليه السلام على هذا الهدهد؟ وكيف أجابه؟ {قَالَ سَنَنْظُر} سنبحث في الأمر ونتأكد من الأمر: {قَالَ سَنَنْظُر أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النمل:27] سنبحث في الأمر لعلك تكون قد كذبت، أو أخطأت أو وهمت لعل الذي نقل لك الكلام ليس بثقة، لعل في الأمر التباس {قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النمل:27] وليكن هذا شعارنا بين الناس، كلما جاءنا رجل قال لنا: فلان في الدرس الفلاني قال كذا، وفلان يُتهم بكذا، لو أجبنا كل أحد بهذه الكلمة، سننظر، سنبحث، سنتأكد {أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النمل:27] لو كان هذا شعارنا، لانتهت أكثر الخصومات بين الناس، ولحافظ كل منا على لسانه وما يتلفظ به من قول.

من مواقف النبي صلى الله عليه وسلم في التثبت والتبين

من مواقف النبي صلى الله عليه وسلم في التثبت والتبين

تثبت النبي صلى الله عليه وسلم من خبر بني سلمة

تثبت النبي صلى الله عليه وسلم من خبر بني سلمة اسمع -يا عبد الله- إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أتاه خبر عن بني سلمة ما هذا الخبر؟ خبر ليس فيه جريمة، ولا اتهام كبير، ولكنه خبر كالأخبار وهو: أن بني سلمة سوف ينتقلون من بيوتهم؛ لأن بيوتهم بعيدة عن المسجد، فيشترون بدلها بيوتاً بالقرب من المسجد، فالأمر عادي، والخبر خفيف، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتكلم على أناس ولا ينصحهم من ورائهم إلا بعد أن يتثبت، فجاءهم فقال: (يا بني سلمة! إنه بلغني أنكم سوف تنتقلون قرب المسجد) يريد أن يتأكد هل هذا الأمر صحيح؟ وهل هذا الخبر أكيد؟ ومن الذي نقله إليه؟ إنهم صحابة عدول رضي الله عنهم وأرضاهم ولكنه التثبت والخلق العظيم: (إنه قد بلغني عنكم، أنكم سوف تنتقلون قرب المسجد؟ قالوا: نعم يا رسول الله! فقال: يا بني سلمة! دياركم دياركم تكتب لكم آثاركم) لم ينصحهم ولم يتكلم عليهم، ولم يوصل إليهم النصيحة من وراء أظهرهم إلا بعد أن تثبت، لأنه تمثل قول الله جل وعلا: {فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6] وفي قراءة قال: (تثبتوا) قال بعض المفسرين: "تبينوا وتثبتوا بمعنى واحد". وقال بعضهم: تبينوا تختلف عن تثبتوا، فالتثبت يكون في الإسناد، أي: نتأكد هل قال أم لم يقل؟ وتبينوا في المعنى، أي: ماذا يريد بهذا الكلام؟ وما الذي حمله على هذا الكلام؟ فالأمر فيه معنى أوسع.

تثبت النبي صلى الله عليه وسلم من خبر عبد الله بن عمرو

تثبت النبي صلى الله عليه وسلم من خبر عبد الله بن عمرو واسمع -يا عبد الله- إلى عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: [والله لأقومن الليل وأصومن النهار ما عشت أبداً] أي: كل الليل أقومه، وجميع الأيام أصومها في حياتي كلها، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يتكلم ولم ينصح من ورائه، ولم يقل: فيه كذا وكذا، إنما ذهب إلى عبد الله بن عمرو بنفسه يتثبت، ووراءه الأمة، وعنده الجيوش، ووراءه دعوة الناس، ولكنه الخلق العظيم، قال: (يا عبد الله! أنت الذي تقول ذلك؟! -هل حقاً ما نقل عنك؟ - قال: نعم يا رسول الله! قال: إنك لم تستطع هذا)

تثبت النبي صلى الله عليه وسلم في حادثة الإفك

تثبت النبي صلى الله عليه وسلم في حادثة الإفك وما كان في حادثة الإفك من الخلق العظيم الذي تمثل به عليه الصلاة والسلام، مكث الناس شهراً كاملاً يتكلمون، والخبر منتشر، وبعض الصحابة وقع في هذا الأمر، وإذا به يسأل بريرة، وزينب ويسأل فلانة ويتأكد من فلانة ليتثبت من أمر عائشة، فإذا به عليه الصلاة والسلام يمسك لسانه، وإذا بالخبر يأتيه من السماء، إنه التثبت يا عباد الله! إنه التبين؛ ذلك الخلق القويم الذي فقدناه في أواسط كثير من الناس، ولو كانوا صالحين أو أهل علم وعبادة، ولكنه خلق لا يتمثل به إلا قليل منهم. أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم.

تثبت النبي صلى الله عليه وسلم في قصة حاطب بن أبي بلتعة

تثبت النبي صلى الله عليه وسلم في قصة حاطب بن أبي بلتعة الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. أما بعد: عباد الله! حاطب بن أبي بلتعة، لما تأكد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخبر وتثبت منه، جاء إليه فقال له: (يا حاطب) انظر إلى التبين والتثبت من الأمر بعد أن تأكد أنه قاله، وقرأ الكتاب قال: (يا حاطب! ما الذي حملك على ما صنعت؟) ما هي نيتك؟ ما هو قصدك؟ الأمر خطأ، والبدعة بدعة، ولكن باتهام الناس ما الذي حملك على ما صنعت؟ ما الذي حملك على ما قلت؟ ما الذي حملك على ما كتبت؟ ما الذي حملك على ما وزعت؟ نعم. الخطأ يبقى خطأ، والبدعة تبقى بدعة، والمعصية تظل معصية، ولكن الحكم على الناس يحتاج إلى تبين وتثبت. خالد بن الوليد في إحدى المعارك: فقتل رجل من المسلمين أحدَ الكفار، والسنة أنه إذا قتله فإنه يأخذ سلبه، أي: يأخذ ما معه من سلاح وما يحمل من غنيمة فيكون له، وقد دل على هذا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء خالد فمنع هذا المسلم من أخذ سلب الكافر، وهذا خطأ فأتى النبي صلى الله عليه وسلم إلى خالد، فقال له بعد أن تثبت وتأكد من الخبر، قال: (يا خالد! ما حملك على ما صنعت؟) ما قصدك من هذا الذي فعلت؟ ما نيتك عندما فعلت هذا الفعل؟ فقال: يا رسول الله! قد استكثرته، أي: قد استكثرت ما معه من سلب؛ نيته وقصده أن يخفف الحكم عليه يا عباد الله!

تثبت النبي صلى الله عليه وسلم في الحكم على ماعز

تثبت النبي صلى الله عليه وسلم في الحكم على ماعز أتى ماعز إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فقال: يا رسول الله! زنيت. ما أعظم هذا التدين، وما أكبر من هذا التثبت، صاحب الخطأ يأتيك فيقول: فعلت كذا وكذا، فيتأكد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويذهب إلى قومه، فيقول: أبه جنون؟ أفي عقله شيء؟ هل تشكون من أمره شيئاً؟ تثبت وأي تثبت {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6] تبينوا تمهلوا، يا عبد الله! إياك إياك كلما سمعت فلاناً ولو كان تقياً، ولو كان ورعاً، ولو كان صاحب عبادة، قال في فلان كذا، إياك أن تتعجل، فإن العجلة من الشيطان، قال الحسن البصري عليه رحمة الله: [المؤمن وقافٌ حتى يتبين] لا يلفظ لسانه شيئاً، ولا يتعجل بالحكم على الناس، ولا يتهم عباد الله الصالحين، فالمؤمن وقافٌ حتى يتبين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اللهم أعداء الدين، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.

علامات الساعة

علامات الساعة إن من رحمة الله بنا أن جعل للساعة علامات قبل قيامها لكي نستعد لها ولأهوالها، وهذه العلامات تنقسم إلى قسمين: علامات صغرى، وعلامات كبرى. وقد ذكر الشيخ حفظه الله في هذه المادة عشر علامات من علامات الساعة الصغرى، موضحاً وقوع أكثرها.

من علامات الساعة

من علامات الساعة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المسلمون: معنا في هذه الخطبة عشر علامات من علامات الساعة، وهذه العلامات من العلامات الصغرى، وقد كان عليه الصلاة والسلام ينبه أصحابه ويحذرهم من اقتراب الساعة، فقد كان يقول يوماً: (اعدد ستاً بين يدي الساعة) وكان يقول لغيره: إن بين يدي الساعة كذا وكذا، ويذكر لهم علامات وأشراط وأمارات تدل وتنبئ بقرب قيام الساعة. الساعة وما أدراك ما الساعة؟! إنها الحاقة، إنها القارعة، إنها الطامة الكبرى، إنها الصاخة، إنها يوم الفصل الذي يفصل الله عز وجل فيه بين الناس. اسمع يا عبد الله إلى هذه العشر، الأمارات والعلامات من علامات الساعة، ولم يكن عليه الصلاة والسلام يعلم عن وقت قيام الساعة، بل كان يُسأل عنها فيقول: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل) وسأله أحدهم فقال: (متى الساعة؟ فقال: ما أعددتَ لها؟) أي: كيف تجهزتَ لها؟! وهل استعددتَ لها بالأعمال الصالحة أم أنك تريد أن تعرف وقتها فقط؟! فالعبرة بالاستعداد لا بمعرفة الميعاد. يا عبد الله اسمع إلى هذه العشر، ثم وأنت تسمع إلى هذه الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم حاوِل أن تطبقها على واقعنا، ثم احكم يا عبد الله: هل هذه العشر قد وقعت؟ فإن وقعت منها علامة واحدة فاعلم أن الساعة قد اقتربت، وإن وقعت علامتان فهي أقرب، وإن كانت أكثر فالساعة قريبة يا عبد الله، فأعدد لها واستعد.

العلامة الأولى: ذهاب الصالحين

العلامة الأولى: ذهاب الصالحين تجد المجتمعات والبلاد يقل فيها الصالحون ويموتون ويفنَون عن الأرض، قال عليه الصلاة والسلام: (لا تقوم الساعة حتى يأخذ الله شريطته من أهل الأرض -أي: أن أهل الفضل والصلاح يقبضهم الله جل وعلا، يقلُّون في الناس، يصبحون معدودين على الأصابع- قال: فيبقى فيها حثالة -يعني: أراذل الناس يبقَون- لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً -ما صفة الحثالة؟ وما صفة الأراذل؟ وما صفة هؤلاء الناس الذين يبقيهم الله في الأرض؟ - قال: لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً -لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، يبقيهم الله لأنهم حثالة، أما شريطته وهم أهل الصلاح وأهل الخير، الآمرون بالمعروف فيأخذهم الله ويقبضهم) هذا الحديث رواه أحمد وإسناده صحيح.

العلامة الثانية: ارتفاع الأسافل

العلامة الثانية: ارتفاع الأسافل تجد أسافل الناس وأراذلهم، وأقلهم ديناً يرتفعون فيملكون زمام الأمور، ويسيطرون على الناس، ويتأمَّرون عليهم، وهم في مقياس الشريعة من أراذل الناس، اسمع إلى هذا الحديث؛ يقول عليه الصلاة والسلام: (إنها ستأتي على الناس سنون خدَّاعة، يصَدَّق فيها الكاذب، ويكَذَّب فيها الصادق، يؤتَمَن فيها الخائن، ويخَوَّن فيها الأمين، وينطِقُ فيها الرويبضة، قيل: وما الرويبضة؟ قال: الرجل السفيه يتكلم في أمر العامة) سفيه لا دين له ولا عقل، ولا حكمة عنده، ولكنه يُمَلَّك زمام الأمور فيتكلم في أمر العامة، ويحكمهم ويسيطر عليهم، ويدير شئونهم. هو في دين الله سفيه، وفي شرع الله لا بد أن يُقام عليه الحد، وفي كتاب الله المفروض أنه لا يتكلم، ولكن سنون خدَّاعات، نعم والله، إنها سنون خدَّاعات يتكلم فيها الرويبضة، بل جاء في الحديث الآخر أن الناس يقولون عنه: ما أجلده -أي أنه قوي- ما أظرفه -ما شاء الله مضحك- ما أعقله -ذو حكمة وعقل- قال: وليس في قلبه مثقال ذرة من إيمان. الرويبضة -يا عبد الله- إذا نطقوا فانتظر الساعة. وقال في هذه العلامة عليه الصلاة والسلام: (لا تذهب الدنيا حتى تصِير لِلُكَع بن لُكَع) أي: أحمق وسفيه ومن الأراذل يملك الدنيا ويملك الناس ويدير شئونهم، وهو -كما وصفه عليه الصلاة والسلام- لُكَع بن لُكَع. والحديث رواه أحمد، وهو في صحيح الجامع.

العلامة الثالثة: لبس النساء للباس غير الساتر

العلامة الثالثة: لبس النساء للباس غير الساتر نعم. محتشمات وغير محتشمات، كاسيات لكنهن عاريات، اسمع إلى هذا الحديث الصحيح، قال عليه الصلاة والسلام: (سيكون في آخر أمتي رجال يركبون على السرج -والسرج: جمع سَرْج، ما يُرْكَب به على الحصان والدابة- قال: كأشباه الرحال، ليسوا على رحال -أي: ليسوا على إبل وليسوا على فرس- يركبون رحالاً كأشباه الرحال -قال بعض العلماء: لعلها السيارات في هذا الزمان- قال: ينزلون على أبواب المساجد أي يصلون- قال: نساؤهم كاسيات عاريات على رءوسهن كأسنمة البخت العجاف) أي: رأسها -إذا شبهته- كرأس البخت، أي: الإبل العجاف الهزيلة الضعيفة، عُنُق طويل ورأس كبير، وانظر إلى شعورهن كيف ينفشنها، انظر إليهن يذهبن إلى بعض الكوافيرات وبعض الصالونات لينفشن شعورهن ليظهرن عند الرجال وفي المجتمعات عاريات، بل بعضهن لا ترضى بشعرها حتى تضع شعراً على شعرها، تسميه الباروكة، وانظر إلى كثير من الرجال، حتى جاء في بعض الألفاظ: (كأشباه الرجال) وليس كأشباه الرجال، أي: رجال وليسو برجال، قال: (كأسنمة البخت العجاف، العنوهن فإنهن ملعونات) ليس من قولي يا عبد الله، هذا قول رسولك عليه الصلاة والسلام، قال: (العنوهن فإنهن ملعونات) أي: العنوهن على العموم، على قول بعض أهل العلم: ولا تعيِّن اللعنة، قال: (العنوهن فإنهن ملعونات، لو كانت وراءكم أمة من الأمم لخدَمْن نساؤكم نساءهم، كما يخدِمَنَّكم نساءُ الأمم قبلكم) رواه أحمد، والحديث صحيح.

العلامة الرابعة: ظهور الأخلاء ذوو الوجهين

العلامة الرابعة: ظهور الأخلاء ذوو الوجهين تجد في الناس إخواناً في العلانية، يصافح بعضُهم بعضاً، ويوَدُّ بعضُهم بعضاً، فإذا خلا كل منهم إلى صاحبه وإلى نفسه لَعَن أخاه وسبه واغتابه وشتمه:- هم على صراط واحد، وعلى عقيدة واحدة، إخوان لكن في العلانية، فإذا كانوا في السريرة رأيتهم أعداء متباغضين متلاعنين يحذر بعضُهم من بعض. اسمع إلى هذا الحديث الموقوف، هذا الكلام الذي يرويه أمين هذه الأمة: أبو عبيدة عامر بن الجراح، روى الطبراني عن محمد بن سوقة قال: أتيتُ نعيم بن أبي هند فأخرج إلي صحيفة -رسالة- فإذا فيها: [من أبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل إلى عمر بن الخطاب سلام عليك -وجاء في هذه الصحيفة- وإنا كنا نتحدث أن أمر هذه الأمة في آخر زمانها سيرجع إلى أن يكون إخوان العلانية أعداء السريرة] سوف يكونون في آخر الزمان إخواناً في العلانية أمام الناس، وإذا أتيتَ إليهم منفردين فإنهم أعداء، فرد عمر بن الخطاب على هذه الرسالة يؤكد ما قالا ويصَدِّقهم على ما قالا- ولكنه يقول: [سوف يكون هذا الأمر إذا ظهر في الناس الرغبة والرهبة] أي: إذا أخذوا يرغبون في الدنيا ويرهبون منها، وأصبحت أخوتهم لأجل مصالح الدنيا. يقول الله جل وعلا: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1] اقتربت فهي قريبة، إن كان من العلامات علامة قد وقعت فهي قريبة، ما بالكم وأكثر هذه العلامات نراها بأم أعيننا قد انتشرت في هذا الزمان؟!

العلامة الخامسة: انتشار الشرط إخوان الظلمة

العلامة الخامسة: انتشار الشرط إخوان الظلمة سيكون في الناس أمراء وحكام، وانظروا إلى صفحات عالمنا، وانظروا إلى سلسلة تاريخنا لتروا الظالمين كيف حكموا الناس، ويكثُر عند هؤلاء الظلمة أعوان وشُرَط وخادمون، وهذه من علامة الساعة، قال عليه الصلاة والسلام: (سيكون في آخر الزمان شُرطة يغدون في غضب الله ويروحون في سخط الله -أي: يخرج أحدهم من أول النهار وهو في غضب الله، ويرجع آخر النهار وهو في سخط الله- قال: فإياك أن تكون من بطانتهم) والحديث في صحيح الجامع. وقال عليه الصلاة والسلام: (صنفان من أهل النار لَمْ أَرَهُما: وذكر منهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس). اسمع إلى أحد علماء أحد هذه الأمة، وهو النووي عليه رحمة الله لَمَّا ذَكَر هذا الحديث قال: وهذا الحديث من معجزات النبوة، فقد وقع ما أخبر به عليه الصلاة والسلام. وذلك قبل قرون عدة، فأما أصحاب السياط قال: فهم غلمان والي الشرطة -أي: رئيس الشرطة- غلمانه وحرسه هم الذين ذكرهم عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث الذي يقول عنه الإمام النووي: إنه وقع في ذلك الزمان قبل قرون عديدة.

العلامة السادسة: انتشار الزنا في الناس

العلامة السادسة: انتشار الزنا في الناس أن ينتشر الزنا، ويتنتشر أسبابه، وتنتشر دواعيه في الناس، حتى يصبح أمراً عادياً، وحتى يصبح الأمر معتاداً، أنك تفتح جريدة فتسمع عن اكتشاف شقة للدعارة، وتقرأ خبراً في اغتصاب امرأة، وتسمع إلى حديث عن فلانة كيف فُضِح أمرُها، حتى يصبح الأمر عادياً وهذه من علامات الساعة. قال عليه الصلاة والسلام: (إن من أشراط الساعة وذكر منها: ويظهر الزنا) ويظهر، أي: ينتشر في الناس الزنا، وتشيع الفاحشة. كيف لا يا عبد الله؟! كيف لا ينتشر وهانحن نجد في بعض الجرائد مقابلات مع ممثلات داعرات؟! فلانة كيف أصبحت نجمة؟! لأنها ظهرت عارية كما خلقها الله في أكثر من فيلم ينتشر بين الناس، أصبحت نجمة، وأصبحت بطلة. عبد الله! هذا يُنْشَر في جرائدنا وفي صحفنا التي نشتريها ونرميها في البيت. كيف لا ينتشر الزنا ولا يظهر وبعض الناس -هداهم الله- يأتي بعمالة من النساء يرميهن في الطرقات، يقبض عليهن الأموال للتجول والتكسب من البغاء؟! وكيف لا ينتشر الزنا يا عبد الله وصور النساء العاريات على صفحات المجلات، وعلى جدران بعض المحلات. عبد الله! كيف لا ينتشر الزنا وهذه بعض أحوالنا؟! قال القرطبي وهو شيخ القرطبي المفسر، قال: هذا الحديث علم من أعلام النبوة، إذ أخبر عن أمور ستقع. يقول القرطبي: فوقعت خصوصاً في هذه الأزمان، أتعرف أي أزمان؟ في القرن السابع للهجرة، ونحن الآن في القرن الخامس عشر، هذه العلامة التي قال عنها القرطبي عليه رحمة الله: إنها وقعت كيف به لو يعيش أزماننا هذه؟! كيف به لو يتجول في أسواقنا؟! كيف به لو يمشي في مجتمعاتنا وهو ينظر إلى هذه الأحوال؟! عباد الله! إن الله عز وجل يقول عن الساعة واقترابها: {أَزِفَتِ الْآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} [النجم:57 - 58] نعم -يا عباد الله- اقتربت وأزفت؛ ولكن هل من مستعد لها؟! وهل من متجهز لها؟! أقول هذا القول، وأستغفر الله.

علامات أخرى للساعة

علامات أخرى للساعة الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. أما بعد:

العلامة السابعة: انتشار الربا

العلامة السابعة: انتشار الربا السابعة من العلامات انتشار الربا، حتى لا تكاد تجد مكاناً إلا وفيه دار للربا، بل قال عليه الصلاة والسلام: (بين يدي الساعة يظهر الربا) أي: ينتشر الربا، وفي البخاري: (حتى تجد الرجل لا يبالي عن كسبه، هل من حلال، أو من حرام) لا يهتم، يشتري البضائع، ويشتري السيارات، ويتعامل مع الناس، ولا يبالي، هل من حلال أو من حرام: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:278] فإن رأيت بنكاً ربوياً في أي مكان، فاعلم أن هذا علامة من علامات الساعة، واعلم أن التعامل معه يقرِّب الساعة، وأن ظهورَها في المجتمعات شرطٌ من أشراطها.

العلامة الثامنة: انتشار المعازف واستحلالها

العلامة الثامنة: انتشار المعازف واستحلالها ومن علامات الساعة: أن تنتشر المعازف -أي: الموسيقى- وتُسْتَحل بين الناس. وانظر إليها -يا عبد الله- في مجتمعاتنا، في المدارس، وفي بعض المستشفيات، وفي المجتمعات، حتى إنك تجد هذه المعازف لا يخلو منها بيت من بيوت المسلمين، قال عليه الصلاة والسلام: (سيكون في آخر الزمان -واسمع إلى هذا اللفظ، قال: آخر الزمان، أي: إذا وقع فاعلم أن هذا الزمان هو آخر الزمان، والساعة قريبة- قال: خسف وقذف ومسخ) وفي حديث صحيح آخر: (أن منهم من يُمْسَخ إلى قرد، ومنهم من يُمْسَخ إلى خنزير -أجارنا الله وإياكم- قيل: ومتى ذلك يا رسول الله؟ قال: إذا ظهرت المعازف والقَيْنات) أتعرفون مَن هُنَّ القَيْنات؟ إنهن المغنيات اللواتي قد انتشرن في هذه المجتمعات، والحديث في صحيح الجامع ورواه ابن ماجة.

العلامة التاسعة: انتشار عقوق الوالدين

العلامة التاسعة: انتشار عقوق الوالدين أن تجد البنت تتطاول على أمها، والولد يتطاول على أمه ويعقُّها، هذه من علامات الساعة، قال عليه الصلاة والسلام: (سأخبرك عن أشراطها -أي: الساعة- إذا ولَدَت الأَمَةُ ربَّتَها، وفي - صحيح مسلم -: إذا ولَدَت الأَمَةُ ربَّها) أي: أن تجد البنت والولد يعقان أمهما، ويتطاولان عليها، حتى أصبحت هذه الضعيفة والمسكينة لا تستطيع أن تأمر ولدها ولا ابنتها، حتى وجد في بعض المجتمعات أن يشتكي الولد بأمه وأبيه، ويبلغ الشرطة عن أمه وأبيه، أتعرفون لِمَ يا عباد الله؟ لأنه قد منعه الحرية، في أن يعاشر النساء، وأن تخالط البنت مَن تشاء من الرجال.

العلامة العاشرة: كثرة التجارة

العلامة العاشرة: كثرة التجارة من علامات الساعة -وهي الأخيرة- كثرة التجارة بين الناس، حتى يصبح أكثر الناس أهل تجارة وأهل أموال، ولا يفكرون من الصباح إلى المساء إلا بالدينار والدرهم، قال عليه الصلاة والسلام: (بين يدي الساعة تسليم الخاصة، وفُشُوُّ التجارة حتى تشارك المرأة زوجَها في التجارة) رواه أحمد، وهو صحيح، بل إن بعض الرجال يُرغِم زوجته أن تدخل معه في التجارة، ويُرْغِمها أن تشاركه في المال والدينار. هذه -يا عبد الله- بعضٌ مِن علامات الساعة، وإلا فهي كثيرة، وما وقع منها كثير. عبد الله: قال الله جل وعلا: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد:18] أي: جاءت علاماتها وجاءت أماراتها، هل تنتظر -يا عبد الله- أن تقع عليك، فإنها لن تقوم إلا على شرار الخلق، وإنها إذا قامت وأنت حي -يا عبد الله- فاعلم أنه مَن تقع عليه الساعة فهو من شرار الخلق، فسَل الله عز وجل ألا تقوم وأنت حي موجود على وجه هذه البسيطة. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اللهم أعداءك أعداء الدين. اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

فضل الصيام

فضل الصيام إن شهر رمضان شهر عظيم ينتظره المسلمون بفارغ الصبر يعدون أيامه ولياليه عداً، ولابد لنا قبل قدوم هذا الشهر الكريم أن نتعلم أحكامه وفقهه وآدابه، وما يجب فيه وما يحرم حتى يكون صومنا صحيحاً متقبلاً.

أصناف الناس في استقبال شهر رمضان

أصناف الناس في استقبال شهر رمضان إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المسلمون! يهل علينا بعد أيام قليلة شهر هو من أعظم الشهور في العام -شهر رمضان المبارك- هذا الشهر الذي ينتظره المسلمون بفارغ الصبر ينتظره عباد الله الصالحون، يعدون الأيام والليالي عداً، حتى إذا جاء ذلك الشهر فرحوا بقدومه، واستبشروا به، والناس في قدوم هذا الشهر أحوال وأصناف وأجناس، فمنهم: من يفرح بقدوم هذا الشهر ليروج بضاعته في هذا الشهر، فهو يفرح لا لله؛ لكنه يفرح لتجارته. وذاك رجل آخر يفرح بقدوم هذا الشهر لتلك المسلسلات والأفلام والبرامج التي تُعرض في التلفاز، فهو يفرح؛ لكن ليس لله عزَّ وجلَّ، ولا للدين؛ لكنه يفرح لأمر في نفسه. وآخر يفرح لأجل الليالي التي يقضيها في رمضان في لعب، ولهو، وسمر، وطرب، ومعصية لله عزَّ وجلَّ، فهو يفرح؛ لكنه خاب وخسر بهذا الفرح. أما المؤمنون الصادقون، فإنهم يفرحون بقدوم هذا الشهر؛ لأنه شهر الرحمة وفيه ليلة خير من ألف شهر؛ لأنه شهر المغفرة.

فضائل شهر رمضان

فضائل شهر رمضان اعلم -يا عبد الله- أن المؤمن والعاقل منا لا يضمن نفسه أنه سوف يدرك هذا الشهر، فليكن متأهباً له فرحاً به، فلربما يؤجر بقيامه وصيامه وإن لم يأتِ عليه هذا الشهر. هذا الشهر يقول فيه عليه الصلاة والسلام: (إذا جاء رمضان فُتِّحَت أبواب الجنان): فُتِّحَت يا عبد الله أتعرف أبواب ماذا؟! إنها أبواب الجنان! أبوابٌ إذا فتحت خرجت رائحة من الجنة تُشَمُّ على مسيرة أربعين عاماً. أبواب الجنان التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، سوف تفتح بعد بضعة أيام، فكن مستعداً لها فلربما تُكتب من أهلها، وأنت لا تعلم. قال: (وغُلِّقَت أبواب النيران) نعم -يا عباد الله- فالنار في شهر رمضان مغَلَّقة، بل يكتب الله عزَّ وجلَّ في كل ليلة عتقاء من النار، وذلك في كل ليلة من ليالي رمضان. فاحرص أن تكون من العتقاء من النار في شهر رمضان، (فرغم أنفه من أدرك رمضان ولم يُغفر له). (ينادي منادٍ في رمضان: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك في كل ليلة). أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] لم يكتبه الله جلَّ وعَلا مشقة ولا تعذيباً، ولا تكليفاً فقط {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:183] فلستم أول الأمم يا أمة محمد عليه الصلاة والسلام؛ فالأمم التي سبقتكم قد كتب عليهم الصيام، فهوِّنوا عليكم، وارفقوا بأنفسكم، واعلموا أنكم لستم أول الأمم. قال: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] فهذا هو غاية الصيام، وتلك هي أهدافها. {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] بل يعينك الله جلَّ وعَلا في شهر رمضان حتى تصل إلى التقوى، فتصفد الشياطين ومردتها، وكم نسمع في شهر رمضان من مذنب أقبل على التوبة! ومن متبرجة تحجبت! ومن تارك للصلاة صلى! ومن بخيل أدى زكاة ماله! ومن مذنب بكى لله وخشع! ومن فاسق فاجر أقبل على الله بالطاعات والحسنات؟! لِمَ يا عبد الله؟! لأنه شهر التقوى والرحمة (رَغِمَ أنفُه، ثم رَغِمَ أنفُه، ثم رَغِمَ أنفُه من أدرك رمضان ولم يُغفر له) شهر الرحمات -يا عبد الله- تتنزل فيه الرحمات، وتقبل فيه الأعمال، بل من صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه. إذا فاتك هذا الفضل، أي صمتَ ولم يُغفر لك فاعلم أن (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه) فإن قمت رمضان ولم يُغفر لك فالفرصة ثالثة لا تفوتك: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفِر له ما تقدم من ذنبه) ليلة القدر يا عبد الله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر:2 - 5]. أتعرف ما هو الصيام يا عبد الله؟! ليس هو امتناع عن الأكل والشرب والجماع وغيره من المفطرات، بل هو شهر الصيام الذي يتلذذ به الصائمون لمن تترك طعامك وشهوتك يا عبد الله؟ لله جلَّ وعَلا، يقول الله تعالى: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي) من الذي أمر به؟ الله، ولمن تصوم؟ لله، ومن الذي يثيب عليه؟ الله (إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به). من يمنعك -يا عبد الله- إذا خلوت في بيتك بمفردك فأكلت وشربت؟! مَن عَرفك؟! ومن اطلع عليك؟! ومن الذي علم بك؟! من الذي يمنعك عن الطعام والشراب وأنت في السر وحدك؟! إنها مراقبة الله (إلا الصوم فإنه لي) سر بين العبد وربه (وأنا أجزي به) أتعرف ما ثواب الصائم -يا عبد الله- إذا لقي الله جلَّ وعَلا؟ الناس يدخلون من أبواب الجنان إلا الصائمين، فلهم باب مخصص بهم، لا يدخله غيرهم إنه الريان، وما أدراك ما الريان! صبروا على الصيام فوفاهم الله أجورهم، {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10].

الفطر في رمضان بغير عذر

الفطر في رمضان بغير عذر كم من الناس -أعاذنا الله وإياكم- مَن يفطر في نهار رمضان بغير عذر أباح الله له فيه الفطر؟! اسمع إلى هذا الحديث الخطير الذي يبين فيه عليه الصلاة والسلام عقوبة المفطرين في نهار رمضان، والحديث عن أبي أمامة، قال رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتاني في المنام آتيان، فأخذا بعضُدَي، ثم قالا لي: انطلق، قال: فانطلقتُ فإذا بجبل وعر، فقالا لي: اصعد، قلت: لا أطيقه، قالا: سنسهله عليك، قال: فصعدتُ، فلما كنت في سواد الجبل فإذا بأصوات شديدة، قلتُ: ما هذا؟ قالا: هذا عُواء أهل النار، ثم قالا لي: انطلق! فانطلقتُ فإذا بأقوام معلقون بعراقيبهم، مشققة أشداقُهم -شفاههم ووجوههم مشققة- تسيل دماً، فقلتُ: سبحان الله! مَن هؤلاء؟ قالا: هؤلاء الذي يفطرون قبل تحلة صومهم). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] لا تستثقله -يا ضعيف الإيمان- فإنه {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} ثلاثون أو أقل يأتي ويذهب كلمح البصر، ولا يشعر به الصالحون، بل يتمنون بقاءه، أما ضعاف الإيمان -المذنبون أهل الشهوات- فإنهم يستثقلونه والعياذ بالله.

شهر رمضان شهر القرآن والدعاء

شهر رمضان شهر القرآن والدعاء شهر رمضان -يا عبد الله- أنزل الله فيه القرآن كله من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، ثم نُزِّل منها إلينا خلال ثلاث وعشرين سنة، من السماء الدنيا إلى الأرض مُنَجَّماً {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة:185].

قراءة القرآن في رمضان عند السلف

قراءة القرآن في رمضان عند السلف كان الإمام الشافعي رحمه الله يختم القرآن في رمضان ستين مرة، أي: في كل يوم يختم القرآن في النهار مرة، وفي الليل مرة، عرفوا قدر هذا القرآن، لعلك تقول: السنة في كل ثلاثة أيام؟ أقول لك: لشهر رمضان ميزة وخاصية، لا تعدلها في غيرها. وهذا الإمام مالك عليه رحمة الله -إمام دار الهجرة - كان في شهر رمضان يترك المجالس والكتب كلها، إلا مجالس القرآن الكريم، وتلاوة القرآن. هؤلاء سلفنا الصالح كانوا في شهر رمضان لا يعرفون إلا القرآن، يتركون كتب العلم؛ لأجل مدارسة القرآن. هلاَّ كنا مثلهم يا عباد الله؟! نعكف على قراءة القرآن نتدبره ونتلوه، ونقوم الليل به، ونحفظ آياته وأحكامه. يا عباد الله؟! هلاَّ كنا مثلهم نستعد في شهر رمضان للقرآن؟!

استجابة الدعاء في رمضان

استجابة الدعاء في رمضان للصائم دعوة لا ترد أتعرف ما هي الدعوة؟! قال بعض أهل العلم: إنها قبل الإفطار. فاستعد يا عبد الله قبل أن يؤذن المؤذن لغروب شمس يوم في نهار رمضان أن ترفع يدَيك إلى الله، وتستقبل القبلة، وتدعو الله جلَّ وعَلا أن يتقبل منك صومك، ويعتقك من النار، ويغفر ذنوبك، فادعُ الله، فإن لكل صائم دعوة مستجابة، قال سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186]. عباد الله! إنه شهر المغفرة والرحمة!

شهر رمضان شهر الإقلاع عن المعاصي

شهر رمضان شهر الإقلاع عن المعاصي هل يصح لنا في هذا الشهر أن نستمر على معصية الله جلَّ وعَلا؟! وهل يصح لأولئك الذين يعكفون على التلفاز، ويستمعون إلى الأغاني، وينظرون إلى الأفلام، أن يصروا على لهوهم وطربهم ومعاصيهم؟! هل يصح لأولئك أن يظلوا على تركهم للصلاة؟! ولهؤلاء على أن يتابعوا النساء؟! ولأولئك أن ينظروا للحرام؟! ولهؤلاء أن يأكلوا الربا؟! يا عباد الله! ألا يحق لنا في ذلك الشهر أن نكف عن المعاصي والآثام؟! وأن نستعد للتوبة من الذنوب والآثام؟! وأن نستعد للقاء الرحمن جلَّ وعَلا؟! ألا يحق لنا في هذا الشهر ألا يخرج رمضان إلا وقد غفر الله لنا ذنوبنا؟! (مَن لَمْ يَدَعْ قولَ الزور والعملَ به، فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه) فماذا يغنيك -يا عبد الله- أن تترك الطعام والشراب والجماع الذي هو مباح، ثُم ترتكب الحرام، فتستمع للغناء، وتأكل الربا، وتترك الصلاة، وتنظر إلى النساء، وتفعل المُحرَّمات (فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه). أقول هذا القول، وأستغفر الله.

أدلة وجوب صيام شهر رمضان وشروط الصيام

أدلة وجوب صيام شهر رمضان وشروط الصيام الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. أما بعد: أيها الإخوة المسلمون! صوم رمضان واجب بالكتاب، قال الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183]. وواجب بالسنة، قال عليه الصلاة والسلام: (بُني الإسلام على خمس وذَكَر منها: صيام رمضان). وبالإجماع: فقد أجمع المسلمون على وجوب صوم شهر رمضان. فقال أهل العلم: صوم رمضان واجب على كل من: 1 - المسلم: فالكافر لا يجب عليه صيام رمضان، وسوف يُحاسب به عند الله. 2 - العاقل: فالمجنون لا يجب عليه صيام رمضان، وكذلك إذا كَبُر الرجل أو المرأة، فذهب عقله أو ذهب عقلها، أو أصابه الكِبَر أو أصابها، فأصبح لا يعرف شيئاً، فهذا لا يجب عليه الصوم، ولا يجب أن يُصام عنه، ولا يُطعم عنه عن كل يوم مسكيناً، فقد رفع الله عنه القلم. 3 - البالغ: فالصبي الذي لم يحتلم، والبنت التي لم تبلغ لا يجب عليهما الصيام؛ لكن يعوَّدون منذ الصغر، كما كان الصحابة يعودون أولادهم الصغار منذ الصغر على الصيام، ويلهونهم باللعب وبغيره عن الطعام والشراب، فيُعَوَّد الصغير، وتُعَوَّد الصغيرة منذ الصغر على الصيام حتى يُعْتاد عند الكِبَر. 4 - القادر: فالعاجز الذي لا يستطيع الصوم كالمريض لا يجب عليه الصوم، فإذا كان مرضه يُرجى برؤه، فإنه يقضيه بعد أن يشفى إن كان المرض لا يُرجى برؤه، وسوف يستمر معه حتى الموت إلا بعلم الله وبإذنه، فإنه يطعم عن كل يوم مسكيناً. 5 - المقيم: فالمسافر لا يجب عليه الصوم، قال الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184]. 6 - التخلي من الموانع: فالمرأة الحائض وكذا النفساء لا يجب عليهما الصوم، ويقضيان بدلاً عنه أياماً أُخر.

مبطلات الصيام

مبطلات الصيام عباد الله: ليس من المفطرات شيء إلا ما بَيَّنَه الله جلَّ وعَلا وبَيَّنَه رسوله عليه الصلاة والسلام:

الأكل والشرب

الأكل والشرب من مفطرات الصوم: الأكل والشرب، قال الله جلَّ وعَلا: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187] فإذا أكل الإنسان أو شرب في نهار رمضان فقد أفطر، إلا إن كان ناسياً، إن أكل ولو كان طعاماً غير مُغَذٍّ ولا مشبع أو غير نافع، كأن يكون ضاراً فإنه أفطر، إلا إن كان ناسياً أو مكرهاً أو غير عامد.

الجماع

الجماع كذلك من المفطرات: الجماع، فمن جامع زوجته في نهار رمضان متعمداً عالماً فقد أفطر، وعليه القضاء والكفارة، سواءً أنزل أو لَمْ يُنْزِل، فإن من المسلمين -هداهم الله- من يظن أنه يجوز له أن يجامع بشرط ألا يُنْزِل، ونحن نقول: الجماع يوجب القضاء والكفارة سواءً أنزلت أم لَمْ تُنْزِل.

التقيؤ عمدا

التقيؤ عمداً ثم من المفطرات -يا عباد الله- الاستقياء، بأن يتعمد الإنسان أن يُخْرِج ما في بطنه سواء أكان بإصبعه أو بعود، أو بتعَمُّدِ شَمِّ رائحةٍ كريهة، أو بتعَمُّدِ عَصْرِ بطنِه، أو بغيرها من الوسائل، فإذا تعمد إخراج ما في بطنه فقد أفطر، وعليه القضاء. فإن خرج ما في بطنه رغماً عنه بغير قصد ولا تعمد، فلا شيء عليه، وصومه صحيح، قال عليه الصلاة والسلام: (مَن ذَرَعَه القيء فلا قضاء عليه، ومن استقاء فليقضِ) أي: مَن تعمَّد إخراج ما في بطنه.

إخراج المني

إخراج المني كذلك من المفطرات: إخراج المَنِي بشهوة، أو بمباشرة، أو بتعَمُّد، فمن أخرج مَنِيَّه -ماءه- بتعَمُّد سواءً أكان بيده، أو بفراشه، أو بمباشرة زوجته بغير جماع فقد أفطر، وعليه القضاء ولا كفارة. أما من خرج ماؤه وهو نائم فاحتلم، فاستيقظ فرأى الماء، فلا شيء عليه، وصومه صحيح.

الحجامة

الحجامة قال بعض أهل العلم من المفطرات: الحجامة، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (أفطر الحاجم والمحجوم) فاحتياطاً يترك الإنسان الحجامة.

الأمور التي لا يبطل بها الصيام

الأمور التي لا يبطل بها الصيام ومن الأشياء التي لا تفطر، ويظن بعض الناس أنها تفطر: 1 - بلع الريق:- فمن بلع ريقه فإنه غير مفطر، إلا إن أخرج النخامة إلى فمه فإنه احتياطاً يخرجها ولا يبتلعها مرة أخرى. 2 - السواك:- وما يُروى من حديث: (استاكوا بالغداة، ولا تستاكوا بالعشي) فغير صحيح، فالسواك سنة أول النهار، وآخر النهار، أما ما يوجد هذه الأيام من سواك مضاف إليه طعم بالنعناع أو الليمون أو غيره فإنه يُتْرك في نهار رمضان، لأن فيه مادة تُزاد على طعم السواك، فلا يجوز لك أن تتسوك به في نهار رمضان. 3 - وكذا من غير المفطرات التي لا تؤثر في الصيام: الاغتسال؛ فمن اغتسل في نهار رمضان فلا شيء عليه. 4 - وكذا من أصبح جُنُباً: فمن جامع زوجته بالليل فنام، ثم أذن الفجر وهو نائم، فاستيقظ ولم يغتسل، فصومه صحيح، فليغتسل وليتم صومه. 5 - وكذا بالنسبة للنساء: الحِنَّاء، والاكتحال، فإنهما لا يفطران. 6 - القطرة؛ فإذا كانت في العين أو في الأذن، فإنها لا تفطر. 7 - وبالغ -يا عبد الله- في الاستنشاق والمضمضة إلا أن تكون صائماً. 8 - من الناس من يظن أن الحقن جميعها تفطر الصائم، وهذا غير صحيح؛ إلا الحقنة التي تغني عن الطعام والشراب، فإنها تفطر صاحبها. عباد الله! لا بد لنا قبل قدوم شهر رمضان أن نتعلم أحكامه، وفقهه، وآدابه، وما يجب فيه وما يحرم حتى لا نقع في المحظور، ثم يأتي الناس فيسألون عن صومهم، فإذا هم قد أبطلوه.

حكم تقدم رمضان بصيام وحكم تبييت النية

حكم تقدم رمضان بصيام وحكم تبييت النية عباد الله! يقول عليه الصلاة والسلام: (لا تقدموا شهر رمضان بصوم يوم ولا يومين؛ إلا صوماً كان يصومه أحدكم) فإذا كان اليوم الأخير من شهر شعبان فلا نصومه احتياطاً، حتى لا يكون من رمضان (من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم) إلا من كان معتاداً على صيام أيام فليصُمها ولا حرج عليه. ويجب على كل مسلم أن يبيت نية الصوم قبل أذان فجر أول يوم من رمضان فلا صوم لمن لم يجمع الصيام قبل الفجر، إذا لم تعزم ولم تقصد في قلبك أنك تصوم غداً، فإذا أذن الفجر وأنت غير عازم على الصيام، فلما أذن الفجر نويته بعد الأذان فإنه لا صوم لك -يا عبد الله- إلا ما كان نافلة. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اللهم أعداء الدين.

كيف تقوي إيمانك؟ (1)

كيف تقوي إيمانك؟ (1) لقد بلغ سلفنا الصالح في قوة الإيمان والخوف من الديان مبلغاً عظيماً، وما ذاك إلا لأنهم علموا حقيقة الدنيا فاستدركوا الأمر قبل فواته. أما في حاضرنا فقد انتشر ضعف الإيمان إلا فيمن رحم الله، فرُكن إلى هذه الدنيا وشهواتها ولذاتها وزينتها ونسي لقاء الله وغفل عنه. والتوبة، والتفكر في المصير النهائي الذي يصير إليه العبد من أهم العوامل التي تساعد على تقوية الإيمان.

ظاهرة ضعف الإيمان عند الملتزمين

ظاهرة ضعف الإيمان عند الملتزمين الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره إلى يوم الدين. وبعد: فيسر اللجنة الثقافية بجمعية التربية الإسلامية أن ترحب بكم وتشارككم في هذه الفعاليات للمخيم الشتوي، والتي نلتقي في هذه الليلة مع فضيلة الشيخ/ أبي علي نبيل العوضي إمام وخطيب جامع صفوان بن أمية بـ الكويت، وكما قد عرفه بعض الإخوة، وهو من إخواننا الطيبين والذي له أثره، وبعض أشرطته المنتشرة -ولله الحمد- قد لاقت قبولاً عند كثيرٍ من الناس. فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإياه لما يحبه ويرضاه، ونسأل الله لنا وله الإخلاص في القول والعمل. ونترك المجال الآن مع فضيلة الشيخ ليلقي كلمته. بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: العنوان كما تشاهدون: (كيف تقوي إيمانك؟) والمتكلم أحوج بهذا العنوان من السامع، وكل منا أدرى بنفسه، وكما قيل: يظن الناس بي خيراً وإني لشر الناس إن لم تعفُ عني قال بعض السلف: "لو كان للذنوب رائحة لم يطق أحدٌ أن يجلس عندي؛ ولكنه ستر الله جل وعلا". فنسأله بعد الستر العفو. العنوان هو: (كيف تقوي إيمانك؟) اسمع يا عبد الله إلى هذه الأمثلة من قصص سلفنا وحياتهم كيف كانوا يعيشون وكيف نعيش؟! الواحد منا في بداية التزامه وهدايته يكون عنده حماساً وحرصاً وذكراً وخوفاً من الجليل، أما الآن فقد تغير الحال، بدأ هذا الشاب الملتزم يستمع إلى بعض الأغاني بدأ هذا الرجل الملتزم ينام عن صلاة الفجر ما الذي جرى؟ بدأ إذا مشى في الأسواق ينظر يمنة ويسرة ينظر لهذه ويلتفت إلى تلك ما الذي جرى؟ الإيمان قل وضعف، كان في السابق لا ينام الليل حتى يقومه أبداً لا ينام الليل كله، أما الآن فتمر عليه الليلة والليلتان والثلاث فلا يصلي حتى الوتر، كان في السابق يصوم الاثنين والخميس ويريد أكثر، أما الآن فيمر عليه الشهر وهو لا يصوم حتى ثلاثة أيام ما الذي جرى؟ يرى المنكرات فلا يشمئز قلبه، ولا يغضب لله، ولا يتكلم المنكرات تلو المنكرات ما الذي حدث؟ إن مؤشر الإيمان قد ضعف يقرأ القرآن وكأنه صحيفة أو مجلة يستمع إلى الآيات والمواعظ وكأنها حكايات ما الفرق وما الذي جرى؟ إنه الإيمان، فالقلب هو القلب؛ لكن الإيمان ضعف.

حقيقة الإيمان عند السلف الصالح

حقيقة الإيمان عند السلف الصالح

الحسن البصري وشدة خوفه من الله

الحسن البصري وشدة خوفه من الله اسمع -يا عبد الله- إلى الحسن البصري عليه رحمة الله: قام ليلة من الليالي فزعاً من نومه فأخذ يبكي! ما الذي جرى؟ ما الذي حدث؟ يبكي بكاءً شديداً حتى أبكى أهل الدار جميعاً، فلما هدأ قالوا: ما لك يرحمك الله؟ قال: ذكرت ذنباً لي فبكيت، قال الله -جلَّ وعلا- عن أحوال هؤلاء لأنهم تدبروا تلك الآيات أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام:15] أرأيت مؤشر الإيمان! ذنب يبكيه ليلة كاملة، ونحن -والله المستعان- إلا من رحم الله ذنوبنا تترا، وآثام ومعاصٍ؛ بل حتى الكبائر والرجل يضحك ويلعب علامَ تلعب؟! ولِمَ تضحك وتلهو وأنت تعصي الله جلَّ وعلا؟ {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي} [الأنعام:15] مِمَّ تخاف؟ ومِمَّ تخشى؟ {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام:15]. هذا الحسن البصري أتعرف كيف كان يعيش؟ كان هذا الرجل يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث: (يخرج من النار رجل بعد ألف عام) تُرى يا عبد الله! لو حُكِيْتَ هذا الخبر ماذا تقول؟ أعوذ بالله! ألف سنة يمكث في النار؟ ونار الآخرة ضُعِّفت عن نار الدنيا بسبعين مرة، ويأكلون فيها الزقوم، والغسلين، والغساق، والصديد، والحميم أعوذ بالله! {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاش} [الأعراف:41] ألف سنة في هذه النار أتعرف ماذا قال الحسن البصري؟ قال: [يا ليتني أكون هذا الرجل] المهم أنني أخرج من النار، ولو كان بعد ألف عام. اسمع -يا عبد الله- ماذا يُروَى عن الحسن البصري! يقال: إن النار كأنها لم تخلق إلا له، من بكائه وخوفه من الله، ومن قوة إيمانه.

قوة إيمان الإمام مالك بن أنس

قوة إيمان الإمام مالك بن أنس هذا الإمام مالك رحمه الله، قام ليلة من الليالي -طوال الليل- وهو قابض على لحيته، وهو يقول: "يا رب يا رب! قد علمتَ ساكن الجنة من ساكن النار ففي أي الدارَين مالك {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة:16] لا يستطيع أن ينام كيف ينام والنار تسعر تحته؟! كيف ينام والجنة تزين فوقه؟! كيف ينام من هذا حاله؟! {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً} [السجدة:16]. عبد الله! هلاَّ كنا كهؤلاء؟! الذنوب كثيرة، والآثام أكثر هلاَّ قمنا ليلة من الليالي نبكي ونتذكر الذنوب ونحصيها ونعدها؟! أتظن أن الله ينسى؟! أتظن أن نظرتك عندما فتحت الجريدة ونظرت للمرأة أتظن أن الله نسيها؟! أم تظن -يا عبد الله- عندما كنت تستمع إلى تلك الأغنية ثم أغلقت الشريط أو المذياع وقد تمتعت بالسماع أتظن أن الله قد نسي، قال سبحانه: {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة:6]. نعم! نسينا الذنوب لكن هل تعرف متى نتذكر؟ A إذا لقينا الله جل وعلا، وجيء بجهنم تُجر، لها سبعون ألف زمام، وتخيل ذلك المنظر الأنبياء، والمرسلون، والصالحون، والصديقون يجثون على الركب {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} [الجاثية:28] كل الأمم تجثو على الركب، في تلك الحال كل منا يمر عليه شريط حياته، وذكريات عمره، يتذكر يوم نادته أمه فقال: لا، وأمره أبوه فقال: أف، كلٌّ مسطور. عبد الله! {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ} [الفجر:23] ولكن! {وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} [الفجر:23] ماذا يستفيد من الذكرى؟ يتذكر كم ليلة نام عن صلاة الفجر ولم يقم إلا والشمس قد طلعت، والمصيبة أنه يضحك تضحك علام يا عبد الله؟! كان السلف من الصحابة والتابعين يبكون ليس فقط إذا خرج وقت الصلاة؛ بل إذا فاتتهم صلاة الجماعة، كان الواحد منهم إذا دخل المسجد والناس قد صلوا بكى.

حاتم الأصم وقوة إيمانه ومحاسبته لنفسه

حاتم الأصم وقوة إيمانه ومحاسبته لنفسه كان حاتم الأصم يجلس في بيته وقد فاتته صلاة العصر في جماعة ولم يخرج وقت الصلاة، فيصلي ويجلس في البيت، فيأتيه بعض الناس يعزونه ويواسونه، فبكى! فقالوا له: ما يبكيك رحمك الله؟ قال: " لو مات لي ولد لعزاني أهل الحي جميعاً، وتفوتني صلاة ولا يعزيني إلا نفر قليل، والله إن فوات الصلاة علي أشد من موت ابن لي". عبد الله! أرأيت الفرق بيننا وبينهم! كيف كان إيمانهم في القلوب كالجبال الراسية، كان الواحد منهم إذا قرأ آية لا يتحملها، يتدبر فيبكي من آية واحدة.

عبادة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها

عبادة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها اسمع لـ عروة وهو يحدِّث عن أبيه عبد الله بن الزبير يقول: كنت إذا غدوت -أي: في الفجر أو الصباح الباكر- أبدأ ببيت عائشة أسلم عليها، وفي يوم من الأيام دخلت عليها فإذا هي قائمة تصلي -مَن؟ عائشة، مَن هِي عائشة؟ صِدِّيْقَة بنت صِدِّيْق، من أهل الجنة، وأبوها أول هذه الأمة دخولاً الجنة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: كانت تصلي وتقرأ قوله جل وعلا: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:27] فنظرت فإذا هي تبكي وتعيد الآية مرة ثانية: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:27] انتظرت فإذا هي تعيد الآية مرة ثالثة، ورابعة، وخامسة، وهي تبكي، حتى أطالت علي، فتركتُها وذهبت إلى السوق أقضي حاجة لي، فقلت: أرجع لها بعد زمن، ثم رجعت إليها بعد زمن طويل، فدخلتُ عليها في البيت فوجدتها قائمة تردد الآية نفسها وتبكي {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:27]. أرأيت الفرق بيننا وبينهم! كانوا إذا قرءوا القرآن ليس كحالنا اليوم، كانت الآية الواحدة توقفهم، فيتدبرون ويستشعرون ويتلذذون {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24].

قوة إيمان محمد بن المنكدر وخوفه من الله

قوة إيمان محمد بن المنكدر وخوفه من الله اسمع لـ محمد بن المنكدر بكى بكاءً شديداً حتى أشفق عليه أهله وتضايقوا منه، لِمَ هذا البكاء ولم ذلك النحيب؟ حاولوا معه فلم يستطيعوا. عبد الله! هم بشر كما نحن بشر، وهم يذنبون كما نحن نذنب، ولكن فرق بين قلوبهم وقلوبنا، نعم (كل بني آدم خطاء) لكن أرأيت الفرق بين التوابين وبين غيرهم. قال الراوي: فاستدعينا صاحباً له ليهون عليه، وليخفف عليه بكاءه ونحيبه، يقول: فجئنا بـ أبي حازم صاحبٌ مثله فدخل عليه يخفف عليه، فقال له: يا أبا عبد الله! ما الذي جرى؟ ما الذي حدث؟ أبكيت أهلك، لقد أشفقوا عليك، لم كل هذا البكاء؟ فقال له محمد بن المنكدر: يا أبا حازم أتعرف ما الذي يبكيني؟ قال: ماذا؟ قال: قول الله: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47] كان يظن أنه إذا لقي الله فإن أبواب الجنان مفتوحة، نعم! كان يظن المسكين لما حضر بعض الدروس، أو صلى بعض الصلوات، أو قرأ بعض الآيات، ظن أنه في الفردوس الأعلى، فلما جاء يوم القيامة إذا حسناته هباءً منثوراً، وإذا أعماله {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور:39]. يأيها الصالحون! لا تأمنوا مكر الله يأيها المتقون القائمون الصائمون! لا تأمنوا مكر الله كيف بمن لا يقوم الليل! كيف بمن لا يصوم النهار! كيف بمن لا يعرف القرآن ولا يتدبره! كيف بمن لا يعرف الفجر إلا بعد طلوع الشمس! كيف بمن إذا خلا بمحارم الله انتهكها {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47]. عبد الله! لا تظن أن الأمر هزلاً وضحكاًَ. عبد الله! إذا جئت يوم القيامة ورأيت الأعمال كـ جبال تهامة بيضاً فجعلها الله هباءً منثوراً ماذا تفعل؟ وماذا تقول؟ وماذا تصنع؟ هل ينفع النحيب أم ينفع البكاء أم ينفع الندم؟ اسمع إلى قول بعضهم وكأنه يحكي عن نفسه ويحكي عنا، وهذه صفة التائب المنكسر إلهي لا تعذبني فإني مقر بالذي قد كان مني فكم من زلة لي في البرايا وأنت علي ذو فضل ومني إذا فكرت في ندمي عليها عضضت أناملي وقرعت سني وما لي حيلة إلا رجائي وعفوك إن عفوت وحسن ظني يظن الناس بي خيراً وإني لشر الناس إن لم تعفُ عني

قوة إيمان ابن عمر رضي الله عنه

قوة إيمان ابن عمر رضي الله عنه هذا ابن عمر! أتعرف من هو ابن عمر؟ ومن أبوه؟ إنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذلك الرجل الذي كسَّر كسرى، وقصَّر قيصر، وفتح الله به البلاد، لو كان نبيٌ في هذه الأمة لكان عمر، الملهم المحدَّث، الذي صدَّقه القرآن، وأنزلت آيات من فوق سبع سماوات تصديقاً لكلامه. هذا عبد الله بن عمر بن الخطاب يشرب في يوم من الأيام ماءً بارداً ثم بكى، فقيل له: لماذا تبكي؟ فاشتد بكاؤه، فقال: [ذكرت آية في كتاب الله -انظر كيف كانوا يعيشون مع كلام الله- قالوا: وما هي هذه الآية؟ فقال: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ:54] فعلمت أن أهل النار يشتهون الماء فيحال بينهم وبين الماء] هذا من شرب الماء البارد، فكيف بمن سكن بيوتاً مثل بيوتنا! كيف لو عاشوا مثل عيشتنا! كيف لو شربوا هذه المشروبات، وأكلوا تلك الأطعمة، ولبسوا هذه الملابس، وسكنوا هذه البيوت، ماذا تظنهم يقولون؟ {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ:54].

قوة الإيمان عند عمر بن عبد العزيز

قوة الإيمان عند عمر بن عبد العزيز اسمع -يا عبد الله- إلى عمر بن عبد العزيز رحمه الله الخليفة الراشد، كان يقوم الليل يصلي -انظر كيف كانوا يعيشون مع كلام الله- فإذا به يقرأ في الليل آية ويرددها الليل كله وهو يبكي! انظروا الفرق بيننا وبينه، وانظروا إلى قلوبنا وقلوبهم، وأحوالنا وأحوالهم، هذا الرجل يقرأ بنفسه الآية ثم يبكي الليل كله، أما نحن -أيها الناس وأنا أولكم- فنسأل الله ألا يكون قد ختم على قلوبنا، أتعرف ما هي هذه الآية؟ {إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ} [غافر:71] مَن هم؟ إنهم أهل النار أين الأغلال؟ في الأعناق، أتظنها كأغلال الدنيا؟ أم تظنها كحديد الدنيا؟ ماذا يلبسون؟ سرابيلهم -ملابسهم- من قطران -أي: نحاس منصهر- يلبسونه! تخيل هل تتحمل الأغلال في الأعناق {إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ} [غافر:71] ثم ماذا؟ {يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ} [غافر:71 - 72] يسحبون على وجوههم في النار، وتخيل هذا المنظر {ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} [غافر:72] ثم يحرقون في النار، يتقلبون بل يشوون في النار {كَلَّا إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى} [المعارج:15 - 16] أتعرف ما معنى {نَزَّاعَةً لِلشَّوَى} [المعارج:16]؟ أي: ينفصل اللحم عن العظم من شدة الحر فكيف بالنار؟! عبد الله! يتفكر في هذه الآية طوال الليل وهو يبكي ويرددها، ولكن انظر إلى حالنا! لا تظن -يا عبد الله- أنك عندما تصلي، وتحضر بعض الدروس، وتستمع إلى بعض الآيات، وتتصدق ببعض الدنانير لا تظن أنك قد أمنت مكر الله، لا تعرف فالأعمال بالخواتيم، فكم وكم من الناس كان صالحاً فختم له بالسوء؟! اسمع إلى هذا الشاب الذي حفظ القرآن كله وخرج للجهاد في سبيل الله، وهذه القصة ذكرها ابن كثير في البداية والنهاية، فكان في الجهاد من أفضل الناس، يصلي بالناس، ويقرأ فيهم القرآن، ويعلمهم، فأحبه الجيش كله، وكان يختم القرآن كله، فلما وصلوا إلى معسكر الروم، وعسكروا عند حصنهم، فإذا بهذا الشاب يذهب ليقضي حاجة له، فلما ذهب نظر في الحصن فإذا فتاة نصرانية تنظر إليه، فنظر إليها. عبد الله! إنما لك الأولى وليست لك الثانية، اصرف بصرك، ألا تحفظ القرآن؟ ألم تسمع قول الله: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30]؟ ما لك؟ لكنه استمر في النظر وتلذذ به، ثم خاطبها انظر كيف أن النظر يؤدي إلى الكلام، والكلام يؤدي للشوق، فإذا به يقول لها: كيف السبيل إليك؟ أين كتاب الله؟! فقالت له تلك الفتاة: أن تتنصر، فإذا به يطرق باب الحصن، ويعلن ردته ويتنصر، وكان قبل قليل يصلي بالناس، ويحفظ القرآن كله، فيدخل الحصن ليعانقها، فيبحث المسلمون عنه فلم يجدوه، فأسفوا عليه أسفاً شديداً، بحثوا عنه فظنوا أن الروم قد أسروه؛ بل لعلهم قتلوه، ثم رجعوا إلى بلادهم وقلقوا وحزنوا عليه حزناً شديداً، ورجعوا في السنة القادمة، وعاد الأمر مرة أخرى؛ فإذا بهم يعسكرون عند الحصن نفسه، وإذا بهذا الشاب الذي كان يصلي بهم ويحفظ القرآن يقف مع النصارى في صف واحد يرفع السلاح، فقالوا له ينادونه: يا فلان! فنظر إليهم، فقالوا له: يا فلان! ما فعلت قراءتك؟! ما فعلت صلاتك؟! ما فعل عملك الصالح؟! فقال: لقد أنسيتُ القرآن كله إلا آية واحدة لم ينساها أتعرف ما هي يا عبد الله؟ {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر:2] الله أكبر! جعلها الله حسرة في قلبه، يتعذب بها إلى يوم يلقاه {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر:2] لا تقل: الحمد لله! أنا أصلي، وأقرأ القرآن، وأنا مسلم! لا يا عبد الله، لا تأمن مكر الله، ادعُ الله في السجود، ادعُ الله بين الأذان والإقامة، ارفع يديك، وقل: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، ثم ما يدريك لعل الله قد لا يقبل منك حسنة، ولعل الله عز وجل لا يتقبل منك سجدة وركعة. يأتي ابن عمر سائل، فإذا به يقول لابنه: [أعطه درهماً؟ فيعطيه درهماً، فيذهب ليتصدق، ثم قال له ابنه: يا أبتاه! هل تقبل الله منك؟ فقال ابن عمر -واسمع إلى تلك الكلمات العظيمات-: يا بني! لو علمت أن الله قد تقبل مني ما كان غائب أحب إلي من الموت] لو كان الواحد منا يعلم أن الصلاة متقبلة منه، أو أن الله تقبل منه حسنة ما كان غائب أحب إلينا من الموت. أتعرف لماذا؟ يقول: لأن الله يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]، ويقول: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون:60] أي: يصلون، ويركعون، ويقومون الليل، ويصومون النهار، ويدعون إلى الله، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، وقلوبهم وجلة، {أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60] هذا الذي يصلي ويركع ويسجد، يخاف أن الله لم يتقبل منه، فكيف -يا عبد الله- بمن إذا جاء في الليل، وأغلق باب بيته، وجلس مع أهل بيته وفتح لهم التلفاز، فنظر إلى ما شاء، واستمع إلى ما شاء، وقلَّب المجلة فنظر فيها إلى ما شاء، وذهب إلى الأسواق يتلفت يمنة ويسرة، ويكلم من شاء، ويضاحك من شاء، ويلاعب من شاء، وينظر إلى من شاء هذا كيف يخاف؟! عبد الله! لنكن صرحاء مع أنفسنا، ولنكن صادقين، والواحد منا يحاسب نفسه قبل أن يحاسبه الله جل وعلا.

التفكر في الأجل والمصير من أسباب زيادة الإيمان

التفكر في الأجل والمصير من أسباب زيادة الإيمان من الأمور التي تقوي إيمانك يا عبد الله! أن تتفكر في الأجل والمصير.

ابن عباس وتدبره لآيات الفراق والمصير

ابن عباس وتدبره لآيات الفراق والمصير اسمع إلى ابن عباس وهو يقرأ قول الله جل وعلا: {فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً} [مريم:84] فبكى، ثم قيل له: [يـ ابن عباس! لماذا تبكي؟ قال: آخر العدد خروج نفسك آخر العدد فراق أهلك آخر العدد دخول قبرك] {فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً} [مريم:84] ما يدريك أنك قد لا تخرج من هذا المجلس من يضمن لك أنك تصل إلى البيت؟ البعض منا وهو يستمع إلى هذه الكلمات يقول: إن شاء الله أتوب من الغد، وما يدريك أنك ترى الغد؛ بل من يضمن لك أنه إذا خرج منك النَّفَس أن يعود إليك؟! عبد الله! لا تكن طويل الأمل. عبد الله! إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء. عبد الله! لا تضمن أنك تخرج من هذه الأبواب وأنت جالس تستمع إلي، اعزم على التوبة، وعلى ترك الذنوب والمعاصي، قلها صريحة من قلبك: رب تبتُ إليك اندم والندم يكون في القلب لا في اللسان، لينكسر القلب، وليخشع لله، ثم اعزم من القلب أنك لن تعود إلى المعاصي أبداً ما حييت؛ فإن غلبتك نفسك وعدت فعد مرة أخرى للتوبة، وكلما عدت عد مرة أخرى للتوبة. يا نفس توبي فإن الموت قد حانا واعصي الهوى فالهوى مازال فتانا أما ترين المنايا كيف تلقطنا لقطاً فتلحق أخرانا بأولانا في كل يوم لنا ميت نشيعه نرى بمصرعه آثار موتانا يا نفس مالي وللأموال أجمعها خلفي وأخرج من دنياي عريانا أبعد خمسين قد قضيتها لعباً قد آن أن تقصري قد آن قد آنا لما أتت أبو الدرداء سكرات الموت قال كلمات -أرجو منك أن تحفظها قبل أن تخرج- عظيمات تكتب بماء الذهب، قال رضي الله عنه وهو ينصح هذه الأمة وكأنه يعنينا أمة غافلة أمة نائمة أمة قد ألهتها الشهوات أمة لا تعرف -إلا من رحم الله- إلا النوم على الأغاني والطرب والنساء أتعرف بم ينصحهم؟ يقول وهو يحتضر: [ألا رجل يعمل لمثل مصرعي هذا؟! ألا رجل يعمل لمثل يومي هذا؟! ألا رجل يعمل لمثل ساعتي هذه] {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْت} [المؤمنون:99 - 100]. عبد الله! لا تقل: من الغد، وما يدريك لعل هذا يكون هو النذير الأخير.

قصص بعض التائبين

قصص بعض التائبين اسمع إلى هذه القصة يرويها أحد الدعاة إلى الله، وكأن الله عز وجل إذا أراد أن يهدي إنساناً يسر له السبل، وفتح له الأبواب، وقذف في قلبه النور، ولعل بعض الناس ينقذهم الله قبل الموت، ولعلك منهم، ولعل هذا المجلس -يا عبد الله- تكتب لك فيه السعادة، وتتخلص فيه من ذنوب أنت أدرى بها. نعم! أنت تدري ولا يدري أحد سواك إلا الله، أنت أدرى بها، ذنوب في السر ذنوب تخفيها في الخلوة ذنوب تتحدث بها في نفسك والله يعلم {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ} [غافر:19] يعلم هذه الأعين الخائنة في الصور والجرائد والمجلات والأسواق والتلفاز {وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19]. يقول هذا الداعية إلى الله: مررت في الشارع فرأيت شاباً مع فتاة، فجئت لأنصحهم ولأدعوهم إلى الله -وهذه العبرة ليست فقط للعصاة أو لمن ضعف إيمانهم؛ بل هي أيضاً للصالحين الذين كسلوا في الدعوة وتباطئوا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- يقول: فلما اقتربتُ، فإذا الفتاة قد هربت، فجئت للشاب، فأخذت أنصحه وأذكره وأعظه نصف ساعة، فلما انتهيت رأيت عيناه تذرفان كم هم الشباب في هذا الزمان من يحتاجون إلى موعظة؟! إلى نصيحة؟! إلى كلمة تخرج من القلب فتفتح القلوب؟! كم وكم يا عبد الله؟! لكن من البخيل؟! ومن المقصر؟! ومن المسئول؟! إذا جاء عند الله عز وجل يوم القيامة! كم وكم؟! يقول: فلما بكى أعطيته رقم هاتفي، وأخذت رقم هاتفه ثم ذهبت، وبعد أسبوعين تذكرتُه، فاتصلت به في الصباح، فقلت له: فلان، قال: نعم، قلت: هل تذكرتني؟ قال: وكيف أنسى صوتاً كان سبباً لهدايتي؟! قلت: الله أكبر! اهتديت؟ قال: نعم، إنني والله منذ تلك النصيحة وأنا لا أفارق المسجد ولا الصلاة ولا الذكر ولا القرآن، أنقذه الله على يديه، فقلت: سوف أزورك -إن شاء الله- اليوم، فقال لي: متى؟ قلت: بعد صلاة العصر، فصليت العصر ورجعت إلى البيت، فجاءني ضيوف وأخروني عن الموعد، فلما تأخر الموعد وحل الليل، قلت: لا بد أن أزوره حتى ولو تأخرت عنه، فجئته في الليل، فطرقت عليه الباب ففتح الباب رجل كبير في السن، فقلت له: أين فلان؟ فقال: فلان؟ قلت: نعم. قال: دفناه قبل ساعة، قلت: أنا اليوم كلمته بالهاتف، قال: دفناه قبل ساعة، وأنا أبوه، فقد صلى الظهر ثم جاء إلى البيت لينام، وقال: أيقظوني لصلاة العصر فجئنا لنوقظه؛ فإذا هو قد فارق الدنيا، وقال لي الشيخ الكبير: من أنت؟ فقلت لأبيه: أنا عرفت ابنك قبل أسبوعين، فقال ذلك الشيخ الكبير: دعني أقبل رأسك، قلت: لماذا؟ قال: لأنك أنقذت ابني من النار {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [الزمر:53]. لا تقل يا عبد الله: غداً، ولا تقل: عندما أرجع إلى البيت، ولا تقل: بعد المحاضرة، الآن وأنت تسمع فلربما يدخل علينا ملك الموت ويقبض هذه الروح وينزعها وأنت لم تتب إلى الله، فأعلنها صادقة من قلبك، وتلفظ بها في قلبك، وقل: رب تبت إليك، لعلك تسألني، وتقول: مم أتوب؟ أقول لك: يا عبد الله! أنت أدرى وأعلم مم تتوب؟ كم وكم هي الذنوب التي نخفيها؟ كم وكم هي المعاصي التي نسرها إن لم تكن معاصٍ فهي تقصير في واجبات صلوات خشوع فيها بر والدين صلة أرحام أمر بمعروف نهي عن منكر هذه واجبات كم وكم قصرنا فيها؟ أعلنها يا عبد الله صريحة، أطلقها من قلبك الآن وتب إلى الله عز وجل. اسمع إلى هذا الشاب عمل من المعاصي والذنوب في هذه الدنيا نساءٌ عاشَر شرابٌ شَرِب أغاني استمع إلى كل شيء، له في الدنيا كل ما تتصوره فَعَلَه هل شعر بالسعادة؟ لا والله. هل أحس بالفرح؟ لا. أتعرف ماذا يقال عنه؟ إنه ضاقت عليه الدنيا بما رحبت، تعرف لم يا عبد الله؟ {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:124] والله لو عاشروا كل النساء، وسكنوا القصور، وأخذوا من الأموال الملايين، وسافروا إلى بقاع الدنيا؛ فإن الضيق في صدورهم، وإن الحسرة في قلوبهم، وإن الوحشة يعيشون فيها، ويعيشون بها، ويموتون عليها، يقول: إنه ضاقت عليه الدنيا بما رحبت، لم يتحمل الألم والضيق فسافر إلى أخيه في بلد آخر، وكان أخوه صالحاً، طرق الباب، فقال له أخوه: سبحان الله! ما الذي جاء بك؟ قال: يا أخي! والله لقد ضاقت علي الدنيا بما رحبت أحس بوحشة وبضيق، قال: تفضل واجلس عندي، فجلس عنده، فلما جاء وقت الفجر جاء رجل صالح ليوقظهم لصلاة الفجر، وكان أخوه صالحاً، قام أخوه للصلاة فجاء الصالح ليوقظ هذا الرجل، فقال له: يا فلان! قم يا فلان! قم يا فلان! قم، قال: سبحان الله! لماذا؟ قال: صلِّ الفجر، قال: ماذا؟ قال: صلِّ الفجر؟ قال: أنا لا أصلي، قال: أعوذ بالله! لا تصلِّ، قم صلِّ، قال: أنا لا أصلي منذ سنوات، قال: اتق الله، جرب الصلاة ولو مرة، قال: اذهب، فذهب الرجل، وجلس يفكر على الفراش (جرب الصلاة ولو مرة) جرب الهداية جرب الالتزام، أنت فعلت كل شيء في الدنيا وما حصلت على السعادة والفرح الذي تريد، وما شعرت بالحلاوة التي تطلب، فقام من الفراش، واغتسل من الجنابة، وذهب إلى المسجد، فصلى، يقول: ولما سجد أحس بسعادة ما شعر بها منذ سنوات {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ} [الزمر:22] الصدر ينشرح {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:22]. يقول: أحسست بسعادة ما شعرت بها منذ سنوات، ولما رجع إلى أخيه قال: يا أخي! تبت إلى الله رجعت إلى الله، فسافر إلى بلده، فطرق الباب، فإذا أمه تقول له: ما الذي جاء بك؟ لماذا رجعت مسرعاً؟ قال: يا أماه! حصلتُ على السعادة. قالت: كيف؟ قال: تبت إلى الله رجعت إلى الله، فقامت له أمه وأجلسته عندها، ومكث أياماً، ثم جاء إلى أمه فقال: يا أماه! أريد منك طلباً، قالت: وما هو؟ قال: أريد السفر، قالت: إلى أين؟ قال: للجهاد في سبيل الله، قالت: يا بني! كنت تسافر للمعصية ولم أمنعك، أفأمنعك أن تسافر للطاعة، اذهب يا بني على بركة الله، فسافر للجهاد، وفي أثناء الجهاد، وفي إحدى المعارك إذا بصاحبٍ عنده أصيب بشظية فحمل صاحبه ليسعفه ولينقذه، فإذا بصاحبه يموت بين يديه، فحفر له قبراً والشهيد لا يُغَسَّل ولا يُكَفَّن، إنما يُبعث عند الله، اللون لون الدم، والريح ريح المسك في المحشر، فإذا به يحفر لصاحبه قبراً، ويُنزل صاحبه في القبر، ويرفع يديه فيقول: اللهم إني أسألك ألا تغرب علي شمس هذا اليوم إلا وقد تقبلتني شهيداً في سبيلك، فأنزل صاحبه، فإذا بغارة أخرى، فيذهب للسلاح، وتشتد المعركة، ويحمي الوطيس، فإذا به يصاب، فتذهب نفسه، ويدفن مع صاحبه في ذلك القبر {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30].

التوبة التوبة! قبل حلول الأجل

التوبة التوبة! قبل حلول الأجل عبد الله! أطلب منك في هذه الكلمات ألا تؤجِّل، أو تسوِّف، فإذا ضعف الإيمان فقِسْ نفسك، وراجعها مع كلام الله جل وعلا اقرأ القرآن تدبر يا عبد الله! {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار:6] تدبر يا عبد الله ولو صغار السور ألا تتدبر قوله جل وعلا: {أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ * إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} [العاديات:9 - 11]. عبد الله! ارجع في هذه الليلة إلى البيت؛ إن كنت تملك أشرطة أو بعض الصور أو بعض الأفلام، فاحرقها ومزقها وقطعها لله جل وعلا، وقل: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:84] عجلت إليك يا رب! رب إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم. عبد الله! أتعلم أنك لو تصلي ركعتين فتحسن فيهما ولا تحدث بهما نفسك، وتعلنها في الركعتين توبة صادقة لله، فإنك لا تنتهي من الركعتين إلا وقد بدل الله سيئاتك حسنات. عبد الله! هذا رجل كبير في السن يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي على عصا، حاجباه قد سقطا على عيناه من كبر سنه، فيقول: (أي محمد أي محمد أي محمد! فيُدَل على رسول الله عليه الصلاة والسلام. فيقول: ما تريد؟ قال: إن لي ذنوباً وخطايا لو وزعت على أهل الأرض لأهْلَكَتْهم) ذنوبي لو يتقاسمها كل أهل الأرض لأهلكتهم، تخيل ماذا فعل؟ وماذا أحدث هذا في دنياه؟ كل هذا العمر المديد كل هذه الذنوب والمعاصي والشرك والكفر- فيقول: (هل لي من توبة؟ فيقول له عليه الصلاة والسلام: أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله! قال: إذاً تعمل الخيرات، وتترك السيئات -تبدأ الآن تصلح، {وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً} [الفرقان:70]- يبدلها الله لك حسنات -لكن الرجل لم يصدق- قال: وغَدَراتي وفَجَراتي؟ -يعني: ذنوبي كثيرة- قال: يبدلها الله لك حسنات، ثم تولى الرجل وهو يقول: الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر!) {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} [الفرقان:68] ما هي اللذة؟ يقف ساعة فقط؛ لكن انظر للإثم: {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الفرقان:69] ضيق الدنيا، وضنك في الدنيا، ووحشة وحسرة وألم في الدنيا، ثم ضيق في القبر، ثم يضاعف له العذاب يوم القيامة، {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً} [الفرقان:69 - 70]. {مَنْ تَابَ} [الفرقان:70]: يعلنها الآن صادقة من قلبه. {وَآمَنَ} [الفرقان:70]: صدَّق بوعود الله. ثم {عَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً} [الفرقان:70] هجر هذه المجالس إلى مجالس الخير، ترك هذه الأفلام لأفلام الخير، كسر تلك الأشرطة إلى القرآن والمواعظ والدروس والخير، ترك أولئك الفسقة الفجرة إلى هؤلاء الصالحين الطيبين {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان:70]. دخل الحسن البصري على أهله، فقالوا له: يا أبا سعيد! العشاء فلا يجيب، يا أبا سعيد! العشاء فلا يجيب، فيقول لأهله: كلوا عشاءكم أتعرف لماذا يا عبد الله؟ لأنه رأى رجلاً يحتضر ويموت أمامه، فقال لأهله: لقد رأيت مصرعاً لا أزال أعمل له حتى ألقى الله. أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة نشكر فضيلة الشيخ على ما قدم، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يثبتنا وإياه لما يحبه ويرضاه. هناك مجموعة من الأسئلة:

الجمع بين الخوف من الله والرجاء فيما عنده

الجمع بين الخوف من الله والرجاء فيما عنده Q كيف نوازن بين الآيات والقصص التي ذكرتها من الخوف من الله عز وجل، وبين يقيننا بأن الله رب رحيم غفور، ولو أتى العبد بذنوب مائة سنة ولم يشرك بالله عز وجل شيئاً لغفر له ولمن يشاء، فكيف نوفق بين ذلك؟ A وأزيدك من الشعر بيتاً اسمع! يقول عليه الصلاة والسلام: (لو بلغت خطاياكم عنان السماء ثم تبتم لتاب الله عليكم)؛ بل يقول الله جل وعلا: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156] لكن لمن رحمة الله يا عبد الله؟ ولمن مغفرته؟ يقول الله جل وعلا: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأعراف:156] رحمة الله عز وجل للذين يتقون رحمة الله تبارك وتعالى للذي يعمل الصالحات ويخاف للذي يصلي ويصوم ويركع ويسجد ويقرأ القرآن ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ثم يخاف عقاب الله، هذه رحمة الله عز وجل بهم، ولهذا عندما مرت امرأة تبحث عن رضيعها وكأنها مجنونة، تبحث عنه يمنة ويسرة والصحابة ينظرون؛ ما بالها؟ فلما وجدت ابنها أخذته وضمته إلى صدرها وألقمته ثديها ترضعه وهي تبكي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (أتظنون أن هذه ملقية ولدها في النار؟ قالوا: لا يا رسول الله. قال: لَلَّهُ أرحم بعباده من هذه بولدها) الله أرحم بعباده. لكن الشاهد -يا عبد الله- أن الله أرحم بمن؟ بعباده. نعم! يذنبون؛ بل حتى المتقون -أولياء الله- يقعون في الذنب؛ لكن يقول الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201] التقي لله إذا أذنب تذكر وانتبه وأتبع السيئة الحسنة تمحها، هذا هو المتقي لله، ولهذا فرق بينهم ابن مسعود، فقال: [المنافق يرى ذنبه كذباب وقع على أنفه فقال به هكذا -يعمل الكبائر وكأنه ذباب وقع على أنفه فقال به هكذا وطار الذباب- أما المؤمن فيرى ذنبه مثل جبل يوشك أن يقع عليه] هذا هو الفرق. أعلمت رحمة الله لمن؟ إنها لمن يذنبون لكنهم يتوبون ويستغفرون (كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون). يصف الله المتقين بأوصاف، ومن هذه الأوصاف {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} [آل عمران:135] هل المتقون يفعلون الفواحش؟! نعم قد يقع في الفاحشة، قال: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:135] ثم قال: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] نعم! رحمة الله للذين لا يصرون، إذا فعل الذنب أو المعصية فر إلى الله جل وعلا، واستغفر وأناب، وركع وسجد، وتاب إلى الله جل وعلا فهؤلاء لهم الرحمات ولهم المغفرة. عبد الله! توبة الله، ورحمة الله عز وجل ومغفرته لها شروط: أولها: الندم: اندم على ما مضى اندم في هذا المجلس، فلعل السعادة تكون الآن، ولعل الله يسجلك الآن من أهل الجنة اندم على ما مضى وغداً يكون حقيقياً من القلب؛ كما قال الله: {إِلّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} [التوبة:110] القلب يتقطع. ثانيها: أن تقلع عن جميع الذنوب والمعاصي:- لا تقول: أستغفر الله وأنت لا زلت محتفظاً بالأفلام والأشرطة والكتيبات وغيرها، لا. انتبه! ثالثها: العزم على ألا ترجع إلى المعصية: ولم يقل العلماء: لا ترجع، بل قالوا: تعزم على ألا ترجع، فلربما ترجع يوماً من الأيام تضعف النفس ويضعف الإيمان وترجع إن رجعت إلى المعصية، فعد إلى التوبة، فإن الله عز وجل {كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً} [الإسراء:25] كلما أذنبوا عادوا إلى الله جل وعلا.

التوبة إلى الله وخطر الرجوع إلى المعاصي

التوبة إلى الله وخطر الرجوع إلى المعاصي Q لقد مررتُ بمرحلة خطيرة في حياتي، حيث بدأت بالسجائر والخمور والحبوب المسكرة وقد أدمنتُ عليها، أما الآن فقد بدأ قلبي يميل إلى ذكر الله سبحانه وتعالى، وإلى قراءة القرآن الكريم، وقررت أن أترك هذه الأشياء التي كنت أمارسها، ولكن الماضي بدأ يلاحقني مرة أخرى، فأرجو من فضيلتكم التكرم بإعطائي بعض النصائح، وكذلك أرجو أن تدعو لي، وجزاكم الله خيراً؟ A عليك بأمور: أولاً: غيِّر مكان الوظيفة: إن كانوا معك في أي مكان فاهجر هذا المكان كما قال ذلك الناصح العالم: (إنك بأرض سوء، فاتركها واذهب إلى أرض كذا وكذا، فإن فيها قوماً يعبدون الله فاعبد الله معهم). أقول لك: يا عبد الله! اذهب إلى مخيماتهم إلى جمعياتهم إلى مجالسهم إلى مساجدهم إلى مراكزهم إلى أماكن تواجدهم وهم كثيرون، نسأل الله أن يحفظنا وإياهم كثيرون في هذه البلاد التي نسأل الله عز وجل أن يحفظها ويحفظ أهلها، اذهب إليهم واطرق عليهم الباب، وقل: يا إخوة! إني تبت إلى الله، وأريد أن أعرف مجالسكم وأماكن تجمعاتكم أين تجلسون؟ ماذا تقرءون؟ ماذا تتعلمون؟ عندهم الذكر والإيمان والرحمات تنزل، وتغشى مجالسهم السكينة، وتحفهم الملائكة إلى السماء الدنيا، فاجلس معهم. ثانياً: عليك بكتاب الله: عليك بالقرآن الكريم، فليس هناك واعظ بعد الله عز وجل مثل كلامه جل وعلا -كلام الله القرآن- اجعل لك ورداً في اليوم والليلة تقرأه بينك وبين نفسك، إما أن تقرأ أو تستمع، إما شريط أو قارئ يقرأ عليك، أو تقرأ في حلقة، أو تقرأ لوحدك اقرأ القرآن وتعلق به، سواء في الليل، أو بعد الفجر، أو بعد العصر، وأقل القليل أن تقرأ جزءاً واحداً، وهذا هو أضعف الإيمان؛ أن تقرأ في اليوم جزءاً بتدبر وخشوع {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّه} [الحديد:16]. ثالثاً: عليك بالأذكار: أذكار الصباح والمساء أدبار الصلوات دخول البيت الخروج من البيت دخول المسجد والخروج منه اللباس الجماع الطعام والشراب، كل شيء له ذكر؛ حتى الأوقات التي ليس فيها أذكار مخصوصة فإن فيها أذكاراً عامة (لئن أقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أحب إلي مِمَّا طلعت عليه الشمس) أتعرف لماذا؟ لأن الله يقول: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف:36] إذا تركت الذكر مشى معك شيطان، فإذا قلت: أنا لا أراه، أقول لك: يا عبد الله! هذه حقيقة يمشي معك يدخل البيت معك يأكل معك، بل حتى يجامع الزوجة معك، إذا تركت ذكر الله جل وعلا، لماذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا دخل فجاً سلك الشيطان فجاً آخر، بل في بعض الروايات أن الشيطان يخر على وجهه إذا رأى عمر لماذا يا عبد الله؟ مِن ذكرٍ لله في القلب قبل أن يكون في اللسان. رابعاً: عليك بالدعاء: ادعُ الله جل وعلا، قل: اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، اللهم يا مثبت القلوب ثبت قلبي على دينك. يا عبد الله! إذا كان عندك بعض الذنوب والآثام فلا تقل: أنا منافق وقد نافقت، ولا أستحق أن أكون مع الصالحين، أو لا أصلح أن أصلي في بيوت الله؛ إما أن أكون مستقيماً (100%) وإما أن أكون فاجراً! لا يا عبد الله! هذه حيلة من حيل إبليس، وهذه مكيدة أتعرف ماذا يريد أن يودي بك؟ أن تترك الصلاة، وتهجر الصالحين، بل قلها: لم لا أترك المعاصي والذنوب وأكون مستقيماً على طاعة الله! إن لم تستطيع أن تتغلب على الذنوب والمعاصي فكن مع الصالحين، فلعل الله عز وجل أن يعفو عنك {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] وجاهد نفسك لتتخلص من هذه الذنوب والمعاصي. خامساً: احذر من سوء الخاتمة: فإنك إن نويت الرجوع لعل ملك الموت ينتظرك، ولعلك يصدق فيك حديث النبي عليه الصلاة والسلام الذي يقول فيه: (فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة -صلاة وذكر ودروس- حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع -سوف يدخل الجنة؛ بكاء وذكر وخشوع لو مات على هذه الحال دخل الجنة- فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها). عبد الله! هذا رجل كان صالحاً مع الصالحين لكنه فتر وضعف وقل الإيمان في قلبه لكنه لا يزال مصلياً، تعرَّف على أصحاب سوء وفجرة وفسقة، كان يجلس معهم لكنه كان يذهب للصلاة، يريد أن يوفق بين هذا وهذا، يقول: أتمتع شيئاً قليلاً معهم وأصلي مع الصالحين، وهذا الرجل مسكين! ألا يعلم أن حب الغناء والقرآن في قلب عبد لا يجتمعان؟! في يوم من الأيام قالوا له: يا فلان! سوف نسافر، قال: إلى أين؟ قالوا: إلى بلد كذا وكذا. قال: لماذا؟ قالوا: نريد أن نلعب ونلهو قال: أعوذ بالله! لا أذهب معكم، لأنه لا يزال في قلبه شيء من الصلاح كحال أكثر الناس، قالوا له: يا فلان! سفرة قليلة ثم نرجع؟ قال: أعوذ بالله أن أذهب معكم. قالوا: تعال معنا -انظر حزب الشيطان انظر كيف يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير -قالوا: تعال ولا تفعل معنا شيئاًَ- قال: لا آتي، فلا زالوا به حتى أقنعوه، انظر خطوات الشيطان! فلما سافر معهم دخلوا الفندق، وكانوا في كل ليلة يذهبون للزنا والخنا وهو جالس في الغرفة لا يذهب معهم؛ لأنه لا يزال في قلبه شيء من التقوى والخوف من الله، ولكنه لم يبذل الأسباب، اسمع وتدبر -يا عبد الله- لعل الشيطان يستدرجك مثله، وكان يجلس كل ليلة في الغرفة فمكروا مكراً، وقالوا: هذا الرجل لا يذهب معنا ولا يفعل المعاصي معنا، لا بد أن نفعل له أمراً ونمكر به، فقال بعضهم: ماذا نفعل؟ قالوا: نأتي له ببَغِيٍّ -عاهرة داعرة- في غرفته، فجاءوا إليه في الغرفة، وأدخلوا عليه امرأة، وأقفلوا عليه الباب، فلا زال يصد ويغض البصر ويردها ويدفعها ولا زالت تحاول به وتراوده عن نفسها، ولا زال يردها حتى وقع بها، فلما وقع بها قبض الله روحه، ومات على هذه الحال. عبد الله! الأمر استدراج عبد الله! لا تظن أن الأمر فقط هذه المرة وإن شاء الله أرجع، ما يدريك لعلك يختم لك على هذه الفعلة! ولعلك تموت وأنت معها! أو تموت وأنت تنظر لهذا الفيلم أو ذاك المسلسل الداعر! ما يدريك لعلك تموت على هذا الحال! هل تنفعك الصلاة؟! أم ينفعك القرآن؟! عبد الله! إنما الأعمال بالخواتيم، وما من ميت يموت إلا بعث على ما مات عليه. القضية ستون سبعون سنة ثم ماذا؟ ثم نقف عند الله خمسين ألف سنة هل تعادل هذه هذه كن حكيماً، وحاسب نفسك يا عبد الله.

مناصحة الشاب المنحرف بعد أن كان ملتزما

مناصحة الشاب المنحرف بعد أن كان ملتزماً Q شخص من صغره حتى سن التاسعة عشر كان ذا دين وصلاة وإخلاص، والآن أهمل الصلاة، وحلق لحيته، وشرب الدخان، وعاشر البنات، نصحناه مرات ولا زلنا ننصحه فما الحل معه؟ A فلنستمر في النصيحة، ثم الدعاء، ولا تعلم ماذا يفعل الدعاء؟ اسمع إلى هذه القضية! هذا شيخ كبير يقول: كان لي جار كنت أنصحه كل يوم، وكان هذا الجار مولع بالطرب ودائماً يستمع للأغاني، فكنت كل فترة أنصحه، فيعاهدني على التوبة، لكنه يرجع في اليوم الثاني كما كان، لكن هذا الشيخ ما ملَّ منه، يقول: فجئته يوماً من الأيام فنصحته وأغلظت عليه في النصيحة، فرأيته فإذا به يبكي، فقلت: لعله تأثر، ثم ذهبت وجاءني في اليوم التالي وفي يده جميع الأشرطة، فقال لي: يا شيخ! خذ هذه الأشرطة واحرقها، قلت: ما الخبر؟ قال: تبت إلى الله، فقلت له: كيف؟ قال: يا شيخ! جلست في الليل أفكر في حديثك، وأتفكر في الكلام الذي قلته، فنمت على هذه الحال، فرأيت في المنام أنني على شاطئ البحر أمشي، فإذا برجل يأتيني فقال لي: يا فلان! قلت: نعم. قال: أتعرف المطربة الفلانية؟ -التي كان يعشقها- قلت: نعم! قال: هي تغني في المكان الفلاني، فأخذت أركض باتجاه صوت الأغنية، ثم مسك بيدي رجل، فالتفت فإذا هو رجل حسن الوجه، فنظرت إليه فقلت له: دعني! فقال: لن أدعك، فقلت له: ماذا تريد؟ فقرأ علي قول الله جل وعلا في المنام وهو يرتل: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك:22] قال: فتعجبت في المنام من هذا الأمر، فأخذ يردد الآية وهو يرتل في المنام، يقول: وأخذت أردد معه الآية، ولما استيقظت من النوم وأنا أردد هذه الآية وأبكي ولا أدري عن نفسي، فدخلت علي أمي وأنا أردد هذه الآية وأبكي، فأخذت أمي تبكي معي وأنا أردد هذه الآية: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك:22] يقول: فمن لحظتها قررت التوبة إلى الله جل وعلا. أيها الدعاة إلى الله! لا نيأس من رحمة الله، ندعو لهم، وأنت يا عبد الله لا تدعو إلى الله عز وجل فتنفر الناس، لأن الدعوة لها آداب وشروط وصفات. يا عبد الله! ابدأ معه باللين بالمواعظ بالرقائق بالأشرطة بالكتيبات بالنصيحة الغير مباشرة بالنصيحة المباشرة بالدعوة الفردية بالدعوة الجماعية لا تيأس من رحمة الله جل وعلا. فهذا نوح عليه السلام تسعمائة وخمسون سنة ما يئس من رحمة الله، ما آمن معه إلا قليل، كان مستمراً في الدعوة لولا أن الله قال له: قُفِل الباب، كفى {لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود:36] هنا انتهى الأمر دعا على قومه وإلا فإنه كان غير آيس من رحمة الله استمر في الدعوة إلى الله ولا تيأس، ولعل الله أن يهديه قبل أن يموت.

النظر إلى النساء في التلفاز وتأثير ذلك على الإيمان

النظر إلى النساء في التلفاز وتأثير ذلك على الإيمان Q ما حكم النظر إلى النساء في التلفاز؟ وهل يؤثر ذلك على الإيمان؟ كما نرجو من فضيلتكم تقديم نصيحة لأولياء الأمور أن يراقبوا أبناءهم في رؤية التلفاز لا سيما الأفلام المدبلجة وغيرها وجزاكم الله خيراً؟ A أما بالنسبة للتلفاز فهو خطر عظيم، وشر مستطير يا عبد الله! إذا لم تستطع أن تخرجه من البيت فعلى الأقل خفف منه راقب التلفاز فالأولاد إذا نظروا إلى المسلسلات، أو الأفلام الثقافية، أو برامج دينية، أو بعض الأمور التي ليس فيها محرمات فلا بأس بهذا، أما أن نفتح التلفاز لكل من هب ودب؛ بل بعض الأولاد يدخلون التلفاز في الغرفة ويغلقون على أنفسهم الباب والأب لا يعرف ذلك؛ بل بعضهم أشر من هذا؛ يأتي بجهاز فيديو ويضعه في غرفته مع التلفاز ولا يعلم الأب ماذا ينظر الأولاد؛ بل بعضهم يأتي بالستلايت -البث المباشر- ويضعه في بيته، أتعرف ماذا في هذا الجهاز؟ أظن أن أكثركم يعرف هذا ثم يسأل: أولادي لا يصلون! كيف تريدهم يصلوا بعد أن ينظروا إلى هذه الأفلام وإلى تلك المسلسلات. اسمع إلى هذا الخبر العجيب! كان رجل فيه شيء من الصلاح ولكنه غافل عن تربية أولاده، وكان له ابن وبنت صغيران في السن، دخل عليهما البيت يوماً من الأيام، ولما فتح غرفة الأولاد فإذا به يجد الولد يفعل بأخته الفاحشة، وهما صغيران، فعنف عليهما وضربهما، ثم قال الأب للولد: لم فعلت هذا؟ قال: يا والدي! رأيته في التلفاز. ولم تضربه يا عبد الله؟! أنت الملوم، وأنت المخطئ. يا عبد الله! ثم إذا كبر الولد وعق أمه، والآن العقوق -ولا حول ولا قوة إلا بالله- حدث به ولا حرج عقوق الأمهات، وعقوق الآباء، وتفكك الأسر، والآداب الدخيلة كيف جاءت؟ أنت رجل صالح أدرى بهذا، وأنا أعلم أنك لم تعلم أولادك إلا الأخلاق الحسنة حتى الكذب تضربهم عليه، وهذا من حسن تربيتك لهم، وتأمرهم بالصلاة وجزاك الله خيراً، حتى القرآن تحثهم على قرائته؛ لكن يا عبد الله جئت بتلفاز يجلسون عنده أكثر مما يجلسون عندك، ويسمعون منه نصائح أكثر مما يسمعون منك؛ بل أصبح النجوم والأبطال والقادة والقدوات من؟ إما نصارى أو يهود أو شهوانيون أو فجرة وفسقة ثم تطلب منه أن يقرأ القرآن أو يصلي أو يركع ويسجد! يا عبد الله! لا تكن متناقضاً إذا جاءك الشر ولا بد منه في البيت، فراقبه وحُد من شره، فمثلاً: بعد الثامنة أو التاسعة شيئاً فشيئاً حتى تتخلص منه، وأنا لا أقول هذا من باب إباحة المعصية! لا يا عبد الله! إنما أقول لك: إن استطعت أن تخرجه فأخرجه من بيتك، وكثير من البيوت -بفضل الله- تعيش بغير تلفاز، والحمد لله الأخبار تسمع من وسائل أخرى مذياع وجرائد ولا تظن أنهم يعيشون في ضيق ونكد! لا، بالعكس إذا دخل الأب يلتفون حوله، أما أنت إذا دخلت أثناء الفيلم أو المسلسل هل يقوم أحد يسلم عليك؟ بعض الآباء يدخلون يسلمون فلا أحداً يرد عليهم؛ بل يقول بعض الأولاد: لا تقاطع الفيلم! اتركنا ننظر! أرأيت يا عبد الله؟! لا تقل: بيوت ليس فيها تلفاز فيها ظلمات وضيق ونكد! لا. كيف أن بعض الزوجات الآن هداهن الله أصبحت تتعلم كيف ترد على زوجها تغلظ عليه القول؛ بل تقول له: أنا مثلك في البيت، وحالي مثل حالك في البيت؛ بل تريد أن تخرج كما يخرج الرجال، وتعمل كالرجال، وتفعل كل شيء، وتقول: لا يوجد فرق بيني وبينك!! كيف تعلمت المرأة كل هذا؟ ألم تنظر إلى أمها محجبة مستترة، لو أن أبا هذه الزوجة أمر زوجته أن تقوم الليل كله خدمةً لوالدها لفعلت ولا ترد له شيئاً، واسألوا العجائز: هل ترد الواحدة على زوجها؟ لا والله، الزوج كأنه أمر مقدس، إذا أمر بأمر تجدها تعمل وتكدح من الصباح إلى المساء ولا ترد له طلباً ما الذي جرَّأ كثيراً من النساء؟ إنه التلفاز يا عبد الله تغريب للبيوت هدم للعقيدة، يصبح الشاب إذا كان عمره عشرين سنة، تقول له: يا أخي! لا يجوز تهنئة النصارى بالكريسمس. يقول: لماذا لا يجوز! هم نصارى ونحن مسلمون حالهم مثل حالنا، لهم دين سماوي ونحن لنا دين سماوي! كيف تعلم هذا الشاب هذه العقيدة الفاسدة؟! هذا يهدم دينه يا عبد الله؟ يقول الله جل وعلا واسمع إلى هذه السورة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] سماهم الله كافرون {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:2 - 6]. ألا يحفظ هذا الشاب {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4]؟! أيها الشاب المسكين! أتعرف أنك عندما تهنئ النصارى بعيد الكريسمس أتعرف بم تهنئهم؟! كأنك تقول: أهنئكم بشتمكم للرب جل وعلا، (شتمني ابن آدم) أتعرف كيف شتمه لله؟! أن ينسب له الولد، وهم يحتفلون في هذا اليوم أن ولد الله عيسى {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً} [مريم:90 - 91] وهو يقول: عيدكم مبارك أو كلمات إفرنجية! يهنئهم بهذا الكفر والشتم لله جل وعلا، كيف تعلم شباب المسلمين هذا؟ التلفاز يا عبد الله البث المباشر الأفلام والمسلسلات، أنت رجل صالح وملتزم ومتمسك بالعادات والتقاليد؛ لكن كيف دخلت في بيتك على حين غفلة منك؟ إنه التلفاز شر وأي شر. يا عبد الله! هَدَمَت الأسر، وضَيَّعَت الأولاد، وأفْسَدَت الأخلاق، ودَمَّرَت حتى العقائد إلا ممن رحم الله جل وعلا. إذاً يا عبد الله! إذا استطعت أن تتخلص فتخلص، وإلا فخفف وهون عليك هذا الشر، وإذا استطعت أن تراقب فراقب التلفاز منع الأفلام والمسلسلات لا ستلايت وبث مباشر لا فيديو، شيئاً فشيئاً حتى تدخل البديل على البيت، ويصبح التلفاز مغلقاً لا يفتحه إلا بعض الناس، في بعض الحالات الاضطرارية، وليس فيه محرم ولا منكر. والله أعلم.

الأسباب المعينة على صلاة الفجر ونصيحة للنساء

الأسباب المعينة على صلاة الفجر ونصيحة للنساء Q نرجو منكم حثنا على أسباب تعين المسلم على صلاة الفجر، وقد ذكرتم في محاضرتكم أن البعض ينام على الأغاني، فهل يجوز لنا أن نذهب للنوم ونحن نستمع إلى القرآن من جهاز التسجيل؟ ثم ختاماً نرجو أن توجه كلمة تنصح بها النساء؟ A كل ما قيل في المحاضرة للرجال فهو للنساء أيضاً؛ ولكن نخص النساء بنصيحة لنفسي أولاً ثم لأخواتي النساء ثانياً: أيتها الأخوات: لعلنا عندما تكلمنا عن تربية الأولاد نعلم -ونحن صادقون- أن أكثر من يجلس مع الأولاد ويربيهم هن النساء، فلهذا دورهن في تربية الأولاد أكبر من الآباء؛ لأن الأب -كما نعلم- يكدح ويعمل ويشقى؛ لأن يأتي ببعض لقيمات لأولاده وأهل بيته، أما الأم فهي التي تربي وتعلم وتدرس. أمة الله! فرق بين أم تعلم أولادها منذ الصغر على الأفلام والمسلسلات والمصارعات والأغاني والطرب، وبين أم تربي أولادها أول ما ينطق الولد، يقول: سبحان الله، والحمد لله، وإذا أكل قال: باسم الله، وإذا انتهى من الطعام قال: الحمد لله. أعرف -أيها الإخوة وأسأل الله أن يبارك في مثل هؤلاء الأولاد- أولاداً أعمارهم ثلاث سنوات، لا يأكلون الطعام إلا ويقولون: باسم الله! ولا يدخلون الخلاء إلا ويقولون: (اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث) ولا ينتهي من الطعام إلا يقول: الحمد لله، وإذا سمع الأغاني والموسيقى إلا ويذهب يغلق التلفاز والمسجل، وأعرف بعض الإخوة له ولد -أسأل الله أن يبارك فيه- لو كان في الشارع وبجانب الشارع سيارة قد فتحت الموسيقى يناديه -عمره ما أكمل أربع سنوات- ويقول: أما تدري أن الموسيقى حرام؟! أغلق الموسيقى. عبد الله! هلا ربينا أولادنا على هذا؟! اسمع لهذا الشاب، وأختم بهذه القصة لأولئك النساء: رجل حث على الجهاد في سبيل الله، فإذا به بعد الخطبة جاءته امرأة، فقالت له: يا شيخ! ولم يلتفت إليها، قالت له: يا شيخ! فأعطته صُرَّة وقالت له: يا شيخ! ليس عندي إلا هذا أتصدق به للجهاد في سبيل الله، امرأة تجاهد بمالها في سبيل الله، انظروا مَن مِن النساء، الآن تجد بعض النساء لو أراد الزوج أن ينفق شيئاً من المعاش في سبيل الله لقالت له زوجته: لا. عندنا أثاث، وأريد ذهباً مثل فلانة؟ ولم لا تذهب بي إلى هذه المطاعم؟ ولم لا نسافر إلى بلد كذا وكذا؟ قال: يا فلانة! أريد أن أتصدق ببعض المال قالت: لِمَ نتصدق؟ وليس الأمر واجباً، إنما ندفع الزكاة وكفى مثبطة عن طاعة الله، لكن بعض النساء تصدقت بصُرَّة، ولما فتح الشيخ هذه الصُّرَّة فإذا فيها ضفيرتان، ما عندها إلا جسمها، قصت شعرها وتصدقت به في سبيل الله؛ لأن أغلى ما عند المرأة هو شعرها، قصته وأعطته لذلك الشيخ، وقالت: أسألك يا شيخ أن تجعله رباطاً لفرسك في سبيل الله، فربطه الشيخ لفرسه في سبيل الله، وأراد أن يذهب للمعركة فناداه صبي صغير، فقال له: يا شيخ! قال: ماذا تريد؟ قال: أن تحملني معك للجهاد، قال: أنت صبي صغير وعذرك الله، قال: أقسم عليك بالله لتحملني معك في الجهاد، قال: أنت صبي صغير، قال: أقسمت عليك بالله، فقال له: بشرط، قال: ما هو الشرط؟ قال: إذا مت وبعثك الله فاشفع لي عند الله يوم القيامة، قال: لك ذلك الشرط، فحمله معه على الفرس، وذهب إلى الجهاد، وبدأت المعركة، وحَمِي الوطيس، فإذا بهذا الشاب الصغير يقول للشيخ: يا شيخ! أعطني سهماً ولا يرد عليه الشيخ، والمعركة قد حميت، فقال له: أعطني سهماً، فأعطاه ثلاثة أسهم، فقال: باسم الله! ورمى سهماً، فأصاب به نصرانياً فقتله، والثاني قتل آخر، والثالث قتل آخر، فقتل ثلاثة بثلاثة أسهم، ثم وهو في المعركة أصيب بسهم فسقط من على الفرس، فنزل الشيخ ومسح الدم عن وجه هذا الصبي، فقال للشيخ: يا شيخ! أعطِ هذه الخرقة لأمي، قال: يا بني! ومن أمك؟ قال: أمي صاحبة الضفيرتين {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران:34] فأخذ الصُّرَّة ودفن الولد، ثم رجع إلى البيت وطرق الباب، فخرجت بنت صغيرة، فقال لها الشيخ: أين أمك؟ قالت: وأين فلان أخي؟ قال: أبشركم بأنه مات في سبيل الله، فهلل أهل البيت وكبروا، ثم قالوا: مات أبوه فاحتسبناه في سبيل الله، ومات أخوه الكبير فاحتسبناه في سبيل الله، والآن مات أخونا الصغير فنحتسبه عند الله، الله أكبر! هذه التربية؛ ليست تربية مطاعم الوجبات السريعة إلى منتصف الليل والولد عند المطاعم متى يأتي؟ آخر الليل، أين ذهب؟ لا ندري، الأم عند فلانة وفلانة، الأم لا تعرف إلا الأفلام والمسلسلات، ثم إذا انتهت الأفلام والمسلسلات رفعت سماعة الهاتف ساعة وساعتين تكلم فلانة أين الأولاد؟ لا تدري أين البنات؟ لا تردي ماذا يستمعون؟ لا تدري، والله إنها مسئولة عند الله -جل وعلا- عن هؤلاء الأولاد. إنها جريمة في حق الأولاد إذا فعلنا بهم هذه الأفعال؛ بل حتى الأب -يا عبد الله- ولستَ أنت أيضاً بمبرأ عن هذا الكلام، فأنت مسئول عن ابنك أين توصله؟ وأين ترسله؟ ومع من يجلس؟ وماذا يرى؟ وماذا يستمع؟ وماذا يلعب؟ وهل يصلي أم لا يصلي؟ عبد الله! أنت مسئول عن الأولاد، وليس الأمر فقط إنجاب الأولاد ثم رميهم في الشوارع! لا، تسأل عنهم واحداً واحداً يوم القيامة. ثم يا عبد الله! إن لم نحسن تربية الأولاد أتعرف ما الذي سوف يحصل؟ سوف تجد الثمار في الدنيا قبل الآخرة أتعرف كيف؟ استمع لهذه القصة: قبل أيام نَشرت عندنا في الكويت في جريدة الوطن، نَشرت هذه القصة وهي غيظ من فيض، وما خفي أعظم: أم عجوز طردها ابنها من البيت، فذهبت إلى دور العجزة -دور الرعاية- فاتصلوا على ابنها يأتي ليعمل الإجراءات الرسمية ليدخل أمه، فقال: أنا مشغول وغير مستعد، قالوا له: يا فلان! أما تستحِ؟! أمك عندنا. قال: افعلوا ما تفعلون لست مستعداً أن آتي إليها، فذهبت هذه الأم في الشوارع تبحث عن لقمة عيش، فما وجدت إلا المستشفى تدخله فتسقط فيه أياماً وقد آلامها المرض، فإذا بها تشتكي في الجرائد والمجلات تشتكي إلى الله جل وعلا من عقوق الأبناء. أتعرف يا عبد الله من هو المسئول؟ أولاً: أنت إذا لم تحسن تربية الأولاد فإنك سوف تجني ثمرة العقوق قبل أن تموت وقبل أن تلقى الله جل وعلا. عبد الله وأمة الله! عليكم واجبات في تربية الأبناء والبنات، وفي إصلاح البيوت الواحد منا إذا رجع إلى البيت: هذه الصور لماذا هي معلقة؟ الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة أين البركة؟ لماذا الصور تُعَلَّق يا عبد الله؟ أنزل الصور، لأن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب أو صورة، الموسيقى لا نريد أن نسمعها في البيت. عبد الله! لم لا تجعل مسجلاً، هناك أشرطة إسلامية؛ مواعظ قرآن أذكار تجعلها في البيت إذاعة القرآن أو غيرها، تشتري بعض الكتيبات وتضعها في البيت في الصالة؛ لتقرأ الأم والأخت، ويقرأ الأولاد. هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه آجمعين.

لحظة لا بد منها

لحظة لا بد منها إن العبد إذا أصلح نيته، وعبد الله وأطاعه وأخلص له؛ بُشر بعمله ذلك في الحياة الدنيا عند الممات، فحسنت خاتمته، وإذا أفسد النية، وعصى الله ورسوله، وحارب الدين الحنيف، بُشر بعذاب الله وسخطه في الدنيا عند الممات، فساءت خاتمته، ولابد لكل إنسان أن يعلم أنها لحظة لابد منها ألا وهي: ساعة السكرات، وقد كان يخافها الصالحون والأتقياء الأبرار، فأقضت مضاجعهم، وأحرقت أفئدتهم.

السلف وتذكرهم للموت

السلف وتذكرهم للموت الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وخاتم النبيين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: أيها الإخوة الكرام! (لحظة لا بد منها) موقف لا بد منه، ساعة قادمة لا محالة؛ فما هذه اللحظة التي لا بد منها؟ لا بد أن نمر فيها المؤمن والكافر، الصالح والفاجر، صغير أو كبير، غني أو فقير، هذه اللحظة لا بد منها أي لحظة تلك؟ هي لحظة الاحتضار، ساعة السكرات، الفراق من هذه الدنيا، فكر معي في هذه الجلسة في هذه اللحظات التي هي حقاً لا بد منها؛ فكل الناس ميتون: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185] هل أنت منهم؟ إي والله؛ لكن فعلك لا يوحي بذلك، لكن تصرفاتك وقلة عبادتك وضعف اليقين لا يوحي بأنك مؤمن بهذه الآية حق الإيمان، {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ)) [آل عمران:185]. كان عمر بن عبد العزيز رحمه الله يجلس كل ليلة مع العلماء والعُبَّاد والزُّهَّاد يتذاكرون الموت وهذه اللحظة؛ فيبكون كأن جنازة بين أيديهم: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185]. وكان عثمان رضي الله عنه إذا ذُكر له الموت بكى. وكان سفيان إذا قيل له عن الموت شيء أو ذكر الآخرة أخذ يبكي حتى يبول الدم رحمهم الله جميعاً. أكثروا ذكر هادم اللذات. أرأيت الغفلة؟! إنما جاءت بعد أن نسي الناس هذه اللحظة التي هي لا بد منها، قال بعضهم: إنا لنفرح بالأيام نقطعها وكل يوم مضى يدني من الأجل فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهداً فإنما الربح والخسران في العمل سليمان عليه السلام نبيٌ من الأنبياء كان جالساً مع أحد أصحابه، فجأة دخل رجل ثالث عليهما، فأخذ الرجل الثالث ينظر إلى الرجل الذي عند سليمان -اسمعوا القصة العجيبة- فخاف الرجل، رجل غريب دخل وأخذ يحد النظر وينظر إليه بعينين محدقتين، فلما خرج الرجل الغريب قال صاحب سليمان: يا نبي الله، من هذا الرجل الذي دخل؟ قال: لم تسأل؟ قال: رأيته ينظر إلي نظراً محدقاً ففزعت منه، قال: ألم تعلم من هو؟ قال: لا يا نبي الله، قال: هذا ملك الموت، فخاف الرجل وقال: يا نبي الله احملني، قال: لمه؟ قال: احملني إلى أي أرض بعيدة أهرب من ملك الموت، كل الناس يخافون من الموت، فحمله سليمان إلى بلاد بعيدة قيل: هي الهند، فلما نزل الرجل، فإذا بملك الموت يستقبله، فقَبَضَ روحه. فجاء ملك الموت إلى سليمان عليه السلام قال: له نبي الله: يا ملك الموت أخبرني عن قصة هذا الرجل، قال: هذا قصته غريبة، قال: ما قصته؟ قال: أمرني ربي أن أقبض روحه في تلك البلاد فوجدته عندك فقلت: سبحان الله! أمرني ربي أن أقبض روحه في تلك البلاد البعيدة وهو عندك جالس، يقول: فإذا به يذهب بنفسه إلى حتفه: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ} [الجمعة:8]. مهما فعلتَ وصنعتَ وأخذتَ من الاحتياطات واستعديت يا أخي العزيز لصحتك؛ فإن الموت قادم مهما فررت، أرأيت المستشفيات كيف تمتلئ؟! أرأيت الناس ماذا يصنعون؟! أرأيت الناس عن ماذا يبحثون؟! عن الحياة لكنه الموت: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:185]. أخي العزيز! فكر في هذه اللحظات والناس على صنفين: - منهم من يموت وخاتمته حسنة. - ومنهم من يموت -والعياذ بالله- وقد ساءت خاتمته. كم من الناس من فضحه الله عز وجل عند الموت، فُضِح -إي والله- فإذا به يكفر ويفجر، وإذا بملك الموت يقبض روحه وهو على فجوره ومعصيته. كان يقول: إنها آخر مرة أعصي الله ثم أتوب بعد هذا، وما يدري أنها اللحظة الأخيرة، إنها السكرة، إنه على موعد مع ملك الموت. كان يقول: سوف أتوب إذا قدم الحج، سوف أتوب في رمضان، سوف أتوب بعد شهر أو شهرين والمسكين لا يدري أن الموت أقرب: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ} [الشعراء:205] في لهو وطرب وسكر وعربدة: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ} [الشعراء:205 - 206] الموت! {مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:207]. سفيان الثوري يقول: [والله لا أخاف ذنوبي -الأمر ليس بالذنوب، الذنوب يتوب منها؛ لكنه يقول: لكن أخاف أن أسلب الإيمان قبل الموت] أخاف أن أُفتن فأسلب الإيمان قبل الموت. أحد السلف يقول: [والله إني أخاف أن أُفتن قبل موتي، قالوا: وكيف ذاك؟ -كيف تُفتن- قال: أخاف أن يشتد نزعي -يعني: خروج الروح- ثم أقول كلاماً لا يرضي ربنا، ثم أُفتن قبل الموت]. يقول عليه الصلاة والسلام: (إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة -من صلاة وصيام وقيام وركوع وسجود- حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب؛ فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها) {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم:27] الظالم يضله الله قبل الموت.

نماذج لأناس ساءت خاتمتهم

نماذج لأناس ساءت خاتمتهم اسمع إلى الأولين والحاضرين كيف ساءت خاتمتهم، وكيف حسنت خاتمة بعضهم: العماد المقدسي هذا رجل صالح يقول عنه صاحبه ابن قدامة رحمهما الله: (والله ما أعلم أنه عصى الله معصية واحدة) ما رأيته في حياتي كلها على معصية واحدة، أرأيت إذا استقام الرجل! مَن صلح ظاهره وصلح باطنه لا تسوء خاتمته، إنما تسوء خاتمة من أقدم على الكبائر، أو فسد عقله ودينه، أو أقدم على الذنوب العظام، هذا الذي تسوء خاتمته، أما مَن أصلح ظاهره وأصلح باطنه فإن الله عز وجل يثبته، أتعرف ماذا فعل هذا الرجل قبل الموت؟ قال وهو يحتضر: يا حي يا قيوم! لا إله إلا أنت برحمتك أستغيث يقولون: فاتجه باتجاه القبلة ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله. {إِنَّ الَّذِينَ قالوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا} [فصلت:30] يقول ابن عباس: [تتنزل -أي: حقيقة- عند الوفاة] أتعرف ماذا تقول؟ {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30]. أما من فسد واستمر على الذنوب والمعاصي فاسمع ما يحدث له!

رجل كفر بـ (لا إله إلا الله) عند الموت

رجل كفر بـ (لا إله إلا الله) عند الموت وهذه القصص التي سوف أذكرها لكم إنما هي والله قليلٌ مِن كثيرٍ مما نعاشرُه ونعاصرُه، بل تركت بعض القصص الحقيقية خشية أن يكذبني بعض الناس، ومَن سأل وعايش ومَن عُمِّر يسمع مِن هذه الأخبار العجب العجاب. يقول عبد العزيز بن أبي روَّاد: حضرت رجلاً عند الموت يلقن أي: يقال له: قل لا إله إلا الله، فكان آخر كلمة قالها: هو -وهم لا يقولون: أنا حتى لا يلفظون ألفاظ الكفر- كافر بما تقول، هو كافر بما تقول، فقالوا له: قل لا إله إلا الله، فيقول: هو كافر بما تقول، هو كافر بما تقول، يقول: فلا زال يرددها حتى مات، يقول: فسألتُ عنه ما جريمته؟ ما مصيبته؟ مسلم مع المسلمين قالوا: هذا الرجل كان يدمن الخمر، وكان يشرب الخمر كثيراً. أتأمن أيها السكران جهلاً بأن تفجعك في السكر المنية فتضحى عبرة للناس طرىً وتلقى الله من شر البرية أيأمن الذي يشرب الخمر أو يتعاطى المخدر أن يلقى الله عز وجل على هذه الحال؟! {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99].

نهاية متعاطي المخدرات

نهاية متعاطي المخدرات بل نسمع عن كثير من الناس في الشهر الماضي عندنا في البلد مات ثلاثة عشر شاباً، كلهم صغار في السن، أتعرف كيف ماتوا؟ كلهم ماتوا متعاطين للمخدرات، ثلاثة عشر شاباً في شهر واحد، الله أكبر! (ما من ميت يموت إلا يُبعث يوم القيامة على ما مات عليه)، {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ:54]. يقول لي أحد رجال المباحث: دخلنا إحدى الشقق وكسرنا الباب وإذا بالرائحة متعفنة، فوجدنا جثة على هيئة سجود متعفنة يخرج منها الدود، أتعرف كيف مات؟ مات وهو يتعاطى المخدرات، تقول لي: سجد لمن؟ أقول لك: العلم عند الله، متعاطٍ ساجد مات على هذه الحال منتحراً قبل الموت. أخي العزيز! {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ} [سبأ:54]. يقول عبد العزيز بن أبي روَّاد الذى رأى هذا الرجل رحمه الله: اتقوا الذنوب فإنها هي التي أوقعته. الذنوب والمعاصي يا عبد الله! العمر واحد، والحياة مرة، والموت مرة واحدة، وليست هناك فرصة أخرى، من مات انتهى أمره وعمله، لا ندم، لا توبة: (إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرر) فإذا غرر انتهى أمره ولو كانت فيه روح.

فتاة تموت في يوم عرسها

فتاة تموت في يوم عرسها اسمع إلى تلك الفتاة التي كانت تحلم وتأمل الآمال والأحلام، جاءها من يريد خطبتها، فوافق الأهل ووافقت البنت، وكانت أسعد لحظات حياتها، ثم جاء وقت عقد القران فعُقِد عليها وفرحت البنت الشابة الصغيرة، فإذا بها تذهب مع أمها وأخواتها لتشتري الثياب والذهب وتعد لحفلة الزفاف، يا ألله! إنها أسعد لحظات الفتاة، تتأمل هذه اللحظات، كيف يدخل عليها زوجها! كيف تخرج معه! ماذا سوف تلبس! كيف سوف ندعو الناس! في أي مكان! ما هي الوجبات! ما هو الطعام! ماذا سوف أفعل! ماذا سوف نصنع! من سوف تغني! إنها أسعد لحظات الفتيات. يقولون: في يوم زفافها بعد أن كانت قد ذهبت إلى إحدى الصالونات، صفَّفَت شعرها، وفعلت ما فعلت، الله أعلم هل هو من الحلال أو من الحرام، الله أعلم ماذا صنعت! يقولون: وفي السيارة وهي ذاهبة إلى الصالة أصيبت بحادث، وانتهى كل شيء، وخرجت الروح إلى بارئها. تزود من التقوى فإنك لا تدري إذا جن ليل هل تعيش إلى الفجرِ فكم من صحيح مات من غير علةٍ وكم من سقيم عاش حيناً من الدهرِ وكم من صغار يُرتجى طول عمرهم وقد أدخلت أجسادهم ظلمة القبرِ وكم من عروس زينوها لزوجها وقد نسجت أكفانها وهي لا تدري

شاب يصاب بمرض الإيدز

شاب يصاب بمرض الإيدز بل اسمع -يا عبد الله- إلى هذا الشاب الذي غرق في الذنوب والمعاصي، كلما جمع بعض الأموال ذهب إلى بلاد الحرام يفعل الفجور، ويزني ويعاشر النساء، ويشرب الخمور. وكان لا يبالي، همه في الحياة النساء الفتيات الزنا الحرام الخمر يوم من الأيام سقط في الفراش مريضاً؛ حُمِل إلى الطبيب لكنه لم يقوَ على الخروج، يوم ويومان المرض يزداد والأدوية لا تنفع، الرجل يزداد مرضه بعد التحاليل جلس إليه الطبيب قال: أريد أن أخبرك بخبر قال: وما هو؟ قال: وتتحمل الأمر قال: أخبرني قال: للأسف بعد أن حللنا الدم علمنا أنك مصاب بمرض الإيدز. كأنه حكم بالإعدام، بل الإعدام أرحم، إي والله الإعدام أرحم، فإن موت الإيدز موت بطيء، قد يظل الرجل يتألم شهوراً، أسمعتم بهذا؟ شهوراً قد يظل على الفراش، يصل إليه الأمر أن يُشَل جسمه، ألم لا يقوى عليه حتى لو يُعطى المسكنات لا ينفع، يصاب بالشلل، يصاب بالعَتَه، يصاب بالعمى، يصاب بالخرس ربما شهور وهو على الفراش، لا يقرب منه أحب الناس إليه، بل بعضهم أجلكم الله لا يستطيع أن يقضي حاجته، ويقضي الحاجة على فراشه، تخيلتَ! تصورتَ! يا ليته مات قبل هذا: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:3].

شاب يموت على سماع الموسيقى

شاب يموت على سماع الموسيقى أخي العزيز! أسمعت بهذا الرجل الذي مات وهو يسمع الغناء والطرب؟ يقول: كنا شابين ذهبنا للدراسة في بعض البلاد، فدخلنا ذلك المكان الذي سوف نسجل فيه للدراسة يقول: وكان صاحبي في سيارته في الموقف فقلت له: تعال لنذهب نسجل للدراسة يقول: وقد فعلنا من الحرام ما فعلنا فقال لي صاحبي: لا. سوف أنتظرك في السيارة، قلت له: ماذا تصنع؟ قال: اذهب سجل واسأل: هل هناك تسجيل ثم ارجع، يقول: فذهبت إلى العمارة وهو واقف في سيارته يقول: وطال بي المقام، فرجعت بعد ساعات إلى صاحبي فوجدته نائماً في السيارة، فتحت الباب قلت له: يا فلان، قم، يقول: وصوت الموسيقى خارج السيارة يقول: فلم يرد علي، قلت له: يا فلان قم، يقول: فلم يجبني، يقول: حركته، يقول: سبحان الله! لم يكن به بأس أبداً، مات وهو يستمع الموسيقى مات وهو يستمع إلى الغناء. منهم من مات وهو يغني، منهم من مات وهو يدندن، منهم من مات أمام الناس وهو يرقص ويغني ويفسق ويفجر والناس كلهم شهود عليه وأتاه ملك الموت وقبض روحه. تنام ولم تنم عنك المنايا تنبه للمنية يا نئومُ تموت غداً وأنت قرير عينٍ من الغفلات في لُجج تعومُ لهوتَ عن الفناء وأنت تفنى وما حي على الدنيا يدومُ والمصيبة أن بعض الناس غره ظاهره، نظر، ما شاء الله! اللحية، والإزار قصير، والسواك في الجيب، ظن أنه بهذا قد بلغ الفردوس وما يدري أن هذا مهم ولكن الأهم سلامة القلب: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89]. هل سمعتَ برجل يصلي الصلوات الخمس يقضي ليله على الفضائيات والقنوات الخليعة؟! هل سمعت بشاب يتظاهر بالسنة وربما تبدو عليه آثار السنة يجلس أمام الإنترنت بالساعات الطوال يدخل على بعض المواقع الإباحية، والمسكين يظن أنه لا أحد يراه: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:14]؟! هل سمعتَ بفتاة تتظاهر بالحجاب والستر والعفاف، فإذا نام الأهل، وهدأت الأصوات، وسكن الناس دخلت إلى غرفتها فرفعت سماعة الهاتف تكلِّم صاحبها ويكلمها؟! هل سمعت بمن يتظاهر بالسنة يجلس مجالس لا همّ له فيها إلا الغيبة والنميمة، ثم يقول: نحن على خير، فاللحية لا زالت على السنة، والثوب على السنة، والسواك في اليد، وهذا مهم، وظن المسكين أنه بهذا قد وصل.

رجل يموت ورأسه في مصرف المجاري

رجل يموت ورأسه في مصرف المجاري أخي العزيز! الغفلة وما أرداك ما الغفلة! شخصية كبيرة أعرفه، قضى حياته كلها أتعرف في أي شيء؟ قضى حياته في حرب شريعة الله عز وجل، رجل ممن يسمى بالعلمانيين يحارب شريعة الله عز وجل طوال حياته، يحارب الإسلاميين، يحارب أهل الدين، يحارب شريعة الله، أتعرف كيف مات؟ مات ورأسه عند مصرف المجاري، يقولون: قَبُح وجهه وهو ميت، الذين غسلوه يقولون: هذا فلان! قَبُح وجهه وقَبُح منظره: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُم} [الأعراف:185]. من منكم يضمن -أيها الإخوة الكرام- أن يرى شروق الشمس؟! من يضمن أن يأتي الفجر عليه؟! والله لا أحد، أنا وأنت لا نضمن، من منا يضمن أن يرجع إلى البيت؟! من الناس من يقول الآن: سوف أرجع إلى البيت فأحرق الصور، وأتلف الأشرطة، وأزيل هذا الجهاز، بل سوف أرجع إلى البيت وأغيِّر حتى رقم الهاتف، وألغي هذه الأرقام حتى لا يعرفني أحد، وأهجر هذه المجالس أقول لك: يا أخي الكريم! أنت أملك طويل، هل تضمن أن ترجع إلى البيت؟! هل تضمن يا أخي العزيز أن تسمع نهاية حديثي؟! هل تضمن يا أخي الكريم أن تسمع آخر كلمة أقولها؟! والله لا نضمن، أن نسمع أذان العشاء، بل لا نضمن إذا خرج النفس أن يرجع إلينا مرة أخرى.

شاب انسلخ عن منهج الله

شاب انسلخ عن منهج الله أخي العزيز! (ما من ميت إلا يُبعث يوم القيامة على ما مات عليه). اسمع إلى هذا الشاب! ونحذر كل من أقبل على الله ثم انتكس، كل من استقام ثم انحرف! انتبه! انتبه! القضية ليست بالهينة! يقول بعض كبار السن -والقصة قريبة لعلها في العقود الماضية- ممن كانوا يبحرون في البحر للتجارة: كان هناك شاب ركب معنا في السفينة يريد التجارة معنا يقولون: كان هو المؤذن والإمام يدعوهم للصلاة، ويعنف على من يتأخر عن الصلاة، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، إمامهم ومؤذنهم، الله أكبر! شاب صالح يقولون: فَرَسَت السفينة عند جزيرة من جزر الهند للتجارة، يقولون: فلم ينزل من السفينة خشية على دينه والثبات عليه، ومرت الأيام، ترسو السفينة أياماً حتى يتبضع الناس، يقولون: فجاء صاحب له؛ انظر لأصحاب السوء، فقال له: يا فلان لم أنت حابس نفسك في السفينة؟ قال: لا أريد أن أنزل. قال: لمه؟ قال: أخشى الفتنة. قال: تعال، ولا تدخل إلى مواقع الفتنة، تعال إلى السوق فقط يقولون: فراوده حتى اقتنع، فنزل معه وأخذ يتجول ويطلق لعينيه العنان، يقولون: حتى اقترب من موضع فساد فقال له الصالح: ما هذا؟ قال: هذا مكان الفجور لا تقرب منه، فقط اجلس هنا، سوف أدخل ثم أخرج إليك، قال: يا فلان! اتق الله، قال: اتركني ألهو برهة من الزمن ثم أخرج، يقولون: وانتظَرَ صاحبَه، يقولون: وأخذ ينظر إلى كل من يدخل ومن يخرج، أرأيت! إنها خطوات الشيطان، خطوة خطوة، يقولون: فلما نظر اقترب، فتح إحدى النوافذ وأخذ ينظر إلى الداخل، فتحرك قلبه للمعاصي وللذنوب يقولون: ولم يفعل شيئاً فرجع إلى السفينة. وفي اليوم الثاني نزل بنفسه إلى المكان، أرأيت! إنها خطوات الشيطان يقولون: فنزل إلى المكان بنفسه، لم يحتج إلى أحد، فدخل، فأخذ يعاشر ويعاقر الحرام ويشرب من الحرام ويفعل الحرام يقولون: وظل أياماً في ذلك المكان لم يخرج منه أبداً. ولما حانت ساعة الرحيل قال قائد السفينة: أين فلان؟ ركب الناس، قالوا: لا نعلم قال: انزلوا ابحثوا عنه فبحثوا فوجدوه في مكان الفجور والدعارة يقولون: فرجعوا إلى قائد السفينة قالوا: إن فلاناً قد فسد دخل إلى ذلك المكان الفاجر، قال قائد السفينة: ائتوني به قالوا: لا يرضى قال: قيدوه وأتوا به وفعلاً، يقول كبار السن: فقُيِّد بالحبال وأدخل السفينة رغماً عنه وهو يبكي وهو يقول: لا أريد أن أذهب معكم، أريد أن أمضي حياتي في هذا المكان، أرأيت كيف انتكس! يقولون: ومرت السفينة وسارت في البحر، يؤذن المؤذن فلا يصلي معهم، يقولون: فقط جالس في السفينة يبكي، يبكي بكاء شديداً حتى جاءه قائد السفينة يوماً لما اشتد بكاؤه قال: يا فلان! لقد أزعجتنا، لقد رفعت الصوت حتى مللنا منك لم تبك هذا البكاء؟ قال: أتريد أن تعرف؟ قال: نعم، يقولون: فكشف عن سوءته -عورته- يقولون: فنظر إلى سوءته قد أصابها المرض ويخرج منها الدود، يقولون: حتى فزع قائد السفينة وهرب منه، قال: أعوذ بالله! أعوذ بالله! لم نسمع بهذا من قبل. يقولون: وفي تلك الليلة قام كل مَن على السفينة على صوت صيحة شديدة وصراخ يقولون: فاتجهوا ناحية الصوت في آخر الليل فوجدوا هذا الشاب عاضاً على خشبة في السفينة وقد زَهَقَت روحُه، أرأيت! أرأيت! {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} [الأعراف:175] مثل: الثعبان، أرأيت الثعبان كيف ينسلخ من جلده؟! هكذا: {فَانْسَلَخَ مِنْها} كان يصلي الآن لا يصلي، كان يقرأ القرآن الآن يستمع الغناء، كان يذهب إلى الحج والعمرة الآن يذهب إلى بعض البلاد ليفعل الحرام: {فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} [الأعراف:175 - 176] أي: بالدين {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الأعراف:176]. أتعرف مَثَل هذا الرجل الذي ينسلخ، الذي ينتكس؟! كان يقوم الليل، الآن في الليل على الفضائيات؛ أفلام، مسلسلات، رقص، غناء، كان يبدأ صباحه أول ما يبدأه بصلاة الفجر في المسجد أما الآن صباحه على الأغاني والموسيقى، كان يذهب يتجول ليدعو إلى الله، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، الآن يتجول لينظر إلى النساء ويعاكسهن، أرأيت! {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا} [الأعراف:176].

امرأة تقتل ولديها ارضاء لعشيقها

امرأة تقتل ولديها ارضاءً لعشيقها أخي العزيز! أسمعت بأناس عشقوا حتى مرضت قلوبهم وسقمت القلوب من العشق؟! أسمعت بمرض العشق؟! مرض الزمن، شباب ورجال يبكون أتعرف لم يبكون؟ لأن حبيبته فارقته، الله أكبر! أسمعت برجل احمرَّت عيناه من البكاء، ودق جسمه، وترهل واحدودب ظهره ومرض وسقم تعرف لماذا؟ لأنه يعشق، الله أكبر! أسمعت بامرأة أنجبت طفلين صغيرين من أجمل ما خلق الله، أحدهما عمره سنة والآخر ثلاث سنين، طلقها زوجها فعشقت رجلاً وعاشرته بالحرام، فامتنع الرجل عنها، قال: إن أردتيني فتخلصي من الطفلين، أتعرف ماذا صنعت؟ وضعتهما في سيارة، ودفعت السيارة إلى أحد الأنهار، فسقطت السيارة وفيها الطفلان، وغرق طفلاها إرضاءً لعشيقها إرضاءً لحبيبها. أسمعت برجل ضرب أمه وأباه إرضاءً لعشيقته؟! أسمعت برجل دمَّر أسرته لعين عشيقته؟! أرأيت! إنه مرض العصر إي والله، إنه مرض العصر. قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم العشق أعظم مما بالمجانين العشق لا يستفيق الدهر صاحبه وإنما يصرع المجنون في الحين إي والله، أما العشق فإنه لا يستفيق صاحبه.

ابن عباس يؤتى بشاب عاشق

ابن عباس يؤتى بشاب عاشق ابن عباس في يوم عرفة -وعرفة قريبة منا- استشِعْر لَمَّا يقال: لك: عرفة، ومنى، ومكة، استشعر هذه البلاد، أعظم يوم، يوم عرفه، وابن عباس كان جالساً بعد العصر، وهذه أفضل ساعة في يوم عرفه، آخر الساعات في أفضل يوم، والرب ينزل، والمكان عظيم، وجيء لـ ابن عباس بشاب يُحمل، شاب ضعيف قد ترهل جسمه ونحف، فتى بلِيَ بدنُه يُحمل إلى ابن عباس، فقال ابن عباس: [سبحان الله! ما هذا؟ فقالوا له: استشفِ لهذا يا ابن عم رسول الله -أي: ادعُ له الله عز وجل- قال: ما به؟ قالوا: يا بن عم رسول الله إن به مرض العشق -العشق في أيام ابن عباس - فقال ابن عباس: ماذا؟ قالوا: العشق، فأخذ الشاب الضعيف صاحب البدن المريض الذي يوشك أن يفارق الحياة، فأخذ يترنم يقول شعراً أتعرف ماذا قال؟ اسمع ماذا قال هذا الشاب: بنا من جوى الأحزان والصب لوعةٌ تكاد لها نفس الشفيق تذوبُ ولكنَّ ما أبقى حشاشة مقولٍ على ما به عودٌ هناك صليبُ وما عجبي موت المحبين في الهوى ولكن بقاء العاشقين عجيبُ قال ابن عباس: ويحك! ماذا تقول؟ يقولون: فأخذ يصيح ويضطرب بين يدي ابن عباس حتى خرجت روحه في يوم عرفة. وما عجبي موت المحبين في الهوى ولكن بقاء العاشقين عجيبُ يقول عكرمة: فما زال ابن عباس رضي الله عنهما يتعوذ من العشق يومه ذلك حتى غربت الشمس]. إنه مرض! ألا ترونهم ماذا يكتبون؟ ألا ترون أشعارهم؟ جنون وغرام، بل والله إن بعض أشعارهم لا تقال إلا في الله، عبادة يعبدون بها من يعشقون إي والله! أسمعت بمن سجد لعشيقته فكانت السجدة الأخيرة، ويلقى الله عز وجل على هذه الحال.

رجل يعشق فتاة نصرانية فيكفر هو وتسلم هي

رجل يعشق فتاة نصرانية فيكفر هو وتسلم هي يذكر ابن الجوزي قصة رجل مسلم عشق فتاة نصرانية؛ فتعلق قلبه بها فحُرِم منها وحرمت منه؛ فمرض الرجل ومرضت الفتاة، يقول ابن الجوزي في ذم الهوى، اسمع ما الذي حصل! يقول: فاشتد مرضه، وكان عندهما صاحب ينقل الخبر بين الاثنين، يأتي إليها فينقل خبره، ويأتي إليه فينقل خبرها، فمرض الشاب وازداد مرضه، فسقط على الفراش حتى اشتد به المرض، وكان صاحبه عنده فقال الرجل المريض العاشق: يا فلان! أرى أنه قد حان الأجل، سوف نفارق هذه الدنيا، قد حان الأجل واقتربت الساعة، قال: أما صاحبتي فما لقيتها في هذه الحياة، وأنا أريد أن ألقاها في الآخرة فقال صاحبه: إذاً ماذا تصنع؟ قال وهو يحتضر: سوف أبدل ديني؟ قال: ماذا؟ قال: سوف أبدل ديني، قال: هو على دين النصارى، وأعبد الصليب وأعبد عيسى، يقول: فلا زال يرددها حتى مات من ساعته، أرأيت! يقول ابن الجوزي: يُروى أن هذه الشابة ماتت بعد أيام أتعرف كيف ماتت؟ يقولون: ماتت وهي مسلمة، أسلمت وشهدت الشهادتين، ثم ماتت وهي مسلمة: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ:54].

شاب يموت وهو يعاشر امرأة بالزنا

شاب يموت وهو يعاشر امرأة بالزنا يقولون: أحدهم مات وهو يعاشر امرأة بالزنا، شاب صالح فتر وضعف دينه، اختلط ببعض الفسقة الفجرة، وكان قد تعود على العمرة والحج قالوا له: نريد أن نذهب إلى بلاد الزنا والخنا قال: أعوذ بالله! قالوا: تعال تمتع، قال: لا، فلا زالوا به حتى اقتنع، والقصة حقيقية، وهذه القصة ربما البعض لا يصدقني بها؛ ولكن هناك من القصص ما هو أغرب. يقولون: فذهب معهم بعد أن اشترط عليهم ألا يذهب معهم إلى الحرام، فقط ليرى تلك البلاد، فكان في كل ليلة يجلس في الغرفة في الفندق، وهم يذهبون إلى الحرام ويرجعون في الصباح، كل ليلة وهو لا يذهب معهم لا زال فيه شيء من الدين. يقولون: حتى مكروا مكراً قالوا: سوف نأتي بعاهرة إليه في الغرفة لم لا يفعل الزنا معنا؟! حسد وحقد يقولون: فجاءوا له بعاهرة إلى غرفته ووعدوها بمكافأة عظيمة إن راودته ووقع عليها، يقولون: فأُدخلت العاهرة إليه في الغرفة وأُغلق الباب، فلا زالت تراوده ولا زالت تكلمه، ولا زال بها ولا زالت به هو يدفعها وهي تراوده حتى وقع عليها وفعل معها الزنا، يقولون: وفي الصباح دخلوا عليه فوجدوه مضطجعاً عندها، هما الاثنان على فراش واحد، فراش الزنا. فقالوا لها: كيف صاحبك؟ قالت: هو بخير حال، هل فعل ما فعل؟ قالت: نعم. ويقولون: فأيقظوه فلم يتحرك، فلان، لم يجبهم، أتعرف ماذا صنع الله عز وجل به؟ {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران:54] {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} [القلم:44] مسكين ما يدري أن ملك الموت ينتظره، فلما وقع انتهى أمره. تقول: لماذا؟ أقول لك: القلب مريض، القلب كان يريد المعاصي، كان يريد الزنا، كان يريد الخنا: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49] يقول الله عز وجل: {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27]. سمعتُ عن رجل أتعرف كيف مات؟ قيل له: قل: لا إله إلا الله يقول: لا أريد أن أقولها، قيل له: قل: لا إله إلا الله قال: لا أريد أن أقولها. وآخر: قيل له: قل: لا إله إلا الله، قال: هو في سقر، هو في سقر، هو في سقر. وثالث: قيل له: قل: لا إله إلا الله قال: بم أجيبه؟ بم أجيبه؟ قالوا: مَن؟ قال: ربي بم أجيبه إذا لقيته؟ وآخر: قيل له: قل: لا إله إلا الله! أتعرف ماذا قال؟ قال: ربي هو ذا يظلمني، ربي هو ذا يظلمني، ربي هو ذا يظلمني، قيل له: اتق الله اتق الله، وهو يقول: ربي يظلمني، ومات وهو يلفظها يلقى الله عز وجل على هذه الحال. أخي الكريم! العمر واحد والحياة واحدة، فاختر لنفسك أي ميتة تريد. كان رجل من بني النجار في أيام النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يشفع له أن كان في ذلك العصر، كان مع النبي وحفظ البقرة وآل عمران وكان من المقربين؛ لكنه انتكس وتنصر واتبع دين النصرانية، وذهب إلى النصارى، فأعجبوا به، رجل كان مع محمد عليه الصلاة والسلام وختم البقرة وآل عمران؛ فأعجب به النصارى ورفعوا شأنه وأعلوا مكانه حتى وصل به الأمر أنه نُصِّب منصباً عند النصارى، بعد أيام قصَم الله عز وجل عنقه ومات الرجل أتعرف ماذا صنع الله به؟ يقولون: دُفن هذا الرجل ثم جيء بعد يوم وقد لفظته الأرض، النصارى دفنوه، ثم جاءوا بعد يوم فوجدوه قد لفظته الأرض، فدفنوه مرة أخرى، وجاءوا بعد يوم فوجدوه خارج الأرض، الأرض تلفظه، ثم دفنوه في اليوم الثالث وحفروا له حفرة، وأدخلوه في الحفرة، وردموا عليه التراب فجاءوا في اليوم الثالث، فوجدوه خارج الأرض، كلما دفنوه فإذا بالأرض تلفظه حتى الأرض لا تريد أن تحوي هذا الرجل رجل انتكس: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا} [الأعراف:176] {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} [الدخان:29].

نماذج لأناس حسنت خاتمتهم

نماذج لأناس حسنت خاتمتهم أخي العزيز! حتى لا يصاب الإنسان منا باليأس انظر إلى الصالحين كيف ختم الله لهم. سوف أخبرك بقصص قديمة وقصص حقيقية واقعية معاصرة حتى لا تقول: الأمر في الأزمان الماضية فقط، لا يا أخي العزيز.

الرسول صلى الله عليه وسلم يختار الرفيق الأعلى

الرسول صلى الله عليه وسلم يختار الرفيق الأعلى على رأسهم نبينا عليه الصلاة والسلام فمات وعلي أي حال مات؟! كان يعرق ويصاب بالحرارة حتى تقول له عائشة: (يا رسول الله! إنك تمرض لا كما يمرض أحدنا، قال: نعم إني أوعك ليس كأحدكم) أتعرف لمه؟ (أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل) كان يُسكب عليه سبع قرب من الماء حتى تخف حرارته عليه الصلاة والسلام فيفيق، ثم يريد القيام فيسقط مرة أخرى ويُغمى عليه، ثم يسكب عليه بالماء وهكذا حتى يرفع إصبعه إلى السماء ويقول: (لا إله إلا الله إن للموت سكرات). أخي الكريم! هل فكرت في هذه السكرات! كيف الموت! كيف تخرج الروح! يقول: أحد السلف لما احتضر قيل له: [كيف الموت؟ قال: كأني بين السماء والأرض وقد أُطبقت السماء على الأرض وأنا بينهما -الله أكبر! - وكأن نَفَسِي يخرج من ثقب إبرة] إي والله كأن النَّفَس يخرج من ثقب إبرة. قال بعضهم: كأنه شوك يُجَر من الرجل إلى الرأس. إنه الموت، الموت قد يكون الليلة، قد يكون غداً، هل فكرت في هذه اللحظات، بكت فاطمة، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا بنية! لم تبكين؟ قالت: واكرب أبتاه، واكرب أبتاه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: يا فاطمة! لا كرب على أبيك بعد اليوم، لا كرب على أبيك بعد اليوم). وضعته عائشة على صدرها بين سحرها ونحرها، فأخذ يقول: (الرفيق الأعلى، الرفيق الأعلى، الرفيق الأعلى) لا إله إلا الله! ثم خرجت نفسه عليه الصلاة والسلام: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30].

عمر بن الخطاب المبشر بالجنة

عمر بن الخطاب المبشر بالجنة أرأيت إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يصلي الفجر يقولون: في آخر صلاة بكى -بكى في صلاة الفجر- فبكى الناس حتى سُمِع نشيجه من وراء الصفوف، فتقدم أشقى القوم المجوسي وكان بيده خنجراً مسموماً، فأخذ الخنجر وطعن به أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه -طعنه في الصلاة- فحمل عمر -أتعرف ماذا قال عمر وهو مطعون؟ - قال: الصلاة الصلاة ماذا صنع الناس بها؟ الصلاة الصلاة ماذا صنع الناس بها؟ فإذا بـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه يُحمل فيُدخل إلى غرفته، فإذا ابن عباس يقول: يا أمير المؤمنين! ما من عين تطرف إلا يذكرك الناس بخير فقال: غُرَّ بهذا غيري يا ابن عباس، فقال لابنه عبد الله: يا بني! ضع خدي على الأرض، فلم يلتفت عبد الله، ثم قال له مرة أخرى: ضع خدي على الأرض، فلم يتلفت قال: يا بني! ضع خدي على الأرض لا أم لك، يقولون: فوُضع على الأرض فأخذت عيناه تذرفان بكى عمر، ثم قال: ويلٌ لي إن لم يغفر لي ربي، ويل لي إن لم يغفر لي ربي، إنه المبشر بالجنة، فاروق هذه الأمة.

عثمان بن عفان يستشهد على أيدي الخوارج

عثمان بن عفان يستشهد على أيدي الخوارج أسمعت بـ عثمان؟ عثمان علم أنه سوف يموت، رأى رؤيا في المنام -وكان صائماً- أنه رأى النبي عليه الصلاة والسلام وأبا بكر وعمر، فقالوا له بعد أن سلموا عليه: اصبر يا عثمان، فإنك ستفطر عندنا، فاستيقظ في الصباح وكان صائماً فعلم أنه لن تغرب عليه الشمس إلا وقد قبض الله روحه، فأعْتَقَ عشرين مملوكاً يملكهم وتصدق بما تصدق، وجلس في بيته يقرأ القرآن قالوا: [نقاتل الناس عنك قال: لا، دعوهم. فإذا به يدخل عليه الأشقياء الفجار، فيأتي الرجل ويمسك عثمان من لحيته فيطعنه تسع طعنات قال: أما ثلاث فلله، وأما ست فلشيء وقر في الصدر. وكذب، فالتسع كلها ليست لله. فسال الدم على المصحف فبكت زوجته وقالت: قتلتموه، وإنه لَيُحْيِي الليل بالقرآن] {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ} هذه هي الوفاة، هذا هو الموت الذي يشرف الإنسان: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يقولون سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:32].

سعد بن أبي وقاص المبشر بالجنة

سعد بن أبي وقاص المبشر بالجنة أسمعت بـ سعد بن أبي وقاص، هذا العابد المبشر بالجنة، هذا المجاهد؟ كان رأسه في حضن ابنه مصعب وهو يحتضر؛ فبكى مصعب بن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وأبوه ينظر وهو يحتضر فقال له: [أي بني لم تبك؟ قال: أبكي على حالك يا أبي، فقال له: يا بني! لا تبك فإن الله لا يعذبني أبداً، وإني من أهل الجنة] كيف لا وقد بُشِّر بها؟! {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف:16]. أخي العزيز! أي خاتمة تريد؟ ألا تريد هذه الخاتمة؟ إنه الجهاد إنه الصدق إنها العبادة. عثمان أتعرف لم مات على هذه الحال؟ كان يقوم الليل، ويصوم النهار، وينفق ماله في سبيل الله، ويجاهد في سبيل الله، هكذا قبض الله عز وجل أرواحهم.

الحسن بن علي سيد شباب أهل الجنة

الحسن بن علي سيد شباب أهل الجنة أسمعت بـ الحسن بن علي المبشر بالجنة ريحانة رسول الله رضي الله عنه وعن أبيه؟ لما احتُضِر بكى بكاءً شديداً سبحان الله! مبشرون بالجنة ويبكون عند الوفاة! بكى بكاء شديداً فقال له أخوه: [ما يبكيك يا أخي؟ إنما تقدم -انظر التذكير! إذا الإنسان احتضر ذكِّره بأعماله الصالحة، ذكِّره بأعماله الخيِّرة؛ حتى يحسن الظن بالله عز وجل- قال: يا أخي! لم تبكِ وأنت تقدم على رسول الله، وعلى علي، وعلى فاطمة، وعلى خديجة، وهم قد ولدوك؟! كيف تبكي وأنت سيد شباب أهل الجنة؟! كيف تبكي وقد قاسمت الله مالك ثلاث مرات؟! كيف تبكي وقد مشيت إلى الحج خمس عشرة مرة على قدمك؟! كيف تبكي وأنت المبشر بالجنة؟! يقول الراوي: فأخذ يزداد بكاؤه رحمه الله] {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60]. مصيبة! بعض الناس يصلي خمس صلوات الفروض وظن أنه قد وصل، ظن المسكين أنه قد انتهى وقد أصاب الفردوس الأعلى! الحسن بن علي أتعرف لما توفي ماذا وجدوا؟ وجدوا على ظهره خطوطاً سوداء فسألوا: [ما هذه الخطوط؟ ماذا كان يصنع الرجل؟ فلم يجدوا إجابة، حتى بحثوا كثيراً فوجدوا صاحباً له ومقرباً إليه قالوا: أتعرف هذه الخطوط السوداء في ظهر الحسن؟ قال: نعم، قالوا: مم هذه الخطوط؟ قال: كان رحمه الله ورضي الله عنه كل ليلة إذا انتصف الليل، ونام الناس، وسكنت الأصوات، كان يحمل كيساً من طحين ودقيق على ظهره كل ليلة، فيتجول على بيوت الفقراء فيوزع عليهم الطعام، أرأيت! {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60].

أبو الدرداء يشتكي من ذنوبه

أبو الدرداء يشتكي من ذنوبه أبو الدرداء رضي الله عنه، تعرفون من هو أبو الدرداء. يقول معاوية: [دخل عليه أصحابه في مرض الموت فقالوا له: مم تشتكِ رحمك الله؟ قال: أشتكي ذنوبي، فقالوا له: وماذا تشتهي؟ قال: أشتهي الجنة، قال: أفلا ندعو لك الطبيب؟ -هل تريد طبيباً؟ - قال: الطبيب هو الذي أضجعني] {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} [المعارج:27 - 28]. قبل سنوات في الحج الناس قبل غروب الشمس في يوم عرفة، أعظم يوم، يغفر الله لكل أهل عرفة، يقول لملائكته: (أشهدكم أني قد غفرت لهم) بل لو أن الإنسان ذنوبه مثل عدد حبات الرمل، أو مطر السماء، أو أيام الدنيا ليُغَسِّلها الله في ذلك اليوم، يكفر كل الذنوب. في ذلك اليوم قبل سنوات والناس في سياراتهم ينتظرون موعد النفير، غروب الشمس في اللحظات الأخيرة، والرحمات تتنزل، إذا بإحدى الباصات يخرج منها التكبير: الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر! تجمَّع الناس؛ ما الخبر؟ قبض الله روحه في تلك اللحظات. يُبعث عند الله وهو يقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك. الناس في المحشر ينظرون، مَن هذا؟ ماذا صنع؟ ماذا فعل؟ حَجَّ واعْتَمَرَ ومات وهو في هذه الحال. يقول في المحشر والناس يسمعون: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد، والنعمة لك والملك، لا شريك لك. وربما بجنبه رجل بُعث عند الله يغني! بُعث عند الله يشرب الخمر! بُعث عند الله يزني! بُعث عند الله على التلفاز، أو أمام الإنترنت! بُعث عند الله نائماً عن الصلاة متعمداً، وضع ساعته بعد طلوع الشمس متعمداً ألا يصلي الفجر! بُعث عند الله يدخن! بُعث عند الله عز وجل يسكر! ومنهم من يُبعث عند الله وجرحه ينزف والناس ينظرون ما باله يضحك ويبتسم وهو ينزف الدم! اللون لون دم، والريح ريح مسك أتعرف من؟ إنه الشهيد: {وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} [الحديد:19] أي ميتة هذه! الله أكبر! أرأيت! تسحقهم الدبابات، نزلت عليهم الصواريخ، تفجرت فيهم الألغام، تبحث عن جثته، لا تجدها، احترق، تقطع إرْباً إرباً، مزق جسمه حتى لا تكاد تجد له أثراً، هل أحس بالألم؟ كلا والذي خلق السماء لا يجد ألماً إلا كما يجد أحدنا ألم القرصة قرصة النملة أسمعت بهذا؟ إلا كقرصة النملة، ثم إن خرج الدم أول قطرة يَغْفِرُ الله ذنبه كله، يرى مقعده من الجنة قبل أن يموت، يؤمَّن فتنة القبر، إنها الميتة.

جعفر الطيار يموت وهو يبتسم

جعفر الطيار يموت وهو يبتسم جعفر الطيار قُطِعَت يمينه، فمسك الراية بالشمال فقُطِعَت، فاحتضن الراية بعضُدَيه فتكسرت الرماح عليه وهو يبتسم ويقول: يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها والروم روم قد دنا عذابها كافرة بعيدة أنسابها

ابن تيمية يموت وهو يقرأ القرآن

ابن تيمية يموت وهو يقرأ القرآن أسمعت بـ شيخ الإسلام كيف مات وهو يقرأ القرآن؟ ختم القرآن أكثر من ثمانين مرة فلما وصل إلى قول الله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:54 - 55] فجلس ولفظ الشهادتين وخرجت النفس إلى بارئها.

عمر بن عبد العزيز مات وهو يعاين الملائكة

عمر بن عبد العزيز مات وهو يعاين الملائكة عمر بن عبد العزيز الزاهد العابد المجاهد الورع، قبل الوفاة قال لمن حوله: [اخرجوا فإني أرى وجوهاً ليست وجوه إنس ولا جن -الملائكة- فلفظ قبل الوفاة: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83]]. هل أعددت أيها الأخ الكريم لهذه اللحظات؟!

الحسن البصري يموت وهو يلفظ الشهادتين

الحسن البصري يموت وهو يلفظ الشهادتين أسمعت عن الحسن البصري؟ الذي كان يبكي بكاءً شديداً، الذي زار جارية يوماً من الأيام يعزيها قبل وفاتها، فبكى رحمه الله، الحسن البصري كان يبكي فيقال له: لم تبك؟ قال: أخاف أن أكون في أم الكتاب شقياً. الحسن العابد الزاهد العالم التقي النقي يقول: أخاف أن أكون في أم الكتاب شقياً. في الاحتضار بكى، قالوا: لم تبك قال: نُفَيْسَةٌ ضعيفةٌ وأمرٌ هئول، وإنا لله وإنا إليه راجعون! ثم أغمي عليه، فأيقظوه، يا أبا سعيد! يا أبا سعيد! فاستفاق قال: رحمكم الله، لقد نبهتموني من جنات وعيون، ومقام كريم، أيقظتموني وأنا في إغمائتي دخلت الجنة، وأنا في إغمائتي دخلت الجنة ورأيتها رحمكم الله. ثم لفظ الشهادتين وفاضت روحه: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83].

داعية يموت على عتبات المسجد

داعية يموت على عتبات المسجد شاب عمره خمسة عشر عاماً وأحد الدعاة إلى الله، داعية ملتزم عابد حسن الخلق يحدثني من أثق ويعرفه. يقولون: توضأ لصلاة المغرب، فذهب إلى المسجد، ولم يكن به مرض أبداً، رجل شاب أثَّر في كثير من الناس، واهتدى عليه بعض الناس، شاب أحد الدعاة إلى الله، من طلبة العلم ومن الملتزمين توضأ لصلاة المغرب، قد انتهى يومه، يقولون: فما أن خطى عتبات باب المسجد لعله كان يقول: اللهم افتح لي أبواب رحمتك فإذا بروحه تخرج ويسقط عند باب المسجد: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30]. أخي العزيز! فكِّر أي ميتة تريد؟ فكر في حالك، لا تقل: لا، الله سوف يقبضني على هذه الحال، ما أدراك؟ يا من يصر على الذنوب! يا من يخفيها بينه وبين نفسه! يا من يسهر على الفضائيات! يا من يكلم الفتيات! يا من ينظر إلى الحرام! يا من يجلس مجالس الغيبة والنميمة! فكر يا أخي العزيز؛ فإن الموت يأتي بغتة: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر:56]. ماذا أصنع؟ تب من الآن، واستعد، وانتبه، فإن هذه اللحظة تأتي فجأة. كن مستعداً يا أخي العزيز، ادعُ الله أن يحسن الخاتمة، ادعُ الله بالثبات فإن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء جل وعلا: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]. أخي العزيز! استعد لهذه اللحظات. كيف أستعد؟ بالصيام، من مات وهو صائم وجبت له الجنة. بالقيام، فإن القيام من أسباب ووسائل الثبات على الدين. قراءة القرآن، فلعل الله يثبتك يا أخي العزيز. ولا تقل: أنا ملتزم، فإن هذه المقولة إنما تدل على ضعف الإيمان، وعدم معرفة حقيقة النفس. الملائكة التي لا تعصي الله ما يأمرها، طوال حياتها عبادة، إذا بُعِثَت قالت: (سبحانك، ما عبدناك حق عبادتك، سبحانك، ما عبدناك حق عبادتك). أسأل الله جل وعلا أن يحسن خواتيمنا جميعاً. أقول هذا القول، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وجزاكم الله خيراً على حسن استماعكم وإنصاتكم.

لماذا لا ينصرنا الله؟!

لماذا لا ينصرنا الله؟! لقد وصل المسلمون في هذا الزمن إلى حال من الذل والهوان مع أن عددهم يفوق الألف مليون، بسبب الخلاف والنزاع والتشرذم الذي طغى عليهم، وذلك لتخلقهم ببعض الأخلاق السيئة كالكبر والحسد التي أوصلتهم إلى هذا المستوى من الذل، فلابد من الرجوع إلى دين الله عز وجل والتآخي والتآلف فيما بينهم لينالوا نصر الله عز وجل.

من أسباب ذل المسلمين وهزيمتهم

من أسباب ذل المسلمين وهزيمتهم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: أيها الإخوة المسلمون! لماذا لا ينصرنا الله جل وعلا؟! كم عدد المسلمين في هذه الأيام؟ يفوقون الألف مليون مسلم، وهم أرخص الدماء على وجه الأرض! ما الذي يجري للمسلمين؟ وما الذي يحدث لهم؟ أمةٌ من أمم الإسلام تباد من الأرض ولا يتحرك لهم ساكن! ما الذي يحدث لهم؟ وما الذي يجري؟ ولماذا وصلنا إلى هذه الحال؟! كنا خير أمة تهابنا الفرس والروم؛ تحسب لنا الأمم ألف حساب، ثم صرنا إلى أذل الأمم، صار حالنا لا يؤبه له، دماؤنا أرخص الدماء، كلامنا لا يسمع ولا يطاع؛ بل لا نُستشار حتى في أمورنا، ما الذي حدث؟! وما الذي جرى؟! إن من أعظم الأمور التي أوصلتنا إلى هذه الحال التي نحن فيها ما سوف نتحدث عنه في هذه الخطبة.

الخلاف والنزاع بين المسلمين

الخلاف والنزاع بين المسلمين من أعظم أسباب ذلنا وهزيمتنا: الخلاف والنزاع بين المسلمين والتفرق والتشرذم بينهم. انظروا إلى أحوالنا، كثيرٌ منا يحمل الحقد على أخيه؛ تعصبٌ للجنسيات، والقبليات، والقوميات، والأصول، والأعراف؛ لم يخرج المستعمر من هذه البلاد الإسلامية إلا بعد أن زرع فينا التفرق والتشرذم والتعادي، ووضع بيننا حدوداً تلو الحدود. وما زال اليهود إلى هذه اللحظة يؤججون الفتن بين المسلمين، قال الله جل وعلا في وصف أفضل أمةٍ وخير ناس -أصحاب محمدٍ عليه الصلاة والسلام-: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} [الأنفال:63] ليست القضية بالمال. هل المال يجمع الأسود والأبيض والأحمر والأخضر؟! هل المال يجمع الحبشي والرومي والفارسي والقرشي؟! لا والله! {وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال:63] دين الله هو الذي يجمع بينهم. سبحان الله! هل نصدق أن يضع الفارسي يده بيد الرومي؟! سلمان وصهيب من أمتين تقتتلان صباحَ مساءَ، أعدى أمتين على وجه الأرض في ذلك الزمان، ولكن يضع سلمان الفارسي يده بيد صهيب الرومي. من يصدق أن يتقدم الحبشي على كل القرشيين ليكون هو المؤذن لرسول الله؟! أي أمة تلك؟! أي شعبٍ هذا؟! إنها تربية المصطفى عليه الصلاة السلام. أبو بكر سيدٌ من سادات قريش يقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بكر إن كنت أغضبتهم فقد أغضبت الرب جل وعلا). {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:4]. وصلنا إلى زمان يحتقر المسلم فيه أخاه؛ لأنه من جنسية كذا، أو لأنه عامل نظافة، أو لأنه ليست عنده شهادة، أو لأنه فقير مسكين، يحتقره وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بحسب امرئٍ من الشر أن يحقر أخاه المسلم) أي يكفيه شراً، فإنه بلغ قمة الشر أن يحقر أخاه المسلم، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (المسلم أخو المسلم) المسلمون في قطر وفي الكويت، وفي المملكة، وفي المغرب، وفي أمريكا، وفي السودان، وفي أنحاء الأرض كلها هم إخوة. (المسلم أخو المسلم؛ لا يسلمه ولا يظلمه). بل قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى). نبكي حالنا، ونحن ألف مليون مسلم: ألف مليون أصبحوا كغثاء بشط يم ومُصَلَّى نبيهم بيد اللص يقتسم أنا أقسمت بالذي برأ الكون من عدم وكسا ثوب عزة كل من بالهدى اعتصم إن قنعنا بسخفنا وركنا إلى النعم فخطى الخصم ماضيا ت من القدس للحرم عندها يندم الجميع يوم لا ينفع الندم {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46]. النزاع والضياع والتفرق هي من أسباب الهزيمة التي نعيشها في هذا الزمن. هل -حقاً- نحن إخوانٌ مسلمون، متآلفون مترابطون؟! جاء اليهود -كما يفعلون اليوم- يؤججون الفتنة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءوا للأوس يذكرونهم بالماضي -مساكين بعض الناس؛ يتذكر الماضي فيحقد على أخيه- وجاءوا للخزرج يذكرونهم بالماضي، أججوا الفتنة حتى كاد الخلاف أن يقع وينشب بين يدي رسول الله، فقام عليه الصلاة والسلام فقال قولته المشهورة: (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم). ماذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لو جاء في هذا الزمن إلينا؟! أي دعوى جاهلية نتداعى بها!! بل فاق المسلمون دعاوى الجاهلية، وهو صلى الله عليه وسلم أمام خلاف يسير بين الأوس والخزرج قد قال: (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم) كيف لو عاش بيننا؟!

أسباب تفرق المسلمين

أسباب تفرق المسلمين المسلمون تفرقهم الحدود؛ بل داخل الوطن الواحد تفرقهم الأعراف والقبليات والقوميات؛ بل داخل الفئة الواحدة تفرقهم المناصب والوجاهات، حتى صار هذا الجسد ممزقاً لا يأبه له أحد. الشيشان وفلسطين وكشمير والصومال، عدِّدْ ما شئت من مصائب المسلمين التي لو طلبت من أحدهم ريالاً أو بضع ريالات قال: ليس هذا شأني، هم يتحملون شئونهم، وكأن المسلمين لا يتكافلون، ولا يرعى بعضهم بعضاً، والله جل وعلا وصف المؤمنين فقال: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71] نعم، هكذا المؤمنون وإلا فلا، إن لم يكونوا أولياء بعض، فليسوا حقاً بمؤمنين، ما الذي حدث؟! ولماذا وصل المسلمون إلى هذه الحال؟!

الكبر من أهم أسباب تفرق المسلمين

الكبر من أهم أسباب تفرق المسلمين من أهم الأسباب التي تفرق بين المسلمين: الكبر. اسمع أول سببٍ يفرق بين المسلمين، وفتش في نفسك، هل هذا السبب فيك؟! هل هذا الأمر دخل في قلبك يوماً من الأيام؟ (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر) ذرة من كبر تمنع الإنسان عن الجنة. وأول ما عصي الله عز وجل به الكبر: {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34] {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} [ص:76] يقول: أنا خيرٌ من هذا، تريد أن تساويني به؟! {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [ص:76] أنا خيرٌ منه، أنا من قبيلة كذا وهو من قبيلة كذا، أنا خيرٌ منه، أنا منصبي كذا وهو عامل نظافة، أنا خيرٌ منه، أنا جنسيتي كذا، وهذا جنسيته كذا، قل لي بالله: هل هناك فرقٌ بين المعنيين، بين كلمات إبليس وما يطلق من كلمات في هذا الزمن؟ {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [ص:76] إنه الذي ملأ قلوب بعضنا. ما هو الكبر؟ هل الكبر أن يركب الإنسان سيارة نظيفة، أو يلبس ملابس جميلة، أو يتزين عندما يدخل المجالس؟ لا، هذا ليس من الكبر، بل هذا مطلوب إن لم يتجاوز الإسراف، الكبر: بطر الحق وغمط الناس، أن يرد الإنسان الحق ويحتقر الناس، يحتقر أي إنسان كان ولو كان يعمل أخس الأعمال، ولو كان يعمل في النجاسات؛ فإن احتقره فإن في قلبه كبراً، قال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:13] فقد قسمنا الله إلى أمم وشعوب وألوان وجنسيات لهدفٍ واحد، قال عز وجل: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:13] فإن دخل في قلبك كبر فاسمع قوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13]. دخل رجل فقال عليه الصلاة والسلام: (ما تعدون هذا فيكم؟ فقال: يا رسول الله! هذا حريٌ إن تكلم أن يسمع له -هذا رجل لو جلس في مجلس ونطق فالكل يسمع له- وإن خطب أن ينكح -لو أراد أي بنت فلا أحد يرده- وإن استأذن أن يؤذن له -يدخل أي مكان شاء، فهو رجل ذو وجاهة ومنصب- ثم دخل رجلٌ آخر، فقال: ما تعدون هذا فيكم؟ قالوا: يا رسول الله! هذا حريٌ إن تكلم ألا يسمع له -لا أحد يأبه له، ولا أحد يلتفت إليه- وإن خطب ألا ينكح -لا أحد يزوجه، فهو مسكين فقير رث الهيئة، والناس لا تلتفت إليه، هذا ميزان من؟ ميزان البشر، أما ميزان رب البشر فإنه يختلف- قال: والله إن هذا -أي: الفقير المسكين المطرود المنبوذ- خيرٌ من ملء الأرض من مثل ذاك) الله أكبر! ديننا عظيم، ديننا كبير، وليس هناك دينٌ أعظم منه. ليدع الغرب ما يدعون من الحضارة، وليزيفوا ما يزيفون من الحقائق؛ فإن في أعظم دولة متحضرة في هذا الزمن يدخل مليون رجل -من الاضطهاد والعصبيات والعنصريات- السجون ويضربون؛ بل ويقتلون لأجل لونهم! أيدعون الحضارة؟! أي حضارة هذه؟!! كذبوا والله! حضارتنا وديننا يجعل فيه عليه الصلاة والسلام أسامة بن زيد -وهو مولى ابن مولى- قائداً لجيشٍ فيه أبو بكر وعمر، هذا ديننا، وهذه حضارتنا، وهؤلاء أجدادنا وأعلنها صلى الله عليه وسلم مدوية: (لا فضل لأعجمي على عربي ولا لعربي على أعجمي إلا بالتقوى) وذلك موافق لقوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]. الكبر وما أدراك ما الكبر؟! انظر إلى أفضل الخلق عليه الصلاة والسلام كيف كان متواضعاً؛ صبيان صغار يقول أنس: (كان يأتيهم فيسلم عليهم) هل جربت هذا؟! ماذا يصنع قائد الأمة، الحاكم، رئيس الدولة، ماذا يصنع في البيت؟! تقول عائشة: كان يخصف نعله؛ إذا تقطع نعله كان يصلحه؛ بل كان يصلح ثيابه؛ بل كان يقوم في خدمة أهله، فمن منا جرب هذا؟ يخدم أهله في البيت، بل كان أفضل الخلق عليه الصلاة والسلام يحلب الشياه، وكانت تأتيه الجارية البنت الصغيرة، فتأخذ بيده فتذهب به أين شاءت؛ لا يردها حتى تقضي حاجتها؛ بل كان ينام على الحصير حتى يؤثر في جنبه، وكان إذا أكل لا يتكئ، وكان يأكل بأصابعه الثلاث ويلعقها، وكان يقول: (لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم؛ إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله). الله أكبر! {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف:146]. علام تتكبر؟! مرَّ مَلِكٌ على عالم من العلماء، فلم يقف له العالم قال: ويحك! ألا تدري من أنا؟! -أتدري من أنا الذي جئت ولم تقم لي؟! - قال: أعرفك، قال: من أنا؟ قال: أنت أولك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وأنت بين هذا وهذا تحمل في بطنك العذرة، فقال الملك: إي والله! ما عرفني إلا هذا! (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر). عندما تولى أبو بكر الخلافة قالت جارية من الجواري -وكان يحلب لهن الشياه- الآن أبو بكر صار خليفة، لا يحلب لنا الشياه، فسمعها أبو بكر، فقال: لا والله! أبو بكر يحلب الشياه قبل الخلافة وبعد الخلافة. عمر يحمل كيساً من الدقيق إلى الفقراء فيقال له: يا عمر أنت الآن خليفة وتفعل هذا؟! قال: وجدت في نفسي شيئاً فأردت أن أكسرها. عثمان ينام في المسجد، فلا يُدرى من هو الخليفة، لا يعرفون من هو أمير المؤمنين؛ لا يعرفون عثمان بين أصحابه. علي بن الحسين رضي الله عنه من آل بيت رسول الله، فهو علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب لما مات وجدوا في ظهره سواداً قالوا: من أين هذا السواد؟ فسألوا عنه؟ فقيل: إنه كان يحمل كل ليلة الدقيق على ظهره في الليل، ولا أحد يراه، ويوزعه على أيتام المسلمين. الحسن بن علي بن أبي طالب مر يوماً على فرسه، فوجد الفقراء على الطريق ليس عندهم إلا كسرة خبز، فقالوا: هلمَّ إلى الغداء يابن رسول الله -انزل تغد معنا يابن رسول الله- فنزل وهو يقول: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} [النحل:23] فنزل وأكل معهم خبزاً يابساً على الطريق. يأكل مع فقراء المسلمين؛ لأنه يعلم أن الله جل وعلا لا يحب المستكبرين. أيها الإخوة المسلمون! التآلف والتحاب والتواد والتآخي بين المسلمين أصلٌ من أصول ديننا، وإن اختلفت الجنسيات، والأوطان، والألوان، فإننا كما قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:10]. أقول هذا القول، وأستغفر الله.

الحسد

الحسد الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. أما بعد: من أسباب تفرق المسلمين: الحسد. {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]. هل عملت في الأرض معصية قبلها؟! إنه الحسد؛ الذي ملأ قلوب بعض الناس، فحسدوا الناس على ما آتاهم الله من فضله. اتق الله، وارض بما قسم الله لك، المؤمنون إخوة؛ لا يحتقر بعضهم بعضاً، ولا يحسد بعضهم بعضاً، ولا يظلم بعضهم بعضاً، ولا يتكبر بعضهم على بعض (كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه). إن أعظم الأمم التي تفرق المسلمين هي اليهود، إذ أن الحسد هو شغلهم الشاغل منذ أول الزمان إلى هذا الوقت، حيث أرادوا أن يؤلبوا المسلمين في المدينة بعضهم على بعض، وهم الذين وضعوا السم له، ولا يزال السم يعاوده ويجد أثره حتى مات عليه الصلاة والسلام. من الذي سممه؟ اليهود؛ بل هم الذين سحروا محمداً عليه الصلاة والسلام. وهم قبل ذلك قتلة الأنبياء والمرسلين؛ بل ما تجرأت أمةٌ على سب الله كما تجرأ اليهود، هم الذين قالوا: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181] قالوا: الله يطلب منا المال فهو فقير!! تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً! بل يقولون في التوراة المحرفة: إن الله نزل وتصارع مع يعقوب؛ بل يقولون -تعالى الله عما يقولون-: إن الله بكى ورمدت عينه، وعادته الملائكة! تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً! أما سبهم الأنبياء، فإنها أكثر أمةٍ سبت الأنبياء، وقتلت الأنبياء والرسل، وحاربت دين الله. ثم لما مات عليه الصلاة والسلام زرعت الفتنة والفرقة بين المسلمين، فادعى ابن سبأ الإسلام، ثم أخذ ينشر الفتنة بين المسلمين، وهكذا لا يزالون يفرقون الأمة؛ لأنهم يعلمون أنه أعظم سلاحٍ يقضون به على الإسلام والمسلمين. انظروا إليهم الآن كيف يفرقون المسلمين، والمسلمون يتكالبون على رضاهم، ويستجدون السلام منهم؛ يستجدون رضا اليهود حتى يعيشوا في سلام، كأنهم يعاندون قوله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]. يريدون السلام مع اليهود، والمساكين لم يقرءوا كلام الله: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة:82]. في حين يحارب بعضهم بعضاً، يطلبون الصلح والسلام مع اليهود. أي أمة هذه؟! هل تستحق النصر؟! إن الله لا يظلم أحداً، ومتى ما رأى الله فينا استحقاق النصر نصرنا وهو القائل: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]. إنهم يصادمون سنة الله الكونية والشرعية وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود). أليس في قلبك هذا؟ ألا تنتظر هذا اليوم؛ الذي تكون فيه في جيش عيسى عليه السلام تقاتل فيه اليهود؟! (لن تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون). الله أكبر! هذه سنة الله الكونية والشرعية، وهم يستجدون اليهود السلام، ويطلبون رضاهم، وهم يحرقون شعباً مسلماً، يحرقون لبنان ويقصفونها صباحَ مساءَ، والمسلمون يتوسلون منهم السلام والرضا! أي ذلة يعيشها المسلمون اليوم؟! (لا إله إلا الله! ويلٌ للعرب من شرٍ قد اقترب فتقول زوجته: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: نعم، إذا كثر الخبث). إذا طم الخبث وعم بالمسلمين، فإنهم يهلكون وإن كانوا ألف مليون مسلم؛ لكنهم غثاء كغثاء السيل، قد أوهن قلوبهم حب الدنيا، وكراهية الموت.

أسباب النصر

أسباب النصر من أسباب النصر التي لا بد أن نأخذ بها: الرجوع إلى الدين، والتآخي والتآلف. من اليوم لا فرق عندك بين أعجمي وعربي، وأبيض وأسود، وأصفر وأحمر، لا فرق بين مديرٍ وعامل نظافة، لا فرق بين غنيٍ وبين فقير، الناس كلهم سواء عندك: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] يكون في قلبك كل المسلمين سواء، أخوك في الصين، وفي الهند، وفي باكستان، وفي أمريكا، وفي جنوب أفريقيا، والذي بجنب بيتك؛ كلهم لك إخوان. فهذا من أسباب النصر. ثم لنرجع إلى ديننا، ولنأمر بالمعروف، ولننه عن المنكر، ولنتآلف، ولنتحاب، ولنتواد؛ فإن الله جل وعلا يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:10]. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اللهم أعداء الدين. اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد؛ يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر. أقول هذا القول، وأقم الصلاة.

ما الهم الذي تحمله؟

ما الهم الذي تحمله؟ إن الإنسان المؤمن الصادق مع نفسه، لو نظر إلى حال السلف الصالح وصدقهم مع الله في مقالهم وحالهم، والهم الذي كانوا يحملونه، حيث حملوا همَّ دين الإسلام وهمَّ الدار الآخرة والمصير، يجد الفارق الكبير بين تلك الأمة وأمتنا اليوم، حيث أصبح همها السفاسف والدناءات، والأمور الدنيوية، وهذا له سبب وهو البعد عن الله، وعدم النظر والعمل بالكتاب والسنة.

ضرورة الاهتمام بعمل القلب

ضرورة الاهتمام بعمل القلب الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه. أما بعد: الموضوع كما سمعتم: ما الهم الذي تحمله، وهذا الموضوع لعلي ما اخترته إلا قبل أن آتي لهذا المجلس، ولأنه يهم كثيراً من الملتزمين قبل العوام، ولهذا تجد كثيراً من الملتزمين إنما التزامهم في الظاهر، أما همه فقلبه أبعد ما يكون عن الالتزام، سله من صباحه إلى مسائه، من يومه إلى ليله، بم تفكر؟ ماذا يشغل قلبك؟ ما الهم الذي تحمله؟ أقصى شيء الدوام والوظيفة والمعاش، أو الدارسة إن كان طالباً، أو الزوجة أو الأولاد، أو البيت والأثاث والقسيمة، ثم ماذا؟ ثم لا شيء، ثم أن ينام على الفراش ليستيقظ ويبدأ يوماً جديداً، هذا همه، هذا حاله، هذا تفكيره، ولهذا كثير من الناس يفرح لما يرى اللحية ما شاء الله على حالها، والإزار قصير، وهذا شيء مطلوب وطيب، ولكن ادخل في قلبه، لا تجد أثراً من أثر الالتزام، ولهذا الله جل وعلا ما ينظر يوم القيامة إلى صورنا ولا إلى أجسامنا ولكن ينظر إلى القلوب، ولهذا الله جل وعلا يقول: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89] أي قلب هذا القلب السليم؟ قلب تجده إن جاء وكبر في الصلاة همه في الدنيا، هل هذا القلب سليماً؟! قلب إن خلا بمحارم الله تلذذ وتعلق بها بل انتهكها، هل هذا القلب سليم؟! قلب إن قرأ القرآن فهو لا يفكر إلا بالدنيا، وإن بكى في الصلاة فإنما يبكي على مصيبة أو على عزيز فقده ولا يبكي لتأثره بالقرآن، ولهذا فإن الله جل وعلا في أكثر الآيات يخاطب القلوب دون الأجساد، فيقول الله سبحانه وتعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] القلب هو الذي يجعل الله عز وجل عليه الران، المعصية تلو المعصية، والنظرة، ثم أغنية، ثم غيبة، ثم نميمة، ثم عقوق حتى يجعل الله عز وجل على القلب ران، بل أشد من الران قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [المنافقون:3] الطبع على القلب، بل القفل: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24].

الهم الذي كان يحمله السلف

الهم الذي كان يحمله السلف ولهذا نتكلم عن الهم الذي يشغل قلبك، أسألك بالله واسأل نفسك في هذا المجلس، بم تفكر؟ وما الذي يشغل همك من الصباح إلى المساء؟ ما الذي يطغى على تفكيرك وعلى قلبك؟ هل هي الدار الآخرة؟ هل هي سكرات الموت؟ ألا تفكر بهذه الأمور؟ أم أنك إن فكرت بها فتأخذ حيزاً قليلاً من همك، أما الغالب: المعاش، والدنيا، والقسيمة، والسيارة، والزوجة، والأولاد، والسفر، ومتاع الدنيا قال تعالى: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} [النساء:77].

هم الآخرة

هم الآخرة يقول يوسف: قال لي سفيان الثوري: ائتني بالماء، يقول: فقربت إليه كوزاً من ماء، ليقوم في الليل، يقول: فاقترب من الماء، ووضع يده على خده، يقول: فتركته وذهبت ونمت، يقول: فاستيقظت لصلاة الفجر، فجئت إليه فإذا هو على الحال التي تركته عليها، فقلت له: يا أبا عبد الله ما زلت على الحال التي تركتك عليها؟ قال: نعم، على هذه الحال. قال: ولم؟ قال: هم الآخرة، ولهذا من الناس من أخلصهم الله بهذا: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ} [ص:46] ما هي الخالصة؟ {بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} [ص:46]. كان بعضهم يصلي، فيبكي وتسيل دموعه وتهراق، ولا يشعر من بجنبه أنه يبكي، أين همه؟ همه في الآخرة. وكان بعضهم كما تقول زوجة مسروق تقول: كان يصلي الليل، حتى تجلس خلفه وتبكي، تبكي رأفة على حاله، ورحمة به، تقول: فإذا أذن الفجر زحف كما يزحف البعير لم؟ همه الآخرة قال تعالى: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18]. حتى قال عليه الصلاة والسلام في حديث صحيح: (ما رأيت مثل الجنة نام طالبها، وما رأيت مثل النار نام هاربها) إذا أراد أن ينام خوف النار يفزعه فيوقظه، وإذا أراد أن يتلذذ بالفراش حب الجنة يطيره، حتى قالت بنية لأبيها: يا أبتي! مالي أرى الناس ينامون وأنت ما تنام، نومك قليل؟ فقال هذا الرجل -اسمع لتلك الكلمات ثم انظر لحالنا وهمومنا-: يا بنية! خوف أبيك من النار أذهب عنه النوم. عثمان بن عفان ثالث الخلفاء، يقول ابن عمر: أنزل فيه قول الله جل وعلا: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ} [الزمر:9] في الليل ما ينام، حتى قيل: إنه كان يختم القرآن كله في ليلة. دخل عليه الخوارج، وهو في غرفته، طلب الصحابة أن يقاتلوا دونه فأبى، قال: ما تقاتلون اتركوهم، فدى الأمة بدمه، دخلوا عليه واقتحموا الباب، ثم طعنوه تسع طعنات، أشقى القوم طعنه تسعاً قال: أما ثلاث فلله، وأما ست فلشيء وقر في الصدر. وكذب، تسع كلها ليست لله، طعنه فسال الدم على المصحف فبكت زوجته وقالت: قتلتموه، وإنه ليحي الليل بالقرآن. انظر الهموم، يمشي على الأرض وهمه في الآخرة، همه أن يدخل الجنة، همه أن ينجو من النار، حتى قال: [والله لو كنت بين الجنة والنار، وما أدري إلى أيهما أصير، لتمنيت أن أصير رماداً]. {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ} [الزمر:9] من الذي جعله ساجداً وقائماً في الليل والناس نيام؟ بل الناس أمام الملهيات، وفي المباحات، ويتلذذون بالفرش والنساء، أما من هو ساجد وقائم لم؟ ما الهم الذي يشغل قلبه؟ قال تعالى: {يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]. هل يشغل قلبك هم الدار الآخرة أم أنك نسيت؟ حتى صرت من الذين يصلون ولم يصلوا، ينقرها ولا يدري ماذا صلى، وبم قرأ الإمام، ولم يتذكر يوماً خشع فيه من قراءة القرآن، من السلف من قتل ومات بآية، تعرف ما هذا الآية؟ {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ} [الحديد:16] أي قلوب هذه؟ قلوب ملأتها الدنيا، وفتن الدنيا، حتى أصبحت تكبر وكأنها ما كبرت، بل جاءني أحد الناس يشتكي يوماً من الأيام -ولن أنسى هذا السؤال- يقول: والله أفكر في المعصية حتى في السجود، حتى في السجود أقرب ما يكون العبد من ربه، أي قلب هذا؟ بل أي هم هذا؟ {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد:16]. ألا يأتيك هم -أخي الكريم- أنك يوماً من الأيام سوف تكون طريح الفراش. الحسن البصري يدخل يوماً من الأيام على البيت، فيقول له أهله: يا أبا سعيد! العشاء، فيقول: كلوا عشاءكم، فيقولون له: يا أبا سعيد! برد العشاء، فيقول لهم: كلوا عشاءكم، فقد رأيت مصرعاً لا أزال أعمل له حتى ألقاه، رأيت رجلاً يحتضر: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون:99]. لا تقل أخي الكريم! أنا أصبحت أفضل من غيري، والحمد لله عندي بعض الأعمال الصالحة، عند الممات يتبين كل شيء، ويظهر ما في القلب، همك الذي يشغلك سوف تتلفظ به عند الموت، بل يخرج الله عز وجل السرائر: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق:9]. إن لم يكن في الموت، فعند اللقاء عند الله جل وعلا، رجل قلبه يتعلق بأمرد صبي، فلما حانت ساعة وفاته قال: أسلم يا راحة العليل ويا شفاء المدنف في النحيل رضاك أشهى إلى فؤادي من رحمة الخالق الجليل فقالوا له: اتق الله، ماذا تقول؟ أخرج الله ما في قلبه، إن كان حب مردان، أو أموال، أو تجارات وعقارات، أو أثاث، أو فتن الدنيا، أو تعلق قلبه ببيت أو سيارة أو أولاد أو زوجات، فسوف يظهر الله ما في قلبه {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99 - 100] عند الممات يقولها لكن هل تنفعه؟! ولتتخيل أخي الكريم تلك اللحظات التي فيها تنازع الموت، تخيل ولعلها تكون الليلة الأخيرة هذه، وسل نفسك هل أنت مستعد لهذه اللحظات؟ أم أن ملك الموت سوف يطرق عليك الباب، أو يستأذن منك قبل أن ينزع الروح منك؟ أم أنك يا عبد الله سوف يؤخرك الله حتى ترجع الأمانات إلى أهلها، وتتوب من بعض المعاصي التي بينك وبين الله، لا يعلم عنها إلا الله جل وعلا؟ ولهذا الإمام أحمد لما أشغله هذا الهم، وأقلقه ذلك الهم، يوم من الأيام جاءه رجل فقال له شعراً، فقام الإمام أحمد من مجلسه، وكان حوله التلاميذ والأصحاب، فدخل في غرفة وأغلق الباب، فانتظروه فتأخر، فاقترب أحدهم يستمع إلى الإمام أحمد خلف الباب، يردد الشعر نفسه وهو يبكي: إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب لا تقل: ما في أحد، أغلقت الباب، ويفتح التلفزيون وينظر، ما في أحد؟ إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفيه عنه يغيب لهونا لعمر الله حتى تتابعت ذنوب على آثارهن ذنوب فيا ليت أن الله يغفر ما مضى ويأذن في توباتنا فنتوب عمر بن الخطاب، انظر إلى الهم الذي أشغله، يقال: كان يُرى في وجهه خطان أسودان من البكاء. أخي الكريم: كانوا لا ينامون الليل من الهم الذي يقلقهم، حتى كان عليه الصلاة والسلام يقوم الليل كله بآية، وهي قوله تعالى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118] يرددها ويبكي، ليلة من الليالي تقوم عائشة فتسمع النبي صلى الله عليه وسلم في الليل يبكي، فتقترب فإذا هو في السجود، تعرف ماذا يقول؟ يقول: (اللهم أمتي أمتي، اللهم أمتي أمتي) انظر الهم الذي يقلقهم.

هم الأمة

هم الأمة من الهموم أخي الكريم التي لا بد أن تشغلك، هم هذه الأمة، هم إصلاحها، ألا يقلقك؟ ألا يؤثر في قلبك؟ عندما تخرج من بيتك ولا يخرج أحد للصلاة غيرك ألا تضطرب أخي الكريم؟ عندما تقوم للفجر إن كنت من مصلي صلاة الفجر، أنك تمشي في الشارع لوحدك، ولا تسمع إلا قرع نعليك، ألا يحزنك؟ ألا يهمك هذا؟ ألا يصيبك بالحزن أن ترى في كل يوم تزداد بيوت الربا التي تحارب الله جهاراً نهاراً؟ ألا يحزنك ويقلقك لما ترى في الشارع هذه متبرجة، وهذه مع فلان، وهذه كاشفة عن رأسها، وتلك حاسرة عن ساعديها، ألا يحزنك يا عبد الله؟ إن هذا الهم قتل محمداً عليه الصلاة والسلام، حتى تقول عائشة: [كان يجلس -آخر عمره في الصلاة، تعرف لمَ؟ تقول-: مما حطمه الناس، مما حطمه الناس] ألا تحمل هذا الهم يا عبد الله؟ {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} [الكهف:6]. همه إن لم يكن في الموت وفي القبر وفي القيامة وفي الجنة والنار فإنه في هموم الأمة، يحزن ويتألم، حتى قام من مجلسه وهاجر من مكة إلى الطائف، خرج إلى الطائف على قدميه الشريفتين، ودخل على رءوساء القوم وكبراءهم، حتى قال قائلهم قبحه الله: أما وجد الله غيرك ليرسله. وقال الآخر: إن كنت صادقاً فلن أجيبك، وإن كنت كاذباً فأنا أكبر وأشرف وأعلم من أن أجيبك. فتبعوه بالحجارة، يلحقهم الصبيان والعبيد والسفهاء، وهو يمشي حتى قال عليه الصلاة والسلام: (انطلقت -اسمع إلى الرواية- قال: هائماً على وجهي فلم استفق إلا بـ قرن الثعالب) تخيل من شدة الهم، ما يدري أين استفاق، مشى فلم يستفق إلا بـ قرن الثعالب، فجاءه ملك الجبال قال: (مرني أطبق عليهم الأخشبين -ترتاح، يزول الهم، يزول كل شيء- قال: لا. أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً) وكان لسان حاله، يقول: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ} [يوسف:108]. أين أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، تعرف من هم؟ {أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} الدعاة إلى الله هم أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، هل هذا الهم الذي تحمله؟ ما الهم الذي تحمله يا عبد الله، هل تحمل هم الأمة؟ باخع نفسك، أي: قاتل نفسك على آثارهم: {إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} [الكهف:6]. أيها الإخوة الكرام! إن القلب بعض الأحيان يكاد يتفطر إن كان في القلب إيمان، إن كان في القلب إسلام، لما ترى شباباً لا يصلون، بل بعضهم يضحك عليك لما تصلي، وجاءني أحدهم والله يقول لي بعد أن صلينا الظهر، قال: لا زلتم تصلون، الناس قد وصلوا القمر وأنتم لا زلتم تصلون، بل صارت الأسئلة الآن في حكم تارك الصلاة: هل يجوز أن يزوج أو لا يجوز أن يزوج؟ والله يا إخوة! يدمى القلب ويحزن القلب من حال هذه الأمة، قبل أيام خرجت من البيت حتى -أيها الأخ الكريم- يصيبك بعض الهم، لتنشغل على حال هذه الأمة، خرجت من البيت فإذا بزحام، والسيارات مجتمعة، وأصوات رنات السيارات والناس قد خرجت، فذهبت مسرعاً فإذا بالشوارع مغلقة، ما الخبر؟ وإذا الناس قد نزلوا من السيارات يرقصون، ما الذي جرى؟ وبعضهم يصور، وأغلقوا الشوارع، وكأن لسان حالي يقول: إن فلسطين لعلها حررت، الحمد لله، بل لعل مشكلة كشمير انتهت بفضل الله، أم لعله والحمد لله طبق شرع الله عندنا، يفرح الناس، يحق لهم أن يفرحوا بهذا، ولسان حالهم يرد، فيقولون: لا، بل فريقنا فاز في لعبة القدم. أي سخف مدمر عن فساد الشعوب نم وإلى أي خيبة هبطت هذه الأمم ألف مليون أصبحوا كثغاء بشط يم ومُصلى نبيهم بيد اللص يقتسم أنا أقسمت بالذي برأ الكون من عدم وكسا ثوب عزة كل من بالهدى اعتصم إن قنعنا بسخفنا وركنا إلى النعم فخطى الخصم ماضيات من القدس للحرم عندها يندم الجميع يوم لا ينفع الندم {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ} [هود:116] أولوا عقل، أولوا نهى، ألوا ألباب، هؤلاء هم صفوة الخلق، من هم يا رب؟ {أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ} [هود:116] هم هؤلاء أهل العقل، بل ما يستحق غيرهم أن يكونوا ألو بقية، ألو نهى، وألوا ألباب. جاءني قبل أيام ضابط في المباحث، يقول: يا شيخ! ما طلعت من المخفر إلا الساعة الرابعة صباحاً، قلت: ما الخبر؟ قال: قبضنا على مزرعة أو حوطة كلها ممتلئة بالشباب والشابات دعارة، يقول: وكلهم أو أغلبهم من أهل هذه البلد، إخواننا وأخواتنا، يقول: وجئت إلى فتاة ليست كبيرة -صغيرات أكثرهن- فقلت لها: كيف خرجت من البيت؟ أهلك أين هم؟ تقول: أهلي يظنون أنني من خيرة الفتيات، ويحسبون أنني من أشرف الفتيات، قلت: كيف إلى الفجر ما يدرون عنكِ؟ قالت: قلت لهم: إنني في عرس. أين الرجال؟ أين أولو الغيرة؟ أين أصحاب الحمية؟ أين الدعاة إلى الله جل وعلا؟ صار هم بعضهم -للأسف- أنه يحضر هذا المجلس ثم يشرب شاهي وقهوة، ويقلب كف على كف ويقول: لا حول ولا قوة إلا بالله. لا حول ولا قوة إلا بالله تقولها بعد أن تبذل الأسباب، بعد أن يشغل قلبك فتسجد في الليل وأنت تبكي تقول: اللهم أمتي أمتي، اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون، ولهذا ذلك الذي آمن من قوم إسرائيل من قوم فرعون ماذا قال؟ {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} [غافر:29] ولهذا قال في خاتمة كلامه: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ} [غافر:44]. أيها الناس: تحركوا! وليشغلنا على الأقل الهم في البداية، لأنه إذا دخل هذا الهم في القلب وصلحت هذه المضغة، صلح الجسد كله، فتجده إما متكلماً أو كاتباً أو ناشراً أو موزعاً أو طارقاً للأبواب، أما إذا فسدت هذه المضغة، فتجده يصد، ويقول للداعية: ماذا تفعل؟ الفساد أكبر منك، يا أخي! ما تستطيع أن تفعل شيئاً، ويأتي المريض الثاني فيقول: الحمد لله نحن بخير، نحن أفضل من غيرنا، ولكن الخطأ باقٍ، والمنكر يبقى منكر، والربا من الموبقات، والزنا من المحرمات، والفواحش من أسباب هلاك الأمم، لابد أنك ترضى بهذا وتصدق هذا، ولهذا زينب لما قالت: {أنهلك وفينا الصالحون!؟} فينا صالحون الحمد لله، يتبجح بها بعض الناس، فينا الحمد لله أهل الصلاة، أهل المساجد، والصائمون والمتصدقون نعم، لا نشك بهذا، ولكن قال: {نعم إذا كثر الخبث} ما الهم الذي تحمله؟ أسألك بالله أيها الأخ الكريم! هل همك لا زال -بعد هذه الكلمات- في أثاث سوف تشتريه بعد أيام؟ أم لا زال همك في شهادة سوف تحصل عليها بعد أشهر؟ أم همك لا زال في سفر سوف تسافره بالصيف؟! أم همك لا زال في سيارة سوف تركبها بعد أيام؟! همك بم يا عبد الله؟! ما الهم الذي تحمله؟ نعم. لا تنسى نصيبك من الدنيا، ولكن لا تطغى عليك الدنيا: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} [النساء:77].

حال الأمة اليوم

حال الأمة اليوم اسمع أخي الكريم! إلى حال أمتنا يصفها هذا الشاعر، هذه الأمة المريضة ولا نقول ميتة، اسمع إلى حالها، وأرجو أخي الكريم أن تفكر في كلمات هذه الأبيات، فكر واستشعر، ثم سل نفسك بعدها، هل دخل الهم في القلب؟ يقول: إني تذكرت والذكرى مؤرقة مجداً تليداً بأيدنا أضعناه كان صغار الصحابة يواجهون صناديد الكفر - أبا جهل - وينقضون عليه كالصقر، وكلهم يفتخر يقول: أنا قتلته يا رسول الله! مجد حتى كان يعد عليه الصلاة والسلام سراقة بسواري كسرى، وأعطاه عمر لـ سراقة، اسمع ذلك المجد الذي ضاع: أنى اتجهت إلى الإسلام في بلد تجده كالطير مقصوصاً جناحاه كم صرفتنا يد كنا نصرفها وبات يملكنا شعب ملكناه استرشد الغرب بالماضي فأرشده وكان لنا ماض نسيناه بالله سل خلف بحر الروم عن عرب بالأمس كانوا هنا واليوم قد تاهوا وانزل دمشق وسائل صخر مسجدها عمن بناه لعل الصخر ينعاه هذي معالم خرسٌ كل واحدة منهن قامت خطيباً فاغراً فاه الله يعلم ما قلبت سيرتهم يوماً فأخطأ دمع العين مجراه لا در در امرئ يطري أوائله فخراً ويطرق إن سائلته ما هو يا من يرى عمراً تكسوه بردته والزيت أدم له والكوخ مأواه يهتز كسرى على كرسيه فرقاً من خوفه وملوك الروم تخشاه يا رب فابعث لنا من مثلهم نفراً يشيدون لنا مجداً أضعناه ما الهم الذي تحمله؟ هل في قلبك هم؟ تطرق يوماً من الأيام بيوت الجيران، تقول لهم: يا قوم! اتقوا الله، يا قوم! الأذان يؤذن ولا أحد منكم يخرج إلى الصلاة، هل هذا الهم يشغل قلبك؟ هل يشغل قلبك يوماً من الأيام أخي الكريم أنك ترى ولدك يحفظ القرآن، يدعو إلى الله، يطلب العلم، يجاهد في سبيل الله، هذه الأمنية التي ما حصلت أنت عليها، هل تتمناها لأولادك؟ هل تتمناها لجيلك يا عبد الله؟ هل يشغل قلبك هذا الهم أن ترى يوماً من الأيام الحدود تطبق وشرع الله يقام، وكتاب الله وسنة رسول الله يحكم بها في هذه الأرض هل هذا الهم يشغل قلبك؟ أم أنت ممن يقلب الجريدة، والصحف، يبحث عن بيت، ويبحث عن محل، أو يفكر في تجارته؟ ولا أحرم عليك هذا ولكن، سل نفسك يا عبد الله وكن صادقاً ما الهم الذي تحمله؟ هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

مخالفات نسائية في رمضان

مخالفات نسائية في رمضان كل الناس يفرحون بقدوم رمضان، لكن الفرحة تتفاوت من شخص لآخر، والمؤمن يجب أن يكون فرحه برمضان لأنه شهر التوبة والقرآن، ولأن فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم هذا ما تحدث عنه الشيخ في بداية محاضرته، ثم تكلم حول بعض المخالفات التي ترتكبها النساء في رمضان، فذكر سبعاً وعشرين مخالفة.

فرح الناس بقدوم شهر رمضان

فرح الناس بقدوم شهر رمضان الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: العنوان -أخواتي الكريمات- كما سمعتن: "مخالفات شرعية في رمضان". رمضان يفرح بدخوله كثيرٌ من الناس، منهم من يكون من أهل الدنيا فيفرح بدخول رمضان، فهذا التاجر يفرح؛ لأن رمضان قد دخل، وبضاعته سوف تروج، وتجارته سوف تربح، فهو يفرح برمضان، لكن ليس لله جل وعلا. وذاك يفرح بدخول رمضان لأجل اللعب واللهو، والسهر والمرح، وقضاء الأوقات في المباح، وإن لم يكن هذا في الحرام، فهو يفرح برمضان لكن ليس لله جل وعلا. وهذا يفرح بدخول رمضان لأجل ما يعرض في التلفاز من مسلسلات ومسابقات، وأفلام وبرامج، وقضاء الأوقات فيما حرم الله، فهو يفرح بدخول رمضان لكن ليس لله جل وعلا. ومن الناس من يفرح بدخول رمضان لأجل الدعاء والقرآن، والصلاة والذكر والعبادة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنان، وغلقت أبواب النيران، وصفدت الشياطين، وفي رواية فيها زيادة: قال: وينادي منادٍ: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك في كل ليلة). إن رمضان يفرح المؤمن بدخوله بل بقدومه، بل يفرح إذا اقترب هذا الشهر ويبكي لفراقه، لأن الله سبحانه وتعالى قد كتبه، فهو يفرح لأن الله كتبه عليه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] لم يكتبه الله عز وجل لأجل المشقة، ولا لأجل التعب، ولا لأجل التكليف فقط، بل قال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]

رمضان شهر التوبة

رمضان شهر التوبة ولماذا يفرح المؤمنون بقدوم هذا الشهر؟ لأنه شهر التوبة، فكل من زلت زلة، وكل من أخطأت خطأً، ومن وقعت في معصية تنتظر هذا الشهر بفارغ الصبر؛ لترفع يدها إلى الله جل وعلا، لعل الله يجعلها من عتقائه من النار (ولله سبحانه عتقاء من النار وذلك في كل ليلة). مضى رجب فما أحسنت فيه وولى شهر شعبان المبارك فيا من ضيع الأوقات جهلاً بحرمتها أفق واحذر بوارك فسوف تفارق اللذات قسراً ويخلي الموت كرهاً منك دارك تدارك ما استطعت من الخطايا بتوبة مخلصٍ واجعل مدارك على طلب السلامة من جحيمٍ فخير ذوي الجرائم من تدارك قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً} [التحريم:8] أي: ليست أي توبة، تستغل المؤمنة الصادقة هذا الشهر في التوبة إلى الله جل وعلا من الذنوب والخطايا والمعاصي، فهنيئاً لهذه المرأة، وهنيئاً لتلك التي ما خرج رمضان إلا وقد عتقها الله من النار، وهنيئاً لهذه التي ما مضى رمضان إلا وقد غفر الله ما تقدم من ذنبها، تفرح بقدوم هذا الشهر؛ شهر المغفرة، شهر العتق من النار، شهر التوبة.

رمضان شهر القرآن

رمضان شهر القرآن وتفرح المرأة وتعد الأيام عداً لقدوم شهر رمضان؛ لأنه شهر القرآن الذي أنزله الله عز وجل فيه، والذي يتفرغ فيه المؤمن والطامع لله جل وعلا في كل شيءٍ إلا من قراءة القرآن، قال الله جل وعلا في وصف هذا الشهر: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185] حُق لشهرٍ مثل هذا أن ينزل الله فيه القرآن، وحُق لشهرٍ مثل هذا أن نعتكف فيه على قراءة القرآن، هذا الشافعي عليه رحمة الله، أتعرفن يا إماء الله كم كان يختم القرآن في رمضان؟ كان يختمه ستين مرة، أما الإمام مالك، إمام دار الهجرة، كان إذا جاء رمضان أقفل الكتب وأغلقها، وترك المجالس إلا مجالس القرآن، يعتكف على قراءة القرآن، وعلى تلاوته، وعلى مراجعته، وعلى مدارسته، قال الله جل وعلا: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] من النساء من يمر عليها رمضان وما ختمت القرآن ولا مرة واحدة، ولا مرة واحدة! سبحان الله! وليس الختم بواجب، ولا نقول: إن هذا الأمر واجب؛ ولكن أي تقصيرٍ في العبادة أعظم من هذا؟ الناس كلهم يعتكفون على كتاب الله، الصغير والكبير، الغني والفقير، الذي هجر القرآن أحد عشر شهراً يختمه في رمضان، وهذا تقصير، وهذا هجران، ولكن أي هجرٍ أعظم من امرأة يمر عليها الشهر كله ولم تختم القرآن مرة واحدة؟ هذا الشهر شهرٌ عظيمٌ، فيه ليلة يقول الله عز وجل عنها: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:1 - 3] هذه الليلة خير من ألف شهر. أمة الله: كيف بكِ إذا وفقك الله لقيام تلك الليلة: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه).

مخالفات النساء في رمضان

مخالفات النساء في رمضان أمة الله: يجب قبل الصيام أن نطلب العلم، وأنتن في هذا المكان، وفي هذه المجتمع غير معذورات لتقصيركن في طلب العلم نُسأل في كل أمر، كم من النساء من تجامع في نهار رمضان! وكم من النساء من تفعل المحرمات في نهار رمضان؟ وكم من النساء من تفعل المعاصي في نهار رمضان وهي لا تدري! ترتكب المحرمات، وتقع في المحظورات، وتأتي المفطرات ثم بعد هذا تسأل: ما حكم صيامي؛ لقد فعلت كذا وكذا؟ يجب أن تتعلمي العلم قبله، والله جل وعلا يقول: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]. والمخالفات التي سوف نذكرها بعضٌ من كثير، وغيضٌ من فيض، فإن مخالفات الناس في رمضان كثيرة جداً، وما سوف أذكره ليس كله حرام؛ فبعضه لا يجوز، وبعضه مكروه، وبعضه خلاف الأولى، والله جلَّ وعلا قسَّم الناس فقال: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} [فاطر:32] أي: من الناس من يقع في المحرمات {وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} [فاطر:32] لا يفعل المحرمات لكنه قليل الطاعات {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر:32] أعلى الناس مرتبة، ليس فقط يترك الحرام، بل حتى المكروه يتجنبه، وتجدينها تحرص على المستحبات، تفعل المستحب والواجب، إذا كان الأمر يحبه الله جل وعلا، وإذا كان الأمر فيه شبهة بين الحرام والحلال تتركه وتتجنبه خوفاً أن تقع في الحرام. هذه أعلى المراتب في الناس.

ترك الصلاة

ترك الصلاة أول مخالفة من مخالفات الصيام: أن بعض النساء قد تصوم رمضان ولا تصلي، أو لا تصلي إلا في رمضان، والله جل وعلا قال عن الصلاة: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11] وقال عليه الصلاة والسلام: (بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة) وقال: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر) فبعض النساء تنام عن صلاة الفجر حتى تطلع الشمس، أو تنام عن الظهر حتى يدخل وقت العصر، أو تنام عن بعض الصلوات حتى يخرج وقتها، هي محافظة على الصيام، وهي مشكورة على هذا، لكنها تضيع ما هو أهم من الصيام، وهي الصلاة، والله جل وعلا يقول: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59].

استقبال رمضان بصوم يوم أو يومين

استقبال رمضان بصوم يوم أو يومين المخالفة الثانية: أن بعض النساء تصوم قبل رمضان بيوم أو يومين، وإذا سئلت: لماذا؟ تقول: احتياطاً، ولربما يدخل رمضان والناس لا يدرون، أو لربما طلع الهلال وما رآه الناس، فهي تصوم احتياطاً، نقول: إنها قد وقعت في المحظور؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقدموا رمضان بصوم يومٍ ولا يومين إلا صومٌ كان يصومه أحدكم) أي: إذا كانت متعودة على صيام نذر، أو كان هذا اليوم يوم خميس مثلاً، أو إثنين، أو أحد الأيام التي اعتادت على صيامها؛ فإنها تصوم ولا ريب في هذا، لكنها إن قصدت الاحتياط والتقديم على رمضان لأجل الشك فإنها قد وقعت في معصية النبي صلى الله عليه وسلم.

ارتكاب المعاصي

ارتكاب المعاصي المخالفة الثالثة: أن بعض النساء- هداهن الله- في رمضان تقع في المعاصي، هي تعبد الله جل وعلا، ثم تحطم عبادتها، أو تضيع بعض أجورها، ولربما تصوم وليس لها من الصيام إلا الجوع والعطش، ومن المعاصي التي تكثر في رمضان: التلفاز؛ فبعض النساء -هداهن الله- تجلس من الصباح إلى المساء، أو من بعد الإفطار إلى طلوع الفجر، تقضي وقتها أمام التلفاز، ولا يخفى عليكن -أيتها الأخوات الكريمات- ما يكون من التلفاز في رمضان خصوصاً، وفي غير رمضان عموماً؛ من الأغاني والطرب والموسيقى، وبعض الأفلام والمسلسلات التي قد يدخلها بعض الأمور الخليعة أو الجنسية أو الأمور المحرمة؛ فهي تصوم عن المباح، ثم بعدها تقع في الحرام، فالطعام والشراب قد أحله الله وأباحه الله جل وعلا، تركت المباح لله جل وعلا، ولا تستطيع أن تترك الحرام لله جل وعلا! ومن النساء من تقضي ليلها ونهارها في استماع اللهو والطرب، وفي أشرطة الأغاني، والموسيقى، والمعازف، وإذا سئلت، قالت: أقضي النهار أو أقضي الليل بهذا، وهي بهذا الفعل تذهب كثيراً من أجرها إن حصلت على أجر الصيام، بل قال عليه الصلاة والسلام: (من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه) أيُّ حاجة وأي فائدة لك -يا أمة الله- أن تصومي عن الطعام وعن الشراب، وعن الجماع الذي هو مباحٌ، ولربما يكون واجباً بعض الأحيان، أي داعٍ لترك هذا كله ثم تقنعين في غيبة بعض النساء؟! تجلس بعض النساء في نهار رمضان، أو في ليالي رمضان تتكلم على فلان وعلى علان، وعلى هذا البيت، وعلى تلك الأسرة لقد صامت وأفطرت على لحوم البشر، قال الله جل وعلا: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:12]. وبعض النساء في نهار رمضان -ولا زلنا في المخالفة الثالثة- أو في ليالي رمضان، لا تحلو لها الأسواق ولا التجول في الأسواق إلا في ليالي رمضان، ولهذا نجد الأسواق في ليالي رمضان مكتظة بالناس، بل إن بعض الناس وبعض النساء لا تذهب إلى الأسواق لحاجة، إنما لأجل التجول، ولأجل التسكع في الأسواق، وفي الشوارع، وتقول لها: لماذا هذا؟ تقول: هي عادة تعودناها في ليالي رمضان أن نذهب إلى الأسواق. ولربما تقع في الحرام، ولربما تتطيب فتذهب إلى الأسواق، ولربما تتبرج بعض الشيء، ولربما تخالط الرجال، وتتميع في الكلام مع بعض الباعة، لقد ضيعت أجرها وصيامها لأجل هذه المحرمات، تركت أحب البقاع إلى الله، لتذهب إلى أبغض البقاع إلى الله، وهي تقول: عادة تعودناها في رمضان! بل بعض النساء -وللأسف- في ليالي رمضان تخرج متبرجة متعطرة، وسوف نأتي إلى هذا -إن شاء الله- لاحقاً.

عدم التسوك بعد الزوال

عدم التسوك بعد الزوال المخالفة الرابعة: بعض النساء تظن أن السواك بعد الزوال محرم في رمضان، وهذه مخالفات- إماء الله- بعضها يشترك فيها الرجال مع النساء، وبعضها يخص النساء دون الرجال بعض النساء تنكر على من تتسوك في رمضان بعد الزوال، أي: بعد الظهر، وتظن أن السواك بعد الظهر حرام، أما قبل الظهر فهو حلال، وتستدل بحديث: (استاكوا بالغداة ولا تستاكوا بالعشي) وهذا الحديث لا يثبت، وهو غير صحيح، فالسواك في نهار رمضان أوله وآخره مباح، بل مستحبٌ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (السواك مطهرة للفم، مرضاة للرب) وكان يستحب عليه الصلاة والسلام السواك عند كل وضوء، وعند كل صلاة، ولا دليل على تخصيص أول النهار دون آخره، ففي نهار رمضان السواك مستحب أوله وآخره، أما ما وجد هذه الأيام من السواك الذي هو بطعم النعناع، وبطعم الليمون، وغير ذلك؛ فإنه -كما أفتى بعض العلماء- لا يجوز أن يتسوك به في نهار رمضان، لأن فيه زيادة على السواك طعم، ولربما وصل إلى الجوف.

الأكل والشرب بعد طلوع الفجر

الأكل والشرب بعد طلوع الفجر المخالفة الخامسة: بعض النساء -هداهن الله- يؤذن الفجر فتأكل وتشرب، وتقولين لها: لماذا؟ فتقول: يجوز أن آكل وأشرب حتى يقول المؤذن: الصلاة خير من النوم. وبعضهن -والله- تأكل حتى الإقامة، وتقول: يجوز الأكل حتى تقام الصلاة! وهذا كله من الجهل بدين الله جل وعلا، فإذا كان المؤذن موثوقاً بأذانه، لا يتقدم بأذانه على طلوع الفجر فإنه يجب عليها أن تمسك عند قوله (الله أكبر) تمسك عن الطعام والشراب، إلاَّ لقمة بأيدينا، أو شراباً نتمه، أما أن نستمر في الأكل والشرب حتى يقول: الصلاة خير من النوم؛ فهذه مخالفة، قال عليه الصلاة والسلام: (فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم) أما إن علمنا مؤذناً يؤذن قبل دخول الوقت فلا عبرة بأذانه؛ لأنه الله جل وعلا يقول: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187].

الإفراط في الأكل

الإفراط في الأكل المخالفة السادسة: الإفراط في الأكل، وكأن شهر رمضان شهر أكلٍ وشرب، فهؤلاء النساء وأولئك الرجال يذهبون قبل رمضان لشراء الطعام وتخزين المأكولات والمشروبات فهذا للإفطار، وهذا بعد الإفطار بساعة، وهذا بعد الإفطار بساعتين، وهذا بعد القيام، وهذا قبل القيام، وهذا بين الأربع ركعاتٍ والتي تليها، وهذا قبل الفجر بساعتين، وهذا للسحور! وكأن الليل كله لأجل الطعام والشراب، بل بعض النساء من الظهر إلى أذان المغرب وهي في المطبخ ماذا تفعلين؟ تطبخ عشرين صنفاً، وإذا كان صنف واحد قد نقص في الطعام فيا ويلها ثم يا ويلها! فالزوج يزمجر ويغضب، ويقلب المائدة على وجهها؛ لأن هذا الصنف غير موجود، وكأن شهر رمضان شهر أكل وشرب وليس شهراً للصيام، بل وكم نسمع من النساء بل حتى من الرجال من يصيبه مرض التخمة في رمضان، بل مرض السكر، وتجد المستشفيات يزدحم عليها النساء والرجال في شهر رمضان، لماذا؟ لكثرة الطعام والشراب، بل يجلس بعض الناس من أذان المغرب إلى أذان العشاء على المائدة يأكلون؛ ليس من الجوع، ولا من العطش، لا. إلا لشيء واحد، لأجل الأكل فقط، بل يأكل طعام السحور وكأنه قادمٌ على مفازة وعلى معركة، وكأنه قادمٌ على مهلكة، يأكل في السحور أكلاً لا يتحمله بطنه؛ ولهذا بعضهم يأتي إلى الفجر ولا يتحمل الصلاة، أو يأتي إلى التراويح ولا يتحمل الصلاة؛ لأنه أكل أكلاً لا يستطيع أن يأكله قبل رمضان في وجبتين وثلاث، أكلها في رمضان في وجبة واحدة. أمة الله: شهر رمضان شهر صوم، وشهر جوعٍ لله جل وعلا، نحس في هذا الشهر أننا جعنا لله جل وعلا، أما أن نأكل سحوراً ولا نجوع به حتى الإفطار؛ فهذا لا يصح، وعلينا أن نأكل كما قال عليه الصلاة والسلام: (فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه) أما هذه فقد جعلت الثلاثة الأثلاث كلها للطعام والشراب، ولا شيء للنفس أبداً، لا تستطيع أن تتنفس بعد هذا، ثم إن قامت لصلاة التراويح أو القيام كأنها تقول: أرحنا منها يا إمام، وعجل علينا في الصلاة؛ فإنني لا أستطيع أن أتحمل! ثم على المرأة أن تعلم أنه من شبع في الدنيا جاع يوم القيامة.

الفتور في العبادة

الفتور في العبادة المخالفة السابعة: التحمس للعبادة أول الشهر، ثم لا يزال الحماس ينقص شيئاً فشيئاً، نرى مصليات النساء أول رمضان ممتلئة، ثم ينقص صفاً، ثم صفين، ثم يأتي آخر رمضان ولا نجد إلا نصف المصليات، أين هن؟ إن الأمر حماس فقط، يوماً أو يومين، والله جل وعلا يقول: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] بل أنت مطالبة -يا أمة الله- بالصيام والقيام إلى أن تموتي، فإذا ذهب رمضان هناك صيام نفل، وصيام تطوع، وهناك قيام طوال ليالي السنة، وليست المرأة معذورة أن تترك القيام من رمضان إلى رمضان القادم، هذا يدل على ضعف إيمانها، وقلة حرصها على دين الله جل وعلا، وليس الأمر بواجب لكنه أمرٌ مستحب، ولا يغفل عنه إلا غافل؛ ولهذا نجد بعض النساء تتحمل أول الأمر يومين، وثالث يوم تقرأ القرآن ما شاء الله، وتقوم الليل، ثم تبدأ تضعف، فتصلي ركعتين، أو تحرص على الوتر والدعاء، ثم تأتي إلى القيام ليلة وتترك ليالي، ثم لا تذكر القيام إلا آخر ليلة أو ليلة القدر، حتى يأتي رمضان القادم، والله جل وعلا يصف شهر رمضان بقوله: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:184] هي أيام تأتي وتذهب مسرعة، بل لعله يأتي رجل أو تأتي امرأة تذكرك -يا أمة الله- بآخر ليلة، تذكرك بوداع رمضان، وماذا فعلنا في ليالي رمضان، وماذا فعلنا لله جل وعلا، وهل قبلنا الله جل وعلا، وهل أعتقنا من النار أياماً معدودات، تأتي وتذهب مسرعة، بل -والله يا أمة الله- ذهب رمضان السابق، وأتى رمضان القادم وما أحسسنا به، أحد عشر شهراً ذهبت مسرعة وما أحسسنا بذهابها؛ لأن العمر يذهب مسرعاً، فإياك ثم إياك والتكاسل عن العبادة والطاعة!

المشقة على النفس بالصيام

المشقة على النفس بالصيام المخالفة الثامنة: بعض النساء تشق على نفسها وهي مريضة لا تتحمل الصيام، لكنها تقول: كيف أترك الصيام ونحن في رمضان؟ تقوم فتهلك نفسها، والله جل وعلا يقول: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195] وقال عليه الصلاة والسلام: (لا ضرر ولا ضرار). نقول: يا أمة الله! إذا كان الصيام في نهار رمضان يضرك ضرراً بحيث ربما يقتلك أو يهلكك، أو يضرك ضرراً بالغاً؛ فإنه يجب عليك أن تفطري، والدليل الآية التي ذكرناها، والحديث السابق، ولقوله صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار) فلا يجوز لك أن تضري نفسك بالصيام، وكم من الناس علمنا أنه مات في رمضان لأنه صام، وقد نهاه الطبيب، وقد منعه الصالحون المخلصون، ولكنه لحرصه على العبادة، ونسأل الله أن يأجره، وأن يحفظ له عمله، وأن يحسن خاتمته، ولكن هناك أمور لا بد أن نتزن فيها، فإذا كان الصيام يضر فإنه لا يجوز أن نصوم.

ترك الصيام بعد البلوغ

ترك الصيام بعد البلوغ التاسعة من المخالفات: بعض النساء تبلغ وتصل إلى مرحلة البلوغ، سواءً بحيض، أو نزول الماء، أو نبت بعض الشعر في الأماكن المعلومة، أو تبلغ خمس عشرة سنة، ولكن تستحي أن تخبر أهلها، وهذه من عادة النساء؛ فيأتي بعض الآباء ويجبرون البنات الصغيرات، التي ربما عمرها عشر سنوات وقد بلغت، يجبرها على الإفطار، ويمنعها من الصيام، وهي تستحي أن تقول لوالدها: إنني قد بلغت، فهذه يجب عليها أن تخبر أمها، أو أختها، أو تأتي الأم فتتفقدها، أو تخبر البنت الصغيرة وتعلمها على علامات البلوغ، سواءً نزول الدم، أو الماء، أو نبت الشعر، أو بلوغ خمس عشرة سنة، فعلينا أن نعلم البنات الصغيرات، بل -يا أمة الله- يجب علينا أن نعود تلك التي لم تبلغ الحلم على الصيام، بل حتى الأولاد الذين بلغوا عشر سنوات أو أقل أو أكثر نعودهم على الصيام؛ لأنه من شب على شيء شاب عليه، وهذا هدي سلفنا الصالح.

عدم معرفة حكم من أصبح جنبا في رمضان

عدم معرفة حكم من أصبح جنباً في رمضان العاشرة من المخالفات: أن بعض النساء يصيبها الحرج إذا أصبحت جنباً في رمضان ولم تغتسل، وتقول: لا يجوز لي أن أصوم وأتم الصوم. تقول: عائشة وأم سلمة: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصبح جنباً ثم يغتسل ويصوم) فإذا نمت على جنابة، وأذن الفجر ولا زلت على جنابة، جنابة سابقة قبل أذان الفجر؛ فيجوز لك أن تغتسلي وتكملي الصوم.

التبكير بالسحور

التبكير بالسحور الحادية عشرة: تبكير السحور، فإن بعض النساء تبكر بالسحور قبل الفجر بساعة، أو بساعتين، فمثلاً تتسحر الساعة الثالثة ويؤذن الفجر الخامسة والربع، ثم بعد السحور ينام أهل البيت، أو تنام المرأة أو الأب أو الأولاد ينامون، ثم لا يستيقظون لصلاة الفجر، والسنة كما قال عليه الصلاة والسلام: (لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر وأخروا السحور) علق الخير على أمرين، الأمر الأول: تعجيل الفطور وسوف نأتيه، الأمر الثاني: تأخير السحور.

تأخير الإفطار

تأخير الإفطار الثانية عشر من المخالفات: تأخير الإفطار بعض النساء لأنها مشغولة بالطبخ، أو بتجهيز المائدة، أو بالدعاء، أو بالاستعداد للصلاة، تؤخر الفطور إلى ما بعد عشر دقائق أو ربع ساعة، والسنة كما ذكرنا: (لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطور وأخروا السحور).

عدم معرفة حكم من أكل أو شرب ناسيا

عدم معرفة حكم من أكل أو شرب ناسياً الثالثة عشرة: أن بعض النساء إذا أكلت أو شربت ناسية تظن أنها قد بطل صومها، أو لا بد عليها أن تقضي هذا اليوم، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول لمن أكل أو شرب ناسياً: (فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه) ونقول هذا في جميع المفطرات، فمن أكل، أو شرب، أو جامع -وهذا أمر قليل- ناسياً فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه.

عدم معرفة حكم الجماع في ليالي رمضان

عدم معرفة حكم الجماع في ليالي رمضان الرابعة عشرة: بعض النساء تحرم على نفسها الجماع في ليالي رمضان، وتظن أن الجماع طوال الشهر حرام، ولا يجوز أن تجامع زوجها في جميع رمضان، وهذا خطأ، وإذا كانت تعتقد أن هذا دين فلربما تقع في البدعة، لأن الله جل وعلا يقول: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة:187] أحل لكم في الليل، أي: من أذان المغرب إلى أذان الفجر يحل الجماع، فإذا كانت المرأة تجامع زوجها في ليلة الصيام وأذن الفجر فيجب عليه وعليها أن ينزعا، وأن يكفا عن الجماع، ولو أذن الفجر ولا زالا على جنابة فالصوم صحيح، فعلى المؤمن أن يكف عن الجماع قبل أذان الفجر، فإذا أذن نزعا، وإذا أذن واستمرا في الجماع فقد بطل صومهما، وعليهما القضاء والكفارة.

المبالغة في المضمضة والاستنشاق

المبالغة في المضمضة والاستنشاق المخالفة الخامسة عشرة: بعض النساء في نهار رمضان تبالغ في المضمضة والاستنشاق في الوضوء أو في غيره، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً) أي: احترز أثناء الصوم في المضمضة والاستنشاق أن تبالغ، فلربما يصل بعض الماء إلى الحلقوم وإلى الجوف، فتكون قد ارتكبت وأتيت مفطراً من المفطرات.

ظن بعض النساء أنها تفطر بالاحتلام

ظن بعض النساء أنها تفطر بالاحتلام السادسة عشرة من المخالفات: أن بعض النساء تظن أنها أفطرت إذا احتلمت وهي نائمة، وهذا الأمر يقع للرجال وكذا للنساء، وبعض الناس يظن أن هذا يقع للرجال فقط، بل أيضاً يقع للنساء، فإذا احتلمت أو احتلم الرجل أثناء النهار أثناء النوم، واستيقظ أو استيقظت ووجد بعض الماء فالصوم صحيح، ولا حرج، وتغتسل وتتم صومها.

ظن بعض النساء أن القيء يفطر مطلقا

ظن بعض النساء أن القيء يفطر مطلقاً السابعة عشرة: ظن بعض النساء أنه إذا نزل القيء من غير عمد أن صومها قد بطل، وأن عليها القضاء، وكم سئلنا من بعض الناس يظن أنه إذا نزل القيء رغماً عنه أن صومه قد بطل، وهذا خطأ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ذرعه القيء فلا قضاء عليه، ومن استقاء فليصم) فمن تعمدت أن تخرج ما في بطنها؛ أن تستقيء، سواء بإصبعها، أو برائحة، أو بعود، أو بأي شيء تعمدت أن تخرج ما في بطنها؛ فإن عليها القضاء وقد بطل صومها، أما من خرج ما في بطنها رغماً عنها، فإن صومها صحيح وتتم صومها، ولا شيء عليها.

خروج بعض النساء إلى المسجد وهن متزينات متعطرات

خروج بعض النساء إلى المسجد وهن متزينات متعطرات الثامنة عشرة: بعض النساء -هداهن الله- تخرج لصلاة التراويح، تريد أداء النوافل، وتريد أداء طاعة، فترتكب المحظور لأجل هذه النافلة، وأي محظور نقصد؟ تخرج متطيبة لأداء صلاة التراويح، أو متبخرة، أو متبرجة، والنبي صلى الله عليه وسلم قال عن خروجهن للصلاة: (وليخرجن تفلات) أي: تخرج بملابس رثة، غير متزينة، ولا متطيبة ولا متبرجة، بل قال: (من أصابت بخوراً فلا تشهد معنا العشاء) أي: لا يجوز أن تذهب وتصلي وهي قد أصابت بخوراً، أي: طيباً، هذا لصلاة الفرض فكيف بصلاة النافلة! بل -يا أمة الله- كم وكم من النساء من تخرج لصلاة التراويح وكأنها تخرج إلى عرس، وكأنها تخرج إلى حفلة، فتمر في بعض الطرق، ومن يمر في هذا الطريق بعدها بدقائق يشم رائحتها، وكأنها تقول للرجال: هيت لكم! بل قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: (فهي كذا وكذا) أي: إن قصدت أن يشم الرجال رائحتها فهي كذا وكذا، وفي بعض الروايات (زانية) أجلكنَّ الله، وعافاكنَّ الله. إذاً: لا يجوز -يا إماء الله- إذا أردتن أن تخرجن لصلاة التراويح أن تخرجن بطيب، ولا برائحة، ولا متبرجات، ولا متزينات، بل تخرجن تفلات، بملابس سوداء على الأقل، ولا نجبر بهذا اللون، ولكن هذا اللون على الأقل حتى لا يلفت الأنظار.

الإتيان بالأولاد إلى المسجد

الإتيان بالأولاد إلى المسجد التاسعة عشرة: بعض النساء -هداهن الله- تصطحب معها لصلاة التراويح جميع الأولاد، الصغار والكبار، فيصبح المسجد من إزعاج الأطفال كأنه حضانة، فلا يستطيع الإمام أن يقرأ، ولا المصلون أن يخشعوا، ولا النساء أن يصلين؛ لأن فلانة قد جاءت بأولادها جميعاً وبناتها، رمتهم بالمصلى لتصلي، أرادت أن تفعل خيراً لكنها قد منعت الخير عن كثير من الناس ولا نحرم إتيان الأولاد إلى المسجد ولا إلى المصلى، فقد كان الصحابة يفعلون هذا، وقد كان عليه الصلاة والسلام يخفف الصلاة لأجل صياح بعض الأطفال، ولكن الأمر فيه قدر وفيه اتزان، أما أن نأتي بالأولاد جميعاً، ونرميهم بالمسجد، يبكون بكاءً شديداً، ولربما يمرض من هذا البكاء، ولربما يضيع في بعض المساجد، ولربما يتنازعون ويتشاجرون في المساجد؛ فلا يستطيع أحد أن يصلي نقول: يا إماء الله! جلوسكِ في بيتكِ وصلاتكِ فيه إذا كانت هذه حالك أفضل من إتيان المصلى وإزعاج الناس.

رفع الصوت في المسجد

رفع الصوت في المسجد المخالفة العشرون: الحديث بصوتٍ مرتفعٍ في المسجد فكم من النساء من تأتي لصلاة التراويح، وتتكلم قبل الصلاة وبعدها، مع جارتها ومع زميلات، أو تقرأ القرآن قبل الصلاة، أو تتحدث مع فلانة، أو تأمر بمعروف، أو تنهى عن منكر، والرجال في المسجد يستمعون إليها. أمة الله: إذا أخطأ الرجل في الصلاة فلا يجوز لك أن تتكلمي، الرجل يقول: سبحان الله، والمرأة عليها أن تصفق وتضرب بيدها، لماذا؟ لأن الصوت ربما يفتن بعض الناس، ولربما يلهي بعض الناس ويشغلهم، والله جل وعلا يقول لنساء النبي: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32] بل إن بعض الرجال يستحي في المسجد أن يرفع صوته، وبعض النساء لا تستحي أن ترفع صوتها! فإذا دخلت المسجد والمصلى فعليك بالسكينة والوقار، ولا ترفعي صوتك حتى لا يسمعك الرجال.

ترك الأولاد في الشوارع والأسواق

ترك الأولاد في الشوارع والأسواق المخالفة الحادية والعشرون: ترك الأولاد والبنات في الشوارع والأسواق، وتأتي الأم لصلاة التراويح أين أولادها؟ في الشوارع أين بناتها؟ مع السائق في الأسواق أين الأولاد؟ أمام التلفاز، أتت لتأتي بنافلة وتركت واجباً وهو تربية الأولاد. أمة الله: لا بد أن تراعي تربية الأولاد، فغير صحيح أن تأتي المرأة الساعة والساعتين في بيت الله تصلي ولا تدري أين أولادها، على الأقل اعلمي أين يجلسون، ومع من يذهبون، وفي أي مجلسٍ يقضون أوقاتهم، وعلى الأقل تأتي بالبنات الكبيرات ليصلين معها، وتحث الأولاد على أن يذهبوا للصلاة معها، أما أن تترك الأولاد والبنات في الشوارع وفي الأسواق فلا يجوز، بل إن بعض الناس يذهب إلى بيت الله الحرام ليعتكف ويترك أولاده هي تصلي في الحرم مع زوجها ولكن أين الأولاد؟ في الشوارع، وفي الأسواق، بل إن بعضهم يتسكع ويلاحق النساء حتى في بيت الله الحرام!! أتت لتأتي بنافلة وتركت أمراً واجباً وهو تربية الأولاد ونحن لا نمنع من هذه النافلة، ولا نمنع من صلاة التراويح ولا القيام، ولكن احرصي على الأولاد وأنت تأتين إلى التراويح والقيام.

الجهل بأحكام الصلاة

الجهل بأحكام الصلاة المخالفة الثانية والعشرون: بعض النساء -وهذا كثير- تجهل أحكام الصلاة، فتأتي -مثلاً- لصلاة العشاء وقد فاتتها ركعة أو ركعتان، فيسلم الإمام وتسلم معه لا بد أن تعلمي -يا أمة الله- أنك دخلتِ في الصلاة وقد فاتتك ركعة أو ركعتان أن تأتي بهذه الركعة أو الركعتين التي فاتتك، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا) وهذا كثيرٌ في صف النساء، تأتي وتترك ركعة مع الإمام في صلاة العشاء وتسلم معه، وتظن أنها صلت العشاء! ما صلت، وما قبل منها هذه الصلاة. وكيف تعلمين أنك قد أدركت هذه الركعة؟ تدركينها بالركوع، فإذا ركعت والإمام راكع لم يقل: سمع الله لمن حمده، فقد أدركت الركعة، وإذا أدركتِ الركعتين فائتي بعد الصلاة بركعتين، وإذا أدركتِ ركعة فائتي بعد الصلاة بثلاث ركعات.

عدم معرفة أحكام الحيض

عدم معرفة أحكام الحيض المخالفة الثالثة والعشرون: تظن بعض النساء أنها إذا طهرت قبل الفجر ولم تستطع أن تغتسل وأذن الفجر فإنها لا تتم صومها، نوضح الأمر: بعض النساء أتتها الدورة وما طهرت إلا قبل الفجر بدقائق، الآن ما تستطيع أن تغتسل، وأذن الفجر لكنها ما اغتسلت، فتقول في نفسها: لا أستطيع أن أصوم. لم لا تستطيعين أن تصومي؟ تقول: لأني ما اغتسلت قبل أذان الفجر. نقول لك يا أمة الله: الذي يحرم الصوم ويمنع الصوم هو الحيض وليس الغسل، فإذا طهرت قبل أذان الفجر فإنه يجب عليك أن تصومي، حتى لو اغتسلت بعد أذان الفجر، يجب عليك أن تصومي وتنوي الصيام حتى لو لم تغتسلي إلا بعد أذان الفجر.

ظن بعض النساء أنه لا يجوز تذوق الطعام في نهار رمضان

ظن بعض النساء أنه لا يجوز تذوق الطعام في نهار رمضان المخالفة الرابعة والعشرون: تظن بعض النساء أنه لا يجوز لها أن تذوق الطعام، وتتحرج من هذا الفعل؛ تتحرج من أن تذوق الطعام في نهار رمضان نقول: هذا الأمر إذا كنتِ بغير حاجة إليه فلا تفعليه، أما إذا كنت بحاجة إليه -وهذا كثيرٌ في النساء اللواتي يطبخن الطعام، فهن بحاجة إلى أن تذوق الطعام، بطرف اللسان- فإنه لا حرج في هذا، وقد أفتى بجوازه ابن عباس، وقال الإمام أحمد: لا بأس بهذا لكن تركه أفضل. فإن ذاقت الطعام ثم لفظت ما ذاقته وأخرجته من فمها فإنه لا بأس بهذا إن شاء الله.

تحرج بعض النساء من وضع الحناء

تحرج بعض النساء من وضع الحناء الخامسة والعشرون: كثير من النساء تتحرج من وضع الحناء، وتظن أن الحناء يبطل الصيام، وأنه من المفطرات -ولا دخل للحناء في الصيام، فإنها إذا وضعته أثناء النهار- أو أثناء الليل فلا حرج عليها إن شاء الله.

الخروج إلى المسجد مع السائق

الخروج إلى المسجد مع السائق السادسة والعشرون: بعض النساء تذهب لصلاة التراويح، أو لحضور بعض المحاضرات، وهذا خير، ولا بأس به، وتؤجر على هذا إن شاء الله، وهي حريصة على الأجر، لكنها -للأسف- تذهب مع السائق لوحدها، فتريد أن تأتي إلى الخير فترتكب الشر، تريد أن تطيع الله فتعصي الله جل وعلا ومن أباح لك أن تختلي بسائقك لوحدك في سيارة؟ وبعض الأماكن بعيدة، فتذهب مع سائقٍ لوحدها أقل القليل -يا أمة الله- تأتين مع محرم، أو مع مجموعة من النساء، وإن لم تستطيعي فصلاتك في بيتك خيرٌ لك من ذهابك مع سائقٍ لوحدك إلى صلاة التراويح أو لحضور المحاضرة.

أخطاء في صرف الزكاة

أخطاء في صرف الزكاة السابعة والعشرون وهي الأخيرة: أن بعض النساء -ولعل هذا الأمر لا دخل له في الصيام، ولكن لأن كثيراً من النساء تؤدي زكاة مالها في رمضان؛ فإننا نتكلم عن الزكاة باختصار- بعض النساء تعطي الزكاة من لا يستحق، وتقول: هذه تعودنا أن أبي وجدي وجدتي كانوا يعطون الزكاة لهذه الأسرة، فنحن تعودنا أن نعطيهم ولو كانوا أغنياء، وهذا لا يجوز، والله قد حدد الزكاة لثمانية أصناف من الناس، ولا يجوز أن نعطي غيرهم، فإذا أغناهم الله فلا يجوز لنا أن نعطيهم شيئاً من الزكاة، أما الصدقات فأنتِ حرة فيها، وبعض النساء تعطي الزكاة لمن لا يصلي، وهذا لا يجوز، بل قال شيخ الإسلام: ولا يُعطى تارك الصلاة الزكاة ولو كان من أهلها -حتى ولو كان فقيراً- بل يشهر به حتى يعرف أي: حتى يترك هذا الأمر ويصلي ويصوم، ثم يعطى من الزكاة. وبعض النساء تظن أن الذهب الملبوس لا يجب أن تخرج زكاته، وهذا فيه خلاف عند أهل العلم، لكن الصحيح -والله أعلم- أنه يجب عليها أن تخرج زكاة الذهب ولو كان من الذهب الملبوس، لقوله عليه الصلاة والسلام لما رأى بنتاً تلبس الذهب قال لأمها: (أتؤدين زكاة هذا؟ قالت: لا يا رسول الله! قال: أيسرك أن يسورك الله بسوارين من نار يوم القيامة؟! قالت: لا. يا رسول الله! فخلعتهما ورمتهما وقالت: هما لله ورسوله). أمة الله: هذه بعض المخالفات، وهي كثيرة، ولعلك قد سمعت بعضها، لكن نحثك -يا أمة الله- قبل قدوم رمضان أن تستمعي لبعض الأشرطة التي ستدلك على سنن الصيام، وتقرئي بعض الكتب التي تعلمك شروط وجوب الصيام، وعلى أركان الصيام، وعلى مستحبات الصيام، وعلى المفطرات في نهار رمضان، وعلى مبطلات الصيام، فلا بد أن نتعلم قبل أن نقع في المحظورات، وقبل أن نفقد صومنا. هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

ختم القرآن في أقل من ثلاثة أيام

ختم القرآن في أقل من ثلاثة أيام Q هل يجوز ختم القرآن في رمضان كل يوم مرة، حيث أنه لا يعقل الإنسان في أقل من ثلاث؟ A السنة ألاَّ تقرأه في أقل من ثلاث، لكن قال بعض العلماء: إذا كان الزمان شريفاً مثل رمضان فإنه يقرأ في أقل من ثلاث، بل كان الإمام الشافعي وغيره يختمه في كل يوم مرتين، فيجوز لأجل هذا الشهر الشريف أن نختمه في أقل من ثلاثة أيام، لكن أنبه على أمر: بعض النساء تقرأ القرآن وأهم شيء عندها أن تختم، وأن تصل إلى هذا المكان الذي حددته لنفسها، فلا تعقل، ولا تتدبر، ولا تخشع، ولا تتفكر في هذه الآيات التي تقرؤها، فهذه لا تستفيد من هذه القراءة، والله جل وعلا يقول: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [محمد:24] العبرة في القراءة هي التدبر.

الإسراف في الطعام للضيوف

الإسراف في الطعام للضيوف Q إذا جاء ضيوف وأراد منهم أصنافاً من الطعام، فهل يجوز أن أضيفه كما يريد، أم أقتصر على وجبة واحدة؟ A الضيف يكرم، لكن نقول: لا بد من الاقتصاد في الطعام، لكن إذا كان هناك ضيف فلا نبالغ، نكرمه كما يكرمه الناس، كما هي عادة الناس، ولا نبالغ في رمضان عن غيره.

حكم صلاة المرأة في المسجد

حكم صلاة المرأة في المسجد Q أيهما أفضل للمرأة: أن تصلي في بيتها صلاة التراويح والقيام أم في المسجد؟ A إذا كانت تستطيع أن تصلي في بيتها بقراءة طويلة، وترتل وتخشع فالأفضل في بيتها، لكن إذا كانت لا تستطيع ولا تحفظ، ولا يصلي أحدٌ بها، فلا بأس في ذهابها إلى المسجد، فإن هذا فيه -إن شاء الله- أجور، وفيه قراءة للقرآن، فلعلها ما تستطيع أن تقرأ بنفسها أو يُقرأ لها.

وقت إخراج الزكاة

وقت إخراج الزكاة Q أود أن أخرج الزكاة الآن، فهل يجوز أم بعد رمضان؟ A الزكاة نوعان: زكاة مال، وزكاة فطر، وزكاة المال أربعة أصناف، أما زكاة الفطر فلا يجوز إلا في ليلة العيد، ويجوز تقديمها قبل يوم أو يومين، أما زكاة المال فإنها تكون في كل سنة مرة، فالذهب والفضة والأموال النقدية الآن، وعروض والتجارة، أما الزروع فوقت الحصاد، وما يخرج من الأرض فكذلك في وقت الحصاد، أما زكاة الأموال ففي كل حولٍ مرة، والحول المقصود الحول القمري، وليس الحول الشمسي، فنجعل لنا يوماً عربياً كل سنة ونخرج فيه الزكاة، ويجوز تقديمها على وقتها للحاجة.

حكم زيارة النساء للمقابر

حكم زيارة النساء للمقابر Q هل يجوز للمرأة زيارة القبور مع عدم الإكثار وعدم فعل شيء من المعاصي؟ A اختلف أهل العلم في زيارة المرأة للقبور، والراجح والأحوط -والله أعلم- أن تجتنب المرأة زيارة المقابر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن زوارات القبور، والزوارات يحتمل أنهن المكثرات من الزيارة، ويحتمل التي تزور مرة أو مرتين، لكن الأحوط للمرأة ألا تزور المقابر.

حكم قضاء الصوم على من أفطرت وقد بلغت

حكم قضاء الصوم على من أفطرت وقد بلغت Q عندما بلغت لم أصم لأني لم أخبر أحداً لأني كنت صغيرة، فهل عليَّ أن أصوم ما أفطرت؟ A إذا كنتِ تعلمين وكم يوماً أفطرتِ وأنتِ كنت جاهلة فعليك أن تصومي وتقضي هذه الأيام، ولعل الله يعذرك بهذا. وننبه مرة أخرى أن على الصغيرات إذا بلغت، ورأت علامات البلوغ؛ أنه يجب عليها أن تصوم.

تعويد الأولاد على الصيام

تعويد الأولاد على الصيام Q هل يجوز أن أعود ابنتي على الصيام وعمرها أحد عشر عاماً، وكذلك ابني وعمره تسعة أعوام؟ A نعم. إذا كانت لم تبلغ وكان لم يبلغ ليس الصيام بواجب عليهما، لكن نعودهما، ونرغبهما، ولو كان هناك شيء من الإجبار لا بأس به، إذا كان لا يشق عليهم الصيام تجبرهم شيئاً ما، ونحبب إليهم الصيام قبل الإجبار، فالتحبيب والترغيب أفضل من الإجبار، وقد كان السلف والصحابة يلهون الأولاد باللعب وبغيرها حتى لا يجوعوا وحتى ينسوا الطعام.

حكم الصلاة والصيام للأعمى والأصم

حكم الصلاة والصيام للأعمى والأصم Q ولد عمره ست عشرة سنة، وهو أعمى وأصم، ولكنه فطن ويفهم ولا يتكلم، ما حكم الصيام والصلاة بالنسبة له؟ وتخرج له الزكاة؟ A نعم. يؤمر بالصيام إذا كان عنده عقل، فإن الصوم في رمضان واجب على كل مسلم بالغ عاقل قادر مقيم خال من الموانع، فإذا كان عاقلاً وهو مسلم وبالغ، وكان خالياً من الموانع، مثل: الحائض والنفساء، ومقيم -غير مسافر- فإن الصوم يجب عليه ولو كان أعمى، ولو كان أصم.

حكم بلع البلغم للصائم

حكم بلع البلغم للصائم Q أشعر ببلغم كثير، هل يجوز بلع البلغم وأنا صائمة؟ A البلغم إذا لم يخرج إلى الفم فإنه يجوز ابتلاعه، أما إذا خرج إلى الفم فالأحوط إخراجه.

حكم البخور والعطر في نهار رمضان

حكم البخور والعطر في نهار رمضان Q هل البخور والعطر من المفطرات أم لا؟ A الأولى تركه، وقال بعض العلماء: إن استنشاق البخور مباشرة يفطر، لأنه جرم ومادة، ولو لم يكن جرماً لما رأيناه بالأعين، ولهذا فاجتنابه أولى، بل ربما يكون الواجب اجتنابه مباشرة، أما العطر إذا كانت رائحتة غير نافذة، ولا تدخل الفم والحلقوم أو الجوف؛ رائحة في الغرفة، أو بخور قد بخر في مكان وذهب الجرم وبقيت الرائحة فقط؛ فإنه لا بأس بهذا.

حكم ابتلاع الدم الخارج من الأسنان حال التسوك

حكم ابتلاع الدم الخارج من الأسنان حال التسوك Q التسوك -أحياناً- يخرج من الأسنان دماً فما الحكم؟ A نحاول ألا نتسوك بشدة وبغلظة حتى لا يخرج هذا الدم، فإذا خرج الدم فنحاول ألاَّ نبتلعه، فإن كان رغماً عنا فترك التسوك أفضل، وإلا لا بأس بهذا إن شاء الله.

الصوم عن الميت

الصوم عن الميت Q توفي والدي منذ ثلاث سنوات، وكان -رحمه الله- لا يصوم، وذلك لأنه لا يستطيع الصبر عن شرب السجائر، ونحن حتى هذا اليوم لا نعلم هل يجوز لنا الصوم عنه، وما العمل جزاك الله كل خير؟ A إذا كان يفطر متعمداً ولا عذر له فلا يُصام عنه، ولكن يُدعى له بالمغفرة إذا كان من المصلين، ويُتصدق عنه، ويُستغفر له، لأنه لا عذر له كما قال العلماء وهو الصحيح: من أفطر عمداً متعمداً في نهار رمضان ولا عذر له، فإنه لا يجزئه ولو صام الدهر كله.

صوم النذر

صوم النذر Q نذرت أنه إذا خرج زوجي من الأسر أن أصوم شهرين، ولم أصم إلا عشرة أيام لظروف خاصة، وأخرجت نقوداً عن الأيام التي لم أصمها، فهل هذا يصح لي؟ A إذا كنت تستطيعين الصيام شهرين فيجب عليك صيام شهرين، كما قال الله عز وجل: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان:7] هذا نذر يجب أن تفعليه، وهذا النذر معلق، فإذا حصل الأمر وخرج زوجك من الأسر يجب عليك أن تصومي، وأنت التي أوجبت على نفسك هذا الأمر، وهذا النذر ثقيل، كان الأفضل لك ألا تنذري هذا النذر حتى لا تقعي في مثل هذا الحرج، فإن لم تستطيعي صيام شهرين فإن عليك كفارة اليمين، وكفارة اليمين معلومة؛ إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة، فمن لم يجد وما استطاع أن يطعم عشرة مساكين، أو أن يعتق رقبة فإنه يصوم ثلاثة أيام.

حكم من أكل أو شرب ناسيا في صوم النافلة

حكم من أكل أو شرب ناسياً في صوم النافلة Q صمت يوم نافلة، ونسيت فأكلت حتى شبعت من الأكل وشرب الماء، فتذكرت أني صائمة، علماً بأنني كانت لي نية في الصيام وتسحرت، فهل أكمل صيامي؟ A نعم؛ لأن الله عز وجل يكون قد أطعمك وسقاك، وتكملين الصيام ولا حرج إن شاء الله. هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبشر الصابرين

وبشر الصابرين إن العبد المؤمن يبتلى بالمصائب والمحن؛ فتكون إما سبباً في تكفير سيئاته وذنوبه أو سبباً في ارتفاع درجته في الجنة، أو أنه ينال بصبره على البلاء محبة الله ورضاه عنه، ولذلك إذا أراد المسلم أن يكون من الصابرين والحامدين الله فلينظر إلى الأنبياء وكيف كانوا يبتلون، ويقتدي بالصحابة والصالحين، فإن هذا كله يذهب عن قلبه الألم والحزن، ويبعث مكانه الرضا بأقدار الله، والصبر والثبات على دين الله.

الصبر عند أول صدمة

الصبر عند أول صدمة الحمد لله رب العالمين. والصلاة والسلام على سيد المرسلين وخاتم النبيين، وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فهذا الحديث أوجهه إلى كل مبتلى، إلى كل مَن أصيب بمصيبة، ونزلت عليه بلية، إلى كل مهمومٍ مغموم، إلى كل مكروبٍ منكوب، إلى كل مَن تعرضت له كارثة، وسَمِع بفاجعة، أوجه هذا الحديث: (وبشر الصابرين). وهل منا إلا مكروبٌ، أو مهمومٌ، أو مغموم! التفت إلى مَن حولك مِن الناس جميعاً؛ هل تجد فيهم إلا منكوباً، أو مكروباً، أو مهموماً، أو مغموماً؛ إما بفقد حبيب، أو بحصول مكروه، أو بنزول مرض، أو بسماع فاجعة، أو بغيرها من البلايا، أوجه هذا الحديث إلى كل مَن أوذي، إلى كل مَن ظُلم، إلى كل من قُهر، إلى كل من أصيب بمصيبة، أقول لهم: قال الله جل وعلا: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:155 - 156] (إنما الصبر عند الصدمة الأولى) أي: أول ما تأتيه المصيبة؛ سَمِع بوفاة القريب، أو بفقد الحبيب، أخبره الطبيب بالمرض، يا لها من فاجعة! سوف تموت ولا بد، إن المرض قد استشرى في الجسد، سمع بالخبر، فأتته المصيبة، ماذا يقول؟ {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:156]. إلى هؤلاء جميعاً أوجه حديثي، وأرسل هذه الكلمات؛ من الروح إلى الروح، ومن القلب إلى القلب، أقول لكل واحد منهم: عظَّم الله أجرك، ورفع درجتك، وجبر كسرك، واسمع! فإنها الدنيا، ألم تعرفها إلى الآن؟! ألم تدر أنها كما قيل: طبعت على كدرٍ وأنت تريدها صفواً من الأقذار والأكدار إنها الدنيا! ابن عباس كان في سفر، فجاءه خبر مفزع، ما الخبر؟ مات ابنه، ابن ابن عباس مات، ويأتيه الخبر وهو بعيد عنه، وهو ليس بجنبه، هو في السفر، ماذا فعل ابن عباس؟ هل شق جيباً؟ هل لطم خداً؟ هل نفش شعراً؟ هل صاح بأعلى صوته؟ تنحى عن الطريق، ثم كبر، ثم صلى ركعتين، ثم قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، فعلنا كما أمرنا ربنا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:153] صَبَر وصَلَّى ركعتين، ثم قال: إنا لله وإنا إليه راجعون. هل عندما تأتيك المصيبة تكون هذه حالك؟! أحد الشعراء يسمى: أبا الحسن التهامي، مات ابنه الصغير، والابن ليس كغيره، موت الابن يعرفه مَن مات له ابن، يعرف كيف الابن غالٍ! قطعة من الكبد قد ذهبت، يتمنى الأب أن لو مات ولم يرَ وفاة ابنه، عندما مات ابنه أنشد شعراً فقال: حكم المنية في البرية جار ما هذه الدنيا بدار قرار بينا يرى الإنسان فيها مخبراً حتى يرى خبراً من الأخبار جاورت أعدائي وجاور ربه شتان بين جواره وجواري وما هي إلا فترة من الزمن فيموت الشاعر، فيُرى في المنام، فيقال له: ماذا صنع بك ربك؟ قال: أدخلني الجنة، قالوا: وبم أدخلك الجنة؟ قال: بهذا البيت: جاورت أعدائي وجاور ربه شتان بين جواره وجواري لو كل من مات له حبيب، أو صاحب، أو ابن، أو قريب فكر بهذا، فنحن الآن في سجن، فإذا مات كأنه أطلق من هذا السجن، وكأنه خرج منها، أليست الدنيا سجن المؤمن؟ فكر! فكر يا من مات قريبه! يا من مات حبيبه! يا من مات صاحبه! أليست الدنيا سجن المؤمن؟ فإذا مات خرج من هذا السجن للحديث الصحيح: (ما لعبدي المؤمن جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلاَّ الجنة) لو احتسب هذا الحبيب، واحتسب ذلك القريب. وفي الحديث الآخر: (إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ قالوا: نعم. وهو أعلم، قال: ماذا قال؟ وهو أعلم، يقولون: يا رب حمدك واسترجع -مات ابنه فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، الحمد لله على كل حال- قالوا: حمدك واسترجع، فقال الله جل وعلا: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة، وسموه بيت الحمد) {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10]. مات ابن المصطفى صلى الله عليه وسلم إبراهيم، فدَمَعَت عيناه، ثم قال: (إن العين تدمع، وإن القلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا: إنا لله وإنا إليه راجعون). تقول: ماتت زوجتي وهي غالية، ماتت أمي لا أملك أغلى منها في الدنيا، ماذا أصنع؟ أقول لك: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن:26] يا مَن دَفَنْت أمك وأباك، وشيَّعْت ابنك وابنتك، وودَّعْت زوجتك، هل سوف تبقى في هذه الدنيا؟ لا والله {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27]. وقالوا في الشعر: اصبر لكل مصيبة وتجلد واعلم بأن المرء غير مخلد واصبر كما صبر الكرام فإنها نوب تنوب اليوم تكشف في غد وإذا أتتك مصيبة تشجى لها فاذكر مصابك بالنبي محمد مات ابنٌ لـ زينب بنت محمد عليه الصلاة والسلام، انظر ماذا قال يعزيها، وأنا أعزي كل مصاب، قال: (لله ما أعطى، وله ما أخذ، وكل شيء عنده بمقدار، مروها فلتصبر ولتحتسب) نعم: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:156]. أنت وأبناؤك وأحبابك وأقرباؤك كلنا لله عز وجل، إنما هي عارية أعطانا الله إياها، ثم أخذها منا، فهل تصبر؟ {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة:155].

أشد الناس بلاء الأنبياء

أشد الناس بلاء الأنبياء اسمع يا أخي الكريم! يا من أصيب بالمرض! يا من فجعه المرض! يا من سقط على فراش المرض طريحاً لا يستطيع أن يتقلب يمنة أو يسرة! يا من أصابته الحمى فأنهكته وأهلكته وجلس على الفراش لا يدري هل هو حيٌ أم ميت؟ أوجه إليك هذا الحديث، فاسمع وانبته! إن أيوب عليه السلام كان يملك مالاً عظيماً، وجاهاً، وأهلاً، وأولاداً، وأنعاماً، وصحةً، وبدناً قوياً، خسر كل هذا، ما الذي بقي له؟ بقي له لسانٌ يذكر الله به، وقلبٌ يعقل، هذا الرجل العظيم جلس على الفراش سبع عشرة سنة يقاوم المرض، ليس عنده إلا زوجته تطببه وتداويه، سبع عشرة سنة على فراش المرض، ماذا قال؟ {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83] * {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} [الأنبياء:84] مَن الذي مَرِض؟ مَن الذي ابتُلِي؟ (أشد الناس بلاءً الأنبياء) أبشر! إذا أحب الله عبداً ابتلاه، بل إن دليل الإيمان البلية وشدتها، مَن أشد الناس بلاءً؟ (الأنبياء، ثم الأمثل، فالأمثل) ماذا سَمَّى الله عز وجل أيوباً؟ {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:44] (إن الله عز وجل يُذْهِب عن العبد خطاياه كلها بحُمَّى ليلة واحدة) حمى وحرارة ليلة واحدة يُذْهِب الله ويكفر جميع الخطايا. يا من أصيب بالمرض فجزع، ويا من أتاه خبر المرض فلم يصبر! اسمع إلى الحديث الصحيح: (إذا مرض العبد بعث الله إليه ملكين، فقال: انظرا ماذا يقول لعواده فإن هم إذ جاءوه حمد الله، وأثنى عليه) هل رأيت مريضاً لما يُسأل كيف حالك؟ يقول: الحمد لله رب العالمين، الحمد لله على كل حال، الحمد لله أخذ مني شيئاً وأعطاني أشياءً، الحمد لله الذي لم يجعلني مثل فلان وفلان، الحمد لله إن كان قد ابتلى فقد أنعم: (فإذا هو قد حمد الله، وأثنى عليه يخبران الله عز وجل وهو أعلم، فيقول الله جل وعلا: لِعَبْدي -اسمع وعُد إلى الله- لِعَبْدي إن توفيته أن أدخله الجنة -إن مات بهذا المرض أدخله الجنة، يحمد الله على هذا المرض، ويصبر، ويحتسب الأجر، لو مات في هذا المرض يدخل الجنة- قال: وإن شفيته له علي أن أبدله لحماً خيراً من لحمه، ودماً خيراً من دمه، وأن أكفر عنه سيئاته) هل لك بعد هذا الأجر من أجر؟! {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22].

كل شيء بقضاء الله وقدره

كل شيء بقضاء الله وقدره مما يسلي المبتلى والمصاب، أن يعلم أن كل شيء بقدر الله عز وجل: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رُفِعت الأقلام وجفت الصحف) قال الشافعي: دع الأيام تفعل ما تشاء وطب نفساً إذا حكم القضاء انظر القوة في الإيمان! يعرفون حقيقة الدنيا، إنها دار بلاء، دار محن، دار مصائب، دار كرب. دع الأيام تفعل ما تشاء وطب نفساً إذا حكم القضاء ولا تجزع لحادثة الليالي فما لحوادث الدنيا بقاء ومن نزلت بساحته المنايا فلا أرضٌ تقيه ولا سماء وأرض الله واسعة ولكن إذا نزل القضا ضاق الفضاء نعم، علموا حقيقة الدنيا.

الرضا بالقدر

الرضا بالقدر إلى كل معاق، إلى كل من أصيب بعاهة مستديمة، إلى كل من شُلَّ جسده، أو عمي بصره، ابن عباس في آخر عمره يُصاب بالعمى فيحمد الله، فيقولون: [علامَ تحمد الله؟ قال: الذي أبقى لساني ذاكراً، وقلبي مفكراً، وعقلي معتبراً] الحمد لله الذي أبقى هذا، ذهب البصر وبقي غيره. عبد الله! تلفت يمنة ويسرة، إن أصبت بمرض انظر إلى غيرك، انظر إلى من حولك، انظر إلى من هو أشد منك مرضاً، وأقسى منك مصيبة. رجل من الأعراب في البادية ليس هناك أفضل منه نعمة؛ عنده أموال، وأغنام، وأبقار، وإبل، وعنده بُنَيَّات وأولاد صغار، وزوجة ما أحسنها من زوجة! وفي بيته الصغير يعيش في تلك البادية. في يوم من الأيام ضاعت إبله، فذهب يطلبها، تأخر ثلاثة أيام، ولما رجع أتعرف ما الذي حصل لأهله؟ كان الأهل في البيت، وفي آخر الليل اشتد المطر، وجاءهم سيلٌ عظيم يقتلع الصخور من الأرض، جاء هذا السيل فهدم البيت، وأوقعه على رأس أطفاله، فلم يبق في البيت حيٌ تطرف عينه، لا ابنٌ، ولا ابنة، ولا زوجه، هلكت الأموالُ، والشياه، والضياع. رجع فوجد الأرض قاعاً صفصفاً، لم يجد أهلاًَ، ولا ولداًَ، ولا مالاً، ولا مسكناً، ذهبت الدنيا بلمح بصر، وهل أدرك الإبل؟ رجع حتى الإبل لم يدركها، خسر الدنيا بلحظة وبلمح البصر. فإذا به من بعيد يرى ناقة من الإبل قد شردت فتبعها لعله يدرك ناقة من أمواله، تبعها، فإذا به يمسك ذيلها فلما مسكها رفسته برجلها على وجهه، سقط على الأرض فإذا هو قد عمي، ذهب بصره، ما الذي بقي له من الدنيا؟ أخذ يمشي في الصحراء يصيح وينادي علَّ من يجيبه، علَّ من ينقذه. فإذا أعرابيٌ آخر أخذ بيده، أخبره الخبر، فجع الأعرابي من قصته، فذهب به إلى الخليفة، أخبره بالخبر، فقال له الخليفة: وكيف تجدك الآن؟ من يتحمل هذه المصيبة ومن يطيقها، قال: كيف بك الآن؟ قال: أما أنا الآن فقد رضيت عن الله: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155 - 157]. إن بعض الناس لا يطيق مصيبة أن يفقد واحداً من أهله، أو يخسر سيارة، أو يفقد جزءاً من ماله، فإذا به لا يتحمل، ويجزع، ويتسخط، وللأسف لم يذق إلى الآن حلاوة الصبر، نعم، إنه مرٌ في ظاهره، لكن عاقبته أحلى من العسل.

أقوال وقصص في فضل البلاء

أقوال وقصص في فضل البلاء

يبتلي الله العبد وهو يحبه ليسمع تضرعه

يبتلي الله العبد وهو يحبه ليسمع تضرعه اسمع يا عبد الله إلى بعض الأقوال المأثورة في فضل البلاء، تقول: لم يبتليني الرب جل وعلا؟ ولم يُنزل علي هذه المصيبة؟ ولم يعاقبني الرب جل وعلا؟ اسمع ماذا يقول بعض العلماء! يقولون: إن الله يبتلي العبد وهو يحبه -أتعرف لِمَه؟ - ليسمع تضرعه، يحب الله جل وعلا أن يسمع تضرع العبد إليه سبحانه وتعالى. هل فكرت قبل أن تطرق الأبواب، وقبل أن تستغيث بالناس، وقبل أن تلجأ إليهم أن تفر إلى الرب الغفور الرحيم، أن تلجأ إلى ذي الجلال والإكرام، قيل: البلاء يَسْتَخْرِج الدعاء، تجد الرجل لا يذكر ربه، لا يدعو الله، لا يقوم الليل، لا يقرأ القرآن، لا يتصدق، لا يفعل شيئاً، فإذا نزل البلاء اسْتُخْرِجَ هذا كله، فدمعت عينه، ورفع يديه، خشع قلبه، سكنت نفسه، وتاب إلى الله.

قصة رجل شل جسمه

قصة رجل شل جسمه قيل لأحد العُبَّاد: كيف كانت توبتك؟ -وهو لبيد العابد- قيل له: كيف كانت توبتك؟ -اسمع كيف تاب إلى الله جل وعلا هذا الرجل! - يقول: لدغتني حية -ثعبان- فلم أحس بالألم وبعد فترة لم أشعر بيدي -شُلَّت يده اليمنى- يقول: وبعد أيام شُلَّت يدي الأخرى، وأنا ما أدري ما الذي أصنع وما الذي أفعل، يقول: ومرت الأيام فشُلَّت إحدى رجلَي ثم الأخرى، فطُرِحْت على الفراش، لا أستطيع أن أحرك جسمي كله، يقول: ومرت الأيام فعمي بصري، وطال علي الأمر، فتوقف لساني عن الكلام -هل بقي فيه شيء؟ - يقول: لم يبقِ الله عز وجل إلا سمعي، أسمع ما يسوءني وأنا على الفراش، عندي زوجة، يسقوني وأنا غير عطشان، وأعطش فلا أرتوي، وآكل وأنا شبعان، وأجوع فلا أُطْعَم، وأُكْسَى وأنا كذا، يقول: وهكذا، أذوق الويل والمر والألم، يقول: حتى جاء يومٌ من الأيام فجاءت جارة لنا -يسمع كل كلام حوله، ولا يرى، ولا يستطيع أن ينطق ولا يتحرك- يقول: جاءت جارة لنا، فسألت زوجتي: كيف حال زوجك؟ فقالت الزوجة قالت: لا حيٌ فيُرجى، ولا ميتٌ فيُنسى، يقول: فتألمت من هذه الكلمات حتى انهمرت دموعي وأنا أبكي على الفراش، يقول: فلما جاء آخر الليل دعوت الله جل وعلا، واجتهدت بالدعاء وأنا أبكي وأستغيث بالله، وأتوسل إلى الله، فجاءني ألم شديد في جسمي فأنهكني الألم، حتى أغمي علي، يقول: وبعد ساعات استيقظت من النوم فوجدت يدي على صدري، يقول: فحركتها، فإذا هي تتحرك، ويدي الأخرى تتحرك، ورجلاي يقول: فقمت على جسدي، وأنا أتكلم، ففتحت الباب فنظرت إلى النجوم، وأنا أقول: يا قديم الإحسان لك الحمد، يا قديم الإحسان لك الحمد، وأنا ألتفت إلى مَن حولي وأقول: لربي الحمد، لربي الحمد: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62] الكافر إذا اضطر استجاب الله له، الكافر إذا ضاقت عليه الأمور، وأخلص الدعاء، استجاب الله له، كيف بالمؤمن! {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62]. يقول لي المسكين: قال لي الطبيب: مرضك لا شفاء له، قلت له: كذب الطبيب، فما من داء إلا أنزل الله له دواء، عَلِمَه مَن عَلِمَه، وجَهِلَه مَن جَهِلَه؛ ولكن هل طرقْتَ باب الله؟ وهل استغثت بالله؟ وهل جربت الدعاء من القلب؟

قصة المرأة التي كانت تصرع وتتكشف

قصة المرأة التي كانت تصرع وتتكشف امرأة أصيبت بالصرع، فتأتي إلى الرسول فتقول له: (يا رسول الله! ادعُ الله لي، قال: إن شئتِ دعوتُ الله لك، وإن شئتِ صبرتِ ولك الجنة، قالت: بل أصبر) إذا كان الأمر فيه جنة سأصبر: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:155 - 156].

النبي صلى الله عليه وسلم وهجرته إلى الطائف

النبي صلى الله عليه وسلم وهجرته إلى الطائف أوجه هذا الحديث إلى كل من خسر ماله، إلى كل من فقد الدنيا، إلى كل من أصيب بمصيبة، إلى الدعاة إلى الله، إلى الصالحين المصلحين، إلى من أوذي في الله، إلى من أوذي لأنه متمسكٌ بسنة رسول الله، إلى كل محجبة يُستهزأ بها، ولأنها ملتزمة يُفتَرى عليها، أوجه هذا الحديث. أقول: إن النبي عليه الصلاة والسلام هو أشد من أوذي، وأكثر من أصيب. يَخْرج من مكة إلى الطائف. ولِمَ خرج من مكة مهاجراً إلى الطائف؟ لأنه في مكة ضُرب، وشتم، واتُّهم بعقله حتى قيل: {سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذاريات:52]. في مكة كان يسجد فيُؤتى بسلى الجزور فيوضع على ظهره. في مكة خُنِق حتى كاد يُقتل عليه الصلاة والسلام. في مكة أصيب بالجوع حتى تمر عليه الثلاثون ليلة لا يجد ما يأكل إلا ما يواريه بلال تحت إبطه. هكذا أصيب عليه الصلاة والسلام. خرج إلى الطائف ما الذي حصل له؟ رمي بالحجارة، وتُبِع بالعبيد، والصبيان، والأطفال، والسفهاء، يركضون خلف خير مَن وطئت قدمُه الثرى، خلف خير إنسانٍ على وجه الأرض، يرمونه بالحجارة، دَمَعَت عينه، انطلق وهو مهمومٌ على وجهه، رفع يديه إلى الله وهو يقول ولسان حال كل داعية إلى الله مهموم، كل داعية إلى الله مكلوم، كل داعية إلى الله مبتلى، لسان حاله يقول: (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الرحمين، يا رب المستضعفين، إلى مَن تكلني؟ إلى قريبٍ يتجهمني؟ أم إلى عدوٍ ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضبٌ عليَّ فلا أبالي؛ لكن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن ينزل بي غضبك، أو يحل عليَّ سَخَطُك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك). يا أخي الكريم! يا أخي العزيز! يا من ابتُلي! يا من ظُلم! يا من قُهر! يا من استهزئ به! اسمع يا أخي الكريم إلى هذا الشاعر ماذا يقول وهو يرى حال المسلمين! وكأنه يصف حالنا، المسلمون في الدنيا إما حروبٌ قاتلة، أو جوعٌ طاحن، أو مرضٌ متفشٍ، أو جهلٌ قابع، هذه حال المسلمين إلا مَن رحم الله، اسمع ماذا يقول! لكل شيء إذا ما تم نقصان فلا يغر بطيب العيش إنسان هي الأيام كما شاهدتها دولاً من سره زمن ساءته أزمان وتلك دار لا تبقي على أحد ولا يدوم على حال لها شان أما سمعت أن زكريا قُتِل، ويحيى ذُبِح، ويوسف سُجِن، وسار على هذا الطريق الأولون، فهل أنت بعيدٌ عنهم؟! لقد حفت الجنة بالمكاره. سُب الرسول حتى قيل له: ساحرٌ مجنون، عليه الصلاة والسلام، قال الله جل وعلا: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذاريات:52] أخْرِجْ لي رسولاً ما قيل له: ساحرٌ أو مجنون، وهم أعقل الناس، وأفضلهم، وأشرفهم مكانة، قال الله: {أَتَوَاصَوْا بِهِ} [الذاريات:53] هل يوصي بعضهم بعضاً؟ بل السب والشتم والطعن، حتى الطعن في العرض وصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، تُكِلِّم في عرضه، والإفك العظيم والإفك الكبير يفنده الله في القرآن إلى قيام الساعة، وكأنها سنة كونية أن يرسلوا الكذب حول المصلحين، فإذا بالنبي عليه الصلاة والسلام يقف صامداً ثابتاً وكأن الله عز وجل يقول له: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل:127] بل موعد هؤلاء وهؤلاء يوم اللقاء، يوم يجمعهم الله جميعاً، المؤمنون الصالحون الدعاة مع المنافقين، يجمعهم الله جل وعلا يوم القيامة، فإذا بالرب جل وعلا يقول لهم: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً} [المؤمنون:109 - 110] أتذكرون لما كنتم تسخرون منهم، ومن أعمالهم، ودعوتهم، وسنة نبيهم، بل من مصحفهم؟! أتذكرون؟! {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا} [المؤمنون:110 - 111]. الصبر الصبر أيها الداعية: {لا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [الروم:60] اصبر كن حكيماً، كن حليماً، فإن هذا الطريق لا يَثْبُت عليه إلا الصابرون.

إلى كل من له أسير

إلى كل من له أسير أوجه حديثي لكل من أُسِر له حبيب، لكل من أُسِر له صديق، إلى أم الأسير، إلى ابن الأسير، إلى أخ الأسير في أنحاء الأرض جميعاً، أينما كان أسراهم، في سجون طواغيت الأرض، أوجه هذا الحديث، لعله يكون به تسلية. إن يعقوب عليه السلام أُخِذ منه ابنه وهو طفلٌ صغير، ولم يكن قلبه متعلقاً بأحد أكثر من هذا الولد، يوسف الذي أوتي شطر الجمال، أُخذ من بين يديه وهو أقرب الناس إليه، أتعرف كم فقده؟ فقده منذ الطفولة إلى أن بلغ أشده، ثم أُدْخِل السجن قيل: تسع سنين، ثم صار عزيزاً في مصر سنوات طوال، لكن يعقوب عليه السلام هل يئس؟ هل قنط من رحمة الله؟ قال لبنيه: {اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87] قالوا له: إلى الآن ما مللت الدعاء؟! ما مللت الذكرى؟! ما مللت الأسف؟! ذهب الأسير، انقطعت الأخبار، ماذا قال يعقوب؟ {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [يوسف:86] أنا لا أطلب منكم، لا أرجوكم، ولا أشتكي إليكم، إنما أشتكي لله. إلى كل قريبٍ لأسير، طرقْتَ كل الأبواب وولَجْتَ كل السبل، وناديتَ مَن ناديتَ، لكن اعلم أن الأمر بيد مصرف الأمور، بيد الذي بيده مقاليد السماوات والأرض، إن كان هو أسير وأنت طليق فإن شاء الله تنقلب الأمور فتفرج الكرب ويفك الأسير، إن الأمر بيد الله: {إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] لم ييأس يعقوب، فإذا به بعد سنين طوال، يأتيه الخبر فإذا الله يَرُد عليه يوسفَ وأخاه، ويَرُّد عليه بصرَه، ويشكر الله على هذا. الحجاج بن يوسف الثقفي -اسْمَعِي! - أوجه الحديث خاصة إلى أم الأسير، وإلى زوجة الأسير، وإلى ابن الأسير، اسمعوا هذه القصة، والقصة حقيقية! الحجاج أحد الطغاة، الذي قتل ما يزيد على مائة وعشرين ألفاً من المسلمين، يداه تسيل بالدماء، يوماً من الأيام أسر شاباً من شباب المسلمين، أخذه أسيراً في سجنٍ من السجون، سمع عمه ابن محيريز، وهذا عابد زاهد، عالم ورع، سمع أن ابن أخيه قد سجن، من الذي سجنه؟ ومن الذي أسره؟ إن الذي أسره هو الحجاج بعينه، حاكم العراق في ذلك الوقت، فإذا بـ ابن محيريز يطرق الأبواب، ويذهب للوجهاء، وللعظماء وللكبراء علَّ أحداً أن يشفع له، ابن أخيه كابنه؛ لكنه لم يجد مجيباً، كل الناس خافوا، كل الناس أمَّلوه ولكن لم يستطع أحد، ولم يجرؤ أن يطرق باب الحجاج أحد. ذهب إلى البيت حزيناً كئيباً، نام، غَلَبَتْه عيناه فنام، فجيء له في المنام فقال له قائل في المنام: يا ابن محيريز! قصدت الأمر من غير بابه -لم تحسن ولوج الأمر في الباب الصحيح- فقام فزعاً، فإذا به يتوضأ، ثم يصلي آخر الليل، ويلجأ لله جل وعلا، يقول الثقاة المحدِّثون: "إن الحجاج فَزِع من نومه واستيقظ، ونادى الحرس، والجيش، فقال لهم: أين فلان السجين، قالوا: لا زال حياً، قال: أخرجوه طليقاً الآن، فأُخرج من سجنه، يقول الثقاة المحدِّثون: لا ندري ما الذي جعل الحجاج يُخرج ذلك الشاب" أتدري ما الذي أخرجه؟ {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186]. المهم: أن لا نيأس.

لا تحزن إن الله مع كل مؤمن

لا تحزن إن الله مع كل مؤمن أخي الكريم! أختي الكريمة! قبل أن نختم حديثنا، لا تحزن لا تحزن كلمات أطلقها المصطفى عليه الصلاة والسلام لصحابه في الغار قال: (لو أبصر أحدٌ قدمَه لرآنا يا رسول الله! -أتعرف ماذا قال له؟ - {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40]). نعم. إن كان الحزن أمراً طبيعياً جِبِلِّياً في البشر فاغلبه يا عبد الله، وانطلق بحياتك، ماذا يعني أنك أصبت بمرض، أو فقدت حبيباً، أو خسرت أموالك؟ ما مضى فات والمؤمَّل غيب ولك الساعة التي أنت فيها ابدأ حياتك من جديد، ابدأ طريقك من جديد، الدنيا أحقر من أن تغتم بها، أو تهتم بها، أو تأسى على ما فات: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد:23]. (عجباً لأمر المؤمن! إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خير له) عجباً لأمر المؤمن. في الحديث: (من أصابه هَمٌّ أو غمٌ فقال: الله ربي لا شريك له، أذهب الله غَمَّه). اللهم إنا عبيدك، بنو عبيدك، بنو إمائك، نواصينا بيدك، ماضٍ فينا حكمك، عدلٌ فينا قضاؤك، نسألك بكل اسم هو لك؛ سَمَّيت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا وغمومنا. وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وسائل تقوية الإيمان

وسائل تقوية الإيمان قبل أن يبدأ الشيخ في الدرس تحدث عن احتقار الناس وحذر من ذلك، ثم بدأ بذكر الأسباب التي تقوي الإيمان، مبيناً أن من أعظم الأسباب التي تقوي الإيمان قراءة القرآن الكريم، وهناك قصص توضح ذلك، منها إسلام جبير بن مطعم لسماعه آية أو آيتين من القرآن، وكذلك بعض الشباب عادوا إلى الله لمجرد سماعهم آيات من القرآن. ثم انتقل الشيخ إلى السبب الثاني وهو الصحبة، فحذر من صحبة قرناء السوء، ونصح الآباء نصائح من أجل الحفاظ على أسرهم وأبنائهم. كما أن الشيخ أجاب على أسئلة تهتم بالأمور الاجتماعية والدعوية.

إياك واحتقار غيرك من المسلمين

إياك واحتقار غيرك من المسلمين الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وخاتم النبيين وعلى آله وصحبه. أما بعد: أرحب بكم في بيت من بيوت الله عز وجل، وأرجو قبل أن نبدأ أن نستشعر المكان الذي نحن فيه، وأن نستشعر الليلة التي نحن فيها، وأن نستشعر الكلام الذي نسمعه، كم من الناس الآن في هذه اللحظة التي تستمعون فيها إلي الآن؛ ربما يسهر على أفلام ومسلسلات! كم من الناس الآن في المقاهي يدخن! كم من الناس الآن من يتجول في الأسواق! كم من الناس الآن من يعاكس الفتيات، وربما يسهر على الغناء وربما يفعل ويفعل! الناس شتى {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل:4] وانظر إلى اصطفاء الله عز وجل لك من بين الناس أن جاء بك إلى هذا المسجد لتسمع ذكره جل وعلا، وهذا يحتاج إلى شكرٍ وإلى استغفار، من أنا حتى يختارني الله عز وجل من بين الناس، أتعرف كم إنسان يعيش في الأرض؟ اليوم يعيش أكثر من خمسة مليارات إنسان على وجه الأرض، أكثر من خمسة آلاف مليون لا يعرفون الله جل وعلا. ومليار ومائتا مليون مسلم؛ منهم من يعبد حجراً منهم من يعبد قبراً منهم من يعبد خيطاً منهم من يعبد رجلاً منهم من يشرك مع الله غيره، انظر إلى اصطفاء الله لك حين جعلك من الموحدين: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17] الله هو الذي هداك. أول قضية قبل أن نبدأ في وسائل تقوية الإيمان ألا تحتقر الناس، لا تقل: أنا أصلي وأصوم وأتصدق، والناس لا يفعلون شيئاً من ذلك، إياك من احتقار الناس، لا تنظر إلى أهل المعاصي فتقول: أنا خير منهم، احتقر المعصية لكن لا تحتقر الناس، ربما هو يندم ويستغفر ويكون أقرب إلى الله منك، وربما نحن نعجب بأعمالنا وصلاتنا وصيامنا فيرد الله علينا العمل، لا تحتقر الناس، قل دوماً: أنا أضعف منهم، أنا أقل منهم منزلة، أنا أقل الناس ديناً وإيماناً، احتقر نفسك دوماً.

قصة رجل من بني إسرائيل اغتر بعمله

قصة رجل من بني إسرائيل اغتر بعمله اسمع للقصة في بني إسرائيل يقصها النبي عليه الصلاة والسلام، قصة رجل عابد داعية؛ لكن اغتر بنفسه، كان يرى كل يوم رجلاً صاحب معصية فيقول له: يا فلان! اتق الله ودع ما أنت فيه. تخيل لو أنك تمر على رجل -والعياذ بالله- وهو يشرب خمراً أو رجل -والعياذ بالله- فاحش، أو امرأة منظرها قبيح، كان يقول له: اتق الله ودع ما أنت فيه فيرد العاصي على الداعي إلى الله، يقول له: إليك عني، أجعلت علي رقيباً؟ أي: هل أحد سلطك علي؟ ردٌّ غير حسن، وكل يوم يدعوه؛ لكن الخطورة أن الشيطان استطاع إغواء الداعية، فإذا بالداعية يغتر بنفسه وهنا الخطورة؛ أن ترى لنفسك فضلاً على الناس، وأن ترى أنك أفضل من غيرك، وأن تحتقر الناس؛ فإذا به يقول: والله لا يغفر الله لك، من قال لك: أن الله لا يغفر له؟ قال: والله لا يغفر الله لك، فإذا بربنا جل وعلا يرد عليه يقول: (من ذا الذي يتألى علي؟) من الذي نصب نفسه رباً وحكماً وإلهاً على الناس قال: (قد غفرت له -يعني: للعاصي- وأحبطت عملك) أبو هريرة يعلق على هذا الحديث بقوله: [قال كلمة أوبقت دنياه وآخرته] إياك أن تحتقر الناس، وقل دائماً: يا رب! حبب إلي الإيمان وزينه في قلبي.

القرآن وتقويته للإيمان

القرآن وتقويته للإيمان أهل الإيمان الكامل ما هي صفاتهم؟ الله عز وجل يقول عنهم: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:2] القلب يوجل إذا ذكر الرب. أبو حنيفة قال له طفل: يا إمام! اتق الله، فاصفر لونه، وتغير وجهه لأنه ذكره بالله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:2] أول صفة من صفات أهل الإيمان الكامل أن إذا سمع القرآن أو الأذان أو الذكر؛ اضطرب القلب، واضطربت الجوارح واهتزت.

قصة علي بن الفضيل مع القرآن

قصة علي بن الفضيل مع القرآن علي بن الفضيل بن عياض؛ هذا رجل عابد، وأبوه رجل عابد يسمى: عابد الحرمين وهو الفضيل بن عياض، كنيته أبو علي عنده ولد اسمه علي صار علي أشد عبادة من أبيه. في يوم من الأيام يقول: دخلت في البيت فوجدته يجول في الغرفة ويبكي ويبكي فقلت له: يا بني! لمَ تبكي؟ قال: يا أبي تفكرت في النار وكيف الخلاص منها فبكيت. بكى لأنه تذكر النار, ثم قال: يا أبي! سل الذي وهبك إياي في الدنيا أن يهبني إياك في الآخرة في الجنة، ادع الله إذا دخلت الجنة أن يحلقني لك. كان الفضيل إذا صلى الصلاة وعلم أن ابنه يصلي وراءه لا يرتل، ويقرأ قراءة عادية؛ لماذا؟ يعرف أن ابنه لا يتحمل ترتيل القرآن، بكاؤه شديد، ينقطع قلبه ويضطرب، في يوم من الأيام كبر وابنه لم يكن وراءه، فدخل في الصلاة وأبوه يصلي ما علم أن ابنه دخل، والأمر الآخر أنه قرأ آية تتفطر منها القلوب، وتتكسر منها الصخور، وتتصدع منها الجبال، فأيُّ آية تلك؟ إنها قول الله جل وعلا: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47] فسمع صوت ابنه يبكي فخفف الصلاة وأتمها فوجدوا ابنه قد أغمي عليه من شدة البكاء، لكن نحن لا نصل إلى هذا المستوى؛ لكن نقول: أين التأثر؟ أين التدبر؟ أين دمعة العين؟ لوحدك ليس أمام الناس والأمر كالسر، كانوا يصلون فيبكي الواحد منهم ولا يدري من بجانبه، وينام مع زوجته على وسادة واحدة يبكي ما تدري عنه زوجته، إخلاص دمعة تنزل؛ لكن لله لا شهرة ولا سمعة حتى يقال: فلان بكاء وفلان خاشع، لا لا يبالون بالناس أصلاً.

ابن المنكدر وقصته مع القرآن

ابن المنكدر وقصته مع القرآن محمد بن المنكدر هل سمعتم به؟ أبو عبد الله العابد الزاهد؛ دخل البيت يوماً فأخذ يبكي، ومن أول أسباب تقوية الإيمان: أن تتأثر بالذكر وبالقرآن: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} [الأنفال:2]. ابن المنكدر بكى في البيت فقالت زوجته: يا أبا عبد الله! هون على نفسك لِمَ كل هذا البكاء؟ قال: إليكِ عني، أنت لا تعلمين ما الذي أصابني، فخرجت زوجته وخافت على زوجها، فذهبت إلى صاحبه أبي حازم فقالت: يا أبا حازم! تعال إلى صاحبك فقد قطع البكاء قلبه، فجاء أبو حازم وقال: يا أبا عبد الله! ما الذي جرى؟ قال: يا أبا حازم! آية مرت علي من القرآن، توقفت عندها ما تحملتها قال: أي آية؟ {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47] تعرف ما معنى الآية؟ بعض الناس يظن أنه قد أصاب الفردوس وأنه يدخل الجنة وأنه من المتقين المؤمنين الصادقين، فإذا جاء يوم القيامة وجد الأمر على غير ما كان يظن، وجد الأمر ضد ما كان يظن، جاء يوم القيامة فإذا به يرى الحسنات سيئات، يرى الجنة ناراً، أعماله الصالحة صارت هباءً منثوراً: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47] فإذا به يبكي فبكى أبو حازم واشتد بكاؤهما: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} [الأنفال:2].

القرآن يثبت القلب ويزيد في الإيمان

القرآن يثبت القلب ويزيد في الإيمان أعظم أسباب تقوية الإيمان القرآن: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} [الفرقان:32] يثبت القلب، ويزيد الإيمان، كم كان النبي بحاجة للقرآن في حياته؟ ما نزل القرآن جملة واحدة؛ لماذا؟ حتى يثبت النبي عليه الصلاة والسلام، سورة بعد سورة، آية بعد آية، حتى يثبت القلب ويطمئن، تأتيه امرأة عجوز حقيرة تقول: يا محمد! ما أرى شيطانك إلا قد هجرك -تقصد: الوحي تستهزئ بالنبي عليه الصلاة والسلام- فحزن وضاق صدره فأنزل الله: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنْ الأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:1 - 5] يأتون ليستهزئوا به فينزل الله عز وجل آيات تصبره وتثبته. في يوم من الأيام جاءه رجل، يقول له: اعدل يا محمد، هذه قسمة ما أريد بها وجه الله، وذلك بعد حنين - قال: (ويحك! من يعدل إن لم أعدل؟). هذا من رءوس الخوارج، ومن الذين كانوا يُكَفّرون بالمعصية، واعتدوا حتى على مقام النبوة، يتهم النبي عليه الصلاة والسلام بالظلم، من يعدل إذا ما عدل النبي صلى الله عليه وسلم؟ لكنها السفاهة والسفالة، سفهاء أحلام حدثاء أسنان، فقال خالد: دعني أضرب عنقه -أي: أقتل هذا المرتد الذي يتهم النبي عليه الصلاة والسلام، قال عليه الصلاة والسلام: (لا تقتله؛ حتى لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه ثم قال: رحم الله موسى أوذي أكثر من هذا فصبر) موسى عليه السلام يذهب يكلم ربه، فيرجع، فيجد قومه يعبدون العجل، موسى عليه السلام لما كلمه الرب جل وعلا وسمع بعض العباد -عباد بني إسرائيل الذين ذهبوا يستغفرون الله لبني إسرائيل- قالوا لموسى عليه السلام: لن نؤمن لك، وهم أعبد بني إسرائيل، قال: لِمَ لا تؤمنون لي؟ قالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون، أخذ الله أرواحهم وماتوا، ثم بعثهم الرب جل وعلا، فقد كان بنو إسرائيل معاندين لما قال لهم: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [المائدة:21] ماذا قالوا لموسى عليه السلام في نهاية الأمر؟ قالوا: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] انظروا أذى بني إسرائيل لموسى عليه السلام. أعظم ما يقوي إيمانك يا عبد الله! القرآن، اقرأ القرآن قصص الأنبياء توحيد الله وآياته المعجزات في القرآن، عندما تقرأها يزداد إيمانك، كل ليلة يسهر الرجل على الأفلام الخليعة إلى آخر الليل، والرب يقول: (هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟). وآخر يقيم على الأفلام الخليعة يقول لي صاحبه: والله إذا أذن المؤذن لصلاة الفجر ضاق صدره، واشمأز، وأغلق النافذة، ورفع صوت التلفاز حتى لا يسمع الأذان؛ يكره حتى صوت الأذان: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [الزمر:45] مطرب أو مطربة {إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر:45] ما عنده مانع من أن يحضر حفلة غنائية ثلاث ساعات؛ لكن خطبة الجمعة ثقيلة، ما عنده مانع أن يقف أربع ساعات أمام التلفاز؛ لكن نصف ساعة يصلي التراويح صعبة فيقول: أطال علينا الإمام. لا يرتاح إذا سمع ذكر الله، أما إذا سمع من دونه أهل الغناء والطرب يبشر ويفرح، هل سمعتم بالمشركين كيف تأثروا بالقرآن؟ هل تعلم أن أبا جهل فرعون هذه الأمة كان يذهب أحياناً في الليل خفية يستمع إلى قراءة النبي للقرآن، ورآه بعض المشركين، وإذا به يعتذر أنه فقط يسمع هكذا، ولكنه كان يتلذذ بقراءة القرآن، فلماذا لم يؤمن؟ عناد وكبر؛ حتى لا يقال: إن الإمارة والسيادة صارت لغيره، فقط لهذا ما آمن ولكنهم كانوا يعرفون أن القرآن حق، وأنه كلام الله، يسمعونه رطباً من النبي عليه الصلاة والسلام.

إسلام جبير بن مطعم عند سماع القرآن

إسلام جبير بن مطعم عند سماع القرآن جبير بن مطعم يقول: كان أبغض رجل لدي محمد صلى الله عليه وسلم يقول: فذهبت إلى المدينة -ربما يريد قتله- فجئت في صلاة المغرب. تخيل المدينة في صلاة المغرب كيف حالها؟ هل هناك أحد فاتح محله ليبيع أو يتمشى في شوارع المدينة؟ رجالهم، نساؤهم، حتى أطفالهم في المسجد؛ لأن جميع الناس في المسجد، مَنْ إمامهم؟ محمد عليه الصلاة والسلام يقرأ فيهم في ذلك اليوم في صلاة المغرب سورة الطور، والحديث في البخاري يقول جبير قبل إسلامه: سمعت القرآن. الكل في هدوء وإنصات وخشوع فإذا النبي يقرأ: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} [الطور:35] وكانت قراءته هادئة آية آية، السؤال موجه للمشركين؛ الله يقول لهم: هل أنتم خلقتم من غير شيء؟ هل خلقتم من عدم؟ طبعاً لا. إذاً من خلقكم؟ اسمع الآية الثانية: {أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35] أنت خلقت نفسك يا جبير؟ طبعاً لا. الآن بدأ يناقش نفسه، إذاً هناك خالق وأنا لم أخلق نفسي؛ إذاً من الذي خلقنا؟ يا جبير! انظر للسموات السبع للأرض للجبال أكبر من خلق الناس؛ مَنْ خلقها؟ {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ} [الطور:35 - 36] يقول جبير: وقر الإيمان في قلبي -سمع آيتين أو ثلاث آيات- وانتهت الصلاة، يقول: جلست مع النبي صلى الله عليه وسلم وسأله بعض الأسئلة، فإذا بـ جبير يقول أمام الناس: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، يقول: فصار أحب إنسان في قلبي محمد عليه الصلاة والسلام. {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24].

شاب يتوب بعد سماعة آية واحدة

شاب يتوب بعد سماعة آية واحدة يقول أحد العسكريين: كنت حارساً في معسكر وما صليت لله منذ سنين يقول: صادف ذلك اليوم عند المعسكر مسجد، وجاءنا شيخ يتحدث في المسجد، والسماعات الخارجية مفتوحة، فكنت أسمع وأنا حارس في الخارج، يقول: أخذت أسمع والشيخ يتحدث عن آية واحدة يشرحها وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18] ماذا قدمت؟ يقول: فأخذت أسمع ثم -والله- بدأ الدمع ينزل من عيني؛ بدأ يبكي؛ أول مرة يسمع هذه الآية، موت، قبر، جنة، نار، ماذا قدمت لغد؟ هل استعد كل واحد منا وجهز لذلك اليوم؟ والشيخ يتحدث فقال لي أصحابي: ما الذي جرى؟ فاستأذنت منهم وخرجت، فذهبت إلى المسجد، فدخلت إحدى دروات المياه -أجلكم الله- وكان فيها مسبح فاغتسلت، يقول: لم أغتسل من جنابة منذ سنين، ولهذا ظل في نجاسته سنوات يقول: ثم خرجت ودخلت المسجد ولا زال الشيخ يحدث، فصليت ركعتين، وأخذت أستمع والدموع تنهمر، وأنا أبكي طوال الحديث يقول: والله ما أن انتهى الشيخ من حديثه إلا وقررت أن أبدأ حياة جديدة. وانشرح صدري وأنار الله قلبي: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ} [الزمر:22] انشراح الصدر بالطاعة بالذكر بالصلاة، يقول فجلست مع الشيخ بعد الحديث دقائق معدودة يكتب قصته وهو يقول: أنا الآن -بفضل الله- أحد الدعاة إلى الله عز وجل، لم يصلح فحسب بل بدأ يصلح غيره، آية يا عبد الله: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّه} [الحشر:21].

شاب يسمع آية في المنام فيهتدي

شاب يسمع آية في المنام فيهتدي أحياناً: يسمع الإنسان الآية قدَرَاً، فيمر في طريقٍ ويسمع إماماً من إذاعة أو من شريط، اسمعوا لهذا الشاب متى سمع الآية وأين سمعها؟ يقول: كنت مولعاً بالغناء، لا أسمع القرآن ولا أصلي ولا أعرف الدين، أمي عجوز تنصحني وكنت لا أستمع لحديثها يقول: وعندي جار داعية كلما رآني نصحني فأقول له: إن شاء الله، وأذهب أخدعه، يقول: في ذلك اليوم أغلظ عليَّ في النصيحة، فقلت: إن شاء الله أعدك أني سوف أصلي، لكن بعد أن ذهب لم أصل وما استقمت، يقول: فنمت تلك الليلة فرأيت في المنام رؤيا؛ رأيت أنني أمشي على شاطئ البحر، فسمعت صوت أحسن مغنية عندي، أُحِبُّ صوتها وعندي أشرطتها، فسمعت صوتها في المنام فاتجهت باتجاه الصوت حتى أخذ بكتفي رجل في المنام، فالتفت فإذا هو رجل ذو لحية بيضاء ووجه مضيء فقلت له: دعني دعني! قال: لن أدعك، قلت له: دعني سوف أذهب للصوت قال: والله لن أدعك، قلت له: ماذا تريد؟ قال: اسمعني أكلمك ثم تذهب قلت: تفضل قال: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك:22] يقول: بدأت أقرأ القرآن معه في المنام هو يقرأ وأنا معه نرتل الآية يقول: حتى استيقظت من نومي وأنا أبكي، لماذا أبكي؟ لا أدري، يقول: فوجدت نفسي أبكي وأردد الآية، فدخلت علي أمي فقالت: يا بني! ما الذي أصابك؟ فقلت: يا أماه! رأيت في المنام رؤيا، وقصصت عليها الرؤيا وأخذت أقرأ الآية وأنا أبكي وأمي تبكي: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك:22].

المكوث في المسجد سبب لتقوية الإيمان

المكوث في المسجد سبب لتقوية الإيمان من أسباب تقوية الإيمان: المكوث في المسجد، بعض المرات ليس لك عمل، فلماذا تخرج من المسجد؟ بين الظهر والعصر أحياناً ما عندك دوام، إذاً: اجلس في المسجد، فانتظار الصلاة إلى الصلاة رباط مثل الجهاد في سبيل الله، أفطر أحياناً في المسجد، صل قيام الليل، بعض الناس كلما انتهى من الصلاة هرب، لماذا تهرب؟ أين قلبك؛ معلق في البيت، أو في الأسواق، أو في الملاعب أو في المساجد؟ (ورجل قلبه معلق بالمساج) يا عبد الله! أين قلبك؟ {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [النور:36]. والغدو بعد الفجر، ولكن سل أكثر مساجد المسلمين بعد الفجر هل فيها أحد؟ أغلب المساجد تغلق بعد العصر، قلَّ من تجده في المسجد، لا يكثر من الجلوس في المساجد إلا الرجال، كما قال الله: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور:37].

الصحابة وجلوسهم في المسجد

الصحابة وجلوسهم في المسجد صلى النبي صلاة العصر فخرج، فجاء إلى الصحابة فوجدهم في المغرب جالسين -من العصر إلى المغرب جالسين- قال (ما الذي أجلسكم؟ قالوا: صلينا، وننتظر الصلاة الثانية قال: آلله ما أجلسكم إلا هذا؟ قالوا: آلله ما أجلسنا إلا هذا، قال: آلله ما أجلسكم إلا هذا؟ قالوا: آلله ما أجلسنا إلا هذا، وسألهم المرة الثالثة فأقسموا- قال: أشهدكم أن الله عز وجل يباهي بكم الملائكة) أي: يفتخر بكم عند الملائكة، الآن بعض أناس يتجولون في الأسواق بغير داعٍ، إلا بحجة قطع الأوقات، والأسواق أبغض البلاد إلى الله، لا تذهب إليها إلا لحاجة. وأنت الآن تجلس في بيت الله، يطلع الله إلى الأرض فينظر الناس في بيت الله فليسوا إلا القلة القليلة وأنت منهم: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152] أنت الآن تذكر الله، الله ينزل علينا السكينة وتغشانا الرحمة بإذنه، وتحف الملائكة وتنادى بعضها: هلموا هلموا إلى حاجتكم. أذكر في يوم من الأيام أنّا كنا في إحدى البيوت، وفي حوش هذا البيت قفص فيه ديك، وكان عندنا شيخ فاضل فقلنا: يا شيخ! تفضل بموعظة -كنا جالسين والوقت يذهب ونحن نريد ذكر الله عز وجل- فبدأ الشيخ يتكلم، والله يا إخوة ما إن قال: إن الحمد لله وكان الديك خلفه في القفص إلا وبدأ الديك يصيح ويصيح، وقد كنا نتكلم قبل ذلك وما صاح الديك، بدأ بالصياح حقاً عندما بدأ الشيخ يتكلم، وما تركنا نسمع الذكر لكثرة صياحه؛ إلى أن قال الشيخ: والحمد لله رب العالمين، فأُقسِمُ بالله أنه توقف الديك! تعرف لِمَ؟ لأن الديك يرى الملائكة، يحس بها وأنت لا تشعر؛ لكن لو كشف الغطاء، ولو رفع الستار لرأيت الملائكة تنزل، أرأيت الرجل في السيارة وهو يمشي (ما خلا راكب بالله وذكره -يقرأ القرآن يسبح يستغفر، يسمع شريط محاضرة المهم أنه منشغل بذكر الله- إلا كان ردفه ملك -أي: يركب معه ملك- وما خلا راكب بالغناء إلا كان ردفه شيطان) قال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف:36] أي: من يبتعد عن الذكر. اسمع يا عبد الله! اسمع إلى ما يحدث في الأولين والآخرين لتعرف أسباب تقوية الإيمان.

الصحبة الصالحة سبب لتقوية الإيمان

الصحبة الصالحة سبب لتقوية الإيمان من أعظم أسباب تقوية الإيمان: الصحبة، قل لي من تصاحب أقول لك من أنت. كم من الناس من قرر التوبة والهداية، وقرر أن يلتزم لكن عنده أصحاب -والعياذ بالله- لا يتركونه؛ يا فلان! تعال عندنا الليلة فيلم جديد، وعندنا سهرة إلى الصباح، أما سمعت آخر أغنية؟ رأيت آخر المجلة؟ هل عملت أين سافر فلان؟ تعال نسافر، كلمات وإغراءات؛ لأنهم لا يريدون لأحد من الناس أن يهتدي، الواحد منا إذا تحسر يعض مرات على إصبعه لا شعورياً، هل رأيت واحداً في يومٍ من الأيام يدخل يديه الاثنتين داخل فمه يعض عليهما؟ هذا يحصل يوم القيامة قال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} [الفرقان:27] يدخل يديه فيعض عليهما: {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً} [الفرقان:27 - 28] يا ليتني ما عرفته، ياليتني ما صادقته، ما زاملته، ولا رأيته، يطلب رؤيته عند الله يوم القيامة، يا رب! أريد أن أرى فلان بن فلان. لماذا يريد رؤيته؟ الله يسأله لماذا تريد أن ترى فلان بن فلان؛ الذي أضله وضحك عليه، وأعطاه الأشرطة والأفلام، والصور والمجلات، وعلمه طريق الحرام والمنكر. قال تعالى: {رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْس} [فصلت:29] شيطاني من الجن وشيطاني من الإنس، أريد أن أرى الاثنين يا رب! الذي ضحك علي من شياطين الجن، والذي ضحك علي من شياطين الإنس، هل تظن أنه يريد رؤية صاحبه لكي يعانقه أو يودعه أو يسلم عليه؟ انظر لماذا يريد أن يرى صاحبه وزميله وحبيبه {أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْس نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ} [فصلت:29] لكن هل ينفع الندم؟ الآن تريد أن تطأ قدمك على رقبته، أين كنت في الدنيا؟ كلما قررت التوبة تضل لأجله، كلما عزمت على الهداية تركتها لأجله.

(80%) يدمنون المخدرات بسبب الصحبة

(80%) يدمنون المخدرات بسبب الصحبة أكثر من (80%) من الذين وقعوا في المخدرات وهذه إحصائية في الكويت وقعوا بسبب صحبة السوء، والتقيت بكثير من المدمنين والله ما أرادوا الإدمان ما فكروا في حياتهم بالمخدرات، كانوا يخافون من شيء اسمه مخدرات، وكان أسوء شيء عندهم المخدرات، والآن صاروا مدمنين لها ومروجين والسبب الصحبة، فبعضهم كانوا يدخلون له المخدرات بأن يركب السيارة، ويضعون له البودرة في مكيف السيارة، أو في علب العصير، كراتين مغلقة غير مفتوحة ولكن فيها مخدرات، فكيف أدخلوا المخدرات في كرتون العصير؟ بإبرة يدخلون (هروين) خالصاً بحيث يصير مدمناً بشربة واحدة، ثم لا يمكن أن يتخلص من الإدمان إلا ربما يموت أو يهتدي بصعوبة. رجل كان يعطي امرأة وردة، وتفرح هذه المسكينة، ولا تدري أنه عشيق وصاحب، وما تدري أنه يوقعها في المخدرات، يضع البودرة في الوردة وهي تشم الوردة وتشم المخدر، وكذلك في البيبسي. وجاءني شاب إلى المسجد وعمره اثنان وعشرون سنة بوجه مظلم، قبيح، كريه، مخيف، وأعطاني صورة جميلة، قلت: من هذا؟ قال: هذا أنا، قلت: مستحيل! قال: والله يا شيخ هذا أنا قبل أن أدمن المخدرات، قلت له: كيف؟ يقول: بشرب الشاي، كان عندنا ديون كنت أشرب الشاي فيه معهم يومياً، ويضعون لي البودرة وأنا لا أدري، حتى إذا أدمنت ونفدت أموالي، بدأت أروج، قلت له: تب إلى الله! واهجر صحبة السوء، قال: فكرت في التوبة فهددوني بالسلاح، وذلك لأن عنده أسراراً فإنه يعرف التجار، قلت له: والله لو قتلوك فأنت في سبيل الله، ومع هذا لن يستطيعوا قتلك (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله) إياكم وصحبة السوء.

توجيه للآباء ليحرصوا على أبنائهم

توجيه للآباء ليحرصوا على أبنائهم احرصوا على أولادكم، فبعض الكبار في السن لا يستطيع أن يضمن ولده أو بنته، يجده ذاهباً إلى المدرسة وراجعاً منها فيحمد الله، والأمر أخطر وأكبر، فكم من الناس من تعلم الإدمان في المدارس، ولا يعني أن نغلق عليهم الباب، ولكن يذهب إلي المدرسة وأنت تعرف من أصحابه، يدعو أصحابه يوماً عندك إلى البيت فتعرف من يخالط، ولا بد للأم أن تعرف صاحبات البنت، أما أن نترك الحبل على الغارب فلا. أخوك الصغير تداركه، الحقه -يا عبد الله- قل أن يقع الفأس في الرأس، ثم تندم ولات ساعة مندم، إي والله ولات ساعة مندم!

قصة فتاة أهملها أبوها

قصة فتاة أهملها أبوها في يوم من الأيام اتصلوا على الأب وهو تاجر: أنت فلان قال: نعم. قالوا له: تعال إلى قسم الشرطة. هذا الرجل عنده سمعة مشهورة في إحدى دول الخليج، والرجل معروف، قال: ماذا هل هناك شكوى في شيك؟ عنده معاملات تجارية، وأحياناً يضطرون للشكوى والمحاكم، قال: أرسل المندوب قالوا: لا. تعال أنت، قال: عندي وكيل قالوا: لا تعال أنت الآن بسرعة، ذهب التاجر، ودخل قسم الشرطة، لأول مرة دخل على الضابط قال: استرح، فجلس، قال: عندك بنت اسمها فلانة قال: نعم. فزع الرجل، أدخلت البنت وهي تبكي، قال: ما الذي جرى؟ ما الذي حدث؟ قالوا: هذه ابنتك؟ قال: نعم. يا بنية! ما الذي جرى ما الذي حدث؟ قال الضابط: قبضنا على ابنتك في إحدى شقق الدعارة، بنتي طالبة الجامعة! بنتي المجتهدة الخلوقة، البريئة الناصعة! بنتي التي عمرها ما عرفت الحرام، ولا دخل في بيتنا الحرام! كيف وصلت إلى هذا؟!! فنظرت البنت إلى أبيها فقالت: يا أبي! لا تبك علي الآن فأنت السبب. قال: أنا؟! -أمام الضابط- قالت: إي والله أنت السبب! في حياتك كلها ما جلست معي تنصحني، في حياتك ما دخلت إلى غرفتي لتعرف ماذا أقرأ وماذا أسمع، أبي! من جاءنا بمئات القنوات الفضائية ووضعها في بيتنا؟ -تقول إحدى الأخوات: والله (500) قناة عندنا- من الذي جاءنا بهذه القنوات يا أبي؟ من الذي كان يضع السائق تحت يدي يذهب بي أين أشاء؟ من يا أبي أليس أنت أليس أنت؟ أنت المجرم يا أبي. نعم ليست معذورة؛ لكنها صادقة! فقد أعطاه الله ابنة وابناً على الفطرة سليمان (100%)، فمن الذي لوث هذه الفطرة؟ من الذي نجسها؟ من الذي جعلها تنحرف؟ (أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه). في المثل: في يوم من الأيام كان، الطاووس يمشي بكبر واختيال، فرئي أولاده وراءه يمشون نفس المشية، فقال أحد الشعراء فيهم: مشى الطاووس يوماً باختيال فقلد شكل مشيته بنوه قال: علام تختالون قالوا سبقت به ونحن مقلدوه وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوده أبوه

وقفة مع الداعية عمرو خالد

وقفة مع الداعية عمرو خالد أخي العزيز: أنت في البيت مسئول، لا تقل: أنا لست أباً، أنا حالي حال الإخوة في البيوت؛ فحتى ولو لم تكن مسئولاً فاعمل، انشر الخير في البيت، انشر الرحمة. انظروا -يا إخوة- إلى هذا الرجل الذي يعظ الناس كان يقول: ماذا أعمل الآن في هذه الأمة التي ذهبت وذهبت البيوت؟ هذا الرجل كان في يوم من الأيام يصلي صلاة التراويح في مصر التي أخرجت الكثير من العلماء والدعاة والمفكرين، وكان الإمام في صلاة التراويح يقيم درساً كل يوم بين أربع ركعات، وفي يوم غاب الشيخ، فبحثوا من يقوم، فرأوا رجلاً ببدلة قالوا: أتصلي بنا؟ وفي موعد الدرس بعد الصلاة أحرج حيث قالوا له: يا شيخ! وهو إنسان عادي لا شيخ ولا داعية، قالوا: حدثنا فكل يوم يحدثنا الشيخ، فحدِثنا بما فتح الله عليك، فتحدث؛ فإذا به يفوق الشيخ، تكلم لكن ألهمه الله فأمتعهم بحديثه، لأول مرة قدر الله له أن يتكلم، ما كان عنده نية أن يتكلم أصلاً، فأخذ يتحدث كل يوم، فانتشر صيته، وبدأ يعمل بعض المحاضرات وبعض الدروس، واليوم ملايين المسلمين يستمعون إليه، وتغيرت ملايين البيوت بسببه، إنه الداعية عمرو خالد، أرأيت إلى هذا الرجل كم بكى من إنسان لسماع حديثه! أنا أعرف شخصياً أتجول في دول أوروبا، ودول عربية، والله يا إخوة ما رأيت إنساناً أثر في المسلمين مثل هذا الرجل، ولعله لصدقه ولإخلاصه، فلا تقل أنا ماذا أعمل؟ كلنا مسئولون عن هذا الدين، يوجد أناس اليوم يحاربون ديننا وإسلامنا، ويحاربون حتى أولادنا في فطرهم، إذاً أنت ماذا فعلت؟ أنا أقول لك: لا يوجد شيء اسمه (مطاوعة وغير مطاوعة) انسوا هذه الكلمات، الغوا هذه الكلمات من القاموس؛ كلنا مسلمون، وكلنا نحب الله ونحب الدين، فقم واعمل بمقالة أو بشريط توزعه، أو بغير ذلك.

هداية فتاة بسبب سماع شريط موعظة

هداية فتاة بسبب سماع شريط موعظة فتاة تقول: في يوم من الأيام وأنا ذاهبة إلى البيت وطئت برجلي على شريط، تقول: أنا أحب الأغاني، طالبة بالثانوية تقول: أنا حياتي كلها أغاني، وعندي مدرسة تنصحني بالحجاب؛ بالهداية فلا أستمع لها، تقول: في يوم من الأيام وطئت بقدمي على شريط، فأخذته لأسمعه ربما تكون أغنية ما استمعت إليها، تقول: أخذت الشريط وجلست في البيت، ووضعته في المسجل، وبقيت أنتظر من المغني أو المغنية، فإذا برجل يتكلم عن الموت، تقول: توقفت، سمعت حتى انتهى الشريط؛ أعدته مرة ومرتين وثلاثاً، ما أدري لماذا بكيت تقول: في اليوم الثاني ذهبت إلى المدرِّسة التي عندنا، فجلست عندها وقلت لها: يا فلانة! أريد أن أتحجب، فقالت: ما الذي حصل؟ قلت: شريطاً وطئته برجلي فسمعته، فإذا هو يتحدث عن الموت والقبر، تقول: منذ ذلك اليوم تحجبت والتزمت واستقمت، تقول عن نفسها: أنا اليوم أوزع الأشرطة على الناس، ربما وصل الشريط لإنسان فما أعجبه فرماه من السيارة لكن: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} [إبراهيم:24] * {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم:25] لا تحتقر نفسك، ابذل أي شيء، الإيمان يضعف ويزيد، إذا قمت بالدعوة إلى الله يزداد الإيمان، إذا أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر يزداد الإيمان، إذا أصلحت من حولك يزداد الإيمان، إذا أصلحنا بيوتنا يزداد الإيمان، إذا قرأنا القرآن، إذا صلينا، كل عمل صالح يزيد الإيمان، وكل معصية -والعياذ بالله- تنقص الإيمان.

الأسئلة

الأسئلة

نصيحة للإخوة الملتزمين

نصيحة للإخوة الملتزمين Q كلمة لإخواننا الملتحين أرجو أن توجه كلمة لإخواننا الملتحين. أنا أولكم، ويسمح لي إخواننا الملتحون حيث أنهم واجهة الإسلام الآن، وجميع الناس ينظرون إليهم، فنرى البعض منهم لا يلقي التحية على الناس، وأنا أقول: هذا خطأ فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث: (ألا أعلمكم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم) فهذا لعله غير ملتحٍ؛ لكن ينصح إخوانه الملتحين: أفشوا السلام بينكم، ولنقبل نصيحته؟ A صحيح! أن بعض الناس يتضايق إذ كيف بك تمر عليه أحياناً فتسلم فلا يرد السلام، لماذا؟ ما أدري، وأنا جلست أحياناً كثيرة مع غير الملتحين، أجلس معهم وأقول لهم: يا أخي! أنت ابدأ ولا تنتظر حتى يسلم، أنت قم إليه واجلس معه، وقل له: السلام لله ما هو لي ولا لك، ولن تدفع شيئاً على السلام، والملتحي ليس بملك، الملتحي بشر، وأنت ادعُ الله أن تطبق هذه السنة، لكن لا تجلس في البيت تنتظره يسلم عليك، اذهب وسلم عليه فربما عنده هم أو مشكلة أو ضائقة، أحياناً بعض الناس يمشي ولا يدري أين يمشي من الهموم التي فيه، فاذهب وسلم عليه وصافحه (وخيرهم الذي يبدأ بالسلام). أيضاً بعضهم ما يتبسم وهذا صحيح، قد يكون بعض الناس دائماً عابس الوجه، وهذا ليس من السنة، السنة أن تكثر من الابتسامة؛ لكن في مكانها طبعاً وفي وقتها (وتبسمك في وجه أخيك صدقة) تصدق دون أن تدفع شيئاً من جيبك، يقول جابر بن عبد الله: [والله ما رآني رسول الله إلا متبسماً] وكان عليه الصلاة والسلام بشوشاً، وكان أحياناً يتهلل وجهه كأنه فلقة قمر، ويقول: (لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق) يعني: هذا أقل معروف تعمله، كلمة طيبة ووجه جميل، الابتسامة صدقة، من كان ليس عنده مال فليتصدق بالابتسامة، وجزاك الله خيراً. وننصح الإخوة الملتزمين بالنسبة لقيادة السيارات فنقول لهم: مطبوعات عبد الملك القاسم جميلة جداً كلها، هذه إحدى مطبوعاتهم في قيادة السيارات؛ آداب قيادة السيارة لأن المسلم حرام كله دمه وماله وعرضه، ولو قتلت إنساناً بالسيارة فهذا قتل نفس محرمة، وجريمة عظيمة بعد الشرك بالله، فالإنسان يتقي الله في الناس، بل وفي نفسه وإلا فمن سمح لك أن تقتل نفسك بقيادة مسرعة وجنونية، هذا كله لا يجوز، وكم حطمت هذه السيارة من أسر! قرأت في النشرة إحصائية عن المملكة العربية السعودية في سنة واحدة -إذا ما خانتني الذاكرة- في سنة واحدة أربعة آلاف وثمان مائة قتيل بسبب حوادث السيارت، الحرب ما فيها بهذا القدر، فلنتق الله في الأنفس والأموال والأعراض، وهذا كله منكر، السلام عليكم ورحمة الله.

كيف أتخلص من الشهوة

كيف أتخلص من الشهوة Q يقول أنا رجل محافظ على الصلوات الخمس في جماعة، لكن فيَّ شهوة غزيرة، كل شيء أحافظ عليه إلا الشهوة لا أستطيع أن أتخلص منها؟ A نقول أولاً: إذا كنت شاباً أعزب والأمر مثير تزوج، لماذا تنتظر (من استطاع منكم الباءة فليتزوج) وإذا قلت: يا شيخ! المهر غالي فأقول: هناك البعض لا تريد مهراً مرتفعاً، ابحث عن الرخيصة التي تطلب مهراً رخيصاً، هذه بركتها أعظم عند الله، من كان مهرها أقل ومؤنتها أقل كانت أعظم عند الله، ابحث عنها، ليس شرطاً -يا أخي- أن تكون أجمل النساء وأفتن، لا يا أخي العزيز شيء مقبول بالجمال تزوجها (واظفر بذات الدين تربت يداك) إذا كنت لا تستطيع على الزواج أكثِر من الصوم، صم ما يكفيك واشغل الوقت بالطاعة وبطلب العلم والدعوة إلى الله، يعني: بدد الفراغ؛ لأن أكثر أصحاب الشهوات لو تسألهم: عندك فراغ؟ يقول: الفراغ كثير، ولهذا يسهر على التلفاز، يقلب المجلات، مواقع الإنترنت؛ لأنه لو كان مشغولاً لما دخل هذه الأمور، ولما رأى هذه الصور أقول: اشغل وقت الفراغ، واللجان الخيرية في مملكة البحرين -أدامها الله وحفظ الله من فيها- أكثر من أن تحصى، يعني: ما شاء الله كل سنة تأتي مراكز جديدة وجمعيات جديدة كلها تطوعية وأهلية؛ فيها توزيع الخيرات وإغاثة المسلمين، وحفظ القرآن، ونشر السنة، طيب لماذا لا تشاركهم يقول: يا شيخ! ما يقبلون، والله يقبلوك! اذهب معهم يومياً وأعط ما عندك، بعض الناس يذهب ويقول: أنا خبرتي يا شيخ في الكمبيوتر، أقول: يحتاجون إليك، أنا عندي سيارة؛ فإنهم يحتاجون إليك.

واجبنا نحو إخواننا في فلسطين

واجبنا نحو إخواننا في فلسطين Q كلمة لإخواننا في فلسطين؟ A ماذا نقول يا إخوة؟ هم شبعوا من الكلام، إخواننا في فلسطين ما أكثر الكلام الذي قيل لهم وعنهم، شبعوا والله لا يحتاجون لا إلى كلامنا وخطبنا، ولا إلى شجبنا واستنكارنا، كل هذا سمعوه مراراً وتكراراً، يحتاجون إلى عمل، تقول: ماذا نعمل؟ نقول: تدعو لهم، إذا كانت صادقاً فاصدق الدعاء لهم، اختر أوقات الإجابة، انفق المال يعني: عشر دنانير أنفقناها للجمعية، دينار نجعله لـ فلسطين (10%) من مصروفاتنا، على الأقل شيء بسيط نخرجه، أنت الآن تستعد لشراء كسوة العيد لأولادك، أكثر الناس الآن يجهز ملابس العيد وهدايا العيد، إذاً اعتبر أن عندك ولد زائد أين هذا الولد؟ في فلسطين اعتبره ولدك مات أبوه، ماتت أمه، تيتم، من له الآن يفرحه في العيد؟ قل: هذا لأحد أولادي في فلسطين، كسوة العيد، سترة العيد أخرجها يا أخي العزيز، إنهم يحتاجون للمال، يحتاجون أن تسري عنهم، هم الآن يحملون عنا الإثم في الدفاع عن المسجد الأقصى، وإلا فكلنا مسئولون عن المسجد الأقصى، فعلينا أن نعينهم إن شاء الله بما نستطيع.

تحذير من الفرقة والاختلاف

تحذير من الفرقة والاختلاف Q يقول: أصاب الأمة الوهن، وغلبة الدنيا وحبها على المسلمين واختلفوا، بل بدأت كل فئة تقذف الأخرى، بل بدأ بعضهم يقفل دور بعضهم على بعض، يتكلم على من يثير الغل والبغضاء بين المسلمين بين بعضهم البعض؟ فالأمة اليوم تحتاج إلى الإصلاح الاجتماعي، فهل لكم كلمة في ذلك؟ A نحن اليوم أحوج ما نكون فيه إلى الوحدة وإلى الاجتماع، وللأسف بعض المسلمين يريد أن يفرق الصف كأنه من جنود إبليس، رضي بالتحريش بينهم، هذا الرجل ما له عمل إلا التحريش بينهم كأنه من الشياطين والعياذ بالله، الآن أوروبا على اختلاف أديانها ومذاهبها تتحد، واليهود على اختلاف أجناسهم يتحدون، وكل العالم الآن يتحد ويتحد إلا المسلمين يتفرقون لماذا؟ والله عز وجل يقول: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46] يعني: لا يوجد في الأرض اليوم دين كامل محفوظ مثل دين الإسلام، النصارى عندهم أربعة أناجيل، وكل واحد هم مختلفون فيه، لا يوجد دين مجتمع مثل الإسلام، يا إخوان! كتاب وسنة وعبادات وشعائر كلها واحدة، وانظر بعض أهل الإسلام في زماننا يمكن يقاتلك على مسألة اجتهادية لماذا يا أخي؟ الصحابة اختلفوا الصحابة في عهد عثمان بن عفان كم بين عثمان والرسول سنوات قليلة حكم أبو بكر ثلاث، وعمر عشر سنوات عثمان حكم، ولم يمت النبي صلى الله عليه وسلم إلا قبل سنين قليلة، الصحابة كلهم متواجدون فصلى فيهم في منى كم كان يصلي النبي في الحج الصلاة الرباعية كم كان يصليها؟ ركعتان تقصر الرباعية في منى هذا الشيء للرسول والصحابة كلهم يشهدون، عثمان قال: أنا أجتهد وأرى أن نصلي أربع ركعات، قالوا: يا أمير المؤمنين! هذا نسك كلنا نشهد أن رسول صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين كيف تصلي أربع؟ اجتهد عثمان ورأى أن الصواب أربع فكبر وصلى أربعاً، الذين لم يروا أنها أربع ركعات بل ركعتين هل خرجوا من الصلاة؟ هل أنكروا على عثمان وابتعدوا وفرقوا الصف؟ تعرف ماذا عملوا؟ كل الصحابة صلوا وراء عثمان أربع ركعات بالإجماع كلهم، واحد بعد الصلاة يريد أن يسأل لماذا؟ أنتم ترون أن هذا خلاف السنة وصليتم أربع، لماذا فعلتم هذا الفعل؟ تعرف ماذا قال الصحابة، قالوا: يا فلان! الخلاف شر، نحن لا نقبل بالخلاف، قد نختلف بيننا وبين بعضنا، ونتناقش ونتحاور، وقد تقتنع وقد لا تقتنع؛ لكن نبقى يداً واحدة، عندما كنا أطفالاً علمونا (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد) هل نحن اليوم جسد أم تفرقنا إلى جنسيات وألوان ولغات ومذاهب، حتى تجد داخل أهل السنة -يعني ما في فرق بينهم نفس العقيدة- لكن يختلفون. في مرة من المرات أحد الإخوة كان يحذر من إمام لا تجوز الصلاة خلفه فقلت: لماذا لا تجوز الصلاة خلفه؟ قال: هذا إذا وضع يده يضع يده تحت السرة في الصلاة قلت: الله أكبر إلى هذه الدرجة ضيقتم الدين وضيقتم الفهم! يقول لي: يكبر يحط يده تحت السرة قلت له: والله لو أنزل يده، ولم يضع يده أصلاً لكانت صلاته كاملة وصحيحة، أصل وضع اليد سنة ليس بواجب، كيف أنتم أخرجتم الناس وضللتم الناس! -طبعاً هذا فهم والحمد لله، قليل من العلماء وأهل العلم والدعاة من يعي خطورة تفريق المسلمين وضرب بعضهم ببعض، هذا خطر خاصة نحن في هذه الأيام، فلندع إلى توحيد المسلمين وإلى جمع كلمتهم على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

تحذير من الغيبة

تحذير من الغيبة Q نرجو منك حث الناس على ترك غيبة الآخرين؟ A نعم صدقت: اقطع لسانك عن ذكر أخيك بالسوء: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [الحجرات:12] هذا قرآن: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] إلا إذا رأيت أخاك أنه ليس من المؤمنين فهذه مصيبة، أما إذا كان مؤمناً: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُم} [الحجرات:10].

التلفاز وكيفية الخلاص منه

التلفاز وكيفية الخلاص منه Q ماذا نفعل بالمربي الأول في البيوت يقول وهو التلفاز؟ A إذا أردت أن تطاع فأمر بالمستطاع، مهما تعمل من خطب ومن دروس صعب أن أحداً سوف يذهب ليخرج التلفاز من البيت، إذاً ما الحل؟ الحل نقوي ونوجه ونختار من التلفاز ما هو جيد وما هو نافع، ونلغي ما هو سيئ؛ لأننا أحياناً نعيش في مجتمع يقول لي أحد الإخوة: منعت أبنائي عن التلفاز، أخذته من البيت نهائياً، حرمت شيئاً اسمه تلفزيون في البيت، يقول: فعندما نزور عيال عمهم ونزور بيوت الأقارب أصبح أولادي لا يأكلون الطعام مثل وقوفهم أمام التلفاز، صارت القلوب معلقة بالتلفاز أكثر، لأنك الآن لا تعيش لوحدك، أنت الآن في مجتمع، ونصيحتي إذا ابتليت بهذا التلفاز وجه وقل: يا أولادي! هذا ما يجوز، وهذا يجوز، هذا حلال حتى الأخبار لما يطلع فيها موسيقى نقفل عند الأولاد، الأولاد يتعلمون ويبغضون هذا الصوت، وهذه برامج نافعة، وبعض القنوات تحذفها نهائياً، يوجد قنوات -والعياذ بالله- شرها طفح وخبثها واضح، ليس فيها إلا تعري الأجساد، فهذه نلغيها نهائياً، اقتصر على قناة قناتين تختار أيضاً من هذه القنوات ما أحل شرعاً وما أبيح، وائت بأفلام طيبة، والحمد لله الآن في الساحة الإسلامية أفلام فيديو تستطيع أن تملأ بيتك، يحدثني الشيخ القطان ويقول: أنا وأحد زملائي قررنا أن نصلح أولادنا بالتلفاز يقول: زميلي أزال التلفاز نهائياً من البيت يقول: أنا قلت له: لا أقدر اشتريت فيديو واشتريت أفلاماً بلغت (500) فيلماً، يقول: اشتركت في السعودية كلها، كل فيلم جديد؛ ثقافي، علمي، رسوم متحركة، كل شيء أتيت به إلى البيت، يقول لأولاده: اشبعوا، من فيلم إلى فيلم، من رسوم متحركة إلى أفلام حيوانات، إلى أفلام ثقافية، إلى أفلام علمية؛ لأنهم كرهوا حتى الجهاز لأن عندهم أشياء أخرى بديلة في البيت، عندهم ألعاب، وبعض الأمور الترفيهية يقول: أولادي بفضل الله -وأنا أعرف أولاد الشيخ بارك الله فيه وفي أولاده- كلهم صالحون والحمد لله، يقول: زميلي للأسف أولاده -وأنا أعرف زميله للأسف من أسوأ الناس أخلاقاً في الحي- صحيح أنه أخرج التلفاز لكنه لم يأت بالبديل، ائت بالبديل، يا أخي! بعض الناس يظن أنه ما دام وأن المرأة محبوسة في البيت فقد عمل اللازم، وبعضهم ملتزمون، والله سمعته يقول: المرأة لا تخرج من البيت ولو خرجت لقبرتها؛ أو بمعنى هذا الكلام، قلت: من أخبرك بهذا؟ وهذه ليست السنة ولا من القرآن، والصحابيات كن يخرجن من البيت قال لي: صحيح؟ قلت له: نعم أول شيء الخمس صلوات كن يخرجن لأدائها، وكانت المرأة تذهب تحلب الشياه، وتجلب الماء، وأحياناً تذهب إلى الأسواق، وتخرج وتزور، من قال لك إن الصحابيات في البيت مقفول عليهن الباب؟ هذا ظلم؛ هذا لا يجوز أصلاً، مثلما تريد أنت الخروج هي تريد الخروج؛ لكن بشرط بإذن الزوج، هنا نساء يستمعن إلي بحشمة وحجاب وأدب شرعي، لكن نقول والله نحبس الأولاد لا تلفاز، ما أدعو للتلفاز هذا، أنا أقول لكن لو أخرجته أو أقفلته فائت بالبديل، الآن في ألعاب ترفيهية كثيرة بفضل الله ظهرت في برامج نافعة، في دورات ترفيهية، لكن أنا أقول: كن يا أخي العزيز حكيماً في معالجة هذا الجهاز لأن القلوب تعلقت به.

تقوية الإيمان في قلوب الناشئة

تقوية الإيمان في قلوب الناشئة Q يقول: ما نصيحتكم في تعزيز وتقوية الإيمان في قلوب الناشئة؟ A هذا ما ذكرناه الآن، الدرس؛ حث الناس على عمل الخير في شهر رمضان، إن شاء الله هذه الكلمات كلها تدعوكم لفعل الخير، استعد في العشر الأواخر إذا عندك أوقات أن تعتكف، تقول: يا شيخ! أنا عندي دراسة. أقول: لا بأس اعتكف واذهب إلى المدرسة وارجع فإنه -إن شاء الله- يحسب لك اعتكافاً، أنت مضطر، ماذا تعمل؟ عندي دوام يا شيخ، اعتكف واذهب داوم وارجع، ويسمى -إن شاء الله- اعتكافاً ويحسب لك إن شاء الله.

مسألة في دعوة النساء

مسألة في دعوة النساء Q كثير من وسائل الدعوة يا شيخ كتيبات تؤدي أحياناً إلى كلام بين الرجال والنساء، وربما تتطور؟ A هذا بحسب الشخص، بعض الناس لو يدعو الرجال أيضاً يفتن؛ نقول: بحسب الشخص؛ إن كان والله يستطيع أن يدعو مثلاً من عنده مدير مكتب، أو عنده موظفات يريد أن يدعوهن بالشريط وهو يأمن على نفسه فلا بأس ما الحرج؟ لكن لا يختلي بها ولا يتحدث ويتسامر معها؛ تفضلي الشريط ومع السلامة، كم من النساء من هداهن الله بشريط، وبكتيب، وبنصيحة.

سؤال يخص الداعية عمرو خالد

سؤال يخص الداعية عمرو خالد Q يقول: الداعية المعروف عمرو خالد لماذا يحلق اللحية؟ A اسألوه لا تسألوني أنا، لكن لعله معذور وأخطأ، أنا سمعته أكثر من مرة يقول: أنا مقصر لكن عندي ظروف، يا إخوة! هذا خطأ، هل نهدم كل حسناته؟ لقد هدى الله على يديه -وأنا أجزم- ملايين، لأني تجولت في العالم وأنا أرى الذي صار بالناس، والله كثيرون يقولون: تحجبت بناتي بسببه، تقول: صلَّى أولادي بسببه، أسر كاملة تابت من شرب الخمور وترك الصلاة، واتجهت إلى قيام الليل بسببه يقول: والله ما بكينا إلا لما سمعناه، كل هذا تريد أن تهدمه لأجل خطأ واحد؛ هذا ظلم. نعم. هو يعترف أنه مقصر لكن ادع الله له، قل: يا رب! اهده بهذه، ثم هو رجل خدم الدين هذه الخدمة لا يجوز لنا أن نتكلم عليه ونحاربه، بل ندعو له أن يثبته الله، وأن ينشر الخير على يديه، وأن يحسن إليه، رجل -يا إخوان- ينفع الأمة ونحن نحاربه، لا. بل ندعو له بالثبات وبالنصر، ومع هذا أنا لم ألتقِ به في حياتي، حتى لا تقولون بينه وبينك مصلحة، عمري ما التقيت به؛ لكن أحب كل من يدعو إلى الله، كل من يخدم دين الله -والله- أحبه وأدعو له بظهر الغيب.

أريد أن أتوب

أريد أن أتوب Q يقول: لي صديق يريد أن يتوب لأنه فعل فاحشة مع أعدائه؛ لكن لا يعرف كيف يتوب؟ A التوبة لها ثلاثة شروط: الندم على ما مضى، الإقلاع عن الذنب الذي هو فيه، العزم على ألا يرجع إليه، فإن تحققت الشروط الثلاثة -بإذن الله عز وجل- تقبل توبته.

عمي لا يصلي فكيف أنصحه

عمي لا يصلي فكيف أنصحه Q يقول: لدي عم لا يصلي كيف أنصحه، وإذا نصحناه يعرض ويسب ويشتم؟ A انصحه بالتي هي أحسن، بالحكمة، هذا عمك والعم مثل الأب، والأب لا يجوز لك أن تأمره وتنهاه كأنه أخوك، بعض الناس يقول: أمرت أبي فلم يستجب؛ من أنت حتى تأمر أباك؟ أبوك كلمه بالتي هي أحسن، بأسلوب لطيف، بقصة بموعظة بشريط بهدية، أو رجل بعمره ينصحه بأدب، أما أنك تأمره كأنه زميل لك في الدراسة، قد تقول لي: يا شيخ! هذا لا يصلي، أقول لك: حتى لو لم يكن يصلي، بل لو كان يعبد صنماً قال الله: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15] ولو كان يأمرك بالشرك.

نصيحة لشارب الدخان

نصيحة لشارب الدخان Q مارأيك ببعض الشباب الذين يدخنون، ويقول: كيف أترك الدخان؟ A اترك الدخان، والله ولا توجد -يا إخوان- أي خطورة، اعزم وكن صادقاً مع نفسك، لا تقل لي: بالتدرج يا شيخ أنا أشرب باكتين اليوم باكت فقط، وغداً ثلاثة أرباع، وباكت ونصف بعد غدٍ، فتظل شهراً وما خلصت، لا تضمن أن الله لا يقبض روحك غداً، أنا أعرف رجلاً التزم والتحى وصار من الشباب الملتزمين والمصلين، يحضر مجالس الذكر، كل شيء تركه إلا التدخين كل يوم باكتين، يقول لي: يا شيخ! أترك كل شيء إلا التدخين لا أقدر، في يوم من الأيام وأنا جالس معه على وجبة عشاء قلت له: يا فلان! أنت ضعيف -أنا بيني وبينه صحبة- قلت له: أنت ضعيف صراحة ما أراك قوياً، قال: لماذا؟ قلت له: صراحة هذه السجارة لست قادراً عليها هذا أنت بكبرك لست قادراً عليها، قال لي: أقدر قلت: مجرد كلام، قال: أقدر قلت له: ما أظن أنت أضعف من أنك تقطع السجارة، وقام يتحدى وأنا أتحدى، أخرج الباكيت من جيبه وكسره قال: انظر لا أدخل في فمي سجارة بعد اليوم، الآن مضى على هذا الكلام خمس عشرة سنة، ولم يدخن بفضل الله. يا أخي! تستطيع لكن أحياناً شهوة أو عادة.

مشاهدة المذيعات في التلفاز

مشاهدة المذيعات في التلفاز Q يقول: بسبب متابعتنا للبرامج الإخبارية في الفضائيات؛ نشاهد المذيعات الفاتنات ما هي توجيهاتكم؟ A لا ترى الأخبار التي فيها فاتنات، لا تطالع، من أباح لك أن تنظر إليهن؟ هناك أخبار فيها رجال في الإنترنت، الآن مواقع أخبارية قبل التلفاز أول بأول، ترى الأخبار من مواقع إسلامية تظهر لك الأخبار بنقاء وصفاء بالتفصيل إذا كنت فعلاً متابعاً للأخبار، فلا تنظر للنساء.

نصيحة لمن يتتبع عورات الدعاة

نصيحة لمن يتتبع عورات الدعاة Q يقول: ما نصيحتك لمن ليس لهم إلا تبديع وتشريح إخوانهم؟ A ذكرنا قبل قليل يقول: على جماعات في الدعوة، وكذا نقول إنما المؤمنون إخوة: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10] كما اختلف الشافعي والإمام أحمد والإمام مالك كما اختلفوا في المذهب هل سمعتم يوماً من الأيام واحداً يتكلم على الآخر؟ مالك يجلس عند الشافعي الصفحات يتصحفها بهدوء احتراماً لشيخه، انظر الأدب! انظر المحبة! الشافعي اختلف مع رجل يسمى يونس بن عبيد -أحد زملائه- في مسألة هذا راح وهذا راح، اختلفوا في مسألة ما أحد اقتنع بكلام الآخر، الشافعي لقيه في اليوم الثاني فذهب يمسك يديه قال: تعال يا يونس! ألا يستقيم أن نكون إخوة متحابين وإن لم نتفق في مسألة، هذا الشافعي، ولا عليك من تشدق بعض الناس وقولهم: لا بد أن نحذر منهم، لا بد أن نحاربهم، لا بد أن نكشفهم إلخ والله، الذي يسمع الكلام يقول: هؤلاء شيوعيون يا أخي العزيز! إذا رأيت من أخيك في أي جماعة خطأً لا تتركه تعال إليه بينك وبينه، ادعه عندك في البيت، اذهب له بهدية، قل له: يا أخي العزيز! رأيتك تقصر في هذه السنة، وتفضل هذا حديث النبي عليه الصلاة والسلام بأدب وحسن كلام، الناس تقبل النصيحة؛ لكن لا تقبل الفضيحة، الناس تحب الإخوة لكن لا تحب العداوة، أخي العزيز! اختر أحسن الكلمات وأظهر له النصيحة. يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء!) ألا تعتقد أننا أصبحنا غرباء؟ الغربة تختلف من بلدٍ إلى بلد ومن زمنٍ إلى زمن، والإنسان يتقي الله عز وجل ويتمسك بسنة النبي عليه الصلاة والسلام. أسأل الله جل وعلا الذي جمعنا في هذا الجمع المبارك أن يجمعنا تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله. اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات؛ إنك سميع قريب مجيب الدعوات، اللهم ألف بين قلوبنا، اللهم ألف بين قلوبنا، اللهم ألف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين. أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم، وجزاكم الله خيراً وسامحوني على الإطالة.

الأسئلة الأخيرة

الأسئلة الأخيرة ساعة السؤال التي تكون في القبر هي أول الحساب والنقاش، ولقد أورد الشيخ في هذه المحاضرة حديثاً عظيماً بين فيه النبي صلى الله عليه وسلم حال المؤمن والفاجر في القبر.

حال الإنسان في القبر

حال الإنسان في القبر الحمد لله، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. ثم أما بعد: أيها الأخ الكريم: هذه كلمة وليست محاضرة، وسوف أقوم بالحديث فيها قدر المستطاع، وعنوانها الأسئلة الأخيرة، فما المقصود بالأسئلة الأخيرة؟ وما هي؟ وهل حقاً هي الأخيرة أم أنه سوف تتلوها أسئلة؟ المقصود بالأسئلة الأخيرة -أخي الكريم- هي الأسئلة التي سوف تكون في قبرك، بل ولو كان العنوان: الأسئلة الأولى لكان أدق؛ لأنها أول الأسئلة، وأول الحساب، وأول النقاش، فاسمعني وأرع إلي انتباهك، سوف أورد عليك حديثاً واحداً يخبر فيه النبي صلى الله عليه وسلم عن حال كل إنسان، فاجراً أو صالحاً، مؤمناً كان أو كافراً، سوف أورد عليك هذا الحديث فاسمعه وانتبه له، واعلم أخي الكريم أن هذا الحديث لا بد أنك سوف تمر فيه، وهذه الحال إما الحال الأولى أو الثانية إنك ملاقيها يوماً من الأيام، فاسمع وتفكر وتخيل أنك الذي يتحدث عنه النبي صلى الله عليه وسلم.

حال المؤمن في القبر

حال المؤمن في القبر يقول البراء بن عازب رضي الله عنه: (خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقبلاً القبلة وجلسنا حوله) انظر للأدب، الموقف فظيع، والأمر جلل، وبين يديهم قبرٌ يحفر، وجنازة ينتظرونها، وبعد أيام أو سنوات كل واحد من الجلوس سوف يقدم على هذه الحال. يقول: (وكأن على رءوسنا الطير، وفي يده عودٌ ينكت في الأرض -أي النبي صلى الله عليه وسلم- وجعل يرفع بصره ويخفضه ثلاثاً -يرفع بصره إلى السماء ثم ينزل، ثم يرفع ثم ينزل، ثلاث مرات- ثم قال: استعيذوا بالله من عذاب القبر). واسمع وأنا أتلو عليك هذا الحديث، فإنه ليس بالقول الهزل، وليس قصة نتسلى بها، وليست -أخي الكريم- أساطير الأولين أحدثها عليك، لا. أخي الكريم: إنها حقيقة سوف تقدم عليها الليلة أو غداً، ولعلك في الأيام القادمة المقبلة، فاسمع وأرع انتباهك، وتخيل نفسك يا عبد الله وأنت تمر في هاتين الحالتين.

بشارات المؤمن في قبره

بشارات المؤمن في قبره قال عليه الصلاة والسلام: (إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبالٍ على الآخرة) يعني على فراش الموت، لعل ابنته عنده تبكي، وولده يبكي، ولعله في حادث سيارة، ولعله في فراش المرض، أو لعله ساجد أو راكع، أو لعله يقرأ القرآن أو يستمع إليه، انقطع من الدنيا وبدأ يقبل على الآخرة. (نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه) مؤمن، صالح، تقي، قارئ للقرآن، داعية إلى الله، مجاهد، آمر بالمعروف، ناهٍ عن المنكر، طالبٌ للعلم، بارٌ بوالديه، واصلٌ لأرحامه، اسمع: (نزل إليه من السماء ملائكة بيض الوجوه، كأن وجوههم الشمس، معهم كفنٌ من أكفان الجنة) قماش من الجنة، كفن من الجنة. يا عبد الله: تخيل منظره، تخيل رائحته، تخيل منظر هذا الكفن، بل منظر من يحمله: (وحنوط من حنوط الجنة حتى يجلسوا منه مد البصر) أي يجلسون أمامه إلى أن يذهب آخرهم على مد البصر يا عبد الله: هذه بشارة ولعل من حوله يبكون وهو فرح، ولعل زوجته عنده تنوح وهو مستبشر، ولعل أمه تبكي وهو يطرب فرحاً بلقاء الله جل وعلا، ورؤية الملائكة البيض بشارة في الدنيا قبل دخول القبر: (ثم يجيء ملك الموت عليه السلام، حتى يجلس عند رأسه) وأنت لا تراه، أنت لا تحس به، هو موجود عنده في الغرفة، ولعله يقبض روحه وبعد قليل يأتي إلى أحد الجالسين، ولعله بعد أيام ينتظر أحد الذين يبكون، هو جالسٌ عند رأسه وأنت لا تدري ويقول: (أيتها النفس الطيبة المطمئنة) اطمأنت بم؟ اطمأنت -يا عبد الله- بالقرآن: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} [الرعد:28] اطمأنت ببر الوالدين، اطمأنت بصلاة الفجر، وبالسجود والركوع، اطمأنت بذكر الله جل وعلا: (يا أيتها النفس الطيبة المطمئنة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان) الله أكبر! يبشر بالمغفرة، يبشر بالرضوان: (فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء) تخيل قطرة تخرج من فيّ السقاء، لو ينزل الماء فتبقى قطرة تنزل، هل تحس بالصعوبة؟ هل تحس بشقاء؟ هل تحس بألم؟ تخرج كما تسيل القطرة، بنعومة وسهولة! (حتى إذا خرجت روحه صلَّى عليه كل ملكٍ بين السماء والأرض) يصلون عليها ويدعون لها، ويستغفرون لها. عبد الله: يقول عليه الصلاة والسلام: (أطت السماء وحق لها أن تئط، ما من موضع شبرٍ إلا عليه ملك راكع أو ساجد) بين السماء والأرض كل الملائكة يستغفرون لك، ويصلون عليك. عبد الله: ليست القضية أن يصلي عليه عشرون أو ثلاثون من الناس خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً لا. كل الملائكة في السماء والأرض يصلون عليه، اسمع: (صلى عليه كل ملك بين السماء والأرض، وكل ملك في السماء) حتى ملائكة السماء يصلون عليه، فيأخذها ملك الموت: (فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها، فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط) الله أكبر! وضع في كفن الجنة، وفي حنوط من الجنة، فيصلي عليه ملائكة الأرض والسماء، واسمع الآن إلى النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث يقرأ بعض الآيات، منها هذه الآية، قال الله تعالى: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام:61]. لعل أهله يبكون، ولعلهم ينوحون، ولعلهم يحزنون، وهو في طربٍ وفي شغفٍ، وفي حب للقاء الله جل وعلا. اسمع يا عبد الله: وضع في كفن من أكفان الجنة، وحنط من حنوط الجنة (ويخرج منها -أي من جسده- كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض، قال: فيصعدون بها فلا يمرون على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الطيبة؟ فيقولون: فلان بن فلان؛ بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه به في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا) لحظات فقط، أهله لعلهم لا زالوا يغسلونه، بل لا زالوا يحاولون إخراجه من المستشفى، أو إخراج الجثة من الحادث، أو إزالة الحريق عنها، أو لربما لم يجده أحد بعد، ولم يعثر على جثته أحد، أما روحه وصلت إلى السماء الدنيا، لعله تقطع جسده في معركة من المعارك، بل لربما تقطع الجسد إرباً إرباً، وهو في الجهاد في سبيل الله، أما الروح طيبة طاهرة وصلت إلى السماء الدنيا: (فيقولون: لمن هذه الروح الطيبة؟ فيقولون: فلان بن فلان؛ بأحسن اسمٍ كان ينادى به في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا فيستفتحون له، فيفتح له) الله أكبر! السماء الدنيا تفتح له، سماء عظيمة تفتح له، كرامة له (فيشيعه من كل سماءٍ مقربوها إلى السماء التي تليها) جنازة تمر في السماء، تعرف من يمر بالجنازة ومن يشيعها؟ أفضل ملائكة في السماء، وأقرب الملائكة إلى الله، يمشون خلف هذه الجنازة، من سماء إلى سماء، تستقبله ملائكة أخرى، أفضل الملائكة في كل سماء تستقبل هذه الروح لتصعد بها إلى السماء التي تليها: (حتى يؤتى بها إلى السماء السابعة، فيقول الله عز جل: اكتبوا عبدي في عليين) {وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين:19 - 21] فيكتب كتابه في عليين، ثم يقال: أعيدوه إلى الأرض، فإني وعدتهم منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى، فيرد إلى الأرض). تخيل الروح من السماء السابعة تنزل إلى الأرض، لربما لا زالوا لم يدفنوه، ولربما دفنوه ولا زالوا لم يكملوا دفنه، بل لربما يسلم بعضهم على بعض ويعزي بعضهم بعضاً، فيقال: فلاناً توفي، رحمه الله، لقد كان صالحاً، كانت لا تفوته صلاة الفجر رحمه الله، لم يسمح لابنه بفسادٍ ولا لبنته بمنكر رحمه الله، ما أدخل التلفاز قط في حياته إلى البيت، رحم الله فلان توفي لقد مات في الجهاد في سبيل الله، لقد مات وقد صلى الفجر في جماعة الله، أكبر!

حال المؤمن مع منكر ونكير

حال المؤمن مع منكرٍ ونكير (ثم يقال: أعيدوه إلى الأرض، فإني وعدتهم: منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى، قال: فيرد إلى الأرض، وتعاد روحه في جسده فيأتيه ملكان -وبدأت الأسئلة، إنه الاختبار، إنها الفتنة العظيمة -شديدا الانتهار- ليس أي ملكين، إنهما ملكان شديدا الانتهار، إذا نهرك يا عبد الله تنسى اسمك من اسم غيرك- شديدا الانتهار فينتهرانه) يغلظان له في الكلام، نعم صالح لكنه اختبار، نعم مصلٍ لكنه اختبار، قارئ للقرآن، قائم لليل، يصوم النهار؛ لكنه اختبار وفتنة؛ ليتبين الصادق من الكاذب، يتبين قوي الإيمان من هش الإيمان. (فينتهرانه ويجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ -أول سؤال، وأول اختبار، من ربك؟ - فيقول: ربي الله) بكل ثبات ويقين، وبكل شجاعة يقول: ربي الله، لا يتلعثم فيها، ولا يتردد بها، ولا ينساها؛ لأنه ملأ قلبه بحب الله جل وعلا، كان يقوم لله، وينام لله، ويذكر الله جل وعلا صباح مساء، الله عز وجل أحب إليه من كل شيء، من نفسه وماله وولده والناس جميعاً، يحب الله عز جل حباً عظيماً: (من ربك؟ ربي الله، ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم) نعم. كان يتبعه في سنته حذو القذة بالقذة، يسأل كيف صلى فيصلي مثله، كيف حج ليحج مثله، يسأل كيف صام فيصوم مثله، يسأل كيف كان يدعو، كيف كان يلبس، كيف كان يأكل، يحب اتباعه في كل شيء، فيتبعه عليه الصلاة والسلام في كل مستحب وواجب ويحبه، فإذا به يقول: (هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولان له: وما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله تعالى فآمنت به وصدقت) العلم هو الذي دله على هذا، علم الكتاب والسنة، علم الشرع يا عبد الله، ما كان يسمع أحاديث الناس، ما كان في دينه يصلي لفلان وفلان، كان أول ما يبحث وأول ما يسأل عن آية من كتاب الله، أو عن حديث من أحاديث رسول الله، لهذا قال: (قرأت كتاب الله تعالى، فآمنت به وصدقت). ثم يعاد الاختبار مرة ثانية: (فيقولان: من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ فذلك حين يقول عز وجل: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم:27]-اسمع الإجابة- فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم -الآن النتيجة- فينادي منادٍ من السماء: أن صدق عبدي؛ فافرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، قال: فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مد بصره) ولعل أهله يبكون، ولعلهم يعزي بعضهم بعضاً، ولعل أعينهم تدمع، ومنهم من يقول: مسكين فارق الدنيا، أنتم المساكين! لقد فرش له من الجنة، لقد ألبس من الجنة، ولما يغادر أهله المقبرة، ولما يكملوا بعضهم تعزية بعض، وقد ألبس من الجنة وفرش له من الجنة. اسمع تتمة البشارة: (قال: ويأتيه رجلٌ حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك، أبشر برضوان من الله، وجنات فيها نعيمٌ مقيم، هذا يومك الذي كنت توعد). هذه يومك يا من تصلي الفجر! هذا يومك يا من تعتكف في المساجد! هذا يومك يا من غضضت البصر وكففت عن الحرام! كان الناس يخوضون في الربا وكنت تصبر وتتحمل وتكتفي بالحلال، كان الناس يفعلون المنكرات وأنت تصبر عن الحرام (هذا يومك الذي كنت توعد فيقول له: وأنت بشرك الله بالخير، من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح) أنا قراءة القرآن، أنا الدعوة إلى الله، أنا قيام الليل، أنا بر الوالدين، أنا الحج، أنا العمرة: (أنا عملك الصالح، فوالله ما علمتك إلا كنت سريعاً في طاعة الله، بطيئاً في معصية الله، فجزاك الله خيراً) نعم، قد يعصي الصالح ربه، وقد يقع في الذنب: (كل بني آدم خطاء) لكنه بطيء، لكنه يندم ولا يصر، أما في الطاعات فإنه سريع، يقوم نشطاً للصلاة، يقوم مسرعاً للنفقة، أول إنسان يأتي إلى المسجد، إذا أخبر عن مجال الدعوة إلى الله كان في المقدمة، إذا أخبر بالجهاد كان الأول، إن دعي للتصدق كان الأول، إن أمر بالصلاة يقف نشيطاً سريعاً في الطاعة، أما في المعصية يندم، ويتأخر ويقدم قدماً ويؤخر أخرى، فإن وقع في الذنب رجع وأناب واستغفر: (ثم يفتح له بابٌ إلى الجنة، وبابٌ إلى النار يرى منزله في النار، فيقال: هذا منزلك لو عصيت الله، أبدلك الله به هذا، فإذا رأى ما في الجنة) يرى القصور والأنهار، يرى الجنان، ومكانه فيها يا عبد الله! وقبل يوم أو قبل ساعات كان في الدنيا معذباً، كان في الدنيا متعباً، ينصب في طاعة الله، بعد ساعات رأى منزله في الجنة. يا عبد الله: لعلك في بعض الأحيان إن مات أحد الصالحين قلت: مسكين كان ينوي أن يفعل كذا وكذا لكنه سبقته المنية، بل لعلنا نحن المساكين، لعله رأى منزله في الجنة وأنت لا تدري: (فيقول: فإذا رأى ما في الجنة قال: رب أقم الساعة، رب أقم الساعة كيما أرجع إلى أهلي ومالي، فيقال له: اسكن) فينام نومة لا يستيقظ إلا على قيام الساعة، نومة خفيفة، نومة لا يحس فيها إلا بالنعيم والراحة.

حال الفاجر في القبر

حال الفاجر في القبر أما الآخر، أما صاحب الفجور، أما صاحب المعاصي، أما الذي لا يعرف عن الصلاة إلا الجمعة إلى الجمعة، أما أهل الفساد والمنكرات، أما أهل الخمور والمخدرات، أما الذين يتبعون النساء يمنة ويسرة ولا هم لهم في الدنيا إلا تتبع النساء والعورات، اسمع إلى مصيرهم وحالهم: (وإن العبد الكافر أو الفاجر إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبالٍ على الآخرة، نزل إليه من السماء ملائكة غلاظ شداد، سود الوجوه، معهم مسوح من النار) تعرف ما هي المسوح؟ لباس من شعر خشن، يأتون به من وسط جهنم، لباس أهل النار، يأتون به ليلبس أول ما يؤخذ من جسده، تتعجب بعض الأحيان، ترى بعض الناس على فراش الموت يصيح، ويسود وجهه ويزرق ويخاف، ويصيح صياحاً وليس به شيء، ما الخبر؟ يرى أمراً لا تراه أنت، وبدأ ملك الموت يندفع والروح تتفرق: (معهم مسوح من النار، فيجلسون مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه ويقول: أيتها النفس الخبيثة! اخرجي إلى سخطٍ من الله وغضب، قال: فتفرق في جسده) يعني الروح تهرب، تتوزع في الجسد؛ لأنها لا تريد الخروج إلى غضب الله وسخطه.

بشارات السوء للفاجر في القبر

بشارات السوء للفاجر في القبر عبد الله: في تلك اللحظات لا تنفع التوبة، تلك اللحظات لو يدفع الملايين لا ينفعه عند الله، لو يقطع جسده لله جل وعلا والله لا ينفعه كل هذا: (أيتها النفس الخبيثة! اخرجي إلى سخط من الله وغضب، قال: فتفرق في جسده، فينتزعها كما ينتزع السفود الكثير الشعب وهو الشوك من الصوف المبلول) حديد فيه شعب كثيرة، عليه الصوف ينتزع الثوب من هذا الحديد، أتعرف ما الذي يحصل؟ يتقطع ذلك الصوف ولا يخرج، ينتزع الروح وتتقطع الروح في الجسد من شدة نزعه: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً} [النازعات:1 - 2]. (تتقطع معها العروق والعصب؛ فيلعنه كل ملكٍ بين السماء والأرض، وكل ملكٍ في السماء) كل ملك في السماء، بل بين السماء والأرض. كم ملك يا عبد الله؟ أول ما تخرج الروح يلعنونه، اللهم العنه، اللهم العنه، اللهم العنه، يا عبد الله إنه دعاء الملائكة! يا عبد الله فكر إلى أين تسير! لكل أمرٍ نهاية! يا عبد الله والله مهما طال بك العمر فإن الموت يأتي بغتة! ولا مقدمات لخروج الروح، وسل كبار السن؛ كم عشتم في الدنيا، يقولون لك: أياماً معدودة، مرت كلمح البصر، كأنه حلم ثم ذهب، كأنها نومة استيقظت منها: (فيلعنه كل ملكٍ بين السماء والأرض، وكل ملكٍ في السماء، وتغلق أبواب السماء، ليس من أهل بابٍ إلا وهم يدعون الله ألا تعرج روحه من قبلهم، فيأخذه -يعني ملك الموت، الآن نزع الروح، اسمع وقارن بين الأول والثاني- فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين، حتى يجعلوها في تلك المسوح، ويخرج منها كأنتن جيفة وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الخبيثة، فيقولون: فلان بن فلان). لا إله إلا الله! كان في الدنيا يحرص على رائحته الطيبة، كان يحرص على ثيابٍ زكية، كان يحرص على تسريحة شعره، يقف أمام المرآة الساعات الطوال، كان يحرص دوماً ألا يخرج إلا بأنظف الملابس وأطيب الروائح، ما بال الروح كأنتن جيفة وجدت على وجه الأرض، ما الذي جرى؟ نعم. دنسها بالمعاصي، نعم نجسها بالخبائث والمنكرات. (ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقولون: فلان بن فلان، بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا، حتى يؤتى به إلى السماء الدنيا، فيستفتح له، فلا يُفتح له -مصيبة يا عبد الله! نسأل الله العافية، إن كان الواحد منا ما فتحت له أبواب السماء فليبشر بهذه النتيجة- ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف:40] فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتابه في سجين -في الأرض السفلى- ثم يقال: أعيدوا عبدي إلى الأرض). لعله مات وهو يعاقر امرأة بالحرام، قبحه الله ما صلى منذ شهر، ومات اليوم؛ أعوذ بالله، أما الصالحون فنفروا عنه، ولم يصل عليه أحدٌ من الصالحين، وما صلى عليه إلا كل مغرور لا يدري عن حاله، قبحه الله؛ مات وهو يشرب الخمر، أو انتحر بالمخدرات، قبحها الله من ميتة، اسمع: (فيقال: أعيدوا عبدي إلى الأرض، فإني وعدتهم أني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى، فتطرح روحه من السماء طرحاً حتى تقع في جسده) تلقى من السماء الدنيا إلى الأرض، تطرح يا عبد الله، انظر إلى المسافة هذه كلها، أما المؤمن فينزل، أما هو فإنه يطرح وترمى نفسه، والملائكة لا تنزله إلى الأرض؛ لأنه لا يستحق، إنما يطرح على الأرض طرحاً، اسمع إلى قول الله: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ} [الحج:31] ومن المشركين الذين لا يصلون يا عبد الله: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31].

موقف الفاجر مع منكر ونكير في القبر

موقف الفاجر مع منكر ونكير في القبر ثم قال: (فتعاد روحه في جسده وإنه ليسمع خبط نعال أصحابه إذا ولوا عنه) يسمعهم يمشون على القبر، يسمع قرع نعال أبيه، وقرع نعال أخيه، وقرع نعال جيرانه، وقرع نعال أصحابه إن صلى عليه أحد، يسمع قرع نعالهم: (ويأتيه ملكان شديدا الانتهار، فينتهرانه ويجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري! فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري! فيقولان له: فما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: من؟ فيقال: محمد، فيقول: هاه هاه لا أدري! سمعت الناس يقولون ذلك، فيقال: لا دريت ولا تليت) كيف يدري وكان قدوته من الدنيا كافراً مطرباً نصرانياً، قدوته من الدنيا في لباسه ومظهره؟ كيف يدري وكان في الدنيا يستهزئ بسنته عليه الصلاة والسلام؟ كيف يدري وكان ينام على عشقها وحبها ويتغزل بالتفكير فيها؟ كيف يدري وكان لا يعرف القرآن سنين طويلة؟ كيف يدري وكان يسمع الأذان ويولي؟ كيف يدري -يا عبد الله- وكان ينام على الفجور ويقوم على الفجور؟ فيقال: (لا دريت ولا تليت، فينادى من السماء؛ أن كذب عبدي، فافرشوا له من النار) أنت لم تر شيئاً، حفرة فقط، فرش له من النار في قبره، نعوذ بالله! نار تلظى يا عبد الله! نار تحرق، ولعله قبل ساعات كان في بيته منعماً، كان في قصره مكرماً، أما الآن فرش له من النار. (فافرشوا له من النار، وافتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه) إن أضلاعه تتداخل بين بعضها البعض، يضيق القبر حتى يدخل الضلع في الآخر: (ويأتيه رجلٌ قبيح الوجه قبيح الثياب، منتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوؤك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: وأنت بشرك الله بالشر من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالشر فيقول: أنا عملك الخبيث) أنا عملك الخبيث، إن كانت امرأة، أنا التبرج، أنا السفور، أنا مخالطة الرجال، أنا استماع الأغاني، أنا أكل الربا، أنا ترك الصلاة، أنا السب والشتم واللعن والاستهزاء بالصالحين، أنا عملك الخبيث، إلى الآن ما جاء إلى الله جل وعلا، إلى الآن ما جاء يوم الحساب، إلى الآن ما جاء اليوم الآخر، اسمع إنه أول منازل الآخرة: (أنا عملك الخبيث، فوالله ما علمتك إلا بطيئاً عن طاعة الله -في الطاعة والخير يتثاقل، يجر نفسه وكأنه يحمل جبلاً، إن جاء إلى مجلس ذكر، أو إلى الصلاة، وقراءة القرآن، لعله يأتي ولكن بكسل وبتثاقل، ويكره العمل لكنه يفعله رياءً أو استحياء- سريعاً إلى معصية الله، فجزاك الله شراً، ثم يقيض له أعمى أصم أبكم في يده مرزبة -مطرقة من حديد- لو ضُرِبَ بها جبلٌ لصار تراباً، ويضربه ضربة حتى يصير بها تراباً). اسمع وانظر وتخيل يا عبد الله! {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق:13 - 14] الأمر ليس بالجدل، وليس بالضحك، وليس بالهزل، إنها حقيقة أخبر بها الله، إنها أول منازل الآخرة يا عبد الله، لعلك تقدم عليها الليلة أو بعد لحظات، أو بعد ساعات، فاستعد لها يا أخي الكريم. (حتى يصير بها تراباً، ثم يعيده الله كما كان، فيضربه ضربة أخرى فيصيح صيحة يسمعه كل شيء إلا الثقلين -إلا الجن والإنس- ثم يفتح له بابٌ من النار، ويمهد من فرش النار، فيقول: -وهو في هذا الحر، وهذا الضيق، وهذا التعب والنصب والعذاب، تظنه ماذا يقول؟ - يقول: رب لا تقم الساعة، رب لا تقم الساعة) تعرف لم يا عبد الله؟ لأنه يدري أن الساعة أدهى وأمر. إنها الأسئلة؛ إن قارنتها في الدنيا فهي الأخيرة، وإن قارنتها بالنسبة للآخرة فهي الأسئلة الأولى يا عبد الله، فليس هناك دور ثانٍ، وليست هناك فرصة أخرى، والقضية قوة إيمان وضعف إيمان. إن كنت من المؤمنين الصالحين، وممن آمن بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً، إيماناً ليس باللسان فقط، بل إيمانٌ باللسان والقلب والأركان، قولٌ وعملٌ يا عبد الله، فإنك سوف تجيب على هذه الأسئلة، وإن كنت ممن يقول الناس كلاماً فتقول مثلهم فقط؛ هكذا رياءً وسمعة، حياءً واستحياءً من الناس، لربما يجيب على هذه الأسئلة، ولربما يكون ممن يقول: هاه هاه لا أدري، وستسمع النتيجة الأولى: أن كذب عبدي، ووقتها لا ينفع الندم، ولا ينفع العويل، ولا ينفع البكاء. فالله الله أيها الإخوة الكرام، أن نستعد للإجابة على هذه الأسئلة، وأن نتأهب لها. أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الأسئلة

الأسئلة

الانتكاسة بعد الالتزام

الانتكاسة بعد الالتزام Q هناك شاب كان يحافظ على الصلاة، ويحفظ من كتاب الله شيئاً يسيراً، وفي يومٍ وليلة انتكس على عقبيه فترك الالتزام، حتى أصبح أهله يتضايقون منه، فما نصيحتك له؟ A غالبهم لم ينتكس في يوم وليلة، غالبهم بدأ الإيمان عنده يضعف والظاهر لم يتغير، بدأ الإيمان يفتر في قلبه شيئاً فشيئاً، أما الظاهر من لحية وثوبٍ وصلوات الفرائض وغيرها لا زالت ظاهرة سوية، ولكن الباطن اختلف وضعف. التقوى هاهنا، التقوى هاهنا يا عبد الله: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكِر الله} [الرعد:28] الإيمان بدأ يضعف في القلب، بدأ يفتر شيئاً فشيئاً، لم يظهر عليه شيء لكنه إذا فتح الجريدة والمجلة الخليعة نظر فيها، وإن جلس في مجلسٍ استساغ الغيبة والنميمة، بل يتكلم في أعراض الناس، بل يتأخر عن الصلاة، كان في الصف الأول ثم الثاني ثم الأخير، ثم بدأ يلحق ركعة أو ركعتين، ثم لا يدرك إلا الركعة الأخيرة، ثم السلام ثم الجماعة الأخرى، ثم بدأ يصلي في البيت، شيئاً فشيئاً، الإيمان بدأ يخمد وبدأ يذهب، ولكنه تمادى، واستهان بالأمر، وتساهل فيه حتى انتكس: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون:3]. اسمع يا عبد الله إلى هذا الرجل الذي وصفه الله جل وعلا في هذا الوصف، أقبح وصفٍ في القرآن: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا} [الأعراف:175] من اهتمامه والتزامه صار عالماً، بل أعلم بني إسرائيل: {آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا} [الأعراف:175] علم الشريعة: {فَانْسَلَخَ مِنْهَا} [الأعراف:175] ارتد وانتكس، تعرف ما الذي جرى؟ {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:175 - 176] نعم. هذا مستواه، وهذا وصفه، يدخل في دين الله، ويعرف القرآن، ولذة الإيمان، ويصلي مع الصالحين، ثم بعد أيام مع الفجرة الفاسقين، ويترك الصلاة وراءه، ويترك القرآن ويهجره، ويترك الصالحين إلى الفسقة والفجرة، أتعرف بم شبهه الله؟ قال الله تعالى: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف:176] أي لا فائدة منه فهو يلهث إن كان قد حمل عليه أو لم يحمل عليه: {ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:176] أنت إن رضيت بهذا المثل فاقنع بحالك يا عبد الله: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29] {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:3] افعل ما بدا لك؛ لكن {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً} [الكهف:29]. نعم. افعل ما بدا لك في هذه الدنيا، فإنك تجازى به عند الله جل وعلا. أقول: السؤال لعله قد يكون غير دقيق عند حال كثير من الناس، يصعب أن يكون في يومٍ وليلة إلا ما ندر، وإلا غالبهم بدأ الإيمان ينقص ويتساهل، ضعف الإيمان وتمادى، بدأ يقع في الصغائر ويتمادى، صغيرة تلو صغيرة حتى صارت الصغائر كالجبل، فأهلكت قلبه، ودمرت دينه وحياته، حتى كان كما قال الله جل وعلا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11].

أمور تعين على الالتزام

أمور تعين على الالتزام Q أنا شاب من أصحاب سود الوجوه، أصحاب المعاصي والذنوب، فأريد أن أصبح من الصنف الثاني فما السبيل؟ A المؤمن الصادق يقوم الليل، ويصوم النهار، ويقرأ القرآن، ويدعو إلى الله، ويفعل جميع الطاعات، ويخاف أن الله لا يتقبل منه، هذا المؤمن الصادق: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60] المؤمن الصادق يخاف على نفسه، يخاف على نفسه ألا يقبل الله منه حسنة، ابن عمر تصدق بصدقة فقال ابنه له: [[يا أبت تقبل الله منك، قال: يا بني لو علمت أن الله تقبل مني حسنة؛ ما كان غائباً أحب إلي من الموت، لكن {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]] يقولها وهو أحد كبار الصحابة وصناديدهم، وأحد العلماء والفقهاء وحملة الشريعة إلى الآن، يقول: [لو علمت أن الله قبل مني حسنة، ما كان غائباً أحب إلي من الموت]. عبد الله: هذا هو المؤمن الصادق، يخاف ألا يتقبل الله منه، وهو في نفس الوقت يصلي ويركع ويعبد الله جل وعلا، يعيش بين الخوف والرجاء، نعم يخاف لكن لا يغلب خوفه على رجاؤه، ولا رجائه على خوفه، أما الفجرة والفسقة تجد أحدهم لا يصلي لله ركعة، ولا يسجد لله سجدة، ويهجر القرآن، وينظر لعورات المسلمين، ويأتي إلى المحرمات، وإذا سألته: قال: إن ربي غفور رحيم، مغرور ومسكين وغره الشيطان بعمله! عبد الله: هذا السائل لعل حاله إن شاء الله حال الصالحين، فلعله إن شاء الله يصلي ويذكر الله، ويسجد، ويصلي الفجر، ومع هذا يخاف أن يكون من أصحاب الشمال. عمر بن الخطاب يقول: [[والله لو نادى منادٍ من السماء: يا أهل الأرض كلكم في الجنة إلا واحداً لظننت أنه أنا] انظر! يقول لـ حذيفة: يا حذيفة: أسماني رسول الله من المنافقين؟! يا حذيفة! أجبني أكنت في سجل المنافقين؟! يا حذيفة هل كنت ممن سماه رسول الله منافقاً؟! فيقول حذيفة: لا يا عمر ولا أزكي أحداً بعدك. وكان يخاف على نفسه من النفاق. وعثمان كان يبكي إذا ذكر له القبر، يخافون يا عباد الله. أما الفجرة والفسقة الذين لا يصلون ولا يدعون الله ولا يرجونه سبحان الله! أما المؤمن الذي يعيش بين الخوف والرجاء فأبشر وأكثر من الطاعات ومن الصالحات، ولما سأل الرجل قال: (سلني يا ربيعة بن كعب! فقال: يا رسول الله! أسألك مرافقتك في الفردوس الأعلى) ما قال الجنة، قال الفردوس وأعظم مكان في الفردوس، مرافقتك في الفردوس الأعلى، انظر إلى رجائه، وهمته العالية، قال: أسألك مرافقتك في الجنة، هل قال له المصطفى أبشر، هل قال له المصطفى: نم وارتاح، أدعو لك وانتهى الأمر؟ لا. قال: (أعِنّي على نفسك بكثرة السجود) الأمر يحتاج إلى صلاة، يحتاج إلى سجود، يحتاج إلى ظمأ الهواجر، يحتاج إلى قراءة قرآن، يحتاج إلى اعتكاف في المساجد، يحتاج إلى أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، يحتاج إلى أمر بالرسالة، وإلى صبر حتى تسمعها عند الله جل وعلا: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:24]. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

التربية العبادية للنفس

التربية العبادية للنفس تربية النفس قضية مهمة جداً، وقد أقسم الله على فضلها، وهي ترتكز على محورين: 1 - تربية النفس في معاملتها مع الله. 2 - تربية النفس في معاملتها مع الخلق. وفي هذين المحورين مقامات ترتقي فيها النفس حتى تبلغ أعلى الدرجات.

كيفية تربية النفس

كيفية تربية النفس الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه. أما بعد: التربية العبادية هي: أن يربي الإنسان نفسه، وهي قضية مهمة، فقد أقسم الله عز وجل على فضلها فقال: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس:1 - 8] واسمع للمقسم عليه: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس:9] قد أفلح من طهر هذه النفس ورباها، وكانت من غايات بعثته عليه الصلاة والسلام أن يربي الناس ويزكيهم: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2] والتزكية هي بمعنى التربية. وقضية التربية -أخي الكريم- ليست سنوات التزام، لو سألت بعض الناس: كم سنة أنت ملتزم؟ قال: ست أو سبع أو عشر سنوات. فليست القضية في العمر أو في السنوات، لكن هل ربيت نفسك على عبادة الله جل وعلا؟ هل طهرت هذه النفس؟ هل زكيتها؟ ألهم الله عز وجل هذه النفس الفجور والتقوى، ثم قال: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس:9] أي: من زكى هذه النفس وطهرها عن الأدناس والأنجاس، ولهذا سوف نتكلم -يا عبد الله- في هذه الكلمات عن كيفية تربية النفس تربية عبادية، وسوف أقسم الموضوع إلى قسمين: أن تربى النفس على أن تكون هذه النفس عابدة لله جل وعلا في أمرين: أولاً: في معاملتها مع الله تعالى. ثانياً: في معاملتها مع الناس. أنت عبد لله جل وعلا أنت عندما تبيع وتشتري عبد لله، وعندما تتعامل مع الأم أو الأب أو الإخوة أو مع أي أحد من الناس جميعاً أنت عبد لله جل وعلا، فتربي نفسك حتى في معاملتك مع الناس، ولهذا سوف نقسم الموضوع -كما قلت- إلى قسمين: بينك وبين الله، ثم بينك وبين الناس.

تربية النفس في معاملتها مع الله عز وجل

تربية النفس في معاملتها مع الله عز وجل

تربية النفس على استشعار عظمة الله جل وعلا

تربية النفس على استشعار عظمة الله جل وعلا أولاً: يا عبد الله! اسمع إلى هذه المقامات بينك وبين الله، إذا أردت أن تكون عبداً وتذل لله عز وجل بالعبودية فلا بد أن تستشعر عظمة الله جل وعلا من هو الله؟ قدَّر عظمته، ولن تستشعر عظمة الله جل وعلا إلا بعد أن تعلم صفاته جل وعلا، قال الله تعالى عن نفسه وعن صفاته: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67]. أرأيت إلى الأرض بجبالها وأنهارها وبحارها وبما فيها! كلها يقبضها الله عز وجل يوم القيامة، بل أرأيت إلى هذه السماء! أتعرف كم بينها وبين السماء التي تليها؟ خمسمائة عام، ثم السماء التي تليها خمسمائة عام، وهكذا سبع سماوات يطويها الله كطي السجل للكتب بيده جل وعلا، بل يقبض السماوات والأرضين ويهزهن ويقول: (أنا الملك أنا الملك أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟). انظر إلى عظمة الله عندما تكون لوحدك في البيت، وتدعوك نفسك للنظر لامرأة، أو استماع أغنية، أو تقوم لأذان الفجر ثم ترجع وتنام، أتعرف من تعصي يا عبد الله؟ قال بعض السلف: "لا تنظر لصغر المعصية لكن انظر إلى عظمة من عصيت" تعصي الرب الجليل جل وعلا، اسمع إلى عظمته وهو يخاطب موسى: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف:143] يا رب! أريد أن أنظر إليك، اشتاق لرؤية الله جل وعلا، والله عز وجل لا يرى في الدنيا لكنه يراه المؤمنون في الجنة: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]، فقال: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:143] أي: يا موسى! في الدنيا لن تراني: {وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ} [الأعراف:143] وكان في ذلك المكان جبل عظيم جداً، قال: انظر إلى الجبل يا موسى! {فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف:143] قال: سوف أتجلى -يا موسى- للجبل، فإذا تحمل الجبل فسوف أتجلى لك يا موسى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:143] أي: نزه الله سبحانه عن كل شيء لما رأى الجبل صار دكاً على الأرض، يقول عليه الصلاة والسلام: (تجلى الله للجبل قدر هكذا وأشار برأس إصبعه) فصار الجبل دكاً أرأيت عظمة الله! انظر -يا عبد الله- إلى السماوات السبع العظيمات أتعرف كم قدر هذه السماوات السبع بالنسبة للكرسي؟! أتعرف ما هو الكرسي؟ {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [البقرة:255] يقول ابن عباس: [هو موضع قدمي الرب جل وعلا] ولله جل وعلا صفات حقيقية ثابتة نثبتها كما أثبتها عليه الصلاة والسلام، صفات حقيقية نعقل معناها لكن لا نعقل، كيفيتها قال ابن عباس: [الكرسي موضع قدمي الرب] أريد منك -أخي الكريم- أن تتصور هذا الأمر، هذه السماوات السبع العظيمة بالنسبة للكرسي كحلقة ملقاة في صحراء، هذه الحلقة هي السماوات السبع وهذه الصحراء هي الكرسي، أرأيت المقارنة والفرق!! ثم يا عبد الله! هل تعلم نسبة الكرسي بالنسبة للعرش، الآن تصور الأمر هذا الكرسي بالنسبة لعرش الرحمن كحلقة في صحراء، هذه الحلقة هي الكرسي، والصحراء هي العرش: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] سبحانه وتعالى على العرش استوى استواءً حقيقياً يليق بجلاله جل وعلا: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19] يعلم ما توسوس به كل نفس، بل ما تسقط من ورقة إلا ويعلمها جل وعلا، أعلمت الآن عظمة الله جل وعلا؟! هل تصورت -يا عبد الله- هذه العظمة ثم بعدها تسأل نفسك: الواحد منا يعصي الله فإذا دخل أحد الناس ترك! أمام الناس لا يعصي لكن إذا خلا بينه وبين نفسه بدأ يعصي الله جل وعلا أتعرف من تعصي؟ إنك تعصي الرب العظيم الجليل القهار الملك.

تربية النفس على مراقبة الله جل وعلا

تربية النفس على مراقبة الله جل وعلا المقام الثاني من مقامات العبودية: مقام المراقبة: اسمع إلى الإمام أحمد أتاه رجل فقال له: يا إمام! سمعت أحد الناس يقول شعراً، قال: ما هو؟ فأخبره بالشعر، فأغلق الإمام أحمد الكتاب، ثم دخل الغرفة وأغلق على نفسه الباب، فانتظره الناس فاستبطئوه، ثم جاءوا عند باب الغرفة، واستمعوا ماذا يقول فسمعوه يردد الشعر وهو يبكي أتعرف ما هو هذا الشعر؟ إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل عليَّ رقيب ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفيه عنه يغيب لهونا لعمر الله حتى تتابعت ذنوب على آثارهن ذنوب فيا ليت أن الله يغفر ما مضى ويأذن في توباتنا فنتوب وأخذ يبكي الإمام أحمد ويردد تلك الأبيات، فإذا جئت في الليل، وأغلقت الباب، وأطفأت الأضواء، وبدأت تعصي الله؛ لا تقل: خلوت ولكن قل: عليَّ رقيب: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:14] ألا تعلم -يا عبد الله- أن الله يراك؟! يطلع عليك وأنت في هذه الحال! هذا عمر بن الخطاب يمر على بيوت الناس، فإذا به يستمع إلى صوت يخرج من بيت صوت من؟ صوت امرأة في بيتٍ لوحدها أتعرف ما قصة هذه المرأة؟ هذه المرأة خرج زوجها للجهاد أشهراً عديدة ومديدة ولم يرجع، ونحن نعلم -يا عباد الله- أن المرأة تشتهي، ولا يرد هذه المرأة شيء ما الذي يردها عن الحرام؟ لكن أتعرف ما الذي ردها؟ أخذت هذه المرأة تقول شعراً وعمر بن الخطاب يستمع إليها، تقول: تطاول هذا الليل واسود جانبه وأرقني ألا خليل ألاعبه فوالله لولا الله رباً أراقبه لحرك من هذا السرير جوانبه لِمَ يا عبد الله؟ لأن هذه المرأة في قلبها إيمان بأن الله عز وجل يراقبها ويطلع عليها: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} [الرعد:10] الله يعلم المستخفي في الظلمات وهو ينظر لها ويكلمها ويداعبها ويضاحكها؛ بل لعله يزني بها -أجلكم الله- فهو في علم الله ولو كان مستخفياً في الليل أو سارب بالنهار، أي: مجاهر بالنهار. عبد الله: راقب الله جل وعلا، ولا تظن أنك عندما تختلي أنه لا أحد يراك، أبو جهل حارب النبي عليه الصلاة والسلام وصد عن سبيل الله، أتعرف بم رد الله عز وجل عليه؟! قال لـ أبي جهل ولأمثاله: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:14] ألا يعلم هذا الكافر الفاجر أن الله يراه؟! والله لو علم حق العلم أن الله يراه ومطلع عليه ما تجرأ على هذه المعصية، ولما تجرأ على أن ينتهك حرمات الله جل وعلا! عبد الله: إذا أردت أن تربي هذه النفس على العبادات؛ فأكثر من العبادات، واستمع إلى سلفنا كيف كانوا يعبدون الله جل وعلا، كان الواحد يقضي وقته بالعبادة من قيام وصيام وقرآن وذكر وعبادة مطلقة، اسمع لهذه المواقف: صعدت جاريتان -بنتان صغيرتان- على سطح المنزل، وكانتا لا تصعدان إلا في الليل تعرف لِمَ؟ لأن الليل يستر الناس، وكان من حياء الجاريتين أنهما لا تصعدان إلا وقت الليل، فصعدتا على سطح المنزل، فنظرتا إلى بيت الجيران، ثم نزلتا فقالتا لأمهما: أين العمود -عمود الخشب- الذي كان في بيت جارنا؟ قالت الأم: ليس ذلك بعمود، إنما هو منصور بن المعتمر كان يقوم الليل فمات، كانتا تظنان أنه عمود واقف في بيت الجيران تعرف لِمَ يا عبد الله؟ من طول قنوته وقيامه، تعال إلى كثير من المسلمين بل حتى الصالحين منهم متى قمت الليل متى كان آخر مرة؟ يقول لك: منذ رمضان! عبد الله! رجل صالح، عابد لله، لكنه لا يقوم الليل ولا مرة في الأسبوع أو الشهر، فكيف يريد أن يربي نفسه على عبادة الله جل وعلا؟ كيف يريد أن يذلل نفسه لله جل وعلا؟ انظر إلى الله عز وجل ماذا يخاطب نبيه عليه الصلاة والسلام: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً} [المزمل:1 - 2] قم الليل كله، ثم قال: إلا قليلاً {نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} [المزمل:4] نعم! بماذا يقوم؟ {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} [المزمل:4] لِمَ يا رب هذا القيام؟ {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل:5] وننصح الدعاة إلى الله جل وعلا بقيام الليل لأنك سوف تجد أمراً ثقيلاً، فاستعين بالعبادة على الأمر الثقيل: {اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:153]. سفيان -عليه رحمة الله- أتعرف كيف كان يقوم الليل، وكيف كان يتعبد الله جل وعلا؟ أيها الإخوة! الواحد فينا يضحك ويحتقر نفسه أنه يصلي الصلوات الخمس، ويتنفل باثنتي عشرة ركعة، ويوتر قبل أن ينام، يقول عليه الصلاة والسلام: (لو أن أحدكم يجر على وجهه في سبيل الله) هل أحد منا يجر على وجهه في سبيل الله؟ يقول: (منذ أن ولد إلى أن يموت) تخيل إنسان هذه عبادته منذ ولادته يجر على وجهه إلى أن يموت، كل هذا في سبيل الله، قال: (لحقره يوم القيامة) لأتى يوم القيامة واحتقر عمله كله. أخي الكريم! انظر لعبادتك كم هي؟ حتى إن الواحد ينسى منذ متى قام الليل أو صام التطوع، بل متى ختم القرآن، بل منذ متى هلل مائة مرة بعد صلاة الفجر؟ عبد الله! لنعرف أنفسنا ولنقدر أنفسنا حقها. كان سفيان -عليه رحمة الله- يقوم الليل، فإذا أذن الفجر وضع رجليه على الحائط لماذا؟ حتى يرجع الدم إلى رأسه من شدة قيامه لليل: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً} [الزمر:9] وهذه الآية نزلت في عثمان، يقول ابن عمر: [والله إنها نزلت في عثمان بن عفان رضي الله عنه] تعرف كيف كان فعله؟ {قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً} [الزمر:9] وهو يقود أمة، خليفة من خلفاء المسلمين حينما وقعت الفتنة وحوصر جاءه الصحابة فقالوا له: ندفع عنك الثوار؟ قال: لا. وفدى بنفسه لهذه الأمة؛ قال: اتركوهم. قالوا: نقاتل معك؟ قال: لا تقتلوا أحدا، ً وكان في البيت يقرأ القرآن حتى يروى أنه كان يختم القرآن في ليلة، فكان يقرأ القرآن وزوجته عنده، فكسر الثوار الباب، ثم دخلوا عليه في البيت، ثم طعنوه تسع طعنات بخنجر، وتطاير الدم على المصحف، حتى قال هذا الشقي: أما ثلاث فلله -ثلاث طعنات- وأما الست فلشيء في نفسي! وكذب والله؛ فإن التسع كلها ليست لله جل وعلا، بل كلها لشيء في نفسه، فبكت زوجته ثم قالت: قتلتموه وإنه ليحيي الليل كله بالقرآن: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً} [الزمر:9] لِمَ كل هذا يا عثمان؟! لِمَ يا أبا بكر؟ لِمَ هذا يا عمر؟ ما الذي تفعله بنفسك يا علي لِمَ كل هذا؟ {يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9]. عبد الله: سل نفسك: هل يسمع القرآن في بيتك؟ هل إذا جاء الليل توقظ الزوجة لقيام الليل؟ سلي نفسك يا أمة الله: هل تقومين في الليل وتوقظين الزوج؟ (رحم الله رجلاً قام يصلي فأيقظ زوجته، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة أيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء) هل نرى بيوتاً مثل هذه البيوت؟ تمر في الليل فتسمع الزوج يقرأ والزوجة تصلي وراءه قيام الليل؟ هل هذه البيوت موجودة؟ هل بيتك هكذا؟ حتى إن بعض بيوت السلف كان لا يمر عليهم دقيقة في الليل إلا وأحدهم يصلي. كما يذكرون أن بيتاً كان فيه أم وابنيها، وكانوا صالحين، وكانوا يجزئون الليل ثلاثة أجزاء، ثلث يقوم هذا، وثلث يقوم هذا، وثلث تقوم الأم، فلما ماتت الأم جزءوا الليل نصفين كل واحد يقوم نصف الليل، فلما مات أحدهما كان الآخر يقوم الليل كله: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر:9] هذا هو العلم ليس العلم أن نحفظ مسائل فقط، ليس العلم أن ندرس كتباً فقط ثم لا نقوم الليل، ولا نصوم النهار، ولا تدمع العين، ولا نرفع اليد ندعو الله جل وعلا. اسمع إلى مسروق -عليه رحمة الله- هذا الرجل كان يقوم الليل وتجلس زوجته خلفه تبكي رأفة لحاله من شدة قيامه لليل، تقول: فإذا أذن الفجر يزحف كما يزحف الصبي: عباد ليل إذا جن الظلام بهم كم عابد دمعه في الخد أجراه وأسد غاب إذا نادى الجهاد بهم هبوا إلى الموت يستجدون رؤياه يا رب فابعث لنا من مثلهم نفراً يشيدون لنا مجداً أضعناه يا عبد الله! الذي يخذل في قيام الليل، وفي صلاة الفجر، يخذل في الجهاد في سبيل الله. اسمع لـ ابن المبارك، أحد المجاهدين، تعال إليه في الليل! إذا نام الناس قام إلى الفجر يصلي، فإذا أصبح الصباح رفع السلاح مجاهداً في سبيل الله، هذه هي العبادة يا عباد الله! ليس أننا أمام الناس صالحين، وأمام الناس ساجدين راكعين، فإذا جئنا في البيت، وإذا جن الظلام، وإذا نزل الرب إلى السماء الدنيا لا تجد من يقوم لله جل وعلا، ولا تجد عبادة السر، ولا تجد صيام نافلة ولا قرآن ولا تدمع العين! عبد الله: اسمع إلى زوجة رياح، وكان رجلاً صالحاً، فتزوج امرأة فكانت أصلح منه، فأراد أن يختبرها في ليلة العرس -ليلة الزواج- فنام الرجل، فلما نام قليلاً قامت الزوجة لتصلي في الليل، كانوا متعودين على القيام، قالت له: قم يا رياح وصلِّ؟ فقام فقال: لا زال في الوقت متسع، ثم نام وهي تصلي، ثم لما صلت شيئاً قليلاً، قالت له: قم يا رياح! فقام ثم قال: لا زال في الوقت متسع، وهو يختبرها، وهو أحد القائمين، الراكعين الساجدين، لكن أراد أن يختبر المرأة، ثم نام قليلاً حتى اقترب الفجر، قالت له: قم يا رياح فقال: لا زال في الوقت متسع، فلما أذن الفجر، قالت: قم يا رياح! فلما قام، قالت: ما الذي غرني بك يا رياح؟ ما الذي غرني برجل لا يقوم الليل إلا لصلاة الفجر. عباد الله: هل هذه هي أحوالنا لا نقوم إلا لصلاة الفجر؟ هذا رجل قام لصلاة الفجر، فقيل للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! فلان نام حتى الفجر- قام يصلي الفجر لكنه ما قام يصلي الليل -قال: ذاك رجل بال الشيطان في أذنه). لو جاء رسول الله عليه الصلاة والسلام ونظر إلى أحوال المسلمين حتى الفجر إلا من رحم الله ماذا سوف يقول؟! هل هي فقط قضية بال الشيطان في أذنه أم أن الأمر أخطر وأكبر؟

تربية النفس على الورع

تربية النفس على الورع أيضاً من مقامات العبودية بينك وبين الله: أن تربي النفس على مقام يسمى الورع، وهو مقام عظيم لا يصله إلا قليل من الناس، وهو أن تترك المكروه خشية أن تقع في الحرام، وتفعل المستحبات خشية أن تترك الواجبات، حتى قيل عن بعض الصالحين: إنهم تركوا كثيراً من المباح خشية أن يقعوا في الحرام، وشق الواحد على نفسه خشية أن يقع في يوم من الأيام في الحرام، اسمع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يمر في الطريق فيرى تمرة، فتركها؛ لأنه صلى الله عليه وسلم خشي أن تكون هذه التمرة من تمر الصدقة؛ لأنهم معشر آل النبي صلى الله عليه وسلم حرم الله عليهم هذه القاذورات والصدقات، فرماها النبي صلى الله عليه وسلم تورعاً. اسمع لـ أبي بكر -رضي الله عنه- وهو يأكل طعاماً صنعه له غلامه، ثم قال أبو بكر بعد أن أكل الطعام: من أين لك هذا الطعام؟ قال: جئت به من مال؟ قال أبو بكر: من أين حصلت على هذا المال؟ قال هذا الغلام: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية. ونحن نعرف أن الكهانة والشعوذة والعرافة كلها شرك بالله جل وعلا، يقول: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية، فأعطاني مالاً، واشتريت به طعاماً وأعطيتك، الآن أبو بكر معذور لأنه أكل الطعام وهو لا يعلم، فكان يكفيه أن يستغفر الله جل وعلا وينتهي الأمر، لكن انظروا إلى ورع أبي بكر أتعرف ماذا فعل؟ وضع إصبعه في حلقه حتى أخرج كل الطعام الذي في باطنه، قال: [والله لو لم تخرج إلا مع خروج روحي لأخرجتها] تعرف لِمَ يا عبد الله؟ إنه الورع! الواحد منا الآن يسأل: هل هذه المعصية صغيرة أو كبيرة؟ تعرف لِمَ؟ لأنه إذا كانت صغيرة يقول: ليس فيها بأس، وإذا كانت كبيرة يكف عنها، ولم يعلم أن الإصرار على المعصية كبيرة، وقد قال السلف: "لا تنظر إلى صغر المعصية ولكن انظر إلى عظم من عصيت". الإمام أحمد واسمع لهذه القصة العجيبة التي تتحدث عن امرأة بلغت القمة في الورع، هذه المرأة جاءت تسأل الإمام أحمد، فتقول له: يا إمام! نغزل على سطوحنا فتمر بنا مشاعل الظاهرية -أي: حرس الإمام أو الحاكم يمرون بجوار البيت وعندهم مشاعل أو سرج- فيقع الشعاع علينا، قالت: فهل يجوز الغزل في ضوئها؟ أي: هل يجوز أن ننسج الثياب بهذه الأضواء، لأن هذه الأضواء لعلها جاءت من حرام، ولعل هذا الضوء لا يحل لنا أن نستفيد منه هل سمعت بهذا الورع؟! إنسان يخاف أن يستخدم الضوء الذي يأتيه لعله من حرام! تقول: هل يجوز لنا أن نغزل في هذا الضوء؟ فقال الإمام أحمد: من أنتِ؟ فقالت هذه المرأة: أنا أخت بشر الحافي - وهو أحد الورعين والصالحين الزاهدين، زهدوا في الدنيا، فبكى الإمام أحمد ثم قال: من بيتكم يخرج الورع، ورع وأي ورع يا عباد الله؟! الآن المرأة تقول لزوجها: ادخل في هذه التجارة أو ساهم في هذه الشركة، يقول الرجل: والله كأن فيها ربا، فتقول: كل الناس يفعلونه، ليس هناك بأس أن ندخل في هذه التجارة، لعلنا نكسب بعض المال انظروا -يا عباد الله- إلى ضعف الإيمان، وقلة الورع، وضعف اليقين بالله جل وعلا.

تربية النفس على التقلب بين الصبر والشكر

تربية النفس على التقلب بين الصبر والشكر أيضاً من المقامات -يا عبد الله- بينك وبين الله جل وعلا أن تتقلب بين الصبر والشكر، وإياك والثالث، فأنت إما أن تكون صابراً وإما أن تكون شاكراً: (عجباً لأمر المؤمن! إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن). اسمع يا -عبد الله- إلى أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام في مكة أتعرف ما الذي جرى بهم؟ حاصرهم المشركون في شعبٍ حتى إنهم كانوا يتضورن من الجوع، والأطفال يبكون، والمشركون أمامهم يأكلون من اللحوم والأطعمة، حتى إن الصحابة من شدة الجوع أكلوا أوراق الشجر! انظر يا عبد الله إلى هذه الحالة التي كانت عند الصحابة، والله جل وعلا يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200]. ماشطة ابنة فرعون، كانت تمشط شعر بنت فرعون؛ فإذا بالمشط يسقط من يدها، فقالت هذه الماشطة: باسم الله! وأخذت المشط، فقالت البنت: من؟ أتعنين أبي؟ فقالت الماشطة المؤمنة: بل ربك ورب أبيك الله رب العالمين! فقالت البنت: سوف أخبر أبي؟ فقالت الماشطة: أخبريه وليكن ما يكون انظروا يا عباد الله! على الثبات، فاستدعاها فرعون، وتعرفون من هو فرعون! الذي قتل الرجال، واستحيا النساء، واستعبد الناس، الطاغية الذي كان يقول: أنا ربكم الأعلى! وهل تعرف من وقفت أمامه؟ إنها امرأة خادمة، كانت ماشطة لبنت فرعون! هذا الموقف الذي لا يستطيع أن يقفه الرجال الأشداء ووقفته تلك المرأة. فقال فرعون لها: يا ماشطة! ألك رباً غيري؟ فقالت الماشطة: نعم! ربي وربك الله رب العالمين، انظر للجرأة وللقوة، قالت: ربي وربك الله رب العالمين، قال: يا ماشطة! توبي وارجعي، قالت: ربي وربك الله رب العالمين، فجاء فرعون بأطفالها الصغار -والأم لا تصبر على أذية أولادها حتى لو كان في ذلك موتها- فجاء بقدر فيه زيت، ثم أحماه حتى أصبح يغلي، ثم جاء بأولادها واحداً تلو الآخر، ورماهم في القدر أمام أمهم وهم يبكون، واللحم ينفصل عن العظم! انظر يا عبد الله إلى هذا الموقف! هل تتحمله أنت أيها الرجل؟! والمرأة صابرة رابطة الجأش، فقالت له: أطلب منك طلباً، فظن فرعون أنها سوف ترجع، فقال: ما هو؟ قالت: أطلب منك أنك إذا قتلتني أن تجمع عظامي وعظام أولادي فتدفننا في قبر واحد: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا} [البقرة:214]. يا عبد الله: لا تظن أن النعمة تدوم، ولا تظن أن الأمر ميسر إلى أبد الدهر لعلك تبتلى، حتى قال عليه الصلاة والسلام لـ حذيفة: (أحصني كم يلفظ الإسلام؟ قال: لِمَ) هذا أول إحصاء في الدولة الإسلامية، قال: (أحصني كم يلفظ الإسلام؟ قال: ولِمَ؟ قال: أربعمائة نفس، قال عليه الصلاة والسلام لا تدري لعلكم أن تبتلوا) يقول حذيفة: مرت علينا أيام لا يستطيع أحدنا أن يقضي حاجته. اسمع لـ أبي ذر رضي الله عنه، لما أسلم قام في الناس، وهو ينطق الشهادتين، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فجاءه المشركون يضربونه من كل جهة، حتى أدموه فصار كتمثال من الدم، حتى جاء العباس يفكهم عنه وكان مشركاً في تلك الأيام، ثم جاء في اليوم الثاني هل أيس؟ وهل تراجع؟ وجاء في اليوم الثاني وقام بين المشركين وهو يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وهم يضربونه حتى صار كتمثال من الدم، وجاء في اليوم الثالث يعلنها صريحة يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صبروا يا عبد الله! أسمعت بلالاً كيف كان يجر على الرمضاء؟ أما سمعت ببعضهم كان يحمى الحديد حتى يحمر، ثم يطفأ في ظهره، وبعضهم كان ينام على الجمر، وكان أحدهم يقول: أحد أحد، صابر على دينه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200]. المقام الثاني: الشكر: اشكر النعمة التي أنت فيها، وأخص النساء ممن لا يشكرن نعمة الله جل وعلا عليهن، واسمع يا عبد الله! إلى هذا الموقف الذي يذكره أحد المشايخ، وقد نقلته تقريباً بالنص، ولعلك تقول لي: هذا من نسج الخيال، لكن أقول لك: إن هذا الموقف حال كثير من الناس، ممن لا يشكرون نعمة الله جل وعلا، ممن يرزقهم الله عز وجل رزقاً حلالاً، ينامون في بيت واسع، ورزقهم الله عز وجل زوجة صالحة، ورزقها الله عز وجل زوجاً صالحاً وأولاداً وذرية ولكن لا يشكرون نعمة الله، يريدون أكثر من هذا بالحرام، اسمع إلى هذه المرأة تقص حالها، وحال كثير من النساء، ولعلك تعتبر بهذه القصة، ثم انظر حال كثير من الناس. تقول هذه المرأة واصفةً نفسها مع زوجها وكيف أنها كفرت نعمة الله، تقول: كنا معاً في أطيب حال، وأهنئ بال، زوجين سعيدين متعاونين على طاعة الله، عندنا القناعة والرضا، طفلتنا مصباح الدار، ضحكتها تفتق الزهور، إنها ريحانة تهتز، فإذا جن علينا الليل ونامت الصغيرة، قمت مع زوجي نسبح الله، يؤمني ويرتل القرآن ترتيلاً، نعمة وأي نعمة، لا يحصل على هذه النعمة كثير من الناس، يتمنونها فلا يحصلون عليها، وتصلي معنا الدموع، في سكينة وخشوع، كأني أسمعها وهي تفيض قائلة: إنا إيمان فلان وفلانة، وذات يوم -اسمع لكفر النعمة- أردنا أن تكثر عندنا الفلوس، اقترحت على زوجي أن نشتري أسهم ربوية -انظر الإغراء- لتكثر عندنا الأموال وندخرها للعيال-انظروا الحجة- ووضعنا فيها كل ما نملك، حتى حلي الشبْكة، تقول: ثم انخفضت أسهم السوق، وأحسسنا بالهلكة، فشربنا من الهموم كأساً، وكثرت علينا الديون والتبعات، فعلمنا أن الله يمحق الربا ويربي الصدقات، وفي ليلة حزينة خلت فيها الخزينة، تشاجرت مع زوجي فطلبت منه الطلاق، فصاح: أنت طالق، أنت طالق، فبكيت وبكت الصغيرة وعبر الدموع الجارية تذكرت جيداً يوم أن جمعتنا الطاعة وفرقتنا المعصية: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7]. عبد الله: لا تنظر إلى من هو أقوى منك وأكثر منك، وأفضل منك نعمة، لكن انظر إلى من هو دونك، ولا تزدري نعمة الله جل وعلا. عبد الله! هذا هو القسم الأول الذي أردت أن أتحدث عنه.

تربية النفس في معاملتها مع الخلق

تربية النفس في معاملتها مع الخلق القسم الثاني -وهو أمر مهم-: أن يربي الإنسان نفسه في تعامله مع الناس، مع إخوانه في الله جل وعلا، اسمع يا عبد الله إلى هذه المقامات التي لا بد أن نتحلى بها، في تعاملنا مع البشر، ربِّ نفسك عليها، ولا تظن أن هذه الأوراق صفراء وقديمة، وهذه الأمثلة من نسج الخيال ولا يمكن أن توجد في صفحاتنا اليوم، لا يا عبد الله! يمكنك أن تعمل بها وأنت تربي نفسك على هذه الأخلاق وتلك المقامات، فاسمعها يا عبد الله وعشها ثم حاسب نفسك هل أنت تتعامل بهذه الأمور أم لا؟

تربية النفس على التواضع مع الخلق

تربية النفس على التواضع مع الخلق أول ما تربي نفسك على التواضع، أن تذل نفسك بين الناس، هل جربت أن تمشي بين الناس وتعتبر نفسك أذلهم وأحقرهم وأدناهم منزلة؟ هذا رجل يسمى: بكر بن عبد الله المزني أحد الصالحين الزاهدين، رجل سطره التاريخ في زهده وعبادته، يوماً من الأيام كان واقفاً في عرفة، تعرف ما الذي يحصل في عرفة؟ الناس بين باكٍ وخاشع وساجد وراكع وداعٍ لله جل وعلا، في عرفة تكثر الدموع والبكاء، وبكر بن عبد الله المزني جالس في عرفة -لعل هذا الرجل أفضلهم- قال: لا إله إلا الله، لولا أني فيهم لقلت: قد غفر الله لهم، قال: المصيبة أني موجود بينهم، لو كنت خارجاً عنهم لجزمت أن الله قد غفر لهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [المائدة:54] على إخوانهم في الله، على عباد الله الصالحين ذليل، أما شدته وقسوته على من؟ {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54] كم تجد من الناس مع النصارى واليهود ذليل؟ متواضع لين هين ومع إخوانه في الله قاس كم ترى من الناس أمثال هؤلاء؟ موقف آخر في هذا المقام: سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، هذا التابعي أبوه وجده صحابيان، وهو من أشرف التابعين في علمه وعبادته، هذا الرجل كان في منى، وأظن من حج منكم يعرف كيف يكون الناس في منى، زحام وكل واحد يدفع الثاني في زحام منى، هذا الرجل كان يمشي في منى فإذا برجل يدفعه، فالتفت إليه سالم، تظنه ماذا يقول؟ ولِمَ التفت سالم إليه؟ قال الرجل لـ سالم بن عبد الله: إني لأظنك رجل سوء، سبحان الله! أولاً دفعه ثم شتمه، والآن ماذا تظن سالم يرد عليه، تخيل يا عبد الله! تمشي في الطريق فيدفعك رجل، فتلتفت إليه فلا يتأسف، ويسبك، ويقول: أنت رجل سوء، كيف ترد عليه يا عبد الله؟! تعرف ماذا قال سالم؟ قال: والله ما عرفني إلا أنت: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54] قلوب متواضعة لينة، الواحد يحقر نفسه، حتى قال بعضهم في تعريف التواضع: ألا ترى لنفسك حقاً أو فضلاً على أحد، فتظن أن الناس كلهم خير منك.

تربية النفس على نقاء النفس مع المسلمين

تربية النفس على نقاء النفس مع المسلمين المقام الثاني: تربي نفسك على هذه المقامات، فالقضية ليست آيات نحفظها، أو دروس نحضرها ثم نصلي بعض الصلوات ثم ماذا؟ النفس-نسأل الله العافية- لا يتحملها إنسان، واسمع إلى المقام الثاني وهو مقام عظيم، بل سوف نعرف أن هذا المقام لا يصل إليه إلا قلة من الناس ممن اصطفاهم الله جل وعلا، سلامة الصدر والقلب للناس. هل جربت يوماً من الأيام، أن تنام وليس في قلبك على أحد من المسلمين غل، هل جربت يوماً من الأيام أن تنام وليس في قلبك على أحد حقد. اسمع إلى هذا الحديث، يقول عليه الصلاة والسلام: (يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة) يقول الصحابة: فخرج رجل، وهذا الرجل غير معروف، نعلاه تحت إبطه، ولحيته يقطر منها أثر الوضوء، فعجبنا من أمره وهو يمشي على الأرض وهو مبشر بالجنة، ثم قال في اليوم الثاني: (يطلع عليكم رجل من أهل الجنة) فخرج نفس الرجل، وفي اليوم الثالث نفس الرجل: (يطلع عليكم رجل من أهل الجنة). عبد الله! تخيل أنك مبشر بالجنة وتمشي على الأرض، تتمنى أن تموت اليوم قبل الغد، من أهل الجنة! يقول عبد الله بن عمرو فتبعته وطرقت الباب عليه، فقلت: يا فلان! إني قد لاحيت أبي -صارت بيني وبين أبي خصومة- وأقسمت ألا أرجع إليه ثلاثة أيام، فإن شئت أن تضيفني، فقال: تفضل، يقول ابن عمرو: جلست عنده ثلاثة أيام، فما رأيته كثير عبادة ولا كثير صوم ولا شيء -أي: يقوم الليل لكنه قليل والصحابة أكثر منه في قيام الليل وصيام النهار- يقول: فجئته في اليوم الثالث فأخبرته الخبر، فقلت: يا فلان سمعت رسول الله يقول عنك كذا وكذا، فأخبرني عن حالك؟ قال: يا فلان! ليس إلا ما رأيت- أي: ما عندي عبادة أكثر من هذه التي رأيتها - فذهب عبد الله ثم ناداه، فقال: يا بن أخي! تعال ارجع، قال: فرجعت، فقال لي: تذكرت أمراً، قال: إنني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشاً ولا أحسد مسلماً على خير آتاه الله إياه، فقال الصحابي: هذه التي بلغت بك. نعم! هذه التي أدخلتك الجنة، ثم قال: وهي التي لا تطاق، يقول الصحابي: هذه المنزلة لا تطاق. وهذه المنزلة عظيمة يا عبد الله! ولا تخدع نفسك فتقول: أنا لا أحمل في نفسي أبداً، فتش وفتش، فسوف تجد في نفسك على فلان غلاً، وعلى فلان حقداً، وعلى فلان حسداً، ولفلان غش، ولفلان كره، وعلى فلان إساءة ظن. يا عبد الله! هلا سلمت صدرك، يقول الله جل وعلا عن المؤمنين: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10] اسمع للدعاء: {وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر:10] (هل يستطيع أحدكم كـ أبي ضمضم؟ من أبو ضمضم يا رسول الله؟! قال: هذا رجل كان إذا أصبح يقول: اللهم إني قد وهبت نفسي وعرضي فلا يشتم من شتمه، ولا يظلم من ظلمه) كل يوم يقول: يا رب! كل من تكلم فيَّ فقد حللته، هلا جربتها لتسلم صدرك وتدعو لإخوانك بالعفو، {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:22]. بعض الصالحين وللأسف -وهذا إذا كان في بعض الصالحين كيف لك بغيرهم- تجده يتذكر لأخيه موقفاً قبل عشر سنوات! وإلى اليوم لم ينسه وما عفا عنه، إلى اليوم يقول: لا أعفو عنه حتى يأتيني ويعتذر لي. سبحان الله! أين هذه المقامات التي بلغها أولئك؟ سامح أخاك إذا خلط ممن أصابك بالغلط وتجاف عن تعنيفه إن زاغ يوماً أو قسط واعلم بأنك إن طلبت مهذباً رمت الشطط من ذا الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط تريد يا عبد الله من إخوانك ألا يخطئوا لن تجد أحداً من الناس مبرأ من الزلل والخطأ.

تربية النفس على إحسان الظن بالناس

تربية النفس على إحسان الظن بالناس اسمع يا عبد الله إلى المقام الثالث! وهو مقام عظيم جداً، وأيضاً أقول لك: من الصعب أن تجد من الناس من يقوم بهذا المقام؛ وهو مقام إحسان الظن، أن يخطأ عليك إنسان أو يتكلم بكلمات فتحسن الظن به كم وكم من الناس -والله يا إخوة- لا يتحمل الكلام، بل يحمله على أشد محمل، فتجده يقول: ما تكلم إلا وهو يقصدني، وما تكلم إلا وهو يريد كذا وكذا، وما قال هذه الكلمات إلا وهو يريد كذا وكذا، وما أدراك؟ أشققت عن قلبه؟ هل فتشت فيه؟ هلا جئت وسألته! اسمع يا عبد الله! إلى أولئك السلف الذين سلمت صدورهم وقلوبهم لإخوانهم، يقول ابن معين: إنا لنطعن على أقوام -أتعرف من هو ابن معين؟ إنه جراج ليس في الطب، بل جراح، أي يقول: فلان ثقة فلان كذاب فلان وضاع وعلمه هذا واجب وخدمة لدين الإسلام، يقول: إنا لنطعن على أقوام لعلهم حطوا رحالهم في الجنة، يقول: أنا أتكلم في أناس يمكن أنهم دخلوا الجنة ونتكلم فيهم، انظر إلى الورع وإلى إحسان الظن في إخوانهم، واسمع إلى المقامات: من المقامات التي ذكرناها قبل قليل العفو والصفح، واسمع للإمام أحمد مع المعتصم، الإمام أحمد جلد جلداً لو جلد هذا الجلد بعير لمات، حتى كان بعضهم يجلده فإذا تعب أتاه آخر فيجلده حتى يسقط على الأرض ويستمرون في الجلد. وهذا الإمام عندما أطلق سراحه، جاءه طبيب يعوده، فلما نظر إلى ظهره قال: يا إمام! لقد مات الجلد -أي: اللحم- ولا بد أن يستأصل ونقطع اللحم، قال: وإلا استشرى في الجسد، فتموت وتهلك، وما عندهم بنج ولا مخدر، فاستلقى الإمام أحمد على بطنه، وجاء الطبيب بالمشرط، أتعرف من السبب في هذا كله؟ إنه المعتصم الذي أمر بجلد الإمام أحمد، وهو السبب في هذا كله، وهل الإمام أحمد مخطئ أو ظالم؟ لا والله، إنه يحمي عقيدة المسلمين، عقيدة أهل السنة. فجاء الطبيب وأخذ يقطع لحمه، فلما بدأ بالقطع وضع الإمام أحمد يده على رأسه، فلما بدأ بالقطع قال الإمام أحمد: اللهم اغفر للمعتصم، اللهم اغفر للمعتصم: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:22]. بكى في ليلة من الليالي بكاء شديد، فقال أهله وتلاميذه، بكيت الليلة بكاء ليس ككل ليلة، ما الذي جرى؟ قال: مر علي في الدرس آية أتعرف ما هي هذه الآية؟ {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40] فتذكرت المعتصم، فقمت الليل وبكيت في السجود ودعوت الله أن يحله. أيها الإخوة: هذه مقامات عظيمة، وهذه النفس إذا لم تترب على هذه المقامات ولم تذل لله جل وعلا، وتذل نفسها لإخوانها -والله يا إخوة- فلن ينصرنا الله جل وعلا، ولذلك تجد هذه الدعوة دائماً تتقدم ثم تتأخر، ومع هذه الأعمال والجهود المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها يقتلون لِمَ هذا يا عبد الله؟ النفوس ضعيفة، ولهذا من قال: أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم تقم لكم في أرضكم. ونختم بهذه القصة حتى نعلم أيها الأخ الكريم أن هذه النفس تحتاج إلى تربية، ونتيقن أنها مراحل عظيمة حتى نصل إلى هذه المستويات، فاسمع يا عبد الله! إلى هذه القصة الأخيرة، وهي قصة الحسن بن الحسن رضي الله عنه، فقد دخل على علي زين العابدين -وقد سمي بـ زين العابدين من شدة عبادته- وهو جالس بين تلاميذه فدخل عليه الحسن، فأغلظ له في الكلام وكان بينهم خصومة وخلاف، فشتمه وسبه وتكلم فيه، ولم يرد عليه زين العابدين بكلمة واحدة حتى انتهى من سبه وشتمه ثم ذهب، فجاءه في الليل، وطرق الباب عليه، ففتح الحسن بن الحسن الباب، وتعجب من زين العابدين هل جاء الآن يأخذ حقه؟ هل جاءه يسبه الآن ويشتمه؟ أتعرف ماذا قال؟ سلم ثم قال: يا فلان! إن كان حقاً ما قلته فغفر الله لي، وإن كان كذباً فغفر الله لك، والسلام. ثم ولى وتركه، فجاء الحسن بن الحسن في الطريق وأمسكه وعانقه، ثم بكى وطلب منه أن يحله، ثم قال: والله لا أعود إلى أمر تكرهه أبداً ما حييت: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:10]. وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الشباب والتحديات المعاصرة

الشباب والتحديات المعاصرة إن شباب الأمة الإسلامية يواجهون اليوم تحديات كبيرة من اليهود والنصارى، تحديات الشبهات والشهوات الواردة من حضارتهم الزائفة، فيجب على شباب الإسلام العودة إلى كتاب ربهم، فلقد قص علينا قصص الشباب والفتيان في الأمم الماضية، وفي عهد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فلتكن لنا بهم أسوة.

قصة أصحاب الكهف

قصة أصحاب الكهف الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وخاتم النبيين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: الشباب المسلم أمام التحديات المعاصرة، الشباب، الفتيان، الرجال، كلمات متقاربة في العصور الأولى، حمل دين الإسلام الرجال والشباب، وبداية الدعوة حمل هذا الدين الشباب، وسوف يحمل هذا الدين الشباب، قال الله جل وعلا حاكياً قصة فتيانٍ سماهم أهل الكهف، كانوا يعيشون بين الملوك، وكانوا من أبناء الملوك، يعيشون في القصور على الحرير والديباج، يأكلون أفضل المأكولات ويلبسون أفضل اللباس، ويسكنون القصور، هؤلاء الشباب وأولئك الفتيان علموا أنهم لا يعبدون الإله الحق، ماذا قال الله جل وعلا عن حالهم؟: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ} [الكهف:13] فتية، انظر كل كلمة في القرآن لها حكمة، الله عز وجل يريد أن يميزهم قال: فتية: فتيان صغار، لكن انظر كيف كان شأنهم؟ {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً} [الكهف:13 - 14] هربوا من قومهم وتوجهوا إلى الكهف فكان من شأنهم ما كان.

قصة الغلام المؤمن والراهب

قصة الغلام المؤمن والراهب قصة أخرى: غلام يعيش في قصر الملك، والقرآن والسنة يحدثانا بأنباء الشباب والفتيان الذين كان لهم شأن عظيم، اسمع إلى قصة هذا الغلام: أجبره الملك أن يذهب يتعلم السحر من ساحر كافر، وهذا الساحر وذلك الشعب لا يؤمن بالله، والساحر يعلمه السحر ليكون خليفة له في السحر، وكان الغلام الشاب الصغير يمر في طريقه على راهب يتعلم منه الإيمان والتوحيد، وكل يوم هذا حاله، يمر على راهب يعلمه الدين، وساحر يعلمه الكفر برب العالمين، لكن الغلام مؤمن، صادق الإيمان، انفضح أمره، وانكشف سره، فهدده الملك، أقتلك أو ترجع عن دينك؟ والقصة تعلمها، لكن أرجو منك أن تتخيلها: غلام صغير شاب أمام ملك طاغية جبار، قتل أمامه أناس، فقال الملك للغلام: ترجع عن دينك وإلا أقتلك؟ قال: لا أرجع عن ديني. فأرسله مع الجنود ليرمى به في البحر فيغرق، فلما توسط البحر، -تخيل الموقف- فلما وصلوا به إلى البحر وأرادوا أن يرموه في البحر ليغرق، رفع يديه إلى السماء وقال: اللهم اكفنيهم بما شئت يا رب! أنت حسبي أتوكل عليك أن تكفيني هؤلاء الجنود، فاهتز المركب بالجنود وسقطوا وغرقوا جميعاً ولم يبق إلا الغلام. من الذي نجاه؟ من الذي نصره مع أنه غلام صغير مربوط أمام جنود؟! إنها سنة الله: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:21]. هل تظنه هرب؟ لكنه رجع إلى الملك ولو كان أحدنا مكانه الآن فأقل شيء يفكر فيه الهرب، ولكن الغلام قضيته أكبر، قضيته أن يدعو إلى الله، أن يؤمن الناس برب العالمين وإن مات، رجع يمشي على رجليه إلى الملك مرة أخرى، فخاف الملك منه، وقال: ما الذي جاء بك؟ أين الجنود؟ كيف لم تمت؟ فأخبره بالخبر. قال: الآن أقتلك حقيقة، وأرسله مع جنود آخرين يرفعونه إلى أعلى جبل ليرموه من هناك إلى الأرض فيهلك، والغلام مربوط مقيد، غلام صغير يكفي أن يقتله رجل واحد، ولكنه يرسل معه الجنود خوفاً ورعباً ووجلاً؛ لأن الكلمات التي يقولها تقذف في أنفسهم الرعب، فلما صعدوا به إلى أعلى الجبل -انظر إلى الغلام، انظر إلى الصفاء والنقاء، انظر إلى التوكل- قال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فما هي إلا ثلاث كلمات وإذا بالجبل يهتز، فيسقط الجنود ويبقى الغلام. الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، إنها جنود من جنود الله، هذه الجبال، وتلك الرياح، وهذه البحار، كلها جنود لله جل في علاه: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31] سقط الجنود، ورجع الغلام يمشي على قدميه إلى الملك، أنا أريد أن أخبرك أن هذا غلام ليس رجلاً كبيراً هذا غلام صغير. فلما دخل على الملك المرة الثالثة، خاف الملك منه واقتنع الملك أن في الأمر شيء غريب، فقال له الغلام: أتريد أن تقتلني؟ قال: نعم. قال: إذا أردت قتلي فاسمع ما أقوله لك. قال: إذا أردت أن تقتلني فأنا أدلك، الغلام يريد أن يدعو إلى الله، وأن يدخل الناس في الدين لو على حساب موته. قال: اجمع الناس على صعيد واحد وعلى أرض واحدة، كل الناس النساء والرجال -هو الآن يريد أن يعرف الناس التوحيد، يقيم عليهم الحجة أو يهتدوا- ثم اربطني في جذع شجرة، ثم خذ سهماً من كنانتي، لا تأخذ أي سهم، وإنما سهم من كنانتي أنا، ثم أنت الذي ترميني ليس غيرك، وقبل أن ترميني ترفع صوتك أمام الناس وتقول: بسم الله رب الغلام، ثم ترميني بالسهم وإنك بهذا قاتلي، وليس هناك طريقة أخرى لقتلي إلا هذه. الملك الآن نسي كل شيء أهم شيء عنده أن يموت الغلام وأصبح تفكيره أقتل الغلام ثم أفعل بعد هذا ما أفعل، فجمع المك الناس في صعيد واحد، ويا له من منظر، الغلام يدل الملك على قتله، ويمكن البعض منا وقف أمام المقصلة أو المشنقة يريد أن يقتل إعداماً يسقط على الأرض ويغمى عليه قبل الموت وقبل الإعدام، وأناس يصرخون، وبعضهم من شدة خوفهم قد انتفخت بطنه ورأي هذا، وبعضهم مات قبل أن يعدم من الخوف، وهذا الشاب الصغير بكل ثقة وهدوء يربط على تلك الشجرة، والناس كلهم مجتمعون ينظرون، النساء والرجال والأطفال والجنود، والملك يأخذ سهماً من كنانة الغلام، ويريد أن يرمي بالسهم ثم يقول قبل أن يرمي بالسهم: بسم الله رب الغلام، ثم يرمي بالسهم فيأتي السهم على صدر الغلام ويسيل الدم ثم يموت الغلام. فلما مات الغلام بدأ الناس كلهم يهللون: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله رب الغلام، لا إله إلا الله رب الغلام، فالتفت الملك ما الذي حدث؟ ما الذي جرى؟ انفجرت المدينة بالإيمان، انطلق التوحيد، الملك استغرب من الأمر، هذا الذي كان يخشاه، بدل الغلام صار الآن أمة كاملة، أراد أن يقضى على مؤمن صغير، فما علم أن أولئك الناس كلهم سيؤمنون، انطلق الناس بالإيمان. قال لجنوده: مروهم بالكفر والردة، فما استطاعوا، قال: احفروا لهم الأخاديد والحفر، حُفروا لهم الحفر وأشعلوا فيها النيران، أخذوا الناس واحداً واحداً: ترتد عن دينك أو نرميك في النار؟ هو يرمي بنفسه في النار، كلما جاءوا لواحد يرمونه في النار وهو يقول: لا إله إلا الله رب الغلام، لا إله إلا الله رب الغلام، آمنت بالله رب الغلام، ويرمى الناس في تلك النيران، والملك يشاهد ويتعجب، شعبه كله يحترق، أي إيمان هذا؟ أي دين هذا؟ أي عقيدة تلك؟ حتى جاءوا بامرأة تحمل رضيعاً صغيراً، قالوا لها: ترتدين عن دينك وإلا رميناك في النار؟ قالت: ارموني في النار ولكن اتركوا الغلام يعيش، قالوا: بل نرميه معك، فترددت المرأة، هذا الغلام ترمونه معي في النار، ما ذنبه؟ ما جريمته؟ تخيل طفل صغير ترددت المرأة وكأنها أرادت الرجوع، ولكن الله أنطق الغلام في المهد فقال: يا أماه أثبتي فإنك على الحق، فرمت بنفسها ورضيعها في النار: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} [البروج:8 - 7] كلهم شهود ينظرون إلى الناس يحترقون: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [البروج:8 - 9] هذه القصة العظيمة التي نقرؤها إلى قيام الساعة من بطلها؟ إنه غلام صغير، إنه شاب أيها الرجال! غلام صغير آمنت أمة كاملة بسببه!

صور من حياة شباب الصحابة

صور من حياة شباب الصحابة محمد عليه الصلاة والسلام يبعث لهذه الأمة بشيراً ونذيراً، يأتي إلى خديجة، تأخذ بيده إلى من؟ إلى ورقة بن نوفل، فيقول له: يا بن أخي! أخبرني بالذي جرى لك؟ فيخبره بالقصة، فيقول له: هذا الناموس الذي أنزل على موسى وقال: يا ليتني كنت جذعاً -يعني شاباً قوياً لأنه كان شيخاً كبيراً- إذ يخرجك قومك، فتعجب النبي عليه الصلاة والسلام وقال: أومخرجي هم؟ -ما الذي فعلته لهم- قال: نعم، ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا أوذي. بداية البلاء، فانطلقت الدعوة، ونشر الدين. ومن أكثر الذين بدءوا الدخول في الإسلام الشباب. هذا علي بن أبي طالب وذاك طلحة وهذا سعد، والأرقم ذلك الشاب القوي المؤمن الذي فتح بيته لتكون مقراً للدعوة، قال: بيتي لكم. شباب آمنوا بالله جل وعلا، وأخذوا ينشرون هذا الدين. لـ علي وحده قصص وحكايات في الدعوة إلى الله جل وعلا: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً} [الكهف:13]. انطلق عليه الصلاة والسلام في الدعوة، وبدأ يعلم الصحابة القرآن، فجاء الفتيان الصغار والشباب يحفظون كتاب الله جل وعلا. سمعتم بالقراء الأربعة الذين تلقوا القرآن من محمد عليه الصلاة والسلام؟ ثلاثة من الأربعة من الشباب من الفتيان: معاذ بن جبل شاب، عبد الله بن مسعود شاب، سالم مولى أبي حذيفة شاب، ثلاثة شباب يحفظون كلام الله جل وعلا، ليكونوا نبراساً للأمة بعده.

ترجمان القرآن

ترجمان القرآن فتىً صغير لا يتجاوز السابعة من العمر يتعلم الدين، ويحفظ القرآن، بل ويقرأ المفصل، بل ويسأل عن التفاسير، يموت عليه الصلاة والسلام وعمره عشر سنوات ويصير ترجمان القرآن، من هو؟ إنه ابن عباس رضي الله عنه، ترجمان القرآن، ما من آية إلا وتجد له فيها قول، إذا قال ابن عباس فكفى، مات أفضل الخلق عليه الصلاة والسلام وعمره عشر سنين، إنهم الشباب، انطلقوا للجهاد معه عليه الصلاة والسلام فمن الذي كان يحمل الرايات؟ ومن الذي كان يقاتل، الشيوخ؟ لا. ولكن الشباب هم من حملوا هذا الدين على أعناقهم وعلى أكتافهم.

عبد الله بن عمر

عبد الله بن عمر ابن عمر في غزوة أحد: عبد الله بن عمر بن الخطاب أراد أن يقاتل فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: أريد القتال، قال: أنت لا تقاتل، قال: أنا أستطيع حمل السلاح، قال: أنت لا تقاتل، وكان عمره ثلاثة عشر سنة، وكان يجادل النبي صلى الله عليه وسلم على القتال، فجاء الخندق قال: الآن تجيزيني يا رسول الله! وعمره خمسة عشر سنة، فأجازه صلى الله عليه وسلم القتال. كان شباب وفتيان الصحابة يقفون على أصابعهم ليرتفعوا؛ حتى يجيزهم عليه الصلاة والسلام بالقتال، فإذا ردهم عن الموت والقتال بكوا: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} للجهاد، للموت، للسيوف، للدماء تتطاير: {قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة:92]. شبابهم يبكون على الموت في سبيل الله، وشباب هذا الزمن إلا من رحم الله يبكي لأن عشيقته لم تتصل به، يبكي لأنها فارقته، لا ينام أياماً وليالي ويصفَرُّ لونه ويضعف جسمه لما يا فلان؟ هل لأن فلسطين احتلت؟! هل لأن الشيشان تدمر؟! هل لأن المصحف يدنس؟! لا. لأن عشيقته تركته، لأن حبيبته لم تلتفت له، لأنه لم يحصل على تلك الحبوب أو لم يحصل على ذلك الشراب، يبكي أياماً وليالي.

عمير بن أبي وقاص

عمير بن أبي وقاص عمير بن أبي وقاص أخو سعد بن أبي وقاص: في يوم من الأيام أراد الجهاد وأراد القتال فرده عليه الصلاة والسلام فبكى، حتى رق النبي صلى الله عليه وسلم له فأجازه. يقول سعد: كنت أعقد له خمائل السيف، يعني: كان صغيراً فأربط السيف حتى يحمله، السيف قد ينزل على الأرض وهو يمشي من صغر، عمره ستة عشر سنة، يقول: فدخل المعركة فأصيب فقتل، وعمره ستة عشر سنة، أرأيت إلى الشباب؟ {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً} [الكهف:13].

علي بن أبي طالب

علي بن أبي طالب شاب من الشباب اسمه علي بن أبي طالب: كل مسلم يعلم من علي، علي الأسد الشجاع، هذا الشاب في معركة خيبر اصطف الصحابة في صف واليهود في صف ثانٍ، خرج من بين المسلمين، وكان من عادة القتال في السابق، أن يخرج المبارزين من هذا الصف ومن هذا الصف يتبارزون قبل المعركة؛ ليحمى الوطيس ولتشتعل المعركة، يخرج أحد الأبطال من المسلمين وخرج من جانب اليهود رجلٌ يقال له مرحب؛ وهو من أشجع الأبطال ويعرف عند العرب كلهم، لو يقف أمامه عشرة لا يقدرون عليه، ومدجج بالدروع والأسلحة، سيف، ورمح، كل شيء عنده، ورجل كبير صاحب جسم ضخم، مدرب على السلاح لا يجابهه أحد، خرج من بين الصفوف، قائلاً: قد علمت خيبر أني مرحب شاكي السلاح بطل مجرب إذا الحروب أقبلت تلهب يعني: كلهم يعرفون من هو مرحب، ويعرفون شجاعة مرحب، ويعرفون بطولة مرحب قد علمت خيبر أني مرحب شاكي السلاح بطل مجرب إذا الحروب أقبلت تلهب من الذي خرج لـ مرحب؟ من الذي ظهر ليبارزه؟ إنه الشاب الشجاع القوي، علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وتخيل شاب أمام رجل، هذا ليس عنده من الأسلحة الشيء الكثير وذاك مدجج بالأسلحة، هذا معروف بخبرته في القتال وهذا شاب صغير، خرج علي بن أبي طالب رضي الله عنه، يرد عليه شعراً بشعر، فقال: أنا الذي سمتني أمي حيدره كليث غابات كريه المنظره أكيلهم بالسيف كيل السندرة وخرج المتبارزان وبدأت المبارزة والناس كلهم يتوجسون من الذي ينتصر؟ ضربة بضربة، وما هي إلا ضربة من علي يقسم به عدوه نصفين أمام الناس، فكبر الصحابة: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، إنها الشجاعة، وإنه الإيمان إذا دخل في القلوب. انظر أيها الأخ العزيز! إلى الشباب كيف كانوا يتحملون الأذى.

خباب بن الأرت

خباب بن الأرت خباب بن الأرت: هذا شاب في مكة، من شدة الأذى لو تكشف عن ظهره لا يعرف هل هو لحم أو بدون لحم؟ ضرب هذا الرجل ضرباً حتى كانوا يختلفون من عذب أكثر هو أم بلال من شدة الأذى الذي أصابه رضي الله عنه، أتى يوماً من الأيام على النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسدٌ بردة عند الكعبة، فقال: (يا رسول الله! ألا تدعو لنا، ألا تستنصر لنا، ألا ترى ما نحن فيه -لا يقول هذا جزعاً ولا يأساً لكنه يريد نصر الله، يعرف أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا دعا فإن نصر الله قادم- فقام عليه الصلاة والسلام مغضباً وقال: إنه كان فيمن كان قبلكم يؤتى بالرجل فتحفر له الحفرة ويوضع فيها، ويؤتى بالمنشار على مفرق رأسه فينشر فلقتين فلا يرده ذلك عن دينه، لكنكم قوم تستعجلون، لكنكم قوم تستعجلون).

الحقد الصليبي على الإسلام

الحقد الصليبي على الإسلام إن هذه التحديات المعاصرة هي واقعنا وعالمنا، وهذا الكلام أوجهه للشباب وللكبار وللشيوخ، كل منا متحدى بهذه التحديات، بل للرجال والنساء، بل حتى للأطفال. نحن نعيش في عالم يسيطر عليه اليهود والنصارى، ولا ريب في هذا يقضى الأمر حين تغيب تيم ولا يستشهدون وهم شهود نحن الآن لا نتصرف حتى في أمورنا الخاصة، أذكركم حتى لا تنسون وحتى يسجل التاريخ هذا، وحتى لا يوصف المسلمون بأنهم متخلفون أو بأنهم إراهبيون رجعيون، نذكركم بالواقع الذي نعيشه، قبل بضعة قرون دخل النصارى بيت المقدس، وأول من استحله النصارى قبل اليهود، فذبحوا ما يقارب سبعين ألف مسلم، نحروهم مثل الشياه، وهم يستبيحون تلك الأرض المقدسة. يقول أحد النصارى المستشرقين: كانوا يُكرهون العرب على إلقاء أنفسهم من أعلى الأبراج. تخيل! يأتون بهم من فوق أعلى بناية وأعلى عمارة ويدفعونهم وهم أحياء، نساء، أطفال، رجال، تخيل هذا المنظر، يعني: يتفننون في قتل المسلمين، يقول: ويجعلونهم طعاماً للنار. يشعلون الحفر فيحرقون فيها المسلمين، بل يقتلون الجثث فوق الجثث. ويقول الآخر وهو من المستشرقين: كان دم المقهورين -أي: المسلمين- يجري في الشوارع، حتى -انظر الوصف الدقيق البليغ- كان الفرسان يصيبهم رشاش الدم وهم راكبون. فارس على دابته وحصانه يمشي فإذا وطأت قدمه دم المسلمين يصيبه من دم المسلمين. أرأيت كيف حقدهم! أرأيت ماذا يريدون منا! وما البوسنة والهرسك عنا ببعيد، وما الذي حصل في الشيشان ببعيد، وما المحرقة التي يحرقون بها لبنان ببعيد، حقد في القلوب: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] من ظن أنهم سوف يرضون عنا فإنه يخالف كتاب الله. انتبه يا أخي العزيز فإن كلام الله حق: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} [النساء:122] ما كانوا يميزون بين طفل وشاب أو امرأة وشيخ، يقتلون الجميع. أسمعت بـ الأندلس، وعرفت ما الذي حصل فيها؟ أمة أبيدت من على الأرض، هذه أسبانيا الآن كانت في حضارة إسلامية، بل أكثر العلماء تخرجوا من الأندلس، ولو تذهب الآن إلى الأندلس لا تجد رائحة للإسلام، حولوا تلك المساجد إلى متاحف، كانوا يضعون الرجل في تابوت مخرق بالخناجر ويغلقونه بقوة، حتى يتعذب شيئاً فشيئاً فيموت. كيف كانوا يعرفون المسلمين؟ المسلمين تنكروا لدينهم خوفاً على أنفسهم، فكان النصارى يأتون إلى الأطفال فيكشفون عن عوراتهم فإذا رأوه قد ختن علموا أن عائلته مسلمة فقتلوهم جميعاً: {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلّاً وَلا ذِمَّةً} [التوبة:10] حقد على المؤمنين من اليهود والنصارى، ثم بعد هذا يقولون: المسلمون إرهابيون، المسلمون يقتلون. قتل امرئٍ في غابة جريمة لا تغتفر وقتل شعب كامل مسألة فيها نظر انظروا إلى قضية الشيشان الآن، كم ألف قتل، وكم ألف فُجِّر، ومازالت المسألة فيها نظر، ومباحثات، وجولات، المسألة فيها زيارات، ثم لما أجلوا إلى تلك المخيمات وإلى تلك المعسكرات لم يسلموا، فرجالهم يعذبون صباح مساء، ونساءهم تغتصب على مرأى ومسمع من العالم كله، ولا يحرك أحد ساكناً. أين الشباب؟ أيحق لنا بعد هذا أن ننام نومة هنيئة؟! أيحق لنا بعد هذا أن ينادي ربنا للصلاة فنتولى؟! أيحق لنا أن نهجر المصاحف بعد أن علمنا أن اليهود والنصارى الحاقدون يريدون القضاء على هذه الأمة؟! أيحق لنا بعد هذا أن نرضى عنهم ونحبهم ونودهم؟!

حال الأمة الإسلامية في هذا الزمن

حال الأمة الإسلامية في هذا الزمن إن النصر عند المسلمين في هذا الزمن ليس نصر الحروب والمجد، بل أصبح في بعض الأمور التافهة، مثل: لعب الكرة، والرياضة ليست بحرام، وأنا لا أحرم الرياضة، ولا لعب الكرة إذا كانت بقدر مباح، ولكن إذا تجاوز الأمر حتى صارت انتصارات المسلمين في ملاعب الكرة، وصار المسلمون يكرهون بعضهم بعضاً لأجل الكرة ولأجل الملاعب فحرام، أيها الأخ العزيز! ما الذي يحدث في ملاعبنا؟! وما الذي يجري في مبارياتنا؟! المسلمون يريدون الانتصار لكن ليس في المعارك بل في الكرة، وأخبرك أن اللعب ليس بحرام ولكنه بقدر، اسمع الشاعر كيف يصف أحوال المسلمين. للأسف: عربات تدفقت تشبه الهائج الخضم وعليها تكومت زمرٌ طيشها احتدم ماجت الأرض بالورود وداء الضجيج عم فتساءلت والأسى ينبض القلب بالألم هل فلسطين حررت وقطاف العناء تم أم بـ كشمير دمرت قوة الغاصب الأذم قيل لا بل فريقنا فاز في لعبة القدم أي سخف مدمر عن فساد الشعوب نم وإلى أي خيبة هبطت هذه الأمم ألف مليون أصبحوا كغثاء بشط يم ومصلى نبيهم بيد اللص يقتسم أنا أقسمت بالذي برأ الكون من عدم وكسا ثوب عزة كل من بالهدى اعتصم إن ركنا لعزنا وقنعنا بالنعم فخطى الخصم ماضيات من القدس للحرم عندها يندم الجميع يوم لا ينفع الندم صار عزنا اليوم في المباريات، يقولون: نجم، على أي شيء صار نجماً أو صار بطلاً؟ لأنه غنى أغنية، أو لأنه مثل في مسلسل، حتى صار القدوات اليوم للشباب ليس صلاح الدين، صار القدوات في هذا الزمن إما ممثل أو ممثلة، أو مطرب أو مطربة، أو مغني أو مغنية، أين صلاح الدين؟ أين سعد بن أبي وقاص أول رامٍ في الإسلام؟ أين علي بن أبي طالب أول فدائيٍ في الإسلام؟ أين الشيخان أبو بكر وعمر، أين أولئك الأبطال؟ نسوا إلا ممن رحم الله جل وعلا، صار الشاب الصغير منذ صغره يعلق على فنيلته وعلى ملابسه بعض صور أعداء الله، صور أناس عرفوا بأنهم يتعاطون المخدرات أو ماتوا بتعاطي المخدرات.

العقبة الكئود أمام الغرب النصراني

العقبة الكئود أمام الغرب النصراني اسمع أيها الأخ العزيز! إلى أحد كبار الوزراء في دولة غريبة نصرانية يقول: إن العقبة الكئود أمام استقرارنا بمستعمراتنا في بلاد الإسلام شيئان. شيئان هما العقبة الكئود، اللذان يمنعاننا عن الاستقرار في هذه المستعمرات، ما هما؟ هل تظن أنها أعدادنا؟ ألف مليون، هل تظن أنها أموالنا التي تغطي العالم كله؟ هل تظن أنها مناصبنا أو وجاهتنا؟ كل هذا لا يسوى عندهم شيء، انظر ما الذي يصعب الأمر عليهم. قال: شيئان لا بد من القضاء عليهما: أولهما هذا الكتاب وأشار إلى القرآن، ثم سكت واتجه نحو القبلة وقال: الكعبة، هذان الأمران هما اللذان يمنعاننا من الاستقرار في بلادنا. بثوا الشبهة، أثاروا الشكوك، صار الشاب المسلم في حيرة من أمره هل صحيح ما يقال: إن الإسلام دين إرهاب، دين تخلف، دين رجعية؟ صار بعض الشباب يتساءل: هل صحيح أنه في يوم من الأيام كان لنا عز؟ هل صحيح أن الإسلام مصدر عزنا؟ بدأ بعض الشباب يتساءلون: هل يصلح القرآن لهذا الزمان؟ إنا لله وإنا إليه راجعون! بدأت فتيات يتكلمن ويقلن: إن القرآن لم ينصفنا، والدين قد بخسنا حقنا، فلابد من التحرر، ولابد من نزع الحجاب، وإلقائه، ولابد من تكسير تلك القيود، وهؤلاء مساكين، خرجوا من الحرية إلى العبودية، خرجوا من عبادة رب الأرباب إلى عبادة البشر والدنيا والشهوات، انظر إلى وسائلهم، اتهموا المصلحين والدعاة إلى الله، والعلماء، والمشايخ، قالوا: متطرفين متنطعين، رجعيين، قالوا وقالوا وقالوا: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ} [الذاريات:52 - 53] سبحان الله، كأن واحداً يوصي الآخر، كأن أمة توصي التي بعدها: {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ}.

خطورة العلمانية

خطورة العلمانية جاء فرعون إلى موسى عليه السلام قال له: ترجع؟ قال: لا أرجع، قال: أنت مجنون، قال: إن كنتم تعقلون، قال: ماذا تقول؟ قال: قال: أسجنك، قال: اسجني، أتى بالسحرة فإذا بموسى عليه السلام يواجه السحرة، فنصره الله تعالى عليهم. تشكيك في الدين، بدءوا يزرعون أناس في بلاد المسلمين يكتبون كل شيء باسم الإسلام، أسماءهم: عبد الله وأحمد ومحمد وأسماء الأنبياء والصالحين، كأن الحديث الصحيح بدأ يتمثل الآن: (هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، دعاة على أبواب جهنم، من أطاعهم قذفوه فيها) يقولون: نحن نصلي لكن {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:14] يستهزئ، فإذا جلس قال: أنا أخاف الله، نحن مسلمون ومؤمنون: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:204 - 205] بل عقدوا مؤتمرات يناقشون فيها هل يصح أن تكون العصمة بيد الرجل؟ لماذا لا تطلق المرأة الرجل؟ هل هذا عدل أن الذكر يأخذ حظ الأنثيين؟ لابد أن نعيد النظر في هذا، قالوا: لا بد أن نعيد النظر في الأسرة، هل يجب أن تكون من رجل وامرأة؟ لمَ لا تكون الأسرة من رجلين؟ أو من امرأتين؟ مؤتمرات تعقد وتنشر في بلاد المسلمين، حتى يشككوا المسلمين في دينهم. يوم من الأيام كنت أصلي وبعد الصلاة ذهبت فاستقبلني شاب صغير، قال: أين كنت؟ قلت: في الصلاة، وكان يتكلم صادقاً، قال: إلى متى تصلون؟ قلت: له ماذا تقصد؟ قال: يا أخي الناس تطورت، والناس وصلوا الآن القمر، وأنتم إلى الآن تصلون، وكان صريحاً، أراد الخير، أراد أن يخبرني عما وصل إليه في قلبه، قلت: تتكلم بحق؟ قال: نعم، الناس تطورت، وصلت القمر، اكتشفت الذرة، وأنتم لا زلتم تصلون، قلت له: إنا لله وإنا إليه راجعون! كيف أجيبه؟ إذا وصلوا إلى القمر نحن نريد أن نصل إلى الفردوس الأعلى، إذا كانوا فعلوا ما فعلوا فإنهم لم يعلموا حقيقة خلقهم وحياتهم. وإيليا أبو ماضي، اسمعوا ماذا يقول؟ جئت من أين لا أدري ولكني أتيت ثم أبصرت قدامي طريقاً فمشيت وسأبقى سائراً شئت هذا أم أبيت لست أدري لست أدري لست أدري لا يدري لماذا يعيش، ولا يدري لما يحيا. يُسب الرسول ويشتم الدين ويطعن في القرآن، يطعن في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، يشكك في الدين، ووصل الأمر إلى بعض جرائد المسلمين، حتى يسهلوا على المسلمين الطعن في دينهم. هنا رجل يعاقب ويلاحق، ثم الآخر، ثم الثالث، ثم الرابع، حتى يقول المسلمون: تكاثرت الظباء على خراش فما يدري خراشٍ ما يصيد

حال صغار الصحابة

حال صغار الصحابة عبد الرحمن بن عوف في غزوة بدر يقول: وأنا واقف قبل المعركة غمزني شاب فالتفت عن يميني فإذا شاب صغير، قلت له: ماذا تريد؟ قال: يا عم! أين أبو جهل؟ -يريد من؟ يريد أبو جهل، يريد قائد المعركة، يريد سيد القوم، لا يريد أي أحد- قال: وما شأنك وشأنه يا بني؟ قال: يا عم سمعت أنه سب رسول الله، قال: والله لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا، يعني: يا إما أن أموت أنا أو هو يموت، يقول: فعجبت من أمره، فغمزني شاب عن شمالي، فنظرت فإذا هو شاب آخر يقول لي نفس الكلام -اثنين يبحثون عن أبي جهل - يقول: بعد قليل حمي الوطيس واشتدت المعركة، وقلت لهما، وكانا بجانبي، هذا صاحبكما، يقول: والله انقضا عليه كالصقر يضربانه من كل جهة. أبو جهل الذي عادى الدعوة، فرعون هذه الأمة شابان صغيران ينقضا عليه كل واحد يضربه من جهة، يقول: وما هي إلا لحظات وسقط على الأرض وقتلاه وهرعا إلى النبي عليه الصلاة والسلام، هو في الحقيقة لم يمت، وأجهز عليه شاب ثالث هو ابن مسعود كان ينتظر تلك اللحظة المثيرة حتى ارتقى على صدره ابن مسعود فقال له أبو جهل وهو في الرمق الأخير: لقد ارتقيت مرتقىً صعباً يا رويعي الغنم، انظر العزة بالإثم، انظر الكبر حتى عند الموت، قال لمن الدائرة اليوم، انظر حرصهم على نصر باطلهم حتى في الرمق الأخير، من الذي ينتصر الآن؟ قال: لله ورسوله يا عدو الله، فحز رأسه، وجاء الشابان إلى محمد عليه الصلاة والسلام كل واحد يقول: يا رسول الله! أنا قتلته، أنا قتلته، فقال عليه الصلاة والسلام: هل مسحتما سيفكما؟ قالا: لا، فنظر إلى السيف ثم قال عليه الصلاة والسلام: (أبشرا أبشرا كلاكما قتله). الآن لا نريد هذا، نريد أقل من هذا، نريد من يكتب في نصرة دين الله مقالة في جريدة، نريد من يقوم في مسجد يتكلم، نريد أدنى من هذا، نريد من يشتري عشرة أشرطة إيمانية تتحدث عن الصلاة يوزعها في عمله، أو في مدرسته، أو عند جيرانه، نريد شاباً يتبرع بطباعة مصاحف تنشر في أفريقيا، نريد شاباً شجاعاً إذا قام لصلاة الفجر أيقظ إخوانه وأخواته وأمه وأباه، بل طرق الباب على الجيران. أذكر شاباً صغيراً كان يستيقظ كل يوم قبل أذان الفجر يتجول على البيوت يطرق الأبواب يوقظهم لصلاة الفجر، وربما إلى الآن يفعل هذا الفعل: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً} [الكهف:13].

الشهوات عقبة أمام الشباب

الشهوات عقبة أمام الشباب تحديات العصر أكبر وأكبر من هذه الشبهات فقط، تحديات العصر في الشهوات: الشهوات التي دخلت في كل بيت، النساء، الأغاني، الطرب، الحفلات، الفضائيات وصلت إلى بيوتنا، بالله عليكم هل خلا بيت منها؟ هل خلا بيت من هذه الشهوات، وهذه الملهيات؟ هل خلا شاب من التعرض لها؟ اسمع أيها الأخ الكريم إلى الرب جل في علاه كيف يربينا ويوجهنا! يقول الله جل وعلا: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30] في البيت لوحدك لا يوجد أحد وعندك الجهاز، إنترنت يفتح لك العالم كله، صفحة واحدة بين يديك تتجول على العالم كله في بضع ثوانٍ، ثم بعد هذا ما الذي يمنعك أن تضع تلك الكلمة فتدخل على هذا الباب؟ إنه الخوف من الله، إنها مراقبة الله لا غير، مهما منعت، مهما روقبت، فإنه ليس أعظم من مراقبتك لله جل وعلا، ما الفاصل الذي يجعلك تدخل على برامج القرآن والإسلام، والمقالات الإسلامية وأخبار الإسلام، والأخبار المفيدة والمعلومات النافعة، وبين أن تدخل على الجانب الآخر، ما الذي يمنعك؟ إن لم يكن الخوف من الله جل وعلا. يقول الله جل وعلا عن يوم القيامة: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ} [الكهف:49] يوم القيامة تتطاير الصحف، ووقت تتطاير الصحف تسود وجوه وتبيض وجوه، تخيل الصحيفة تأتيك فيُسهل الله لك مسك الصحيفة باليمين، ومن الناس من يريد أن يأخذها باليمين فتلتف يده وراء ظهره، فإذا التفت وراء ظهره قبض صحيفته بشماله، لا إله إلا الله، يسود الوجه بعد هذا، ويبدأ بالصياح فيفتح صحيفته: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء:14] ترى ذاك اليوم لا يوجد أحد، فتح ذلك الإنترنت ودخل على كل حرام وكل صورة خليعة، مسكين، قال تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:14] لا يدري أن الله يراه، يفتح صحيفته يوم القيامة: {فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً} [الكهف:49] كل نظرة، وكل كلمة، وكل لحظة مكتوبة: {لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49]. شباب المسلمين الآن مستهدفين بهذه الأجهزة وتلك الفضائيات، ولا يدرون أن الله مطلع عليهم، يفتح قنوات فضائية على صور خليعة، أفلام ماجنة، رقص، طرب، وإذا قلَّب القناة وجد إذاعة قرآن، أو درس ديني، أو برنامج مفيد، تركه ولم يأبه به، سبحان الله! {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:14]. بل أكثر من هذا، الآن المسلمون مستقصدون حتى بالمخدرات، انظر إلى مناطقنا التي بفضل الله تتمسك لا زالت بالدين وبالعادات الحسنة، تغرق الآن بالمخدرات، ترسل إليها المخدرات من جميع الدنيا، حتى صار بعض شباب المسلمين أسارى وأي أسارى لتلك الحبوب وهذه الإبر، كم واحد منهم يموت بسوء الخاتمة؟ سلوا المسئولين، سلوا المتخصصين، هل حقاً هناك من يموت بالمخدرات؟ إحصائيات عجيبة في بلاد المسلمين. رأيت بعيني صوراً لشباب ماتوا بالمخدرات وقد تجمع النمل على أجسادهم؛ وتخيل منظره، وسوء الخاتمة. بل رأيت أخطر وأكبر من هذا، شاب عندما مات في المخدرات على هيئة سجود، لا ندري سجد لمن؟ الله المستعان، لا ندري هل سجد لشيطانه؟ أو لشهوته أو لغير هذا؟ ثلاثة شباب يسافرون إلى بلاد الكفر، يذهبون إلى المراقص، يشربون الخمر، يعاشرون النساء، لحظة من اللحظات وهم في مرقصهم في لهوهم في الثلث الأخير من الليل سقط أحد الثلاثة على الأرض وهو سكران، جاءه أصحابه يهزونه فإذا هو يحتضر، يا فلان ما الذي يحدث؟ وأحدهم كان في وعيه، قال له: قل لا إله إلا الله، قل لا إله إلا الله، قال: زدني كأس الخمرة، زدني كأس الخمرة، يا فلان يا فلان، ثم مات، رجع اثنان إلى بلدهم ومعهم الثالث في تابوت، إنا لله وإنا إليه راجعون، شهوات يغرق بها المسلمون. أما تخاف يا أخي الكريم، أما تخاف أن تقول في اللحظة الأخيرة، مرة أفعلها وأتوب إلى الله، ما يدريك لعل خاتمتك تكون في هذه اللحظة. الله جل وعلا يأتي بالناس في يوم القيامة فيأتي بالعبد فيقول له: عبدي ماذا فعلت؟ يقول: يا رب لم أفعل شيئاً في الدنيا؛ أصلي وأصوم وأذكرك، ولا يذكر السيئات ويذكر الحسنات، فتأتي الملائكة تشهد عليه؛ لأن معك ملائكة لا يفارقونك، تأتي الملائكة تشهد، ويأتي الصالحون يشهدون: يا رب نصحناه لكنه لم ينصح، يا رب علمناه فلم يتعلم. فيقول بعد هذا: ربي لا أقبل شاهداً إلا من نفسي، فيقول الرب جل وعلا: لك ذاك، فيختم الله على فمه ويبدأ الجلد فيتكلم، واليدان فيتكلمان والرجلان يتكلمان: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون} [يس:65]. في أمريكا طائفة يسمونها المورمن يخبرني أحد الدكاترة، يقول: إن هذه الطائفة إذا بلغ الشاب سن الرشد، لزم إلزاماً دينياً أن يؤخذ من أهله سنتين، يذهب فيها إلى معسكرات للتربية، يربونه، يترك كل شهوات الدنيا وملذات الدنيا، سنتين كاملتين، لا يحق له أن يتصل بأهله إلا في كل بضعة أيام مرة وزمن محدد، لا وأكبر من هذا أن هذين السنتين كلها على حساب أهله، سفر، وإقامة، وأكل وشرب كله على حساب الأهل، هذا واجب ديني عندهم، سنتين لأجل دينهم فأين شباب المسلمين؟ أين رجال المسلمين؟ الواحد بعض المرات ولده يقول: أريد أن أذهب إلى العمرة؟ أما الفضائيات وما أدراك ما الذي تحدثه في هذا الزمن؟ إنها تنخر الدين نخراً، حتى يصبح الرجل ليس له من الدين إلا الظاهر، بل أعلم عن أناس بسببها انتكسوا وتركوا حتى الصلاة، الفضائيات فيها خير وشر كثير، ولكن من الذي ينتقي الخير ويترك الشر؟! كن صادقاً مع نفسك، وكن مراقباً لله جل وعلا.

هذا حال السلف مع ذكر الله

هذا حال السلف مع ذكر الله الإمام أحمد جالس في درس، دخل عليه أحد الشعراء فأخبره بشعر، ثم ذهب، فقام الإمام أحمد من المجلس وأغلق على نفسه الباب، والطلبة ينتظرون فلم يخرج الإمام أحمد، فذهبوا إلى الغرفة فإذا الإمام أحمد يبكي لما ورد في الشعر، وأخذ يردده ويبكي، ما هو هذا الشعر؟ إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل عليّ رقيب ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفيه عنه يغيب لهونا لعمر الله حتى تتابعت ذنوب على آثارهن ذنوب فيا ليت أن الله يغفر ما مضى ويأذن في توباتنا فنتوب هذا حال الإمام أحمد، فكيف بالذي يجلس أمام النساء ويكلمهن، ووقته مع الفضائيات، والأفلام الخليعة، ويفعل ويفعل، وسيارته امتلأت بأشرطة الأغاني والطرب، وإن سألته من أحب الناس إليك؟ قال: الممثلة الفلانية، والمطربة الفلانية، ولا يدري المسكين أن المرء يحشر مع من أحب، تريد أن تحشر مع من؟ مع محمد عليه الصلاة والسلام، مع إبراهيم وموسى وعيسى، مع أبي بكر وعمر، وعثمان وعلي، وطلحة بن عبيد الله وبلال، أم مع تلك المغنية الساقطة، أو الراقصة الفاجرة، أو الممثلة الخليعة، تريد أن تحشر مع من؟ أجب على نفسك بهذا السؤال، أجب وكن صادقاً مع نفسك: (يحشر المرء مع من أحب). والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من يضمن لي ما بين لحييه وفخذيه أضمن له الجنة) حديث صحيح، وأكثر ما يدخل الناس النار هو الفم والفرج، إذاً اتق الله وانتبه. يقول أحد اليهود، وكان صادقاً في هذه الكلمات: نحن اليهود لسنا إلا سادت العالم ومفسديه ومحركي الفتن فيه وجلّابيه. هل كذب في هذا العصر؟ والله صدق، هم يسوسون العالم طبعاً بأمر الله، نعم كتبت عليهم الذلة إلا بحبل من الله وحبل من الناس، هم الذين تركوهم يفعلون هذا الأمر، قال: ومحركي الفتن. تظنون هذه أكثر الفضائيات الخليعة، ووسائل الدمار في الإنترنت، وبعض المخدرات التي تبث في العالم، تظنون من وراء هذا كله؟ لو رجعت لوجدت الأمر أو المصدر الأساسي اليهود في العالم كله، يغرقون المسلمين بهذا. وأسامة بن زيد هذا الشاب عمره سبعة عشر عاماً يقود جيشاً فيه أبو بكر وعمر، أين شباب المسلمين في هذا الزمن؟ {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب:23]. رأيت في أفلام عن البوسنة شباباً أعمارهم أقل من العشرين سنة والله رأيت أحدهم في الفيلم المصور مقتول يدفن وهو مبتسم، ووالله أنت لمّا ترى هذا المشهد تدمع عينك وتأسف على حالك، وتقول: والله فازوا. هذا عبد الله بن حرام يطعن، ثم أخذ الدم ومسح به على وجهه، وقال: الله أكبر، فزت ورب الكعبة ثم يموت. انظروا إلى الأوائل وانظروا إلينا، أولئك يموتون لنصر دين الله، وهؤلاء يموتون في إبرة مخدر، قال الله: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:35 - 36]. من وسائل الحرب على الشباب والشابات في هذا الزمن: أن يؤثر الناس على المسلمين في الحضارات الغربية، حتى صوروا الحضارة الغربية ألا عيب فيها، ولا شيء سيئ في هذه الحضارات، حتى صار الشباب اليوم يتأثرون بالملابس وباللغة، يتكلمون كلمات ليست إسلامية، سلامهم وتحيتهم ليست إسلامية، ملابسهم تغيرت، شعورهم تغيرت، أحاديثهم تغيرت، مجالسهم تغيرت، ما الذي حدث؟ ما الذي جرى؟ تأثروا بالحضارات الغربية: {أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51]. بعضهم يفتخر: أنا ولدي يدرس في مدرسة إنجليزية، يفتخر ويعرف أنه اختلاط، وتضييع هوية الولد، ويحتفلون بأعياد النصارى وبرأس السنة، بل يضعون الصليب على بعض احتفالاتهم، يفتخر: أنا ولدي يدرس في مدرسة إنجليزية، أو يفتخر لأنه يقيم في بلاد الكفر، يفتخر لأن لهجته الآن ليست عربية، يفتخر أنه يتعلم لغات ليست لغات عربية وإسلامية.

قصة الغلام مع أبي قدامة

قصة الغلام مع أبي قدامة آخر قصة: قصة غلام سمع رجلاً يحث على الجهاد في سبيل الله، فلما انتهى من الخطبة قال: يا شيخ! أريد الجهاد، قال: أنت صغير، قال: والله لتحملني معك، أقسم بالله لتأخذني للجهاد معك، فأجابه وأردفه على دابته وسار، وقبل أن يسير جاءته امرأة وقالت: يا شيخ ليس عندي شيء أتبرع فيه إلا هذا الظرف، فلما فتح الظرف وجد فيه ظفيرة المرأة؛ شعرها، لا تملك من الدنيا إلا شعرها، وليس عندها مال، تقول: وكتبت له رسالة، أسألك أن تجعل ظفيرتيَّ رباطاً لفرسك. هل عند المرأة شيء أغلى من شعرها، قطعت الشعر ليجعل رباطاً للفرس، ذهب الشيخ ومعه الغلام الصغير، أثناء المعركة بدأت المعركة وبداءوا يترامون بالسهام والنبال، قال الغلام للشيخ: يا شيخ! أعطني السهام، قال: أنت صغير، قال: أعطني، فأعطاه ثلاثة أسهم، فرمى بالسهم الأول وقال: بسم الله فرمى نصرانياً وقتله، وكذا الثاني والثالث، ولما اشتدت المعركة رمي الغلام بسهم فأصيب، وسقط من أعلى الدابة، ونزل الشيخ ينظر إلى الغلام، وهو الآن يحتضر والدم يسيل منه، فقال له: أتريد شيئاً؟ قال: نعم، أبلغ سلامي على أمي وأخبرها بخبري، قال الشيخ للغلام: يا غلام وما أدراني من هي أمك؟ قال: أمي صاحبة الظفيرتين -أرأيت إلى أمهات ذلك الزمن، ابنها وشعرها- قال الشيخ للغلام: يا غلام أذكرك العهد الذي بيني وبينك، ومات الغلام، فلما رجع الشيخ إلى البلد، طرق الباب، وفتحت أخت الغلام، قالت: أتبشرنا، قال: نعم أبشركم بموت ولدكم، قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون! مات أبي فاحتسبناه عند الله، وقتل أخي الكبير فاحتسبناه عند الله، والآن يموت أخي الصغير ونحتسبه عند الله. دين الله جل وعلا يحتاج إلى أولئك الذين يتنبهون لدينهم، ويحفظون دينهم وينشرونه في الآفاق، فماذا صنعنا لهذا الدين؟ أسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا بما تكلمنا وذكرناه في هذا الدرس، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وأشكر في النهاية النادي العلمي القطري على هذا المجهود الكبير الذي أرجو من الله عز وجل أن تحذو جميع النوادي حذوهم وجزاهم الله كل خير.

اليوم الآخر وأقوال الكافرين

اليوم الآخر وأقوال الكافرين الموت هو الحد الفاصل بين الدنيا والآخرة، يأتي بغتة فيدرك الإنسان على أحد حالين: إما طائع لربه منهمك في هذه الطاعة، أو على معصية وسهو وغفلة، وحين تبدأ مشاهد الآخرة لا يستوي هذا وذاك، فشتان بين المسلمين والمجرمين. وهنا عرضٌ لمصير الروح الخبيثة، ورحلتها من الدنيا ومعاصيها، مروراً بالقبر والبرزخ، حتى الوقوف بين يدي الله، ولكل مرحلة عذابها الخاص. وتختتم هذه المادة -بعد بيان بعض أوصاف النار- بدعوة إلى التوبة وبيان لشروطها.

اليوم الآخر وكيف يستعد الناس له

اليوم الآخر وكيف يستعد الناس له بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه. أما بعد: اليوم الآخر كلمة طويلة عريضة، من اسمه يتبين أنه لا يوم بعده، وتبدأ أول مشاهد هذا اليوم بحادثة مثل هذه الحوادث، فاستمع إليها يرحمك الله. قد يبدأ هذا الرجل يومه وهو على الفراش طريحاً، وقد أحس بالروح تخرج، ولعله بدأ يحس بالنزع، وهذا هو النزع الأخير، ولربما تكون زوجته بجنبه وأولاده عنده، ولربما بكت البنت وسقطت على حضنه فقالت: أبي! ما لك لا تجيب؟! ولعل زوجته تنوح! وأبوه ينادي بالطبيب! وأخوه يناديه! ولعل الطبيب قد جاء وحاول أن يرجع الروح إلى صاحبها؛ ولكن، {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} [القيامة:26 - 28] أي: تيقن أنه الفراق، فراق المنصب، فراق الدنيا، فراق السيارة، فراق الزوجة، فراق الأهل، فراق الأولاد والأحباب، فراق البيت والأثاث، فراق الأصحاب، فراق الدنيا بمن فيها. {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} [القيامة:28] ثم لما مات وخرجت الروح من صاحبها ومن الجسد حُمِل على الأكتاف ولُفَّ في الكفن: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} [القيامة:29] {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:30] هنا تبدأ أول مشاهد اليوم الآخر، ولعل هذه ميتة حسنة.

نموذج للخاتمة السيئة

نموذج للخاتمة السيئة اسمع إلى تلك الميتة التي بدأ فيها ذلك الإنسان يومه الآخر بأسوأ ما يكون، واسمع إليها وما ندري كيف تكون نهايتنا! هذا رجل أجلكم الله كان في هذه البلاد لا يحصل على ما يريد، سافر إلى دولة إباحية تعطيه كل ما يشتهي؛ فذهب إلى أحد الفنادق، فحجز له غرفة، ثم طلب زجاجات الخمر أم الخبائث والفواحش، الخمر الرجس النجس، ذلك المشروب الذي حرمه الله جل وعلا. فطلب تلك الزجاجات فأخذ يشرب ثم يشرب ثم يشرب بعد حرمان طويل، حتى جاء غرفة دورة المياه -أجلكم الله- ليخرج ما شربه بعد أن أحس بالغثيان والإعياء، وبعد يومين أو ثلاثة طرقوا عليه الباب فلم يفتح، كسروا عليه الباب وفتحوا، فإذا رأسه -أجلكم الله- في مصرف المجاري، وقد زهقت نفسه قبل ثلاثة أيام، وأنتن جسده، ورأسه في مصرف المجاري، {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون:99] {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْت} [المؤمنون:100] يا رب، يا رب ساعة فقط، يا رب ساعتين فقط، أصلي جميع الصلوات التي فاتت، أُرْجِع الأموال التي أخذتها من الناس ظلماً إلى أهلها، أتوب من جميع الذنوب والمعاصي، يا رب ساعة واحدة فقط، فيرد الله عليه: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ} [المؤمنون:100] يعني: كلمة يقولها دائماً طول عمره؛ لكنه كاذب فيها، يذكر هذا الرجل لما أصيب بمصيبة بكى فقال: يا رب لئن كشفت هذه المصيبة لأتوبن ولأصلين ولألتزمن بدينك، لكن لما انكشفت المصيبة رجع كما كان، أراد أن يُفْضَح، رجع إلى ربه وتوسل إليه: يا رب يا رب! لئن سترت علي لأفعلن وأفعلن، ستر الله عليه فرجع إلى حاله السابق، {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100].

نموذج للخاتمة الحسنة

نموذج للخاتمة الحسنة رجل أصيب بمرض شديد، فقال لأبنائه: احملوني إلى المسجد، قالوا له: يا أبتاه! أنت رجل مريض وقد عذرك الله، صلِّ في البيت، قال: لا إله إلا الله، أسمع حيَّ على الصلاة حيَّ على الفلاح ولا أجيب! احملوني إلى المسجد، فحملوه إلى بيت الله جل وعلا وهو رجل كبير في السن، وأوقف في الصف، فلما كان في السجدة الأخيرة قاموا من الصلاة فِإذا نفسه قد فاضت إلى بارئها، وقد ختم الله له جل وعلا بسجود بين يديه، هل يستوي هذا وذاك {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم:35] {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [الصافات:154] هل يجعل الله ذلك الذي يُبعث وهو ساجد، وذلك الذي يُبعث وهو مُلَبٍّ، وذلك الذي يُبعث وهو صائم، وذلك الذي يُبعث وهو يطيع ربه يقرأ القرآن، هو والذي يُبعث هو بين يديها، أو عند فرجها أجلكم الله، أو يُبعث وهو سكران يشرب الخمر، أو يُبعث وهو تارك للصلاة، هل يستوي هذا وذاك؟! {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28] نعم. هم في الدنيا سواء؛ هذا على كرسي بجنب هذا، ويحصل على المال مثل هذا، نعم: {كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} [الإسراء:20] ولكن اليوم الآخر هو الفصل هو الموعد وهو الذي يفرق الله فيه بين الناس.

مصير الروح الخبيثة

مصير الروح الخبيثة يبدأ ذلك اليوم كما أخبرناكم بذلك المشهد الكئيب، ولعله يكون ما يتدارك نفسه بحادث سيارة، ولعله يكون وهو نائم مسكين ولا يشعر، ينام فإذا هي النومة الأخيرة لا يستيقظ بعدها، ما أدرك نفسه وما تداركها، وكان دائماً يقال له: تب يا فلان! استقم يا فلان! صل، الصلاة عمود الإسلام، يقول: إن شاء الله من الغد، إن شاء الله من رمضان القادم بعد رمضان، إن شاء الله من الحج، بعد الحج إن شاء الله، بعد الزواج إن شاء الله، لما أفعل وأفعل، فإذا به لا يتدارك نفسه إلا وملك الموت عند رأسه، فيقول لها والناس من حولها يبكون: يا أيتها النفس الخبيثة؛ اخرجي إلى سخط من الله وغضب. كيف تخرج؟! الروح تتفرق في الجسد ولا تستطيع الخروج، لا تتحمل الخروج، كيف تخرج إلى سخط من الله وغضب؟! فيبدأ ملك الموت ينزع: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً} [النازعات:1 - 2] تنشط الروح وتتوزع في الجسد، وملك الموت ينزع كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، تعرف كيف ينزع الروح؟ ينزعها بقوة حتى تتقطع العروق والمفاصل، ألم ترَ رجلاً يحتضر؟ ألم تر بعضهم كيف يصرخ؟ ألم تسمع بهم كيف ينوحون؟ إن بعضهم يتغير لون وجهه، يزرقُّ وتزرقُّ عينه من شدة الألم والتعب، لا إله إلا الله! إن للموت لسكرات لا يشعر الإنسان عندها بمن حوله. ينزع تلك الروح؛ فإذا نزعت كانت كأنتن ريح وجدت على وجه هذه الأرض، رائحة والله لو شمها من حوله لما استطاع أن يقف بجانبه، كأنتن ريح جيفة على وجه الأرض، أين ذلك الوجه الجميل؟! أين تلك الرائحة العطرة؟! أين ذلك الشكل الحسن؟! كأنتن ريح جيفة على وجه الأرض، يحملها ملك الموت، أتعرف أخي الكريم أن هذا الرجل وهو على الفراش يرى ملائكةً مد البصر؟ يرى وجوه ملائكة العذاب مد بصره قبل أن تخرج الروح، عرف المصير، وعرف أين هو المستقر، يأخذ الملائكة الروح كل ملك يدفعها إلى مَن بعده؛ لا يريد أحدهم أن يوصلها إلى السماء، فلما تأتي إلى السماء الدنيا، تسألهم ملائكة السماء: روحُ مَن هذه الخبيثة فيقولون: روح فلان بن فلان بأقبح اسم له على وجه الأرض، ثم لا تفتح لهم أبواب السماء: {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} [الأعراف:40] نعوذ بالله. أخي الكريم! سل الله العافية، إذا لم تفتح لك أبواب السماء فإنه لا جنة بعدها {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} [الأعراف:40] أين يذهب بها؟ تقذف من السماء إلى الأرض، والأمر حقيقة لا جدال فيها {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق:13 - 14] لا تتحمل أن تسقط من أعلى بناية، فكيف لو تسقط من السماء الدنيا، تطرح روحه إلى الأرض طرحاً تقذف من السماء. عبد الله أتعرف أين تأتي هذه الروح؟ تأتي وقد حملت على الأكتاف وهي تصيح وتقول لمن يحملها على الأكتاف: يا ويلها! أين تذهبون بها؟! {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ * فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة:30 - 32] ماذا يتذكر في الدنيا؟! لياليه أين قضاها؟! أيامه هل كان يستيقظ على صلاة الفجر أم على ذكرها وحبها؟! هل كان يذكر بلسانه الله جل وعلا؟! أم كان في الأغاني وكان في الأفلام والمطربين والمطربات؟! ماذا كان يقرأ؟! هل كتاب الله أم المجلات الخليعة الماجنة؟! ماذا كان يسمع؟! هل ذكر الله والكلام العطر والطيب النزيه، أم كان يسمع ويتكلم في أعراض الناس وكان يتكلم بالفحش والبذاءة؟!

فتنة القبر والسؤال فيه

فتنة القبر والسؤال فيه عبد الله! هو على الأكتاف الآن محمول، فما أن توضع روحه في تلك الحفرة المظلمة الضيقة التي لا يستطيع أحدنا أن يتحمل منظرها إلا وعينه قد فتحت، وزال القطن من على عينيه، وأصبح يسمع الناس فوق القبر، قد دفنوه ولربما يرشون الماء الآن على قبره، ولربما الآن كل واحد منهم يعزي جاره وأخاه، يستمع إليهم والأقدام تمشي على القبر، يستمع إلى قرع نعالهم، فيُجلس في قبره، أتعرف من يجلسه؟ ملكان أسودان أزرقان، ينتهرانه، يدفعانه ويجلسانه في تلك الحفرة الضيقة، كيف؟ إن المؤمن الذي يؤمن بالغيب يؤمن بكل هذا، ولو حفرنا ما وجدنا هذا كله، ولكنه غيب في علم الله جل وعلا يحدث حقيقة، يُجلس فيقال له: مَن ربك؟ من شدة الخوف يقول: هاه هاه لا أدري، كان يعرفه في الدنيا لكن نسي. ما دينك؟ هاه هاه لا أدري. ماذا تقول في الرجل الذي بعث فيكم؟ هاه هاه لا أدري. ما كان يعرف شيئاً عن الإسلام، ما كان يلتزم بحدوده ولا يأتمر بأوامره، سنته عليه الصلاة والسلام كان يستهزئ بها، كيف يجيب؟! أم كيف يقول أنه هو محمد رسول الله وهو كان لا يدري عنه شيئاً؟! يقول: هاه هاه لا أدري. فيقول الملك له: هو محمد رسول الله فأجب بها فيقول: كنت أسمع الناس يقولون كلاماً فأقول مثلهم، كنت أسمع أهل المساجد، كنت أسمع أهل الدين، كنت أسمع الصالحين الذين يلتزمون على الأقل بالصلوات الخمس يقولون: هو محمد رسول الله، كنت أقول مثلهم، أما في قلبي فلا شيء، فإذا به يسمع صوت مناد ينادي: أن كذب عبدي، -نتيجة الاختبار الأول- أن كذب عبدي، فافرشوا له من النار، وافتحوا له باباً إلى النار، فيؤتى بمطرقة عبد الله! الأمر حقيقة، وما ندري لعلها لحظات ويبدأ هذا اليوم، وما ندري لعلنا لا نرى الشمس تغرب علينا. عبد الله! فيؤتى بمطرقة يضرب بها رأسه، لو ضرب بهذه المطرقة جبل لصار تراباً، ثم يعاد الجسد مرة أخرى، ثم يضرب بالمطرقة مرة أخرى فيصيح صيحة يسمعه كل من حول القبر إلا الجن والإنس، ولو سمعه الجن والإنس لصعقوا، حتى جاء في الحديث: (أن حماراً أو بغلة مرت على قبر فإذا بها تحيد وتفر من القبر فأخبرهم عليه الصلاة والسلام أنها تسمع أهل القبر يعذبون) ولو سمعها الجن والإنس لما دفنوا موتاهم. عبد الله! يصيح صيحة يسمعه كل من حول القبر، ثم بعدها يفتح له باب إلى الجنة فيقال له: انظر إلى قصرك انظر إلى الأنهار انظر إلى الحور العين انظر إلى هذه الأشجار والثمار انظر إلى هذا النعيم هذا لك لو أطعت الله لو قضيت هذه الخمسين سنة أو الستين سنة القليلة التي لا تساوي شيئاً في طاعة الله لكان هذا لك، فيُغلق الباب، ثم يُفتح له باب إلى نار تلظى {كَلَّا إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى} [المعارج:15 - 16] أتعرف ماذا يحدث للإنسان؟! الحر يفصل اللحم عن العظم عن الجلد فكيف بنارها؟! {نَزَّاعَةً لِلشَّوَى * تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى} [المعارج:16 - 17] تدعو من يذكر بالله فيُدبر، ومن يجمع المال فيتولى، تدعوه وتناديه وتقول: هل من مزيد؟ فإذا بريح النار وإذا بسموم النار وإذا بعذاب النار يأتيه وهو في القبر. ثم بعدها يرى رجلاً قبيح المنظر، منتن الريح، قبيح الثياب فيقول له: من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالشر فيقول: أنا عملك الخبيث، أنا ترك الصلاة، أنا فلانة التي كنت تتصل بها، أنا ذلك المنكر الذي تشربه، أنا تلك الليالي الحمراء، أنا تلك السفرات الفاضحة، أنا تلك الليالي الفاسدة، أنا هذه المعاصي التي كنت تفعلها، فوالله ما علمتك إلا بطيئاً لطاعة الله فلان عندنا درس بطيء! يا فلان! تعال صلِّ، يصلي لكن ببطء، فلان نقرأ القرآن، يأتي ولكن بثقل. سريعاً في معصية الله. سمع بسفرة، بسهرة، بأغنية، بطرب، بممثلة، بداعرة يأتي بسرعة ولا يتأخر، سريعاً في معصية الله. إذا به ينظر إليه فيقول: رب لا تقم الساعة، رب أكون في هذا المكان في الحفرة الضيقة المظلمة مع هذا الذي هو منتن الريح والوجه، أكون معه ولا تُقِم الساعة، أتعرف لمه؟ لأن الساعة أدهى وأمر.

حال صاحب الروح الخبيثة عند البعث

حال صاحب الروح الخبيثة عند البعث وبعد سنين طويلة يسمع بصيحة ما هذه الصيحة؟ كأنه قد سمع بها من قبل، وكأنه قد وُعِد بها، إذا به يرى القبر يُفتح فوقه، ويرى الناس يخرجون من تحته فيخرج ينفُض الغبار عن جسده، أتعرف إلى أين؟ يرى السماء تنفطر، والأرض تتزلزل، والجبال تدك والبحر يحترق، والوحوش تحشر، و {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس:52] فيرد عليهم الصالحون: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس:52] يخرج فإذا الناس يخرجون من تحته، من عهد آدم إلى آخر إنسان تخيل كم عددهم، بل ما شكلهم؟ كالجراد المنتشر، أما الجبال {تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ} [النمل:88] البحار من عظمها تُفجر وتحترق والأرض من تحته تزلزل، إلى أين يذهب؟ {كَلَّا لا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ * يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [القيامة:11 - 13] يقفون على أرض بيضاء عفراء -يعني: تميل إلى الحمرة- كقرطاس نقي، مستوية مستقيمة، ليس فيها علم لأحد، لا يوجد أحد مرتفع على الثاني، أتعرف ما أشكالهم؟ حفاة عراة، غرلاً غير مختونين، بل كما خلقهم الله، {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف:29] كلهم على أرض واحدة ينتظرون الحساب، وطالت المدة والشمس على الرءوس قدر ميل، ثلاثة أيام؟ أسبوع؟ مللنا الانتظار شهر؟ شهران؟ سنة؟ سنتان؟ {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4] خمسون ألف سنة والناس وقوف، يا مسكين! أراد الله منك خمسين أو ستين سنة، فأبيت إلا أن تقف تحت الشمس خمسين ألف سنة، عبد الله! الأمر ليس بالهزل والله ليمل الناس من أول سنة بل من أول يوم ولكنهم يقفون على الأقدام حفاة، والرءوس تصطلي بحر نار الشمس، ومع هذا يقفون خمسين ألف سنة لا مراء في هذا ولا شك، والعرق يتصبب، منهم من يبلغ إلى كعبيه، ومنهم إلى ركبتيه، ومنهم إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق، تعرف ما معنى يلجمه؟ يصل عرقه إلى فمه إلى موضع اللجام من الفرس، ولا مغيث ولا نصير. أما الصالحون فهل تظنهم تحت الشمس؟ لا والله، الصالحون تحت ظل عرش الرحمن يقفون، ولكن كما بين صلاة الظهر والعصر فقط، ويأتيهم من الهواء البارد الكريم، يكفيك أنهم تحت ظل عرش الرحمن جل وعلا؛ في كنفه يقفون، وهؤلاء الضُّلاَّل الفسقة الفجرة الذين ما سجدت وجوههم لله جل وعلا، وما استقاموا على أمره جل وعلا تحت حر الشمس خمسين ألف سنة؟ ثم ماذا؟ أيموتون؟ لو كان الموت لكان خيراً لهم، يأتي الرب جل وعلا لفصل القضاء بعد خمسين ألف سنة، فيسمعون صوتاً، ما هذا الصوت؟ إنه صوت السلاسل وصوت الأحزمة، وصوت الملائكة، بل إنه صوت جهنم تُجَر، لها سبعون ألف زمام، يجر كل زمام سبعون ألف ملك واضرب: (70.000 × 70.000) لتعرف عدد الملائكة التي تجر جهنم، يرونها من مكان بعيد بعيد جداً يرون جهنماً، إذا رأوها خر الناس كلهم، ومنهم الصالحون والأنبياء يجثون على الركب {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} [الجاثية:28] حتى الأنبياء يجثون على الركب يقولون: اللهم سلِّم سلِّم، اللهم سلِّم سلِّم، يقول الله للناس: انظروا أبصروا هل هذه النار التي كنتم تظنونها هزلاً؟ {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} [الطور:15] هل هذا سحر؟ هل هذا هزل؟ هل هذا ضحك كما كنتم تضحكون في الدنيا وتلعبون؟ انظروا! الناس كلهم يجثون على الركب. في فانتبه -عبد الله- وتذكر هذا الكلام {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ} [غافر:44] وسوف يأتي الأمر حقاً، وسوف تذكر هذا المجلس في تلك اللحظة حين يمر عليك شريط الحياة؛ تتذكر الدنيا كلها، تتذكر فلانة، وفلاناً، وتلك الليلة وذلك الفيلم، وذلك الشريط، وتتذكر يوم كنت تنام عن الصلاة، وتتذكر يوم كان يأتيك ذلك الرجل الصالح يذكرك وكنت تأبى، وينصحك وكنت تضحك، ويناديك وكنت تدبر، تتذكر هذه الأيام وتلك الليالي لحظة لحظة {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} [الفجر:23] ماذا تنفعه الذكرى؟ يبكي وينادي: {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر:24] يا ليتني قدمت لهذا اليوم! يا ليتني عملت لهذا اليوم! يا ليتني صليت على الأقل خمس صلوات في بيت الله، أنجو بها من النار! يا ليتني! ويا ليتني! ولكن {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} [مريم:39] هذا هو يوم الحسرة يُبكَى فيه، حتى الصالحون يبكون على ساعة ما قضوها في طاعة الله، حتى الأنبياء والرسل يتحسرون على لحظة ما قضوها في طاعة الله.

ساعة الفصل والحساب

ساعة الفصل والحساب ثم يبدأ الفصل والحساب: {وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [البقرة:202] يحاسب الناس جميعاً في لحظة واحدة من آدم إلى آخر البشر {وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:62] فينادي باسمك أين فلان بن فلان؟ وارتعدت الفرائص واضطربت الجوارح، وما عادت الرجل تحمل صاحبها، وإذا به يبكي! وإذا به يريد الفرار! وإذا به يريد النجاة! والملائكة تسوقه إلى الرب جل وعلا سوقاً، لا يستطيع أن يمشي على قدميه، فيوقف بين يدي الرب جل وعلا الذي لا تخفى عليه خافية {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق:9] تخرج وتُفضح ذلك يوم الخزي، فيقول له الرب جل وعلا؛ وتخيل أخي الكريم أنك أنت في هذا الموقف، يقول لك الرب: عبدي عبدي! ألَمْ أصَحِّ لك الجسد، ألم أسقك من الماء البارد، ألم أنعم عليك بكذا وبكذا وبكذا وبكذا يعدِّد لك النعم طوال الحياة، فتقر، ثم يقول لك الرب جل وعلا: عبدي عبدي! ما الذي جرأك علي؟ أتذكر هذا الذنب؟ أتذكر هذه الجريمة؟ عبدي تظن أني لا أرى؟ {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:14] ثم يقول له: يا رب ما فعلت؟ يكذب على ربه جل وعلا، مسكين مسكين لا زال في جرأته وعناده وكبره، يقول: يا رب ما فعلت شيئاً، يا رب هذا كله كذب يا رب ما فعلت، فتأتي الشهود، الملائكة تشهد، والصالحون يشهدون، إنه في اليوم الفلاني أعطيته هذا الشريط لكنه رماه، رب في اليوم الفلاني طرقت عليه الباب ونصحته لكنه ضحك عليّ، رب في اليوم الفلاني عملتُ له محاضرة وذكرته ونصحته ولكنه استمر على حاله، كل الناس يشهدون عليه، والملائكة تشهد، فيقول: رب لا أقبل شاهداً إلا من نفسي، يا رب أنت العدل كيف تأتي بشهود وأنا لا أقبل إلا شاهداً من نفسي! فيقول له الرب جل وعلا: لك ذلك، لا يشهد عليك أحد إلا نفسك، فإذا بالفم يُختم عليه وإذا باليد تنطق والجلود تتكلم والفخذ تنطق والخدان ينطقان وإذا به {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ} [يس:65] تتكلم: يا رب في اليوم الفلاني لامس فلانة بالحرام، وفتح ذلك الفيلم على الحرام، وكتب تلك الرسالة، وفتح هذه المجلة، وقبض هذه الرشوة، وضرب فلاناً، وبطش، وفعل. نعم. تتكلم اليد، والرِّجل: يا رب ذهب إلى المكان الفلاني والفلاني ينظر إلى الجلود تنطق: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ} [فصلت:21]. ثم بعد هذا يعلم أنه لا نجاة ولا محيص ولا فرار من الله جل وعلا فينادي الرب جل وعلا الملائكة {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} [الحاقة:30] أي: اربطوه بالسلاسل {ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:31 - 32] يؤتى بسلسلة أتعرف ما حجم هذه السلسلة؟ كل حديدة بقدر حديد الدنيا كله، سبعون ذراعاً، ليس من أذرع الناس، من أذرع الملائكة، يُدخل من منخره، فيخرُج من دبره ثم يلف بالسلاسل ويسحب على وجهه إلى جهنم {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [الطور:14] إذا به أول ما يأتيها تفتَّح أبوابُها أتعرف ماذا يرى فيها؟ يرى أصحابه في الدنيا قد سبقوه، يرى فلاناً الذي كان يدعوه إلى تلك الأماكن الفاسدة، يرى صاحبه الذي كان يصده عن الصلاة كلما أراد التوبة ويقول له: أتريد أن تتعقد؟ أتريد أن تتزمت؟ يا فلان عندنا فلانة، عندنا سهرة، عندنا فيلم، عندنا سَفْرة، عندنا كذا وكذا، يا فلان لا يضحكوا عليك، كلما أراد التوبة صده ورده فيراه قد سبقه إلى النار {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف:38].

بعض أوصاف النار

بعض أوصاف النار عبد الله! لا أريد في هذه الدقائق أن أبخس وصف النار، النار وصفها لا نتحمله، بل كان بعض السلف إذا سمع وصفاً واحداً من النار بكى وخر على الأرض صريعاً. عبد الله! يكفي أن تعلم أن النار قبل أن يدخلها أهل النار أعاذنا الله وإياكم منها الشرارة الواحدة التي تتطاير منها بحجم القصر، شرارة نار الدنيا لو تقع عليك فلن تؤثر فيك إحراقاً، أما شرارة نار جهنم فبحجم القصر الكبير: {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ * كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ} [المرسلات:32 - 33]. عبد الله! نار جهنم إذا علمت عن بعض أوصافها لا تنام الليل: [عجبتُ للنار كيف نام هاربها! وعجبت للجنة كيف نام طالبها!]. عبد الله! أهل النار يجوعون حتى أنهم من شدة الجوع الذي يعادل عذاب النار في جهنم، يأكلون الضريع؛ أتعرف ما هو الضريع؟ شوك ينبت في جهنم يأكله أهلها، فإذا أكلوا هذا الشوك وقف في حلوقهم، لا يبتلعونه ولا يخرجونه، فتغص الحلوق، يريدون أن يشربوا الماء فيستغيثون ربهم جل وعلا: يا رب الماء! يا رب الماء، يا رب الماء، {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ} [الكهف:29] انظر رحمة الله! يعطون الماء يقترب من الماء ليشرب من شدة العطش وتلك الغصة، فتسقط فروة الرأس من شدة حر الماء، {يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ} [الكهف:29] يشوي وجهه قبل أن يشربه، أتعرف إذا شربه ماذا يحصل له؟ تتقطع الأمعاء وتخرج من الدبر من شدة حره: {حَمِيمٍ آنٍ} [الرحمن:44] لا يطاق من شدة حره، بل لا يستطيع أحدهم أن يشربه؛ لكن يشربه من شدة الجوع والعطش. يرون الزواني في النار يخرج من فروجهن صديد وقيح ونتن -أجلكم الله- فإذا خرج من فروجهن تسابق أهل النار إليه ليأكلوه من شدة الجوع: {كَلا إنَّها لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى} [المعارج:15 - 16] تتشقق الجلود فيخرج منها الصديد {يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَان وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} [إبراهيم:17] نار من فوقهم ونار من تحتهم، يلتحفون النار ويفترشون النار، بل يأكلون في بطونهم النار: {أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ} [البقرة:174]. عبد الله! في ذلك العذاب والحميم ينادون فيقال لهم: يا أهل النار! يرفعون الرءوس ويفرحون، ويظنون أنهم سوف يخرجون منها، أتعرفون من هذا؟ فإذا بكبش أملح يقولون: نعم، إنه الموت نعرفه، مررنا عليه ورأيناه فيذبح بين الجنة والنار، فيقال لأهل النار: خلود فلا موت، ويقال لأهل الجنة: خلود فلا موت، عبد الله! أتعرف ما معنى خلود فلا موت؟ مليون سنة؟ مليونان؟ عشرة ملايين؟ مائة مليون سنة في هذه النار؟ خلود فلا موت: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56]. عبد الله! والله لو كان مصيرهم الموت لكان أعظم نعيم، لكن ينادُون: {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77] يجيبهم بعد آلاف السنين: {قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف:77 - 78] قرئ عليكم القرآن وذُكِّرتم ووُعِظتم {وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف:78]. عبد الله! أتعرف مصير مَن هذا الخلود في جهنم؟ مصير الكفرة الملاحدة، ومِن بينهم تاركو الصلاة (إن بين الرجل والكفر والشرك ترك الصلاة)، {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:42 - 43] أول جريمة أوردتهم سقر {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:43]. عبد الله! هذا مصير صنف من الناس، ولعله إن شاء الله سوف يكون بيننا وبينكم في يوم من الأيام القادمة بإذنه جل وعلا حديث عن مصير الصالحين، وأهل الذكر والطهر والعفاف، الذين هم في الدنيا من أهل السعادة وفي الآخرة من أهل النعيم، سوف يكون إن شاء الله بيننا وبينكم لقاء، حتى يتشوق الإنسان إلى مصيرهم وإلى حياتهم الكريمة السرمدية الأبدية.

دعوة إلى التوبة

دعوة إلى التوبة عبد الله! في الختام أدعوك لأمر واحد: أن تبكي هذه العين على تلك الذنوب والمعاصي، أن تفكر ماذا أسلفت وماذا قدمت {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18]. واعلم يا عبد الله أن الموت يأتي بغتة، وأن شروط التوبة ثلاثة:- أولا: ً الندم على ما مضى. ثانيها: العزم على ألا تعود إلى تلك الذنوب والمعاصي. ثالثها: أن تقطع الصور، وأن تحرق تلك الأفلام الخليعة، وتفارق تلك المجالس النتنة، وتبتعد عن أهل السوء، وأهل الفسق والفجور، وتلتحق بركب الصالحين. واعلم يا عبد الله أن الله جل وعلا يعينك: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] ومن تاب تاب الله عليه، لعلها دمعة يمسح الله بها جميع الذنوب والمعاصي، وتبدأ بينك وبين الله صفحة جديدة. أسال الله عز وجل أن يغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا ويثبت أقدامنا. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

سجن بولس

سجن بولس Q يسأل سائل ويقول: السلام عليكم ورحمه الله وبركاته، يا شيخ هناك في جهنم سجن -وقد أوردت اسم هذا السجن ولكن للأسف ليست الكلمة واضحةٌ- وقد رواه الإمام أحمد في كتاب الفتن والملاحم لـ ابن كثير؟ A هذا السجن يسمى سجن بولس، وهو حديث صحيح، رواه الإمام أحمد، وذكره الألباني في الصحيحة، وهو أحد السجون في جهنم، ولجهنم أوصاف لم تذكر، وأمور فوق الخيال وفوق التصور، ومهما وصفنا وتخيلنا فهو أعظم بكثير جداً، بل لا تستطيع أن تتخيل: نار أشد من نار الدنيا بسبعين مرة، بل لا تستطيع أن تتخيل هذه النار التي يجرها سبعون ألف ملك مع كل زمام، ولها سبعون ألف زمام.

مراتب الذكر وكيفياته

مراتب الذكر وكيفياته Q وصف الله تعالى المؤمنين بالذاكرين، فكيف يكون الذكر؟ A { وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب:35] فالذكر أيها الإخوة ثلاثة أصناف أو ثلاثة أنواع: ذكر باللسان: بعض الناس يذكر بلسانه لكنه لا يستشعر، مثل بعض الناس يذكر الله هو يمشي: إنا لله وإنا إليه راجعون، لا إله إلا الله، لكن لا يستشعرها بقلبه؛ هذه أقل درجات الذكر، يؤجر لكنها أقل درجات الذكر. الذكر الثاني: ذكر القلب: لا يذكر بلسانه؛ لكن يتذكر ربه دائماً، قلبه حينئذٍ يخاف من الله، يرجو الله، يستعين بالله، لكن لسانه لا يذكر ربه. الثالث وهو أعلى الدرجات: ما واطأ اللسان القلب: يذكر ربه بلسانه وبقلبه، إذا قال: استغفر الله، فهي من اللسان ومن القلب. والذكر يا عبد الله ليس باللسان فقط بل حتى بالجوارح؛ الصلاة ذكر، والصيام ذكر، والزكاة ذكر، والأمر بالمعروف وطلب العلم ذكر، كل هذا ذكر يا عبد الله، كل ما فعلت من طاعة فهو ذكر لله جل وعلا. أما الذكر فهناك أذكار مقيدة وأذكار مطلقة: من الأذكار المقيدة: أذكار مثلاً تكون عند مناسبات مثل: عند دخول البيت، والخروج من البيت، قبل أيام سمعت عن شاب، جاءني والده، يقول: دخل أجلكم الله الحمام يقول: سقط انزلق في الحمام ووقع، يقول: من ذلك اليوم من وقوعه يبكي ويفزع، أخذ يبكي ويصيح من ذلك اليوم الذي دخل أجلكم الله فيه الحمام وسقط؛ فلعله يكون التفسير فيه شيء من الوضوح، سألت هذا الشاب قلت: لما دخلت أجلك الله إلى الحمام ذكرت الله أم لا؟ يقول: نسيت، رجل صالح لكن نسي، تلك اللحظة نسي أن يذكر الله: (باسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث). الحشوس -الحمامات- ممتلئة بالشياطين وبعض الشياطين خبيث يترصد لبعض الناس الذين يريد أن يصدهم عن الذكر وعن الصلاة وعن الطاعة، فإذا غفل مرة عن ذكر الله أصابه، وهذا يحدث كما قال الله جل وعلا: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة:275] يعني: بعض الناس يتخبطه الشيطان من المس وهذا لعله يراه بعض الناس، الحصن من ذلك ذكر الله، إذا دخلت البيت وقلت: باسم الله، انحبس خارج البيت ولا يدخل، فإذا قلت عند العشاء: باسم الله منع من العشاء والطعام، وهذا الأمر حقيقة، بل بعض الناس كما قال الله جل وعلا: {وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ} [الإسراء:64] يجامع زوجته معه نعوذ بالله! ألا تغار على زوجتك؟ بعض الناس الشيطان يجامع زوجته معه وهذا في القرآن موجود، إذاً ما الحصن؟ تذكر الله جل وعلا، تقول: باسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، هذا عند الجماع. إذاً ذكر الله عند مناسبات يحصنك من الشيطان. وهناك ذكر مطلق: في جميع الأحيان (سبحان الله، الحمد لله، لا إله إلا الله، الله أكبر، لا حول ولا قوة إلا بالله) (كلمتان خفيفتان على اللسان) يا أخي تنتظر الدوام وأنت في السيارة ذاهب إلى العمل وأنت راجع إلى البيت تنتظر دورك عند مستوصف عند جمعية في أي مكان تنتظر حرك لسانك بالذكر (خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن؛ سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) إذا قلتها مرة غرست لك نخلة في الجنة، وما من شجرة في الجنة إلا ساقها ذهب، أتريد كنزاً من كنوز الجنة؟ لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة. (من قال: سبحان الله وبحمده مائة مرة حطت عنه خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر). فضل عظيم وأجر كبير لكن من منا يحسن هذا الأجر؟! (من كان خالياً بالله وذكره) أي: من يذكر الله؛ سواء بشريط قرآن، أو درس، أو محاضرة، أو هو يذكر الله في السيارة قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إلا كان رَدِفُه ملَك، ومن اختلى بالشيطان وذكره) وذلك مثل الغناء، والموسيقى، والفجور، والمعازف في السيارة- قال: (إلا كان رَدِفُه شيطان) أعاذنا الله وإياكم منه، هذا لو أصيب بحادث هل يذكره الشيطان بـ (لا إله إلا الله)؟ وصاحب الذكر إذا أصيب بحادث ذكره الملك بالشهادتين، أما ذاك فيذكره بالفساد والمنكر. إذاً يا إخوة على الواحد منا أن يكون لسانه رطباً بذكر الله حتى إذا جاءته منيته يكون أول ما يتذكر (لا إله إلا الله) (ومن كان آخر كلامه لا إله إلا الله، دخل الجنة).

عذاب آل فرعون في البرزخ

عذاب آل فرعون في البرزخ السائل: يقول السائل: ما معنى قوله تعالى في سورة غافر: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46]؟ A هذه الآية استدل بها أهل السنة والجماعة على ثبوت عذاب القبر، قبل اليوم الآخر، وذكرنا القبر في هذا الدرس من باب أنه بدايات لليوم الآخر، وهو أول منازل اليوم الآخر، والله عز وجل ذكر عن آل فرعون، أنه جاء رجل مؤمن من آل فرعون يدعوهم إلى الله، هذا الرجل علم أن فرعون وحاشيته ووزراءه سوف يقتلون موسى، وموسى رجل ضعيف ليس له جيش ولا عنده شيء، جاء يدعو فرعون إلى الله، ذكره بالله، فأبى فرعون، وتجبر وطغى، وجمع الحاشية واستشارهم قالوا: اقتله، وهذا الرجل من الحاشية؛ لكن فيه خير، آمن وكتم إيمانه، ولكن لما سمع أنهم سوف يقتلون موسى ما رضي، إنكار المنكر يصل إلى حد معين، فذهب بسرعة إلى موسى يخبره وينذره، وجاء إلى فرعون ومن معه، جاء يخبرهم ويذكرهم ويدعوهم إلى الله قال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهٌ} [غافر:28] أي أنه ما ضركم بشيء، إنما يدعو إلى الله، قال: {وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ} [غافر:28] يعني: إذا كان كاذباً فما ضر إلا نفسه {وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُم} [غافر:28] يصبكم بهذا العذاب الذي يتوعدكم به، اتركوه، {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْض} [غافر:29] اليوم لكم القصور والنعيم، وهذه القوة والعسكر والجيش؛ لكن من ينصركم من بأس الله إن جاءكم؟ {مَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} [غافر:29] دعاهم إلى الله فأبوا، ذكرهم بالله فقتلوه أو طردوه، فنجاه الله جل وعلا، أتعرف ما الذي حصل لآل فرعون؟ أغرقهم الله عز وجل في اليم، كان فرعون يوماً من الأيام يقول: هذه الأنهار تجري من تحتي، فأجرى الله الأنهار من فوقه! تجري من تحتك يا فرعون؟ اليوم تجني هذه الثمرة وتجري الأنهار من فوقك، أغرقه الله في اليم، نبذه في اليم وهو مليم. فرعون كان يوماً من الأيام يقول لشعبه: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:29] {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} [الزخرف:54]. جاء إلى موسى؛ أتعرف ماذا قال في موسى؟ قال: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ} [غافر:26] يا ناس، يا شعب، أخاف أن يضيع دينكم {أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26] أخاف أن يفسد في الأرض، يثير الفتن في الأرض، سبحان الله! يقول ابن كثير: سبحان الله! صار فرعون خطيباً، صار فرعون يخاف على دين الناس، ويخاف على الصلاح، ويخاف الفساد في الأرض قال: {أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26]. قال الله عن فرعون وحاشيته: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً} [غافر:46] يعني: في بداية النهار ونهايته في قبورهم إلى إن تقوم الساعة، يحترقون بالنار إلى أن تقوم الساعة، {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] فرعون والحاشية والجنود والعسكر والزمرة الطاغية كلها، التي كفرت بالله وعاندت شرع الله، وحاربت الأنبياء والرسل كلها معه في نار جهنم {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] هذا هو تفسير الآية والله أعلم.

الأدلة على وجود عذاب القبر

الأدلة على وجود عذاب القبر Q يسأل سؤالاً ويقول: رجل يقول: أريد دليلاً على عذاب القبر من الكتاب وإذا قيل له: ذكر في السنة المطهرة لا يقبل إلا بالدليل من الكتاب فكيف يرد عليه؟ A هذه الآية التي ذكرناها قبل قليل. وقوله جل وعلا {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ} [المؤمنون:100] البرزخ هو: عذاب القبر أو نعيمه، الحاجز الذي بين الحياة الدنيا واليوم الآخر؛ قال الله جل وعلا: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100] أي: قبل البعث هناك برزخ؛ ما هو البرزخ؟ هي حياة بين الدنيا وبين الآخرة، فمن أهل الإيمان من يعذب في قبره؛ حتى يتصفى من الذنوب؛ لأنه ما تاب منها، فهو مصلٍّ وراكع وساجد لكن عنده ذنوب ومعاصٍ يتعذب في قبره حتى يصفيه الله عز وجل وينقيه قبل اليوم الآخر. إذاً هو موجود في هاتين الآيتين في كتاب الله. وهناك آيات أخرى كما قال الله جل وعلا: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الأنفال:50] هذا أيضاً من أدلة عذاب القبر. وهناك من السنة الأدلة الكثيرة المتواترة الصحيحة، كلها عن النبي صلى الله عليه وسلم في إثبات عذاب القبر. وهذا لعله يكون فيه من الأدلة واليقين ما تطمئن به قلوب المؤمنين وتتيقن بصحته والله أعلم.

حقيقة المغفرة وضرورة التوبة والندم

حقيقة المغفرة وضرورة التوبة والندم Q يقول السائل: كيف يتوب الإنسان من المعاصي؟ وإذا كان لا يصلي أو يتهاون بالصلاة، وإذا سئل عن ذلك قال: إن الله غفور رحيم؟ A لا حول ولا قوة إلا بالله! إن الله غفور رحيم، لعباده الصالحين. أخي الكريم! لعلك تقول: الصالحون لا يحتاجون مغفرة، فأقول: أفضل الخلق غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فهو يحتاج إلى المغفرة عليه الصلاة والسلام، الله عز وجل غفور رحيم لأهل صلاة الفجر، لأهل الذكر، لأهل الدعوة إلى الله، لأهل الصلاح، هؤلاء يحتاجون مغفرة الله، أما للفجار الفساق فهو شديد العقاب، وهو عزيز ذو انتقام، ولا تخفى عليه خافية، فهو يستدرج عباده، فاعقل وتدبر قال الله عز وجل: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:182 - 183]. عبد الله! إن الصالحين قال الله عنهم: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون:60] قالت عائشة: (يا رسول الله! ألزناة، شاربو الخمور، السراق، هم الذين يخافون، قلوبهم وجلة؟ قال: لا يا ابنة الصديق هم المصلون، هم الصائمون، هم الصالحون الذين يعملون ويخافون أن لا يُتَقَبل منهم) أرأيت الصالح! يخاف أن الله لا يقبل عمله، والعجيب من الفاجر الذي يأمن مكر الله، قال عبد الله بن مسعود: [المؤمن يرى ذنبه كأصل جبل يوشك أن يقع على رأسه، والفاجر يرى ذنبه كذباب وقع على أنفه فقال به هكذا] ربما يشرب خمراً، ربما يترك صلاة، ربما يفعل معاصي كبيرة، وكأنها ذبابة وقعت على أنفه فقال بها هكذا، وكأنه لا يبالي، وهذه علامة المنافق وتلك علامة المؤمن. عبد الله! هذه نتكلم فيها عن الفسقة، أما عن الذين لا يصلون فحدث ولا حرج، حديثهم حديث الكفار نسأل الله العافية، كيف تكون التوبة؟ بالندم والعزم والإقلاع عن هذه الذنوب والمعاصي.

الرد على شبهة من يقول: إذا هداني الله فسأصلي

الرد على شبهة من يقول: إذا هداني الله فسأصلي Q يقول السائل: ما رأيك فيمن نقول له: صلِّ أو تُب إلى الله، ويقول: إذا الله هداني صليت؟ A كما قال المشركون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام:148] إذا أراد الله أن يهدينا فليهدنا، أراد الله أن نسجد للصنم فنسجد للصنم، وهذه عقيدة تسمى عقيدة الجبرية، وهي عقيدة ضالة ليست من عقائد أهل السنة. أهل السنة كما قال الله جل وعلا فيهم: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً} [محمد:17] ابدأ يا عبد الله، لا تقل: إذا أراد الله أن يهديني اهتديت، أسألك بالله الآن سؤالاً: أنت لِمَ تأتي إلى هذا المكان وتلبس هذا الزي وتحضر الدوام لِمَه؟ لأجل المعاش والراتب، لِمَ لا تجلس في البيت وتقول: إذا أراد الله أن يرزقني يرزقني؟ ما تفعلها، تأتي وتتعب وتقوم من نومك مبكراً وتحضر الدوام، لأن هذا العاقل يسعى حتى يحصل على الرزق، هل إذا جعت أخي الكريم تجلس تنتظر وتقول: إذا أراد الله أن يشبعني أتاني بالطعام؟ لا تفعلها، بل تذهب إلى المطبخ، وإلى الثلاجة، وإلى المطعم، وتطلب الطعام وتأكل حتى تشبع، لِمَ تبذل السبب؟ لأجل الدنيا؛ لكن لما نقول لك: تعال صلِّ؛ تقول: إذا أراد الله أن أصلي صليت، سبحان الله! هنا تسعى لأجل الدنيا ولكن لأجل الآخرة ما تبذل ولا تسعى؟! قال الله جل وعلا: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5] أنت الذي جنيت على نفسك ولا تقل: لو أراد الله أن يهديني اهتديت، هذه كلمة كاذبة من ناصية خاطئة. عبد الله! إذا سعيتَ إلى الهداية وفقك الله، وإذا بذلت أعانك الله، وإذا سعيت فتح الله لك أبواب الخير، أما أن تجلس في البيت وتقول: لو أراد الله أن يهديني اهتديت، هذا كله ضحك، وما تخدع إلا نفسك يا عبد الله.

ثلاثة مواقف إيمانية

ثلاثة مواقف إيمانية الاستسلام لأمر الله لا يكون بمجرد الكلام، بل لابد من الفعل والتضحية، وهنا ثلاثة مواقف تدل على كمال الاستسلام لأمر الله أياً كان هذا الأمر. الموقف الأول: موقف إبراهيم عليه السلام عندما أمر بذبح فلذة كبده إسماعيل، فقام منفذاً لأمر الله، ولما علم الله صدقه فدى ابنه بكبش عظيم. الموقف الثاني: موقف موسى عليه السلام عندما أمره الله بالذهاب إلى أكبر طاغية على وجه الأرض في تلك الأيام، فلبى أمر الله وذهب، فأنقذه الله وأهلك فرعون. الموقف الثالث: غلام مازال في ريعان الشباب، يموت لتحيا أمة، ويضحي بجسده لينقذ أجساداً كثيرة من النار؛ استسلم لأمر الله وهو التضحية في سبيل الله.

موقف إبراهيم عليه السلام إمام الموحدين

موقف إبراهيم عليه السلام إمام الموحدين الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: أيها الإخوة الكرام: العنوان كما سمعتم: (مواقف إيمانية)، وسوف أقتصر في هذا المجلس على ثلاثة مواقف إيمانية، وقد ذكرها الله عزَّ وجلَّ كلها في القرآن، ولعلك قد قرأتها من قبل أو استمعت إليها، ولكن أرجو منك أن تعيش معي هذه المواقف الثلاثة، فإنها مواقف عظيمة رهيبة، إذا وقرت في القلب أثمرت الإيمان واليقين بالله تعالى، وإن تدبرت هذه الآيات التي تتلى، وتلك المواقف التي تذكر، سوف تصبر على كل طاعة، وتترك كل معصية بإذنه جل وعلا؛ ذلك لأنه كلام الله الذي إذا ذكر على المؤمنين وجلت القلوب، وذرفت العيون، وازداد الإيمان كيف لا وهو القرآن الذي لو أنزل على جبل لصار هذا الجبل من تأثره بالقرآن خاشعاً متصدعاً من خشية الله. ولكن بعض القلوب لا تتأثر بكلام الله جل وعلا، ولهذا يقول الله تبارك وتعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] ما بال هذه القلوب أقفلت وكأن عليها أقفال لا تتأثر ولا تتدبر ولا تتعظ، ولا يوجل القلب، ولا ترجف الأعضاء، ولا يقشعر الجلد، ولا تدمع العين؟! وكأنه يسمع كلام بشر لا كلام رب البشر جل وعلا، يقول الله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد:16]، قال ابن مسعود: [أربع سنوات أسلمنا فعاتبنا الله]. إلى متى؟ ألم يحن الوقت الذي تخشع القلوب فيه لذكر الله؟! إلى متى الواحد منا عُمِّر في الإسلام بل وَشَابَ فيه؟! وبعضنا -للأسف إلا من رحم الله- لا يخشع من كلام الله جل وعلا. الموقف الأول: موقف أبينا إبراهيم عليه السلام، أبو الأنبياء، وإمام الموحدين عليه الصلاة والسلام، وخليل الرحمن إبراهيم عليه السلام الذي امتلأ قلبه بالإيمان منذ الصغر، فكان رجلاً شجاعاً في ذات الله، كسر الأصنام وفتتها حتى جعلها جذاذاً فتاتاً. ولما كبر وهجر قومه ولم يبق له بعد الله عزَّ وجلَّ إلا زوجته، أراد أن تكون له ذرية، فما قضى الله له بالذرية، حتى كبر في السن وشاب شعر رأسه، فإذا به يدعو الله تبارك وتعالى فيقول: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات:99] ترك قومه وترك أباه، {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات:100]. يا رب! هب لي ذرية، قد كبر في السن وطعن حتى أوشك على الوفاة، ولم يعطه الله الذرية، وكم من الرجال اليوم الذين كبرت بهم الأعمار وهو عقيم يتمنى لو أنفق كل أمواله، بل يتمنى لو أنه قطع من جسمه عضواً ويعطيه الله عز وجل الولد، فإن أحلى كلمة عنده في الوجود أن ينادى: يا أبتِ أو يا أبتاه.

إبراهيم عليه السلام يرزق ولدا

إبراهيم عليه السلام يرزق ولداً يرفع إبراهيم عليه السلام يديه إلى الله ويقول: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات:100] وإذا به يبشَّر {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} [الصافات:101] فأنعم الله جلَّ وعلا عليه بالولد، من هو هذا الولد؟ إنه إسماعيل نبي ابن نبي إسماعيل عليه السلام، ويا لله كم فرح واستبشر إبراهيم بهذا الولد! وهل تظن أن إبراهيم عليه السلام يحب في الدنيا شيئاً أكثر منه؟ لا أظن هذا لقد جاءه بعد كبر، وجاءه بعد شيخوخه، فرباه على عينيه، وتعب عليه، حتى بلغ معه السعي، وبدأ إسماعيل يعمل مع أبيه إنها أحلى لحظات الحياة، أن ترى ابنك الذي ربيته على يديك، وخرج من ظهرك وتعبت عليه، تراه وأنت قد كبرت في السن يتعب ويسهر على راحتك، ويساعدك في العمل، ويقوم بأعباء الوظيفة، وأعباء البيت والمنزل، وأنت جالس مرتاح، والابن بار يقوم على راحتك.

أمر الله لإبراهيم بذبح ابنه إسماعيل

أمر الله لإبراهيم بذبح ابنه إسماعيل نام إبراهيم عليه السلام ليلة من الليالي فإذا به يرى في المنام أمراً مفزعاً ما الأمر الذي رآه إبراهيم؟! وتخيل ذلك الموقف! يرى إبراهيم في المنام أنه يحمل سكيناً، ويأتي إلى ابنه إسماعيل فيذبحه بهذا السكين إنا لله وإنا إليه راجعون! ورؤيا الأنبياء وحي من الرحمن جلَّ وعلا فإذا بإبراهيم يقوم فزعاً، ولكنه كان مستسلماً لأمر الله جلَّ وعلا، فإنه وحي من الله: يا إبراهيم! اذبح ابنك الذي ظالما انتظرته، ولطالما اشتقت إليه وتعلق قلبك به! لم يقل الله: أرسله للجهاد ليموت، ولم يخبره الله أنه سوف يموت بمرض أو بقتل قاتل، لا. بل قال: يا إبراهيم! احمل سكيناً واذبح ابنك بيديك! ماذا تظنه سيفعل؟ هل سيسلِّم أمره لله جل وعلا؟ إنه أمر من الله عز وجل. قال سبحانه: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ} [الصافات:102] انظر إلى الأسلوب! الأب يكلم ابنه ويقول: يا بني! وقد كان صغيراً في السن {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ} [الصافات:102] ورؤيا الأنبياء حق ووحي من الرحمن جل وعلا. ماذا ترى يا أبي؟ {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:102] يا أبي! ماذا تقول؟ فيقول: أمرني الله في المنام أن أضجعك على الأرض وأحمل سكيناً فأنحرك بيدي. الأمر صعب -يا أخي- وقد تقول: إنه لابد من الاستسلام لله جل وعلا، ولكن لو وقع عليك الأمر فهل تستسلم؟ قال سبحانه: {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:102] فكر وابحث في الأمر شاور نفسك اجلس بينك وبين نفسك لكن إسماعيل عليه السلام كان باراً بأبيه، ومسلماً لله جل وعلا، فقد سلَّم أمره لله تبارك وتعالى، وانظر إلى الأدب وإلى الاستسلام لله جل وعلا! {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات:102] انظر إلى الأسلوب! قال: يا أبت! يذكره بالأبوة، أنت أبي وأنا ابنك، ومهما فعلت فأنت أبي، ثم يقول له: افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ، إنني ابنك وأنت أبي، لكنها طاعة الرب جلَّ وعلا، والاستسلام له سبحانه وتعالى. {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ} [الصافات:102] يأمر الله تعالى بذبحه وعلى يد أبيه، وهو يقول: إن شاء الله انظر إلى الأدب مع الله عز وجل، وانظر إلى الاستسلام الكامل لله تبارك وتعالى، يقول: سوف أصبر، لكن ليس بحولي ولا بقوتي ولا بشجاعتي، فالقضية ليست شجاعة، ولا قوة، وليست جرأة؛ إن القضية إيمان بالله جلَّ وعلا، وتوكل على الرحمن تبارك وتعالى {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102] وبعض الناس -للأسف- لا يصبر على أموال يتركها، أو على وظيفة يدعها لله جل وعلا، ولا يتحمل ألماً لأولاده أو بكاءً لصبيانه عندما يخرج التلفاز من البيت، أو يمنع ذلك الدش أو البث المباشر عنهم، يقول: لا أصبر على بكائهم وحنينهم، ولا أصبر على طلباتهم؛ فيأتي بالتلفاز بيده إلى البيت، أو يأتي بذلك الستلايت (البث المباشر) ليضعه في البيت فيدمر أخلاق أهله وأولاده يقول: لا أصبر، وهذا إسماعيل الصغير يقول: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102]. وهل كان هذا ادعاء؟ وهل كانت فقط كلمات وألفاظ يتلفظ بها إسماعيل وأبوه؟ لا. قال الله تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا} [الصافات:103] لا تقل: إنني مسلِّم، ثم لا تستسلم لله جل وعلا، فلما أسلما، أي: سلَّما أمرهما لله جل وعلا جاء إبراهيم بابنه إسماعيل وكان شاباً صغيراً يعمل مع والده، فحمله ووضعه على جنبه على الأرض وأكبه على وجهه، وجاء بالسكين لينفذ أمر الله جل وعلا، وهو مستسلم لله تبارك وتعالى انظروا الإسلام! انظروا الصبر على طاعة الله! وجعل وجهه في مقابله حتى لا يراه؛ لأنه لا يتحمل هذا المنظر، ولكن حباً لله جل وعلا، ورضىً بأوامر الله تبارك وتعالى فجاء بالسكين ووضعها على نحر إسماعيل عليه السلام: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات:103] تله أي: وضعه وأكبه على وجهه، ووضع السكين على رقبته وكاد أن ينحره.

فداء إسماعيل بالكبش

فداء إسماعيل بالكبش قال الله تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ} [الصافات:104] التفت إبراهيم فإذا به يسمع المنادي يناديه: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات:105 - 107].

العظة والعبرة من قصة إبراهيم مع انبه

العظة والعبرة من قصة إبراهيم مع انبه هل ستصبر يا عبد الله؟! وهل ستصبري يا أمة الله؟! وهل سنصبر -أيها الإخوة- على ذبح أولادنا؟ مع أن الله لم يأمرنا بهذا، فإن بعض الناس أمره الله أن يخرج من كل ألف خمسة وعشرين ديناراً، فلا يمتثل، ويقول: أموالي جمعتها بيدي فكيف أخرجها لمن لم يتعب عليها؟ ويأمره الله جلَّ وعلا أن يخرج من هذه الوظيفة؛ لأنها حرام، وموردها وأموالها حرام، فلا يصبر على هذا ولا يتحمل، ويقول: كيف أعيش؟ كيف أنفق على أولادي؟ كيف أرزق نفسي وأهل بيتي؟ انظر إلى الإسلام عند إبراهيم وانظر إلى الإسلام عندنا! قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] وقد أخبر عليه الصلاة والسلام أن هذا القرض من الربا آخذه مرابٍ، ومعطيه مرابٍ، وكاتبه مرابٍ، والشاهد عليه كلهم سواء في لعنة الله جلَّ وعلا، فهل أنت مستسلم لأمر الله تبارك وتعالى؟! أم أنك تقول: أنا محتاج للقرض، أريد أن أثث بيتي، وأريد أتزوج، وأريد أشتري سيارة، فتأخذ القرض من الربا فهل أنت مستسلم لله جلَّ وعلا، أم أن هذه القصة وهذا الموقف يمر علينا وكأننا لا شأن لنا به؟! يخبرنا الله جلَّ وعلا بهذه القصص في القرآن لنعتبر ولنتأثر بذلك النبي الذي وصل به الحال إلى أن يذبح ابنه لله جل وعلا! فهل نحن فاعلون ومستجيبون لله تبارك وتعالى؟!

موقف موسى عليه السلام والسحرة مع فرعون

موقف موسى عليه السلام والسحرة مع فرعون وهذا موقف آخر، وهو موقف عظيم، وسوف أخبرك به بالتفصيل؛ لتعيشه وتعيش تلك الأجواء، فإنه مشهد عظيم، أخبر الله عز وجل به أكثر من مرة في القرآن، بصور عديدة، وألفاظ متعددة؛ وذلك لنستشعر تلك المواقف ولنعيشها. إنه موقف وقع لموسى عليه السلام، ولأولئك السحرة، واسمع إلى ذلك الموقف واعتبر وتدبر؛ لأن أولئك السحرة شأنهم عظيم، وأمرهم عجيب! حتى قال ابن عباس رضي الله عنهما: [أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء بررة] فاسمع إلى موقفهم ومشهدهم:

موسى في قصر فرعون

موسى في قصر فرعون جاء موسى عليه السلام بعصا ومعه أخوه هارون إلى ذلك القصر العظيم؛ قصر فرعون، الذي كان يقول للناس: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24] ليس أي رب! بل الأعلى، واستأذن موسى من البوابين، وقال: أريد أن أدخل على فرعون. قالوا: أنت تدخل على فرعون!! أنت صاحب العصا، والملابس الرثة وتدخل على فرعون! قال: استأذنوه، فأذن له فرعون متعجباً من أمره، فدخل موسى الذي ربي في قصر فرعون، فقال له: ما الذي جاء بك يا موسى؟ قال: جئت أدعوك إلى الله جل وعلا وإلى أن تزكى! فإذا بفرعون يتجبر ويطغى ويرعد ويزبد، فقال له موسى: إن جئتك بآية أتؤمن بها؟ قال: ائت بها، فإذا بموسى عليه السلام يخرج يده فإذا هي بيضاء، ويلقي عصاه فإذا هي ثعبان فخاف فرعون، وقال للملأ يستشيرهم: ماذا أفعل؟ قالوا: أَرْجِهْ وَأَخَاهُ. أي: أخره وأخاه، لا تقتله، افضحه عند الناس، اكشف لعبته وسحره أمام الملأ. قال بعضهم: أخره أربعين يوماً. فقال: يا موسى! نؤخرك إلى يوم بيننا وبينك {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} [طه:59]-وهو يوم العيد- أريد أن يكون الموعد في يوم العيد؛ اليوم الذي يجتمع فيه الناس كلهم {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحىً} [طه:59] ليس في الليل ولا في الفجر، بل في الضحى وكل الناس فيه منتبهون، ليس هناك رجل نائم ولا غائب، بل كلهم مجتمعون -انظر الواثق بدينه وبربه والمستيقن به- قال فرعون: لك ذلك.

حشد فرعون للسحرة

حشد فرعون للسحرة ذهب موسى مع هارون، وذهب فرعون يحشر السحرة من قومه، وكان قوم فرعون مشتهرين بالسحر، فأتى فرعون بكل ساحر عليم، وهم أعظم السحرة قال ابن عباس: بلغوا سبعين ساحراً. وقال بعض المفسرين: بلغوا اثني عشر ألف ساحر. وقال بعضهم: بلغوا ثلاثين ألفاً، وقال بعضهم: بلغوا تسعين ألف ساحر، اجتمعوا عند فرعون يوم الزينة، وكان في الصف المقابل لهم موسى الضعيف الذي لا يملك إلا عصا، ولا يكاد يبين بقوله؛ ولذلك طلب أخاه هارون، وقال: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً} [القصص:34] إن الموقف رهيب، والحشد عظيم؛ والجمهور كبير! كل القوم قد تجمعوا وتجمهروا لذلك الموعد، وجاء فرعون واجتمع مع حاشيته ينظرون إلى هذه المباراة، وذلك المشهد العظيم. وعندما أتى السحرة قالوا لفرعون: {أَإِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} [الشعراء:41] أي: يا فرعون! إذا غلبنا موسى وهارون هل لنا جزاء من أموال ومناصب؟ {قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الأعراف:114] الأمر عجيب! فرعون يجابه موسى ما الذي منع فرعون عن قتل موسى؟ لِمَ لمْ يقتله كحال غيره من البشر؟ لِمَ لمْ يقتله كما قتل الماشطة؟ إنها الهيبة من موسى قذفها الله عزَّ وجلَّ في قلب فرعون، فإذا به يصاب بالرعب، وإذا به يجمع السحرة كلهم -بل أعظمهم- ويعدهم بالأموال والمناصب، ويقول لهم: {وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الأعراف:114]. إنهم الطواغيت؛ طواغيت البشر، الذين يدعون الربوبية، فقد كان فرعون يقول: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24] هذه هي ربوبية فرعون، وربوبية غيره الذين يقولون: لا حكم إلا لنا، فهي ربوبية واحدة، هذه ربوبية وهذه ادعاء الربوبية، فعندما قال فرعون: أيها الناس: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي، ويأتي غيره ويقول: أيها الناس: لا حكم لكم غير حكمي؛ فهما سواء، قال الله جل وعلا: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف:40] فتوحيد الحكم من توحيد العبادة، بل هو أصل من أصول توحيد العبادة، ولهذا كان فرعون يستعبد الناس، فالحلال ما أحله فرعون، والحرام ما حرمه فرعون، قال عدي بن حاتم لمَّا سمع قول الله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31] قال: (يا رسول الله! والله ما عبدناهم -ما جعلناهم أرباباً- قال: ألم يحلوا لكم الحرام فتحلونه، ويحرموا عليكم الحلال فتحرمونه؟ قال: نعم. -وهذا شيء منتشر عندنا- قال: فتلك عبادتهم) فلا يشترط السجود، ولا يشترط الذبح، ولا يشترط الطواف بقصره وبكرسيه، وذلك الملك لا يريد هذا، إنما يريد أن يكون الحلال ما أحله، والحرام ما حرمه، وكل حكم فوق حكمه لا قيمة له، كما قال ذلك الطاغية الفاجر: ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار

المواجهة بين موسى وفرعون

المواجهة بين موسى وفرعون اسمع -يا عبد الله- إلى موسى كيف قذف الله عز وجل الرعب والهيبة في قلب فرعون! فِإذا بموسى الضعيف يقف في صف مع هارون، وألوف السحرة -إن صحت الرواية- في الصف الآخر، فإذا بموسى يكلمهم وينصحهم إعذاراً إلى الله جل وعلا: {قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} [طه:61] يستأصلكم ويقتلكم ويعذبكم، ويلكم! أتفترون على الله؟! قد خاب من افترى فإذا بصف السحرة يموج، وإذا بالضوضاء تنتشر، وإذا كثير من السحرة يتزعزع صفه وموقفه، خافوا من كلمتين ألقاهما موسى، وعلم بعض السحرة أن هذه الكلمات ليست بكلمات بشر، وأن فيها هيبة رب البشر؛ فإذا بالسحرة يتنازعون فيما بينهم، قال الله: {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} [طه:62] بدأ الهمس بين السحرة وموسى ينظر، وحشود الناس ينتظرون، وفرعون ينظر مع حاشيته إلى ذلك الموقف، ما الذي حصل؟ همس بين السحرة، فكانوا يقولون: {قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى * فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى} [طه:63 - 64] فإذا بالصف يرجع مرة أخرى، ويقفون كلهم صفاً واحداً جبارون متكبرون طغاة أمام موسى وهارون وليس معهم إلا عصا. {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى} [طه:65] انظر إلى التحدي! فهم لجرأتهم ووثوقهم بأنفسهم يقولون: يا موسى! أتريد أن نلقي نحن أولاً أم أنت الذي تلقي عصاك؟ اختر ما تشاء يا موسى -يثقون بأنفسهم وثوقاً عجيباً- وإذا بموسى عليه السلام يرد عليهم بكلمة كالمستهزئ بهم: {قَالَ بَلْ أَلْقُوا} [طه:66] ابدءوا بالإلقاء والناس ينظرون، فإذا بألوف السحرة كل واحد يرمي عصاه والوادي أمامهم، فإذا بالوادي يموج بالثعابين والحيات {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى * قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:65 - 66] انظر إلى المنظر العجيب! الناس خافوا، وبعض الجمهور تراجع من شدة الخوف، فإن الوادي كله قد امتلأ بالأفاعي وامتلأ بالحيات، هذا المشهد الذي يخبر الله عزَّ وجلَّ عنه بقوله: {قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ} [الأعراف:116] قذف الرعب والرهبة في قلوب الناس، بل حتى موسى عليه السلام، قال الله: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} [طه:67] ولم يخف من الحيات والثعابين، إنما خاف على الناس، خاف أن يظل الناس وأن يكفروا، وخاف عليهم الناس أن يزدادوا كفراً وطغياناً ولكن انظر إلى ذلك الموقف، فرح فرعون واستبشر، نظر إلى ذلك السحر فازداد طغياناً وعتواً، فإذا بالوحي ينزل من السماء: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} [الأعراف:117] وماذا عساها تفعل مع هذه الثعابين؟ فقد ملأت الوادي ألوف الحيات والثعابين قال الله له: {قٌلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ} [طه:68 - 69] ألق ما عندك، عندك العصا ابذل السبب، إن المعركة بينهم وبين الله جلَّ وعلا ليست بينهم وبينك يا موسى، أنت ليس عندك شيء، أنت لا تملك إلا عصاً إن المعركة ليست بين الداعية الضعيف الذي لعله سجين، ولعله مكمم فاه، ومغلوب على أمره، ليست بينه وبين تلك الحشود وتلك الأمم، وليست بينه وبين تلك الضلالات إن المعركة بين الله جل وعلا وبينهم: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17]. قال الله تعالى: {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ} [طه:69] فيلقي موسى ما في يمينه {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} [الأعراف:117] انقلبت عصاة موسى عليه السلام ثعباناً حقيقياً، فابتلعت كل الثعابين التي في الوادي {فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} [الأعراف:117]. انظر إلى المشهد الرباني: {فَوَقَعَ الْحَقُّ} [الأعراف:118] يقول الله جلَّ وعلا: فوقع، وكأن الحق أمر ثقيل مستقر في الأرض يحطم ما تحته: {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف:118] وإذا بالسحرة يندهشون من الأمر: {فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ} [الأعراف:119] تعجب فرعون من هذا المنظر ما الذي حدث؟! ما الذي جرى؟! والجمهور ينظر، والناس تستغرب من الأمر.

سجود السحرة لله تعالى

سجود السحرة لله تعالى وإذا بالسحرة كلهم عن بكرة أبيهم آمنوا بالله جلَّ وعلا، وخروا على الأرض سجداً: {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} [الأعراف:120] إنها اللمسة الربانية، إنه الإيمان الذي إذا وقر في القلوب بدد الظلام كله، إنه الحق إذا وقع {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ * وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} [الأعراف:118 - 120] وماذا يفعل فرعون الآن؟ هل سجدوا فقط لله؟ لا. بل {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف:121 - 122] ما تحمل فرعون هذا المنظر، فماذا سيفعل؟ وماذا سيصنع أمام الناس وأمام السحرة، بل أعظم السحرة؟ سجد السحرة كلهم لله تبارك وتعالى إنه الحق إذا وقع، وإنه الحق إذا جاء: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء:81]. قال فرعون: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} [طه:71] أراد أن ينقذ نفسه من الموقف، انظروا إلى السخافة {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} [الأعراف:123] أيها السحرة: لِمَ لم تأخذوا الإذن مني حتى تؤمنوا؟ انظروا إلى السخافة والجنون إذا بلغ بالإنسان مبلغه إن الإيمان قد انفجر في قلوبهم ولم يتمالكوا أنفسهم إلا أن وقعوا لله سجداً، وتلفظوا بقولهم: {آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف:121 - 122] كانوا قبل قليل يحاربون الله ويكرهون الناس على الكفر، ويقولون لفرعون: {أإِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} [الأعراف:113] يريدون الدنيا، وبعد لحظات وإذا بالأجساد تخر لله سجداً.

ثبات السحرة أمام تهديد فرعون وغضبه

ثبات السحرة أمام تهديد فرعون وغضبه قال الله عن فرعون: {آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف:123] بدأ الآن يهدد، ماذا تريد يا فرعون؟ قال: {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف:124] لا ينفع فيكم إلا التعذيب، سوف أصلبكم في جذوع النخل، وأقطع يد أحدكم ورجله حتى تموتوا {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى} [طه:71] يظن أن عذابه أشد من عذاب الله، ويظن أن ألمه أشد من ألم حر جهنم! فماذا قال السحرة؟ لقد كانوا قبل قليل يريدون أموالاً ومناصب، ويريدون التقرب والتزلف للحاكم، أما الآن فأجابوا {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ} [طه:72] لن نحكمك، ولن نختارك يا فرعون: {لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} [طه:72] لقد رأينا البينات، قال بعض المفسرين: إنهم لما سجدوا كل واحد رأى منزله في الجنة، لأنهم سجدوا يقيناً بالله تبارك وتعالى، وأي إيمان هذا الإيمان أيها الإخوة! قبل قليل كانوا سحرة كفاراً طواغيت، وبعد قليل يؤمنون ويسجدون لله؛ فقد أروا مساكنهم في الجنة، فلما رفعوا رءوسهم قال: لأصلبنكم لأعذبنكم سأقطع الأيادي والأرجل، قالوا: {لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} [طه:72] وأقسموا على هذا: {وَالَّذِي فَطَرَنَا} [طه:72] أي: نقسم بالذي فطرنا على هذا {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه:72] افعل يا فرعون ما تشاء عذب قطع الأيادي والأرجل اصلبنا على جذوع النخل، افعل ما تشاء: {إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72] مهما فعلت فإنها دنيا الله أكبر! أرأيت الإيمان إذا دخل في القلب كيف يستهين بالدنيا ويحتقرها! كيف تكون الدنيا لا تساوي عنده جناح بعوضة، قبل قليل يريدون المناصب والأموال والقربى، أما الآن فيقولون: هذه دنيا فانية {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} [طه:73] يقال: إنه جمعهم منذ الطفولة وهم أيتام، وجاء بهم وعلمهم السحر منذ الصغر، حتى كبروا وترعرعوا على السحر، إكراه من فرعون، والويل لمن يخالف: {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:73] ثم إذا بهم يتكلمون عن الجنة والنار. وهل تظن -يا عبد الله- أن فرعون تركهم؟! لا. بل نفذ ما وعدهم به، صلبهم على جذوع النخل، وقطع الأيادي والأرجل، وبعد قليل كما قال ابن عباس: [أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء بررة]. عباد الله: أرأيتم إلى ذلك الموقف؛ موقف الداعية الثابت الصامد أنت لا تملك شيئاً، لا تملك إلا اللسان، والقلم، وهذا القلم وذلك اللسان يواجه تلك الجيوش الجرارة {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17] لا تقل: أنا ضعيف، وما عندي شيء، لا تقل: الدعاة إلى الله عزل، أقول لك: الدعاة إلى الله جلَّ وعلا معهم الرب تبارك وتعالى: {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} [الأنفال:12] يلقي الله عز وجل في قلوب أعدائهم الرعب ولا تقل: ما عندي جنود، ولا أسلحة، والمسلمون مستضعفون، واليهود والنصارى يقطعون في الأمة قطعاً ويمزقونهم تمزيقاً أقول لك: يا عبد الله! معك الرب جلَّ وعلا، إن موسى ما كان يملك إلا العصا وأمامه ألوف السحرة، وفرعون وما أدراك ما فرعون، ولكن نصره الله جل وعلا بم ذلك؟ بيقينه بالله تبارك وتعالى، وثقته بنصر الله جل وعلا.

موقف الغلام المؤمن مع الملك الكافر

موقف الغلام المؤمن مع الملك الكافر الموقف الثالث والأخير: إنه موقف ذكره الله عزَّ وجلَّ في القرآن، وأخبرنا به عليه الصلاة والسلام، وسوف أسرد عليك هذا الموقف سرداً لأنك سمعت به، ولكن أرجو منك أن تعتبر به، ونحن نحتاج إليه خاصة في هذا الزمن.

تعلم الغلام عند الساحر والراهب

تعلم الغلام عند الساحر والراهب إنها قصة ذلك الغلام الذي تعلم السحر منذ الصغر عندما أجبره الملك على أن يتعلم السحر، وكان عندما يذهب إلى الساحر يمر بالطريق على راهب، وذلك الراهب كان يعبد الله جلَّ وعلا، وقيل: كان من قوم نصارى، وكان يأتي إلى هذا الراهب يسمع حديثه، ثم يذهب إلى الساحر، ثم يرجع إلى ذلك الراهب قبل أن يذهب لأهله، فكان أهله يضربونه على تأخيره، وكذلك الساحر لم تتأخر؟ وكان لا يخبر أحداً بمكثه عند الراهب، فقال له الراهب يوماً: إن سألك أهلك فقل لهم: أخرني الساحر، وإن سألك الساحر يوماً لِمَ تأخرت؟ فقل: أخرني أهلي، وإذا بالأيام والليالي تمر، فيزداد هذا الغلام علماً وفقهاً في الدين، وتعلقاً بالله رب العالمين، وإذا به يمر يوماً من الأيام على الطريق، فإذا بدابة قد أغلقت على الناس طريقهم، وحاولوا دفعها فلم يستطيعوا، وحاولوا قتلها فلم يقدروا عليها، فقال الغلام في نفسه: اليوم سأعرف أأمر الراهب على حق، أم أمر الساحر؟ فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحق من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة، أو اصرف عن الناس ما هم فيه، فأخذ حجرة صغيرة في يده، وجاء إلى تلك الدابة فرماها بتلك الحجر الصغير، فإذا بها تموت وتنزاح عن طريق الناس. إنها الكرامة الأولى على يد ذلك الصبي، ولما رجع إلى الراهب أخبره الخبر، فقال له: يا بني! إنك اليوم أعظم شأناً مني، وقد بلغت منزلة أعظم مني، وسوف تبتلى الله أكبر! هل سمعت بحديث ورقة، عندما قال: ذلك الناموس الذي أنزل على موسى، يا ليتني أكون فيها جذعاً إذ يخرجك قومك. فقال محمد صلى الله عليه وسلم: (أومخرجي هم؟) قومي، أبناء عمي، جيراني، أهلي، الذين يسلمون علي، ويسمونني الصادق الأمين، سوف يطردوني من بلدي؟! قال: ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عودي {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:186] وعد من الله سبحانه وتعالى، تبتلى بالمال والنفس. قال: يا بني! أنت اليوم أعظم شأناً مني وسوف تبتلى، فإن ابتليت فلا تخبر عني. أي: اكتم خبري.

إبراء الغلام للأكمه والأبرص بإذن الله

إبراء الغلام للأكمه والأبرص بإذن الله مضى الغلام وانتشر بين الناس خبره، فصار يبرئ الأكمه والأبرص، ويقرأ على المريض ويدعو الله فيشفى بإذنه سبحانه وتعالى، فانتشر خبره بين الناس، حتى سمع وزير الملك بخبر ذلك الصبي وكان أعمى، فاستدعاه وقال: يا غلام! سمعت أنك تبرئ الأكمه والأبرص فرد علي بصري ولك ما شئت من الدراهم والدنانير. فقال: أيها الوزير! أنا لا أشفي، قال: ومن يشفي؟ قال: الله رب العالمين هو الذي يشفي، قال: الملك؟ قال: لا. بل ربي وربك ورب الملك الله رب العالمين. قال الوزير: وكيف يشفيني الله جلَّ وعلا؟ قال الغلام الصغير: تؤمن بالله رب العالمين، فأدعوه أن يشفيك؟ قال: آمنت بالله رب العالمين، فدعا الله له فشفي الوزير وردَّ الله عليه بصره.

الغلام والابتلاء

الغلام والابتلاء دخل الوزير يوماً على ذلك الملك، فقال له الملك: يا وزير! من رد عليك بصرك؟ قال: الله رب العالمين، قال: أنا؟ قال: لا. بل ربي وربك. قال: من؟ قال: الله رب العالمين. قال: ألك ربٌّ غيري؟ قال: نعم! الله رب العالمين. قال: من أخبرك بهذا؟ قال: لا أخبرك، فضربه ضرباً مبرحاً حتى دل على الغلام، وقتل الوزير فجيء بالغلام الصغير، وقال له: يا غلام! أولك رب غيري؟ قال: نعم، قال: من هو؟ قال: ربي وربك الله رب العالمين. غلام صغير، في قصر ملك طاغية هل خاف؟ هل ارتجف؟ هل قلب إيمانه؟ مع أنه في شرعنا يجوز هذا، ولكنها الجرأة، والإيمان إذا ملأ القلب قال: نعم، ربي وربك الله، قال: ماذا تقول؟ فعذبه وجلده حتى دل على الراهب، فجيء بالراهب، فقال له الملك: ترجع عن دينك؟ قال: لا. قال: من ربك؟ قال: الله رب العالمين. قال: ارجع عن دينك؟ قال: والله لا أرجع. فلا زال به يعذبه حتى جاء بالمنشار، فإذا به يضع المنشار على رأسه ويقسمه نصفين {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2] تحسب أنك آمنت ولن تفتن ولن تبتلى، تحسب -أيها الأخ الكريم- أنها صلاة وصيام والحمد لله ثم جنة لا يا عبد الله (حفت الجنة بالمكاره) وهذه من المكاره.

محاولات فاشلة لقتل الغلام

محاولات فاشلة لقتل الغلام أتى الملك بالصبي وأراد أن يقنعه أن يترك دينه، فقال: يا غلام! ترجع عن دينك؟ قال: لا. قال: سوف أقتلك. قال: افعل ما تشاء. قال: سوف أذبحك. قال: افعل ما تشاء. فجاء الملك بالجنود، وقال: اذهبوا به إلى رأس الجبل، فإذا عليتم به أعلى الجبل فاقذفوه من أعلى الجبل على رأسه ليس أي قتل، ولكن قتل بتعذيب لعله أن يصاب بالرعب فيرجع، فإذا بالغلام يُربط ويساق إلى أعلى الجبل، ومعه الجنود والعسكر، فلما علوا به إلى الجبل رفع الغلام يديه إلى الله جل وعلا، وقال: اللهم اكفنيهم بما شئت {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62] إلى من لجأ الغلام؟ هل لجأ إلى أبيه؟ أو إلى أبناء عمه؟ أو إلى قوته؟! لا. الآن انتفت القوة كلها، ما بقيت إلا قوة الرب جلَّ وعلا، الذي لا حول ولا قوة إلا به، فتوكل على الله جل وعلا، وقال: اللهم اكفنيهم بما شئت. فإذا بالجبل يهتز ويرجف بهم، فيسقطون كلهم من أعلى الجبل على رءوسهم، فماتوا ورجع الغلام يمشي على قدميه هل هرب؟ إنه كان يستطيع الهرب، ويستطيع أن ينجو، ولكن ليست قضيته أن ينجو بنفسه وبجسده، إن القضية أعلى من هذا، إنها قضية الإيمان والدعوة إلى الله، ونشر التوحيد بين الناس، حتى ولو مات أو قتل في سبيلها. وجاء يمشي على قدميه إلى موطن الموت مرة أخرى، فدخل القصر، ففزع الملك، وخاف: من هذا؟! أهو الغلام؟! نعم. ماذا صنع الجنود؟ قال: كفانيهم الله جل وعلا كيف؟ لقد ماتوا كلهم وسقطوا من أعلى الجبل ماذا تقول؟! هذا الذي حصل، فخاف الطاغية، وجاء بجنود آخرين، وقال لهم: اذهبوا به إلى وسط البحر، ثم ارموه في البحر، وإذا علمتم أنه قد مات وغرق فارجعوا. -انظروا إلى التعذيب- فأخذوه إلى وسط البحر، ولما أرادوا أن ينزلوه في قاع البحر رفع الغلام يديه إلى الله جل وعلا، وقال: اللهم اكفنيهم بما شئت {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:186]. في بدر يقول أبو بكر: (كان النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن جهز الجيش وجعل لكل إنسان مقعداً، جلس خارج الجيش ورفع يديه إلى الله جل وعلا، وهو يقول: اللهم إني أنشدك نصرك يا رب، اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض. يقول أبو بكر: فسقط الرداء من فوق النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا أرجع الرداء عليه، وأقول له: يكفيك مناشدتك ربك يا رسول الله، إن الله منجز للك ما وعدك) قال بعض الصحابة: كنا في تلك الليلة نائمون إلا رسول الله، كان عند شجرة قائماً طوال الليل يصلي ويدعو الله جل وعلا {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186]. فقال الغلام: اللهم اكفنيهم بما شئت. فإذا بموج هائل يأتي ويسقط الجنود كلهم في البحر، فماتوا كلهم غرقى وما بقي إلا الغلام {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:64]. رجع الغلام مرة أخرى إلى القصر، ففزع الملك وخاف، وعلم أنه لن يقدر عليه، فقال الغلام: أيها الملك! إنك لست بقاتلي، ولن تستطيع على قتلي، ولكن إن أردت أن تقتلني فافعل ما آمرك به. قال الملك: وماذا تأمرني؟ الآن الغلام يأمر الملك الطاغية، وانظر كيف انقلب الحال!! فإن النصر الآن لهذا الغلام. فقال: اجمع الناس في صعيد واحد واصلبني، وخذ سهماً من كنانتي، وقل: باسم الله رب الغلام، ولن تقتلني إلا بهذه الطريقة، ثم ارمني بالسهم فإن فعلت ذلك فإنك قاتلي الملك الآن أهم قضية عنده هو أن يموت الغلام، فقد صار عنده كالكابوس، رعب وفزع وبدأ الخوف في قلب ذلك الملك، فالمهم أن يموت هذا الغلام. فجمع الناس في صعيد واحد والناس في تلك اللحظات يترقبون. أمر من الحق؟ أمر الغلام أم أمر الملك؟ والناس في ريب من أمرهم، والغلام الصغير يعلم أنه سوف يقتل لكنه ضحى بحياته وبروحه من أجل هذه الدعوة، هذا الذي هو الآن يقبل على الحياة، شاب صغير، والغلام في ريعان شبابه يتمنى أن يعيش في الدنيا، لكنه ضحى بجسد وبدمه الطاهر لله جل وعلا فإذا بالملك يقف أمام الناس، فيأخذ سهماً من كنانته -والناس ينظرون- ويرفع صوته، ويقول: باسم الله رب الغلام، والناس يسمعون، ويرمي الغلام بذلك السهم، فيقع السهم في صدغه على وجهه فيضع الغلام يده على وجهه، ثم تفيض روحه إلى الله جلَّ وعلا. ومات الغلام لكنه انتصر، مات لكنه فاز، وعندما مات الغلام إذا بالجموع تهلل وتكبر، وتقول: آمنا بالله رب الغلام، آمنا بالله رب الغلام. فالتفت الملك مذهولاً!! إن الغلام ملطخ بدمائه لكنه منتصر انتصر بدعوته، وضحى بجسمه وجسده وروحه لله جل وعلا، لكنه انتصر، فقد آمن الناس كلهم فقال الجنود: أيها الملك! قد وقع الذي كنت تحذر منه، قال: احفروا لهم الأخاديد، وأشعلوا فيها النيران، وأحرقوا كل من لم يرجع عن دينه، فجاءت الجموع ترمي بنفسها في النار، وهي تقول: الله أكبر! آمنا بالله رب الغلام، حتى جاءت امرأة بيدها رضيع وهي تؤمن بالله، فقيل لها: ارجعي عن دينك وإلا رميناك في النار. قالت: بل أرمي بنفسي في النار، وكأنها تقاعست وترددت ما ذنب هذا الرضيع؟ ما ذنب هذا الغلام؟ فأنطق الله الغلام في المهد، وقال: يا أماه! اصبري فإنك على الحق. فرمت بنفسها ورضيعها في النار. قال الله تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} [البروج:4 - 7] لِمَ كل هذا يا رب: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [البروج:8 - 9] شهد الله موت الغلام، وشهد الله حال الناس، وشهد الله فعلتهم، والله على كل شيء شهيد. لقد مات الغلام وضحى بجسمه، وبروحه في سبيل الله، لكنه انتصر فما زال ذكره إلى أن تقوم الساعة، قتل أصحاب الأخدود، وهم في جنة خالدين فيها. أيها الإخوة الكرام: هذه ثلاثة مواقف مرت علينا كثيراً في كتاب الله، لكن هلا توقفنا عندها وقفات نتدبرها! هلا استشعرناها يا عباد الله! إن هذه القصص لا يخبرنا الله بها للتسلية، أو لقضاء الأوقات، أو لأجل أن نقصها فقط على الصغار أو الكبار، لا يا عباد الله! إنما هي للاعتبار: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:176] إن القرآن الذي بين أيدينا عظيم، قد ملأه الله بالقصص والعبر والآيات والأوامر والنواهي، فهل نحن معتبرون -يا عباد الله- أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا؟ أقول هذا القول، وأستغفر الله من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

قصص من الواقع

قصص من الواقع إن أسلوب القصص له أثره العظيم في قلوب الناس، لذلك قد يتأثروا بالقصة ما لا يتأثرون بغيرها، والشيخ في هذا الدرس قد ذكر عدداً من القصص متنوعة المواضيع، فذكر قصصاً تبين عاقبة الشهوة، من الإصابة بالأمراض المستعصية، والانتكاسة بعد التدين، وذكر قصة تدل على أن السعادة ليست في المال، وقصصاً في التوبة إلى الله تعالى، ثم ذكر قصصاً تبين الخاتمة الحسنة من السيئة، وأخرى تبين أثر الدعاء، وختمها بقصة تبين أهمية تربية الأولاد.

عاقبة الشهوة

عاقبة الشهوة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وخاتم النبيين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: أيها الإخوة الكرام: حياكم الله في هذا المجلس، وأسأل الله جل وعلا كما جمعنا في هذا المكان الطيب أن يجمعنا في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وأسأل الله جل وعلا أن يجعل هذا الاجتماع اجتماعاً مرحوماً، ويجعل تفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً. أيها الإخوة الكرام: عنوان هذا الدرس (قصص من الواقع). ولن تجدوا في كلمتي هذه القصص مرتبة، بل سوف أنوع القصص وأنتقل بكم يمنة ويسرة، من كل بستان نقطف زهرة قصص بعضها مؤلمة، وبعضها مفرحة قصص قد تصعد بنا وتنزل قصص اخترتها من واقع الحياة، بعضها قرأتها، وبعضها سمعتها، وبعضها تلقيتها من أصحابها مباشرة، فإليكم هذه القصص، ولست من القصاصين الذين قد ذمهم بعض السلف؛ لأن أولئك القصاصين كانوا ينسبون القصص لرسول الله صلى الله عليه وسلم. أما حديثنا اليوم فإنه مليء بالآيات، وبأحاديث المصطفى عليه الصلاة والسلام، فإياك أن تقول: إن المجلس فارغ، ليس فيه إلا القصص، بل قد ملأته بالآيات والأحاديث والعبر، فهل لهذه القصص من معتبر؟! إلى أصحاب الشهوات إلى الذين لا يفكرون إلا بفروجهم ليلاً ونهاراً، إن جاء الصيف جمعوا المال وسافروا إلى بعض البلاد والديار، ليفعلوا ما يفعلوا، وليصنعوا ما يريدون من الشهوات، إلى أولئك أحدثهم بهذه القصة.

الإصابة بالأمراض المستعصية

الإصابة بالأمراض المستعصية هذا شاب يقول عن نفسه في آخر حياته: بعد أن أنهيت الثانوية -ونحن الآن في هذا الجو الذي قد انتهى فيه البعض من الثانوية- جاءني أحد رفقاء السوء فقال لي: يا فلان! أتحب السفر معنا؟ قلت: إلى أين؟ قال: إلى تلك البلاد الآسيوية بلاد آسيوية فيها المنكر والفساد، جهاراً نهاراً بأبخس الأثمان، فقلت: كيف؟ قالوا: اطلب من أبيك المال، وسافر معنا والأمر بسيط، أياماً معدودات ثم نرجع، قال: فجئت إلى أبي وانظروا إلى أبيه الغافل، وكم غفل بعض الآباء عن أبنائهم. فقال: يا أبي! قد نجحت في الثانوية، وحصلت على التقدير العالي، وأريد مكافأةً؟ قال: ماذا تريد؟ قال: أريد مالاً؛ لأذهب وأسافر مع أصحابي. فقال الأب: إلى أين؟ قال: إلى تلك البلاد، قال: لا بأس، فأعطاه المال، قال: فسافرت لأول مرة، فذهبنا إلى تلك البلاد، والغريب أنني رأيت شباباً من أبناء بلادنا دخلوا أماكن حمراء أماكن مظلمة أماكن فيها الفساد والشهوات، يفعلون الفواحش والمنكرات، فدخلت معهم، وفعلت ما لم أظن أنني أفعله في حياتي يوماً من الأيام، صنعت المنكرات، وفعلت الفواحش، وأتيت الشهوات، يقول: فتلذذت مرة بعد الأخرى، حتى رجعت إلى بلادي فاشتقت إلى الرجوع، فأخذت من أبي مالاً مرة أخرى وهكذا توالت السفرات بعد السفرات، حتى وقعت في وكر المخدرات. يقول: فلما نفدت الأموال، بدأت أسرق الأموال؛ لأسافر إلى تلك البلاد، السفر صار في دمي، والمخدرات تجري في عروقي، ومرت الأيام والسنون، حتى جاء ذلك اليوم -اسمع ما الذي حدث؟ - يقول: أحسست بإعياء شديد، فسقطت على الفراش، فذهب بي أصحابي إلى الطبيب، وبعد التحاليل والفحوصات، جاءني الطبيب يفاجئني، وقال: يا فلان! إن الأمر صعب، قال: أخبرني يا طبيب. قال: بعد التحاليل اكتشفنا في الدم أنك مصاب بفيروس الإيدز. يقول: فكأن الدنيا قد أظلمت أمامي، أحلامي تبددت، وضاقت علي الأرض بما رحبت. أيها الطبيب! ربما أخطأتم، قال: سنعيد الكرة، فأعادوا التحليل مرة أخرى، لكن النتيجة هي النتيجة، يقول: ذهبت إلى طبيب آخر وإلى مستشفى آخر، ولكن النتيجة هي النتيجة، ثم رجعت إلى بلادي مسود الوجه، قد أظلمت الدنيا أمامي، يقول: وأنا الآن أكتب إليكم قصتي وأنا على فراش الموت أنتظر الموت!! أتعرف ما الذي يحصل؟ إن الإيدز أوله فضيحة وعار، وتمر به الأيام وهو على الفراش ملقى ثم يبدأ بعد هذا تنهار قواه، ثم يصاب بشلل في الجسم؛ لأن الفيروس يصيب المخ، وتمر به الأيام حتى يصير على الفراش ملقى لا يستطيع أن يقضي حاجته بنفسه. أرأيت أين المتعة والشهوة؟ أين السهرات؟ أين الفتيات؟ أين السفرات؟ كلها قد ذهبت، وهو الآن على الفراش لا يقرب منه أحب الناس إليه، كل الناس قد هربوا منه، يخافون أن ينتقل المرض إليهم، فإذا ذكروا فلاناً اسود وجه أبيه، وأظلمت الدنيا في عين أمه، وبكوا ودمعت أعينهم، ابنهم على الفراش ينتظر الموت، ثم تمر به الأيام، فيذهب شيء من عقله، فيصاب بالجنون، ثم يأتيه ألم شديد، يأخذه من رأسه إلى رجله، وربما يظل على هذه الحال سنة أو سنتين، يتمنى الموت ولا يموت يتمنى الموت ولا يدركه، ثم يتعذب سنيناً أو شهوراً على هذه الحال، ثم يقبض الله عز وجل روحه. تفنى اللذاذة ممن ذاق صفوتها من الحرام ويبقى الإثم والعار تبقى عواقب سوء في مغبتها لا خير في لذة من بعدها النار إحدى البلاد العربية لما زرتها سألت أهلها: لماذا يسمح أهل هذا البلد بالفجور وبالمومسات؟ هذا الأمر مفتوح في تلك البلاد بقوانين رسمية، الخمور والممومسات في بعض الفنادق موجودة، فسألتهم: ألا يوجد عندكم الإيدز؟ فقالوا لي: إن الإيدز منتشر، لكن الإحصائيات يُكتم عليها، حتى أخبرني أحد الذين يعملون بالصحة، قال: عندنا أعداد ضخمة ممن يصابون بالإيدز، ولكنها تكتم ولا تصل إلى عامة الناس، قلت لهم: أتعرفون أشخاصاً بأعينهم؟ قالوا: نعرف رجلاً كبيراً في السن متزوجاً وعنده أبناء، رجل مستقيم، لكن لحظة من حياته غلبته شهوته، ففكر في السفر، ولم يسافر في حياته إلا أياماً قليلة ثم رجع وتاب، يقولون: مرت الأيام ولكن تلك السفرة كانت سبباً في إصابته بالإيدز، فعولج ثم هلك في المستشفى، يقولون: الأغرب من هذا أن زوجته كانت من الصالحات، وهي مستقيمة، وبعد أن توفي زوجها بأشهر اكتشفوا في دمها فيروس الإيدز، والزوجة صالحة ومتدينة من الذي قتلها؟ من الذي أجرم بحقها؟ من الذي أوصلها إلى هذا الحال؟ إن هذه المرأة المتدينة لم تكن تعرف للحرام طريقاً من المجرم؟ إنه الزوج. فقالوا لها: أتحبين العلاج لنذهب بكِ إلى أي بلاد شئت؟ قالت: لا والله، لن أموت إلا على سجادتي وأنا أصلي بين يدي ربي جل وعلا، وفعلاً مرت شهور وماتت الزوجة في بيتها، محتسبة صابرة.

الانتكاسة وترك التدين

الانتكاسة وترك التدين اسمع إلى هذا الشاب وأنا أحذركم من مثل هذه القصة، إنها من أخطر القصص وأسوئها، وهذه حدثت قبل سنين عديدة. كان شاب يسافر في إحدى السفن التي تذهب للتجارة، وكان إماماً يقرأ القرآن، ويؤذن في الناس ويصلي بهم، واسمع ما الذي حدث له من الشهوات وما أدراك ما الشهوات! يقولون: مرت الأيام حتى نزلوا عند إحدى البلاد الغير إسلامية، ليفرغوا حمولتهم ويأتوا بحمولة أخرى، فذهب كل منهم إلى طريقه أسبوعاً كاملاً سوف تبقى السفينة عند هذا المرسى، فجاء رجل من أصحاب السوء، فوجد الشاب الصالح لم يفارق السفينة، فقال له: يا فلان! انزل معنا نتجول في البلاد، فقال: لا. أنا أريد أن أجلس أقرأ القرآن حتى تنتهي المدة، قالوا له: انزل فربما ترى شيئاً تشتريه لأولادك، فنزل وذهب يتجول معهم في الأسواق والشوارع ينظر إلى الغادين والرائحين إلى النساء السافرات إلى المتبرجات، هذه قد كشفت ساقها، وتلك فخذيها، وهذه شيئاً من صدرها، فأخذ يلتفت يمنة ويسرة! أين القرآن؟ أين الأذان؟ أين الصلاة؟ أين العبادة؟ كلها قد نسيها، أخذ ينظر إلى الفتيات يوماً بعد آخر، فذهب به صاحب السوء، وقال له: أتريد أن نذهب إلى أماكن تسمى أماكن الخنا. قال: أعوذ بالله! قال: لن نفعل شيئاً، إنما نرى هل الأمر حقيقة أم خيالاً! وفعلاً ذهب وأخذ ينظر إلى الناس، ومرت الأيام فإذا بالشاب يدخل معهم فيفعل ما يفعل غيره. أين القرآن؟ أين الصلاة؟ أين الأذان؟ أين قول الله: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32] أخذ يفعل المنكرات، ولما حان الرحيل قال قائد السفينة: أين فلان؟ قالوا: لن يسافر معنا فلان إمامنا، الصالح فينا أين هو؟ قالوا: سوف يسوؤك الأمر، قال: لا بد أن تخبروني، قالوا: إنه في أماكن الدعارة والخنا، فقال قائد السفينة: لا بد أن نذهب إليه، فذهب إليه ينصحه، فقال: لن أذهب معكم، سوف أعيش في هذه البلاد، فأخذه قائد السفينة رغماً عنه، وحمله بعد أن قيده وألقاه في السفينة. وعندما مشينا في البحر وحان وقت الصلاة أذن المؤذن فلم يأت للصلاة معنا، إنما جلس في الغرفة وأغلق الباب على نفسه، نناديه فلا يصلي نحثه للصلاة وهو لا يريد أن يصلي يقول: حتى جئته يوماً من الأيام، ونحن في وسط البحر، فقلت له: أما تخاف الله؟ أما تتقي الله عز وجل؟ كنت إمامنا كنت تؤذن للصلاة فينا، وأنت الآن لا تصلي! فقال: اذهب، أنا أريد الرجوع إلى تلك البلاد. قال: ولِمَ؟ قال: حياتي ليست معكم، أنا أتحسر أنني ضيعت حياتي معكم في الصلاة والقرآن انظر ماذا يقول؟ قال: فاستعذت بالله منه، ودعوت الله عز وجل أن ينجينا من شره، واكتشفنا بعد أيام أنه مصاب بمرض جنسي، فابتعدنا عنه وهجرناه، ومرت الأيام حتى جاءت تلك الليلة، فسمعنا صوتاً في آخر الليل، ما الذي حصل آخر الليل؟ آخر الليل عندما ينزل الرب إلى السماء الدنيا نزولاً يليق به جل وعلا: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] نزولاً حقيقياً لكن ليس كنزول غيره، ينزل الرب فيقول: هل من سائلٍ فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ يقول قائد السفينة: سمعنا صياحاً شديداً آخر الليل، فقمنا من الفرش، واتجهنا نحو الصوت، أتعرف ماذا رأوا؟ يقول: رأينا الرجل الشاب الذي كان إماماً يصلي بالناس يعض على خشبة في السفينة ويصرخ، فإذا به بعد قليل سكت وهدأ، فجئنا لنوقظه، فإذا هو قد فارق الحياة الدنيا، وقد قطع بأسنانه شيئاً من خشبة السفينة!! أي ألم أصابه؟ أي عذاب تعذب به؟ أي خاتمة ختم له بها، هذا جزاء الشهوات تلك نهاية الملذات، إن اللذة قصيرة كاذبة وإن الشهوات اليوم سهلة، وإن كل الناس اليوم يستطيعون بأموالهم أن يفعلوا ما يشاءون من الزنا والخنا وشرب الخمور؛ ولكن تخيل: يأتي يوماً من الأيام بعض العصاة إلى الطبيب، بعد أن أصابه المرض، والطبيب يقول له: يا فلان! إن الأمر سيئ، أخبرني يا طبيب! فيقول له: إنك مصاب بمرض الإيدز، إنه الموت البطيء إنه الانتحار البطيء، لا فكاك ولا مفر، فضيحة وعار وشنار، ثم سوء ختام، تخيل أولئك العصاة! أتعرف كم هم؟ إنهم ملايين -الآن- على وجه الأرض ينتظرون الموت يبحثون عن الدواء والشفاء، لا دواء، ولا شفاء، كل منهم يبكي على فراشه ينتظر الموت، وأين الموت منهم؟ يقول أحد الشعراء: يا عين فلتبكي ولتذرفي الدما ذنباً أحاط القلب أصغ له سمعا أين الدموع على الخدين قد سالت فالنفس للعصيان يا رب قد مالت فيا ترى أصحو من سكرة الشهوة أم يا ترى أبقى في هوة الشقوة كيف القدوم على الجبار بالزلل أم كيف ألقاه من دون ما عمل قلبي لما يلقاه قد أن بالشكوى دمعي جفا عيني من قلة التقوى لكن من أرجوه لا يغلق الباب العفو يا رباه فالقلب قد تاب أي سعادة يطلبون بالشهوات؟ إن كان أولها حسرة وندامة وآخرها مذلة وهوان فماذا يريدون؟

التوبة والرجوع إلى الله تعالى

التوبة والرجوع إلى الله تعالى بعض الدعاة ذهبوا إلى بلد من البلاد اسمعوا إلى هذه العبر واعتبروا من غيركم يحدثني أحد الدعاة عن مجموعة من الدعاة سافروا إلى إحدى الدول الغربية، فلما أتوا إلى مسجد من المساجد، وأخذوا يصلون في المسجد، سألوا الإمام: أتعرف أحد المسلمين حول المسجد وهو لا يصلي؟ فقال لهم: نعم! أعرف جاراً للمسجد وهو من إحدى الدول العربية بل الخليجية، مسلم لكنه لم يأت إلى المسجد يوماً من الأيام. قال لهم: إنه من أغنى الأغنياء، عنده ملايين، فاذهبوا إليه ربما يهديه الله، يقول الداعية: فذهبنا إليه وطرقنا الباب، فلم يأت، واستمر أحدنا يدق عليه الجرس لعله يخرج، وانتظرنا مدة من الزمن حتى خرج عابس الوجه مكفهراً، قال: ماذا تريدون؟ قالوا بعد أن سلموا عليه: نحن إخوانك جئنا نزورك في الله، قال: وماذا تريدون؟ قالوا: نريد زيارتك، لا نريد إلا وجه الله، قال: وبعد ذلك ماذا تريدون؟ قالوا: نطلب منك أن تأتينا إلى المسجد، قال: إن شاء الله، اذهبوا إلى المسجد وأنا أدرككم، قالوا: لا. انظر إلى الداعية المصر الداعية النشيط، صاحب الهمة العالية، قالوا: لن نبرح من هذا المكان حتى تأتي معنا، قال: اذهبوا وسوف أتوضأ وآتيكم، قالوا: نحن منتظرون. سبحان الله! قال: أقول لكم: سوف آتي، قالوا: لن نبرح من هذا المكان حتى تأتينا، قالوا: فذهب ورجع بعد قليل، وقد بدل ملابسه وجاء متوضئاً، وذهب معهم إلى المسجد، وقال: أصلي وأرجع، فلما صلى قام أحد الدعاة أيها الدعاة! انظروا إلى الصادقين المتقين، ما الذي يمنعكم عن هذا الفعل، يقول: وبعد الصلاة جلس، فسمع بعض الآيات والأحاديث وبعض العبر، كان يريد الذهاب ولكن الحديث الجميل أجلسه، وبعد أن أنهى الشيخ كلامه نظروا إليه فإذا عيناه تذرفان، فجلس معهم وقال: أين تذهبون؟ وإلى أي مكان تغادرون؟ قالوا: نحن نتجول في المساجد، من مسجد إلى آخر ندعو إلى الله عز وجل، قال: أنا أريد أن أذهب معكم ما هي الشروط؟ قالوا: لا شروط، تعال واذهب معنا، وفعلاً ذهب معهم، ومرت الأيام حتى أصبح هذا الضال قاسي القلب، من الدعاة إلى الله عز وجل، وسخر ملايينه كلها في الدعوة إلى الله، ومرت الأيام فقال هذا الرجل للشيخ ذات يوم: يا شيخ! أتذكر ذلك اليوم الذي أتيتم فيه إلى منزلي؟ قال: نعم. قال: أتدري ماذا كنت أفعل؟ قال: لا. وما يدريني! قال: كنت في ذلك اليوم قد ضاقت عليّ الدنيا جميعها، ملايين لكن الدنيا أظلمت، تعاسة وهم وغم، كنت واضعاً كرسياً في إحدى الغرف، ووقفت على الكرسي وعلقت الحبل في السقف وربطت الحبل في عنقي، وهممت بدفع الكرسي لأسقط، وفعلاً دفعت الكرسي لكنه لم يسقط، فسمعت الجرس، فقلت في نفسي: هل أرد على الباب أو أنتهي من الدنيا؟ فقالت لي نفسي: انتهِ من الدنيا، وجاءني مناد في قلبي يقول لي: لا. رد على صاحب الباب فربما تجد شيئاً من الأمل، فدفعت الكرسي لكنه لم يسقط، فقلت: أنزل فأرد على الباب ثم أرجع فأنتحر فيقول: أرأيت إنها ثوان معدودة أرسلكم الله عز وجل إليَّ، ولو لم تأتوا إليّ في ذلك اليوم، لانتحرت وساءت خاتمتي. أتعرف لماذا أراد الانتحار؟ لأن الله عز وجل يقول: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:12]. هذه القصة تذكرني بحديث النبي صلى الله عليه وسلم لما زار جاره اليهودي الذي كان من أشد الناس عداوة له، زاره قبل الموت ودعاه إلى الله عز وجل فأسلم أين الدعاة؟ أين المصلحون؟ لِمَ تسوف؟ لِمَ تقول: غداً أدعوهم غداً أذكرهم؟ وهل تضمنهم أن يعيشوا إلى الغد؟ لماذا الكسل والفتور؟ لِمَ لا نقبل على الناس فندعوهم إلى الله عز وجل؟ أحد الدعاة يحدث بنفسه يقول: كنت في أمريكا في إحدى المحاضرات، وفي منتصف المحاضرة قام أحد الناس فقطع عليّ حديثي -اثنان من المسلمين معهم أمريكي ثالث- فقالوا لي: يا شيخ! انتظر لقن فلاناً الشهادتين، فقلت: الله أكبر! يريد أن يسلم، فقالوا: نعم. يقول: فاقترب مني، فقال الشيخ للأمريكي: ما الذي حببك إلى الإسلام فأردت أن تدخله؟ لِمَ تريد الدخول في الإسلام وأنت ترى المسلمين؟ فقال له: يا شيخ! أنا أملك ثروة هائلة، وعندي شركات وأموال، أنا مليونير ولكن لم أشعر بالسعادة يوماً من الأيام. يقول: وكان عندي موظف في شركتي هندي مسلم، هذا الموظف متواضع بسيط، معاشه قليل، والغريب أنني كلما دخلت على هذا الموظف رأيته مبتسماً، وأنا صاحب الملايين لم أبتسم يوماً من الأيام، فقلت في نفسي: كيف هذا؟ أنا عندي الأموال، وأنا صاحب الشركة، والموظف الفقير يبتسم وأنا لا أبتسم، يقول: فجئته يوماً من الأيام، فقلت له: أريد الجلوس معك. قال: تفضل! الرئيس يجلس مع الموظف، فقلت له: أسألك سؤالاً: لماذا أراك دائماً في ابتسام؟ لم أرك يوماً مهموماً! فقال له: لأنني مسلم (أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله). فقال له: وهل يعني ذلك أن المسلم طوال أيامه سعيد؟ قال: نعم. قال: وكيف ذلك؟ قال: لأننا سمعنا حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: أي حديث! أخبرني به؟ قال: حديث يقول فيه النبي عليه الصلاة والسلام: (عجباً لأمر المؤمن! إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته ضراء صبر، فكان خيراً له، وإن أصابه سراء شكر، فكان خيراً له) قال: فأمورنا كلها سراء وضراء، أما الضراء فهي صبر لله، وأما السراء فهي شكر لله، حياتنا كلها سعادة في سعادة. قال: أريد أن أدخل في هذا الدين. قال: اشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، قال الشيخ أمام الملأ وهو يتكلم بنفسه: فقلت له بعد هذا: اشهد الشهادتين، ولقنته، فقال أمام الملأ: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم انفجر يبكي أمام الناس، فجاء الذين عنده يريدون التخفيف عنه، فقلت لهم: دعوه يبكي، فلما انتهى من البكاء، قلت له: يا فلان! ما الذي أبكاك؟ قال لي: يا شيخ! والله لقد دخل في صدري فرح لم أشعر به منذ سنوات. قال الله تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ} [الزمر:22] إن انشراح الصدر لا يكون بالمسلسلات ولا بالأفلام ولا بالشهوات ولا بالأغاني، كل هذه تأتي بالضيق، إن انشراح الصدر بتلاوة القرآن آخر الليل إن انشراح الصدر بصيام الإثنين والخميس إن انشراح الصدر بالصدقات والنفقات: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:22].

السعادة الحقيقية ليست في المال

السعادة الحقيقية ليست في المال إنها قصص بعضها عبر وبعضها قد ننقلها لغيرنا، احفظ ما شئت، واسمع ما شئت، وانقل بعض هذه القصص لغيرك، فإن الناس قد يتأثرون (ولئن يهدي الله بك رجلاً خير لك من حمر النعم). فتاة توفي أبوها فورثت مليارات، قد تقول: يا شيخ! ماذا تقصد؟ أقول لك: آلاف الملايين، مليارات، وكانت من أغنى الفتيات في عصرها، وقبل سنوات تزوجت رجلاً أمريكياً عاشت معه فترة ثم طلقها، ثم تزوجت شاباً يونانياً، فمكثت معه فترة، فأتت المشاكل ثم طلقها، ثم مرت الأيام فتزوجت شاباً شيوعياً روسياً أبوها مليونير، قمة الرأسمالية، وتتزوج رجلاً شيوعياً كيف يجتمعان؟ فسألها أحد الصحفيين في أحد اللقاءات، فقال لها: كيف تلتقي الرأسمالية بـ الشيوعية؟ كيف تتزوجين رجلاً شيوعياً؟ فقالت: وما يدريك! أنا أبحث عن السعادة، ولم أجدها إلى هذه اللحظة. ومرت الأيام فطلقها فتزوجت شاباً فرنسياً، وفي إحدى اللقاءات سألتها إحدى الصحفيات، وقالت لها: هل صحيح أنكِ أغنى فتاة على وجه الأرض؟ قالت: نعم. آخر الإحصائيات أنني أغنى فتاة على وجه الأرض، لكن أضيف أنني أشقى وأتعس فتاة على وجه الأرض أتعرف لماذا؟ {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125] إن السعادة ليست في المال، بعض الناس اليوم أغلى ما يتمنى في الدنيا أن يحصل على الملايين، اسمع أسئلة بعض برامج التلفاز: ماذا تصنع لو ربحت مليوناً؟ ثم هل تظن أن السعادة في المال؟ هل تظن أن السعادة تحصل على مليارات وملايين؟ أتعرف ماذا حصل للفتاة؟ بعد أيام وجدوها جثة هامدة مقتولة في أحد الشوارع!! هذه هي السعادة التي كانت تريد. أو تظن أن أصحاب القصور سعداء؟ يا من تسكن الغرف، وتنام على الحصير، وتأكل الكسرة اليابسة! لا تتوقع ولا تظن أن السعادة بالملايين! لا وربِّ، إن أسعد الناس هو النبي عليه الصلاة والسلام، وقد كان ينام على الحصير، ويجوع، ويخرج بعض الأحيان من بيته يبحث عن لقمة يسد بها جوعه، أكل ورق الشجر، يخفي بلال الطعام في إبطه ليعطيه النبي عليه الصلاة والسلام؛ ليأكل من الجوع وهو أسعد الناس عليه الصلاة والسلام، ولما خيره الله بين زهرة الدنيا وبين لقاء ربه، قال: (بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى) ولهذا قال الله له: {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:131]. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول ابن آدم: مالي! مالي! وليس لك يا بن آدم إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت).

الانترنت وخطورته

الانترنت وخطورته أخي الكريم! هل التفت إلى زوجتك؟ هل نظرت إلى أولادك وأبنائك؟ هل فكرت في إخوانك وأخواتك؟ هل فكرت فيمن خلفت في البيت الآن وأنت تسمعني؟ كيف يقضون الأوقات؟ هل تعرف إلى أين يخرج الأبناء والبنات؟ وعلى ماذا يسهرون؟ إنني أتعجب عندما أعلم أن بعض الآباء لا يعلم عن أبنائه وبناته شيئاً، بل لا يعلم عن زوجته إلى أين تخرج؟!! اسمع ما الذي حدث لهذه الفتاة!! تقول عن نفسها: كنت من عائلة معروفة ومحترمة، تزوجت من أحسن الشباب، وحسدني الناس على زواجي. تقول: دللني زوجي، وعشت معه أسعد حياة، حسدني الناس على هذه الحياة اسمع ما الذي حدث؟ وانظر إلى تلك المأساة، تقول: ومرت الأيام حياة سعيدة، سرور وفرح، نخرج ونتمتع في هذه الدنيا، لم يمنعني يوماً من الأيام من شيء طلبته، حتى جاء اليوم الذي تعلمت فيه شيئاً يسمى (الإنترنت) أسمعتم به؟ أظن أن بعض البيوت قد امتلأت بهذا الجهاز، تقول: فجاءني زوجي بالكمبيوتر بعد إلحاح شديد، وعلمني على الإنترنت، وكانت لي صاحبة تعلمني على كيفية استخدامه، ومرت الأيام حتى تعلمت ما يسمى (غرف المحادثة) دردشات وغيرها، فبدأت أتحدث مع الناس وزوجي يذهب إلى العمل وأجلس ساعات الصباح طولها وعرضها أمام الكمبيوتر عند (الإنترنت)، وكنت امرأة صالحة، لم أكن أفعل شيئاً من الحرام تقول: وكان أكثر حديث الناس في الإنترنت حديثاً ساقطاً ولا آبه به، حتى التقيت بشاب في (الإنترنت) كان من أفضل الشباب خلقاً، فكان يحدثني وأحدثه، وتقول: كيف أن بعض الآباء لا يدري أن بعض الغرف في (الإنترنت) صوت وصورة، تراه ويراها، حتى لا تحتاج البنت إلى أن تخرج من البيت، وبعض الغرف في (الإنترنت) فيها فساد الله أعلم به، وأنا لا أريد أن أفصل، حتى لا يستدل البعض على الحرام. تقول: وبعدها أخذت أتحدث مع الشاب كل يوم، ولم أفكر بالحرام يوماً، حتى تعلق قلبي به، فبدأت المشاكل تظهر مع زوجي، ساعات طويلة على الإنترنت، وكنت أحب زوجي، كان شاباً من أجمل الشباب وأحسنهم، ولكن أحببت ذلك الشاب أيضاً، ومرت الأيام حتى بدأ يواعدني إن طلقني زوجي أن يتزوجني، فظهرت المشاكل بيني وبين زوجي، فأخذ الكمبيوتر وحرمني منه، وشك فيّ بعد زمن، وأخذت أكلم صاحبي بالهاتف، فشك زوجي فيَّ ووضع جهاز تصنت على الهاتف، وبعد أيام اكتشف الفضيحة، وعلم بالأمر، تقول: وكان من أطيب الناس، لم يفضحني ولم يفعل فيّ شيئاً، فجاء إليَّ ووضع المسجل وسمعت منه المحادثة، فقلت له بعد أن بكيت: ماذا تريد؟ قال: اذهبي إلى بيت أهلك واطلبي الطلاق، وسوف آتي وأطلقك، وكأن الأمر لم يحدث. تقول: أحببته ولكن أحببت عشيقي أيضاً، وفعلاً ذهبت وطلبت من أهلي أن يطلقني زوجي، وفعلاً دمرت بيتي بنفسي. تقول: وبدأت أخرج مع العشيق، وكانت البداية من الإنترنت وألتقي معه، حتى بدأ يعاشرني، حتى بدأ يواقعني، واستمرت الفاحشة أياماً وشهوراً، وكلما كنت أقول له: متى الزواج؟ يقول لي: حتى أكون نفسي، آتي إليك غداً أو بعد غد حتى انقطع عني في يوم من الأيام، فاتصلت عليه فقلت له: يا فلان! متى تأتي للزواج مني؟ قال: أيتها الساقطة، قلت: ماذا؟ قال: أيتها الساقطة، أتظنين أحداً يفكر بالزواج منك؟ قالت لِمَ؟ قال: من خانت مرة ربما تخون مرة أخرى، وقال: أنا شاب أستمتع بك أياماً، لكن إذا فكرت في الزواج لن أبحث عنه في الإنترنت، الزواج أعرف طريقه، الصالحات أعرف طريقهن، أما أنتِ فساقطة أقضي معها بعض الوقت فقط. تقول الشابة: وأنا الآن قد تجاوزت الثلاثين من العمر، ولم يأت أحد لخطبتي ولا للزواج مني، ضاعت حياتي وأنا الآن أفكر بالانتحار!! تقول: وأنا أكتب الرسالة، وربما تصلكم وأنا منتحرة، وربما تسمعون حكايتي وأنا تحت التراب، فإن كنت قد مت فادعو لي بالمغفرة، وإن كنت لا زلت حية فادعو الله لي بالهداية، لعل الله عز وجل يهديني: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [النور:21]. بدايتها الإنترنت، وليس كل ما في الإنترنت حرام، هناك أمور صالحة، هناك دعوة إلى الله في الإنترنت، وطلب علم، ولكن انتبه! واحرص على أولادك، وانظر ماذا يشاهدون؟ وماذا ينظرون؟ حتى الهاتف، إنه سلاح ذو حدين، عندما تجلس الفتاة في غرفتها وتقفل على نفسها الباب، وتجلس في الغرفة إلى منتصف الليل تتكلم بالهاتف، ألا يدعو هذا إلى الشك والريبة؟ أين الأب والأم؟ أين الأولاد؟ وعندي قصص -والله- لو تكلمت إلى الفجر فلن أنتهي، كلها حقيقية، وفتيات بعضهن تكلمني بنفسها في الهاتف، والله يبكون الدم وليس الدمع، من المآسي التي وصلت إليها، وأولها اتصال، وربما نظرة، تقول بعضهن: أول ما خرجت من المدرسة إلى البيت، نهاية الدوام، نظر إليّ فكلمني، تقول: أول مرة ارتعدت فرائصي وارتجفت وخفت، ولكنها النهاية، تقول: وأنا الآن في وكر الرذيلة، أتعرف ما هو السبب؟ إنها خطوة بعد أخرى {لا تتبعوا خطوات الشيطان} [النور:21].

أي الخاتمتين تريد؟

أي الخاتمتين تريد؟ أخي الكريم! أختي الفاضلة! أي الخاتمتين تريد؟ أليس لهذه الحياة نهاية، أليس كل منا سوف يموت هل فكرت على أي حال سيقبض الله عز وجل أرواحنا؟ هل فكرت على أي حال تريد أن تلقى الله؟ ألا تعلم أنه ما من ميت يموت إلا بعثه الله على ما مات عليه؟

الخاتمة السيئة

الخاتمة السيئة اسمع إلى هذا الطبيب والقصة غريبة، يقول هذا الطبيب: كنت في إحدى المستشفيات في كندا -وهو مسلم- وفي يوم من الأيام لفت انتباهي في أسماء المرضى في العناية المركزة شاب اسمه فلان بن فلان، اسم من أسماء المسلمين، يقول: ففرحت، فذهبت إليه ونظرت إلى حالته، وللأسف! إنه مصاب بالإيدز وهو ينتظر الموت. يقول: فجلست عنده، واتصلت على أمه بالهاتف، فقلت لها: أنتِ أم فلان؟ قالت: نعم. قلت لها: ائت إلينا الآن أريد أن أتكلم معك، قالت: أنا مشغولة، عندي تجارة وأعمال، يقول: وأنا أتكلم معها سمعت جرس الإنذار على سرير المريض، فقلت لها: الآن تأتينا فالأمر ضروري جداً. يقول: وبعد ثلاثين دقيقة أتت، والأطباء عند رأس المريض، وبعد أن أخبرتها بالأمر، بكت وانهارت لما علمت أن ولدها سوف يموت، فقلت لها: اذهبي إليه، واقرئي عليه شيئاً من القرآن، فتعجبت وقالت: أو أنت مسلم؟ قلت: نعم. قال: اقرئي عليه شيئاً من القرآن، قالت: والله لا أحفظ آية من القرآن، قلت لها: فكيف تصلين؟ قالت: نحن أسرة متدينة، لكن لا نصلي إلا العيد. فقلت لها: أي دين هذا؟ قالت: نحن محافظون ومن أسرة متدينة، ابني كان عفيفاً وكان مستقيماً، ومرت الأيام ولم ينحرف إلا بعد أن تعرف على تلك الفتاة، وربما يسمع حديثي هذا من يعيش في بلاد الغرب، ربما أجبرته ظروفه على أن يعيش هناك، ولكن ينتبه على نفسه، فقلت لها: ائت معي نجلس عند رأسه، ربما نقرأ عليه شيئاً من القرآن، يقول: وذهبت عند رأسه وكانت حالته سيئة، يفيق ساعة ويغيب ساعة أخرى، ويتألم ألماً شديداً، والأطباء عند رأسه يقول: فلما أفاق رأيت وجهه قد اسود وأظلم، وعيناه تدمعان، فأخذت أكلمه وأقول له: قل: لا إله إلا الله أتعرف ماذا كان يقول؟ كان يقول: أين صديقتي؟ كنت أقول له: قل: لا إله إلا الله، فيقول لي: أين صديقتي؟ ولا زال على هذه الحال، وكان يقول: أريد مسكناً والألم شديد، فقلنا: لا ينفع معك مسكن ولا غيره، هذه اللحظات الأخيرة، وأنا أقول له: قل: لا إله إلا الله، وهو يقول: أين صديقتي؟ ائتوني بصديقتي، وهو يبكي على صديقته، حتى خرجت روحه وهو يقول: أين صديقتي؟ فلما مات انفجرت بالبكاء، ثم التفت إلى أمه فقلت لها وأنا أبكي: أنتم السبب، ضيعتم الأمانة، أعطاكم الله ولداً على الفطرة فانظروا إلى أي حال أوصلتم ابنكم (فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه) {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21].

الخاتمة الحسنة

الخاتمة الحسنة على النقيض من ذلك! يتحدث طبيب آخر ويقول: في لحظة من اللحظات جاءتنا في الطوارئ امرأة عمرها خمس وخمسون سنة والأطباء عندهم قصص غريبة؛ لأنهم يرون الأموات يرون الرجل في أول خطوة في العالم الآخر، يقول: فإذا امرأة عجوز عمرها خمس وخمسون سنة، فيها ذبحة صدرية، فوضعناها على الفراش، قلبها متوقف لا ينبض، فجئنا بالأجهزة الكهربائية، فوضعناها على صدرها مرة ومرتين وثلاث وأربع ربما يرجع نبض القلب، يقول: وفعلاً بعد أكثر من صدمة رجع نبض القلب مرة أخرى، أتعرف ما الذي حصل؟ يقول: فتحت عينيها ثم قالت: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله يقول: ففرحت، ثم أغمضت عينيها وماتت يقول: وكأن الله عز وجل رد روحها لتنطق الشهادتين، وهذه أغرب قصة وجدتها في المستشفى في حياتي {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27] يقول الطبيب: بعد أن فرغنا من الجنازة، ذهبت إلى زوجها بعد أيام، فقلت له: أخبرني ما شأن هذه المرأة؟ قال الرجل: هذه زوجتي منذ أكثر من خمسة وثلاثين عاماً لم تترك قيام الليل أبداً، إلا أن تكون معذورة العذر الشرعي. قال بعضهم: إذا ما الليل أقبل كابدوه فيسفر عنهم وهم ركوع أطار الخوف نومهم فقاموا وأهل الأمن في الدنيا هجوع لهم تحت الظلام وهم ركوع أنين منه تنفرج الضلوع

صور للخاتمة الحسنة والسيئة

صور للخاتمة الحسنة والسيئة أربعة شباب ما صلوا ولا صاموا ولا ذكروا ربهم، بعد إجازة ماجنة، كانوا في سيارة في إحدى الطرق السريعة، فانقلبت بهم السيارة، فمات ثلاثة من ساعتهم، أما الرابع فأدركه رجل المرور، فجاء إليه وقد تمزق جسمه والدم يسيل، وهو يحتضر ويلفظ أنفاسه الأخيرة، قال الشرطي النبيه العاقل: يا فلان! قل: لا إله إلا الله، قل: لا إله إلا الله! أتعرف بم رد عليه؟ قال وهو ينظر: هو في سقر، هو في سقر، هو في سقر. ثم مات وهلك: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:42 - 43]. بل اسمع إلى هذا المرابي، كان يأكل الربا في حياته ولا يبالي به، وقبل الموت قيل له: يا فلان! قل: لا إله إلا الله، فقال: عشرة بخمسة عشر، قال: يا فلان! قل الشهادتين، قال: عشرة بخمسة عشر، قال: قل: لا إله إلا الله، قال: عشرة بخمسة عشر، ثم مات وهو يلفظ الربا {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ} [البقرة:27] أي: يوم القيامة {لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا} [البقرة:27]. اسمع إلى هذا الرجل في إحدى المؤتمرات في دولة خليجية، كان هناك شابٌ صالح عسكري واقف مع الجنود، يقول صاحبه: كان أمامي وكان دائماً يذكرنا بالصلاة، وكان في الصف العسكري جالساً، والرجل الذي بخلفه يعبث بالسلاح، وذلك قبل أن يدخل الرؤساء، وكنت بجانبه، يقول: وأثناء عبثه بالسلاح أخطأ فانطلقت رصاصة من سلاحه، فوقعت على رأس صاحبي من الخلف، فسقط على الأرض، فوالله لقد رأيت مخه قد خرج من رأسه، وكان السلاح قوياً؛ لأنه كان قريباً من الرأس، يقول: خرج المخ من رأسه قطعة واحدة، فلم أتدارك نفسي إلا وأنا عنده، فنظرت إليه وهو في أنفاسه الأخيرة، فقلت له: يا فلان! قل: لا إله إلا الله، كيف يقولها والمخ قد خرج من الرأس؟ أي ذاكرة؟ أي عقل؟ أي مخ؟ يقول علماء الطب: انتهت الذاكرة كيف يتكلم؟ يقول: والله لقد رأيت مخه خارج رأسه وهو يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله. يقول: ثم خرجت نفسه من جسده إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، إن شاء ثبتها، وإن شاء أزاغها، ذلك بأنهم زاغوا: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5].

أثر الدعاء

أثر الدعاء اسمع يا أخي الكريم أيها الأخ العزيز! يا من أصيب بالمرض! اسمع إلى هذا الرجل الذي أصيب بمرض رجل دكتور في إحدى الجامعات في مصر، وهذا الرجل كان يعرف ربه جل وعلا، ذهب إلى إحدى البلاد الغربية بريطانيا، ففحصوا جسمه وقالوا: إن مرضك شديد، والقلب ضعيف، ولا بد من عملية جراحية خطرة، ربما تعيش أو لا تعيش، قال: أذهب إلى أولادي وأرجع الأمانات إلى أصحابها وأستعد ثم آتيكم. قال الأطباء: لا تتأخر؛ لأن حالتك شديدة، فرجع إلى بلده وجلس عند أولاده وأخذ يصبرهم، فربما لا يرجع إليهم مرة أخرى، وسلم على من يشاء، واستعد للقاء الله عز وجل يقول: فذهبت يوماً من الأيام عند أحد أصحابي لأسلم عليه في أحد المكاتب، وكان عند المكتب جزار، فنظرت وأنا جالس في المكتب عند الجزار إلى امرأة عجوز، بيدها كيس تجمع العظام والشحم واللحم الساقط على الأرض من القمامة، فقلت لصحابي: انتظر! وذهبت إلى العجوز، واستغربت من حالها! فقلت لها: ماذا تصنعين؟ فقالت: يا أخي! أنا لي خمس بنيات صغيرات لا أحد يعولهن، سنة كاملة لم تذق بنياتي قطعة من اللحم، فأحببت إن لم يأكلن لحماً أن يشممن رائحته! يقول: فبكيت من حالها، وأدخلتها إلى الجزار، وقلت للجزار: يا فلان! كل أسبوع تأتيك هذه المرأة فتعطيها لحماً على حسابي، فقالت المرأة: لا، لا نريد شيئاً فقال: والله لتأتين كل أسبوع، فتأخذي ما شئت من اللحم، قالت المرأة: لا أحتاج أكثر من كيلو واحد، قال: بل اجعلها اثنين كيلو، ودفع مقدماً لسنة كاملة، تأتي المرأة كل أسبوع تأخذ اثنين كيلو من اللحم، يقول: ورجعت إلى البيت فأحسست بالسعادة؛ لأنني عملت عملاً فرحت به، فلما دخلت إلى البيت جاءت ابنتي، وقالت لي: يا أبي وجهك متغير، كأنك فرح، فلما أخبرتها بالقصة أخذت تبكي، وكانت ابنتي عاقلة، فقالت: يا أبي! أسأل الله أن يشفيك من مرضك كما أعنت تلك المرأة. يقول الرجل: ولما أعطيت المرأة ثمن ذلك اللحم أخذت تدعو لي وهي تبكي، يقول: فأحسست بنشاط كبير، وهمة عالية، فلما ذهبت إلى الأطباء لأجري العملية، قال الطبيب مغضباً: أين تعالجت؟ فقلت: ماذا تقصد؟ قال: أسألك أين ذهبت؟ إلى أي مستشفى؟ قال: والله ما ذهبت إلى مستشفى، وإنما سلمت على أولادي ورجعت، قال: هذا غير صحيح، قلبك ليس به مرض أبداً، قال: ماذا تقول يا طبيب؟ قال: أنا أخبرك أن القلب سليم، إما أن يكون الرجل لست أنت، أو أنك ذهبت إلى مستشفى آخر، ثم قال: أرجوك أن تعطيني دواءً من الذي أخذت. قال: والله لم آخذ شيئاً، إلا دعاء امرأة عجوز وبنتي الصالحة. أتعرف لِمَ؟ لأن الله عز وجل يقول: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً} [المزمل:20].

قصة من الشيشان

قصة من الشيشان وهذه قصة حدثت في الشيشان، وسوف أنقلكم إلى بلد آخر، وإلى مجتمع آخر، إلى أناس عانوا الويلات ثم الويلات، تخيلوا ذلك البيت في إحدى الليالي، طرق الباب بقوة رجل وامرأة وعنده بنت فتاة شابة، وولد صغير، فطرق الباب بقوة، من؟ إنهم الروس (الشيوعيون) في آخر الليل، ما فتحوا الباب إنما كسروه ودخلوا البيت في آخر الليل، فهب الأولاد من نومهم، الشابة والصبي، ما الذي حدث؟ أخذ الأب بقوة، وضرب أمامه الأولاد، ثم قيد واغتصبت الأم والشابة أمام مرأى الأب والصبي الصغير صبي صغير يبكي ويصيح لكن ماذا يصنع وماذا يفعل؟! ولما اغتصبت الأم والفتاة والأب ينظر وضعوا السلاح في رأس الأب ثم قتلوه، ثم خرجوا يمشون يقول الشاعر عن هذا الطفل بلسان حاله، وكأنه يكلم جثة أبيه: نسبى ونطرد يا أبي ونباد فإلى متى يتطاول الأوغاد وإلى متى تدمي الجراح قلوبنا وإلى متى تتقرح الأكباد نصحو على عزف الرصاص كأننا زرع وغارات العدو حصاد أو ما لنا في المسلمين أحبة فيهم من العازي الميت سداد يا ويحنا ماذا أصاب رجالنا أو ما لنا سعد ولا مقداد أواه يا أبتي على أمجادنا يختال فوق رفاتها الجلاد لا تخش يا أبتي عليّ فربما قامت على عزم الصغير بلاد ميعادنا النصر المبين فإن يكـ ـن موت فعند إلهنا الميعاد دعنا نمت حتى ننال شهادة فالموت في درب الهدى ميلاد أسمعت بقصص مثل هذه في البوسنة والشيشان، وفي غيرها من بلاد المسلمين؟ أين المعتصم؟ أين شباب المسلمين؟ أين الذين انغمسوا في الشهوات؟ لا هم لهم إلا الشهوة، والكأس والخمر، إلى متى يعيشون في هذه الحياة؟

هذا زرعك وهذا حصادك

هذا زرعك وهذا حصادك ونختم بقصة محفظ، يقول المحفظ: كانت عندي حلقة في أحد المساجد، ودخل علينا شاب وكان يجلس وفي بيده مصحف كأنه يريد الحضور معنا، ولكنه مستحياً، فجئته يوماً فقلت له: أتحب أن تشاركنا، قال: أنا أحب القرآن، وأتمنى أن أشارككم، وفعلاً دخل الشاب وكان عمره خمسة عشر عاماً، فصار من أنشط الشباب في حفظ القرآن، حتى جاء اليوم الذي بدأ يغيب فيه، فجئته يوماً وتمشيت معه عند البحر، وقلت له: ما الذي جرى لك؟ ما الذي حدث؟ قال الشاب: إن أبي لا يحب الملتزمين، ولا يحب أهل القرآن، وفي يوم من الأيام اكتشف أني معكم في حلقات القرآن، وكنت على العشاء، ودخل في ليلة من الليالي عبوساً مغضباً، فدخل وجلس ولم يتجرأ أحد منا على الكلام، كعادته، فقال لي: يا فلان! سمعت أنك تمشي مع المطاوعة! فقلت له: نعم يا أبي! فإذا به يأخذ إبريق الشاي، فرماه في وجهي -وعمره خمسة عشر عاماً- يقول: ولم أجد إلا حضن أمي يحتضنني، ومرت الأيام وأنا صابر، حتى جاءني اليوم الذي كنت فيه على العشاء، وأردت الأكل، فقال لي: يا فلان! قم ولن تأكل معي يوماً من الأيام على سفرة واحدة. يقول: فقمت ومشيت، ولما مشيت دفعني فسقطت على الأرض، وعمري خمسة عشر عاماً، فقلت: سوف أكبر يا أبي وسوف أرد لك الضربة ضربتين، وسوف أفعل فيك كما تفعل فيّ الآن، فقلت له: يا فلان! هذا أبوك والبر مطلوب، مهما فعل الأب، فإن فضله كبير، يقول: فصبرته وقلت: سوف أزور أباك غداً، وجئت في اليوم الثاني وطرقت الباب، ففتح الباب بقوة، فلم أبدأ بالكلام، حتى قال لي: ربما أنت الذي تحفظ ولدي، قلت له: نعم. قال: إن رأيت ابني معكم يوماً من الأيام كسرت رجلك التي تمشي عليها، فلما أردت الذهاب بصق في وجهي ثم دخل، فقلت في نفسي: لقد فعل برسولنا عليه الصلاة والسلام أكثر من هذا فصبر، ولست أفضل منه. يقول: وفعلاً انقطع خالد عن الحلقة، ومرت السنون والأعوام، وفي ليلة من الليالي صليت العشاء، وبعد الصلاة جاءني رجل كبير، فسلم عليّ فنظرت إليه فإذا هو أبو الشاب، فوجدت وجهه قد تغير، فقال لي: أريد أن جلس معك، فقلت له: كيف خالد؟ فبكى وقال: تعرف خالد لقد تغير، تعرف على رفقة من الرفق السيئة، وأصبح لا يأتي إلينا إلا منتصف الليل، عيناه أصبحت حمراوتان، وجهه تغير، وجسمه أصبح نحيفاً هزيلاً مضطرباً، وبدأ يرفع صوته عليّ، وفي يوم من الأيام لما بدأت أهدده حتى لا يذهب مع أصحاب السوء، فلقد وقع في المخدرات والرذيلة، ولما هددته ضربني بيده، قال: هل تصدق ابني يضربني! يقول: فلما انتهى من حديثه قلت له: ماذا تريد؟ قال: أريد أن يرجع معكم إلى الحلقة، أن يرجع معكم إلى تحفيظ القرآن، قلت له: يا فلان! هذا زرعك وهذا حصادك، اجني حصادك اليوم على ما زرعت يداك، ثم قلت له: لا بأس سوف نحاول في ولدك، ولكن هذا ما جنته يداك. مشى الطاوس يوماً في اختيال فقلد شكل مشيته بنوه قال علام تختالون قالوا سبقت به ونحن مقلدوه وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوده أبوه قال الله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:92 - 93]. أخي العزيز! عندي قصص كثيرة ربما لم أذكر إلا نصفها، لكن أدعها لجلسة أخرى، ولكن اجعل هذه القصص عبرة لنفسك، ثم انقلها لغيرك، فربما يتعظ بعض الناس بقصة، وربما يعتبر بعض الناس بهذه الأحاديث ويجعل منها عبرة، انقلها إلى غيرك، ربما يهدي الله عز وجل على يديك بعض الناس. أسال الله عز وجل أن تكون هذه القصص لنا ولغيرنا عبرة. أقول هذا القول، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

كفى بالموت واعظا

كفى بالموت واعظاً كفى بالموت واعظاً حول هذا الموضوع تكلم الشيخ حفظه الله؛ مبيناً أن الموت حقيقة لابد منها، ثم تكلم عن مواقف من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم لنأخذ العبرة والعظة منها، موضحاً الفرق بين الحسنة والسيئة وذاكراً بعض الصور لهما، وفي الأخير ذكر أنه لابد من الاستعداد للموت بالأعمال الصالحات.

حقيقة الموت

حقيقة الموت إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أما بعد: أيها الإخوة المسلمون! إن الموت حق، وإن الدنيا إلى زوال، وإن اللحظات التي تمر الآن، والدقائق التي تمضي تقربنا إلى آجالنا، والله عز وجل قبل أن ينادي الناس لصلاة الجمعة، وقبل أن يأمرهم أن يذهبوا إلى خطبة الجمعة وإلى صلاتها واستماع الذكر فيها، أمرهم أن يتذكروا قضية الموت، فقال سبحانه: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ} [الجمعة:8] مهما فررت ومهما هربت سل الأموات: هل كلكم مات مريضاً؟ هل كلكم مات كبيراً؟ هل كلهم مات بسبب أم أن كثيراً من الأموات مات هكذا؟ إنه لم يكن مريضاً، لم يكن كبيراً، لم يكن شيخاً، لم يمت بسبب إنما مات فجأة، كما قال الله جل وعلا: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:78] ولو كنت في المستشفى، أو بين الأطباء، أو بين الأحباب، ولو كانت عندك الأماني والأحلام {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ} [النساء:78].

مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته

مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته في شهر صفر من السنة الحادية عشرة للهجرة مرض أفضل الخلق عليه الصلاة والسلام، فسقط على الفراش، فجاء أهله وأحبابه يمرضونه ويجلسون عند رأسه؛ فاستأذن زوجاته أن يبيت عند أحب الناس إليه الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها، فجلس عندها تمرضه، وربما سُكِبَ الماء عليه لتخفض درجة الحرارة عنده صلى الله عليه وسلم، فأصيب بالحمى الشديدة، حتى قيل له: إنك تمرض لا كالناس. قال: نعم. أمرض لا كمرضكم، ثم أمر الصحابة أن يجعلوا أبا بكر يصلي بهم، فقال: (مروا أبا بكر فليصلّ بالناس) فلما صلى أبو بكر بالناس فتح النبي صلى الله عليه وسلم الستار، ولم يكن بينه وبين المسجد إلا ستار، ففتحه ونظر إلى أصحابه وهم يصلون خلف الصديق رضي الله عنه؛ فابتسم وفرح وقال: (يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر) لا يرضون إلا بـ أبي بكر رضي الله عنه، هي إمامة في الصلاة لكنها الإمامة والخلافة، وقيادة الأمة. ويرجع النبي عليه الصلاة والسلام إلى فراشة، وتمر الأيام، ويخيم على المدينة حزن شديد أين رسولهم؟ أين نبيهم؟ أين حبيبهم؟ أين قائدهم؟ ما باله لا يصلي بنا؟ ما الذي ألم به؟ ما الذي جرى له؟ وتمر الأيام فيزداد كربه، فتدخل عليه فاطمة -رضي الله عنها- فتبكي وتقول: (واكرب أبتاه! واكرب أبتاه! فيقول لها: يا فاطمة! لا كرب على أبيك بعد اليوم). وفي أيامه الأخيرة يذهب إلى البقيع قبل أن يشتد به المرض، ويستغفر لأموات المسلمين لم يبقَ إلا هذه الأيام وهذه السويعات، يذهب إلى المقبرة فينظر إليه أحد الصحابة في الليل فيقول له النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله خيرني بين البقاء في الدنيا والملك وبين لقاء ربي والجنة. فقال الصحابي: يا رسول الله! اختر البقاء في الدنيا والملك، قال: لا. بل اخترت لقاء ربي والجنة). وقبل أن يشتد به المرض قال في آخر خطبة له بين الصحابة: (إن عبداً خيره الله بين زهرة الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عند الله) فسكت الصحابة، وإذا بأحدهم يبكي وينفجر بالبكاء؛ فينظر الصحابة فإذا هو أبو بكر، علم أن المخير هو رسول الله، خيره الله بين الدنيا وبين لقائه، فاختار النبي عليه الصلاة والسلام لقاء الله عز وجل. اشتد المرض، وظل أبو بكر يصلي بالناس ثلاثة أيام، ثم جاءت الساعات الأخيرة، فاختار النبي صلى الله عليه وسلم وأبى إلا أن يموت ورأسه في حضن عائشة الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها، فوضع رأسه في حجرها لما ألم به المرض، واشتد به الكرب، وضاقت به الدنيا لم تضق به إلا ورأسه عند عائشة رضي الله عنها، ودخل أخوها عبد الرحمن فرآه النبي صلى الله عليه وسلم يتسوك، قالت عائشة: (فقلت: آخذه لك؟ فأشار برأسه أن نعم. فأخذت السواك فقضمته وطيبته ثم دفعته إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فاستاك به، ثم نظر إلى السماء، ثم قال: بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى، ثم لفظ الشهادة، ثم فاضت روحه الطيبة إلى بارئها).

موقف الصحابة من نبأ وفاة النبي صلى الله عليه وسلم

موقف الصحابة من نبأ وفاة النبي صلى الله عليه وسلم مات النبي مات الرسول ذهب الحبيب إنها أعظم مصيبة على وجه الأرض، كيف لا وهو أحب إلينا من آبائنا وأمهاتنا وأبنائنا؟ مات عليه الصلاة والسلام ووضعته عائشة على الفراش وغطته، وانتشر الخبر بين الصحابة، فإذا بالصحابة بين مصدق ومكذب، أما عمر فلحبه للنبي صلى الله عليه وسلم قال: [من زعم أن محمداً قد مات فلأضربنه بهذا السيف، إن محمداً ما مات، بل ذهب يناجي ربه كما وعد الله عز وجل موسى وسيرجع] والصحابة لا يدرون ولا يعرفون هل مات حقاً أم لم يمت؟ فسمع أبو بكر بالخبر، فأسرع إلى بيت ابنته عائشة فاستأذن ودخل؛ فلما رآه قد غطي بالفراش أزال الغطاء عن وجهه ثم قبله بين عينيه، ثم قال: [طبت حياً وميتاً -يا رسول الله- والله لا يذيقنك الله الموت مرة أخرى] يقبله أبو بكر، ويتذكر أياماً قام فيها على الصفا يقول: إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، يتذكر أياماً وهو يطوف حول الكعبة وحولها ثلاثمائة وستون صنماً يتذكر أياماً كان يقودهم في المعارك وفي الجهاد في سبيل الله، ويقول: (أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب) يتذكر أياماً يبكي النبي صلى الله عليه وسلم بين أيديهم وهو يعظهم، فتذرف العيون، وتدمع القلوب يتذكر أياماً يجلس النبي صلى الله عليه وسلم بينهم فيضحك الصحابة ويبتسم عليه الصلاة والسلام يتذكر أياماً يسلم النبي صلى الله عليه وسلم على الصبيان، ويمسح على رأس الأيتام، ويجلس مع الوفود يعلمهم دين الله عز وجل أين هذا الرسول الذي كلما ألمت بنا المصائب ذهبنا إليه وجلسنا عنده يعلمنا ويفهمنا ويجيبنا إذا سألناه أو استفتيناه أين هذا النبي؟ لقد غادر الحياة الدنيا، فدمعت عينا أبي بكر، وخرج إلى الناس وهم بين مصدق ومكذب ومذهول ومتعجب! هل هذا الخبر صحيح أم لا؟ نظر إلى عمر وهو يهدد الناس، فقال: يا عمر! اجلس، وعمر لا يسمع الكلام ولا يعلم ما الخبر، كان يقول: [من زعم أن محمداً قد مات ضربته بهذا السيف] فقال: يا عمر! اجلس، فلم يجلس، فقام أبو بكر في الناس خطيباً، فاجتمع الناس عنده لا يجتمعون عند غيره رضي الله عنه، فجلس الناس فقال: [أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم قرأ قول الله عز وجل: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144] يقول الصحابة: كأننا أول مرة في حياتنا سمعنا هذه الآية، وكأننا ما سمعناها من قبل، فردد الصحابة بين الناس: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران:144]]. ومن هول الصدمة ظل النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام وليلتين لم يدفن، والناس يصلون عليه ويستغفرون له ويتشاورون: ماذا نصنع؟ غاب القائد غاب القدوة غاب الحبيب، ثم دفن، فقال أنس: [لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة أنار في المدينة كل شيء، ولما مات أظلم في المدينة كل شيء] تقول ابنته فاطمة وهي تبكي: كيف استطعتم أن تحثوا التراب على وجه رسول الله؟ كيف فعلتموها؟ كيف دفنتموه؟ قال الله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]. من كان يظن أنه سيخلد في هذه الدنيا فليعلم أن أحب الناس إلى الله قد مات، وأن أفضل خلق الله قد مات، فلن يبقى في الدنيا أحد: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء:34] أيظن أولئك الذين يجمعون الأموال، ويكدسون الأرصدة، ولا يبالون بالأموال أهي من حلال أم من حرام {الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} [الهمزة:2 - 3] لا تظن -يا عبد الله- أن الأموال تبعدك من الموت، وأن الرياضة تبعدك من الموت! نعم. نحن نبذل الأسباب، ولكن الموت حق {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} [الرعد:38] {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً} [ل عمران:145].

الخاتمة الحسنة والخاتمة السيئة

الخاتمة الحسنة والخاتمة السيئة اعلم -يا عبد الله- أن من الناس -والعياذ بالله- من يموت ولكنه على سوء ختام، فهذا رجل مات وهو يشتم ربه جل وعلا، أصيب بمرض فاشتد به المرض فقيل له: قل: لا إله إلا الله، فقال: ربي هو ذا يظلمني! أرأيت؟! يسب ربه قبل أن يموت، وصاح وهو يقولها: ربي هو ذا يظلمني! ومنهم من تأتيه البشارة في الدنيا قبل الآخرة، يموت وهو يسبح الله، ومنهم من يموت وهو يصلي، ومنهم من يموت وهو ساجد، ومنهم من يموت وهو يقرأ القرآن كـ عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- الذي مات وهو يقرأ قول الله عز وجل: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83] ثم خرجت روحه. أسمعت بـ هارون الرشيد؟ هارون الرشيد كان يحج عاماً ويجاهد عاماً، وعمل من الصالحات الكثير والكثير، ومات وهو يبكي ويقول: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ} [الحاقة:28] ماذا استفدت من أموالي؟ ماذا استفدت من هذه الثروات؟ {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28 - 29]. بل اسمع -يا عبد الله- إلى بشر قد ماتوا وهم يتعاطون المخدرات، يقول لي أحد رجال الداخلية: لما اقتحمنا الشقة وكسرنا الباب وجدت رجلاً قد مات قبل أيام وقد تعفنت رائحته، وامتلأت الحشرات والدود في جسمه، مات قبل أيام ولم يصلِ عليه أحد، مات قبل أيام ولم يستغفر له أحد، مات قبل أيام ولم يشعر به أحد، يقول: الغريب أنني وجدته على هيئة سجود وأمامه إبر المخدرات {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [الأنبياء:35] هل أنت منهم أم لست منهم؟ كأنني أراك تظن أنك لست منهم، كأنني أراك تعمل عملاً وتظن أنك لست بميت، ونحن في الحقيقة أموات ولسنا بأحياء، ألم يقل الله لنبيه ولصحابته وهم أحياء: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] فمالي أراك لا تستعد لقبرك لا بشيء من قيام الليل، ولا بصيام النهار، ولا بقراءة القرآن، ولا بالباقيات الصالحات أين الباقيات الصالحات؟ أين قولك: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وذكرك لله جل وعلا؟ مالي أراك كأنك مخلد في الدنيا وكأنك تعيش حياة من لا يموت؟! اسمع إلى نبي الله سليمان كان جالساً بجانبه رجل، فدخل عليهم رجل ثالث، فلما دخل الرجل الثالث أخذ ينظر إلى صاحب سليمان نظراً محدقاً مفزعاً، فخاف صاحب سليمان، فلما خرج الرجل الثالث قال صاحب سليمان: يا نبي الله! من هذا الذي دخل؟ قال: لم تسأل؟ قال: رأيته ينظر إلي نظراً مخيفاً. قال: هذا ملك الموت. قال: يا نبي الله! احملني إلى أي بلد بعيدة فإني أخاف منه -وقد سخر الله له الريح والجن- فحمله إلى بلاد بعيدة في أقصى الدنيا، فلما نزل في تلك البلاد قبض ملك الموت روحه، فرجع ملك الموت إلى سليمان، فقال سليمان عليه السلام: يا ملك الموت! أخبرني عن قصة هذا الرجل. قال ملك الموت: هذا قصته عجيبة! قال: وما عجبها؟ قال: هذا رجل أمرني ربي أن أقبض روحه بعد لحظات في بلاد بعيدة، فوجدته عندك فتعجبت، وقلت: كيف يأمرني ربي أن أقبض روحه في تلك البلاد البعيدة وهو جالس عندك؟! فعجبت من أمره وقلت: أمر الله لا يتخلف، فذهبت إلى تلك البلاد البعيدة فوجدته ينتظرني!! {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة:8]. أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الاستعداد للموت

الاستعداد للموت الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. أما بعد: أيها الإخوة الكرام: الموت حق، وقل للأموات جميعاً إن كانوا يجيبون: هل منهم من قضى حاجته؟ هل منهم من أدرك آماله وأحلامه؟ هل منهم من حقق أمنياته؟ لا أظن هذا، بل أكثر الناس لو خرجوا من قبورهم لندموا على حياتهم على جلسة لم يذكروا الله فيها، فكيف بجلسة فيها حرام؟ كيف بسهرة فيها حرام؟ كيف بليلة حمراء يعاقرون الحرام، ويشربون الحرام، ويأكلون الحرام؟ تواعد ثلاثة نفر في ليلة حمراء يفعلون الفواحش -أجاركم الله- ويشربون الخمور، وفي الثلث الأخير من الليل قال أحد السكارى: سوف آتيكم بعشاء، وخرج بسيارته ولم يرجع، تأخر، فذهبوا في الثلث الأخير من الليل يبحثون عنه في الطرقات، يقول صاحبه: فوجدنا في ظلام الليل ناراً من بعيد فأسرعت باتجاه النار، فوجدت سيارة صاحبي تحترق قد أظلمت فيها النار، فجذبت صاحبي من بين النار، فأخذته وقد تفحم واحترق في الدنيا قبل أن يموت، فوضعته في سيارتي ولا يزال فيه نفس، ولا زالت به الروح، فأسرعت به إلى المستشفى ماذا صنع آخر حياته؟ لا تقل: آخر مرة أفعلها ثم أتوب، وهل تضمن أن الله يمهلك؟ لا تقل: هذا الربا آكله ثم أتوب، لا تقل: ألقاها وأواعدها وأنام معها ثم أتوب، هل تأمن مكر الله؟ {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99]. يقول: وضعته في السيارة وأسرعت به إلى المستشفى، وفي الطريق سمعت صوتاً غريباً يخرج منه ويقول: كيف أجيبه؟ كيف ألقاه؟ بِمَ أرد عليه؟ إذا سألني ماذا أقول له؟ فقلت له: من تقصد؟ من تريد؟ قال لي: الله بماذا أجيبه؟ {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا} [المؤمنون:99 - 100] كذاب، نعم. يكذب كلما قرر التوبة، وقديماً كان يتراجع عنها {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100]. أتعرفون كم مليون إنسان في الأرض يموت؟ أتعرفون ما السبب؟ يموت وهو مريض بمرض الإيدز، ملايين يموتون، وملايين مهددون بالموت، والمرض ينتشر أكثر وأكثر، بل سمعت رجلاً ما زنا في حياته إلا مرة واحدة، سولت له نفسه فسافر إلى بلد فارتكب الفاحشة، ثم رجع إلى بلده وربما استقام وبعد أيام اكتشفوا أنه يحمل مرض الإيدز {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [القلم:44 - 45] والمصيبة أن زوجته ملتزمة وصالحة، فحملت منه مرض الإيدز إنا لله وإنا إليه راجعون! إذا ما خاف الناس من عذاب الله ومن عذاب الآخرة ألا يخافون من عذاب الدنيا؟ ألا يخافون من ابتلاءات الدنيا من الفضيحة والعار والأمراض والفتن والبلاء؟ ألا يخاف آكل الربا؟ إن لم يخف أنه يدخل في نهر من دم في قبره ويخرج يوم القيامة مصروعاً كالذي يتخبطه الشيطان من المس، ويعطى يوم القيامة رمحاً يُقال له: بارز ربك الآن {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279] يبارز من؟ بارز ربك الآن، إن لم يخف آكل الربا من هذا كله، ألا يخاف في دنياه أن يحاربه الله في أولاده في أطفاله في جسده في صحته ألا يخاف؟ ما بال الناس لا يخافون؟ نعم! إن رحمة الله واسعة، وباب التوبة مفتوح، والله يغفر كل ذنب إذا تاب الإنسان قبل أن تبلغ الروح الحلقوم، وقبل أن يصل الإنسان إلى الغرغرة؛ فإن الله يقبل التوبة {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] (من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه). فلنسرع ولنقدم نجوانا بين يدي الله، ولنسرع إلى طاعة الله، ولنتب من ذنوبنا ومعاصينا؛ لعل الله أن يكفر عنا سيئاتنا. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اللهم أعداءك أعداء الدين، اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر. اللهم انصر عبادك المجاهدين في كل مكان، اللهم سدد رميهم، اللهم ثبت أقدامهم، اللهم اجمع كلمتهم، اللهم رص صفوفهم يا رب العالمين، اللهم عليك بأعدائنا وأعدائهم يا رب العالمين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك. اللهم منزل الكتاب، مجري السحاب، هازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم يا رب العالمين. اللهم فرق جمعهم، اللهم شتت شملهم، اللهم اجعل الدائرة عليهم، اللهم أنزل عليهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً. اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.

نصيحة للشباب

نصيحة للشباب الأموات صنفان: صنف يموت على طاعة الله ويختم له بخاتمة حسنة، وصنف آخر يموت على معصية لله ويختم له بخاتمة سيئة. وفي هذا الدرس نقرأ تصوراً للرحلة التي سيرحلها كل إنسان وجد على هذه الأرض (رحلة الدار الآخرة). وهناك نصيحة موجهة لكل مسلم رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً.

الفرق بين الخاتمة الحسنة والخاتمة السيئة

الفرق بين الخاتمة الحسنة والخاتمة السيئة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. ثم أما بعد: حقٌ على النصيحة ألا تكون طويلة، فإن شاء الله لن نطيل في الكلام إلا إن احتجت إلى بعض القصص والمواقف، فنستسمح منكم -أيها الإخوة- أن نستقطع من وقتكم الثمين هذه الدقائق.

قصتان ختم لصاحبيهما بسوء

قصتان ختم لصاحبيهما بسوء ثلاثة شباب لا يعرفون من الدنيا إلا اللعب، واللهو، والطرب، والأغاني، والنساء، ذهبوا إلى مكانٍ يستمتعون مع النساء تخيل ماذا يفعلون؟! فلما جاء الليل قال أحد الثلاثة: سوف أذهب لآتي بالعشاء فذهب، فبقي اثنان، فتأخر الرجل، فانتظرا فلم يأتِ، فقال أحدهما: سوف أذهب لأنظر ما الذي أخره، فخرج بسيارته وفي أثناء الطريق رأى سيارة تحترق، فتوقف، ثم نزل يبحث داخل السيارة فإذا صاحبه يحترق، أخرجه بسرعة ونظر إليه وهو يصرخ ويقول: النار، النار، النار، يقول: أخذته في السيارة ولا زال يلفظ أنفاسه الأخيرة، يقول: فأسرعت بالسيارة إلى المستشفى وأنا أنظر إليه، فتخنقني العبرة، فتوقفت ليلفظ أنفاسه الأخيرة، نظرت إليه فإذا به يريد أن يتكلم، فكان يردد ويقول: ماذا أقول له؟ ماذا أقول له؟ فقلت له: من هو؟ يقول: فخرج بصوتٍ كأنه من بئر فقال: الله، الله، ثم خرجت روحه، فبكى صاحبه يقول: وكانت بدايتي للهداية إلى هذا الطريق طريق الاستقامة. استمع إلى موقفٍ آخر: رجلٌ من أهل الخليج، كبيرٌ في السن، لا يعرف من الدنيا إلا الخمور، سافر إلى دولة غربية، دخل في غرفة الفندق، وأغلق على نفسه الباب بعد أن جمعت الغرفة زجاجات الخمور، فأخذ يشرب ويشرب حتى أحس بالغثيان، دخل -أجلكم الله- في دورة المياه ليرجع ما شربه، انتظره أهل الفندق يوماً أو يومين أو ثلاثة فلم يخرج من غرفته، طرقوا عليه الباب فلم يجب، ثم كسروا عليه الباب وفتحوا فإذا برأسه في مكان المجاري، وقد زهقت روحه قبل ثلاثة أيام. قصة ثالثة:

قصة صحابيين ختم لهما بخير

قصة صحابيين ختم لهما بخير استمع -عبد الله- قبل أن أبدأ بالنصيحة، إلى بلال بن رباح مؤذن رسول الله، تحضره الوفاة أتدري ماذا قال قبلها؟ غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه ثم نطق بالشهادة وخرجت روحه. حرام بن ملحان، يضرب بخنجرٍ في صدره قبل الموت، فأخذ الدم ومسح به وجهه، ثم قال:: [الله أكبر! فزت ورب الكعبة الله أكبر! فزت ورب الكعبة].

السبب في خاتمة السوء

السبب في خاتمة السوء عبد الله: انظر إلى هؤلاء وأولئك أتعرف الفرق بينهما؟ الفرق أن الأول كان يريد الدنيا: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ} [هود:15]. إذا قلت له: ما أمنيتك في الحياة؟ قال: أصير لاعباً. وإذا قلت للآخر: ما هدفك في الدنيا؟ قال: أصير مطرباً. وإذا قلت لآخر: ماذا تريد من الدنيا؟ قال: الشهادة الدنيوية، والمال، وذاك البيت، وهذه السيارات وهذا ماذا يريد؟ {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ} [هود:15] حتى يصير مطرباً وصورته في الجرائد، أو لاعب كرة ويعطى أعلى الجوائز، أو يصبح له أعلى الشهادات وأكثر الأموال، ويركب أفخم السيارات، ثم ماذا؟ {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:16]. والشاب الذي تمتع في الدنيا ما بين لعبٍ ولهو، وأغانٍ وسفر، وسيارات وعاهرات وغيرها من الملهيات، فأتته ساعة الوفاة وهو يلعب، أو وهو نائم، أو وهو يضحك أو يلهو، أو في السيارة، وتذكر صاحباً لك، جيء بخبره أتذكر فلاناً؟ نعم. كان معنا في المدرسة، أو كان يلعب معنا الكرة، أو كان يقود السيارة. شاب صغير توفي بحادث انقلبت به السيارة وزهقت نفسه، تخيل أنك هو! أتته ساعة الوفاة، فإذا به ينظر من هذا؟ إنه ملك الموت، ما الذي أمامه؟ إنهم ملائكة، مد البصر، لقد خاف وارتعد، واضطرب وصرخ، وبدأ ملك الموت يجر الروح، من شدة الخوف لا تخرج الروح، إنما تتوزع في الجسد، وملك الموت ينزع الروح وهي تثبت، حتى تتقطع العروق والمفاصل، فلو رأيت حاله في تلك اللحظة لرأيته يصيح ويبكي، بل لعله كان رجلاً شجاعاً، فتراه ينتفض ما باله؟ إن ملك الموت ينتزع روحه {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً} [النازعات:1] يبكي وينظر من حوله، إما أن يكونوا أصحابه حملوه إلى المستشفى، أو لعل أمه تبكي، أو لعل أباه قد أتى بالطبيب، أو لعل الإخوة ينظرون إلى حاله، وهذا تدمع حاله، وهذا يبكي، وذلك ينوح، ومن حوله في وادٍ وهو في وادٍ آخر. {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} [القيامة:26] * {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [القيامة:27] ينظر إليهم فأتوا بالراقين وبالطبيب {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} [القيامة:28] أتعرف من يفارق؟ إنه يفارق المدرسة والصحبة والكرة مسكين! يفارق السيارة والفتاة التي كان يعشقها إنه فارق الدنيا {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} [القيامة:28] غسل وإذا به في الكفن ووضعت رجله مع الرجل الأخرى {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} [القيامة:29] ويلها أين تذهبون بها؟ {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:30] إلى الآن لقد ضيع حياته {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة:31 - 32] كان في الدنيا إن صلى فلأجل إخوانه وأصحابه، فإذا اختلى بنفسه لا صدق ولا صلى؛ بل لعله يرائي الناس، إن رأوه صلى، وإن لم يره أحد لم يصلِّ، لا يعرف من الدنيا إلا المرأة والضحك واللعب والكرة والسيارة.

حال العاصي بعد الموت

حال العاصي بعد الموت

القبر عذابه وظلمته

القبر عذابه وظلمته هنا قصة ذاك الرجل وتخيل -عبد الله- نفسك وأنت تمر في تلك القصة! إذا به يفتح عينيه في حفرة ضيقة، لا يسمع فيها صوتاً، ولا يرى فيها أحداً، بل لا يستطيع أن يلتفت يمنة أو يسرة. فإذا به يرى ملكين أسودين أزرقين يجلسان عليه تسألني كيف يجلس والحفرة ضيقة؟! نقول: هذا من علم الغيب، يجلس عليه ثم يسأله وهو يسمع فوقه أناسٌ يمشون، يسمع قرع نعالهم من هم؟ أبوه أخوه أولاد عمومته أصحابه أحب الناس إليه من رمى على وجهه التراب، فارقوه وبعضهم يعزي بعضاً. من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، كان يدري لكنه نسي. ما دينك؟ هاه هاه لا أدري، نسي في تلك اللحظة الجو مخيف، والملكان ينتهرانه، والسؤال فجأة. ماذا تقول في الرجل الذي بعث فيكم؟ هاه هاه لا أدري، كنت أسمع الناس يقولون كلاماً فأقول مثلهم، لم أعرف عن سنته شيئاً، ولم يتعلق قلبي بحبه، ولم أدافع عنه في الناس، ولم أرفع ذكره، ولم أنشر هديه وسنته، هو محمدٌ رسول الله فقط مثل الناس، ثم يُقال: لا دريت ولا تليت، ثم يضرب برأسه بمطرقة يصير فيها تراباً، لو ضرب بها جبلٌ لهده -أتتحمل؟! سل نفسك- ثم يعاد مرة أخرى فيضرب ضربة أخرى فيصيح، فيسمعه كل من حول قبره إلا الجن والإنس، ولو سمعه الجن والإنس لصعقوا وماتوا؛ لأنهم لا يتحملون ذلك الصياح. ثم تبدأ رحلة العذاب ينظر حوله؛ من أنت؟ وجهك الوجه يجيء بالشر، منتن الريح، قبيح الوجه والثياب، قال: أنا عملك الخبيث، فوالله ما علمتك إلا سريعاً في معصية الله أتذكر؟ يا فلان! عندنا سهرة، يذهب سريعاً عندنا سفرة يذهب ولا يتردد يا فلان! سوف نذهب إلى السوق نتجول ونتمتع، فلا يتردد، سريع في معصية الله، بطئ في طاعة الله. فلان! هناك درس، يأتي لكنه متثاقل فلان! الصلاة، يتردد عشرين مرة حتى يأتي إلى الصلاة وهو كسلان، سريع في معصية الله بطئ في طاعته، فيفتح له بابٌ إلى النار، ويفرش له من النار، ويأتيه من ريحها وسمومها، ثم يقول: رب لا تقم الساعة، رب لا تقم الساعة.

وقوف العاصي يوم المحشر

وقوف العاصي يوم المحشر بعد سنوات طوال يسمع صيحة فوقه ما الخبر؟ ماذا يحدث؟ إذا القبر ينشق، فيخرج من القبر، فيتذكر الحفرة المظلمة، ظل فيها مؤدباً إلى قيام الساعة يخرج ماذا يرى؟ السماء تنشق، والأرض تتفجر، والجبال تنسف، والبحر يحترق، والشمس ذهب ضوؤها، فيخرج ويقول: {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس:52] يرد عليه الصالحون فيقولون: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس:52] يخرج من قبره، فالأرض لا تحمله ماذا يرى؟ قد عري جسده، ينظر إلى الصغير، فيشيب شعره من شدة الخوف، تأتيه أمه ينظر إليها وقد شاب شعرها، ورق جلدها وعظمها، تأتيه فتقول: يا بني! لقد كان بطني لك وعاءً، وثديي لك سقاءً، وسهرت على راحتك، يا بني -تخيل أمك- يا بني! حسنة أتقرب بها إلى الله، فيرد عليها: يا أماه! إليك عني، إليك عني، أنا أحوج عنك بتلك الحسنة {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس:34 - 36] أتعرف لمَ يا أخي العزيز؟ لمَ أيها الشاب؟ {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:37] يخرجون من قبورهم يموج بعضهم في بعض كأنهم جرادٌ منتشر، الطفل الصغير يشيب شعره، والسماء تتفطر. عبد الله! تخيل في ذلك الموقف كيف يكون حالك، وماذا تتذكر؟ هذا المجلس تتذكره في تلك اللحظة تتذكر عبداً صالحاً كان يأتيك ويطرق عليك الباب ويقول لك: يا عبد الله يا فلان! تعال معنا المسجد، فتقول: إن شاء الله، إن شاء الله، وترجع إلى البيت وتنام. وتتذكر أنه كان يأتيك عبدٌ صالح فيقول لك في الفصل: فلان! استمع إلى هذا الشريط لعل الله أن ينفعك به، فتأخذه ثم ترمي به. وتتذكر أنه كان يأتيك فلان فيقول لك: اتق الله يا فلان! لا يجوز لك هذا الفعل، فتولي وأنت تضحك عليه، تتذكر تلك اللحظات، ثم بعد ذلك يقفون خمسين ألف سنة، والشمس على رءوسهم قدر ميل {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2].

مجيء جهنم وبدء الحساب

مجيء جهنم وبدء الحساب في أرض المحشر إذا بك ترى وتسمع صوتاً من مكان بعيد إنه صوت جهنم {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} [الفرقان:12] تخيل الناس على المحشر كلهم يخرون على الركب إذا رأوا جهنم، حتى الأنبياء والصالحون يخرون على الركب {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} [الجاثية:28] أتعرف ماذا يفعلون؟ يقولون: اللهم سلم سلم اللهم سلم سلم حتى الطفل الصغير يشيب شعره بلا ذنب. عبد الله! أتعرف ماذا يحصل لك في تلك اللحظة؟ {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} [الفجر:23] وأنت لوحدك {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} [الفجر:23] تتذكر كل سهرة كل فتاة نظرت إليها كل أغنية استمعت إليها كل صلاة فوتها كل كذبة كذبتها كل كلمة عققت بها الوالد أو الوالدة، تتذكر كل لحظة من لحظات حياتك، مثل الشريط يمر: {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} [الفجر:23] * {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر:24]. أين فلان بن فلان؟ بدأ الحساب، وبدأت الحياة الأخيرة، وبدأ الجزاء والمصير أين فلان بن فلان؟ يرتعد الجسم، وتضطرب الجوارح، وتبلغ القلوب الحناجر من شدة الخوف. إذاً: الملائكة تجره إلى الرحمن إلى العزيز الجبار {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18] يقفون بين يدي العزيز الجبار، يقول له: عبدي -والله سريع الحساب- تخيل نفسك بين يديه، تذكر فلان الذي ذهب من الدنيا لعله بدأ ذلك المصير وأنت لا تشعر. عبدي! أتذكر ذنب كذا؟ عبدي! أتذكر تلك اللحظة؟ أتذكر عبادي الصالحين؟ عبدي! أتذكر تلك الليلة عندما ذهبت إلى فلان وفلان؟ {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار:6]. عبدي! ألم أصح لك الجسد؟ ألم أعطك من المال والصحة والوقت؟ عبدي! ألم تعرف أني قد افترضت خمس صلوات؟ أين أنت عنها؟ عبدي! أما حرمت عليك النظر إلى النساء الأجنبيات؟ عبدي! ألم تعلم أني حرمت عليك الأغاني؟ عبدي! ألم تعلم أني حرمت عليك كذا وكذا؟ عبدي! أتذكر تلك السفرة؟ أتذكر تلك الرحلة؟ تذكر ذلك اللعب والمؤذن يؤذن. عبدي! أتذكر أتذكر؟ لحظة لحظة، من أول الحياة إلى آخرها. يقول: يا رب! ما فعلت شيئاً، فتأتي الملائكة الشهود، ويأتي الصالحون يشهدون، ويأتي الدعاة إلى الله يقولون: يا رب! دعيناه فما استجاب! فيأتي ذلك الذي نصحهم في مجلس يقول: يا رب! جلست أمامه أذكره بالموت وبيوم القيامة فما انتصح! يا رب! طرقت عليه الباب ليصلي فما صلى فيقول: يا رب! لا أقبل شاهداً إلا من نفسي، هؤلاء لا أقبلهم شهوداً، فيقول الله: لك ذلك، لا يشهد عليك إلا نفسك، فإذا بالفم يختم عليه اليد تتكلم، والرجل تنطق، كلٌ منها يقول: يا رب! فتح التلفاز في تلك الليلة، اليد تتكلم: يا رب! بطش، يا رب! لمس، يا رب! كتب الرسالة تلك، يا رب! رفع الهاتف في ذلك اليوم وقال كذا وكذا. الرجل تتكلم: يا رب ذهب إلى ذلك المكان، ذهب مع فلان وفلانة: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65] بعدها تنطق الجلود، فيصيح صيحة {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت:21] بعداً لكنَّ وسحقاً، عنكنَّ كنت أناضل حتى لا تحترق الجلود، ثم ينظر الله إليه، فيقول له: عبدي! ما غرك بي؟ عبدي من الذي جرأك علي؟ فينكس رأسه، ثم يقول: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا} [السجدة:12]. يا رب! عقلنا، يا رب! عرفنا الحق، يا رب! الآن أبصرنا {أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا} [السجدة:12] ماذا تريد؟ {فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة:12] يا رب! أرجعني إلى الدنيا أصلي أصوم أسجد أركع أذكر الله أقرأ القرآن الآن لا تنفعك تلك الكلمات.

ما يرى في النار من أهوال

ما يرى في النار من أهوال اسمع النتيجة النهائية، التي ليست بعدها نتيجة {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} [الحاقة:30] تأتي الملائكة وتربطه بسلسلة، كل حلقة مثل حديد الدنيا كلها، حجم هذه السلسلة سبعون ذراعاً من أذرعة الملائكة، تدخل في منخره، فتخرج من دبره ويربط بها، ثم يجر على وجهه إلى النار، فتستقبله الملائكة عند النار، والنار يتطاير منها الشرر، والشرارة الواحدة بحجم القصر تستقبله الملائكة {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} [الملك:8] هل جاءكم فلان ونصحكم؟ هل استمعت إلى شريط يذكرك؟ {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الملك:8 - 9] ثم يدخلون إلى جهنم يدفعون فيها دفعاً. ينظرون فيها، وأول ما يدخل يرى النار سوداء مظلمة، حرارتها أشد من سبعين ضعفاً من حرارة نار الدنيا، وأول ما يدخل يرى أصحابه الذين كانوا في الدنيا قد سبقوه إليها من أنتم؟ أنت فلان؟ نعم، لا مرحباً بك، فيرد عليه فيقول: وأنت لا مرحباً بك أتعرف من هم؟ الصاحبان في الدنيا، اللذان كانا يسافران إلى دول الزنا والخنا اللذان كانا يكلمان تلك الفتاة، ويلعبان الكرة وقت الأذان والصلاة. يقول: يا رب! هذا الذي قدم لي هذا يا رب! هذا الذي أضلني ودعاني إلى هذه النار، قال الله عز وجل عنهم: {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً} [الأعراف:38] الأصحاب والأخلاء والزملاء في الدنيا اجتمعوا في النار {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا} [الأعراف:38] يا رب! هذا الذي ضحك علي يا رب! كنت أريد أن أهتدي وأكون مع الصالحين مع الملتزمين، وكان يقول لي: لا يا فلان! تعال نلعب، ضحكوا عليك؟ خدعوك؟ غشوك؟ تعال نلعب الكرة، تعال نتمتع، الحمد لله أنت مسلم، تعال يا فلان تمتع قليلاً ثم تب إلى الله، يا فلان! عندنا سهرة، وعندنا اللعب والأغاني والطرب، يا فلان! لا يضحكون عليك: {رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ} [الأعراف:38] يرد الله عليهم: {قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:38]. لن أسرف في ذكر صفات النار، لكن يكفيك -أيها الأخ- ما تسمع من تلك الكلمات. أتعرف على ماذا ينامون في النار؟ على النار. أتعرف بم يلتحفون؟ بلحاف من نار. أتعرف ماذا يأكلون؟ طعاماً من نار. أتعرف بم يستظلون؟ بظلل من نار. عبد الله: يجوع أهل النار فيأكلون طعاماً ذا غصة -طعاماً شوك من شدة الجوع- فإذا أكلوه غص في الحلوق، لا يستطيع أن يخرجه ولا يبتلعه، فيستغيث بالماء يا رب! ماء ماء ماء، فيعطون ماء؛ لكنه {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ} [الكهف:29] يقترب من الماء ليشرب من شدة العطش والجوع، فعندما يقترب من الماء تسقط فروة رأسه ويحترق وجهه، قبل أن يشرب {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً} [الكهف:29]. عبد الله! وهو يشرب الماء، هل نفعته تلك المرأة؟ أم شريط الأغاني؟ أم المطرب الذي كان قدوته؟ أم الفيلم والمسلسل الذي كان يراه كل ليلة؟ هل نفعه الآن؟! أم نفعه فلان الذي كان يلعب معه الكرة، وكان يضحك عليه في الدنيا هل نفعه فلان؟! لا والله. عبد الله! إن النار تحرق جلودهم حتى تُصلي الأفئدة {كَلَّا إِنَّهَا لَظَى} [المعارج:15] * {نَزَّاعَةً لِلشَّوَى} [المعارج:16] أي: تنفصل الجلود عن اللحم عن العظم، فيخرج منها الصديد والقيح. أتعرف حين يرى أهل النار القيح ماذا يفعلون؟ يركضون إلى ذلك القيح يجمعونه فيأكلونه {يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم:17] هل تتحمل عبد الله؟ هل ينفع فلاناً سبعين أو ثمانين سنة من اللعب واللهو والطرب؟

مصير الصالحين في الآخرة

مصير الصالحين في الآخرة عبد الله! أتعرف الصالحون أين هم في تلك اللحظات؟ إنهم على أنهارٍ من لبن، وخمر، وأنهارٍ من ماءٍ وعسل أتعرف ماذا يظللهم؟ إنه سقف عرش الرحمن، يمشون على الزبرجد والياقوت واللؤلؤ والزعفران والمسك، ويسكنون في خيام من لؤلؤ طولها ستون ميلاً، قصورهم ذهبٌ وفضة، ومع الحور العين (لو اطلعت واحدة إلى الدنيا لأضاءت ما بين السماء والأرض، ولملأته ريحاً، ولنصيفها -خمار على رأسها- خير من الدنيا وما فيها) يتكئون على سرر مرفوعة على الأرائك ينظرون. يجتمعون في الجنة، فيقول أحدهم للآخر: كان لي صاحبٌ في الدنيا قرين زميل لا أراه في الجنة معنا، كان دائماً إذا أردت التوبة قال: يا فلان! ما زلت صغيراً. إذا أردت الصلاة، قال لي: يا فلان! تعال هنا فيلم كان إذا أردت الهداية مع الصالحين ردني وصدني لكني لم أستجب له، فما أراه في الجنة الآن، وهم يجلسون في الجنة يتسامرون، لحظة فإذا بهم تنكشف لهم النار، فإذا به يرى صاحبه يحترق في قعر جهنم {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} [الصافات:51] زميل، صاحب تعرف ماذا كان يقول؟ {يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} [الصافات:52] أنت صادق في كلامك هذا، تصلي وتصوم وتزكي وتتصدق وتقرأ القرآن وتحضر الدروس يا مسكين! تعال العب معنا {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ} [الصافات:53] حتى نموت سنوات طويلة، دعنا نفرح الآن، فإذا به ينظر إلى صاحبه وهو يحترق في النار، كل يرى صاحبه من في قعر جهنم ينظر إلى صاحبه وهو في الجنة، ومن في الجنة ينظر إلى صاحبه وهو في قعر جهنم {قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الصافات:54 - 55] فيكلم صاحبه نعم صاحبك! الذي كان يردك عن الهداية وعن الصلاة نعم! تكلمه إذا أدخلك الله الجنة وأدخله النار- يقول له: {تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} [الصافات:56] كدت ترديني معك في نار جهنم: {وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [الصافات:57] لولا نعمة الله لكنت معك في النار الآن، ثم يلتفت إلى أصحابه في الجنة، فيقول لهم: {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:58 - 61].

الاستعداد ليوم المعاد

الاستعداد ليوم المعاد أيها الشباب: لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ لمثل تلك اللحظات لمثل ذلك الموقف وأنت على فراش الموت لمثل ذلك السؤال للملكين في القبر لمثل وقوفك بين يدي الله لمثل المكوث في النار أو في الجنة. عبد الله! ليعمل العاملون، حاسب نفسك من الآن ماذا قدمت وماذا أخرت؟ ماذا لو وقفت الآن بين يدي الله وقد ختم عليك الله عز وجل في تلك اللحظة؟ تخيل! هل أنت مستعد للإجابة على كل سؤال؟ هل تبت من كل الذنوب والمعاصي؟ هل أرجعت كل الحقوق إلى أهلها؟ هل أنت ملتزم بالواجبات والفرائض، أم أنك ضيعتها؟ تعرف لمَ؟ لأنك تقول: فلان وفلان، كل الناس مثلي {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103]. عبد الله! حاسب نفسك حساباً جاداً وصادقاً وصريحاً، أتعرف ما المخلَص؟ أتعرف ما الحل؟ {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الزمر:53] بالكذب بالسخرية بالفحش مع النساء في الطرب في الملاعب ترك للصلوات أتعرف ما الحل؟ {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]. أولاً: اندم على فعلك السابق كله، إذا لم تنفعك هذه المواعظ فماذا ينفعك؟ إذا كانت هذه الآيات التي قرأناها ما أثرت في قلبك فما الذي سوف يؤثر فيك؟ عبد الله! ادع الله أن يحيي قلبك إن لم يتأثر، واندم. ثانياً: اترك جميع الذنوب والمعاصي، لا تقل: أستغفر وأنت لا زلت محتفظاً بالأرقام، أو بالصور، أو بالرسائل، أو بالمجلات، أو بالأفلام، احرقها كلها، وأقلع، فإن الله -الآن- يطلع عليك، هل أنت صادق عازم أو لست بعازم؟ ثالثاً: اعزم من قلبك ألا ترجع إليها، فكلما رجعت فتب. رابعاً: اترك أصحابك الذين يثبطونك، إذا أردت التوبة فاترك جميع أصحاب السوء، وتعال إلى أصحاب الخير والصلاح، وسلم عليهم، وصافحهم، وأخبرهم بصدق، وقل لهم: لقد أسرفت في الذنوب والمعاصي، فهل لي من توبة؟ هل لي أن أحضر مجالسكم، ودروسكم؟ لا يصدنك فلان فيضحك عليك فترجع، لا يضحك عليك فلان فيقول: يا فلان! لا تتعقد فترجع، لا يستهزئ عليك فلان فترجع. عبد الله: كن صابراً صادقاً، بعد هذا المجلس ائت إلى إخوانك الصالحين فسلِّم عليهم، وقل: أنا جليسكم حتى الموت، أين تذهبون؟ أين تجلسون؟ ماذا تعملون؟ اعطوني من الأشرطة فسوف أسمع، ومن الكتب فسوف أقرأ. كيف أتوب إلى الله؟ كيف أترك أصحابي السابقين؟ اجلس معهم وكن صادقاً مع الله، وكن عازماً على التوبة، فإن رجعت مرة أخرى فاعلم أن الله غفور رحيم، وارجع مرة أخرى إلى التوبة. عبد الله: هذه نصيحة، أسأل الله عز وجل أن يجمعنا في مستقر رحمته إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

نماذج من أحوال السلف

نماذج من أحوال السلف إن السلف الصالح هم خير القرون بشهادة محمد صلى الله عليه وسلم، وهم من اصطفاهم الله واختارهم لحمل هذا الدين؛ لذلك كان لابد من معرفة أحوالهم، وكيف كانوا حتى نقتدي بهم في حياتنا، لعلنا نلحق بهم. وقد ذكر الشيخ في هذه المادة ثلاثة جوانب من حياة السلف، فبين كيف كانت خشيتهم لله وكيف كان جهادهم في سبيل الله، ثم ختم بتوضيح صور اجتماعهم وتراحمهم وتآخيهم فيما بينهم، وصفاء قلوبهم لبعضهم البعض.

السلف الصالح وخشية الله

السلف الصالح وخشية الله الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: درسنا في هذه الليلة: "نماذج من أحوال السلف". جلس ابن مسعود رضي الله عنه عند أصحابه فقال أحدهم: [ما أحب أن أكون من أصحاب اليمين، ولكني أحب أن أكون من المقربين. فقال ابن مسعود رضي الله عنه: أما إن هاهنا رجلاً -يعني نفسه- يود أنه إذا مات لم يبعث] يتمنى أنه يموت ولا يبعث، وأنت تقول: تريد أن تكون من المقربين ولا تريد أن تكون من أصحاب اليمين! يقول إدريس بن حوشب: [ما رأيت أخوف من الحسن وعمر بن عبد العزيز! كأن النار لم تخلق إلا لهما] يقول: أراهما من خوفهما كأن النار خلقت لهما فقط ولم تخلق لغيرهما. وقال عبد الرحمن بن الحارث: [كنت عند عبد الله بن حنظلة يوماً وهو على فراشه وقد عدته من علته -كان مريضاً- فتلا رجلٌ عنده هذه الآية: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف:41] فبكى حتى ظننتُ أن نفسه ستخرج، قال: صاروا بين أطباق من النار، ثم قام على رجليه، فقيل: اجلس رحمك الله. قال: إن ذكر النار منعني الجلوس والقعود، لا أدري لعلي أكون أحدهم]. ويقول عبد الرحمن بن مهدي: [بات سفيان عندي، فكلما اشتد به الأمر جعل يبكي - سفيان الثوري رحمه الله- فقال له رجل: يا أبا عبد الله! أراك كثير الذنوب، فرفع شيئاً من الأرض وقال: والله لذنوبي أهون عندي من هذا التراب، لكني أخاف أن أسلب الإيمان قبل الموت]. انظر كيف يصف الله حالهم! {يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور:37]. جاء سائل إلى ابن عمر فقال ابن عمر لابنه: [أعطه ديناراً -فقير أعطه ديناراً- فلما انصرف قال ابنه: تقبل الله منك يا أبتاه. فقال ابن عمر: لو علمت أن الله تقبل مني سجدة أو صدقة درهم واحد؛ لم يكن غائب أحب إلي من الموت] أتدري ممن يتَقَبَّل الله؟ {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27] {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60] الواحد منا إذا صلى العصر ضمن، وإذا صلى التراويح كأنه وصل، وإذا تصدق بمائة دينار يذكرها طوال عمره، وهذا يقول: لو علمت أن الله تقبل مني درهماً لتمنيت الموت. ويقول الحسن البصري: يخرج من النار رجل بعد ألف عام، يا ليتني كنت ذلك الرجل، يا ليتني كنت ذلك الرجل. أي: أمكث في النار فقط ألف عام، والواحد منا كأنه أصاب الفردوس. وسفيان الثوري كان إذا أخذ في ذكر الآخرة يبول الدم رحمه الله، لشدة بكائه وخوفه ووجله من ذلك اليوم. وعن عروة بن الزبير قال: [كنت إذا غدوت أبدأ ببيت عائشة -يقول: أول بيت أزوره بيت عائشة رضي الله عنها- قال: أسلم عليها، فغدوت يوماً فإذا هي قائمة تقرأ قول الله عز وجل وتردد وتبكي: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:27] وتعيدها وتبكي: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:27] يقول: فانتظرتُها، فأطالت وهي تبكي، قال: قلتُ: أذهبت إلى السوق فأقضي حاجتي ثم أرجع، قال: فذهبت فقضيت حاجتي فرجعت وهي تردد الآية وتبكي، رضي الله عنها]. ويقول يونس بن عبيد: [دخلنا على محمد بن واسع نعوده وما يدري عني، فأخذ الناس يمدحونه ويثنون عليه، فقال محمد بن واسع: وما يغني عني ما يقول الناس إذا أُخِذ بيدي ورجلي فألقيت في النار؟!] يقول: ماذا ينفعني كلام الناس؟ هذا يمدح، وهذا يثني، وهذا يطري، وهذا يقول فيَّ ما يقول، يقول: ماذا ينفعني هذا الكلام إذا أخذ بيدي ورجلي ثم ألقيت في النار؟! ومالك بن دينار يظل طوال الليل يقبض على لحيته ويبكي ويقول: [يا رب! قد علمتَ ساكن الجنة من ساكن النار ففي أي الدارين منزل مالك؟] يقول ذلك وهو يبكي {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة:16] كلما وضع خده على الفراش بكى وقام، وكلما أراد النوم أطار ذكر النار النوم من عينيه. دخل العلاء على عطاء السلمي وقد غُشي عليه، فقال لامرأته أم جعفر: ما باله؟ ما الذي جرى له؟ فقالت: سجرت جارتنا تنوراً فنظر إليه فخر مغشياً عليه نظر إلى التنور فتذكر نار الآخرة فأغمي عليه ولم يستطع أن يقوم من مكانه. يروى عن الحسن بن صالح أنه قام ليلة كاملة بقوله تعالى: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ} [النبأ:1 - 2] فغُشي عليه، فلم يختمها حتى الفجر. إذا ما الليل أظلم كابدوه فيُسْفِرُ عنهمُ وهمُ ركوعُ أطار الخوفُ نومَهم فقاموا وأهل الأمن في الدنيا هجوعُ وهذا محمد بن المنكدر بكى في الليل فجاء أهله يرحمونه، فأرسلوا إليه أبا حازم، فجاء أبو حازم إليه يقول له: ما الذي جرى؟ أبكيت أهلك؟ أبكيت الجيران يا أبا عبد الله؟ قال: قرأت قوله تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47] يقول: وما أدري لعلي أكون منهم، فبكى محمد مرة أخرى، وبكى معه أبو حازم، فجاء أهله وقالوا: جئنا بك لترحمه فأثقلت عليه وشققت عليه {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47] يحسب أنه قرأ القرآن، وأنه تصدق، وأنه صلى الله عليه وسلم، ثم وصل إلى الجنة، فإذا أتى يوم القيامة {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23]. شرب عبد الله بن عمر ماءًَ بارداً، فأخذ يبكي واشتد بكاؤه، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: ذكرت قول الله تعالى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ:54] قال: فعلمتُ أن أهل النار يشتهون في النار الماء -وهو يشرب الماء- فينادون في النار: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف:50] ثم اشتد بكاؤه مرة أخرى من هو؟ إنه ابن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما. يقول مالك بن دينار: [البكاء على الخطيئة يحط الخطايا كما يحط الريح الورق اليابس]. لنفسي أبكي لست أبكي لغيرها لنفسي من نفسي عن الناس شاغلُ في ليلة من الليالي فزع الحسن البصري من النوم، فأخذ يبكي، فبكت زوجته وبكى أهل البيت كلهم، حتى سئل فقال: ذكرت ذنباً لي فبكيت. في النوم تذكر أنه أذنب ذنباً واحداً، ونحن إذا نمنا على الفراش ماذا نتذكر؟! كم هي الذنوب! وكم هي المعاصي! وكم هي الخطايا! والمصيبة أن العين لا تدمع، وأن القلب لا يخشع، وأن النفس لا تمتثل لأمر الله. كان عمر بن عبد العزيز يصلي ذات ليلة، فوصل إلى قوله تعالى: {إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} [غافر:71 - 72] فجعل يبكي حتى الصباح. وقبل أن يموت عمر بن عبد العزيز قيل له: إنك مسموم يا عمر! فقال: أيقول الناس فيَّ هذا؟ قالوا: نعم. فنادى غلاماً له -وهذا الغلام هو الذي سقاه السم قبل أن يموت- فقال لذلك الغلام: ما الذي حملك على أن تسقيني السم. قال: أعطيت ألف دينار على أن أقتلك. فقال له عمر -بينه وبينه-: ائت بهذه الألف وضعها في بيت المال ثم اذهب ولا يراك أحد. قتله فرحمه فعفا عنه قبل الموت. وروي عن تميم الداري أنه قرأ ليلة من الليالي: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الجاثية:21] فتوقف وأخذ يبكي حتى الصباح. وقيل أن عطاء السلمي سئل: ما هذا الحزن؟ لم كل هذا الحزن والبكاء والخشوع؟ فقال للسائل: ويحك! الموت في عنقي، والقبر بيتي، وفي القيامة موقفي، وعلى جسر جهنم طريقي، ولا أدري ما يُصنع بي، ثم تسأل لماذا أحزن؟! إذا كان هذا القبر بيتي، ويوماً من الأيام سوف أرد على الصراط، أُخبرت أني سوف أرده ولم أُخبر أنني سوف أجوز عليه، وفي القيامة موقفي ثم تقول لم تحزن!!

السلف الصالح والجهاد في سبيل الله

السلف الصالح والجهاد في سبيل الله فإذا بزغ الصبح وأذن الفجر وطلع الصباح، وأشرقت الشمس؛ رأيتَ هؤلاء الذين بكوا في الليل وظلوا قياماً لله عز وجل يصيح بهم صائح الجهاد: حيَّ على الجهاد! يا خيل الله اركبي! إلى الجهاد والمعارك! رأيت الذي يبكي في الليل ويقوم ويصلي ويسجد يركب الفرس ويذهب ويسرع إلى الجهاد في سبيل الله. فاسمع -يا عبد الله- إلى صفحة أخرى من صفحات سلفنا الصالح في الجهاد في سبيل الله وفي قتالهم الأعداء والكفار.

خالد بن الوليد رضي الله عنه سيف الله المسلول

خالد بن الوليد رضي الله عنه سيف الله المسلول خالد بن الوليد أظن أن كل المسلمين قد سمعوا به، ما من صغير ولا كبير إلا طرب من سماعه، سيف الله، يقول قبل الموت رضي الله عنه: [شهدت مواقع كثيرة، ودخلت مائة حرب ليست حرباً واحدة، وما من موضع في جسدي إلا وفيه ضربة سيف أو طعنة رمح أو رمية سهم، وها أنا أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء، ولقد طلبت الموت من مظانه فلم يقدر لي إلا أن أموت على الفراش، وما من شيء أرضى عندي بعد لا إله إلا الله -أكثر شيء يرجوه في الدنيا بعد لا إله إلا الله- قال: من ليلة شديدة البرودة في سرية من المهاجرين بتها والسماء تنهل علي بالمطر، وأنا أنتظر حتى أغير على الكفار؛ فعليكم بالجهاد، فعليكم بالجهاد، فعليكم بالجهاد]. لم نخش طاغوتاً يحاربنا ولو نصب المنايا حولنا أسوارا ندعو جهاراً لا إله سوى الذي خلق الوجود وقدر الأقدارا نفوسنا يا رب فوق أكفنا نرجو ثوابك مغنماً وجوارا كنا نرى الأصنام من ذهب فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا

ألب أرسلان وشجاعته

ألب أرسلان وشجاعته وهذا ألب أرسلان -اسمع إلى هذا الرجل ماذا فعل- سمع أن الروم قد حشدوا ستمائة ألف من الجيش، أكثر من نصف مليون جنود وعسكر وجيش، معهم الأسلحة، إذا رأيتهم تخاف من منظرهم، قد غطوا الجبال والسهول والوديان والأراضي، فسمع ألب أرسلان بهؤلاء، فقال لأصحابه وكانوا عشرين ألفاً -عشرون ألفاً ماذا يفعلون أمام ستمائة ألف من الكفار؟! - فقال لهم: ماذا تفعلون؟ الموت محتم لكم، إما أن نموت بكرامتنا وإما أن نموت بذلنا. قالوا: اذهب أينما تذهب، فنحن خلفك، فسار بالجيش وهم عشرون ألفاً، كلهم رجال شجعان يمشون خلفه، فعدهم في الطريق فإذا خمسة آلاف قد رجعوا، فصاروا خمسة عشر ألفاً، فلما اقترب من جيش الكفار عد أصحابه فإذا هم اثنا عشر ألفاً، رجع ثلاثة آلاف ولم يبقَ إلا اثنا عشر ألف فارسٍ شجاعٍ، كلهم قد وضع نفسه على كفيه، يريد الموت قبل أن يطلب الحياة، وقفوا أمام ستمائة ألف من النصارى الروم، وقد صفوا عشرين صفاً لا يُرى أولهم من آخرهم، وملكهم خلف هذه الصفوف، فقال ألب أرسلان لجيشه: إني قد عزمت ألا أقاتلهم إلا بعد الزوال. قالوا: ولم؟ قال: لأن في هذه الساعة يوم الجمعة كل المسلمين يدعون أن يعز الله دينه؛ فأحببت أن تصيبني دعوة المسلمين. قالوا: افعل ما تفعل، فلما زالت الشمس صلى وقام في الناس يدعو والناس يؤمنون خلفه، فاقترب الصفان، فقال لمن خلفه: إذا أنا حملت فاحملوا معي دفعة واحدة ستمائة ألف أمام اثني عشر ألفاً! قال: إذا أنا حملت فاحملوا معي دفعة واحدة، ولا ترموا بسهم حتى أكون أولكم رمياً، قالوا: افعل ما تفعل، فكبر وكبر الناس خلفه، فاخترقوا الصف الأول والثاني والثالث، وعشرين صفاً اخترقوها حتى وصلوا إلى ملكهم، فأسروه وقتلوا من حوله، ورفعوا رأس أحدهم على رمح، فقال قائل منهم: قتل الملك قتل الملك. فاضطربت صفوف المشركين الكفار، وفروا وذلوا وهربوا، فقتلهم المسلمون شر قتلة، فأُسر ذلك الملك النصراني الرومي، فأتي به إلى ألب أرسلان وهو جالس على سريره، فأتي به وهو مربوط بالحبال، فقيل له: ماذا نفعل فيه؟ فقال ألب أرسلان لذلك الرومي: لو كنت في مكاني ماذا كنت تفعل؟ قال: أقتلك. فقال ذلك المسلم الشجاع المقدام: أنت أذل عندي من أن أقتلك، اذهبوا فبيعوه في المسلمين. فذهبوا به بالحبال مربوطاً كي يبيعوه من ضمن الأسرى، كلما مروا على ملأ لم يشترِه أحد بأبخس الأثمان، ولم يشتره أحد، حتى جاءوا في آخر الجيش على رجل عنده كلب -أجلكم الله- فقال ذلك الرجل المسلم: لو بعتموه لي بهذا الكلب اشتريته -ملك النصارى تبيعوه بهذا الكلب! - فأتي به إلى ألب أرسلان فقالوا: يريد أحد المسلمين أن يشتريه بكلب، فقال الملك: لَلْكلب أشرف من هذا الرجل، لَلْكلب أشرف من هذا الرجل، فالكلب ينفع وهذا الرجل لا ينفع، أعطوه لهذا الرجل مع هذا الكلب يقول الله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169]. لقد انطلق حديث النبي صلى الله عليه وسلم إلى أولئك السلف حتى وصل إلى قلوبهم: (إذا رضيتم بالزرع، وتبايعتم بالعينة، واتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد في سبيل الله؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى تراجعوا دينكم). أحد المهاجرين في إحدى الغزوات حمل على المشركين حتى اخترق الصفوف، فأصيب بالسهام والنبال والسيوف والرماح، فقال بعض الناس: ما بال هذا الرجل يلقي بيديه إلى التهلكة؟ فقال أبو أيوب الأنصاري: [نحن والله أعلم بهذه الآية إذ نزلت، نزلت فينا معشر الأنصار، قاتلنا مع رسول الله وتركنا الأموال والضياع والأولاد، وقاتلنا مع رسوله، فلما أعز الله دينه وفشا الإسلام رجعنا بيننا وبين أنفسنا فقلنا: لو أصلحنا ضياعنا ومزارعنا وأموالنا، فأنزل الله فينا: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195]]. وقام أبو بكر في الناس خطيباً فقال: [أيها الناس! اطلبوا الموت توهب لكم الحياة]. حتى قال بعضهم: فيا رب إن حانت وفاتي فلا تكن على شرجع يُعلى بخضر المطارف يا رب! إن جاءت ساعة الوفاة فلا تجعلني أموت على فراش أخضر. فيا رب إن حانت وفاتي فلا تكن على شرجع يُعلى بخضر المطارف ولكن أحن يومي سعيداً بعصبة يصابون في فج من الأرض خائف عصائب من شيبان ألَّف بينهم تقى الله نزّالون عند التزاحف إذا فارقوا دنياهم فارقوا الأذى وصاروا إلى موعود ما في المصاحف أناس يحبون الموت كما تحبون الحياة! أتعرف لم يا عبد الله؟ لأن الموت لا يصيبهم إلا كقرصة نملة، فإذا مات فإنه يغفر له من أول قطرة دم، يغفر له جميع الذنوب، أما إذا بعث فإنه يؤمن الفزع الأكبر وفتنة القبر، ويزوج باثنتين وسبعين من الحور العين، يرى مخ ساقها من وراء اللحم والعظم. عبد الله: أولئك يتمنون الشهادة كما يتمنى أولئك الحياة!

عبد الله بن المبارك وجهاده في سبيل الله

عبد الله بن المبارك وجهاده في سبيل الله أسمعت بـ ابن المبارك؟ أظنك سمعت به، هذا الرجل كان عالماً فقيهاً، كان يعلم الناس، وكان عابداً، وكان زاهداً، وفي يوم من الأيام ذهب إلى المعركة، ذهب إلى الجهاد، فلما رأى الغزو والقتال والمعارك والشهادة في سبيل الله، ولما رأى الحياة الحقيقية، قال في نشوة: [إنا لله وإنا إليه راجعون على أعمار أفنيناها، وأيام قطَّعناها في علم الخلية والبرية، وتركنا أبواب الجنة خلفنا!] وتركنا أبواب الجنة مفتوحة خلفنا. نعم -يا عبد الله- إن العلم من أفضل أنواع النافلة، إن العلم جهاد، يكفيه شرفاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم) ولكن صاحب الجهاد يصاب بنشوة، يصاب بحياة، يشم رائحة الجنة وهو على الأرض، يمشي ويستنشق عبيرها، فلهذا يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون! ضيعنا العمر وضيعنا الحياة، وهذه هي الحياة الحقيقية؛ فكتب رسالة للفضيل بن عياض الذي جاور الحرم، الذي جلس عند بيت الله ليعبد الله، كتب له رسالة يقول فيها: يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعب من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب أو كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعب ريح العبير لكم ونحن عبيرنا رهج السنابك والغبار الأطيب نعم، أنتم لكم الطيب لكم العبير لكم البخور لكم الفرش لكم الدنيا ريح العبير لكم ونحن عبيرنا رهج السنابك والغبار الأطيب ولقد أتانا من مقال نبينا قول صحيح صادق لا يكذب لا يجمعان غبار خيل الله في أنف امرئ ودخان نار تلهب

بسر بن أرطأة وقتاله للنصارى

بسر بن أرطأة وقتاله للنصارى وهذا بسر بن أرطأة، يرى أن جيش الإسلام كلما تقدم كُسِر، وكلما تقدم كُسِر، ما الذي يحصل؟ يأتي كمين من النصارى ولا يدرى أين هذا الكمين! فرجع جيش المسلمين وتحصنوا، فخرج هذا الرجل على فرسه، فرأى إحدى الكنائس وبجوارها براذين من براذين النصارى الفرسان، وعلم أن هذا الكمين مختبئ في تلك الكنيسة، فماذا سيفعل هذا الرجل؟ ربط فرسه عند الكنيسة، ودخل داخل الكنيسة لوحده، وأغلق الباب خلفه، ولما رآه النصارى تعجبوا: ماذا يفعل هذا الرجل؟! فرفع السيف وأخذ يقاتلهم لوحده في الكنيسة، فقتل ثلاثة، وأصيب بمقتلة، وبحث عنه المسلمون فلم يجدوه، فوجدوا فرسه عند الكنيسة، وسمعوا جلبة داخل الكنيسة، فعلموا أنه داخل الكنيسة يقاتل لوحده، فكسروا الباب، ودخلوا عليه وهو يقاتل وهو يمسك بأمعائه، قد شج بطنه وسقطت أمعاؤه فأمسكها بيده وهو يقاتل النصارى بسيفه بيده اليمنى، فأخذوا يقاتلون معه حتى قتلوا النصارى وأسروا من أسروا منهم، فلما جيء به وأرجعت أمعاؤه إلى بطنه وعولج، قال النصارى: ننشدكم بربكم إلَّا أخبرتمونا من هذا؟ قالوا: هذا بسر بن أرطأة، قالوا: والله ما ولدت النساء مثله، والله ما ولدت النساء مثله. نعم يا عباد الله! إنه سمع قول الله عز وجل: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ} [آل عمران:142] بغير جهاد! بغير صبر! {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:142]. من ذا الذي رفع السيوف ليرفع اسمك فوق هامات النجوم منارا كنا جبالاً في الجبال وربما صرنا على موج البحار بحارا بمعابد الإفرنج كان أذاننا قبل الكتائب يفتح الأمصارا لم تنسَ أفريقيا ولا صحراؤها سجداتنا والأرض تقذف نارا وكأن ظل السيف ظل حديقة خضراء تنبت حولنا الأزهارا قام النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فقال لأصحابه: (وددتُ أني أقتل في سبيل الله، ثم أحيا، ثم أقتل، ثم أحيا، ثم أقتل، ثم أحيا، ثم أقتل) {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً} [آل عمران:145]. أيها الأخ الداعية إلى الله: لماذا يمنعك الخوف؟ لماذا تفكر في الموت؟ لماذا دائماً يرهبك هذا العذاب وهذا السجن وهذا الطرد وهذا القتل وهذا الزحف؟ لماذا تخاف من هذا كله؟ ألم تعلم أن الموت مكتوب وأن هذه الجيوش وهذه الأسلحة لن تقدم في موتك ولا ثانية واحدة؟

نماذج من الصحابة للجهاد في سبيل الله

نماذج من الصحابة للجهاد في سبيل الله البراء بن مالك في يوم اليمامة، أتعرف ماذا فعل؟ قال لأصحابه: احملوني على حصنهم واقذفوني فيه، فيُحمل فيرمى في الحصن لوحده، فيقتُل منهم ويقاتل حتى قتل منهم عشرة لوحده في الحصن، حتى فتح الباب للمسلمين ودخلوا فوجدوا فيه أكثر من ثمانين ضربة وطعنة. أسمعت بـ أنس بن النضر؟ شم رائحة الجنة على الأرض وقال: واهٍ لريح الجنة يا سعد! إني أجدها من دون أحد. أسمعت بـ عمير بن الحمام الذي قاتل فرمى التمرات وقال: إنها لحياة طويلة حتى آكل هذه التمرات. فقاتل حتى قتل {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب:23]. إن رأيتَهم في الجهاد فهم الأوائل. وإن رأيتَهم في الدعوة إلى الله فهم الدعاة. وإن رأيتَهم في الصدقة فهم أول الناس يتصدقون. إن رأيتهم في الليل فهم البكاءون المصلون الساجدون الراكعون.

السلف الصالح واجتماعهم وتراحمهم وصفاء قلوبهم

السلف الصالح واجتماعهم وتراحمهم وصفاء قلوبهم الصفحة الثالثة والأخيرة: انظر إلى حالهم مع المؤمنين، بينهم وبين عباد الله: (جسد واحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى).

عمر بن الخطاب رضي الله عنه واهتمامه بأمر المسلمين

عمر بن الخطاب رضي الله عنه واهتمامه بأمر المسلمين خرج عمر بن الخطاب يوماً من الأيام ومعه غلام يسمى أسلم -وكان أميراً للمؤمنين- فرأى ناراً من بعيد، فقال لـ أسلم: مَن هؤلاء الناس في هذه الليلة المظلمة الباردة وعندهم هذه النار؟ هيا بنا نذهب إليهم، فذهب عمر فوجد امرأة عجوزاً وعندها صبية صغار يبكون ويصيحون، وعندها قدر فيه ماء يغلي فوق النار، فقال لها عمر -وهي لا تدري أنه عمر -: السلام عليكِ، فردت عليه السلام، قال لها: أأقتربُ؟ قالت له: اقترب، فاقترب منها وقال: ما شأنك يا أمة الله؟ قالت: الجوع يا هذا. قال: وما شأن صبيانك؟ قالت: ألهيهم بهذا القدر حتى يناموا من شدة الجوع. فقال لها: وماذا تريدين؟ قالت: أن أقف وعمر عند الله، فأحاسب عمر عند الله عز وجل، فقال عمر: وما يدري عنك عمر، وما الذي يُعْلِم عمر بحالك؟ فقالت تلك المرأة: يتولى أمور المسلمين ثم يغفل عنا، ويله من الله! فبكى عمر حتى اخضلت لحيته، ثم قال لـ أسلم غلامه: اذهب معي، قال: فهرول عمر وهرولت خلفه حتى أتى بيت الدقيق، فأخذ الدقيق وقال لغلامه: احمله على ظهري قال: أنا أحمله عنك يا أمير المؤمنين! قال: وهل تحمل عني وزري يوم القيامة؟ احمله على ظهري. قال: فحمّلته على ظهره، فهرول حتى أتى إلى تلك المرأة، فأخذ يعجن ويطبخ ويقدح لها، حتى أكلت وأطعمت الصبيان، فذهب عمر وجلس من بعيد ينظر إليهم، فقلت له: ما شأنك؟ قال: اصبر، فَسَكَتُّ، قال: فنظر إليهم حتى شبع الصبيان وأكلوا وناموا، قال: والله ما كنت لأدعهم حتى يشبعوا ثم يناموا. فذهب عمر وهو يبكي، أتعرف لماذا؟ لأنه يتمثل قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] ما هي أول صفة لهم؟ {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [المائدة:54].

بكر بن عبد الله المزني وإحسان الظن بالآخرين

بكر بن عبد الله المزني وإحسان الظن بالآخرين بكر بن عبد الله المزني يقف على عرفة والناس يبكون ويدعون ويتضرعون، فقال قولته المشهورة: [لولا أني فيهم لظننت أن الله قد غفر لهم] بينهم وبين أنفسهم كانت الصدور سليمة، لا يحملون في قلوبهم الغل ولا البغضاء ولا الحقد ولا الحسد. يقول صلى الله عليه وسلم والحديث مقطوع: (من يستطيع منكم أن يكون كـ أبي ضمضم؟ قالوا: مَن أبو ضمضم يا رسول الله؟ قال: هذا رجل كان إذا أصبح في كل يوم يقول: اللهم إني قد وهبت نفسي وعرضي، فلا يظلم من ظلمه، ولا يشتم من شتمه) العفو والصفح شيمتهم.

الإمام أحمد وعفوه عن المعتصم

الإمام أحمد وعفوه عن المعتصم الإمام أحمد في ليلة من الليالي قام الليل وسجد فأخذ يبكي رحمه الله، وفي الصباح سئل: ما لك يا إمام -رحمك الله- رأيناك تبكي في الليل؟ قال: مر علي في الدرس قوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40] فذكرت المعتصم الذي كان السبب في جلدي، فصليت وسجدت فدعوت الله أن يغفر له وأن يحلله. هل وصلنا إلى أولئك السلف؟ لقد كان في قلوبهم إحسان الظن والتماس المعاذير، كانوا لا يتلمسون الأخطاء، ولا يطلبون الهفوات، ولا ينشرون الزلات بين الناس، قلوبهم كالقلب الواحد، أجسادهم كالجسد الواحد، كانوا يتمثلون الإنصاف، ويتعاملون بالعدل، ولا يقومون إلا بالقسط، كما قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} [المائدة:8].

موقف عائشة رضي الله عنها ممن كان السبب في قتل أخيها

موقف عائشة رضي الله عنها ممن كان السبب في قتل أخيها عائشة رضي الله عنها يأتيها رجل، فيسألها أسئلة، ثم قالت له (>من أين أنت؟ قال: من مصر، فقالت له رضي الله عنها: أما إنه لا يمنعني ما فعل صاحبكم بأخي محمد -أي: أميرهم وواليهم الذي كان السبب في قتل أخيها- قالت: لا يمنعني ما فعل في أخي محمد أن أقول ما سمعته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في داري هذه: اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به) تدعو له رضي الله عنها وأرضاها؛ لأنها سمعت أنه كان يرفق بجيشه، ويرفق بعبيده وبأصحابه. عباد الله: هذه لمحات سريعة وصفحات قليلة من تاريخ سلفنا الصالح. إن رأيتَهم في الليل فهم قُوّام الليل {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة:16] يبكون ويصلون ويركعون ويسجدون. إن رأيتَهم في النهار فهم الدعاة إلى الله، المجاهدون في سبيل الله، المتصدقون، الآمرون بالمعروف، الناهون عن المنكر. إن رأيتَهم مع بعضهم فهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى. إن رأيتَهم في علم فهم طلبة العلم. إن رأيتَهم في عبادة فهم السباقون. إن رأيتَهم في النفقة فهم المتصدقون. نعم والله؛ لأن الجنة جعل لها ثمانية أبواب. عبد الله: إن فتح الله لك باب علم فلا تنقم على أهل الجهاد، وإن فتح الله لك باب جهاد فلا تنقم على أهل العلم، وإن فتح الله لك شيئاً من هذا وهذا فلا تنقم على أهل العبادة، وإن فتح الله لك باب عبادة فلا تنقم على أهل الصيام وأهل الصدقة وأهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن في الجنة ثمانية أبواب: فمن كان من أهل الصلاة دخل من باب الصلاة. ومن كان من أهل الجهاد دخل من باب الجهاد. ومن كان من أهل الصيام دخل من باب الريان. ومن كان من أهل الصدقة دخل من باب الصدقة. عبد الله: لنكن كلنا كما كان السلف؛ دعوة، ودين شمولي، يشمل الجهاد والدعوة والعلم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والعبادة والصيام والصدقة نعم والله {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} [آل عمران:19] دين الله يشمل الحياة كلها. إن رأيتَهم في الخُلُق فهم أروع الناس خُلُقاً. وإن رأيتَهم في العبادة فأكثر الناس عبادة، {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح:29]. وإن رأيتهم في الجهاد فما من موضع في جسد أحدهم إلا وفيه ضربه بسيف، أو رمية بسهم، أو طعنة برمح. عباد الله: هذه بعض النماذج من حياة سلفنا الصالح. أسأل الله عز وجل أن يحشرني وإياكم معهم في مستقر رحمته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أقول هذا القول، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

الأسئلة

الأسئلة

نصيحة لمن لا يعبد الله إلا في رمضان

نصيحة لمن لا يعبد الله إلا في رمضان Q أرجو توجيه نصيحة إلى الذين لا يعبدون الله إلا في رمضان المبارك. A هذه عادة -أيها الإخوة- نراها كل سنة، بعض الناس لا يعرف الله عز وجل إلا في رمضان، ما يدريك -يا عبد الله- لعل ساعتك ومنيتك تأتيك بعد رمضان، في شوال أو في ذي القعدة أو في ذي الحجة أو في محرم، لعلك تأتيك الساعة والمنية! بل من كان لا يعبد الله إلا في رمضان فهذا تكلم عن إخلاصه، وشك في نيته، بل لعله يصاب ببعض الرياء؛ لأنه لا يعبد الله عز وجل إلا لأجل رمضان، فإذا انتهى رمضان ترك الله عز وجل. أقول لهؤلاء: اتقوا الله عز وجل، واعلموا أن الله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم:27] فالذين يضلهم الله هم الظالمون، {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27]. بل قال الله عز وجل حكاية عن المؤمنين: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران:8]. والله أعلم.

الندم من شروط التوبة

الندم من شروط التوبة Q أنا شاب تائب، وعلمت أن التوبة تكون مقبولة بشروط، ومن هذه الشروط: الندم، ولكني لم أندم على ذنبي، وقد أقلعت عنه، ثم عاودتُ بعد فترة، فهل يغفر الله لي في توبتي هذه؟ A لا تقبل التوبة إلا بالندم، والذي ليس بنادم وغير متضايق من فعله، وغير متحسر من ماضيه الأسود، فإن التوبة لا تقبل منه، كما قال عليه الصلاة والسلام: (الندم توبة) وقال الله عن أهل مسجد ضرار: {إِلّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} [التوبة:110]. وإذا لم يتقطع القلب ولم يتحسر ولم يندم على تلك المعصية فإن التوبة لا تقبل، فلا بد أن يحصل شيء من الندم في القلب، ثم إقلاعٌ عن المعصية، ثم عزمٌ على ألا ترجع إليها، فإن رجعت فعاود التوبة مرة وأخرى، فإن الله كان للأوابين غفوراً.

حكم شرب الدخان

حكم شرب الدخان Q ما حكم الدخان؟ وأنا مُتَخوف منه كثيراً، مع العلم بأني أريد التوبة ولكن أصدقاء السوء لا ينصحونني. A الدخان حرام بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله تبارك وتعالى عن نبيه عليه الصلاة والسلام: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] وإذا قسمت الأشياء إلى قسمين: طيبات وخبائث، ففي أيهما تضع الدخان؟ لا أظنك تضعه إلا في الخبائث؛ إذاً فهو محرم. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار) وحرم على الناس وعلى أصحابه وعلى المؤمنين إضاعة المال، ولو سألتك سؤالاً: الدخان هل هو في حفظ المال أو هو في إضاعة المال؟ ناهيك عما يحصل فيه من فساد العقل والصحة والجسد والقلب وفساد الدين، ثم بعد هذا تسأل: هل هو حلال أم هو حرام؟! بل هو حرام في كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام. ثم يا عبد الله! أتعجب منك والأمر عجب! الصحابة كانوا يشربون الخمور، وقد أدمنوا على شرب الخمور، بل كان شربهم للخمور أكثر من شربهم للماء، فلما نزل قول الله عز وجل: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة:90] وكان أحدهم يريد أن يشرب الخمر، فأهرق الإناء وكسره، حتى سالت شوارع المدينة بالخمور، وأنت تقول: ما أستطيع أن أترك الدخان، سبحان الله! أي ضعف في قلوبنا؟! الواحد منا -أيها الإخوة- يطلب منه أن يجاهد الكفار وأن يقاتل المشركين وأن يجاهد الدنيا بأسرها وما يستطيع أن يجاهد دخاناً؟! والله يا إخوة هذه هي الذلة التي تحصل في قلب الإنسان، ومن الخور ومن ضعف النفس والإيمان حتى لا يستطيع أن يجاهد دخاناً. أولاً: اتركه. ثانياً: اترك هذه المجالس التي تذكرك بهذا الدخان (إنك بأرض سوء فاتركها واذهب لأرض كذا وكذا فإن فيها قوماً يعبدون الله) اترك هذه المجالس، اترك أصحاب السوء الذين يذكرونك بالدخان ويذكرونك بتلك الأيام والليالي، اتركهم واهجرهم في الله عز وجل، {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [الفرقان:63]. وادخل مع أهل الخير، أهل الصلاح، الذين إن وضعوا في أفواههم شيئاً فهو السواك (مطهرة للفم مرضاة للرب) وإن تكلموا فبذكر الله، وإن نطقوا فبطاعة الله، وإن أمروا فبالمعروف، وإن نهوا فعن المنكر، خالطهم واجلس معهم فإن في صحبتهم خيراً.

حكم لعب الجندفة

حكم لعب الجندفة Q ما حكم لعب الجَنْدِفَة؟ A نقول ما قلناه في الدخان. عبد الله! قد هيئوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهملِ أناس الآن في إسرائيل، الواحد منهم يبلغ الحلم فيعلمونه السلاح، وهذا يحصل في إسرائيل عند اليهود، والواحد منا قد شابت لحيته وهو يلعب الجَنْدِفَة! يا إخوان: هذا -والله- من الضعف الذي وصلنا إليه، الواحد في دول الغرب دول الشيوعية ودول النصرانية منذ صغره يُعَلَّم على كره المصحف وعلى كراهية المسلمين، وعلى حمل السلاح وعلى الجهاد في سبيل باطلهم، ونحن -يا عباد الله- نسأل عن الجَنْدِفَة! وعن الدخان! وعن السيارات! ونسأل عن هذه الملهيات! كيف كنا يا عباد الله! أسمعت بابني عفراء؟ كانا يحاولان لدى النبي صلى الله عليه وسلم أن يجيزهم في القتال، فلما أجازهم قتلوا مَن؟ قتلوا فرعون هذه الأمة، قتلوا أبا جهل، والواحد منا يسأل عن الجَنْدِفَة! ويسأل عن الدخان! اقطع هذه الأوراق، اترك هذه المجالس، اهجر هذه المعاصي، واقدم على الله عز وجل {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111] والله أعلم.

هذا الحبيب يا محب!

هذا الحبيب يا محب! إن محبة النبي صلى الله عليه وسلم شرط في صحة الإيمان، ومن أجل هذه الأهمية الكبرى جاءت هذه المادة مبينة أسباب محبة النبي صلى الله عليه وسلم الذي بعث رحمة للعالمين، فصبر من أجل دعوته، وتحمل مشاقها، فكان قدوة في صبره وأخلاقه وصلته بربه. ولذلك علينا أن نلتزم الوسطية في علاقتنا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن نجتنب منهجي الإفراط والتفريط في محبة النبي صلى الله عليه وسلم.

أسباب محبة النبي صلى الله عليه وسلم

أسباب محبة النبي صلى الله عليه وسلم الحمد لله رب العالمين، والصلاة السلام على سيد المرسلين، وخاتم النبيين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: أيها الإخوة الكرام: حديثي إليكم في هذه الجلسة هو من صلب الدين والإيمان، ومن صميم العقيدة، بل لا يتم إيمان العبد إلا بهذا الحديث الذي سوف أتكلم عنه، وتطبيق هذه المسألة من أصول الدين، ألا وهي علاقتنا بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم. يقول الرب جل وعلا: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيكُمْ} [التوبة:24]. هل بقي شيء من الدنيا؟ ما بقي شيء؛ الأولاد، والأزواج، والأقرباء، والعشيرة، والأموال، والتجارات، والمساكن، كل شيء من الدنيا، لو كانت هذه الدنيا {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24] (ثلاث مَن كُنَّ فيه وجد بهن حلاوة الإيمان -بعض الناس يتساءل: أنا لا أشعر بلذة في الدين؟ لا أشعر بلذة في الطاعات؟ لا أشعر بلذة في الإيمان؟ اعلم أنه: -ثلاث مَن كُنَّ فيه وجد بهن حلاوة الإيمان -أول الثلاث:- أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما).

اتباع النبي صلى الله عليه وسلم شرط في قبول العمل

اتباع النبي صلى الله عليه وسلم شرط في قبول العمل يأتي رجل من الأنصار فيقول: (يا رسول الله! إنك لأحب إلي من نفسي، وإنك لأحب إلي من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر-فتخيل: الرجل يتذكر النبي في البيت فما يتحمل وما يصبر!! أيُّ حب وأيُّ تعلق بالنبي هذا! - يقول: لا أتحمل حتى آتي فأنظر إليك، وأجلس عندك، يقول: فإذا ذكرت الموت الذي سوف يفرق بيني وبينك فإني لا أطيق ولا أتحمل -أبكي ولا أصبر على فراقك- فيقول له النبي: قال الله جل وعلا: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ} [النساء:69] هذا هو الشرط؛ اتباع النبي- {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ} [النساء:69]). يا من تسمعني: ألا تتمنى لقاء النبي عليه الصلاة والسلام؟! ألا تتمنى الجلوس بقربه؟! ألا تتمنى معانقته ومصافحته؟! ألا تتمنى أن تجلس فتستمع إليه؟! الشرط: اتباع هديه عليه الصلاة والسلام، وقبله الإخلاص لله، قال صلى الله عليه وسلم: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى). يأتي رجل فيقول: (يا رسول الله! متى الساعة؟ فيقول له النبي: وما أعددت لها؟ قال: لا شيء إلا أني أحب الله ورسوله -أعمالي قليلة، لكني أحب الله ورسوله- قال: إنك مع من أحببت) والمرء يحشر يوم القيامة مع من أحب.

النبي رحمة للعالمين

النبي رحمة للعالمين نحبه؟ إي والله نحبه!! لِمَ نحبه؟ لأن الله عز وجل بعثه ليخرج الناس من عبادة العباد ومن عبادة الأصنام والأوثان إلى عبادة رب الأرض والسماء. تَعِب عليه الصلاة والسلام، وتحمل في سبيل الدعوة إلى الله ليخرج الناس من الضلال إلى الهدى، ومن الظلام إلى النور، حتى بدأ المشركون يعادونه:

صبره على تحمل الأذى من أجل الدعوة

صبره على تحمل الأذى من أجل الدعوة هاهو يأتي يوماً من الأيام فيسجد عند الكعبة، فيأتي أشقى القوم ويلقي على ظهره سلى الجزور، ولا تأتي إلا ابنته فاطمة رضي الله عنها فتزيل عن ظهر أبيها سلى الجزور وهي تبكي، فيتم صلاته عليه الصلاة والسلام، ثم يستقبل القوم فيدعو عليهم واحداً واحداً. يأتي يوماً من الأيام يطوف بالبيت وحول البيت الأصنام والأوثان، فيغمزه المشركون ويستهزئون به. يأتي أشقى القوم يوماً من الأيام فيخنقه حتى كاد يقتله عليه الصلاة والسلام، ولا يدفعه عنه إلا أبو بكر أشجع الناس رضي الله عنه يدفع الفاسق المشرك وهو يقول: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [غافر:28] فاستقبل المشركون أبا بكر فضربوه حتى أدموه، حتى لم يعرف رأسه من قفاه من شدة الدم، وظن الناس أن أبا بكر قد مات، فحمل إلى بيته فطببته أمه ولم تكن أسلمت في ذلك الحين. فلما استفاق فرحت أمه، قالت: يا بني! اشرب شيئاً، يا بني! ذق شراباً، وكل شيئاً من الطعام، قال: لا والله! حتى تأتيني بخبر رسول الله، وأرسلها إلى إحدى النساء فذهبت، قالت: لا أعرف رسول الله ولا أعرف ابنك. فجاءت بها إلى أبي بكر، فقال لها أبو بكر: ماذا صنع رسول الله؟ قالت: أمك موجودة -وقد كتمت إيمانها تلك المرأة- فقال: لا عليك إنما هي أمي، أخبريني عن رسول الله، قالت: هو بخير، قال لها أبو بكر: احمليني إليه، فلما هدأ الناس، وسكنت الأصوات، حُمِل أبو بكر بين أمه وتلك المرأة إلى رسول الله. وكان رسول الله مستلق وحوله أصحابه الذين كتموا إيمانهم، فلما فتح الباب دخل أبو بكر على رسول الله يقبله وهو يبكي، والصحابة ينظرون، وبكوا من هذا المنظر، فقال أبو بكر: كيف أنت يا رسول الله؟ قال: ليس بي بأس يا أبا بكر! كيف أنت يا أبا بكر! قال: لا بأس بي إلا ما صنع الفاسق من وجهي، يا رسول الله! هذه أمي جاءت مشركة، فادعُ الله لها، فدعا الرسول لها، فلفظت أم أبي بكر الشهادتين، فقالت: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله. غمزوه ولمزوه وسخروا به، بل وضربوه، وخنقوه، وكادوا يقتلونه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان:31]. أوذي، وخُنِق، ومُنع من الدعوة إلى الله، حتى قال فيه أبو لهب لما دعاهم على الصفا: تباً لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ يستقبل الناس في الحج فيغلقون آذانهم، ويغطون رءوسهم، يدخل عليهم خيامهم خيمة خيمة عليه الصلاة والسلام، يقول: (قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا) فيدخل بعده رجلٌ أحول، وضيع الوجه، إنه عمه أبو لهب، يدخل خلفه فيقول: لا عليكم منه، إنه ابن أخي، إنه مجنون، إنه كذاب، إنه ساحر: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً} [الفرقان:31]. هاجر إلى الطائف يدعوهم إلى الله، فردوه، وتبعه العبيد والسفهاء بالحجارة، هل دعا عليهم؟ هل طلب من ملك الجبال أن يطبق عليهم الأخشبين؟ أو دعا على قريش؟ لا وربي. رفع يديه إلى الله، وقال: (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، إلى من تكلني؟ إلى عدو يتجهمني! أم إلى قريب ملكته أمري! إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أبالي، لكن عافيتك أوسع لي). يخرج وهو مهموم، لم يفق إلا بـ قرن الثعالب، (يجلس عند إحدى المزارع، ويرسل إليه أحد المشركين خادماً له اسمه، عدَّاس يأتيه بشيء من العنب، وكان شاباً نصرانياً، فجلس عند رسول الله وقد أدميت قدماه الشريفتان، وسال الدم منهما، فجاء عدَّاس بالعنب إليه، فسمى الله رسول اللهَ فأخذ عدَّاس يسأله، فإذا بالنبي يجيب، فقال له النبي: من أين أنت؟ قال له عدَّاس النصراني: أنا من نينوى، قال: سبحان الله! من بلد النبي الصالح يونس بن مَتَّى، قال: ومن أخبرك بيونس بن مَتَّى؟! قال: إنه أخي، إنه نبي وأنا نبي مثله، فانكب عدَّاس على رسول الله يقبله وهو يبكي) علم أنه لا يعلم عن نبي الله يونس إلا نبي مثله، ورجع النبي إلى بلده.

صبره في المصائب والإحن

صبره في المصائب والإحن خرج إلى الدنيا يتيماً لم يرَ أباه، ماتت أمه وهو صغير لم يبلغ الحلم، تربى عند جده، فلما مات جده ثم تربى عند عمه، فلما شب واستقام، دعا إلى الله ونصره أبو طالب الذي مات ولم يُسلم، احترق قلب النبي صلى الله عليه وسلم عليه، استغفر له اللهَ، فمنعه اللهُ جل وعلا. تزوج من خديجة فإذا به يحبها كأشد ما يحب إنسان امرأته على وجه الأرض، ولكنها غادرت الدنيا وفارقته، وتُرك في هذه الدنيا بين مستهزئ وساخر، وشاتم وضارب، انظر ماذا يقول الشاعر فيه: ولَّى أبوك عن الدنيا ولم تره وأنت مرتهن لا زلت في الرحمِ وماتت الأم لما أن أنست بها ولم تكن حين ولَّت بالغ الحلمِ ومات جدك من بعد الولوع به فكنت من بعدهم في ذروة اليتمِ فجاء عمك حصناً تستكن به فاختاره الموت والأعداء في الأجمِ ترمى وتؤذى بأصناف العذاب فما رُئيت في ثوب جبار ومنتقمِ حتى على كتفيك الطاهرَينِ رموا سلى الجزور بكف المشرك القزمِ أما خديجة من أعطتك بهجتها وألبستك رداء العطف والكرمِ ولت إلى جنة الباري ورحمته فأسلمتك لجرح غير ملتئمِ وشج وجهك ثم الجيش في أحد يعود ما بين مقتول ومنهزمِ لما رزقت بإبراهيم وامتلأت به حياتك بات الأمر كالعدمِ ورغم تلك الرزايا والخطوب وما رأيت من لوعة كبرى ومن ألمِ ما كنت تحمل إلا قلب محتسب في عزم مفتقد في وجه مبتسمِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم، انظروا كيف صبر، فكيف لا نحبه؟ أوذي وصبر لأجل من؟ لولا صبره، لولا تحمله، لولا جهاده عليه الصلاة والسلام لكان الواحد منا الآن يعبد ماذا؟ يتأسى بمن؟ ينتهج أي دين؟ ماذا يكون مصيرنا؟

صبره في تحمل التكاليف

صبره في تحمل التكاليف (لما أرد الهجرة جاء لـ أبي بكر -صاحبه وأي صاحب! - في وقت لم يكن يأتيه فيه متقنعاً -الأمر غريب، الوقت ظهيرة- فدخل على أبي بكر، وعنده ابنته الصغيرة عائشة، فقال له أبو بكر: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي ما الذي جاء بك في هذه الساعة؟ قال: يا أبا بكر! اخرج مَن عندك وكانت عائشة جالسة، قال: يا رسول الله! إنما هم أهلك، فقال النبي لـ أبي بكر: يا أبا بكر! إن الله قد أذن لي في الخروج، فقال أبو بكر: يا رسول الله! إذاً: الصحبة -ماذا يختار؟ ماذا يريد أبو بكر؟ يريد أن يخرج في أخطر هجرة على وجه التاريخ، في أخطر رحلة يعرض فيها نفسه للقتل- فقال النبي: يا أبا بكر! الصحبة، الصحبة يا أبا بكر! فانفجر أبو بكر يبكي، تقول عائشة: والله ما كنت أحسب أن أحداً يبكي من الفرح إلا بعدما رأيت أبي يبكي في ذلك اليوم، يقول: الصحبة يا رسول الله! الصحبة يا رسول الله!). يخرج معه في الهجرة فرحاً، فلما دخلا في الغار، ماذا صنع أبو بكر؟ لقد رأى جحراً في الغار فإذا به يضع رجله فيه ورجله الأخرى في جحرٍ آخر، ويده في جحرٍ ثالث، يخاف على رسول الله! لسعته حية -حي من هوام الأرض- فما أخرج يده، والرسول نائم ورأسه على فخذ أبي بكر، ولم يرفع أبو بكر يده ولا رجله من ذلك الجحر، فدمعت عينا أبي بكر، فسقطت دمعته على وجه رسول الله، فاستيقظ النبي، فقال: ما الذي أصابك يا أبا بكر! قال: لا شيء يا رسول الله! إلا أنه أصابني من هوام الأرض -لسعني شيء من هوام الأرض- فما أردت أن أوقظك، فأخذ النبي رجله فدعا له وبصق عليها، وكأن لم يكن به شيء. والنبي يقول لـ أبي بكر بعد أن قال لما رأى المشركين عند المغارة يقفون: (لو نظر أحدهم إلى رجله لرآنا قال: أو تخاف يا أبا بكر؟ قال: لا أخاف على نفسي إنما أخاف عليك يا رسول الله! فقال النبي له: لا تخف يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما): {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:4]. (يخرجان من الغار، يمضيان إلى المدينة، فيلحقهما سراقة، ولم يكن أسلم في ذلك الوقت، وكان بطلاً شجاعاً -فكاد أن يصل إليهما، فبكى أبو بكر، فقال له النبي: لم تبكِ يا أبا بكر؟ فيقول: يا رسول الله! والله ما أبكي على نفسي، ولكن أبكي عليك، فابتسم النبي، وقال: اللهم اكفناه بما شئت، فغاصت قوائم فرسه في الأرض، فسقط منها، فعلم سراقة أن الأمر فيه شيء، وأن هذا الرجل ليس رجلاً كغيره من الرجال، لا بد أن عنده شيء من السماء -فقال له النبي: هل لك أن ترجع، ولا تخبر بأمرنا؟ قال: وماذا لي يا محمد؟ قال: لك يا سراقة! سوارا كسرى). سوارا أعتى رجل على وجه الأرض، وصاحب أكبر دولة على وجه الأرض في ذلك الزمان، إنها فارس، وعليها كسرى. سبحان الله! انظروا إلى يقينه بنصر الله، يقينه بموعود الله عز وجل، ثم يموت رسول الله، وتمضي السنون ويموت أبو بكر، فيأتي عهد عمر فتُفتح فارس، ويؤتى بسواري كسرى إلى عمر بن الخطاب، فيقول عمر: [أين سراقة بن مالك؟ أين سراقة بن مالك؟ فيؤتى بـ سراقة وكان قد أسلم وجاهد في سبيل الله، فقال له عمر: يا سراقة! إليك سواري كسرى، هذا وعد رسول الله]: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]. يأتي النبي إلى المدينة والصحابة والأنصار ينتظرونه في كل يوم، فإذا اشتد حر الظهيرة رجعوا إلى منازلهم، وفي ذلك اليوم رجعوا لما اشتدت الشمس بحرها، فلما رجعوا فإذا بيهودي يصعد على أطم من الآطام، فيرى ظلين من بعيد، فيعرف أنه الرسول وصاحبه، فيرجع إلى الأنصار، فيقول: يا معشر الأنصار! يا معاشر العرب! هذا جَدُّكم الذي تنتظرون، هذا نبيكم الذي تنتظرون، فثار الأنصار إلى سلاحهم واستقبلوه عند أبوابهم وهم يكبرون، ويقولون: الله أكبر! الله أكبر! جاء نبي الله، جاء نبي الله، استقبلوه في الشوارع، وعلى سطوح المنازل، بالرجال والنساء والأطفال وهم يكبرون. {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2]. فإذا بالنبي يدخل المدينة، يقول أنس: أضاء في المدينة كل شيء، بنى المسجد، وأسس الدين، ونشر الهداية في قلوب المؤمنين، أسرهم بحبه، وبأخلاقه عليه الصلاة والسلام.

أخلاقه صلى الله عليه وسلم ومحبة أصحابه له

أخلاقه صلى الله عليه وسلم ومحبة أصحابه له كان يجلس مع الشيوخ ويجالس الصبيان والأطفال، فإذا به يسلم عليهم واحداً واحداً. تأتي إليه الجارية وهو نبي الله وخير من وَطأ قدمُه الثرى عليه الصلاة والسلام فتمسك يديه الشريفتين فتذهب به حيث شاءت، تسأله عن حاجتها، فيقضي لها حاجتها عليه الصلاة والسلام. دعا إلى الله فما جزع ولا كلَّ ولا ملَّ. يأتيه الأعرابي يوماً من الأيام وهو يخطب الجمعة، فيقول: (يا رسول الله! علمني ديني، فينزل من خطبته، ويجلس إليه يعلمه أمر دينه) الله أكبر! لما أتى رجل من الأعراب فبال في المسجد فكاد الصحابة يقتلونه، أو يهموا به، فيقول للصحابة: (دعوه، دعوه، لا تزرموه -رحمة وأي رحمة! - فيأتيه النبي بعد أن يقضي بوله، يقول له: يا فلان! إن هذه المساجد لم توضع لكذا وكذا، إنما وضعت للصلاة والذكر، وقراءة القرآن والعبادة، فيقول الرجل -بعد أن يرى خلقه-: اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً، فيبتسم النبي، ويقول له: لقد حجرت واسعاً يا هذا) {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]. كانوا يحبونه حباً جماً، وفي الجهاد تظهر صور من المحبة: 1 - هذا طلحة رضي الله عنه، في غزوة أحد يقاتل دون النبي عليه الصلاة والسلام، وكلما أراد أن يتقدم يؤخره النبي صلى الله عليه وسلم ويقدم غيره. قال: (أنا يا رسول الله! فيقول له النبي: اجلس، فيقاتل أحد الصحابة فيقتل، حتى جاء دور طلحة رضي الله عنه، فيقاتل حتى قُطِعَت أصابعه، فإذا به يقول: حسبي، قال صلى الله عليه وسلم: إذا قلت: باسم الله لرفعتك الملائكة والناس ينظرون). 2 - أبو طلحة الأنصاري في أحد، يقول: (يا نبي الله! بأبي أنت وأمي لا تُشْرِف لا يصيبنك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك يا رسول الله). 3 - أبو دجانة في معركة أحد، يترِّس نفسه على النبي، والسهام والنبال تقع على ظهره رضي الله عنه وهو لا يبالي، ولا يهتم رضي الله عنه، لأن السهام تقع على ظهره ولا تصيب رسول الله. مَن هذا النبي الذي أحبه الناس هذا الحب؟ قال الشاعر فيه: أصفى من الشمس في نطقٍ وموعظةٍ أمضى من السيف في حُكْم وفي حِكَمِ أغَرُّ تشرق من عينيه ملحمةٌ من الضياء لتجلو الظُّلْم والظُّلَمِ في همة عصفت كالدهر واتقدتْ كم مزقت من أبي جهل ومن صنمِ! محرر العقل باني المجد باعثنا من رقدة في دثار الشرك واللممِ بنور هديك كحلنا محاجرنا لما كتبنا حروفاً صغتَها بدمِ 4 - هذا أحد الأنصار: يقول النبي: (مَن يشتري لنا نفسه؟ فيقول الرجل: أنا يا رسول الله! فيدخل الرجل في صفوف المشركين -انظر للتضحية لرسول الله- فيقاتل الرجل حتى تثخنه الجراح، فيحمل وقد سالت الدماء من على جسده، فيوضع والنبي جالس عليه الصلاة والسلام، فيوضع خده على قدم النبي عليه الصلاة والسلام، ويقول النبي: أدنوه مني، فإذا بالرجل خده على قدم النبي تفيض روحه إلى بارئها). 5 - سعد بن الربيع: يقول النبي: (أين سعد؟ أين سعد؟ ابحثوا عن سعد، وائتوني بخبره، فيذهب الصحابة يبحثون عنه، فيأتيه رجل وإذا بـ سعد يحتضر، في الرمق الأخير، فيقول له: يا سعد! إن رسول الله يقرؤك السلام، ويقول: كيف تجدك؟ فيقول سعد: أبلغه مني السلام، وأخبره أني أجد ريح الجنة -الله أكبر! وهو في الدنيا يشم رائحة الجنة- ثم أخبر قومي الأنصار، وقل لهم: لا عذر لكم! أن يُخْلَص إلى رسول الله وفيكم عين تطرف). 6 - هذا أنس بن النضر لما رأى بعض الصحابة جالسين، قال لهم: [ما الذي أجلسكم؟ قالوا: مات رسول الله، قال لهم: فما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله] فأخذ أنس يخترق صفوف المشركين، فيقاتل في سبيل الله، فيصاب بأكثر من ثمانين ضربة وطعنة، فيخر على الأرض صريعاً: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب:23]. 7 - أما في حنين وما أدراك ما الذي حصل في حنين؟! لما تراجع الناس تقدم أشجع الناس، إنه رسول الله عليه الصلاة والسلام، يتقدم وهو على بغلة، والصحابة يمسكون زمامها، يريد النبي أن يتقدم في صفوف المشركين رافعاً عصاه وسلاحه وهو يقول: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب، يا عباس! نادِ أصحاب السمرة، نادِ أصحاب البيعة، فيناديهم العباس، فإذا بالصحابة يتذكرون تلك البيعة التي بايعوا فيها النبي على الجهاد، فيرجعون بدوابهم، ومن لم يستطع الرجوع بدابته يرمي نفسه من عليها، وهو يقولون: لبيك رسول الله! لبيك رسول الله! فديناك بآبائنا وأمهاتنا). لما انتهت المعركة قسم النبي الغنائم على الذين أسلموا حديثاً، ولم يعطِ الأنصار شيئاً، خاف الأنصار أن النبي قد هجرهم، وأنه سوف يرجع إلى وطنه، وبلاده، فإذا بالنبي يجمعهم في حائط، فيقول لهم: (يا معشر الأنصار! ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي؟! وكنتم متفرقين فألفكم الله بي؟! وعالة فأغناكم الله بي؟! فبكى الأنصار، وقالوا: الله ورسوله أَمَنُّ، الله ورسوله أَمَنُّ. ثم قال لهم النبي -اسمع ما الذي قال! -: ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وتذهبون بالنبي إلى رحالكم؟! فبكى الأنصار، وقالوا: الله ورسوله أَمَنُّ، ثم قال لهم: لولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار، لو سلك الناس وادياً وشعباً وسلك الأنصار آخر؛ لسلكت وادي الأنصار وشعبها، الأنصار شعار والناس دثار، إنكم ستلقون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار أخذ يدعو لهم، فبكى القوم حتى ارتفع صوتهم بالبكاء، واخضلَّت لحاهم وهم يقولون: رضينا برسول الله قَسَماً وحَظَّاً) {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128].

حرصه على دعوة الآخرين

حرصه على دعوة الآخرين سَمِع النبي صلى الله عليه وسلم أن يهودياً من جيرانه مريض، ماذا يصنع وهم أشد الناس عداوة له؟! ماذا يفعل نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام؟! هل فرح؟! هل استبشر بأن يهودياً مرض؟! هل دعا عليه بالموت؟! بل زاره، عاده وجلس عند رأسه، شاب مريض وعنده أبوه، يهودي كبير، أتعرف ماذا قال له؟ قال له النبي: (يا فلان! قل: لا إله إلا الله، واشهد أني رسول الله، فإذا بالشاب لا يرد على النبي عليه الصلاة والسلام، وينظر الشاب إلى أبيه -واليهود يعرفونه كما يعرفون أبناءهم- ماذا يقول له أبوه؟ أتعرف ماذا قال أبوه؟ قال اليهودي الكبير: يا بني! أطع أبا القاسم، فقال الشاب: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، فمات الشاب من ساعته، وخرج النبي متهللاً مبتسماً ضاحكاً، وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه من النار بي)، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]. كان المنافقون يسبونه ويشتمونه، وكان يدعو لهم ويستغفر لهم، بل صلى عليهم حتى قال الله عز وجل: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة:80] قال: لأزيدن عن السبعين مرة، فنهاه الله عز وجل، انظر إلى رحمته! كان ينادي حليمة السعدية -مُرْضِعَتَه- وهو قد تجاوز الأربعين من العمر: يا أماه. استأذن ربه أن يزور قبر أمه وقد ماتت مشركة، فأذن الله له، فاستأذنه أن يستغفر لها، فلم يأذن الله له، فكان إذا مر على المقبرة زار قبرها، وأخذ يبكي عليه الصلاة والسلام، رحمة وأي رحمة! زيد بن حارثة، مولىً من الموالي، خدم عند النبي سنين، فلما جاءه أبوه وأراد أن يرجعه إليه، فطلب زيد من أبيه أن يبقى عند النبي صلى الله عليه وسلم، يقدمونه على آبائهم وأمهاتهم وأبنائهم، حب وأي حب هذا!

حلمه صلى الله عليه وسلم

حِلمه صلى الله عليه وسلم يأتيه رجل من الأعراب فيجذبه من ردائه، حتى أثَّر الرداء على صفحة عنقه عليه الصلاة والسلام، فإذا بالأعرابي يقول: (يا محمد! أعطني من المال -أعطني شيئاً من المال- فإذا بالنبي يبتسم، ويقول لأصحابه: أعطوه من بيت المال). يسوِّي الصفوف يوماً من الأيام، فإذا برجل من الصحابة متقدم فيدفعه النبي فكأن وجهه قد تغير، فقال له النبي: (أوجعتك؟ قال له: نعم، قال: أتريد أن تقتص؟ قال الصحابي: نعم -الله أكبر! قائد الجيش مع فرد من الأفراد- قال: خذ حقك، والصحابة ينظرون، فقال له الرجل: يا رسول الله! إن بطني مكشوف، فاكشف لي عن بطنك، فكشف النبي عن بطنه -يريد الصحابي الآن أن يأخذ حقه، أتعرف ماذا صنع؟ - انكب الصحابي على بطن النبي وأخذ يقبله وهو يبكي، قال النبي: لم فعلت هذا يا فلان؟ قال: أردتُ -قبل الجهاد ربما أموت- أردت أن تمس بشرتي بشرتك قبل أن ألقى الله عز وجل). {ن وَالْقَلَمِ} [القلم:1] انظر للقسم! {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:1 - 4] مَن الذي يصفه بهذا؟ رب العالمين جل وعلا، يصفه بأنه على خلق عظيم. في معركة بدر يقول عبد الرحمن بن عوف: [غمزني شاب عن يميني، قال: يا عم! أين أبو جهل؟ قلت: ما شأنك وشأنه يا غلام؟ قال: لقد سمعت أنه سب رسول الله، فوالله إن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعدل منا! سبحان الله! قال: فغمزني شاب عن يساري، فقال لي نفس الكلام، قال: سمعت أنه سب رسول الله]. أين شباب الأمة اليوم؟! أين هم مِن الذين يسبون رسول الله؟! أين هم من الذين يطعنون في رسول الله؟! أين هم من الذين يستهينون بسنة رسول الله؟! أنا لا أقول: نغتالهم، بل ندافع عن سنة النبي عليه الصلاة والسلام، إن كان الأمر جهاداً فالقتل هو نهاية من يطعن في رسول الله، الحرب والقتل والجهاد. قال: [فلما رأيت أبا جهل قلت لهما: هذا صاحبكما، فانقضا عليه كما ينقض الصقر على الفريسة، فأردياه قتيلاً] لمه؟ إنه الحب لرسول الله، الحب الذي لا يعدله حب ألبتة. يقول أحد الكفار المستشرقين: لو كان محمدٌ حياً لحل مشاكل الشرق والغرب -كل المشاكل؛ الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية- وهو يشرب فنجان قهوة. أتعرف لمه يا عبد الله؟ لأنهم يعرفون قدره.

صلته بالله تبارك وتعالى وخشيته له

صلته بالله تبارك وتعالى وخشيته له كان يحب الله عز وجل، كثير العبادة، وكان إذا جاء عليه الليل صلى الله عليه وسلم وأرخى ستوره، يقوم بين يدي الله يصلي ويبكي، يقول لـ عائشة يوماً من الأيام: (ذريني يا عائشة! أتعبد ربي، قالت: والله يا رسول الله! إني أحبك وأحب قربك وأحب ما تحبه، فَتَرَكَتْه، تقول: فتوضأ فكبر يصلي، فبكى حتى اخضلَّت لحيته، وبلَّ حجره، وبلَّ الأرض، وكان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، ويخشى الله عز وجل أشد الخشية). لما كسفت الشمس في حياته فزع فقام من مكانه وذهب إلى الصلاة، يقولون: (حتى نسي رداءه، فجاءه الصحابة بردائه ووضعوه على كتفيه وهو يصلي، فأخذ يصلي ويقرأ قراءة طويلة، يقول الراوي: فأخذ يبكي في الصلاة وهو يقول ويدعو الله عز وجل: ربِّ لم تعذبنا ونحن نستغفرك) {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} هذه كرامته على الله، {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33]. بل كان إذا جاءت الريح يخاف عليه الصلاة والسلام، ويقول: (عُذِّب قومٌ بالريح وظنوا أنه عارض ممطرهم، ولكنها كانت ريحاً فيها عذاب شديد).

عظم منزلته عند الله

عظم منزلته عند الله يوم القيامة انظروا كيف يرفعه الله عز وجل على العالمين (كل الأنبياء يقولون: نفسي نفسي إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، إلا النبي عليه الصلاة والسلام صاحب الشفاعة الكبرى، الذي يقول للناس: أنا لها أنا لها فيذهب فيسجد بين يدي الله ولا يحق لأحد السجود إلا رسول الله، حبيبنا عليه الصلاة والسلام، يسجد بين يدي الله عز وجل، فيقول له الرب بعد أن يلهمه تسابيح لم يكن يعلمها في الدنيا: يا محمد! ارفع رأسك، وسَلْ تُعْطَ، واشْفَعْ تُشَفَّعْ، فيقول: اللهم أمتى أمتى). قال فيه الشاعر: لما أتتك (قُمِ اللَّيْلَ) استجبت لها العين تغفو وأما القلب لم ينمِ تمسي تناجي الذي أولاك نعمته حتى تغلغلت الأورام في القدمِ أزيز صدرك في جوف الظلام سرى ودمع عينيك مثل الهاطل العمِمِ الليل تسهره بالوحي تعمره وشيبتك بهود آيةُ السَّقِمِ صبر ودعا إلى الله فلم يجزع يوماً من الأيام، كان يحلم على كل من جهل عليه، كان يدعو إلى الله عز وجل راجياً رجا أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً.

زهده في الدنيا ورغبته فيما عند الله

زهده في الدنيا ورغبته فيما عند الله في حجة الوداع أوحى الله إليه: إنك يا محمد! سوف تغادر هذه الدنيا، لقد قاربت المهمة على النهاية، فإذا به يهيء قومه ويهيء المسلمين لهذا: (أيها الناس خذوا عني مناسككم، فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا)، ونعاه الله عز وجل بقوله: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:1 - 3]. فرجع من حجه (وفي شهر صفر أصيب بوعك شديد، فدخل على عائشة، قالت عائشة: يا رسول الله! وارأساه، قال: بل أنا وارأساه يا عائشة!) فجلس مريضاً. واشتد به المرض عليه الصلاة والسلام حتى عصب رأسه يوماً من الأيام فخرج على المنبر في الناس، فجمع الصحابة فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: (إن عبداً خيره الله بين أن يؤتيه زهرة الدنيا وبين ما عند الله فاختار العبد ما عند الله فبكى من الصحابة رجل واحد -من هو؟ إنه صاحبه أبو بكر رضي الله عنه- قال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله! ثم قال: إن مِن أمَنِّ الناس عليَّ في صحبته وماله أبا بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، لكن صاحبكم خليل الرحمن) وأبو بكر يبكي ولا يعلم الناس لِمَ يبكي، علم أبو بكر بالخبر، علم أبو بكر بأن النبي يخبر الناس بأنه هو العبد الذي اختار ما عند الله. خرج عليه الصلاة والسلام ليلةً من الليالي مع أبو مويهبة إلى البقيع يستغفر للمؤمنين، قال: (يا أبا مويهبة! إني قد خيرت بين مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، وبين لقاء ربي والجنة، قال أبو مويهبة: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! اختر الخلد في الدنيا والجنة، قال: لا يا أبا مويهبة! اخترت لقاء ربي والجنة). مرت الأيام، اشتد المرض على النبي صلى الله عليه وسلم حتى ارتفعت به الحمى، واشتدت به الحرارة، حتى جاء ذلك اليوم الذي استأذنه بلال بالصلاة، فقال النبي لـ عائشة: (مري بلالاً يقرئ أبا بكر السلام، ويقول له أن يصلي بالناس، قالت عائشة: إن أبا بكر رجل أسيف يا رسول الله! مُرْ غيره، قال: مُروا أبا بكر فليصلِّ بالناس) خليفته من بعده، إنها الخلافة الشرعية التي سوف تكون هي الخلافة السياسية. فإذا بـ بلال يؤذن أبا بكر أن يصلي بالناس، فأقام بلال الصلاة، فكبر أبو بكر بالصلاة وأخذ الصحابة يبكون؛ لأن الإمام وإن كان أبو بكر، لكنه ليس حبيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم! يوم ويومان ويشتد بالنبي المرض، كان يسكب عليه الماء الكثير بالقرب، حتى يقوم في الناس ليصلي، ولكنه لم يستطع عليه الصلاة والسلام. دخلت عليه فاطمة فبكت لما رأت حاله، وقالت: (واكرب أبتاه! واكرب أبتاه! قال: يا فاطمة! لا كرب على أبيك بعد اليوم، لا كرب على أبيك بعد اليوم، جاءت إليه فأسرَّها بِسِرٍّ؛ فبكت فاطمة، ثم بِسِرٍّ آخر؛ فضحكت فاطمة رضي الله عنها). فقالت عائشة بعد زمن: [ماذا كان ذلك الذي أخبرك به؟ قالت: أخبرني بأنه سوف يفارق الدنيا فبكيت، ثم أخبرني بأنني أول الناس لحوقاً به فضحكت واستبشرت بهذا]. مر اليومان ثم في اليوم الثالث اشتد بالنبي عليه الصلاة والسلام المرض، وكان عند عائشة فدخل عبد الرحمن أخوها، وكان بيده سواك، فنظر النبي إلى السواك، فرطَّبته عائشة بريقها، وسوَّكت به النبي عليه الصلاة والسلام، ورأسه بين حجر عائشة ونحرها، وبل ريقه ريقها، ثم بعد قليل قال النبي -بعد أن وصَّى الأمة بما وصَّاها بها-: (لا إله إلا الله لا إله إلا الله إن للموت لسكرات، إن للموت لسكرات، ثم قال: بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى) ثم غُمِّضت عيناه، وفارقت تلك الروح الطاهرة ذلك الجسد الطيب، فأظلم في المدينة كل شيء!! دمعت أعين الصحابة، وبكى مَن بكى. أما علي فلم يقدر على الكلام. وأما عثمان فلم يقوَ على القيام. وأما عمر رضي الله عنه، فقال: [من زعم أن رسول الله قد مات لأضربنه بالسيف، إنه لم يمت، بل ذهب إلى ربه وسيعود كما ذهب موسى]. حتى جاء أبو بكر إلى بيت ابنته عائشة فدخل على النبي وقد سُجِّي بالغطاء، فأزال الغطاء عن وجهه، فدمعت عيناه ثم قبله بين عينيه، وقال: [[طبت حياً وميتاً يا رسول الله! والله لا يذيقنك الله الموت مرة أخر]. ثم خرج إلى الناس فنظر إلى عمر قال: يا عمر! اجلس. فما جلس يا عمر! اجلس فما جلس. فقام أبو بكر خطيباً في الناس، فقال: [أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم قرأ قول الله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144]] يقول عمر: [كأنني أسمع الآية لأول مرة] فرددها الصحابة في الطرق والشوارع، والكل يردد هذه الآية. ثم غسل النبي عليه الصلاة والسلام، ثم أدخل جسده الطاهر ذلك القبر الشريف، في المكان الذي توفي فيه. تقول فاطمة وقد بكت بعد أن دفن: [كيف طابت أنفسكم أن تحثوا التراب على رسول الله؟!]. أما علي رضي الله عنه وهو يغسله يقول وهو يبكي: [ما أطيبك حياً وميتاً يا رسول الله!]. أما أنس، يقول: [لما دفناه أنكرنا قلوبنا، وأظلم في المدينة كل شيء]. حتى بعد أن مضى شيء من الزمان، قال أبو بكر وقد قام في الناس خطيباً: [أما بعد: فقد قال النبي وهو على هذا المنبر، ثم توقف وأخذ يبكي لما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم]. أما عمر بعد أن فتح بيت المقدس وأذن بلال بالناس، وقف عمر بن الخطاب عند أحد الجدر وأخذ يبكي، وبكى الصحابة معه لما تذكروا إمامهم وقدوتهم محمداً عليه الصلاة والسلام: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].

علاقة الناس بالنبي صلى الله عليه وسلم

علاقة الناس بالنبي صلى الله عليه وسلم إن الناس في علاقتهم بالنبي ثلاثة أصناف: الصنف الأول: من يحبه ويرفعه أكثر من قدره عليه الصلاة والسلام، حتى إن بعضهم أوصله لمراتب الألوهية والربوبية، فأصبح يدعوه، ويذبح له، ويستغيث به من دون الله. وهؤلاء قد جاوزا الحد، والنبي عليه الصلاة والسلام قد قال: (لا تُطْرُوني كما أَطْرَت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله) فهو عبد الله، وهذا أشرف وصف له عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1]. الصنف الثاني: أناس جفوه عليه الصلاة والسلام، وهجروا سنته -بأبي هو وأمي- لا يتبعون سنته ولا يقتفون أثره عليه الصلاة والسلام، لا يعرفون شيئاً عن حياته ولا شيئاً عن سيرته، لو سألتهم عن اللاعبين والمغنين لجاءوك بحياتهم وسيرتهم، أما عن حياة نبيهم؛ أزواجه، أبنائه، أصحابه؛ سيرته؛ جهاده؛ معاركه؛ عبادته، فلا يعرفون شيئاً عنها، تركوه! حتى إنك لو أتيتهم بحديث لقالوا: لا نأبه بالحديث، نأخذ القرآن وندع السنة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه)، وقال: (من رغب عن سنتي فليس مني). أما الصنف الثالث: فهم المتبعون له عليه الصلاة والسلام، الذين يحشرون معه ويدخلون الجنة معه: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا مَن أبى، قيل: ومَن يأبى يا رسول الله؟! قال: مَن أطاعني دخل الجنة ومَن عصاني فقد أبى). يوم من الأيام يخلع نعاله في الصلاة عليه الصلاة والسلام، فإذا بالصحابة كلهم يخلعون نعالهم، فينظر إليهم وقال: (ما الذي حملكم على هذا؟! قالوا: رأيناك خلعت نعالك فخلعنا نعالنا، فقال لهم عليه الصلاة والسلام: إن جبريل قد أخبرني أن فيها أذى فخلعتها) أرأيتم اتباعاً كهذا؟! أما الناس اليوم إلا من رحم الله، بعضهم قد هجر سنته، واتبع هدياً غير هديه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]. يتشرف الواحد منا لَمَّا يتأسى بهديه عليه الصلاة والسلام، لََمَّا يتأسى بمظهره، بعبادته، بأخلاقه، بدعوته، بجهاده، بسيرته؛ لأنه صاحب الخلق العظيم الذي لَمَّا سئلت عائشة عن خُلُقِه قالت: (كان خلقه القرآن). قال بعضهم: يا أمة غفلتْ عن نهجه ومضتْ تهيم مِن غير لا هديٍ ولا علَمِ تعيش في ظلمات التيه دمرها ضعف الأخوة والإيمان والهممِ يوماً مُشَرِّقَةً يوماً مُغَرِّبَةً تسعى لنيل دواءٍ من ذوي سقمِ لن تهتدي أمة في غير منهجه مهما ارتضتْ من بديع الرأي والنُّظُمِ بأبي هو وأمي! كم علتْ همته في البذل الذي بَذَل، والهول الذي احتَمَل لتحرير البشرية من وثنية الشرك والضمير، وضياع المصير. فجزاه الله خير ما جزى نبياً عن أمته، وجعله أعلى النبيين درجةً، وأقربهم منه وسيلةً، وأعظمهم عنده جاهاً، وتوفنا اللهم على ملته، وعرفنا وجهه في الجنة، واحشرنا معه غير خزايا ولا نادمين، ولا شاكِّين ولا مبدلين ولا مرتابين. وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

حرب الإدمان

حرب الإدمان إن الله جل وعلا أحل لعباده الطيبات من المآكل والمشارب، وحرم عليهم الخبائث التي تعود عليهم بالضرر في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، وقد وصف الله النبي صلى الله عليه وسلم بوصف جميل فقال: (ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث) وقد حذرنا المصطفى صلى الله عليه وسلم من كل الخبائث والمحرمات، ومنها: إدمان المخدرات والأمور المذهبة للعقل والمال والعرض.

سبب الوقوع في المخدرات وعاقبة مدمنيها

سبب الوقوع في المخدرات وعاقبة مدمنيها الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وخاتم النبيين، وعلى آله وصبحه. أما بعد: أيها الإخوة الكرام: هذه رسالة موجهة إلى مدمن، ولعلكم تجدون أسلوبي في الحديث أسلوباً غير مباشر للحاضرين، ولكن لعل السامع منكم أن يستفيد من كلماتي. أيها الأخ الكريم! أيها الأخ العزيز! أوجه إليك هذه الكلمات، يا من وقعت في حبائل المخدرات! يا من بدأت تتعاطى بل أصبحت مدمناً! أوجه إليك هذا الحديث، فأرع لي سمعك، وتوقف معي دقائق، واستمع لي، ولن تخسر شيئاً إذا لم تستفد من كلامي. لو سألت أكثر المدمنين في هذا الزمن، وأكثر المتعاطين: لم تتعاطون المخدرات؟ ولمَ أدمنتم عليها؟ ولمَ وقعتم في حبالها؟ لأجابك أكثرهم أبحث عن السعادة، أبحث عن الراحة، أريد الطمأنينة. اسأله السؤال الثاني: هل وجدتها؟ وأنا أظن بل أجزم بأن أكثر من تعمق في المخدرات، وأدمن عليها، سوف يجيبك بهذه الإجابة، ويقول: كلا. والله، لا زلت أبحث عنها. أتبحث عن هذه السعادة الموهومة؟! جلست يوماً من الأيام أنصح شاباً، سلم نفسه بجريمة قتل عمد -قتل رجلاً ثم سلم نفسه- جلست معه أحدثه عن التوبة، وأخوفه من الله جل وعلا، وأنصحه فيما فعل، فقال لي: يا شيخ! ما تقول؟ أنا سبع سنوات مدمن للمخدرات. قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، سبع سنوات وانظر إلى النهاية. قال: نعم. يا شيخ، سبع سنوات أنا مدمن لهذه المخدرات. قلت له: بماذا كنت تشعر؟ قال: كنت أشعر كأنني أطير في الهواء. قلت له: ثم ماذا؟ قال: ثم عذاب وألم وحسرة. يقول: وهكذا سبع سنوات لم تنته إلا بالقتل، وسَلَمَ نفسه ينتظر القصاص، تعرف لم؟ لأن الله جل وعلا يقول: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً} [طه:124] نعم يعيش يأكل يشرب، يلبس، ينام، يستيقظ، يمشي، يتحرك، لكن انظر إلى عيشته: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى} [طه:124 - 125]. السماء تفطرت، والأرض تزلزلت، والجبال نسفت، والبحار احترقت وسجرت، والقبور قد بعثرت، والوحوش حشرت، والولدان قد صارت رءوسهم شيباً، ويمشي هذه الرجل المسكين على صراط أدق من الشعر وهو أعمى، وأحدَّ من السيف، وجهنم تلهب من تحته، ويقول: {رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً} [طه:125] أي: في الدنيا. انظر إلى السبب: {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا} [طه:126] تذكر ذلك المجلس الذي سمعت فيه بعض الآيات، تذكر ذلك الشريط الذي أهدي إليك فاستمعت إليه، لكنك نسيت: {كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:126]. أخي الكريم! أخي العزيز! تذكر وأنت تقدم على تعاطي تلك المخدرات، وأنت تقدم على استقائها، وأنت تُقدم على تجرعها، تذكر يا أخي العزيز! أنك تتعرض لغضب الرب جل علا، واعلم أنك لو مت وأنت على هذه الحال، ما دخلت الجنة (ثلاثة حرم الله عليهم الجنة: وذكر منهم: ومدمن خمر) الخمر الذي يذهب العقل، ويتفرع منه المخدر هذا الزمن. تذكر يا أخي العزيز! وأنت تتجرع هذه المخدرات وتتعاطاها، أن المصير في النهاية وفي الخاتمة أنك تتجرع من ماء صديد: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ} [إبراهيم:15 - 16] نهاية المخدرات والإدمان، عذاب في الدنيا، ثم حسرة، ثم موت، ثم جهنم: {مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ} [إبراهيم:16] قيح وصديد. تتشقق الجلود، فتخرج قيحاً يتسابق أهل النار إليه ليأكلوه وليشربوا منه: {يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم:17] بل جاء في الحديث الصحيح: أن شارب الخمر يسقى من ردغة الخبال، وهي عصارة أهل النار، وتخيل مم تخرج؟ تخرج بعضها من قيح الجلود، ويخرج بعضها الآخر من الفروج، ويخرج بعضها من الأفواه والفم. عصارة أهل النار، يتسابق إليها شارب الخمر والمسكر والمخدر ليشربوها، تذكر إن كنت من المتعاطين هذا المصير: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ} [الدخان:43 - 44] {كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ} [الدخان:45]. عندما يأكلون منه البطون تغلي، أرأيت القدر كيف يغلي بالماء؟ هكذا البطن يغلي ويفور من ذلك الطعام، وكما في الحديث: (لو أن قطرة من الزقوم سقطت على الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم) فكيف بمن تكون طعامه؟! تذكر وأنت تقدم على هذه المعصية وذلك الإثم، تذكر هذا المصير: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ * خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ} [الدخان:43 - 47] الملائكة تدفعه دفعاً، لكن إلى أين؟ إلى قعر جهنم: {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الدخان:47]. ثم ماذا يا رب؟ {ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ} [الدخان:48] فإذا صب على الرأس يدخل الحميم إلى المعدة والأمعاء، فيقطعها، إنا لله وإنا إليه راجعون! هل تعدل تلك الجلسات، وهذه الهلوسة، وتلك السهرات، وهذه الحبوب، ذلك العذاب؟

صور لمن لاقوا عقوبة المخدرات الدنيوية

صور لمن لاقوا عقوبة المخدرات الدنيوية أخي الكريم! أما في الدنيا فعذاب وألم، وأظن أنك تستمع إليّ الآن وتقول لي: يا شيخ! من قال لك؟ نحن نفرح ونتمتع، نحن نسعد ونلهو، نحن نطير في الهواء، أقول لك: كذبت، ولم تصدق نفسك، فإن هذه السعادة سعادة موهومة. أذكرك بتلك اللحظات التي تتقلب فيها على الفراش، أذكرك بوقت تكون فيه أنت لوحدك في غرفة مظلمة، تحس أن الدنيا قد ضاقت عليك بما رحبت، أذكرك لما نقصت عليك المادة ولم تحصل على بعض الحبوب، كيف تألمت؟! وكيف تعذبت؟! أذكرك يا أخي! وأنت تحاسب نفسك وتعاتبها، ماذا تفعلين إذا قدمت على الجبار؟ صليت المغرب يوماً، فجاءني شاب قال لي: يا شيخ! أريد الحديث معك، قلت له: تفضل، قال: لا. عندي شخص آخر يريد أن يجلس معك، قلت: الآن؟ قال: لا. بعد أن يخرج الناس. فلما خرج الناس بعد صلاة المغرب جلست معه في زاوية المسجد، فإذا بالثاني يخرج لي هوية من جيبه، فنظرت إليها. قال لي: يا شيخ! انظر إلى الصورة! نظرت إلى الصورة -وأنا في المسجد- فإذا فيها وجه حسن جميل مضيء، والذي أمامي وجه مخيف مفزع قبيح مظلم. قال لي: يا شيخ! أرأيت الصورة؟ قلت: نعم. قال: هذا أنا. قلت: مستحيل! قال: والله وأنا في بيت الله هذه الصورة صورتي. قلت: يا أخي! ليس في وجهك شبه أبداً، وما أحببت أخبره أن الصورة أجمل وأحسن بكثير من الوجه الذي أمامي نور في الصورة وظلام أمامي. قلت له: حدثني عن خبرك؟ قال لي: يا شيخ! كان لي رفقة عند بيتي، فجئتهم يوماً من الأيام، أشرب معهم الشاي كالعادة، يقول: لكن الشاي لم يكن كالعادة، وأحسست فيه بلذة. يقول: فجئت في اليوم الثاني أرجو أن أشرب من نفس الشاي، فشربت منه وأحسست بلذة أكبر، وكأن نفسي أصبحت خفيفة، وهكذا في اليوم الثالث والرابع، حتى أدمنت على شرب هذا الشاي، ولكن لا أدري ما الذي به؟! يقول: وفي يوم من الأيام قدمت إليهم أسألهم عن هذا الشاي. قالوا لي: يا فلان! أتعرف ماذا بهذا الشاي؟ قلت: لا. قالوا: به حبوب، قلت: ماذا يعني حبوب؟ قالوا: حبوب مخدرات. فقلت: الآن أنا لا أستطيع أن أتخلص منه فما الحل؟ قالوا: نعطيك منها لا تخاف، الحبوب متوفرة. قلت: إذاً أعطوني. قالوا: ادفع الثمن! أوقعوه الآن في حبالهم. قال لهم: ليس عندي أموال. فقلت له: ومن أين كنت تأتي بالمال؟ قال لي: يا شيخ! كنت أطلب من الوالدة، من الوالد، وكانوا يعطوني في بادئ الأمر. قلت: ثم ماذا؟ قال: بدأت أسرق منهما. ثم من غيرهما، ثم أستدين وأسرق!! قلت: إلى أي درجة؟ قال: ثم قالوا: لي يوماً من الأيام؟ إن أثقلتك الأموال فهناك طريقة أخرى. قلت: ما هي هذه الطريقة؟ قالوا لي: تروج لنا المخدرات ونحن نعطيك. قال: كيف؟ علموني الطريقة. يقول: ثم بدأت أروج المخدرات وأنا لا أشعر. قلت له: لِمَ لا تتوب؟ قال: يا شيخ! جربت التوبة، ولكن! قلت: ما الذي منعك؟ قال: السلاح. قلت: ماذا تقصد؟ قال: يهددوني بالقتل إن لم أستمر في هذا الترويج. وهذا الرجل إن استمر على حاله يبعث عند الله جل وعلا، أتعرف كيف؟ {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً} [الفرقان:27 - 28]. يا ليتني ما عرفتهم! يا ليتني ما جلست معهم! يا ليتني ما صاحبتهم! يا ليتني ما سلمت على فلان يوماً من الأيام! لكن ولات ساعة مندم: {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً} [الفرقان:28] يسميه عند الرب جل وعلا: {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً} [الفرقان:28 - 29]. إذا دخل هذا الشاب وأمثاله إلى جهنم يقول: يا رب! لي طلب، فما هو طلبه؟ {رَبَّنَا أَرِنَا} [فصلت:29] يرى من؟ {رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ} [فصلت:29]. يا رب! أريد أن أرى ذلك الرجل الذي أعطاني الحبة أول مرة؟ وسقاني ذلك الكأس؟ وعلمني طريق المخدر؟ يا رب! أريد أن أراه إما في المحشر وإما في جهنم، يتمنى أن يراه تظن لمَ؟ أليصافحه، أليصادقه، أليعانقه بعد فراق طويل؟ لا. اسمع لماذا يطلب رؤيته يوم القيامة: {رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا} [فصلت:29] أطأ عليهما برجلي، ولِمَ؟ {لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ} [فصلت:29]. لكن الآن لا ينفعه كل هذا، لطالما جاءك الصالحون، وأعطوك الشريط، وأهدوك تلك الكلمات، ونصحوك تلك النصائح، ولكن أبيت وعصيت واستكبرت إلا أن تستمر مع هؤلاء: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف:38] إلى أين؟ إلى جهنم. كلما دخل رجل لعن صاحبه: {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً} [الأعراف:38] إذا تجمعوا كلهم في جنهم؛ ماذا يطلبون؟ {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا} [الأعراف:38]. يقول في جهنم: يا رب! يا رب! هؤلاء الذين دلوني على تلك المجالس وتلك المستنقعات. يا رب! هؤلاء الذين أعطوني هذه الحبوب، وعرفوني ذلك الطريق. يا رب! {فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ} [الأعراف:38] يا رب! ضاعف لهم العذاب في النار. ماذا يقول الرب؟ {قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:38]. أتظن يا أخي الحبيب! أن القضية تنتهي عند حبة وتقف؟ لا. القضية أكبر وأدهى وأمر، فالحبة هي الخطوة الأولى للإدمان، وهذه هي بداية الطريق، وإلا فالطريق مظلم وموحش، رأيت صورةً من الصور، عرضها أحد المشايخ الفضلاء لشاب مدمن، مات أثناء إدمانه لأن الإدمان -ولعلك وأنت تسمعني تعرف هذه الحقيقة- يحتاج إليه الإنسان كل يوم أكثر من الذي قبله، يحتاج أن يزيد ويزيد، حتى يصل إلى حد يقتل الإنسان نفسه. وكم نسمع في الأخبار: أن شاباً وجدت جثته في مزبلة، وآخر في محرقة، وثالث رُمي في المسجد، ورابع عند المستشفى، وخامس قبل شهر قتل ورمي في الصحراء، وسادس وسابع وإحصائيات القتلى تزداد يوماً بعد يوم، لا تقل: لا. أنا أضمن نفسي. لا تقل: لا. أنا سوف أتوب قبل الموت، وما يدريك فقد يذهب عقلك ثم تسقط على الأرض وتفارق الدنيا، أحدثك عن الصورة التي رأيت، أتعرف كيف مات هذا الشاب؟ أيها الأخ العزيز! هذا شاب وهو يتعاطى المخدرات، وزاد في جرعة الإدمان والتعاطي فسقط على الأرض وأحس بألم وتعصر حتى انفجر مخه، وبدأ يسيل ما في مخه من أنفه، ورأيته بالصورة، انظر كيف تعذب في الدنيا قبل الآخرة. إن رأيت المنظر لا تتحمله ولعلك ما تطيق طعاماً بعده، أتعرف لِمَ؟ {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:124]. وآخر رأيت صورته جالس في شقته داخل غرفته، كان يتعاطى، حاله حال المتعاطين المدمنين، ولكنه زاد في الجرعة شيئاً ما، يريد أن يتلذذ، يريد أن يشعر بتلك السعادة، وإذا به يتعاطى جرعة زائدة، فإذا به يموت في غرفته، ما شعر به أحد، ما صلى عليه أحد، ما دفنه أحد، ظل أياماً في غرفته ميتاً، أنتنت الجيفة. أتعرف كيف عرفوا قصته؟ وجدوا رائحة منتنة تخرج من الغرفة، والذباب قد تجمع على الباب، كسروا الباب، فإذا بهذه الجثة التي ظلت أياماً والنمل يأكلها من كل جانب، ورأيت هذا المنظر بعيني أيها الإخوة. منظر ما أقبحه! في هيئة الساجد، على أدوات المخدرات، والنمل يأكله من كل جانب! أعوذ بالله من تلك الميتة، أرأيت إلى خاتمتهم! هل هذا عاش بسعادة كان يرجوها، أين السعادة؟! أين النعيم؟! يا مسكين! يا من تبكي الليالي والأيام! اجلس مع بعض الصالحين، حدث بعض الأخيار، قل للذين يبكون في الصلاة، ويقرءون القرآن، ويسافرون إلى العمرة: هل وجدتم تلك السعادة التي أبحث عنها؟ أتعرف ماذا سيقولون لك؟ يقولون: لو كان أهل الجنة في مثل ما نحن فيه إنهم والله لفي عيش طيب. {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] تقول: أنا ضامن نفسي إن شاء الله ألا أموت وأنا أتعاطى المخدر، اسمع الإحصائيات لوزارة الداخلية: أكثر من ألف وتسعين شخصاً ماتوا بسبب المخدرات في الكويت، من الذي يضمن لك أنك لا تكون أحد هذه الأرقام القادمة؟ أخي الكريم: إن كثيراً من المتعاطين يفقد عقله فيفعل ما لا يفعله أي عاقل، بل لو كان يدري عن نفسه لقتل نفسه قبل أن يفعل هذه الفعلة، وكم سمعنا من أخبار متعاطيي المخدرات من أتى على محارمه، واسمع يا رعاك الله! اسمع فتح الله قلبك للإيمان، اسمع إلى قصة هذا المدمن، الذي كان شاباً صغيراً لم يعرف شيئاً عن الإدمان يوماً من الأيام. تُوفي أبوه فرعته أمه، كانت تعطيه بعض المال، ليبحث عن حرفة له ليعمل بها، وكانت أمه المسكينة تبحث له عن السعادة. هذا الشاب تعرف على رفقة سيئة؛ بدأ بالتدخين، ثم بدأ يدمن معهم المخدرات، ووقع في ذلك الوحل وأمه لا تدري، دخلت عليه يوماً من الأيام في الغرفة، فإذا بها تجده في وضع غريب، يشرب دخاناً ليس كالدخان الذي تعرفه -الحشيش- عرفت الخبر، نصحته، ذكرته بالله، خوفته بيوم القيامة والنار والقبر، لكنه ما خاف من عذاب الله جل وعلا. جاءها يوماً من الأيام وطلب منها المال، فقالت له: يا بني! لن أعطيك المال، وأنت على هذه الحالة؟ تب إلى الله ثم أعطيك المال. قال: أعطيني رغماً عنك. وأنتم تعرفون أن المدمن على المخدرات إذا انقطع عن الإدمان لا يشعر بنفسه، ويصبح كالوحش المفترس. جاءها يوماً من الأيام، قال: تعطيني؟ قالت: لن أعطيك، ضربها وأخذ ذهبها، وباعه واشترى به المخدر، بكت أمه عذاباً وحسرة وألماً. أيها المدمن! تذكر هذه الأم المسكينة، التي خلفتها في البيت وهي تبكي عليك، تذكر كم كانت ترعاك، وكم كانت تسهر على من أجلك. كم كانت تفرح وتتمنى أن تكون مثل فلان الطبيب، وفلان المهندس، وفلان الداعية، وفلان المصلي الراكع الساجد، كانت تسمع أخبار جاراتها: هذه ولد لها حفظ القرآن، وآخر ذهب إلى العمرة، وثالث يدعو إلى الله، ورابع صار طبيباً، والآخر صار مهندساً، وهذا يدرس الناس في المدارس. أما أنت تذكر يا أخي الكريم! واعلم أن أمك تبكي عليك دماً وأنت لا تدري. جاء يوماً من الأيام وقد فقد عقله، فدخل على أمه في الغرفة، قال لها: أريد مالاً، قالت له: لن أعطيك؟ أخذ يضربها، قالت له: ماذا تريد؟ أتعرف ماذا كان يريد في تلك الحالة؟ وأُجِلُّ المسجد عن هذه الحكايات، ولكن لا بد من إخبارك بها. هذا الشاب فقد صوابه وأراد أن يهتك عرض أمه! واسمحوا لي رواية القصة أيها الإخوة! فإن المجتمعات مليئة بهذه القصص! حاول أن يعتدي على أمه مزق ثيابها هربت أمه من البيت، إلى أين وهي تبكي لا تدري أين تسير؟ توجهت إلى بيت ابنتها المتزوجة، دخلت بثيابها ممزقة، وهي تحدث نفسها: ماذا أقول لابنتي؟ ماذا أقول لزوجها؟ دخلت وهي تقول لهم: دخل علينا لص البيت وأراد أن يسرق الأموال، فهربت ولجأت إليكما، كذبت عليهما -قلب الأم- وفي الصباح أخبرت ابنتها بالخبر الصحيح. ظلت أياماً في بيت ابنتها وما رجعت إلى البيت، وبعد أيام قالت لابنتها: نرجع إلى البيت، رحمت ابنها وتذكرته، عطفت الأم على الولد، فهي لا تنسى ولدها مهما كان. رجعت إلى البيت هي وابنتها، فإذا بالبيت قد ب

طريق الخلاص من الإدمان

طريق الخلاص من الإدمان أيها الأخ الكريم! أيها الأخ العزيز! ما الحل وما النجاة؟ أتعرف ما النجاة؟ إنها في قول الله جل وعلا: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]. أيها الأخ العزيز! أقبل على الله جل وعلا، لا تقل: لا أستطيع لا أتحمل. ألقيت محاضرة يوماً من الأيام وجاءني شاب بعد المحاضرة، حسن الوجه، مطلق اللحية، مقصر الإزار، فيه سيماء الصلاح، فقال لي: يا شيخ! أريد أن تذهب معي إلى مكان. قلت له: وأي مكان؟ قال: مكان فيه أهل مخدرات. قلت: ولِمَ أنت الذي ترسلني إلى هذا المكان؟ قال لي: يا شيخ! أنا الذي أمامك كنت يوماً من الأيام مدمناً للمخدرات، يقول: كنت يومياً أتعاطى المخدرات ولا أستطيع الخلاص منها. قلت له: والآن؟ قال: الآن الحمد لله، أدعو إلى الله جل وعلا، أقرأ القرآن، أحضر حلق العلم، أحضر مع الصالحين، أجلس معهم، أبر والدي. قلت له: والآن هل أنت سعيد أم كنت أسعد في الماضي؟ قال: يا شيخ! ما أحسست بالسعادة إلا هذه الأيام التي توجهت فيها إلى الله جل وعلا. {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135]. أتريد الهداية؟ تريد التوبة؟ تريد صفحة جديدة بينك وبين الله؟ {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا} [آل عمران:135] قاطع تلك المجالس، فارق تلك الصحبة، أقبل على الصالحين، اجلس معهم، قل لهم: إني أقبلت على الله جل وعلا، فدلوني خذوا بيدي، قم آخر الليل، صلِّ ركعتين في السحر، فإن الرب ينزل، يقول: (هل من داع فاستجيب له، هل من مستغفر فاغفر له؟) صلِّ ركعتين في السحر، وأقبل على الله، واسجد بين يديه، ثم لتدمع تلك العينان، لعل الله أن يغسل ذنوبك. يا نفس توبي فإن الموت قد حانا واعصي الهوى فالهوى مازال فتانا أما ترين المنايا كيف تلقطنا لقطاً فتلحق أخرانا بأولانا أما تذكر يوم رفعت سماعة الهاتف، فقيل لك: أتعرف فلاناً؟ الذي كان معنا، في الدواوين في الشوارع، في الدراسة، تذكره جيداً اذكره جيداً قبل أيام كنت معه، في حادث سيارة انقلب بها، وفارق الدنيا، إنا لله وإنا إليه راجعون! أما ترين المنايا كيف تلقطنا لقطاً فتلحق أخرانا بأولانا وفي كل يوم لنا ميت نشيعه نرى بمصرعه آثار موتانا أقبل على الله جل وعلا، تعرف على الصالحين، افتح كتاب الله تبارك وتعالى، لتكن همتك عالية، هذه الهمة -همة الحبوب والتعاطي والإدمان- همة أنت تعرفها، همة خسيسة، ما أخسها وما أقذرها وما أنجسها! لتكن همتك أن تضحي بهذا الجسد -الذي طالما تعاطى ذلك المخدر- لله جل وعلا. همتك يا أخي العزيز! ألا تموت إلا شهيداً في سبيل الله. اسمع إلى هذا الشاب الذي ابتلي في دينه، وانظر إلى همته، يسمى عبد الله بن حذافة، كان أميراً لسرية، وأنا أقص عليك هذه القصة لترفع همتك أيها الشاب، ولتترك هذا الماضي المظلم، ولتقبل على الله جل علا بهمة تناطح الجبال. هذا الشاب كان يقود سرية من سرايا المسلمين، قبض عليهم النصارى، وكان فيهم عبد الله قائدهم. فجاء ملك الروم إلى عبد الله بن حذافة، قال له: أتريد أن ترجع إلى أهلك؟ قال: نعم، قال: أشاطرك نصف ملكي، من أموال، ونساء، وقصور؛ بشرط واحد. قال: ما هو؟ قال: أن تتنصر، تغير دينك من الإسلام إلى النصرانية. فضحك عبد الله بن حذافة، وقال: والله لو أعطيتني الدنيا بما فيها على أن أترك هذا الدين طرفة عين ما تركته. قال الملك: أدخلوه الحبس -السجن- فإذا بهم يدخلون عليه امرأة من أجمل النساء، وأغروها بالمال، فتعرت وتجملت أمامه، وحاولت أن تفتنه، فإذا بها تخرج بعد زمن، تقول للملك: لا أدري أأدخلتموني على بشر أم حجر، لا يدري أنا أثنى أم ذكر؟ فغضب الملك. انظر إلى الهمة، انظر إلى الصبر على الدين، انظر إلى لذة الطاعة! جيء بالقدور فأحميت ووضع فيها الزيت، قدر كبير وتحته النار تشتعل، والزيت يغلي، فجيء بـ عبد الله بن حذافة، وجيء بصاحب له من أصحابه، فإذا به ينزل حياً في قدر الزيت الذي يغلي، فاحترق حتى طفحت عظامه، وشوي جلده. قال الملك: الآن دورك، بكى عبد الله. قال له الملك: خفت الآن من الموت؟ قال: لا. والله ما خفت، ولكن صاحبي هذا كان ينافسني دوماً في طاعة الله، أما الآن فقد سبقني إلى الجنة، يا ليتني كنت مكانه، والله الذي لا إله غيره لو كان عندي أرواح بعدد شعرات جسمي، لتمنيت أن تخرج كلها في سبيل الله: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب:23]. أرأيت الهمة العالية؟! يتقلب على الفراش يحلم أن هذه الرقبة تطير في سبيل الله، ربما تقول لي: ياشيخ! هذا في الأزمان الماضية، وهذا في الزمن القديم، أما اليوم فمستحيل، فأقول لك: أحدثك بقصة في هذا الزمن. شاب مولع بالأغاني والطرب والنساء والمخدرات والخمور، كل معصية في الدنيا ارتكبها، لا تخطر على بالك معصية إلا وقد فعلها. يقول الشاب عن نفسه: ضاقت عليّ الأرض بما رحبت، مللت الحياة، مللت الدنيا، وتتعجب عندما تسمع: أن أعلى نسب الانتحار هي في الدول المتحضرة، لِمَ؟ يشنق نفسه، يقطع شرايينه بالموس؛ لينزف الدم ثم يموت، يرمي نفسه من أعلى عمارة، يضع مسدساً على رأسه، فيطلق طلقة يموت منها، ما السبب؟ يقول: الشاب، ضاقت عليّ الأرض بما رحبت: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:124] يقول: خرجت من البيت سافرت لا أدري إلى أين؟ يقول: خطرت على بالي فكرة أن أذهب إلى أخي في بلد آخر. يقول: طرقت الباب على أخي، وكان أخوه صالحاً. قال أخوه: ما الذي جاء بك؟ قال: يا أخي! مللت الدنيا، مللت الحياة، جئتك أمتع نفسي. قال أخوه: تفضل عندي يقول: أخوه نام تلك الليلة، وفي الفجر جاء رجل يوقظه للصلاة، كل يوم كان يوقظ أهل البيت، يا أهل البيت صلاة الفجر، صلاة الفجر، قام الرجل فزعاً فأيقظ الشاب. قال: ماذا تريد؟ قال: صلاة الفجر! قال: دعني. قال: لِمَ؟ قال: دعني فأنا لا أصلي أصلاً! قال: أعوذ بالله. قال: اتركني أنا لا أصلي؟! قال: لِمَ لا تصلي ألست بمسلم؟ قال: اتركني أنام أنا لا أصلي. قال: جرِّبِ الصلاة مرة! يقول: فذهب الرجل وجلس يفكر على الفراش، ويتردد في أذنه جرب الصلاة مرة! يقول: قام الشاب، واغتسل من الجنابة، ثم ذهب إلى المسجد، فإذا به يصلي، ثم يرجع إلى البيت يقول لأخيه: يا أخي! وجدتها. قال: ماذا وجدت؟ قال: وجدت السعادة. قال: أين؟ قال: وجدتها في الصلاة، وجدتها في السجود، وجدتها في الركوع!! {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:22] قال الشاب بعد أيام جلس فيها عند أخيه: سوف أرجع إلى أمي. قال له: ارجع. يقول: ذهب إلى أمه وطرق الباب، قالت أمه: ما الذي جاء بك مسرعاً هذه المرة؟ قال: يا أماه! وجدت السعادة في الصلاة وفي القرآن وفي العبادة، فرحت أمه، ظل أياماً مع أمه، ثم قال: يا أماه! أريد السفر. قالت: إلى أين يا بني؟ قال لها: يا أماه! أريد أن أذهب إلى الجهاد في سبيل الله. قالت أمه: لِمَ؟ قال: يا أماه! جسدي طالما عصى الله جل وعلا، وأريد أن أضحي بهذا الجسد لله عز وجل، قالت أمه: ما منعتك وأنت تسافر للمعصية، أفأمنعك وأنت تسافر للطاعة اذهب يا بني! ذهب إلى الجهاد، وتدرب ثم دخل في المعركة، وفي ذلك اليوم، كان يحمل السلاح وبجنبه صاحب له، حميت المعركة واشتدت، فأصيب صاحبه بشظية، حمل صاحبه ليسعفه، أسرع به، لكن صاحبه استشهد في ذلك الموقع. حفر القبر لصاحبه، أنزل صاحبه في القبر، ما غسله، ما كفنه، وهكذا الشهيد، يبعث عند الله وجرحه يثعب دماً في المحشر، اللون لون الدم، والريح ريح مسك، دمه يشهد له في المحشر، أنزل صاحبه في القبر ما دفنه، قال: اللهم إني أسألك أن لا تغرب شمس هذا اليوم إلا وقد قبلتني شهيداً في سبيلك. لما أنزل صاحبه اشتدت المعركة مرة ثانية، أسرع إلى سلاحه، تقدم في المعركة خاضها أقبل بصدره في القتال وبعد لحظات فإذا به يفارق الحياة الدنيا، ويدفن في القبر الذي حفره مع صاحبه: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30].

رسالة إلى مدمن

رسالة إلى مدمن إنني سائلك أن تفكر في هذه الكلمات، وأن تكثر التفكر فيها، لا تنم هذه الليلة إلا وأنت تفكر في كل كلمة قلتها، إن نهايتها عذاب في الدنيا، وخاتمة سوء، ثم عذاب قبر، ثم وقوف بين يدي الجبار، ثم الزقوم والحميم، تذكر إن تبت إلى الله جل وعلا، فسعادة في الدنيا، ثم قصور في الجنة، نهر من لبن، ونهر من عسل، ونهر من خمر تقول: ما أتحمل أقول لك: اصبر في الله جل وعلا حتى تسمع تلك الكلمات، عند أبواب الجنان، تقول لك الملائكة: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:24] الصبر. اصبر يا أخي الكريم! فارق تلك الصحبة، أقبل على الله جل وعلا، اشغل فراغك بقراءة القرآن، بالدعوة إلى الله، بالعلم النافع، بصلة الأرحام، ببر الوالدين، اشغل وقتك بما ينفعك عند الله جل وعلا، واعلم أنك إذا تبت فإن النهاية: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً * مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً} [الإنسان:12 - 13]. وقبل أن أختم حديثي: لي وإياك لقاء، لقاء ليس على هذه الأرض، قد تكون على هذه الأرض ولكن أنا على يقين، بأننا سوف نلتقي يوم القيامة، إما أن نتخاصم عند الله جل وعلا، وإما أن نكون تحت ظل عرش الرحمن تبارك وتعالى، فاختر لنفسك أي الطريقين: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:3]. سوف نلتقي يوم القيامة فإن تخاصمنا فعلّك تقول: يا رب ما جاءني من نذير فأقبل على الله جل وعلا، فأقول: بلى يا رب! سمع حديثي من ذلك الجهاز، وبهذا الشريط، سمع إلى كلامي، وتلوت عليه آياتك يا رب،! وأحاديث رسولك، وحذرته من ذلك المصير لكنه أبى، أو تأتيني يوم القيامة تحت ظل عرش الرحمن. فتقول لي: يا شيخ! أتذكر تلك المحاضرة؟ أقول لك: وأي محاضرة؟ تقول لي: يا شيخ! أتذكر محاضرة: رسالة إلى مدمن؟ أقول لك: لعلي أذكرها. تقول لي: يا شيخ! والله ما إن سمعتها إلا وبدأت صفحة جديدة بيني وبين الله. أقول لك: صحيح؟! تقول لي: نعم. يا شيخ! كانت البداية صعبة، ولكن الله عز وجل أعانني: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] يا شيخ أقبلت على الله، فإذا بالرب جل وعلا يقبل عليّ؛ أصبحت أقرأ القرآن، وحفظته في عدة شهور، صرت داعياً إلى الله تبارك وتعالى، تعرفت على الصالحين، غيرت هذه الحياة كلها، شعرت بالسعادة التي كنت أبحث عنها، ثم ختم الله لي خاتمة حسنة، وهأنذا اليوم يغفر الله لي ما مضى، لعلنا نتعانق تحت ظل عرشه جل وعلا. أسأل الله تبارك وتعالى أن يجمعني وإياك تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله، إنه ولي ذلك والقادر عليه. هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

وسيلة النجاة من المخدرات

وسيلة النجاة من المخدرات Q أنا شاب محتار وقعت في المخدرات بسبب أصحاب سيئين، ولا أعرف كيف أنجو من هذه المخدرات التي دمرت حياتي كلها، وأخشى من الفضيحة أمام والدي وأمام الناس، فما الحل؟ A الحل ذكرته لك في طيات الكلام، ما السبب؟ الصحبة، لا حل إلا بهجرها وبتركها تقول: ليس لي بديل، أقول لك: أخطأت، فالصالحون بفضل الله في كل مكان، تجدهم في المساجد، تجدهم في المدارس، تجدهم في الكليات، تجدهم في لجان خيرية إسلامية، تجدهم بفضل الله عز وجل في كل طريق، الصالحون موجودون، ولكن أين من يقبل عليهم؟ تقول: يا شيخ! تعودت على هؤلاء، أقول لك: كما تعودت على هؤلاء فتعود على غيرهم، وإلا فالنهاية مؤلمة: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [الزخرف:67] كل شلة، كل ديوانية، كل مجموعة، كل رفقة، كل صحبة يوم القيامة أعداء، كل الناس عموماً وما استثنى إلا صنفاً واحداً: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67] الذين يتقون الله: {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [الزخرف:68] اهجرهم لله سبحانه وتعالى، رجل قتل مائة نفس، ماذا قال له العالم؟ قال: له إنك بأرض سوء فاتركها، واذهب إلى أرض كذا وكذا، فإن فيها قوماً يعبدون الله، فاعبد الله معهم. إنك في ديوانية سوء، فاتركها إلى ديوانية كذا وكذا، فإن فيها قوماً يعبدون الله، إنك مع صحبة سوء، فاتركها واذهب إلى صحبة فلان وفلان، فإنهم يعبدون الله، إذاً ليس هناك حل إلا أن تهجر هذه الصحبة لله جل وعلا (ومن يتصبر يصبره الله جل وعلا).

نصيحة لجار يتعاطي المخدرات

نصيحة لجار يتعاطي المخدرات Q لي جار أعرفه أنه يتعاطى المخدرات، فما الحل معه؟ A إذا كنت تستطيع أن تنصحه وتحذره، فالكلمة الطيبة صدقة: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} [فصلت:33] أنقذه يا أخي الكريم! فإنه مسكين يعيش في عذاب، ما يأكل هذه الحبوب إلا لأنه يتعذب يتحسر يتقطع، أنقذه وانتشله من هذا الوحل، ما تعرف أن تحسن الحديث، أعطه بعض الأشرطة الإسلامية، بعض الكتيبات، دله على الصالحين، أخبر بعض الدعاة إلى الله ليأتوا إليه وينصحوه في الله جل وعلا، لتبرأ ذمتك أمام الله تبارك وتعالى، وإلا فأنت مسئول عنه وعن أمثاله.

أنين الفجر

أنين الفجر لقد جاءت الآيات والأحاديث الدالة على أهمية صلاة الفجر، وبيان حقيقة من يتخلف عنها، وقد كان السلف رضوان الله عليهم من أبعد الناس عن التخلف عن صلاة الفجر في جماعة، ولكن خلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة، فأصبحت المساجد تشتكي إلى الله من بعد المسلمين عنها، وتخلفهم عن الصلاة فيها، وبالأخص صلاة الفجر، وإن من أعظم الأسباب التي تجعل الإنسان ينام عن صلاة الفجر الذنوب والمعاصي التي فشت فينا، والسهر إلى وقت متأخر من الليل.

أهمية صلاة الفجر

أهمية صلاة الفجر الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. ثم أما بعد: من الممكن أن نتكلم عن قيام الليل، وعن السحر، ونتكلم عن ناشئة الليل لأنها: {أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً} [المزمل:6] أما أن نتكلم عن صلاة الفجر فهذا خلل، وضعف، وقصور، لأنه ما كان يعرف في سلف الأمة وفي القرون الأوائل أناس لا يصلون الفجر، وما كان يعرف هذا إلا في صفوف المنافقين، أما في صفوف المؤمنين، فلم يكن يوجد هذا قد يتخلف إنسان مرة لعذر أو مرض أو نوم ومع هذا كان يلام ويعنف على هذا الأمر، أما أن يعرف إنسان لا يصلي الفجر فهذا غير موجود في صفوف المؤمنين. ولهذا لما جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: (يا رسول الله! فلان نام حتى الصبح -أي: صلى الفجر لكنه ما صلى الليل- فقال عليه الصلاة والسلام: ذاك رجلٌ بال الشيطان في أذنه) هذا ما قام الليل، فكيف بالذين لا يصلون الفجر؟! إنه أمر شديد، ويستحي الإنسان منه، لكن واقعنا المؤلم لا بد أن نتكلم عنه. أخي الكريم: أنت عندما تنام عن صلاة الفجر هل تعرف ما الذي حصل؟ تصعد الملائكة وترسل الكشوف -كشوف الأسماء- كلها، وفلان غير موجود فلان ما صلى الفجر يا رب! أين فلان؟ وهو أعلم به، قالوا: تركناه وهو نائم، أو تركناه وهو يلهو، أو تركناه وهو غافل: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء:78]. لدلوك الشمس أي: صلاة الظهر، وغسق الليل، أي: صلاة العشاء، فدخلت في هذا أربع صلوات، الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وبقي صلاة وهي {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} [الإسراء:78] أي: تشهدها الملائكة، ولمَ قيل لها قرآن الفجر، وما قيل لها صلاة الفجر؟ لأن صلاة الفجر معلومٌ عنها أنها طويلة، فإذا أطال الإمام في صلاة الفجر ما الذي يحصل؟ وإذا قرأ السجدة والإنسان في يوم الجمعة ما الذي يحصل؟ هذا يتشكى، وهذا يتأفف، وهذا يتململ، وهذا يبحث له عن مسجدٍ آخر، لمَ؟ لأن المصلي الآن إن صلى فحاله -إلا من رحمه الله- {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ} [النساء:142] أي: قد يقومون بعض الأحيان، لكن كيف يا رب؟ {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى} [النساء:142]. كان في عهد محمد عليه الصلاة والسلام عبد الله بن أبي ابن سلول يصلي الفجر، وهو رأس المنافقين، لكن كيف يصلي؟ يصلي وهو كسلان متثاقل، لهذا فإن أثقل صلاة على المنافقين صلاة الفجر والعشاء يصلونها لكن بثقل وبكسل، وانظر إلى من يصلي صلاة الفجر، بعضهم يصلي وهو نائم، أو يصلي ولم يعلم ماذا قرأ الإمام؟! ما السبب أيها الإخوة؟ انظر إلى المسلمين بعد ساعة أو ساعتين في الساعة السابعة صباحاً، تزدحم الشوارع، وتضطرب الطرق، ويصدر إزعاج، ما الذي حدث؟ خرج الناس من البيوت إلى أين؟ إلى مكان عملهم، سبحان الله! ألم يكن في هذه البيوت أحياء قبل ساعة أو ساعتين؟ أليس في هذه البيوت مسلمون قبل ساعة أو ساعتين يأتون لصلاة الفجر؟ لا تدري كيف تجيب على هذا السؤال! للدنيا خرج الألوف المؤلفة، أما لصلاة الفجر فما خرج إلى المسجد إلا نصف صف، ما الذي جرى؟ يأتيني أحد المؤذنين يشتكي ويسألني سؤالاً وفيه بعض الحسرات والعبرات، فيقول: المسجد ليس فيه إمام، أنا أؤذن في المسجد، قلت له: خيراً إن شاء الله، قال: بعض الأحيان أؤذن ولا يأتي أحد، قلت له: عجيب! هذا موجود؟ قال: والله إني أنتظر حتى أخشى أن تشرق الشمس ولا يأتي أحد إلى المسجد، ثم قال: هل يجوز أن أغلق المسجد وأذهب إلى مسجدٍ آخر لأدرك صلاة الجماعة. {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} [الإسراء:78].

حال السلف مع صلاة الفجر

حال السلف مع صلاة الفجر صرنا الآن نترجى فلاناً، يا أخي! صلِّ الفجر مرة في الأسبوع، وكان أحد السلف واسمه طاوس يطرق الباب على صاحبٍ له، فخرج هذا الرجل متعجباً فقال له: أتزورني في هذه الساعة؟! قال: ولمَ؟ ما ظننت أن أحداً من المسلمين ينام في هذه الساعة آخر الليل: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً} [المزمل:6] كان السابقون يجاهدون أنفسهم في قيام الليل، ليس في الفجر؛ فالفجر انتهينا منه، وهو صفحة قد طويت، وهذا كلام قد نسي الآن، وانتهى الأمر. نتكلم الآن عن قيام الليل، تقول إحدى البنيات: صعدت على سطحٍ لي أنا وأختي، -بنيات صغار- في آخر الليل وما كنا نصعد إلا آخر الليل حياءً انظر للحياء! بنيات صغيرات لا يصعدن إلى سطح المنزل للعب واللهو إلا آخر الليل، حيث لا يراهن أحد. وفي ليلة من الليالي صعدن فنزلن إلى البيت فقلنَ: يا أماه! قالت الأم: ما شأنكن؟ قالتا: يا أماه! ما حدث لذلك العمود الذي كان في سطح جيراننا؟ -كان هناك عمود خشبي الآن لا نراه- فضحكت الأم، وقالت: ليس ذاك بعمود، قلن: وما هو؟ قالت: ذلك منصور بن المعتمر كان يقوم الليل فمات، {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات:17] لا يوجد نوم في الليل؛ لأنه كلما أراد النوم تذكر جهنم وقام، وكلما نعست عينه تذكر الجنة فطار فرحاً، حتى إنه يبكي على وسادته ولا تشعر به زوجته وهي تنام على نفس الوسادة، حتى تقول فاطمة: ما أظن أن أحداً من الناس أخوف من عمر بن عبد العزيز، تقول: قام من ليله فزعاً، فصلى وبكى حتى سقط على الأرض، تقول: حتى ظننته قد مات من شدة البكاء، (كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18]. ولهذا تتعجب أن من السنة -واسمع إلى هذه السنة العجيبة الغريبة عندنا والمهجورة- أنك تنام بعد أذان الفجر إلى الإقامة، لتأخذ قسطاً من النوم، والعلماء قد اختلفوا فيها، تعرف لمَ؟ لأن بعضهم يقول: هذه لمن يقوم الليل، وذلك حتى يرتاح شيئاً قليلاً لصلاة الفجر، ولهذا من السنة إذا أُذن الأذان الأول أنك تقف عن الصلاة، وتستغفر، وترتاح شيئاً قليلاً، أو إذا كنت تريد الصوم فتتسحر، هذا لمن يا عبد الله؟ لمن يقوم آخر الليل ليستعد لصلاة الفجر. كان بعض السلف يقوم الليل؛ فإذا أذن الفجر كحل عينيه؛ لأنه كان يبكي ولا يريد أن يراه أحد فيعلم أنه كان يبكي، أو إذا أذن الفجر رفع صوته كأنه قام من النوم حتى لا يدري عنه أحدٌ أنه قام الليل، {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9].

حرص الناس على الدنيا أكبر من حرصهم على الآخرة

حرص الناس على الدنيا أكبر من حرصهم على الآخرة لعلي أسألك: لم لا تصلي الفجر؟ تقول: إني نائم سبحان الله! ما رأيت مثل الجنة نام طالبها، وما رأيت مثل النار نام هاربها، تقول بنت لأبيها: يا أبت! لا أراك تنام مثل الناس. نوم قليل سل أهل الملايين لا ينامون إلا بحبوب، وبعضهم لا ينام في الليل إلا ساعة وساعتين ثم يقوم من صباحه مبكراً إلى العمل، لمَ؟ يجمع الملايين، واطلب من بعض الناس أن يقوم لصلاة الفجر وتعطيه عشرة دنانير، أو مائة دينار، قل له: كل مائة يوم تصليها لك عليها ترقية، أو علاوة، ألا يصلون؟ نعم. لأنها الدنيا التي ملأت القلوب {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} [النساء:77]. الطلبة -وهذا شيء طيب أن يقوم الإنسان إلى عمله- ألا ترون ألوفاً مؤلفة منهم تقف في طابور الصباح لا يتخلف أحدهم خمس دقائق؟ انظر قبل الموعد بدقائق ترى الأفواج كلها تأتي حتى لا يتأخرون دقيقة عن طابور الصباح، وهذا لعله شيءٌ طيب لكنه دنيا، أين هم في صلاة الفجر؟ {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} [النساء:77]. أتعرف -أخي الكريم- أنك لو صليت الفجر، وخرجت في ظلام الليل لا ترى إلا شخصك يمشي، ولا تسمع إلا قرع نعليك، ولا تنظر يمنة ويسرة إلا ظلك، وأتيت إلى بيت الله لتصلي صلاة الفجر، وقد غلبك النعاس، وقد هجرت الفراش، وقد طويت ذلك الفراش لتأتي لله جل وعلا، لتركع ركعتين، ثم ترجع إلى الفراش أتعرف ما أجرك؟ يقول عليه الصلاة والسلام: (من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله) بل أخبر أنه في ذمة الله. وانظر إلى هذا الطالب -الذي أخبرني ثقة عنه- في يوم من الأيام وقد حضر مجلساً للذكر -مثل هذا المجلس- فسمع حديثاً للنبي صلى الله عليه وسلم يقول فيه: (من صلى الصبح في جماعة فهو في ذمة الله) فاذهب وافعل ما تفعل فأنت في ذمة الله، فسمع هذا الصبي الصغير هذا فقال لأبيه وقد جاء به إلى هذا المجلس: يا أبي! ما يعني في ذمة الله؟ قال: أي: في حفظ الله، وفي رعاية الله، قال: فقط أصلي الفجر؟ قال: نعم. فقال الصبي لأبيه: إذاً يا أبي أيقظني معك في صلاة الفجر، قال: خيراً إن شاء الله، قال: يا أبي! إن لم توقظني لا أذهب إلى المدرسة، قال: خيراً إن شاء الله. وظن الأب أن الابن فيه حماس الصبيان ونشاط الطفولة فلم يوقظه لصلاة الفجر، وأيقظه للدوام، فقال الابن: لم لمْ توقظني لصلاة الفجر؟ قال: أنت صبي صغير لكن عندما تكبر إن شاء الله أوقظك. قال: والله لا أذهب إلى المدرسة، قال: يا بني! الدراسة، قال: والله لا أذهب، أجبره فامتنع عن الذهاب للدراسة. تعجب الأب من حماس الصبي، فجاء في اليوم الثاني -ليس خوفاً على صلاته بل خوفاً على دراسته- قال: يا بني! قم لصلاة الفجر فقام لصلاة الفجر، وذهب مع أبيه فصلى في جماعة، فقال لأبيه: أنا اليوم في ذمة الله؟ قال: إن شاء الله أنت في ذمة الله، فذهب إلى المدرسة ودخل الفصل فقال المدرس: من أتى بالواجب؟ وكان الطالب غائباً في اليوم الذي كان فيه الواجب، فقام الطالب وكان معه بعض الطلبة الذين لم يأتوا بالواجب، فأخذ المدرس يضربهم واحداً واحداً حتى جاء دور هذا، فقال الطالب للمدرس: لن تستطيع أن تضربني -قال: أنا أتحداك أن تضربني- قال: ما الذي جرأك عليّ؟ وأخذ يعنف عليه تتجرأ على مدرس وتتحداني أني أضربك؟ حالك حال الصبيان. قال: أما أنا لن تستطيع، قال: لمَ؟ قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى الصبح في جماعة فهو في ذمة الله) وأنا اليوم صليت الصبح في جماعة فأنا في ذمة الله، تريد أن تضربني أنا في ذمة الله وحفظه ورعايته، فضحك المدرس، وقال له: صدقت، أنت في ذمة الله ولن أضربك هذا اليوم. {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} [الإسراء:78]. صح في الحديث أن من قام على ذكر الله وعلى صلاة قام طيب النفس نشيطاً، بعض الناس في العمل أو بعض الطلبة في المدارس تجده نشيطاً، وتجده طيب النفس حلو الكلام؛ لأنه صلى الفجر في جماعة، أول ما قام على ذكر الله، وأول ما استيقظ لله، قام للصلاة في المسجد، وتجده بعد الصلاة جلس يقرأ القرآن حتى طلعت الشمس لأنه نشيط، ثم ذهب فأفطر شيئاً قليلاً ثم ذهب إلى عمله.

ظاهرة تأخير الصلاة عن وقتها

ظاهرة تأخير الصلاة عن وقتها سألني بعض الناس، قال: هل يجوز إذا أذن الظهر وأنا لم أصلِّ الفجر أن أصلي الفجر ثم أصلي الظهر؟ قلت: سبحان الله! سبحان ربي! إلى الظهر لم تصلِّ الفجر، وأين أنت؟ قال: أول ما استيقظت كنت متأخراً على الدراسة فذهبت إلى المدرسة، قلت: سبحان الله! تقدم المدرسة على صلاة الفجر؟! لو مت في هذه اللحظات؟! لو قبض الله روحك؟! يقول عليه الصلاة والسلام: (ولا تترك صلاة واحدة مكتوبة متعمداً) المتعمد: الذي يضع ساعته على الساعة السابعة صباحاً ويعلم أن صلاة الفجر الساعة الثالثة وأربع وعشرين دقيقة، قال عليه الصلاة والسلام: (فمن تركها متعمداً فقد برئت منه الذمة). برئت منه ذمة الله، ولهذا وصف الله جل وعلا يصف الناس في آخر الزمن، فيقول: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59] أسأل الله ألا نكون منهم أتعرف صفة من هذه؟ إنها صفة الذي يجلس إلى الساعة الثانية عشرة أمام التلفاز، ثم يقول: والله ما قمت لصلاة الفجر، وقد وقَّت الساعة وما قمت، ما الذي جرأك أن تجلس للساعة الثانية عشرة ليلاً، ألا تدري أنك إذا سهرت لا تستيقظ لصلاة الفجر؟ أما تعلم أن ثلاث ساعات لا تكفيك في النوم؟ لماذا لم تنم مبكراً حتى تقوم لصلاة الفجر؟ {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59] لم يا رب لا يصلون؟ لأنهم في الليل أمام التلفاز لم يا رب لا يصلون؟ لأنهم في الليل في الورق والدواوين وشرب الشاي والقهوة، ثم ينام الساعة الواحدة -نسأل الله العافية- ولا ينام إلا وهو مثل الجيفة، ولا يقوم إلا على مثل ما شبهه به عليه الصلاة والسلام، جيفة بالليل حمار بالنهار، أما الصلاة: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59] أتعرف ما معنى الغي؟ قيل: هو وادٍ في جهنم، لو سارت به الجبال لذابت، نحن لا نتحمل حر الصيف، الواحد منا أول ما يركب السيارة يفتح المكيف، لا يتحمل أن يقف ساعة تحت الشمس إلا ويتظلل بالظل، هل تتحمل ذلك الوادي؟! أتعرف ما فعلوا بالصلاة؟ ضيعوها وفرطوا فيها. هذا رجلٌ ماتت أخته فدفنها، وأثناء دفنه لأخته سقطت محفظة النقود، فنسي المحفظة حتى رجع إلى البيت، ثم تذكر المحفظة فرجع إلى قبر أخته بعد أن غابت الشمس في الليل، فنبش القبر ليُخرج المحفظة، فلما حفر القبر ووصل إلى الجثة وجد الجثة تحترق، فمن خوفه وفزعه رد القبر كما هو وهرول فزعاً إلى أمه، فقال: يا أماه! -وهو يبكي- يا أماه! أخبريني عن أختي، ما صنعت في دنياها، قالت: ولم يا بني؟ قال: يا أماه! أخبريني فإني رأيت قبرها يشتعل عليها ناراً، قالت أمه: يا بني! والله لا أنقم على أختك من عمل سوء -ما عندها عمل سوء أبداً- إلا أنها كانت تؤخر الصلاة عن وقتها {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:4 - 5] قال ابن عباس: [يؤخرون الصلاة عن وقتها]، يصلون خمس صلوات في اليوم والليلة، لكن الفجر يصلونها بعد أن تطلع الشمس. متى يُصلي العصر؟ قبيل الغروب متى يُصلي المغرب؟ بعد دخول وقت العشاء {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون:4] * {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:5] وإذا صلى كان من {الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ} [الماعون:6] لا يصلي لله، إنما يصلي للناس.

فضل المشي إلى الصلاة في الظلام

فضل المشي إلى الصلاة في الظلام أخي الكريم: اسمع لهذا الحديث العظيم الذي أسأل الله عز وجل أن يقذفه في قلبك فتقوم لصلاة الفجر، يقول عليه الصلاة والسلام: (بشر المشائين في الظلم بالنور التام يوم القيامة) نعم! إن الفجر لظلام، وإن الناس في هدوءٍ وسكون، وإن الناس في نومٍ وسباتٍ عميق. يقوم هذا من نومه، ويفتح باب بيته، تكاد تسمع صوت نعليه من آخر الشارع؛ لأنه لا يمشي غيره، فيمشي حتى يأتي إلى بيت الله، فيدخل وقد مضى على الأذان عشر دقائق، وظن المسكين أن الصف الأول قد امتلأ، وأنه لن يدرك إلا الصف الثاني أو الثالث، فيدخل فيستغرب ولا يرى إلا المؤذن، فيقول له: أصليتم؟ فيقول: لا. ولكن لم يأتِ أحد، لا حول ولا قوة إلا بالله! مضى على الأذان عشر دقائق ولم يأتِ أحد، بل بعض الأوقات يؤخر المؤذن الإقامة حتى يدخل اثنان أو ثلاثة يتمون بهم الجماعة، لم هذا يا عبد الله؟ بسبب اللآمبالاة وعدم استشعار الأجور، قال: (بالنور التام يوم القيامة) اثبت -يا عبد الله! - ولو كنت لوحدك، لا تقل: أنام مثل الناس، لا تقل: غيري ينام وأنا فقط لوحدي أقوم، اسمع فإن يوم القيامة ظلمة شديدة، هذه الشمس التي تراها تكور، والنجوم تتناثر وتنكدر، ويوم القيامة ظلمة في ظلمة. وفي ذلك الظلام من الناس من يكون نوره كمد البصر، ومنهم من يكون نوره كأصبع في قدميه، نوره لا يكاد يضيء إلا أصبع قدميه، يضيء مرة وينطفئ مرة. ومنهم من يمشي في ظلام يوم القيامة، لا يرى شيئاً، بل منهم في ذلك الظلام أعمى نسأل الله العافية: {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:125 - 126] يقول تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء:78]، ويقول: {أَضَاعُوا الصَّلاةَ} [مريم:59]، ويقول سبحانه: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون:4]، ويقول: {أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:126]. إن كنت في صف المؤمنين يوم القيامة فإنك ولا بد سوف تمر على الصراط، تعرف ما صفة الصراط؟ الآن تخيل وأنت جالس: أدق من الشعر سبحان الله! هل هذا ممكن؟! أحد من السيف، هل تتصور أنه أحد من السيف؟! أتعرف ما تحت هذا الصراط؟ نار جهنم {كَلَّا إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى} [المعارج:15 - 16] أي: من حرها اللحم ينفصل عن العظم، من شدة الحر، والنار تزفر من تحتهم، وتنادي: هل من مزيد؟ ويمر هذا على الصراط، تخيل أنك تمر وأنت في ظلام، هل تستطيع أن تجتاز الصراط؟! من يمشي في النور؟ (بشر المشائين في الظلم -أي: إلى صلاة الفجر والعشاء- بالنور التام يوم القيامة) نورٌ تام {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد:13] يوم القيامة يأتي المنافقون والمؤمنون في صف واحد؛ لأن من الناس منافقين أمام الصالحين صالح، وأمام الفسقة فاسق، في الملأ رجلٌ طائعٌ وصالح، وإذا اختلى ارتكب جميع المنكرات، هذا فيه نفاق نسأل الله العافية، يأتي يوم القيامة فيضرب الله عز وجل سوراً فإذا بالمؤمنين في جانب والمنافقون في الجانب الثاني، المنافقون ينادون المؤمنين خلف هذا السور {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد:13]. في هذا الجانب ظلمة وعذاب، وفي الجانب الآخر نور ورحمة، ينادونهم! انظرونا -أي: انتظرونا- نقتبس من نوركم، فيرد المؤمنون عليهم: {قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ} [الحديد:13] ارجعوا للدنيا، ارجعوا لهذه الأيام، {ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً} [الحديد:13] ارجع في الدنيا فالتمس النور، أتعرف ما هو هذا النور؟ إنه في مثل صلاة الفجر، قال عليه الصلاة والسلام: (بشر المشائين في الظلم بالنور التام يوم القيامة).

أثر الذنوب في التخلف عن صلاة الفجر

أثر الذنوب في التخلف عن صلاة الفجر أختم حديثي بمشكلة تصادف كثيراً من الناس، يقول: يا شيخ! والله أنام مبكراً، وأضع الساعة والساعتين، وأعزم من قلبي، وأرفع يدي لله: يا رب! أعني لصلاة الفجر، يقول: وأقول لأمي التي تقوم كل يوم لصلاة الفجر، أطرقي علي الباب، يقول: ومع هذا أستيقظ وإذا الشمس قد طلعت، أنظر للساعة ما سمعتها، أسأل أمي تقول: طرقت الباب فلم تجب، يقول: ما الحل؟ لم لا أقوم لصلاة الفجر؟ أقول لك: اسمع إلى الحسن البصري كيف يجيبك عندما سئل: قيل له: نريد قيام الليل فلا نستطيع -نحن مشكلتنا الآن صلاة الفجر، هم كانت مشكلتهم قيام الليل- قال بعضهم للحسن البصري: نتمنى قيام الليل فلا نستطيع، أتعرف بم أجاب؟ قال رحمه الله: "قيدتكم ذنوبكم" وأنا أجيبك بهذه الإجابة، إذا بذلت جميع الأسباب ورفعت يديك إلى الله، وتوكلت على الله، ولم يوفقك لقيام صلاة الفجر، فاعلم أن هناك ذنباً، وأن هناك معصية أنت أدرى بها، وأنت أعلم بها، ما أدري هل هي نظرٌ للنساء؟ أم غيبة ونميمة؟ أم بعض الأفلام والمسلسلات؟ أم اطلاع على العورات؟ أم حبٌ للأغاني والفجور؟ في قلبك معصية منعتك عن القيام لصلاة الفجر، والله عز وجل يقول: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة:46]. سل نفسك يا عبد الله: أين هذه المعصية؟ وما هذه المعصية التي منعتك أن تقوم لصلاة الفجر؟ {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] لعلك تقول: لم هذه الوقفة؟ وأكثركم يحفظ هذه الآية، وتعرف أن فيها سكتة {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] وكأن الله توقف، الله جل وعلا توقف هنا لأن الأمر شديد، والعقوبة عظيمة، والجرم يستحق هذه العقوبة: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] أصبح الذنب على الذنب، والمعصية على المعصية، كالران على القلب، لا يسمع صلاة الفجر، ولا تنفع فيه الأسباب، ولا يوفقه الله لقيامها. سل نفسك يا عبد الله: أي معصية منعتك من قيام صلاة الفجر؟ واعلم أن الأمر خطير، وهو عمود الإسلام، وأن هذه الصلاة لو جئنا يوم القيامة ولم تكن صالحة، فلن تصلح صدقاتنا، ولا صيامنا، ولا حجنا، ولا برنا، ولا صلة أرحامنا، ولا دعوتنا إلى الله، ولا تنفع أعمالنا جميعاً: (الصلاة وما ملكت أيمانكم) ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة) أول ما يحاسب أي: من المصلين، تعالوا أيها المصلون! أما غير المصلين فيحشرون؟ مع فرعون وأبي بن خلف، وأبي جهل مع أهل الشر. أما المصلون فإن الله ينظر في صلاتهم (إن صلحت صلح سائر العمل) صلح الصيام وصلح الحج، وصلحت الصدقات، وصلح الدعاء، وسائر الأعمال (وإن فسدت) نسأل الله العافية، فسدت حيث لم يأت بها في وقتها، ولا بأركانها، ولا بخشوعها، ولا بواجباتها، ولا بسننها كيف نقدم لله هذه الصلاة؟ (وإن فسدت فسد سائر العمل) فالله الله أيها الإخوة! في الصلاة. وأرجو -أيها الإخوة- أن نأتي في مجلسٍ آخر، فنبحث في مشكلة أخرى وهي قيام الليل، وقد فرغنا من هذا الأمر، نفرغ من صلاة الفجر، حتى يصبح المتخلف في صلاة الفجر كأن في وجهه علامة وسمة، حتى قال عمر بن الخطاب حين افتقد أحد الصحابة -الآن أيها الإخوة نقول: من يصلي الفجر؟ ولا نقول: من لا يصلي؟ لأنك لو سألت: من لا يصلي الفجر؟ لما استطعت أن تعدهم، أما تسأل من يصلي الفجر فيقال لك: فلان وفلان وفلان يعدون على الأصابع، أما الذين لا يصلون فإنهم لا يعدون- عمر يسأل في يوم من الأيام: أين فلان؟ -هذا السؤال، ما نسأل إذا غاب عن دوام أو عمل، أو عن عشاء ما حضر، نسأل إذا لم يصلِّ الفجر: أين فلان؟ - فرأى أمه في السوق، فقال لها: يا أم فلان! أين فلان ما رأيناه في صلاة الفجر؟ فقالت: قام الليل فغلبته عيناه، فقال عمر: [والله لئن أصلي الفجر في جماعة أحب إلي من أن أقوم الليل كله]. يا عمر! ليتك تأتي إلى مجالسنا، وترى لم لا نصلي الفجر إلا من رحم الله؛ هل هو لأجل تلفاز، أو مجالس لغو، أو غيبة ونميمة أو غيرها نسأل الله أن يعيننا وإياكم على القيام لصلاة الفجر. هذا وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

نصيحة لمن في بيته ستلايت دون رغبة منه

نصيحة لمن في بيته ستلايت دون رغبة منه Q نصيحة للشباب الذين في منازلهم جهاز (الستلايت) دون رغبة منهم، وهذا الجهاز يعرض الأفلام التي تعرفونها؟ A مصيبة -أيها الإخوة- أن يأتي رب المنزل ورب الأسرة بهذا الجهاز، فإن عليه وزره ووزر من رآه ونظر إليه واستمع إليه, وفسد على يديه إلى قيام الساعة، كيف يتحمل هذا؟ وإذا كان مستعداً أن يتحمل أمام الله، فليعرف أن هذا هو فعله، والله سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6] السؤال ليس لأولئك، إنما للشباب الذين هم مرغمون، وفي بيوتهم (ستلايت) أقول له: اتق الله حيث ما كنت، حاول أن تخرج هذا (الستلايت) من البيت بالكلمة وبالموعظة، وبالحكمة، وببيان مفاسده وأخطاره على الوالد والوالدة الآن نتكلم عن بعض أخطار التلفاز دعك من (الستلايت) يقولون: إن أحد الرجال دخل إلى البيت -هذا لأهل الغيرة نتكلم بهذا الكلام- دخل إلى البيت ورأى التلفاز، وأمام التلفاز ابنته الصغيرة، فنظر فإذا على الشاشة موضع قبلة -شفاه على التلفاز- فأول من شك فيه البنت الصغيرة قال: يا ابنتي! أما تستحين من هذا الفعل تقبلين الشاشة؟ فقالت البنت وهي تضحك: يا أبتي لست أنا، قال: من؟ قالت: إنها أمي، لما ظهرت صورة المطرب الفلاني لم تتمالك نفسها فقبلته على الشاشة. بعض الناس يظن أن المرأة ما فيها شهوة! نقول: يا أخي الكريم! إنها ترى في التلفاز أجمل منك، وهي ترى بعض الرجال الذين ما تعدو أن تأتي أنت بعشر جمالهم، وهي ترى رجال -أسأل الله العافية- بصورة نساء، وهي ترى وتسمع كلمات الغزل، والفحش والبذاءة، وبعضٌهم يتبجح ويقول لك: جهاز (ستلايت) يأتي بجميع البرامج حتى إسرائيل أما يستحي؟! أما يدري أننا ما زلنا الآن في عداوة وحرب مع اليهود، ويقول: حتى إسرائيل! ولماذا تظن أن إسرائيل توجه قنواتها إلى الخليج؟ تعرض ماذا؟ تعرض برامج دينية، أو تعرض برامج ثقافية، أو أن الشاب المراهق عندما يأتي بالستلايت ويأتي بجهاز التلفاز في غرفته ويغلق الباب ماذا يفعل؟ أنت في يوم من الأيام كنت مراهقاً، وأنت لم تعرض لك هذه الأمور والحمد لله، خاصة كبار السن إنما تربوا على الصلاة والذكر، الواحد تقول له: لا تصلِّ، فيقول: لا. هذه من أكبر الأمور، فيقوم للصلاة بدون ساعة؛ لأنه تربى على هذا الأمر. أما شباب اليوم -أيها الإخوة- فإنهم يغلقون الأبواب على أنفسهم وعنده الستلايت، كنا في السابق نسمع عن تهريب الأفلام الخليعة، والآن لا نحتاج إلى هذه الأمور، الآن تأتي في بيته الأفلام الخليعة والداعرة وغيرها، إذاً الأمر خطير. هل تظن أن هذا الجيل -جيل الستلايت والدشوش- بعد ثلاثين سنة أو عشرين سنة سيقود هذه البلاد؟ هناك الساعات المخصصة للتنصير في هذه البرامج، فهل تضمن أن أولادك لا يرون، أو إخوانك، أو أختك، ساعات مخصصة للتنصير، تعرف ما معنى التنصير؟ أي: يشاهد الشاب -على الأقل- فيسمع في يوم من الأيام: ما بالكم على النصارى؟ دعوهم وحالهم، لهم دينهم ولنا ديننا، هم أهل كتاب مثلما نحن أهل كتاب، هذه الكلمات بحد ذاتها خروج عن دين الإسلام، وتكذيبٌ لله، والله يقول: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ * لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:72 - 73] فيخرج لنا جيل في يوم من الأيام يقول لنا: النصارى ليسوا كفاراً، ولا بد أن نفعل مؤتمراً ومجتمعاً يعيش فيه النصراني واليهودي والمسلم إخواناً متحابين متآلفين، ولا يجوز أن تقول للنصراني: كافر. إن هذا الستلايت يريد أن يغسل الأفهام والعقائد، ويزيل قضية الولاء والبراء، حتى لا يصبح الإنسان يوالي في الله ويعادي في الله، يحب اللاعب البريطاني أكثر من اللاعب المسلم. اللاعب المسلم فد يكون فيه فسق لكنه يصلي فلا بد أن تحبه، ولكن البعض يحب النصراني أكثر، وهذا نسف لعقيدة الولاء والبراء. في بعض البلاد -حتى تعلمون أن القضية خطيرة، وهذا تخطيط عالمي، وليست الفضية أن يفتح الواحد محل ستلايت، فهذا مسكين، بل القضية أكبر وأخطر- في بعض البلاد جاءوا بإمام المسجد إلى التحقيق، ما تهمته؟ قالوا له: لماذا تقرأ في الصلاة الآيات التي فيها النصارى واليهود؟ فهناك آيات تكفر اليهود والنصارى مملوءة بالقرآن، مثل الفاتحة: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] فالمغضوب عليهم اليهود، والضالين هم النصارى. فقالوا: لماذا تقرأ هذه الآيات؟ فقال لهم: هذا كتاب الله، قالوا: لا. ابحث لك عن آية ثانية، لا تقرأ في هذه الآيات وصلوا إلى هذه الدرجة، ونحن الآن شيئاً قليلاً أزاحوها من الكتب، شيئاً فشيئاً حتى في بعض الأحيان تجد بعض الكلمات مثل هذه تزاح، أي: كنا قبل نسأل كبار السن، اسألهم ماذا يكتبون في الجرائد عن إسرائيل؟ فقالوا: العدو الإسرائيلي، وبعد سنوات قالوا: الكيان الإسرائيلي، ثم بعد سنوات قالوا: دولة إسرائيل، ونخشى أنه في يوم من الأيام في الجيل القادم نسمع كلمة إسرائيل الشقيقة! فنخشى من هذه الأمور. فالستلايت ليست القضية فيه قضية فيلم، أو كما يضحك على بعضهم فيقال له: يا أخي! نأتي به من أجل الأخبار!! لا. القضية أكبر، فالآن -يا إخوة- الستلايت يعرض فيه أمور لا تتصورها. جاءني أحد الناس العوام وكان عنده ستلايت، يقول: والله يا شيخ أنتم لا تتخيلون ماذا في الستلايت؟ يعني: الشاب يسمع عشرين درساً، وعشرين موعظة، ويلتزم مع الصالحين عشرين سنة، يمكن أن يرى فيلماً واحداً فينتهي، وقد يرتد، يتدمر يا إخوان، ويأتي هذا الوالد والوالدة فيقولوا: والله ما استطعنا لهم، فلقد بكوا، وقالوا لي، أما في الستلايت فحالهم حال غيرهم! أنت أولاً حاول أن تخرج هذا الجهاز من بيتك، وأخبر الوالد أن هذا حرام ومنكر، وأن فيه مفاسد، وقد تضيع أولادك يوماً من الأيام. الأمر الثاني: إذا لم تستطع أن تخرجه فحاول أن تخفف الشر، حاول أن تبعد إخوانك الصغار، حاول -على الأقل- في الساعات المتأخرة أن تغلق الجهاز، على الأقل تتفق بينك وبين الوالد على بعض الأفلام ثم تغلق الجهاز، وبعض القنوات يلغيها، وعلى الأقل تمنع دخول التلفزيون إلى الغرف، حاول أن تضعه في الصالة، لكي تعرف ماذا يرون في البيت. وبعض الفتيات الهاتف عندها إلى الساعة الواحدة في الليل تتصل، على من تتصل؟!! إذاً الأمر يا إخوان -على الأقل- هو أن نخفف الشر شيئاً فشيئاً حتى نخرج الجهاز، فالله الله أن يلبس عليك الشيطان، أو أن يسول لك، ولا تقل: انظر فقط بعض البرامج أو بعض الأمور ثم أستغفر الله، أو أنظر ثم أتوب، ثم شيئاً فشيئاً حتى يوقعك الشيطان في شباكه والله أعلم.

شبهة إبليسية في مسألة القدر

شبهة إبليسية في مسألة القدر Q هناك بعض الناس يقولون: إن الله قد وضع الأقدار فلمَ أعمل عملاً وقد كتبه الله؟ A هذه شبهة إبليسية يحتج بها بعض العصاة، يقول لك: لماذا أصلي؟ الله قد كتب أني شقي، فلا أحتاج أن أصلي، ولماذا أصلي؟ أسأل هذا الرجل وأقول له: ألا تأكل؟ ألا تشرب؟ فإذا قال: نعم. قلنا له: لماذا تأكل؟ فقد كتب الله عليك أنك تشبع، فلماذا تأكل إذاً؟ ولم تذهب للدراسة إذا كان الله جل وعلا قد كتب لك الرسوب أو النجاح؟ ولم تعمل إذا كان الله عز وجل قد كتب لك أنك سوف تحصل على هذا الرزق أو لا تحصل على هذا الزرق؟ للدنيا تسعى وللآخرة لا تسعى! لم هذه الحجة إذا كان الأمر للدين، أما إذا كان للدنيا فلا؟ ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل قيل له: (فلم العمل؟ قال: اعملوا فكلٌ ميسر لما خلق له) اعمل فإذا كنت من أهل الجنة فسوف يعينك الله جل وعلا وييسر لك، وإذا كنت من أهل النار فإنك لن تذهب للصلاة ولن تصلي، ولهذا أخبر الله أن الذي يبدأ بالعمل فإنه يعينه، يقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] والذي يبدأ بالضلال: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف:5]. إذاً: الجزاء من جنس العمل، ولهذا ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الله جل وعلا يقول: (ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به)، وفي حديث آخر قال: (وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة). إذاً: القضية أنك إذا بدأت في الهداية والالتزام وفقك الله جل وعلا، وإذا بدأت بالضلال فإن الله جل وعلا كما قال: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف:5] إذاً عليك أن تعمل وتجتهد، والأمر مكتوب مكتوب أن فلاناً سوف يختار هذا الطريق، كما قال الله جل وعلا: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:3]. هذاه الله عز وجل هداية إرشاد، أي: بين له طريق الخير وطريق الشر، فإذا اختار طريق الخير فإن الله قد كتبه له في الأزل، وإذا اختار طريق الشر فإن الله قد كتبه عليه، واختيارك لطريق الخير أو الشر مكتوب في الأزل، مكتوب أن فلان بن فلان عرض له طريقان فإذا به يختار هذا الطريق فصلى وصام، وحافظ على صلاة الفجر، وحضر مع الصالحين، ودعا إلى الله، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، مكتوبٌ لك في الأزل أنك اخترت هذا فكتب الله عليك هذا. أما ذاك فمكتوب أنه صد وولى واختار هذا الطريق؛ لأنه هو الذي اختار هذا الأمر، وكتب الله عز وجل أنه سوف يختار هذا الطريق ويدخل النار والله أعلم.

بر الوالدين

بر الوالدين بر الوالدين واجب على الأبناء، فيجب عليهم أن يحرصوا على هذا المقام العظيم، وأن يدركوا أن هذا البر لن يفي للوالدين حقهما، ولن يكون قضاء لدين الولد لهما، بل يظل الفضل والمعروف لكل منهما. وعلى الأبناء أن يدركوا أن حق الوالدين لا يفضله ولا يفوقه حق أي إنسان آخر كالزوجة والولد وغيرهما. وفي ثنايا هذه المادة تتناثر الصور والنماذج للطاعة والعقوق، وتغلب عليها شكوى الآباء وغفلة الأبناء، وإن تعجب فعجب أمر من يبحث عن الراحة والسعادة وبينه وبين الجنة خطوات تفصله عن قدم أمه.

صور من بر الوالدين وعقوقهما

صور من بر الوالدين وعقوقهما الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه. أما بعد: أيها الإخوة الكرام: أيها الأخ المستمع! أيتها الأخت المستمعة! حديثي إليكم في هذه الليلة عن بر الوالدين، ولا أظن مثلي يستحق أن يتكلم بهذه الكلمات، ولا أظن أني أهل لهذا الموضوع، ولكن من باب: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2]. بر الوالدين مقام عظيم، وأظن أن من سمع هذه القصص والحكايات واعتبر فسوف يتهم نفسه بالعقوق، ولا أظن أحداً -أيها الإخوة- سوف يسمع هذه القصص وتلك العبر، إلا وسوف يتهم نفسه بكبيرة من الكبائر، بل هي بعد الإشراك بالله جلَّ وعلا، ألا وهي عقوق الوالدين، بل لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أحب الأعمال إلى الله عز وجل؟ قال: (الصلاة على وقتها، قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله) فهو خير حتى من الجهاد في سبيل الله، والعقوق شر من الفرار يوم الزحف.

رجل يطوف بأمه على ظهره

رجل يطوف بأمه على ظهره وهذا رجل يماني يطوف بالبيت، يحمل أمه العجوز على ظهره، ويطوف بها بالبيت، من منا يفعل هذا؟ ومن منا يتصور هذا قبل أن يفعله؟ يحمل أمه على ظهره ثم يطوف حول البيت، هل وصلنا بالبر إلى هذا المستوى؟ هل وصلنا بطاعة الوالدين وحبهما إلى هذه الدرجة؟ يحملها على ظهره فيطوف بالبيت، فيرى ابن عمر ذلك الرجل الصحابي الفقيه، فقال له: [يا ابن عمر! أتراني جزيتها؟ -تراني بهذا الفعل جزيت حق أمي وأرجعت لها الحقوق- فقال له ذلك الرجل العالم ابن عمر: لا. ولا بزفرة من زفراتها]، ولا بطلقة من طلقاتها حين وضعتك من بطنها. مهما فعلت -يا عبد الله- ومهما أحسنت إليها، فإنك -يا أخي الكريم- لن تصل إلى حقها ولو فعلت ما فعلت. واسمع إلى القصة الأولى، وسوف نسرد هذه القصص ونتلوها ببعض العبر، وأرجو منك أخي الكريم أن ترعي لي سمعك وتنتبه، فهذه القصص ليست من نسج الخيال بل هي من واقعنا وواقع من قبلنا، ثم اعلم -يا عبد الله- بأن القصص غير هذه كثيرة وكثيرة، وغير هذه الحكايات أكثر، بل إنني استحيت من ذكر بعض القصص، وخجلت من ذكرها، لما فيها من وقاحة وعقوق وأنزه هذا المسجد وأنزه سمعك الطيب عن سماع مثل هذه القصص.

قصة عاق يفضل زوجته على أمه

قصة عاق يفضل زوجته على أمه فهذه قصة يرويها أحد بائعي المجوهرات، يقول: دخل عليَّ في المحل رجل ومعه زوجته، وخلفه أمه العجوز تحمل ولده الصغير، أربعة دخلوا في المحل، يقول: وأخذت زوجته تشتري من المحل، وتشتري من الذهب، وتأخذ من المجوهرات، ثم قال له هذا الرجل للبائع: كم حسابك؟ فقال له -وأنا أخبركم بالعملة التي ذكر بها الشيخ-: عشرون ألف ريال ومائة، فقال هذا الرجل: ومن أين جاءت هذه المائة؟ نحن حسبناها عشرين ألف، من أين هذه المائة ريال؟ من أين جاءت؟ قال: أمك العجوز اشترت خاتماً بمائة ريال، قال: أين هذا الخاتم؟ قال: هو ذا، فأخذ ابنها الخاتم ثم رماه إلى البائع، وقال: العجائز ليس لهن الذهب، ثم لما سمعت العجوز تلك الكلمات، بكت وذهبت إلى السيارة، فقالت زوجته: يا فلان! ماذا فعلت؟ لعلها لا تحمل ابنك بعد هذا. لعلها لا تحمل لنا الابن، كأنها أصبحت خادمة، فعاتبه بائع المجوهرات، ثم ذهب إلى السيارة، وقال لأمه: خذي الخاتم إن كنت تريدين، خذي هذا الذهب إن أردتيه، فقالت أمه: لا والله لا أريد الذهب، ولا أريد الخاتم، ولكني أردت أن أفرح بالعيد كما يفرح الناس، فقتلت سعادتي فسامحك الله، فسامحك الله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23] فبعد التوحيد والعبادة، ماذا يا رب: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ} [الإسراء:23] لأن وقت الكبر أحوج ما يكونان إلى الأبناء، إلى الولد. يا عبد الله! هذا وقت الحاجة، وهنا ترد الجميل، وهنا تحسن إليهما كما أحسنا إليك: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء:23] هل سمعت بكلمة أصغر من أف؟ إنك تستجيب ولكن بتأفف، تقول لك أمك: افعل، تفعل ولكنك متأفف، فهذا عقوق، وهذه كبيرة من الكبائر: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء:23] أي: أنك تشير بيديك إشارة، كأنك متضايق منهما، فتستجيب ولكن لا ترد عليهما بالكلام، ولكنها إشارة تدل على أنك تنهرهما: {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء:23 - 24]. وكم وكم يا عبد الله من الرجال في هذه الأيام يقدمون الزوجة على الأم! يأتي إلى البيت بهدية، وتنظر الأم وترى بعينيها، لمن هذه الهدية؟ إنها للزوجة، يدخل الغرفة ويغلق الباب فيعطيها لزوجته، أين حق الأم؟ نسي الأم، فما تذكرها، يشتري لزوجته الملابس، ويسكنها أفخم الأثاث، ويلبسها أغلى الذهب والمجوهرات، ولكن أين أمه؟ لقد نسيها، منذ متى عرفت زوجتك يا عبد الله؟! كم أحسنت إليك الزوجة؟! إن أمك قبل أن توجد على وجه الأرض كانت تحسن إليك، وكانت ترأف بك وكانت ترحمك وتشقى لأجلك قبل أن تنزل على وجه الأرض، أنسيتها -يا عبد الله- حينما تزوجت ولم تذكر حقها؟! يا عبد الله! كم وكم من الرجال من يأخذ زوجته في سفر، وفي رحلة، وفي نزهة، ولا يكلف نفسه أن يقول لأمه: أتريدين الذهاب معنا؟ هلا سافرت معنا! فتجده لا يريدها. يقول: الأم تضايقني، ولا تجعلني أرتاح مع زوجتي. يقول ابن عباس رضي الله عنه: [إني لا أعلم عملاً أقرب إلى الله من بر الوالدة] يقول: ما في الدنيا عمل أكثر قربة إلى الله من بر الوالدة: (الزم قدميها فثم الجنة).

شاعر يصف عقوق ابنه

شاعر يصف عقوق ابنه واسمع إلى القصة الثانية: واسمع -يا عبد الله- إلى هذا العقوق، لتعلم أن ما خفي أعظم. في السير أن أحد الأعراب وفد على الخليفة يبكي، فقال له: ما بك؟ قال: أصبت في ولدي بأعظم من كل مصيبة. قال: وما هي؟ -تخيل شيخاً كبيراً يبكي، وتخيل رجلاً كبيراً في السن يبكي بين يدي الخليفة- قال: ربيت ولدي، سهرت ونام، وأشبعته وجعت، وتعبت وارتاح، فلما كبر وأصابني الدهر واحدودب الظهر، تغمط حقي، ثم بكى بكاءً مراً، وقال: تغمط حقي ظالماً ولوى يدي لوى يده الله الذي هو غالبه فبكى وأبكى كل من في المجلس. أيعقل أن يكون في الأولاد من يأخذ المال من أبيه ظلماً؟! أيعقل أن تصل الوقاحة في الشخص أن يظلم والده؟! أيعقل أن يكون هناك في الناس عقوق مثل هذه العقوق؟! اسمع ماذا يقول الشاعر على لسان الأب كأنه يخاطب ابنه، وكن أنت كأن أباك يخاطبك بهذه الكلمات، فاسمعها وعها يا عبد الله: غذوتك مولوداً وعلتك يافعاً تُعلُّ بما أجري عليك وتنهل إذا ليلة نابتك بالسقم لم أبت لشكواك إلا ساهراً أتململ كأني أنا المطروق دونك بالذي طرقت به دوني فعيني تهمل تخاف الردى نفسي عليك وإنني لأعلم أن الموت حتم مؤجل فلما بلغت السن والغاية التي إليها مدى ما كنت فيك أؤمل جعلت جزائي غلظة وفظاظة كأنك أنت المنعم المتفضل فليتك إذلم ترع حق أبوتي فعلت كما الجار المجاور يفعل يا ليتك عاملت أباك كما يفعل الجار! يا ليتك جعلته كالصاحب! كم وكم من الناس من يزعمون الصلاح ومن يتظاهرون بالإسلام، ومن يتمسكون ببعض السنة؛ يحسن إلى صاحبه، ويعامل أصدقاءه بأحسن معاملة، فإذا جاء لأبيه وإذا جاء لأمه، اسمع لكلمات العقوق، واسمع للرفض، إذا قالت له أمه: أريد زيارة فلانة؟ قال: ألا يوجد غيري في البيت؟! اذهبي إلى فلان، ليذهب بك فلان، سبحان الله! أما إذا قال له صاحبه، وصديقه وجاره وخليله، فإنه لا يتأفف ولا يتردد، بل يستجيب أيما استجابة. عبد الله: أسمعت بعقوق كهذا؟! أسمعت في الناس من يفعل مثل هذه الأفعال؟!

حلم والدة ولؤم ولد

حلم والدة ولؤم ولد واسمع إلى هذه القصة، التي لولا أنها ذكرت في جريدة وتواترت على ألْسنة بعض الناس -والله- ما ذكرتها ولا قصصتها ولا كنت أظن أن من الناس من يفعل هذا، وسوف أتصرف في ذكرها فاسمعها -يا عبد الله- وعها لتعلم أن هذا الشر مستطير، وأن هذا الفعل يوشك أن يؤذن لهذه المجتمعات بالعقوبة، وأن ينزل الله عز وجل عليها عذابه، بسبب ما يفعله كثير من الناس. يقول الراوي: إنه خرج مع أسرته إلى شاطئ البحر، فلما وصل -هو وعائلته- يقول: رأينا عجوزاً على بساط على الشاطئ لوحدها، يقول: فجلسنا على الشاطئ، فتعشينا في الليل، يقول: ثم بعد العشاء تسامرنا، وأخذنا نلهو ونتحدث حتى حلَّ منتصف الليل، يقول: وأردنا الرجوع، فلما أردنا الرجوع قلت في نفسي: سبحان الله! ما بال هذه العجوز جالسة لوحدها؟! لم يأتها أحد، ولم يقربها أحد، يقول: فلما قفلنا جئتها، فقلت لها -اسمع إلى هذا الخبر، واسمع إلى هذا العقوق- فقلت لها: يا أماه! خيراً إن شاء الله، أنت لوحدك وليس معك أنيس ولا جليس، فقالت هذه العجوز: إن ابني أتى بي إلى هنا، وقال لي: أن عنده عملاً سوف يذهب إليه ثم يرجع. فقال لها: يا أماه! الوقت متأخر فهلا رجعت معنا؟ قالت: لا. سوف أنتظر ابني ولو تأخر، فقد أخبرني أنه: سوف يتأخر وسوف يرجع. قال: يا أماه! لكن الوقت متأخر جداً ولا أحد في هذا المكان. قالت: لن أرجع حتى يرجع ابني، وعدني أنه سوف يرجع، وأعطاني هذه الورقة. قال: وما هذه الورقة؟ فقالت: اقرأها تعرف ما فيها. فقرأتها فإذا في هذه الورقة: يرجى ممن يقرأ هذه الورقة أن يأخذ العجوز إلى دار الرعاية. لعن الله من لعن والديه، لعن الله من لعن والديه، لعن الله من لعن والديه، فهذه في الكلمات فكيف إذا كانت في الأفعال؟! يرميها على شاطئ البحر ويقول: يرجى ممن عثر على هذه العجوز أن يأخذها إلى دار الرعاية. اسمع هذه الأم، والشاعر يتكلم بلسانها، وكأنها تقول: لا تسبوا ولدي ما كنت رغم الغدر خصمه لا تسبوه مهما فعل. إن لي في قلبه حباً وليس الحب تهمه هو طفلي وأنا أضمنه مذ كان لحمه هو في الليل سميري وأنيسي في الملمه فإذا خاف سكبت الأمن كي أذهب همه وإذا عاد تداعيت له صوتاً ونغمه فأناغيه بلحن وأناجيه بكلمه ولدي ما عقني بل فعله بر ورحمه جاء بي للبحر كي أنعم في رمل ونسمه فدعوه ولا تسيئوا الظن فيه بالمذمه واذهبوا للدار بي ما الدار للأبناء وصمه غاب عني لم يغب إلا لأمر قد أهمه هو مشغول وللمشغول أعذار وحرمه وسيأتي ولدي للدار إن أنهى المهمه ولدي أعرفه من ذا الذي ينكر أمه {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء:23 - 24]. أهذا هو جناح الذل أن ترميها في دار الرعاية؟! أهذا هو جناح الذل أن ترميها على البحر؟! أهذا جناح الذل أن تطردها لأجل الزوجة؟! أهذا جناح الذل أن تتركها في البيت لوحدها، وتذهب مع زوجتك لبيت فاخر، وتسكن مع الزوجة، وتلهو مع الأولاد، وقد تركتها بين أربعة جدران؟! أهذا هو البر أم هذا هو العقوق بعينه يا عبد الله؟! (رغم أنفه، ثم رغم أنفه، ثم رغم أنفه، قيل: من يا رسول الله؟ قال: من أدرك والديه عند الكبر أو أحدهما فدخل النار).

أمية الكناني يعاتب الفاروق

أمية الكناني يعاتب الفاروق واسمع إلى أمية الكناني؛ فهذا الرجل كان شيخاً كبيراً، وكان رئيساً لقومه، وكان له ابن اسمه كلاب، هذا الابن كان باراً بوالديه -بأبيه وأمه- وكان صالحاً، فذهب إلى المدينة، وجاء إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسألهم عن أفضل ما يقرب إلى الجنة؟ فأخبروه بالجهاد -الجهاد في سبيل الله- فذهب إلى والده، وكان باراً به ومحسناً إليه، وكان يخدم والديه من الصباح إلى المساء، ويقدمهما على زوجته وأولاده، فرفض أبوه في البداية، فلم يزلْ به حتى رضي أبوه، ثم ذهب إلى الجهاد، وكان أبوه في كل يوم يتذكر ابنه، ويتذكر حاله مع ابنه، وفي يوم من الأيام رأى أبوه حمامة على الشجرة، فنظر إليها، وبجنبها فرخها، فنظر إليها كيف تحنو على فرخها، فتذكر ابنه، وأخذ يقول ذلك الشعر، اسمع إلى الأب الذي يتذكر ابنه البار، فقال: لمن شيخان قد نشدا كلاباً كتاب الله لو قبل الكتابا إذا هتفت حمامة بطن وجٍّ على بيضاتها ذكرا كلاباً إلى أين تركه يا عبد الله؟ تركه للجهاد، ونحن نخاطب من ترك أباه وترك أمه لأجل عمل دنيوي، أو لأجل زوجة وأولاد، أو لأجل معصية يسافر إليها. تركت أباك مرعشة يداه وأمك ما تسيغ لها شرابا تلفظ مهده شفقاً عليه وتجنبه أباعرها الصعابا فإنك والتماس الأجر بعدي كباغ الماء يتبع السرابا ثم جاء إلى الخليفة، من هو الخليفة؟ إنه عمر بن الخطاب، جاء إليه هذا الأب وهذا الشيخ الكبير فدخل على عمر فهل تعرف ماذا قال لـ عمر؛ لأنه الذي أرسله للجهاد؟ قال: فلو فلق الفؤاد شديد وجد لهم سواد قلبي بانفلاق سأستعدي على الفاروق رباً له دفع الحجيج إلى بساق وأدعو الله مجتهداً عليه ببطن الأخشبين إلى دقاق إذا الفاروق لم يردد كلاباً على شيخين هامهما زواقِ ولما سمع عمر هذه الأبيات بكى، وأرجع الولد من الجهاد، فسأله؟ وقال له: ما شأنك وأبوك؟ فأخبره ببره بأبيه، وكيف كان يحلب لهما، ويطعمهما، ويسقيهما، ويخدمهما من الصباح إلى المساء، فلما سمع بحاله، أمره بالرجوع إلى والده، فنادى عمر والده الشيخ الكبير، وكان قد عمي من شدة البكاء، فأدخله في مجلسه، فأمر ابنه كلاباً أن يحلب له، فحلب له. فقال عمر لهذا الشيخ الكبير: ماذا يسرك من الدنيا؟ قال: لا شيء، وأي خير أرجوه من الدنيا، قال: بل ترجو شيئاً؟ قال: أرجو أن أضم ولدي ضمة وأشمه وأقبله قبل الموت. فقال له عمر: اشرب من هذا اللبن، فشرب من اللبن، ثم قال لـ عمر: يا أمير المؤمنين! إني أجد في اللبن رائحة ولدي كلاب. فقال له عمر: هو ذا ابنك يا فلان! فضمه وقبله، وأخذا يبكيان، فبكى عمر، وأبكى من حوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} [الأحقاف:16] يعني البارين بآبائهم، يعني من كان باراً بوالدته وباراً بأبيه اسمع إلى جزائه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف:16]. هل فكرت أخي الكريم أن تدخل على أمك فتقبل رأسها وتطلب العفو منها؟ أو أن تدخل على أبيك فتقبل رأسه ويده وتطلب الصفح منه؛ وتطلب منهما أن يغفرا لك؟ هل فكرت -يا عبد الله- وحاسبت نفسك لو لقيت الله بهذا الجرم العظيم؛ جرم العقوق، وهو كبيرة من الكبائر؟ هل فكرت كيف تلقى الله به؟ عبد الله: هلا ذهبت هذه الليلة إلى أمك قبل أن تنام، وإلى أبيك قبل أن ينام، فقبلت رأسيهما، ثم طلبت الصفح والعفو منهما؟

رجل يرفض زيارة أمه حين وفاتها

رجل يرفض زيارة أمه حين وفاتها اسمع إلى هذا العاق وكم هم العاقون! وكم هم المجرمون بحق والديهم! هذا العاق رمى أمه في دار العجزة، ويكفيك أخي الكريم أن تزور دور العجزة ولو مرة واحدة؛ لتسمع أخبار العاقين وأحوالهم، هذا الرجل رمى أمه العجوز في دار العجزة، وظل سنوات لم يزرها، وزمناً طويلاً لم يعرفها، حتى الاتصال لم يتصل بها، وحانت ساعة وفاتها، وأخذت في الاحتضار، فبكت ونادت المسئولين، وقالت لهم: اتصلوا بولدي، اتصلوا بولدي، اتصلوا بولدي، أريد أن أضمه قبل أن أموت، أريد أن أقبله، أريد أن أعانقه قبل الموت. ولدها مهما فعل تحبه، ولدها -والله- مهما عقها ومهما فعل بها فإن في قلب الأم حباً لولدها مهما فعل. قالت: أريد أن أضمه وأقبله قبل الموت، فاتصلوا بولدها، فقالوا له: إن أمك تحتضر، وتريد أن تراك وتقبلك، فقال هذا المجرم: ليس عندي وقت، وقتي ضيق، وعندي أعمال وتجارات وعقارات، ما عندي وقت، ثم أغلق الهاتف، ثم ماتت هذه الأم ولم تر ولدها، ماتت ساخطة عليه، فاتصل المسئولون بالولد فقالوا له: يا فلان! لقد ماتت أمك، لقد ماتت أمك العجوز، فماذا تظنونه يقول؟ قال: أكملوا الإجراءات وادفنوها. لأمك حق لو علمت كثير كثيرك يا هذا لديه يسير فكم ليلة باتت بثقلك تشتكي لها من جواها أنة وزفير وفي الوضع لو تدري عليها مشقة فمن غصص منها الفؤاد يطير وكم غسّلت عنك الأذى بيمينها وما حجرها إلا لديك سرير نسيت فهل -يا عبد الله- وهي تغسل النجاسات من عليك؟! وهل نسيت -يا عبد الله- سهرها وأنت نائم؟! وهل نسيت -يا عبد الله- مشقتها في المشي لأنك في بطنها؟! وهل نسيت -يا عبد الله- صراخها، وبكاءها وسهرها عليك؟! فهل نسيت هذا لأجل زوجة أو تجارة أو أصحاب؟! تباً لهؤلاء كلهم إذا كانوا سبباً للعقوق! وكم غسّلت عنك الأذى بيمينها وما حجرها إلا لديك سرير وتفديك مما تشتكيه بنفسها ومن ثديها شرب لديك نمير وكم مرة جاعت وأعطتك قوتها حناناً وإشفاقاً وأنت صغير فضيعتها لما أسنت جهالة فطال عليك الأمر وهو قصير فآهٍ لذي عقل ويتبع الهوى وآهٍ لأعمى القلب وهو بصير لعن الله من لعن والديه، لعن الله من لعن والديه.

بعض الآداب في التعامل مع الوالدين

بعض الآداب في التعامل مع الوالدين هذا أبو هريرة يبصر رجلين، فقال لأحدهما: من هذا منك؟ فقال: إنه فلان أبي، فقال: لا تسمه باسمه، ولا تناد أباك باسمه، فلا تقل: يا فلان! بل تسميه بصفته فتقول: يا أبي أو يا أبتاه. فيعتبر أبو هريرة هذا عقوقاً، وهذا من تمام البر أنك لا تسميه باسمه. قال: ولا تمش أمامه. فانظر كيف وصلوا إلى البر، يقول: إذا مشيت فامش خلفه، تواضعاً واحترماً ومن خفض الجناح بالذل له. قال: ولا تجلس قبله. إذا دخلت في مجلس وهو قائم فقم معه، ولا تجلس في مجلس قبله، انظروا كيف وصلوا إلى البر. وهذا رجل -يا عبد الله- لا يصعد إلى الطابق الأعلى إذا كانت أمه في الطابق الأسفل، يقول: كيف أصعد على طابق وأمي تحتي، فهو يعتبر هذا من العقوق. وذاك رجل لا يأكل مع أمه في صحن واحد، فيُسأل: لم يا فلان لا تأكل مع أمك في صحن واحد؟ فيقول: أخاف أن تمتد يدي إلى لقمة وأمي تنظر إليها، أخاف أن آكل لقمة وأمي قد اشتهتها. انظر كيف وصلوا إلى البر، وانظر كيف أصبح الناس هذه الأيام في العقوق. ويأتي رجل فيبايع النبي صلى الله عليه وسلم على الهجرة، فيقول له: (كيف تركت أبويك؟ فيقول: تركتهما يبكيان، فيقول له: ارجع إليهما وأضحكهما كما أبكيتهما). ويأتي رجل يريد الجهاد فيقول له الرسول صلى الله عليه وسلم: (ألك أم؟ فيقول: نعم. قال: أتريد الأجر والمثوبة من الله؟ قال: نعم. قال: الزم قدمها فثم الجنة). ولنرجع إلى البيوت -يا عباد الله- فلنلزم أقدامهن، فهناك الجنة، وهناك الروح والريحان، وهناك الجنان، وهنالك الأنهار، وتلك هي القصور، فباب الجنة -يا عبد الله- عند قدم أمك؛ فكيف ضيعت ذلك الباب؟ وكيف فرطت في الجنة وأبوابها؟ واسمع إلى هذا العاق، هذا الرجل العاق كيف وصل به العقوق إلى هذه الدرجة، فهو يضرب به المثل، واسمه منازل، وهذا الرجل كان فاجراً عاصياً عاقاً لأبيه، أتاه أبوه يوماً من الأيام، فأمره بالطاعة، وأمره بالإحسان، وأمره بالاستجابة لله جلَّ وعلا، فهل تعرف ماذا فعل؟ لطم أباه على وجهه، فذهب أبوه يبكي، وقال: والله! لأحجن إلى بيت الله الحرام وأدعو عليه هناك، فحج الأب إلى بيت الله الحرام، وتعلق بأستار الكعبة، ثم رفع يديه، فقال: يا من إليه أتى الحجاج قد قطعوا أرض المهامه من قرب ومن بعد إني أتيتك يا من لا يخيب من يدعوه مبتهلاً بالواحد الصمد هذا منازل لا يرتد عن عققي فخذ بحقي يا رحمان من ولدي وشل منه بحول منك جانبه يا من تقدس لم يولد ولم يلد فما أنزل الأب يديه إلا وقد شل الله نصف جسده، وأصبح مشلولاً إلى أن مات: (ثلاث دعوات مستجابات -لا شك فيهن- منها: دعوة الوالد على ولده). إذا أردت الدعوة يا عبد الله، فاذهب إلى أمك، واذهب إلى أبيك، وسلهما دعوة صالحة، وسلهما دعوة خالصة. واسمع إلى العاق، كيف يصفه الله جلا وعلا: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [الأحقاف:17] يا بني صلِّ يا بني اذهب إلى المسجد يا بني اترك الفساد يا بني اترك المعاصي يا بني اترك هؤلاء الصحبة يا بني لا تنفعك هذه الأغاني فيرد عليهما: {أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الأحقاف:17] أتعرف ما عقوبته؟ {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} [الأحقاف:18]. اسمع إلى هذا الرجل الذي ملَّ والده، وقد أحسن إليه وبره لكن طال عليه الأمر وشق عليه العمل، وكبر أبوه فتأفف من أبيه، وكم نسمع هذه الأيام -والعياذ بالله- من رجل يُسأل: من هذا؟ فيستحي أن يقول: هذا أبي، فيقول: هذا السائق، وكم سمعنا من فتاة يُقال لها: من هذه؟ فتستحي فتقول: هذه الخادمة. أو هذه المربية. أو هذه الغسالة. أف لهذه الكلمات، وتعس أولئك الذين يستحون أن يقول أحدهم: هذا أبي. وتستحي أن تقول: هذه أمي. ولا يدعوه إلى وليمة، ولا يدعوه إلى وجبة، يستحي أن يراه أصحابه، كم وكم من العاقين من أمثال هؤلاء.

تعجيل عقوبة العاق وفضل دعاء الوالدين

تعجيل عقوبة العاق وفضل دعاء الوالدين اسمع إلى هذا الرجل الذي كبر أبوه فتأفف منه، فهل تعرف ماذا فعل؟ أخذ أباه على دابة -على جمل- وذهب به إلى الصحراء، فلما جاء في وسط الصحراء، قال الأب لهذا الولد، قال: يا بني! أين تريد الذهاب بي؟ قال: يا أبي! لقد مللتك، ولقد سئمتك. قال: وماذا تريد؟ قال: أريد أن أذبحك. فقال: يا بني! ماذا تقول؟ قال: أريد أن أذبحك لقد مللتك يا أبي! فقال له: إن كنت ولا بد فاعلاً فاذبحني عند تلك الصخرة. قال: ولم يا أبي؟ قال: فإني قد قتلت أبي عند هذه الصخرة، فاقتلني عندها وسوف ترى من يقتلك من أبنائك عند هذه الصخرة: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [النساء:123] الجزاء من جنس العمل. بر والديك، وأباك، وأمك، فسوف يأتي من أبنائك من يبرك، أو عقهما فوالله الذي لا إله غيره، يقول عليه الصلاة والسلام وهو حديث صحيح، يقول: (كل الذنوب يؤخر الله منها ما شاء إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين فإنه يعجل لصاحبه).

نموذج لعاق عجلت له العقوبة

نموذج لعاق عجلت له العقوبة هذا رجل تقول له أمه: يا بني! اذهب بي إلى فلانة أريد أن أزورها، فيقول هذا الرجل: لا أستطيع! فترجته أمه، قالت: يا بني أريد أن أزورها دقائق معدودة، قال: فنعم إذاً، ولكني سوف آتيك بعد ثلاثين دقيقة بالضبط، وأضرب زمور السيارة، قال: فإن لم تخرجي ذهبت وتركتك. اسمع كيف يعامل أمه، واسمع كيف يهددها، واسمع كيف ينذرها، تباً له وتعس، فذهب هذا الرجل، وأوصل أمه، وبعد ثلاثين دقيقة بالضبط، أتاها فضرب الزمور، مرة أو مرتين فما خرجت، فذهب وولى وتركها، تركها لوحدها، فإذا به في أثناء الطريق يصاب بحادث فيجلس في المستشفى ستة أشهر لا يستطيع أن يتحرك. هل جزاء الإحسان إلا الإحسان يا عبد الله؟! هل هذا هو الإحسان إلى والديك؟! هل هكذا تبرهما؟! يقول لك الأب: أريد حاجة، وتقول لك الأم: أريد حاجة من السوق، أو تذهب بي إلى فلانة، فتقول: لا أستطيع، عندي عمل! سبحان الله أين بر الوالدين؟! أنسيتهما وضيعت حقهما؟!

نموذج للطاعة في أروع صورها

نموذج للطاعة في أروع صورها هذا أحد العلماء المحدثين يجلس في مجلس العلم، وعنده عشرات بل لعله المئات من التلاميذ يحدثهم، ويكتبون خلفه، تأتيه أمه في أثناء الدرس، فتقول له: يا فلان! فيقول: لبيك يا أماه! فتقول له: أطعم الدجاج، فانظر هذا العمل التافه، وانظر إلى هذا العمل الحقير، لكن صدر ممن؟ من أم عظيمة، من أم لها حق عليك كبير، أتعرف ماذا يفعل هذا الرجل؟ لم يقل لأمه: بعد الدرس أو بعد قليل. لا والله! بل يغلق الكتاب، ثم يقوم من مجلسه، ثم يطعم الدجاج، ثم يرجع إلى درسه، ويكمل حديثه. فهلا فعلنا هذا يا عباد الله! أم أن الواحد يقدم زوجته، ويقدم أصحابه، ويقدم عمله الدنيوي، ويقدم تجارته، ويقدم لهوه وراحته على أمه: {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} [الأحقاف:15]. فالمدة ليست يوماً ولا يومين، بل تسعة أشهر، لا تستطيع فيها تنام مثل الناس، ولا تأكل مثل الناس، ثم بعدها عامين -يا عبد الله- تقوم في الليل ست أو سبع مرات لأجلك، تبكي إذا بكيت، وتسهر إذا تعبت، والأب لا يرتاح حتى يعطيك لقمة العيش لتسد بها جوعك، والله! لا يلبس وأنت تلبس، ولا ينام وأنت تنام، ولا يرتاح وأنت ترتاح، ثم بعد هذا نسيت حقهما يا عبد الله! أي فجور بعد هذا الفجور؟!

قصة تبين فضل دعوة الوالدة

قصة تبين فضل دعوة الوالدة اسمع إلى هذه القصة الأخيرة: قصة أبان بن عياش يقول: كنت عند أنس في البصرة، يقول: فخرجت من عنده، يقول: فإذا بجنازة يحملها أربعة من المسلمين -الله أكبر! جنازة لا يحملها إلا أربعة- يقول: فتبعتها وقلت: والله لأتبعن هذه الجنازة، جنازة ما يحملها إلا أربعة ولا يتبعها أحد، يقول: فدفناها، وبعد الدفن قلت لهم: سبحان الله! ما شأن هذه الجنازة؟ فقال الرجال، سل هذه المرأة التي استأجرتنا، أربعة كلهم مستأجرين، تبعوا الجنازة وصلوا عليها ودفنوها، يقول: فتبعت المرأة، يقول: ولما جاءت إلى البيت، طرقت عليها الباب، فقلت: يا أمة الله! أخبريني عن شأن هذه الجنازة، فقالت: هذه جنازة ابني، قلت: وما شأنها؟ قالت: لما حانت ساعة الوفاة، قال لي: يا أماه تريدين لي السعاة؟ فقلت: نعم يا بني -وكان رجلاً فاسقاً عاصياً عاقاً- فقال لها: يا أماه! إذا حانت ساعة الوفاة، فلقنيني الشهادة، ثم إذا مت لا تخبري أحداً بجنازتي، فإنهم يعرفون معصيتي، فإنهم إن عرفوا فلن يصلوا عليّ، ولكن ارفعي يديك إلى الله وقولي: اللهم إني قد أمسيت راضية عنه فارض عنه، اللهم إني قد أمسيت راضية عنه فارض عنه، ثم ضحكت المرأة، فقال لها أبان بن عياش: ما يضحكك يا أمة الله؟ قالت: والله! فعلت ما قال، فرفعت يدي، وقلت: اللهم إني قد أمسيت راضية عنه فارض عنه، فإذا بي أسمع منادياً يناديني، ويقول لي: يا أماه! يا أماه! قدمت على رب رحيم كريم غير ساخط عليَّ ولا غضبان بدعوتك لي: (ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن، منها: دعوة الوالد على ولده). {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء:23]. والله لو تغسل الأذى منهما، ولو تحمله بيدك عنهما، ولقد فعلا هذا -يا عبد الله- وأنت صغير أفلا تفعله وهما في الكبر؟! يا عبد الله! لو لم تنم الليل وتضيع تجارتك كلها وعملك الدنيوي كله لأجل الإحسان إليهما، لكان قليلاً عليهما. عبد الله: كيف تنام وقد سهرا عليك. عبد الله: كيف يهنأ لك بال وقد كانا يتعبان عليك، ألذ ما عندهما وأفرح ما عندهما سعادتك، أما الآن رميتهما، ولم تدر عنهما، حتى إنك تسمع بعض الناس يقول: هل يكفي أن أزوره في الأسبوع مرة؟ سبحان الله! في الأسبوع مرة، هل تأتي لزوجتك في الأسبوع مرة؟! هل تجلس مع أولادك في الأسبوع مرة؟! هل تجلس مع الأصحاب والأحباب في الأسبوع مرة؟! حتى تسألني!! (من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك، قال: ثم من؟ قال: الأقرب فالأقرب) قبل الزوجة قبل الأولاد قبل الأصحاب قبل الأقرباء، أمك لها ثلاثة أرباع الحقوق، ثم الأب له ربع الحق.

الدعاء للوالدين المتوفيين

الدعاء للوالدين المتوفيين عبد الله: إن قلت لي: إن لي والدين قد توفيا، فاسمع لهذا الأثر، يقول أبو هريرة رضي الله عنه: [ترفع للميت بعد موته درجته، فيقول: -أي بعد الموت لما يلقى الله، ويرى درجته عالية في الجنة وله منازل رفيعة في الجنة، وهو لم يفعل شيئاً في الدنيا- فيقول: أي ربي! أي شيء هذا؟ -هذه الدرجات والأعمال أي شيء هذا يا رب؟ - فيقول: ولدك استغفر لك] ادع لهما اللهم اغفر لي ولوالدي، ادع لهما في السجود وفي السحر وبين الأذان والإقامة وفي أي وقت يستجاب فيه الدعاء، ادع لهما بالمغفرة: (وولد صالح يدعو له) وعليك بكثرة الصدقة عنهما، فإن الصدقة مقبولة، عن الأحياء والأموات، وإن اعتمرت أو حججت عن نفسك، فإنه يشرع لك -يا عبد الله- ويجوز لك أن تعتمر عنهما وتحج عنهما. يا عبد الله: إياك إياك أن تنساهما ولو ماتا ولو توفيا! هذا نوح عليه السلام يقول: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَاراً} [نوح:28]. أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم. وصلَّ اللهم وسلم على نبينا محمد.

الأسئلة

الأسئلة .

طاعة الوالدين في كل الأحوال

طاعة الوالدين في كل الأحوال Q أنا لا أستطيع أن أبر والدي لأنهما دائماً يسباني، فما أعمل؟ A بالنسبة لهذا السؤال أنهما دائماً يسبانه -أخي الكريم- بل حتى لو ضرباك، بل حتى لو عذباك فإن البر يبقى ويبقى، بل أخي الكريم وإن جاهداك على أن تشرك بالله ما ليس لك به علم فلا تطعهما في هذه المعصية، ولكن صاحبهما في الدنيا معروفاً، بل البر بالوالدين يجوز حتى للمشركين، حتى لو كانا مشركين فبرهما وأحسن إليهما يا عبد الله، فكيف إذا كانا مؤمنين، إن سباك فادع لهما بالمغفرة، وإن شتماك فأحسن إليهما، وهذا رجل يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: (إن لي رحماً أصلهم ويقطعونني، وأحلم عليهم ويجهلون عليَّ، قال: إن كنت كما قلت فكأنما تسفهم المل). إذاً: -يا عبد الله- استمر على هذا واصبر عليه وادعهما إلى الله جلَّ وعلا، وادع لهما بالمغفرة لعل الله أن يجعل لك من أمرك فرجاً.

الدعاء للميت الذي لم يكن يصلي

الدعاء للميت الذي لم يكن يصلي Q رجل مات ولم يركع لله ركعة، ولم يسجد لله سجدة، فهل يجوز لأبنائه الدعاء له؟ A إن كان -يا عبد الله- يعلم بهذا الدين وبأن الصلاة عمود الإسلام وبأن تاركها يكفر فإن هذا لا يستحق الدعاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة) وقال: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر) وهذه أم النبي صلى الله عليه وسلم، طلب النبي صلى الله عليه وسلم من ربه أن يزور قبرها، فأذن الله له، فاستأذنه أن يدعو لها فلم يأذن الله له، فما أذن الله لنبيه أن يدعو لها برحمة ولا بمغفرة، وكان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ويجلس عند قبرها ويتذكر شأن أمه وحال الآخرة وكان يبكي عليه الصلاة والسلام. أما الدعاء فإنه لهذا ولغيره ممن لم يسجد لله سجدة ولم يركع لله ركعة فإنه لا يجوز، والله أعلم.

صور مشرقة للعفيفات

صور مشرقة للعفيفات تتضمن هذه الصور المشرقة قصصاً من حياة نساء تميزن بالصلاح والعفة والتقوى والالتزام بالإسلام الذي كرم المرأة. وفي ثنايا هذه الصور المشرقة ترد بعض الصور المظلمة لنساء شقيات، ليتضح الضدان، وبضدها تتميز الأشياء. كما سلطت هذه المادة أضواءها على صور من تضحيات المرأة وخدمتها للدين، وعلى مواقف حاسمة في حياة بعض النساء، نقلتهن من الظلمات إلى النور.

نساء في الجنة

نساء في الجنة الحمد لله رب العالمين، والصلاة السلام على سيد المرسلين وخاتم النبيين وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: حديثنا في هذه الجلسة إلى النساء خاصة، وهي صورٌ مشرقة من حياة الفاضلات الأوليات، بل وسوف نذكر في طيات هذه الصور بعضاً من الصور المظلمة؛ ليتميز الضدان، وليتبين الفرق بين الصور المظلمة وبين الصور المشرقة. المرأة لها حقوق في الشرع والدين، وفي العقل والفطرة، إن الإسلام لما جاء أكمل المرأة وأعظم شأنها، وجعل لها حقوقاً وعليها واجبات، بل من النساء من بشرها النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة وهي تمشي على الأرض.

المرأة السوداء التي صبرت على الصرع

المرأة السوداء التي صبرت على الصرع هذه امرأة سوداء كانت تصرع، فجاءت رسول الله، وانظرن إلى النبي صلى الله عليه وسلم كيف يحرص على امرأة سوداء تأتي إليه فتقول له: (يا رسول الله! إني أصرع فادع الله لي، قال: إن شئت صبرتِ ولك الجنة، وإن شئتِ دعوت الله لك، قالت: -وانظرن إلى صبرها وحبها للقاء الله وتعلقها بالجنة- بل أصبر؛ لكن ادع الله ألا أتكشف) نعم، إنها الجنة لكنه الحياء، إنها الجنة لكنها العفة.

الرميصاء في الجنة

الرميصاء في الجنة امرأة من أهل الجنة وهي تمشي على الأرض. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (رأيتني دخلت الجنة فإذا أنا بـ الرميصاء) زوج أبي طلحة رآها النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، تعرفين لمَ دخلت هذه المرأة الجنة؟ انظري إلى بعض مواقفها. يقول أنس: خطب أبو طلحة أم سليم فقالت: إنه لا ينبغي أن أتزوج مشركاً، أما تعلم يا أبا طلحة! -انظري للداعية، انظري للمسلمة المتمسكة بدينها التي لا تضرها زينة الحياة الدنيا- قالت لهذا الرجل الذي أراد الزواج منها: أما تعلم يا أبا طلحة أن آلهتكم ينفثها عبد آل فلان، وأنكم لو أشعلتم فيها ناراً لاحترقت، قال: فانصرف وفي قلبه ذلك، ثم أتاها وقال: يا أم سليم إن الذي عرضت عليَّ قد قبلت، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، يقولون: فما كان لها مهرٌ إلا الإسلام: {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ * ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} [الزخرف:68 - 70] بشرن بالجنة وهن على الأرض يمشين {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف:71].

نساء عابدات

نساء عابدات تشتكي المرأة فتقول: همٌ وغم، أحس بوحشة في الصدر، لا أدري، فعلت كل شيء، الأغاني سمعتها، الأفلام تابعتها، كل موضة لبستها، خرجت إلى المطاعم، سافرت إلى كل مكان، فعلت كل شيء، لكن الهم لا زال يلاحقني ولا زال يراودني {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124] إلى هؤلاء نوجه حديثنا.

عبادة أم الهذيل

عبادة أم الهذيل يقول إياس بن معاوية عن أم الهذيل؛ وهي فقيهة أنصارية حفصة بنت سيرين، يقول: قرأت القرآن ولها من العمر ثنتا عشرة سنة، اشترت لها جارية، فسألت الجارية: كيف رأيت مولاتك؟ -كيف ترينها في البيت ماذا تصنع؟ - فذكرت كلاماً بالفارسية -كانت فارسية- ومعنى كلامها: أنها امرأة صالحة، وأظنها أذنبت ذنباً عظيماً؛ لأنها تبكي الليل كله وتصلي. بكى الباكون للرحمن ليلاً وباتوا دمعهم لا يسأمونا لقاء الأرض من شوقٍ إليهم تحن متى عليها يسجدونا ماذا نقول لامرأة تبكي الليل؛ لكن لمَ؟ على عشيقٍ لها، وأخرى تسهر الليل، هل على القرآن؟ لا والله، على مسلسلٍ أو فيلم في الثلث الأخير تشاهده، وأخرى تنتظر رنة الهاتف لترفعه وقلبها يرتجف، هل شابٌ يكلمها، أو آخر يتعرف عليها {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [الزمر:56 - 57].

عبادة أم الدرداء الصغرى

عبادة أم الدرداء الصغرى أم الدرداء الصغرى؛ هذه امرأة صالحة، كل ليلة تحضر إليها نساء في الليل، نساء متعبدات، تعرفين لمَ؟ بعض نساء هذه الليالي يسهرن لكن على أي شيء؟ ويخرجن في الليل ولكن لمَ؟ أما هذه المرأة فكانت كل ليلة تحضر إليها نساءٌ متعبدات يقمن الليل كله، حتى أن أقدامهن قد انتسخت من طول القيام: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]. الإسلام يريد المرأة هكذا عفيفة طاهرة، تخاف من الله، تصلي الصلاة في وقتها، تقرأ كتاب ربها، تحفظ نفسها، أما أهل الغرب، أما دعاة الحرية، فإنهم يريدون المرأة سلعة تباع وتشترى، هكذا يريدون المرأة، هكذا يتمنون أن تكون.

عبادة زينب زوج الرسول صلى الله عليه وسلم

عبادة زينب زوج الرسول صلى الله عليه وسلم انظري يا أختي الفاضلة! إلى النبي صلى الله عليه وسلم: (يدخل المسجد يوماً فإذا حبلٌ مشدودٌ بين ساريتين، فقال: ما هذا الحبل؟ قالوا: هذا حبلٌ لـ زينب رضي الله عنها فإذا فترت -أي من قيام الليل- تعلقت بالحبل لتكمل الصلاة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا، حلوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليرقد، فإذا فتر فليرقد) {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم:35] أرأيت الفرق بين الصورتين؟ {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [الصافات:154].

عبادة عثيرة

عبادة عثيرة عثيرة العابدة؛ هذه تعاتب في قلة نومها، الناس يقولون لها: لمَ لا تنامين كثيراً؟ لم نومك قليل؟ فقالت: ربما اشتهيت أن أنام -بعض المرات أتمنى النوم- فلا أقدر عليه، وكيف ينام من لا ينام عنه حافظاه ليلاً ولا نهاراً؟! {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة:16].

عبادة عصمة الدين

عبادة عصمة الدين امرأة تسمى عصمة الدين وهي زوجة الملك الصالح نور الدين زنكي، رجلٌ صالح وزوجته صالحة، في ليلة من الليالي قامت غاضبة فزعة من نومها، فسألها زوجها: ما الذي أغضبك؟ ما الذي حدث؟ ما الذي جرى؟ فقالت وهي تبكي: فاتني وردي البارحة فلم أصل من الليل شيئاً. عباد ليلٍ إذا جن الظلام بهم كم عابدٍ دمعه في الخد أجراهُ أما نساء اليوم إلا من رحم ربي فنعم. تفزع بالليل تبكي، تعرفين لمَ؟ تتذكر عشيقها وحبيبها، تفزع من الليل تبكي، تعرفين لمَ؟ لأن فراشها تنام فيها الشياطين قبل أن تنام هي، غرفتها امتلأت بالصور، صور من؟ صور الممثلين والمطربين، المغنين والمغنيات، امتلأت بالأغاني والمعازف فإذا بالشياطين قد عشعشت في غرفتها، تقوم من الليل فزعة تقول: ما أدري ما الذي يخنقني؟ ما أدري ما الذي يفزعني؟ كوابيس من أول الليل إلى آخره، ضيعت الصلاة، هجرت القرآن، أكبت على الأغاني والأفلام والموسيقى والمعازف، شتان بين أولئك وهؤلاء.

نماذج من تضحيات النساء

نماذج من تضحيات النساء صورٌ مشرقة:

أول شهيدة في الإسلام

أول شهيدة في الإسلام أم عمار بن ياسر: وأنا أقول هذه القصة يا أختي الفاضلة! حتى تصبري على عفتك، وعلى الحجاب والطهارة، وعلى الدين والحياء، انظري إلى السابقات صبرن على ما هو أكبر وأكثر، الواحدة اليوم لا تصبر عن أغنية نزلت، أو فيلمٍ عرض، تقول: لا أستطيع أن أصبر، انظري إلى سمية أم عمار؛ امرأة عجوزٌ كبيرة، كان بنو مخزوم إذا اشتدت الظهيرة وقت الحر الشديد في الصيف الشديد، والتهبت الرمضاء خرجوا بها، أخرجوها وابنها وزوجها إلى الصحراء، وتصوري الصحراء في وقت الحر الشديد! وألبسوهم دروع الحديد، وأهالوا عليهم الرمال المتقدة، وأخذوا يرضخونهم بالحجارة، وهي تعتصم بالصبر، فذهبوا بروحها، وأفظعوا قتلتها، فقد أنفذ النذل الجبان أبو جهل حربته فيها، فكانت أول شهيدة في الإسلام ضحت بنفسها، ضحت بحياتها لأجل دينها {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11]. ثم انقلوا تلك الصورة إلى مجتمعنا، للأسف! فتاة تتأثر بكل ما هو جديد من الغرب، قصة باسم فلانة، وقصة باسم فلانة، وهذه فرنسية، وتلك إيطالية، وهذه قصة الأميرة الراحلة كما يسمونها، بل تلك قصة لكلبها، وللأسف مسلمات يتأثرن بالغرب حتى لو دخلوا جحر ضبٍ لدخلنه. نعم. تتأثر بكل ما هو جديد، وبكل ما هو منحطٌ ورذيل، ولكن: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:30] ثلاث ساعات تجلس في صالون تنظر إلى الكافرات تريد أن تتشبه بهن (ومن تشبه بقوم فهو منهم). بل أما سمعت بقصة بالعربي تسمى قصة الولد، وحتى اللغة العربية تبرءوا منها، يسمونها قصة الـ"البوي boy" امرأة تقص هذه القصة، تريد أن تتشبه بالرجال، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء، ولعن الله المتشبهات من النساء بالرجال).

تضحية أم شريك

تضحية أم شريك أم شريك غزية بنت جابر بن حكيم وقع في قلبها الإسلام فأسلمت بـ مكة، وكان ذلك في بداية السابقين في الإسلام، هل كتمت إيمانها وجلست؟! لا والله، كانت تدعو النساء سراً بـ مكة، وتعرفين ما كان يحصل في مكة، يعذبن، يطردن، بل القتل هو المصير، وكانت تدعو إلى الله سراً بـ مكة حتى انكشف سرها، فأخذوها وكادوا يقتلونها لولا قومها، فحملوها على بعير ليس عليه شيء، يقولون: فحملوها ثلاثة أيام على بعير لأجل أن يذهبوا بها إلى قومها، وتركوها ثلاثة أيام بلا طعام ولا شراب. تخيلي! ثلاث أيام في سفر لا تأكل ولا تشرب، ما الذي يحصل لها؟ لمَ كل هذا؟ لأجل دينها، لأجل إسلامها، فنزلوا منزلاً في الطريق بعد ثلاثة أيام، وأوقفوها تحت الشمس واستظلوا، كانوا دائماً يوقفونها تحت شمس وهم يجلسون تحت شجرة يستظلون بها، فبينما هم كذلك وهي على هذه الحال، تقول: إذ بأثر شيءٍ بارد وقع عليَّ منه، تقول: فإذا هو دلو ماء، فشربت منه قليلاً، هي الآن ربما تموت، تقول: لا أدري من أين يأتي الماء، دلو فيه ماء وأنا أشرب وأشرب تقول: ثم نزع مني، ثم عاد فتناولته فشربت منه قليلاً، ثم نزع مني، وهكذا يعود وينزع تقول: حتى رويت، ثم صببت سائره على جسدي وثيابي تقول: فلما جاءوا ورأوها وعلموا بخبرها، تعرفين ماذا صنعوا؟ كلهم كبروا وقالوا: نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ} [الرعد:22] صبروا، نعم. أنا أعلم أن هناك فتناً وإغراءات في الفضائيات، وفي وسائل الإعلام، وفي المجلات، وفي الملاحق الهابطة. نعم هناك دعاة لتحرير المرأة، يسمونه تحرير المرأة، وهو استعباد للمرأة، تحرير المرأة: بعبادة الله جل وعلا، بالرضوخ لأمره جل وعلا، لا يُعبد إلا الله، ولا يُعمل بأمره إلا الله جل وعلا، أما دعاة التحرير فهم دعاة لاستعباد المرأة، فاصبري رغم الإغراءات {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ} [الرعد:22 - 23] الآباء، والأزواج، والأولاد، يعني كل الأهل والأقرباء يدخلون معاً إلى أبواب الجنان، العفيفات، الطاهرات، القانتات، الصالحات، أليس هذا هو الجزاء الأعظم؟ والفضل الأكبر؟ {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:23 - 24] صبرت على عفتها، كرامتها، حجابها، طهارتها {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:24].

صورة مشرقة في الحياء والعفة

صورة مشرقة في الحياء والعفة الصديقة بنت الصديق إنها عائشة رضي الله عنها تقول عن نفسها -واسمعي وتعجبي- تقول: كنت أدخل البيت الذي دفن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم -لما مات دفن في غرفتها في بيتها- وأبي رضي الله عنه - أبو بكر لما مات دفن في غرفتها في بيتها- تقول: أدخل البيت واضعة ثوبي وأقول: إنما هو زوجي وأبي، تقول: فلما دفن عمر رضي الله عنه، والله ما دخلته إلا مشدودة عليَّ ثيابي حياءً من عمر رضي الله عنه، وهو ميتٌ مدفونٌ تحت التراب. هذا حياءٌ لا يكون إلا لأمثال عائشة، هذا حياءٌ لا ينبغي أن يكون إلا لأمثال الصديقة بنت الصديق. فهذه هند بنت عتبة رضي الله عنها تبايع النبي صلى الله عليه وسلم بيعة النساء، فأخذ عليهن في بنود البيعة: ألا يشركن بالله شيئاً، ولا يسرقن، ولا يزنين، لما سمعت كلمة يزنين، تعلمين ماذا صنعت؟ وضعت يدها على رأسها حياءً وهي تقول: وهل تزني الحرة؟ وهل تزني الحرة؟ فتقول لها عائشة: على هذا بايعنا فبايعي، وهي تقول: وهل تزني الحرة، وهل تزني الحرة؟! فبايعت النبي صلى الله عليه وسلم وهي تتعجب هل تفعل هذا حرة من الحرائر؟ {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46] يقول مجاهد: هو الرجل يخلو بمعصية الله، حيث لا أحد فيذهب إلى المعصية، أغلقت الباب، فجاءت إلى ذلك المكان المظلم لتلتقي بصاحبها، لا أحد يراها، يقول: فيذكر مقام الله، يتذكر يوماً يقف فيه بين يدي الله، فيُذكِّرها: فلانة أتذكرين ذلك اليوم؟ تذكرين ذلك الهاتف؟ تذكرين ذلك الموقع في الإنترنت؟ تذكرين ذلك الرجل الذي كنت تصاحبينه وتعاشرينه؟ تذكرين ذلك المجلس أو تلك السهرة قال: فيذكر مقام الله، فيدعها خوفاً من الله: {ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} [الزمر:16]. عائشة تستحي من عمر وهو مدفونٌ تحت التراب! ما بال نسائنا لا يستحين من رجال في الحياة، تذهب إلى بعض المحلات فتختلي به في ذلك المحل، فتكلمه ويكلمها، وتضاحكه ويضاحكها، وبعد هذا: يوم القيامة لو علمت بهوله لفررت من أهلٍ ومن أوطانِ يوم تشققت السماء لهوله وتشيب منه مفارق الولدان يوم عبوسٌ قمطرير شره في الخلق منتشر عظيم الشانِ فتاة في سن الزواج تخرج كاسية عارية، لبست وكأنها ما لبست شيئاً، ضاقت ملابسها على جسدها حتى وصف جسدها كله: (صنفان من أهل النار لم أرهما وذكر منهما: نساء كاسيات عاريات) كشفت شيئاً من ساقها، كشفت شعرها، إنا لله وإنا إليه راجعون، وكأنها ما سمعت ربها يقول: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31].

صور مشرقة في الصلاح والتوبة

صور مشرقة في الصلاح والتوبة نزل السري بن دينار في دار بـ مصر، كانت فيه امرأة جميلة، تفتن الناس بجمالها، بعض النساء وبعض الفتيات للأسف يتعمدن فتنة الناس، ولا تخف من رب الناس، وكان هذا الرجل صالحاً عابداً، فعلمت المرأة به فقالت: لأفتننه، لأفتنن هذا الشاب، فدخلت من الباب فكشفت وأظهرت نفسها، والسري أمامها، فقال لها: مالك يا فلانة؟ فقالت له: هل لك في فراشٍ طيب وعيش رخي؟ فقال لها: وكم ذي معاصٍ نال منهن لذة فلما تخلاها وذاق الدواهيا تزول ملذات المعاصي وتنقضي وتبقى تباعات المعاصي كما هيا فواسوءتا والله راءٍ وسامعٌ لعبدٍ بعين الله يغشى المعاصيا فصاحت المرأة وبكت، وأعلنت توبتها لله عز وجل. تذكري يا أختي الفاضلة! تلك الليالي، تلك الأفلام والمسلسلات، هل حقاً ما نسمع أن بعض الفتيات تولع ببعض أشرطة المغنين؟! لا ينزل شريطٌ إلا وتبعته، بل تحفظ بعض الأشرطة، هل هذا صحيح؟ إن من العفيفات الطاهرات من حفظن كتاب الله، ومن الصور المظلمة من حفظت الأغاني والطرب. فكري يا أختي الفاضلة! هل صحيح أن بعض النساء تجلس على الإنترنت بالساعات؛ لتكلم فلاناً وليكلمها فلان، لتدخل إلى بعض المواقع التي تعلم في قرارة نفسها أن الله عز وجل قد حرمها؟ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً} [التحريم:8].

المرأة التي تابت على يد عبيد بن عمير

المرأة التي تابت على يد عبيد بن عمير انظري إلى نساء كنَّ في الرذيلة، كن منغمساتٍ في الشهوات، ولكن انظري كيف تاب الله عليهن: هذا رجل متزوجٌ بامرأة قالت له زوجته يوماً: ألا ترى أني جميلة؟ فقال لها: نعم. قالت: لا يرى أحدٌ هذا الوجه إلا افتتن، فقال زوجها: إلا واحد، قالت له: ومن هو؟ قال: عبيد بن عمير، فقالت له: فأذن لي فيه فلأفتننه، قال: قد أذنت لكِ -هل رأيت ديوثاً مثل هذا؟ يأذن لزوجته أن تفتن رجلاً- قال: فذهبت فأتته كالمستفتية، وكان الرجل صالحاً عابداً، فجاءت كأنها تسأله عن مسألة شرعية، فأخذ يجيبها فإذا بها تسفر عن وجهها كأنه فلقة قمر، فقال لها: يا أمة الله! قالت: إني قد فتنت بك، فانظر في أمري، فقال لها: يا أمة الله! إني سائلك عن شيءٍ، فإن أنت صدقتيني نظرت في أمرك، قالت: لا تسألني عن شيءٍ إلا صدقتك، قال: أخبريني يا أمة الله! لو أن ملك الموت أتاك ليقبض روحك أكان يسرك أني قضيت لك هذه الحاجة؟ قالت: اللهم لا، اللهم لا. قال: صدقتِ، فلو أدخلت في قبرك وأجلست للمساءلة أكان يسرك أني قضيت لك هذه الحاجة؟ قالت: اللهم لا، اللهم لا. قال: صدقتِ، فلو أن الناس أعطوا كتبهم ولا تدرين أتأخذين كتابك بيمينك أم بالشمال؛ أكان يسرك أني قضيت لك هذه الحاجة؟ قالت: اللهم لا، اللهم لا. قال: صدقتِ، ولو جيء بالموازين وجيء بك لا تدرين تخفين أم تثقلين؛ أكان يسرك أني قضيت لك هذه الحاجة؟ قالت: اللهم لا، اللهم لا. قال: صدقتِ، فلو وقفت بين يدي الله للمساءلة أكان يسرك أني قضيت لك هذه الحاجة؟ قالت: اللهم لا. قال: صدقتِ، فاتقي الله يا أمة الله! فقد أنعم الله عليك وأحسن إليك، فبكت المرأة ورجعت إلى زوجها عابدة زاهدة متنسكة، يقول زوجها: مالي ولـ عبيد بن عمير، أفسد عليَّ امرأتي {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر:56]. أختي الفاضلة! وأنا أسألك نفس السؤال، أيسرك وملك الموت عند رأسك أن تفعلي هذا الذي تفعلينه اليوم؛ تخرجين بهذه الملابس، تنظرين إلى من شئتِ ويكلمك من شاء، وتختلين بمن شئت ويختلي بك من شاء؟ أختي الفاضلة! فكري في تلك المواقف التي سوف نقفها غداً لا تقولي: الموت بعيد، ما أدراك لعل الموت أقرب مما تتصورين؟ لعلك لا تنهي سماع حديثي ألم تسمعي بفلانة؟ عمرها ستة عشر عاماً، وأربعة عشر عاماً، وعشرين عاماً، قد قضت نحبها؟ أما سمعت بفلانة عقدت قرانها ولما يدخل عليها زوجها لكن ملك الموت أقرب، كانت تتجهز لعرسها، واشترت أغلى ملابسها، ولكن ملك الموت بالمرصاد! فكري يا أختي الفاضلة! فكري بهذا الذي أقول.

المرأة التي حاولت فتنة الربيع بن خثيم

المرأة التي حاولت فتنة الربيع بن خثيم الربيع بن خثيم، يروى أن قوماً أمروا امرأة ذات جمال أن تتعرض له. رجلٌ صالح يخاف ربه، فقالوا لها: نعطيك ألف درهم إن فتنتيه، فلبست أحسن الملابس، وتطيبت، وتعطرت، فتعرضت له في طريقه، فقال لها الربيع: يا فلانة -وأنا أحدثك بهذه الكلمات، اسمعي وتدبري، أرجو رجاءً حاراً أن تنتبهي إلى هذه الكلمات- كيف بك لو قد نزلت الحمى بجسمك فغيرت ما أرى من لونك وبهجتك؟ أم كيف بك لو قد نزل بك ملك الموت فقطع منك حبل الوريد؟ أم كيف بك لو سألك منكرٌ ونكير؟ فصاحت المرأة، وبكت، وسقطت وقد أغشي عليها، فحملت فلما أفاقت قالت: رب إني تبت إليك، رب إني تبت إليك، رب إني تبت إليك. يا نفس توبي فإن الموت قد حانا واعصي الهوى فالهوى ما زال فتانا أما ترين المنايا كيف تلقطنا لقطاً فتلحق أخرانا بأولانا في كل يومٍ لنا ميتٌ نشيعه نرى بمصرعه آثار موتانا هذه امرأة صالحة عابدة تحيي الليل بالصلاة تقوم من الليل إلى السحر، كل ليلة تقوم الليل، فإذا كان السحر آخر الليل نادت -انظري ماذا تقول آخر الليل؛ بعد أن صلت الليل كله واقترب الفجر؛ تنادي بصوتٍ محزون وهي العابدة الصالحة- تقول: رب إليك قطع العابدون دجى الليل بتكبير الدلج إلى ظلم الأسحار يستبقون إلى رحمتك، وفضل مغفرتك، فبك إلهي لا بغيرك أسألك أن تجعلني في أول زمرة السابقين إليك، وأن ترفعني إليك في درجة المقربين، وأن تلحقني بعبادك الصالحين، فأنت أكرم الكرماء، وأرحم الرحماء، وأعظم العظماء، ثم تخر ساجدة فلا تزال تبكي وتدعو في سجودها حتى يطلع الفجر، تعرفين كم مرة تفعل هذا الفعل؟ ثلاثين سنة وهي على هذا الحال، نعم الناس درجات، والناس أقسام: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر:32]. هل سمعت بفتاة تحفظ أسماء اللاعبين؟! بل تتابعهم في المباريات، لا إله إلا الله! أين الحياء؟ أين العفة؟ أين الكرامة؟ أين الطهر؟ هل وصل بنا الحال إلى هذه الدرجة؟! هل سمعت بفتيات يحفظن جميع أنواع الماركات؟! كل ساعة تنزل، كل موضة تنزل، تجدينها في الأسواق كل ليلة تجوبها. أختي الفاضلة! لو سألتيها كم تحفظين من كتاب الله؟ متى ختمت القرآن آخر مرة؟ هل صليت الفجر اليوم هل أمرت بالمعروف أو نهيت عن منكر؟ هل ذكرت الله عز وجل صباح مساء؟ لقالت لك: هاه هاه لا أدري! من الذي فعل بنا كل هذا؟ إنهم دعاة تحرير المرأة، يريدونها كل يومٍ في يد رجل، كل يومٍ على عتبة باب.

توبة فتاة

توبة فتاة اسمعي إلى هذا الشاب العابد، كان حسن السمت، كثير العبادة، شاباً عابداً، نظرت إليه فتاة فشغفت به، وتعلقت به، فقالت له يوماً من الأيام وقد تعرضت له: يا فتى! اسمع مني كلمات أكلمك بها، وهو لا يكلمها، كل يومٍ تعترض طريقه، تقول: يا شاب أريد أن أكلمك كلمات وهو لا يكلمها، حتى وقف يوماً من الأيام فقالت له: يا فلان! إن جوارحي كلها مشغولة بك، فالله ألله في أمري وأمرك، ذهب الشاب إلى منزله أراد أن يصلي فلم يعرف كيف يصلي، تعرفين ماذا صنع؟ أخذ قرطاساً وكتب فيها كلاماً، فلما رآها في الطريق، ألقى إليها الكتاب، ففتحت الشابة الكتاب، ماذا في هذا الكتاب؟ اسمعي/ وأرجو منك يا أختي الفاضلة أن تتدبري هذه الكلمات! قال لها في الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم اعلمي أيتها المرأة أن الله عز وجل إذا عصاه العبد حلم أول مرة، فإذا عاد إلى المعصية مرة أخرى ستر، فإذا لبس لها ملابسها غضب الله تعالى لنفسه غضبة تضيق منها السماوات والأرض والجبال والشجر والدواب، فمن ذا يطيق غضبه! يا فلانة! إن كان ما ذكرت باطلاً فإني أذكرك يوماً تكون السماء فيه كالمهل، وتصير الجبال كالعهن، وتجثو الأمم لصولة الجبار العظيم، وإني والله قد ضعفت عن إصلاح نفسي فكيف بإصلاح غيري. يا فلانة! وإن كان ما ذكرت حقاً، فإني أدلك على طبيبٍ يداوي الكلوم والأوجاع المريضة، ذلك هو الله رب العالمين، فاقصديه بصدق المسألة فإني مشغول عنك بقول الله: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ * يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:18 - 19] فأين المهرب من هذه الآية؟ انتهت الرسالة. وتعرضت له بعد أيام فتركها فقالت له: يا فلان لا ترجع! فلا كان الملتقى بعد هذا اليوم أبداً إلا بين يدي الله، ثم بكت وقالت له: عظني بموعظة أحملها عنك، أوصني بوصية أعمل بها، قال: أوصيك بحفظ نفسك من نفسك، وأذكرك قول الله: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} [الأنعام:60] فبكت بكاءً شديداً، ثم لزمت بيتها، وأخذت بالعبادة فلا تزال تتعبد ربها حتى ماتت. لمَ لا تكونين أنتِ؟ لم لا يا أختي الفاضلة؟! إلى متى يسترنا الله؟ إلى متى تكلمين وتنظرين وتخرجين بهذه الملابس والله عز وجل يحلم علينا؟ ضحكوا عليكِ وقالوا لك: فتى الأحلام يحمل في فمه سيجارة، فتى الأحلام الذي يعيش في جو الموسيقى الهادئة، فتى الأحلام الذي يدعك تفعلين ما تشائين، فتى الأحلام يركب سيارة فارهة. ضحكوا عليك وهزئوا بك كأنك لا تعلمين أن كثيراً من تلك الزيجات قد باءت بالفشل والطلاق، وعاشت بعضهن عيشة ألمٍ وحسرة وندم؛ تقول إحداهن: ظننته فارس أحلامي الذي كنت أحلم به طوال حياتي، فلما تزوجته فإذا هو الشقاء بعينه، وهو العذاب بأسره، يقول لي في يوم من الأيام: لم تتحجبين أمام أصحابي وأصدقائي؟ قلت له: اتقِ الله، يقول: لا، أما أمام أصحابي فلا أرضى بالحجاب، البسي الملابس الضيقة والشفافة، ماذا تريدين أن يقول عني الناس؟ ماذا تظنينهم يقولون عني؟ اكشفي الحجاب، وانزعي الحجاب، أتريدين هذا الفتى أم تريدين غيره؟

صور مشرقة أخرى في العفاف

صور مشرقة أخرى في العفاف صور مشرقة من العفيفات: يقول خارجة بن زيد: هويت امرأة من الحي، فكنت أتبعها إذا خرجت من المسجد، يقول: فعرفت ذلك مني، عرفت هذه المرأة أن فلاناً يلحقها، فقالت لي ذات ليلة: ألك حاجة؟ قلت: نعم. قالت: ما هي؟ قلت: مودتك -انظري إلى هذه الكلمات التي تخدع بها بعض النساء، وبعضها تخدع باتصال، تخدع برسالة، تخدع بكلمة؛ مسكينة خدعت وطالما خدعت النساء- ماذا ردت المرأة على هذا الرجل؟ قال: أريد مودتك، فقالت له: دع ذلك ليوم التغابن، قال خارجة: فبكيت، والله أبكتني فما عدت إلى ذلك أبداً: تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها من الحرام ويبقى الوزر والعارُ تبقى عواقب سوءٍ في مغبتها لا خير في لذةٍ من بعدها النارُ نعم، إنها لذة دقائق ولكن يبقى العار، وتبقى الحسرات، ويبقى الألم، ويبقى عذاب القبر وعذاب الحشر، وتبقى النار: تبقى عواقب سوءٍ في مغبتها لا خير في لذةٍ من بعدها النارُ يقول أبو محمد الشيباني: كان بـ البصرة رجل له أكار -يعني عامل حراث- وهذا الحراث كانت له امرأة جميلة، فوقعت امرأة الحراث في نفس الرجل، نظر إليها فأعجب بها، فركب إلى القصر وقال للحراث: الْقط لنا من الرطب، وافعل كذا، واذهب به إلى آل فلان، وإلى بيت فلان، حتى يخلو له الجو، يقول: فلما مضى الزوج، جاء إليها في البيت فقال للزوجة: أغلقي باب القصر، فأغلقته، فقال لها: أغلقي كل باب، ففعلت، فقال لها: هل أغلقتِ جميع الأبواب، قالت: نعم إلا باباً واحد لم أغلقه قال: لِمَ لم تغليقه؟ قالت: لا أستطيع، قال لها: أي بابٍ؟ فقالت له: الباب الذي بيننا وبين الله عز وجل، فبكى ثم قام يتصبب عرقاً وانصرف ولم يواقع الخطيئة. {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} [النور:31] ثم قال الله: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31]. وبعض النساء تجد الواحدة منهن لا مانع عندها أن تجلس مع أي رجل، وتغلق الباب فتضاحكه ويضاحكها، للأسف ليس عندها مانع أن تسافر لوحدها بغير محرم، تقول: أنا حرة! حرة مم يا أختي الفاضلة؟! تقول: لا أحد يتحكم بي! حتى الله لا يتحكم بك! حتى الله جل وعلا لا تريدين أن يتحكم بك! يا أختي الفاضلة! فكري فإن الله عز وجل هو أحكم الحاكمين، والله جل وعلا لا تخفى عليه خافية.

عفاف مريم

عفاف مريم سمعت بمريم ابنة عمران: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم:12] جاءها الملك فبشرها بالولد، تعرفين ماذا قالت؟ {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً} [مريم:20] حتى جاءها المخاض وهي الشريفة العفيفة الطاهرة، تعرفين ماذا تمنت؟ {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً} [مريم:23] تتمنى الموت حتى لا تتهم بعفتها وطهارتها.

رفقة العمل الصالح

رفقة العمل الصالح أختي الفاضلة! هذه الكلمات أرجو أن يرن صداها في عقلك وفي قلبك، فكري فيها مراراً وتكراراً/: الدنيا زائلة، والموت قريب، وسوف نخرج من هذه الدنيا عما قريب، انظري إلى من سبقك، إلى من غادرت هذه الحياة، إلى من فارقت الدنيا، ماذا أدخلت معها في قبرها، من سوف ينجيها عند الله؟ هل صاحبتها صاحبات السوء؛ أو عشيقها وحبيبها، أو غريمها؟ من الذي سوف ينجيها إلا عملها الصالح {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89]. أتعصي الله وهو يراك جهراً وتنسى في غدٍ حقاً لقاه وتخلو بالمعاصي وهو دانٍ إليك ولست تخشى من سطاه وتنكر فعلها وله شهودٌ على الإنسان تكتب ما حواه فويل العبد من صحفٍ وفيها مساويه إذا وافى مساه ويا حزن المسيء لشؤم ذمٍ وبعد الحزن يكفيه جواه ويندم حسرة من بعد فوتٍ ويبكي حيث لا ينجي بكاه يعض يديه من أسفٍ وحزنٍ ويندم حسرة مما دهاه فبادر بالمتاب وأنت حي لعلك أن تنال به رضاه اللهم يا عظيم العفو، يا واسع المغفرة، يا قريب الرحمة، يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أذقنا عفوك وغفرانك، واسلك بنا سبيل مرضاتك، وعاملنا بلطفك وإحسانك، واقطع عنا ما يبعد عن طاعتك، اللهم وثبت محبتك في قلوبنا، وقوها ويسر لنا ما يسرته لأوليائك، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين، وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

فتور داعية

فتور داعية أهل الحق وحملة دعوة الأنبياء بشر يخطئون ويصيبون، ويصابون بالأمراض والأعراض في القلوب والأجسام. وهنا عرض لآفة تصيب الدعاة، وهي فتورهم عن دعوتهم، وعرض لصفات الداعية المصاب بها، ثم بحث عن أسباب نشوء هذا الفتور. والجزء الأخير من هذه المادة يتضمن بعض النصائح التي تعد علاجاً ووقاية من هذا المرض.

بداية الفتور ونماذج من أهل الهمم

بداية الفتور ونماذج من أهل الهمم الحمد لله رب العالمين، والصلاة السلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه. وبعد: أيها الإخوة: الموضوع كما سمعتم هو: فتور داعية، قصة رجل كان يوماً من الأيام يدعو في الناس، ويتكلم ويخطب، وكان يذكر في المجالس، ما كان يوماً من الأيام يدعو أهله وزوجته وأمه وأبناءه، بل كان في بداية التزامه لا يمر في الشارع أو في السوق ويرى منكراً إلا وتكلم وينصح ويذكر. كان لا يرضى أن يجلس مجلساً وفيه منكر، بل يتمعر وجهه إلا إذا تكلم. كان يوماً من الأيام يوزع الأشرطة على الناس التي فيها الخير والذكر، ويوزع الأوراق، وينصح، ويطرق الأبواب، ويدعو الناس إلى الصلاة، لسان حاله كان يقول: {يا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} [غافر:41]. قصة هذا الرجل الذي بدأ يفتر ويضعف، بدأ لا يشعر بالمسئولية، بدأ لا يهتم، تذكره الساعة والساعتين، وكأن هموم الأمة وهموم الدعوة لا تعنيه، بل كأنك لا تكلم إنساناً يشعر أو فيه قلب، يقول الله عز وجل: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72]. إن سألته عن هدفه في هذه الحياة تجده لا يدري لماذا يعيش ولا يعرف. يجلس المجالس بالساعات الطوال، لا هم له إلا أن يشرب الشاي والقهوة، ويأكل الطعام، ويتحدث عن فلان وفلان، لا يبالي بأحوال الأمة، ولا بهموم الدعوة.

عباد بن بشر نموذج من أهل الهمم

عباد بن بشر نموذج من أهل الهمم بعث النبي صلى الله عليه وسلم عباد بن بشر وعمار بن ياسر، حارسين للمسلمين، فجاء الليل فقال عباد لـ عمار: تنام أول الليل أو آخره؟ قال عمار: بل أنام أول الليل، فنام عمار بن ياسر، وقام عباد بن بشر يحرس ثغراً من ثغور المسلمين، فقام يصلي، لم يقرأ الجريدة، أو يتحدث ويتسامر مع نفسه، أو ينظم الأشعار وغيرها، بل لا أحلى ولا أجمل عنده من أن يقوم الليل، فقام يصلي، فنظر إليه أحد المشركين في الليل فرماه بسهم فوقع فيه، فنزع السهم وأكمل صلاته، والدم ينزف منه، ثم رماه الثانية، فوقع فيه ونزعه وأكمل صلاته، ثم رماه الثالثة فانتبه عمار فقال: لِمَ لم توقظني من أول رمية؟! فقال له عباد بن بشر: كنت في سورة أقرأها فلم أحب أن أقطعها حتى أفرغ منها، وايم الله لولا خوفي أن أضيع ثغراً أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظه لما قطعت السورة حتى تنقطع روحي. انظر كيف يشعرون بالمسئولية، بعض الناس إذا حدثته بهم الدعوة، قال: وما شأني؟ تخبره بأمور المسلمين، فيقول: ماذا أفعل؟ تقول له: تضيع أوقاتك الثمينة، يا من كنت تحفظ بعض آيات في القرآن، يا من كنت تقرأ السنة، يا من كنت تحضر الدروس، ما فعلك اليوم في أمة الإسلام؟ ما دورك؟ ما نصيبك في نصر المسلمين؟ هل أنت من الذين يتفرجون، وينتظرون الساعة تلو الأخرى، لا هم له إلا أن يقرأ الأخبار، انتصر المسلمون، أو لم ينتصروا؟ إن حدثته بمصيبة، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، إنا لله وإنا إليه راجعون، أما أن يقوم ويتحرك فهذا لا هم له، ولا يبالي بهذا، يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} [التوبة:38]. نعم. إنه يفتح محلاً تجارياً بعد أن كان داعية إلى الله، أصبح الآن مشغولاً بالتجارة، نهاره تجارة، ليله تجارة، كلامه تجارة، همه الدنيا، قال عليه الصلاة والسلام: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس وانتكس) إذا سألته أن يضحي بشيء في سبيل الله قال: أبنائي وزوجتي، البيت يحتاج، أريد أن أشتري سيارة فلان، أريد أن ألبس كفلان، أريد أن أسكن كفلان. صهيب يخرج من مكة وكان غنياً ثرياً، فلا يسمح له كفار قريش أن يهاجر إلى المدينة، فيقول لهم: ماذا تريدون؟ يقولون: لا نسمح لك أن تجمع المال منا ثم تهاجر بمالك إلى المدينة وتأخذ أموالنا، قال: ماذا تريدون؟ إذا كنتم تريدون أموالي فهي مدفونة في مكان كذا وكذا، خذوها واتركوني أهاجر إلى رسول الله، باع دنياه، وضحى واشترى نفسه في سبيل الله: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [التوبة:111].

صفات الداعية الفاتر

صفات الداعية الفاتر صفته: إن جلست معه يحسن الكلام، يحسن الجدل، ويحسن الحديث، أما العمل فلا، أما التضحية فلا، إن جلس في مجلس فإنه يتكلم عن هموم المسلمين، ويتكلم عن أعمال الدعوة إلى الله، يحسن الحديث، أما أن يقوم هو ويعمل فلا، فهو في آخر الركب، ينتظر غيره، ويأمر سواه، أما أن يتحرك هو فلا؛ بل يجلس مجالس لا هم له إلا الجدل والكلام، قال عليه الصلاة والسلام كما في جامع الترمذي: (ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل) قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2 - 3]. انطفأت الغيرة من قلبه، كان يوماً من الأيام إذا رأى منكراً تغير وجهه وتمعر وتضايق، أما الآن فتمر المنكرات وهو يبتسم، يجلس في البيت ويفتح التلفاز، يستمع إلى الأغاني والمنكرات ولا يبالي، يزور أهله وأقرباءه، النساء مع الرجال، الحديث بينهم، لا يبالي ولا يهتم، بل لا يتأثر ولا يتمعر وجهه، تغير الوقت، تغيرت النفس، وتغيرت روحه، بدأ لا يتمعر من المنكرات، يقول الله عز وجل عن هذا الصنف يعنف عليه: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} [هود:116]. نعم. الأمر شاق وصعب، لم يعد يتحمل إنكار المنكر ولا الأمر بالمعروف، ولم يعد يتحمل استهزاء الناس به، ولم يعد يتحمل تكاليف الدعوة إلى الله، لو سألته عن وقته فستجده مضيعاً لوقته، وقد كان يوماً من الأيام لا يجد دقيقة يضيعها في مباح، أو في دنيا، أما الآن فإن نهاره وليله قد ضاع، ضاع وقته في الأحاديث والمجالس، بل لعلها وصلت إلى الغيبة والنميمة، أما عن نومه فلا تسل، فلعله ينام أكثر من عشر ساعات في اليوم والليلة، نوم وسهر ومضيعة وقت، يا فلان! ألم تكن تأمرنا بالمعروف؟ ألم تكن تنهانا عن المنكر؟ ما بالك تغيرت؟! ما بالك -يا عبد الله- تجلس مجالس لا هم لك فيها إلا القيل والقال؟! وإن سألته حاجة قال: أنا مشغول، ليس عندي وقت، ليس عندي فراغ، يا من تخدع نفسك! إنك لا تخدع إلا هذه النفس التي بين جنبيك. لو طلبت منه شيئاً فإنه غير مستعد: يا فلان! عندنا لجنة أو عمل خيري، عندنا سفر في سبيل الله، في الجهاد في سبيل الله، عندنا مشروع يخدم دين الله، فيقول: أنا غير مستعد لأن ألتزم بشيء، لا أستطيع أن أرجع إلى حياتي الأولى، لا أستطيع أن أرجع إلى التكاليف التي قد فككت نفسي منها، لا أستطيع هذا ولا ذاك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ} [الصف:14] كن نصيراً لله، هل الذي ينصر الله ينظر إلى المنكرات في الشوارع؟ المتبرجات في كل شارع، بل في كل سوق، بل في كل محل، بل في كل مكان. الأغاني لا تستطيع أن تهرب منها؛ في المدارس والمستشفيات والمقاهي والمطاعم، بل حتى دخلت في بيتك يا من فترت عن الدعوة إلى الله، أين ستذهب بأبنائك يوماً من الأيام؟ مع من سوف يلعبون؟ أم في أي مكان سوف يدرسون؟ أم من سوف يخالطون؟ أنت المقصر، وأنت المذنب، وسوف تجني على نفسك.

أسباب الفتور

أسباب الفتور يا من قصرت في الدعوة إلى الله، إن وكل إليه أمر في العمل للدعوة إلى الله ضيعه وما أتقنه، لا يؤديه على أكمل وجه، ولا يستطيع أن يستمر فيه، يبدأ في عمل ثم يتركه، يبدأ في أمر في الدعوة إلى الله، ثم لا يلبث أن يتركه ولا يستطيع أن يتحمله، لو سألتني عن الأسباب، قلت لك: لا أدري، لو سألتني عن الداء أقول لك: لا أعلم، لعلها بعض هذه الأسباب التي سوف أذكرها لك، لعلك بدأت الدعوة إلى الله، ودخل في قلبك شيء من الرياء: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110].

الدنيا وفتنتها

الدنيا وفتنتها لعلها الدنيا وفتنتها، لعل الدنيا قد دخلت قلبك: (اتقوا الدنيا واتقوا النساء) لعلك قد التهيت بزوجك وأبنائك وولدك: (الولد مجبنة مبخلة، مجهلة محزنة) {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن:14]. يقول أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه: [كنا يوماً من الأيام نحن معشر الأنصار، قلنا بيننا وبين أنفسنا: إن أموالنا قد ضاعت -جاهدوا في سبيل الله، تركوا المزارع، تركوا الضياع، تركوا التجارة، ذهبوا يجاهدون في سبيل الله- قال: فقلنا بيننا وبين أنفسنا إن أموالنا قد ضاعت، فلو أنَّا أقمنا فيها، فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله عز وجل: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195]] جاهدوا في سبيل الله، فلما التفتوا إلى الدنيا، قال الله لهم: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195]. أيها الأخ العزيز: لا إفراط ولا تفريط، لا أطلب منك أن تهمل أهلك وأبناءك وبيتك، وتهمل نفسك، إن لنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، ولبدنك عليك حقاً، ولزوجك عليك حقاً، لكن إياك أن تمضي صباحك ومساءك للدنيا، ولا تفرغ ساعة واحدة لله، ما ضرك لو خرجت ساعة في اليوم والليلة، تخرج إلى الشارع، وتدعو الناس إلى الله، وتذكرهم بالله، وتقول لهم: {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} [غافر:29] تذهب وتقول: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:38]؟! ما ضرك -يا عبد الله- لو أنفقت ألفاً للدنيا، وعشرة دنانير في طاعة الله وفي الدعوة إلى الله؟! ما ضرك -يا عبد الله- لو مشيت في اليوم والليلة بالسيارة لقضاء حاجات أهلك، وتمشي عشر دقائق بسيارتك في سبيل الله؟! ألم تسمع المنافقين ماذا كانوا يتعذرون عند رسول الله؟ يدعون إلى الجهاد وهم يقولون: {شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا} [الفتح:11] كانوا يتعذرون بالمال والأهل والولد والبيوت، ويقولون: {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} [الأحزاب:13]. لا أدري ما السبب الذي أوصلك إلى هذه الحال! أتظن أن غاية الدين والدعوة أن تحضر مجلس ذكر ثم تذهب إلى بيتك فتنام؟! أسألك عن جدولك في اليوم والليلة، فتقول: أحضر مجلساً واحداً في الذكر، أما أن أدعو إلى الله، أما أن يدعوني هذا العلم إلى العمل، أما أن يهتف هذا العلم بالعمل، فلا إلا من رحم الله.

مصاحبة ذوي الهمم الضعيفة

مصاحبة ذوي الهمم الضعيفة لا أدري ما السبب! لعلك تصحب أناساً ذوي إرادات وهمم ضعيفة، لا هم لهم إلا التجارة، إن جلست معهم سألوا عن أسعار العملة والمناخ والتجارة، وسألوا عن العمارات والتجارات والعقارات، وسألوا عن البيوت، لعلك تجلس معهم، لعلك إن جلست معهم لا يتكلمون إلا عن السفر إلى بلاد الغرب، ولا يتكلمون إلا عن الدنيا وملذاتها، لعله هذا السبب.

الذنوب والمعاصي

الذنوب والمعاصي لا أدري ما السبب! لعل السبب هي الذنوب والمعاصي، كنت تدعو إلى الله ونسيت نفسك، أحرقت نفسك للناس، ثم ما إن لبثت إلا ووقعت في المعاصي، جلست بينك وبين نفسك في الغرف، فأغلقت الأضواء وأطفأتها، ثم جلست تنتهك المعاصي: إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أنما تخفي عليه يغيب {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:14]. يقول ابن القيم رحمه الله: ومن عقوباتها -يعني: المعاصي، واسمع إلى هذه الكلمات العظيمة، يا من كنت داعية إلى الله! - يقول: ومن عقوباتها: أنها تضعف سير القلب إلى الله والدار الآخرة، أو تعوقه، أو توقفه، وتعطفه عن السير فلا تدعه يخطو خطوة إن لم ترده عن وجهته إلى الوراء. نسأل الله العافية.

الجهل بالهدف من الحياة

الجهل بالهدف من الحياة لعلك -يا عبد الله- لا تعرف ما هدفك من الحياة. لعلي لو سألتك: ماذا تريد من الدنيا؟ تقول: أن أتزوج، ثم أنجب الأبناء، ثم أبني لي بيتاً، وأسكنه مع زوجتي وأبنائي، ثم ماذا؟ تقول: لا أدري. ما هدفك من الحياة؟ تقول: أن أحصل على شهادة، ثم يرتفع ذكري بين الناس. يقول رجل -وهو ابن عم لـ عمرو بن عتبة، واسمع إلى هذه القصة العظيمة- يقول: نزلنا في مرج حسن، في أرض خضراء، وإن سألتك لو نزلت في هذه الأرض، ما هدفك؟ وما همك؟ وما أمنيتك؟ يقول: فقال عمرو بن عتبة: ما أحسن هذا المرج الحسن! وما أجمله! لو نادى منادٍ: يا خيل الله! اركبي. ما أحسن أن ينادي منادي الجهاد في هذه اللحظات، فيكون رجل في أول الصف، فيكون أول من يصاب، ثم يدفن في هذه الأرض! ما أحسن هذا! يقول صاحبه: ما هي إلا لحظات، حتى ينادي منادي الجهاد: يا خيل الله! اركبي. يقول: فيكون في الصف، فينادي أبوه - أبو عمرو بن عتبة - عليَّ بـ عمرو هاتوه، فهو يعرف ابنه، ويعرف أنه إذا تمنى أمنية يحققها الله له، يقول: فما هي إلا لحظات، فيؤتى به مصاباً، يقول: فتزهق روحه وتفيض إلى باريها، فيدفن في مركز رمحه، في تلك الأرض، هذا هو الهدف، وهذه هي الأمنية.

العقبات وعدم معرفة مصاعب الدعوة

العقبات وعدم معرفة مصاعب الدعوة لعلها العقبات يا عبد الله، لا أدري لعلها عقبات كانت في طريقك، خسرت بعض المال، أصبت بمصائب، استهزأ بك بعض الناس. لعلك -يا عبد الله- ظننت يوماً من الأيام أن طريق الدعوة إلى الله مفروشة بالورود، وأن طريق الله والجهاد في سبيله سوف يأتيك بالمال، ولن تخسر فيه درهماً واحداً، فإذا بك تخسر الأموال، وتخسر السمعة، ويتكلم الناس عنك، ويستهزئون بك، فما تلبث إلا قليلاً فتترك الدعوة إلى الله وتركن إلى الدنيا. أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام يسحبون في الرمضاء، وعليهم الأحجار، ويجرون على الأشواك، ويلف على ظهورهم الحديد، بل تكوى ظهورهم وتشوى، والواحد منهم يقول: أحد أحد، أحد أحد. يؤتى إلى أم أحدهم فتطعن في فرجها بالرمح، وينظر إلى أمه تزهق روحها، ويقول له عليه الصلاة والسلام: (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة) يقول ابن عباس: [ما يستطيع أحدهم أن يستوي جالساً من التعذيب والضرب في سبيل الله] لا يستطيع أن يجلس، حتى يمر الجُعْلُ عليه فيقال له: هذا إلهك من دون الله، فيقول مكرهاً: هذا إلهي من دون الله، وقد اطمأن قلبه بالإيمان. يؤتى بأحدهم يراد به أن يقتل، فيقال له: أترضى أن يكون مكانك رسول الله وأنت آمن في أهلك وولدك؟ يقول: لا أرضى أن أكون في أهلي وولدي ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم يشاك بشوكة. أبو ذر يقوم في الناس ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فيضرب حتى يكون كتمثال من الدم، حتى يفكه بعضهم، فيقوم في اليوم الثاني، فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فيضرب حتى يكون كتمثال الدم، فيقوم في اليوم الثالث، ويقول هكذا، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله فيضرب حتى يكون كتمثال الدم، هكذا كان أصحاب رسول الله. هل سمعت بماشطة بنت فرعون؟! هذه امرأة كانت خادمة لابنة فرعون، تمشط شعرها، وفي يوم من الأيام سقطت المشط من يدها، فأرادت أن تحمل المشط، فقالت: باسم الله، قالت ابنة فرعون: تقصدين أبي؟ قالت: بل ربي ورب أبيك الله رب العالمين. الله أكبر! خادمةتنطق بهذه الكلمات، ماذا ينتظرها؟ قالت: سوف أخبر عنك أبي، قالت: أخبريه، فأخبرت أباها، فناداها فرعون؛ الذي كان يقتل الرجال ويستحيي النساء، وكان من المفسدين، نادى تلك المرأة الضعيفة، فقال لها: ماذا تقولين؟ ألك رب غيري؟ قالت: نعم. ربي وربك الله رب العالمين، فأتى بأولادها، فأحرق أولادها واحداً تلو الآخر، فقالت وهي تنظر إلى أولادها، تغلي دماؤهم في الزيت الساخن، وتقطع اللحم عن العظم، فنظرت إليهم وقالت لفرعون: لي إليك حاجة، فظن أنها تقاعست، قال: وما هي تلك الحاجة؟ قالت: أسألك أن تجمع عظامي مع عظام أبنائي في ثوب وتدفنني معهم جميعاً، فقال فرعون: ذلك لك من الحق علينا، فسحبت حتى أراد فرعون أن يرميها في الزيت، وكانت تحمل رضيعها فكأنها تقاعست، فأنطق الله ذلك الغلام، وقال: يا أماه! يا أماه! اصبري فإنك على الحق! فرمت بنفسها ورضيعها في الزيت! فزهقت روحها، فشم رسول الله رائحتها ورائحة أبنائها في الإسراء والمعراج.

العوائق والمصائب وعدم الشعور بالتحدي

العوائق والمصائب وعدم الشعور بالتحدي أيها الإخوة: لا أدري ما السبب الذي أوصلنا إلى هذه الحال! أصبح الواحد منا لا هم له في الدنيا إلا أن يجلس مجالس، وينام ثم يستيقظ إلى الدوام، ثم يرجع من دوامه، فيزور فلاناً، ويجلس مع فلان، ثم تمر أيامه هكذا، لا أدري هل هي العوائق؟ هل هي المصائب؟ هل هي الفتن؟ {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214]. لا أدري ما السبب! لعلك لا تشعر بالتحدي، لعلك لا تدري -يا عبد الله- أن اليهود والنصارى يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم. لعلك نسيت أن اليهود والنصارى لن يرضوا حتى تتبع ملتهم. لعلك لا تدري أو كأنك تناسيت أن أهل الكفر كلهم قد تجمعوا لحربنا، وتداعت الأمم علينا. لعلك لا تدري -يا عبد الله- أو كأنك تتناسى أن أهل الباطل قد اجتمعوا على إخوانك، ويريدون سفك دمائهم، ويريدون قتلهم وإيقاف دعوتهم، وكأنك لا تشعر بهذا ولا ذاك. كأنك لم تسمع بالدعاة يسجنون، ولا كيف يقتلون! ولا أن نساءهم تهتك أعراضهن وأنت جالس في البيت آمن؛ لا تريد أن تخرج من جيبك ديناراً، ولا تريد أن تقضي من وقتك ساعة في سبيل الله، ولا تريد أن تعرض وجهك للدعوة إلى الله، ولا تريد أن تقوم المقام الذي أمرك الله به فتأمر بالمعروف أو تنهى عن المنكر.

التقصير في العبادة وقراءة القرآن

التقصير في العبادة وقراءة القرآن لعل السبب أنك كنت تدعو إلى الله، وقصرت في عبادة الله، لعلك يوماً من الأيام، كنت تدعو إلى الله، ونسيت نفسك، فلم تكن تقرأ القرآن، ولا تذكر الله، ولا تقوم الليل، ولا تصوم النهار، ولا تخشع في الصلاة، نسيت نفسك يا عبد الله. عبد الله: يقول عليه الصلاة والسلام: (الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب) رواه الترمذي، كالبيت الخرب، يدعو إلى الله ولا يقرأ القرآن، قال بعضهم عن سفيان الثوري: كان إذا أصبح يرفع رجله على الحائط -تخيل هذا الرجل، يرفع رجله على الحائط، أتعرف لماذا؟ - حتى يرجع الدم إلى رأسه من قيام الليل، كان إذا قام الليل ينزل الدم إلى قدميه حتى إذا أصبح رفع رجليه على الحائط حتى يعود الدم إلى رأسه من شدة قيام الليل، يقول عنه شجاع بن الوليد: كنت أخرج مع سفيان الثوري، فما كان لسانه يفتر عن ذكر الله، أو الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر، ذاهباً وراجعاً. خلا في الليل، فقال لصاحبه: ائتنا بماء الوضوء، يقول: فصببت له ماء الوضوء، يقول: فقربته إليه ونمت، يقول: ففي الصباح نظرت إليه واضعاً يده اليمنى على خده الأيمن، فسألته ما بالك رحمك الله؟ قال: منذ أن قربت إليَّ الماء، وأنا على حالي هذه، من أول الليل إلى الفجر. قال: ما شأنك؟ قال: أتفكر في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة. من أول الليل، إلى طلوع الفجر! وكان رحمه الله يصارع الطغاة، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، يخبئ كراريسه في الأرض ويدفنها خشية أن تسرق، ويدرس تلاميذه في الخفاء، ويجاهد في سبيل الله، ويدعو إلى الله، لكنه إذا خلا في الليل قام لله مصلياً.

اليأس من نصر الله

اليأس من نصر الله لعلك -يا عبد الله- قد أيست من نصر الله، ولعل النصر قد تأخر عنك، ولعلك قد استبطأت النصر: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} [الحج:15] قال بعضهم: أي يربط حبلاً في السقف، ثم ليعلق رقبته فيه، ثم ليشنق نفسه، فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ، فلينظر هل يذهب هذا الغيظ الذي في قلبه: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:110]. ألم تسمع بالحديث الذي رواه مسلم، وفيه: (أنه يأتي النبي يوم القيامة وليس معه أحد) يدعو إلى الله، ويُذكِّر بالله، وينصح الناس، يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر إلى أن يموت، ويأتي يوم القيامة ولم يستجب له أحد: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103].

الخلاف مع الدعاة في بعض المسائل

الخلاف مع الدعاة في بعض المسائل لا أدري ما السبب! لعله الخلاف الذي حصل بينك وبين إخوانك، اختلفت معهم في وجهة نظر، اختلفت معهم في أمر ما، ثم تركتهم وشأنهم، قلت: هؤلاء لا يصلحون في الدعوة إلى الله، إذاً ما بالك أنت لا تدعو إلى الله لوحدك؟ لماذا لا تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ يقول يونس الثقفي رحمه الله: ما أعقل الشافعي! ناظرته يوماً من الأيام، فلم نتفق يقول: فافترقنا، فلقيني يوماً من الأيام، فأمسك بيدي، فقال لي: يا أبا موسى! ألا يستقيم أن نكون إخواناً ولو لم نتفق في مسألة، لماذا لا نكون إخواناً ولو اختلفنا في كل مسألة، ولو اختلفنا في وجهات النظر، بما أن الأمر لم يرد فيه نص، ولم يحكم فيه شرع، ما بالنا لا نختلف؟! ألم يختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! هل وجدت اثنين يتفقان في كل مسألة من مسائل الدين؟! لعلك لا تجدهما، لنختلف لكن ليعذر بعضنا بعضاً إن لم يرد هناك نص، ولم يحكم بهذا شرع، ينصح بعضنا بعضاً، وينكر بعضنا على بعض، لكن نجلس مع بعضنا، وتصفى القلوب، وتصفى الأفئدة، ويستقيم بعضنا مع بعض، ويذكر بعضنا بعضاً، لكن إن اختلفنا في كل مسألة، وكل منا ترك أخاه، وكل منا افترق مع أخيه، لن تجد أخوين يجلسان مع بعضهما البعض.

النظر إلى الأقل بذلا

النظر إلى الأقل بذلاً لعلك -يا عبد الله- تنظر إلى من هو دونك، ولعلك تنظر إلى فلان لا هم له في الدعوة إلى الله؛ إلا أن يجلس في مكتب من المكاتب، فيوقع ورقة، ثم يذهب إلى البيت، ويظن أن هذه هي غاية الدعوة إلى الله، لا بأس، لقد عملت شيئاً لله، ولقد فعلت في سبيل الله، لكنها ليست غاية الدعوة إلى الله، غاية الدعوة: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111]. اسمع إلى قصة حبيب رضي الله عنه، أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم برسالة إلى مسيلمة، فذهب إلى مسيلمة وأعطاه الرسالة، فغضب مسيلمة، وزمجر وأرعد، فقال له: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم. أشهد أن محمداً رسول الله، قال: أتشهد أني رسول الله؟ -وخسئ- فقال مستهزئاً به: إن في أذني صمماً، فربطه وأتى بالجلاد، فقال: أتشهد أني رسول الله؟ فقال: إن في أذني صمماً، فقال للجلاد: اقطع منه طرفاً، فقطع جزءاً من جسده، فتدحرج، والدم يسيل منه. قال: تشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: أشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: إن في أذني صمماً، فقطع منه قطعة أخرى، فلا زال يكرر إن في أذني صمماً، أشهد أن محمداً رسول الله، حتى أصبح قطعاً متناثرة على الأرض، وزهقت روحه وهو يقول: أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله هكذا تكون غاية الدعوة إلى الله، أن تضحي بنفسك وبمالك في سبيل الله، وأن تضحي بوقتك في سبيل الله. ثم إن أمه تسمع بالخبر، فما تظنونها تقول؟ وما تظنونها تفعل؟ قالت: لهذا أعددته وعند الله احتسبته، بايع رسول الله صغيراً ووفى له كبيراً. وأمه لم تكتفِ بهذا، بل تكون مع المسلمين في تلك المعركة التي يقتل فيها مسيلمة، فبعد أن تنقضي المعركة، ويهزم أعداء الله، تأتي أم حبيب وتبحث في القتلى، فإذا بها تنظر إلى مسيلمة، مثخناً بالجراح، قد أزهقه المسلمون بالضرب، وزهقت روحه إلى الله. حبيب في جنة الله، أما مسيلمة فهو في لعنة الله، أم حبيب تنظر إليه، فماذا تفعل؛ تفرح وتستبشر، هذا هو المصير: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [إبراهيم:42].

علاج الفتور

علاج الفتور ما العلاج يا عبد الله؟ لعلي قد أصبت الداء، ولعلي قد عرفت السبب، ولعل السبب غير هذا، لعلها الدنيا، لعلها الذنوب، لعلها المعاصي، لعلها الشهوات، لا أدري ما السبب! لكن يا عبد الله أنصحك في الخاتمة نصيحة:

تعهد الإيمان وتفقد الدين

تعهد الإيمان وتفقد الدين عليك بتعهد إيمانك، وسل عن إيمانك يا عبد الله! إذا رجعت إلى البيت وخلوت بنفسك، ماذا تفعل؟ هل أنت أمام الناس كما تكون لوحدك؟ هل أنت لو خلوت بنفسك تقع في المعاصي؟ إذا فتحت الجريدة أو المجلة ونظرت إليها، ماذا تفعل؟ هل تمعن النظر، أم أنك تصد وتقول: أستغفر الله؟ أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين. ماذا تفعل -يا عبد الله- إذا كنت في السوق لوحدك ولا أحد يراك؟ ماذا تفعل إذا كنت في الدوام واختليت بتلك المرأة، هل تجلس، هل تمكث؟ سل عن إيمانك وتفقد دينك، افتح كتاب الله وجدد إيمانك يا عبد الله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2] قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201] هل تذكرت الآن يا عبد الله؟ هل انتبهت من غفلتك؟ هل علمت أنك مقصر؟ هل تأكدت الآن أن أوقاتك تضيع سدى، وأن حياتك بدأت تذهب ولا تشعر بها؟ هل علمت الآن أنه سبق المفردون؟ أنه ذهب الناس بالأجر؟ أنه ذهب الدعاة بالغنيمة؟ وأنت جالس في البيت، قد حصلوا أجر الدنيا والآخرة، وأنت جالس و: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة:81].

إزالة الغل من القلب

إزالة الغل من القلب أنصحك يا عبد الله أن تصفي قلبك من الغل، وأن ترفع يديك وتقول: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر:10] ارجع إلى إخوانك، وضع يدك في أيديهم، وابدأ معهم مرة أخرى، طريقك في الدعوة إلى الله: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2]. أزل ما في قلبك من الغل، من الحقد، من الحسد على إخوانك، والخلاف شر، قيل للبخاري: إن أقواماً يقولون فيك كذا وكذا، فقال رحمه الله: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [النساء:76] ثم قرأ قوله تعالى: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر:43] فقالوا له: ألا تدعو عليهم؟ فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (اصبروا حتى تلقوني على الحوض). الإمام أحمد يبكي طوال ليله، فيقال له في الصباح: مالك رحمك الله تبكي طوال الليل؟ قال: مر علي في الدرس، قوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40] فتذكرت المعتصم، من هو المعتصم؟ الذي كان يأمر بجلد الإمام أحمد وضربه، قال: فتذكرته، قال: فسجدت في الليل أبكي أطلب الله عز وجل أن يحله مني، يبكي طوال ليله أن يحله الله عز وجل ممن أمر بضربه، ومن أعان على جلده. هكذا كان الأوائل، وهكذا نحن يا عباد الله.

تنظيم الوقت

تنظيم الوقت وهكذا أنصحك بأن تنظم وقتك وتحاسب نفسك، أن تجعل جزءاً من وقتك في طاعة الله، وفي الدعوة إلى الله، فتجعل جزءاً من وقتك تدعو إلى الله، وتذكر الناس، إن مجالات الدعوة كثيرة؛ سواء بالمال، أو بالوقت، أو باللسان، أو بالكتابة، أو باليد، أو بما تستطيع، فرِّغ لنفسك جزءاً من وقتك تدعو إلى الله، وتنصر دين الله.

دراسة سير الصالحين والأنبياء

دراسة سير الصالحين والأنبياء وأنصحك أن تدرس سير الأولين، وتقرأ قصص الأنبياء والصالحين، قصة قوم نوح مع نوح عليه السلام، فقد لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، أتعرف ماذا كان يفعل؟ كان يدعو إلى الله، وكان يذكر بالله، وكان ينصح في الله، حتى استغشوا ثيابهم، وأصروا واستكبروا استكباراً، ماذا فعل؟ قال: {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً * فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} [نوح:8 - 10]. أما يوسف عليه السلام، فيؤخذ صغيراً من أبيه وأمه، ويكاد يقتل، ثم يباع بثمن زهيد في الناس، عبد يباع ويشترى، ثم يتعرض للفتن، ثم يتلوث عرضه وسمعته في الناس، ثم يرمى في السجن وحيداً، فيجلس مع صاحبي السجن فماذا يقول: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف:39] يدعو إلى الله في السجن. ما بالنا لا ندعو إلى الله في الدوام والوظيفة والسيارة والعمل، في البيت والشارع والمجالس، ما بالنا لا نقول: يا قوم! اتقوا الله، يا قوم! اعبدوا الله، يا قوم! صلوا، يا قوم! استغفروا الله، يا قوم! كفوا عن المعاصي، ما بالنا لا نتكلم لله. عقبة بن نافع -لعلك إذا سمعت سيرهم وقرأت أخبارهم؛ ينجلي عنك بعض الهم، ولعل همتك ترتفع- عقبة بن نافع، يقف على المحيط الأطلسي وعمره خمس وعشرون سنة، رافعاً سيفه، وقد تبللت أقدام فرسه في البحر، فيقول: [والله! لو أعلم أن خلف هذا البحر أرضاً وقوماً لخضته بفرسي هذا] يدعو إلى الله، وينشر كلمة الله. أما جعفر الطيار، وما أدراك ما جعفر الطيار؟! يرفع لواء الدعوة والجهاد في سبيل الله، فتقطع يمينه، فيمسكها بشماله، فتقطع، فيمسكها بعضديه، ثم تكسر الرماح في ظهره وتفيض روحه وهو يقول: يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شاربها والروم روم قد دنا عذابها كافرة بعيدة أنسابها فيموت ويطير في الجنة.

ضرورة الدعوة إلى الله

ضرورة الدعوة إلى الله في الختام -يا عباد الله- أدعوكم إلى الدعوة إلى الله، وإلى الرجوع إلى طريق الدعاة إلى الله، يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما عند البخاري: (اللهم إني أعوذ بك من الكسل) ولندع الكسل، ولندع الفراش، وقد قال الله لنبيه: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً} [المزمل:1 - 2] فيلتفت إلى خديجة ويقول لها: مضى عهد النوم يا خديجة، وبدأ الآن وقت الجهاد، وبدأ الآن وقت الدعوة إلى الله. ألا تسمع من حولك -يا عبد الله- أن نساءً تهتك أعراضهن؟ ألا تسمع عن الدماء كيف تسفك؟ عشرات الألوف من الرجال يقتلون، لا جريمة لهم إلا أنهم قالوا: لا إله إلا الله: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [البروج:8 - 9] ما بالك لا تقوم حمية لهم؟! رب وامعتصماه انطلقت ملء أفواه الصبايا اليتم لامست أسماعهم لكنها لم تلامس نخوة المعتصم نختم بقول الله عز وجل: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:250]. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

التوبة

التوبة التوبة للعبد ميلاد جديد، وهي مهمة لكل مسلم سواء أكان عالماً أم جاهلاً، رجلاً أم امرأة، كبيراً أم صغيراً، وقد فتح الله باب التوبة للعصاة والمذنبين، فحري بكل مذنب أن يتوب، ويستغل هذه الفرصة بتجديد العلاقة مع الله جل وعلا. وهناك أمور تعين على التوبة منها: الخوف من الله، فالخائف يسارع بالتوبة، وكذلك حب الله، وتذكر سعة رحمة الله جل وعلا وفرحه بتوبة عبده، وتبديله لسيئات التائب حسنات. كما أن هناك شبهة تدور في خلد المذنبين وهي: أنه لا يدعو إلى الله ولا يجلس مع الصالحين ما دام أنه يعصي الله جل وعلا، وهذا مدخل من مداخل الشيطان، فإن ارتكاب المعصية ذنب وترك الدعوة إلى الله ذنب آخر.

أصناف الناس تجاه المعاصي

أصناف الناس تجاه المعاصي الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم. وبعد: فإن موضوع التوبة موضوع عظيم وكبير، لا يكفي فيه كلمات تسمعها، وتظن -أخي العزيز- أنك بعد ذلك سوف يقبل الله توبتك، وتكون من التائبين، إن التوبة أمر كبير وعظيم جداً. أولاً: لا بد أن تعلم أن الذنب لا بد منه لا محالة، بل على الصحيح أن الأنبياء يذنبون وإن كانت صغائر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لولا أنكم تذنبون، لذهب الله بكم ولأتى بقومٍ يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم) فلا بد من الذنب، وأنا لا أدعوك إلى الذنب ولكن أدعوك إلى ما بعد الذنب، أي الصنفين أنت؟

الصنف الأول: من يبحث عن المعصية

الصنف الأول: من يبحث عن المعصية الصنف الأول من الناس من يبحث عن المعصية، ويتظاهر بالصلاح، يخطط في قلبه للمعاصي والذنوب، إن أذنب فرح، وإن عصى ابتهج، إن فاتته معصية حزن وتضايق وندم، يخطط لها، يبحث عنها، يتجول خلفها، يركض وراءها، فإذا ظفر بها كانت سعادته وفرحته الكبرى أنه عصى الله.

الصنف الثاني: من يحاول الابتعاد عن المعاصي

الصنف الثاني: من يحاول الابتعاد عن المعاصي الصنف الآخر من الناس: صنفٌ صالح يبتعد عن الذنوب والمعاصي وأسبابها، لكن شهوته تغلبه فيعصي الله، فيتحسر ويندم ويخاف ويطرح نفسه بين يدي الله، يبكي ويندم، ثم يتوب، وتمر الأيام والليالي فتغلبه الشهوة، وتغلبه نفسه فيعصي الله، وهو خائفٌ وجلٌ نادمٌ، يبكي ويتحسر فيرجع ويتوب، ثم تمر الأيام والليالي فتغلبه شهوته فيعصي الله. أي الصنفين أنت؟ أما الصنف الآخر: فهو الصنف الذي قال الله عزَّ وجلَّ فيه: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [آل عمران:135] فاحشة، أي: كبيرة، يظن المسكين أنه لا توبة له، وأن الله لن يتوب عليه، قال الله عزَّ وجلَّ عن صفات المتقين أفضل البشر: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135]. أخي العزيز: من أي الصنفين أنت؟ إن كنت من الصنف الأول: فالنجاة النجاة، والهروب الهروب، إن كنت من الذين يفرحون إذا عصوا، ويستبشرون إذا ارتكبوا الفواحش، بل يخططون لها، ويزحفون لها، فانقذ جلدك من النار، وفر إلى الله. وإن كنت من الصنف الآخر الذي يطيع الله ويتقيه، ويخاف من الذنوب، فإذا أذنب وفي قلبه خوف من الله؛ خوفٌ أن يفضحه الله، خوف أن يعاقبه الله، خوف من الجليل أن يطلع عليه في قلبه شيءٌ من الحياة، فإذا ارتكب الذنب والمعصية فر إلى الله عزَّ وجلَّ وخرَّ بين يديه.

أمور تدعو إلى التوبة

أمور تدعو إلى التوبة اسأل نفسك وكن صريحاً معها ما الذي يدعوك إلى التوبة؟

من دواعي التوبة: الخوف من الله

من دواعي التوبة: الخوف من الله أول أمرٍ يدعوك إلى التوبة: الخوف من الله هل حقاً أننا نخاف من الله؟ هل حقاً أن الواحد منا إن أذنب خاف من ذنبه وكأنه يلاحقه، يتفكره طوال حياته، ويبكي بسبب ذنب ارتكبه منذ سنوات؟ الحق أن يُخاف من الله، الحق أن الواحد عندما يفتح المصحف ويقرأ عن عذاب الله: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً * لِلطَّاغِينَ مَآباً} [النبأ:21 - 22] الحق أن نخافه. الحق أننا عندما نقرأ عن عذاب أهل النار، قوله تعالى: {وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً} [المزمل:13] يجب أن نخاف، إذا عرفت عن عذاب أهل النار أنهم يلبسون ثياباً من نار، ويأكلون طعاماً من نار، وينامون على فرش من نار، ويلتحفون بفرشٍ من نار، ويستظلون بظلل من النار: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} [الزمر:16] أتعرف ما العبرة؟ {ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} [الزمر:16]. إن أول أمر يدعوك إلى التوبة: هو الخوف من الله خوفٌ من عذابه خوفٌ أن يعرض الله عنك، ألا تخاف -أخي العزيز- أن يعرض الحبيب عنك! {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة:165] ألا تخاف أن تلقى في النار! {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] فأكبر عذابٍ لأهل النار أن يحجب العزيز عنهم، كما أن أفضل نعيمٍ لأهل الجنة أن يروا وجه الرحمن. ألا تخاف -أخي العزيز- مكر الله! كمن يرتكب الذنوب والمعاصي يختلي بنفسه يفتح الجريدة فإذا هو يتلذذ يتمتع بالأغاني والمسلسلات يذهب إلى الأسواق فينظر يمنة ويسرة إلى النساء الكاسيات العاريات، ألا تخاف مكر الله؟ أما سمعت ذلك الذي تعلق قلبه بصبي، فلما اقتربت ساعة وفاته قال: أَسَلْمُ يا راحة العليل ويا شفاء المدنف النحيل رضاك أشهى إلى فؤادي من رحمة الخالق الجليل قيل له: اتق الله! قال: رضاك أشهى إلى فؤادي من رحمة الخالق الجليل اتق الله! فخرجوا من عنده، وصاح صيحة خرجت بها روحه، وقد كان يصلي ويصوم. ألا تخاف مكر الله أأمنت مكره؟! {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99].

من دواعي التوبة: حب الله

من دواعي التوبة: حب الله أمرٌ ثانٍ يدعوك للتوبة إلى الله هو حب الله، قال سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة:165] تحب الله وتعصيه؟! إن المحب لمن يحب مطيع أخي العزيز: ينظر الله إليك يوم تفعل المنكر، ألا ترى أن الله عزَّ وجلَّ هدد المؤمنين أنهم إذا أفرطوا في المعاصي أن يستبدلهم بقوم آخرين، قال تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54]. أخي العزيز! يدعوك للتوبة رجاء رحمة الله، فإذا أدركت، أظنك تقول في قلبك: إنني أرتكب ذنوباً كبيرة، ومعاصي عظيمة، لا أظن أن الله يغفرها لي؟! نقول: لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرت الله لغفر لك (قال الله عزَّ وجلَّ: لو علم عبدي أني على مقدرة على مغفرة الذنوب غفرت له). وأيضاً: لو أتيته بملء الأرض خطايا، ثم لقيته لا تشرك به شيئاً، لأتاك بقرابها مغفرة، فالله غفور رحيم، قال تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82]. يقول ابن عباس كما في صحيح مسلم: (إن أناساً من المشركين أتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله! قد قتلنا فأكثرنا، وزنينا فأكثرنا -لم يسألوا إلا عن هذه الذنوب، سفك وقتل وزنا وإكثارٌ منه- وإن الذي تدعو إليه لحسن، فهل لنا من توبة؟ فأنزل الله عزَّ وجلَّ من فوق سبع سماوات: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ} [الفرقان:68]-التوبة تقتضي الإقلاع- {وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} [الفرقان:68]-لعلها عشر دقائق ثم تنتهي اللذة، فماذا بعد هذا؟ - {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً} [الفرقان:68 - 69] فيقول الله بعد ذلك -وانظر هذا الصنف من الناس، ما أرحم الله! وما أكرمه! -: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:70]). الله أكبر! امتلأت الأرض بذنوبهم وخطاياهم ومعاصيهم، وبلغت عنان السماء، فيبدلها الله حسنات.

مواقف تدل على صدق التوبة

مواقف تدل على صدق التوبة .

موقف ماعز الأسلمي

موقف ماعز الأسلمي أتى ماعز بن مالك الأسلمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبحث عنه، فقال: يا رسول الله! زنيت فطهرني -كان يعلم أنه سوف تحفر له حفرة ويجتمع عليه المسلمون ويأخذون الحجارة يرجمونه بها، وأ، رأسه سوف يتشقق، ويسيل منه الدم، وأنه سوف يموت معذباً بالحجارة- فصد عنه عليه الصلاة والسلام، فجاءه في اليوم الثاني، فقال: يا رسول الله! زنيت فطهرني، فصد عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاءه في اليوم الثالث، فقال: يا رسول الله! زنيت فطهرني -يخاف من الذنب- فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومه، فقال: هل تعلمون به بأساً؟ قالوا: لا نعلمه إلا وفي العقل من الصالحين، فذهب عليه الصلاة والسلام فجاءه في اليوم الرابع، فقال: يا رسول الله! زنيت فطهرني -لا يتحمل الذنب، والمعصية تكاد تقتله، لا يهدأ له بال، ولا يقر له قرار، وتلاحقه المعصية، كما قال ابن مسعود: [كجبل خاف أن يقع عليه]- فأمر الصحابة أن يحفروا له حفرة ثم وضع فيها، فرجمه الصحابة حتى مات.

موقف المرأة الغامدية

موقف المرأة الغامدية وبعد لحظات أتته امرأة غامدية، فتقول له: يا رسول الله! لعلك تردني كما رددت ماعزاً، إني زنيت فطهرني -أي جيلٍ هذا! أي أناس أولئك! أي قلب هذا! - وإني حبلى -عندي دليل، فبطني قد امتلأ- فصد عنها عليه الصلاة والسلام فقال لها: اذهبي حتى تضعي -لعلها ترجع إلى رشدها- فذهبت وأتت بعد شهور وفي يديها خرقه عليها جنينٌ صغير، فقالت: هو ذا يا رسول الله، زنيت فطهرني، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهبي حتى تفطميه -القلب الرحيم الشفيق على أصحابه لعلها ترجع، ما قال: نرجمها- قال: اذهبي حتى تفطميه، فأتت بعد شهور بيدها كسرة من خبز، فقالت: يا رسول الله! هو ذا يأكل، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الطفل فدفعه إلى أحد الصحابة، وأمر لها بحفرة، فحفر لها، ثم وضعت فيها، فرجمت، ورجمها خالد فسقط رأسها وتطاير الدم عليه، فسبها خالد، فقال له عليه الصلاة والسلام: (مه يا خالد! لقد تابت توبةً لو تابها صاحب مكس لتاب الله عليه، وفي رواية: لو قسمت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم). هل رأيت أنها جادت بنفسها لله عزَّ وجلَّ: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:135]. أتدري ما الذي يدعوك إلى التوبة؟ إنه قربك من الله، ورجاؤك رحمة الله، ومحبتك لله عزَّ وجلَّ. لعلك تتعجب ما بال بعذ أولئك الناس ينام على الفراش فيبكي ولا تشعر به زوجته! تتعجب ما الذي جعلهم يقومون من الليل! {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} [السجدة:16] الواحد منا لا يستطيع أن يقوم لصلاة الفجر، بينما هم يقومون في منتصف الليل من الفراش، ما الذي أقامهم؟ الجواب في قوله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً} [السجدة:16]. تقول بنية صغيرة لأبيها: يا أبتاه! ما لي أراك لا تنام مثل الناس؟ قال: يا بنية! إن خوف أبيك من النار قد أذهب عنه النوم.

الذنوب والمعاصي وخطر استصغارها

الذنوب والمعاصي وخطر استصغارها أخي العزيز! لا بد أن تستعظم الذنب، وإياك أن تحتقره. يقول بعض السلف: إن الاجتهاد في الذنب أشد من ركوبه. فرحك وسرورك وقلة خوفك من الله وأنت ترتكب الذنب أشد من الذنب نفسه. انتبه أخي العزيز! من فعل معصية ولو كانت صغيرة، قال ابن مسعود: [إن المؤمن يرى ذنبه كجبلٍ يخاف أن يقع عليه، وإن المنافق يرى ذنبه كذبابٍ وقع على أنفه، فقال به هكذا]. أرأيت الفرق بين من يعصي وهو يضحك، ومن يعصي وهو يبكي؟ أرأيت الفرق بين من يذنب وقلبه وجل خائف يخاف مكر الله، ويخاف عقوبة الله، يتبعها بالحسنات، يخاف ألا يقبل الله توبته، وبين ذلك الذي يذنب وهو يضحك ويفرح وهو مسرور إن فاته ذنبٌ تحسر وندم؟ أخي العزيز! قف مع نفسك وقفات، واسأل نفسك: هل أنت تسير في طريق صحيح؟ يقول أنس وهو يخاطب التابعين: [إنكم تعملون أعمالاً هي في عيونكم أدق من الشعرة إن كنا نعدها في عهد رسول الله من الموبقات المهلكات]. يقول حذيفة: [إن كان الرجل منا ليتكلم بالكلمة كنا في عهد رسول الله نعده منافقاً] في كلمة نعده منافقاً، وهذا يسمعه في المجلس الواحد أربع مرات في مجلس من؟ مجلس التابعين. قل لأولئك الذين يسلطون ألسنتهم في أعراض المسلمين؟ يغتاب فلاناً، فإن انتهى فبفلان، فإن انتهى يأكل لحم فلان، يجلس كل مجلسٍ يتكلم في أعراض المسلمين. عظِّم ذنبك أخي العزيز! يا من يطلق نظره في الأسواق! يا من تفوته الصلاة وهو يضحك! يا من لا يصلي في الجماعة في اليوم والليلة مرات كثيرة! أخي العزيز: عظِّم ذنبك، واعرف أن أول طريق التوبة أن تعظم الذنب. يقول أحد السلف: [لا تنظر إلى صغر المعصية، ولكن انظر إلى عظم من عصيت] يقول صلى الله عليه وسلم: (استحي من الله كما تستحي من رجلٍ صالح من قومك) والله لو طرق عليك الباب رجلٌ صالح ودخل عليك وأنت على ذنب، لتغير وجهك وارتبكت إلخ، الآن وأنت بيننا في هذا المجلس هل تتجرأ على معصية؟ مستحيل. وإذا خلوت بريبة في ظلمةٍ والنفس داعية إلى الطغيانِ فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني يراك الله يراك العليم الخبير: {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المجادلة:6] يسجله رقيبٌ وعتيد.

الحذر من المجاهرة بالمعاصي

الحذر من المجاهرة بالمعاصي أخي العزيز: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:14] ألا تعلم بأن الله يراك؟ إياك والمجاهرة، فإذا أذنبت فاستر على نفسك، والأفضل أن تكتم ولا تعترف، فإن من المجاهرة أن يعمل الرجل الذنب في الليل فيصبح وقد ستره الله عليه، فيأتي في المجلس فيقول: فعلت البارحة كذا وكذا، يجاهر بالمعصية (كل أمتي معافى إلا المجاهرين) وإن من المجاهرة: أن ترتكب المعصية أمام الناس وتفرح بها ولا تبالي، وإن من المجاهرة أن تأتي إلى صاحبك فتقول له: يا فلان! فعلت كذا وكذا، دلني على الطريق، إياك إياك أن تستغفل بهذا! فلا تخبر بمعصيتك إلا من اضطررت إليه، ولا تخبر أي أحد إلا عالماً أو ناصحاً.

سعة رحمة الله وفرحه بتوبة عبده

سعة رحمة الله وفرحه بتوبة عبده أخي العزيز! يا من أذنبت وعصيت، أتعلم أن الله يفرح بتوبتك، تقول: أنا الذي أقلب المجلات، وأنظر إلى الصور، وطالما إذا صليت التهيت بالدنيا، وطالما أفتح التلفاز للأغاني والمسلسلات، وطالما اغتبت الناس وفعلت وفعلت هل إذا رجعت إلى الله عزَّ وجلَّ يفرح؟ نقول لك: نعم. بل يحبك الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222].

الله أفرح بتوبة عبده من فرح الوالدة بولدها

الله أفرح بتوبة عبده من فرح الوالدة بولدها يقول ابن القيم: خرج أحد العارفين إلى سكة من السكك، فإذا به ينظر إلى بابٍ يدفع دفعاً فيفتح، فيرى طفلاً صغيراً يخرج من البيت وأمه خلفه تسبه وتشتمه فهرب الصبي، يقول هذا الرجل: فإذا بالصبي يبحث يمنة ويسرة عن مكان يأوي إليه فلا يجد ماذا يفعل؟ لا يدري، إذا به لا يعرف طريقاً إلا بيته، فيرجع إلى البيت ويفتح الباب فإذا الباب مقفل، فيضع رأسه على عتبة الباب على التراب وينام، وفي منتصف الليل تفتح الأم الباب -الأم التي طردته من البيت- فتنظر إلى ولدها فتبكي وتضمه وتحضنه، وتقول له: يا ولدي! لم حملتني على مخالفة ما جبلت به لك؟ لم حملتني على ضربك وحبسك وقد جبلت على رحمتك؟ يقول ابن القيم: سبحان الله! ما أحسن هذا الفعل بحديث رسول الله (الله أرحم بعباده من الوالدة بولدها) والله إن الأمر لشديد لمن يعصي الله، فيطرده الله من رحمته، ويغضب ويسخط عليه، فعندما يرجع يفرح الله به ويحبه ويبدل سيئاته حسنات.

تبديل السيئات حسنات

تبديل السيئات حسنات أتى شيخٌ كبير قد أذنب وأسرف على نفسه بالمعاصي، يمشي على عصى وقد سقط حاجباه على عينيه، فأتى إلى رسول الله فقال: (يا محمد! إن لي خطايا لو وزعت على أهل الأرض لأهلكتهم جميعاً، فهل لي من توبة؟ فيقول له صلى الله عليه وسلم: أتشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله؟ فيقول الرجل: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، فقال عليه الصلاة والسلام: تفعل الحسنات وتجتنب السيئات يبدلها الله عزَّ وجلَّ لك حسنات، فيقول الرجل: وغدراتي؟! وفجراتي؟! قال: يبدلها الله لك حسنات) {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ} [آل عمران:135].

كن من الأوابين

كن من الأوابين أخي العزيز: لا تكثر على نفسك الذنوب والمعاصي، فإن الله عزَّ وجلَّ في كل يومٍ وليلة يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، وفي النهار ليتوب مسيء الليل، فلماذا تعرض؟ ألا تعلم أن الله في كل ليلة ينزل إلى السماء الدنيا ينادي: (هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفرٍ فأغفر له؟ هل من تائبٍ فأتوب عليه؟) (الله أرحم بعباده من الوالدة بولدها) قد يشغل قلبك أمرٌ طالما أخبر به الكثير من الناس، تقول: أذنب فأتوب ثم أرجع فأذنب ماذا أفعل؟ أتى أ، اس إلى الحسن البصري فقاقوا له: يا أبا سعيد! إننا نرى في أنفسنا أننا نتوب ثم نعاود الذنب، ثم نتوب ثم نعاود الذنب، فقال الحسن رحمه الله: ود الشيطان لو ظفر منكم بهذه، ثم قال: إذا عاودتم الذنب فعاودوا التوبة، فإن الله لا يمل حتى تملوا: {فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً} [الإسراء:25] الأوابون: الذين إذا تابوا ثم عادوا وعصوا، ثم يتوبون، ثم يعودون يعصون ثم يتوبون: {فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً} [الاسراء:25]. ما أرحم الله! وما أجوده وما أكرمه! حقاً إنه رحيمٌ غفور ودود يتقرب إلى عباده، فوالله لو تقربت إليه ذراعاً لتقرب إليك باعاً، وإذا أتيته تمشي لأتاك هرولة. ما أرحم الله! دمعة واحدة، تتوضأ، فتحسن الوضوء، فتقوم فتصلي ركعتين لا تحدث بهما نفسك، ثم تتوب من ذنبك، يغفر الله لك ما تقدم من ذنبك. ما أرحم الله! لا تقل: أسرفت وأذنبت وفعلت، فإن الله أرحم منك؛ بل أرحم من الوالدة بولدها.

فائدة الجلوس مع الصالحين

فائدة الجلوس مع الصالحين أخي العزيز! لعلك تقول: أنا مذنب، وعاص، ولا أستحق أن أجلس بين الصالحين إنهم صالحون متقون أهل صلاة وصيام وذكر ودعاء وعبادة، انظر إليهم ما أخشعهم، وما أكثر صلاحهم، وما أكثر عبادتهم، أما أنا فلا أستحق أن أجلس معهم، فأنا أعصي وأذنب كثيراً، ولا زلت مصراً على الذنوب والمعاصي؟ تقول: لا. إن الشيطان يأتيك فيقول لك: اتركهم، دعهم، لا تكن منافقاً، لا تضحك على نفسك، تأتيهم في الصلاح ثم ترجع إلى بيتك بالذنوب والمعاصي، اتركهم واجلس في بيتك. أخي العزيز! انتبه أن تقرب من مصيدة إبليس، قال الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم -لم يعمل أعمالهم ولم يكن في مطافهم لكنه يحبهم ويحب جلساتهم وكلامهم ويحب أن يصل إلى ما وصلوا إليه ولكنه لم يصل- فنظر عليه الصلاة والسلام إليه، فقال: المرء مع من أحب). نقول: استمر معهم، واجلس معهم: (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) إن الندم الذي دخل في قلبك هل يدخل قلبك لو كنت لوحدك؟ لا والله. لن يدخل قلبك إلا وأنت في هذا المجلس، مع الصالحين. أخي العزيز: ما يدريك؟! لعل جلوسك معهم يكفر سيئاتك. أتى رجلٌ المدينة يبحث عن رسول الله، يقول: أين محمد؟ فدل على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا رسول الله! أتيت حائطاً، فلقيت امرأة ففعلت معها كل شيء إلا ما يأتي الرجل من امرأته -كل شيء إلا الزنا- هل من توبة؟ -والرجل خائف من الذنب، يفر من الذنب إلى الطاعة، ندم وعزم على ألا يعود- فسكت عليه الصلاة والسلام وذهب الرجل، ثم قال لأصحابه: ردوه عليَّ، فرد عليه الصلاة والسلام عليه، فقال له: قال الله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114]) لا بد من الذنب؛ لكن: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] كلما أذنبت ذنباً فاعزم على ألا تعود، أقلع عن المعصية، اندم على ما فعلت ثم أتبعها بالحسنة: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114]. يقول أحد الصحابة: (يا رسول الله! هي له أو للناس جمعياً؟! قال: بل هي للناس جميعاً) الله أكبر الله أكبر! يبسط الله يده، وينزل إلى السماء الدنيا، ويفرح بعودتك، ويحب التوابين والمتطهرين، فما بالك لا زلت مصراً على الذنوب والمعاصي؟ هل تظن أن الله لا يراك؟

وقفة مع محاسبة الله لعباده

وقفة مع محاسبة الله لعباده ألا تعلم -أخي العزيز- أن الظالمين إذا أتوا يوم القيامة لقوا الله عزَّ وجلَّ فيذكرهم بذنوبهم، يقول: عبدي! أتذكر ذنب كذا؟ أتذكر تلك الليلة؟ أتذكر ذلك اليوم؟ أتذكر عندما قمت من الفراش وعدت إلى الفراش وسمعت الأذان؟ أتذكر تلك اللحظة عندما كنت في السوق وتظن ألا أحد يراك، وأخذت تتكلم معها وتتكلم معك؟ أتذكر يوم نادتك أمك فرددت عليها؟ يوم دعاك أبوك فعققته؟ أتعرف ماذا يقولون؟ {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر:37] ينظرون إلى الكتاب! ما بال الكتاب؟ حتى النظرة ما تركها، حتى الكلمة الضحكة التفكير إذا كان هماً وعزيمةً كل هذا مكتوب: {يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49] إصرارك على النظر صارت كبيرة، أتعرف أن إصرارك على استماع الأغاني كبيرة؟ أتعرف أن الغيبة كبيرة؟ أتعرف أن إصرارك على الذنوب الصغيرة كبيرة عند الله؟ أسمعت أن الكلمة يهوي بها صاحبها في النار سبعين سنة؟ ما بالك بالكلمتين؟ ما بالك بالثلاث الكلمات؟ ما أرحم الله وما أجوده! لكن نلوم أنفسنا على تقصيرنا.

ادع إلى الله وإن كنت مذنبا

ادع إلى الله وإن كنت مذنباً وهناك شبهة أظنها قد وردت على بعضنا: كيف أدعو إلى الله، وكيف أصلح الناس ولا زلت مقصراً، ولا زلت أعاود الذنب وأصر عليه؟ إن بيني وبين الله ذنوباً ومعاصي، كيف أدعو غيري؟ أخبرك أخي العزيز: إن فعل المعصية ذنب، وترك الدعوة إلى الله ذنب آخر، فلا تجني على نفسك ذنبين، اكتفِ بذنبٍ واحد وحاول وجاهد نفسك أن تتركه، ولا تجمع على نفسك ذنبين: ولو لم يعظ في الناس من هو مذنبٌ فمن يعظ العاصين بعد محمدِ كلنا مذنب لو قال المذنبون: لا ندعوا إلى الله، فمن يدعو إلى الله؟ فجاهد نفسك على ترك الذنب والمعصية. إن أول طريقٍ لترك الذنب والمعصية: أن تبتعد عن أسبابها، لا تقل: أستغفر الله وأنت لا زلت تحمل الدخان في جيبك. لا تقل: أستغفر الله، ولا زلت تذهب إلى أماكن الزنا والخنا. لا تقل: أستغفر الله، ولا زلت تحتفظ بالصور وبالأرقام وبالأسماء والمواعيد. لا تقل: أستغفر الله، ولا زلت مصراً على الذنوب والمعاصي: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135]. اعزم على ترك الذنب والمعصية، فإن عدت إليها فاندم وأقلع عنها، واعزم على عدم العودة لها، فإن غلبتك شهوتك ورجعت إليها فاندم وليتكسر القلب، وانطرح بين يدي الله، وابكِ من خشية الله، واعزم على عدم العودة إلى الذنب وإن غلبتك شهوتك، يقول الله جل وعلا في الحديث القدسي: (أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، قال: أي رب! اغفر لي، قال الله عزَّ وجلَّ: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت له، ثم عاد فأذنب -لا إله إلا الله! قبل أسبوع تبت إلى الله وعاهدت الله، لكني عدت الآن إلى الذنب، أنا لا أدري- ثم قال: يا رب! اغفرلي، فقال الله عزَّ وجلَّ: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، -أي: يرحم ويأخذ بالذنب- قد غفرت له، ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب! اغفر لي، فقال الله عزَّ وجلَّ: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، عبدي! اعمل ما شئت قد غفرت لك) أي: لو كنت كلما أذنبت ندمت، وتكسر قلبك، وخشعت ولجأت بين يدي الله، وعزمت على ألا تعود، ثم أتبعتها بالحسنات وبالصالحات، ثم غلبتك شهوتك وعدت وكنت على هذا الحال، اعمل ما شئت فإن الله عزَّ وجلَّ قد غفر لك. أقول هذا القول، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الأسئلة

الأسئلة .

قبول التوبة ولو تكرر الذنب

قبول التوبة ولو تكرر الذنب Q إذا تاب العبد ثم أذنب، ثم تاب ثم أذنب، فهل التوبة الأولى مقبولة أم لا؟ A إذا حقق شروط التوبة ندم، وعزم على ألا يعود، وأقلع، ثم بعد فترة غلبته شهوته ورجع فإن التوبة الأولى مقبولة، وذنبك الآخر يحتاج إلى توبة أخرى، فإذا حققت الشروط قَبِل الله التوبة، ولا عليك، واعزم على ألا تعود، وكن صادقاً، لا تعزم على أن تعود وأنت تقترب من المعاصي، واعزم على ألا تعود بأن تقطع جميع الأسباب، فإن رجعت فاعلم أن الله كان بالأوابين -أي: الرجاعين- غفوراً، والله أعلم.

أهمية حضور القلب عند سماع القرآن

أهمية حضور القلب عند سماع القرآن Q نحن نسمع القرآن من بعض القراء فنخشع، ونسمع من البعض الآخر فلا نخشع، فما هو السبب؟ A أولاً يا إخواني: المصيبة ليست في قراءة القرآن، القرآن قراؤه كثير ألم تصل العشاء؟ لقد قرأ الإمام فهل تذكر ماذا قرأ؟ كم صلاة صليتها وأنت لا تعرف ماذا قرأ الإمام؟ إنه يقرأ كلام الله، سواء سُمِعَ مني أو من غيري، لكن يحتاج الكلام إلى قلبٍ يستمع قلبٍ حاضر {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق:37] القضية هي القلب {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37]. أما الواحد منا -والله- لو يسمع رسول الله يقرأ عليه القرآن والقلب غافل ما استفاد منه، وإذا استمع من طفل صغير والقلب حاضر -والله- لخشع القلب، ألم يسمع عليه الصلاة والسلام من جبريل؟ ومع هذا طلب من ابن مسعود قال: (اقرأ علي، قال: أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: اقرأ علي فإني أحب أن أسمعه من غيري، فأخذ يقرأ من سورة النساء فوصل إلى قول الله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء:41]-أي: يوم القيامة- يقول ابن مسعود: نظرت وإذا عيناه تذرفان) يبكي. ما الفرق بين قلوبنا وقلوبهم؟ يقول عليه الصلاة والسلام عن أبي بكر: (مروه فليصل بالناس، فتقول ابنته عائشة: إنه رجل أسيف لا يتحمل، إذا قرأ بكى). هل كل الناس هكذا؟ متى آخر مرة بكيت وأنت تقرأ القرآن؟ متى آخر مرة خلوت بنفسك وذكرت الله وبكيت؟ صلى عمر ذات يوم بالناس، ولما وصل إلى قوله تعالى: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف:86] فإذا به يبكي حتى سمع نشيجه من وراء الصفوف، وكان قبل سنوات يدفن ابنته حية في الرمال، أما الآن فها هو يبكي فانظر إلى القلب الحي! انظر إلى غيره! بعض السلف قرأ قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ} [الأنعام:27] فتوقف، فنظروا إليه فإذا هو قد مات، لم يتحمل هذه الآية. قام عمر بن عبد العزيز يصلي وحده في الليل -إن العبد أمام الناس قد يبكي، أما إن كان وحده، فهنا تكون العبرة، وهنا يكون الإخلاص (ورجلٌ ذكر الله خالياً ففاضت عيناه) - قام يصلي وإذا به يقرأ، سورة القارعة -كم مرة قرأناها؟ كم مرة تلوناها؟ - {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} [القارعة:1 - 5] فإذا به يبكي ويبكي حتى خرَّ على الأرض صريعاً، ثم قام من بكائه يتجول في الغرفة، وهو يقول: [ويل لي من يوم يكون الناس فيه كالفراش المبثوث] أتعرف من هو؟ لقد أمضى ليله صلاة، ونهاره صياماً وعبادة وذكراً وجهاداً في سبيل الله، وهو يبكي ويخاف على نفسه، فماذا نكون نحن أيها الإخوة؟! (مر عليه الصلاة والسلام في الليل على الناس، فإذا به يسمع امرأة تقرأ وتردد: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1] وهي تبكي، فيقول عليه الصلاة والسلام: نعم أتاني، نعم أتاني، ويبكي معها عليه الصلاة والسلام) هل كنا مثلهم أيها الإخوة؟! يقول أحدهم لصاحبه: اقرأ، فيقرأ له قوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} [الشرح:1 - 3] ينظر إليه فإذا به يبكي كما يبكي الصبي، يقول: هذا فعل برسول الله ذنبه أنقض ظهره فكيف بذنوبنا نحن؟ وأي ذنبٍ فعله رسول الله؟ إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله فيه: {الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} [الشرح:3] وزره وذنبه، فكيف نكون نحن أيها الإخوة الأعزاء؟! يعرف الواحد منا عندما يقرأ القرآن كيف يقرأ؟ {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] آية واحدة تفتح أن تفك قلبك، وترجعك إلى الله، آية لو تنزلت على الجبال الصم لتصدعت، فما بال قلبك؟ القضية أنه لا يوجد تدبر، ولا خشوع ولا تفكر، القلب منشغلٌ بالدنيا، فلا يأبه بكلام الله ولا يستفيد ولا يخشع ولا يلين، هذه القضية ليست قضية فلان يقرأ أو فلان لا يقرأ، وإن كان سبباً ضعيفاً، لكن السبب الأقوى والأعظم هو قلبك أخي العزيز: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37]. وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه أجمعين.

فراغك قبل شغلك

فراغك قبل شغلك إن الواجب على المسلم أن يستغل وقته فيما يرضي الله عز وجل، فلا يمضي عليه يوم إلا وقد قدم فيه عملاً صالحاً ينفعه في قبره، ومن أعظم الأمور التي يستغل بها المسلم وقته العبادات، وطلب العلم، والدعوة إلى الله عز وجل.

قيمة الوقت وأهميته

قيمة الوقت وأهميته الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: عنوان هذه المحاضرة: فراغك قبل شغلك وهو عنوان واضح لا يحتاج إلى بيان، وهذه المحاضرة انطلاقاً من قوله صلى الله عليه وسلم: (اغتنم خمساً قبل خمس) هذا الفراغ الذي تمر به -أيها الأخ الكريم- لعلك تستغل فيه ساعة في طاعة الله جل وعلا، وما تدري؟ لعله يقال لك بعد سماعك لهذا الحديث، أو حضورك لهذا المجلس: (قوموا مغفوراً لكم قد بدلت سيئاتكم حسنات). يروى أن أبا جعفر محمد بن جرير الطبري قال لتلاميذه: هل تنشطون لتفسير القرآن؟ قالوا: كم سيكون ورقة؟ -لأنهم يعلمون حماسه في العلم- قال: سيكون نحواً من ثلاثين ألف ورقة. فقالوا: هذا مما تفنى الأعمار قبل تمامه. سيذهب العمر ونموت وما انتهينا من هذا الدرس، فاختصره في ثلاثة آلاف ورقة، ثم بعد أن انتهى قال لهم: أتنشطون في كتابة التاريخ من عصر آدم إلى يومنا هذا؟ قالوا: في كم؟ قال: في ثلاثين ألف ورقة قالوا: هذا مما تفنى الأعمار قبل تمامه فاختصره في نحو من ثلاثة آلاف ورقة، ثم قال: إنا لله ماتت الهمم! يكتبون التفسير في ثلاثة آلاف ورقة وكذلك تاريخ العالم! ومع هذا يقول: إنا لله ماتت الهمم! كيف لو عاش أبو جعفر في هذا الزمن ماذا سيقول؟ يحضر الدرس الأول مائة، ثم الدرس الثاني تسعون، ثم ثمانون، ولا يزالون يتناقصون حتى لا يبقى إلا عشرة طلاب بين شيخهم، ويقولون: هلا عجلت في هذا الدرس؟ وهلا انتهيت منه؟ يقول الله جل وعلا: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً} [المؤمنون:115] أحسب أن الله خلقنا عبثاً؟! لأجل أن نبدأ اليوم في عمل، ثم نمسي آخر النهار أو منتصف النهار ثم ننام، ثم نستيقظ لنشرب الشاي والقهوة إلى غروب الشمس، ثم لما تغرب الشمس الصفق بالأسواق، ثم نرجع بعد العشاء لنلهو مع الأهل والأولاد، ثم ننام على تلفاز، ثم نستيقظ على عمل! أتظن أن الله خلقنا لهذا؟! تعالى الله عما يظن كثير من الناس، {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً} [المؤمنون:115] بل إنما خلقنا لغاية أعظم وأكبر من هذا، ولو أنه خلقنا من أجل أن نأكل ونشرب ونلهو ونلعب وننكح ونلد فقط، لخلقنا جنساً من الحيوانات، فهي تأكل وتشرب، وتبني البيوت وتؤسسها، وتنكح وتنجب، وتعيش كما يعيش أكثر البشر، إن هذا عبث يتنزه الله عنه {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} [المؤمنون:115 - 116]. أخي العزيز: إن الوقت هو الحياة، فحياتك وقتك، وكلما مر عليك يوم ذهب جزء من حياتك. الوقت أنفس ما عنيت بحفظه وأراه أسهل ما عليك يضيع قال بعضهم في تعريف العمر: يا ابن آدم! إنما أنت أيام، إذا ذهب يوم ذهب بعضك. وكل يوم يمر يأخذ بعضي يورث القلب حسرة ثم يمضي وقال عليه الصلاة والسلام: (اغتنم خمساً قبل خمس: حياتك قبل موتك، وفراغك قبل شغلك) أخي العزيز: أنت اليوم تشعر بفراغ، وعندك بعض الفراغ، وسوف يأتي عليك يوم: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:37] سوف يأتي يوم لك فيه شأن وشغل يغنيك عن الآخرين. قيل لـ سفيان: إنما أنت أيام معدودة، فإذا ذهب يومك ذهب بعضك، ويوشك إذا ذهب البعض أن يذهب الكل، وأنت تعلم فاعمل لهذا اليوم. هذا أبو الوفاء بن عقيل؛ عالم من علماء الحنابلة، يقول: والله لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري! ولو عاش بيننا ماذا سيقول؟ المسألة ليست مسألة ساعة ولا ساعتين، بل عشرات الساعات تضيع بين الفينة والأخرى، وبين مجلس وآخر، وبين حادثة عن فلان وحادثة عن علان، وأحاديث في الدنيا. ماذا سيقول ابن عقيل لو عاش بيننا؟ وهو الذي يقول: والله لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري. وقد ألف كتاباً اسمه الفنون، وهو يقع في ثمانمائة مجلد، لو وضعتها في بيتك لامتلأت مكتبتك، وابن القيم ألف كتاباً سماه زاد المعاد، هذا الكتاب الآن عمدة لكثير من الناس في السيرة والتاريخ والفقه يرجع إليه كثير من أهل العلم وطلبة العلم، سماه زاد المعاد وهو مكون من خمس مجلدات، يزيد أو ينقص بحسب الطبعات، لقد ألفه وهو في السفر على الراحلة!! هؤلاء كان لهم هم، وعندهم هدف من حياتهم، يعيشون لغاية، أما أكثر الناس في هذا الزمن، تسأله: لم تعيش؟ فيقول لك: لا أدري يا أخي! لماذا أنت حي؟ لماذا تأكل وتشرب وتبقي على صحتك وجسمك؟ يقول: لا أدري، أعيش من أجل أن أعيش، وآكل وأشرب من أجل أن أعيش. جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت وسأبقى سائراً إن شئت هذا أم أبيت كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟ لست أدري! ولماذا لست أدري؟ لست أدري! ما يدري لماذا يعيش؟ وأين المصير؟ ولمَ خلقه الله جل وعلا؟ شيخ الإسلام ابن تيمية، الذي ما ولدت النساء مثله، هذا الرجل ألف كتاباً بطلب من قضاة واسط، سماه العقيدة الواسطية، وهو الآن عمدة لطلبة العلم في العقيدة، ويدرس في الدورات العلمية ولطلبة الجامعات الإٍسلامية، ولا يتخرجون إلا بعد أن يتموا هذا الكتاب، ويختبرون فيه، أتعرف كم جلس يؤلف هذا الكتاب؟ لقد ألفه في جلسة بين صلاة العصر والمغرب! أرأيت إلى بركة الوقت عندهم وحرصهم على العلم؟! {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:115 - 116]. شيخ الإسلام ابن تيمية كان طالباً صغيراً، وسمع به العلماء فجاءه عالم إلى دمشق، يسأل عن هذا الطفل الصغير النابغة الذي تميز في صغره، فقال لأهل بلده: أين هذا الشباب الذي يسمى أحمد؟ قالوا: تقصد ابن تيمية قال: نعم. قالوا: ماذا تريد منه؟ قال: سمعت أن له شأناً في العلم، فأريد أن أختبره -شيخ يريد أن يختبر هذا الصبي- فقال له البائع الذي سئل: اجلس وسوف يمر إلى الكتاب من هذا الطريق. وبعد قليل مر صبي صغير بيده لوح يحمله، فقال البائع للشيخ: هذا صاحبك، هذا الذي تبحث عنه. فناداه الشيخ فلما جاءه قال له: أنت أحمد بن تيمية؟ قال: نعم. قال أعطني لوحك، فأخذ الشيخ اللوح، فكتب فيه بضعة عشر حديثاً، ثم قال: اقرأ. فقرأ بأحسن ما يكون، ثم قال: هات اللوح، فأخذ اللوح ومسحها وقال: أعد ما قرأته، فقرأها شيخ الإسلام مرتبة كما قرأها من قبل، لم ينقص حرفاً واحداً، فعجب الشيخ منه، وعلم أن له شأناً ليس كالصبيان، وعقلاً ليس كالعقول، وكأن الله عز وجل أراد أن يجدد للأمة دينها بهذا الصبي ثم أخذ اللوح مرة أخرى وكتب أسانيد: حدثنا فلان، قال: حدثنا فلان، عن فلان، إلى النبي صلى الله عليه وسلم، بضعة عشر سنداً، وقال: اقرأ، فقرأه كأحسن ما يكون، ثم مسحها وقال: أعدها عليّ. فأعادها ولم ينقص منها حرفاً أعرفت كيف كانوا يحفظون أوقاتهم؟! أخي العزيز! إذا كنت أعلم علماً يقيناً بأن جميع حياتي كساعة فلم لا أكون ضنينا بها وأجعلها في صلاح وطاعة

وسائل استغلال الوقت

وسائل استغلال الوقت بعد هذا كله لك أن تسأل وتقول: يا شيخ! عرفنا أهمية الوقت، وانتبهنا لعظم هذه الحياة، وأن كل دقيقة وكل لحظة، وكل ساعة سوف يسألنا الله عنها حين نقف بين يديه (لن تزولا قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع منها: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه) بعد هذا سوف تسألني وتقول: كيف أستغل وقتي؟ وبماذا أحفظ وقتي؟ اسمع إلى هذا الحديث، فربما تسمع نصيحة، وتكتشف أنك تستطيع أن تمضي بها وقتك، وربما تتحمس بعد هذا الدرس وتنظم وقتك وتستغله في طاعة الله جل وعلا. إن الطلاب في هذه الأيام في اختبارات ولا يضيعون ساعة بل لا يضيعون دقيقة واحدة، وأعرف أن بعض الطلاب لا ينام إلا أربع ساعات فقط، وبعضهم حتى على وجبة الطعام وهو واضع الكتاب عنده؛ لأنه يعرف قيمة الوقت الآن، لماذا؟ لأن عنده هدفأً، وهدفه أن ينجح ويتفوق ويحصل على أعلى الدرجات، ويتخرج من الدراسة. والبعض إذا كان عنده هدف، مثل أن يشتري بيتاً أو يؤثثه، يعمل الليل والنهار حتى يجمع الريال بعد الريال والدرهم والدينار، من أجل أن يبني هذا البيت؛ لأن عنده هدفاً إذاً: اجعل لك هدفاً يا عبد الله! فسوف تستطيع بعدها أن تستغل وقتك. دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثوان كلما دق قلبك علمت أن كل دقة تقربك إلى القبر، وكل دقة تنقص من عمرك، حتى هذه اللحظات سوف يسألك الله عز وجل عنها.

العبادات

العبادات من الأمور التي تستغل بها وقتك: العبادات. أن تعبد الله جل وعلا: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح:7 - 8]. السلف كان الواحد منهم يقضي الليل في القيام والنهار في الصيام، فهذا عثمان بن عفان رضي الله عنه الخليفة الراشد، الذي اشترى الجنة ثلاث مرات يروى أنه كان يختم القرآن كل ليلة قد تقول لي: خالف السنة. أقول لك: أين نحن من السنة؟ تسأل بعضهم: من رمضان إلى اليوم كم مرة ختمت القرآن؟ يقول: ولا مرة، إنا لله وإنا إليه راجعون! متى قمت الليل؟ يقول: من الشهر الماضي أو من الشهر الذي قبله، قمت الليل مرة، وقبل النوم أما الأولون: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات:17] كان نومهم قليلاً، أتعرف ماذا يفعلون في الليل؟ {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18] عبادة وصلاة، كان ابن عمر يصلي في الليل وعنده نافع مولاه، فإذا سلم من صلاته يسأل مولاه: أسحرنا؟ أي: أجاء السحر؟ فيقول: لا. فيكبر ويصلي، ثم يسأله، فإذا قال له نعم. جلس يستغفر الله حتى طلوع الفجر. وكان بعضهم إذا صلى العشاء وضع له حصير في المسجد ينام عليه بعد صلاة العشاء، ثم يقوم يتوضأ ويصلي، فإذا صلى وغلبته عيناه أخذ غفوة مرة أخرى -ينام كنومة الطير- ثم يقوم ويتوضأ ويصلي، فإذا نعس نام مرة ثالثة، وهكذا يقوم وينام، ويقوم وينام حتى طلوع الفجر {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [لسجدة:16]. وكان عمر بن عبد العزيز كل ليلة يجتمع حوله أهل العلم أمير المؤمنين! يحكم الدنيا بأجمعها، دولة الإسلام تحكم المشرق والمغرب، تحته الجيوش ويملك الأموال، وكل ليلة يجتمع عنده العلماء والفقهاء والوعاظ والزهاد، فيذكرونه بالآخرة، فيبكي ويبكون معه كأن جنازة بين أيديهم. عباد ليل إذا جن الظلام بهم كم عابد دمعه بالخد أجراه وأسد غاب إذا نادى الجهاد بهم هبوا إلى الموت يستجدون رؤياه يا رب فابعث لنا من مثلهم نفراً يشيدون لنا مجداً أضعناه أين أنت من العبادات؟ كم ضيعنا من ليالي؟ إن بعض الناس يقول: يا شيخ! أحس بوحشة، أحس بضيق، أحس بظلام في قلبي، أقول له: هل تصلي في الليل؟ هل تقوم ركعات ينور الله لك قلبك، ويشفي لك صدرك؟ قم الليل يا أخي العزيز! {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل:1 - 5]. يدخل بلال على النبي صلى الله عليه وسلم فيرى اجتهاده في قيام الليل وتفطر قدميه، فيقول: (يا رسول الله! تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر! فيقول: أفلا أكون عبداً شكوراً؟ قد أنزلت عليّ الليلة آيات ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران:190 - 191]) إن كان قائماً فهو يذكر الله، وإن كان قاعداً فهو يذكر الله، وإن كان على جنبه فهو يذكر الله، لسانه رطب من ذكر الله، ويتفكرون في خلق السموات والأرض، فاللسان منشغل بالذكر، والقلب والعقل منشغلان بالفكر، يتفكران في خلق السموات والأرض: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:191]. بكى من أجلها صلى الله عليه وسلم، وكان عنده عائشة سيدة النساء رضي الله عنها، فقالت: (تفعل هذا وقد غفر الله ذنبك؟ فيقول: يا عائشة! دعيني أتعبد لربي، يا عائشة! أفلا أكون عبداً شكوراً) يربيها عليه الصلاة والسلام، حتى كانت يوماً من الأيام تردد آية من الصباح إلى منتصف النهار، آية واحدة ترددها عائشة وتبكي وتصلي: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:27]. هل فكرت أن تشغل وقتك بطاعة الله؟ بالعبادة وفي الذكر وقراءة القرآن؟ إن العبادة أوسع من هذا، فهل فكرت في عيادة المرضى؟ هل فكرت في اتباع الجنائز؟ هل فكرت في زيارة المقابر؟ هل فكرت في صلة الأرحام؟ هل فكرت في بر الوالدين. كان النبي عليه الصلاة والسلام ذات يوم بين أصحابه، وفيهم رجل كبير قد جاوز الستين من العمر، وقد اشتغل رأسه شيباً، إنه الصديق، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (من أصبح منكم اليوم صائماً؟ -وأنا أسأل هذا السؤال وأجبني بنفسك: من أصبح اليوم منكم صائماً؟ - قال أبو بكر: أنا يا رسول الله! -ليس مجال إخلاص ورياء، الآن لا بد أن يجيب، متى صمت لله تطوعاً؟ متى يا أخي الكريم؟ - من أطعم اليوم منكم مسكيناً؟ فقال أبو بكر: أنا يا رسول الله! فقال: من عاد منكم اليوم مريضاً؟ قال أبو بكر: أنا يا رسول الله! ثم قال: من اتبع اليوم منكم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا يا رسول الله! فقال صلى الله عليه وسلم: والذي نفس محمد بيده ما اجتمعن في مؤمن إلا وجبت له الجنة) ولو زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم لزاد أبو بكر. إنه أبو بكر الذي عندما سمع أن للجنة ثمانية أبواب، ما رضي أن يدعى من باب أو بابين، ما رضي إلا أن يدعى من ثمانية أبواب، فقال: (يا رسول الله! ما على من يدعى من تلك الأبواب من ضرورة؟ قال: نعم يا أبا بكر! وإني لأرجو الله أن تكون منهم) هل فكرت أن تكون مثل أبي بكر؟ متى عدت المرضى؟ ليسوا بأقرباء لك ولا أرحاماً، مسلمون لا تعرفهم ولا يعرفونك، تأتي وتزورهم في أول اليوم أو في آخره، هل فكرت في هذا؟ فإنه يستغفر لك سبعون ألف ملك حتى تمسي، وإذا زرت مريضاً في المساء يستغفر لك سبعون ألف ملك حتى تصبح. أخي العزيز: هل فكرت أن تزور المقابر؟ هل فكرت أن تتبع الجنائز؟ وأن تصل الأرحام؟ يقول عمر: صليت الفجر فإذا بـ أبي بكر يخرج من المسجد، وكل يوم أصلي وإذا به يخرج من المسجد، ولا أدري إلى أين يذهب هذا الرجل -وكانا يتنافسان، وهذا في خلافة أبي بكر - يقول: فتبعته يوماً -انظر إلى الذين يعرفون كيف يحفظون أعمارهم- قال: تبعته فرأيته يدخل كوخاً في ناحية المدينة، -بيت قديم- فلما خرج، جئت إلى هذا البيت وطرقت الباب، واستأذنت ودخلت، فإذا في البيت امرأة عجوز كبيرة حسيرة كسيرة، لا تستطيع المشي، فسلمت عليها، وقلت لها: يرحمك الله! من هذا الرجل الذي يدخل عليك كل يوم؟ -خليفة رسول الله، أمير المؤمنين- قالت المرأة العجوز: والله لا أعرفه. قال عمر: ما يصنع عندك كل يوم؟ قالت: يأتيني كل يوم يصنع طعامنا، ويكنس بيتنا، ويغسل ثيابنا، ويحلب شياهنا، ثم يتركنا. فلما سمع عمر هذه الكلمات، بكى وخر على ركبتيه وهو يبكي ويقول: لقد أتعبت الخلفاء من بعدك يا أبا بكر، لقد أتعبت الخلفاء من بعدك يا أبا بكر. {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة:10 - 11]. هل سمعنا أن أبا بكر أسس قصراً؟ أو أثث أثاثاً فخماً وثرياً؟ أو جمع ثروة؟ لا والله. إن أبا بكر أول هذه الأمة دخولاً الجنة، وينادى من ثمانية أبواب، أتعرف لماذا؟ لأن أبا بكر عرف كيف يحفظ وقته من الصباح إلى المساء، لا ينسى امرأة عجوزاً ولا طفلاً صغيراً ولا يتيماً ولا مسكيناً، لقد عرف كيف يعود المرضى، وكيف يصوم لله تطوعاً، وكيف يتصدق من ماله، وكيف يقوم الليل، حتى قالت عائشة لما أمرها النبي عليه الصلاة والسلام وقال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس. قالت: إن أبا بكر رجل أسيف) أي: إذا كبر واستفتح الفاتحة بكى، نعم. إنه رجل في الليل قوَّام، وفي النهار صوَّام، وفي الجهاد قاتل المرتدين لوحده، وهو يقول للصحابة: [والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه] ولعله جاوز الستين من العمر، وما بقي من حياته إلا سنة أو سنتين. هكذا عرفوا كيف يحفظون أوقاتهم. تقول لي بعد هذا: يا شيخ! عندي أوقات كثيرة فارغة لا أعرف ماذا أعمل فيها!! أقول لك: يا أخي العزيز! لم تعرف حقيقة العبادة، فليست العبادة صلوات فقط، وليست قيام ليل فقط، العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، ولو كانت زيارة مقابر، أو عيادة مرضى، أو إطعام مسكين، أو كفالة يتيم، أو دعوة إلى الله جل وعلا، فكل شيء يحبه الله جل وعلا فهو عبادة، فحاول أن تكتشف أين الخلل في حياتك فتسده في طاعة الله.

طلب العلم وفضله

طلب العلم وفضله ثانياً: استغل وقتك وعمرك في طلب العلم. يروى عن أحد السلف: أنه ذكر الله وهو ابن ثلاث سنين، وأنا لم أستغرب هذا؛ لأنني أعلم أنه في هذا العصر صغار سن، عمرهم سنتان، يحفظون بعض قصار السور، وسمعنا في هذا العصر من ختم القرآن وعمره سبع سنين، أرأيت كيف حفظوا أعمارهم في طلب العلم؟ تقول لي: لماذا يحفظ القرآن هذا؟ هذا يحفظ القرآن حتى ينادى بين الملأ يوم القيامة فيقال له: يا فلان، أتحفظ شيئاً من القرآن؟ فيقول: نعم يا رب! فيقال له يوم القيامة: (اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها) يقرأ القرآن بين الملأ، ويرتل بين الناس، ويرفعه الله درجات في الجنة. أخي العزيز: هنالك يندم النادمون المفرطون: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر:56] يا حسرتى على ما ضيعت من عمري في الأسبوع الماضي جلست مع شباب صغار في السن، أحثهم على حفظ القرآن الكريم، وأخبرتهم بفضل الاجتهاد في حفظ القرآن الكريم وفضله، فما مرت خمسة أيام إلا وأحدهم حفظ جزءاً كاملاً من القرآن، الجزء الأول من سورة البقرة ختمه حفظاً مجوداً في خمسة أيام! بل أعرف رجلاً عنده أولاد، وعنده أعمال، ومتزوج في نصف عمره، حفظ خمسة أجزاء في شهر واحد! قد تقول لي: ذاكرتي ضعيفة، لا يا أخي العزيز! ليست القضية قضية الذاكرة، القضية ضياع للأوقات، وضياع للأعمار صغار في السن حفظوا القرآن كاملاً! وأعرف أحدهم لم يدخل الثانوية إلا بعد أن ختم القرآن حفظاً، وكلما آتيه وأقول له: ماذا حفظت بعد القرآن؟ يقول: مائة من الأحاديث النبوية وهكذا {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]. أتظن أن صاحب العلم والجاهل يوم القيامة سواء؟ كلا وربي! لا يستوي هذا مع هذا، يقول عليه الصلاة والسلام: (فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم) كفضل الرسول عليه الصلاة والسلام على أدنى الصحابة، فكيف لو جمع بين الأمرين العلم والعبادة؟ فإن العلم يراد به العبادة، وقد قيل للإمام أحمد: إن فلاناً علمه قليل، جُل وقته قيام ليل وقراءة قرآن وذكر. فقال: وهل يراد العلم إلا من أجل هذا، نحن لماذا نتعلم؟ حتى نخاف من الله، فإن العلم الخشية: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] وكلما ارتقيت في العلم كلما خشيت الله جل وعلا. أعرف شاباً -ولعلك لا تصدق هذه الأخبار- حفظ جزءاً كاملاً في يوم واحد قد تقول: ليست هذه ذاكرة بشر؟ أقول لك: هذه ذاكرة بشر، ولكن القلب مفرغ من الدنيا، والوقت مفرغ لله جل وعلا كان في الحرم عند الكعبة، فجلس من الفجر إلى الليل حتى حفظ جزءاً كاملاً من القرآن الكريم بإتقان. أخي العزيز: هلا عاهدت ربك في هذه العطلة، وفي هذه الشهور والأيام أن تحفظ نصف القرآن، قد تقول: حفظ عشرة أجزاء صعب ومستحيل أقول لك: اقسمها على هذه العطلة، فاحفظ خمسة أجزاء في سنة كاملة، فستختم القرآن خلال ست سنوات، هل فكرت في هذا؟ هل عاهدت ربك؟ يقال: أن امرأة جاوزت الستين من عمرها -وكلما كبر عمر الإنسان قل حفظه- أُخبرت عن فضل حفظ القرآن فحفظته عن ظهر قلب!! ويقول عليه الصلاة والسلام: (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضىً بما يصنع). قال الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19] أول الدين العلم، قال البخاري: باب: العلم قبل القول والعمل. والنصارى لم يضلوا إلا لجهلهم، فقد عبدوا الله على جهل وبدع وضلال، قال الله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد:27]. يا أخي العزيز! هل فكرت في هذه العطلة الصيفية أن تقرأ رياض الصالحين وتحفظ أحاديثه وتقرأ معناه وشرحه؟ هل فكرت أن تقرأ تفسيراً واحداً لكتاب الله جل وعلا؟ هل فكرت في العطلة الصيفية أن تقرأ كتاباً ولو كان مختصراً؟ هل تصدقون أن بعض المسلمين لو سألته: ما أقصر سورة في القرآن؟ لقال: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1] تقول له: أحسنت، فما تفسيرها؟ لقال: الله أعلم. ما سبب نزولها؟ لا أدري، لا أدري، لكنك لو سألته عن بعض أنواع السيارات، وعن موديلاتها، وعن أحجامها، لجاءك بتقرير كامل، ولملأ عليك المجلس، ولو سألته عن بعض علوم الدنيا التي لا تنفع لجاءك بالتقارير والأخبار، والله المستعان! وبعض المسلمين لو أخطأ في الصلاة لما عرف كيف يتم صلاته، يأتيني بعض الناس ويقول: فعلت كذا وكذا في الصلاة، ثم سجدت للسهو. فأقول: إنا الله وإنا إليه راجعون، يا فلان أعد صلاتك فالصلاة باطلة، وليس كل خطأ ينفع فيه سجود السهو، وليس كل خطأ يحتاج معه إلى سجود السهو. وبعض الناس يقول: أخطأت في الصلاة، فقطعتها وأعدتها مرة ثانية. لم يا أخي؟ لمَ تبطل عملك؟ كان يكفيك لو سجدت سجدتين قبل السلام أو بعدها، لكنه لا يدري ماذا يفعل. كثير من المسلمين حتى الطهارة يسأل عنها، يأتيني سؤال من رجل من المسلمين متزوج وله أولاد، يقول: يا شيخ، هل صحيح أن الرجل إذا جامع زوجته ولم ينزل الماء عليه غسل؟ أقول له: نعم. يقول: والله يا شيخ أنا منذ عشرين سنة أجامع الزوجة وإذا ما أنزلت لا أغتسل. إنا لله وإنا إليه راجعون! أنت على جنابة إلى اليوم، ما تعرف الغسل! ما تعرف أحكام الطهارة! ما سبب هذا الجهل؟ إنه ضياع الأوقات، فقد ضاعت في القيل والقال، وضاعت في الدينار والدرهم، وفي أسعار العملات، وفي أخبار فلان وأخبار علان، وضاعت في نوم زائد عن الحاجة، وفي التجول في الأسواق، وفي أخبار الدنيا. اسمع -يا أخي العزيز- إلى العلم كيف يرفع أهله، وجاهد نفسك لا تقل: كبرت في السن، بعض العلماء بدأ في طلب العلم بعد أربعين سنة، وصار عالماً من العلماء، فلا تقل: فاتني القطار، ولا تقل: ليس عندي وقت، ولا تقل: لا أصلح للعلم، إياك وشبهات الشيطان وحبائله! يقول الأعمش -وهو أحد العلماء- لولا العلم والقرآن وتفسيره، لكنت بقالاً يقذرني الناس أن يشتروا مني. لكن ماذا صار؟ صار الناس يجلسون عند رجليه، ويطلبون كلمة تخرج من لسانه لكي يكتبوها عنه. وهذا عطاء بن أبي رباح، كان عبداً لامرأة من أهل مكة، يباع ويشترى، وكان قبيح الوجه كأن أنفه باقلاً، وهو فقير مملوك، لكنه لما طلب العلم صار المرجع الأول في مكة للفتوى، حتى الملوك والأمراء إذا جاءوا إلى مكة في الحج يستفتونه، وكان بعض الأمراء يجلس عنده، وما يتجرأ أن يسأله سؤالاً حتى يأذن له، فإذا تنحنح علموا أنه الآن يسمح بالسؤال، فيسأله الأمير ويقول: فعلت كذا وكذا ما حكم حجي؟ أو ماذا أصنع؟ فيجيبه ذلك الرجل الذي كان مملوكاً، فصار يرجع إليه في الفتوى في مكة كلها إنه العلم! وهذا أبو معاوية الضرير، أحد العلماء الذين ذهبت أبصارهم، ولم تذهب بصيرتهم، في يوم من الأيام دعاه هارون الرشيد للغداء وبعد أن دعاه للغداء -ومن المعلوم أن الأعمى بعد أن يأكل يصب على يديه الماء، لأنه لا يستطيع أن يغسل يديه، فصب على يديه الماء في مجلس الخليفة هارون الرشيد - فقال له هارون: يا أبا معاوية أتعرف من الذي يصب عليك الماء؟ قال: لا يا أمير المؤمنين! قال الخليفة: أنا الذي أصب على يديك الماء، قال: لِمَ؟ قال: إجلالاً للعلم الذي في صدرك. كيف رفعه الله جل وعلا إلى هذه المكانة؟ إنه بالعلم {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]. يقول عليه الصلاة والسلام: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً -خرج من بيته إلى هذا المسجد من أجل أن يستمع علماً أو يستفيد حديثاً أو حدثين- سهل الله له به طريقاً إلى الجنة) يا إخواننا ماذا تريدون بعد الجنة؟ أتريدون شيئاً بعد الجنة؟ والله ما نريد شيئاً غيرها، قال صلى الله عليه وسلم للأعرابي: (ماذا تسأل في صلاتك؟ قال: أسأل الله الجنة وأستعيذ به من النار، قال عليه الصلاة والسلام: حولها ندندن) هذا هو ما يطلبه، ولا نريد شيئاً غير الجنة. إن من أسهل الطرق إلى الجنة طلب العلم، فاطلب العلم، ابدأ بقراءة الكتب، اقرأ القرآن واحفظ بعض الآيات مع تفسيرها، واقرأ الأحاديث مع شرحها، واقرأ بعض الكتب في الفقه، وبعض الكتيبات الصغيرة، واحضر بعض المجالس، وهناك بعض الدورات الشرعية التي تقام فبادر، ولا تقل: أنا كبير في السن، أنا عندي أعمال وأشغال، لا يا أخي وبعض الناس لو طلب منه أن يذهب إلى الخارج للدعوة إلى الله، لقال: عندي الأولاد وعندي الزوجة، لكن لو يدعى إلى دورة لأجل معاشه لذهب ولو لمدة شهرين أو ثلاثة. يا أخي العزيز! هذا ليس فيه زيادة معاش، هذا فيه زيادة إيمان وتقوى وعلم وبصيرة في الدين، وطاعة لله جل وعلا، وقربى إليه تبارك وتعالى، جند نفسك لمدة شهر أو شهرين في دورة علمية ينفعك الله بها. خرج هارون الرشيد في يوم من الأيام فتجمع الشرط والأعوان والخدم والحشم والناس حوله، وكان عنده في حائط أو غرفة أو هودج زوجته، وبعد قليل تفرق الناس عنه، تقطعت النعال، وثارت الغبرة، إلى أين؟ إلى رجل آخر، فسألت الزوجة من هذا الذي ذهب الناس وراءه؟ قالوا: هذا عالم خراسان المجاهد عبد الله بن المبارك، المجاهد قدم الرقة. فقالت زوجة هارون هذا والله هو الملك، لا ملك هارون الذي لا يجمع الناس إلا بالشرط والأعوان هذا هو الملك الحقيقي، والشرف الحقيقي وهذه هي الرفعة الحقيقية يا أخي الكريم. فأنت إنما تقاس بعلمك، وإذا قيل: فلان جاهل ما عنده علم، فهذه مسبة وشتيمة، ويرتفع الإنسان بالعلم الذي شرفه الله عز وجل به. إن العلم لا يريد راحة ونوم وأكل وشرب، العلم يريد جهاداً، وصراعاً، العلم يريد منك أن تسهر في الليل، فهذا الإمام البخاري عليه رحمة الله أمير المؤمنين في الحديث -مَن مِن المسلمين ما سمع بـ البخاري؟ إذا ذكر قلنا: رحمه الله، وجزاه الله عن الإسلام والمسلمين كل خير- كان ينام في الليل، ثم يستيقظ عشرين مرة، ينام ويستيقظ عشرين مرة، أتعرف لماذا؟ كل مرة يستيقظ ليكتب خاطرة خطرت على باله، فائدة علمية وكان عندما يقوم يبدأ فيشعل السراج، والسراج يحتاج إلى زمن حتى يشعله، ثم يضع القلم في المحبرة، ثم يكتب الجملة والجملتين والثلاث، ثم يغلقها ويطفئ السراج، ثم يرجع وينام، وبعد قليل تأتيه خاطرة فيقوم، وربما قام في الليلة الواحدة عشرين مرة إذاً: العلم يحتاج إلى جهاد، ويحتاج إلى أن تضيق على نفسك في النوم أأبيت سهران الدجى وتبيته نوماً وتبغي بعد ذاك لحاقي كان هناك سبعة من طلاب العلم في مصر! وكانوا يطلبون العلم من شيخ إلى آخر، ومن عالم إلى آخر، ومن درس إلى آخر، وفي يوم من الأيام اشتهوا سمكة -أرادوا أن يأكلوا السمك، طبيعة الناس يشتهون هذا الطعام- لكن ليس عندهم وقت، وفي يوم من الأيام غاب أحد الشيوخ عن الدرس، لأنه كان مريضاً، فقالوا: هذه فرصتنا نشتري سمكاً فنأكله، فذهبوا واشتروا سمكة نيئة، ثم رجعوا إلى البيت، وقد حضر الدرس الثاني فتركوا السمكة وذهبوا إلى الدرس، وجاء الليل فقاموا ينسخون، كل واحد يطابق نسخته مع أخيه ويقرءون النسخ كلها فيكتبون ما فاتهم، وفي اليوم الثاني خافوا على السمكة أن تنتن وتفسد عليهم، فماذا فعلوا؟ هل فرطوا في درس، أو في مجلس ذكر؟ هل قالوا: نجعل لأنفسنا راحة وإجازة؟ لا. بل أكلوا السمكة نيئة، نعم. لأنه ليس عندهم وقت ليشوونها، ونحن لقد ضيع

الدعوة إلى الله تعالى

الدعوة إلى الله تعالى ثالثاً: الدعوة إلى الله:- أرعني سمعك، وأعد اجتهادك مرة أخرى لقد قمتَ الليل، وعدتَ مريضاً، وتبعتَ جنازة، وحضرت درساً أو درسين، ولكن لا زال في الوقت متسع؛ فإن الأوقات كثيرة، ومن أعظم ما تشغل به وقتك: الدعوة إلى الله جل وعلا أن تبلغ هذا العلم الذي حصلت عليه، وأن يكون منهج حياتك: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]. قد تقول: يا شيخ ليس عندي علم كثير؟ أقول لك: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (بلغوا عني ولو آية) تحفظ آية: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] إذاً: بلغها للناس، فكم من الناس من لا يصلي تحفظ قول الله: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33] إذاً: بلغها، فإن كثيراً من النساء لا يتحجبن تحفظ قول الله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:278] بلغها للناس، فكم من الناس من يرابي ويتعاطى بالربا! أخي العزيز: اسمع إلى هذا الرجل: لما سمع أن في أقصى مدينته -في ناحية المدينة- رسل جاءوا يدعون إلى دين الله جل وعلا ويدعون الناس إلى الحق، وكذبهم قومهم، فهل جلس في بيته؟ هل قال: أنا ما عليّ من الناس؟ هل قال: عليكم أنفسكم؟ هل قال: أهم شيء أحفظ ديني وما عليّ من الناس؟ لا. بل ركض مسرعاً من بيته إلى مكان الكفر بالأنبياء والضلال والإلحاد والجحود، ركض سعياً على قدمه، من أقصى المدينة إلى أقصاها، قال الله تعالى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس:20 - 21] جاء يقول: يا قوم! توبوا إلى الله جل وعلا، ارجعوا إليه، أنيبوا إليه، فماذا فعلوا به؟ لقد قتلوه بغير ذنب، لأنه دعاهم إلى الله جل وعلا، فلما بعثه الله جل وعلا وأدخله الجنة قال: {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ} [يس:26] لا زال حريصاً على قومه، لا زال مشفقاً عليهم بعد أن قتلوه: {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس:26 - 27]. أيها الإخوة: نحن نحتاج إلى دعاة لا قضاة، نحتاج أناساً مشفقين على الناس، رحماء بهم، ينشرون دين الله جل وعلا كما كان ينشره عليه الصلاة والسلام الذي قال الله عنه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] فبلغ دين الله جل وعلا في الطائف، وسافر مشياً على الأقدام حتى أتى إليها، فقال له أحدهم: أما وجد الله غيرك ليبعثك؟! انظروا إلى السخرية، والاستهزاء والتكذيب! وقال الثاني: لو كنت صادقاً فلا أجرؤ على مخاطبتك، وإن كنت كاذباً فأنا أرفع من أن أتكلم وأجيبك. فخرج وهو يُتبع بالحجارة، وهو أفضل الخلق عليه الصلاة والسلام، ويضرب ويهان من العبيد والسفهاء والأطفال، فجاءه ملك الجبال وقال: (دعني أطبق عليهم الأخشبين؟ قال: لا. إني أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً) {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33]. إن الدعوة إلى الله لا تريد شيوخاً فقط أو علماء أو دكاترة، لكنها تحتاج إلى صادقين ناطقين، يخرج عشرة ريالات يشتري بها شريطين أو ثلاثة، ويأتي الشارع ويسلم على فلان، ويتعرف عليه، ويهدي إليه هدية لله جل وعلا، ويقول: يا فلان أرجو أن تستمع إلى هذا الشريط هذه الليلة، فربما فتح الله قلبه. كان هناك بنت لاهية غافلة، ما من أغنية إلا وتستمع إليها، فرجعت إلى بيتها بعد يوم دراسي مسعد، تقول وهي تحدث عن نفسها: اقتربت من البيت، فوقعت قدمي على شريط لا أدري ما هو، فأخذته وكانت تقول في نفسها: ربما يكون الشريط لأحد المطربين الذين سمعتهم أو لم أسمع بهم، تقول: فجئت إلى البيت ووضعت الشريط في المسجل، فإذا رجل يتحدث عن الجنة والنار، والقبر والموت، والدار الآخرة، فسمعت حديثه حتى انتهى، وما انتهى الشريط إلا وفتح الله قلبي وصلح حالي، واهتديت إلى الله، وأنا اليوم أدعو إلى الله جل وعلا من رمى هذا الشريط؟ وهل كان يقصد أن يدعوا إلى الله به؟ أرأيت؟! {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17]. وكم من الناس هداهم الله بورقة، أو بشريط، أبو برسالة، أو بدمعة، فهذا شاب داعية إلى الله جل وعلا، شاب صغير هداه الله، ركب في سيارة أخيه الفاسق يوماً من الأيام، وأخوه لاهٍ غافل عن الدين والدار الآخرة، وفي الطريق وضع أخوه شريطاً للغناء، فقال الشاب الصغير: يا أخي أغلق الشريط، إذا لم ترد أن تسمع فاسمع لوحدك، أنا لا أريد أن أسمع. فقال بغلظة: إذا ما أردت أن تسمع أنزلك من السيارة الآن، فسكت الصبي، لقد أرغمه على سماع الأغاني، وبعد قليل نظر الأخ الكبير إلى أخيه الصغير فإذا هو يبكي، فقال: ما الذي يبكيك؟ قال: أرغمتني على معصية الله جل وعلا. فأوقف الأخ الكبير السيارة، وأخرج الشريط ورماه من النافذة، ثم أعلن توبته من تلك الدمعة، فرب دمعة تاب على يديها كثير من الناس. أين الصادقون؟ وأين الناصحون؟ وأين الدعاة إلى الله جل وعلا؟! والله تعالى يقول: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة:71] وحديثي للرجال والنساء فهل فكرنا أن ننشئ مجتمعات إسلامية، ومجالس إسلامية، وحلقات ذكر في بعض البيوت؟ هل فكرنا في شارعنا وفي حينا وفي حارتنا؟ هناك رجل لا يصلي، هل فكرنا أن نجعل له زيارة، ونطرق عليه الباب وندعوه إلى الله جل وعلا؟! هل فكرنا أن نأتي محلاً تباع فيه بعض المحرمات، نأتي إلى صاحبه بأسلوب حسن، وبأخلاق كريمة، ونعطيه هدية، وننصحه في الله جل وعلا؟ هل فكرنا في هذا؟ أحد الناس فكر أن يدعو إلى الله جل وعلا، لكن ليس عنده أموال ولا أسلوب، فقال لإخوانه: من منكم عنده مجلات إسلامية قديمة؟ هو لا يريد أن يقرأها، فجمع من فلان وفلان، حتى جمع كراتين من المجلات الإسلامية، فقالوا: يا فلان! ما تريد أن تفعل بها؟ أتعرف ماذا فعل؟ ذهب إلى محلات الحلاقة والمطاعم والصالونات وغيرها، التي فيها مجالس انتظار، وعلى الطاولة مجلات خليعة فاسقة فاجرة، فأخذ هذه المجلات الإسلامية ووزعها على تلك الطاولات ومحلات الانتظار، يقول: ربما يجلس بعض الناس فيتصفحون هذه المجلات، فرب نصيحة تفتح قلوبهم، تأمرهم بمعروف أو تنهاهم عن منكر. وشاب آخر قال لإخوانه في الله: من منكم عنده أشرطة يتبرع بها لا يريد أن يستمع إليها الآن؟ فأعطاه بعضهم ثلاثة وبعضهم أربعة حتى جمع مجموعة من الأشرطة، ثم جاء إلى بعض الباصات وبعض سيارات النقل والأجرة، فقال: هذه بعض الأشرطة الإسلامية، في حلة طيبة هدية لله جل وعلا، وقال: ربما يركب معكم رجال أو أناس أو بعض من تريدون أن توصلوهم، فربما يفتح الله عز وجل قلوبهم. أرأيت إلى الإخلاص ماذا يفعل؟! {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} [فصلت:33]. هم في القلب يؤثر على الجوارح فيجعلك تطرق الأبواب، وتتصل، وترسل رسائل، وتشتري أشرطة توزعها، وكتيبات تنشرها، وتقوم في المساجد تذكرهم بالله جل وعلا، وتأتي إلى المجالس والنوادي، وتنصح الناس لله تعالى، فإن البداية هم في القلب يظهر على اللسان وعلى الجوارح. أيها الأخ الكريم! أيها الأخ العزيز! أيتها الأخت الفاضلة! إن أوقاتنا محسوبة علينا. دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثوان وفي الختام: اعلم أنك عندما تعمل لدين الله جل وعلا وتدعو الناس وتصلح المجتمع، أن الغرب واليهود والنصارى، يعملون ليل نهار، فهم أنشط منا وأحرص منا على إضلال المسلمين وعلى غواية المسلمين، والأمر صراع فمن يسبق؟ {وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} [هود:121] هل قال الله: إنا نائمون، إنا منتظرون، إنا جالسون لا. قال {اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ} [هود:121]. إذا عملتم فنحن نعمل، فإذا عملتم الليل والنهار فنحن كذلك نعمل الليل والنهار، نعمل لنشر دين الله جل وعلا {وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ} [هود:122]. أسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعني وإياكم بما ذكرت إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قضايا تهم المرأة

قضايا تهم المرأة هذا حديث خاص بالمرأة، يتناول بعض النصائح والإرشادات التي تحتاجها المرأة في حياتها. فالإسلام الذي كرم المرأة يريد منها أن تدرك الغاية من خلقها، وأن تلتزم بشريعة ربها، وهنا نماذج وقصص لنساء صالحات، تحتاج المرأة أن تطلع على سيرهن وأخبارهن لتقتفي آثارهن. وهذه المادة تحتوي أيضاً على قصص نساء ضللن وابتعدن عن طريق الله تعالى.

المرأة بين الجاهلية والإسلام

المرأة بين الجاهلية والإسلام الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وخاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: أيتها الأخت الفاضلة، أيتها الأخت الكريمة، عنوان المحاضرة كما سمعتن: قضايا تهم المرأة. وحديثي إلى المرأة خاصة؛ كيف لا وقد خصص الله جلَّ وعلا سورة كاملة باسم النساء، وجعل لمريم سورة باسمها، كيف لا أخصص حديثاً للمرأة وقد خصص الله جل وعلا لها أحكاماً وأموراً تختص بها عن الرجال كيف لا أخص المرأة بحديث وقد خصها النبي عليه الصلاة والسلام في يوم العيد بخطبة كاملة، فبعد أن حدث الناس جميعاً رجالاً ونساءً جاء إلى النساء وخصص لهن خطبة كيف لا وقد خصص النبي صلى الله عليه وسلم للنساء في بيت أم عطية مجلساً يأتي إليهن ويحدثهن ويعلمهن، وهكذا كنَّ الصحابيات سباقات إلى مثل هذه المجالس وهذه الأحاديث. اسمعي أختي الكريمة، ولا تقطعي الحديث، وانتظري حتى أتم حديثي، فهي ساعة تمضي من العمر سوف ترينها في صحيفتك إن شاء الله يوم القيامة. أختي الكريمة: كيف كنت قبل الإسلام؟ وكيف كانت المرأة قبل الإسلام؟ كانت لا تساوي المتاع والأثاث الذي يرمى بعد أن يبلى كانت المرأة منذ أن تخلق على وجه الأرض شؤماً على والديها، كما قال الله تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [النحل:58 - 59]. كان الرجل إذا ولدت زوجته بنتاً يتهرب من الناس، يخاف من العار، ويخاف من الفضيحة كانوا يتشاءمون بالنساء، يضربونها، يهينونها، بل كانت المرأة إذا مات زوجها، أو مات أبوها، أو مات أخوها، فإنها لا ترث شيئاً مما تركوا، بل كانت تُورث مثل المتاع ومثل الدراهم. كان الأب يأخذ ابنته الصغيرة ما أجملها، وما أحسنا! ويطلب من زوجته أن تزينها وتلبسها أحسن الملابس، وأن ترجلها وتغسلها وتطيبها. ثم يأخذها ويداعبها ويلاعبها، ثم يذهب بها إلى صحراء قاحلة، لا أحد يراه ولا أحد يعلم به إلا الله جلَّ وعلا، فيحفر حفرة، وتحفر البنت معه وتساعد أباها وترق له، كيف يحفر في ذلك الحر الشديد، فتساعد أباها في الحفر وهي تضحك وتلعب معه وتمازحه، وتظن أن أباها سوف يلعب معها. وبعد أن يكملوا الحفرة، يأتي إلى تلك البنت البريئة، فينزلها في تلك الحفرة المظلمة الموحشة، فتنزل وهي تضحك وتلعب وتداعب أباها، وبعد أن تنزل تقول لأبيها: يا أبي لماذا لا تخرجني الآن؟ يا أبي لماذا لا تعيديني إلى البيت الآن؟ وبعدها ترى أباها يرمي على وجهها التراب، فتضحك أولاً، ثم تمزح ثانياً، ثم تعلم أن الأمر جد، وأن الأمر على عكس ما كانت تتصور، فتنادي أباها، وتستغيث به وتستنجده، تصيح تبكي تولول، ولكن بعد قليل ذهب صوتها، وهدأت روحها، وخرجت نفسها {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:8 - 9] بأي ذنب قتلت؟ ألأنها بنت؟! بأي ذنب عذبت؟ ألأنها بنت؟! بأي ذنب صارت كالأثاث والمتاع؟ ألأنها بنت ولأنها أنثى؟! فلما جاء الإسلام ساوى الله جل وعلا بين الرجل والمرأة، وعدل بينهما، وجعل للرجل أحكاماً خاصة، وللمرأة أحكاماً خاصة، بل جعل لها حقاً حتى في الميراث، فلها حقوق وعليها واجبات الإسلام أكرم المرأة، بل جعل بعض النساء خير من كثير من الرجال، قال الله جلَّ وعلا عن مريم: {يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران:42 - 43].

الغاية من الخلق

الغاية من الخلق أختي الفاضلة: أوجه إليك هذا الحديث؛ لأنك أنت الأم، وأنت الأخت، وأنت الزوجة، وأنت البنت، ولا نجاة للرجل دون المرأة، ولا يستطيع الرجل أن يتخلص من المرأة فأوجه إليك هذا الحديث: أول قضية مهمة يجب أن تنتبهي لها وتستمعي لها هو السؤال الأول، وهي القضية الأولى، سلي نفسك هذا السؤال ثم أجيبي بنفسك على نفسك: لماذا خلقنا الله جل وعلا؟ لماذا أنزلنا الله على هذه الأرض؟ لم خلق لنا الأرض والسماء؟ لم سخر لنا الشمس والقمر؟ لم خلق الوحش والطير والنبات والزروع لنا؟ لمَ جعل لنا العينين، واللسان، والشفتين، واليدين، والرجلين؟ لم كل هذا؟ ولم كرمنا الله عز وجل بالعقل؟ أتعرفين لم؟ {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115] أتحسبين وتظنين -يا أختي الكريمة- أن الله جل وعلا خلقنا وأوجدنا وسخر لنا كل هذا عبثاً؟ لا والله، ليس الأمر عبثاً، وليس الأمر هزلاً، إن القضية محسومة: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]. ثم لك أن تجيبي على هذا Q هل عرفت هذه الغاية مَنْ جَعَلتِ الغاية مِن حياتها أن تكون نجمة، وأن تصير بطلة، وأن تصبح ممثلة صورها في الجرائد؟! هل فهمت هذه الغاية مَنْ جَعَلت حياتها تلك الأغنية، تنام عليها، وتسهر عليها، وتعيش عليها تحفظ كلماتها، وترددها صباح مساء؟! هل عرفت هذه الغاية مَنْ كان قدوتها وعشيقها ذلك الفاسق المغني، تحلم أن تكون زوجة له، وتحلم أن تنام معه، وتسافر معه، وتعيش معه، وترقص معه هل عرفت هذه غاية خلقتها؟! {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس:60 - 61]. هل علمت حقاً أن الله جل وعلا خلقها لعبادته مَنْ جعلت صورتها الفاتنة شبه العارية على غلاف مجلة من أجل أن تروج هذه المجلة؟ أو داخل الصفحات لأجل أن تروج هذه الجريدة وتلك المجلة على حساب عرضها وكرامتها وعفتها وحيائها؟! هل عرفت الغاية مِن خلقها تلك التي كانت نهايتها فضيحة في دعارة، أو سجن؛ لأنها تتعاطى مخدرات، أو انتحرت من أعلى عمارة أو شاهق؛ لأنها ملت من هذه الحياة وتعبت، وأصابها الضيق والضنك؟! أتعرفين لم؟ لأنها ابتعدت عن الغاية التي خلقها الله جل وعلا.

نساء جهلن الغاية من خلقهن

نساء جهلن الغاية من خلقهن اسمعي إلى هذه القصص، لتعلمي أن من النساء من تعيش في هذه الدنيا ولا تدري لم تعيش، ولا تدري لم خلقها الله جل وعلا، وصباحها مساؤها لأجل الدنيا، ولأجل الشهوة، والملذات، فوالله ما عرفت لم خلقها الله جل وعلا! امرأة كان لها ولدان صغيران، ما أجملهما! الأول عمره سنة ونصف والآخر عمره ثلاث سنوات، كالقمر ليلة البدر، فتعرفت على عشيق لها، وبدأت تكلمه ويكلمها، وتصاحبه ويصاحبها، ولكن في يوم من الأيام طلب العشيق منها أن يرتبط بها بشرط واحد، قالت: وما هو هذا الشرط؟ قال: أن تتخلصي من ولديك. قالت: إنهما ولداي. قال: تتخلصي منهما وإلا تنفصل العلاقة. فما كان من تلك المرأة إلا أن ذهبت إلى ضفاف نهر، وكان الولدان يلعبان معها، ويداعبان الأم، وألبستهما أحلى الملابس، فكانا كالقمر ليلة البدر أركبتهما السيارة، ونزلت منها ولم تطفئها وجعلت السيارة تنزل شيئاً فشيئاً إلى قاع ذلك النهر، والولدان يبكيان ويصيحان من وراء زجاج السيارة، ويناديان أمهما، ولكن ما هي إلا لحظات ودقائق حتى كانا في قاع البحر قد غرقا لتتمتع بعشيقها {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:124] أي حياة هذه؟! وأي عيشة تلك؟! فلانة من النساء معها مقابلة على الهواء مباشرة في التلفاز: ماذا تتمنين؟ قالت: أتمنى أن أصبح مثل هذه الممثلة، أو تلك المطربة. امرأة أخرى في الجريدة تعمل معها مقابلة، وهي لم تتجاوز السادسة عشرة من العمر: ما هوايتك؟ قالت: الغناء والطرب. ماذا تتمنين؟ قالت: أتمنى أن أصبح مثل النجمة الفلانية، أو الراقصة الفلانية. من علمك هذا؟ قالت: التلفاز، والمجلات، والجرائد. وأخرى يقبض عليها في قضية تعاطي المخدرات، أو في دعارة، أو في غيرها، بعد أن فضحت، وعمل معها التحقيق: من أين تعرفت على هذا؟ قالت: في البداية كان شريط غناء، أو كان فيلماً غنائياً، أو مسلسلاً خلاعياً، أو كان في البداية أن تعرفت على فلانة، والآن وصلت إلى ما وصلت إليه.

فتاة تعيش في مستنقع الجاهلية المعاصرة

فتاة تعيش في مستنقع الجاهلية المعاصرة يقول شيخ من الشيوخ -واسمعي إلى هذه القصة العجيبة-: دعيت إلى فتاة لأقرأ عليها القرآن -كان يقرأ على الناس، والله جل وعلا يقول: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً} [الإسراء:82]- فقلت: أين المكان قالوا: في المستشفى الفلاني، يقول: في مستشفى خاص من أفخم المستشفيات، يقول: فذهبت إلى هذا المستشفى، وكان قد حجز جناحاً كاملاً لهذه الشابة يقول: ولم أدخل عليها إلا بعد أن تجاوزت أشخاصاً كثر يسألونني: من تريد؟ وماذا تريد؟ حتى وصلت إلى هذه الفتاة بعد حواجز، وبعد حرس، وبعد خدم، وبعد حشم وعلمت أن هذه الفتاة ليست كغيرها من الفتيات، إنها من علية القوم. فدخلت عليها في غرفة كبيرة، والخدم عن يمينها وشمالها، وقد جلس عندها بعض أقربائها وهي منطرحة على الفراش، فسلمت، ثم سألتهم: ما خبرها؟ قالوا: لا ندري، ذهبنا بها إلى كل المستشفيات ولكن لا فائدة! لا ندري ما قصتها، ولا نعلم ما خبرها. فقال لهم الشيخ: أريد أن أتحدث معها هل يمكن هذا؟ قالوا: تحدث معها، ثم طلب منهم أن يحجبوها، فحجبوها. قال: فجلست وأخذت أسألها: يا فلانة تسمعيني؟ قالت: نعم، قال: أسألك أسئلة فأجيبيني بصراحة، قالت: تفضل. قال: هل تصلين؟ قالت: بصراحة والله لا أصلي. قال لها: هل تقرئين القرآن؟ قالت: منذ زمن بعيد ما قرأت القرآن. قال: هل تتعاطين المخدرات، وتشربين المسكرات؟ قالت: نعم أحياناً. قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، إنا لله وإنا إليه راجعون! يقول: الشابة صغيرة، لعلها لم تتجاوز العشرين من العمر، وتعمل هذه الأعمال! فقالت الفتاة لما رأت الشيخ تعجب: يا شيخ لم تعجبت؟ لو أخبرتك عن حياتي وعن معيشتي لما تعجبت مني، اسمع يا شيخ كيف أعيش. اسمعي يا أختي الكريمة! يا من غرتك زهرة الحياة الدنيا! اسمعي إلى هذه الغنية الثرية كيف تعيش في هذه الدنيا. تقول الفتاة: يا شيخ! أنا في كل يوم أنام في أول النهار ولا أستيقظ إلا بعد غروب الشمس أو في آخر النهار، أقضي النهار كله نوماً، وبعد أن أستيقظ من نومي وأنا في غرفتي، أرفع سماعة الهاتف، فيأتيني ما أطلبه من طعام وشراب الخدم حولي، كل ما أشتهيه يأتيني إلى غرفتي، فإذا جاء الليل حضر أصدقائي، تقول: كل ليلة يجتمعون عندي، على الغناء، والطعام والشراب، واللهو والطرب، وفي بعض الأحيان نطلب من نشاء من المطربين أن يأتينا في أي لحظة نريدها أي مطرب وأي مغني، بسماعة الهاتف يأتينا إلى غرفتي؛ فيحيي ليلتنا بالغناء والطرب والرقص. تقول: فنمضي هكذا، وبعض الأحيان يحيي ليالينا أناس ليسوا بإناث ولا ذكور، بين هذا وهذا، فنقضي أغلب الليل هكذا، فإذا اقتربت ساعة الفجر، ذهب كل منا إلى بيته، وبقيت لوحدي، أتقلب على الفراش، أنتظر النوم، وما أن يطلع الصبح وترتفع الشمس حتى أخلد إلى نوم عميق. تقول: فلا أصحو إلا بعد أن يعلو النهار، ويقترب من نهايته، وتقترب الشمس من الغروب، لأمضي ليلة أخرى في لهو، وطرب، وغناء، وفجور، ورقص، وسكر، وعربدة. تقول: هذه حياتي، وتلك أيامي، وهذه ليالي هل علمت يا شيخ كيف نعيش وكيف نحيا؟! قال الشيخ: صدق الله {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:124 - 126].

صفحات مشرقة للمرأة المؤمنة

صفحات مشرقة للمرأة المؤمنة لننظر إلى الوجه الآخر والصفحة الأخرى: إنهن نساء وفتيات عرفن لم خلقهن الله جل وعلا. اسمعي لـ عائشة بنت الصديق رضي الله عنها وعن أبيها: يدخل عليها ابن أختها ليسلم عليها، فينظر إليها وهي تصلي وتقرأ آية وتبكي، يقول: فتركتها ثم جئتها في منتصف النهار، وهي تقرأ الآية نفسها وتبكي من هي؟ إنها عائشة، إنها أم المؤمنين التي بشرت بالجنة، تبكي وهي تقرأ: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:27].

ماشطة بنت فرعون

ماشطة بنت فرعون ألم تسمعي عن ماشطة بنت فرعون التي نظرت إلى أولادها يحرقون واحداً تلو الآخر، وهي صابرة على دينها، ثابتة على عقيدتها، وقبل أن تحرق طلبت من فرعون طلباً، قالت: أطلب منك إذا أحرقتني أن تجمع عظامي وعظام أولادي في كفن وتدفننا جميعاً. ولما أحرقت هي وأولادها الصغار بعثها الله جل وعلا في السماء، وصار لها ولأولادها رائحة طيبة، شمها النبي صلى الله عليه وسلم في المعراج {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]. نعم. إن عائشة بكت، وإن ماشطة بنت فرعون أحرق أولادها أمام عينيها، لكن هل تظنين أنهن قد تعذبن في هذه الحياة؟! لا والله، إنهن يعشن أسعد حياة، إنهن خرجن من الدنيا وقد وجدن أسعد وأحلى ما فيها؛ إنها طاعة الله، وذكره سبحانه تعالى.

زوجة فرعون

زوجة فرعون زوجة فرعون التي أظهرت إيمانها بالله وكفرها بزوجها بفرعون الذي قتل الأولاد في أرحام أمهاتهم، الذي قتل الرجال واستحيا النساء، فرعون الذي كان يقول: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24] خرجت زوجته من قصره تقول: ربي في السماء، كفرت بك وبما تعبد من دون الله زوجته الصابرة المؤمنة التقية العابدة فربطها فرعون في صحراء قاحلة، وأجاعها، وعذبها، وضربها، وقال لجنوده: ارفعوا صخرة من أعلى مكان، وارموها عليها لتقتلوها بها، ثم قال لها: هل ترجعين عن دينك؟ قالت: والله لا أرجع عن ديني طرفة عين. فربطها، وحملوا صخرة كبيرة ورموها عليها، فقالت: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11] فلما دعت بهذا الدعاء، والصخرة لما تنزل عليها، قبض الله روحها قبل أن تصل الصخرة إلى جسدها إنها لحظات، لكنه صدق الدعاء، وصدق الإيمان بالله جل وعلا.

مريم بنت عمران

مريم بنت عمران قال الله تعالى: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم:12] مريم يدخل عليها رجل وهي في المحراب تصلي وتركع وتسجد، ما مسها بشر، وما اطلع عليها في الحرام رجل دخل عليها رجل إلى المحراب: {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً} [مريم:18]. أسألك بالله سؤالاً: ماذا نقول عن نسائنا في هذا الزمن؟ تدخل على البائع فتكلمه وتضاحكه، وهي تريد أن يخفض الأسعار، ويتصل عليها رجل في البيت فتضحك معه الساعات الطويلة، وتلين معه في الحديث تذهب إلى العمل فتكلم فلاناً وتجالس فلاناً، وتضاحك فلاناً، وتتكشف عند فلان تشم رائحتها من مسافة طويلة، ويسمع قرع نعليها من مسافات أطول أين هي من مريم عليها السلام التي لما رأت رجلاً ماذا قالت؟ هل سلمت عليه؟ هل صافحته؟ هل ضحكت معه؟ هل استبشرت به في خلوتها؟ {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً} [مريم:18] فلما أخبرها أنه ليس برجل وأنه ملك مرسل من الله جل وعلا، ماذا قالت؟ {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً} [مريم:20] الله أكبر! تخاف على سمعتها، وتخاف على عرضها، وتخاف على كرامتها وعلى شرفها أين نحن من مريم البتول عليها السلام؟ ولما جاءها المخاض {قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا} [مريم:23] مع أن الولد نبي من الأنبياء، والذي نفخ فيه الروح هو أفضل ملك من الملائكة، وبأمر الله جل وعلا، ولكنها {قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً} [مريم:23] أرأيتِ العفاف؟ أرأيت الطهارة؟ أرأيتِ الكرامة التي أكرمها الله عز وجل بها؟

نصائح هامة في الحجاب والعفة

نصائح هامة في الحجاب والعفة أختي الفاضلة: إياكِ أن تكوني سلعة رخيصة إن الصراع في هذا الزمن صراع يستخدم فيه الغرب واليهود والنصارى سلاح المرأة المسكينة الضعيفة، ويشهرون هذا السلاح في وجوه الرجال. انظري نظرة واحدة إلى كل المجلات الساقطة الهابطة ماذا يوضع في غلافها؟ امرأة فاتنة متكشفة متبرجة لم؟ هل لكرامتها ولسمعتها؟! لا والله، إنهم يريدون أن يروجوا لهذه المجلة، ويريدون أن يفتنوا الرجال، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما تركت فتنة هي أضر على الرجال من النساء). أختي الكريمة: الله الله ألا نؤتى من قبلك! الله الله ألا يهزم الإسلام والمسلمون عن طريقك يا أختي الكريمة! يقول المستشرق النصراني: إن كأساً وغانية يفعلان في المسلمين ما لا تفعله مائة دبابة ومائة صاروخ. امرأة مغنية راقصة فاتنة تفعل في الرجال ما لا تفعله الصواريخ والدبابات. أختي الكريمة: الله الله في الحجاب! الله الله في العفة والحياء! وإياك أن تكشفي شيئاً يسيراً من الجسد لغير المحارم ولغير الزوج، فإن والله جل وعلا يقول: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور:31] الله جل وعلا حرم عليك صوت الكعب أو الخلخال أن يسمعه الرجال، فإذا كنت تمشين وقد وضعت في رجليك شيئاً من الزينة فلا تضربي بالرجل بقوة، حتى لا يسمع صوته الرجال. هذا صوت الخلخال، فكيف بأن تكشف المرأة وجهها، أو ساعديها، أو شيئاً من ساقيها، أو شعرها؟! أي فتنة أعظم من هذه؟! إن الرجال إذا فتنوا بالنساء فأول شيء يفتنون به هو وجهها، بل إن الرجل إذا خطب المرأة فإنه لا يسأل عن ذراعها ولا عن ساقها ولا عن شعرها، إنما يسأل عنه وجهها، ولهذا حرم الله جل وعلا أن تغطي المرأة وجهها في الإحرام في الطواف، ومع هذا تقول عائشة رضي الله عنها: [كنا إذا مر بنا الأجانب من الرجال أسدلت إحدانا جلبابها على وجهها] مع أن تغطية وجه المرأة في الإحرام لا يجوز، لكن عائشة تقول: [إذا مر بنا الرجال الأجانب أسدلت إحدانا جلبابها على وجهها] تقول الفقيهة العالمة: [فإذا جاوزونا كشفناه]. يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59]. قال المفسرون: تغطي رأسها إلى صدرها، فإن الجلباب من الرأس إلى الصدر ويغطي ما بينهما. وقال بعضهم: إلا ما ظهر منها عين واحدة أو عينان لتبصر الطريق. أرأيت يا أختي الكريمة كيف حافظ الله عز وجل على حيائك، وعلى شرفك وعفتك؟ بل لقد حرم الله جل وعلا على المرأة حتى الصوت إن كان فيه فتنة ولين، فانتبهي يا أمة الله.

قصة من الواقع

قصة من الواقع هذه القصة لتعلمي أن كثيراً من الرجال في هذا الزمن على صورة رجل لكنه في الحقيقة ذئب، إنه يضحك عليك بتلك الكلمات المعسولة، ويغدر بك بتلك الكلمات الرنانة، ويضحك عليك بتلك الرسالة، وبهذه المكالمة، وبهذه المواعدة، وتلك الهدية الزائفة، وقلبه أخبث من قلوب الذئاب.

الخطوة الأولى في طريق الشيطان

الخطوة الأولى في طريق الشيطان أختي الفاضلة: اسمعي إلى هذه القصة الحقيقية، التي لا أنسجها من الخيال، بل قرأتها لشابة تقصها هي بنفسها عن نفسها، تقول: ما كنت أعرف عن الحرام، ولا أعرف عن الفساد شيئاً، خرجت من مدرستي يوماً -وهي كانت في الثانوية- تقول: خرجت من مدرستي يوماً لأسمع رجلاً يناديني باسمي، فالتفت وظننته أحد أقربائي أو محارمي، وإذا هو رجل لا أعرفه ويناديني باسمي تقول: فأسرعت في المشي، وخفت منه، ولم أجبه، ولم أكلمه، وهربت إلى البيت وأنا خائفة وجلة، من هذا الذي يناديني باسمي؟ وطوال الليل وأنا أفكر: ماذا يريد مني؟ ما قصته؟ كيف عرف اسمي؟ ماذا يطلب مني؟ تقول: وفي اليوم الثاني جاءني نفس الشاب يناديني باسمي مرة ثانية عند باب المدرسة، فهربت منه مرة ثانية، وكل يوم يلاحقني عند أبواب المدرسة، ومرت الأيام وأنا أفكر، ماذا يريد هذا الشاب؟ تقول: وفي يوم من الأيام رن جرس الهاتف، فرفعت السماعة وإذا صوت الشاب نفسه وهو يقول: فلانة لا تغلقي الهاتف، أريد أن أكلمك كلمات، فأغلقت الهاتف في وجهه، وفي اليوم الثاني اتصل بي، فاستمعت إليه وهو يقول: اسمعيني ولا تجيبيني، فقط اسمعيني لحظة من الزمن، تقول: استمعت إليه خطوة خطوة، إنها خطوات الشيطان، شياطين الجن والإنس قد اجتمعوا على المسكينة. تقول: استمعت إليه يقول: يا فلانة والله لا أريد الحرام، ولا أريد الفاحشة، ولو أردتها لعرفت طريقها، لا أريد إلا أمراً واحداً، أريد الزواج منك. قالت له البريئة المسكينة: إذا أردت الزواج فأت إلى أهلي ووالدي وكلمه؟ قال: يا فلانة أريد أن أتعرف عليك أولاً، وبعدها سوف أتقدم إلى أهلك، وأنا من أسرة ثرية، لا ولد لهم إلا أنا، ولا يملكون غيري، وأريد أن أعيش معك حياة سعيدة، زوجين سعيدين، نعيش حياة طيبة، ونشتري بيتاً، وننجب الأولاد أخذها إلى دنياً تحلم بها كل فتاة تقول: ثم جاءني مرة ثانية إلى المدرسة، فأخذت أكلمه عند الباب، ويوماً بعد يوم، حتى بدأت أركب معه في السيارة، وأتجول معه، ويشتري لي بعض الأمور، وأتناول معه بعض الوجبات، ومرت الأيام والليالي والأسرة في غفلة عنها، تقول: وأنا متأكدة أنه سوف يتزوجني يوماً من الأيام، أعرف أنه صادق، ولن يخدعني أبداً.

الوقوع في البركة النتنة

الوقوع في البركة النتنة تقول: وفي يوم أدخلني معه في شقة له، وكنت ألعب معه وأداعبه وأضاحكه وأسامره، تقول: وكأنني في سكرة وفي غفلة وفي نومة، فلم أستيقظ إلا وقد ذهبت عفتي، وهتك عرضي، فصحت، وبكيت، وصرخت، وقلت له: ويحك، ما الذي فعلت؟ قال: لا تخافي إنما أنت زوجة لي، قالت: كيف أكون زوجتك، ولم تعقد علي، ولم يعلم أهلي تقول: فهربت إلى بيتي خائفة أركض في الطريق، حتى دخلت البيت، ولم أنم تلك الليلة كلها، وعندما ذهبت إلى المدرسة انتظرته عند أسوار المدرسة لعله يأتي ويواعدني على الزواج، فلم يأتِ، ومرت الأيام، وكلما رن جرس الهاتف أرفعه لعله يكون هو، لعله يواعدني على الزواج، لعله يأتي إلى أهلي يخطبني منهم. وفي يوم من الأيام رأيته عند باب المدرسة، ففرحت واستبشرت، وركضت إلى سيارته، وركبت معه وأنا سعيدة، الآن سوف يواعدني على الزواج، الآن سوف يخبرني متى يأتي إلى أهلي تقول: وركبت معه نتجول معاً، وإذا أسلوبه قد تغير وتبدل، فقال لي: يا فلانة أما قضية الزواج فلا تفكري فيها أبداً!! فصفعته على وجهه من غير شعور، وبكيت، وانهرت، وتكلمت عليه بكل كلمة سوء، ثم هربت من السيارة، وركضت، فأخذ يناديني ويناديني، فقلت في نفسي: ربما رجع عن رأيه، ربما فكر في الأمر، فرجعت إليه، وقلت: ماذا تريد؟ قال: انظري إلى هذا، نظرت، فإذا هو فيلم للفيديو، قلت: ما هذا؟ قال: صورت فيه كل تلك الليلة. قالت: أيها الخسيس! أيها الحقير! ماذا تريد بهذا؟ قال: أن تستجيبي لكل طلب وإلا أرسلته إلى والديك. تقول: انهرت بين يديه كالفريسة بين يدي الذئب فكان يأخذني كل يوم أينما شاء متى شاء ويفعل بي ما شاء، لقد وقعت في وحل الدعارة، يرسلني إلى أصحابه، ويأتي بأصحابه إليَّ، فدخلت في نفق لا أدري ما آخره. وذات يوم وقع الفيلم في يد أحد أقاربي، فنظر إليه وإذا هو يرى صورتي في ذلك الفيلم، فأخذه وأرسله إلى والدي ليرى والدي ابنته بين الرجال، فلم يتمالك والدي نفسه حتى خر على الأرض، وحمل إلى المستشفى، وما هي إلا أيام معدودة حتى فارق الحياة لقد مات أبي حسرة وندامة، ثم هربت من البيت، لقد فضحت عائلتي، ومات أبي، وضاع مستقبلي، وتشردت لا أدري إلى أين أذهب. تقول: ثم ذهبت إلى الرجل الذي كان سبباً في ضياع حياتي ومستقبلي ومستقبل عائلتي، فدخلت عليه وقد سكر من شرب الخمر، فأخذت خنجراً فطعنته في ظهره عدت طعنات حتى قتلته بها، وهأنا اليوم أنتظر مصيري ومصير كل فتاة تفعل مثل هذا.

خلاصة الكلام

خلاصة الكلام إن المعاكس ذئب يغري الفتاة بحيله يقول هيا تعالي إلى الحياة الجميله قالت: أخاف العار والـ إغراق في درب الرذيله والأهل والإخوان والـ جيران بل كل القبيله هذا في البداية… قال الخبيث بمكره لا تقلقي يا كحيله إنا إذا ما التقينا أمامنا ألف حيله متى يجيء خطيب في ذي الحياة المليله لكل بنت صديق وللخليل خليله يذيقها الكأس حلوا ً ليسعدا كل ليله للسوق والهاتف والـ ملهى حكايات جميله إنما التشديد والتعقيد أغلال ثقيله ألا ترين فلانة ألا ترين الزميله وإن أردت سبيلاً فالعرس خير وسيله كذاب، كذاب، كغيره من الكذابين في هذا الزمان. وانقادت الشاة للذئب على نفس ذليله فيا لفحش أتته ويا فعال وبيله حتى إذا الوغد أروى من الفتاة غليله قال اللئيم وداعاً ففي البنات بديله قالت ألما وقعنا أين الوعود الطويله قال الخبيث وقد كشر عن مكر وحيله كيف الوثوق بغر وكيف أرضى سبيله من خانت العرض يوماً عهودها مستحيله بكت عذاباً وقهراً على المخازي الوبيله عار ونار وخزي كذا حياة ذليله من طاوع الذئب يوماً أورده الموت غيله

بعض مجالات الخير التي يمكن أن ترتادها النساء

بعض مجالات الخير التي يمكن أن ترتادها النساء أختي الكريمة: إنها قصة من قصصٍ كثيرة يعيشها مجتمعنا وكثير من المجتمعات، من فتاة ضُحك عليها، وغُرر بها، وانقادت المسكينة مع الذئاب، حتى كانت نهايتها مأساة، إما في سجن، أو انتحار، أو فضيحة وعار، أو ضاعت بين الجدران، لا تدري من يخلصها من ذلك السجن. أختي الكريمة: عليك بالعبادة والذكر وقراءة القرآن، ارجعي إلى الله جل وعلا هل فكرت يوماً من الأيام أن تختمي القرآن حفظاً، أو تختميه قراءة وتدبراً؟ إياك يا أختي الكريمة عن كل ما يلهيك عن الذكر والطاعة والقرآن والصلاة، الله عز وجل عندما اصطفى مريم عليها السلام قال لها: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران:43]. إن بعض النساء في هذه الأزمان من الصباح إلى المساء همهمن المسلسلات والأفلام، والموضات، والأزياء، والتجول في الأسواق، والغناء، والطرب، هذا همهما وتلك حياتها، والله جل وعلا يقول: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح:7 - 8]. أختي الكريمة: هل فكرت يوماً من الأيام أن تكوني طالبة للعلم؟ وأن تحفظي القرآن؟ وأن تحفظي أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم؟ وأن تقرئي من الفقه ومن التوحيد ومن التفسير شيئاً؟ هل فكرت في طلب العلم؟ إنها حياة جديدة أخرى بين الكتب في طلب العلم، والله جل وعلا يقول: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]. إن عائشة رضي الله عنها كانت تُضرب إليها أكباد الإبل؛ لأجل أن تسأل في دين الله عز وجل، كانت صغيرة في العمر لكنها كبيرة في القلب والعقل، كانت فقيهة، عالمة، عابدة، كان يسألها الرجال ويتفقه عندها المتفقهون لقد ضربت رضي الله عنها أروع الأمثلة في طلبها للعلم، فكم من حديث نقرؤه ونقول: عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا …، وقد وردت أحاديث كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف هذا؟ لأنها كانت طالبة للعلم، حافظة للأحاديث، وكانت في نفس الوقت داعية إلى الله، فهل فكرت في حياة الدعوة إلى الله؟ الله جل وعلا يقول: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة:71] اتركي هذه الحياة؛ حياة الغفلة واللهو والطرب، لتبدئي حياة الجد والالتزام، حياة الجد بطلب العلم والعبادة والدعوة إلى الله عز وجل. أختي الفاضلة: إن من أنجح الدعوات في هذا الزمن دعوة النساء في صفوف النساء، وإنني أعلم بعض المجتمعات الإسلامية كنَّ النساء المحجبات فيهن قليلات، أما اليوم فإن الحجاب في أوساط النساء -بفضل الله جل وعلا- حجاب صحيح شرعي، فقد غطت المرأة كل جسدها، ونجد أن مصليات النساء تشتكي من الضيق ومن الزحام، بل طلبات تقدم إلى وزارات الأوقاف وإدارات المساجد لتوسعة مصليات النساء، وهناك مراكز للدعوة إلى الله خاصة بالنساء، وهناك حلقات تحفيظ للقرآن للنساء، وهناك مجالس علم للنساء، وهناك طالبات علم من النساء. أختي الكريمة: هل فكرت في حياة الدعوة إلى الله؟ قوليها صريحة صادقة: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108] وأول من تدعين إلى الله تعالى هم أولادك وبناتك وزوجك وأهل بيتك فيا أمة الله! هل بدأنا بالإصلاح؟ الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق هل سمعت بولد عمره سبع سنوات في هذا الزمن وفي هذا العصر حفظ القرآن كاملا؟! من حفظه؟! من علمه؟! هل سمعت بولد صغير صبي عمره ست سنوات حفظ القرآن كاملاً في هذا العصر وفي هذا الزمن؟ من أمه؟! إن أمه داعية إلى الله عز وجل، وأنا أعرف داعية إلى الله ابنها عمره سنتان وقد حفظته بعض قصار السور! عمره سنتان ووالله الذي لا إله غيره أنه يحفظ بعض قصار السور! هل حفظته الأم الأغاني؟ هل أجلسته أمام التلفاز؟ هل ضيعت وقته بالطرب؟ لا والله، لقد علمته الأدب والأخلاق الإسلامية، وحفظته كتاب الله جل وعلا وأعرف بعض الرجال ما عرف الصلاة إلا عن طريق زوجته، وما اهتدى إلى دين الله جل وعلا إلا عن طريق زوجته فكوني داعية إلى الله. أيتها النساء: أكثرن من الصدقة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (معاشر النساء! تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار. فقالت امرأة: لم ذاك يا رسول الله؟ قال: لأنكن تكثرن اللعن، وتكفرن العشير) أي الزوج فأكثري من الصدقة؛ فإن (الصدقة تطفئ غضب الرب كما يطفئ الماء النار) وأخرجي ولو من القليل الذي تملكين.

أهمية تعجيل الزواج والإنجاب

أهمية تعجيل الزواج والإنجاب أختي الفاضلة: إياك إياك أن تؤخري الزواج! يا من تستمعين إلي في هذا الحديث! إياك إياك أن تؤخري الزواج بحجة الدراسة، أو الوظيفة، أو إكمال الدراسة العليا! تقول: أريد أن أحصل على شهادة جامعية، أو على الماجستير، أو على الدكتوراه، ثم ماذا بعد هذا يا أختي الفاضلة؟! كم من الطبيبات اللواتي فاتهن قطار الزواج من تتمنى أن تسمع من يناديها ويقول لها: يا أمي، أو من تناديها فتقول لها: يا أماه تقول بعض الطبيبات: خذوا شهادتي، خذوا كل مراكزي وأعطوني بنتاً أو ولداً يقول لي: يا أماه. فإن هذا الصوت أغلى عندي من كل الشهادات. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) بعض النساء -هداهن الله- إذا جاءها زوج فإنها تعجزه بالمهور، وتقول: أريد مائة ألف، أو ستين ألفاً، أو سبعين ألفاً، لم كل هذا التعجيز؟! والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أكثرهن بركة أقلهن مهراً)! أي أنه كلما تزوجت المرأة بمهر قليل، كلما كانت بركتها أكثر من غيرها، وكلما ارتفعت المهور كلما قلت البركة. فيا أمة الله: عليك بتسهيل الشروط، وعليك بالقبول بالصالحين، وعليك بالاستعجال بالزواج؛ فإنه آمن لك وآمن لبناتك أنا أعلم أن بعض الآباء هو السبب، وأن بعض الآباء هو المجرم في منع ابنته من الزواج بالصالحين، فكلما جاءه صالح رده، فهذا يرده لأجل فقره، وهذا يرده لأجل وظيفته، والثالث يرده لأجل فصله وأصله، والرابع يرده لأجل كذا وكذا، حتى أجلس البنت في بيتها مسكينة سجينة الجدران لا تعرف ما مصيرها بدأ الشيب يدب في رأسها، ابتعد عنها الخاطبون، وقلَّ الطارقون لبابها، وانصرف الناس عنها، ودبَّ فيها الوهن، وكبرت سنها، ونظرت إلى أبيها ولسان حالها يقول كما قالت تلك الفتاة وهي تخاطب أباها الذي كان سبباً في عنوستها وبقائها في بيتها وأنا أرجو أن نسمع هذا الشعر -إن كان قد سجل- أرجو أن نسمعه أولئك الآباء، الذين أجرموا في حقوق بناتهم. يقال: إن امرأة بعد أن ضاع عليها عمرها، وشاب شعرها، وبلغ بها الكبر عتياً، واشتعل رأسها شيباً، أصابها المرض، ثم انطرحت على الفراش، فجاء أبوها عند رأسها، فقالت البنت لأبيها الذي كان السبب في حرمانها من الزواج، قالت: يا أبي قل آمين. قال: آمين. قالت: قل آمين. قال: آمين. قالت: أسأل الله أن يحرمك الجنة كما حرمتني من الزواج. اسمعن يا أخواتنا الكريمات إلى هذه التي تعتصر ألماً، تكتب هذه الرسالة إلى أبيها، وأرجو أن نسمع هذه الرسالة كل أب ظالم، وكل أب منع ابنته من الزواج، وحجر عنها الصالحين، تقول البنت المسكينة: لما كتبت رسالتي ببناني والدمع مذراف من العينانِ أرسلتها للوالد الغالي الذي قد ضمني برعاية وحنانِ أرسلتها وودت أني لم أقل لكن تلهب خاطري وكياني أرسلتها والدمع خط مدادها وكتبتها من واقعي الحيرانِ فلقد كتمت من الهموم ولم يزل متفطراً قلبي من الكتمانِ لما رأيت مفارقي قد أضرمت بالشيب إن الشيب كالنيرانِ يا والدي لا تحرمن شبيبتي فلقد مضى عمر من الأحزانِ لما أرى الأطفال تذرف دمعتي ويئن قلبي من لظى الحرمانِ لما أرى غيري تعيش وزوجها وبنيها قد نام في الأحضان لما أراها والحنان مع ابنها ينتابني شيء يدك جناني يا والدي لا تقتلني بالأسى قتلاً بغير مهند وسنانِ يا والدي قد سن ربي هكذا لا بد من زوج ومن ولدانِ هذا قضاء الله حكم عادل قد سنه ربي على الإنسانِ إن كنت تبغي راتبي ووظيفتي فخذ الذي تبغي بلا أثمانِ إن كنت تبغي بيع بنتك للذي دفع الكثير فذاك أمر ثانِ هذا ورب البيت بيع كاسد بيعي كبيع الشاة والخرفانِ أبتاه حسبك لا تضع مستقبلي أو ما كفى ما ضاع من أزمانِ إن لم تزل لم تلتفت لرسالتي فاعلم بأن الله لن ينساني يوم القيامة نلتقي لحسابنا عند الإله الواحد الديانِ وأتت جهنم والملائك حولها وعلاك ألسنة من النيرانِ فهناك تعلم حق كل بنية سجنت بلا حق ورا القضبانِ أختي الكريمة: أسرعي وبادري بالزواج، ولا تقولي: هذا طويل وهذا قصير، وهذا مستواه المادي قليل، وهذا لا يستطيع أن يعطيني المهر الكثير، وهذا وهذا (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض). وختاماً: أدعوك يا أمة الله إلى التوبة إلى الله جل وعلا، والرجوع إليه، والاستغفار من الذنوب والخطايا، والاستعداد ليوم لا مرد له ولا رجوع بعده إلى هذه الدنيا {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} [آل عمران:30]. أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد.

كيف تقوي إيمانك؟ (2)

كيف تقوي إيمانك؟ (2) الإيمان أساس الدين، فلا تقبل الأعمال إلا به، كما أن مراتب الدين الأخرى مبنية عليه. وإن الذين تتشبع قلوبهم بالإيمان، تتوثق صلتهم بالله سبحانه، فلا يأبهون بما سوى ذلك من إغراءات وقوى في هذه الأرض، ويطمئنون في الدنيا والآخرة، فلا خوف عليهم ولاهم يحزنون. وهنا بحث في علامات ضعف الإيمان، وكيفية تقويته، وأهمية ذلك، مع بعض الفوائد والقصص المتفرقة في ثنايا هذه المادة.

علامات ضعف الإيمان

علامات ضعف الإيمان الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه وبعد: نتكلم -أيها الإخوة- عن أعظم أمرٍ يحتاجه الإنسان ويطلبه في الدنيا: إنه موضوع الإيمان، وبعض مظاهر ضعفه في الناس، ثم كيف يرفع الإنسان إيمانه؟ كيف يعالج إيمانه؟ كيف يزيد إيمانه؟ لأن من عقيدة أهل السنة والجماعة: أن الإيمان يزيد وينقص، وقد ينقص إيمان الإنسان وهو لا يشعر، فمن الأسباب:

النظر إلى من هو ضعيف الإيمان

النظر إلى من هو ضعيف الإيمان أن ينظر الإنسان إلى من حوله، هل الناس يضعفون مثله، فيظن أنه على خير، أو أن الكل ضعيف في الإيمان، فيظن أنه قوي الإيمان! تجده يُصلي ثلاث أو أربع صلوات في المسجد وبعض الناس لا يصلي في المسجد إلا صلاتين أو ثلاث صلوات، فيظن أنه قوي الإيمان، أو تراه يأتي صلاة الفجر بعد الإقامة، فيظن أن إيمانه قوي؛ لأن بعض الناس لا يصلوا الفجر أصلاً، وهذا أمر عظيم جداً سوف نتكلم عنه، ولعلَّ الكلام لا ينفع إذا لم يتبعه عمل، {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر:18]. دخل أبو بكر رضي الله عنه مزرعة أحد الأنصار فوجد فيها طيراً يطير، فخرَّ على ركبتيه يبكي، فقيل له: لماذا رحمك الله؟ قال: [نظرت إلى الطير يطير على الشجر، ويأكل الثمر، ثم يموت ولا حساب ولا عقاب، يا ليتني أكون طائراً] هذا هو أبو بكر الذي بشر بالجنة. وهذه قصة رويت عن عمر وأبي بكر، يقول رضي الله عنه: كُلَّما صلى الفجر خرج من المسجد، يقول: فتبعته -لأن عمر كان ينافس أبا بكر في الخير- يقول: فتبعته، فوجدته يدخل بيتاً في ناحية المدينة، فلما خرج دخلت البيت فإذا امرأة عجوز كسيرة حسيرة عمياء -من يدخل عليها؟ خليفة المسلمين- فقلت لها: من أنتِ؟ ومن هذا الرجل يدخل عليك كل يوم؟ قالت: أنا امرأة عجوز كسيرة حسيرة عمياء، وهذا الرجل الذي يدخل عليّ كل يوم لا أعرفه، يدخل علينا يصنع طعامنا، وينظف بيتنا، ويحلب شياهنا، ثم يذهب، فأخذ عمر يبكي، وخرَّ على ركبتيه يبكي وهو يقول: أتعبت الخلفاء بعدك يا أبا بكر! أتعبت الخلفاء بعدك يا أبا بكر. كان الحسن البصري يبكي كثيراً -قلوب الأوائل ليست كقلوبنا يا إخوة- كان يبكي كثيراً، فلما قيل له: لماذا تبكي كثيراً يا أبا سعيد؟ قال رحمه الله: [أخاف أن يطرحني الله في النار ولا يبالي]. بعد كل هذا العمل {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً} [الغاشية:3 - 4].

عدم التأثر بالقرآن أو المواعظ

عدم التأثر بالقرآن أو المواعظ من علامات ضعف الإيمان في الإنسان: أنه يقرأ القرآن أو يسمع المواعظ ولا يتأثر؛ تقرأ وتتلى عليه الآيات البينات وهو لا يتأثر، لأن المؤمنين كما قال الله عز وجل عنهم: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:2] إذا كان قلبك لا يوجل فاعلم أنه ضعيف الإيمان. كان بعض السلف إذا توضأ الواحد منهم أو أذن المؤذن، كان يصفر وجهه من الخوف، يقول: أتدرون بين يدي من أقف؟ {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} [الأنفال:2] يقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن مسعود: (اقرأ، قال: أأقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: اقرأ فإني أحب أن أسمعه من غيري، فأخذ - ابن أم عبد رضي الله عنه- يقرأ ويقرأ حتى دخل سورة النساء، فقرأ قوله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء:41] قال: حسبك! قال: فنظرت إليه فإذا عيناه تذرفان) يبكي عليه الصلاة والسلام. يمر في الليل على الناس، فيسمع عجوزاً تقرأ: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1] {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1] تردد الآية، وهي لا تستطيع أن تكملها، وهو يقول عليه الصلاة والسلام وهو يبكي: نعم! أتاني نعم! أتاني نعم! أتاني. كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم ليلة كاملة بآية يُرددها ويبكي: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118]. تقول عائشة: (سمعته يبكي في السجود، وهو يقول: أمتي أمتي). هذه من علامة ضعف الإيمان! أنك تسمع القرآن فلا تتأثر، تُصلي خلف الإمام ولا تدري ماذا يقرأ؟ بل لعلك تدعو وتستعيذ من النار في السجود ولكن قلبك يُفكِّر في الدنيا هذا من علامة ضعف الإيمان. أبو بكر رضي الله عنه: انظروا أفضل الناس بعده! أبو بكر، يقول عليه الصلاة والسلام: (مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس، تقول عائشة رضي الله عنها: إن أبا بكر -أبوها- رجل أسيف) لا يتحمل الصلاة، إذا صلى وقرأ القرآن بكى، هذا أفضل الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم. عمر رضي الله عنه، وما أدراك ما عمر؟ صلى في الناس صلاة الفجر، فأخذ يقرأ في سورة يوسف، حتى وصل إلى قوله تعالى: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف:86] فتوقف وأخذ يبكي رضي الله عنه حتى بكى الناس من خلفه، هكذا كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. علي بن الفضيل بن عياض يُقال عنه: إنه كان يُردد الآية عشرين مرة. وهذا عمر بن عبد العزيز، قام ذات ليلة من الليالي، فأخذ يقرأ قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل:1] حتى بلغ قوله تعالى: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى} [الليل:14] فلم يستطع أن يكمل السورة، فأعادها مرة أخرى، حتى وصل إلى قوله تعالى: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى} [الليل:14] فأعاد السورة مرة ثالثة، وأخذ يعيدها ويعيدها، ولم يستطع أن يُكمل السورة، فتركها وقرأ سورة غيرها. وورد أيضاً عن أحد السلف أنه كان يقرأ قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ} [الأنعام:27] فخرجت روحه، ولم يستطع أن يكمل هذه الآية قتلته آية، ولعلَّ الأمر فيه مبالغة، لكن لا نريد هذه السورة إنما نريد من الإنسان -يا إخواني- أن يتأثر. علامة ضعف الإيمان أن يقرأ الإنسان كلامه تعالى آيات تدك الجبال، قوله تعالى: {أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ * إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} [العاديات:9 - 11] أتعرف ما في الصدور؟ ما في الصدور مما كنت تُفكِّر من معاصٍ. أتعرف ما في الصدور؟ ما كنت تخفيه بينك وبين نفسك، تعصي وتظن أن الله لا يراك. أتعرف ما في الصدور؟ يُبدى أمام الله عز وجل يوم القيامة، {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18]. القرآن يا إخوة! تريد أن تعرف علامة أو قوة إيمانك؟ اعرض نفسك على القرآن هل تتأثر عندما تقرأ؟ هل تتأثر عندما تسمع القرآن؟ هل تتأثر عندما تصلي عند الإمام؟ هل تخشع؟ {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} [الزمر:23]. كان عمر بن عبد العزيز يقوم الليل، فأخذ يبكي، فبكى أهله كلهم إشفاقاً عليه، وأبكى الجيران، وفي الصباح سُئِلَ رضي الله عنه: ما يبكيك رحمك الله؟ فقال: كنت أقرأ قوله تعالى: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7]، وتفكرت! فكنت لا أدري إلى أيهما أصير؟ هل أنا من فريق الجنة، أم من فريق السعير؟ بل تقول زوجته فاطمة: كان ينتفض من فراشه كما ينتفض العصفور، فَيُصلي فيبكي حتى تقول عنه زوجته: كنت أظن أن روحه سوف تخرج منه فيُصرع، ثم يقوم فيصلي، فيبكي حتى تكاد روحه تخرج منه، تقول: وهكذا يبكي حتى يسمع أذان الفجر، ثم يذهب إلى الصلاة انظروا إلى حالهم! {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]. والله لو أنزل القرآن على جبل لتصدع فما بال هذا القلب! إنها الذنوب. أيها الأخوة! أصبح الواحد منا يقرأ القرآن وكأنه يقرأ جريدةً، بل لو سمع قصة لتأثر، أما حين يسمع أحسن القصص فلا يتأثر، لو سمع عن عدو لخاف، أما حين يسمع عن عذاب الله فلا يخاف، يسمع عن النار: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} [الزمر:23] إذا سمع آيات العذاب وآيات الوعيد، {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:23] هكذا المؤمن إذا سمع: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً} [النبأ:21] اقشعر الجلد! لا يتحمل هذه الآيات يخاف، ثم بعد قليل: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً} [النبأ:31] يلين الجلد، ويهدأ القلب ويسكن، ويرجو رحمة الله. كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام الليل قرأ بسورٍ طويلة -بالسبع الطوال- فإذا مر بآية عذاب استعاذ بالله، وإذا مر بآية رحمة سأل الله من فضله هكذا كان يتفاعل مع الآيات، أما بعض الناس من ضعيفي الإيمان -ونحن منهم نسأل الله العافية- لو تسأله: ماذا صلى الإمام في صلاة العشاء؟ ماذا قرأ! فإنه لا يعرف شيئاً منذ متى خلوت بنفسك لتقرأ القرآن وتذكر الله؟ (ورجلٌ ذكر الله خالياً ففاضت عيناه) يبكي من خشية الله هل وصلنا إلى هذه الدرجة؟! اعرف إيمانك يا عبد الله.

كثرة الوقوع في الذنوب والمعاصي

كثرة الوقوع في الذنوب والمعاصي من علامات ضعف الإيمان: كثرة الوقوع في الذنوب والمعاصي. كلما وقع في ذنب قال: صغيرة! وكلما وقع في ذنب قال: الحمد لله! صليت في جماعة {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] يدخل البيت ويفتح التلفاز وهو لا يُبالي يستمع إلى الأغاني، يقول: هذه صغيرة ولن تضرني، وإذا مر بالسوق نظر إلى فلانة وعلانة، ويقول: هذه صغيرة، وهذه لا تضر، ثم إذا ذهب إلى بيته جلس يتكلم في فلان، وإذا ذهب إلى المجالس يسمع غيبة في فلان، وينم بفلان، ويتكلم عن فلان، ويستبيح أعراض الناس. خل الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى واصنع كماشٍ فوق أر ض الشوك يحذر ما يرى لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى حتى إذا جاء يوم القيامة: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً} [الكهف:49] نظرة نظرتها في السوق لا يغادرها، تلك الليلة عندما فتحت الجريدة لتقرأ الأخبار، فنظرت إلى المرأة، وقلت: صغيرة! تلك الليلة عندما جلست في الغرفة فتحت التلفاز لتستمع إلى الأخبار، وكانت امرأة مُذِيعة، فكنت تنظر إليها، وتقول: أخبار! ذلك المجلس الذي كنت تجلس فيه، وكنت تسمع فيه الغيبة والسخرية والنميمة، وكنت تقول: أنا لم أتكلم، أنا أستمع فقط. ذلك اليوم عندما ذهبت إلى السوق لتشتري حاجات، وقابلتك امرأة تبيع وتشتري منها، وأخذت تكلمها وتنظر إليها، وتحادثها، وتضاحكها، وكنت تقول وأنت تحج نفسك فتقول: حاجة وضرورة، أنت مسكين! {لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49] هكذا ضعيف الإيمان يتهاون في الصغائر، حتى يبلغ به الأمر إلى أن يقع في الكبائر -نسأل الله العافية- إما في الفواحش، أو في الغيبة، أو في عقوق الوالدين، بل لعله يفعل المنكرات العظام، بل يبدأ يجاهر (كل أمتي معافى إلا المجاهرين) يجلس أمام الناس ويعصي الله ويفعل المنكرات، بل يفتخر أنه فعل كذا وكذا، ويقول للناس: سافرت إلى المكان الفلاني، وفعلت كذا وكذا، فيفتخر أنه كان يعصي الله عز وجل.

عدم الشعور بالمسلمين

عدم الشعور بالمسلمين من علامات ضعف الإيمان: أن الإنسان لا يشعر بغيره من المسلمين، فإذا كلمته عن أحوال المسلمين في دول الغرب -في الدول الشرقية أو الغربية في الشمال أو الجنوب- قال: نحن ما الذي علينا! هذه من علامات ضعف الإيمان، أن الإنسان لا يشعر ولا يُبالي بغيره.

التكاسل عن العبادات

التكاسل عن العبادات من علامات ضعف الإيمان -يا عباد الله- التكاسل عن العبادات. في السابق كان أول التزامه أنه كان يصلي في الصف الأول، أما الآن ما باله بدأ يصلي في الصف الثاني أو الثالث أو الصف الأخير. ما باله لا يأتي إلا عند الإقامة. فلان حاسب نفسك! لا تأتي إلا في الركعة الأخيرة وتظن أنك على خير (لا يزال أقوام يتأخرون عن الصفوف الأول حتى يؤخرهم الله) مسكين! لا يعرف أن من علامات النفاق: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:142]. كان في بداية التزامه كان يوجد في جيبه كتيب حصن المسلم، يقرأ الأذكار في الصباح والمساء، أما الآن ما بالك يا فلان! نسيت أذكار الصباح والمساء أين ذكر الله يا عبد الله؟! ما بالك تغيرت، كنت في السابق تفتح المصحف في اليوم: الساعة، والساعتين، والثلاث، ما بالك الآن؟ ما الذي حدث؟ ما الذي جرى يا عبد الله؟ إنه ضعف الإيمان! كنت ليلة من الليالي تقوم الليل بركعتين، أو أربع، أو أكثر، أو أقل، ما بالك اليوم لا تتذكر قيام الليل إلا في رمضان. كنت في السابق تصوم الاثنين والخميس، أما الآن فلا تصوم ولا يوماً واحداً في الشهر، ما بالك يا عبد الله! إنها علامة لضعف الإيمان، وأنت لا تشعر.

عدم إنكار المنكر

عدم إنكار المنكر من علامات ضعف الإيمان: أنه يرى المنكر ولا يتحرك، ولا يتغير، ولا يتضجر، ولا يشمئز. يرى المنكرات وكأنها ليست بمنكرات، والله عز وجل يقول عن أولئك الذين ينكرون المنكر: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] لأن من علامة قوة الإيمان إنكار المنكر، أما ضعيف الإيمان فكان في السابق إذا رأى المنكر أغلق التلفاز، إذا رأى منكراً لعله تكلم ونصح؛ وإن لم يستطع فإنه يخرج من هذا المجلس، أما الآن فقد ضعف إيمانه، فتراه ينظر إلى المنكرات، بل لعله يفعلها وهو لا يشعر، يمر في الأسواق فيرى المنكرات وكأنه لا يراها، ينظر إلى المنكرات وكأنها معروفاً، بل يجلس في مجلس فيه منكر، فلا تراه يتغير ولا يتحرك ولا يخرج من هذا المجلس، لأن الإيمان ضعيف كما قال عليه الصلاة والسلام: (وذلك أضعف الإيمان) أتعرفون في من هذا؟ هذا في الرجل يجلس في المجلس، فيرى منكراً ما، فلا يستطيع أن يُغيِّره لا بيده ولا بلسانه، فمن الضيق الذي في قلبه تراه يخرج من هذا المجلس، وهذا من أضعف الإيمان؛ فماذا نقول في من يجلس يا عباد الله؟! ماذا نقول في من يذهب برجليه إلى أماكن المنكرات بل هو الذي يفعل المنكرات؟ يا إخوة الإيمان! ضعفُ في الإيمان والإنسان لا يشعر، حتى إذا جاء يوم القيامة: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف:103 - 104]. كان بعض السلف يبكي بُكاءً شديداً عندما يقرأ قوله تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47].

كيفية علاج ضعف الإيمان

كيفية علاج ضعف الإيمان كيف تحيي الإيمان في قلبك؟ كيف تعالج ضعف الإيمان الذي هو الشاهد من الكلام وهو المقصود من هذه الكلمة؟! أولاً يا عبد الله! اعلم أن العمر قصير، ولن يكون لك عمر آخر. مضى الدهر والأيام والذنب حاصل وجاء رسول الموت والقلب غافل نعيمك في الدنيا غرور وحسرة وعيشك في الدنيا محال وباطل أبو الدرداء رضي الله عنه عند ساعة الاحتضار، أخذ يبكي وهو يحتضر ويقول لمن حوله: [ألا رجل يعمل لمثل مصرعي هذا؟ ألا رجل يعمل لمثل يومي هذا؟ ألا رجل يعمل لمثل ساعتي هذه؟]. أبو هريرة: وأنتم تعرفون من هو أبو هريرة؟ لسنا نحن -يا عبد الله- الذين أمضوا أيامهم ولياليهم في طاعة الله، إنه طالب العلم، يقول قبل موته وهو يبكي عندما قيل له: ما يبكيك رحمك الله؟ قال: [طول السفر، وقلة الزاد، وضعف اليقين، وخوف الوقوع من الصراط في النار]. يبكي قبل الموت، ويقول هذه الكلمات، أما نحن فماذا نقول -يا عباد الله- الذي لا تمر علينا ليلة إلا وننتهك فيه الذنوب انتهاكاً.

التفكر في الموت

التفكر في الموت يا عباد الله! لو كان الواحد منا يُفكِّر في تلك اللحظة، والله لا تراه يتجرأ على النظر إلى امرأة في جريدة، أو على فتح التلفاز إذا كان فيه منكر، أو يذهب إلى أماكن المنكرات، فلو كان يُفكِّر حقاً في تلك اللحظة، يقول الله -تبارك وتعالى- عنها: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} [القيامة:26] * {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [القيامة:27]. تخيل نفسك والله عز وجل يُخبر عنك في هذه الآية على فراش الموت، ولعل حولك: أبوك، وأمك، وأبناءك، وزوجتك، لعلهم يبكون عليك، لعل ابنك الصغير قد احتضنك وأنت تحتضر، وهو يبكي، ويقول: أبتاه! ما لك لا تجيب؟! وأنت تنظر إلى ساقك ما بالها تيبس؟! ما بال الساق؟ إنها تبرد: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً} [النازعات:1 - 2]. بدأ ملك الموت ينتزع الروح وأنت إلى الآن لم ترجع الأمانات إلى أهلها إلى الآن لم تتت من تلك المعاصي إلى الآن عليك حقوق للناس لم ترجعها إلى الآن لم أتب من النوم عن صلاة الفجر إلى الآن لم أتب عن المعاصي والذنوب إلى الآن يا رب! {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99 - 100] وقال تعالى: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [القيامة:26 - 27] ينادي الأب: من يداوي ابني؟ وينادي الولد: من يداوي الأب؟ وتنادي الزوجة: من يداوي هذا الزوج؟ {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} [القيامة:27 - 28] إنه يعلم ومتيقن أنه سوف يُفارق هذه الدنيا البيت إلى الآن لم يكمل أثاثه والسيارة لم يشترها إلى الآن قد حجز التذاكر لكنه لم يسافر إلى الآن هو في السنة الأخيرة من الدراسة ولم يأخذ الشهادة إنه يستعد للزواج إنه ينتظر الولد إلى الآن لم يتم نعيمه في الدنيا {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:28 - 30]. يقول عليه الصلاة والسلام: (أكثروا من ذكر هادم اللذات) أكثر -يا عبد الله- فإن الدنيا لا تساوى شيئاً، ملايينك لم تستفد منها شيئاً، والله إن هذه الأموال وهذه الدنيا والبنون والأهلون لن ينفعوك بشيء، فكل شيء يذهب ويبقى العمل الصالح، فعليك أن تتفكر في هذه اللحظة وعندها والله لا تتجرأ على الذنوب.

التفكر في وقوفك بين يدي الله

التفكر في وقوفك بين يدي الله أيضاً -يا عبد الله- تفكر في موقفك بين يدي الله عز وجل، إذا جئت أمام الله: مثل وقوفك يوم الحشر عريانا مستعطفاً قلق الأحشاء حيرانا النار تزفر من غيض ومن حنق على العصاة وتلق الرب غضبانا اقرأ كتابك يا عبدي على مهل انظر إليه ترى هل كان ما كانا لما قرأت كتاباً لا يغادر لي حرفاً وما كان في سر وإعلانا نادى الجليل! خذوه يا ملائكتي مروا بعبدي على النيران عطشانا هل تفكرت في تلك اللحظة؟! قال الله تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ} [آل عمران:30] في تلك الليلة التي أغلقت فيها على نفسك الباب، وأطفأت الأضواء، وفعلت فعلتك التي فعلت، {وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَه} [آل عمران:30] تلك اللحظة التي قالت لك أمك: يا بني! فقلت لها: لا. ذلك الموقف الذي أمرك فيه أبوك فقلت له: لا. تتذكره يوم القيامة {تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:30] هل تفكرت في هذا الموقف؟!

محاسبة النفس واستشعار رقابة الله

محاسبة النفس واستشعار رقابة الله يقول أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه: [حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزن عليكم] قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر:18]. يا عبد الله! حاسب نفسك الليلة إذا رجعت إلى البيت، وقبل أن تنام، وبعد أن تصلي الوتر، أو تصلي ركعتين، أو تتطهر، أو بعد أن تأتي بأذكار النوم. تفكر يا عبد الله! ماذا قدمت لله عز وجل؟! ضع حسناتك في كفة، وسيئاتك في كفة، ثم حاسب نفسك، وانظر أيهما تُرجِّح. يا عبد الله! حاسب نفسك! لا تأتِ يوم القيامة وأنت من الذين قال الله فيهم: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً} [الغاشية:3 - 4] لا تكن كمن قال الله فيهم: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23] قال عليه الصلاة والسلام: (ليأتين أقوام من أمتي يوم القيامة معهم أعمال كجبال تهامة بِيضٌ يجعلها الله هباءً منثوراً، قال ثوبان: من هم يا رسول الله؟) صفهم لنا يا رسول الله؟ جَلِّهم لنا! ألا نكون منهم؟ كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يخافون أن يكونوا من الذين يأتي الله عز وجل بأعمالهم يوم القيامة فيجعلها الله هباءً منثوراً، قال علي: [لو علمت أن الله قبل مني حسنة لاتكلت] حسنة واحدة، لو علمت أن الله قبلها مني لاتكلت عليها، لأن الله يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ ثوبان ومن معه: (ألا إنهم يصلون كما تصلون، ويصومون كما تصومون، ويأخذون من الليل كما تأخذون -حتى قيام الليل يقومون لكن ما بالهم؟ - لكنهم قوم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها) أمام الناس رجل صالح! لكنه بينه وبين نفسه في البيت، إذا جلس في الغرفة ولا أحداً يراه ارتكب المعاصي إذا ذهب إلى السوق وليس هناك من يراقبه يفعل ما يريد يسافر إلى بلاد الغرب -بلاد الكفر والإباحية- حيث لا أحداً يراه، غريب يفعل ما يشاء {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:14] يأتي الله عز وجل بأعماله كلها يوم القيامة، بل إذا رأى جهنم يوم القيامة تزفر، يتذكر كل أعماله في الدنيا يتذكر ذنوبه كلماته خطراته قدميه، إلى أين مشت؟ كما قال الله عز وجل: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر:23 - 24] يقول طالب العلم: يا ليتني تكلمت في الناس! ويقول صاحب العلم: يا ليتني أنكرت المنكرات! يا ليتني تكلمت! ما بالك يا طالب العلم؟! يمنعك الخجل يمنعك الحياء يمنعك الجهل يمنعك الخوف. ما بالك يا عبد الله لم تقم المقام الذي أمرك الله به في مجلس من المجالس ويستهزأ فيه على الله ويُتكلم فيه على الدعاة والمصلحين وأنت ساكت! تتذكر هذا الموقف يوم القيامة، فتقول: {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر:24] يا ليتني! تكلمت ولم أبال بالناس! يا ليتني أنكرت المنكرات! يا ليتني تكلمت في الناس ونصحت ولم أبال بكلام الناس! يا ليتني ويا ليتني! يقول ذلك الرجل، بعد أن يأتي يوم القيامة، فينظر إلى ذنوبه، فيتذكر من كان السبب! إنه صاحبه في الدنيا: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي} [الفرقان:27 - 29] يتذكر صاحبه في الدنيا، كان أصحاب الصلاح وأصحاب الخير يقولون له: ائتِ معنا في مجالس الخير لنذهب إلى العمرة إلى مجالس الخير إلى الدروس إلى بيوت الله، ولكن صاحب السوء كان يأتيه فيقول له: أنت شاب، تمتع بالشباب لا تذهب مع أولئك المعقدين لا تذهب مع أولئك المتزمتين المتطرفين، ليس عندهم ضحك، ولا لعب، ولا دنيا، ولا حياة. ائت معنا نتمتع بالدنيا. يتذكر هذه المواقف يوم القيامة، فيعض لا على إصبعه أو يده فقط، بل يدخل يديه كلتيهما في فمه فيعض عليهما من الندم {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً} [الفرقان:27] هذا الموقف -يا عبد الله- إذا تذكرته ازداد إيمانك، وقوي شيئاً قليلاً.

التفكر في الخسارة الكبرى أو الفوز العظيم

التفكر في الخسارة الكبرى أو الفوز العظيم يا عبد الله! إذا أردت أن يقوى الإيمان عليك أن تتذكر الموقف الثالث، الذي فيه يأمر الله عز وجل بالناس إما إلى الجنة وإما إلى النار، فيأتي الرجل، وتخيل نفسك حين يناديك الله عز وجل يوم القيامة باسمك، وكنت بين الناس في المحشر، بعد خمسين ألف سنة، والشمس تدنو على الرءوس مقدار ميل، والناس قد أنهكهم التعب والحر، فيفصل الله عز وجل بينهم، فينادى بك: أين فلان بن فلان؟ ينادى باسمك فترتعد الفرائص، وتضطرب الجوارح، وتكاد تسقط على ركبتيك فتجرك الملائكة جراً إلى الله إلى الجبار إلى الملك إلى العزيز إلى القهار، وأنت تتذكر الذنوب كلها، تتذكر يوم أن نمت عن صلاة الفجر، وتتذكر يوم أخرت صلاة العصر. تتذكر يا عبد الله! يوم كان الصالحون يأمرونك بالمعروف وكنت تصد، كنت تقرأ الآيات {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:278] ولكنك كنت تصر على الربا، كنت تعرف أن عليك مسئولية أن تأمر بناتك وزوجاتك بالحجاب، ولم تكن تفعل، يُؤتى بك أمام الله يوم القيامة فيذكرك الله عز وجل بالذنوب، فإن كنت ممن تاب وأصلح حاله في الدنيا، يقول الله عز وجل له يوم القيامة، بعد أن يقرره بالذنوب، وبعد أن يقول: (أي ربِّ! هلكت، فيقول الله له: سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، فيُعطى كتابه بيمينه، فيذهب إلى الناس، فيقول لهم: {هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:19 - 20]) يذهب ليبشر الناس، يقول: انظروا إلى كتابي! انظروا إلى صحيفتي! انظروا إلى مجالس الخير! انظروا إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر! انظروا إلى قيام الليل إلى صيام النهار إلى الصدقة إلى البذل إلى المعروف إلى الإحسان إلى الناس إلى العمرة تلو العمرة إلى الجهاد في سبيل الله انظروا! أمَّا إن كنت من الصنف الآخر -فنسأل الله العافية والثبات- فيقال له بعد أن يقرره بذنوبه: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} [الحاقة:30] إنها علامة الرسوب لا عمر آخر، ولا حياة أُخرى، ولا رجوع إلى الدنيا، {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا} [السجدة:12] بعد أن يُقِر بالذنوب، يقول: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا} [السجدة:12] ماذا يريد الآن؟ {فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة:12]. يا رب! أرجعنا إلى الدنيا نعمل الصالحات! يا رب! أرجعنا فوالله إنه يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فلا يفارق بيت الله! ليظل ساجداً إلى أن يموت، والله لا يبقي فلساً واحداً في جيبه إلا ويتصدق به! يتمنى كل هذا، ولكن: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:30 - 32] كما قال الله عز وجل: {يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} [القمر:48] فعندما يقترب من النار، فإذا بالنار قد فتحت أبوابها، فيدخل إلى جهنم فإذا هي سوداء تزفر وتنادي فتقول: {هَلْ مِنْ مَزِيد} [ق:30] ماذا ينظر؟ إنه ينظر إلى أصحابه في النار، إلى رفقائه في الدنيا ينظر إليهم وهم في النار، {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ} [الأعراف:38] ينظر إلى رفقائه فيقول: يا رب! هو الذي أضلني. يا رب! كان يأخذ بيدي إلى الأسواق. يا رب! كان يقول لي: اذهب معنا لنسافر إلى بلاد الغرب لنفعل ونفعل، كان يقول لي: إياك أن تذهب مع الصالحين، أو أن تذهب إلى المساجد، كان ينهاني عن الطاعة ويأمرني بالمعصية، [عجبت للنار كيف نام هاربها، وعجبت للجنة كيف نام طالبها]. كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا تذكروا تلك المواقف، كما قال الله عز وجل عنهم: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة:16] لا ينام أحدهم الليل عندما يتذكر النار، أو يتذكر الوقوف أمام الله عز وجل، أو يتذكر موقفه عند الاحتضار، أو يتذكر ذلك الموقف إذا خرج من قبره والناس يخرجون من أسفل منه، يخرجون من القبور للعرض أمام الله عز وجل، فيتذكر هذه المواقف. كان أحدهم لا ينام الليل، {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً} [السجدة:16] يقوم أحدهم الليل! لماذا يا إخوان؟ {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9].

التزود من التقوى وعدم الإسراف في اللهو والضحك

التزود من التقوى وعدم الإسراف في اللهو والضحك دخل عليه الصلاة والسلام على أصحابه وقد أسرفوا في الضحك، فقال لهم: (لو تعلمون ما أعلم! لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون، فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رءوسهم ولهم خنين) أخذوا يبكون. أما نحن فيُقرأ علينا القرآن في رمضان كله من أوله إلى آخره والقلب لا يخشع دمعة واحدة لا تنزل لا نتأثر لا نتغير لا نتدبر!! على قلوب أقفال، نسأل الله العافية ما الذي أقفلها؟ {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] النظرات الكلمات الخطرات الأفعال!! الذنوب والمعاصي أماتت القلوب حتى أصبحت لا تتأثر بكلام الله ولا بآيات الله، الواحد منا يذهب إلى جنازة، ويحملها على كتفه، بل يمر في جنازة، ويمر بين القبور وكأنه يمر بين الصخور، يذهب إلى الجنازة فيخرج وهو يضحك. قال الحسن البصري لأحدهم بعد أن مر في جنازة: [لو أن هذا رجع إلى الدنيا ماذا كان يتمنى؟ قال: أن يُصلي ركعتين، قال: فإن لم يكن هو فكن أنت يا عبد الله]. يا عبد الله! كل يوم يقبض الله روحك وأنت نائم ثم يرجعها إليك، ومع هذا تقوم من نومك، فتقول: الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور، ثم لا تتوب، ولا تتفكر! آيات وعبر كم من صاحب لك قد فارق الدنيا؟! كم من قريب لك قد فارق الدنيا؟! اقرءوا الجرائد تجدون صغار السن والشباب -الآن- يموتون أكثر من الكبار. يا عبد الله! والله لا تأمن على نفسك أن تخرج من البيت فتركب السيارة أن تنزل منها، بل لا تأمن على نفسك أنك إذا نمت أن تستيقظ، بل لا تأمن على نفسك الآن أن ترجع إلى البيت، بل لا تأمن على نفسك الآن أن تخرج من هذا المجلس، بل لا تأمن على نفسك أنه إذا خرج نفسك أن يرجع إليك. تزود من التقوى فإنك لا تدري إذا جنَّ ليلٌ هل تعيشَ إلى الفجر فكم من فتى أمسى وأصبح لاهياً وقد نُسجتَ أكفانه وهو لا يدري وكم من صغار يرتجى طول عمرهم وقد أدخلت أجسادهم ظلمة القبر وكم من عروسٍ زينوها لزوجها وقد قبضت أرواحهم ليلة القدر

بعض قصص التائبين

بعض قصص التائبين ختاماً يا عبد الله! اسمع إلى هذه القصة: (جاء رجل كبير في السن إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد سقط حاجبه على عينيه من كبر سنه، وهو متكئ على عصا، فقال: يا محمد! إن لي ذنوباً لو وُزِّعت على أهل الأرض لأهلكتهم فهل لي من توبة؟ فقال عليه الصلاة والسلام: تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فقال عليه الصلاة والسلام: إذاً يبدلك الله بها حسنات -الله أكبر! السيئات كلها تنقلب إلى حسنات- فقال الرجل: وغدراتي وفجراتي؟ قال: يُبدلك الله بها حسنات، فولَّى الرجل وهو يقول: الله أكبر الله أكبر) {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [آل عمران:135] فاحشة: أي كبيرة من الكبائر {أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [آل عمران:135] أي: صغيرة من الصغائر، {ذَكَرُوا اللَّهَ} [آل عمران:135] تَذَكَّر الذنوب وتَذكَّر رحمة الله، فتاب ورجع إلى الله {ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:135] بشرط: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] بشرط -يا عبد الله- أنك بعد هذا المجلس لا تصر على الذنوب والمعاصي لا تصر على نظرك إلى النساء، أو استماعك للأغاني، أو النوم عن صلاة الفجر، أو الغيبة والنميمة، أو بعض المعاصي التي تعرفها ولا يعرفها غيرك من الناس، لا تصر على الذنوب والمعاصي فهو شرط من شروط التوبة، يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح من طريق أبي بكر رضي الله عنه: (ما من رجل يذنب ذنباً، ثم يقوم فيتطهر، فيصلي ركعتين لا يحدث فيهما نفسه، إلا غَفَرَ الله له ذنبه)، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: (لا يحدث بهما نفسه) أي: يصلي ركعتين فيخشع فيهما ويتدبر، ويتوب إلى الله عز وجل من هذا الذنب (إلا غفر الله عز وجل له ذنبه) {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان:70]. يُروى أن رجلاً كان يفعل المنكرات والمعاصي، وكان يشرب الخمور، وكانت عنده جارية تعني وغلام يعزف، وكان عند هذا الرجل قارب، وفي يوم من الأيام أرد أن يركب القارب ليتعدى النهر إلى الضفة الأخرى، فرأى شاباً عند ضفة النهر، أراد أن يعبر النهر، فقال: اركب معي، وكان هذا الشاب صالحاً فركب معه، وفي الطريق، بعد أن أكل الرجل الطعام وكان غنياً ثرياً، وأكل معه ذلك الغلام، أمر العبد والأمة أن يعزفا ويغنيا له، فبعد أن انتهيا من الغناء والعزف وشرب الخمر، قال لذلك الشاب: هل عندك مثل هذا؟ أي: مثل هذه الأغاني والعزف والطرب، قال: نعم، عندي أحسن من هذا، فظن الرجل أنه سوف يغني له، فأخذ يقرأ كلاماً من آيات الله عز وجل حتى إذا انتهى من قراءته، قال: حسبك! فشهق ذلك الرجل شهقة خرجت بها نفسه -الرجل الغني، صاحب الأغاني، صاحب الطرب- تاب إلى الله توبة خرجت بها نفسه، ويقال: إن المرأة -الجارية- تابت توبة نصوحاً، فأخذت تقوم الليل في كل ليلة، حتى وصلت إلى سورة الملك ففاضت روحها إلى الله عز وجل. توبة يا عبد الله صادقة! إذا أردت أن تتوب فاعزم من الآن أنك إذا رجعت إلى البيت أن تترك جميع المعاصي والذنوب، كف عن الذنوب صغيرها وكبيرها، لا تقل: عندما يأتي رمضان، أو عندما أحج إن شاء الله، أو عندما أتزوج، أو عندما أترك هذا العمل أو أترك هذه الوظيفة بعد ذلك أتوب! لا يا عبد الله، لا تأمن على نفسك الموت، لا تأمن على نفسك أن تخرج روحك وأنت على هذه الذنوب والمعاصي. بادر بالتوبة بادر بالرجوع إلى الله عز وجل، واعلم أنك سوف ترجع إلى ربك الذي يفرح بعبده العاصي إذا رجع إليه، طالما أذنبت وعصيت والآن يفرح بك. الله أكبر! ما أرحمه، وما أوسع مغفرته تبارك وتعالى، وما أرأفه بعباده، إذا عصيته ثم رجعت فرح بك بل أشد مما يفرح ذلك الرجل الذي أضاع ناقته ودابته وعليها طعامه وزاده، وأيقن بالموت ثم رجعت إليه، ففرح فقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك! أخطأ من شدة الفرح، الله أفرح بعبده إذا رجع إليه من هذا الرجل بدابته. أسأل الله عز وجل أن يغفر لنا ذنوبنا، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

مميزات الدعوة المكية

مميزات الدعوة المكية على الرغم من أن مرحلة الدعوة المكية تميزت بخصائص لا تصلح لأي مرحلة زمنية بعدها، كالتدرج في تشريع بعض الأحكام، إلا أن كثيراً من سماتها تقدم دروساً في هذا الفن، تصلح لكل زمان ومكان. وفي هذه المادة بيان لستٍ من مميزات الدعوة المكية، موضحة بالأمثلة، القاسم المشترك بينها هو الجهد الجبار الذي بذله القائد الأول صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام. وقد بينت فقرة الأسئلة بعض ما لم يتضح في ثنايا المحاضرة.

الفرق بين الدعوة المكية والدعوة في وقتنا الحاضر

الفرق بين الدعوة المكية والدعوة في وقتنا الحاضر الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين. أما بعد: لعل هذا الموضوع واضح من عنوانه أن أغلبه سيرة؛ ولكن سيرة بشكل آخر، كيف نستفيد من هذه السيرة؟ ولعل الفاهم والفقيه في هذا الدرس من يعرف كيف يربط تلك السيرة بهذا الواقع المعاصر، وبالدعوة في هذه الأيام، لأن الوقت لن يسع، بل لن يسمح علم المتكلم أن يربط هذه السيرة بهذا الواقع، ولكن يكفينا إن شاء الله إشارات. قبل البداية: هناك فرق بين العصر أو العهد المكي وهذا الوقت، ولا بد أن نعرف أمراًَ، وهو أنه ليس كل ما يقال في العهد المكي يطبق الآن، بل الأمر يختلف، ففي العهد المكي أولاً الإسلام لم يكتمل، فلربما يأتينا آتٍ فيقول: نفعل ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم: لا نحرم الخمر على الناس نتدرج فيه نقول للناس: الخمر مباح، لكنه فيه إثم عظيم وفيه كذا، ثم بعد أيام نقول: اتركوا الخمر فقط في الصلاة واشربوا في غيرها، ثم بعد أيام نتدرج حتى نحرم الخمر على الناس، وهذا خطأ لأن الله عز وجل قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3] وقال: {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208] فلا يجوز أن نقيس العهد المكي بعصرنا بأن نقول: والله نتدرج مع الناس في التشريع، فهذه مصيبة، أو نقول: ندعو كما دعا النبي صلى الله عليه وسلم -حرفياً- بـ مكة، فالأمر يختلف، ففي مكة لم يكن هناك منافقون كما في عصرنا، في مكة كان الناس إما مسلم أو كافر، لا يوجد غيرهما، أما في هذا العصر فالأمر مختلف جداً، ففي المسلمين -كما يقال- اختلط الحابل بالنابل المنافق والمسلم ضعيف الإيمان وقوي الإيمان، ومنهم العلماني الذي يدعي الإسلام، وغيرهم كثير، حتى بعض الكفار والزنادقة قد يدعي الإسلام في هذه الأيام. هذه مقدمة قبل البداية. سأل سعيد ابن عباس: [أكان الناس في مكة يعذرون في ترك دينهم؟ -واسمع إلى هذه الآثار العجيبة جداً ثم قارنها بهذا العصر- قال ابن عباس: إن كانوا ليجيعونهم ويضربونهم ويؤذونهم حتى إنهم ما كانوا يستطيعون الجلوس من شدة الأذى -الواحد منهم لا يستطيع أن يجلس من الإيذاء- حتى إن الجعل ليمر عليه -الجعل: حشرة صغيرة حقيرة- فيقال له: أهذا إلهك من دون الله؟ فيقول: إي والله، هذا إلهي من دون الله] مسلم صحابي من خيرة الصحابة لكنه ما استطاع أن يصبر، حتى أنه يقول للجعل: هذا إلهي من دون الله، {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} [النحل:106].

مميزات الدعوة المكية

مميزات الدعوة المكية مميزات الدعوة المكية: سوف نذكر منها ستة إن شاء الله ونقتصر عليها ثم إن وسعنا المقام تكلمنا عن عوامل الصبر في تلك الدعوة.

الانتشار

الانتشار أول ميزة من مميزات الدعوة المكية: الانتشار: واسمع إلى تلك القصة، كان النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته منتشراً، لا يجلس في بيته ولا ينتظر الناس يأتونه، كان ينتشر، في كل قبيلة وفي كل بطن تجد له أحد الناس قد أسلم. فهذا أبو ذر من غفار. وهذا الطفيل بن عمرو من دوس. وهذا عمرو بن عبسة السلمي. وهذا بلال الحبشي. وهذا سلمان الفارسي. وهذا صهيب الرومي. حتى من اليمن من أزد شنوءة، جاءه رجل يسمى ضماد الأزدي، جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم -وهذا ضماد كان يقرأ على الناس، ليعالج المريض، فسمع أن رجلاً يقال له: محمد، مجنون، فأتى إلى مكة يبحث عن هذا الرجل- كل الناس تتكلم عنه، رجل مجنون يقال له: محمد، وهو أعقل الناس عليه الصلاة والسلام، فأتى إليه ضماد فجلس عنده، فقال يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم: (هات ما عندك، فقال له أحكم الناس وأعقلهم: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، قال: حسبك! والله لقد سمعت قول السحرة والكهنة والشعراء، والله ما سمعت مثل كلماتك هذه، لقد بلغت والله قاموس البحر، هات أبايعك) فمد النبي صلى الله عليه وسلم يده فبايعه ضماد الأزدي رضي الله عنه، وهو من أزد شنوءة. كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يجلس، كان يستقبل الوفود، يأتيه وفود في الحج فيأتيهم إلى خيامهم، فيفتح الخيمة ويقول: (من يؤويني حتى أبلغ دعوة ربي، قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا) انظر الانتشار، يضرب على البيوت ويأتيهم في الأسواق وفي النوادي والمجالس، يقول: (من يؤويني حتى أبلغ دعوة ربي، قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا). ومن يقرأ السيرة يجد أمراً عجيباً. هذا من بني جُمَح. هذا من بني زهرة. هذا من بني عبد مناف. هذا من بني عامر. وهذا من بني فلان وفلان وفلان. كأن النبي صلى الله عليه وسلم كان دوامة في الناس يجول ويصول في كل المجالس وفي كل المنتديات، لا كحالنا وللأسف، ينتظر أحدنا من يأتيه فيطرق عليه الباب، فيقول له: دلني على المسجد، والله حال يُرْأف لها، ويحزن الإنسان لحالنا، بل إن بعضنا تمر عليه السنون تلو السنين وجاره لا يصلي ولم يبال، إن صلى فهذا المسجد! وإن لم يصل فعلى كيفه! أمر عجيب وحال غريب! ففي الميزة الأولى تبين لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينتظر أمراً، لماذا كان يدعو في كل قبيلة؟ كان ينتظر ساعة الصفر التي أخبر عنها ورقة بن نوفل، قال: [يا ليتني كنت فيها جذعاً إذ يخرجك قومك، قال: أوَمُخْرِجِيَّ هم؟ قال: ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عودي] هل تريد أن تدعو إلى الله وتجلس في بيتك منعماً؟ لا، من كان مرتاحاً في دعوته ولا يصاب بأذى أو بلاء فليَتَّهِم نفسه، لعل فيه خللاً، ولعل إيمانه فيه خدش، يقول: (ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عودي) {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان:31] ينتظر عليه الصلاة والسلام ساعة الصفر، لهذا كان يعد العدة، ويعد الرجال.

الجرأة في عرض الحق والمواجهة

الجرأة في عرض الحق والمواجهة الميزة الثانية: وهي من المميزات العظيمة جداً: الجرأة في عرض الحق والمواجهة: كان النبي صلى الله عليه وسلم يواجه الناس فما كان يخجل، ولا كان والله يطأطئ رأسه ويخفي بعض المبادئ، فالإسلام كله كان يعرضه على المشركين، قبلوا أو لم يقبلوا: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون:1 - 2] جرأة ومواجهة، بل وقف على الصفا عليه الصلاة والسلام قال: (إني نذير لكم بين يدي عذاب أليم، قال أبو لهب: تباً لك ألهذا جمعتنا سائر اليوم؟! فأنزل الله {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1]) فالأمر فيه جرأة. قام النبي صلى الله عليه وسلم يدعو الناس فأسلم بعض الصحابة، وكان بعضهم يريد أن يكون جريئاً في الدعوة، كـ أبي ذر، فقام، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تخرج) فخرج، ونطق بها صريحة أمام الناس: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فضرب حتى كان كأنه تمثال أحمر من الدم، رضي الله عنه جرأة إعلان مواجهة، لا نقول: مواجهة بالسلاح، ما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا؛ أما الكلام فهو المواجهة وهو الصدع: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر:94] قال ابن الزبير (كان أشراف قريش يقولون في النبي صلى الله عليه وسلم كلاماً، يقولون: والله ما رأينا مثل محمد، سفه أحلامنا، وعاب ديننا، وسب آلهتنا -نعم ما كان يجامل، وما كان يماري، وما كان يداهن، هذه الأصنام في النار أنتم وهي، إن متم على هذا الشرك أنتم وهذه الأصنام كلكم في النار، ما كان يداهن- يقول ابن الزبير -واسمع لتلك القصة-: فخرج عليهم عليه الصلاة والسلام يوماً وكانوا جالسين في المجلس -أشراف قريش عند الكعبة- يقول: فذهب إلى الركن فاستلم الركن فطاف حول البيت -لعل سائلاً يسأل: كيف يطوف والأصنام حول البيت؟ ما كان يبالي عليه الصلاة والسلام، فهو يعبد الله، فأخذ يطوف- فلما طاف الشوط الأول ومر عليهم غمزوه -تكلموا عليه، فلم يبال- فطاف الشوط الثاني، فغمزوه، ثم طاف الشوط الثالث فغمزوه، فأقبل عليهم عليه الصلاة والسلام -ترك الطواف- فقال: تسمعون يا معشر قريش! أما والذي نفس محمد بيده! لقد جئتكم بالذبح -انظر المواجهة- يقول الصحابي: والله حتى ما كان أحد منهم إلا كأن طائراً واقع على رأسه -كل واحد من المشركين تجمد- يقول: أما والذي نفس محمد بيده! لقد جئتكم بالذبح -يعني: إما الدين وإما الذبح والقتل- فيقول الصحابي: حتى كان أشدهم فيه وطأة -يعني: أشدهم أذى للنبي صلى الله عليه وسلم- يقول: انصرف يا أبا القاسم راشداً -انصرف- فوالله ما كنت جهولاً) انظروا! جرأة! لأنه يا إخوان إذا كان المسلم جريئاً يعرض الحق بجرأة ويواجه الناس: هذا منكر وهذا معروف، لا يخجل ولا يجامل ولا يداهن، لو كان صاحب الدين وصاحب العلم في كل مجلس إن رأى منكراً قال: اتق الله هذا منكر -طبعاً بالحكمة ما نقول: بسفاهة لكنه جريء- لو كان في كل مجلس، في السوق مثلاً، في الديوانية، في الجامعة، في الدوام، كل من رأى منكراً، حاول تغييره، وعلم الناس أن هذا منكر، لما كان هذا الوضع الذي نحن فيه، حتى يستحي بعض الملتزمين أن يظهر الإسلام في بعض الأماكن، انظروا ماذا حدث في الأندلس كيف اندثر شيء اسمه إسلام! الآن تذهب إلى أسبانيا ما تتوقع أن هذه بلد خرَّجت علماء، وحكمها الإسلام لقرون طويلة، بل كان خليفة المسلمين فيها. ما أحد كان يظن هذا الأمر، من يذهب إلى أسبانيا ما يظن بأن الأمر نقصته الجرأة والمواجهة. كان عمر رضي الله عنه فتىً جريئاً، عندما أسلم ذهب أمام المشركين فأعلن إسلامه، وعندما هاجر كان الصحابة يهاجرون مستخفين، أما عمر رضي الله عنه فلا، فقد أخبر كل المشركين أنه سوف يهاجر، أي: الذي عنده شيء يفعله، انظر المواجهة. وأبو بكر كان جريئاً يا إخوان، ما كانت القضية في الدعوة المكية كما يقول بعض الناس: السرية والخوف والخجل وإخفاء ما عندك من المبادئ والدين، وكتِّم، لا يا إخوان، بل الأمر يحتاج إلى جرأة، تكتب في الصحافة، تتكلم في التلفاز، تكون جريئاً، تتكلم في المسجد، والسوق، تكلم حتى صاحب المنكر، تأتيه وتكلمه بينك وبينه، تقول: هذا منكر، هذا لا يجوز، حتى في السيارة، توقفها وتقول: يا أخي اتق الله. أين الجرأة؟ افتقدها أكثر الدعاة. أبو بكر رضي الله عنه من جرأته ما كان يصلي في بيته، خرج خارج البيت وجعل له مصلى، فأخذ يصلي في المصلى خارج البيت والناس يمرون حوله، وأخذ يبكي رضي الله عنه، تخيل أبا بكر يبكي، الناس ماذا يفعلون؟ يأتون يستمعون إليه، ماذا يفعل هذا الرجل؟ الأطفال والنساء والشيوخ والرجال، والأغراب يأتون فينظرون من هذا الرجل؟ ماذا يفعل؟ إنه يصلي يسجد ويركع ويتلو القرآن وهو يبكي في الصلاة، إنها جرأة -والله- نحتاج إليها. عمر وحمزة عندما أسلما أخذ كل واحد منهم عشرين رجلاً وعملوا مظاهرة، شبه مظاهرة، خرجوا أمام المشركين بأربعين رجلاً، وأخذوا يمرون على المشركين، كل منهم عنده عشرون رجلاً فقط، يمرون أمام المشركين، ليعلم كل الناس أن هذا الدين باقٍ، لأن بعض الناس -يا أخي- ضعيف الإيمان، يخاف إن أسلم أنه سوف يفقد منصبه، سوف يضيع هذا الحزب الذي يتبعه، سوف تضعف مكانته، يستهزئ الناس به ويسخرون منه، سوف يكون -كما نقول- ذليلاً بين الناس، يخاف، لكنه لو يرى المسلمين جريئين أقوياء، والله يسلم كل الناس، ويتبع الناس هذا الدين. عمر رضي الله عنه كان جالساً بعد الفجر بعدما أسلم -انظروا القوة في الدين- فأتاه المشركون فأخذوا يتعرضون إليه ويرد عليهم، ويسبونه، وهو يدفعهم، فاجتمع المشركون على عمر، وعمر كلنا يعلم من هو عمر، كان إذا ضرب أوجع، وإذا تكلم أسمع، وإذا مشى أسرع، كان رجلاً، فأخذ يدفع الناس ولم يسكت، بعض الناس يظن أن من الحكمة أنه إذا يُضرب يسكت، وأن الدين يُسب ويُشتم العلماء ويُستهزأ بسنة سيد المرسلين، ويظن أن من الدين أن يقول: جزاك الله خيراً، لا هذا ليس من الدين، هذا من الذلة، الدين أن تقول له: اتق الله هذا لا ينفع، هذا دين، تكلم فِيَّ وفي أي واحد، أما في الدين فانتبه. عمر أخذ يُضرب ويُشتم ويُدفع، فأخذ عمر رضي الله عنه يضربهم، يقول الراوي والأثر صحيح ثابت، يقول: [حتى ارتفعت الشمس وهو يدفعهم -من الفجر، وهو يدفعهم رضي الله عنه- حتى جلس من شدة التعب -انظر الآن يدفعهم، ربما ساعات طويلة وهو يدفعهم عنه، حتى جلس من شدة التعب، فأجاره رجل من المشركين، وعندما ابتعدوا عنه أخذ يناديهم -الآن تعب الجسد لكن بقي اللسان، وفيه القوة والعزة، قال: يا أعداء الله -هو الآن يكاد يقتل، ثم يخاطبهم بهذه اللهجة- يقول: يا أعداء الله! والله لو بلغنا فيها ثلاثمائة لأخرجناكم منها] لو كنا في مكة ثلاثمائة لطردناكم من مكة كلكم، انظروا الجرأة، انظروا المواجهة، والله نحتاجها في هذه الأيام. هذه الميزة الثانية، ولعلنا أطلنا فيها.

الابتلاء والصبر

الابتلاء والصبر الميزة الثالثة: والثالثة انتبه إليها: كان النبي صلى الله عليه وسلم يدرس الخطط، وكان الله عز وجل يعلمه خطط المشركين، خطط كثيرة: استهزاء سخرية اتهام ضرب عنف مداهنة إغراء هذه وسائلهم وخططهم، وكان الله عز وجل يعلِّم النبي صلى الله عليه وسلم، بل كان يدرس النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه هذه الخطط، وكانوا يتخذون لكل خطة مسلكاً. فبعض المرات كان يقول للصحابة: اسكتوا الآن، لا أحد يظهر دينه، وبعض المرات كان يأمرهم بالإظهار، وبعض المرات هو الذي يظهر ويصدع، وبعض المرات لا، يسكت النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يتخذ لكل مشكلة حلاً. وقد قالوا عن أفضل الخلق أنه كذاب والأمر صعب جداً يا إخوان! بعد أن توصف بأنك الصادق الأمين طوال هذه السنوات، ويضع الناس أماناتهم عندك يأتون ويقولون لك: أنت كذاب، وأنت كاهن، وأنت ساحر، بل جاءهم بأعظم البينات: القمر، قال: (اخرجوا معي -فخرجوا إلى البر، فشق الله عز وجل لهم القمر فلقتين، فلقة أعلى الجبل وفلقة دون الجبل- فقال لهم: انظروا، اشهدوا، ترون القمر ينشق أمام أعينكم. فأدبروا عن النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: سحرنا محمد، سحرنا محمد) {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ * وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} [القمر:2 - 5]. كان يأتيهم النبي صلى الله عليه وسلم فيدعوهم في المجالس فيقولون: أنت ساحر، أرسلوا إليه الوليد بن المغيرة، وهذا أحد فصحاء قريش وشعرائها، قالوا له: اذهب إلى محمد، فقل فيه قولاً، فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسمعه يقرأ القرآن، فرجع إلى المشركين قال: -عن هذا القرآن- والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو ولا يعلى عليه -هذا القرآن، والحق ما شهدت به الأعداء- فقالوا له: قل فيه قولاً، فكر، وحسب الأمر وقدره، وعبس، وتضايق -ماذا يقول؟ - فأدبر عن المشركين ثم التفت إليهم فقال: قولوا ساحر، فرق بين الولد وأبيه، وبين المرأة وزوجها، قال الله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً} [المدثر:11 - 12] الوليد: {وَبَنِينَ شُهُوداً} [المدثر:13] كان يمشي وأبناؤه عن يمينه وشماله، يفتخر بهم، ومع هذا ما اتعظ: {ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيداً * سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً} [المدثر:15 - 17] مكان في جهنم، انظر الوعيد، لمه؟ {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} [المدثر:18 - 20] لعن لأنه قدَّر هذا التقدير {ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ} [المدثر:21 - 24] {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} [الكهف:5] سحر؟! تعرفُ يا وليد أنه كلام الله حق، وأنه لا يُعلى عليه! {إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:24 - 25] ثم توعده الله عز وجل بعدها: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ} [المدثر:26 - 28] خطط عظيمة جداً. يقول ابن مسعود: [أول من أظهر الإسلام سبعة، كل منهم كان عنده من يحميه إلا بلالاً -يقول: بلال لم يكن عنده أحد يحميه- كان يجر في الرمضاء على ظهره والحجر على صدره وهو يقول: أحد أحد]. يقول: بعض الصحابة أعطاهم ما أرادوا -كان ينطق بكلمة الكفر وهو مطمئن بالإيمان- إلا بلالاً، فـ بلال لم يقلها، كان يقول: أحد أحد. بعض الصحابة كان يُلَف بالحديد ويُسحب في الشمس الحارة. بعضهم يا إخوة كان يوضع على الجمر. وانظر حالنا، لعله لو يوقَف المعاش يبيع الدين! لو الزوجة تحزن والله أول ما يضع اللوم على اللحية! لو ينقص شيء من ماله يقول: خَلِّ دعوتك لك! لو يُهان إهانه قليلة جداً يترك الدعوة شهراً كاملاً، سبحان الله! حال غريب عجيب! كان يوضع على الجمر حتى يطبخ الجلد. كانوا يأتون بأسياخ الحديد تحمى في النار ثم تكوى بها الظهور، أتعلم ما هو الكوي؟ بعض الصحابة كان يفتخر أن ظهره قد كُوِي في سبيل الله. بعضهم كـ عمار يرى أمه أمام عينيه يطعنها أبو جهل برمح في فرجها حتى تموت. الأمر صعب جداً يا إخوان! الخيال سهل أن تتخيل، لكن الحقيقة مرة وصعبة جداً، صعب جداً أن تربط في رقبتك بحبل وتمر بالشوارع ويتبعك الأطفال والعبيد يرمونك بالحجارة فتصبغ الأرجل بالدماء ولا أحد يسأل عنك، يأتي النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمار وأهله فيقول: (صبراً آل ياسر -ما عندي شيء- فإن موعدكم الجنة) تريدون الجنة؟ اصبروا، فما عندي شيء، انظروا هذا الذي أراده الله عز وجل منهم: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2 - 3]. حصار الشِّعب، أتدري ما هو حصار الشِّعب؟ وما أدراك ما حصار الشِّعب؟ (مرت علي ثلاثون ليلة ما عندي أنا وبلال إلا طعام يواريه إبط بلال) يخفي بلال الطعام تحت إبطه حتى يأكلونه، أتدري ما هو حصار الشعب؟! والله لو تتخيله لن تتصوره حقيقة، حصار فيه الأطفال والنساء والشيوخ والرجال، يبكي الأطفال من الجوع وينظرون إلى المشركين يتلذذون باللحوم والأطعمة، ولا يستطيعون أن يفعلوا شيئاً، أحد الصحابة كان يبول في الليل من شدة الجوع، فارتد بولُه -عندما بال كأنه أحس أنه يبول على شيء- فتلمسه فأخذه فإذا هو جلد يابس، فأخذه فحرقه ثم فتته، ثم خلطه بالماء ثم شربه، من شدة الجوع، أتعرف أن أوراق الشجر تؤكل في حصار الشِّعب؟ إنه حصار عظيم ابتلي فيه المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً. ما نفع هذا الأمر: التعذيب السخرية الاستهزاء الضرب حتى إن أحدهم يأتي النبي صلى الله عليه وسلم كـ أمية عليه لعائن الله، فيخنق النبي صلى الله عليه وسلم برداء فما يأتي إلا أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه فيدفعه عنه ويقول: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [غافر:28] فيأتون إلى أبي بكر فيضربونه بنعلين عليه رضوان الله. حتى قيل: (في أحد الأيام كان النبي صلى الله عليه وسلم يسجد عند الكعبة -انظروا التعذيب يا إخوان، لا يضرك نقص المعاش، لا تضرك الإهانة، لا تحزنك تلك الكلمة التي صدرت من الأهل أو من الجيران أو من الصحف، لا، لا تضرك، اسمع إلى الأوائل وإلى قصصهم وسيرهم- النبي صلى الله عليه وسلم يسجد عند الكعبة والأشراف جالسون -أشراف قريش، وما هم بأشراف- فبعضهم يقول: من يذهب إلى سلى جزور بني فلان فيطرحه على رقبة محمد وهو ساجد، فيذهب أشقى القوم عقبة بن أبي معيط، فيأتي بسلى جزور -قذارة من البعير- ويرميها على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساجد، فما يستطيع عليه الصلاة والسلام أن يرفع رأسه، حتى الصحابة ينظرون، لا أحد يستطيع أن يتحرك فقد كتموا إسلامهم، فما تتحرك إلا فاطمة وهي تبكي رضي الله عنها، فتركض إلى أبيها عليه الصلاة والسلام فتدفع عنه ذلك الأذى، فأكمل النبي صلى الله عليه وسلم صلاته وهي تبكي رضي الله عنها وأرضاها، وهو يقول لها: لا عليك يا بنية، ثم قام يدعو فقال: اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بـ عمرو بن هشام، اللهم عليك بـ شيبة بن ربيعة، اللهم عليك بـ عتبة بن ربيعة، اللهم عليك بـ عقبة بن أبي معيط، وأخذ يسميهم، يقول الراوي: ولقد رأيتهم صرعى في يوم بدر) {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر:45]. نعم، إنه الصبر والابتلاء. أتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالإغراء: (إن أردت ملكاً ملكناك -ما نفع التعذيب- إن أردت امرأة زوجناك أجمل النساء، إن أردت مالاً أعطيناك من أفضل أموالنا -ماذا تريد؟ {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم:9]-حتى يرسلون أبا طالب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يريد أن يغري النبي صلى الله عليه وسلم -ما ينفع- أتاه عتبة بن ربيعة يقول: ماذا تريد؟ تريد أي شيء نعطيك إياه، لكن كف عنا ما أنت فيه، اعبد الله وحدك، فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم عندما انتهى: أوَانتهيت؟ قال: نعم. قال: اسمع الآن. قال: بسم الله الرحمن الرحيم: {حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [فصلت:1 - 4] وأخذ يقرأ، قال: حسبك، فخرج عتبة مولياً إلى بيته، فأغلق عليه بيته، يقول المشركون: والله إن به بأساً -يعني: أثر محمد في عتبة - فذهبوا إليه، فقال: والله خشيت أن تنزل عليكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود، كفوا عنه). أتوا يغرونه لكن ما نفع هذا الأمر، وهذا يحصل في هذه الأيام، قد يكون بعض الأيام التعذيب والسجن والضرب ما ينفع عند بعض الدعاة، فيأتون إليهم بالإغراءات كما قال ابن القيم: كان يفعل النصارى بالمسلمين هذا الأمر، يأتون إليه في السجن بأجمل الطبيبات، لتداويه وهو في السجن وهي تفتنه، فتداويه وتطببه وتسهر على راحته، فبعضهم يفتن. ما نفع معه السجن ولا التعذيب ولا الضرب، ما زاده إلا صلابة، لكن الفتنة قد أردته. رجل يسمى سعيد الحلبي، وهو أحدالعلماء، كان جالساً في المسجد ماداً رجليه، وكان به وجع في رجليه، وكان يدرس التلاميذ، فدخل الباشا في ذلك اليوم، فقام إليه الناس، هذا يقبل يده وهذا يوسع له الطريق، وهذا يحيه وهذا كذا، والناس هذه عادتهم، إلا هذا الشيخ فاستمر جالساً مكانه مستنداً إلى اسطوانة المسجد وماداً رجليه باتجاه الباب، فنظر إليه الباشا فغضب، فلما ذهب إلى قصره، قال للحارس: اذهب بهذا المال -صرة بها مال- إلى ذلك الشيخ، وإن سألك فقل له: إن الباشا يريد أن يكرمك للعلم الذي عندك، فأتى ذلك الرجل بصرة المال، فدخل على سعيد الحلبي وهو شيخ كبير فأعطاه المال، فقال له: ما هذا؟ قال: الباشا يسلم عيك، ويقول لك: هذه هدية لك، فقال له: خذ المال وارجع به إليه، وقل له: إن الذي يمد رجليه لا يمد يديه. كلمات عظيمة جداً! إغراء! {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم:9] تريد منصباً نعطيك منصباً، تصير وزيراً لكن تَنازَل، بعض الناس يفتن والله، وليس هو وزيراً، بل لعله منصب تافه جداً، وكل الناس يحصلون عليه، ولكنها الفتنة، وضعف الإيمان. تريد أن تصبح دكتوراً، نعطيك إياها؛ لكن الأمر يحتاج إلى بعض التنازلات، وهذه المصيبة قد يقع فيها كثير من الناس في هذه الأيام.

عدم الاغترار بالكثرة

عدم الاغترار بالكثرة الرابعة: عدم الاغترار بالكثرة: إياك إياك أن تغتر بالكثرة هذه الأيام، فقليل قد تربى على الإسلام وقد صلب عوده، خير من كثير غثاء كغثاء السيل، لأن الكثير -أيها الإخوة- وقت الفتن يتزلزلون، ووقت المحن يضعفون، ووقت الشدة يقول بعضهم: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً} [لأحزاب:12] ويتكلم البعض، ويثبط البعض، فما يبقى إلا الذين تربوا على الدين الصحيح. لا تغرك الكثرة، ولا تطلبها ولكن اطلب الأقوى، حتى قال صلى الله عليه وسلم لـ حذيفة في المدينة: (أحص لي كم يلفظ الإسلام، قال: أوتخاف ونحن أكثر من كذا وكذا -نحن كثيرون- قال له النبي صلى الله عليه وسلم: إنكم لا تدرون لعلكم أن تبتلوا) ما تدرون ماذا يحدث بعد هذا.

مجيء الرد من السماء مباشرة

مجيء الرد من السماء مباشرة الخامسة: الرد من السماء: من مميزات الدعوة المكية: كان يأتي الرد مباشرة من السماء؛ قال أبو لهب: تباً لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1]. أمية بن خلف كان يهمز النبي صلى الله عليه وسلم ويغمزه فأنزل الله: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ * الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} [الهمزة:1 - 3] رد من السماء. أبو جهل يمنع النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْداً إِذَا صَلَّى} [العلق:9 - 10] يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: ادعُ الملائكة وأنا أدعو الذين معي، فقال الله عز وجل: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} [العلق:17 - 18] حتى ذهب أبو جهل فقال: والله لأعفرن وجهه في التراب، وأطأ على رقبته وجسده في الأرض، وهو عند المشركين، فعندما سجد عليه الصلاة والسلام ذهب أبو جهل وقال: والله ما يسجد إلا وأضع رجلي على رقبته، وأعفر وجهه في التراب، فرجع إليهم أبو جهل وهو يضع يديه أمام وجهه، فيقولون له: ما بك؟ ما الذي حدث لك؟ قال: إن بيني وبينه لخندقاً من نار وهولاً وأجنحة، ولو اقتربت منه لتخطفتني، يقول: والله ما أعرف ما الذي بيني وبينه خندق حفرة عظيمة هول وأجنحة وأمور عظيمة، ويقول: والله لو اقتربتُ لتُخُطِّفْتُ، ولتقطعت. رد من السماء، ليس الأمر هزلاً ولا لعباً! أنت معك دين تجابه به الناس لا تخف لا تذل لا تكتم لا تداهن أنت معك رب السماء، والعدو من معه؟ معه الشيطان يغرر به، ومعه جنود إبليس، وحثالة من البشر! وأنت معك الله.

التركيز في الدعوة على الأكثر خدمة للدين

التركيز في الدعوة على الأكثر خدمة للدين وآخر ميزة: تركيز النبي صلى الله عليه وسلم على أكثرهم خدمة للدين:- كان يركز على عمر وحمزة، وهذه ميزة عظيمة أيها الإخوة، يستحب لك أيها الداعية عندما تدعو أي إنسان -ادعُ الناس كلهم ولكن في التركيز- أن تركز على من تظن أنه سوف يخدم الدين، النبي صلى الله عليه وسلم كان يركز على عمر، من عمر؟ يقول ابن مسعود رضي الله عنه: [ما كنا نقدر أن نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر] عندما أسلم عمر كل واحد أظهر إسلامه، وقد كان يخافون فيصلون في البيوت، لكن عندما أسلم عمر أعز الله به الإسلام، أعز الله به المسلمين. وعندما أسلم حمزة لم يستطع أحد أن يتكلم على النبي صلى الله عليه وسلم، أتى إلى المشركين في نواديهم فضرب أبا جهل ضربة، قال: [أتقول فيه ما تقول وأنا على دينه] وأسلم حَمِيَّةً. وبعد أن أسلم حمزة وعمر عزَّ الإسلام. حاول في الدعوة، ادعُ الناس كلهم، وانتشر في الدعوة ولكن في التركيز حاول أن تنتقي الناس، تدعو الناس الذين تظن فيهم النفع، لهذا كان صلى الله عليه وسلم يدعو -إن صحت الرواية-: (اللهم أعز الإسلام بأحد العُمَرين). وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه. وجزاكم الله تعالى خيراً.

الأسئلة

الأسئلة

أهمية وجود الجرأة عند الداعية

أهمية وجود الجرأة عند الداعية Q ما أهمية الجرأة بالنسبة للداعية؟ A أظن ذكرنا أمثلة من الواقع ولعلكم انتبهتم، وهذا ما يحصل يا إخوان هذه الأيام، يستحي الواحد منا أن يقوم في المسجد، ولا يقدر أن يتكلم في السوق، ولو رأى متبرجة وهو يطلب منها حاجة في الوزارة مثلاً كتوقيع أو معاملة -ولنكن صريحين- وهو من أجرأ الناس، لكن أن ينصحها في دينها فهو من أخجل الناس، وهذه مصيبة، وهذا تناقض، يعني: الأمر أنك تستطيع أن تتكلم، وعندك القدرة؛ لكن تحتاج إلى جرأة، لكي تتكلم في مجلس ديوانية، الجماعة مثلاً عندهم ديوانية، فتكلم كل الناس إلا أنت، وحتى أنت تتكلم في أي أمر إلا في الدين، وهذا واقع أكثر الملتزمين هذه الأيام، حتى جلس بعضهم في مجلس فتكلم أحد السفهاء، وكان فيهم رجل علم، فقال له رجل: اسكت، غيرك أولى منك، فسكت، فمضت دقيقة أو دقيقتان ولم يتكلم أحد، فتكلم السفيه مرة أخرى، فقال له رجل: اسكت غيرك أولى منك، فسكت، ثم تكلم الثالثة بعد فترة فقال له: اسكت، قال: لا تسكتني، ليس العيب مني بل منهم، لو كان فيهم رجل لتكلم. نعم. والله مصيبة، انظر في المجالس عماذا يتكلمون؟ يتكلمون عن أتفه الأشياء، عن السيارات، عن الجرائد، عن الديوانيات، عن الأموال، عن كل شيء، أما رجل يتكلم عن الدين، عن الربا، عن الصلاة، عن أمور في الإيمانيات فهذا نادر جداً، واقع لكنه قليل جداً. هذه الجرأة نحتاجها كثيراً، هل جرب أحدنا في المحاضرة في الجامعة -لو كان في الجامعة- أن يقوم ويتكلم، ويدعو النساء، وينصحهن بارتداء الحجاب، ويعطيهن شريطاً؟ وهذا سهل جداً، يحتاج الأمر منك في البداية إلى صعوبة، ثم في المرة الثانية هو حاجز رقيق جداً إن كسرته ستبدأ تنطلق، اسأل الذين يتكلمون في المساجد كالخطباء، اسأل أحدهم عن أول مرة جرب الخطبة، يقول: صعب، المرة الثانية؟ سهلة جداً، بل أخذ ينطلق بعدها بكل يسر وسهولة، هي المرة الأولى فقط، وينتهي الخجل بعدها. فالأمر يحتاج إلى جرأة، ثم بعدها يوفق الله عز وجل، هذه هي الجرأة، وإن قلنا الخطب عن هذا الواقع فأظن تعرفون كيف يكون تطبيقه في الواقع، كما قال الله عز وجل {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:55] يعرف الإنسان أعداءه، لأن هذه -والله- فائدة يا إخوان، لو أن الإنسان منا يشعر أن هناك أعداء علمانيين وروافض ويساريين وأعداء من الفجرة الشهوانيين وغير ذلك، لو يحس أن الأمر فيه أعداء -والله- يتشجع الإنسان، لكنه لو يحس أن الأمر يسير، ناس ملتزمون، وناس عوام، وناس فجرة، وناس فسقة؛ لكن لو يحس أن الأمر فيه أعداء فسيجتهد في الدين، لا بد أن نعرف أن هناك أعداء ونعرف الخطط وندرسها ونواجهها، أما أن الإنسان هكذا لا يعرف شيئاًَ فهذه المصيبة. ولعل عندكم من طلبة العلم من هو أعرف مني في هذه الأمور.

معنى قوله تعالى: (فليدع ناديه)

معنى قوله تعالى: (فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ) Q ما معنى قوله تعالى: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} [العلق:17]! A رد الله عز وجل على أبي جهل عندما أراد أن ينادي أناساً يعينونه على النبي صلى الله عليه وسلم، قال له: ادع أنت الملائكة، وأنا أدعو أناساً يقومون معي: {نَادِيَهُ} [العلق:17] أي: الذين يناديهم، ويستنصر بهم، ويعتز بهم.

في رحاب الجنة

في رحاب الجنة إن الجنة هي سلعة الله الغالية، وهي التي تسابق لأجلها المتسابقون، وشمر لأجلها المشمرون، وذهب لأجلها الشهداء الصالحون، وزهقت لأجلها أنفس كثيرة فمادام أن الجنة بهذه المثابة؛ فيا ترى ما هي أوصافها؟ هذا هو ما تحدث عنه الشيخ حفظه الله، وفي الأخير تحدث عن العمل للجنة، والتضحية من أجلها، والاستعداد لها، وذكر نماذج لذلك.

الجنة وأوصافها

الجنة وأوصافها الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وخاتم النبيين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: أيها الإخوة المسلمون: معنا وإياكم في هذا المجلس المبارك -بإذن الله- وهذا المكان الذي تحفه الملائكة إلى السماء الدنيا، ونسأل الله في هذا المكان أن يذكرنا فيمن عنده، وأن يغفر لنا ذنوبنا ويكفر عنا سيئاتنا. إن الموضوع مشوق ومحفز للنفوس، تطرب إليه الأرواح، والمؤمن يتمنى أن لو سمع مثل هذا الحديث صباح مساء، إنه: في رحاب الجنة. أرجو منك -أيها السامع وأيتها السامعة- أن ننسى الدنيا قليلاً، أو أن نخرج منها لحظات، وكل منا ينسى أشغاله، وينسى أهل بيته، ليعش كل منا وهو يسمع هذه الأحاديث في الجنة، حتى إن الصحابة كما يقول حنظلة: [إذا كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنا نرى الجنة والنار رأي العين]. هلا كنا كما كانوا؛ نرى الجنة الآن رأي العين، نعيش وإياكم عند أنهارها، في قصورها، داخل خيامها، ونعيش وإياكم ونحن نتحدث عن صفاتها، وفي رحابها. يسأل النبي صلى الله عليه وسلم أحد الأعراب عما يقول في الصلاة فقال: (أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار، قال: وحولها ندندن) هذا مطلوبنا، وهذه غايتنا، نسأل الله الجنة ونعوذ به من النار. الجنة التي مات لأجلها الأولون، وذهب لأجلها الشهداء الصالحون، زهقت لأجلها أنفس، وذهبت لأجلها أرواح، إنها الجنة سلعة الله: (ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة).

عرضها السماوات والأرض

عرضها السماوات والأرض سوف نبدأ وإياكم بشيء من أوصافها، ثم لا تعجب حين تسمع أن عمير بن الحمام؛ وهو رجل كبير، قبل بدر يسمع صفة من صفاتها، وهي: أن عرضها كعرض السماء والأرض، فقال: (بخ بخ! قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ما حملك على قولك بخ بخ؟ قال: لا شيء إلا رجاء أن أكون من أهلها فقال له النبي صلى الله عليه وسلم يزف إليه بشارة: فإنك من أهلها) الله أكبر! الله أكبر! يبشر إنساناً من أهل الأرض أنه من أهل الجنة، هل يريد حياة في الدنيا بعدها؟! هل يريد أن يعيش في الدنيا؟! إذا كانت الجنة كما قال صلى الله عليه وسلم: (لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها) فلم يعيش الإنسان إذا علم أنه من أهل الجنة؟! فإذا به يقول عندما سمع أنه من أهل الجنة، وأنه ليس بينه وبين دخولها إلا أن يقتل في المعركة، وكانت في يده تمرات فقال لنفسه: والله إنها لحياة طويلة إن عشت حتى آكل التمرات. وهي تمرة أو تمرتان فقط، فألقاها وتقدم إلى المعركة فقاتل حتى قتل {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111] ومهما عملت في الدنيا من صلاة، وصيام، وعبادة، وقيام ليل فلا تظن أن هذا هو ثمن الجنة، فالجنة أغلى بكثير (والله لن يدخل أحد الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا). الجنة أغلى من أن يكون عملنا ثمناً لها، فإذا بالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة من عنده) فأعمالنا إنما هي سبب لرحمة الله التي هي السبب الحقيقي لدخول الجنة. اسمع إلى الجنة، وتخيل وتصور أنك قد تجاوزت الحساب، وتصور أن موازينك قد ثقلت بالحسنات، وتصور أنك قد جزت الصراط ولم يبق على دخول الجنان إلا فتح أبوابها، ثم يؤذن لهم بالدخول.

أبواب الجنة ومن يفتحها

أبواب الجنة ومن يفتحها الجنة لها ثمانية أبواب، تصور أنك تنتظر دخولها وهي تتلألأ من بعيد، وريحها يوجد من مسيرة أربعين عاماً، لو ابتعدت عنها أربعين سنة شممت رائحتها. الجنة من الذي يفتح له بابها؟ ثمانية أبواب بين مصراعي الباب مسيرة أربعين عاماً. يخرج أفضل الناس وخير الخلق، سيد ولد آدم يوم القيامة محمد عليه الصلاة والسلام، فإذا به يأخذ حلقة من حلقات أبواب الجنة، فيقول الملك: من أنت؟ فيقول: أنا محمد، بكل أدب وتواضع عليه الصلاة والسلام، فيقول الملك: لك أمرت، لا أفتح لأحد قبلك. فتصور أن الباب قد فتح، وتخيل أنك تنظر إلى ذلك الباب، وأنك تنتظر الإذن لتدخل إلى تلك الجنان يقول الإمام أحمد بن حنبل لما سُئل: متى يجد العبد طعم الراحة؟ العبد في الدنيا في أذى وهم وبلاء وفتن، وهو صابر على العبادة متى يجد العبد طعم الراحة؟ قال الإمام أحمد: عند أول قدم يضعها في الجنة. تخيل وأنت تسمع الملائكة تسلم على المؤمنين وهم يدخلون مع آبائهم، ومع أزواجهم وذرياتهم من صلح منهم، كل عائلة إذا كانت صالحة تدخل، كل واحد يقبض بيد الآخر، مع زوجاته، مع أحبابه، مع ذريته، مع آبائهم، يقبض أحدهم بيد الآخر {وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} [الرعد:23] وتستقبلهم الملائكة عند الأبواب تقول: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ} [الرعد:24] على أي شيء صبروا؟ على صلاة الفجر، وعلى قيام الليل، صبروا على صيام التطوع، صبروا على ذكر الله، صبروا على قراءة القرآن {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:24].

أصحاب الجنة

أصحاب الجنة لن يدخل الجنة شيخ كبير، ولا امرأة عجوز، فكلهم يرجعون مرة أخرى شباباً، يرجعون بقوة وشباب، جرداً مرداً مكحلين أبناء ثلاث وثلاثين عاماً، تخيل وهم يدخلون الجنان ماذا يرون؟ وماذا يشاهدون؟ {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ} [الإنسان:20] مهما أخبرتك فالأمر أعظم، مهما تصورت فهي أكبر {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً} [الإنسان:20] تخيل وأنت تدخل، أرضها بيضاء كالمرآة، تربتها الزعفران واللؤلؤ والياقوت. تقول: وهل أعرف مكاني إذا دخلت فيها؟ أقول: إذا دخلت إلى الجنة تعرف مكان قصرك أكثر مما تعرف بيتك في الدنيا. أما من ينتظرك في ذلك القصر؛ وفي تلك الخيام، وما ينتظرك من النعيم مهما تصورت فلن تعلم {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أعْيُن} [السجدة:17] مفاجآت وجوائز ونعيم عظيم لن تتصوره (فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر). أتعلم أن أدنى أهل الجنة منزلة، آخر من يخرج من النار ويدخل إلى الجنة: رجل له مثل ملك الدنيا وعشرة أمثالها! فيا من تقاتلوا لأجل الدنيا، ونسوا الصلاة، وفرطوا في الأذكار، وهجروا القرآن لأجل حفنة من الدنيا، اعلموا أن آخر أهل الدنيا دخولاً الجنة؛ له مثل الدنيا وعشر أمثالها. (يدخل عمر على النبي صلى الله عليه وسلم يوماً، فيراه نائماً على حصير قد أثر في جنبه، فبكى عمر، فقال صلى الله عليه وسلم: ما يبكيك يا عمر؟ قال: ملوك كسرى والروم ينامون على الديباج والحرير وأنت تنام على حصير! قال: ويحك يا بن الخطاب أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟). مناديل سعد أرأيت المناديل التي ترمى ولا يؤبه لها (مناديل سعد في الجنة خير مما طلعت عليه الشمس). جاء في حديث: (لو أن ما يحمل ظفر من الجنة بدا -لو واحد يحمل بظفره شيئاً من الجنة، فيخرجه من الجنة، أتعرف ما الذي يحصل؟ - لتزخرفت خوافق السماوات والأرض). وفي حديث آخر: (لو أن امرأة من الحور العين اطلعت إلى الأرض لأضاءت ما بين السماء والأرض، ولملأته ريحاً، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها) {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]. تصور نفسك أيها العبد المؤمن الصادق! يا من تحافظ على صلاة الفجر! يا من لك ورد من القرآن! يا من تصلي شيئاً من الليل! يا من ترفع يديك تطلب النجاة من الله! تصور نفسك وقد دخلت الجنان، تنعم فيها ولا تبأس، لا تظمأ فيها ولا تضحى، تصور ما الذي تراه؟! لا شمس في الجنة، سبحان ربي! من أين يأتي الضوء؟! وفيها ظلال، سبحان الله! ومن أين يأتي الظلال إذا لم يكن فيها شمس؟! {لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً} [الإنسان:13] أي: لا شمس، ولا برد، من أين تأتي الأنوار؟! يقول شيخ الإسلام: نور يأتي من قبل عرش الرحمن فيضيء لأهل الجنان. الله أكبر!

أنهار الجنة

أنهار الجنة تصور نفسك وقد دخلت، ما في الجنة شجرة إلا وساقها ذهب، حصباؤها الزعفران واللؤلؤ والياقوت، تمر على أنهار من لبن، أنهار من خمر، كل منكم يرى هذا بعينه، لبن لا كلبن الدنيا، خمر لا كخمر الدنيا، عسل مصفى يجري على الأرض، أتتصور هذا! {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً} [محمد:15]. تخيل أنك تجلس على ضفاف نهر من هذه الأنهار، نهر من لبن، نهر من عسل، نهر من خمر لا كخمر الدنيا (من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة) قال بعض أهل العلم: لا يدخل الجنة إذا لم يتب، وقال بعضهم: إذا دخل الجنة فإنه لا يشربها داخل الجنة، ومن قال: لا يدخل الجنة، قال: إذا استحل شرب الخمر ونهر من عسل، نهر من لبن أبيض من لبننا، وأحلى من طعمه في الدنيا، تخيل أنك تجلس على هذه الأنهار أنهار الدنيا تجري في أخاديد، أما أنهار الجنة فلا أخاديد لها، تقول: وكيف تجري؟! وكيف تسير على أرض الجنة؟! أقول لك: تسكب على أرض الجنة سكباً. قال تعالى: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ} [الواقعة:27 - 28] أتعرف ما هو السدر؟ إنه شجر فيه شوك لكنه في الجنة مخضود، ذهب شوكه وصار مكان كل شوكة ثمرة، تفتق هذه الثمرة من أكثر من سبعين لوناً لم نرَ مثلها في الدنيا: {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ * وَظِلٍّ مَمْدُودٍ * وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ} [الواقعة:28 - 31] مائة عام يسير الراكب الجواد في هذا الظل لا يقطعه، أتتصور هذا! أتتخيل هذا يا عبد الله! أي شجرة هذه؟! يجلسون على الأرائك، إذا اشتهى ثمرة من الشجرة لا يقوم من مجلسه، تدنو له الثمرة إلى مجلسه، فيقطفها فيأكلها إذا شاء، لهم فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ * وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} [الواقعة:32 - 34] فرش ترفع من ديباج (حرير) أسرة يجلس ويتكأ عليها. يجتمع أهل الجنان يتحدثون، فإذا بهم يتذاكرون الدنيا، وأحزانها، ومصائبها وآلامها، يوم صبروا على الجهاد، وصبروا على طاعة الله، يوم جلسوا في المساجد يذكرون الله، يذكر بعضهم بعضاً أتذكرون القيام في رمضان؟ أتذكرون مجالس الذكر في ذلك المسجد؟ أتذكرون حين ذهبنا إلى العمرة وحججنا بيت الله؟ أتذكرون أيام الجهاد؟ {قَالوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} [الطور:26] أي: خائفين من الله {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:27].

الشوق إلى الجنة

الشوق إلى الجنة سعد بن خيثمة استهم هو وأبوه في معركة بدر من يذهب للجهاد؟ لم يكن في البيت إلا رجلان؛ الأب والابن، من يجلس مع النساء؟ لا بد أن يذهب واحد ويبقى الآخر، فاستهم سعد مع أبيه خيثمة، فوقع السهم على الابن سعد، فقال له أبوه: يا بني! آثرني اليوم واذهب في المعركة الأخرى. فقال الابن لأبيه: يا أبت! لو كان غير الجنة لفعلت، أما الجنة فلا أؤثر بها أحداً، فدخل سعد المعركة وقاتل حتى استشهد في سبيل الله، أما أبوه فلم يصبر وانتظر أحداً فخرج مع المقاتلين واستشهد في سبيل الله {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب:23]. يأتي جبريل إلى رسول الله ويخيره؛ وقد جاءت منيته، واقتربت وفاته: أتريد أن تعيش أكثر أم تلتحق بالرفيق الأعلى؟ ماذا سيختار. هل سيختار هذه الدنيا الفانية؟ هل سيختار هذه الدنيا التي فيها الهم والغم والنكد والأحزان والأمراض؟ قال: بل الرفيق الأعلى، وحقاً كما قال، قبض عليه الصلاة والسلام، واختار الآخرة على هذه الدنيا الفانية {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:96].

الحور العين

الحور العين تخيلوا أيها الرجال! أيها المؤمنون! ما للرجل في الجنة من الحور العين، الحورية الواحدة على رأسها تاج فيه لؤلؤ وياقوت، الياقوتة الواحدة خير من الدنيا وما فيها، تلبس سبعين حلة، هذه الحورية يرى مخ ساقها من وراء الحلل واللحم. أرأيت إلى نعومتها وجمالها؟ يغنين لأزواجهن، بل أخبر الله أنهن: {قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:56] {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً} [الواقعة:35 - 36] مهما وطأها الرجل ترجع بكراً {عُرُباً أَتْرَاباً} [الواقعة:37] نفس السن: {لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة:38] أي: لأهل الصلاة، لأهل الذكر، الذين صبروا عن الحرام، وغضوا أبصارهم عن الحرام. وإذا سأل النساء: هذا للرجال فمالنا؟ أما المرأة الصالحة إذا دخلت الجنة فإنها تكون سيدة على الحور العين، وجمالها لا يقارن بجمال الحور العين، وحسنها وكرامتها أعظم بكثير من الحور العين، لمن هذا؟ {لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ * ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ} [الواقعة:38 - 40] قال بعضهم يصف تلك الحور: فلو أن حوراً في الدياجي تبسمت لجلَّى دجى الظلماء في الأرض نورها ولو مُزِجَ الماء الأجاج بريقها لأصبح عذباً سلسبيلاً بحورها ونصيفها -أي: خمارها- خير من الدنيا وما فيها. يا من فرط في الصلاة لأجل شيء من الدنيا! يا من ضيع القرآن من أجل حطام الدنيا! ألا تعقل ألا تفكر ألا تنتبه لنفسك؟! مالك بن دينار قال له رجل: رأيت فيما يرى النائم رأى رؤيا يُكلم عابداً زاهداً، تقياً لله، رجلاً ورعاً يسمى مالك بن دينار، يقول له رجل: يا إمام! رأيت فيما يرى النائم أن منادياً ينادي: الرحيل الرحيل، فما رأيت رجلاً يرتحل إلا محمد بن واسع؛ أحد الصالحين، أحد العباد، أحد الزهاد، يقول: ما رأيت أحداً يرتحل إلا محمد بن واسع. فصاح مالك وبكى، ومن شدة البكاء سقط على الأرض مغشياً عليه {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة:10] هناك من سبق، هناك من وصل، هناك من بشر بالجنة وهو على الأرض يمشي {أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [الواقعة:11 - 12] ألسابقون بجمع المال، أم السابقون بالشهوات، أم السابقون بالطعام والشراب؟ لا وربي، بل السابقون بقيام الليل، بالصلوات الخمس، بصلاة الفجر في الجماعات، السابقون بذكر الله. يمشي النبي صلى الله عليه وسلم يوماً من الأيام فإذا به يقول للصحابة: (سبق المفردون، قالوا: من المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات) وقال صلى الله عليه وسلم: (من قال: سبحان الله العظيم وبحمده، غرست له نخلة في الجنة) فأين الذاكرون؟ النخلة في الدنيا يزرعها الإنسان شهوراً، ويتعب عليها شهوراً؛ لأجل أن يحصل على شيء من ثمارها وربما لا يحصل، أما في الجنة فما من شجرة إلا وساقها ذهب، ونخلة بالجنة لا تريد منك إلا ثواني معدودة (من قال: سبحان الله العظيم وبحمده غرست له نخلة في الجنة) الله أكبر! كم تنتظر في الدنيا لأجل بيت من البيوت، أو شقة تسكنها؟ كم تجمع، وكم تتعب، وكم تنصب، ولا بد منها، هذه متطلبات الدنيا والحياة، أما بيوت الجنة؛ فلبنة من ذهب ولبنة من فضة لا كذهب الدنيا وفضتها، وملاطها ممسوحة بالمسك، الله أكبر! ما راحتها، ما جمالها، ما منظرها؟ إنه ذهب وفضة ومسك كيف تحصل على بيت في الجنة؟ (من قرأ (قل هو الله أحد) عشر مرات بني له بيت في الجنة) كم مرة فعلتها اليوم؟ كم مرة صنعتها اليوم؟ أرأيت كم نحن مفرطون في الأجور والحسنات، وكم ضيعنا من الأوقات، وكم ضيعنا من الأعمار؟ إن بعض الناس لا يحلو له في سيارته من بيته إلى العمل، أو في أي مشوار إلا أن يضع أشرطة الأغاني والطرب والموسيقى، ولو استغل هذه الأوقات بذكر الله، وبقراءة القرآن، وباستماع الدروس والمواعظ، لكم قد بنيت له بيوت وبيوت في الجنة، وغرست له أشجار وأشجار في الجنة، ولكن: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر:56].

طعام أهل الجنة وشرابهم

طعام أهل الجنة وشرابهم أخي الكريم: في الجنة طعام وشراب، ما تشتهية؛ لكن لا من جوع ولا من عطش، لا من ظمأ ولا من نصب، ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، يقول الله جل وعلا: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ} [الواقعة:20] * {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة:21] غلمان يمشون في الجنة؛ خدم لأهل الجنة، الذين يدخلون الجنة لهم غلمان إذا رأيتهم في الجنة حسبتهم لؤلؤاً منثوراً، يمرون على أهل الجنان بأكواب وأباريق؛ وقوارير من فضة، وكيف تكون القوارير من فضة؟ القوارير من زجاج، نعم هي قوارير لكنها من فضة، إن لم تتصور هذا فصدق، فسوف تراه -بإذن الله- في الجنة، يمرون عليهم بالكئوس، بالقوراير، بالطعام والشراب، وهم على الأرائك يتحدثون ويتسامرون ويتكلمون.

حديث أهل الجنة

حديث أهل الجنة فإذا بقائل يخرج بينهم فيسألهم سؤالاً غريباً، إنه حديث أهل الجنة بعضهم لبعض، وانظر إلى هذا الحديث العجيب الذي أخبرنا الله عنه، يقول: أيها الإخوة: يا أصحابي! يا إخواني! يا رفقائي! من منكم رأى فلان بن فلان؟ هذا كان صاحباً لي في الدنيا، فهل رآه أحد؟ هل اطلع على مكانه أحد؟ فلا أحد يجيب، لم يره أحد! يقول هذا الرجل، وهذا الصاحب: كنت أصاحبه في الدنيا، ولما أقبلت على الهداية، وتبت إلى الله، وأقبلت على حلق العلم والذكر والصلاة كان يصدني، وكان يمنعني، وكان يحرضني على المعاصي. ولما أرادت تلك الفتاة أن تتحجب، وأن تلتزم بدين الله وبشرع الله، وأن تقبل على الصلاة وتلتزم مع الصالحات؛ جاءتها فلانة فقالت لها: يا فلانة! ضحكوا عليك، يا فلانة! استهزءوا بك، يا فلانة! غرروا بك، لنتمتع بشبابنا، لنتمتع مع الرجال الشباب، ثم بعدها نتوب. وجاء ذلك الشاب وأراد أن يضيع هذا الصالح فقال له: يا فلان اصبر! لنلهو بهذه الدنيا؛ لنتمتع بها، ثم بعدها نتوب، لكنه بفضل الله ما سمع كلامه، وأصر على التوبة، وتمسك بالهداية، واختلط بالصالحين، والتزمت هي مع الصالحات، وتحجبت وتسترت، وما سمع أحد منهما كلام ذلك الرجل الضال، أو تلك الفتاة الضالة، فإذا به يسأل: هل رآه منكم أحد؟ ما رآه أحد. وفجأة تُكشف لهم النار وهم في الجنة، إنا لله وإنا إليه راجعون! إنها النار بلظاها وسمومها وحرها، لا يصلهم منها شيء ولكنهم يرونها، فإذا به يرى صاحبه في النار يحترق، أو هي ترى صاحبتها في النار تحترق، فإذا بالحديث بين هذا وهذا، كلاهما يرى الآخر، هذا يحدث هذا، وهذا يرد على هذا، الله أكبر! يقول له: {تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} [الصافات:56] {وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [الصافات:57] أي: لولا أن الله ثبتني وعصمني وصبرت مع الصالحين لكنت معك الآن في النار {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ} [الصافات:50 - 51] في الجنة {إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} [الصافات:51] صاحب {يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ} [الصافات:52 - 53] متى سيأتينا الموت؟ إلى الآن في الحياة متسع، أنت شباب تمتع بهذه الدنيا، يغرر به {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ} [الصافات:53] هل تصدق بالحساب؟ {قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ} [الصافات:54] انكشفت النار {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ * قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [الصافات:55 - 57] نعمة الله، هو الذي يثبت، وهو الذي يهدي، وهو الذي يعصم. وجعل الله لك أسباباً: صحبة صالحة، مساجد، حلق علم، ذكر الله، قراءة قرآن {وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [الصافات:57] ثم يلتفت إلى أهل الجنة وهو سعيد متمتع فيقول: {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ} [الصافات:58] هل حقاً ليس في الجنة موت: {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:58 - 61] لمثل هذا الموقف، لمثل هذا النعيم، لمثل تلك الجنان فليعمل العاملون، لا مرض، لا سقم، لا هم، لا غم، لا مصائب. تخيل وأنت في الجنة متنعم، تلهو وتمرح، وتأكل وتشرب، وتجامع ما شئت من النساء، حتى النوم ليس هناك نوم في الجنة، حتى النوم منعوا من النوم لأنه موتة صغرى، وليس في الجنة موت حتى يتنعموا بما يشاءون في تلك الجنان.

الزيادة لأهل الجنة

الزيادة لأهل الجنة وفي تلك اللحظات، يناديهم الرب جل وعلا فيقول لهم: (عبادي! تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقول المؤمنون أهل الجنة: يا رب! وأي شيء؟ ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجيّنا من النار، ماذا نريد أكثر من هذا؟ فإذا بربنا جل وعلا يكشف الحجاب، فيرون ربهم، فما أعطوا في الجنة شيئاً أحب إليهم من النظر إلى الله) {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23] ينسون نعيم الجنة كله، ينسون القصور والخيام والحور والأنهار، ينسون نعيم الجنة كله إذا نظروا إلى الله، إنه المزيد: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:35].

العمل للجنة

العمل للجنة ألا تستحق هذه الجنة -أيها الأخ الكريم- ركعات آخر الليل؟ ألا تستحق هذه الجنة أن نقوم لصلاة الفجر؟ ألا تستحق منا هذه الجنة -أيتها النساء- أن نستتر لله ونعف أنفسنا لله؟ ألا تستحق هذه الجنة أن نتقي الله في السر والعلن؟ فحي على جنات عدن فإنها منازلنا الأولى وفيها المخيم وحي على روضاتها وخيامها وحي على عيش بها ليس يسئم فيا ساهياً في غمرة الجهل والهوى صريع الأماني عن قليل ستندم أفق قد دنى الوقت الذي ليس بعده سوى جنة أو حر نار تضرم أخي الكريم: عمرو بن الجموح لما سمع بالجنة وأوصافها وكان أعرج، نودي للجهاد وقد عذره الله عز وجل: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ} [النور:61] فقال لأبنائه: جهزوني للجهاد، الأمر فيه جنة عرضها السموات والأرض، قال: جهزوني، قالوا: يا أبانا قد عذرك الله، قال: جهزوني، قالوا: يا أبانا قد عذرك الله، قال: والله لأطأن بعرجتي هذه الجنة، تمنعوني عن الجهاد! فقال لهم النبي عليه الصلاة والسلام: دعوه! فدخل، فإذا به يقتل في سبيل الله، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (لكأني أنظر إليه يمشي برجلين سليمتين في الجنة). وهذا عبد الله بن غالب رآه مالك بن دينار في معركة من المعارك، وهو يقول: إني أرى ما ليس لي عليه صبر، يرى شيئاً ما رآه الناس، قال: إني أرى ما ليس لي عليه صبر، ثم قال لمن حوله: روحوا بنا إلى الجنة، روحوا بنا إلى الجنة، فكسر غمد سيفه، فلا زال يقاتل حتى قتل. أسمعت بـ جعفر الطيار؟ جعفر بن أبي طالب، الذي هاجر بدينه، ثم جاء إلى المدينة فأمَّره النبي صلى الله عليه وسلم في مؤتة، فأخذ الراية بيده اليمنى فقطعت، ثم أخذ الراية بيده اليسرى فقطعت، ما ولى، وما أدبر، ولا هرب، ثم أخذ راية الإسلام بعضديه وضمها وثبتت الراية، فتكسرت الرماح على ظهره وصدره وهو يقول: يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها والروم روم قد دنا عذابها كافرة بعيدة أنسابها ثم لفظ الشهادتين واستشهد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (رأيته يطير بجناحين في الجنة). لِمَ يفعلون كل هذا؟ لأنهم سمعوا قول الله: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21]. اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل. أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم.

الأسئلة

الأسئلة

الأقصى الجريح

الأقصى الجريح Q هل من كلمة حول الأقصى؟ A أنا سوف أتكلم، وإن كنت أول المقصرين، الأقصى يئن تحت وطأة اليهود عشرات السنين وعقود من الزمن، المشكلة ليست فقط في الأقصى حرمات كثيرة للمسلمين تنتهك اليوم، والمسلمون أكثر الأمم اليوم ولا شأن لهم، ولا دور لهم في الأمم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها، قالوا: أومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: بل أنتم كثير، لكنكم غثاء كغثاء السيل، قد أوهن قلوبكم حبكم الدنيا، وكراهيتكم الموت) نعم. نحن اليوم نفرح بأن هذا الجمع أتى للمحاضرة، وقد لا تكرر هذه الجموع كثيراً، وكم يبلغ هذا الجمع؟ مائتان، ثلاث مائة، خمس مائة، ألف، نحن نعلم أن بعض جموع المسلمين تبلغ عشرين وثلاثين ألفاً، يجتمعون لأجل لعب كرة القدم، ويجتمع ألوف من البشر من أول الليل إلى آخره لأجل مطربة ومغنية، ويجتمع كثير من المسلمين بالألوف لأجل تفاهات الدنيا، ولكن من منهم يجتمع لأجل ذكر الله؟! القليل القليل (قد أوهن قلوبكم حب الدنيا وكراهية الموت). يجب علينا أن نجاهد في سبيل الله لنحرر الأقصى، ولكن أين الجهاد؟ وأين عدته؟ من يفتح لهم الباب؟ {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60]. ومجالس الذكر اليوم والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة من أعظم الإعداد نشر الدين، ونشر الصلاح بين الناس، والصحوة الإسلامية اليوم هي التي تقض مضاجعهم، لِمَ يحاربوننا بالإعلام، وبالجنس، وبالفساد، والمخدرات والمسكرات؟ لأنهم يخافون من الصحوة الإسلامية، يخافون من امتلاء المساجد، يخافون من أهل الدين والصلاح وحفظة القرآن، يخافون من الذين يجتمعون على مثل هذه المجالس، لكن نقول: هذه هي البداية، البداية الآن بملء هذه المساجد، حلق العلم، نشر الدين، الشريط الإسلامي، نشر الحجاب بين النساء، هذه هي البداية، وهو الإعداد الحقيقي اليوم حتى نؤسس في قلوبنا الإيمان، وحب الجهاد، والاستعداد له، وبإذن الله جل وعلا لن يقف أمام المسلمين يهود ولا غيرهم، فهم أذل وأخس وأقل من أن يقفوا أمام جموع المسلمين، لكن إذا صدق المسلمون ورجعوا إلى دينهم وتوكلوا على ربهم {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:249] بإذن من؟ بإذن الله، إذا كانت هذه الفئة القليلة متقية لله عز وجل.

كيف يكون الإعداد؟

كيف يكون الإعداد؟ Q نرجو منكم الدعاء للمجاهدين، وكيف يكون الإعداد السري؟ A اللهم ثبت قلوبهم، اللهم ثبت أقدامهم، اللهم ألف بين قلوبهم، اللهم اجمع كلمتهم، اللهم انصرهم على عدوهم يا رب العالمين. اللهم من أراد بنا وبالإسلام والمسلمين سوءاً فأشغله في نفسه، واجعل تدبيره تدميره، ورد كيده في نحره. أما بالنسبة للإعداد السري فأولاً: لا بد أن يعد كل إنسان منا نفسه، نحن الآن نقول: نريد الجهاد، وإخراج اليهود، والأعداء في الشيشان وفي كشمير وفي غيرها من البلاد، نعم. ولكن أول الجهاد جهاد النفس في صلاة الفجر، أين نحن اليوم في صفوف صلاة الفجر؟! أمة لا يصلى الفجر منها في المساجد إلا ربع المصلين أو عشر المصلين أمة لا ينصرها الله، أمة ظهرت فيها الأغاني والملاهي، وانتشر فيها الفساد لا ينصرها الله، كيف ينصرنا الله عز وجل وإلى الآن ما انتصرنا على شهواتنا، ولا على أنفسنا؟! فأول الجهاد: هو إعداد النفس للجهاد، أعد نفسك إيمانياً، عقائدياً، تربوياً، علم هذه النفس أن تتربى متى بدأ الجهاد في العصر النبوي؟ ثلاث عشرة سنة في مكة إعداد، ثم سنتان في المدينة ثم بعدها إذن لهم في القتال، حتى قال الصحابة في مكة: ائذن لنا يا رسول الله نقاتل. قال: لا. لم يؤذن لي. وأنا لا أقول: ليس هناك جهاد، الجهاد باقٍ إلى قيام الساعة، والإعداد يجب أن يمضى إلى قيام الساعة، الإعداد بالنفس والبدن والمال، لكن ابدأ بأول قضية: فأعد نفسك بالإيمان، جاهد نفسك في قيام الليل، في صلاة الفجر، جاهد نفسك عن المعاصي والذنوب، ثم بعدها كما قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله، قال: أعظم غزو اليوم الغزو الثقافي، كل بلاد الإسلام الآن مغزوة، نعم. إن كانت فلسطين، وإن كانت كشمير والشيشان قد سلبت وطرد أهلها، وحرموا من ديارهم وعذبوا وقوتلوا، فليست هذه البلاد هي المغزوة فقط، بل كل البلاد اليوم مستباحة، إن لم تستبح بالقوة العسكرية استبيحت بالشهوات، بالجنس، بالخمور، بالمخدرات، الغزو الثقافي اليوم يطرق كل بيت عن طريق الفضائيات أين المجاهدون بالكلمة؟ أين الدعاة الناصحون؟ أين المخلصون الذين ينشرون دين الله؟ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر) كلمة قد تكون بالجهاد، وقد تكون بالمال، وقد تكون بالنفس. المهم أن الإعداد يكون بكل طريق، ويكون بكل وسيلة، وأول الجهاد جهاد النفس، نعد أنفسنا ونربيها أولاً على طاعة الله، وننشر الدين والخير بين الناس؛ لعل الله عز وجل أن يأتينا بجيل يحبون الموت كما يحب هذا الجيل الحياة، والله أعلم. السؤال: ما المقصود بكلمة الإعداد السري؟ الجواب: لعل كلمة (السري) مخيفة، في الدين -ولله الحمد- كل شيء علن، حتى قال أبو بكر: (يا رسول الله ائذن لي بالمجاهرة، قال: لا بعد) هذا فقط في بداية الدعوة، ثم لما أذن لـ أبي بكر أن يقوم كان أول خطيب في الإسلام، جهر أبو بكر بالدعوة وإلى اليوم الدعوة في جهر بفضل الله عز وجل {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة:33] نحن اتفاقياتنا ومعاهداتنا منشورة في كل المساجد (القرآن) ليس عندنا إلا قال الله وقال رسوله، نبايع على هذا ونعيش على هذا ونموت على هذا، القرآن والسنة، ليس لدينا شيء نخفيه، ندعو الناس إلى عبادة الله وترك عبادة غيره، التزام سنة رسول الله وترك الأهواء والبدع، لا ندعو إلى غير هذا، ديننا واضح ومنهجنا صريح وندعو إلى الله عز وجل في رابعة النهار، ولا نخشى في الله لومة لائم.

تتبع عورات العلماء

تتبع عورات العلماء Q هل من كلمة تطرق بها أسماع الذين يتتبعون عورات العلماء؟ A يقول أحد السلف: إذا رأيتم الرجل منشغلاً بعيوب غيره عن عيب نفسه، فاعلموا أنه قد مُكر به. إذا بدأ الرجل ينشغل بعيوب العلماء وطلبة العلم، ويتتبع عثرات الدعاة فقد هلك. وأخص هؤلاء؛ لأنهم أفضل الناس، ومن أفضل من العلماء وطلبة العلم والدعاة إلى الله، الذين يبلغون دين الله، ويرتبطون مباشرة مع الله، من أفضل منهم؟ إنهم صفوة الله في خلقه، حتى قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان إلى قلبه! لا تتتبعوا عورات المسلمين، فإن من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه ولو في بيته) الله يتكفل بتتبع عورته، وأي تتبع للعورات من رجل يبحث في عالم من علماء أهل السنة، متمسك بأصول أهل السنة والجماعة يبحث في كتبه ويتصفح أشرطته، لا لطلب العلم، ولا للاستفادة، ولا للهدى ولكن يبحث عن السقطات والزلات، أعوذ بالله! من الذي لا يخطئ؟ لا معصوم بعد رسول الله إلا كتاب الله جل وعلا، هل هناك معصوم؟ هل هناك رجل لا يخطئ أو لا يزل؟ للأسف، لقد انشغل ومكر به ولم يوفق للخير، نسأل الله أن يهدينا وإياه.

حكم الدخول على النساء

حكم الدخول على النساء Q ما حكم الدخول على النساء؟ A يقول النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث يكفيه: (إياكم والدخول على النساء) يخاطب الرجال الشرفاء، الأنقياء الأتقياء الصالحين، يقول: (إياكم والدخول على النساء! قالوا: يا رسول الله أرأيت الحمو؟ -وهو قريب الزوج، كأخيه أو ابن عمه- قال: الحمو الموت) أي: هذا أخطر؛ لأن المرأة إذا أحبت رجلاً لصفات، فقد تحب أخاه؛ لأن الصفات تتشابه، والعادات تتشابه بين الإخوان، ولهذا قد تحبه.

أقسام العلماء

أقسام العلماء Q كم أقسام العلماء؟ A العلماء ثلاثة أقسام: عالم أمة وعالم دولة، وعالم ملة، أما عالم الأمة فهو الذي يرى إلى الناس ماذا يريدون ويفتي بهواه، إن أرادوا الأمر مباحاً أباح لهم، وإن أرادوه حراماً حرمه، وإن أرادوا الجواز أجاز لهم، وهذا موجود، بعض الناس يسأل عن مبتغى السائل فيجيبهم، وعالم آخر عالم دولة، ما تملي له السلطات الرسمية بالفتوى فيفتي، يشتري به ثمناً قليلاً، نسأل الله أن يعافينا، والعالم الثالث هو المطلوب، وهو نور لهذه الأمة، وهم ورثة الأنبياء، عالم ملة لا يفتي إلا بما رآه هو الحق في دين الله عز وجل، لا يشتري به ثمناً قليلاً، ولو كان الأمر على قطع رقبته، لا يخافون في الله لومة لائم، هذا هو العالم الذي يريده الله عز وجل، والله جل وعلا يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:159 - 160] فإن كان من الناس من أفتى بهواه أو بخلاف شرع الله؛ لأجل غرض من الدنيا، أو هوى يصيبه، فليتق الله، وليتب، وليبين: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} [البقرة:160] يبين الخطأ الذي وقع فيه، ويفتي بالحق مرة أخرى {فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:160] والله عز وجل قد فتح باب التوبة للناس حتى تطلع الشمس من مغربها. وصلى الله وسلم على نبيه محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أشد ما تجدون من الحر

أشد ما تجدون من الحر إن من علامات الإيمان أن الإنسان إذا حصل له شيء أو رأى شيئاً أنه يتذكر به يوم القيامة أو الشيء المماثل له في يوم القيامة، فمثلاً إذا جاء الصيف -ومعلوم أن الجو حارٌ فيه- تذكر حر ذلك اليوم وحر جهنم، وحر الشمس عندما تدنو من العباد حتى ما يكون بينها وبينهم إلا قدر الميل. ومثل ذلك إذا رأى المؤمن الأشجار الخضراء والأنهار الجارية، فإنه يتذكر بها الجنة والنعيم الذي فيها، مما أعد الله فيها لأهلها، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

حال أهل النار في النار

حال أهل النار في النار إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المسلمون: إن الناس في هذه الأيام لعلهم يشتكون من شدة الحر، ولعل هذه الأيام هي أيام فيها عبرة وعظة للعبد المؤمن الصالح، ففي صحيح البخاري (أن النار اشتكت إلى ربها فقالت: يا رب! أكل بعضي بعضاً، فأذن لها بنفسين: نفس في الصيف ونفس في الشتاء، فأشد ما تجدون من الحر، وأشد ما تجدون من الزمهرير) أي: ذلك من نفس جهنم ومن فيحها. وقال عليه الصلاة والسلام كما في صحيح البخاري: (أبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم). إن ما نجده من شدة الحر، ومن السموم هذه الأيام، إنما هو من نفس جهنم ومن فيحها، وصدق عليه الصلاة والسلام الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، إن للناس أسباباً مادية يرونها، ولكن فوق هذه الأسباب، أسباب وخلف هذه الأسباب تقدير من الله جل وعلا. ثم -يا عبد الله- اعلم أن هذا الحر الذي لا يطيقه كثيرٌ من الناس إنما يدفعونه عن أنفسهم بثلاثة أمور: إما بماء بارد يشربونه، أو ظل يستظلون به، أو هواء بارد يتكيفون به فيجلسون تحته، واعلم أن النار ليس فيها أي شيء من هذه الثلاث: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ} [الواقعة:41]. أما الهواء: فهو السموم الحار الذي لا يطيقه أحدهم، والذي يلفح الوجوه {فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ} [الواقعة:42] الحميم: هو ماؤهم، إذا اقترب أحدهم منه شوى وجهه، وانسلخت فروة رأسه، وهم لا يتحملون شربه؛ بل يصهر ما في بطونهم والجلود، هذا هواؤهم وهذا ماؤهم يفرون إلى أين؟ إلى ظل جهنم يستظلون به: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ} [الواقعة:41 - 42] ثم الظل {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ} [الواقعة:43 - 44] يجلسون تحت ظلها، هل سمعت بظل النار؟ إنه ظل منقطع ذو ثلاث شعب وثلاثة أقسام، يقال: {انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ * لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ} [المرسلات:30 - 31] لا ظليل: أي لا ينفعهم ذلك الظل، إذا رأيت إلى ظله ليس بكريم، بل لا يغني من لهب جهنم ولا من حرها؛ لأنها تزفر وتشهق وتتطاير منها الشرارة الواحدة كالحصن وكالقصر، منظرها كالجمالة السود التي سماها الله عز وجل جمالة صفر. عبد الله: هكذا ينجو أهل النار من حرها، إن فيها لحراً يزيد على نار الدنيا بأصناف كثيرة هل لك أن تتصور ذلك الحر؟ عبد الله: في النار يغلون بالأغلال، ويربطون بالسلاسل، ولا أظنك تستطيع أن تتخيل هذا المنظر: {إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ} [غافر:71] أين يا رب؟ {فِي الْحَمِيمَِ} [غافر:72] الأغلال في الأعناق والسلاسل لُفت عليهم، ثم يسحبون في النار في الحميم، أتعرف ما هو الحميم؟ إنه الذي إذا اقترب من الوجوه شواها حميم الماء الذي قد بلغ من الحر منتهاه لن تستطيع أن تتصوره أو تتخيله، يسحبون وهم مغلولون بالأغلال في الحميم ثم ماذا يا رب؟ {ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} [غافر:72] ثم بعد أن يمرون على الحميم يحرقون في النار، بم يلتحفون وماذا يفترشون؟ {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌَ} [الأعراف:41] ينامون على جهنم، وماذا فوقهم يا رب؟ {وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف:41] أي: يلتحفون بالنار، لم يا رب؟ {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأعراف:41] يجوعون فيأكلون النار، وهل رأيت رجلاً يأكل ناراً؟! {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [النساء:10] بل يأكلون الغساق والحميم والغسلين والماء الصديد، وهو القيح الذي يخرج من الجروح والنتن الذي يسيل من الفروج {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ} [الواقعة:41] أي: أي شأن شأنهم؟ وأي أمر أمرهم؟ يا عبد الله: إذا كان الواحد منا لا يتحمل حرارة الشمس وهذه الحرارة هي: نفس من نفس جهنم، كيف -أعاذنا الله وإياكم- بمن يدخلها؟ هل هو يوم أو يومين أو ثلاثة أو أربعة أو سنة أو سنتين؟ إلى ما شاء الله. عبد الله: أتدري ما هو لباسهم أسمعت به؟ إنه من نحاس منصهر يلبسونه ولا يستطيعون الفكاك منه {سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ} [إبراهيم:50] من نحاس مذاب، بل تقطع لهم ثياب إذا رأيتها فهي نار {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} [الحج:19] ما صفتها يا رب؟ {ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} [الحج:19]-نعوذ بالله- الثياب من نار، ويأكلون النار، ويستظلون بالنار، وينامون على النار، ويلتحفون بالنار ثم ماذا؟ {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77] يا رب! اقض علينا، بل قالوا لله جل علا: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} [غافر:11] هل إلى خروج من سبيل؟ أتعرف من هو أهون أهل النار عذاباً؟ أهونهم وأقلهم وأيسرهم ذلك الذي يقول: صغيرة، وذلك المسكين الذي يقول: أمر هين أيام قليلة ثم نخرج من النار، ذلك الرجل يوضع في قدميه جمرة -وفي رواية: جمرتان- تعرف ماذا يحصل؟ أبعد مكان من الرجل هو الدماغ، يغلي منها دماغه، فإذا كان الدماغ يغلي فتصور ماذا يحصل للبطن، أم ماذا يحدث للفرج؟ أم ما الذي يصيب الرجل إذا كان أبعد شيء في جسده وهو الدماغ يغلي؟ يظن أنه أشد أهل النار عذاباً، تخيلوا يكلمه الله، فيقول له: (يافلان! لو كان عندك ما في الأرض جميعاً أكنت تفتدي به؟ -يخاطب أهون أهل النار عذاباً- فيقول: نعم. يا رب! لافتديت به كله يا رب! فيقول الله جل وعلا له: لقد طلبت منك أهون من هذا وأنت في صلب آدم، طلبت منك ألا تشرك بي شيئاً فأبيت إلا أن تشرك بي) يخاطب أهون أهل النار عذاباً، حر وجحيم وغساق وغسلين وصديد وحميم ونار، ثم يخاطبون الله جل وعلا {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:107] فيرد الله جل وعلا عليهم: {قَالَ اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108] يظن أنه يموت فيؤتى بكبش وهم ينظرون إليه، فيقال لهم: تعرفون هذا؟ يقولون: نعم. هو الموت الحر لا صبر عليه، والجحيم لا صبر عليه، والطعام من ضريع وغساق وغسلين، والنار لا يتحملها أحد، فينظرون إلى الموت ويظنون أنهم ميتون، فإذا بالموت يذبح، ويقال لهم: يا أهل النار! خلود فلا موت، {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا} [النساء:56] لم يا رب؟ {لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56] هل ألف سنة، أو ألفي سنة، أو مليون سنة، أو ملايين السنين؟ خلود فلا موت: {لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى} [طه:74] أتعرف لم يا عبد الله؟ لأنه أبى إلا الكفر بالله، أمر بالصلاة فما صلى ولا تصدق ولا صام ولا ذكر ربه عز وجل، أراد أن يتمتع بالدنيا قليلاً، ثم سمعها: خلود فلا موت. أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم.

حال أهل الجنة في الجنة

حال أهل الجنة في الجنة الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. في تلك الساعات أهل النار يعذبون ويحترقون، هناك أناس في نفس هذا الوقت يمرحون في الجنة ويتقلبون أتعرف ما صفاتها؟ لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً، يتقلبون في الجنة في أنهار من عسل، وأنهار من لبن، وأنهار من خمر، وأنهار من ماء، بل الأبرار في نعيم في الجنة يفجرون العيون -تتفجر- فيشربون منها ما يشاءون. أما الظلال فبعضها الجواد لا يقطعه في مائة عام {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ} [الواقعة:27 - 28] سدر لكنه كثيف {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ * وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [الواقعة:29 - 30] اجلس تحت الظل اجلس على الأنهار، ماذا تريد يا عبد الله؟ ملابسهم من الحرير، ويجلسون على الحرير، ولا يرون إلا أناساً من جمالهم كل يوم يزدادون حسناً وجمالاً، ثم يرسل الله ريحاً تحثو في وجوههم فيزدادون بها حسناً وجمالاً عرقهم المسك يطئونه بأرجلهم، وهناك الكوثر إذا شربوا منه شربة لا يظمئون بعدها أبداً، يرد على هذا النهر طيور أعناقها كالبخت يأكلون منها كما يشاءون، وينظرون إليها كما يشاءون {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة:20 - 21] ثم ماذا بعد هذا؟ يدخلون القصور والخيام، هل لك أن تتخيلها وتتصور خيمة طولها ستون ميلاً! لا أظنك تستطيع أن تتخيلها.

الفرق بين أهل الجحيم وأهل النعيم

الفرق بين أهل الجحيم وأهل النعيم أولئك -أهل النار- يقيدون بالسلاسل، وهؤلاء -أهل الجنة- يجلسون على الفرش. أولئك يأكلون الغساق والغسلين ويشربون الحميم، وهؤلاء يطاف عليهم بآنية من فضة ومن ذهب قد امتلأت بالخمور، وامتلأت بالعسل، وامتلأت بما يشتهون. أولئك يأكلون الضريع الذي قد امتلأ شوكاً تغص به الحلوق، وهؤلاء يقربون ما يشاءون من لحم طير مما يشتهون، وفاكهة مما يتخيرون. أولئك قرناؤهم وأصحابهم الكفار والفجار والضلال والمشركون والمجرمون، وهؤلاء يجلسون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ويوسف وإدريس والأنبياء والمرسلين، ويجلسون مع أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، ويجلسون مع الصالحين. أولئك -أصحاب النار- يفترشون من النار، ويلتحفون من النار، أما هؤلاء فهم على سرر مرفوعة، بطائنها من إستبرق -من حرير- كيف بظاهرها يا عبد الله؟! أولئك يعذبون بحر جهنم وسمومها، وهؤلاء يستظلون بسقف هو عرش الرحمن جل وعلا. أولئك أصحاب النار لا ينظرون إلا إلى خزنة جهنم الذين يستقبلونهم بالمطارق وبالمقامع، أما أولئك فيطوف عليهم غلمان مخلدون: {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} [الواقعة:18] {إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً} [الإنسان:19]. وفي كل جمعة ينظرون إلى الرب جل وعلا فينسون به نعيم الجنة كله. عباد الله: إن الفرق بين أولئك وهؤلاء أن أولئك إذا أكلوا فمن الربا، أما هؤلاء فيقصرون طعامهم وأموالهم على الحلال. أولئك إذا استيقظوا فإنما يستيقظون لدنياهم ولمعاشهم أما أولئك فإذا استيقظوا فلصلاة الفجر، وإذا ذكروا فأكثر ما يذكرون الله، وإذا تعلقت قلوبهم فبالله، وإذا سألوا فيسألون عن الحلال والحرام. أولئك -أهل النار- يعاشرون وهؤلاء أهل الجنة يعاشرون. أما أهل النار فيعاشرون بالحرام زناً ولواطاً، أما أهل الجنة فيعاشرون بالحلال مما أباح الله لهم من الأزواج وملك اليمين. أولئك أهل النار -يا عباد الله- أبوا إلا شراب الدنيا أبوا أن يتعاطوا إلا المخدرات، أما أولئك فيشربون من اللبن والعسل، ومن جميع أنواع المشروبات في الدنيا مما أباح الله، لهم صبروا على الحلال وعلى طاعة الله. أولئك -أصحاب النار- يسجدون لشهواتهم، ويركعون للذاتهم، ويتبعون شهواتهم، أما أهل الجنة فإنهم يسجدون لله، ويركعون لله، ويستجيبون لله فهل بين الفريقين مقارنة يا عباد الله؟ {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر:20] نعم والله! {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185] فالتلفاز والأغاني والربا والنساء والمعاش هذا مما يصد عن طريق الله وعن عبادة الله. عبد الله: اصبر على طاعة الله، وتحمل فإنما هي أيام قلائل، وإنما هي سنوات تمضي كلمح البصر، وإنما هو عمر واحد والنفس تخرج فلتة. اصبر -يا عبد الله- واسمع خاتمة صبرك {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:24]. أعود فأقول: إن هذا الحر لن يمر على عباد الله الصالحين هكذا، ولن يمشوا في حر الشمس هذه الأيام إلا ويتذكرون حر جهنم ويتذكرون زمهريرها يتذكرون يوماً تتقطع فيه القلوب، بل تبلغ إلى الحناجر من شدة الخوف، إن جهنم تزفر زفرة واحدة لا تبقي أحداً إلا وقد خاف منها تتقطع قلوبهم يبكون الدماء من شدة الندم والحسرة. إن عباد الله يمرون في الشمس هذه الأيام إن تذكروا فإنما يتذكرون حر جهنم فيبتعدون عن المعاصي ويقبلون على الطاعات. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اللهم أعداء الدين، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات. اللهم إنا نسألك الجنة وما يقرب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما يقرب إليها من قول وعمل.

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إن المؤمن الصادق هو الذي يهتم بأمور المسلمين؛ فيفرح لفرحهم ويحزن لحزنهم، ويعمل جاهداً على إصلاح أحوالهم ومن الأمور التي ينبغي الاهتمام بها: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هذا ما تحدث عنه الشيخ؛ موضحاً أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من صفات المؤمنين، ومذكراً بحال السلف الصالح مع هذا الأمر. وقد أعقب ذلك ببيان عاقبة ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم ذكر أموراً يحتاج إليها من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.

الاهتمام بأمور المسلمين

الاهتمام بأمور المسلمين إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله تبارك وتعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أيها الإخوة المسلمون: إن الله جل وعلا جعل هذه الأمة وأخرجها لا لتعيش بنفسها ولنفسها؛ بل لتعيش للناس، وجعل الفرد المسلم الصادق المؤمن المخلص هو الذي يعيش لأمته، لا ليعيش لنفسه فقط ليأكل ويشرب، وينكح وينام، ويلبس ويلهو، ثم يموت فينقل إلى القبر فيدفن. إن العبد الصادق هو الذي إن قام فإنه يقوم لأمته، وإن فكر فإنما يفكر لهمها، ويغتم لغمها، ويفرح لفرحها، ويحزن لحزنها، فإن مات مسلم بالشرق أو بالغرب فكأن قطعة من جسده قد بترت، وإن نكب أحد من المسلمين بنكبة فكأنما أصابته، وهو في نفسه يشعر بها: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد) بل وصف الله المؤمنين فقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71] ما فعلهم؟ وما دورهم في الدنيا؟ قال: {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة:71] لا يرضون بالمنكر أياً كان، وممن كان، وكيف كان سواء أنكر بقلبه وذلك أضعف الإيمان، فيكفهر الوجه، ويغضب ويتلون إذا مر بالمنكر وذلك أضعف الناس إيماناً، أو ينكر بلسانه أو بيده إن لم تكن هناك مفسدة أكبر.

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من صفات المؤمنين

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من صفات المؤمنين إن المؤمن حقاً هو الذي يركض إلى المنكرات ويسعى إليها ليغيرها، قال الله جل وعلا: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} [يس:20] من أبعد مكان في المدينة هل يركب حماراً أو دابة أو سيارة أو طائرة؟ لا والله، بل يركض على رجليه، هل تعرفون لماذا؟ لأن هناك منكراً قد أصاب الناس ووقعوا فيه {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} [يس:20] يا قوم! ما لي أراكم لا تصلون يا قوم! ما لي أراكم تأكلون الربا، وتنتهكون الحرمات يا قوم! ما لي أراكم تعرضون عن الذكر وعن الأذان والصلاة! {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس:20 - 21] ثم بعد هذه النصائح قتلوه؛ لأنه أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وبعض الأحيان يضرب ويقتل الدعاة، ويسفهون، ويسجنون، والداعية لا يبالي بالعواقب، إنما يبالي إن أمر بمعروف أو نهى عن منكر. فلما قتل انظر ماذا حصل له؟ بعثه الله، فماذا قال؟ {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ} [يس:26] لا يزال يفكر في قومه، ويهتم بهم {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس:26 - 27]. يا ليتهم يعلمون بالمغفرة وبالإكرام فيؤمنون مثلما آمنت، ويسلمون مثلما أسلمت، ويستجيبون لله كما استجبت لا يزال يفكر في قومه وإن قتلوه. إن كثيراً من الناس في هذا الزمان إن قلت له: يا فلان! أراك رجلاً صالحاً لكنك لا تأمر بالمعروف ولا تنهى عن المنكر! يقول: السلامة السلامة السلامة السلامة، ولا خير من العافية، أجلس في البيت وآكل وأشرب، وأصلي وأسجد وأركع، والحمد لله على العافية.

السلف الصالح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

السلف الصالح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر انظروا -يا عباد الله- إلى منهج سلفنا الصالح كيف كانوا يعيشون؟ ولمن كانوا يعيشون؟ إن قدوتهم هو حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرءاً سمع مني مقالة -حديثاً واحداً- فبلغه، وفي رواية: سمع مقالتي فبلغها، فربَّ مبلَّغٍ أوعى من سامع) لعل الذي تخبره وتعلمه وتدعوه إلى الله يكون أوعى وأفهم منك، ويستجيب أكثر منك. هذا الخرقي رحمه الله؛ صاحب متن المغني، الذي يقرؤه كثيرٌ من طلبة العلم، وأين هم عنه؟! هذا الرجل أتعرف كيف مات؟ لقد مات بمنكر أنكره في دمشق، فضربه الناس فقتلوه، هكذا كانت موتته. وهذا أبو بكر النابلسي -رحمه الله- أحد العلماء الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، كان لا يخاف في الله لومة لائم، كان يصدع بالحق وبما يؤمر ويعرض عن المشركين، فاستدعاه الحاكم الفاطمي فقال له: سمعنا أنك تقول: من كان له عشرة أسهم فليرمِ النصارى بتسعة ويرمينا بواحد، أصحيح ما يقال عنك؟ قال: لا والله، هذا غير صحيح، لم أقل هذا. قالوا: فماذا قلت؟ قال: قلت: من كان عنده عشرة أسهم فليرم النصارى بسهم، وليرميكم بتسعة أسهم -ولم يخف في الله لومة لآئم- فجيء بيهودي أشد الناس عداوة للمؤمنين، فصلب هذا الرجل، وعلقه على خشبة أمام الناس، وأمر اليهودي بسلخه وهو حي، فبدأ يسلخ الجلد من رأسه وهو حي، ثم من وجهه وهو حي، حتى وصل إلى صدره، وكان هذا الإمام يقرأ وهو يسلخ: {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً} [الأحزاب:6] فرأف اليهودي لحاله فطعنه بخنجرٍ في قلبه فمات، أتعرف لماذا؟ لكلمة حق قالها، لأمر بالمعروف ولنهي عن المنكر. ألا يا من ينشدون السلامة! ويريدون العافية! أتعرف ما مصير أولئك؟ {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ} [يس:26] * {بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس:27]. ألا يا من يخاف أنه إذا أمر بالمعروف على وظيفته! ألا تعلم أن رب الأرض والسماء قد قدر لكل نفسٍ رزقها، ما من نفسٍ منفوسةٍ تموت حتى تبلغ أجلها ورزقها، لا ينقص من أحدٍ حبة ولا درهم ولا دينار. اسمع إلى الإمام القاضي محمد الحبلي عليه رحمة الله جاءه الأمير، فقال له: إن الناس غداً سيفطرون في ليلة الثلاثين من رمضان، فقال رحمة الله عليه: لم نر الهلال، قال: ولكن المنصور كتب إلينا أن نفطر غداً، وتقوم وتصلي بالناس. قال: لم نر الهلال، وديني ومبدئي وعقيدتي هو حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته) وكان يشير إلى أهل الحساب، فلما كان الصباح أمره فلم يخرج، ودعوه فما استجاب، فأخذ الأمير أحد الناس فصلى بهم، وكتب إلى المنصور أن فلاناً فعل كذا وكذا وحرض الناس، فجاء المنصور بهذا الرجل وأوقفه أمامه، وقال له: تنصل وأعفو عنك -أي: اعتذر- قال: لا والله لا أعتذر. فصلبه المنصور، فأخذه العطش والناس ينظرون إليه ولا يستطيع أحد منهم أن يقترب منه، فأحرقته الشمس وهو يتعذب، ويستغيث بالماء ولم يغاث، حتى مات هلكاً من الجوع والعطش أمام الناس مصلوباً معلقاً. قال أبو بكر رضي الله عنه: (يأ يها الناس! إنكم تقرءون هذه الآية وتضعونها في غير موضعها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105] وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه -والظلم درجات، أعلاه الشرك بالله، فتارك الصلاة ظالم، ومن يأتي العرافين والكهنة ظالم، وآكل الربا ومن يعمل المعاصي ظالم، والزاني ظالم، وآخذ الرشوة ظالم، والمجاهر بالفسق والمعاصي ظالم- أوشك الله أن يعمهم بعقابٍ من عنده) والحديث صحيح موقوف وله حكم الرفع. عباد الله: نعم والله، إن حكم الله في هذه الأمة هو في قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] ليس لنفسها إنما هي للناس لماذا؟ {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] فخيرية هذه الأمة وأفضليتها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. أقول هذا القول، وأستغفر الله.

ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تشبه بالمنافقين

ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تشبهٌ بالمنافقين الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. أما بعد: يشبه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أولئك الذين يتخلفون عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إيثاراً للسلامة، يشبههم بالمنافقين، يقول: فهو كما قال الله في المنافقين: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي} [التوبة:49] أتعرف لم؟ {يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي} [التوبة:49] أخاف الفتنة أخاف الضرب والشتم، لا تتمنوا لقاء العدو، ويعتذر بتلك الأعذار، يشبهه شيخ الإسلام بالمنافقين، قال الله جل وعلا: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} [التوبة:49]. أي فتنة أكبر من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟! أي فتنة أعظم من ترك الجهاد باللسان والسنان؟! أي فتنة أعظم من ترك جزءاً من الدين وشعيرة من أعظم شعائره؟!

ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحجة طلب العلم

ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحجة طلب العلم عباد الله: من الناس من يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحجة طلب العلم، حتى يصبح عالماً حتى يصبح شيخاً، وكأنه غفل أو تغافل عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بلغوا عني ولو آية) ولو ذكرته بها لصد عنها صدوداً، ولتأول لها تأويلاً، ولاعتذر لها واختلق لها الأعذار، ولو قلت له: إن أقل العلم الواجب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي آية تعلمها فتبلغها، أو حديثاً (نضر الله امرءاً سمع مني مقالة فوعاها، فبلغها كما سمعها، فرب مبلَّغٍ أوعى من سامع) فأقل العلم حديثٌ أو آية تبلغها في الناس؛ لا اعتذار بأعذار، وتوهم توهمات، وتأول تأولات، فجلس ونكص وتخلف مع الخالفين، وقعد مع القاعدين: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة:47] ولا يرضى بهذا، بل يثبط الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، فإن قام قائلٌ منهم قال: هذا جاهل، وإن تكلم أحدهم قال: اطلب العلم ثم ادع إلى الله، وإن تصدى أحدهم قال: أنت فيك كذا وكذا فلا هو الذي أمر بالمعروف، ولا هو الذي نهى عن المنكر، ولا هو الذي ترك غيره يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، قال عليه الصلاة والسلام: (لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن ينزل عليكم عقاباً من عنده ثم تدعونه فلا يستجاب لكم). ولابد للداعية من ثلاثة أمور: أولاها: العلم. فلا تدعو إلى الله بمسألة إلا وأنت تعلمها، ولا يشترط أن تكون عالماً، بل كل مسألة تأمر فيها وتنهى عنها لا بد أن يكون لك فيها علم. ثانياً: الرفق والتدرج والبدء بالأهم فالأهم. ثالثا: الحلم، قال سبحانه وتعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِك} [آل عمران:159] ولو كنت فظاً -يا رسول الله- غليظ القلب لانفضوا من حولك، فعليك بالشفقة على الناس، واللين معهم، وإياك والقعود والنكوص عن هذه الشعيرة، ولنحييها فينا جميعاً، ليقم كلٌ منا مع أخيه، اثنان أو ثلاثة يتجولون في الأسواق، أو المنتديات، أو الدواوين، أو المجالس، أو النوادي، يهدونهم الأشرطة والكتيبات، ويأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر، وينصحونهم ويعظونهم. نعم يا عباد الله! هكذا لنحيي هذه الشعيرة {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33]. اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميعٌ قريبٌ مجيب الدعوات. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اللهم أعداءك أعداء الدين. اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر. أقول هذا القول، وأقم الصلاة.

الخوف من الله

الخوف من الله إن من أعظم الأسباب التي جعلت المسلمين يتهاونون في ارتكاب المعاصي ويكثرون منها هو قلة الخوف من الله عز وجل، ونسيان عظمته سبحانه وتعالى، ونسيان ما أعده الله لمن عصاه ولم يقم بما أمر به، والناظر في حال السلف وما كانوا فيه من شدة الخوف من الله سبحانه وتعالى يرى الفرق كبيراً بيننا وبينهم، فقد كانوا كثيري العبادة ومع ذلك يخافون من الله أشد الخوف ألا يقبل أعمالهم، ونحن بالعكس منهم فقد كثرت ذنوبنا وقل خوفنا من الله عز وجل واستشعار مراقبته.

سبب ارتكاب المعاصي والتهاون بها

سبب ارتكاب المعاصي والتهاون بها إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله تبارك وتعالى، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. وبعد: أيها الإخوة الكرام: إن كثيراً من الناس يجترئ على الذنوب والمعاصي، ويتهاون في الواجبات ويتساهل بها، وإذا فعل أكبر الكبائر كأنما ذباب وقع على أنفه، فقال به: هكذا وطار، وكأن الأمر هين وسهل إذا ترك الصلاة ضحك، وإذا ارتكب الحرام فرح، وإذا تهاون بالواجبات كأنه لم يفعل شيئاً، أما إن خالف غيره من البشر فالأمر شديد، والهول كبير، ويخاف أن تصدر عليه عقوبة؛ فلا ينام الليل، وأما أن يتذكر عذاب الله عز وجل فلا. أيها الإخوة: إن المقام الذي ينقص هذا هو مقام الخوف من الله جل وعلا فقد قلَّ في كثيرٍ من المسلمين -إلا من رحم الله- الخوف من الله؛ فتجده يرتكب المحرمات، ثم يقولها وبكل سهولة: أستغفر الله وهو يضحك، القلب لا يندم، والعين لا تدمع، والخوف لا يوجل في قلبه ولا يدخل قلبه، ما السبب؟ إنه لا يخاف من ربه جل وعلا.

شدة خوف السلف من الله

شدة خوف السلف من الله قال الله جل وعلا واصفاً عباده المؤمنين: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور:6 - 37] تعرفون لماذا؟ لأنهم كانوا يجلسون في بيوت الله، ويحافظون على الصلوات الخمس، ويؤدون الفرائض، قال: {يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور:37]. كان ابن مسعود -رضي الله عنه- جالساً، فسمع أحد أصحابه يقول: ما أود أن أكون من أصحاب اليمين، إنما أود أن أكون من المقربين -لأنهم أعلى درجة من أصحاب اليمين- فقال ابن مسعود أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: [أما أن هاهنا رجلاً يود أنه إذا مات لم يبعث -يعني: نفسه- أود أنني إذا مت لا أبعث، وددت أنني شجرة تعضد] شجرة ثم تزول وتهلك كما تهلك الأشجار، ولا أبعث عند الله عز وجل يوم القيامة، {يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور:37]. هذا اليوم الذي كان يبكي منه أسلافنا، حتى كان أحدهم إذا أراد أن ينام لا يستطيع النوم {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً} [السجدة:16] خوفاً من ذلك اليوم {خَوْفا ًوَطَمَعاً} [السجدة:16]. يقول بعضهم: "ما رأيت مثل الحسن -أي: البصري - وعمر بن عبد العزيز كأن النار لم تخلق إلا لهما". وبكى بعضهم قبل الوفاة بكاء شديداً فبكت أمه، قال: ولم تبكين؟ قالت: لبكائك يا بني! قال: أما إني أبكي لخوف المطلع عند الله جل وعلا في ذلك اليوم. بل إن بعضهم كـ سفيان الثوري وغيره كان إذا ذكر عنده الموت كان من شدة خوفه يبول دماًَ، أجلكم الله. ما بالنا -يا عباد الله- الواحد منا يرتكب المحرمات إلا من رحم الله، وبعضنا يرتكب المنكرات العظام بل أكبر الكبائر والأمر عنده هين، والخطب سهل لماذا؟ لأن الخوف من الله جل وعلا لم يخالط قلبه. عبد الله! أراك لا تصلي الفجر في الأسبوع إلا مرة، ولا تتذكر العصر إلا بعض الأحيان، وأراك تستمع بعض الأغاني، وتقع في غيبة بعض الناس، ثم لو سئلت قلت: إن ربي غفور رحيم. اسمع إلى سلفنا كيف كانوا يخافون من الله جل وعلا: قال الحسن البصري: " سمعت أن هناك رجلاً يخرج من النار بعد ألف سنة " يقول الحسن: (قيل لي، وروي، وسمعت): أن رجلاً يخرج من النار بعد ألف سنة أي: بعد أن يمكث في النار، قال: " وددت أنني ذلك الرجل" أي: أود وأتمنى أني أمكث في النار فقط ألف سنة. عباد الله! هل وصلنا إلى هذه الدرجة؟ أم أن الواحد منا قد ضمن نفسه مع أنه لا يصلي الصلوات الخمس في اليوم والليلة في بيوت الله؟ والصلاة ما كان يتركها إلا المنافقون في عهد النبوة، وكان الذي يصلي الجماعة يخاف على نفسه من النفاق. عباد الله! هل وصلنا إلى هذه الدرجة من الخوف؟ الواحد منا يعطي من نفسه ويقوم الليل ثم يخاف من عذاب الله جل وعلا. يقول عروة بن الزبير: كنت أبيت، ثم إذا غدوت أبدأ ببيت عائشة فأسلم عليها -أول بيت في الصباح أسلم عليه بيت عائشة - يقول: فقدمت عليها يوماً فإذا هي قائمة تصلي وتبكي -لعله قبل الفجر، ولعله في الضحى، ولعله في وقتٍ من الأوقات- قال: قائمة تبكي وتقرأ قول الله جل وعلا: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:27] فنظرت إليها تبكي، فأعادت الآية مرة أخرى {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:27] فانتظرت فأعادت الآية مرة ثالثة ورابعة وخامسة وأخذت تعيدها وتبكي، فقلت: أذهب لأقضي حاجة لي فأرجع، قال: فذهبت، ثم رجعت بعد زمن، فنظرت إليها قائمة تردد نفس الآية وتبكي رضي الله عنها وأرضاها. بعضهم يا عباد الله! كان يقوم الليل فيبكي بعد القيام حتى الصباح يستغفر الله تعالى على تقصيره، {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:18]. كانوا يستغفرون من تقصيرهم في قيام الليل، لا من عدم قيامهم لصلاة الفجر، ولا من ارتكابهم للمحرمات، ولا من سهرهم على الأغاني والمسلسلات، لا والله، يقومون الليل ثم يستغفرون الله {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60] بعضكم يقول: هؤلاء الزناة، وهؤلاء شاربو الخمور، يجب أن يخافوا من الله، وقد قالت عائشة: هم الزناة؟ هم شاربو الخمور؟ وهم الذين يفعلون ويفعلون؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يا بنة الصديق! هم الذين يصلون ويصومون ويتصدقون ويخافون ألا يتقبل منهم) يخافون من الله جل وعلا أن يأتي يوم القيامة فيجعل أعمالهم هباء منثوراً، صلاتي يا رب صيامي صدقتي حجي وعمرتي جعلها الله هباء منثوراً؛ لأن للأعمال محبطات، لا تظن أنك إذا عملت العمل انتهى كل شيء! لا والله، المشقة كل المشقة في المحافظة على هذا العمل، كيف تحافظ عليه حتى تلقى الله؟

محبطات الأعمال

محبطات الأعمال ألا تعلم -يا عبد الله- أن هناك أعمالاً تحبط هذا العمل، منها: أن تختلي بمحارم الله؛ تجلس في البيت، أو في المجلس، أو الغرفة، أو السيارة، أو تسافر إلى بلاد الغرب فتنتهك محارم الله، قال عليه الصلاة والسلام: (فيجعلها الله هباء منثوراً) أي: الصيام والصلاة والصدقة والحج والبر كله، يجعلها الله هباء منثوراً. رأى عمر رجلاً من الرهبان عليه أثر العبادة، انقطع عن الدنيا لا يعرف غير الله -الرهبان من النصارى وغيرهم يعبدون الله جل وعلا طوال حياتهم لكن على ضلال- فبكى عمر، فقيل له: وما يبكيك يا أمير المؤمنين! قال: [تذكرت قوله جل وعلا: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً} [الغاشية:3 - 4]] عاملة في الدنيا وتنصب، وتشقى في العبادة، ثم تلقى يوم القيامة عذاباً أليماً {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11]. قال ابن عمر لأبيه بعد أن تصدق بدرهم: [تقبل الله منك يا أبي! قال: يا بني! لو علمت أن الله تقبل مني سجدة واحدة أو صدقة بدرهم، لم يكن غائبٌ أحب إلي من الموت] لو أن الله تقبل مني درهماً، أو سجدة كان أحب شيء إلي الموت. عباد الله: لنكن صادقين مع أنفسنا، لنضع أعمالنا في الموازين طاعاتنا وطاعاتهم؛ نضع طاعاتنا وطاعاتهم في الميزان، ثم نقيسها، ثم لنضع خوفنا من الله وخوفهم من الله جل وعلا في الميزان، من منا يخاف من الله أكثر؟ {وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175]. كان مالك بن دينار عليه رحمة الله يقوم الليل قابضاً على لحيته وهو يبكي ويقول: "يا رب! يا رب! قد علمت ساكن الجنة من ساكن النار، ففي أي الدارين مالك؟ " يصلي ويبكي ويقبض على لحيته وهو يقول: " ففي أي الدارين مالك يا رب " وكأنه يتمثل قوله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً} [السجدة:16] لا يستطيع النوم، بل لا يهنأ له بال، خوفاً من الله. انظروا إلى كثير من المسلمين قطعٌ للأرحام، وعقوقٌ للوالدين وهي من الكبائر، وربا، ونظر، واستماع للحرام، ثم سل عنهم في بيوت الله لا ترى منهم إلا القليل، ثم بعد هذا إن حادثته قال: إن ربي غفور رحيم، غفلة وأي غفلة، ويخبر الله عز وجل عن الناس إذا لقوا ربهم جل وعلا، قال: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ} [ق:22] يوم القيامة {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22]. يا عبد الله! كن صادقاً مع نفسك، حاسبها قبل أن تحاسب، لا تنظر إلى من حولك فأكثر الناس في غفلة، لا تنظر يمنة ويسرة، حاسب نفسك قبل أن تحاسب، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18]. إن الله خبير بتلك الليلة عندما أذنبت ثم بكيت، وقلت: يا رب! أستغفر الله، يا رب! تبت إليك، يا رب! عاهدتك، إن الله خبير بتلك اللحظة عندما أصبت بالمصيبة، فقلت: يا رب! يا رب! لئن كشفت عني الضر لأومنن لك، ولأستجيبن لك، ولأعملن وأعملن، أين أنت الآن؟ تظن أن الله ينسى؟ {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} [طه:52] تظن أن الله عز وجل غافل؟ لا والله، {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [إبراهيم:42] إذاً ما الذي جرأك على الله؟ ما الذي جرأك على عقوبة الله؟ كن صادقاً، وحاسب نفسك قبل أن يحاسبك الله جل وعلا، واعلم أن الله تعالى بعد التوبة غفارٌ لمن آمن وعمل صالحاً ثم اهتدى. أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم.

سبب الخوف من الله

سبب الخوف من الله الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. أما بعد: تقول لي -يا عبد الله- مم أخاف؟ ولم أخاف؟ أقول لك: يا عبد الله! لأن وراءك أياماً طويلة، لم تستعد لها، فالويل شديد، والكرب عظيم. سأل أحدهم أحد الصالحين قبل الوفاة فقال له: كيف تجدك؟ قال: كأن السماء قد أطبقت على الأرض وأنا بينهما، وكأن نفسي يخرج من ثقب إبرة. وأحد الصالحين يقول: كأني أنشر بالمناشير. وبعضهم يقول: كأن شوكاً يمر من أخمص قدمي إلى أعلى رأسي. وكان بعضهم يبكي قبل الوفاة وهو يقول: لا أدري إلى أين يلقى بي. بكى أبو هريرة قبل الوفاة فقيل له: وما يبكيك؟ فقال: [قلة الزاد، وبعد السفر، وضعف اليقين، وخوف الوقوع من الصراط في النار]. عبد الله! وراءك لحظة سوف تجلس فيها ولا شك، إلا إن كان الله قد استثناك في القبر وحدك لا أنيس ولا جليس، فيقول لك الملكان: من ربك؟ هل حقاً تنام على ذكر الله؟ وتستيقظ لله؟ وتقوم لله؟ وتصلي لله؟ وتركع لله؟ وتسجد لله؟ فيسأله الملك: من ربك؟ فيقول الغافل: هاه هاه لا أدري، ما دينك؟ هاه هاه لا أدري، ماذا تقول في الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقال له: أن كذب عبدي، فافرشوا له فرشاً من النار، وافتحوا له باباً إلى النار، تظن الأمر يوماً أو يومين، أو سنة أو مائة سنة، لا يا عبد الله! لعل الأمر إلى قيام الساعة يفرش له فراش من النار، ويأتيه من ريح النار وسمومها. يا عبد الله! تقول لي: لم أخاف؟ أراك تجترئ على النظر إلى النساء، ثم بعدها لا تعلم أن بينك وبين الله موقفاً سوف تقف بين يديه، وأنه سائلك عما فعلت، فيقول: عبدي! تذكر ذنب كذا عبدي! تذكر تلك الخطبة تذكر ذلك الشريط تذكر ذلك الموقف تذكر تلك الدمعة، ما أراك قد استقمت على ما أردت يا عبدي! ما أراك قد استجبت لما أمرتك، ولا انتهيت بأمثالك عما نهيتك. ثم يا عبد الله سوف تسمع -إن كنت من الغافلين- يوماً من الأيام النار تجر لها سبعون ألف زمام، مع كل زمامٍ سبعون ألف ملكٍ يجرونها، فهلا أعددت لذلك اليوم؟ النار ترمي بشررٍ كالقصر -شرارتها بحجم القصر- ما بالك بها؛ أما هي فهي مظلمة، وأما حرها فشديد، ضعفت عن نار الدنيا سبعين مرة. يا من يفتح التلفاز ولا يبالي، وينظر إلى النساء والمسلسلات والأغاني، ضع إصبعك على النار هل أراك تتحمل؟ إن النار التي أعدها الله تَعْدل سبعين ضعفاً عن نار الدنيا. يا من لا تتحمل إصبعاً في النار كيف تتحمل أن يشوى الجسد كله؟ {كَلَّا إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى * تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى} [المعارج:15 - 17] تعرف ما معنى نزاعة للشوى؟ أي: ينفصل اللحم والعظم من شدة حرها. عبد الله! يجوعون فيها ويعطشون، فيقرب إليهم الغساق والغسلين والحميم والضريع وغيرها من طعام أهل النار أتعرف ما هي؟ صديدهم وقيحهم وما يسيل من فروج الزواني والزانيات، وما يخرج من قيحهم وصديدهم وما يسيل من جلودهم يأكلونه من شدة الجوع. عبد الله! الحياة واحدة، والأمر لا ثاني له، والفرصة واحدة، والموت يأتي بغتة، وملك الموت لا يستأذن، حتى لا تأتي يوم القيامة فتقول: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر:56] لا تبكي يوم القيامة وتعض على كلتا يديك من الندم وتقول: {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي} [الفرقان:28 - 29] حتى لا تأتي فتقول: ليتني كنت تراباً، {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً} [النبأ:40]. يا عبد الله! كن صادقاً مع نفسك، ولا تخرجن من هذا المسجد إلا وقد حاسبت نفسك، فتتوب من المعاصي والذنوب، ولعل هذه هي الفرصة الأخيرة، ولعل هذه هي الخطبة الأخيرة وأنت لا تدري، ولعل الشمس لن تغرب عليك، ولعلك لن ترى أهلك بعد هذه اللحظة. ما يدريك -يا عبد الله- فالموت يأتي بغتة، والنفس تخرج فلتة، وملك الموت لا يستأذن، والعمر واحد، والله عز وجل لا يضل ولا ينسى. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اللهم أعداء الدين. اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات. اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. أقول هذا القول وأستغفر الله.

أصحاب الكهف

أصحاب الكهف لقد ذكر الله تعالى في كتابه الحكيم العديد من القصص والحوادث، ولم يذكرها سبحانه وتعالى للتسلية أو للقضاء على الفراغ، إنما ذكرها لتكون لنا عبرة وعظة. ومن هذه القصص: قصة أصحاب الكهف، الذين رفضوا العيش مع قوم لا يؤمنون بالله، فتركوهم وذهبوا إلى كهف ليسكنوا فيه، وهناك بدأت معجزتهم التي ذكرها الله تعالى في كتابه الكريم.

قصة أصحاب الكهف

قصة أصحاب الكهف إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أيها الإخوة المسلمون: معنا في هذه الخطبة قصة من قصص القرآن، ذكرها الله عز وجل في كتابه، واستحب رسوله صلى الله عليه وسلم قراءتها في كل أسبوع، وقد سمى الله تعالى السورة بها إنها قصة من أعظم القصص، فيها عبر وفوائد، وفيها ثمرات لمن أيقن بها يجدها في قلبه، فاسمعها يا رعاك الله إنها قصة أصحاب الكهف، هذه القصة العظيمة التي ذكرها الله عز وجل من أجل سؤال سأله النبي صلى الله عليه وسلم عنهم، فلم يجبهم إلا بعد أن أنزلها الله عز وجل، فاسمعها ولنقرأها عليك، وتصور -يا عبد الله- هذه القصة، وتخيل أنك أحد هؤلاء الفتية الذين قص الله عز وجل علينا قصتهم! قال الله عز وجل في بداية هذه القصة، مادحاً نفسه، ومثنياً عليها بأنه يقص هذه القصة بالحق، وليس بالهزل، أو الكذب، أو الافتراء؛ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ} [الكهف:13] وقد ابتدأت هذه القصة بالثناء على أصحابها وأبطالها: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ} [الكهف:13] لم يكونوا شيوخاً - كباراً في السن- إنما كانوا فتية صغاراً في السن، ولكن الله عز وجل خلد ذكرهم. ما شأنهم يا رب! وما قصتهم؟ إنهم آمنوا بالله جل وعلا رأوا قومهم يعبدون الأصنام والكواكب يعبدون غير الله جل وعلا، ويشركون به سبحانه وتعالى، لكنهم آمنوا بالله، فاستجابوا لهذه الفطرة، واستجابوا لله جل وعلا؛ فكانت أعظم فضيلة لهم أنهم آمنوا بالله: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ} [الكهف:13] هل تركهم الله لوحدهم؟ لا {وَزِدْنَاهُمْ هُدىً} [الكهف:13] ولكن الله عز وجل زادهم إيماناً وتقوى وهدى، ولم يكن هذا فقط؛ بل قال: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ} [الكهف:14] ثبتهم الله جل وعلا، وزادهم إيماناً وثباتاً.

إنكار أصحاب الكهف لما عليه قومهم من الشرك بالله

إنكار أصحاب الكهف لما عليه قومهم من الشرك بالله هل جلسوا بين قومهم؟ هل رضوا بهذا الشرك؟ هل رضوا بهذه الأصنام التي تعبد من دون الله؟ لا. بل قاموا من مكانهم، ولم يتحمل أحدهم أن يجلس بين قومه {إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً} [الكهف:14]. نظروا إلى قومهم فأنكروا، ونظروا إلى شركهم فاستنكروا: {هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} [الكهف:15] ليس الأمر بالادعاء ولا بالكلام، من يصف الله عز وجل بأنه يشرك به شيئاً يشرك به في الألوهية، أو في أسمائه وصفاته، أو بالربوبية، أو يشرك به في الحكم الذي تفرد الله عز وجل به؛ فليأت بسلطان بين فليأت بدليل يثبت ما ادعاه: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} [العنكبوت:68]. لم يتحملوا الوضع، ولم يتحملوا الشرك، وتلك الأصنام، ولا هذه الطواغيت، فقاموا من مكانهم، وهربوا من مجتمعهم، واعتزلوا الناس إلى أين؟ ذهبوا كلهم إلى أحد الكهوف المظلمة خرجوا من القصور إلى أحد الكهوف خرجوا من الترف والنعيم وزينة الدنيا إلى كهفٍ من الكهوف، يجتمعون فيه. نعم! إنه الإيمان الذي لا يسمح لذلك المؤمن أن يجلس بين الشرك، إنه الإيمان الذي لا يرضى لصاحبه أن يرضى بهذا المنكر، وتلك المنكرات {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ} [الكهف:16] إنه الكهف المظلم إنه المكان الموحش، لكن الله عز وجل جعله مفاجأة لهم؛ إن الكهف المظلم قد أصبح كهفاً فسيحاً، ذلك الكهف المظلم ألقى الله سبحانه وتعالى فيه النور، فأصبح من الإيمان جنة من الجنان فأصبح من الإيمان الذي دخل في القلوب جنة يعيشون ويتقلبون فيها، أخرجهم الله من القصور ليدخلوا تلك الكهوف، ومن رحمته سبحانه وتعالى أن جعل هذه الكهوف أفضل وأجمل وأسعد لهم من تلك القصور {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً} [الكهف:16].

وتحسبهم أيقاظا وهم رقود

وتحسبهم أيقاظاً وهم رقود دخلوا ذلك الكهف، فجلسوا، وإذا بالتعب يصيبهم، والنعاس يرهقهم، فاضطجعوا في ذلك الكهف، فأرسل الله عز وجل عليهم النعاس والنوم، وتخيل هذا المنظر! هل ينامون يوماً أو يومين أو ثلاثة؟ تطلع عليهم الشمس فتبدي عليهم من نورها، ثم تغرب عليهم وينتهي ذلك اليوم وهم نيام {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ} [الكهف:18]. الأعين مفتوحة وهم نيام، ليسوا بثابتين ولا ساكنين، بل يتقلبون يمنة ويسرة، والشمس تطلع عليهم وتغرب، ولهم كلب نائم عند الباب بالوصيد، حتى يرعب من يدخل عليهم؛ حماية من الله جل وعلا، وإذا رأيت منظرهم أصابك الخوف، ولو اطلعت عليهم لملئت منهم رعباً ما هذا المنظر العجيب؟ وما هذا الموقف الرهيب؟ الشمس تطلع عليهم وتغرب، وإذا رأيت إلى منظرهم كأنهم أيقاظ لكنهم رقود، قال الله جل وعلا واصفاً ذلك المنظر: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً * وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً} [الكهف:17 - 18].

ظهور أمر أصحاب الكهف واختلاف الناس فيهم

ظهور أمر أصحاب الكهف واختلاف الناس فيهم إنها آية من آيات الله، وعلامة من علامات قدرة الله جل وعلا؛ أن ترى رجلاً نائماً وليس بنائم، وتراه يقظاناً وليس بيقظان، والكلب عند الباب، والشمس تطلع عليهم وتغرب، وفي لحظة من اللحظات يأذن الله جل وعلا، للأرواح أن ترجع، فإذا الأجساد تتحرك مرة أخرى، فتهتز من بعد موتها: {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ} [الكهف:19]. فإذا بهم يقومون يتساءلون بينهم! يقول أحدهم: كم يوماً نمنا؟ وكم ساعة لبثنا؟ فيرد عليه الآخر فيقول: نمنا يوماً كاملاً نمنا يوماً طويلاً، فرد الآخر فقال: لا. بل نمنا بضع يوم عشية أو ضحاها، قال لله تعالى: {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف:19] فإذا الجدال عقيم، وإذا النقاش لا ينفع، وإذا الكلام لا يفيد، فردوا أمرهم إلى الله {قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} [الكهف:19] هذا أمر لا ينفعنا، لقد أهلكنا الجوع والعطش، ونريد طعاماً؛ فأخرجوا قطعاً من فضة ليشتروا بها طعاماً، وقالوا لأحدهم: اذهب بهذا المال إلى أسواق المدينة، وادخل مخفياً متلطفاً برفق لكي لا يشعر بك أحد؛ فإنهم إن شعروا بك وقبضوا عليك فسوف يرجموننا ويقتلوننا، إلا أن تعود في دينهم. وهذه هي حال الطغاة، وتلك هي أحوال الظلمة، وهذه هي المجتمعات الظالمة، لا ترضى أن يبقى على دينهم، ولا ترضى أن يبقى الصالحون على منهجهم، بل إما الرجم أو أن يعودوا في ملتهم {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً} [الكهف:20]. واسمع إلى سياق القرآن كيف يصف الله جل وعلا خبره، ويقص علينا قصصه! {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً} [الكهف:19] إياكم إياكم أن يظهروا عليكم! {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ} [الكهف:20] أتعرف ما هو الرجم يا عبد الله؟ إنه الرمي بالحجارة؛ أن تحفر لهم الحفر، فيرموا بالحجارة حتى الموت، لماذا؟ لأنهم آمنوا بالله يُسجنون ويُقتلون ويُعذبون؛ لأنهم آمنوا بالله جل وعلا، لأنهم ما رضوا إلا عبادة الله، ولأنهم أبوا إلا توحيد الله، ولأنهم رفضوا كل شيء إلا عبادة الله جل وعلا، وحكمه سبحانه وتعالى. لكن الذي خرج منهم ما كان يعلم أنهم قد ناموا في كهفهم أكثر من ثلاثمائة سنة إنها آية من آيات الله! فخرج وإذا بالمدينة قد تغيرت، والناس قد تبدلوا، والقصور قد اختلفت، وإذا بالناس يقصون هذه القصة عبر الأجيال والأزمان يقصون قصة فتية خرجوا من قصورهم إلى كهف من الكهوف، فما علم الناس عنهم وما شعروا بهم، وإذا بهذا الرجل يخرج بينهم، شكله يختلف عنهم، وهيئته كأنها هيئة أصحاب الكهف، وإذا به يأتي بمالٍ من العصور القديمة والأجيال السالفة، فيخرجها ليشتري بها طعاماً، فقال له البائع: من أين لك هذه النقود؟ قال: إنها نقودي. قال: من أنت؟ قال: أنا فلان بن فلان، قال: أين أنتم؟ فإذا بهم يكتشفون الخبر ويعرفون القصة، فقدموا عليهم، وقد آمن القوم بالله، ورضوا به جل وعلا، فرأوا هؤلاء الفتية الذين قص الناس قصتهم، وذكروا روايات عنهم، فعظموهم، وأعلوا شأنهم {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ} [الكهف:21]. تبعه أهل المدينة فإذا به يهرب ويدخل الكهف، فقبض الله أرواحهم جميعاً يموت أصحاب الكهف كما كانوا آية من آيات الله أطلعها الله للناس، فإذا بهم يختلفون ويتنازعون ويتجادلون بينهم، فإذا بالضعفة المساكين يقولون: لنتخذن عليهم مسجداً (قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) إنهم أولياء وصالحون ومتقون، لنجعلن عليهم مسجداً، نأتي ونصلي ونعبد الله جل وعلا في هذا المكان {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} [الكهف:21]. وهكذا حال السذج والضعفة من الناس، يشركون بالله جل وعلا؛ لأنهم وجدوا قبراً من قبور الأولياء، أو مكاناً من أماكن الصالحين، وإذا رأوا صالحاً تمسحوا به وتقربوا به إلى الله عز وجل، وإذا رأوا قبراً لأحد الأولياء، قالوا: نعبد الله عز وجل عنده، وندعوه عز وجل بجواره، ونتوسل إلى الله عز وجل بهذا الولي وبذلك الصالح غلبوا على أمرهم، وتسلطوا على رقابهم أبناء السلاطين، فقالوا: {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} [الكهف:21]. وقد اختلف الناس في عددهم، فقال البعض: ثلاثة رابعهم كلبهم، وقال بعضهم: خمسة سادسهم كلبهم، وقال الآخرون: سبعة وثامنهم كلبهم، ولا يعلم عدتهم إلا الله جل وعلا، وقد نهى الله عز وجل نبيه أن يجادل في أمرهم أو يخوض في شأنهم. إنها قصة وأي قصة، وعبرة وأي عبرة، نرجي بعض العبر فيها إلى الخطبة الثانية أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

عبر ومواعظ من قصة أصحاب الكهف

عبر ومواعظ من قصة أصحاب الكهف الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد: أيها الإخوة المسلمون: لم يخبر الله عز وجل بهذه القصص للتسلية ولا لقضاء الوقت والفراغ، إنما هي للعبرة، فما قص الله عز وجل علينا قصة في القرآن إلا وفيها عبر وفوائد، فاسمعها حفظك الله: أول ما بدأ الله عز وجل القصة أنه أخبر أنهم فتية شباب صغار في السن، كما أخبر الله عن إبراهيم بقوله: {قَالُوا سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء:60] إن هذا الدين لا فرق فيه بين الصغار والكبار، ولا بين الشباب والشيوخ، أو الرجال والنساء، لكن يحمل لواءه الشباب في عز قوتهم، وعنفوان شبابهم -يحملون هذا الدين- فلا يأتي الرجل في وقت الشباب ويستغله في الفتن والشهوات والملهيات، ثم إذا اقتربت وفاته قال: آمنت بالله آمنت أنه لا إله إلا الله. إن هذا الدين يرفع لواءه الشباب قبل الشيوخ، والشيوخ يجلسون في بيوت الله يرفعون أياديهم يدعون الله جل وعلا أن يعز دينه، ويعلي كلمته. إن الشباب في هذه الأمة مطالبون أن يقوموا كما قام أصحاب الكهف، وألا يجلسوا في بيوتهم وقصورهم، ولا يرضوا بهذا الترف وبذلك النعيم، بل يقومون من ذلك الترف، ويدعون إلى الله جل وعلا، وينكرون تلك المنكرات، ولا يرضوا للناس أن يجلسوا بين هذه المنكرات، أو يأتونها. إن الشباب في هذا الزمان مطالبون بأن يصدعوا بالحق، ويجهروا به، وينكروا المنكرات، كما قال الله جل وعلا: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]. عبد الله: هل رأيت أولئك الفتية وقد هجروا القصور والنعيم، والدنيا بأكملها إلى أين يا عبد الله؟ إنهم جلسوا في كهف من الكهوف المظلمة، ورضوا بهذا الكهف بديلاً عن تلك القصور، لإرضاء الله وعبادته جل وعلا، خرجوا من هذه الدنيا والواحد منهم لا يرضى أن يجلس في هذا النعيم بين المنكرات، أو يأخذ الأموال، أو يرضى بهذه الفتنة وذلك الترف وهو يأتي المنكرات. أسمعت -يا عبد الله- ببعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، إنه خباب بن الأرت رضي الله عنه، كان عمره عشرين سنة، فجلد وضرب وافتتن في دينه، حتى أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: (يا رسول الله! ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟). أسمعت بـ حبيب الزيات عليه رحمة الله، حين استدعاه الحجاج ذلك الظالم الطاغية، فقال له: سمعنا أنك تتكلم فيّ؟ فقال: نعم! أنت أحد الظلمة الطواغيت، وسوف تلقى الله بكل نفس قتلتها ظلماً. قال: فما تقول في مروان بن عبد الملك؟ قال: أنت خطيئة من خطاياه، هو أظلم منك وأطغى، وأفجر منك وأعتى. قال: أتقول هذا؟ قال: نعم. فصلبه وأمر الجلاد أن يقطع لحمه قطعة قطعة، ويسفك دمه، حتى اقتربت روحه على الوفاة، فقال: لا تقتلوه، اذهبوا به إلى الأسواق لتزهق نفسه والناس ينظرون إليه وهو يعذب: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً} [الكهف:20]. فصلب أمام الناس والدم يسيل، واللحم يتقطع، والنفس تخرج، فأتاه أحد الناس الصالحين، وقال: أتريد شيئاً؟ فقال: أما دنياكم فلا، لا أريد شيئاً من الدنيا إلا شربة من ماء -يريد أن يشرب شربة من الماء لتخرج نفسه- فشرب شربة من ماء، ثم خرجت روحه إلى الله جل وعلا. أتعرف كم كان عمر حبيب في ذلك الوقت؟ لقد كان عمره سبعة عشر سنة، ومع ذلك يواجه أكبر ظالم وطاغية على وجه الأرض. إن الفتية الذين خلد الله ذكرهم لم ينقطع تاريخهم، بل إن في هذه الأمة من الفتية والشباب الذين يقفون في وجه الظلم والطغيان، وفي وجه الشرك والكفر بالله جل وعلا: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين إلى قيام الساعة، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك). اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين. اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات. والحمد لله رب العالمين.

وإذا قلتم فاعدلوا

وإذا قلتم فاعدلوا حث الإسلام على العدل والإنصاف، والعدل لا يكون مع أهل السنة فقط، بل ويشمل الأعداء، ومما يدل على ذلك ما ورد في الكتاب والسنة، وفي صفحات تاريخنا الإسلامي من صور العدل والإنصاف مما يبرهن على ذلك.

خلق العدل والإنصاف

خُلق العدل والإنصاف إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المسلمون: يقول عليه الصلاة والسلام: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، وفي رواية: (إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق) فغاية دعوته عليه الصلاة والسلام أن يتمم الأخلاق؛ أخلاق الناس بينهم وبين الله، أخلاق الناس بينهم وبين أنفسهم، وبينهم وبين بعضهم البعض، يتمم صالح الأخلاق ومكارمها وأحسنها، فكان أفضل الناس خلقاً عليه الصلاة والسلام. ومعنا في هذه الخطبة خلق من أخلاق الإسلام التي ضاعت عند كثير من الناس، وهذا الخلق -أيها الإخوة الكرام- ذكرناه مراراً وتكرراً، ولكنني أحببت أن أفصل له خطبة كاملة، وأجعل له حديثاً مفصلاً، فاسمع أخي الكريم إلى هذا الخلق، ثم تفحص نفسك أولاً، وتفحص من حولك، وانظر أين هم من هذا الخلق القويم؟ في هذه الأيام بين الرجل وزوجاته، وبين الرجل وأولاده، وبين الرجل وجيرانه، وبين الأخ وإخوانه، وبين الدعاة إلى الله، وبين طلاب العلم، وبين أهل التجارات، وبين أهل الصناعات، ما يحدث هذه الأيام إن دل فإنما يدل على فقدان هذا الخلق العظيم، ألا وهو الخلق الذي قامت عليه السماوات والأرض؛ وهو خلق العدل والإنصاف العدل بين الناس العدل الذي أصبح بين الناس عزيزاً، حتى إنك لا تجده في كثير من الصالحين فضلاً عن عوام الناس. فاسمع أخي الكريم! كيف يحثنا الله عز وجل على هذا الخلق، فيقول جل وعلا: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} [الأنعام:15] إذا تكلمت، بل إذا حكمت بين الناس، قال: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} [النساء:58] هذا الذي يعظكم به هو العدل والإنصاف.

العدل والإنصاف عزيز بين الناس

العدل والإنصاف عزيز بين الناس تجد الرجل الصالح المصلي الراكع الساجد إذا حكم على بعض الناس لا يحكم إلا بالظلم والإجحاف، أما الإنصاف فهو عزيز بين الناس، وهذا الأمر مفطور عليه أكثر الناس إلا من خالف هواه، فاسمع إلى الشعبي -عليه رحمة الله- ماذا يقول، وكأنه قد عرف الناس واختبرهم، فعرف معادنهم وحقيقتها، قال: [والله لو أصبت تسعاً وتسعين مرة وأخطأت مرة واحدة لعدوا عليَّ خطئي] ينسون تلك المحاسن، وسوف ينسون (99%) من المحاسن والفضائل لخطأ واحد: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72] فطبيعة الإنسان أنه ميال للظلم، ومحبٌ للجهل، هذه الطبيعة من أصل خلقته إلا إن خالف هواه ونفسه وزكى هذه النفس. واسمع إلى حاتم الأصم كيف بلغ به المقام من حسن خلقه أنه يقول: ثلاث أظهر بها على خصمي: أفرح إذا أصاب فرحاً من منا عنده هذا الخلق إذا أصاب خصمه فرح؟ قال: وأحزن إذا أخطأ إذا وقع خصمي في الخطأ أحزن، وهذا هو حزن القلب وليس فرحه يا عبد الله! فإن من الظلمة من يفرحون إذا أخطأ خصومهم. قال: وأحفظ نفسي كي لا تتجاهل عليه. ذهب أحدهم إلى الإمام أحمد فقال له: أسمعت ماذا قال حاتم الأصم؟ قال: ماذا يقول؟ قال: يقول كذا وكذا، قال: سبحان الله! ما أعقله من رجل! من منا يصل إلى مستوىً من العقل والعدل والإنصاف مثله؟ قال سبحانه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ} [المائدة:8] لا تنتصر لنفسك، ولا لحزبك، ولا تنتصر لقبيلتك، ولا لشهواتك، بل لله: {كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ} [المائدة:8] فإذا تكلمت: {شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} [المائدة:8] أي: بالعدل والإنصاف: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا} [المائدة:8] إذا كان بينك وبين فلان من الناس عداوة وخصومة، فإياك ثم إياك! أن تحملك هذه الخصومة على الظلم: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8].

العدل والإنصاف في الكتاب والسنة

العدل والإنصاف في الكتاب والسنة عبد الله: أين أنت من هذا الخلق الذي لولاه ما قامت السماوات ولا استقرت الأرض؟! فهذا وصف اتصف الله به فكان من أعظم الأوصاف: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا) إياك والظلم! أخوك صاحبك فلان من الناس داعية إلى الله طالب علم رجل مصلح زل زلة أو أخطأ خطأً، فلا تحملك الخصومة على أن تنشر خطأه بين الناس وتنسى محاسنة. عبد الله: إياك إياك والظلم! واسمع لـ ابن القيم ماذا يقول: وتحلَّ بالإنصاف أفخر حلة زينت بها الأعطاف والكتفان تحلَّ بالإنصاف: أي: بالعدل، وهو أن تزن الناس بميزان العدل والقسط، تضع حسناتهم في كفة وسيئاتهم في كفة، ثم زنه يا عبد الله! وإياك أن تنظر بعين واحدة، وكن كقول القائل: وإذا الحبيب أتى بذنب واحد جاءت محاسنه بألف شفيع إذا جاء بذنب تذكرت محاسنه، وهذا الخلق يؤدبنا به عليه الصلاة والسلام حتى مع الزوجات، قال: (لا يفرك مؤمن مؤمنة) أي: لا يطلقها ولا يفارقها على خطأ واحد، قال: (إن كره منها خلقاً) إذا جاءت بسيئة أو بخطأ أو ساء خلقها، قال: (إن كره منها خلقاً رضي منها خلقاً آخر) تأتي بحسنة فتهدم هذه السيئة.

العدل والإنصاف مع أهل الكتاب

العدل والإنصاف مع أهل الكتاب يا عبد الله: كن منصفاً مع الناس، وإياك أن تتكلم إلا بالعدل: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} [الأنعام:152] واسمع إلى ربنا جل وعلا في كتابه كيف يعلمنا هذا الأدب، يقول الله جل وعلا عن أهل الكتاب وهو يلعنهم ويذمهم: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ} [آل عمران:112] انظر إلى الذنب! ثم قال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [آل عمران:112] انظر إلى كل هذه الجرائم! ولكن الله أنصفهم، فقد أخبر بأن هناك طوائف لا تقرهم على هذا الفعل، وأن هناك بقايا من أهل الكتاب ما زالوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم على الإيمان والتوحيد، فلما جاء عليه الصلاة والسلام آمنوا به، انظر الإنصاف بعد كل ذلك الذنب، قال الله: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران:113] نعم. انتبه يا محمد! انتبهوا أيها الصحابة! احذروا أيها المؤمنون! أن تعمموا الحكم على الناس؛ فهؤلاء وإن كانوا مغضوباً عليهم فإنهم ليسوا سواء، منهم أمة قائمة مؤمنة موحدة، لما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنت به واستجابت له، آناء الليل يتلون آيات الله وهم يسجدون، أي إنصاف أعظم من هذا؟! بل أي عدل في الحكم أبلغ من هذا العدل؟!

قصة حاطب بن أبي بلتعة

قصة حاطب بن أبي بلتعة اسمع يا عبد الله إلى أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو حاطب بن أبي بلتعة؛ صحابي جليل، ارتكب في الإسلام جريمة عظيمة وخطأ كبيراً، أتعرف ما هذا الخطأ؟ لما قرر عليه الصلاة والسلام أن يذهب إلى مكة ليفتحها ويقاتل المشركين، أرسل هذا الرجل رسالة مع امرأة ليبلغ المشركين، أن يحذروا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قادم إليكم ليقاتلكم، هل تظن أن هناك جريمة أعظم من هذه؟! وهل يبلغ الحال بإنسان في هذا الزمن أن يرتكب إثماً أعظم من هذا الإثم فيكشف خطة رسول الله صلى الله عليه وسلم للمشركين؟ فإذا بـ حاطب ماثل أمام النبي صلى الله عليه وسلم، فيأتيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] لم يستعجل في الحكم، انظروا إلى التثبت، والتأني والروية، قال: (ما حملك على هذا يا حاطب؟ قال: يا رسول الله! أردت أن تكون لي عند القوم يد يدفعون بها عن أهلي ومالي). يد: أي: فضل ونعمة، يدفعون بها عن أهلي ومالي. انظر إلى العذر، عذر غير مقبول، ولكن: وإذا الحبيب أتى بذنب واحد جاءت محاسنه بألف شفيع (قال عمر: يا رسول الله! إنه منافق دعني أضرب عنقه، فقد خان الله ورسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عمر! ألم يشهد بدراً؟ قال: نعم. قال: وما يدريك -يا عمر - لعل الله اطلع إلى أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم قد غفرت لكم) يا عمر! زن الحسنات والسيئات. يا عمر! عنده حسنات عظيمة في الإسلام تهدم ما بعدها وما تحتها. يا عمر! أتى بذنب لكن محاسنه أعظم، وإذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} [المائدة:8].

قصص في العدل والإنصاف

قصص في العدل والإنصاف اسمع يا عبد الله إلى هذه الأخبار والقصص التي ملئت بها صفحات تاريخنا الإسلامي من العدل والإنصاف، والتي إذا أردت أن تبحث عنها في هذا الزمن، فإنك تسمع عنها نادراً، وتبحث عنها فلا تكاد تجدها. اسمع -يا عبد الله- إلى عبد الرحمن بن شماتة؛ وهو تابعي ثقة، جاء إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها يسألها عن بعض أمور الدين، فقالت له بعد أن أجابته وهي الفقيهة العالمة: من أين أنت؟ قال: من مصر، قالت: ما فعل صاحبكم؟ أي: أميركم وواليكم، قال: أما إنه إذا كان معنا في غزوة أو سرية فمات لأحدنا بعير أعطاه بعيراً، وإذا مات له عبد أعطاه عبداً، وإذا نقصت أحدنا نفقته أعطاه نفقة، فقالت عائشة: أما إنه لا يمنعني ما فعل في أخي محمد بن أبي بكر أتعرف ما فعل؟ كان هو السبب في قتله، انظروا إلى الخصومة! رجل كان هو السبب في قتل أخيك، هل تنصفه؟ هل تعدل معه؟ هل تذكر محاسنه؟ قالت: أما إنه لا يمنعني ما فعل في أخي محمد بن أبي بكر أن أقول فيه ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه) أي: كأنها تقول: صدق فيه دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فارفق به؛ لأنه كان رفيقاً بقومه، وبجنده. أي عدل وأي إنصاف وقسط أعظم من هذا؟!! {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء:58] ثم تجد سفيهاً من الناس، أو جاهلاً من بينهم، أو متعصباً لبعض الأقوال، فيعرض عليه محاسن الناس وفضائلهم وجهادهم، وهم إخوانه من أهل السنة، فيقول: والله لا خير فيهم، سبحان الله! انظر إلى الظلم، أو يقول لك: هم والله شر من اليهود والنصارى هل هذا من العدل يا عباد الله؟! {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} [الأنعام:15]. والله إن بعض الظلم يخرج من أفواه بعض الناس، ولو مزج بماء البحر لعكر ماءه ولأفسده، ولكنك تتعجب أن يخرج الظلم من أناس يدعون العلم والدعوة والعدل بين الناس. انظر يا عبد الله! إلى ابن عباس كيف اختلف مع عائشة على أمر عظيم، ولكنه صاحب عدل وإنصاف، جاءه رجل -وهو حبر الأمة- يسأله عن وتر رسول الله، فالرجل يسأل عن مسألة فقهية، وهو أحرى أن يجيبه، وبينه وبين عائشة خصومة وخلاف في الرأي، فقال له: أسألك عن وتر رسول الله؟ فقال ابن عباس لهذا الرجل: ألا أخبرك عن أعلم أهل الأرض بوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. قال: عائشة رضي الله عنها، (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا). من أسباب الظلم يا عبد الله: ما يكون في النفس من الحقد والحسد، ثم ما يكون في العقل من التعصب لبعض الآراء ولبعض الناس، ثم ما يكون بالتصرف من عدم التثبت وعدم التأني والاستعجال في الأحكام. عبد الله: كن متنبهاً ومتيقظاً، واعلم أنه: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18]. أقول هذا القول وأستغفر الله.

العدل والإنصاف مع الأعداء

العدل والإنصاف مع الأعداء الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. أما بعد: عبد الله: العدل والإنصاف حتى مع الكفار: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ} [المائدة:8] أي: لا يحملنكم بغض الكفار {عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8] هذا إذا كان مع الكفار، فكيف إذا كان مع المسلمين من أهل البدع؟! بل كيف إذا كان مع المسلمين من أهل السنة؟! كيف يجب العدل والإنصاف؟ اسمع إلى عمرو بن العاص أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لما سمع رجلاً يقول: (تقوم الساعة والروم أكثر الناس) فقال: ماذا تقول؟ قال: أقول ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أما إنه إن كان حقاً ما تقول، فإن فيهم لخصالاً أربعاً اسمع كيف يثني على الكفار وإن كانوا كفاراً، كيف يذكر محاسنهم ولم يتلفظ بعيوبهم؛ لأن الأمر فيه حكمة وعدل وإنصاف، قد تحتاج بعض الأحيان إلى ذكر العيوب دون المحاسن، وفي بعض الأحيان إلى ذكر المحاسن دون العيوب، وفي بعض الأحيان توازن بين الحسنات والسيئات. قال: [فإن فيهم لخصالاً أربعاً: إنهم أحلم الناس عند الفتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة: وأمنعهم من ظلم الملوك]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8]. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اللهم أعداء الدين، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين. أقول هذا القول وأستغفر الله.

شهر الرحمة والغفران

شهر الرحمة والغفران رمضان شهر محبب إلى القلوب، فكل الناس يفرحون بقدومه، لكن الفرحة تتفاوت من شخص لآخر، ورمضان له فضائل كثيرة وخصائص جليلة، ذكر بعضها الشيخ في محاضرته، متكلماً عن حال السلف في رمضان، ثم قارن بين حالهم وحالنا في هذا الزمان، موضحاً أن شهر رمضان شهر إطعام الطعام، وشهر المحبة والوئام، وشهر التوبة والإنابة إلى الله تعالى، ثم ذكر أن الناس يستعدون لرمضان كلٌ بحسب ما سيعمل فيه، إن خيراً فخير وإن شراً فشر.

استقبال شهر رمضان وبعض فضائله

استقبال شهر رمضان وبعض فضائله الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين إلهي لا تعذبني فإني مقر بالذي قد كان مني وما لي حيلة إلا رجائي وعفوك إن عفوت وحسن ظني يظن الناس بي خيراً وإني لشر الناس إن لم تعف عني أيها الإخوة الكرام: موضوع حديثنا في هذه الليلة المباركة -إن شاء الله- ونحن نستقبل بفارغ الصبر هذا الشهر العظيم، ونحن نستقبل أياماً كان سلفنا -رحمهم الله- ينتظرونها ستة أشهر، وكانوا يدعون الله أن يبلغهم هذه الأيام، وإذا فارقوه ظلوا أشهراً عديدة يدعون الله أن يتقبل منهم الصيام والقيام هذه الأيام التي غفل عنها كثيرٌ من المسلمين، حتى صاروا لا يشعرون بها إلا عندما تدخل، تدخل وتخرج وما شعر بها كثيرٌ من المسلمين وللأسف! هذه الأيام كان ينتظرها الصالحون أياماً وشهوراً وليالي كم وكم من إخواننا كان معنا في رمضان الماضي؟ أتذكر ذلك الذي كان يقوم معنا الليل؟ أتذكر فلاناً الذي كان يصوم ويفطر معنا، وكنا نزوره، وكنا نصله؟ أين هو الآن؟ تحت الثرى، يلقى جزاءه عند الله جل وعلا، إن خيراً فخير وإن شراً فشر.

نزول القرآن الكريم في رمضان

نزول القرآن الكريم في رمضان أخي الكريم: إن الله جل وعلا وصف هذه الأيام فقال: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185] أعظم كلام أنزل! وهو الخلاص للبشرية، وهو النور لهذه الأمة متى نزل؟ نزل في رمضان لعظم هذا الشهر الذي غفل عنه كثيرٌ من الناس، ولماذا أنزل القرآن؟ {هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة:185] ولهذا كان هذا الشهر وهذا القرآن الذي أنزل فيه هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان كم من ضال تائهٍ عاقٍ مذنب عندما تقرأ عليه بعض الآيات، يتذكر ربه، فتدمع عينه، ويخشع قلبه، لم؟ لأنه كلام الله، وكان جديراً أن ينزل بهذا الشهر؛ لأنه أعظم شهر، وفي أي ليلة بالخصوص؟ {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1] من عظم هذا الشهر أن فيه ليلة أنزل فيها القرآن إلى السماء الدنيا.

الحكمة من الصيام

الحكمة من الصيام أخي الكريم: لماذا أوجب الله الصيام في هذا الشهر؟ حتى نجوع ونعطش؟ حتى نتعب ونهلك؟ حتى نظمأ؟ يا رب! لم هذا العذاب؟ أتظن أن الأمر يقتصر عند هذا؟ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] ونحن نستعد لهذا الشهر ونستقبل ليلته وأيامه؛ اعلم أن الله يريد منك أن تخافه، وتخشاه، وأن تحصل التقوى في القلوب، فليست القضية أكل وشرب والجماع، الأمر أعظم من هذا بكثير، الأمر هل تحصل التقوى في قلبك في هذا الشهر؟ {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183].

فتح أبواب الجنان وغلق أبواب النيران في رمضان

فتح أبواب الجنان وغلق أبواب النيران في رمضان أخي الكريم: إذا جاء هذا الشهر -من فضيلته ومن عظمه- تفتح أبواب الجنان، ألا هل من مشمر لهذه الجنان؟ تفتح! كم من مقبول في هذا الشهر! وكم من مسجل أنه من أهل الجنة في هذا الشهر! والناس بين لاهٍ وغافل، وأبواب النيران توصد وتغلق كلها هل رأيت فرصة أعظم من هذه الفرصة؟ أبواب الجنان الثمانية، وتسألني وتقول: ما هي أوصاف هذه الأبواب؟ أقول لك: ما بين المصراعين مسيرة أربعين سنة، تمشي أربعين عاماً ثم تصل إلى طرف الباب الثاني، هذا الباب يفتح، وكم يخرج من هذا الباب! تخرج من رحمات وأنوار، وروائح طيبة وكم يقبل إنسان في هذا الشهر! قال صلى الله عليه وسلم: (رغم أنفه، ثم رغم أنفه، ثم رغم أنفه! من أدرك رمضان ولم يغفر له) تعس! إي والله، دخل رمضان وخرج وما دمعت عينه وما تاب من معصيته دخل رمضان وخرج ولا زالت أمواله في بنوك الربا دخل رمضان وخرج وهو لا يزال مصراً على ذلك الذنب وتلك المعصية {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ} [آل عمران:135] لا تقل: إنك لا تذنب، ولا تخدع نفسك بأنك لا ترتكب معصية، كل بني آدم خطاء، فهذه فرصتك أيها الخطاء، وفرصتك أيها المذنب، أبواب الجنان تفتح! وأبواب النيران تغلق! ومردة شياطين الجن تصفد! أي فرصة أعظم من هذه، وينادي منادٍ: يا باغي الخير أقبل! ويا باغي الشر أقصر! أتعرف ما هذه الأيام؟ {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185]. كان النبي صلى الله عليه وسلم يبشر أصحابه بهذا الشهر، وإذا رأى هلاله، قال: (الله أكبر، الله أكبر، اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام) كان يدعو الله أن يهله عليه وهو على دين الله جل وعلا، إنه شهرٌ عظيمٌ، فأين المشمرون؟ أين المسارعون؟

تفاوت فرحة الناس برمضان

تفاوت فرحة الناس برمضان من الناس من يسارع في هذا الشهر لبضاعته ليروجها، ويفرح بقدومه لأن البضاعة تروج، ولأن السوق يزدحم، يفرح بهذا الشهر لهذه المقاصد، ومنهم من يفرح لأجل المسلسلات ولأجل الأفلام، ولأجل الإعلام الماجن في هذا الشهر وغيره، ومنهم من يفرح بهذا الشهر غايته ومناه الملاعب والكرة وغيرها، أما القيام فلا قيام، وبعض الناس يفرح بهذا الشهر للمعاكسات ومن الناس من يتمنى هذا الشهر ويرجوه يوماً بعد يوم لتدمع عينه من ذلك الذنب الذي ارتكبه، ليقوم الليل، وهو يعلم أنه قد يدرك رمضان وقد لا يدركه يذكر أناساً وأصحاباً وأصدقاء كانوا في العام الماضي يصلون معه، أما اليوم فلا نعرف عنهم إلا ذكرى وأماني اسمع ماذا يقول الشاعر -يا عبد الله- وانتبه: يا ذا الذي ما كفاه الذنب في رجب حتى عصى ربه في شهر شعبان لقد أظلك شهر الصوم بعدهما فلا تصيره أيضاً شهر عصيان واتل القرآن وسبح فيه مجتهداً فإنه شهر تسبيح وقرآن كم كنت تعرف ممن صام في سلفٍ من بين أهلٍ وجيران وإخوان أفناهم الموت واستبقاك بعدهمُ حياً فما أقرب القاصي من الداني فرصة قد تدركها وقد لا تدركها قد لا تعوض يا عبد الله.

العتق من النار ومضاعفة الأجور في رمضان

العتق من النار ومضاعفة الأجور في رمضان لله في كل ليلة عتقاء من النار، فاجعل نفسك في أول ليلة عتيقاً من النار {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185] يقول الرب: (كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر إلى سبعمائة ضعف إلا الصوم) فإياك وعدّه، إياك وحسابه، فلن تستطيع! (إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) أتعرف لم؟ لأنه سر بين العبد وربه، من يمنعك إذا خلوت بريبة في ظلام الليل، أو في قعر النهار، أو في شارعٍ، أو بيتٍ أو غرفة، من يمنعك أن تعصي ربك، فتأكل طعاماً، أو تشرب شراباً؟ من يمنعك؟ إنه خوفك من الله جل وعلا صبرك على هذا أتعرف ما أجرك؟ {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ} [الزمر:10] متى يا رب؟ (للصائم فرحتان: إذا أفطر فرح بفطره) كم يفرح الصائمون! كم يفرح المخلصون! كم يفرح الصادقون حين يفطرون فيقول: (اللهم لك صمت، وعلى رزقك أفطرت) والفرحة الأعظم والأكبر (وإذا لقي ربه، فرح بصومه) {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10]. هذه بعض فضائل رمضان، فهل أنت مستعد الآن يا عبد الله؟ هل أنت مشمر أن تتعب وتعطش في سبيل الله؟ أن تتعب هذه الرجلان وتتفطر القدمان من أجل الله تبارك وتعالى؟

الصالحون وحالهم مع قيام الليل

الصالحون وحالهم مع قيام الليل كان الصالحون يصومون ويقومون الليل في غير رمضان، فإذا جاء رمضان خف عليهم.

الإمام أحمد بن حنبل وقيامه الليل

الإمام أحمد بن حنبل وقيامه الليل هذا الإمام أحمد، يقول ابنه عبد الله: كان يقوم كل ليلة بثلاثمائة ركعة يصلي ثلاثمائة ركعة يا عبد الله! فلما فتن وضرب وجلد ورمي في السجن في ليلة قارصة باردة شديدة البرودة، يقول عن نفسه بعد مائة وستين جلدة، يقول: دخلت أتحسس- في ظلام دامس وبرد قارس- أتحسس فوقعت يدي على ماءٍ بارد، يقول: فأخذت وتوضأت، وأخذت أصلي حتى الفجر {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} [السجدة:16] الليل دعاء وبكاء وتضرع، هكذا الصائمون الصادقون {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة:16] قالوا: يا إمام! قلها وتخلص. قال: لا، القرآن كلام الله. فمكث في السجن ثمانية وعشرين شهراً، لم يفطر فيها يوماً واحداً، سرد الصوم كله {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:184] نعم، الصوم ما أحلاه! وما أعظمه! بعضهم عند الاحتضار قيل له: لم تبكي؟ قال: لا أبكي إلا على ظمأ الهواجر، ومكابدة الليل، أبكي لأنني فارقت أيام حَرٍّ كنت أصومها لله عز وجل أين هي الآن؟ فقدتها ما ألذها! وما أحلاها! أحلى أيام حياته، والآخر يقول: على مكابدة الليل. كان الإمام أحمد يقوم قبل السجن بثلاثمائة ركعة، فلما تعب بعد السجن كان يقوم في الليلة الواحدة مائة وخمسين ركعة، وكان عمره قد تجاوز الثمانين عاماً. كانوا يتلذذون بقيام الليل، فيا من يقبل عليهم شهر رمضان لِمَ تعدون لياليه؟ ولمَ تترقبونه؟ ولمَ تتأهبون للقائه؟ إن لم يكن لهذا، فبئس الاستعداد والترقب!!

عثمان بن عفان رضي الله عنه وقيامه الليل

عثمان بن عفان رضي الله عنه وقيامه الليل كان عثمان يقوم الليل كله بالقرآن، يختم القرآن كله في ليلة، حتى قال ابن عمر: [فيه نزل قول الله: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]] وفيهم قال الشاعر واسمع وتدبر يا عبد الله، اسمع إلى صفات عباد الله: امنع جفونك أن تذوق مناما وذر الدموع على الخدود سجاما عجيب! تقول: وهل أحد ينام في رمضان؟! أقول لك: حدث ولا حرج عمن يضيع نهار رمضان ولياليه بالنوم والكسل، والتواني، ينام في شهر رمضان أكثر من عشر ساعات، هل سمعت بهذا؟ مسكين من ضيع نهار وليالي رمضان في لهوٍ ولغوٍ ونوم!! امنع جفونك أن تذوق مناما وذر الدموع على الخدود سجاما واعلم بأنك ميت ومحاسب يا من على سخط الجليل أقاما لله قومٌ أخلصوا في حبه ورضا بهم واختصهم خداما قومٌ إذا جن الظلام عليهم أبصرت قوماً سجداً وقياما فسيغنمون عرائساً بعرائسٍ ويبرءون إلى الجنان خياما وتقر أعينهم بما أخفي لهم وسيسمعون من الجليل سلاما يتلذذون بذكره في ليلهم ويكابدون لدى النهار صياما نعم! نهارهم قرآن، وذكر، وعبادة، ودعاء، فإذا جاء الليل عباد ليل إذا جن الظلام بهم كم عابد دمعه في الخد أجراه وفي النهار: وأسد غابٍ إذا نادى الجهاد بهم هبوا إلى الموت يستجدون رؤياه

حال بعض الناس في رمضان

حال بعض الناس في رمضان عباد لله: بعض الناس في ليالي رمضان ورمضان هم كالتالي: إذا جاء للدوام في العمل فهو كسول، لا يبالي بالمراجعين، ولا يبالي بأحد، حجته (إني امرؤ صائم) وهل الصيام يؤدي بك إلى هذا؟! كم فُتحت الفتوح في نهار رمضان؟ وكم انتصر المسلمون في شهر رمضان؟ وهذا الصائم نائمٌ في عمله، لا يأتي إلا في منتصف الدوام، إن سئل؟ قال: إني امرؤ صائم، عطل المراجعين وساءت نفسه وخبثت، والحجة (إني امرؤ صائم) قد أشقيت نفسك وغيرك، وكنت قدوة سيئة للناس. وإذا جاء الليل بعد أن شبع وملأ بطنه، إن جاء يصلي، قال: يا إمام! أرحنا من هذه الصلاة، ما أطولها! أزعجتنا بها، مللنا هذه الصلاة الطويلة! أزعج الناس بثقل الصلاة عليه أتعرف لماذا هي ثقيلة؟ لأن الله جل وعلا سماها عنه وعن أمثاله {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} [البقرة:45] الصلاة ثقيلة عليهم إلا على من يا رب؟ {إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45] لم يخشع فيها ولا تلذذ بها، يقول للإمام: لا تطل الصلاة، ثم لم يصلي إلى أين؟ أتظنه يجلس في بيت الله؟

حال السلف في رمضان

حال السلف في رمضان كان الإمام مالك رحمه الله يغلق كتب العلم في رمضان يغلق مجالس الحديث والإفتاء، ويعتكف على القرآن، وكان الإمام الشافعي رحمه الله في النهار يختم القرآن كله، وفي الليل يختم القرآن مرةً ثانية، فلا ينقضي رمضان إلا وقد ختم القرآن ستين مرة. أتظنه ينام كما ينام الناس في هذا الزمان؟ أم تظنه يجلس مجالس لغو وغيبة ونميمة ولعب ومسلسلات وأفلام كما يفعل الناس في هذا الزمن؟ لا والله! هذا الإمام عرف قدر القرآن في هذا الشهر، لأن الله أنزل القرآن فيه {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان:3] بارك الله في هذه الليلة لم؛ لأن القرآن أنزل فيها. كان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس في خباه لا يكلم أحداً ولا يكلمه أحد، يعتكف للقاء الله جل وعلا، وكان جبريل يدارسه القرآن، وكان السلف من بعده أحدهم في المسجد لا يخرج إلا للوضوء ويرجع، بين مصحفٍ وقرآن أي قراءة نريد؟ هل نريد قرآناً هذاً كهذِّ الشعر؟ أو كقراءة جرائد؟ أو أن تفتخر بين أصحابك أنك قرأت القرآن مرتين أو ثلاث! لا، نريد قرآناً كما قرأه السلف كيف قرءوه؟ هذا أفضل الخلق يقول لصاحبه ابن مسعود: (اقرأ علي القرآن. قال ابن مسعود: أأقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال صلى الله عليه وسلم: إني أحب أن أسمعه من غيري، قال ابن مسعود: فقرأت حتى وصلت إلى قوله جل وعلا: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء:41] فسمعته يقول: حسبك. فنظرت فإذا عيناه تذرفان) عليه الصلاة والسلام، ويدخل عليه بلال وهو يبكي فيقول: (يا رسول الله! لم تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: قد أنزل علي الليلة آيات ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكر فيها {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190 - 191]). يوشك أن تدخل مسجد جماعة فلا ترى فيه خاشعاً، يوشك أن يخطئ الإمام ولم يدر به أحد، يوشك أن تسأل المصلين بعد الصلاة ماذا قرأ الإمام؟ فلا يجيبك أحد، يوشك أن يأتي هذا اليوم أن يقول الناس بعد الصلاة: ماذا قرأت أيها الإمام؟ لم نعقل إلا التكبير والسلام، لم نعقل شيئاً آخر. الفضيل بن عياض قرأ آية واحدة ورددها حتى بكى، وهي قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:8 - 9]. وكان أبو حنيفة يقوم الليل كله بآية واحدة، وعائشة تصلي الضحى بآية واحدة، {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:27].

رمضان شهر إطعام الطعام

رمضان شهر إطعام الطعام يقول الزهري رحمه الله: شهر رمضان شهر قرآن وإطعام طعام. لا ثالث لهما، إما أن تقرأ القرآن أو تطعم المساكين، وكان السلف في ليالي رمضان يطعمون المساكين، والفقراء، والجياع، ويتقربون إلى الله بهذا {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً} [الإنسان:8 - 9] رمضان شهر إطعام الطعام. أتعلم أن هناك من المسلمين من يمر عليه رمضان وغير رمضان ولا يفرق؛ لأنه لا يأكل شيئاً؟ هو صائمٌ طوال العام، إن حصل على وجبة واحدة في اليوم والليلة، فهنيئاً له في ذلك اليوم أسمعت بمسلمين يبحثون عن الطعام في القمامات؟! أسمعت بمسلمين تنظر الأم إلى رضيعها ليس في ثديها قطرة لبن ترضعه، ويموت بين يديها ولا تستطيع أن تفعل شيئاً؟! أسمعت بمسلمين الآن في هذا الزمن يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، ليس عندهم رطبات يسدون بها جوعهم؟! أسمعت بهذا يا من فرشت لك الولائم! ويا من غضبت إذا نقص شيءٌ من أصناف الطعام! ويا من تشتكي من التخمة ومن كثرة الطعام! ويا من ألهتك تلك الملذات والشهوات عن إخوانك المسلمين؟! إنه شهر إطعام الطعام (من فطّر صائماً فله مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجره شيئاً) {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38]. لا تبخل يا عبد الله! تذكر إخواناً لك في الأرض جوعى ومرضى لا يملكون شفاءً للشتاء، ولا غطاءً للصيف، ولا يملكون دواءً لمرضاهم، يموت الولد من مرض، وتموت الأم من جوع، ولا يستطيع أحدٌ أن يفعل شيئاً، وقد قرأت يوماً خبراً -إن كان صحيحاً، فإننا نعيش في زمن التعاسة- قرأت يوماً في إحدى البلاد الإسلامية أن أماً مع أولادها ما كانت تملك شيئاً، حتى جاعوا، وبحثوا عن طعام فلم يجدوا حتى ماتت الأم بين أيدي الأولاد، الأم ثم جاع الأولاد فلم يجدوا طعاماً؛ فما وجدوا إلا شيئاً من اللحم بقي على عظام أمهم، فأخذوا يقطعون بعض اللحم ويأكلونه ليسدوا به جوعهم قال الله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} [الإنسان:8 - 9] شهر رمضان يذكرك إذا جعت وإذا عطشت بالفقراء والمساكين كم ستصوم؟! اثنا عشر ساعة، ومن المسلمين من يصوم أربعاً وعشرين ساعة، بل يصوم يومين وثلاثة ولا يجد طعاماً يأكله، فإذا جعت تذكر إخوانك.

رمضان شهر المحبة والوئام

رمضان شهر المحبة والوئام شهر رمضان -يا عبد الله- شهر محبةٍ ووئام، إن كان بينك وبين إخوانٍ لك شحناء وبغضاء وغل وحسد فلا يأتي هذا الشهر إلا وقد رفعته عن قلبك، فإن الله لا يغفر لعبدين متشحانين، ترفع الأعمال إلى الله كل اثنين وخميس؛ فيغفر الله لكل عبدٍ لا يشرك بالله شيئاً إلا رجلين بينهما شحناء، إن كان بينك وبين أخيك نزاعٌ وخصام وخلاف وبغضاء وشحناء، فالله الله في هذا الشهر أن تصلح ما بينك وبينه {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر:10] كيف يقوم الليل من قام وفي قلبه لأخيه شحناء؟ كيف يتلذذ من يقرأ القرآن وفي قلبه على أخيه شحناء وبغضاء؟ كيف يهنأ بفطره ويتلذذ بصومه من بات ومن أصبح وأمسى وفي قلبه غلٌ على إخوانه المسلمين؟ {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:10].

رمضان شهر التوبة

رمضان شهر التوبة عباد الله: هذا الشهر شهر التائبين، شهر المقبلين على الله عز وجل هل رأيت أرحم من الله؟ هل رأيت أكرم من الله جل وعلا؟ هل سمعت بكرمٍ أعظم من كرم الله جل وعلا؟ إنه شهرٌ يفتح الله فيه أنواع الرحمات، بل وينادي منادٍ: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر. هذا رجل من بني إسرائيل عبد الله أربعين سنة، كان صالحاً تقياً ثم انتكس، فعصى الله جل وعلا أربعين سنة أخرى، أربعين سنة يطيع الله، ثم أربعين سنة يعصي الله ويجاهر بالمعصية، ثم أراد أن يتوب، فقال: يارب! أطعتك أربعين عاماً، وعصيتك أربعين عاماً، فهل لي من توبةٍ إن أنا تبت وأنبت إليك يا رب؟ فإذا به يسمع منادٍ يناديه: عبدي! أطعتنا فقربناك، وعصيتنا فأمهلناك، وإن رجعت إلينا قبلناك قال تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان:70]. إن لم يُغفر لك في رمضان فمتى؟! إن لم يرحمك الله في رمضان فمتى؟! إن لم يعتقك الله في رمضان فمتى يا أخي الكريم؟! الشياطين صفدت، والرحمات تنزل، والجنة فتحت أبوابها، وزينت لك يا عبد الله! فإن لم تقبل في رمضان فمتى؟! يا كثير العفو عمن كثر الذنب لديه جاءك المذنب يرجو الصفح عن جرمٍ لديه أنا ضيف وجزاء الضيف إحسانٌ إليه عبد الله! هل أنت مقبلٌ على الله؟ يبسط يده كل ليلة ليتوب مسيء النهار، وكل نهارٍ ليتوب مسيء الليل، قال تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الحجر:49] أخبرهم أني أنا الغفور الرحيم، بل قال في الآية الأخرى: إنه غفار، أي: كثير المغفرة: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ} [طه:82] هل أنت تنوي أن تتوب في هذا الشهر من ذلك الصحن وهذا البث المباشر الذي أدخلته إلى بيتك؟ هل عزمت أن تخرجه في شهر رمضان توبة إلى الله جل وعلا؟ ورصيدك الذي لا زلت تحارب الله به سنوات، ودعيت إلى الله فازددت منه {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279] هل أنت عازم على التوبة في هذا الشهر؟ {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53]. أيتها المتبرجة! يا من أصررت على هذا الفعل! هل عزمت في هذا الشهر أن تتوبي إلى الله جل وعلا؟ أدعو كل امرأة في هذا الشهر أن تقبل على الله كيف تذهبين إلى الصلاة وتدمع عينك وتخشعين وتبكين من خشية الله، ثم ما أن ينتهي رمضان إلا وقد حسر الرأس والذراعان والساقان، ثم ظهرت الضحكات مرةً أخرى، ورجع الاختلاط مع الرجال والخلوة بهم؟! إلى متى لا نتوب إلى الله جل وعلا؟ {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} [الزمر:54].

نماذج للتائبين

نماذج للتائبين عبد الله! اسمع إلى أولئك التائبين، كيف تابوا؟ هذا شاب يقول: كنت مولعاً بالأغاني والطرب، كان يعشق مطربة وللأسف! شباب المسلمين الذين كانوا يعشقون السيوف، ولا يتلذذون إلا بالجهاد، وكان الواحد منهم يقف على أصابعه ليؤذن له في الموت، وكان ينادي معاذ ومعوذ ابني عفراء أحد الصحابة: يا عم! يا عم! أين أبو جهل؟ فيقول: ماذا تريدان؟ ما شأنكما وشأنه؟ قال: يا عم! سمعت أنه يسب رسول الله، فوالله لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا. الله أكبر! هكذا الشباب. أما الشباب في هذا الزمن -إلا ما رحم ربك- فيبكي لأنها فارقته، يعتصر قلبه ألماً لأنها لم تلتفت إليه، يتقلب على الفراش بذكراها، تبكي عينه لفراقها تباً لأولئك الشباب! هكذا استبدلوا الأمجاد بهذه الأحوال هذا الشاب يقول: كنت مولعاً بمطربة وكنت أطرب بأغانيها، وأستمع إليها كل يوم من الصباح إلى المساء حتى في رمضان، صفدت الشياطين وبقي هو، لا يحتاج إلى شيطان، من الصباح إلى المساء على الأغاني والطرب، لا يصوم ولا يذكر الله، وكان يأتيه كل يوم رجل داعية يدعوه إلى الله جل وعلا، ولكنه يقول: كنت أتأثر ولكن عندما أذهب إلى البيت أرجع كما كنت، كل يوم على هذه الحالة، وكان الشيخ يدعوه، وهو يصر على الذنوب وعلى المعاصي يقول: وفي يوم من الأيام أغلظ علي في الموعظة، فذهبت إلى البيت ونمت؛ فرأيت فيما يرى النائم- اسمع ماذا رأى في المنام- يقول: كنت أمشي على شاطئ البحر، فإذا بي أسمع المطربة الفلانية تغني في النوم، وجاءني رجل، وقال: إن مطربتك المفضلة تغني فأسرع إليها، يقول: فأخذت أركض نحو الصوت على البحر؛ فإذا برجل يمسك بكتفي، فالتفت فإذا هو شيخ وقور كبير، فقلت له: ماذا تريد؟ قال: قف، قلت له: دعني أذهب إلى هذا الصوت، يقول: فإذا به يمسك بي ولا يسمح لي بالذهاب، وأنا أحاول أن أتركه ولكن لا فائدة، وإذا به يقرأ آية من كتاب الله: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك:22] ويردد الآية بترتيل، يقول: فاستيقظت من النوم وأنا أردد الآية وأبكي، لا أدري عن نفسي، حتى دخلت أمي وفزعت: مالك يا بني ما الذي جرى؟ وأنا أردد الآية وأبكي حتى بكت أمي معي، {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك:22] يقول: ومنذ تلك الليلة، ومنذ تلك اللحظات كسرت جميع الأشرطة، وأحرقت الصور، وبدأت بداية جديدة بيني وبين الله جل وعلا. يا من يعد غداً لتوبته أَعلَى يقينٍ من بلوغ غدِ المرء في زلل على أملٍ ومنية الإنسان بالرصدِ أيام عمرك كلها عدد ولعل يومك آخر العددِ لعل هذا اليوم هو آخر يوم، ولعل هذه اللحظة التي تسمعني الآن آخر لحظة، ولعلك -أيها العاصي المذنب- يختم الله لك على ذنبك وعلى معصيتك. رمضان شهر التوبة، رمضان شهر الإقبال على الله، كل ليلة يعتق الله فيه قوماً من النار {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185] كان السابقون في قيام ليل وصيام نهار، ويخافون ألا يقبل الله منهم، ومن الناس في هذا الزمن على أفلام ومسلسلات وأغاني وطرب ومجون، وفي النهار نوم، وفي الليل لهوٌ ولعبٌ وعربدةٌ وطرب، هذا حال بعض المسلمين حتى في شهر رمضان، ثم بعدها يرجون رحمة الله، وأي رحمة ترجون؟! الفضيل بن عياض، عابد الحرمين، كان له ابن مات من القرآن، وهو علي بن الفضيل {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:34] قرأ آية فبكى منها حتى مات، أما الفضيل بن عياض فقرأ يوماً قول الله جل وعلا: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:31] فتوقف وبكى، وقال: يا رب! إن بلوت أخبارنا افتضحنا. إنا لله وإنا إليه راجعون! الصالحون يقولون هذا، فماذا يقول المذنبون؟! ماذا يقول من أمسى وأصبح عاصياً لله جل وعلا؟!

الاستعداد لشهر رمضان

الاستعداد لشهر رمضان أيها الإخوة الكرام: نحن نعد العدة لاستقبال هذا الشهر، ونحن -أيها الإخوة الكرام- نتجهز لقدومه، منا من يتجهز بالطعام والشراب، وبالموائد والولائم، وبالسهرات، وبالرحلات، ومنا من يعد العدة ألا يخرج عليه هذا الشهر إلا وقد غفر الله له ذنوبه كلها، فمن أي الفريقين أنت؟ من الناس من يعد العدة لبرامج التلفاز، وأنا أقول هذه الكلمات وأرجو أن تصل للقائمين على الإعلام: أن يتقوا الله جل وعلا في المسلمين، أن يخافوا الله جل وعلا، ولعل واحداً منهم يسمعني، ولعل هذا الصوت يصل إلى أحدهم، أقول له: اتق الله جل وعلا، شهر رمضان شهر قرآن وذكر وقيام وصيام وعبادة للرحمن جل وعلا، لا شهر طرب ولهو وأفلام ومسلسلات، تقول لي: إذاً ماذا أفعل؟ أقول لك: تب إلى الله جل وعلا، تب مما جنيت وأنت حي، وارجع إلى ربك جل وعلا، واهجر ذلك العمل، واترك فإن الرزق عند الله جل وعلا، وأقول لهم: اتقوا الله جل وعلا، وحافظوا على دين الناس وعلى عبادة الناس، فكم من الناس من يجلس أمام التلفاز للأسف! أقول لك: سل نفسك: هل تنتظر بفارغ الصبر تلك الليالي وهذه الأيام وهذه اللحظات للبكاء من خشية الله، أم تنتظر تلك السهرات والأفلام؟ {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:35 - 36]. وفي نهاية الحديث أسال الله تبارك وتعالى أن يبلغني وإياكم هذا الشهر أيامه ولياليه، وأن يتقبل منا صيامنا وقيامنا، هذا وصلِّ اللهم وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

من الطارق؟

من الطارق؟ الموت هو الزائر بلا استئذان، فهو يأتي بلا موعد، فيسلبك الروح دون رضاك، خاف منه الصغير والكبير، القوي والضعيف، الغني والفقير، خاف منه السلف، ولم يعتبر منه الخلف.

تذكير بالموت

تذكير بالموت الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: أيها الإخوة الكرام: من الطارق؟! هذه الكلمات أسأل الله تبارك وتعالى أن يفتح لها القلوب، وأسأل الله جل وعلا أن لا يفرق هذا الجمع إلا بذنبٍ مغفور، وأسأله تبارك وتعالى كما جمعنا في هذا الجمع الكريم أن يجمعنا في ظله يوم لا ظل إلا ظله، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وأن يجمعني وإياكم في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

الموت يزورك بلا موعد

الموت يزورك بلا موعد أيها الإخوة الكرام: كم من الناس من يعيش في هذه الدنيا يلهو ويلعب، ينام ويستيقظ، يأكل ويشرب، ينكح النساء وينجب الأبناء، ويظن هذا المسكين أنه في هذه الدنيا مخلد، يظن أنه لما يجمع المال ويبني القصور {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} [الهمزة:3] يظن أنه سوف يعيش أبداً في هذه الدنيا، والمسكين لا يدري أنه في تلك الليلة الموعودة، أو في ذلك اليوم الأخير لعله كان جالساً مع أولاده وبناته الصغار يداعبهم ويلاعبهم، المسكين ما صلى ظهراً ولا عصراً، ما صلى لله عز وجل، ولعله قضى ليلته في الحرام، أو بالنظر إلى النساء، أو باستماع الأغاني، ثم داعب أهله وأولاده ثم ذهب إلى الفراش بعد أن قال لهم: أيقظوني للعمل، ولا يفكر في صلاة الفجر، ولا في قيام الليل، بل لربما نام على جنابة، فإذا به أثناء النوم يأتيه شيءٌ غريب فيقول له: من أنت؟! قال: أنا ملك الموت -ما الذي جاء بك؟! طرق البيت ودخل بغير استئذان، إنه الطارق، ما الذي جاء بك؟! - جئت أنتزع الروح، وأقبض الأمانة، الأمر سريع، والخطب فضيع، وهذا المسكين يقول للملك: أمهلني دقائق، حتى أصلي ركعتين أتوب بها إلى الله، ما اغتسلت من جنابة، عندي أموال لا زالت من الربا لم أرجعها، ولم أنفقها في الحلال، عندي بعض المظالم لم أرجعها إلى أصحابها. أمهلني دقائق، أرجع فأصلي لله ركعات، أسجد لله سجدة أتوب بها: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون:99]. ما الذي حدث؟ إن الروح بدأت تخرج، وبدأ ينزعها ملك الموت، فخرجت من رجليه؛ ما بال الرجلين بدأتا تبردان يصيح جاءت الزوجة فقالت له: ما بالك يا فلان؟ ما الذي جرى؟ ما الذي حدث؟ ينظر إليها ولا يستطيع أن يجيب، حشرجت نفسه في صدره، وبدأ يلفظ أنفاسه الأخيرة بكت الزوجة، ونادت الأولاد، ونادت من في البيت، جاء الأولاد الصغار، بدأت البنت تبكي وتنطرح على صدره وتقول: أبتِ! ما لك لا تجيب؟ وجاء الولد وهو يقول: يا أبتِ قبل قليل كنت تداعبنا، كنت تلاعبنا، كنت تضاحكنا، ما لك الآن لا تجيب؟ ينظر بعينين دامعتين، وهو لا يستطيع حراكاً. {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون:99] من هؤلاء؟ إنهم ملائكة سود الوجوه؛ لسود صحائفه، وسود أعماله، وسواد قلبه جاء الله بملائكة سود، من أنتم؟! إنهم من سوف يشيعونه إلى الملأ الأعلى، بدأت الروح تخرج، بدأت تتوزع في الجسد، وبدأ ملك الموت ينتزع {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً} [النازعات:1] * {وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً} [النازعات:2]. بدأ ينزع الروح وهي تتقطع وتقطع معها المفاصل والعروق، وهو يصيح ويبكي ولكن جاء الأب، جاء الحبيب، جاء الخل، جاء الأخ، جاء الأولاد، جاءت البنات انطرحوا على صدره، بكوا حوله، جاء الأب بالطبيب لعل الطبيب يسعفه وهو في اللحظات الأخيرة، تظنه بم يفكر؟ يفكر في دنياه، يسمع القلب يضرب الضربات الأخيرة. دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائقٌ وثواني إن الحياة دقائق ذهبت، وثوانٍ مضت، وأعوامٌ ذهبت وانصرمت، ماذا فعلت فيها يا عبد الله؟ مسكين قبل قليل كان يضحك ويلعب، وكان يلهو ويفرح. وعد أهله وأولاده بالسفر هذه السنة، كان يقول لهم قبل قليل: سوف نسافر إلى بلد كذا وكذا، وكان يجمع الأموال ويعد العدة للسفر، وكان يوعد الزوجة بتأثيث هذه الغرفة، وبشراء ذلك البيت، بل كان يحسب الرصيد حتى يأتيه بمال ليتزوج الزوجة الثانية، أو ليشتري سيارة أخرى أو يبني قصراً، أو يؤثث بيتاً، ولكن مسكين كل هذا ذهب بلمح البصر.

لا أحد ينفعك عند سكرات الموت

لا أحد ينفعك عند سكرات الموت {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} [القيامة:26] وصلت الروح إلى الترقوة والعينان تبصران، ولكنه لا يستطيع حراكاً {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} [القيامة:26] * {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [القيامة:27]. من يداويه؟ من يعالجه؟ من يطببه؟ ما بال هذا الطارق لم يستأذني؟ ما باله جاءني بغتة؟ ما باله لم يخبرني حتى أرجع المظالم إلى أهلها؟ لِمَ لم يحدثني قبلها بفترة حتى أتوب؟ وقد كان كلما نصح وكلما وعظ: يا فلان! اتق الله، يا فلان! استقم على أمر الله، يقول: إن شاء الله قبل أن أموت. {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} [القيامة:26] * {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [القيامة:27] * {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} [القيامة:28] المسكين تأكد أن الأمر انتهى، وعلم أن الدنيا قد انقضت، حياة الزوجة والبيت والأثاث، والسيارات والمراكب، الجلوس في الدواوين إلى آخر الليل، الأفلام والمسلسلات، المباريات على الأرصفة، الأرصدة الضخمة، كلها ذهبت وولت بلمح البصر، وصارت أغلى أمنية له أن يرجع للدنيا ليركع ركعة، وغاية ما يتمنى أن يؤخر لحظات ليتوب إلى الله، ولكن {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون:100] كلمة يقولها كما كان يقولها في الدنيا، كلما وقع بمصيبة قال: ربي لئن كشفت عني المصيبة تبت، فلما انكشفت رجع على حاله، كذب على الله جل وعلا مرات ومرات، كلما ضاقت به الأمور قال: رب لئن فرجتها عني لأرجعن إليك ولأتوبن، فلما انفردت الأمور رجع إلى ذنوبه ومعاصيه {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100]. يسمع الزوجة تقول له: لمن تتركنا؟! ولمن تخلفنا يا فلان؟ تذهب وتتركني مع أولادك الصغار، فمن يربيهم؟ من يطعمهم؟ من يسقيهم؟ يا فلان! أجبني، والبنت الصغيرة تقول له: يا أبتِ لِمَ لا تجيب؟ يا أبتِ من يوصلني إلى المدرسة؟ يا أبت! من يشتري لي اللعبة التي وعدتني إياها؟ والابن يقول له: يا أبتِ! ألم تعدني قبل ساعاتٍ وقبل لحظات بسفرٍ إلى بلد كذا؟ ألم تخبرني أنك سوف تأخذني غداً إلى هذا المكان؟ يا أبتِ لم لا تجيب؟ وهو جثة هامدة، لم يبق فيه إلا عينان تبصران، ولا يستطيع أن يحرك ساكناً: {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} [القيامة:28]. ثم غسل وكفن {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} [القيامة:29] * {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المَسَاق} [القيامة:30] ثم صلي عليه وحمل على الأعناق، فإن كان فاجراً، يقول وهو محمول على الأعناق: يا ويلها، يا ويلها، أين تذهبون بها؟ يا ويلها ما صلت! يا ويلها ما خشعت! يا ويلها ما تابت! يا ويلها ما ندمت! يا ويلها كانت تصر على المعاصي والذنوب! كانت تقلب بصرها في الحرام، يا ويلها طالما مشت إلى الفجور، وإلى المعاصي، وإلى الحرام والخنا والزنا! يا ويلها كانت تخطط للذنوب والحرام، يا ويلها أين تذهبون بها؟ {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المَسَاق} [القيامة:30]. فإذا به يوضع وتخيل -عبد الله- فلعل هذه الليلة التي تسمعني بها هي الأخيرة! [[إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء]].

شدة خوف السلف من الموت

شدة خوف السلف من الموت أخي الكريم: هل رأيت مصرعاً كهذا؟ هل رأيت رجلاً كهذا الرجل؟ كان يأمل ويحلم، ويخطط، ولكن الأجل كان أقرب من حلمه. الحسن البصري رأى رجلاً يصرع فيموت، فرجع إلى البيت، فقيل له: يا أبا سعيد العشاء! فلم يجبهم، ثم قالوا له: يا أبا سعيد العشاء! فلم يجبهم، ثم قالوا له: يا أبا سعيد العشاء رحمك الله! قال: [كلوا عشاءكم؛ فإني رأيت مصرعاً لا أزال أعمل له حتى ألقاه] {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [الأنبياء:35]. تخيل نفسك -يا عبد الله- على الفراش، تتنازع الروح! بل تخيل بحادث سيارة، لعلك قلت للأهل: سوف أذهب وأشتري لكم الأغراض ثم آتي إلى البيت، ولكنه الحادث الأخير، تخيل وأنت ذاهبٌ وخلفت الصلاة خلفك، وتركتها وضيعتها، ذاهبٌ إلى أين؟ لتشتري الحرام، أو لتجلس مع أصحاب السوء، أو لتذهب إلى الملاعب والملاهي، تاركاً خلفك الصلاة والمؤذن ينادي، فإذا بملك الموت ينتظرك: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185]. عمر بن عبد العزيز، كان في كل ليلة يجلس ويجمع حوله الفقهاء والعلماء، فيتذاكرون الموت والدار الآخرة، فيبكي ويبكون وكأنما جنازة مرت بينهم، أوكأنهم شيعوا جنازة. الموت، هادم اللذات -يا عبد الله- لا يستأذنك ولا يخبرك، بل يأتيك بغتة، بل وتخرج نفسك فلتة. عبد الله! لن تدرك أن تتوب إلا إذا وفقك الله، لا تقل: غداً أتوب، ولا تقل: في العام القادم، ولا تقل: إذا اعتمرت، ولا تقل: إن شاء الله إذا حججت، ولا تقل: إذا تزوجت، ولا تقل: إذا فعلت كذا وكذا أتوب إلى الله، وما يدريك أنك سوف تدرك هذه الأيام. تفكر في مشيبك والمآبِ ودفنك بعد عزك بالتراب إذا وافيت قبراً أنت فيه تقيم به إلى يوم الحسابِ وفي أوصال جسمك حين تبقى مقطعة ممزقة الإهابِ فلولا القبر صار عليك ستراً لأنتنت الأباطح والروابي خلقت من التراب فصرت حيا وعلمت الفصيح من الخطابِ فطلق هذه الدنيا ثلاثاً وبادر قبل موتك بالمتابِ نصحتك فاستمع قولي ونصحي فمثلك قد يبل على الصوابِ خلقنا للممات ولو تركنا لضاق بنا الفسيح من الرحابِ ينادى في صبيحة كل يومٍ لدول الموت وابنوا للخرابِ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر:5] كم من الناس من فضحه الله؛ كان يتظاهر أمام الناس بالصلاح، وسيماه سيماء المتدين، ولكنه للأسف بينه وبين نفسه معصية يصر عليها! كان إذا جاء إلى البيت يغلق على نفسه البيت ويطفئ الأضواء ويرتكبها، وإذا خاطبته نفسه قال: الله غفور رحيم، والمسكين ما كان يدري أن ملك الموت قد دخل عليه في تلك اللحظة وقبض روحه واستل نفسه من بين جنبيه.

قرناء السوء وخطرهم

قرناء السوء وخطرهم اسمعوا إلى هذا الرجل الذي كان يصلي، وكان مع الصالحين، ولكن ضعفت نفسه، وفتر إيمانه، وقل دينه، فصار لا يحافظ إلا على الصلاة، ويرتكب كثيراً من المعاصي والذنوب، انظر كيف مكر فمكر الله به، جلس يوماً مع أصحابه أصحاب السوء، فقالوا له: يا فلان! ما رأيك أن نذهب إلى بلاد كذا؟ قال: معاذ الله! ولا زال في القلب دينٌ وإيمان، قال: معاذ الله لا أذهب معكم، فلا زالوا به يراودونه، يا فلان! تعال معنا ولا تفعل شيئاً من الحرام، تعال وتمتع ولا ترتكب شيئاً من الإثم، قال: لا لن أذهب معكم، فلا زالوا به -أصحاب السوء- حتى أقنعوه بأن يسافر معهم. {وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان:33] غره بالله الشيطان، فسافر إلى تلك البلاد، فكان في كل ليلة يذهب أصحابه يسهرون على الحرام والخمر والنساء، ومعاقرة الحرام، وكان يمكث في غرفته لوحده، ولا يخرج معهم، ولا يرتكب الحرام معهم، فتقاسموا بينهم، ومكروا مكراً، وقالوا: فلان لا يرتكب الحرام معنا لا بد أن نوقعه معنا في الحرام. كيف؟ سوف نأتيه بعاهرة داعرة إلى غرفته؛ انظر لأصحاب السوء؛ قال الله تعالى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:28] الله عز وجل يقول لك: لا تطع أولئك النفر الذين همهم الدنيا، وغايتهم الحرام، ويجلسون على الحرام، ويمسون عليه، ويقومون عليه، مجالسهم التلفاز والستلايت، والأفلام والمسلسلات، أحاديثهم عن النساء، وعن الفحش والبذاءة، غايتهم في الدنيا الحرام والمعاصي والذنوب، لا تطعهم ولا تجالسهم ولا تصاحبهم، لا تصاحب إلا مؤمناً، لكنه -للأسف- استرسل معهم. جاءوه في تلك الليلة الحمراء، في ذلك اليوم المشئوم، فدخلوا عليه، وأدخلوا عليه العاهرة الداعرة، وأغروها بمال أن تراوده على نفسها، ثم أغلقوا الباب عليه، فلا زال يردها وتراوده، ويدفعها وتغريه، ويمتنع وتشهيه، فإذا به في لحظة ضعف {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [القلم:44 - 45] وفي لحظة ضعف وقع عليها فزنى بها، فلما زنى فإذا بالطارق يدخل غرفته واستل روحه، وقبض الله روحه، يبعث على ما مات عليه {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [العنكبوت:57].

احذر أن تموت على معصية

احذر أن تموت على معصية عبد الله! لا تقل: لا أحد يراني، وسوف أفعلها وإن شاء الله أصلي الفجر وينتهي الأمر، وما يدريك أنك تدرك وقت الفجر؟ وما يدريك -يا عبد الله- أن الله سوف يؤخرك بالتوبة؟ اسمع -يا عبد الله- إلى حالك بعد أن تموت، وبعد أن تخرج الروح! فلو أنا إذا متنا تركنا لكان الموت راحة كل حيٍ ولكنا إذا متنا بعثنا ونُسأل بعدها عن كل شيء نعم. ترى جسداً لا حراك فيه، ولكن الروح اسمع ما الذي سوف يحدث لها؟ من الذي يدفنه؟ إنه أحب الناس إليه، بل أقربهم إليه من يسرع في دفنه، ومن يسرع في حثو التراب على وجهه، بل يتقرب الناس بدفنك في التراب، ثم بعد دقائق لا أحد يمكث على قبرك، وبعدها بلحظات نُسيت يا عبد الله! زوجتك بعد أيام أو بعد شهور تتزوج غيرك، وأولادك لا يسألون إلا عن الميراث، وأبوك رضى بقدر الله، هي الدنيا لقد جرب غيرها من المصائب، نسيك بعد أيام، أتظن -يا عبد الله- أنهم سوف يعكفون على قبرك يؤنسونك ويلاطفونك ويحادثونك؟! لا يا عبد الله، اسمع ما الذي سوف يجري عليك؟ وما الذي سوف يحدث لك؟ اسمع إن كنت غافلاً أو لاهياً؛ صاداً عن ذكر الله. ذنوبك يا مغرور تحصى وتحسبُ وتجمع في لوحٍ حفيظٍ وتكتبُ وقلبك في سهوٍ ولهوٍ وغفلة وأنت على الدنيا حريصٌ معذبُ تباهي بجمع المال من غير حله وتسعى حثيثاً في المعاصي وتذنبُ أما تذكر الموت المفاجيك في غدٍ أما أنت من بعد السلامة تعطبُ أما تذكر القبر الوحيش ولحده به الجسم من بعد العمارة يخربُ لعلك الليلة تدخله، لعلك لن ترى شمس الغد، لعلك -يا عبد الله- لن ترجع إلى البيت الآن، لعل هذه الكلمات الأخيرة التي تسمعها الآن، ما يدريك؟ لعل الملك الآن يطرق هذه الغرفة.

قصيدة عن الموت

قصيدة عن الموت عبد الله! لا تقل: لما أرجع سوف أتوب، لا تقل: بعد نهاية هذه المحاضرة، الآن الآن تب واندم، ولتدمع العين، وما يدريك لعلها اللحظات الأخيرة أما تذكر القبر الوحيش ولحده به الجسم من بعد العمارة يخربُ الجسم الجميل الذي كان يقف أمام المرآة الساعات الطوال يحسنه ويجمله، وكان يتطيب ويغتسل، ولا يرضى بقذارة على جسمه، بعد أيام وبعد لحظات إذا بالدود ينهشه، إذا به ينتن، بعد أيام لو نبشت القبر لا تتحمل رائحته. يقول أحد الصالحين: أما تذكر اليوم الطويل وهوله وميزان قسط للوفاء سينصب تروح وتغدو في مراحك لاهياً وسوف بأشراك المنية تنشبُ تعالج نزع الروح من كل مفصلٍ فلا راحمٍ ينجي ولا ثم مهربُ أرجو منك -يا عبد الله- وأنت تسمعني أن تتخيل نفسك! وأن تتمثل أنك أنت الموصوف. تعالج نزع الروح من كل مفصلٍ فلا راحمٍ ينجي ولا ثم مهربُ وغمضت العينان بعد خروجها وبسطت الرجلان والرأس يعصبُ وقاموا سراعاً في جهازك يحضروا حنوطاً وأكفاناً وللماء قربوا وغاسلك المحزون لعله أخ ولعله أبوك ولعله خليلك وغاسلك المحزون تبكي عيونه بدمعٍ غزيرٍ واكفٍ يتصببُ وكل حبيبٍ لبه متحرقٌ يحرك كفينِ عليك ويندبُ وقد نشروا الأكفان من بعد طيها وقد بخروا منشورهن وطيبوا وألقوك فيما بينهن وأدرجوا عليك مثاني طيهن وعصّبوا وفي حفرةٍ ألقوك حيران مفردا تضمك بيداءٌ من الأرض سبسبُ إذا كان هذا حالنا بعد موتنا فكيف يطيب اليوم أكلٌ ومشربُ وكيف يطيب العيش والقبر مسكنٌ به ظلماتٌ غيهبٌ ثم غيهبُ وهولٌ وديدانٌ وروعٌ ووحشة وكل جديدٍ سوف يبلى ويذهبُ فيا نفس خافي الله وارجي ثوابه فهادم لذات الفتى سوف يقربُ وقولي إلهي أولني منك رحمة وعفواً فإن الله للذنب يذهبُ ولا تحرقن جسمي بنارك سيدي فجسمي ضعيفٌ والرجا منك أقربُ فما لي إلا أنت يا خالق الورى عليك اتكالي أنت للخلق مهربُ وصلِّ إلهي كلما بر شارقٌ على أحمد المختار ما لاح كوكبُ

أقوال في الموت

أقوال في الموت يقول ابن عباس رضي الله عنهما عندما قرأ قول الله وبكى: {فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً} [مريم:84]: [آخر العدد خروج نفسك، آخر العدد فراق أهلك، آخر العدد دخول قبرك] {فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً} [مريم:84]. عبد الله! قبل أن أختم حديثي معك، إياك إياك أن تحسن الظن بنفسك، وإياك إياك أن تقول: أصبت الفردوس الأعلى، أو نجوت من النار. فهذا عمر كان يخاف على نفسه النفاق، وهذا عمر بن عبد العزيز كان يبكي عندما يمر بالقبور وينظر إليها. وهذا أبو بكر لما رأى الطير قال: [يا ليتني كنت طيراً مثل هذا، يموت ولا حساب ولا عذاب]. وهذا عثمان الذي اشترى الجنة ثلاث مرات بماله، يقول: [والله لو كنت بين الجنة والنار ولا أدري إلى أيهما أصير لتمنيت أن أكون رماداً]. أما أبو عبد الله محمد بن المنكدر فقد بكى حتى أشفق عليه أهله فقالوا له: لمَ تبكي يا أبا عبد الله؛ أمات عليك أحد؟ أقتلت نفساً؟ بكى، ولم يجبهم بسبب بكائه فأرسلوا إلى صاحبه أبي حازم، فقالوا له: إن صاحبك أهلك نفسه بالبكاء؛ فأتِ إليه وخفف عنه، فجاءه وقال له: يا أبا عبد الله! ما الذي يبكيك؟! قال له: يا أبا حازم! يبكيني قول الله: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47] كان يحتسب أنه من أهل الخير، ولكن للأسف؛ رياءٌ في رياء، ولكن للأسف؛ ملئ القلب بالنفاق، ولكن للأسف كانت عنده معاص يصر عليها، فختم الله له حياته بها. نعم ارج الله ولا تيأس من رحمته، ولكن اندم على ما مضى، واعزم على ألا تعود إلى حياتك الماضية، وقل: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:84] اقدم إلى الله جل وعلا، وتب إليه ولتدمع العينان. عبد الله! إلى متى وأنت تصر على المعاصي والذنوب؟ إلى متى وأنت تقول: إن ربي غفورٌ رحيم {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد:16]. إلى متى -يا أخي الكريم- تسمع الأذان وتولي؟ إلى متى -يا عبد الله- تقوم من الفراش وتعلم أن الفجر قد أذن وحل، ثم ترجع إلى الفراش وتنام؟! إلى متى -يا عبد الله- تتظاهر بالصلاح، ثم إذا خلوت بمحارم الله انتهكتها، وتصر ولا تندم، ولا ترجع إلى الله جل وعلا. إلى متى يا عبد الله؟ إلى متى تتساهل بالصغائر حتى وقعت في الكبائر؟ إلى متى يا عبد الله؟ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18].

عليكم بالدعاء في السحر

عليكم بالدعاء في السَّحر قبل أن أختم حديثي أقول: يا عبد الله! عليك بالثلث الأخير من الليل، الله الله بالسحر! الله الله بدموع قيام الليل؛ فإن سلفك كانوا من أعبد الناس، ومن أتقى الناس، فإذا حل الليل: عباد ليل إذا جن الظلام بهم كم عابدٍ دمعه بالخد أجراهُ وأسد غابٍ إذا نادى الجهاد بهم لبوا إلى الموت يستجدون رؤياهُ عبد الله! عليك بالثلث الأخير من الليل، إن كنت صاحب ذنب، صاحب معصية، فالله الله بالثلث الأخير؛ فإن الرب ينزل، ويبسط الرب يده جل وعلا ويقول: (هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفرٍ فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه)! الله الله في الثلث الأخير {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات:17] * {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:18]. الله الله بقيام الليل؛ فإنه مكفرةٌ للذنوب! الله الله بالدعاء آخر الليل، وباستغفار السحر! الله الله بآخر الليل! أنصحك ونفسي المقصرة -وكلنا مقصرون- وكل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون. أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنبٍ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الأسئلة

الأسئلة

نصائح لمن يريد التوبة

نصائح لمن يريد التوبة Q أنا شابٌ أول مرة أصلي وأدخل المسجد وأحضر المحاضرة، فما نصيحتك لي؟ وآخرٌ يقول: شابٌ يرغب في الالتزام والتوبة، ولكن يخاف الانتكاسة، فما نصيحتك لهذا الشخص مع العلم أنه موجود؟ A أيها الأخ الكريم خذ هذه النصيحة واحفظها وطبقها: أولاً: حيلة الشيطان ألا تلتزم حتى لا تنتكس مفضوحة من بدايتها، وواضح لكل ذي عينين أنها خدعة إبليسية، وليست محكمة، فإنك -يا عبد الله- عاقل! وأنا أربأ بك أن تنخدع وراء هذه الشبهة، (لا تهتد حتى لا تضل) وهل الآن أنت في هداية؟! وهل تضمن نفسك -يا عبد الله- أن يؤخرك ملك الموت حتى تهتدي هداية لا ضلالة بعدها؟! وما أدراك أنك إذا اهتديت سوف تضل؟! ومن أخبرك بهذا؟ بل قال الله جل وعلا: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} [العنكبوت:69] إذا دخلت في دين الله {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] ما يدريك لعل الله يفتح عليك، بل لعل الله يشرح صدرك، ما يدريك يا عبد الله؟ بل لعل هذه اللحظة وهذه الجلسة يكتب الله لك بها السعادة الأبدية السرمدية. واسمع إلى هذا الشاب، اسمع ولعلك أنت مثله، ولعل الله عز وجل يريد بك الخير: كان في يوم من الأيام من أهل الفتيات والنساء والمعاصي والذنوب وكان يجاهر بالمعصية، وفي يوم من الأيام كان في إحدى الطرقات يكلم فتاة، فجاءه رجلٌ يدعوه إلى الله وينصحه لله، ولعل حال ذلك الشاب كحالك فاسمع وانتبه ولك فيها عبرة. يقول الشيخ: لما اقتربت إذا بالفتاة تهرب، يقول: فجئت إلى هذا الشاب يقول: فوعظته نصف ساعة يقول: فلما انتهيت إذا عيناه تذرفان ويبكي، يقول: فأخذت رقم هاتفه، يقول: وبعد أسبوعين تذكرته فرفعت سماعة الهاتف في الصباح فقلت له: فلان قال: نعم. تذكرني؟ قال: وكيف أنسى الصوت الذي كان سبباً لهدايتي، الله أكبر! اهتديت من كلمة؟ من موعظة؟ نعم. فتح الله عليَّ فلا أفارق المسجد ولا القرآن، ولا ذكر الله جل وعلا، قال: اليوم سوف أزورك وسوف آتيك في المنزل، قال: حياك الله، يقول: فلما صليت العصر وكان موعدي معه بعد صلاة العصر قال: جاءني ضيوف -يقول الشيخ- فأخروني عن الموعد، فلما حل الليل قلت: لا بد أن أزوره فجئته في الليل، فطرقت الباب فخرج لي شيخٌ كبير، فقلت له: أين فلان؟ قال: أنت فلان؟ قال: نعم. أين فلان؟ يقول: وكان حزيناً، فقال لي: دفناه قبل ساعة، قلت: لا يمكن؛ اليوم كلمته بالهاتف ووعدته العصر قال: نعم لم يكن به بأس، صلى الظهر ثم تغدى وقال: أيقظوني لصلاة العصر، يقول: فجئنا نوقظه فإذا هو قد فارق الدنيا. عبد الله! انظر كيف أراد الله به الخير، إنها الأيام الأخيرة، إنها آخر ساعات الحياة، إذا به يلتزم ويهتدي ويقبل على القرآن، فقبض الله روحه، والأعمال بالخواتيم، فقال له: من أنت؟ قال: أنا أبوه، قال: ومن أنت أيها الشيخ؟ قال له: تعرفت على ابنك قبل أسبوعين، قال: دعني أقبل رأسك، قال: ولم؟ قال: أنقذت ابني من النار. لعل هذه المحاضرة وهذه الجلسة -يا عبد الله- بها يبدل الله سيئاتك حسنات، وتنقلب الصحائف السود إلى صحائف بيض، والسيئات تنقلب الآن في هذه الجلسة بندم وصدق وتوبة صادقة، لا تخرج من هذا المجلس إلا وقد قيل لك: قم قد بدلت سيئاتك حسنات. ما يدريك -يا عبد الله- لعلك بعد أيام تصبح عابداً، بل داعية إلى الله جل وعلا؟! وكم من المغنين المطربين اليوم أصبحوا من الدعاة إلى الله جل وعلا، بل كم من النصارى عباد الصليب أصبحوا اليوم يدعون إلى توحيد الله جل وعلا، كم وكم؟ ما يدريك -يا عبد الله- لعله يكون لك في أمة محمد شأن، ويكون لك دور؟ كما ضللت وأضللت، فإنك تهتدي، ويهدي الله على يديك خلقاً كثيراً. عبد الله أهدي لك هذه النصائح فاسمعها: أولاً: إياك إياك أن تفارق القرآن: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} [الفرقان:32] القرآن يثبت فؤادك، فاجعل لك ورداً كل يوم للقراءة وورداً للحفظ، إياك أن تخلط بين هذا وهذا، وإياك أن تهجر القرآن، فإنه حبلٌ بينك وبين الله، كل يوم لا بد أن تقرأ القرآن، بعد الفجر، أو آخر الليل، أو بين الصلوات، اعكف على كتاب الله: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] فكلما دعتك نفسك للرجوع، اقرأ آيات العذاب، ووصف جهنم: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ} [الدخان:43 - 44]. كلما مللت من العبادة اقرأ عن أوصاف الجنة (فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر) {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]. كلما استهزأ بك أصحاب السوء وأهل الباطل والفساد، وسخروا منك؛ فاقرأ القرآن: {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود:38] من هو؟ أول رسول على وجه الأرض، إنه نوح عليه السلام: {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ} [هود:38] مِن قومه، ومِنْ أبناء عمِّه ومن أقربائه {سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود:38] ثبات الداعية إلى الله، ثبات العابد المستسلم لله جل وعلا، أنا الذي أسخر منكم، وأنا الذي أستهزئ بكم حقاً، أنتم في ضلال وغواية. اقرأ قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} [المطففين:29 - 30]. عبد الله! القرآن فيه شفاء لكل داء، كل مرضٍ من أمراض الشهوة علاجه في كتاب الله. ثانياً: يا عبد الله! (لعلك بأرض سوء فاخرج منها إلى أرض كذا وكذا، فإن فيها قوماً يعبدون الله فاعبد الله معهم) هذا شطرٌ حديث الذي قتل مائة نفس، فجاءه الناصح العالم فقال له: اهجر هذه المجالس، واهجر تلك المجموعة، واهجر هذه الرفقة، بل اهجر البلد كلها. أقول لك يا عبد الله: ذلك المجلس الذي دلك على الحرام، وذلك الصاحب الذي عرفك بالحرام، وتلك الديوانية التي كنت تجلس فيها على الحرام قاطعها لله جل وعلا، اهجرهم لله جل وعلا: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً * وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ} [الكهف:28 - 29] اهجرهم لله جل وعلا، غادرهم وودعهم وداعاً لا رجعة فيه، لا ترجع إلا داعياً لهم إلى الله جل وعلا، لا ترجع إلا متسلحاً بسلاح العلم والعبادة والإيمان؛ برفقة صالحة تقتحم تلك المجالس، تقول لهم: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43] تأتيهم لتدعوهم إلى الله جل وعلا، تخرجهم من عبادة الشهوات والفتن والملذات إلى عبادة رب الأرض والسماوات. عبد الله النصيحة الثانية: الرفقة الصالحة، واهجر كل رفقة سيئة. ثالثاً: يا عبد الله! عليك بالدعاء، ادع الله جل وعلا من قلبك، ولتدمع العينان وقل: اللهم يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك، اللهم يا مصرف القلوب والأبصار! صرف قلبي إلى طاعتك. ادع الله وأنت موقن بالإجابة. ادع الله بخوفٍ ووجل، هذا نبيك عليه الصلاة والسلام كان يدعو بهذا الدعاء ويكثر منه، بل أبو الأنبياء وإمام التوحيد الذي كسر الأصنام، إبراهيم عليه السلام، هل يرد في قلبك شك أنه سوف يضل؟ لا. لا يرد في قلوبنا شك، كان يدعو الله فيقول: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم:35] هو الذي كسر الأصنام حتى جعلها فتاتاً وجذاذاً، يقول: يا رب! اجنبني وبني أن نعبد الأصنام، انظر الاستكانة لله، انظر التعلق بالله جل وعلا، انظر التبرؤ من الحول ومن القوة إلا بالله جل وعلا وحده. ادع الله بهذه الصورة، وبهذا التعلق بالله جل وعلا: اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، ثم اترك الكبار من المعاصي، واهجر الصغار منها، واعلم أن الصغيرة على الصغيرة على الصغيرة تجتمع حتى تملك القلب. خلِّ الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى واصنع كماشٍ فوق أرض الشوك يحذر ما يرى لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه، والحمد لله رب العالمين.

اللؤلؤة كيف تحفظ نفسها؟

اللؤلؤة كيف تحفظ نفسها؟ إن السعادة كل السعادة في طاعة الله ورضوانه، والشقاوة والضياع في مخالفة أمره وعصيانه، وذلك لما لهذه الذنوب والمعاصي من أضرار في الدنيا والآخرة، وقد ذكر الشيخ حفظه الله بعضها ثم تحدث إلى المرأة، وذكر بعض الأمور التي تحفظ بها نفسها من الذنوب والمعاصي، كخوف الله تعالى ومراقبته، ومحاسبة النفس، ومجالسة الصالحات وغيرها.

أضرار الذنوب والمعاصي

أضرار الذنوب والمعاصي الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: كيف تحفظ المؤمنة نفسها من الذنوب والمعاصي؟ من منا لا يذنب؟! ومن منا لا يعصي الله جل وعلا؟! بل لقد قال عليه الصلاة والسلام: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقومٍ يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم)؛ بل قال عليه الصلاة والسلام: (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون) بل حتى التقية الورعة؛ بل أتقى النساء لا بد أن تقع في الذنوب والمعاصي، والله جل وعلا لما وصف المؤمنين الأتقياء الورعين، ذكر أن من صفاتهم أنهم يقعون في الفواحش، أو ظلم النفس، وأقل الأمر أنهم يقعون في الظلم وهي الصغائر. يا أمة الله! اسمعي إلى المتقين لله جل وعلا إذا وقعوا في الذنوب والمعاصي ماذا يفعلون؟ قال الله جل وعلا في وصفهم: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:135] لكن هناك علامة للمتقين أنهم إذا وقعوا في الذنب: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] بل إن الفرق -بين المؤمنة التي تذنب والفاجرة التي تذنب- كبير، يقول ابن مسعود: [المؤمن يرى ذنبه كأصل جبل يوشك أن يقع عليه، والمنافق الفاجر يرى ذنبه كذبابٍ وقع على أنفه، فقال به هكذا] أرأيت إلى الفرق بين هذه وتلك؟! كلاهما تعصي الله جل وعلا، لكن الأولى إذا عصت خافت، وندمت، ووجل القلب، واستغفرت، وعملت الصالحات؛ لتكفر ما عملت من ذنوب، أما تلك فإنها ترتكب المعاصي والذنوب، والفواحش والظلم، ولكنها تبتهج وتفرح وتسر بتلك المعاصي. أختي الكريمة: اعلمي أن لهذه الذنوب والمعاصي أضراراً وسواداً في الوجه وظلمة في القلب. لقد وصف الله عز وجل أولئك الذين ابتعدوا عن شرعه، وانتهكوا محارمه، ووقعوا في الذنوب وأسرفوا فيها، يصف الله عز وجل حياتهم، ومعيشتهم في هذه الدنيا، فيقول: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:124] تجدينها من الصباح إلى المساء وهي تسمع الأغاني إذا ركبت السيارة لا تسمع إلا الأغاني، وكلما رأت الرجال تلتفت وتنظر إليهم يمنة ويسرة، لا تحب أن تخرج من بيتها إلا متعطرة متبرجة كاشفة عن شعرها وذراعيها؛ لتقول للناس: انظروا إليّ إذا خرجت من بيتها ورجعت لا تعرف ذكراً، ولا تتذكر صلاةً، ولا ترعى لله عز وجل حرمه كيف تعيش أم كيف تحيا؟ إذا جاءت إلى البيت نامت ولم تستيقظ إلا في الليل، لا تعرف صلاة العصر ولا صلاة المغرب، ثم إذا استيقظت من نومها جلست أمام التلفاز إلى منتصف الليل، أو كلمت فلانة، أو تجولت في السيارة، تسألينها: لمَ كل هذا يا أمة الله؟! تقول: عندي ملل، وضيقٌ في الصدر، ولا أحس بلذة في الحياة، أتعلمين ما هو السبب؟ قال سبحانه: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:124 - 126]. وهذا رجل كافر بحث عن السعادة في الدنيا، وبحث عن أسبابها، فألف كتاباً أسماه: دع القلق وابدأ الحياة، هذا الرجل الكافر ألف هذا الكتاب ليبين فيه أسباب السعادة في الدنيا، فيقول: دع القلق،! اترك الهم اترك الغم، وإذا به بعد أن ألف الكتاب يربط حبلاً في غرفته فيشنق نفسه {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:124] يعيش كما يعيش الناس تأكل وتشرب وتلبس أحسن الملابس، وتسكن أحسن القصور، وتركب أفخر السيارات، إذا مشت لا تتكلم إلا في الدنيا ومتاعها تضحك ملء فمها ولكن القلب حزين، والصدر قد ضاق بالمعاصي، وضاقت عليها الدنيا بما رحبت {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:124]. أمة الله: سلي أصحاب المعاصي والذنوب: هل أنتن في سعادة؟ ائتِ إليها واجلسي معها، وقولي لها: تسافرين إلى أي مكان تشائين، وتنظرين إلى أي فيلمٍ تحبين، وتستمعين إلى أي أغنية لا صلاة ولا زكاة، ولا قرآن ولا التزام بشرع الله، فهل أنت الآن في سعادة؟ تخبرك وتقول لك: لا والله! قد ضاقت علي الدنيا بما رحبت، بحثت عنها فلم أجدها، لا أدري أين هذه السعادة واجلسي مع أمة الله الصالحة اجلسي مع تلك المحجبة، التي إن قامت فإنها تقوم لصلاة الفجر، وإن ذكرت في نومها فإنما تذكر الله جل وعلا، تنام على ذكر الله، وتستيقظ على ذكر الله، تغض بصرها عن الحرام، سليها: هل أنتِ في راحة وسعادة؟ لا أراك تضحكين، ولا تلهين في الدنيا كما تلهو غيرك، هل أنت في سعادة؟ تقول لك: إي والله! لو كان أهل الجنة في مثل ما نحن فيه والله إنهم لفي عيش طيب!! {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]. أمة الله: هذه بعض أضرار المعاصي والذنوب، ناهيك عن الأضرار التي تأتي يوم القيامة، وفي القبر والمحشر، وسوف نعرج عليها إن شاء الله.

كيف تحفظ المؤمنة نفسها

كيف تحفظ المؤمنة نفسها أمة الله: كيف تحفظ المؤمنة نفسها من الذنوب والمعاصي؟ كيف تبتعد عن الذنوب والمعاصي؟ كيف تحصن نفسها إذا أقبلت الذنوب والمعاصي إليها؟ لقد أخبر عليه الصلاة والسلام أنه (سوف يأتي على الناس زمان، القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر) تصبح الواحدة لا تتحمل أن تتمسك بدينها، وكأنها تقبض على الجمر، بل قال عليه الصلاة والسلام: (بادروا بالأعمال الصالحة! فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً، ويمسي كافراً) في الصباح تجدينها مصلية ذاكرة ساجدة راكعة تعرف دينها وربها، ثم إذا أقبل الليل وغربت الشمس، فإذا بها تجحد أوامر الله، وتستهزئ بدين الله، هذه الفاجرة الكافرة الفاسقة التي ترد أوامر الله جل وعلا، وتستحل محارمه ما الذي جرى؟ ما الذي حدث؟ قال: (يبيع دينه بعرضٍ من الدنيا).

من أسباب حفظ المرأة نفسها: غض البصر

من أسباب حفظ المرأة نفسها: غض البصر كم وكم من النساء كن صالحات، وإذا بفتنة وشهوة ومعصية ترديهن على أعقابهن. اسمعي إلى هذا الرجل الذي كان صالحاً طوال حياته، بل كان مؤذناً يؤذن للناس ويدعوهم إلى الصلاة، فيقول: حي على الصلاة، حي على الفلاح! وفي يومٍ من الأيام وهو يؤذن نظر إلى فتاة وأدمن النظر إليها، ولم يغض بصره وأسرف في المعصية، فإذا بقلبه يتعلق بها، فنزل بعد الأذان -واسمعن يا إماء الله إلى هذه القصة الغريبة، وبعدها لا أظن أن واحدة منكن سوف تأمن على نفسها، وتثق أنها سوف تظل على الدين إلى أن تموت إلا بتوفيق الله جل وعلا -فطرق الباب على ذلك البيت، فخرجت تلك النصرانية، فعانقها، فقالت له: سبحان الله -وهي كافرة- مؤتمنٌ ويخون! أي: أنت أمينٌ للناس تؤذن لهم وتخون الأمانة! فقال: إني أريدك. قالت له: إذاً فتزوجني، قال: نعم، قالت: بشرطٍ واحد. قال: وما هو الشرط؟ قالت: أن تتنصر، أن تكفر بالله العظيم، أن تبدل دينك إنها الشهوة ومرض القلب فإذا به يقول: إذاً أتنصر. سبحان الله! لا إله إلا الله! إذا دخلت الذنوب والمعاصي القلوب، كيف تبدلها وتقلبها؟ ثم دخلت البيت وقالت له: اشرب من هذا الكأس، فإذا به يشرب من الخمر، ويأكل من لحم الخنزير، ثم قالت له: اصعد وارق على سطح المنزل، فإذا جاء والدي سوف أخبره بالخبر، فإذا به يصعد على سطح المنزل، ثم يتجول في السطح وهو سكران، ثم سقط من على المنزل، فإذا به يفارق الدنيا على نصرانيته!! يقول الله جل وعلا: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27]. إذاً: الأمر خطير يا أمة الله! كيف تحفظ المسلمة نفسها من الذنوب والمعاصي؟ ألا تذكرين فلانة؟ كانت مصلية راكعة ساجدة، بل كانت يوماً من الأيام تحفظ كتاب الله، بل كانت تدعو إلى الله جل وعلا، كانت تتصل على فلانة فتدعوها إلى ذلك المجلس، وكانت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر أين هي الآن؟ هي الآن في مواطن الشهوات والشبهات، هي تحتاج إلى من يدعوها إلى الله جل وعلا ما الذي جرى؟ (إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء).

من أسباب حفظ المرأة نفسها: المحاسبة والمراقبة

من أسباب حفظ المرأة نفسها: المحاسبة والمراقبة يا أمة الله! من الأمور التي تحفظين بها نفسك من الذنوب والمعاصي: المحاسبة والمراقبة. أن تراقبي الله جل وعلا في كل مكان، فإذا كنتِ في الليل في غرفتك لوحدك، وفتحت التلفاز، اعلمي أن هناك من يراكِ ويطلع عليك ويراقبك أتعلمين من هو؟ إنه الواحد الأحد إنه الفرد الصمد إنه الذي خلقك فسواك. فيا من تتجولين في السيارة، وتستمعين إلى الأغاني، وتقولين: الحمد لله! لا أحد يراني، ولا أحد يستمع إليَّ، فإذا بك تضعين ذلك الشريط، وتقلبين الإذاعة، فتسمعين تلك الأغنية أتظنين أنه لا أحد يسمعك؟! اسمعي من الذي ينظر إليك ويحسب عليك كل نفس وكل خاطرة وكل نظرة، وكل أغنية، وكل كلمة يقول الله جل وعلا: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [الرعد:9]. من هو؟ إنه الله جل وعلا، عالم الغيب عالم السر عالم كل شيء {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ * سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ} [الرعد:9 - 10] سواءً في علم الله التي تتكلم بالسر، وترفع سماعة الهاتف، وتكلم فلاناً، ويكلمها فلان، وتأتي إلى الغرفة وتغلق الباب على نفسها، وتخفض صوتها وتتكلم. {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} [الرعد:10] أي: الذي يستخفي في الليل، ويخفي نفسه في الظلام، وتخفي نفسها وتغلق الباب على نفسها، إن الله يراها يقول الله جل وعلا: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:14]. فهذا الإمام أحمد، الذي كان من ورعه وتقواه وزهده أنه كان يترك المباح خشية أن يقع في الحرام هذا الرجل أتاه أحد التلاميذ، فقال له: يا إمام! أسمعت إلى ذلك الشعر؟ قال: ما هو؟ فإذا به يردد بيتاً وشعراً، فما كان من الإمام أحمد إلا أن تأثر، ثم خرج من مكانه في مجلسه ووضع الكتاب، ودخل إلى غرفةٍ، وأغلق على نفسه الباب، ويردد هذه الأبيات وهو يبكي: إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيبُ ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفيه عنه يغيبُ ألم تر أن اليوم أسرع ذاهبٍ وأن غداً للناظرين قريبُ لهونا لعمر الله حتى تتابعت ذنوبٌ على آثارهن ذنوبُ فيا ليت أن الله يغفر ما مضى ويأذن في توباتنا فنتوبُ لا تقل: لا أحد في الغرفة، ولا تقل وأنت في السوق: الحمد لله! لا أحد يراني في هذا المكان: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:14]. يا أمة الله! إذا أتيت إلى الله جل وعلا يوم القيامة، فإن الله سوف يعرض عليك كتاباً لا يغادر صغيرةً ولا كبيرة إلا أحصاها {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:30] بل سوف تجدين كل كلمة، وابتسامة، ونظرة، وكل أغنية، وفيلم، ومسلسل، سوف تجدينه مسجلاً عند الله جل وعلا يوم القيامة، فلا تظنين أن الله ينسى، ولا تظنين أن الله جل وعلا تخفى عليه خافية. أمة الله: إن الله -جل وعلا- لا ينظر إليك فقط، بل يعلم ما تتحدثين به في نفسك، وما توسوس به النفوس، قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة:235]. ولا تقولي: لا أحداً في الغرفة يسمعنيويراني. أمة الله: هذه المرأة هجرها زوجها إلى الجهاد في سبيل الله، وظلت أشهراً على هذه الحال، والشهوة تصارعها، والفتنة تراودها، وهي تستطيع أن ترتكب المعاصي كلها؛ لأنها بمفردها في البيت، فإذا بـ عمر بن الخطاب يستمع إليها من وراء الجدار، وهي تردد هذه الأبيات وتقول: تطاول هذا الليل واسود جانبه وأرقني ألا خليل ألاعبه فوالله لولا الله رباً أراقبه لحرك من هذا السرير جوانبه لولا أن الله ينظر إليَّ، ويراقبني، وأن الله تبارك وتعالى يسمع كل شيء، بل يعلم ما توسوس به نفسي، لحرك من هذا السرير جوانبه.

من أسباب حفظ المرأة نفسها: الخوف من الله عز وجل

من أسباب حفظ المرأة نفسها: الخوف من الله عز وجل وهذا أمر آخر، به تحفظين نفسك من الذنوب والمعاصي: إنه الخوف من الله جل وعلا. أمة الله! لا تظني أنها معصية ثم تذهب، أو نظرة ثم تضيع، أو كلمة ثم تذهب إن شاء الله، ولا تظني أنه الفيلم الأخير ثم التوبة بعده إن شاء الله. أمة الله: إن الله جل وعلا يحذر الناس من نفسه، فيقول جل وعلا: {وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175]. ألا تخافين من الله وأنت تتجرئين على معصيته جل وعلا؟ ألا تخافين وأنت ترتكبين المعصية أن يأخذك الله جل وعلا ويقبض روحك؟ اسمعي إلى السابقين الصالحين كيف كانوا يخافون من ربهم جل وعلا؟ فهذا إبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء، يروى عنه: أنه كان يسمع لصدره إذا قام إلى الصلاة أزيز من عظم الخوفٌ من الله جل وعلا {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90]. وهذا داود -عليه السلام- كان الناس يعودونه ويظنون أنه مريض، وما كان به شيء إلا شدة الخوف من الله جل وعلا. هل كانوا عصاة؟ هل كانوا فجرة؟ هل كانوا زناة؟ هل شربوا الخمور؟ هل استمعوا للأغاني؟ هل تركوا الصلاة؟ لا والله. لقد كانوا أعبد الناس، وأصلح الناس، ولكنهم يخافون من الله جل وعلا، بل إن الصالحين يصلون ويصومون ويتصدقون، ويخافون ألاَّ يتقبل الله منهم: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون:60] من هم؟ إنهم الراكعون الساجدون، إنها التي تقوم الليل وتصوم النهار، وتقرأ القرآن، وتذكر ربها جل وعلا، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر {وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون:60] لمَ يا رب؟ {أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60] تخاف ألاَّ يتقبل الله عز وجل منها فكيف بالفاجرة التي لا تصلي؟ كيف بالتي لا تركع لله ركعة؟ كيف بالتي هجرت القرآن، وهجرت ذكر الله جل وعلا؟ كيف بالتي تتجرأ على المعاصي صباح مساء؟! اسمعي يا أمة الله: إلى نبينا عليه الصلاة والسلام، وهو أعبد وأصلح الناس، كيف كان يخاف من الله، تقول عائشة رضي الله عنها: (كان إذا رأى غيماً أو ريحاً عرف ذلك في وجهه، وتقول: يا رسول الله! الناس إذا رأوا الغيم فرحوا، رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرفت الكراهة في وجهك. فقال: يا عائشة! ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب؟!) قد عذب قومٌ بالريح، وقد رآها قومٌ، فقالوا: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف:24] ما الذي جرى؟ {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف:24] كان عليه الصلاة والسلام يخاف إذا رأى ريحاً أو غيماً، أما الآن -وللأسف- فإن الواحدة ترتكب المعاصي، وتنتهك الحرمات، وهي تضحك ولا تبالي، وتقلب رأسها على الفراش في معصية الله جل وعلا، وتتفكر في المعاصي والذنوب ولا تبالي، وتفوم فرحةً مبتهجةً وهي لم تصل الفجر حتى تطلع الشمس. أمة الله: لماذا قست قلوبنا؟! إن الواحدة ترتكب الذنوب والمعاصي ولا تبالي! اسمعي إلى أبي بكر الصديق، وهو أصلح هذه الأمة رضي الله عنه بعد نبيها، يُروى عنه أنه كان يقول: [يا ليتني كنت شجرة تعضد ثم تُؤكل] وهو مبشرٌ بالجنة، ويتمنى أنه شجرة تقطع، ثم تُؤكل، فيفنى ويذهب، أي: لا حساب ولا عقاب عند الله جل وعلا. أما عمر وما أدراك ما عمر رضي الله عنه، كان إذا سمع آية فيها بعض العذاب مرض، فيجلس في البيت أياماً يعوده الناس، يظنونه مريضاً وليس به مرض، وأخذ يوماً سدنة من الأرض -أي: حشيشاً- أخذه وقال: يا ليتني كنت هذه السدنة، يا ليتني لم أك شيئاً مذكوراً، يا ليت أمي لم تلدنِ {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة:16] كانوا أصلح الناس، وأتقى الناس، بل كان عمر رضي الله عنه في وجهه خطان أسودان من البكاء، ومع هذا يقول: يا ليتني كنت نسياً منسياً! يا ليتني لم أك شيئاً مذكوراً! أمة الله: قبل أن تتجرئي على المعصية، وقبل أن تقدمي عليها، وقبل أن تنظري لتلك الصور، وقبل أن تضعي ذلك الفيلم، وقبل أن تستمعي لتلك الأغنية، فكري هل تتحملين عذاب الله جل وعلا وعقابه؟ يروى أن أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه قال: [وددت أني كنت كبشاً فذبحني أهلي، فأكلوا لحمي، وحسوا مرقي]. وكانت عائشة رضي الله عنها تقول: [يا ليتني كنت نسياً منسياً]. والله تعالى يقول: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة:44] اخشي الله جل وعلا قبل أن تتجرئي على معصيته. أمة الله: أما تخافين من سوء الخاتمة وأنت تقعين في المعصية، وأنت تكلمين فلاناً وتخاطبينه في الهاتف، أو وتنظرين إلى ذلك الفيلم، أو تنامين عن الصلاة أما تخافين من سوء الخاتمة؟! اسمعي إلى أولئك الأربعة الذين سافروا إلى الخارج للزنا والخنا والمعاصي، فدخلوا إلى مرقصٍ من المراقص، فإذا بهم يتمتعون بشرب الخمور في تلك الليلة، وفي ذلك المرقص، والرب جل وعلا قد نزل إلى السماء الدنيا يقول: (هل من سائلٍ فأعطيه؟ هل من مستغفرٍ فأغفر له؟) نزل إلى السماء الدنيا وينظر إلى عباده أين ذهبوا؟ ذهبوا إلى ذلك المرقص، وماذا شربوا؟ شربوا الخمور، ومع من؟ كل واحدٍ معه راقصة داعرة، يرافقها في ذلك الليل وفي أثناء الرقص إذا بأحد الأربعة يسقط على الأرض مغشياً عليه، فتدافع الثلاثة إليه، وفزعوا، وقالوا: يا فلان! ما الذي جرى لك؟ يا فلان! ما الذي حدث؟ فإذا به يحتضر، ويلفظ أنفاسه الأخيرة، فقال له أحدهم: يا فلان! قل: لا إله إلا الله. فنظر إليه وقال: زدني كأساً وتعالي يا فلانة، زدني كأساً وتعالي يا فلانة، زدني كأساً وتعالي يا فلانة. وهم يقولون له: قل: لا إله إلا الله، قل: لا إله إلا الله، وهو يردد: زدني كأساً وتعالي يا فلانة! ثم خرجت روحه وهو على هذه الحال، وسوف يبعث عند الله جل وعلا وهو على هذه الحال {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27]. أما تخافين -يا أمة الله- أن تكون تلك الليلة مع ذلك الفيلم، وتلك السهرة أن تكون هي الأخيرة؟! أما تخافين وأنتِ في السيارة تستمعين إلى الأغاني أن يختم الله عز وجل لك بحادث سوء؟! أما تخافين وأنت تنامين وقد وضعت الساعة للدوام والعمل وأنت قد نسيت صلاة الفجر، ثم يقبض الله تلك الروح، ويأخذ الأمانة وأنت نائمة على الفراش؟! ألا تخشين ذلك يا أمة الله؟! أما تخافين من سوء الخاتمة؟! هذا رجل ذهب إلى بلاد الكفر والزنا، والمسكين يظن أن الدنيا لعب ولهو، ويظن أن الدنيا متاع وشهوات يتمتع منها بما يشاء، ثم يتوب قبل الموت، ثم يرجع في اللحظات الأخيرة! كما هي تلك المرأة المسكينة التي تفعل كل المعاصي والذنوب، وتقول في نفسها: إذا حانت ساعة الوفاة سوف أتوب وأرجع إلى الله جل وعلا! هذا الرجل ذهب إلى تلك الدول ليرتكب المعاصي والذنوب، فإذا به يتصل على معشوقته وحبيبته، فقال لها: تعالي إلي في هذه الغرفة في مكان كذا، فقالت له: سوف آتي الآن، فانتظرها وتجمل لها، وترقبها على أحر من الجمر، ثم بعد لحظات يرن الهاتف فيرفع السماعة، فإذا بها تعتذر إليه وتتأسف له! فيقول لها: إنني منتظرٌ، وهو في أشد الحسرة والضيق والانتظار والشوق واللهف لها، فتقول له: لا أستطيع أن آتي إليك في هذه الليلة وتغلق السماعة، وهو متألم متحسرٌ لفراقها ولبعدها عنه، وفي لحظات الألم والحسرة يطرق الباب، فيفتح فإذا بها فلانة عشيقته وحبيبته، فإذا به من شدة الفرح ومن شدة الشوق يخر على الأرض ساجداً لها، وإذا بها السجدة الأخيرة، واللحظة الأخيرة، والنفس الأخير، ولم يستطع أن يرفع رأسه بعد تلك السجدة، وسوف يلقى الله جل وعلا على هذه السجدة، وسوف يلقى الله جل وعلا ويكلمه وهو على هذه الحال. أما تخافين يا أمة الله؟ أما تخشين الله جل وعلا؟! يقول عليه الصلاة والسلام كما في حديث ابن مسعود: (فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها). يقال عن عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- أنه كان إذا ذكر الموت انتفض انتفاض الطير، ويبكي حتى تجري دموعه على لحيته، وبكى ليلة فبكى أهل الدار، فلما تنحت عنهم العبرة قالت فاطمة: بأبي أنت يا أمير المؤمنين لم بكيت؟ قال: ذكرت منصرف القوم من بين يدي الله تعالى: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7] ثم صرخ وغشي عليه.

من أسباب حفظ المرأة نفسها: تذكر الموت

من أسباب حفظ المرأة نفسها: تذكر الموت أمة الله: وأنت في زهرة الدنيا وملذاتها، وفي غمرة شهواتها، ألا تتذكرين يوماً سوف تحملين فيه على الأعناق؟! سبحان الله! تقلبين على تلك المغسلة، ثم تغسلين ولا حراك، ولا تستطيعين أن تنجي نفسك بنفسك فأين ذلك الوجه الحسن؟ وأين تلك الملابس؟ وأين تلك العطور؟ وأين تلك القصور؟ وأين تلك الشهوات؟ سوف تغسلين ثم تلفين بخرقة، ثم تحملين على الأعناق، فيا ويلك إن كنت فاجرة! ويا ويلك إن كنت بعيدة عن ذكر الله، وإن كنت قد هجرت القرآن ومجالس الصالحات! سوف تحملين على الأعناق، وسوف يحملك الأب الحنون، والأخ الحميم، والزوج الحبيب، بل لعله الابن، يسرع في حملك إلى تلك المقبرة، وإلى تلك الحفرة، وحيدة غريبة، في حفرة موحشة، وأنت تقولين للأحباب والأصحاب: يا ويلها أين تذهبون بها؟ يا ويلها أين تذهبون بها؟ {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} [القيامة:26 - 29] أي: لفت الساق بالساق في الكفن، ولا تستطيعين الحراك إلى أين؟ أين تذهبون بها؟ {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ * فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة:30 - 32] ثم توضعين في حفرة، وأرجو منك -يا أمة الله- في هذه اللحظة أن تتخيلي وتتفكري في تلك الحفرة، هل هناك ضوء؟ هل هناك نور؟ لا والله! إنها ظلمة موحشة، إنه ظلامٌ دامس، ظلامٌ في ظلام، لا تستطيعين الحركة في تلك الحفرة الضيقة، لا يمنة ولا يسرة، وأحب الناس وأعز الناس وأقرب الناس من يُسرع في دفنك، ومن يحثو على وجهك التراب، ثم ماذا؟ ثم تفتحين العينين، وتسمعين قرع النعال نعال الأحباب والأصحاب، قد فارقوك وهجروك، وتركوك في تلك الحفرة. ثم يأتيك منكرٌ ونكير يسألانك: من ربك؟ على ماذا كنت تعيشين؟ تنامين على ذكر من؟ وتستيقظين على ذكر من؟ وتتلهفين على ذكر من؟ من كان أحب من لديك في الدنيا؟ هل هو الله جل وعلا حقاً أم فلان؟ هل هو ذكر الله جل وعلا حقاً، أم هي ذكر الأغاني؟ فإذا كنت لاهية غافلة فإنك سوف تقولينها: هاه هاه لا أدري! وسوف يضيق عليك القبر حتى تختلف الأضلاع، ثم تضربين على رأسك بمطرقة لو ضرب بها جبلٌ لصار تراباً. أمة الله: ألا تخافين من ذلك المصير؟! مالي أراك تتجرئين على الذنوب والمعاصي وكأن الأمر لا يعنيكِ؟ ثم بعد لحظات يأتيك صاحب في القبر فتقولين: من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالشر. فيقول: أنا عملك الخبيث أنا الأغاني، أنا الأفلام والمسلسلات، أنا النظر للرجال بشهوة، أنا سماعة الهاتف التي كانت في آخر الليل، أنا التجول في الأسواق لمعصية الله جل وعلا، أنا النوم عن الصلاة، أنا معصية الله جل وعلا، أنا عملك الخبيث، فوالله ما علمتك إلا سريعة في معصية الله بطيئة في طاعته، للصلاة بطيئة متثاقلة كسلانة، أما للشهوات والمعاصي فأنت السريعة المستجيبة. يا أمة الله! ألا تخافين من ذلك المصير؟! ألا تخافين من ذلك اليوم؟! ألا تخافين إذا وقفت بين يديه جل وعلا وأنتِ عارية حافية، لعل الشعر قد شاب من شدة الخوف؟! أما تخافين أن يسألك الله جل وعلا، فيقول لك: ألم أسقك من الماء البارد؟ ألم أنعم عليك بكذا وكذا؟ أما تخشين إذا سألك الله جل وعلا فقال لك: ما الذي جرأك علي؟ وما الذي حملك على المعاصي؟ قال سبحانه: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة:12].

من أسباب حفظ المرأة نفسها: رجاء ما عند الله

من أسباب حفظ المرأة نفسها: رجاء ما عند الله أمة الله! إن مما يحفظك من الذنوب والمعاصي رجاء الله -جل وعلا- فترجين رحمته جل وعلا، إنك إذا نظرت للمعصية ثم صددت عنها فإن الله جل وعلا سوف يعقبك حلاوة الإيمان في الصدر، ثم هي صحيفة بيضاء تلقين الله جل وعلا بها يوم القيامة، وإذا بها ذنوب تعرضت لك لكنك صددت عنها، إنها معاصي كانت سهلة بين يديك لكنك تركتيها خوفاً من الله. أمة الله! إذا تركتي المعاصي فإن الله سوف يعقبك لذة في الدنيا، وسروراً في القلب، وحلاوة في الصدر، ثم إذا لقيتي الله جل وعلا فقال لك: ألا تذكرين ذنب كذا؟ ألا تذكرين تلك المعصية؟ ألا تذكرين تلك الزلة؟ ثم يقول الله جل وعلا لك يوم القيامة: سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، أما ترجين ذلك الموقف؟ ألا تتمنين أنك تلقين الله جل وعلا في ذلك المكان فيقول الله جل وعلا: خذي كتابك بيمينك، ثم تساقين إلى الجنة {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً} [الزمر:73] نعم! إنها ستون أو سبعون سنة تقضينها في طاعة الله جل وعلا، وإن عصيت الله جل وعلا بغير إصرار فإنك تتوبين، وترجعين، هذه هي حياتك في الدنيا مع القرآن والذكر والصلاة، ومع الصالحات، ومع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا لقيت الله جل وعلا إذا بك تساقين إلى جنة عرضها السماوات والأرض، ريحها على بعد أربعين سنة هذه ريحها فكيف ستكون هي؟! فإذا كنت مؤمنة فإنك سوف تساقين إلى الجنة مع الصالحات المؤمنات، ولك أن تتخيلي ما صفة الجنة؟ أما صفة أرضها فإنها بيضاء عفراء كقرصة نقي أرض بيضاء من زعفران، ومن لؤلؤ، ومن ياقوت، للمؤمن فيها خيمة طولها ستون ميلاً، من لؤلؤة مجوفة. أمة الله: إن لك في الجنة ما تشائين من الثمار، وما تتخيرين من اللحوم، تجلسين على نهر من لبن، وتشربين من نهر من عسل، وتجلسين على نهر من خمر، قال الله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} [محمد:15] تخيلي يا أمة الله! نهر من لبن، أغلقي عينيك الآن وتصوري كيف يكون نهر من لبن؟ لا يتغير طعمه أبداً، لا سنة ولا سنتين، ولا ألف سنة ولا مليون سنة، أو تخيلي نهراً من عسل! أو تصوري نهراً من خمر! يقول الله تعالى: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} [الزخرف:71] في تلك الجنان ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، يقول عليه الصلاة والسلام: (موضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها)؛ بل قال: (لو أن مما يُقَلُّ بظفر في الجنة فرج) أي: لو أن في الجنة شيئاً نحمله بأظفارنا فرج من الدنيا، أتعرفين ما الذي سوف يحصل؟ (لتزخرفت ما بين خوافق السماوات والأرض) بل لو أن امرأة واحدة من الحور العين اطلعت على أهل الأرض لأضاءت ما بين السماء والأرض، ولملأته ريحاً، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها هذه الحور العين، أما الصالحة في الدنيا إذا دخلت الجنة فإنها سوف تكون سيدةً من سيدات الحور العين؛ بل أفضل وأجمل منهن، بل هي سيدة لهن في الجنة. أمة الله: ألا تتمنين ذلك المصير؟! إنه بصبرٍ قليلٍ عن تلك المعصية، سنوات قليلة نصبر فيها عن المعصية نصبر فيها عن النظر إلى الرجال نصبر فيها عن الاستماع للأغاني نصبر فيها عن الأفلام، والمسلسلات، والشهوات، والملذات، فيكون الجزاء {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً} [الإنسان:12]. أمة الله: ألا تتمنين ذلك المصير؟! ما الطريق؟! ما السبيل؟! إنه صبرٌ قليلٌ عن المعاصي، وسوف يعقبك الله جل وعلا سعادة في الدنيا {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا} [هود:108] الله أكبر! إن الجزاء من جنس العمل. سل الصالحات -كما ذكرنا قبل قليل- ما هي أسعد أيامكن؟ ما هي أسعد لحظاتكن؟ تقول لك: إنها لحظات قيام الليل في رمضان. بل تقول: إنها ساعة الإفطار، أو رطبات في حرم الله جل وعلا، أو إنها تلك المجالس مجالس الذكر، ومجالس الطاعة، أو تقول لك: وأنا أقوم في آخر الليل وقد دمعت عيناي إنها أسعد اللحظات في هذه الدنيا، سعادة تغمر القلوب، ثم خروج روحٍ كما تخرج القطرة من فيِّ السقا، ثم قبرٌ يفرش لها من الجنة مد بصرها، ثم تؤمن من الفزع الأكبر، وتمكث كما بين الظهر والعصر تحت ظل عرش الرحمن، ثم تسافر إلى جنة الرحمن جل وعلا. ألا تريدين ذلك المصير يا أمة الله؟!

من أسباب حفظ المرأة نفسها: مجالسة الصالحات

من أسباب حفظ المرأة نفسها: مجالسة الصالحات ومما يحفظك عن الذنوب والمعاصي -يا أمة الله- مجالسة الصالحات، اهجري تلك اللواتي عرفنك على الذنوب، وأعطينك تلك الصور، وتلك الأفلام والأشرطة، انصحيهن ثم اهجريهن لله جل وعلا: (إنك في أرض سوء فاتركها إلى أرض كذا وكذا، فإن فيها قوماً يعبدون الله فاعبد الله معهم). أمة الله: ما الذي تعلمتيه من تلك المجالس مجالس السوء؟ لم تتعلمي إلا الغيبة والكذب، وقد رجعت إلى البيت وأمرك زوجك بطاعة الله فإذا بك تتجرئين عليه، وتقولين له: لا طاعة لك علي، ومن الذي سلطك عليَّ؟ أنا وأنت سواء سبحان الله! علَّمنك على الفجور والعصيان، ثم تدمرت تلك البيوت وفسدت، ثم لما رجعت إليهن فإذا بهن يتركونك وأنت في أحوج اللحظات إليهن. أمة الله: ضعي يدك في يد أولئك الصالحات، واجلسي معهن وقولي لهن: إني قد تبت إلى الله، إني أريد أن أجلس معكن، وأذهب معكن، وأسافر معكن، فإنهن لا يسافرن إلا إلى العمرات، وإلى حرم الله جل وعلا، وإذا جلسن لا يجلسن إلا على طاعة الله، وذكره جل وعلا، ولا يقرأن إلا القرآن إنهن يجلسن في المباح، ويضحكن، ويلعبن ويرمين، ولكنهن يلعبن ويلهين في المباح، أما في حدود الله فلا {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:28]. ولا تقولي: هذه معقدة، أو متزمتة، أو هذه ما أظنها تضحك اجلسي معهن وجربي ولو يوماً من الأيام، جربي مجالسهن، فوالله إنها أسعد المجالس، وأفضل الجلسات، وأحلى الكلمات تخرج من أفواههن. يا أمة الله! ضعي يدك في أيديهن، فوالله إنك لو صافحتيهن وجلستي معهن، فإن هذا هو الطريق إلى جنات الله جل وعلا، وإن حلقات مجالسهن رياض الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتم رياض الجنة فارتعوا، قالوا: وما رياض الجنة يا رسول الله؟ قال: حلق الذكر). أمة الله! راقبي الله جل وعلا، واعلمي أنك إذا تجرأت على المعاصي فإن لك رباً يراقبك، ويحسب عليك النفس، والكلمات والخواطر، واعلمي أنك لن تقوي على عقوبة الله جل وعلا، ولن تتحملي عذابه، وأنه إذا أخذتك الملائكة -زبانية العذاب- فإنك لن تستطيعي لهم رداً. ثم إذا تركت الذنوب والمعاصي، فارجي رحمة الله جل وعلا: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [آل عمران:133] فيها الأنهار تجري من غير أخاديد، وفيها الخيام من لؤلؤة مجوفة، وفيها الظلال ممتدة، يسير الراكب الجواد المضمر مائة عامٍ لا يقطعها. ثم تمسكي بالصالحات، واجلسي معهن، واعلمي في النهاية أن: (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون). يا نفس توبي فإن الموت قد حانا واعصي الهوى فالهوى ما زال فتانا أما ترين المنايا كيف تلقطنا لقطاً فتلحق أخرانا بأولانا في كل يومٍ لنا ميتٌ نشيعه نرى بمصرعه آثار موتانا يا نفس مالي وللأموال أتركها خلفي وأخرج من دنياي عريانا أبعد خمسين قد قضّيتها لعباً قد آن أن تقصري قد آن قد آنا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الإمام أحمد بن حنبل

الإمام أحمد بن حنبل إن على كل مؤمن أن يدرس تاريخ أمته ورجالاتها الأفذاذ، وإن أول من ينبغي أن ندرس سيرته هو نبينا محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم، ثم الصحابة الكرام، ثم التابعين لهم بإحسان من الأئمة الأربعة وغيرهم، وإن هذا الدرس قد تضمن الحديث عن علم من أعلام أهل السنة، وهو الإمام أحمد بن حنبل من أول نشأته حتى وفاته.

سيرة الإمام أحمد بن حنبل

سيرة الإمام أحمد بن حنبل إن الحمد لله، نحمَده تعالى، ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله. أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وإن شر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. وإنما جئت لأقرأ على إخواني في الله، وأحبابي الحاضرين؛ أحداثاً ومواقف وعبراً من سيرة علم من أعلام الإسلام، من سيرة رجل له فضل كبير على المسلمين، من سيرة رجل هو محدث وفقيه وزاهد، وورع وعامل ومجاهد، وصابر في سبيل الله، من سيرة رجل دائماً نردد اسمه على ألسنتنا، ونقرأ اسمه في كتب الفقه والحديث. ويجب علينا -أيها الإخوة- أن نتكلم عن حياة هؤلاء العلماء، وأن نذكر بهم، وننشر حياتهم، ونجعل منهم قدوة لنا في العمل والعلم، ونعرف تاريخنا، وعمن تلقينا العلم والفقه والتفسير، فيجب علينا أن نقرأ في تراجم هؤلاء، والقراءة سهلة في تراجمهم، فالكتب ميسرة في المكتبات العامة، ومكتبات المساجد والأوقاف، فيجب على المسلم أن يبادر بالقراءة، حتى يبرز هذه الثروة العظيمة للمسلمين الغافلين، السادلين النائمين اللاعبين، لعل وعسى أن يفيقوا من رقادهم، ويستيقظوا من نومهم. اخترت لكم سيرة الإمام المبجل أحمد بن حنبل رحمه الله، الإمام العالم العامل.

مولده ونشأته وطلبه للعلم

مولده ونشأته وطلبه للعلم أما اسمه: فهو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، وهو عربي، والأئمة الأربعة عرب إلا الإمام أبا حنيفة فهو من بلاد فارس. الإمام أحمد ولد في بغداد سنة (164هـ) وتوفى سنة (241هـ) كذلك في بغداد. تلقى علمه في بغداد على يد الإمام أبي يوسف الفقيه المشهور، ثم بعد ذلك انتقل منه إلى علماء الحديث، فطلب الحديث، ثم بعد ذلك أخذ يتنقل في بلاد المسلمين من قطر إلى قطر، ومن بلد إلى بلد، يتعبد الله بطلب العلم -وهو أشرف العبادات بعد الفرائض- فسافر إلى مكة والبصرة والمدينة واليمن، وكثير من بلاد الإسلام يطلب الحديث، ويدون العلم، ويزاحم العلماء بالركب، ويجثو بين أيديهم يأخذ منهم العلم، ويصبر على طلب العلم والفقه والدين، حتى يعبد الله سبحانه وتعالى على بصيرة وفهم، لا على جهل كما حصل لكثير من المسلمين، فكثير من المسلمين لا يعرفون الصلاة، ولا الوضوء، والذي ذهب إلى الحج يعرف ذلك بالمشاهدة والمعاينة، واحد من عشرة آلاف يدخل في دينه بعلم والبقية جهلة لا يعرفون شيئاً، والإنسان لا يعذر بجهله، يجب أن يتعلم على الأقل الفرائض التي هي فرض على كل مسلم: الصلاة الوضوء الصيام التيمم الغسل من الجنابة الطهارة كل هذه الأمور أساسية، ويجب على الإنسان أن يعرفها بالتفصيل، حتى يعبد الله سبحانه وتعالى على بصيرة.

ثناء العلماء عليه

ثناء العلماء عليه ابن كثير في البداية والنهاية في المجلد التاسع يترجم لهذا الرجل الجليل عشر صفحات أو خمس عشرة صفحة، ثم يكتب صفحة كاملة بثناء العلماء عليه، فمن أراد أن يقرأ ثناء العلماء عليه فليرجع إلى تلك الصفحة، يقرأ ماذا قال العلماء في الإمام أحمد بن حنبل، ونكتفي بقول شيخه وهو الإمام الشافعي رضي الله عنه، الذي كان كالشمس للدنيا وكالعافية للبدن كما وصفه الإمام أحمد رضي الله عنه، فالإمام الشافعي يقول في الإمام أحمد: كان أحمد بن حنبل إماماً في ثمانية أشياء لا يصل إليها أحد من أقرانه: كان إماماً في القرآن، إماماً في الحديث، إماماً في السنة، إماماً في الفقه، إماماً في اللغة، إماماً في الفقر، إماماً في الورع، إماماً في الزهد. فهو إمام ليس فقط في الفقه والحديث والقرآن وإنما كذلك في اللغة، وكذلك في علم الحال، وهي أمور الدين والقلب والورع، فهو إمام في الفقر والزهد والورع، وفي خوف الله سبحانه وتعالى، وفي التجرد، كل هذه كان فيها إماماً، أي بلغ مرتبة عالية في التعبد، وفي الفقه، وفي الزهد، وفي الانكسار بين يدي الله سبحانه وتعالى. وقال الشافعي رحمه الله: خرجت من بغداد وما تركت فيها أعلم من أحمد بن حنبل. وقال الشافعي وهو يكلم أحمد بن حنبل؛ لأن أحمد من تلاميذ الشافعي، يقول له: يا أحمد! أنتم أعلم منا في الحديث، فإذا صح الحديث عندكم فأخبرونا، حتى نذهب إليه. هذا يدل على الإنصاف، ويدل على اتباعهم للحق، ويدل على أن الرجال كانوا لا يتباهون في العلم، ولا يكتفون بالقليل منه ويعفون عن باقيه، بل أنى وُجِد الحق وحيثما وجد فهم وراءه، فـ الشافعي يكلم تلميذه ويقول: إذا صح عندك الحديث فأخبرنا عنه، فإننا نذهب إليه، لا كما يفعل كثير من المسلمين في هذه الأيام: أنا على الحق وغيري على الغلط، ومن أراد أن يقرأ لـ أبي زهرة، حيث يتكلم عن كثير من علماء نجد، يقول: لا يرون الحق إلا عندهم أما سواهم فهو باطل مهما بلغ، ما يقولون لعل الأمر فيه احتمال، لنا رأينا ولهم رأيهم، لنا اجتهادنا ولهم اجتهادهم، لا، نحن على الحق والباقي كلهم غلط، لكن العاقل والرزين الذي يسمع من هنا ومن هنا، فيعلم الحق مع من، كل إنسان يخطئ ويصيب، كل إنسان له وعليه، فيجب أن ننتبه لهذا، ولا نتعصب إلى بلدة معينة، ولا إلى رجال معينين، إنما نتبع الحق أينما كان. أنا أقول كلاماً علمياً أختصره بتصرف يسير من محاضرة ألقاها محمد عبد الغفار بعنوان: الأئمة الأربعة، وهذه سلسلة أشرطة علمية شرعية، حبذا أنكم تحصلون عليها، وهي عشرة أشرطة في العلم الشرعي، ليست في السيرة ولا التاريخ ولا الرقائق، لكن في العلم الشرعي، أحد المحاضرات عنوانها: كيف تطلب العلم الشرعي، المحاضرة الثانية: أقسام العلم الشرعي، المحاضرة الثالثة: تاريخ التشريع الإسلامي، المحاضرة الرابعة: الأئمة الأربعة، المحاضرة الخامسة: البدعة أحكامها وأنواعها، المحاضرة السادسة: الاجتهاد والتقليد، المحاضرة السابعة: الفتيا، سلسلة علمية شرعية، يحرص عليها الإنسان المسلم، وسوف يستفيد منها، ومن أرادها يطلبها من مؤسسة تسجيلات الأذكار.

أصول الإمام أحمد

أصول الإمام أحمد كل إمام له أصول وقواعد يبني عليها الأحكام التي يستنبطها من كتاب الله ومن سنة رسوله، بل إن بعض هذه الأصول وضع للاستنباط، فكلهم مجتمعون على الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وبعد ذلك يختلفون في اجتهاداتهم، وفي القواعد التي أصلوها لدينهم، هذه نبذة قبل أن ندخل على الإمام رضي الله عنه. فنجد أن الإمام أحمد بن حنبل يوافق الشافعي في الأخذ بالاستصحاب، ويوافق أبا حنيفة بالأخذ بالاستحسان، ويوافق مالكاً في الأخذ بالمصالح المرسلة وسد الذرائع، ويأخذ بقول الصحابي ويقدمه على القياس، ويأخذ بالحديث الضعيف لشيوخه طبعاً ويقدمه على القياس، وكذلك يأخذ بالحديث المرسل؛ والحديث المرسل هو ما يرفعه التابعي إلى الرسول مباشرة دون أن يذكر الصحابي.

أصحاب الإمام أحمد

أصحاب الإمام أحمد كل إمام يلتف حوله كوكبة من طلبة العلم، يدونون علمه، وينشرون مذهبه، وفي الوقت نفسه يخالفونه في بعض الأشياء، إذا صحت عندهم أمور أو اجتهادات، فـ الشافعي له أصحاب، ومالك له أصحاب، وأبو حنيفة له أصحاب، كل واحد له تلاميذ وعلماء، فنجد أن من أصحاب الإمام أحمد، ومن أوثق الناس به، هو الإمام أبو داود السجستاني صاحب السنن، الذي عنده كتاب: مسائل الإمام أحمد، وكذلك ابنه عبد الله، وكذلك الأثرم، والخلال، وابن القيم الجوزية، وابن الجوزي، وابن قدامة صاحب: المغني، وابن تيمية، وابن رجب الحنبلي، وابن مفلح، وكثير من العلماء كلهم من تلاميذ الإمام أحمد، ليس شرط أن يكونوا كلهم من تلاميذه، بل من تلاميذه ومن تلاميذ تلاميذه الذين تتلمذوا على أصوله وعلى فقه الإمام أحمد رحمه الله.

قوة فقه أحمد بن حنبل وغزارته

قوة فقه أحمد بن حنبل وغزارته ونقرأ من هذا الكتاب القيم الذي هو بعنوان: مناقب الإمام أحمد بن حنبل للإمام ابن الجوزي الحنبلي. فيقول: قال إسحاق بن راهويه، يقول: كنت أجالس بـ العراق أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، وأصحابنا، فكنا نتذاكر الحديث من طريق وطريقين وثلاثة، نتذاكر طرق الحديث، حتى يقوونه بكثرة الطرق، فيقول يحيى بن معين من بينهم: وطريق كذا، فأقول: أليس هذا قد صح بإجماع منا؟ فيقولون: نعم. فأقول: ما مراده؟ ما معنى الحديث؟ يتوقفون كلهم، والذي يعرف معنى الحديث، ويفك العبارة، ويعرف مرامي الألفاظ، ودقة العبارات، هو الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه؛ لأنه ما كان محدثاً فقط، وإنما كان فقيهاً، وكان محدثاً، ولذلك يجب على الإنسان أن يكون عالماً باللغة والعبارات، وما يأخذ العلم عن الكتب فقط، بل عن الفقهاء حتى يفكوا له العبارة، ومن هنا يحضرني هذا الموقف، كل من تعلم عن طريق القراءة من الكتب يزيد خطؤه كثيراً؛ لأن الكتب فيها أخطاء لغوية وتصحيف، لكن على الإنسان أن يأخذ العلم بدراسة الكتب على العلماء، لذلك دخل أحد العلماء في إحدى قرى العراق، فوجدهم عندما يذهبون إلى الصلاة، يعلقون قفة، وداخل القفة فأر وسكينة ومغرفة في كل صلاة تقام، يعلق الناس القفة وداخل القفة مغرفة وفأر وسكينة، فرآهم هذا الإمام وأظنه الإمام المزني تلميذ الشافعي، فلما رآهم تعجب وقال: لماذا تفعلون هذا الفعل؟ قالوا: يوجد نص ودليل على ذلك، ففتحوا كتاب: الرسالة للشافعي، أو الأم، فقالوا: تعال يا إمام (لا صلاة إلا بقفة) قال: لا. ما هو بقفة ولكن "إلا بفقه" أنتم غيرتم النقطتين من هنا إلى هنا (ولا صلاة إلا بسكِّينة) قال: يا أحبابنا (إلا بسكَينْة) (لا صلاة إلا بفأر) قال لهم: لا. (بوقار) نقصتم نقطة، لا صلاة إلا بمغرفة، قال لهم: بمعرفة ليس بمغرفة، انتبهوا لا تلخبطوا الدين وتغيروا الكلام. من الأشياء التي ذكرها ابن الجوزي في كتابه: أخبار الحمقى والمغفلين، يذكر جانباً من حمقى القراء والفقهاء، أن أناساً ذهبوا للحج فلما أتوا إلى الجمرات يرمونها، أخذ أحدهم حماره وجعل يغسل خفَّاه؛ لأنه وجد نص في كتب الفقه (ويسن لرامي الجمرات أن يغسل خطى حماره) فأتاه أحد العلماء قال: ماذا تعمل؟ قال: أتبع الدليل، أي دليل هذا؟ قال: تعال انظر، وفتح الكتاب فقال له: ليس المراد (خطى حماره) وإنما المراد (حصى جماره) وكثير من الأخطاء التي يقع فيها الناس من هذا الباب، يقرءون الكتب دون الرجوع إلى العلماء، ودون الرجوع إلى الفقهاء، ولذلك قال وهب: الحديث مضلة إلا للعلماء، ومثاله حديث: (نهى الرسول صلى الله عليه وسلم أن ينتعل الرجل واقفاً) فهل معناه أن الرجل لا يلبس نعاله وهو واقف؟ والحديث رواه أبو داود، ويقول الأرناءوط في تحقيقه: حسن. أولاً يا أخي أنت تتبع الحديث لا تلبس النعال وأنت واقف، لكن يأتيك أحد الأئمة ويقول لك: هذا نهي إرشاد لأن النهي ثلاثة وعشرون أو خمسة وعشرون نوعاً ذكرها الشيخ حسن هيتو في كتابه. ما هو المقصود من النهي العادي؟ وحتى في كتاب: شرح رياض الصالحين لـ صديق الشافعي قال: إن النهي يكون مكروهاً، فنهى أن ينتعل الرجل واقفاً نهي إرشاد وليس محرماً. يقول إسحاق: فنقول: ما معنى الحديث؟ فيقفون كلهم إلا أحمد بن حنبل رحمه الله. وهناك فرية تقال عن الإمام أحمد بن حنبل: أنه ليس بفقيه لكنه محدث، لذلك روى ابن الجوزي قال: قال أبو الوفاء علي بن عقيل الحنبلي رحمه الله: ومن عجيب ما تسمعه من هؤلاء الأحداث الجهال أنهم يقولون: أحمد ليس بفقيه لكنه محدث، وهذا غاية الجهل، وذكر صفحة في الاستدلال على علمه، راجع صفحة (91) مناقب الإمام أحمد بن حنبل.

كلام الإمام أحمد في الزهد والرقائق

كلام الإمام أحمد في الزهد والرقائق يقول الإمام ابن الجوزي رحمه الله: أخبرنا المبارك بن أحمد الأنصاري عن عبد الله بن أحمد السمرقندي قال سمعت إبراهيم بن سفيان يقول: سمعت أبا عصمة بن عاصم البيهقي يقول: بت ليلةً عند أحمد بن حنبل، فجاء بالماء فوضعه -إذا رأى الإمام أحد طلبة العلم يأتي ينام عنده جاءه بالماء فوضعه عنده، حتى يقوم الليل؛ لأن قيام الليل عندهم أمر بديهي، ونحن عندنا صلاة الفجر صعبة وقد ننام عنها أو نؤخرها في بعض الأيام، ومع ذلك نلتمس الأعذار لأنفسنا- فلما أصبح نظر إلى الماء فإذا هو كما كان، فقال: -سبحان الله- رجل يطلب العلم لا يكون له ورد من الليل، كيف تطلب العلم، وتطلب دراسة الشريعة والفقه ولا يكون لك ورد في الليل؟ ويقول ابن المديني رحمه الله تعالى: ودعت أحمد بن حنبل فقلت له: توصيني بشيء يا أبا عبد الله؟ فقال: نعم، اجعل التقوى زادك، وانصب الآخرة أمامك. ولا يحتاج إلى كلام أكثر من العبارة هذه، سطر واحد فيه كل التقوى، والورع، والخوف، والزهد، وانقضاء الأمل، والدنيا. وقال يحيى الجلاب: سمعت أحمد بن حنبل يقول: عزيز عليَّ أن تذيب الدنيا أكباد رجال وعت قلوبهم القرآن. أناس حفظوا القرآن ثم يموتون، ما يخلفهم بعدهم أحد، وفعلاً كلنا يشعر بهذا، عندما أصبحت معارك الردة بين المسلمين والكفار ومات كثير من حفاظ القرآن، خاف المسلمون على القرآن فجمعوه، والآن كم واحد فينا في المسجد هنا يحفظ القرآن يا إخواني؟ قليل جداً، نحفظ قال فلان وحدثنا فلان، نحفظ مصطلح الحديث، وكلام الله سبحانه وتعالى نغفل عنه كثيراً، ويمكن أن الواحد فينا لا يحفظ في اليوم آية، كلنا يا إخواني كلنا مقصرين، لذلك قالوا: الذي يحفظ كل يوم ثلاثة آيات على مدار خمس سنوات يحفظ القرآن كله، والذي يحفظ ست آيات يومياً يحتاج إلى سنتين ونصف ليحفظ القرآن الكريم. انظروا يا إخواني المسألة سهلة؛ لكن بهمة ومصابرة ومتابعة، وعلى حسب نفسيات الناس. وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: قلت لأبي يوماً: أوصني يا أبي؟ فقال: يا بني انو الخير، فإنك لا تزال بخير ما نويت الخير. انو إذا كان عندك ألف دينار أن تتبرع بها كلها للمسلمين وللفقراء وللمحتاجين، لكن اصدق النية لعلَّ الله عز وجل برحمته أن يكتبها لك ويحسبها لك، ماذا خاسر أنت؟ وقال أبو بكر المروزي: سمعت أحمد بن حنبل وسئل: بم بلغ القوم حتى مدحوا؟ أي: العلماء الذين نتكلم عنهم لماذا يمدحهم الناس؟ فقال: الصدق مع الله، ويعني بالصدق هنا: الإخلاص لله رب العالمين. يقول: أبو بكر نفسه: سمعت أحمد بن حنبل يقول: إن لكل شيء كرماً، وكرم القلب الرضا عن الله عز وجل. وقال محمد بن إسماعيل بن العلاء: حدثني أبي قال: دعاني رزق الله الكلواني، فقدم إلينا طعاماً كثيراً، وذكر نوع الطعام، فقال أحد الجالسين -معهم يحيى بن معين وأبو خيثمة وجماعة، فقدم لهم طعاماً ثميناً، وأحمد بن حنبل جالس- فقال رجل من الجالسين: والله لقد أسرفت في الطعام، فقال أحمد بن حنبل: لا. والله، لو أن الدنيا جمعت حتى تكون في بغداد لقمة ثم أخذها امرئ مسلم فوضعها في فم أخيه المسلم لما كان مسرفاً، فقال له يحيى: صدقت يا أبا عبد الله. قوة العلاقة بالإخوة، لو أن الدنيا كلها جمعتها كأنها لقمة ووضعتها في فم أخيك المسلم ما أنت بمسرف، لأن حق المسلم على المسلم قوي، وللمسلم على المسلم حقوق وردت في أحاديث كثيرة جداً. أحمد بن حنبل مربٍ كبير يعلم الناس، اسمع هذه القصة كيف يربي ويوجه الناس: كان في جيران أبي عبد الله أحمد بن حنبل رجل، وكان ممن يمارس المعاصي والقاذورات، جاء يوماً إلى مجلس أحمد بن حنبل فسلم عليه، فكأن أحمد لم يرد عليه رداً تاماً وانقبض منه، يعني: أحمد بن حنبل ما رد عليه رد كامل ليحسسه بعيبه من عمل المعاصي، إنما هو ليس راض عليه أن يعمل هذه المعاصي وهذه القاذورات، فكأن أحمد لم يرد عليه رداً تاماً وانقبض منه، فقال له: يا أبا عبد الله لم تنقبض مني؟ فإني قد انتقلت عما كنت تحذره مني برؤيا رأيتها -يقول: أنا تركت المعصية، وتركت الشيء الذي كنت تحسبني مداوماً عليه في المعاصي برؤيا رأيتها في المنام، والآن يقص الرؤيا التي رآها الرجل في المنام اسمع معي- فقال الإمام أحمد رضي الله عنه: وأي شيء رأيت؟ والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (من رآني في المنام فقد رآني حقاً فإن الشيطان لا يتمثل بي أو بصورتي). قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم كأنه على علو من الأرض، وناس كثير أسفل جلوس، قال: فيقوم رجل منهم إليه فيقول له: ادع لي، فيدعو له حتى لم يبق من القوم غيري، فأردت أن أقوم فاستحييت من قبيح ما كنت عليه، استحييت من النبي من المعاصي التي كنت أفعلها، فقال: يا فلان! لم لا تقوم إلي تسألني أن أدعو لك؟ قلت: يا رسول الله! يقطعني الحياء لقبيح ما أنا عليه، قال: إن كان يقطعك الحياء فقم فسلني أدعو لك، فإنك لا تسب أحداً من أصحابي، قال: فقمت فدعا لي، قال: فانتبهت وقد بغض الله إلي ما كنت عليه، قال: فقال الإمام أحمد بن حنبل: يا جعفر، يا فلان، يا فلان من طلبة العلم حدثوا بهذا واحفظوه فإنه ينفع. حادثة جميلة يستأنس بها وتثار بين الناس، لعل فيها عبرة.

أشعار كان ينشدها الإمام أحمد

أشعار كان ينشدها الإمام أحمد يصنف كذلك ابن الجوزي باباً تحت عنوان: في ذكر ما أنشده من الشعر أو نسب إليه. قال أحمد بن يحيى الثعلبي: كنت أحب أن أرى أحمد بن حنبل فصرت إليه، فلما دخلت عليه قال لي: فيم تنظر؟ فقلت: في النحو والعربية، فأنشدني أحمد بن حنبل يقول: إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما نخفي عليه يغيب لهونا عن الأيام حتى تتابعت ذنوب على آثارهن ذنوب فيا ليت أن الله يغفر ما مضى ويأذن في توباتنا فنتوب ويقول: بلغني عن علي بن خشرم أنه سمع أحمد بن حنبل يقول: -انظروا يا إخواني يبين أن اللذة والمعصية تذهب، لكن يبقى سواد وخيبة يوم القيامة- يقول أحمد بن حنبل: تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها من الحرام ويبقى الاسم والعار تبقى عواقب سوء من مغبتها لا خير في لذة من بعدها النار ويحضرني هنا الموقف الذي دائماً أستشهد به، يذكره ابن الجوزي في: تلبيس إبليس، أن رجلاً دخل على الإمام أحمد بن حنبل فقال له: يا أبا عبد الله ماذا تقول في قول الشاعر في القصائد الرقاق الحسان؟ قال أحمد: مثل ماذا؟ قال: يا أبا عبد الله! مثل ما قال الشاعر: فسكت الإمام أحمد، وقال لي: يا هذا أعد عليَّ ما قال الشاعر، فقال الرجل يا أبا عبد الله! يقول الشاعر: إذا ما قال لي ربي أما استحييت تعصيني وتخفي الذنب عن خلقي وبالعصيان تأتيني فقام أحمد بن حنبل ودخل بيته وأغلق الباب، يقول الراوي: سمعت نحيبه من وراء الباب وهو يبكي ويقول: إذا ما قال لي ربي أما استحييت تعصيني وتخفي الذنب عن خلقي وبالعصيان تأتيني كان رقيق القلب، يبكي لكل موعظة وإن كانت شعراً.

صفة الإمام أحمد وهيئته وسمته

صفة الإمام أحمد وهيئته وسمته يصنف كذلك باباً تحت عنوان: صفته وهيئته وسمته. فيقول أحمد بن العباس بن الوليد النحوي يقول: سمعت أبي يقول: رأيت أحمد بن حنبل رجلاً حسن الوجه، يخضب بالحناء خضاباً ليس بالغالي، في لحيته شعرات سود، ورأيت ثيابه غلاظاً إلا أنها بيض، ورأيته معتماً وعليه إزار. والعمامة من السنة، لكن الناس حسب عاداتهم، قلت لأحد الإخوة: البس العلمامة، قال: يا أخي هذه سنة من السنن الجبلية، قلت: ما المراد بجبلية أمولود وعليه عمامة؟ الجبلية ما كان من طبيعة الرجل الذاتية مخلوقة فيه، وليست العمامة من هذا النوع، والعمامة فيها أحاديث راجعها في كتب الفقهاء والمحدثين، يقول: أنا ماذا أعمل بهذه السنة ما هي أمر ولا واجب، إنما هي سنن هيئة. وأبو داود السجستاني يقول: لم يكن أحمد بن حنبل يخوض في شيء مما يخوض فيه الناس من أمر الدنيا، فإذا ذكر العلم تكلم، ما كان يتكلم في أمور الدنيا، لكن إذا جاء وقت العلم بالحلال والحرام، والمسائل الفقهية، وتفسير كتاب الله، ومعرفة حديث رسول الله تكلم، أما نحن فيقعد الواحد منا ساعة، والله الكابلت هذه موديل خمسة وسبعين، وساعة كاملة للكلام في ألوان السيارات، وساعة كاملة في أنواع التواير، وساعة كاملة والثوب هذا قطن وذاك حرير لكن أمور دينهم لا يسألون عنها؛ حتى في الأمور البسيطة، حتى الصلاة لا يسألون عنها أبداً، ولا يذهبون إلى العلماء، ولا يتصلون بهم. اسمع إلى هذا الحديث الجميل: أبو العباس يقول: سمعت الحسن بن إسماعيل يقول: سمعت أبي يقول: كان يجتمع في مجلس أحمد زهاء خمسة آلاف أو يزيدون، أقل من خمسمائة يكتبون والباقون يتعلمون منه حسن الأدب وحسن السمت، خمسمائة فقط يكتبون الحديث، والباقي ينظرون إلى الخُلُق، ينظرون إلى التصرف، ينظرون إلى الورع، يتعلمون الأدب من شكله وهيئته. الأخ يسأل يقول: خمسة آلاف كيف يسمعون الحديث عن الإمام أحمد ونحن بعضنا قاعدون في الخلق ولا يسمعون؟ وكذلك ورد عن البخاري أنه كان يحضره عشرة آلاف؛ كيف يكون ذلك ولا توجد عندهم سماعات ولا ميكرفونات؟ A أيها الإخوة! كانت طريقتهم التبليغ، يقوم المحدث يحدث ثم بعد مائة متر يختارون رجلاً صافي السمع يسمع المحدث ويقرأ الحديث ويبلغه كما هو، وبعضهم واقف على النخل يسمع الكلام والحديث فيبلغه، وهكذا أذان الحرم، المؤذن يقول: الله أكبر، وآخر يقول مثله فينتشر الأذان، ونتوقع في عشرة آلاف عندما يخلص الإمام الدرس يقول: وصلى الله وسلم على محمد، فينقلها الآخر، ويقوم أول الناس وآخرهم منتظر يسمع قوله: وصلى الله على محمد ثم يقومون، وهكذا تنتقل الكلمة شيئاً بعد شيء، نحن الآن ميكرفونات والناس يسمعون، وهذا الموقف يذكرني بالشيخ محمد الأشقر حفظه الله كان يلقي درساً عن البدعة، عند أناس عندهم كل شيء بدعة حتى البدعة بدعة عندهم، ما تركوا شيئاً، فيقول، كنت جالساً في بريدة فيقول أحد خطباء المساجد: هناك عالم لا يستخدم الميكرفون يقول: بدعة لم يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول الشيخ محمد الأشقر: يريد إقناعه، بعد يوم من الأيام كنت جالساً معه، وكان عنده كتاب، قلت له: اقرأ علي هذا الكتاب، فحمل نظارته يريد يلبسها يقرأ، قلت: لماذا تلبس النظارة، ما لبسها الرسول صلى الله عليه وسلم فهي بدعة؟ قال: لا. تكبر الكلام، قلت: والميكرفون يكبر الصوت، فاقتنع بهذا.

زهد الإمام أحمد

زهد الإمام أحمد في ذكر زهده رضي الله عنه. قال سليمان بن الأشعث: ما رأيت أحمد بن حنبل ذكر الدنيا قط، إنسان منقطع للآخرة، لذلك منَّ الله عليهم بالعلم وبكل خير، لأنهم أناس كانوا للآخرة، خلقهم الله هكذا حتى يحفظون الدين، ولذلك لما قيل لـ ابن المبارك: إن الحديث كثر فيه الوضع والكذب، قال: استرح، فإنها تعيش له الجهابذة، والله يخلف من تعيش لهذا الحديث. ويقول أبو حفص عمر بن سليمان المؤدب: صليت مع أحمد بن حنبل التراويح، وكان يصلي به ابن عمير، فلما أوتر رفع يديه إلى ثدييه، وما سمعنا من دعائه شيئاً ولا ممن كان في المسجد، أي أنه كان يبكي، وكان من شدة البكاء ولا يسمع دعاؤه، وكان في المسجد فراش على الدرجة، لم يكن فيه قنديل ولا حصير ولا شيء، زهد وفقر، وكذلك خوف من الله سبحانه وتعالى. طبعاً: صلاة التراويح عند الإمام أحمد رحمه الله كلها عشرين ركعة. كذلك يقول أبو بكر المروزي: سمعت أبا عبد الله يقول لـ شجاع بن مكنز العطار: يا أبا الفضل إنما هو طعام دون طعام، ولباس دون لباس، وإنها أيام قلائل، أي: فلاد داعي لكثرة الهم والاغتمام، فإنما هو عمر قصير ثم نرحل إلى الله سبحانه وتعالى، وكلٌ قادم على عمله، وأول ما يحاسب المرء يوم القيامة عليه دينه وصلاته، ولكن مع ذلك فإن الله جميل يحب الجمال، وفي الوقت نفسه (البذاذة من الإيمان) كما قال صلى الله عليه وسلم.

ورع الإمام أحمد

ورع الإمام أحمد ذكر ورعه وزهده ابن كثير رحمه الله متسلسلة في صفحتين أو ثلاث في البداية والنهاية، وكتب قدر عشر صفحات للإمام أحمد بن حنبل وهي مختصرة وجيدة. من شدة ورعه رحمه الله أنه كان معه طست، فجاء رجل فوضع طسته بجواره، ثم لم يعرف أيهما طست الإمام أحمد فقال: أيهما طستك؟ فاشتبه على الإمام ذلك فقال: هما لك. وقال أحمد بن القاسم الطوسي: كان أحمد بن حنبل إذا نظر إلى نصراني أغمض عينيه، فقيل له في ذلك، فقال: لا أقدر أن أنظر إلى من افترى على الله وكذب عليه، لأنه يقول: إن لله ولداً، فكيف أنظر إليه! فمن شدة ورعه لا يطيق النظر إليهم حتى لا يتذكر الجرم في حق الله سبحانه وتعالى. وقال علي بن المديني: ليس في أصحابنا أحفظ من أحمد بن حنبل، وبلغني أنه لا يحدث إلا من كتاب، ولنا فيه أسوة حسنة، ما كان واحد أحفظ منه، ومع ذلك يفتح الكتاب ويقرأ ليتأكد أنه صحيح، لذلك يقول الشيخ محمد فوزي: كان مشايخنا الكبار رحمهم الله يعلموننا يقولون: إذا كنت حافظاً للمسألة، وسألك عنها أحد سواء كانت قضية إسلامية أو مسألة سهلة في الصلاة -مثلاً- في الحلال أو الحرام، فالأفضل أن ترجع إلى الكتاب، لأن الإنسان قد يسهو أو يشتبه عليه الأمر، فارجع إلى الكتاب لأن هذا دين. لذلك قيل: أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار. وأنتم تعرفون أن أحمد بن حنبل ممن تطرق إلى مسألة فتنة خلق القرآن، وتعذيب الأمراء له كـ المعتصم والمأمون وكيف جلد بالسياط، وكيف صبر رحمه الله، وكيف فتن المسلمون لولا ثبات أحمد بتثبيت الله له، فكان بعض أبنائه -له ابن اسمه: عبد الله وابن اسمه: صالح - فكان صالح يقبل الفلوس من الأمراء والحكام فكان الإمام لا يقبل منه طعاماً ولا شراباً، حتى وهو على فراش الموت قال: لا تغسلوني بماء ولدي صالح، ولا تكفنوني بكفن اشتريتموه من أموال صالح، لماذا؟ يخاف من هذه الأموال التي من الأمراء وفيها حرام وربا، وفيها ظلم، فهو يبتعد عنها تورعاً، ولذلك لما علم أن ولده صالحاً يأخذ الأموال من الأمراء ماذا فعل؟ قال أحمد بن محمد الدستري: ذكروا أن أحمد بن حنبل أتى عليه ثلاثة أيام ما طعم فيها ولا أكل شيئاً، فبعث إلى صديق له فطلب منه شيئاً من الدقيق، فعرفوا في البيت شدة حاجته إلى الطعام، فخبزوا له بعجلة وسرعة في التنور، فلما وضع بين يديه قال: كيف خبزتم بهذه السرعة؟ فقيل له: كان التنور في بيت صالح مسجوراً فخبزنا به، قال: ارفعوا الطعام، ولم يأكل، وأمر بسد بابه إلى دار صالح، انظروا شدة الحرص وشدة الورع من هذا الإمام الجليل رضي الله عنه.

تواضع الإمام أحمد

تواضع الإمام أحمد قال أبو بكر أحمد بن محمد المروزي: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل وذكر أخلاق الورعين فقال: أسأل الله ألا يمقتنا، فقلت له: يا أبا عبد الله! ما أكثر الداعين لك، فهل قال: ما شاء الله أنا أحسن الناس، أنا من أهل الجنة، أنا ما شاء الله عالم، أغتر بنفسه، مع أنه حافظ ألف ألف حديث، وذكر أخلاق الورعين فقال: أسأل الله ألا يمقتنا أين نحن من هؤلاء؟ فقلت لأبي عبد الله: ما أكثر الداعين لك، فأغرقت عيناه بالدموع، ثم قال: أخاف أن يكون هذا استدراجاً، أسأل الله أن يجعلنا خيراً مما يظنون، ويغفر لنا ما لا يعلمون. هكذا الورع يا إخواني، وهكذا التقوى عند الأئمة الأعلام رضي الله عنهم.

إجابة الإمام أحمد للدعوة

إجابة الإمام أحمد للدعوة تحت عنوان الباب الثالث والخمسون في إجابته للدعوة وخروجه لرؤية المنكر، قال علي بن أبي صالح السواق: كنا في وليمة، فجاء أحمد بن حنبل فلما دخل نظر إلى كرسي عليه فضة، فخرج، فلحقه صاحب الوليمة يركض وراءه، فنفض يده في وجهه، وقال: مثل المجوس، مثل المجوس؟! وخرج مولياً مدبراً رضي الله عنه. ويذكرون كذلك في باب تعبده وورعه رحمه الله أن صالح بن أحمد بن حنبل ولده قال: كان أبي لا يجعل أحداً يستسقي له إناء لوضوئه، يعني: يجر الدلو من البئر، بل يخدم نفسه بنفسه لوضوئه، وكان إذا أخرج الدلو مدروساً ماء -ملئ بالماء- قال: الحمد لله، قلت: يا أبي! أي شيء في هذا؟ فقال: يا بني أما سمعت الله يقول: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} [الملك:30] انظر كيف يستشعر الآيات، ويستشعر كلام الله سبحانه وتعالى. ويقول إبراهيم بن شماس: كنت أعرف أحمد بن حنبل وهو غلام وهو يحيي الليل، أما نحن فقد تركنا السنن وأهمها قيام الليل، وكأنا لم نعلم أن المرء إذا صلاها صغيراً ثم عجز عنها كتب له أجره عليها. وقال الخلال عن عبد الله بن أحمد قال: رأيت أبي لما كبر وأسن، اجتهد في قراءة القرآن، وكثرة الصلاة بين الظهر والعصر، فإذا دخلت عليه انفتل من الصلاة وربما تكلم، وربما سكت، فإذا رأيت ذلك خرجت فيعود لصلاته، ورأيته أكثر من ذلك يقرأ القرآن. فتأمل كيف يقرأ القرآن، فإذا حس بأن واحداً يدخل عليه في البيت وضع القرآن تحت البشت والعباءة حتى لا يكشف أمره للناس يقولون: كان يقرأ القرآن، ما شاء الله! فلان صوته حلو بالأذان، ما شاء الله فلان خطيب جيد، لا يحب هذه الكلمات أبداً، وإنما دائماً من الورع والتقوى يخفي أعماله بينه وبين الله سبحانه وتعالى.

كرامات الإمام أحمد رحمه الله

كرامات الإمام أحمد رحمه الله كراماته وإجابة الله سبحانه وتعالى لسؤاله. إثبات الكرامة عندنا من العقيدة الإسلامية كما قال: وأثبت للأولياء الكرامة ومن أنكرن فانبذن كلامه أي: أن الكرامة مبدأ من مبادئ العقيدة الإسلامية عند أهل السنة والجماعة. اسمع كرامات الإمام، وكيف يستجيب الله دعاءه مباشرة. قال محمد بن علي السمسار: رأيت أبا عبد الله جاء بالليل إلى منزل صالح، وابن صالح تسيل الدماء من منخريه، يعني: ولد ولده، وقد جمع له الطب وهم يعالجون بالكتل وغيرها، والدم يغلبهم، فقال له أبو عبد الله: أي شيء حالك يا بني؟ قال: يا جدي! هو ذا أموت، يعني: كأني أموت، ادع الله لي، فقال له: ليس عليك بأس، ثم جعل كأنه يحرك يده فانقطع الدم وقد كانوا يئسوا منه؛ لأنه كان يرعف دماً، بشدة. الحادثة الثانية المشهورة ويذكرها ابن الجوزي في صفة الصفوة كذلك، قال العباس بن محمد الدوري: حدثني علي بن أبي حرارة، أحد جيرانه، قال: كانت أمي مقعدة، أي: مشلولة نحو عشرين سنة، فقالت لي يوماً: اذهب إلى أحمد بن حنبل فسله أن يدعو الله لي، فسرت إليه فدققت عليه الباب وهو في دهليزه، فلم يفتح لي وقال: من هذا؟ فقلت: أنا رجل من أهل ذاك الجانب، سألتني أمي وهي زمنة مقعدة أن أسألك أن تدعو الله لها، فسمعت كلامه كلام رجل مغضب، يعني: غضبان، فقال: نحن أحوج أن تدعو الله لنا، يعني: اذهب حق على أمك أن تدعو الله لنا، أما نحن فأناس فقراء، فولى الولد منصرفاً، وفي رواية: ولى يبكي على أمه المسكينة، أحمد بن حنبل ما دعا لها، فخرجت عجوز من داره فقالت: أنت الذي كلمت أبا عبد الله أقبل، فقلت: نعم، فقالت قد تركته يدعو الله لها، يعني: أن هذه العجوز والظاهر أنها أم أحمد بن حنبل قد جعلته يدعو الله لها، قال: فجئت من فوري إلى البيت فدققت الباب، فخرجت أمي على رجلها تمشي حتى فتحت الباب، فقالت: قد وهب الله لي العافية، وهذه من كرامات الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله. حدثني إبراهيم بن هانئ قال: حدثني النساج جار لـ أبي عبد الله قال: كنت أشتكي، فكنت أئن في الليل، فخرج أبو عبد الله في جوف الليل، فقال: من هذا عندكم يشتكي؟ فقيل له: فلان، فدعا له وقال: اللهم اشفه، ودخل فكأنه كان ناراً صب عليه ماء، محموم ويئن فصار بعد ذلك بارداً وصح مباشرة من دعاء الإمام أحمد بن حنبل، مطعمه حلال، ورَعٌ، ودعاءٌ، وقيامُ ليلٍ، وخوفٌ مِنَ الله، ونحن لماذا لا ندعو؟ ولماذا لا يستجيب الله لنا؟! الله أعلم.

وفاة الإمام أحمد

وفاة الإمام أحمد في يوم وفاته حدثت زحمة، حتى أغلقت الطرقات، زاكتظ البيت بالناس، وخرج الأطفال والنساء والرجال، وكلهم يسألون عن أحمد، ويهتمون لإمام أهل السنة الذي صبر على التعذيب من المأمون والمعتصم، وحفظ الله به الدين. إن أحمد سوف يموت، إن أحمد سوف يفارق الدنيا، الناس في هم وكرب عظيم، حتى الطرقات احتشدت، والناس لم يعد يسعهم مكان، وتعطلت الباعة، يقول: دخل عليه شيخ فكلمه، في روايات كثيرة، وقال: اشكر وقوفك بين يدي الله يا أبا عبد الله! فشهق أحمد بن حنبل، وسالت الدموع على خديه، فلما كان قبيل وفاته بيوم أو يومين، قال: ادعوا الصبيان -أولاده وأولاد أولاده الصغار- ادعوا الصبيان الصغار، فجاءوا ينضمون إليه، وجعل يشمهم ويمسح بيده على رءوسهم، وعينه تذرف الدموع لمفارقتهم، فقال له رجل: لا تهتم لهم يا أبا عبد الله، فأشار بيده، فظننا أن معناه أني لم أرد هذا، وكان يصلي قاعداً، ويصلي وهو مضطجع لا يكاد يصبر، ويرفع يديه إيماء بالركوع أنه في الصلاة، وفي رواية: وأدخلت الصحفة تحته فرأيت بوله دماً في آخر أيامه، فيقول: فوضعته فقال: خلل الأصابع، فلما كانت ليلة الجمعة ثقلت، فظننت أنه قد قبض، وأردنا أن نمدده، فجعل يقبض قدميه وهو موجه، وجعلنا نلقنه لا إله إلا الله، ونردد ذلك عليه، وهو يهلل، وتوجه إلى القبلة واستقبلها بقدميه، فلما كان يوم الجمعة اجتمع الناس حتى ملئوا السكك والشوارع، فلما كان صدر النهار قبض رحمه الله، فصاح الناس، وعلت الأصوات بالبكاء، حتى كأن الدنيا قد ارتجت وقعد الناس، فخفنا أن ندع الجمعة، فأشرفت عليهم فأخبرتهم: إنا نخرجه بعد صلاة الجمعة، يعني: إلى الدفن، فخاف أن الناس لا تروح إلى الجمعة من شدة البكاء، وبعدها وضع على فراش الموت، تذكر أن له ثلاث شعرات من النبي صلى الله عليه وسلم كان محتفظاً بها، فقال: إذا أنا مت فاجعلوا واحدة على عيني والأخرى على عيني الأخرى والثالثة على لساني، ثم أغلقوا فمي وادفنوني مع شعر النبي صلى الله عليه وسلم، كأنه يتبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم كما يذكر ذلك ابن حجر وكما يذكر ذلك القسطلاني وكل العلماء المعتبرين. هذه رواية تبين يا إخواني دور الشيطان في فتنة الإنسان: ابنه عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: لما حضرت أبي الوفاة جلست عنده واختصار القصة، أنهم كانوا يقولون: قل: لا إله إلا الله، فيقول: لا بعد، لا بعد، فلما أفاق قالوا: يا أبا عبد الله مالك كنت أقول لك: قل: لا إله إلا الله فكنت تمتنع؟ قال: نعم، رأيت الشيطان يقف في زاوية البيت وقد عظ على يديه وقال: لقد فتني يا أبا عبد الله ويريد أن يفتنه، ويقول لي: مت على دين آبائك وأجدادك من كفار قريش، فأقول: لا. لا، حتى لا أفتن في ديني، وما مات إلا بعد أن قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، وبارك الله فيكم وجزاكم الله خيراً.

البشارة العظيمة

البشارة العظيمة إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، وذلك عندما ينظر الناظر فيرى المنكرات قد انتشرت في الأرض، ولكنه يستبشر عندما يعلم أن الله ناصر دينه، ومُعْلٍ كلمته ولو كره الكافرون.

تبشير الملائكة للوط عليه السلام

تبشير الملائكة للوط عليه السلام الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فهي ليست محاضرة كما ذكر المقدم، ولكنها كلمة إن شاء الله، وكما قيل: خير الكلام ما قلَّ ودلَّ، فإن أصبت فمن الله عز وجل، وإن أخطأت فمني ومن الشيطان. أيها الإخوة الكرام: العنوان: (البشارة العظيمة) والله جلَّ وعلا يقول: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [البقرة:223] والمؤمنون مبشَّرون من الله جل وعلا ومن النبي صلى الله عليه وسلم ببشائر عظيمة، وهذه بعض منها وإلا فهي أكبر وأكثر وأعظم، وسوف تسمع بعضها أيها الأخ الكريم. أُبَشِّر كل داعية إلى الله، وكل مصلح، وكل آمر بالمعروف وناهٍ عن المنكر، وأبشر كل مُصْلِحَة، وكل آمِرَة بالمعروف وناهِيَةٍ عن المنكر، أبشركم جميعاً أيها الإخوة بأن هذا الدين منتصر، وأن الله عز وجل مُعْلٍ دينه، وناصرٌ كتابه جل وعلا، وأن هذا الدين مهما حاولوا إطفاء نوره فلن يستطيعوا: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32] بل قال عليه الصلاة والسلام: (لا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]. إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، وإن الإنسان ليصيبه الحزن والكآبة عندما ينظر في الناس فيرى المنكرات، والفساد ينتشر في الأرض، ويرى فلاناً الذي كان يصلي الفجر في جماعة؛ اليوم لا يصلي حتى ولا في بيته، ونرى ذلك الذي كان ينادي للصلاة؛ اليوم يرفع صوته بالغناء، ويرى الذي كان يحفظ القرآن؛ قد ارتد عن سبيل الله، إن القلب ليحزن وإن الصدر ليضيق من هول ما يرى. بل عندما يدعو الإنسانُ الناسَ إلى الله جل علا، ولَمَّا يدعو الداعية إلى الله بالمعروف وينهى عن المنكر ويرى الصدود والإعراض؛ يصيبه بعض الحزن والكآبة، فإذا فتح الجرائد وسمع أخبار الناس: المسلمون يُذَبَّحون ويُقَتَّلون، وتستباح دماؤهم وتُسْلَب أراضيهم وأموالُهم؛ يصيب الإنسان منا الضيق والحزن والكآبة، ثم ماذا؟ ثم أبشر يا عبد الله! فإن نصر الله قريب.

حب قوم لوط لفاحشتهم

حب قوم لوط لفاحشتهم هذا لوط عليه السلام يصيب قومه داءٌ عظيم، أتعرف ما هذا الداء؟ داء إتيان الذكور: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:165] يأتون فاحشة ما سبقهم بها من أحد من العالمين، يأتون الذكران أجلكم الله، وهذا حادث في بعض الدول في هذه الأيام للأسف! فإذا به يأمر قومه وينهاهم ولكن للأسف لا مجيب ولا مستجيب. فتأتي الملائكة في صورة ضيوف -واسمع لهذا الخبر فلكأنه يحكي واقعاً قريباً من واقعنا- فيسمع القوم بأن هناك ذكوراً ورجالاً قد دخلوا؛ فارتفعت الشهوة، وعَمِي البصر، وذهب العقل، وانمسخت الفطرة؛ فجاءوا إليه يهرعون ويركضون ويسرعون، قرعوا الباب على لوط، ففزع منهم: {وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ * وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} [هود:77 - 78]. وتَخَيَّلْ نفسك يا عبد الله! وأنت في مثل هذه الحالة التي فيها لوط، قوم لا يعرفون الزواج، ولا يعرفون نكاح النساء، لا يعرفون -أجلكم الله- إلا نكاح الرجال بعضهم بعضاً، حتى لما طرقوا عليه الباب قال لهم: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود:78] اتقوا الله، ألا رجل واحد رشيد؟! يتبعون الشهوات، بل يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، فإذا جاءت مواطن الشهوات أتى الجميع يطلبون شهوتهم وتكالبوا وتآلبوا وتآمروا؛ وكادوا لأجل ذلك أن ينشروا الفاحشة في المجتمع. ولأجل أن يقضوا الشهوات ويتمتعوا بشهواتهم جاءوا من بعيد يهرعون ويركضون، طرقوا الباب وقالوا للوط: {وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ * قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي} [هود:77 - 78] هؤلاء بناتي إي: تزوجوا بناتي، اتركوا هذه القذارة والنجاسة، فقد أعطاكم الله الحلال، أما ترضون إلا بالحرام؟! {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود:78] لا والله يا لوط! ليس هناك في القوم رشيد للأسف! للأسف بعضهم يحصل على أرفع الشهادات، وأعلى المناصب وأكبر المنابر يركبها ويعتليها ثم هو ليس برشيد ليتكلم عن نفسه فكيف يتكلم عن غيره؟! {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود:78]. أتعرف بِمَ ردوا عليه؟! {قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ} [هود:79] تعلم يا لوط أننا لا نقبل بالزواج، ولا نرضى بالحلال، ولا نرضى إلا بالحرام والشهوات: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} [هود:79]. التفت لوطٌ عليه السلام إلى الضيوف، فحزن وضاق صدره، فضيحة! فهم ضيوفه! ثم قال: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً} [هود:80] لو أن لي في هذه الظروف قوة أتَقَوَّى بها على رد هؤلاء الأعداء: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود:80] رحم الله لوطاً! لقد آوى إلى ركن شديد، أتعرف أي ركن هذا أيها الداعية؟! آوى إلى ركن الله، ليست هناك أسباب مادية، ضاعت القوة، جُوْبِهَ من جميع الجهات: مِن فوقه، ومِن أسفل منه، ومِن أمامه، ومن خلفه، أغلقوا كل الأبواب في وجهه، أرغموه على الفساد، وقالوا اقتحِموا بيته بالفساد؛ ولكنه آوى إلى ركن شديد.

أليس الصبح بقريب

أليس الصبح بقريب هنا تكلمت الملائكة ونطقت بإذن الله: {قَالُوا يَا لُوطُ} [هود:81] من هنا بدأ الفرج وبدأت البشائر: {يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ} [هود:81] تدخلت القوة من السماء، وأذن الله عز وجل بالانفراج، وبدأت البشائر: {إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْك} [هود:1]. أيها الداعية إلى الله: لا تنظر ولا تقرأ الأخبار والإحصائيات والتقارير: كم عندهم من الصواريخ! ومن الأسلحة! ومن الجيوش الجرارة! ومن الأموال الهائلة! والدعاة إلى الله لا يملكون إلا ألسنتهم، وبعض الأقلام! لا تظن أنه لا مقارنة ولا سبيل للنصر، فإن النصر من عند الله وحده. {يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} [هود:81] وبدأت الآن خطة النصر: يا لوط اخرج في الليل. ولربما يعمل الدعاة إلى الله أحياناً في الليل، ولا يملكون إلا العمل في الظلام بعض الأحيان، وبعض الأحيان يدعون إلى الله بالسر، بل بعضهم في روسيا الاتحادية والجمهوريات الشيوعية كانوا يعملون في السراديب. فإذا بلوط عليه السلام يؤمر بالخروج ليلاً، قال: لِمَ؟ قالت الملائكة: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ} [هود:81] سوف يأتي الفجر أيها النبي الكريم -أيها الداعية إلى الله! سوف يأتي الفجر- فإذا بلوط عليه السلام يستبطئ الفجر الفجر بعيد والليل طويل ولكن الملائكة ترد على لوط فتقول له: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود:81].

بشائر من العهد المكي

بشائر من العهد المكي أيها الداعية إلى الله! مهما طال الليل فإن نهايته الفجر، وقد آذن الفجر بالقدوم، وسوف تأتي الشمس بعد الفجر. أيها الداعية إلى الله! أبشر بالنصر من الله جل وعلا، وابذل ما تستطيع، فإذا أيست وبذلت جهدك وقصارى طاقتك فاعلم أن الله سوف يأتيك بالنصر: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:110].

بشارة الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالنصر

بشارة الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالنصر شاب في العهد المكي لم يتجاوز عمره العشرين سنة يرى محمداً صلى الله عليه وسلم -وتَخَيَّلْ هذه الصورة- أفضل الخلق وهو متوسد بردة في ظل الكعبة فيأتيه هذا الشاب الصغير وقد أنهكه التعب، وآلمه الأسى واستبطأ النصر، فقال: (يا رسول الله! ادعُ لنا، استنصر لنا) ضاقت بهم الأمور، وتَخَيَّلْ صورتهم: هذا يُجَرُّ في الرمضاء في شدة الحر، وذلك يُضْرَب، وذاك يُطْفأ الجمر بجلده، وتلك يُطْعَن في فرجها برمح فتخرج روحها أمام ولدها، وذلك يُعَذَّب وتُعَذَّب أمُّه أمامه، وهذا يُضْرَب بالأسواق، وهذا هو وبناته الصغار يتضاغون من الجوع، وما يجد إلا أوراق الشجر يأكلها هو وبناته، عذاب وأي عذاب! فإذا بمحمد صلى الله عليه وسلم يتغير لون وجهه، ثم يقول له مغضباً: (إنه كان فيمن كان قبلكم، يؤتي بالرجل فتُحفر له الحفرة، فيُوضع فيها، ويُنشر بالمنشار على مفرق رأسه) تَخَيَّلْ أنك هذا الرجل في حفرة والمنشار على مفرق الرأس، ثم قال: (فينشر). هل هو مخدر؟! هل هو غائب عن الدنيا؟! لا يا عبد الله! الدم يسيل، والجسد يتعذب، والروح لم تخرج، قال: (فينشر حتى يفلق فلقتين، ويؤتى بأمشاط الحديد، فيمشط ما بين لحمه وعظمه، لا يرده ذلك عن دينه؛ ولكنكم قوم تستعجلون) تستعجلون، اصبروا فما هي إلا سنوات.

بشارة الرسول صلى الله عليه وسلم لقريش بهزيمتهم

بشارة الرسول صلى الله عليه وسلم لقريش بهزيمتهم كان محمد عليه الصلاة والسلام في العهد المكي -واسمع لهذا الخبر- يطوف حول البيت، فإذا بالمشركين يغمزونه، فإذا به يستغفلهم ويمضي، فيأتي في الشوط الثاني يطوف حول الكعبة -وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً- فإذا بهم يغمزونه فيستغفلهم، ثم في الشوط الثالث يغمزونه ويضحكون عليه، فإذا به يستغفلهم، ثم يأتيهم وهم يضحكون، فيقول: (تسمعون معشر قريش؟! فسكتوا، قال: أما والذي نفس محمد بيده! لقد جئتكم بالذَّبح -عندي القتل والموت، أُمِرْت أن أقاتل الناس- يقول الصحابي الراوي: والله لكأن على رءوسهم الطير) عزة المؤمن. أبْشِر يا عبد الله! فإنك مهما كنتَ وحيداً فإن في قلبك هيبة، وإن في قلبك رحمة، وإنك إن مَشَيت في تلك المجتمعات الفاسدة والضالة وبين الضالين المجرمين فإن الله يوقع في قلوبهم منك الخوف والرهبة. فإذا بأشقى القوم، من كان قبل قليل يسبه ويشتمه، يقول له: (انصرف أبا القاسم راشداً -وانظر إليه حين قال: أبا القاسم ولم يقل: محمد- فوالله ما كنت جهولاً) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]. ألا تسمع يا عبد الله! أن الآلاف المؤلفة من الناس بعد أكثر من أربعين سنة من الشيوعية الحمراء التي تقول: إن القرآن جريمة، والأذان عقوبته لا تعد ولا تحصى، وإظهار دين الإسلام وشعائره جريمة يعاقِب عليها القانون، حفظوا دينهم، كيف حفظوه؟! وكيف أمِنوا من هذه الفتن وهذا الفساد بعد أن انكسرت الشيوعية؟! يَخْرُجُ مِن موسكو - الشيوعية بلدِ الحديد والنار- آلاف مؤلفة كلهم يكبرون ويهللون ويقولون: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك) يخرجون يحجون إلى بيت الله الحرام. والشاهد رآهم بأم عينيه في سيارات لا يتحمل أحدٌ أن يدخل فيها ولا ليوم واحد، وهم يأتون أشهراً طويلة وأياماً عديدة مديدة ليحجون إلى بيت الله الحرام، رأيت أحدهم -أيها الأخ الكريم- يحمل أمه العجوز وبيده شيخاً كبيراً وهو كبير في السن، ويحمل أمه على ظهره يطوف قرابة ساعة، بكل نشاط وبكل حب ورغبة في دين الله، يطوف بها حول البيت في وسط الزحام، وهو متشوق إلى جنة الرحمن، إنه نَصْر الله يا عبد الله، وَعَدَ اللهُ عز وجل: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:21]. هذا محمد عليه الصلاة والسلام وصل إلى وضع لم نصل إلى ربعه يسجد عند الكعبة فيقول أحد المشركين: " من يذهب إلى سلى جزور بني فلان فيرميه على محمد " فيقوم أشقى القوم -والمسلمون حوله لا يظهرون إسلامهم، لا يستطيع أحدهم أن يلتفت نحو الرسول- ويأتي بسلى الجزور -قذارة- ويرميها على ظهر محمد صلى الله عليه وسلم وهو ساجد، ولم يستطع عليه الصلاة والسلام أن يرفع رأسه من السجود، والصحابة ينظرون ولا أحد يتحرك وانظر يا عبد الله! إلى الضعف الذي مر به المسلمون. وتنطلق فاطمة وهي بنت صغيرة تركض إلى أبيها رضي الله عنها، فإذا بأبيها ساجد عند الكعبة وعلى ظهره النجاسات والقذارات، فإذا بها تزيل القذر عن ظهر أبيها وهي تبكي، فأتم عليه الصلاة والسلام صلاته والمشركون ينظرون، والبنت تبكي، والصحابة مستخفون بإسلامهم، لا يستطيع أحد منهم أن يحرك ساكناً، فإذا به يلتفت إلى القوم ويستقبلهم، ثم يرفع يديه إلى السماء وهو يقول: (اللهم عليك بـ عمرو بن هشام، اللهم عليك بـ عتبة بن ربيعة، اللهم عليك بـ الوليد بن ربيعة، اللهم عليك بفلان وفلان -عدَّدهم واحداً واحداً، فسكت القوم- قال الراوي: والله لقد رأيتهم كلهم صرعى يوم بدر) {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر:45] سيأتي يوم يُهزمون فيه، دعهم يتكلمون، ويغمزون، ويسخرون، دعهم يكيدون لك المكائد فإنما هم يحاربون الله: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} [الطارق:15 - 17].

بشارة لأهل الأعمال الصالحة

بشارة لأهل الأعمال الصالحة أبشر أيها العبد الصالح! أبشر يا من تصلي الفجر! أبشر يا من تشهد الشهادتين وتأتي بشروطها وأركانها وتحقِّقُها في قلبك قبل أن تقولها بلسانك! أبشر يا عبد الله، يا من تصوم رمضان! يا من تؤدي زكاة مالك! يا من حججت إلى بيت الله! أبشروا يا أهل القرآن! أبشروا يا أهل الإسلام! بِمَ؟! {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30] أبشر يا من استقمت على دين الله: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا} [فصلت:30] أتعرف متى؟ إنها ساعة الوفاة وساعة الاحتضار: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ} ملائكة بيض الوجوه، تقول: {أَلَّا تَخَافُوا} أي: لا تخف مما سوف يأتيك ويَقْدُم عليك. أتعرف ما الذي ستقدم عليه؟! حفرة ضيقة مظلمة، لا أنيس فيها ولا جليس، ثم يأتي يومٌ مقداره خمسون ألف سنة، الشمس فيه على رءوس الخلائق، يوم فيه حساب ونقاش وعذاب، ومن هناك إما إلى جنة وإما إلى نار، فتقول الملائكة: {أَلَّا تَخَافُوا}. ثم يتذكر ما مضى وما خلَّف من الدنيا فتقول الملائكة له: {وَلا تَحْزَنُوا} لا يصيبنك الحزن على أولادك وأهل بيتك الذين خلفتهم وتركتهم، فالله يتولى الصالحين، ثم تبشرهم الملائكة: {أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأبشروا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30]. أبشر بالجنة إن كنت صادقاً! فإن النبي صلى الله عليه وسلم يوماً من الأيام مر على الصحابة وأخبرهم: (أن بعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، فخاف الصحابة، فقال لهم يبشرهم عليه الصلاة والسلام: إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، فكبر الصحابة -الله أكبر! الله أكبر! كل الأمم السابقة ثلاثة أرباع، وهذه الأمة لوحدها تأخذ ربع الجنة، بشارة عظيمة وأي بشارة! - ثم قال لهم: إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة، فكبر الصحابة: الله أكبر! الله أكبر! ثم جاءت البشارة الثالثة قال: إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة) {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]. نعم. خير أمة، ولهذا كان نصف الجنة من هذه الأمة، والنصف الآخر من الأمم السابقة جميعاً، بشارة وأي بشارة! {وَأبشروا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30]. ومن بعض نعيمها وبعض صفاتها، لمن؟ لمن التزم بأركان الإسلام، وترك الكبائر ولم يصر على الصغائر، لمن إذا وقع في الذنب تاب ورجع إلى الله جل وعلا. أبشر يا عبد الله! فكلما توضأت وشهدت الشهادتين، فُتِحَت لك أبواب الجنة في السماء. الصحابة يوماً من الأيام يأتون بحرير -حرير طبيعي- فإذا بهم يتفكرون بالنظر إليه ويرغبون به، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (والله إن مناديل سعد بن معاذ في الجنة خير من هذه) المناديل التي ترمى والتي لا يكون لها في الدنيا قيمة خير من هذه؟!

آخر أهل الجنة دخولا

آخر أهل الجنة دخولاً أريدك يا عبد الله في هذه الجلسة أن تتَخَيَّلْ وأن تستبشر بوعود الله جل وعلا، يقول عليه الصلاة والسلام: (لو أن ظفراً مما في الجنة بدا -لو حملنا من الجنة شيئاً بالظفر أتعرف ماذا يحصل؟ - لتزخرفت طوابق السموات والأرض). إذا بموسى يسأل عن أدنى أهل الجنة منزلة -كما في صحيح مسلم - وهي قصة عجيبة! وخبرها عجيب! أريدك أن تستبشر يا عبد الله فهذا أدنى أهل الجنة: (يخرج من النار يكبو مرة، ويمشي مرة، وتصفعه النار مرة، حتى إذا نجا منها التفت إليها وقال: تبارك الذي نجاني منك) فإذا به يظن أنه لم يعطَ أحد أفضل مما أعطي هو، يظن أنه أفضل أهل الدنيا عطاءً؛ لأنه تخلص من النار: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَاز} [آل عمران:18] ووالله ليس الفوز بالملايين ولا بالعمارات ولا بالعقارات ولا بالسفر إلى دول الكفر والإباحيات، لا يا عبد الله ليس الفوز بهذا، ولن تنجو بالحصول على أعلى الشهادات وأعلى المناصب والمراكز، بل الفوز: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185]. (فإذا به يرى شجرة من بعيد -اسمع القصة- فيسأل ربه يقول: يا ربِّ! أدنني من هذه الشجرة، أستظل بظلها -أنهكه الحر، ظِلُّ جهنم يا عبد الله لا بارد ولا كريم، ظِلٌّ مِن يحموم- وأشرب من مائها، لا أسألك غيرها، فيقول الله: عبدي! هل عسيتَ إذا أعطيتكها أن لا تسألني غيرها؟ فيقول: يا ربِّ! أعاهدك أن لا أسألك غيرها -نجا من جهنم، وجلس تحت ظل شجرة، ويشرب من الماء! ماذا يريد أكثر من هذا؟! - فإذا بربنا جل وعلا برحمته يقربه من هذه الشجرة. فإذا به ينظر إلى شجرة أخرى أجمل منها وأفضل وأحسن فيقول: يا ربِّ! أدنني من هذه الشجرة، أستظل بظلها، وأشرب من مائها، فيقول له: عبدي! ألم تعاهدني أنك لا تسألني غيرها؟ ما أغدرك -ما أغدر ابن آدم، كلما رأى نعمة أكبر نسي عهده الذي بينه وبين الله- فإذا بالرب جل وعلا يقول: هل عسيت إن أعطيتكها ألا تسألني غيرها؟ فيقول: أعاهدك يا ربِّ! وربه يعذره؛ لأنه يرى ما لا صبر له عليه. يا إخوان: الشجرة خارج الجنة، وليس له صبر عليها فكيف إذا دخل، فإذا به يقربه من الشجرة الثانية، فينظر إلى شجرة ثالثة -أين الثالثة؟ - عند باب الجنة فيقول: يا ربِّ! أدنني من هذه الشجرة، أستظل بظلها، وأشرب من مائها فيقول له: عبدي! ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها؟ فيقول: أعاهدك ربِّ أن لا أسألك غيرها، فيقربه الله من الشجرة الثالثة، فلما يجلس يسمع أصوات أهل الجنة) الله أكبر! أصوات ماذا يا عبد الله؟ {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ} [يس:55] ما شغلهم وما حديثهم؟ {الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ} [يس:55] مع مَن؟ {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ} [يس:56] مع الحور العين يا عبد الله! {حُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ الْلُؤْلُؤِ} [الواقعة:22 - 23] الواحدة كاللؤلؤة. عبد الله! هذه اللؤلؤة لو عانقتها -كما في بعض الروايات- أربعين سنة ما تشبع، من جمالها وحسنها (على رأسها التاج، الياقوتة الواحدة فيه خير من الدنيا وما فيها، لو اطلعَت إلى أهل الأرض لأضاءت ما بين السماء والأرض، ولملأته ريحاً، ولنصيفها -خمارها- على رأسها خير من الدنيا وما فيها). أما النساء الصالحات فهن السيدات للحور العين، وهن أجمل من الحور العين في الجنة، تَخَيَّلْ إلى منظرهن يا عبد الله: (يُرى مخ ساقها من وراء اللحم والعظم) ما أجملها! وما ألطفها! وما أنعمها! عبد الله! حور عين: {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ} [يس:56]. (يسمع أصواتهم فيقول: ربِّ أدخلني إياها، وربه يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليه) ما هناك صبر يا أخي، صبر على ماذا؟! على أصوات أهل الجنة؟! أم على رائحتها التي تشم من على بعد أربعين سنة! أم على أنهارها التي تتفجر؟! تَخَيَّلْ! نهر من لبن؟! أم نهر من خمر؟! أم نهر من عسل؟! تَخَيَّلْ نهر العسل هل تتصوره يا عبد الله؟! أم هل تتصور نهر اللبن؟! أم هل تتصور الكوثر الذي ماؤه أحلى من العسل وأبيض من اللبن؟! الآن تصور نهر أبيض من اللبن يجري، هل رأيت شيئاً أبيض من اللبن، أم هل ذقت شيئاً أحلى من العسل؟ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1] هذا النهر يجري في الجنة. والكوثر نهر يجري في الجنة (حافتاه قباب اللؤلؤ، وحصباؤه اللؤلؤ والياقوت) تَخَيَّلْ أنك تجلس على ضفاف هذا النهر مع زوجتك من الحور العين أو زوجتك الصالحة في الدنيا، تَخَيَّلْ يا عبد الله! وأنت على أرض الجنة البيضاء، كقرص نقي من المسك الأذفر. هذه الجنة يا عبد الله ليس فيها شمس، كيف يرون؟! أم كيف ينظرون؟! قال شيخ الإسلام: "الضوء والنور يأتيان من قِبَل عرش الرحمن" لأنه سقف الجنة. (يقول: يا ربِّ! أدخلنيها -هذا آخر أهل الجنة دخولاً- فيقول الله جل وعلا: ادخل الجنة، فيقول: يا ربِّ! وكيف وقد أخذ الناس مآخذهم ونزلوا منازلهم؟! -أين أدخل؟! ماذا لي في الجنة يا ربِّ؟! كل شيء أخذوه في الجنة- فيقول الرب جل وعلا: تمنَّ يا عبدي، فيتمنى، والله يذكره الله: سَل كذا، فيسأل، سَل كذا، فيسأل -ويذكره الرب بكل شيء، فيسأل كل ما ذكره الله به- فيقول الله جل وعلا: لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها، فيقول: أتستهزئ مني وأنت رب العالمين -أدخل آخر الناس دخولاً الجنة ولي عشرة أمثال الدنيا؟! - فيضحك عليه الصلاة والسلام، فيقول الصحابة: مِمَّ تضحك يا رسول الله؟! قال: مِن ضَحِك الله جل وعلا في عبده) ضَحِكَ الله له، ولم يُعْدَم خيراً من ربه إن ضحك. ويضحك ربنا ضحكاً يليق بجلاله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] لا كضحكنا؛ لكنه ضحك يليق به جل وعلا. (فضحك الرب جل وعلا وقال: إني لا أسخر منك، ولا أستهزئ منك؛ ولكني على ما أشاء قادر، فيدخله الرب جل وعلا فيأتي بيته فتستقبله زوجتان من الحور العين، فتقولان له: الحمد لله الذي أحياك لنا، وأحيانا لك) هذا أدنى أهل الجنة منزلة وله مثل الدنيا عشر مرات. يا من يتكالب على الدنيا وينسى صلاة الفجر، يا من يلهث وراء الشهوات والملذات ويترك صلاة العصر، اتركوا الدنيا (فما الدنيا في الآخرة إلاَّ كما يضع أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بِمَ يرجع) خذ من الدنيا على قدر حالك، وعلى قدر ما يوصلك إلى الله جل وعلا. أبشر يا من تخرج من بيتك لصلاة الفجر: (بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة) نور تام يوم القيامة. أبشر يا عبد الله، هذا أدنى أهل الجنة منزلة، كيف بمن هو أعلاها؟! (قال موسى: يا ربَِّ! -اسمع الآن إلى أعلى أهل الجنة منزلة- فأعلاهم منزلةً) أعلى أهل الجنة منزلة. وهل تظن يا عبد الله أنك تستطيع أن تتصور كيف يكون أعلى أهل الجنة منزلة؟! فالرب جل وعلا لم يجب موسى على هذا السؤال، وكيف يتصور موسى أعلى أهل الجنة منزلة؟ لن يستطيع. قال: (أولئك الذين غرسْتُ كرامتهم بيدي -ما غرسَتْ كرامتهم الملائكة ولا الأنبياء، بل الله جل وعلا هو من غرس كرامتهم قال: وختمْتُ عليها، فلم تَرَ عين، ولم تسمع أذن، وما خطر على قلب بشر) {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة:17] ما تعلم النفس ولا يخطر على القلب. أبشر يا عبد الله، يا من حافظت على أركان الإسلام، يا من اتقيت الله جل وعلا أبشر بهذه الجنة إن كنت مستقيماً، ومت على لا إله إلا الله. النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأحد الصحابة: (من قال (لا إله إلا الله) مخلصاً من قلبه إلا حرمه الله على النار) أي: جاء بشروطها وأركانها، لا يقول (لا إله إلا الله) وهو يأتي المشعوذين والكهان والسحرة والكفرة، ويعتقد أن غير الله جل وعلا يعلم الغيب، ويعتقد النفع والضر في غير الله جل وعلا، أو في غير ما جعله الله سبباً للضر والنفع، فإذا به يقول (لا إله إلا الله)! فلا تنفعه (لا إله إلا الله). قال: (أفلا أبشر الناس؟! قال: لا. فيتكلوا) وكأن النبي صلى الله عليه وسلم يخبر عن حالنا وعن حال كثير من الناس: لم لا تصلي؟! قال: أقول: (لا إله إلا الله). كَذَبَ بقوله: (لا إله إلا الله). وإذا بالحديث الآخر يقول: (مَن قال (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) وأقام الصلاة، وصام رمضان؛ أدخله الله الجنة) فإذا بالصحابة يتعجبون! -يكفي هذا الأمر- فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن للمجاهد مائة درجة -للمجاهد في سبيل الله- ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض). وكان يحث أصحابه ويقول: (إذا سألتم الله -لا تسألوا أدنى أهل الجنة منزلة- فسلوه الفردوس الأعلى، فإنه أعلى الجنة، وأوسط الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة، وسقفه عرش الرحمن). وإذا بالصحابي يقول له النبي صلى الله عليه وسلم: (سلني -ماذا تريد؟ - قال: أسألك مرافقتك في الجنة) أعلى منزلة في الجنة. أبشروا يا عباد الله! أبشروا برحمة الله جل وعلا! وأبشروا أيها الدعاة إلى الله بنصر من الله جل وعلا فإنه قادم لا محالة. نصر الله قادم قادم، ومهما طال الليل فإن الفجر قريب، وكما قال الله جل علا: {أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود:81]. أقول هذا القول. وصلِّ اللهم وسلِّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

من بشائر نصرة هذا الدين

من بشائر نصرة هذا الدين Q لو تذكُر لنا بعض البشارات التي بشر بها الرسول صلى الله عليه وسلم بنصرة هذا الدين؟ A أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من الفتوح التي سوف تفتح مدينتا روميا والقسطنطينية، وقد فُتحت إحداهما، بل وهذا الخبر لعله يكون فيه شيء من عدم التأكد والثبوت، ومن الروايات التي جاءت في التبشير بالنصر أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه سوف يُظهر الله عز وجل هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، ثم انظر ماذا قال! قال: (عزاً يعز به الله الإسلام وأهله، وذلاً يذل الله به الكفر وأهله) مَن الذي يعز؟ الله جل وعلا، لا أنت، ولا قوتك، ولا أموالك، ولا كلامك، هذه أسباب فقط، فإذا كتب الله أن ينتصر هذا الدين فسوف ينتصر. ثم انظر إلى تاريخ الإسلام، وانظر أيضاً إلى واقعنا الآن وقبل سنوات. قبل أيام جاءني رجل بصور لكاريكاتيرات قبل أكثر من ثلاثين سنة في إحدى الجرائد الكويتية، هذه الكاريكاتيرات كانت في بداية الستينات كلها بأقبح الأساليب، وأسوأ الألفاظ، وبرسومات -يا إخوة- لا يستطيع أحد أن يراها فضلاً عن أن يذكرها، كلها تصوِّر الاستهزاء بالملتزمين في ذلك الزمن، وكان الاسم الذي يطلق على الملتزمين أيام الستينات في الكويت: (المُلاَّ مُصْلِح) وبأنه عنده بار للمسكرات -أجلَّكم الله- وبأنه في بعض الرسومات أمام التلفاز ينهى أهله عن النظر وهو ينظر، وأمور لا أستطيع أن أذكرها احتراماً لبيت الله جل وعلا، أساليب قذرة ووقحة كانت تُنشر في الجرائد على الملتزمين أيام الستينات في هذا البلد. كان الملتحي إذا دخل الجامعة يصوَّر في الجريدة: القِرَدة تغزو الجامعة! ولما انتقبت امرأة الجامعة رُسِمَت صورتُها في كاريكاتير إحدى الصحف وعليها شَعرة، وأمامها متبرجة تخاطبها فتقول لها: هذه الشعرة مِن لحية مَن؟ انظر! ألفاظ وقحة قبيحة فيها سب للدين، وشتم للملتزمين. كان الملتزم إذا قصر ثيابه أمام الناس إلى سنوات يُستهزأ به في المجالس، ويُسخر منه في الطرقات. وكان إذا التحى بعضهم لا يُزَوج. بل والله أدركتُ شاباً كان يشتكي لي في أوائل الثمانينات وأواخر السبعينات يقول: إن أبي هددني إذا أطلقت اللحية أن يطردني من البيت. كان هذا في زمنٍ في هذا المجتمع. بل كانت المتبرجة التي تصل كامل ثيابها إلى فخذيها تدخل إلى بيت الله مع أبيها، كان هذا هو الحال الموجود في هذه البلد. الآن انظر إلى الحال كيف تبدل بفضل الله جل وعلا، انظر إلى المدارس والنقابات والانتخابات في كل مكان يحوز على الأصوات الأكثر الملتزمون. بل الآن أصبح كل من أراد أن يحصل على منصب أو سمعة جميلة يلتحي ويسبل إزاره ويتظاهر بالدين، وبعضهم يتظاهروا، وبعضهم صادق، بل أكثرهم صادقون، لكن بعضهم يتظاهر بالدين لأجل أن يحصل على المناصب وينجح في الانتخابات، أليس هذا دليل أيها الإخوة على نصرة دين الله جل وعلا. لا يغرنك أيها الأخ الكريم! بعض ما تراه من انتشار المخدرات وهذه الستلايتات التي تغزو البيوت والصحون الهوائية وبعض الأفلام الداعرة وبعض المقالات في الجرائد من العلمانيين الذين يجحدون الحكم بالله جل وعلا، وبما أنزل الله جل وعلا، لا تغرنك هذه الهجمات فإن الساحة لدين الله وإن بشارات النصر في هذا المجتمع وغيره من المجتمعات تبشر بخير. انظر الآن إلى الشباب في كل عطلة بإذن الله جل وعلا بفضل الله أين يتوجهون؟! إلى حلقات القرآن. قبل ثلاث أو أربع سنوات لم نسمع في المساجد بحلقات لكتاب الله، أما اليوم أولياء الأمور حتى الذي لا يصلي يجبر ابنه على حفظ كتاب الله، تعال إلى هؤلاء؛ لأنهم جربوا فما وجدوا آمَن على أولادهم من هؤلاء الملتزمين. إنه نصر لدين الله جل وعلا: (حتى لا يدع الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخل الله فيه هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل). قبل سنوات مصلَّيات النساء في رمضان -إذا حضرن- صف أو صفين، الآن كل المساجد تشتكي من ضيق في مصليات النساء، ألا يدل على أن هناك من تعمل في وسط النساء بالدعوة إلى الله، بل مِنْهن كما أعلم مَن تحفظ كتاب الله كاملاً وطالبة للعلم وداعية إلى الله تفوق كثيراً من الرجال، أليس هذا نصر لدين الله جل وعلا؟! أبشر يا عبد الله! إن الصحوة اليوم تتفجر في جميع الدول وفي جميع البلاد، اقرأ الجرائد، كل الدول الآن تنادي بالعودة إلى دين الله جل وعلا، جرَّبوا القومية، جرَّبوا الديمقراطية، جرَّبوا الماركسية، جرَّبوا جميع الدعوات والنعرات، فعلِموا أنها كلها خائبة ولا تحقق السعادة في الدنيا والآخرة، فإذا بهم يطالبون -حتى بعض غير الملتزمين ترى صورهم في الجرائد- بالحكم بما أنزل الله وبالعودة إلى دين الله. من كان يظن يوماً من الأيام أن تركيا يحكمها رجل إسلامي كما يقولون، دعك مما عليه من سلبيات وغيرها؛ ولكن من كان يظن أن تركيا تصل إلى هذه الحال، تركيا التي تحارب فيها اللغة العربية، ويمنع فيها الأذان وليس فيها حلقة للقرآن، الآن تتفجر حلقات القرآن في كل مكان بفضل الله جل وعلا. إنه دين الله يا عبد الله، لا تظن أن الدبابات والصواريخ النووية والكيماوية والسياسات والجيوش تقف أمام دين الله. إذا كتب الله أن ينصر الدين ينصره: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:21] بل إذا شاء الله يجبر على الاستقامة. بل الله عز وجل لما نصر عبده الذي جاء يدعو قومه إلى الله من أقصى المدينة قتلوه، أتعرف ماذا قال الله جل وعلا لهذا الشاب الذي كان يدعو قومه إلى الخير فقتلوه، بعثه الله في الجنة فإذا به يقول: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس:26 - 27] وقال الله جل وعلا في نصرته: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ} [يس:28] ما أنزل الله لأجله ملَكاً، لِمَ يا ربِّ؟! أليس هو عبدك؟! ألم يُقْتَل في سبيلك؟! ألم تذهب روحه لأجلك يا ربِّ؟! لِمَ لَمْ تنزل له ملائكة تقاتل؟! قال: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ * إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} [يس:28 - 29] صيحة واحدة، فالأمر لا يحتاج إلى ملائكة ولا إلى جند تنزل من السماء، لا. ما هي إلا صيحة واحدة فإذا بالقوم كلهم خامدون، ولا تسمع منهم صوتاً ولا حراكاً وهمساً. فهي قوة الله جل وعلا، فاستعن بالله، وتوكل على الله، وابذل الأسباب. لابد أن نحقق كلام الله جل وعلا، وندعو إلى الله بالتي هي أحسن، نأمر الناس بالمعروف، ننهى عن المنكر، ننشر كلام الله وأحاديث محمد صلى الله عليه وسلم بين الناس، نعظ الناس بالتي هي أحسن، أما النصر فهذا ليس من عندك ولا من عند أحد من الناس: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران:126] والله أعلم.

وسائل دفع ضعف الإيمان

وسائل دفع ضعف الإيمان Q أحس بضعف الإيمان، وزوجي رجل ملتزم بالدين، ودائماً يحثني على الالتزام، وعلى أن أحافظ على الصلاة؛ ولكني لا أهتم بكلامه، وخصوصاً عند صلاة الفجر يوقظني فأرده بعنف، فبماذا تنصحني جزاك الله خيراً؟ A اتقي الله، اتقي الله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (والله لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا) ما هناك جنة بدون إيمان. هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي بُشر بالجنة كان يسأل حذيفة: [أسَمَّاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المنافقين؟!] هل أنا اسمي موجود في سِجِل المنافقين؟! عثمان رضي الله عنه يقول: [والله لو كنتُ بين الجنة والنار، ولا أدري إلى أيهما أصير، لتمنيت أن أكون رماداً] رماداً وهو مبشر بالجنة، اشترى الجنة ثلاث مرات، كان عثمان يبكي إذا ذُكِر له الموت والقبر. هل تأمن هذه المرأة من النفاق؟! هل تأمن أن تُسْلَبَ الإيمان قبل الموت؟! هل تأمن لَمَّا تنام عن صلاة الفجر وتطلع الشمس ألا يقبض الله روحها؟! من يأمن يا عباد الله؟! أليس هناك من الناس مَن قَبَض الله روحه وقد نام عن الصلاة؟! كثيرون، بل منهم مَن يموت هذه الأيام والأيام السابقة -كما ذكروا في الجرائد وتسمعون من أحاديث الناس- بسبب تعاطى جرعات زائدة من المخدرات! كيف يلقى الله جل وعلا؟! هل يأمن هذا الإنسان وهذه المرأة هل تأمن أنها إذا فتحت التلفاز أن يقبض الله روحها وهي على هذه الحال؟! وما مات إنسان إلا بعث على ما مات عليه. إذاً: فلتتقي الله جل وعلا، ولترجعي إلى كلام الله جل وعلا، ولتفتحي المصحف، فإن أفضل علاج لضعف الإيمان وأولى وأول علاج وأنجع علاج: كلام الله جل وعلا: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} [الأنفال:2] لكن أي تلاوة؟ تلاوة التدبر، والفهم، والتعقل والاستشعار. لَمَّا يقول الله: {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَان} [الانفطار:6] مَن يُخاطب الربُّ؟! يُخاطبك أنت: {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار:6] ما الذي غرك بربك؟! ما الذي غرك به يا عبد الله؟! عندما يقرأ الإنسان: (يا أيها الذين آمنوا) يقف! ينتبه! ويستعد للرجوع إلى كتاب الله! وكما قرأ الشيخ الفاضل قول الله جل وعلا: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} [الفرقان:30] متى يذكرونه؟! يوم القيامة، أو إذا مات له ميت، أو إذا مرض له مريض، يقول: نذهب للشيخ يقرأ عليه، أما هل له ورد في الليل يقرأه، أو يقوم به آخر الليل، (مَن قام بعشر آيات لم يُكتب من الغافلين). إذاً: علينا الرجوع إلى كتاب الله جل وعلا، وإحيائه في قلوبنا وفي بيوتنا. والله أعلم.

حكم استخدام السحر

حكم استخدام السحر Q ما حكم الزوجة التي تهدد زوجها بالسحر، وأيضاً تقطع الرحم؟ A أما السحر فهو كفر، والله جل وعلا يقول: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْر} [البقرة:102]. وقال الله: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102]. فالسحر كفر، فإذا شاءت المرأة أن تكفر بالله العظيم فالله جل وعلا يقول: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} [الكهف:29]. جئت إلى رجل يصلي معنا حتى الفجر، يريد أن يذهب بابنه إلى ساحر دجال، قلت: ما الذي يدعوك لهذا؟! قال: لكل شيء سبب، وهذا هو علاج مرض ولدي، قلت: اتق الله. وللأسف أنه يصلي معنا حتى الفجر. بل كثير ممن يقرأ القرآن يغلق المصحف، ثم يذهب إلى هؤلاء المشعوذين والكهنة، للأسف. وكما قال عليه الصلاة والسلام: (مَن أتى كاهناً أو عرافاً فسأله عن شيء، لم تُقبل له صلاة أربعين يوماً) أربعون يوماً وهو يُصلي كل يوم خمس صلوات، يعني: (40×5) = (200) صلاة، كلها تذهب في لمح البصر؛ لأنه سأله وقال: (فإن صدَّقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد) نسأل الله العافية. إذاً: السحر كفر، بل هذه المرأة لعل الله عز وجل يعاقبها في الدنيا قبل الآخرة! وكم رأينا من الناس ممن يتعاطى السحر، ابتلاه الله عز وجل بالسحر، بل يقول كثير من أهل العلم: إن بيوت السحرة من أحقر البيوت، وحال الساحرين من أسوأ الأحوال. لا تظن أنه -يا أخي الكريم- عندما يؤدي له الجن مطلبه أنه يرضى الجني بهذا الأمر، لا ليسو خدماً عنده، ولا يستعبدهم هو، ولكنه هو الذي يستجيب لهم قبل أن يستجيبوا له. بعض الجن يجبر الساحر -أجلَّكم الله- أن يكتب آياتٍ تحت نعاله، ويدخل بها في الحمام. وبعضهم يكتب القرآن بالنجاسات. وبعضهم يقرأها بالمقلوب، استهزاءً بكلام الله. وبعضهم يذبح لغير الله. وبعض السحرة يأتي محارمه، بطلب منهم، نسأل الله العافية. يا إخوة: السحرة حالهم لا يعلم به إلا الله جل وعلا، بل بعض من يحدثني ممن دخل إلى بيوت السحرة يقول: والله تجد الرائحة المنتنة من خارج البيت، يعيشون في قذر ووسخ، أتعرف لِمَه؟ لأنهم يتعاملون مع سفلة الجن، وسفلة الجن لا طعام لهم ولا شراب ولا ملذة إلا في هذه النجاسات والوساخات، ولهذا بعض السحرة يُروى عنه أنه لا يستنجي -أجلَّكم الله- ولا يغتسل من الجنابة أعاذنا الله. إذاً: هذه حالهم، كيف نذهب إلى هؤلاء ونستنجد بهم؟! ولم أر في حياتي أعظم فرية طبيب يداوي الناس وهو عليلُ هو يريد من ينجيه من هذه الوساخات والنجاسات، والكفر بالله جل وعلا. فلتتقي الله هذه المرأة، فهي في الحقيقة لا تهدد زوجها، وإنما هي تهدد دينها وإيمانها بالله جل وعلا، ولربما كتب الله عليها هذا الوزر وإن لم تسحر. والله أعلم.

حكم تارك الصلاة

حكم تارك الصلاة Q ما الحكم في من يخشون على أنفسهم المرض وهم يصلون، ولكن يصلون في البيت، وأيضاً ما حكم بعض الشباب الذين يتركون الصلوات تركاً كلياً؟ A يا أيها الأخ الكريم: الموضوع كان (البشارة العظيمة) انتبه! وقف معي! كم سنة سوف نعيش في الدنيا؟ متوسط الناس: الستين أو السبعين، أكثرهم ستين سنة. أخي الكريم: أول عشر سنوات ذهبت من عمرك طفولة، ما تدري عنها شيئاً. وآخر عشر سنوات شيخوخة، تنتقل من مستشفى إلى آخر، هذا أغلب الناس. يبقى لك أربعون سنة يا عبد الله! إن كنت من أقل الناس نوماً فإنك ربع اليوم تنام، ست ساعات في اليوم الواحد. فعشر سنوات ذهبت في النوم. بقيت لك ثلاثون سنة، الثلاثون سنة هذه يا عبد الله بين نعيم وبؤس، وبين سعادة وشقاء. هذه الدنيا يا عبد الله! {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4] الصالح وغير الصالح، كل الناس في كبد، كل الناس يغدو، حتى ولو كان جالساً في البيت ويأتيه المال، لا بد أن يتعس، حتى أهل الملايين يشقَون في هذه الدنيا. عبد الله! هذه الثلاثون سنة التي سوف تعيشها -بعد أن حسبناها- هل تقدَّر بوقوفك عند الله خمسين ألف سنة؟! {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ} [المعارج:4] اضربها في ألف! لو تعيش ألف سنة فما لها من قيمة أمام خمسون ألفاً ستقفها! وكيف تقف؟! تقف حافي القدمين، والشمس على الرأس قدر ميل، والعرق يتصبب، ومنهم من يصل العرق إلى فمه، ومنهم من يلجمه العرق، هل تتَخَيَّلْ هذا يا عبد الله؟! هذا الرجل الذي وقف هذه الوقفة خمسين ألف سنة ماذا بعدها؟! يذهبون إلى الأنبياء يشفعون لهم، حتى إن الكفار يقولون: يقضي بيننا الله بأي شيء! مللنا من الوقوف خمسين ألف سنة! فيقضي بهم الله جل وعلا، ولكن إلى أين؟ يأتي به الرب فينظر إليه، فأول ما يحاسَب به الصلاة، وهذا للمصلين، أما غير المصلين فقد انتهى أمرهم، فإنهم يحشرون مع فرعون وهامان وأمية بن خلف وصناديد الكفر. هذا الذي لا يصلي؛ لأنه كافر بالله العظيم، هذا لا يحشر مع المؤمنين أصلاً. أما المؤمنون فإنهم يأتون إلى الله جل وعلا، فأول ما يحاسب الله المؤمنين عن صلاتهم، ينظر كيف هي، خشوع، خضوع، أوقاتها، أركانها، واجباتها، فإن صَلُحَت الصلاة -أتَمَّها- صلح سائر العمل، أبشر! أبشر! يُتجاوز عنك فيما هو غير الصلاة. وإن فَسَدَت صلاته -أعوذ بالله- مثل أن يصلي الفجر بعد شروق الشمس، والعصر ينقرها قبل المغرب، والمغرب ما يتذكر إلا قبل العشاء، ويجمع فيها صلاتان أو ثلاث، وإن فَسَدَت صلاته فَسَدَ سائر عمله، حتى قال عليه الصلاة والسلام -اسمع إلى هذا الحديث-: (فمن سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له -كيف تلقى الله جل وعلا بهذا الحديث- فلا صلاة له إلا بعذر من خوف أو مرض) حربٌ لا يستطيع أحد أن يخرج من البيت، أو مرض، ورجلٌ كبير في السن أُسْقِط في الفراش، أو مريض لا يستطيع الذهاب إلى المسجد، هذا معذور، أما غيره فلا يُعذر. أراك تذهب إلى العمل وتسرع إلى المطاعم والمشارب، بل بعضهم يركض كل ليلة، ولكن يسمع النداء فلا يجيب، والله جل وعلا يقول: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43]. ثانياً: تَخَيَّلْ يا عبد الله! أنك تصلي في البيت سبعاً وعشرين سنة وحالك كمن صلى في المسجد سنة واحدة؛ لأنها بسبع وعشرين درجة. عبد الله! الأمر ليس فيه مقارنة. عبد الله! أنت إذا صليت في الجماعة اسمع إلى ما يكتب لك من أجر: (كل خطوة تأتيها من البيت إلى المسجد يكتب الله لك بها حسنة أو يحط بها عنك خطيئة) أما الذي يصلي في البيت أيُّ فضل؟ وأيُّ أجر؟ وأيُّ فضيلة يحصل عليها؟ فالله الله بالصلاة على وقتها، والله جل علا يقول: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59]. حافظ يا أخي الكريم على الصلوات، فهي عمود الإسلام، اجتهد في أمر صلاتك، لا تترخص فيها، حتى قال عمر: [أيها الناس لا حَظَّ في الإسلام لمن ترك الصلاة] هذا لا ينتمي إلى الإسلام هذا ولا يجب أن يَنْتَمي للمسلمين. بل قال ابن مسعود: [لقد رأيتُنا -أي: في صلاة الجماعة- وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق] كان عندهم الذي يتخلف عن صلاة الجماعة منافق معلوم النفاق. فالله الله في صلاة الجماعة يا عباد الله؛ حتى يُنال بها سنة نبيكم عليه الصلاة والسلام.

حكم الدراسة للنساء

حكم الدراسة للنساء Q يريد والداي أن يدرسا أختي -لعله يقصد جامعة أو نحو ذلك- وبعد ذلك يوظفانها، وأنا أعترض على ذلك، مع العلم أني خائف من كلامي وجدالي معهم؛ لأني لا أريد أن أغضبهم، فماذا أفعل؟ A هذا الكلام يحتاج إلى تفصيل: فإن كانت الدراسة لا بأس بها، مثل: الثانوية المدارس ليس فيها منكر، وهذه الطالبة عندما تخرج متحجبة وملتزمة بدينها فإن شاء الله لا حرج؛ لأنه من بر الوالدين إذا كان في الدراسة خير. أما العمل: فكل بحسبه: فإن كان العمل الذي سوف تدخل فيه شر وفسادً أو يؤدي إلى ما هو منكر محرم مثل: اختلاط بعض الموظفات في بعض اللجان، أو مقابلتهن لبعض المراجعين من الرجال، أو خروجهن من بيوتهن بغير إذن، أو تبرجهن في بعض الأماكن، أو غيرها من الأمور؛ إذا كانت وظيفتها تؤدي إلى منكر، فَسَدُّ الذرائع بعدم توظيفها. والله والله بالنصيحة، انصح أختك، انصح والديك، فكم من الرجال اليوم يبكي الدم لأنه فرط في ابنته وعرضه. كم من الرجال اليوم عندما يُتَّصل عليه ويقال له: قبضنا على ابنتك أو أختك في الشقة أو في ذلك المكان تسود الدنيا في وجهه، تَخَيَّلْ كيف يعيش على وجه الأرض! أم كيف يخفي رأسه! أم كيف يجلس مع الناس! والله أيها الإخوة الكرام هذا الرجل الموت خير له من الحياة، وباطن الأرض خير له من ظاهرها لو سمع يوماً من الأيام أن ابنته قبض عليها مع فلان الفلاني. بل نعلم أن بعض المصلين الغافلين مَن يترك ابنته ليس فقط تذهب للدوام والعمل، بل تذهب في بعض الكليات المختلطة من الصباح إلى آخر الليل، ومع مَن تذهب؟! لا يدري، مع مَن ترجع؟! لا يدري، أين تذهب هناك؟! لا يدري! وأخبرني بعض شهود العيان، يقول: ينزلها أباها من السيارة عند الكلية ويذهب، ثم تركب مع واحد آخر. وهذه أحاديث منتشرة وأخبار كثيرة. أنت الآن أيها الأخ الكريم في مجتمع فيه شهوات، والبنت فيها شهوة، أما أنك تترك الحبل على الغارب وتترك الأمور هكذا ثقةً ببنتك فلا، وليست هذه ثقة بل هي غفلة أيها الإخوة. هذه البنت الشابة التي رؤيت في إحدى المزارع عندما قُبِض عليها في الليل مع فتيات وشباب في منطقة قريبة عندنا، وأخبرني الضابط الذي كان يحقق في الأمر قال: سألناها: كيف خرجتِ من البيت؟ قالت: إن والدي يظنان أنني من أفضل النساء التزاماً وعفة وشرفاً. يعني: كيف خرجتِ؟! قالت: قلت لهم: سوف أذهب إلى عرس لإحدى صديقاتي، وإذا بها تضحك على والديها، وتذهب إلى مكان آخر. والله لا لوم عليها، ولكن اللوم الأكبر على والدها الغافل، وعلى أخيها الساذج. تخرج البنت إلى عرس إلى آخر الليل، مع من؟! لوحدها؟! مصيبة! وماذا تلبس؟! المصيبة أعظم! بعض الناس -للأسف- كما سمعنا عن بعض الرجال، وما أدري هل بقي شيء من رجولتهم؟! يسمح لبنته أن تسافر إلى بلاد أخرى غربية كافرة بدون محرم بحجة الدراسة، ويقول: هذه مهنة شريفة، وهن نساء شريفات، تذهب لتدرس هناك، وأنا أعرف بنتي، وأنا واثق منها، لن تفعل شيئاً -إن شاء الله- ولن يصيبها شيء، الله أكبر! وهل بنتك أشرف من الصحابيات؟! قال: (يا رسول الله! إني كنت أريد أن أذهب معك في غزو كذا وكذا، وزوجتي ذهبت حَاجَّةً، وليس معها محرم، قال: اذهب فحج معها) اترك الجهاد، اذهب فحج معها، وهل تأمَنْ عليها أكثر من الصحابيات؟! انتبه! الأمر خطير، والمرأة إذا خرجت استشرفها الشيطان، فاحرص على حجابها وسترها، وإن كان ستراً لك. فالله الله بالنصيحة، والله الله بالإكثار منها والانتباه لهذه الأمور، وليس عليك إلا التذكير، فهي مسئولية الوالد، ولعل الله عز وجل أن ينفع بنصيحتك ودعائك.

أدنى أهل النار عذابا

أدنى أهل النار عذاباً Q يا شيخ: ما هي أدنى منزلة لأهل النار؟ A ذكرنا أدنى أهل الجنة منزلة، واسمع الآن إلى أدنى أهل النار منزلة، واترك أعلى أهل النار. أما أدنى أهل النار منزلة فهو رجل توضع في رجليه جمرة واحدة من النار. وتَخَيَّلْ الآن الجمرة وقد وضعت في رجلك! تحرقك، لكن تعرف ما الذي يحصل؟ انظر! الجمرة توضع في الرِّجل، أعلى مكان أو أبعد مكان عن هذه الجمرة ما هو في الجسم؟ الرأس، فعندما توضع في رجله يغلي دماغه، أرأيت الماء كيف يغلي داخل القدر، فإن الدماغ يغلي مثله، هذا والجمرة أبعد ما تكون عن الرأس، ما الذي تتَخَيَّلْ حصوله لبطنه؟! وماذا تتَخَيَّلْ أن يحصل لقدمه؟! الأمر شديد! وهو يظن أنه أشد أهل النار عذاباً، وما يظن أن أحداً يتعذب أكثر منه. هذا أدنى أهل النار عذاباً يا عبد الله! ومساكين بعض الناس يقول: يا أخي أجلس قليلاً، ثم أخرج، ومن يضمن لك يا عبد الله؟! إذا كان مَن يقذف في النار يصل إلى قعرها بعد سبعون سنة: (وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم سبعين خريفاً). نعم. أبشر واحذر عقوبة الله جل وعلا! فلا تقل: الأمر بسيط، المهم أنني أدخل الجنة، لا يا عبد الله، اطلب من الله النجاة من النار، ومن سأل الله أو استعاذ بالله عز وجل من النار كل يوم ثلاثاً، قالت النار: اللهم أجره مني، اللهم أجره مني، اللهم أجره مني.

للنساء قصص وعبر

للنساء قصص وعبر هناك من النساء من يضرب بهن المثل في الصبر والجهاد والطاعة، وفي العصر الأول في الإسلام أمثلة كثيرة على ذلك، وهذا العصر أيضاً لا يخلو من إشراقات مضيئة لنساء حملن راية الإسلام، وقمن بدورهن خير قيام.

قصة لعائشة أم المؤمنين

قصة لعائشة أم المؤمنين الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين. أما بعد: أيتها الأخوات الكريمات: هذه سلسلة من الرسائل النسائية، أبدأها بالرسالة الأولى بعنوان: "قصص وعبر" وأسأل الله عزَّ وجل أن يكون لنا في هذه القصص عبرة، فإن من النساء، بل من الناس عموماً من تمر عليه القصص فلا يعتبر، والسعيد من اتعظ بغيره، نبدأ هذه القصص لا للتسلية، ولا لقضاء الأوقات، ولا للطرف، ولا للهزل، إنما نقص هذه القصص عبرة، قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف:111] ويقول تعالى: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:176]. فالله جلَّ وعلا قد ملأ القرآن بالقصص، لِمَ هذه القصص؟ قال الله جلَّ وعلا: {عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف:111] نبدأ هذه القصص، قصة قصة، ولعل في كل قصة فائدة وعبرة عظيمة، لكن تكفينا في بعضها الإشارة، وبعض التلميحات لها. القصة الأولى: إنها قصة عائشة، الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها، قال القاسم: كنت إذا غدوت بدأت ببيت عائشة فأسلم عليها، يقول: فدخلت عليها يوماً وهي تصلي وتقرأ قول الله عزَّ وجلَّ وتبكي: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:27] قال: فنظرت إليها وانتظرت، فأعادت الآية: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:27] قال: فانتظرت مرة ومرتين، فإذا بها تردد الآية وتبكي، قال: فطال عليّ المقام، فذهبت إلى السوق لأقضي حاجة لي، قال: فرجعت فإذا هي قائمة كما هي تبكي وتصلي وتقرأ القرآن. تقول عائشة رضي الله عنها: [إنكم لن تلقوا الله عزَّ وجلَّ بشيء خير لكم من قلة الذنوب]. عند احتضارها، تلك الفقيهة العالمة العابدة، جاءها ابن عباس، وكان عندها عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر، فقال لها: [إن ابن عباس يستأذن عليك، يريد الدخول -وتعلمن ما الذي حدث بينها وبين ابن عباس - فقالت: ما لي ولـ ابن عباس -وهي تحتضر- فاستأذن مرة أخرى فأذنت له فدخل، فلما دخل أثنى عليها خيراً وأخذ يطريها، ويكيل لها المدائح، فقالت: دعك عني يـ ابن عباس، دعك عني يـ ابن عباس، فوالذي نفسي بيده لوددت أني كنت نسياً منسياً] {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60]. زوجات النبي صلى الله عليه وسلم كانت إحداهن تربط حبلاً تتعلق فيه في قيام الليل، إذا تعبت تعلقت بالحبل، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: (ما هذا؟ فأخبروه الخبر، قال: حلوه، ليصلِ أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليرقد، فإن الله لا يمل حتى تملوا). أمة الله! سلي نفسك أين أنت من قيام الليل؟ أين أنتِ من قراءة القرآن؟ من العبادة، من الصيام والصدقة، من النوافل والطاعات، أين أنتِ من هذه كلها؟ ثم ماذا تقول عائشة: [لوددت أني كنت نسياً منسياً]. {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة:16]. سوف نقتصر في القصص -يا أمة الله- على النساء، ولما فتحت وقلبت الصفحات، واستمعت إلى العلماء والمشايخ رأيت أن في النساء أمثلة عجيبة، وأمثلة كثيرة غريبة، تفوق بعضها أمثلة الرجال.

قصة أم سليم

قصة أم سليم إنها أم سليم، الرميصاء سهلة بن ملحان رضي الله عنها، خطبها أبو طلحة، فقالت له: [أما إني فيك لراغبة، ومثلك لا يرد، ولكنك كافر وأنا مسلمة]-الله أكبر! مَن مِن النساء تقول هذا الكلام أو مثله في هذا الزمان- قالت: [ولكنك كافر وأنا مسلمة، فإن تسلم فإسلامك مهري، ولا أريد منك مهراً]. في يوم حنين خرجت مع الرجال تداوي الجرحى -نحن من منا تسافر هذه السفرات؟ لا أريد منكِ أن تخرجي للجهاد يا أمة الله! إلا بضوابط الشرع، ولكن انظري إلى هذه المرأة أين تخرج؟ - تخرج تداوي الجرحى، وقد وضعت في بطنها خنجراً، وزوجها ينظر إليها ويبتسم، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: (ألا ترى يا رسول الله إلى أم سليم، وقد وضعت في بطنها خنجراً، فيبتسم ويتعجب منها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أم سليم! ما تفعلين بهذا الخنجر؟ قالت: يا رسول الله! إن دنا مني أحد، أقد به بطنه). انظرن إلى الشجاعة! انظرن إلى قوة الإيمان! انظرن إلى التضحية في سبيل الله! مرض لها ولد صغير، ويوماً من الأيام خرج زوجها للعمل، ولما كان خارجاً نظرت إلى ولدها وقد اشتد مرضه؛ فإذا به تفيض روحه، فهل ناحت؟ هل شقت جيباً؟ هل نتفت شعراً؟ هل دعت بدعوى الجاهلية؟ هل اعترضت على قدر الله؟ لا. بل أخذته فغسلته وحنطته وكفنته ووضعته في جانب البيت، جاء زوجها في الليل، فجلس وتعشى، ثم قال لزوجته: كيف حال الصبي؟ قالت: هو بأهدأ حال، وما كذبت، فهي الصادقة رضي الله عنها، نعم هو بأهدأ حال لأنه ميت، ثم تزينت لزوجها وتطيبت، وجاءته في الليل، ونام معها، فلما أصبحت في الصباح أخبرته بالخبر، فغضب عليها ووجد عليها فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يذكر له الخبر، قال له: إن زوجتي فعلت كذا وكذا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم له: (أعرستم البارحة؟ أي: جامعتها، قال: نعم. قال: اللهم بارك لهما في ليلتهما) فكان أن رزقه الله عزَّ وجلَّ من الولد ما بارك الله عزَّ وجل فيهم. {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ} [البقرة:155] ولد يموت، أخ يموت، الأب يموت، الزوج يموت، الأم تموت، لكن ماذا نفعل: {وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة:155] يقول الله تعالى: (ليس لعبدي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا، ثم احتسبه إلا الجنة) إذا مات الولد، فماذا تفعلين يا أمة الله؟ البكاء لا بد منه، لكن هل تنوحين، أم تكونين كـ أم سليم التي صبرت، وَرَضيت بقدر الله، ولم تجزع، ولم ترد أمر الله عزَّ وجل، أم تفعلين كما تفعل الجاهليات؟!

قصة امرأة فقدت ابنها

قصة امرأة فقدت ابنها اسمعي إلى هذه العجوز وهي التي حدث لها مثل ما حدث لـ أم سليم: يقول الأصمعي: أنه خرج وصديقه في البادية -وهذه قصة عجيبة غريبة- قال: فضللنا الطريق، فبحثنا عن مكان نأوي إليه، فرأينا ناراً من بعيد، فاتجهنا إلى هذه النار، فإذا امرأة عجوز، فقالت لنا: من أنتما؟ فقال الأصمعي ومن معه: ضللنا الطريق وأهلكنا الجوع، فرأينا النار فأقبلنا إليها، فبينما هم كذلك، إذ أقبل بعير عليه راكب، فنظرت هذه العجوز إلى هذا البعير، إنه بعير ابنها، أما الراكب فليس هو ابنها، فخافت، وأوجست في نفسها خيفة، فلما أقبل البعير عليه الرجل، قال: يا أم عقيل! السلام عليكِ، أعظم الله أجركِ في ولدكِ، فقالت: ويحك! أومات عقيل؟! فقال: نعم. قالت: ما سبب موته؟ قال: ازدحمت عليه الإبل فرمت به في البئر، فقالت هذا المرأة العجوز: أيها الرجل! انزل، فنزل، فقربت إليه كبشاً، قالت: اذبحه، فذبحه ثم طبخت الطعام، وقربت إلى الأصمعي وصاحبه الطعام، يقول الأصمعي: فعجبنا منها! فلما فرغنا من الطعام قالت لنا، هل فيكم أحد يقرأ القرآن؟ قلنا: نعم. قالت: اقرءوا عليّ آيات أتعزى بها بابني، فأخذا يقرءان عليها: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة:155] * {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:156] * {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:157] قالت العجوز: آلله قال هذا في كتابه؟ قال: نعم. قالت: آلله قال هذا؟ قال: نعم. قالت: صبراً جميلاً، وعند الله أحتسب عقيلاً، اللهم إني فعلت ما أمرتني به، فأنجز لي ما وعدتني. ولو بقي أحد لأحد لبقي محمد لأمته. نعم أيتها الأخوات و (إنما الصبر عند الصدمة الأولى) كيف حالكِ لو مات لكِ عزيز؟ أو مات لكِ قريب، أو كان الابن الوحيد لك ثم فارق الدنيا، ماذا تفعلين؟ نعم. لا بأس من البكاء، ولكن إياك والنياحة! يقول عليه الصلاة والسلام: (إن الله عزَّ وجلَّ رأى، أو علم وهو العليم الحكيم أن رجلاً مات له عزيز، فقال لملائكته وهو أعلم به: ماذا قال عبدي؟ قالوا: يا رب! حمدك واسترجع، فقال للملائكة: ابنوا له بيتاً في الجنة، وسموه بيت الحمد). دع الأيام تفعل ما تشاء وطب نفساً إذا حكم القضاء ولا تجزع لحادثة الليالي فما لحوادث الدنيا بقاء ومن نزلت بساحته المنايا فلا أرض تقيه ولا سماء {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ} [الحديد:22] موت ولد، أو موت قريب، أو عزيز، أو مرض، أو مصيبة: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} [الحديد:22 - 23] تذكري أم سليم، وتذكري هذه العجوز: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد:23].

قصة أول شهيدة في الإسلام

قصة أول شهيدة في الإسلام إنها سمية بنت خياط - أم عمار - ما أظن أن امرأة تجهلها، إنها أول شهيدة في الإسلام، أسلمت فعلم بها أبو جهل فضربها، وصفعها، وجرها في الطرقات، وجاء بها وبزوجها وابنها عمار، أمام الناس يضربها العبيد - عبيد أبي جهل، يضربونهم ويعذبونهم، يأتي إليهم النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إليهم- انظرن إلى المرأة كيف صبرت وجلدت، وكيف تحملت، تنظر إلى زوجها وابنها يعذبان، رآها النبي صلى الله عليه وسلم هي وزوجها وابنها، فقال لهم: (صبراً آل ياسر، فإن موعدكم الجنة) يخرج أبو جهل عليهم وهم يعذبون، ينظر إليها وهي تعذب، وتجلد، وتضرب وهي صابرة، ولا تقول إلا: أحد أحد، ربي الله وحده، ديني الإسلام، نبيي محمد، وهي تعذب أمام الناس، فجاء أبو جهل فاغتاظ من منظرها، وزمجر لما رآها، وأخذ رمحاً من عبيده وهي تعذب، فمر عليها، فانتزع الحربة ورماها في فرجها، فماتت فكانت أول شهيدة في الإسلام: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200]. بعض النساء تفتح الجريدة، فترى استهزاءً بالحجاب، أو سخرية من النقاب، أو ضحكاً على الملتزمات، قالت: وأنا لماذا أتعب نفسي؟ أرجع كما كنت أفضل لي، بعض النساء لا تتحمل كلمة من قريبة، أو استهزاءً من صديقة، أو بعض السخرية من النساء، ما إن تسمع كلمة استهزاءٍ إلا وتترك الحجاب والملتزمات، تقول: أعيش في راحة وهدوء أفضل لي من هذا التعب كله. أيتها الأخوات: إن في هذا الزمان حرب وأي حرب على المرأة المسلمة؟! حرب على حجابها، حرب على عفتها، وعلى كرامتها. رجل خبيث يصور في الجريدة في كاريكاتير له، صورة منقبة محجبة عفيفة طاهرة، يرسمها وعلى صدرها شعرة، وبجانبها امرأة سافرة، تقول هذه السافرة لهذه المحجبة، تقول: هذه الشعرة من لحية من؟ قاتلهم الله أنى يؤفكون! أمة الله: هذا دور الصبر، هذا دور التحمل، هذا دور أن تتأسي بـ سمية رضي الله عنها، أول شهيدة في الإسلام: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200] هي سنة الله: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} [المطففين:29]. هذا نوح يمر عليه الفجار الكفار: {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود:38]. أمة الله: لا تغرنك تلك الكلمات، وتلك الاستهزاءات، وهذه الصرخات، وذلك النعيق والعواء، لا تغرنك هذه الزفرات، فإنما هي حرب لله ورسوله، واصبري واثبتي، ولتكن قدوتك هي أم عمار.

قصة زوجة جليبيب

قصة زوجة جليبيب واسمعن إلى هذه القصة، التي لا أظن أن من النساء من تتحمل هذا الموقف في هذا الزمان: رجل صالح، لكنه دميم الخلقة، قبيح المنظر، يمر على النساء في أيام الصحابيات فلا أحد من النساء تقبل به، الرجل دميم، الناس يردونه، أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أصحابه فقال: يا رسول الله! إن الناس قد رفضوني، يا رسول الله زوجني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اذهب إلى بيت فلان، واطرق عليهم الباب، وقل لهم: إن رسول الله يريد أن يزوج ابنتكم لي، فذهب وطرق الباب، ففتح الباب فقال: إن رسول الله يريد أن يزوج ابنتكم، ففرحوا، قالوا: رسول الله يريد أن يتزوج ابنتنا؟ -ظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يتزوج بها- فقال لهم: يريد أن يزوج البنت لي، فترددوا، فقالت الأم: أما كان أبو بكر؟ أما كان عمر؟ أما كان فلان؟ ما وجد إلا هذا؟ كأنها ترددت، وكأنها تلكأت، فسمعت البنت بالخبر، الآن هي في أمرين، وبين موقفين: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك المنظر القبيح الذي لا تتحمله، فقالت البنت: ما الخبر؟ فأخبرت أمها بالخبر، فقالت البنت لأمها ولأبيها: أتردان أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أين تذهبان من قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]؟ ادفعوني إليه فإن الله لن يضيعني، سمع النبي صلى الله عليه وسلم بالخبر، فسر ودعا لهذه البنت، وفي ليلة الزفاف، قبل أن يدخل عليها سمع بمنادي الجهاد: يا خيل الله اركبي، حي على الجهاد، ففزع إلى الجهاد في سبيل الله، وفي أثناء المعركة، أخذ النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: أتفتقدون أحداً، قالوا: لا يا رسول الله، بحثوا عن القتلى، فقال لهم أتفتقدون أحداً؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: ولكني أفقد أخي جليبيباً، قال: فبحث عنه النبي صلى الله عليه وسلم بين القتلى، فوجده قد قتل سبعة من المشركين وقتلوه، فأخذه ووضعه بين ذراعيه، ثم مسح التراب والدم عن وجهه ثم قال: قتل سبعة من المشركين وقتلوه هذا مني وأنا منه هذا مني وأنا منه. قال عليه الصلاة والسلام: (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) من النساء في هذا الزمان من لا ترضى إلا بالزوج ذو المنظر الغربي، الذي شكله شكل الكفار، وقد يكون متساهلاً في المحرمات، يرضى بالتلفاز، ويرضى بالأغاني والمسلسلات، ويسمح لها بالذهاب يمنة ويسرة، وأن تعمل بين الرجال، وتفعل ما تريد سبحان الله! لا تريد زوجاً ملتزماً، وتقول: هذا سوف يضيق عليّ، ويمنعني من الخروج من البيت، وكل شيء عنده حرام. فهذه المرأة تريد زوجاً بخيلاً إلا عليها، تريد رجلاً شجاعاً إلا عليها، تريد رجلاً إن قالت له: نعم؛ قال: نعم. وإن قالت له: لا. قال: لا. لا تريد إلا هذا. من منا ترضى بالزوج الصالح ولو كان فقيراً؟ من منا ترضى بزوج صالح مجاهد، لا يمكث معها إلا بضعة أشهر، وبقية العام في الجهاد، من منا ترضى بهذا الزوج: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال:24]. انظرن ماذا قالت؟! قالت: كيف تردان أمر رسول الله؟ أين تذهبان من قول الله؟ لأنها كانت مستجيبة لله ولرسوله.

قصة الخنساء واستشهاد أبنائها

قصة الخنساء واستشهاد أبنائها وهذه القصة فيها من العبر ما فيها، وهي قصة الخنساء تلك الشاعرة، التي مات أخوها في الجاهلية فظلت سنوات تبكي عليه وترثيه بشعرها، لكن لما أسلمت تغيرت، ففي القادسية، وانظرن وتعجبن من هذه الموقف، وتخيلي أمة الله! أنك في هذا الموقف التي هي فيه! لو قال لك ابن في هذا الزمان: يا أماه! بعت نفسي لله، أريد أن أذهب إلى الجهاد، أريد الجنة يا أماه! كيف تردين عليه؟ أما هذه الأم فلها أربعة أبناء فقالت لهم: يا أبنائي! أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، وتعلمون ما أعده الله من الثواب الجزيل في حرب الكافرين، واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200]، فيا أبنائي، اذهبوا إلى الجهاد. وذهب أبناؤها الأربعة إلى الجهاد، فانتظرت الخبر، فإذا بالخبر يأتيها، قيل لها: إن أبناءك الأربعة كلهم قتلوا في سبيل الله، كلهم قد استشهدوا في سبيل الله، فماذا ستقول هذه المرأة؟ التي بكت على أخيها سنوات، ماذا تقول في أبنائها؟ قالت: الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من الله أن يجمعني وإياهم في مستقر رحمته. يا أمة الله! هل تربين أبناءك على الجهاد أم على الدعوة وطلب العلم، وعلى طاعة الله، ومراقبته جلَّ وعلا؟ أم ما الذي ربيت أبناءك عليه؟ في الصغر على أفلام الكرتون، وعلى الأغاني والمسلسلات، وعلى الأفلام والرقص، ثم إذا كبر شيئاً ما، على الملاهي، وعلى أماكن التبرج والاختلاط، ثم إذا كبر فعلى المطاعم والوجبات السريعة، يمكث ليله كله هناك. وأي شيء يلبس؟ انظر إلى لباسهم، العجيب أن أمه محجبة ملتزمة، وأبوه لا يفارق المسجد، وهو يعطى من الأموال ما شاء، ويسهر الليالي أين شاء، ويسافر كيف يشاء، ويجلس مع من يشاء! اسألي نفسك هل أرضعته حب طاعة الله؟ وهل عودته على حب الصلاة؟ وهل قرأ القرآن؟ أم ماذا يا أمة الله؟ إنها أم حرام، تستقبل بعد غزوة أحد الناس وقد شاع في الناس أن محمداً عليه الصلاة والسلام قد قتل، فجاءت تستقبل الناس، فلما استقبلت الناس قيل لها: إن أخاك قد قتل، وإن أباك قد قتل، وإن زوجك قد قتل، وإن ابنك قد قتل، كلهم قتلوا في غزوة أحد، فلم ترد عليهم، وقالت: وماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أربعة من أقرب الأقربين قد قتلوا، وهي تقول: ماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فدلت عليه، فأخذت بناحية ثوبه، فقالت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لا أبالي إذا سلمت من العطب، لا أبالي إذا سلمت من العطب. نعم إن المرأة هي مربية الأجيال، إن المرأة هي حاضنة الرجال. الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق أولئك الرجال الذين تربوا بحضن من؟ الإمام أحمد من ربته ومن علمته؟ إنها أمه رحمها الله كانت تذهب به إلى المسجد، فصار ابنها إمام أهل السنة والجماعة، شيخ الإسلام من ربته؟ الأئمة الأعلام من الذين ربوهم؟ يا أمة الله! اعقلي، إن عليك وبيديك أن تربي الرجال ليكونوا مجاهدين، وليكونوا علماء، وليكونوا دعاة إلى الله عزَّ وجل. إن العلمانيين والمنافقين يثبطونك، خسئوا وتعسوا، يقولون: دورك الآن أن تكوني عضواً في مجلس الأمة، دورك الآن أن تخوضي مع الرجال، دورك الآن أن تخرجي من البيت، من هذا السجن، من هذه القيود، انفضي عنك الغبار، اقطعي هذا الحجاب، أحرقيه واخرجي بين الرجال، حتى قالت إحداهن: لمَ هذه القيود؟ لِمَ هذه القيود على المرأة؟ هل لأن الله ذكر وليس أنثى؟! نعوذ بالله من هذه الكلمات، وإلى آخر هذه المقولات من الفاجرات، من تلك النساء الغافلات. أمة الله! لا تغرنكِ هذه الحرب الشعواء، فإنما أنت مربية الأجيال، وصانعة الرجال.

قصة امرأة مراقبة لله جل وعلا في غياب زوجها

قصة امرأة مراقبة لله جل وعلا في غياب زوجها امرأة سافر زوجها للجهاد، وغاب عنها شهوراً طويلة، انتظرته فلم تتحمل -المرأة فيها شهوة وفيها رغبة للرجال- وانتظرت أياماً وشهوراً وطال عليها المقام، يتجول عمر في الليل ويتفقد الرعية، فإذا به يقترب من بيتها وكانت بيوتهم صغيرة، فسمع هذه المرأة تحدث نفسها لوحدها، فتقول شعراً -واسمعن إلى هذا الشعر-: تطاول هذا الليل واسوَّد جانبه وأرقني ألا حبيب ألاعبه فوالله لولا الله رباً أراقبه لحرك من هذا السرير جوانبه {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} [الرعد:10]. الجهر بالقول والإسرار به في علم الله سواء، يا أمة الله! لا تظنين إذا خرج زوجك أنه لا يراقبك أحد، الإمام أحمد كان يحدث الناس يوماً فإذا به يغلق الكتاب ويدخل الغرفة، انتظروه ما خرج، أطال المقام، فاقترب أحد التلاميذ عند الباب فسمع الإمام أحمد يبكي، ويقول في نفسه شعراً: إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن عليّ رقيب ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أنما تُخفي عليه يغيب أمة الله: لا تظنين أن الزوج إذا غاب، فإن الله يغيب عنك: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7]. أمة الله: لا تظنين أنك إذا ذهبت إلى المطاعم، والحدائق، ودخلت عند الخياط يفصل الجسد، وينظر إليك وأنتِ تختلين به، أن الله لا يراكِ: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:14]. إن من أعظم الإيمان أن المرأة تراقب الله عزَّ وجلَّ في السر والعلن، يقول عليه الصلاة والسلام: (يأتي أقوام من أمتي يوم القيامة، لهم أعمال كـ جبال تهامة بيضاً، يجعلها الله هباء منثوراً، قال ثوبان: صفهم لنا يا رسول الله! جلِّهم لنا، قال: هم قوم يصلون كما تصلون، ويقومون كما تقومون، لكنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها). إذا غاب الزوج، إذا غاب الأب، إذا غاب الأخ، ترفع الهاتف وتتكلم، مع من يا أمة الله؟! تظنين أن الله لا يسمع؟! تظنين أن الله عزَّ وجلَّ لا يرى؟! تظنين أنك لوحدك مع هذا الرجل تكلمينه؟! أو تنظرين إلى الأفلام والمسلسلات. يا أمة الله! المراقبة المراقبة!

قصة امرأة من بني إسرائيل

قصة امرأة من بني إسرائيل اسمعي إلى هذه القصة، قصة امرأة كانت من بغايا بني إسرائيل؛ هذه البغي كانت لا تمكن رجلاً إلا بمائة دينار، مرت يوماً من الأيام على عابد زاهد في صومعته فافتتن بها، فجاءها يطلبها، فأبت عليه، ومنعته إلا بمائة دينار، فترك الصومعة والعبادة، وأخذ يجمع المائة دينار، فلما جمع المائة طرق الباب عليها، فتح الباب فدخل، فتزينت له، وجلست على السرير، فلما اقترب منها قالت: هلم إليّ، هلم إليّ، فسقط جالساً وأخذ يبكي، قالت: مالك؟ ما بالك؟ هلم إليّ، فقال ذلك الرجل: ذكرت وقوفي بين يدي الله، فلم تحملني أعضائي لأقف، فأخذ يبكي، وأراد الخروج من البيت، وقالت له: قف، أطلب منك أن تتزوجني، قال: لا. ولكن خذي المال، فخرج نادماً فجلست هذه المرأة وبكت، وأصلحت ما بينها وبين الله عزَّ وجلَّ، ثم رجعت إلى الله وتابت، ثم أخذت تبحث عن هذا الرجل، بحثت عنه فدلت عليه، فلما جاءت إلى بيته طرقت الباب، فلما فتح الباب، تذكر تلك الليلة الكئيبة، وذلك الموقف المشئوم، فشهق شهقة فمات منها وسقط على الأرض، فأخذت تبكي، فبحثت عن قريب له تتذكره به، فوجدت أخاه وكان رجلاً فقيراً عابداً زاهداً فتزوجته، وأنجبت منه سبعة من الأولاد الصالحين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً} [التحريم:8]. إلى متى يا أمة الله تسمعين تلك الأغاني؟! إلى متى يا أمة الله تشاهدين تلك الأفلام والمسلسلات؟! إلى متى وهذه الصور الخليعات؟! إلى متى هذه الأماكن التي فيها الأغاني والاختلاط والسفور والتبرج والمنكرات؟! إلى متى هذه الأعراس التي فيها المنكرات؟! إلى متى يا أمة الله؟! إلى متى لا تستيقظين لصلاة الفجر إلا بعد طلوع الشمس؟! قال تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان:70].

الربا ومحقه للحياة الزوجية

الربا ومحقه للحياة الزوجية اسمعن لهذا الموقف، وأطلب منكن أن تتخَيَّلْنَهُ، زوجة معها زوجها وابنتها الصغيرة التي تبلغ من العمر خمس سنوات تقول: كنا معاً في أطيب حال، وأهنأ بال، كنا زوجين سعيدين متعاونين على طاعة الله، تقول: عندنا القناعة والرضا، طفلتنا مصباح الدار، ضحكاتها تفتق الأزهار، إنها ريحانة تهتز، فإذا جن علينا الليل ونامت الصغيرة، قمت معه نسبح الله، يؤمني ويرتل القرآن ترتيلاً، وتصلي معنا الدموع في سكينة وخشوع، كأني أسمعها وهي تفيض قائلة: أنا إيمان فلان وفلانة، وذات يوم أردنا أن تكثر الفلوس التي معنا، اقترحت على زوجي أن نشتري أسهماً ربوية، لتكثر منها الأموال وندخرها للعيال، ووضعنا فيها كل ما نملك، حتى حلي الشبكة، ثم انخفضت أسهم السوق وأحسسنا بالهلكة، فشربنا من الهموم كأساً، وكثرت علينا الديون والتبعات، فعلمنا أن الله يمحق الربا ويربي الصدقات، وفي ليلة حزينة خلت فيها الخزينة، تشاجرت مع زوجي، فطلبت منه الطلاق، فصاح: أنتِ طالق، أنتِ طالق، تقول: فبكيت، وبكت الصغيرة، وعبر الدموع الجارية، تذكرت جيداً يوم أن جمعتنا الطاعة وفرقتنا المعصية: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7]. ما أحلاها -يا أمة الله- أن تقومي الليل مع زوجك! ما أجملها -يا أمة الله- أن يضج البيت فجراً بالأصوات! هذا يقوم، وهذا يسبح، وهذا يبكي، وهذا يسجد، وهذا يركع! ما أجملها -يا أمة الله- أن تجتمعي مع الزوج على قراءة القرآن! وعلى ذكر الله جلَّ وعلا، ما أجملها يا أمة الله! انظرن إلى النساء في هذه الأزمنة، تقول لزوجها: انظر إلى فلان كيف أثث بيته، انظر إلى فلان ماذا اشترى لزوجته، انظر إلى فلان أين يسافر مع زوجته، يذهب بها إلى بلدة كذا، ودولة كذا، يسافرون كل سنة مرتين، لم لا تذهب بي إلى هذا المكان؟ إلى المسارح، إلى السينمات، إلى الملاهي، ماذا تريدين يا أمة الله؟! {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} [النساء:77]. تريدين الدنيا يا أمة الله! أم تريدين أن تجلسي مع زوجك على البساط، وعلى فراش واحد، تتقاسمين معه اللقمة، ثم تحفظينه في غيبته، ثم يأتيك وقد جاء بلقمة العيش، تجلسين معه لا ينظر إلى غيرك، ولا يعرف سواك، وأنت لا تعرفين إلا ذكر الله وطاعته، تجلسين معه على ذكر الله، وتنامين معه على طاعة الله، وتستيقظين معه على ذكر الله، يا أمة الله! اختاري لنفسك ما تشائين.

قصص أخرى فيها عظة وعبرة

قصص أخرى فيها عظة وعبرة لمحات سريعة في هذا العصر، كم في هذا العصر من نساء صالحات، قانتات تائبات، عابدات، مصليات صائمات، سمعنا بنساء قد حفظن القرآن كله، وبنساء قد قرأن الصحاح من الكتب، وبنساء طالبات للعلم، وأخريات داعيات لله عزَّ وجل، وسمعنا بنساء قد أصلح الله بهن بيوتاً كاملة. هذه امرأة، قد تزوجت رجلاً فكان عقيماً، صبرت معه، لم تطلب منه الطلاق حتى كبر في السن، وعجزت وشاب زوجها، فعمي بصره -تعرفن ماذا تفعل في هذا العصر؟ - هذه المرأة كانت تقوم كل ليلة مع زوجها، فإذا اقترب الفجر، تأخذ بيد زوجها وتسوقه إلى المسجد. أمة الله: في هذا العصر امرأة أخرى يجرى لها عملية في عينها ثم تبكي، فيقال لها: لمَ تبكين وقد نجحت العملية؟ قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون! إنا لله وإنا إليه راجعون! بعد هذه السنين الطويلة يكشف وجهي رجل غريب، إنا لله وإنا إليه راجعون! من النساء في هذه الأزمنة، لأجل جرح في إصبعها تكشف وجهها، ولأجل مرض لا يحتاج إلى كشف تكشف ما تشاء، وتتساهل في هذا. أفغانية تجلس في كوخ مع زوجها وأولادها، يذهب إلى الجهاد شهراً طويلة، ثم يرجع أياماً يعطيهم قوت أشهرهم، ثم يرجع إلى الجهاد، وفي يوم من الأيام عندما رجع قالت له: أطلت المقام، لمَ لا تذهب إلى الجهاد؟ قال: لقد طال الجهاد، لقد سئمت الجهاد، لقد طال الأمر عليّ، سوف أجلس، فقالت له زوجته الصالحة: إذاً أعطني السلاح، وأعطني ملابسك، وخذ ملابسي، وسوف أذهب مكانك إلى الجهاد، واجلس أنت مكاني في البيت، لا مكان للرجال في هذه البيوت، اذهب إلى الجهاد في سبيل الله ولا تجلس مثل النساء في هذه البيوت. إن حلقات القرآن للنساء قد امتلأت، وإن الدروس قد اكتظت بالنساء، وإن المصليات لتشتكي من ازدحام النساء، فالله أكبر أيتها النساء! إنه دينكن، إنه دوركن، إنه يومكن يا أيتها النساء، لما تكتب هذه الداعرة العاهرة العلمانية تستهزئ بالحجاب، أين قلمك؟ لِمَ تتكلم هذه في المجالس، أين لسانك؟ لم تدعو هذه إلى السفور وإلى التبرج، وإلى الفسق والفجور، أين دورك يا أمة الله؟ لمَ لا تدعين النساء إلى حلقات الذكر وقراءة القرآن؟ لم لا تعطيهن الشريط والكتيب الإسلامي، وتدعينهن إلى الله عزَّ وجل. نعم يا أمة الله! إن هذه قصص لعل فيها بعض العبر، والله عزَّ وجلَّ جعل القصص للعبرة، والسعيد من اتعظ بغيره. أقول قولي هذا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

رسالة إلى مدمن

رسالة إلى مدمن هذه رسالة موجهة إلى كل مدمن وقع في حبائل المخدرات، إلى شباب الأمة الذين كثر فيهم الإدمان وأصبح ظاهرة تطغى عليهم. وفي هذه الرسالة بيان لهذه الظاهرة وعاقبتها وقصص وأخبار المدمنين.

ظاهرة الإدمان

ظاهرة الإدمان الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وخاتم النبيين وعلى آله وصحبه. أما بعد: أيها الإخوة الكرام: هذه رسالة موجهة إلى مدمن، ولعلكم تجدون في الحديث أسلوباً غير مباشر للحاضرين، لكن لعل السامع منكم أن يستفيد من كلماتي. أيها الأخ الكريم: أوجه إليك هذه الكلمات يا من وقعت في حبائل المخدرات يا من بدأت تتعاطى؛ بل أصبحت مدمناً، أوجه إليك هذا الحديث، فارع لي سمعك، وتوقف معي دقائق، واستمع لي ولن تخسر شيئاً إن لم تستفد أمراً من كلامي. لو سألت أكثر المدمنين في هذا الزمن، وأكثر المتعاطين للمخدرات: لِمَ تتعاطون المخدرات؟ ولِمَ أدمنتم عليها؟ ولِمَ وقعتم في حبالها؟ لأجابك أكثرهم: أبحث عن السعادة، أبحث عن الراحة، أريد الطمأنينة. فلو سألته: هل وجدتها؟ أظن وأجزم بأن أكثر من تعمق في المخدرات وأدمن عليها سوف يجبك بهذه الإجابة ويقول: كلا، كلا والله لا زلت أبحث عنها. عمَّ تبحث؟ أبحث عن هذه السعادة الموهومة. جلست يوماًَ من الأيام أنصح شاباً سلم نفسه بجريمة قَتْل -قَتْل عمداً- قَتَل رجلاً ثم سلم نفسه، فلما جلستُ معه وأخذت أحدثه عن التوبة، وأخوفه بالله جل وعلا فيما فعل، قال لي: يا شيخ! ماذا تقول؟ أنا سبع سنوات مدمن للمخدرات، قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون! سبع سنوات وأنت مدمن للمخدرات؟ وانظر للنهاية قال: نعم يا شيخ! سبع سنوات وأنا مدمن لهذه المخدرات، قلت له: ماذا كنت تحس؟ قال: يا شيخ! وأنا أدمن وأتعاطى المخدرات أحس كأنني أطير في الهواء، قلت له: ثم ماذا؟ قال: ثم عذاب وألم وحسرة، يقول: وهكذا سبع سنوات لم تنته إلا بالقتل، وسلم نفسه ينتظر القصاص، أتعرف لماذا؟ لأن الله جل وعلا يقول: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً} [طه:124] نعم يعيش، يأكل ويشرب ويلبس، ينام ويستيقظ، يمشي ويتحرك، يعيش، لكن انظر إلى عيشته: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124] * {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى} [طه:125] السماء تفطرت، والأرض تزلزلت، والجبال نسفت، والبحار احترقت وسجرت، والقبور بعثرت، والوحوش حشرت، والولدان قد صارت رءوسهم شيباً، ويمشي هذا الرجل المسكين على صراط أدق من الشعر وأحد من السيف، وجهنم تلهب تحته، يقول: ربِّ إني أعمى، ويجوز الصراط وهو أعمى: {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً} [طه:125] يعني في الدنيا، انظر للسبب: {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا} [طه:126] أتذكر ذلك المجلس الذي سمعتَ فيه بعض الآيات؟ أتذكر ذلك الشريط الذي أهدي إليك فاستمعت إليه لكنك نسيت: {كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:126].

عاقبة مدمن الخمر

عاقبة مدمن الخمر أخي الكريم: تذكر وأنت تقدم على تعاطي تلك المخدرات، وتقدم على استقائها وعلى تجرعها تذكر يا أخي العزيز أنت تتعرض لغضب الرب جل وعلا، واعلم أنك لو مت وأنت على هذه الحال ما دخلت الجنة: (ثلاثة حرم الله عليهم الجنة منهم: مدمن الخمر) الخمر الذي يذهب العقل، ويتفرع عليه المخدر هذا الزمن. تذكر يا أخي العزيز! وأنت تتجرع هذه المخدرات أن المصير في النهاية والخاتمة أنك تتجرع من ماءٍ صديد، قال تعالى: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ} [إبراهيم:15 - 16] نهاية المخدرات والإدمان عذاب في الدنيا، ثم حسرة، ثم موت، ثم جهنم، قال تعالى: {مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ} [إبراهيم:16] قيح وصديد، تتشقق الجلود فتخرج قيحاً يتسابق أهل النار إليه ليأكلوه وليشربوه، قال تعالى: {يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم:17]. بل جاء في الحديث الصحيح: (أن شارب الخمر يُسقى من ردغة الخبال) عصارة أهل النار، يخرج بعضها من الجلود، ويخرج بعضها من الفروج، ويخرج بعضها من الأفواه، عصارة أهل النار يتسابق إليها شربة الخمر والمسكر والمخدر ليأكلوها وليشربوها، تذكر إن كنت من المتعاطين هذا المصير، قال تعالى: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ} [الدخان:43 - 44] {كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ} [الدخان:45] لما يأكلون منه تغلي البطون. أرأيت القدر كيف يغلي بالماء؟ هكذا البطن يغلي ويفور من ذلك الطعام، قطرة من الزقوم لو سقطت على الدنيا لأفسدت الدنيا بما فيها، كيف بمن تكون طعامه؟! تذكر وأنت تقدم على هذه المعصية وذلك الإثم هذا المصير، قال تعالى: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ * خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ} [الدخان:43 - 47] يدفع دفعاً، الملائكة تدفعه إلى قعر جهنم: {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الدخان:47] إلى قعر جهنم، {ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ} [الدخان:48] صبوا على رأسه عذاب الحميم، إذا صُبَّ على الرأس يدخل إلى المعدة ويقطع الأمعاء، إنا لله وإنا إليه راجعون! هل تعدل تلك الجلسات، وهذه الهلوسة، وتلك السهرات، وهذه الحبوب، ذلك العذاب؟!

قصص وأخبار عن المدمنين

قصص وأخبار عن المدمنين أخي الكريم: مدمن الخمر والمخدرات حاله في الدنيا عذاب وألم، وأظن أنك تستمع إلي الآن وتقول لي: يا شيخ! من قال لك؟ نحن نفرح ونتمتع، نحن نسعد ونلهو، نحن نطير في الهواء، أقول لك: كذبت ولم تصدق نفسك؛ فإن السعادة موهومة، أذكرك بتلك اللحظات التي تتقلب فيها على الفراش، أذكرك بوقت تكون فيه أنت لوحدك في غرفة مظلمة، تحس أن الدنيا قد ضاقت عليك بما رحبت، أذكرك لما نقصت عليك المادة ولم تحصل على بعض الحبوب كيف تألمت وكيف تتعذب، أذكرك يا أخي! وأنت تحاسب نفسك وتعاتبها ماذا تفعلين إذا قدمتِ على الجبار.

قصة شاب أدمن المخدرات وصار يروجها

قصة شاب أدمن المخدرات وصار يروجها صليت المغرب يوماً فجاءني شاب قال لي: يا شيخ! أريد الحديث معك، قلت له: تفضل. قال: لا. عندي شخص آخر يريد أن يجلس معك، قلت: الآن؟ قال: لا بعد أن يخرج الناس، خرج الناس وبعد صلاة المغرب جلست معه في زاوية المسجد، جلست معه فإذا بالثاني يخرج لي هوية من جيبه نظرتُ إليها، قال لي: يا شيخ انظر إلى الصورة، نظرت إلى الصورة وأنا في المسجد، الصورة فيها وجه حسن، وجه جميل مضيء، والذي أمامي وجه مخيف مفزع، قبيح مظلم، قال لي: يا شيخ أنظرت إلى الصورة؟ قلت: نعم. قال: هذا أنا، قلت: مستحيل. قال: والله وأنا في بيت الله هذه الصورة صورتي. قلت: يا أخي لا يوجد وجه للشبه أبداً، وما أحببتُ أن أخبرَه أن الصورة أجمل وأحسن بكثير من الوجه الذي أمامي، نور في الصورة وظلام أمامي، قلت له: حدثني عن خبرك. قال لي: يا شيخ! كان لي رفقة عند بيتي، جئتهم يوماً من الأيام، أشرب معهم الشاي كالعادة، يقول: لكن الشاي لم يكن كالعادة، أحسست عند شربي للشاي بلذة، فجئتهم في اليوم الثاني أرجو أن أشرب نفس الشاي، وشربت منه في اليوم الثاني فأحسست بلذة أكبر، يقول: وكأن نفسي أصبحت خفيفة، وفي اليوم الثالث والرابع حتى أدمنت على شرب هذا الشاي، وأنا لا أدري ما الذي به. وفي يوم من الأيام قدمتُ إليهم أسألهم عن هذا الشاي، قالوا لي: يا فلان! أتعرف ماذا بهذا الشاي؟ قلت: لا. قالوا: به حبوب. قلت: وما حبوب؟ قالوا: حبوب مخدرات. قلت: الآن أنا لا أستطيع أن أتخلص منه؟!! ما الحل؟ قالوا: نعطيك منها، لا تخف فالحبوب متوفرة، قلت: أعطوني، قالوا: بالثمن -فأوقعوه الآن في حبالهم- قال لهم: ليس عندي أموال، قالوا: هذا ثمنها ابحث عن الأموال. قلت له: من أين كنت تأتي بالمال؟ قال لي: يا شيخ! كنت أطلب من الوالدة والوالد وكانوا يعطوني في بادئ الأمر، ثم بدأت أسرق منهما، ثم بدأت أسرق من غيرهما، وأستدين وأسرق، قلت: إلى أي درجة؟ قال: قالوا لي يوماً من الأيام: إن أثقلتك الأموال فهناك طريقة أخرى. قلت: وما هي هذه الطريقة؟ قالوا لي: تروج لنا المخدرات، أنت تروج ونحن نعطيك. قال: كيف؟ قال: علموني الطريقة، يقول: بدأت أروج المخدرات وأنا لا أشعر، دخلت في وحل الترويج، قلت له: لم لا تتوب؟ قال: يا شيخ! جربت التوبة جربت أن أتوب، قلت: وما الذي منعك؟ قال: السلاح. قلت: ماذا تقصد؟ قال: يهددوني بالقتل إن لم أستمر في هذا الترويج يقتلونني بالسلاح.

حال الرفقة السيئة في النار

حال الرفقة السيئة في النار هذا الرجل إن استمر على حاله يُبعث عند الله جل وعلا، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً} [الفرقان:27 - 28] يا ليتني ما عرفتهم! يا ليتني ما جلست معهم! يا ليتني ما صاحبتهم! يا ليتني ما سلمت على فلان يوماً من الأيام! لكن ولات ساعة مندم! {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً} [الفرقان:28] يسميه عند الرب جل وعلا يقول: {لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً} [الفرقان:28] {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً} [الفرقان:29]. إذا دخل هذا الشاب وأمثاله إلى جهنم أتعرف ماذا يطلب من ربه؟ يقول يا رب لي طلب. ما طلبه؟ {رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ} [فصلت:29] أي: يا رب أريد أن أرى ذلك الرجل الذي أعطاني الحبة أول مرة، وسقاني ذلك الكأس، وعلمني طريق المخدر، يا رب أريد أن أراه، في المحشر، إما في المحشر أو في جهنم يتمنى أن يراه. أنظن أن يتمنى رؤيته ليصافحه؟ ليصادقه؟ ليعانقه بعد فراق طويل؟ لا. اسمع لما يطلب رؤيته يوم القيامة: {رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا} [فصلت:29] أطأ عليهما برجلي، لمه؟ {لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ} [فصلت:29]. ولكن كل هذا لا ينفع، طالما جاءك الصالحون، وأعطوك الشريط، وأهدوك تلك الكلمات، ونصحوك تلك النصائح، ولكنك عصيتَ واستكبرتَ وأبيت إلا أن تستمر مع هؤلاء: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف:38] إلى أين؟ إلى جهنم كلما دخل رجل لعن صاحبه: {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا} [الأعراف:38] يقول في جهنم: يا رب هؤلاء الذين دلوني على تلك المجالس، وهذه الأماكن، وتلك المستنقعات يا رب هؤلاء الذين أعطوني هذه الحبوب، وعرفوني ذلك الطريق يا رب: {فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ} [الأعراف:38] يا رب ضاعف لهم العذاب في النار، فيقول الرب: {قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:38] أتظن أخي الكريم أن القضية تنتهي عند حبة وتقف، لا. القضية أكبر وأدهى وأمر، الحبة هي الخطوة الأولى، وهي بداية الطريق إلى الإدمان، وإلا فالطريق مظلم وموحش.

قصة شاب مات من الإدمان حتى انفجر مخه

قصة شاب مات من الإدمان حتى انفجر مخه رأيتُ صورة من الصور عرضها أحد المشايخ الفضلاء لشاب مات أثناء إدمانه، ولعلك وأنت تسمعني تعرف هذه الحقيقة التي يحتاج إليها الإنسان كل يوم، يحتاج أن يزيد ويزيد حتى يصل إلى حد يقتُل الإنسان، وكم نسمع في الأخبار أن شاباً وُجِدت جثته في مزبلة، وآخر في محرقة، وثالث رمي في المسجد، ورابع عند المستشفى، وخامس قبل شهر مقتول ومرمي في الصحراء، وسادس وسابع، وإحصائيات القتلى تزداد يوماً بعد يوم، لا تقل: لا. أنا أضمن نفسي. لا تقل: لا. أنا سوف أتوب قبل الموت، وما يدريك! يذهب عقلك ثم تسقط على الأرض وتفارق الدنيا. أحدثكم عن الصورة التي رأيتُ، أتعرفون كيف مات هذا الشاب؟ هذا الشاب أيها الأخ العزيز! وهو يتعاطى المخدرات، وزاد في جرعة الإدمان والتعاطي سقط على الأرض وأحس بألم، وتأثَّر حتى انفجر مُخُّهُ وبدأ يسيل مخه من أنفه، ورأيته بالصورة، انظر كيف تعذب في الدنيا قبل الآخرة، إن رأيتَ المنظر لا تتحمل، إن رأيت شكله لعلك لا تطيق طعاماً بعده، أتعرف لماذا؟ {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:124].

قصة شاب مات في غرفته من المخدرات

قصة شاب مات في غرفته من المخدرات وآخر رأيتُ صورته جالس في شقته في غرفته، وكان يتعاطى المخدرات حاله حال المتعاطين المدمنين، ولكنه زاد في الجرعة شيئاً ما، يريد أن يتلذذ وأن يشعر بتلك السعادة، فإذا به يتعاطى جرعة زائدة، فإذا به يموت في غرفته، ما شعر به أحد، ما صلى عليه أحد، ما دفنه أحد، ظل أياماً في غرفته ميتاً، أنتنت الجيفة، أتعرف كيف عرفوا قصته ودروا بخبره؟ وجدوا رائحة منتنة تخرج من الغرفة، والذباب قد تجمع على الباب، كسروا الباب، فإذا بهذه الجثة التي ظلت أياماً، النمل يأكلها من كل جانب، رأيت المنظر بعيني أيها الإخوة، منظر ما أقبحه، بهيئة الساجد على أدوات المخدر، والنمل يأكله من كل جانب، أعوذ بالله من تلك الميتة. أرأيت إلى خاتمتهم! هل هذا عاش بسعادة كان يرجوها؟! أين السعادة؟! أين النعيم؟! يا مسكين يا من تبكي الليالي والأيام اجلس مع بعض الصالحين، حدث بعض الأخيار الذين يبكون في الصلاة، ويقرءون القرآن، ويذهبون للعمرة قل لهم: هل وجدتم تلك السعادة التي أبحث عنها؟! أتعرف ماذا يقولون لك؟ يقولون لك: لو كان أهل الجنة في مثل ما نحن فيه إنهم والله لفي عيش طيب، {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] تقول أنا ضامن نفسي إن شاء الله لن أموت وأنا أتعاطى المخدر، اسمع لإحصائية وزارة الداخلية: أكثر من ألف وتسعين شخصاً ماتوا بسبب المخدرات في الكويت، فما الذي يضمن أنك لا تكون أحد الأرقام القادمة؟

تعاطي المخدرات يفقد العقل والصواب

تعاطي المخدرات يفقد العقل والصواب أخي الكريم: إن كثيراً من المتعاطين يفقد عقله فيفعل ما لا يفعله أي عاقل، بل لو كان يدري عن نفسه لقتل نفسه قبل أن يفعل هذه الفعلة، وكم سمعنا مِن أخبار متعاطيي المخدرات مَن أتى محارمه.

قصة شاب أدمن المخدرات فتعرض لأمه يريد هتك عرضها

قصة شاب أدمن المخدرات فتعرض لأمه يريد هتك عرضها واسمع يا رعاك الله، واسمع فتح الله قلبك للإيمان، اسمع إلى قصة هذا المدمن الذي كان شاباً صغيراً لم يعرف شيئاً عن الإدمان يوماً من الأيام. توفي أبوه فرعته أمه، وكانت تعطيه بعض المال ليبحث عن حرفة له ليشتغل بها، كانت تبحث له عن السعادة، هذا الشاب تعرف على رفقة سيئة، بدأ يدمن معهم التدخين ثم المخدرات؛ وقع في ذلك الوحل وأمه لا تدري، دخلت عليه يوماً من الأيام في الغرفة فإذا بها تجده في وضع غريب، يشرب دخاناً ليس كالدخان الذي تعرفه؛ عرفت الخبر ونصحته، وذكرته بالله وخوفته بيوم القيامة، وبالنار والقبر لكنه ما خاف من عذاب الله جل وعلا، جاءها يوماً من الأيام؛ طلب منها المال فأعطته المال، يوم ثانٍ قالت له: يا بني لا أعطيك المال وأنت على هذه الحال، تب إلى الله ثم أعطيك من المال، قال: تعطينني رغماً عنكِ، بدأ الآن، وأنتم تعرفون أن صاحب المخدرات المدمن إذا انقطع عن الإدمان لا يحس بنفسه، ويصبح كالوحش المفترس، جاءها يوماً من الأيام قال: أعطيني، قالت: لا أعطيك، ضربها وأخذ ذهبها وباعه واشترى به المخدر، بكت أمه عذاباً وحسرة وألماً. أيها المدمن: تذكر هذه الأم المسكينة التي خلَّفتها في البيت وهي تبكي عليك، تذكر كم كانت ترعاك! وكم كانت تسهر على رعايتك! كم كانت تفرح وتتمنى أن تكون مثل فلان الطبيب! وفلان المهندس! وفلان الداعية! وفلان المصلي! وذلك الراكع الساجد! كانت تسمع أخبار جاراتها: هذا ولد لها حفظ القرآن! وآخر ذهب إلى العمرة! وثالث يدعو إلى الله! ورابع صار طبيباً! والآخر صار مهندساً! وهذا يدرس الناس في المدارس! أما أنت تذكر واعلم أن أمك تبكي عليك دماً وأنت لا تدري. جاءها يوماً من الأيام وقد فقد عقله، دخل على أمه في الغرفة، قال لها: تعطيني أموالاً أريد أن أشتري، قالت له: لا أعطيك، أخذ يضربها، قالت له: ماذا تريد؟ أتعرف ماذا كان يريد في تلك الحال؟ وأُجِلُّ المسجد من هذه الحكاية ولكن لا بد من إخبارك بها، فَقَدَ صوابه، أراد أن يهتك عرض أمه، واسمحوا لي في رواية القصة، فإن المجتمعات مليئة بهذه القصص، حاول أن يعتدي على أمه، مزق ثيابها، هربت أمه من البيت وهي تبكي ولا تدري أين تسير، توجهت إلى بيت ابنتها المتزوجة دخلت وثيابها ممزقة، ماذا أقول لابنتي؟ ماذا أقول لزوجها؟ دخلت وهي تقول لهم: دخل علينا لص البيت وأراد أن يسرق الأموال، فهربت ولجأت إليكما، كذبتْ عليهما. وفي الصباح أخبرت ابنتها بالخبر الصحيح، ظلت أياماً في بيت ابنتها لم ترجع إلى البيت، بعد أيام قالت لابنتها: نرجع إلى البيت، رحمت ابنها، وعطفت على الولد، لأن الأم لا تنسى ولدها مهما كان، رجعت إلى البيت هي وابنتها، فإذا بالبيت قد بِيْع أثاثه وأجهزته كلها، باع الولد كل ما في البيت ليشتري بعض الحبوب، أرأيت نهاية التعاطي والإدمان؟ اسمع! لم تنتهِ القصة، هذه الأم دخلت وجلست تبكي على حال ابنها، وفي لحظة من اللحظات دخل الابن إلى الشقة فإذا به يجد أمه وأخته وابنة أخته الصغيرة، دخل على أمه يحاول أن يضربها على ما فعلت به، قال: أعطوني الآن من المال، قالت الأم: لا نعطيك شيئاً، قال: الآن أنا محتاج إلى المال أريد أن أشتري، قالت: والله لا نعطيك، فإذا به يحاول الاعتداء على أخته ويهدد أمه، إما أن تعطيني شيئاً من المال وإلا اعتديت عليها، بكت أمه، صاحت، استغاثت، استنجدت، وأخذ يضرب أخته حتى يواقعها، مزق ثيابها، والأم المسكينة لا تدري ماذا تفعل، ابنها أو ابنتها، أو العار أو الفضيحة، أخذت تتصارع الأم في قلبها، ماذا تفعل! والبنت الصغيرة تنظر إلى أمها وتبكي ماذا يفعل خالها؟ ماذا يفعل بأمها؟! فما كان من الأم إلا أن ذهبت إلى المطبخ وأخذت سكيناً وهي تصارع نفسها، والولد قد فقد وعيه لا يدري ماذا يفعل، فجاءت الأم إلى ابنها فلذة كبدها وطعنته عدة طعنات وأخته تنظر والبنت الصغيرة تنظر، ما الذي جرى بعد ثوان معدودة، والغرفة تسيل بالدماء، الرجل مات، أخته ممزقة الثياب، البنت الصغيرة تبكي، الأم منطرحة على الفراش، تبكي، مأساة وأي مأساة! أيها المدمن: انتبه! انتبه! فإنك تضيع نفسك وأهلك، وكثير منهم باع عرضه وأرغم زوجته على وحل الدعارة؛ لتقبض بعض الأموال فيأتي بالمخدرات.

التوبة إلى الله هي الحل والنجاة من الإدمان

التوبة إلى الله هي الحل والنجاة من الإدمان أيها الأخ الكريم: أتعرف ما النجاة؟ إنها في قول الله جل وعلا: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]. أيها الأخ العزيز: أقبل على الله جل وعلا، لا تقل لا أستطيع ولا أتحمل. في يومٍ من الأيام بعد محاضرة كانت لي جاءني شاب بعد المحاضرة حسن الوجه، مضيء الوجه، مطلق اللحية، مقصر الإزار عليه سِيما الصلاح، فقال لي: يا شيخ أريد أن تذهب معي إلى مكان. قلت له: وأي مكان؟ قال: مكان فيه أهل مخدرات قلت: ولِمَ؟ ولِمَ؟ ولِمَ أنت الذي ترسلني إلى هذا المكان؟ قال لي: يا شيخ أنا الذي أمامك كنت يوماً من الأيام مدمناً للمخدرات، يقول: كنت يومياً أتعاطى المخدرات ولا أستطيع الخلاص منها، قلت له: الآن؟ قال: والآن الحمد لله أدعو إلى الله جل وعلا، أقرأ القرآن، أحضر حلق العلم، أحضر مع الصالحين، أجلس معهم، أبر والدي، قلت له: الآن أنت سعيد أم الماضي؟ قال: يا شيخ! ما أحسست بالسعادة إلا هذه الأيام التي توجهت فيها إلى الله جل وعلا، قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] تريد الهداية؟ تريد التوبة؟ تريد صفحة جديدة بينك وبين الله؟ {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] قاطع تلك المجالس وفارق تلك الصحبة، أقبل على الصالحين واجلس معهم، قل لهم: إني أقبلت على الله جل وعلا فدلوني وخذوا بيدي، قم آخر الليل، وصلِّ ركعتين في السحر؛ فإن الرب ينزل ويقول: (هل من داعٍ فأستجيب له؟ هل من مستغفر فأغفر له؟) صلِّ ركعتين في السحر وأقبل على الله واسجد بين يديه، ثم لتدمع تلك العينان؛ لعل الله أن يغسل ذنوبك. يا نفس توبي فإن الموت قد حانا واعصي الهوى فالهوى ما زال فتانا أما ترين المنايا كيف تلقطنا لقطاً فتُلْحِق أخرانا بأولانا أما تذكر يوم رفعت سماعة الهاتف وقيل لك: أتعرف فلاناً؟ نعم فلان. الذي كان معنا في الدواوين والشوارع، وفي الدراسة، أتذكره جيداً؟ نعم أذكره جيداً، قبل أيام كنتُ معه. فيقول لك: مات في حادث سيارة، انقلب بها وفارق الدنيا، إنا لله وإنا إليه راجعون. أما ترين المنايا كيف تلقطنا لقطاً فتُلْحِق أخرانا بأولانا وفي كل يوم لنا ميْت نشيعه نرى بمصرعه آثار موتانا أقبل على الله جل وعلا، تعرَّف على الصالحين، افتح كتاب الله تبارك وتعالى لتكن همتك عالية. أما هذه الهمة، همة الحبوب والتعاطي والإدمان فأنت تعرفها، إنها همة ما أخسها! وما أقذرها! وما أنجسها! لتكن همتك أن تضحي بهذا الجسد الذي طالما تعاطى ذلك المخدر في سبيل الله جل وعلا، همتك همتك -يا أخي العزيز- ألا تموت إلا شهيداً في سبيل الله.

قصة عبد الله بن حذافة السهمي مع ملك الروم

قصة عبد الله بن حذافة السهمي مع ملك الروم اسمع إلى هذا الشاب الذي ابتلي في دينه، وانظر إلى همته، إنه عبد الله بن حذافة؛ كان أميراً لسرية؛ وأنا أقص عليك هذه القصة لترفع همتك أيها الشاب، ولتترك هذا المرض المظلم، ولتقبل على الله جل وعلا بهمة تناطح الجبال. هذا الشاب كان يقود سرية المسلمين، فقبض نصارى الروم على المسلمين وكان فيهم عبد الله قائدهم، وجاء ملك الروم إلى عبد الله بن حذافة وقال له: أتريد أن ترجع إلى أهلك؟ قال: نعم. قال: أشاطرك نصف ملكي بشرط واحد. قال: ما هو؟ قال: أن تتنصر وتغير دينك من الإسلام إلى النصرانية؛ فضحك عبد الله بن حذافة وقال: [والله لو أعطيتني الدنيا بما فيها على أن أترك هذا الدين طرفة عين ما تركته، قال الملك: ادخلوه السجن] ويدخلون عليه امرأة من أجمل النساء، وتجملت أمامه، وحاولت أن تفتنه، فإذا بها تخرج بعد زمن وتقول للملك: " لا أدري أأدخلوني على بشر أم حجر! لا أدري أأنا أنثى أم ذكر " تقول: لم يلتفت إليَّ طرفة عين، فغضب الملك. انظر إلى الصبر على الدين، انظر إلى لذة الطاعة، جيء بالقدور وأحميت، ووضع فيها الزيت وتحته النار تشتعل، والزيت يغلي، فجيء بـ عبد الله بن حذافة وبصاحب له من أصحابه فإذا به ينزل حياً في قدر، في الزيت الذي يغلي، فاحترق حتى طفحت عظامه وشوي جلده، ونظر عبد الله، وقال الملك: الآن دورك، بكى عبد الله، فقال له الملك: خفتَ الآن قال: [لا. والله ما خفت ولكن صاحبي هذا كان ينافسني دوماً في طاعة الله، أما الآن فقد سبقني إلى الجنة يا ليتني كنت مكانه، يا ليتني كنت مكانه، والله الذي لا إله غيره لو كان عندي أرواحاً بعدد شعرات جسمي لتمنيت أن تخرج كلها في سبيل الله] قال تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب:23]. أرأيت صاحب الهمة العالية يتقلب على الفراش، ويحلم أن هذه الرقبة تطير في سبيل الله. ستقول لي: يا شيخ! هذا في الأزمان الماضية، أما اليوم فمستحيل. أحدثك بقصة في هذا الزمن

قصة شاب أدمن وتاب ليكون من المجاهدين

قصة شاب أدمن وتاب ليكون من المجاهدين شاب مولع بالأغاني والطرب، والنساء والمخدرات والخمور، كل معصية في الدنيا ارتكبها لا تخطر على باله معصية إلا وقد فعلها، يقول الشاب عن نفسه: ضاقت علي الأرض بما رحبت، مللت الحياة. وتتعجب عندما تسمع أن أعلى نسبة انتحار في الدول المتقدمة، يشنق الواحد نفسه، يقطع شرايينه بالموس؛ لينزل الدم ثم يموت، يرمي نفسه من أعلى عمارة، يضع مسدساً على رأسه فيطلق طلقة يموت منها. ما السبب؟ يقول الشاب: ضاقت علي الأرض بما رحبت، قال الله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:124] يقول: خرجت من البيت وسافرت لا أدري أين أذهب، فخطر على بالي أن أذهب لأخي في بلد أخرى، دخلت وطرقت الباب على أخي -وكان أخوه صالحاً- قال أخوه: ما الذي جاء بك؟ قال: يا أخي مللتُ الدنيا، مللتُ الحياة، جئتك أمتع نفسي، قال أخوه: تفضل في البيت، يقول أخوه: نام تلك الليلة، وفي الفجر جاء رجل يوقظهم للصلاة، وعادته كل يوم كان أن يوقظ أهل البيت؛ يا أهل البيت صلاة الفجر صلاة الفجر، فقام الشاب فزعاً قال: ماذا تريد؟ قال: صلاة الفجر، قال: دعني، فأنا لا أصلي أصلاً، قال: أعوذ بالله، قال: اتركني أنا لا أصلي، قال: لِمَ لا تصلي ألست بمسلم؟! جرِّبِ الصلاة مرة، يقول: فذهب الرجل، وجلس هذا يفكر على الفراش ويردد في ذهنه: جرِّبِ الصلاة مرة يقول: فقام الشاب واغتسل من جنابة، ثم ذهب إلى المسجد، فإذا به يصلي، ثم يرجع إلى البيت يقول لأخيه: يا أخي وجدتها، قال: ماذا وجدت؟ قال: وجدت السعادة، قال: أين؟ قال: وجدتها في الصلاة، وجدتها في السجود، وجدتها في الركوع، قال تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:22]. قال الشاب: بعد أيام جلستُ عند أخي وسوف أرجع إلى أمي، قال له: ارجع، يقول: ذهب إلى أمه وطرق الباب، قالت أمه: ما الذي جاء بك مسرعاً هذه المرة، قال: يا أماه وجدت السعادة في الصلاة، وفي القرآن، وفي العبادة، فرحت أمه، وظل أياماً مع أمه ثم قال: يا أماه أريد السفر، قالت له: إلى أين يا بني؟ قال لها: يا أماه أريد أن أذهب إلى الجهاد في سبيل الله، قالت أمه: لِمَه؟ قال: يا أماه! جسدي طالما عصى الله جل وعلا، وأريد أن أضحي بهذا الجسد لله عز وجل، قالت أمه: ما منعتك وأنت تسافر للمعصية أفأمنعك وأنت تسافر للطاعة، اذهب يا بني، فذهب للجهاد، وتدرب، ثم دخل في المعركة، وفي ذات اليوم حمل السلاح وبجنبه صاحب له، حميت المعركة واشتدت، فأصيب صاحبه بشظية، فحمَله ليسعفه لكنه استشهد في ذلك الموقع، فحَفَرَ القبر لصاحبه، وأنزل صاحبه في القبر، لم يغسله، ولم يكفنه، وهكذا الشهيد؛ يبعث عند الله وجرحه يَثْعُبُ دماً في المحشر، اللون لون الدم والريح ريح المسك، أنزل صاحبه في القبر ولم يدفنه، قال: اللهم إني أسألك أن لا تغرب شمس هذا اليوم إلا وقد قبلتني شهيداً في سبيلك، فلما أنزل صاحبه اشتدت المعركة مرة ثانية، وأسرع إلى سلاحه وتقدم في المعركة يخوضها ويقبل بصدره في القتال، وبعد لحظات، إذا به يفارق الحياة الدنيا ويُدفن في القبر الذي حفره مع صاحبه، قال الله: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30].

رسالة إلى مدمن

رسالة إلى مدمن إني سائلك أن تفكر في هذه الكلمات، وأن تكثر التفكير فيها لا تنَمْ هذه الليلة إلا وأنت تفكر في كل كلمة قلتُها، إن الإدمان نهايته عذاب في الدنيا وخاتمة سوء، ثم عذاب في القبر، ثم وقوف بين يدي الجبار، ثم الزقوم والحميم. وتذكر أنك إذا تبت إلى الله جل وعلا فسعادة في الدنيا، ثم قصور في الجنة، نهر من لبن، نهر من عسل، نهر من خمر، تقول لي: لا أتحمل، أقول لك: اصبر لله جل وعلا حتى تسمع تلك الكلمات عند أبواب الجنان، تقول لك الملائكة: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:24] الصبر، الصبر يا أخي الكريم، فارق تلك الصحبة، أقبل على الله جل وعلا، اشغل فراغك بقراءة القرآن، بالدعوة إلى الله، بالعلم النافع، بصلة الأرحام، ببر الوالدين، اشغل وقتك بما ينفعك عند الله جل وعلا، واعلم أنك إذا تبت فإن النهاية: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً} [الإنسان:12] * {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً} [الإنسان:13]. وقبل أن أختم حديثي لي وإياك لقاء ليس على هذه الأرض، قد تكون على هذه الأرض؛ ولكن أنا على يقين بأننا سوف نلتقي يوم القيامة، إما أن نتخاصم عند الله جل وعلا، وإما أن نكون تحت ظل عرش الرحمن تبارك وتعالى، فاختر لنفسك أي الطريقين: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:3] سوف نلتقي يوم القيامة، فإن تخاصمنا فلعلك تقول: يا رب ما جاءني من نذير، فأقبل على الله جل وعلا، فأقول: بلى يا رب سمع حديثي من ذلك الجهاز وبهذا الشريط، سمع كلامي وتلوتُ عليه آياتك وأحاديث رسولك، وحذرته من ذلك المصير لكنه أبى، أو تأتيني يوم القيامة تحت ظل عرش الرحمن فتقول لي: يا شيخ أتذكر تلك المحاضرة فأقول لك: وأي محاضرة؟ تقول لي: يا شيخ أتذكر محاضرة (رسالة إلى مدمن) أقول لك: لعلي أذكرها، تقول لي: يا شيخ والله ما إن سمعتها إلا وبدأت صفحة جديدة مع الله، كانت البداية صعبة لكن الله عز وجل أعانني: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] يا شيخ! أقبلت على الله فإذا بالرب جل وعلا يُقبِل علي، أصبحت أقرأ القرآن، وحفظته في عدة شهور، صرت داعياً إلى الله تبارك وتعالى، تعرفت على الصالحين، غيرت هذه الحياة كلها، شعرت بالسعادة التي كنت أبحث عنها، ثم ختم الله لي خاتمة حسنة، وهاأنذا اليوم يغفر الله لي ما مضى. لعلنا نتعانق تحت ظل عرشه جل وعلا. أسأل الله تبارك وتعالى أن يجمعني وإياك تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله، إنه ولي ذلك والقادر عليه. هذا وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

رجال ومواقف

رجال ومواقف إن للرجال مواقف عظيمة، تظهر فيها قوتهم وشجاعتهم وصبرهم وثباتهم على دين الله، وعلى رأس هؤلاء الرجال: أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام. وحسبك من تابعيهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين خلد التاريخ ذكرهم. هذا ما تحدث عنه الشيخ، ذاكراً بعض النماذج لهؤلاء الرجال من الأنبياء والصحابة والتابعين.

الأنبياء عليهم السلام هم الرجال

الأنبياء عليهم السلام هم الرجال الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وخاتم النبيين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: أيها الإخوة الكرام: هذا الحديث بعنوان: (رجالٌ ومواقف) وعلى رأس الرجال أنبياء الله عز وجل ورسله.

إبراهيم عليه السلام

إبراهيم عليه السلام فهذا إبراهيم عليه السلام يجمع له الكفار الحطب؛ لإشعال النار لحرقه، لكنه هو الرجل، شهرٌ كامل يجمع الحطب لحرق نبي من أنبياء الله، بل هو خليل الرحمن أبو الأنبياء، ليلقى في النار فيحرق، فإذا به يربط بالمنجنيق، ما استطاعوا أن يقتربوا من النار لعظمها تخيل! ويمر الطير فوق النار فيسقط من شدة حرها! نار عظيمة تتأجج، فإذا بالمنجنيق يرمى، وإبراهيم عليه السلام في الهواء، فيأتيه جبريل في هذه اللحظات العصيبة، ويقول له: ألك حاجة؟ وفي هذه اللحظات يتعلق الإنسان بأي سبب ولو قشة أو شعرة، أما إبراهيم فقلبه معلق برب البشر، برب الأسباب جل وعلا فقال جبريل: أما إليك فلا، وأما إلى الله فنعم، حسبنا الله ونعم الوكيل. فيسقط إبراهيم في النار والناس ينتظرون حرقه، فإذا به يقوم في النار، فينفض الغبار عن جسده، ثم يقوم ويكبر ويصلي في النار، قال تعالى: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} [الأنبياء:69 - 70]. رجلٌ وأي رجل يدعو الله أن يرزقه الولد، ولك أن تتخيل رجلاً كبيراً في السن، وامرأته عاقر، ويرزقه الله عز وجل الولد على هذه الفترة، وفي هذه السن! كيف يتعلق قلب الأب بابنه بعد أن حرم من الولد سنوات، ورزق بالولد على كبر السن؟! تخيل لو كنت مكانه كيف تتعلق بهذا الولد؟ ثم لما كبر الولد شيئاً قليلاً، وبدأ يسعى مع أبيه، ويعينه في العمل، إذا بوحي الله عز وجل لإبراهيم أن اذبح هذا الولد: {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات:102] ورؤيا الأنبياء حق، فهي وحي من الله جل وعلا. والغريب ليس فقط في إبراهيم عليه السلام فهو نبي، وهو رجل كبير، وتربى على التوحيد منذ نعومة أظفاره، لكن الغريب من هذا الصبي الصغير الذي بدأ يسعى، ماذا يرد؟ وماذا يقول؟ أبوه يقول: أريد قتلك، أريد ذبحك، الله عز وجل أمرني بهذا، هل تستطيع هذا الأمر؟ بعض الناس لو أمره الله عز وجل بأمرٍ بسيط لرده بهواه وبعقله وبشهوته، ويقول: لا أستطيع، ولا يمكن أن أفعل هذا، ولا أقدر عليه، والله يأمر إبراهيم بذبح هذا الولد: {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:102] ماذا رد عليه؟ {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102] الله أكبر! هذا معنى الإسلام، هذا معنى الاستسلام لله، أما أن يقول الإنسان: أنا مسلم، ثم يرد أمر الله، ويتكبر على شرعه، فأي إسلامٍ هذا؟ الإسلام أن تستسلم لله: {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102] لم ينتهِ الاختبار بالأمر فقط، بل جاء إبراهيم بابنه على تلك الصخرة، وحد السكين ليذبحه على تلك الصخرة، وبكل استسلامٍ لله ورضىً بشرعه، يضع الابن وجهه وجبينه على تلك الصخرة، وينتظر من أبيه أن يذبحه {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات:103] ووضع على رقبته السكين، ولكن الاختبار قد انتهى، فإذا بإبراهيم ينجح، وإذا بابنه يفوز، وإذا بالنداء من السماء: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا} [الصافات:104 - 105] ففاز في هذا الاختبار. قد يقول بعض الناس: لِمَ يحرِّم الله هذا؟ ولِمَ يوجب الله علينا هذا؟ ولِمَ منعنا الله من هذا وأباح لنا هذا؟ لا تقل: لِمَ؟ {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] نفذ شرع الله جل وعلا، فإن تبينت لك الحكمة فبها ونعمت، وإن لم تتبين لك الحكمة فافعل واستسلم لله عز وجل.

نبينا محمد صلى الله عليه وسلم

نبينا محمد صلى الله عليه وسلم رجال ومواقف وعلى رأسهم نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، رجلٌ وأي رجل! يذهب إلى الطائف يدعو إلى الله جل وعلا، بعد أن عانده وعارضه كفار قريش، فذهب إلى الطائف ماشياً على قدميه، فلما وصل إلى الطائف دعاهم إلى الله فكذبوه، أتعرف ماذا صنعوا؟ لقد تبعوه بالحجارة مع الأطفال والصبيان والعبيد، يرجمونه ويضربونه بها، وهو أفضل من وطئت قدمه الثرى محمد عليه الصلاة والسلام، أفضل إنسانٍ خلقه الله جل وعلا: (سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر) سيد الأولين والآخرين يرمى بالحجارة! ومن خلفه؟ إنهم الأطفال والسفهاء والعبيد، حتى خرج عليه الصلاة والسلام، فإذا به يدعو ولكن هل سبهم؟ هل شتمهم؟ هل دعا عليهم بالويل والثبور؟ لا والله، أتعرف ماذا قال؟ اسمع وتدبر إلى دعائه رفع يديه وقال: (اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا إله المستضعفين إلى من تكلني؟ إلى قريبٍ يتجهمني؟ أم إلى بعيدٍ ملكته أمري؟ أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن يحل بي سخطك، أو ينزل بي غضبك، لك العتبى حتى ترضى) وجاءه الملك فقال له: (مرني يا محمد فلأطبق عليهم الأخشبين -أهل مكة ومن فيها- قال: لا. إني أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً) {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:127 - 128] صبر لكن بعزة، ورضي لكن بغير ذلة. في يوم من الأيام يطوف بالبيت عليه الصلاة والسلام، وحوله ثلاث مائة وستون صنماً! فلما طاف الشوط الأول رآه مشركو قريش وقد جلسوا؛ عتبة بن ربيعة وهشام بن أمية، وأمية بن خلف وغيرهم، جلسوا في النادي يستهزئون، فلما مر عليهم غمزوه، وتكلموا عليه، فلم يأبه لهم، فطاف، وفي الشوط الثاني غمزوه فلم يأبه لهم وطاف، فلما مر عليهم في الشوط الثالث غمزوه فاستقبلهم، لقد كان يصبر لكن بغير ذلة، وكان يتحمل بعض أقوالهم ولكن بعزة، فجاءهم عليه الصلاة والسلام وقال: (تسمعون معشر قريش -وكانوا يضحكون ويتمايلون من شدة الضحك- أما والذي نفس محمدٍ بيده لقد جئتكم بالذبح) يعني: سوف يأتي يوم فيه جهاد، فيه قتال، أما الآن فسلم ودعوة بالتي هي أحسن، ولكن: (أما والذي نفس محمدٍ بيده لقد جئتكم بالذبح) يقول الراوي: فكأنما على رءوسهم الطير، سكتوا وصمتوا، ثم قال أشدهم فيه وصاة -أكثرهم سخرية- قال: انصرف أبا القاسم راشداً فوالله ما كنت جهولاً. وفي موقف آخر، وهو يصلي عند الكعبة، يأتي أشقى القوم فيرمي على ظهره سلى الجزور؛ نجاسات وقذارات، فتأتي فاطمة سيدة النساء في الجنة رضي الله عنها وهي جارية، تركض إلى أبيها رسول الله فتزيل النجس والقذارة عن ظهره، فأتم صلاته ثم استقبل القوم وقال: (اللهم عليك بـ هشام، اللهم عليك بـ عتبة، اللهم عليك بفلان وفلان. يقول الراوي: لقد رأيتهم كلهم صرعى يوم بدر) {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ * بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر:45 - 46] نعم. توعدهم الله في مكة بالهزيمة، يوم كان المسلمون مستضعفين.

الصحابة ومواقف الرجولة

الصحابة ومواقف الرجولة رجال ومواقف من الصحابة رضوان الله عليهم.

أبو بكر الصديق رضي الله عنه

أبو بكر الصديق رضي الله عنه يستأذن أبو بكر يوماً من الأيام النبي صلى الله عليه وسلم في إعلان الإسلام، في الدعوة إلى الله، فما أذن له، لا زال الإسلام في بدايته، ثم استأذنه، ثم استأذنه، حتى أذن له النبي عليه الصلاة والسلام، فقام أبو بكر أول خطيبٍ في الإسلام، قام يخطب ويدعو إلى الشهادتين، وإلى توحيد الله، فلما رآه المشركون تآلبوا عليه، وأخذوا يضربونه، حتى جاء الفاسق عتبة، فأخذ نعله ونزعها وضرب بها وجه أبي بكر رضي الله عنه، حتى سقط على الأرض وكاد يموت، وكاد يقتل، وحملوه إلى بيته وظنوه قد صرع، وهو أبو بكر الذي قال الله فيه: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ} [الزمر:33] رسول الله {وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر:33] وهو أبو بكر {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر:33].

عمر بن الخطاب رضي الله عنه

عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهذا عمر بن الخطاب؛ هذا الرجل الذي كان ذو شدة وغلظة قبل الإسلام، ولما أسلم وتولى أمر المسلمين، وصار أميراً للمؤمنين تغير، وكان يمشي في الليل ينظر أحوال المسلمين وشئونهم في الليل، فإذا به يرى ناراً من بعيد، فقال لمولاه أسلم: تعال معي نستكشف النار، فإذا به يقرب من النار فيرى عند النار امرأة عجوزاً وعندها أطفال صغار يبكون، وعلى النار قدرٌ ليس فيه إلا الماء، فقال عمر بعد أن سلم: ما شأنكم يا أهل الضوء؟! قالت العجوز: هؤلاء أطفالي وليس في القدر شيء، وضعت النار تحتها أصبرهم حتى يناموا وهم جياع، ليس عندي شيء أطعمهم إياه، ثم قالت المرأة العجوز: والله لئن قدمت على الله لأخاصمن عمر ومن الذي أمامها؟ إنه عمر وهي لا تدري، فقال عمر بن الخطاب: وما يدري عنك عمر يا أمة الله؟! أي: ماذا يعلم عنك وأنت في الصحراء؟ فقالت المرأة العجوز: يتولى أمر المؤمنين ولا يدري عني لأخاصمنه عند الله. فذهب عمر وقال لمولاه أسلم: تعال معي، فذهب إلى بيت المال فدخل وأخذ كيساً من دقيق، فحمله على ظهره، فقال مولاه: يا أمير المؤمنين! أحمل عنك، فقال له عمر: أوتحمل عني وزري يوم القيامة؟ يقول أسلم: فذهب إليها، وأخذ يصنع طعامها بنفسه حتى صنع طعامهم، وترك الكيس الطحين عندهم، ثم ذهب من بعيد، فقلت له: يا أمير المؤمنين! نرجع قال: لا والله، أجلس حتى أراهم يشبعون كما جاعوا، فجلس ينظر إلى الأطفال وهم يأكلون، يقول: فنظرت إليه فإذا عيناه تدمعان، فإذا بـ عمر بن الخطاب يبكي لامرأة عجوز جاع أطفالها {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب:23].

علي بن أبي طالب

علي بن أبي طالب سمعتم بـ علي بن أبي طالب، الخليفة الراشد رضي الله عنه بعد أن تولى الإمارة صنعوا له قصراً يسكن فيه ليكون أمير المؤمنين، فلما نظر إليه قال: ما هذا؟ قالوا: قصرك يا أمير المؤمنين. فتولى وهو يقول لهم: قصر الخبال هذا، والله لا أسكنه، قصر الخبال هذا والله لا أسكنه، ورجع إلى بيته القديم. علي بن أبي طالب يجلس في مصلاه ويقبض بيده على لحيته وهو يبكي ويقول: يا دنيا طلقتك ثلاثاً، يا دنيا غري غيري فقد طلقتك ثلاثاً {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر:5]. ينزل يوماً من الأيام رضي الله عنه إلى السوق، يبيع سيفه بأربعة دراهم، يقول: والله لو كانت عندي أربعة دراهم أشتري بها إزاراً لما بعت سيفي، وهو أمير المؤمنين! حقاً إنه كما قال: يا دنيا طلقتك ثلاثاً، غري غيري لن تستطيعي عليَّ. من رباهم وعلمهم؟ إنه نبينا عليه الصلاة والسلام، علمهم الشجاعة، علمهم القوة، علمهم الزهد في الدنيا، وعلمهم حب المسلمين، وحب الخير لهم ونشره. ولا زلنا مع أولئك الرجال في الصدر الأول في زمن الخلافة الراشدة في غزوة الأحزاب ينادي علي رضي الله عنه أحد المشركين وهو عمرو بن عبد ود، هذا الرجل ينادي في الصحابة ويقول: ألا هل من مبارز؟ هل من مبارز؟ وهو فارسٌ من فرسان قريش، قوي شجاع بطل لا يقوى عليه كل العرب، شجعانها وفرسانها، فينادي هذا الفارس البطل المشرك ويقول: هل من مبارز؟ فقال علي وكان عند الرسول، قال: يا رسول الله! أنا أبارزه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا علي! إنه عمرو، دعك -أي اصبر- فنادى في الثانية وقال: هل من مبارز؟ فقال علي: يا رسول الله! أنا أبارزه. فقال النبي لـ علي: يا علي! إنه عمرو، فنادى في الثالثة وقال: ألا هل من مبارز؟ فقال علي: أنا له يا رسول الله. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: اذهب، وكان علي شاباً يافعاً، وعمرو بن عبد ود قد امتلأ بالسلاح والعتاد، ولكنها الشجاعة الإيمانية، إنها البطولة ولكنها تحت ظل رسول الله، ويخرج علي فيقول له عمرو بن عبد ود: من أنت؟ وهو لا يعرفه، فقال: أنا علي بن أبي طالب. قال عمرو بن عبد ود: يا بني! إن في أعمامك من هو أسن منك، فارجع فليأتِ من هو أكبر منك سناً، وأعلم منك بالحرب، فإني لا أريد قتلك، فقال له علي بن أبي طالب: أما أنا فوالله إني أريد قتلك. قال: ماذا؟ فاشتد الصراع، وثارت المعركة، وثار الغبار، فإذا بـ عمرو يشق درع علي بن أبي طالب نصفين، ويجرح علياً جرحاً، ثم يثور الغبار، ولا يعلم أحدٌ ما الذي حدث، وما الذي يجري في الغبار، فإذا بالصحابة في لحظة من اللحظات كلٌ منهم يكبر الله أكبر! الله أكبر! فاستبشر رسول الله، وعلم أن الذي انتصر هو علي بن أبي طالب، فإذا بالغبار يهدأ، وإذا بالمعركة تنتهي، وإذا بـ عمرو صريعاً في الأرض مضرجاً بالدماء، وعلي بن أبي طالب رافعاً سيفه يرجع إلى صفوف المسلمين، والصحابة يكبرون الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر! نعم، إنهم رجال وهي مواقف. وفي غزوة خيبر يخرج ذلك الذي يسمى مرحباً؛ يهودي لكنه شجاعٌ وبطل، فينادي في الصحابة ويقول: قد علمت خيبر أني مرحب شاكي السلاح بطلٌ مجربُ إذا الحروب أقبلت تلهب فقال علي: أنا الذي سمتني أمي حيدره أنا أسد، إذا كنت أنت مرحب فأنا أسد أنا الذي سمتني أمي حيدره كليث غاباتٍ كريه المنظره أكيلهم بالسيف كيل السندرة وتبدأ المعركة، فإذا بـ علي بن أبي طالب يقسمه نصفين. إنهم رجال وهي مواقف: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:23].

صهيب الرومي

صهيب الرومي هل سمعتم بـ أبي يحيى صهيب الرومي؟ هذا الصحابي الجليل الذي جمع في مكة مالاً عظيماً وصار ثرياً، ولما أذن له بالهجرة وأراد أن يهاجر ما تركه كفار قريش، وقالوا له: جمعت أموالنا وتريد أن تخرج بها، والله لا ندعك. فخرج، فتبعه ما يقارب الثلاثين أو الأربعين فارساً، فقال لهم وهم ينادونه من بعيد ويريدون قتله: والله لا تصلون إلي حتى أضع في كل رجلٍ منكم سهماً، وكانوا جمعاً كثيراً لكنه الشجاع البطل، ومعه قوة الإيمان، وشجاعة الإيمان. الكفار يحبون الحياة ويخافون من الموت، أما المؤمنون فهم ضدهم؛ يتمنون الموت ويريدونه، ولهذا فهم أشجع الناس قال: والله لا تصلون إلي حتى أضع في كل رجلٍ سهماً، ثم أصير بعد إلى السيف فتعلمون أني الرجل، ثم قال: فإن شئتم المال دللتكم على مالي واذهبوا إليه. قالوا: نعم. لا نريد غير مالك. لا يريدون إلا الدنيا وشهواتها، فإذا به يعطيهم كل ما جمعه في هذه السنين، لأجل شيءٍ واحد؛ أن يهاجر إلى رسول الله، وهاجر ولا يملك إلا ما يلبس، كل أمواله ضحى بها لأجل هذا الدين، لأجل هذه العقيدة، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يستقبله وهو قادمٌ إلى المدينة ويقول له: (ربح البيع أبا يحيى، ربح البيع أبا يحيى، ربح البيع أبا يحي) فأنزل الله عز وجل قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} [البقرة:207] يبيع نفسه {وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة:207].

بسر بن أرطأة وموقفه مع النصارى

بسر بن أرطأة وموقفه مع النصارى هل سمعتم برجل اسمه بسر بن أرطأة؟ إليكم خبره، وقد لا تصدقون، ولكن هي الحقيقة هذا الرجل كان قائداً على سرية، وكانت السرية في مؤخرة الجيش، وكانت تصاب بالسهام من الأعداء ولا يدري من أين تأتيهم السهام، كلما رجعوا ما وجدوا شيئاً، وتتقدم السرية وكل فترة تصاب بالسهام ولا يدري من أين تأتيهم، فإذا به يقول لأصحابه: تقدموا ودعوني، ويتخلف ويتخفى، ويبحث في الشعاب، وفي الوديان لوحده، فإذا به يرى بين الشعاب كنيسة، وعندها براذين -أي: بغال ضخمة- وخيول، فعلم أنها لفرسان فماذا صنع؟ تخفى، وجاء إلى الباب وفتحه ودخل وهم لا يدرون ولا يشعرون، وأغلق الباب وهو لوحده، وبدأ يصارعهم لوحده، ولم يصلوا إلى رماحهم وسهامهم حتى قتل منهم ثلاثة، فلما وصلوا نشبت بينه وبينهم معركة، وأصحابه كانوا على إثره، كانوا خلفه، علموا أنه سوف يحدث أمراً فلما علموا أنه دخل وأنه بدأ يقاتلهم دخلوا خلفه، فلما دخلوا وجدوه مثخناً بالجراح ولم يمت، وكانوا قد شقوا بطنه فوضع يده على الجرح فلم ينزف الدم كثيراً، فدخل أصحابه وقتلوا من قتلوا، وأسروا من أسروا، فلما أسروا من أسروا قال الأعداء للمسلمين: من هذا؟ قالوا: لم تسألون؟ قالوا: مثل هذا لم تلد النساء، مثل هذا لم تلد النساء، مثل هذا لم تلد النساء!! إنه بشر بن أرطأة {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:146].

رجال ومواقف مع عبادة الله وخشيته

رجال ومواقف مع عبادة الله وخشيته إنهم رجال وعباد.

تميم بن أوس الداري

تميم بن أوس الداري فهذا تميم الداري يصلي ليلة كاملة بآية واحدة، يرددها ويبكي، وهي آية: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21]. إنهم رجال، تجدهم آخر الليل: عباد ليلٍ إذا جن الظلام بهم كم عابدٍ دمعه في الخد أجراه وأسد غابٍ إذا نادى الجهاد بهم هبوا إلى الموت يستجدون رؤياهُ

سفيان الثوري وخشية الله

سفيان الثوري وخشية الله كان سفيان الثوري كثير البكاء وقد قال صلى الله عليه وسلم: (عينان لا تمسهما النار: عينٌ بكت من خشية الله) فمتى آخر ليلة بكيت فيها من خشية الله، وأنت قائمٌ تصلي، أو تقرأ القرآن، أو رافعٌ يديك تدعو الله، سل نفسك هذا السؤال، سفيان كان كثير البكاء، وكان يقول لما سئل: لم تبكي؟ قال: أخاف أن أكون في أم الكتاب شقياً، أخاف أن الله يكون قد كتبني من أهل النار. وهو القائم الصائم، العابد الزاهد، العالم الورع، ويقول: أخاف أن أكون في أم الكتاب شقياً، أن يكون الله قد كتبني من أهل النار.

عتبة الغلام

عتبة الغلام هل سمعت بشابٍ يُقال له: عتبة الغلام؟ هذا الرجل له قصص أغرب من الخيال، هذا الشاب كان يقوم الليل، وكان كثير البكاء، بات ليلة من الليالي عند عنبة الخواف، يقول: فسمعته يبكي طوال الليل، وهو يقول: اللهم إن تعذبني فإني لك محب، وإن تغفر لي فإني لك محب. ويسأل الله المغفرة، يقول: فلما جئته في الصباح قلت له: يا عتبة! لم هذا البكاء؟ لم هذا القيام الطويل والبكاء الشديد؟! فقال له: يا عنبة! ذكرت يوم العرض على الله. ثم سقط، فحمله عنبة وقال له: يا عتبة! قم ما الذي جرى؟ يا عتبة! قم ما الذي جرى؟ ثم أفاق فقال له: يا عنبة، قطع ذكر يوم العرض على الله أوصال المحبين، ثم بكى وقال وهو يخاطب ربه: أراك مولاي تعذب محبيك وأنت الحيي الكريم، يقول عنبة: ثم بكى وأخذت أبكي معه {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة:16].

سفيان الثوري مع الفضيل بن عياض

سفيان الثوري مع الفضيل بن عياض نختم بهذا الموقف إنه لـ سفيان الثوري مرة أخرى، يتقابل مع عابد الحرمين الفضيل بن عياض رحمهم الله جميعاً، عابدٌ مع عابد التقيا، فإذا بهما يتذاكران الله جل وعلا، فبكى هذا وبكى هذا فيقول سفيان من تأثره: إني لأرجو أن يكون مجلسنا هذا أعظم مجلسٍ جلسناه. أي: أرجو أن يكون عند الله من أعظم المجالس في الدنيا بركة، فقال له: الفضيل بن عياض: ترجو هذا؟ أما أنا فأخاف أن يكون هذا أعظم مجلسٍ جلسناه علينا شؤماً عند الله، فقال سفيان: ولم ذاك يا فضيل؟! لم تخاف من هذا المجلس الذي ذكرنا الله فيه فبكينا؟! فقال له الفضيل: ألست يا سفيان نظرت إلى أحسن ما عندك فتزينت به لي، وتزينت لك به فعبدتني وعبدتك؟ أي: كل واحد أخذ يرائي الثاني، انظر لاتهامهم لأنفسهم! فأخذ سفيان يبكي حتى علا نحيبه، ثم قال: أحييتني أحياك الله، أحييتني أحياك الله. قال بعضهم: أيا من ليس لي منه مجيرُ بعفوك من عذابك أستجيرُ أنا العبد المقر بكل ذنبٍ وأنت السيد الصمد الغفورُ فإن عذبتني فبسوء فعلي وإن تغفر فأنت به جديرُ أفر إليك منك وأين إلا يفر إليك منك المستجيرُ وأحسن من هذا قول الله جل وعلا: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]. لنرجع إلى الله جل وعلا، ولنجعل أولئك الرجال؛ الأنبياء والرسل، والصديقين والشهداء والصالحين، وأولئك الأسلاف، لنجعلهم قدوتنا، ولنتأسَّ بهم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90]. نسأل الله تبارك وتعالى أن يحشرنا وإياهم في جنة الفردوس، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

سلامة الصدور

سلامة الصدور أيها الإخوة: هذا اليوم يوم الأحد وغداً يوم الإثنين، سوف تُرفع الأعمال إلى الله، فيغفر الله عز وجل لكل عبدٍ لا يشرك بالله، إلا رجلين بينهما شحناء، رجل بينه وبين أخيه شحناء، وخصومة، وبغض لأجل دنيا، قال: إلا رجلين بينهما شحناء، فيقول الرب جل وعلا لملائكته: (أنظرا -أي: أخِّرا- هذين حتى يصطلحا) لا يغفر لهم الذنب حتى يصطلحا يدخل على الصحابة رجل، فيقول لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (يدخل عليكم رجل من أهل الجنة فإذا برجلٍ يدخل وعلى لحيته آثار الوضوء، ونعلاه تحت إبطيه، وهو رجل عادي حاله حال الصحابة، وفي اليوم الثاني قال: يدخل عليكم رجلٌ من أهل الجنة، فدخل نفس الرجل، وفي اليوم الثالث نفس الرجل، فبات أحد الصحابة عنده، وسأله بعد أيام وقال له: يا فلان! إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال فيك كذا وكذا، وما رأيتك كثير صلاة ولا صيام ولا عبادة قال: لم يكن إلا ما رأيت -قيامه مقتصد، عنده عبادة لكن ليست بالأمر الغريب على الصحابة- إلا أنني لا أبيت وفي قلبي على أحد من المسلمين شيئاً. ابن عمر: هذه التي بلغت بك، وهي التي لا تُطاق). هل تستطيع أن تنام ولا تحمل في قلبك على أحدٍ من المسلمين شيئاً؟ جرب هذا الأمر. هل تستطيع أن تكون كـ أبي ضمضم؟ من هو أبو ضمضم؟ رجل كان إذا أصبح قال: اللهم إني قد وهبت نفسي وعرضي. -أي: كل من تكلم فيَّ فقد أحللته، وعفوت عنه، كل يوم في الصباح، يقول: يا رب كل من تكلم في فقد أبحته، وعفوت عنه هل تستطيع هذا؟ {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134]. فأنصحك إذا في قلبك على أخيك، أو على صديقك، أو على جارك، أو على أحد أقربائك شيء، أو بينك وبينه خصومة (لا يحل لمؤمنٍ أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام) لتكن أنت زين العابدين علي بن الحسين رضي الله عنه وعن أبيه، هذا الرجل كان جالساً في مجلس علم، فدخل عليه رجل فسبه وشتمه، وما رد عليه رداً واحداً، ولو أراد لرد، ولقام أصحابه وتلاميذه يضربونه ويقتلونه، ولكنه لم يرض أن يرد لنفسه كلمة واحدة، أتعرف ماذا صنع؟ انتظر إلى الليل، فلما حل الليل ذهب إلى الرجل في بيته وطرق الباب وفتح الرجل الباب الآن ماذا يريد؟ هل يريد أن يدافع عن نفسه؟ أتعرف ماذا قال؟ قال بعد أن سلم: يا فلان! إن كان حقاً ما قلته فيَّ فغفر الله لي، وإن كان كذباً فغفر الله لك والسلام، وتركه وذهب، فجاء الرجل يتبعه فمسكه في الطريق وحضنه وأخذ يبكي وهو يقول: ادعُ الله أن يحللني، فدعا الله عز وجل له قال تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134]. لنكن -أيها الأخوة- كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى). وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الله مولانا ولا مولى لهم

الله مولانا ولا مولى لهم عندما يلجأ الإنسان إلى الله يجد المخرج والفرج، وعلى الإنسان المؤمن أن يعلم أن الله معه وهو ناصره ومعينه، وفي المقابل عليه أن يعلم أن سلعة الله غالية، ولينظر إلى الجيل الأول صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف ضحوا بدمائهم وأموالهم وأنفسهم في سبيل نيلها. وليعلم أن عزة المسلمين بتمسكهم بهذا الدين، ورجوعهم إلى ربهم.

اللجوء إلى الله

اللجوء إلى الله الحمد لله رب العالمين، والصلاة السلام على سيد المرسلين، وخاتم النبيين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: في أحد وبعد أن انتهت المعركة بما انتهت، إذا بـ أبي سفيان -قبل إسلامه- ينادي المسلمين، فكان فيما قال: لنا العزى ولا عزى لكم، أي يخاطب المسلمين بعد جراحهم، وبعد أن قتل منهم من قتل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (ألا تجيبوه؟! قالوا: ما نقول؟ قال: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم) ثم قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر والحرب سجال، فقال عمر: لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار. الله مولانا ولا مولى لهم، فإنه جل وعلا الذي نصر نوحاً بعد أن تجمع عليه قومه، ولم يبقَ معه إلا القليل من المستضعفين، فسخروا منه، واستهزءوا به، كان معه ضعفاء القوم وأراذلهم، ولكنهم في الإيمان قمم وجبال: {قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود:38] نعم. الله مولانا ولا مولى لهم، فرفع نوح يديه إلى الله عز وجل قال تعالى: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر:10] فإذا بسنن الكون تتغير، وإذا بالسماء التي لم تكن تمطر ينهمر منها الماء، وإذا الأرض القاحلة، والصحراء التي ليس فيها ماء تتفجر بالعيون: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر:10 - 12]. هود عليه السلام جاء قومه يدعوهم إلى الله عز وجل؛ فأرادوا قتله، فقال وقد توكل على الله عز وجل واستنصر به، قال يا قوم: {أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دِونِه * فَكِيدُونِي جَمِيعاً} [هود:54 - 55] أي: تجمعوا عليّ كلكم، قال: {فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ} [هود:55] أي: لا تؤخروني بل اقتلوني، واصنعوا ما تريدون، أي قوة يملكها هود عليه السلام، إنه يملك أعظم قوة، إنه التوكل على الله عز وجل: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} [هود:56]. الله مولانا ولا مولى لهم، فإذا بقوم عادٍ مرت عليهم الأيام، فأرسل الله عليهم جنداً من جنوده، ريحاً صرصرا في أيام نحسات، إنها ريحٌ شديدة باردة، تحمل الواحد منهم إلى السماء، ثم تطرحه على الأرض؛ فينفصل رأس أحدهم عن جسده: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ} [الفجر:6 - 8]. كانوا يتحدون ربهم جل وعلا، وكانوا يقولون لهود: {ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [العنكبوت:29] وكانوا يفتخرون أنهم أعظم قوة على وجه الأرض، فكانوا يقولون: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت:15] أي: ليس في الأرض قوة أعظم من قوتنا، وهذا جنون العظمة، الغطرسة، الكبر، العتو، ولكن النهاية: {فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} [الحاقة:7 - 8]

التوكل على الله والثقة به

التوكل على الله والثقة به موسى عليه السلام رجلٌ لا يملك إلا أخاه والعصا، دخل على قصر فرعون الجبار الطاغية، الذي من جبروته في الأرض وغطرسته، ومن جنون عظمته أنه كان يقول: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24] ولا يسمح برأيٍ يخالف رأيه، حتى كان يقول للناس: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:29]. قتل الأطفال! ما ذنب الأطفال أيها الظالم الجبار؟ استحيا النساء وقتل الأطفال بغير ذنب، واستعبد الرجال بغير ذنب، لأنه جبار في الأرض، فوصل فرعون وجيشه إلى موسى عليه السلام، وما كان مع موسى إلا شيوخٌ ضعاف، ونساءٌ ضعاف، وأطفال صغار، أمامهم البحر، وخلفهم فرعون وجيشه: {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61] أي: تجمع علينا المشركون، قتلونا: {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ} [الشعراء:62] ماذا معك يا موسى؟ أسلحة؟ جيوش جرارة؟ موسى لا يملك إلا عصا، وما معه إلا ضعاف القوم، ويستقبلهم طاغية وجيشٌ طاغٍ في الأرض، أسلحة وعتاد؛ لكن موسى عنده سلاحٌ عظيم: {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62]. الله أكبر! إنه اليقين بنصر الله، إنه التوكل على الله، إنه صدق الإيمان بالله، فإذا البحر يأتمر بأمر موسى، فينفلق البحر له، ثم إذا بالبحر يسير فوق فرعون الذي كان يقول: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الزخرف:51] نعم. أبصروك يا فرعون والماء يجري من فوقك، أبصروك والطين في فمك يضعه جبريل فيه، ذلٌ وأي ذل؟ إنه نصر الله جل وعلا دائماً وأبداً لعباده المؤمنين. إبراهيم عليه السلام يُلقى في النار فيقول له جبريل: ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا، ولكن حسبي الله ونعم الوكيل، فإذا بالنار: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} [الأنبياء:69 - 70] الله مولانا ولا مولى لهم. بكى أبو بكر عندما تجمع المشركون عند الغار، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ما يبكيك يا أبا بكر؟ قال: يا رسول الله! لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآنا، قال: يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟) {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ} [التوبة:40] اثنان يلاحقهما من في الأرض من جيوش وطواغيت، وهما رجلان ضعيفان لكنهما يملكان القوة بالله: {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ} [التوبة:40] لمَ لا يحزن؟ {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] وهذا هو الفرق، الفرق إن الله عز وجل مع المؤمنين كما قال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة:257].

نصر الله لعباده وتأييده لهم

نصر الله لعباده وتأييده لهم الله عز وجل مدبر الأمر، مصرف الآيات قال تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة:51] كل ما يحدث في الأرض فبعلم الله، وبقدر الله عز وجل: {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ * أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف:79 - 80] كل شيء يدبر في السماء بعلم الله وبقدر الله. في الأحزاب تجمع الناس على رسول الله، فإذا المنافقون الذين يترقبون الأزمات والفتن ليرفعوا رءوسهم يتكلمون، عندما يتجمع المشركون والأعداء على المسلمين ينطق المنافقون، فهذا وقتهم، وهذا زمنهم، وهذه فرصتهم. فإذا بهم يثبطون المؤمنين، ويثيرون القلاقل، حتى قال أحدهم: لا يقدر أحدنا أن يقضي حاجته، ورسولكم يعدكم ببلاد كسرى والروم، كيف هذا؟ ويقولون: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً} [الأحزاب:12]. أما المؤمنون الصادقون، لما رأوا المشركين تجمعوا على المدينة، واليهود نقضوا العهود، والمنافقون يثيرون الفتنة بين الصفوف كما قال تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} [الأحزاب:10 - 11] ماذا قال المؤمنون: {وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [الأحزاب:22] الله مولانا ولا مولى لهم. كان النبي عليه الصلاة والسلام يقاتل وفي قلبه أن الله عز جل هو مولاه، والله عز وجل ينصره، والله عز وجل يتم كلمته، يقول علي بن أبي طالب يصف النبي عليه الصلاة والسلام وهو أشجع الناس: [لقد رأيتني يوم بدر وإنا لنلوذ بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو أقربنا إلى العدو، وكان من أشد الناس يومئذٍ بأساً] فقد كان أشجع الناس محمداً عليه الصلاة والسلام، ولما ولى المسلمون مدبرين يوم حنين يقول العباس: [[طفق الرسول يركض بغلته نحو الكفار، تراجع المسلمون وبقي النبي صلى الله عليه وسلم وبعض أصحابه لم يتراجع؟ تقدم واستقبل صفوف المشركين وكانت صفوفهم كثيرة، والمشركون يتجمعون عليه وهو يستقبلهم على بغلته وبيده عصا، وكان يقول: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب) يقول العباس: أنا آخذٌ بلجام بغلته لئلا يتقدم، والنبي صلى الله عليه وسلم يتقدم، ويقول عليه الصلاة والسلام: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب).

صفقة رابحة

صفقة رابحة قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى} [التوبة:111] إنها الصفقة، هل بعت يا عبد الله؟ انظر الثمن وانظر السلعة: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111] نفسك ومالك تعطيها لله والثمن الجنة، وطريقة البيع: {يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:111] مدافع، صواريخ، رشاشات، قنابل، أسلحة: {يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ} [التوبة:111] والضمان من الله: {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:111] لما سمع الصحابة هذه الآيات ضحوا بمهجهم، ضحوا بدمائهم، بل بكوا إذ فاتهم الجهاد في سبيل الله. عمر هل يوجد بين المؤمنين أمثال عمر؟! هل جعلنا قدوتنا عمر الفاروق، هادم دولة بني ساسان؟ في عهده زال ملك المجوس، وذهبت إمبراطورية كسرى، يقول رستم عن عمر: أكل عمر كبدي أحرق الله كبده، وكذب قاتله الله، بل أطفأ نارهم، ودمر ملكهم، وهز عرشهم: يا من يرى عمراً تكسوه بردته والزيت أدمٌ له والكوخ مأواهُ يهتز كسرى على كرسيه فرقاً من خوفه وملوك الروم تخشاه

صور من جهاد الصحابة

صور من جهاد الصحابة علي سيد الشجعان، لما قال مرحب: قد علمت خيبر أني مرحب شاكي السلاح بطلٌ مجربُ إذا الحروب أقبلت تلهبُ رد عليه علي فقال: أنا الذي سمتني أمي حيدره كليث غابات كريه المنظره أكيلهم بالسيف كيل السندره إنه علي سيد الشجعان، لما استقبل الكفار هو وحمزة وغيره أنزل الله فيهم: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج:19] قضيتهم الإيمان بالله، وعدوهم الكفر بالله، قضيتهم التوكل على الله، وعدوهم التوكل على غير الله، قضيتهم عقيدة وإيمانٌ وتوحيد. الزبير بن العوام حواري رسول الله، يرى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من المشركين يقتل في المسلمين قتلاً عنيفاً فيقول للزبير: يا زبير قم إليه، فقام إليه حواري رسول الله فصارعه فسقطا من الدابة، فوقعا على الأرض، فإذا ب الزبير يضربه ضربة على صدره، فيقتله قتلة ما قام بعدها، يقول علي عن الزبير: يغضب كالنمر، ويثب وثب الأسد، زبير في قلبه قول الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف:10] * {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [الصف:11] بأي شيء نجاهد؟ بكل ما نملك: {بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} [الصف:11]. ألم نسمع قول النبي عليه الصلاة والسلام: (إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف) الروحة والغدوة في سبيل الله أفضل من الدنيا وما فيها، وموقف ساعة في سبيل الله خير من قيام ليلة القدر عند الحجر الأسود، وهي أعظم ليلة في العام، وأعظم مكانٍ في الأرض لو قامه الإنسان ليلة كاملة لكن موقف ساعة في سبيل الله خير من ذلك

التضحية في سبيل الله

التضحية في سبيل الله البراء بن مالك يقول عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (كم من أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبره منهم البراء بن مالك ). البراء بن مالك رجلٌ قد باع نفسه لله، رجلٌ بطلٌ شجاع، حتى قال عمر بن الخطاب يخاطب قادة الجيوش: لا تستعملوا البراء على جيش، أي: لا تجعلوه يقود جيشاً، فإنه مهلكة من المهالك، رجلٌ من شجاعته ربما يهلك الجيش كله، في حروب الردة لما قاتل المسلمون مسيلمة وإذا به يتحصن بحصنٍ حصين، لم يستطع أحدٌ من الصحابة اقتحامه، تعلمون ماذا قال البراء؟ قال لأصحابه: احملوني على ترس على أسنة الرماح وألقوني في الحديقة، قالوا: ماذا تقول؟ عملية استشهادية، احتمال النجاة منها (1%) فإذا بهم يرفعونه ويرمونه داخل الحصن، ويدخل الحصن، فيفاجئ المرتدين، فيقاتل هذا، ويدفع هذا، ويرد هذا، هذا يطعنه، وهذا يضربه، حتى يصل إلى الباب، فيفتح باب الحديقة فإذا بالحصن يُفتح، وإذا بالصحابة يقتحمون، وإذا بالمؤمنين ينتصرون، أين الرجال أمثال البراء؟ أين الشجعان أمثال البراء؟! أين المجاهدون المضحون؟ ما الذي يمنعهم؟ إنها الدنيا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة:38] اترك الدنيا، تفكيرك بالأولاد، بالزوجات، بالوظائف، بالأموال، بالتجارات؛ يمنعك عن الجهاد في سبيل الله. جعفر كأنه في الجنة قبل الموت، فلما تكسرت الرماح عليه قال: يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وباردٌ شرابها والروم رومٌ قد دنا عذابها كافرة بعيدة أنسابها ثم استلم الراية عبد الله بن رواحة فقاتل حتى قتل وهو يخاطب نفسه يقول: أقسمت يا نفس لتنزلنه لتنزلن أو لتكرهنه إن أجلب الناس وشدوا الرنه ما لي أراك تكرهين الجنه ... يا أمتي وجب الكفاح فدعي التشدق والصياح لغة الكلام تعطلت إلا التكلم بالرماح إنا نتوق لألسن بكمٍ على أيدٍ فصاح لا بد من صنع الرجال ومثله صنع السلاح لا يصنع الأبطال إلا في مساجدنا الفساح لا يستوي في منطق الـ إيمان سكرانٌ وصاح من همه التقوى وآ خر همه كأسٌ وراح شعبٌ بغير عقيدة ورقٌ تذريه الرياح من خان حي على الفلاح يخون حي على الكفاح نعيم بن مالك وما أدراك ما نعيم بن مالك؟ يقول يوم أحد: يا نبي الله لا تحرمنا الجنة، فو الذي نفسي بيده لأدخلنها، فتعجب النبي وقال: بم ذاك يا نعيم قال: بأني أحب الله ورسوله، ولا أفر يوم الزحف، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (صدقت يا نعيم) فقاتل حتى قتل: {وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الحديد:19] الشهداء ليسوا في الأرض، الشهداء عند الله عز وجل {وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} [الحديد:19].

من جزاء الشهداء عند الله

من جزاء الشهداء عند الله يقول عبد الله بن عمرو بن حرام ليلة معركة أحد يخاطب ابنه جابراً: يا بني ما أراني إلا مقتولاً في أول من يقتل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رجلٌ يعلم أنه في الصباح سوف يقتل، ثم قال له: يا بني ولا أحدٌ أعز إلي منك إلا رسول الله، ثم وصاه، يقول: فلما أصبح الصباح يقول جابر: فكان أول قتيل في المعركة، يقول: وبعد المعركة كشفت عن وجهه وبكيت، فقام أصحاب النبي ينهونني عن البكاء، وجعلت عمتي تبكي على أبي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ابكيه أو لا تبكيه! فما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعتموه) ثم قال لي النبي: (يا جابر ألا أخبرك أن الله كلم أباك كفاحا، فقال: يا عبدي! سلني أعطك، فقال: أسألك أن تردني إلى الدنيا فأقتل فيك ثانياً، قال: إنه قد سبق مني أنهم إليها لا يرجعون، فقال: يا رب فأبلغ من ورائي) فأنزل الله بعد أحد قوله جل وعلا: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169]. والشهيد لا يعذب، ولا يتألم، تقول: لقد سحقته الدبابات، وتفجرت به القنابل، وصرع بالرصاصات، وأحرقته تلك القنابل الذرية والنووية، وربما سقطت على رأسه الصواريخ، أقول لك: إنه لا يتألم إلا كما يجد أحدنا ألم قرصة النملة، ومع أول قطرة دم تخرج منه يطهره الله من كل ذنب، الله أكبر! ثم يرى مقعده من الجنة، ألم ترَ بعض الشهداء يموت وهو مبتسم، يدفن وهو مبتسم، تعرف لم؟ لعله رأى مقعده من الجنة وهو في الأرض، ثم إن الشهيد إذا أدخل القبر يجار من عذاب القبر بنعيم أكبر من هذا، نحن نخاف من ظلمة القبر، نخاف من عذاب القبر، نخاف من جحيم القبر، نخاف من الديدان، نخاف من الثعابين أما الشهيد فيجار من كل هذا. ثم إذا بعث عند ربه يأمن من الفزع الأكبر، ويبعث الناس على أعمالهم، هو يبعث والدم ينزف من جسمه؛ اللون لون دم والريح ريح مسك، ثم يُلبس تاج الوقار والكرامة، الياقوتة فيه خيرٌ من الدنيا وما فيها، ويزوج باثنتين وسبعين من الحور العين، ويشفع في سبعين من أهله. ثم أرأيت الشهيد الذي يُقتل؛ أتعرف أين هو؟ هو في الجنة، في جوف طيرٍ خضر لها قناديل معلقة تحت عرش الرحمن، تسرح في الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، يطلع عليهم ربهم فيقول: (أتريدون شيئاً؟ أتشتهون شيئاً؟ يقولون: أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا؟ حتى يقولون: نريد أن ترد أرواحنا بأجسادنا فنرجع إلى الدنيا فنقتل في سبيلك مرة أخرى، فيقول لهم ربهم: إني كتبُ أنكم إليها لا ترجعون) {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169].

الله مولى المؤمنين

الله مولى المؤمنين نعم قد يقتلون الآلاف، نعم قد يسحقون الملايين، قد يدمرون الشعوب، وقد يقتلون الأطفال والنساء والرجال؛ ولكن لا سواء، قتلى المسلمين في الجنة، وقتلى الكفار في النار، الكفار لا يعلمون أن أعظم غاية للمجاهد أن يموت شهيداً، ثم إن حصل له النصر كان بها، وإلا فغايته الشهادة، غايته أن يموت في سبيل الله، يقولون: هزم المجاهد فقتل، نقول لهم: بل انتصر، فإن غايته أن يموت شهيداً، غايته أن يدخل الجنة، وما خرج إلا للشهادة، فإن حصل النصر فـ {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} [الصف:13]

أهل الأعذار يصرون على القتال

أهل الأعذار يصرون على القتال أهل الأعذار كانوا يتمنون الجهاد، بل ذهبوا للجهاد، هذا أعرج قد عذره الله عن الجهاد عمرو بن الجموح، يقول لأبنائه جهزوني، فيمنعونه ويأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيقول لهم: (لا عليكم أن لا تمنعوه، لعل الله أن يرزقه الشهادة) وهو يقول لأبنائه: والله لأطأن بعرجتي الجنة، فقاتل حتى قتل في أحد. ابن أم مكتوم أعمى لا يُبصر، قال: أريد الجهاد، قالوا له: ماذا تصنع بالجهاد؟ قال: والله لأذهبن إلى الجهاد، قالوا: ماذا تريد أن تصنع؟ قال: أمسك لكم الراية، فمسك الراية فتكسرت الرماح عليه، فقتل واستشهد في سبيل الله وهو ممسك براية الإسلام، قتل ولكنه ما مات إنها الرجولة أيها المسلمون {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب:23]. حنظلة في ليلة زفافه يجامع زوجته ويسمع منادي الجهاد ينادي: حيَّ على الجهاد، حيَّ على الجهاد، فإذا به ينتفض ويقوم من الفراش، ويلبس ملابسه، ويحمل سلاحه فيقاتل حتى يقتل، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (رأيته يُغسل بين السماء والأرض بصحاف من ذهب) ماذا صنع؟ قاتل ولم يغتسل من جنابة يقول أنس لـ سعد: ما أجلسكم يا سعد؟ قال: قتل رسول الله، قال: قوموا فموتوا على ما مات عليه، ثم ذهب فقاتل حتى قتل رضي الله عنه.

عزة المسلمين

عزة المسلمين خالد بن الوليد كم معركة خاضها، لم يمت في المعارك؟!! كنا جبالاً في الجبال وربما صرنا على موج البحار بحارا بمعابد الإفرنج كان أذاننا قبل الكتائب نفتح الأمصارا لم تنس أفريقيا ولا صحراؤها سجداتنا والأرض تقذف نارا إنه الجهاد في سبيل الله، إنها الشهادة. نعم. قد يقتل من المسلمين ما يقتل، قد يثخن فيهم الجراح؛ ولكن: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ} [النساء:104] والفرق: {وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104]. أحد قادة الكفار ماهان يخاطب خالد بن الوليد يقول له: إنا قد علمنا أنه ما أخرجكم من بلادكم إلا الجُهد والجوع. أي: نحن نعرف أنكم جياع مساكين، وأنه ما أخرجكم إلا التعب والنصب والجوع، يظنون المسلمين يريدون طعاماً أو شراباً، يظنون المسلمين يريدون المنافع من المراكب، والبيوت الفخمة، ويريدون طيب العيش، مساكين! قال ماهان يخاطب خالداً: علمنا أنكم خرجتم جائعين، فهلموا نعطي كل رجلٍ منكم عشرة دنانير -رشوة- وكسوة وطعاماً وترجعون إلى بلادكم، وكل سنة نعطيكم مثل هذا المال. انظروا إلى الرشوة، فقال خالد بن الوليد: (والله لم يخرجنا من بلادنا هذا غير أنا قومٌ نشرب الدماء -الله أكبر إنها الحرب النفسية قبل أن تكون جسدية- وأنه قد بلغنا أنه لا دم أطيب من دم الروم فجئنا لذلك) أي: جئنا لنشرب من دم الروم. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] انظروا إلى صفات أولياء الله؛ أول صفة: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِين يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54].

عاقبة ترك الجهاد

عاقبة ترك الجهاد يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا تباعيتم بالعينة، ورضيتم بالزرع، واتبعتم أذناب البقر -ربا ودنيا وشهوات- وتركتم الجهاد في سبيل الله؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم) وقال في الحديث الآخر: (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم -يهود، نصارى، شيوعيون، هندوس، لا تينيون- يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها، قالوا: أومن قلة نحن يومئذٍ يا رسول الله؟ قال: بل أنتم كثير، لكنكم غثاء كغثاء السيل، قد أوهن قلوبكم حب الدنيا وكراهية الموت). في إحدى المعارك كان عدد الروم النصارى مائتين وخمسين ألف مقاتل -ربع مليون- والمسلمون أقل من اثنين وثلاثين ألفاً في عهد أبي بكر، وكان أبو عبيدة قد أرسل إلى أبي بكر: أما بعد: فإن الروم ومن كان على دينهم من العرب -أي: من حلفائهم النصارى- قد أجمعوا على حرب المسلمين، ونحن نرجو النصر، وإنجاز موعود الله تبارك وتعالى، قال: وأحببت أن أعلمك بذلك لترينا رأيك، فقال الصديق بعد أن ثبت قلوبهم، وشجعهم، وبعد أن دعاهم إلى الجهاد في سبيل الله؛ قال: خالدٌ لها، خالدٌ لها، والله لأنسين الروم وساوس الشياطين بـ خالد بن الوليد. فإذا بالصحابة يقاتلون فيدكون الأرض دكاً تحت أقدامهم، يأتيهم من الأفق نداء الله عز وجل وهم يقاتلون: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} [التوبة:14] * {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [التوبة:15] فإذا بـ خالدٍ يدك الأرض دكاً. وتمضي قوافل المجاهدين، والجهاد باقٍ إلى أن تقوم الساعة قال صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من هذه الأمة تقاتل في سبيل الله حتى يقاتل آخرهم الدجال) القتال ماضٍ، والجهاد ماضٍ، والخيل معقودٌ في نواصيها الخير إلى يوم القيامة: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60] الله مولانا ولا مولى لهم!

الولاء والبراء

الولاء والبراء الله مولانا نوالي فيه، ونعادي فيه، نحب من أحب الله ورسوله، ونعادي كل من عادى الله ورسوله، نحب في الله، ونبغض في الله، نحب المؤمنين في أي مكان في الأرض، ومن أي جنسٍ، نواليهم في الله: (فالمسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يسلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، بحسب امرئٍ من الشر أن يحقر أخاه). (مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) الحديث، حتى العاطفة فقدت في قلوب كثيرٍ من المسلمين اليوم، أين الولاء في الله؟ أين البراء في الله؟ أسوتنا بإبراهيم عليه السلام: {وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4] لا نحب الكافرين ولو كانوا أقرب الناس إلينا، لا نحبهم ولا نواليهم، بل نعاديهم في الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51] أي: اليهود والنصارى ومن حالفهم وشايعهم؛ بعضهم أولياء بعض: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ} [المائدة:51] وأعظم الولاء الحب والنصرة، فمن أحبهم ونصرهم فهو منهم: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51]. ومن اتخذهم أولياء، فإنه ليس له من الله في شيء، الله عز وجل يتبرأ منه: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} [آل عمران:28] بل إن الله نفى الإيمان عنهم: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة:22]

المنافقون والفتن

المنافقون والفتن وهنا يبرز المنافقون، ويرفعون رءوسهم، هنا وقت الفتن والمحن، إذا اشتد الأمر على المؤمنين الصادقين تكلم ونطق المنافقون، ماذا يقولون؟ وماذا يصنعون؟ هذا وقتهم قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [الحشر:11] الله عز وجل قال إخوانهم أي: كفار مثلهم: {لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الحشر:11]. هذا وقت المنافقين، مذبذبين لا تعرف حقيقتهم، هل هم مع المؤمنين أم مع الكفار: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ} [النساء:138] الذين يشايعون اليهود والنصارى والكافرين: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:138 - 139] تعرف لم يصنعون هذا؟ يريدون النصر منهم، والعزة بهم: {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} [النساء:139]. هكذا هم في حقيقتهم يتبعون اليهود والنصارى: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضبٍ لدخلتموه) الله مولانا ولا مولى لهم.

وألف بين قلوبهم

وألف بين قلوبهم أيها الإخوة الكرام! بشائر النصر قد ظهرت، وقد لاحظتموها، هاهم المؤمنون الصادقون في مشارق الأرض ومغاربها -وكما قيل: رب ضارة نافعة- كلهم قد أشعلت في قلوبهم جذوة الإيمان، قد رفعوا رايات وكتبوا عليها لا إله إلا الله محمد رسول الله، شعارهم: الله أكبر والعزة لله، أعلامهم ليس فيها إلا لا إله إلا الله محمد رسول الله، ما الذي جمعهم؟ ما الذي ألف بين قلوبهم؟ ما الذي أحيا الإيمان في قلوبهم؟ إنه الله عز وجل. ألا ترون إلى المساجد كيف تمتلئ؟ ألا ترون النساء كيف يقبلن على الحجاب؟ ألا ترون الناس يقبلون على دين الله عز وجل أفواجاً؟ ألا ترون الشعوب كلها تطالب بتحكيم شرع الله؟ لا عزة إلا بتحكيم الشرع، لا نصر إلا بالرجوع إلى الكتاب السنة: (تركت فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وسنتي). ألا ترون طلائع الجهاد في سبيل الله، كلما أراد الكفار أن يطفئوا نور الله فإن الله عز وجل يظهر دينه: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32] كم نسمع في هذه الأيام من التائبين الذين يقبلون على دين الله أفواجاً، وأعداد لا نحصيهم، دعاهم الله جل وعلا. يقبلون على الدين بغير دعاته إلى الله، قوافل كثيرة يقبلون على دين الله، بل كم وكم نسمع هذه الأيام من الشباب الذين يريدون أن يجاهدوا في سبيل الله، قبل أيام كانوا في المراقص، قبل أيام كانوا في الملاعب، قبل أيام كانوا لابد يدخلون المساجد، أما اليوم يبكون من خشية الله، يبكون توبة لله، وأحدهم يقول: أريد الجهاد في سبيل الله: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ} [يوسف:110]. إذا ظن الناس أنه لا مفر ولا نجاة، جاء نصر الله عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} [النور:55] أبشروا فإن الخلافة ستعود، خلافة على منهاج النبوة، ولا تزال في هذه الأمة طائفة على الحق ظاهرين، وسوف يعود النصر للمسلمين، وسوف يبعث الله على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها. أبشروا أيها المؤمنون، وعليكم بالدعاء: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62] {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] عليكم بالثلث الأخير، عليكم بالدعاء في السجود، فإن الدعاء سلاح المؤمن، الدعاء يفوق الصواريخ، ويفوق القنابل، ويفوق المتفجرات، الدعاء سلاح المؤمن: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62]. أشعلتها من دمي جمراً وبركاناً أججتها من قرار القلب نيرانا فلا لشرق ولا غربٍ نطأطفها تلفظ الجبهة الشماء إذعانا إن البطولة صاغتها عزائمنا فجراً منيراً وتحريراً وإيمانا يؤجج النار في أعماق إخوتنا ويزهق الباطل المدحور مذ كانا هدي الرسول رسول الله لقننا أن الهزيمة ليست من سجايانا فبورك الدم روى قرب معتركٍ أرواحنا في لظاه من عطايانا جند العقيدة يمضي ركبنا قدماً فلا يخلف طاغوتاً وأوثانا نحرر الأرض من أغلال تجزئة قد مزق الدار أقطاراً وأوطانا نحرر الفطر من أغلال مهزلة وردة مالها إلا سرايانا نحكم الشرع منهاجاً لأمتنا ونحمل المشعل الوقاد فرقانا منهاجنا قلعة في القلب نحرسها وبالدماء لها أغلى ضحايانا تأبى عقيدتنا تأبى شريعتنا أن يصبح الناس أدياناً وقطعانا اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اللهم أعداء الدين، اللهم من أراد بالإسلام والمسلمين سوءاً فأشغله بنفسه، واجعل تدبيره تدميره، ورد كيده في نحره، اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزم أعداء المسلمين من اليهود والنصارى ومن شايعهم، اهزمهم وانصرنا عليهم، اللهم اقذف الرعب في قلوبهم، اللهم شتت جمعهم، اللهم زلزل الأرض من تحت أقدامهم، اللهم مزق جمعهم، اللهم انصر عبادك المجاهدين، اللهم اربط على قلوبهم، اللهم ثبت أقدامهم، اللهم اجمع كلمتهم، اللهم اجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين، اللهم ارفع راية الجهاد، اللهم ارفع راية الجهاد، واقمع أهل الكفر والفساد، اللهم انصر عبادك المسلمين، اللهم انصر عبادك المسلمين في كل مكان. أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تاج الوقار

تاج الوقار يقول صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) وهذه الخيرية تدل على عظم هذا القرآن وفضل تعلمه وتعليمه للناس، وكما ثبتت له الخيرية في الدنيا كذلك ثبتت له في الآخرة، فيوم القيامة يؤمر حافظ القرآن بتلاوة القرآن حتى تكون منزلته عند آخر آية يقرؤها، وحافظ القرآن يكفيه فخراً أنه يقدم في كثير من المواضع مثل الجهاد والصلاة والدفن وفي غيرها من المواضع.

الترغيب في حفظ القرآن الكريم

الترغيب في حفظ القرآن الكريم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وخاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فأشكر الإخوة المنظمين لمثل هذا المشروع المبارك، والقائمين عليه، والمشاركين فيه، ثم أشكر الإخوة الحضور الذين تكبدوا العناء، وقطعوا كثيراً من أوقاتهم، وفرطوا في أعمالهم؛ لأجل أن يحضروا لمثل هذا الدرس المبارك إن شاء الله. وأنا أنتظر موعد حديثي لهذه المحاضرة تذكرت حفلاً آخر وموعداً آخر لتكريم حفظة كتاب الله، وإن كان هذا الحفل قد أثلج صدورنا، وأصاب كل واحد منا بنشوة وفرح، وأظن ما من شخص في هذا المجلس إلا وفيه حسرة لما ضيع من حفظ كتاب الله مما فرط من الأوقات؛ لأنه لم يحفظ كتاب الله كاملاً، فأي حفل أقصد؟ إنه الحفل الذي سوف يجمع الناس يوم القيامة، ويبدأ الله جل وعلا في فصل القضاء وحساب الناس، فيخرج الله جل وعلا حفظة كتابه، فيأمرهم جل وعلا بالقراءة. أرأيتم إلى الشاب الذي قرأ؟ ألم يثر رغبتكم في حفظ كتاب الله؟! ألم يجعلكم تتحسرون لما ضاع من العمر الذي لم نحفظ فيه كتاب الله؟! حتى إذا كان يوم القيامة، يقال لقارئ القرآن وصاحبه الذي حفظه في الدنيا: اقرأ، ويبدأ يقرأ أمام الناس، وأمام الخلق، والرب جل وعلا يسمعه وهو أعلم به، وكلما قرأ آية ارتفع درجة، قل لي بربك: من حفظ البقرة كلها كم سيرتفع؟ ومن حفظ القرآن كاملاً أين منزلته؟ الله أكبر! إنه الحفل العظيم الكبير عند الله جل وعلا يوم القيامة.

عظمة القرآن

عظمة القرآن أيها الإخوة الكرام: حديثنا عن القرآن، ومن أنا حتى أتكلم عن القرآن؟! يكفيه شرفاً أنه كلام الله جل وعلا، {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهَُ} [التوبة:6] يكفيه شرفاً أنه تكلم به الرب جل وعلا من فوق سبع سموات، نقله جبريل إلى محمد عليه الصلاة والسلام إلى هذه الأمة إنه القرآن العظيم الذي أخبر الله عنه فقال: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} [الزمر:23] أحسن حديث، مهما تكلمت الآن لو تكلمت ساعات طوال لا يعادل كلامي آية من كتاب الله جل وعلا، فإنها تشتمل على معانٍ عظيمة وحكم وأحكام وشرائع، وآية من كتاب الله توازي كلام البشر وأعظم {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً} [الزمر:23] إذا سمعته ماذا يحصل لك؟ {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم} [الزمر:23] لو كنا حقاً نخشى من الله حق خشيته، لاقشعرت جلودنا عند سماعه. وصدع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعوته فما استطاعوا له، فنادوا أبلغ العرب وأفصحهم وأكثرهم جرأة وهو الوليد بن المغيرة، وقالوا له: اذهب فاهجه يا وليد، وقل له كلاماً تنقله العرب عنك. فإنه إذا تكلم بالشعر حفظه الناس ورددوه قل كلاماً فيما يقوله هذا الرجل -يعنون محمداً عليه الصلاة والسلام- فذهب الوليد بن المغيرة إلى رسول الله، وقال: هات ما عندك يا محمد؟ فقال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم وأخذ يقرأ، والوليد بن المغيرة شاعر عربي فصيح بليغ يعرف معاني هذه الكلمات التي لا نعرف نحن بعضها، فهو شاعر عربي من أقحاح العرب، يعرف كل كلمة ومدلولها وما الذي جعل هذه الكلمة بعد هذه الكلمة فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم إلى قوله جل وعلا: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت:13] فقال: حسبك حسبك، أنشدك الله والرحم. ثم فر وهرب، وأتى إليهم وقد تغير وجهه، فقالوا: لقد صبأ صاحبكم، لقد سحره محمد، ثم قالوا: ما الذي جرى لك؟ هل صبأت؟ هل سحرك محمد؟ فقال: لقد سمعت قوله، والله إن فيه لحلاوة -يقول عن القرآن- وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه، وإنه ليحكم ما تحته! قالوا: ماذا تقول؟ قل فيه قولاً، قال: إن قلت شعراً فهو ليس بشعر، وإن قلت كذا فهو ليس بكذا، ماذا أقول لكم؟ فأخذ ينظر وأخذ يفكر ويقدر ثم التفت إليهم وقال: قولوا فيه: سحر يؤثر. قال الله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً * وَبَنِينَ شُهُوداً * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآياتنَا عَنِيداً * سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ} [المدثر:11 - 18] من الذي فكر وقدر؟ إنه الوليد بن المغيرة، انظر وصف القرآن الدقيق له! {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ} [المدثر:18 - 21] أخذ يفكر {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر:22 - 26] أرأيت إلى المشركين كيف تأثروا بالقرآن؟ إنه قرآن عظيم! أما سمعت يا أخي العزيز! كم من الناس أسلموا لما سمعوا آيات من القرآن، فهذا الصحابي الجليل جبير بن مطعم، وقبل أن يسلم هذا الصحابي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي المغرب في الكعبة، يقول: وما في قلبه رجل أبغض إليه من هذا الرجل -يقصد الرسول عليه الصلاة والسلام- كان يكرهه ويبغضه، فلما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم سمعه يقرأ في الصلاة سورة الطور التي يحفظها أكثر الشباب الآن، يستمع إليها وقد كان مشركاً كافراً بالله وماذا نقول لبعض الناس من المسلمين الذين إذا قرئ القرآن لا يستمعون؟ حتى وصل الرسول عليه الصلاة والسلام إلى قول الله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} [الطور:35] ففكر جبير: هل أنت خُلقت من غير شيء؟ مستحيل! لا بد أن هناك شيئاً قبلي، إذاً من الذي خلقني؟ لا بد أن هناك خالقاً خلقني إذاً من الخالق؟ {أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35] انظر إلى التدرج في القرآن، يخاطب النفس ويخاطب الفطرة أنت خلقت نفسك يا جبير؟ مستحيل! أنا لم أعرف نفسي قبل أن أولد، إذاً من الذي خلقني؟ هناك خالق ولست أنا، هناك شيء أعظم منك يا جبير، هناك سموات سبع عظام، هناك أراضين، هناك ما بين السماء والأرض {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ} [الطور:35 - 36] قال جبير بن مطعم: فكاد قلبي أن يطير، وما إن انتهت الصلاة إلا وسلم على الرسول صلى الله عليه وسلم وكلمه بعض الكلمات ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك محمداً رسول الله. ألم تسمعوا عن قوم ما سمعوا شيئاً إلا كلام الله فإذا بهم يشهدون الشهادتين؟ ليسوا ببشر إنهم من الجن، سمعوا بعض الآيات من كلام الله جل وعلا، قال الله تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً} [الجن:1] الجن الذين عرف عنهم العتو وسفك الدماء والكذب والخداع والكفر إلا من رحم الله منهم يقولون: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً} [الجن:1 - 2] إنه كتاب الله.

حالنا مع كتاب الله

حالنا مع كتاب الله هذا هو القرآن الذي هجره بعضنا فلم يختمه إلا في رمضان وينتظر رمضان القادم! هذا هو القرآن العظيم الذي كان الصحابة يجادلون الرسول في قراءته (يأتي رجل فيقول: أريد أن أختم القرآن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرأه في شهر قال: إني أطيق أكثر من هذا قال: اقرأه في سبع قال: إني أطيق أكثر من هذا قال: اقرأه في ثلاث - أي: اختم القرآن في ثلاث ليال، كل يوم عشرة أجزاء -قال: إني أطيق أكثر من هذا قال: لا يفقه القرآن من قرأه في أقل من ثلاث). يجادلون الرسول عليه الصلاة والسلام في قراءة القرآن ويريدون أن يختموه في أقل من ثلاثة أيام، وأنا أسألكم وكل منا يسأل نفسه: منذ رمضان الماضي إلى هذه اللحظات وقد مضت أشهر عديدة من منا ختم القرآن؟ ثم نبكي حالنا ونردد قول الله: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} [الفرقان:30]. من منا -أيها الإخوة الكرام- جعل في البيت جائزة ومكافأة لمن يحفظ كتاب الله جل وعلا في هذا الصيف، أو لمن يحفظ الجزء الثلاثين أو جزء تبارك أو أي جزء من القرآن؟ من منا فكر أن يحيي القرآن في بيته ويحيي أهله بالقرآن؟ أتعلمون أن من الناس من إذا دخل البيت ضاق صدره؟ يشتكي لي بعض الناس ويقول: إذا دخلت البيت ضاق صدري، وأحس بوحشة، وأتمنى الخروج من البيت، أقول له: إن بيتك لا تدخله الملائكة، بيتك عششت فيه الشياطين، هل تقرأ فيه القرآن؟ قال: كلا. هل تصلي فيه السنن؟ قال: كلا. هل يسمع فيه ذكر الله؟ قال: كلا، قلت: إذاً ما الذي يكون في بيتك؟ قال: التلفاز، والمسلسلات، والأغاني، قلت: ولا تريد أن تصاب بضيق الصدر! بيوت الصحابة كانت في الليل لا يُسمع فيها إلا البكاء، وقراء القرآن يمر عليه الصلاة والسلام يوماً ببيوت الصحابة في الليل -انظر إلى قائد الأمة في الليل يطمئن على شئون الأمة- فإذا به يجد بيتاً قديماً فيه امرأة عجوز، والمرأة تقرأ القرآن وصوتها يخرج من البيت، وهي تقرأ وتبكي، ويسمعها المصطفى عليه الصلاة والسلام وهي تقرأ قول الله: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1] فتبكي وتقول: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1] فيسمعها المصطفى، فيبكي معها وهو يقول: (نعم أتاني، نعم أتاني) أرأيت كيف يعيشون مع القرآن؟ بيوتهم امتلأت بالقرآن، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اقرءوا القرآن فإن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة) اقرءوا سورة البقرة في بيوتكم، اقرءوا القرآن، انشروا كلام الله جل وعلا، وأنا أعلم أن من الأطفال من عمره أربع سنوات ويحفظ عدة سور من القرآن بل من هو أصغر من أربع سنوات ويحفظ بعض السور، بل في بعض الدول غير العربية لا يعرفون اللغة العربية، ومن الصعب عليهم أن يحفظوا كلام الله أرسل رجل ابنه إلى مدرسة ليدرس فيها ثلاث سنوات يحفظ كتاب الله عن ظهر قلب، فرجع الابن الصغير بعد ستة أشهر وخرج من المدرسة، فقال له الأب: يا بني لم خرجت من المدرسة؟ بقي لك سنتان ونصف. فقال الابن الصغير لأبيه: يا أبي! ومن قال لك أنني خرجت هكذا؟ قال: لم خرجت؟ قال: لقد ختمت القرآن. خلال ستة أشهر، أتعرف لماذا؟ {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17] نعم. إن الطفل الصغير عنده حافظة قوية جبارة، بل يقولون: إن أقوى الناس استخداماً لعقله هو الطفل، وهناك من المفكرين والعلماء والعباقرة من لا يستخدم من عقله إلا اثنان بالمائة فقط. إذاً الطفل طاقة جبارة في الحفظ، فإما أن يحفظ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص:1 - 2] {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر:1 - 2] وإما أن يحفظ تلك الأغاني، والمسلسلات، والأفلام التافهة فلابد له من أحد هذين الأمرين.

تدبر القرآن الكريم

تدبر القرآن الكريم كيف نعيش مع القرآن؟ القرآن عظيم، وليس هو للصغار أو الكبار أو للمرضى فقط، بل هو للناس كافة. قال النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم لـ ابن مسعود: (اقرأ علي القرآن. قال: أأقرأ عليك وعليك أنزل قال: إني أحب أن أسمعه من غيري) فلا تجعل وقتك كله قراءة، بل اجعل بعض الأوقات للسماع، وضع بعض أشرطة القرآن في السيارة وأنت ذاهب إلى العمل وأنت ذاهب إلى المنزل (قال: إني أحب أن أسمعه من غيري) من القارئ؟ إنه ابن مسعود رضي الله عنه، ومن المستمع؟ إنه أفضل الخلق محمد عليه الصلاة والسلام. وما الحديث بينهما؟ إنه كلام الرب جل وعلا، فإذ بالمجلس يعقد، وإذا بـ ابن مسعود يستعيذ بالله ويقرأ (قال: فقرأت من سورة النساء، حتى بلغت قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء:41] فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حسبك الآن. فالتفت فإذا عيناه تذرفان) هذا هو القرآن العظيم، الذي أنار تلك القلوب الخاوية، وتلك الصدور الموحشة، وتلك الأفئدة المظلمة. كان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه يقرأ القرآن في الصلاة وكان إماماً، حتى وصل إلى قول الله جل وعلا: {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:4 - 6] فانفجر بالبكاء، حتى ما استطاع أن يكمل القراءة، فكبر وركع وأكمل صلاته. يقرءون القرآن بقلوب حية وجلة قال الله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} [الأنفال:2] هذه صفة المؤمنين، انظر هل أنت منهم أم لا؟ {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:2] هل إذا سمعت كلام الله يوجل القلب ويرتجف؟ {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} [الأنفال:2] هل أنت منهم؟ {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2]. وهذا عمر بن الخطاب الذي كان قبل الإسلام ذا قلب شديد صلى بالناس صلاة الفجر، فقرأ سورة يوسف حتى وصل إلى قول الله جل وعلا: {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف:86] فأخذ يبكي حتى سمع نشيجه وراء الصفوف أرأيت كيف يعيشون مع كتاب الله؟ قد تسألني وتقول: هناك هم في صدري. أقول لك: اقرأ كلام الله تقول: هناك ضيق في الصدر. أقول لك: اقرأ كلام الله. تقول: أحس بعض الأحيان بالوحشة. أقول لك: ارجع إلى كلام الله جل وعلا: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]. انظروا إلى بيت الفضيل بن عياض الذي كان يسمى عابد الحرمين؛ رجل بلغ القمة في العبادة والزهد، هذا الرجل كان عنده ولد اسمه علي، وكان أعبد منه وأزهد؛ لأن رب الأسرة إذا كان صالحاً يخرج أولاداً صالحين هذا في الغالب والعموم: إذا كان رب البيت بالدف ضارباً فشيمة أهل البيت الغناء والرقص هذا الرجل دخل إلى البيت يوماً فرأى ولده علي بن الفضيل كأنه متضايق يجول في البيت وكأن شيئاً أصابه، فقال له: ما بالك يا بني؟ ما الذي جرى؟ قال: يا أبي تفكرت في النار كيف الخلاص منها؟ -انظر بماذا يهتم الابن ويفكر، أسألكم أيها الآباء: هل دخلتم إلى المنزل يوماً واشتكى الابن من شيء من أمور دينه؟ - قال: يا أبي تفكرت في النار كيف الخلاص منها؟ ثم قال: يا أبي أسألك أن تسأل الذي وهبك إياي في الدنيا أن يهبك إياي في الآخرة، ثم بكى، يقول الفضيل: فأحزنني فأخذت أبكي. علي بن الفضيل كان ليله قيام ونهاره صيام، يقولون: ما كان يطيق أن يقرأ سورة القارعة سورة القارعة التي نرددها صباح مساء ونقرؤها ولا نتدبرها، علي بن الفضيل كان لا يستطيع قراءتها كلها، بل كان ما يطيق أن يسمعها من غيره. وكان سفيان الثوري يحدث الناس في المسجد، فإذا به يسمع شاباً يبكي بكاء شديداً، فقال: من هذا الذي يبكي؟ قالوا: هذا علي بن الفضيل بن عياض، فقال لهم: والله لو علمت أنه في المجلس ما حدثتكم عن النار. سألتني امرأة بالهاتف يوماً فقالت: يا شيخ أريد أن أنتحر. لا إله إلا الله! في بلاد المسلمين ومن أب وأم مسلمين! لِمَ تريدين الانتحار؟ تقول: جربت كل أنواع المعاصي والفساد، والآن إذا لم تكلمني وتردني عن الانتحار فسوف أنتحر. الله أكبر! أتعرف لماذا؟ {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي} [طه:124] أي قرآن في جوفها؟ أي ذكر لله؟ أي صلاة؟ أي عبادة؟ {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:124 - 126]. أيها الآباء: حرضوا أبناءكم على حفظ كتاب الله، وأتوا بهم إلى حلقات القرآن. أيها الشباب: استغلوا أعماركم في حفظ كتاب الله فأيما إهاب -جلد- خالطه كلام الله فقد حرمه الله على النار، (يقال لصاحب القرآن يوم القيامة: اقرأ وارتق ورتل، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها). يلبس تاج الوقار، ويكرّم أبوه وأمه عند الله جل وعلا يوم القيامة فإن أكبر شرف وأكبر عزٍ لك يوم القيامة عندما يأتى ابنك وقد ختم كتاب الله جل وعلا. هل تريد يا أخي الكريم! أن يكون ابنك حافظاً لكلام الله أو مطرباً؟ اسأل نفسك هذا Q أيهما أشرف لك، وأكثر رفعة وعزة: أن يملأ صدر ابنك كلام الله جل علا، أم يملؤه الغناء والطرب؟ فكر، وكن صادقاً مع نفسك، فإن العبرة ليست في الدنيا، إذا تعلق الابن بأبيه يوم القيامة {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37]. أخي العزيز: لنرجع مرة أخرى إلى كتاب الله قراءة وحفظاً وتدبراً، يقول تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] فهذا سعيد بن جبير قام ليلة كاملة بآية واحدة يرددها ويبكي، وهو أحد التابعين، ومن أعبد الناس، يقوم ليلة كاملة بقوله تعالى: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} [يس:59].

العمل بالقرآن

العمل بالقرآن كتاب الله عمل. نقرأ ونتعلم ثم نعمل، فهذا عمر بن الخطاب أغضبه يوماً عبد من عبيده، فكاد أن يضربه، فقرأ قول تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} [آل عمران:134] فقال عمر: كظمت غيظي قال: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران:134] فقال: عفوت عنك قال: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134] قال: أنت حر لوجه الله. انظر كيف كانوا يتعاملون مع كتاب الله!! {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَة إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36] فهم يلتزمون ويحتكمون بكتاب الله جل وعلا.

الحكم بين الناس بالقرآن

الحكم بين الناس بالقرآن إذا اختلف الناس وتنازعوا فعليهم أن يرجعوا إلى كتاب الله، قال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة:49] فكل من انصرف عن الحكم بكتاب الله فإنه يتبع هواه {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة:49] لو تركت شعيرة من شعائر الإسلام وقلت: أحكم بالكتاب كله إلا هذه، قال الله: {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:49 - 50] ويقول صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وسنتي). وأشكركم مرة أخرى أيها الإخوة الكرام على حضوركم وصبركم في هذا المجلس. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

الحث على حفظ كتاب الله

الحث على حفظ كتاب الله Q ما الفائدة من حفظ كتاب الله والله يقول: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124]؟ A أنا أظن أن الآية دليل على الذي لا يحفظ كلام الله ولا يقرأ كلام الله، فالآية -أيها الأخ الكريم- دليل على استحباب التعلق بكتاب الله وقراءته وتدبره وحفظه، بل الآية من أوضح الأدلة على هذا، ولعلك تقصد آخر الآية: {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:126]. يقول العلماء: حفظ القرآن ونسيانه على مراتب: من نسيه مع مراجعته ومعاهدته فإنه لا شيء عليه، لكن من حفظ القرآن ثم تركه وهجره ونسيه وضيعه فإنه يأثم، وليس معنى هذا أننا لا نحفظ، بل احفظ كلام الله فإنه يعينك على مراجعته ومعاهدته. والله أعلم.

ضعف الهمة بعد الدروس

ضعف الهمة بعد الدروس Q الآن هممنا عالية لكن بعد الدرس نضعف، فما هو الحل؟ A ومن منا لا يضعف بعد الدرس؟ ألم يشتكِ حنظلة من هذا الأمر؟ وقال: (يا رسول الله! إذا كنا عندك كأننا نرى الجنة والنار رأي العين، فإذا ذهبنا إلى أهلينا وأولادنا وعاشرنا النساء والضياع نسينا. قال: لو تكونون كما كنتم عندي -أي: لو ظللتم على هذه الحالة- لصافحتكم الملائكة في الطرقات) فكل واحد يجعل له مجلس ذكر في البيت، ويبدأ يذكر نفسه حتى بين الأولاد والأهل اجعل لك مجلس ذكر في بيتك في الأسبوع مرة تقرأ رياض الصالحين، واجعل لك مسابقة في حفظ كتاب الله، فأنا أعرف أحد أولياء الأمور عندنا في الكويت يجعل مكافأة مالية وسفر الصيف تكريماً لحفظ كتاب الله، يقول: إذا لم تحفظوا فلن تسافروا، والذي يحفظ له جائزة زيادة. يعطيهم أموالاً ويشتري لهم جوائز ويقول: والله لو تدخل علينا في البيت تفرح؛ هذا يحفظ، وهذا يسمع، وهذا مستعجل يقول: يا أبي كم بقي على نهاية الصيف، وكم بقي على الحفظ، فهل جربنا هذا؟ (لو كنتم كما تكونون عندي لصافحتكم الملائكة في الطرقات) ولعل الإنسان قد يصل إلى هذه المنزلة، ألم تأت الملائكة وتسلم على بعض الصحابة وتمثلت ببعض الصحابة؟ بلى.

أمور تعين على حفظ كتاب الله

أمور تعين على حفظ كتاب الله Q ما هي الأشياء التي تعيننا على حفظ القرآن؟ A أولاً: دعاء الله. ثانياً: الإخلاص، وبغير إخلاص لا تستطيع أن تحفظ. ثالثاً: فراغ القلب، فإذا جئت للحفظ فلا تشغل نفسك أبداً، لا تفكر في أي شيء من أمور الدنيا، اشغل نفسك بكتاب الله، وحاول أن تحفظ. رابعاً: اختر الأوقات المناسبة، وأفضلها بعد الفجر؛ لأن القلب فارغ، والذهن غير مشغول. أيضاً: التزموا بمصحف واحد، فلا تحفظ -مثلاً- في مصحف مجمع الملك فهد، ومرة في مصحف الحرمين، ومرة في مصحف من طبعة أخرى، حاول أن تلتزم بمصحف واحد برقم واحد، وحاول أن تحفظ بشكل واحد حتى تحفظ مكان الآيات. خامساً: المراجعة، فإذا حفظت آيات راجع التي قبلها حتى لا تنسى لأن القرآن كما يقول صلى الله عليه وسلم: (أشد تفلتاً من الإبل في عقلها). أيضاً: اجعل لك مدرساً تسمع عليه وتعاهده ويعاهدك، وليكن شديداً بعض الشيء عليك، وليس من أقرانك كلما أردت أن تتكاسل قلت له: اليوم لا أسمع، لا. بل يلزمك بالتسميع. ثم ادع الله عز وجل أن يعينك. هذه بعض الوسائل لحفظ كتاب الله جل وعلا.

نسيان القرآن

نسيان القرآن Q جاء في بعض الأحاديث: أن من أعظم الذنوب نسيان القرآن فما تعليقكم؟ A ذكرنا قبل قليل أن الإنسان لابد أن يتعاهد ويراجع دائماً، ويقرأ في السنن.

أجر طباعة القرآن

أجر طباعة القرآن Q ما رأيكم في المساهمة في طباعة المصحف الشريف؟ A أعظم الأمور في ذلك إذا لقيت الله أن تطبع كتابه جل وعلا. قد تقول: يا شيخ المصاحف متوفرة. أقول: في بعض الدول ما عندهم صفحة من كتاب الله، وفي بعض البلاد لاتصلهم مصاحف، وأنا أعلم أن بعض المشاريع الخيرية تطبع لك المصحف وتوزعه في هذه البلاد وأنت جالس في بيتك. يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث منها: علم ينتفع به) وهل هناك علم أعظم من القرآن الذي صلاح الأمة به؟! فعليكم بطبع كتاب الله وتوزيعه، ولا تبالوا بمن يثبطكم عن هذا الأمر. ثانياً: أرجو الإعلان للحضور بأن جمعية دار البر تقوم بطباعة المصحف بأحد عشر درهماً، أي بدينار كويتي، فاطبع ولو في الشهر نسخة، اجعل لك في كل شهر مصحفاً تطبعه، وستجدها عند الله، فكل من قرأ حرفاً بحسنة والحسنة بعشر أمثالها وكلها في ميزانك عند الله، فإنك قد لا تقرأ إلا القليل لكن انظر من الذي يقرأ في المصحف الذي طبعته ووزعته، وأنا أرجو من كل واحد منا إذا خرجنا أن تساهموا بما تستطيعون لطبع كتاب الله، ولا تؤجل عمل اليوم إلى الغد.

مساهمة الأسرة في حفظ كتاب الله

مساهمة الأسرة في حفظ كتاب الله Q ألاحظ بين أسماء الفائزين في المسابقة ثلاثة إخوة من أسرة واحدة، فما تعليقكم على هذا؟ A بارك الله فيهم وبارك في والديهم. يقولون: أكثر الأولاد وراءهم أمهات، واسمحوا لي أيها الآباء، أن أقول: إن أغلب الأولاد تجد الأم تتابعه وتحثه على حفظ كتاب الله، ولهذا اختر الزوجة الصالحة، عليك بذات الدين، (اظفر بذات الدين تربت يداك) الأب قد يكون مشغولاً ولكن من الذي يجلس عند الأولاد؟ من الذي يربيهم أربع إلى خمس سنوات؟ من الذي يعلمه ويربيه وينشئه على القرآن؟ إنها الأم الصالحة، والأب له دور عظيم، ونعم لا ننكر هذا، فأنا أعرف بعض الأولاد منهم الخاتم ومنهم من يحفظ عشرين جزءاً ومنهم عشرة أجزاء، بل أذكر عندما كنا في المملكة أثناء الأزمة التي مرت كنت في المسجد وكان هناك أب عنده ما يقارب أحد عشر ابناً نصفهم تقريباً ختم القرآن والنصف الآخر في الطريق، أحد عشر كوكبة، كل صلاة تلقاهم جالسين هذا يراجع وهذا يسمع الله أكبر! والله لو كان عندك أولاد مثل هؤلاء تنسى الدنيا كلها، ولو أنك تنام على حصير وتأكل كسرة خبز، هذا طعامك وهذا ما تملكه من الدنيا وعندك أولاد مثل هؤلاء والله لكأنما حيزت لك الدنيا بحذافيرها. فاحرص على الأولاد، وجعلهم يلتحقون بهذه الحلقات، وإذا لم يكونوا في حلقات فقم أنت بتشجيعهم بمالك وبما تملك. قبل الأخير: هل يجبر الأهل أو الأصدقاء على حفظ القرآن؟ الجواب: لا يجبرون على ذلك، لكن الحث، والترغيب قبل الترهيب (يسروا ولا تعسروا، بشروا ولا تنفروا) وأسلوب المكافئة للأطفال وأما إذا ضربته فقد يحفظ اليوم وينسى غداً، بل قد يكره القرآن الذي حفظه؛ لأنه ضرب لأجله، لذلك أنا أنصح الآباء بالتي هي أحسن، بالمكافأة وبالجائزة والتشجيع وتقدم الابن الذي يحفظ أكثر، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقدم حتى في القبر يقدم حافظ القرآن على غيره، وكان يقول: (يؤمكم أقرؤكم لكتاب الله) وكان الصحابة في الجيوش يقدمون الأقرأ، الذي يحفظ أكثر ولو كان أصغر سناً، بل ثبت عن عمرو بن سلمة وكان عمره سبع سنوات أنه كان يصلي بالناس، وكان أكثرهم حفظاً، وابن عباس كان عمره عشر سنوات وليس يحفظ القرآن فقط، بل تفسيره وأحكامه وكل شيء عن القرآن، حتى سمي ترجمان القرآن وعمره عشر سنوات، وكل كتب التفسير فيها: قال ابن عباس، وكان عمره عشر سنوات لما توفي رسول الله. إذاً الله الله في الرجوع إلى كتاب الله. نسأل الله أن يثبتنا وإياكم، وجزاكم الله كل خير، وأشكر الإخوة الفضلاء الذين أقاموا هذا المشروع وهذا البرنامج والذين حضروا، وأسأل الله جل وعلا أن يكونوا قدوات لغيرهم، وجزاكم الله خيراً. والحمد لله رب العالمين.

أخطار تهدد البيوت

أخطار تهدد البيوت من الأخطار التي تهدد البيوت: الخمور والمخدرات، فقد تفشت ودخلت كثيراً من البيوت، حتى إن بعض البنات يغلقن على أنفسهن غرفهن بالمفاتيح خوفاً من آبائهن الذين صاروا في حالة سكر لا يعرفون معها ماذا يعملون، وكذلك المخدرات التي قد أدمن عليها الكثير من الأبناء والبنات والآباء. ومن الأخطار أيضاً: السحر، حيث يستخدم في التفرقة بين الزوج وزوجته، وبين الوالد وولده. ومن الأخطار أيضاً: التلفاز والدش اللذان عم فسادهما في الأمة.

الأخطار المحدقة بالبيوت

الأخطار المحدقة بالبيوت إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أيها الأخوة الكرام: حديثنا في هذه الخطبة عن بيوتنا وأسرنا، وعن هذه الأماكن التي نعيش فيها كيف نعيش؟! وما هي الأخطار التي تهددها؟! عبد الله: قبل أن أبدأ بالكلام عن هذه الأخطار والمصائب التي داهمت بعض البيوت، إياك ثم إياك أن تجيبني فتقول: الحمد لله! بيتي خالٍ من هذه الأمور الحمد لله! لم أر كل هذا في بيتي، لا تقل ولا تجب بهذه الإجابة فإنك من بيت جارك قريب، وابنك يلعب مع أبناء الجيران؛ بل يدرسون في مدرسة واحدة ابنك مع ابن فلان وابن فلان، بل إنك تعيش مع البيوت التي بجوارك عيشاً واحداً ابنك معهم، وابنتك مع بناتهم، وزوجتك تزورهم ويزورونها. عبد الله: إن ما يحدث في بيوت كثير من المسلمين لمصائب خطيرة، لا نستطيع السكوت عنها، بل لا يستطيع أحد منا أن يصبر عليها، وسوف نتكلم عن جزء يسير عما يحدث في بعض بيوت المسلمين، وإلا فلو استرسلنا لطال بنا المقام، فالمعاصي التي بدأت تدخل بعض البيوت، سوف نتكلم عن جزء وطرف منها

الخمور والمخدرات تهدد البيوت

الخمور والمخدرات تهدد البيوت أولاً: ما داهم بعض البيوت من الخمور والمخدرات والمسكرات، ولا أتكلم عن خيال، بل يأتيني بعض الشباب في هذا المسجد يشتكي لي من سلات المخدرات، تدخل دور الأحداث، وسلوا المتخصصين وأهل الأمن: هل هي منتشرة أم لا؟ بل إن بعض أبناء المصلين قد أصابهم هذا الداء داء ومرض تشتكي منه الدول العظمى قبل الدول الصغرى، يحاولون حربه والتخلص منه، يطبقون أقصى أنواع العقوبات ولكنه ينتشر، يمنعونه بكل الوسائل لكنه يفشو، يحاولون حربه لكنه ينتصر هل تعرفون ما الحل؟! لا حل في نجاتنا من هذه المخدرات ودائها وانتشارها حتى في هذا المجتمع إلا بالدين، وبالرجوع إلى المساجد، وبقراءة القرآن. اجلس مع بعض الشباب في تلك الزوايا وفي تلك الأماكن المظلمة، وسلهم عم يصيبهم وعم يعانون منه؟ يقولون لك: المخدرات لا نستطيع التخلص منها؛ بل إن هناك بعض صغار السن قد أصيبوا بهذا الداء، كان في البداية هزلاً ومزاحاً، وكان يلائم أصحابه ويسايرهم ولكنه بعد هذا أصبح إدماناً، ثم لا تسل عما يحدث بعد المسكرات والمخدرات من جرائم، بعض البنات في بعض البيوت وقد سمعنا هذا من الثقات يقولون: إنهن يغلقن على أنفسهن الباب بالمفتاح خوفاً من آبائهن وإخوانهن، تعلمون لِمَ؟ لأن الآباء في حال السكر لا يعرفون ماذا يفعلون!! عباد الله: إنها بيوت قريبة لو كنا نعلم إنها بيوت بدأت تنتشر ونحن لا نشعر، هذا أول داء هدم كثيراً من البيوت، حتى أصبحت بعض النساء تذهب خارج البيت تبحث عن المال؛ لأن الأب قد أنفق جميع معاشه على المخدرات، بل استدان واقترض مالاً في سبيل المخدرات، لأنه لم يستطع أن يتخلص منها، بل إن بعض الرجال يسرق مال زوجته وذهبها ليشتري به المخدرات، بل إن بعض الرجال قد فصل من العمل، وطرد من الوظيفة، وجلس في البيت وتجولت امرأته في الطرقات تبحث عن مال تطعم به أولادها وأطفالها وتحفظ به نفسها، ثم بعد هذا باعت عرضها، فدمرت البيوت، هل تعرفون ما البداية؟ البداية: أن صاحب سوق دخل البيت، أو تعرف عليه الولد في المدرسة، أو صاحبة سوق تعرفت عليها البنت في الثانوية، أو في الأسواق، أو مع الجيران، وكانت في البداية حبة صغيرة وضعت في كأس من البيبسي أو الماء أو العصير فتلذذت به وتلذذ بها، ثم الحبة تلتها أخرى، ثم أصبح الأمر إدماناً، ثم تهدمت البيوت، هذه معصية من المعاصي، وهي كثيرة سوف نسرد بعضها.

السحر وتدميره البيوت

السحر وتدميره البيوت عباد الله: إن مما يدمر بيوت المسلمين هو ما يحدث في هذه البيوت من السحر والكفر بالله العظيم، حتى أصبح كثيراً من الناس يشتكي ويقول: لا أستطيع أن أجامع زوجتي، والولد يشتكي من مرض لا سبيل له، والأم تشتكي من الزوج، حتى إن بعض الناس قد يذهب إلى بلاد أخرى ليفك سحره بسحر آخر، بل أتاني كثير من الناس، بل للأسف بعضهم من المصلين يعطيني أوراقاً يشتكي منها ليس فيها إلا طلاسم وسحر وشعوذة، فماذا كانت النتيجة؟ الانفصال عن زوجته. نعم! إن للسحر حقيقة: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة:102] لا يراقب أحد منا من يدخل بيته، ولا يحذر مِمن يدخل بيته، فعندما يدخل فلان وتدخل فلانة، يضعون الأوراق وتلك الخرزات، ويشرب هو من بيت الجيران أصحاب سوء الذين لا يعرفون ذكر الله ولا الصلاة، أو يأخذ بعض الخيوط، أو يشتكي من فلان، والمصيبة أن هذا الرجل قد يكون صاحب دين لكنه من أفجر خلق الله؛ بل لعله يكفر بالله العظيم. عباد الله: إن ما يحصل في كثير من البيوت، نعلم عنها ويعلم عنها بعض الناس، ويدخل إلى هذا المكان ويشتكي لي أنه قد طلق زوجته، وأن المرأة قد هربت من البيت، وأن البيت قد ضاع، والأولاد قد تركوا البيت أكثر من شهر وشهرين، وأن البيت قد انهدم كل هذا كان بسبب ورقة، أو بسبب خيط، أو بعض الخرزات، أو بسبب فلانة الساحرة التي كانت تتردد على البيت، يقول: أستحي أن أطردها سبحان الله! الآن تجرع مرارة هذا الحياء الآن تحمل عقوبة هذا الذنب الذي ارتكبته؛ أنك سمحت لها أن تأتي إلى هذا البيت، بل والله لو كانت من أقرب الأقربين، أو من أقرب الأرحام، فلتطرد من البيوت. حد الساحر -يا عباد الله- القتل؛ لأنه لا يستحق الحياة على وجه هذه الأرض، لأنه يفرق بين الناس، ولأنها تفرق بين الخلق.

التلفاز والدش وتدميرهما للبيوت

التلفاز والدش وتدميرهما للبيوت ومن المنكرات التي دخلت بيوت كثير من المسلمين وهم لا يشعرون ولا يأبهون بها: هذا الجهاز الخبيث الذي يسمى (التلفاز) الذي جلب لنا بعده الفيديو، ثم صار الأمر أخطر من هذا وأكبر وأعظم، حتى ركبت الصحون على البيوت، وهذا البث المباشر الذي ملأ كثيراً من أسقف المسلمين، فيعرض فيه وينشر من خلاله العهر والدعارة والعري والفسق والمجون، ثم يقوم ويشتكي رب الأسرة، ويقول: لا أستطيع أن أرد الأولاد، ثم يشتكي ويقول: لو لم أشتره لاشتروه ووضعوه فوق البيت كيف أصبحت رباً للأسرة؟! ألست راعياً ومسئولاً عن رعيتك؟! {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6] هل هكذا تقي أهلك وأولادك وبناتك من النار؟! عبد الله: كن عاقلاً. يا عباد الله! إن هناك من الصحون (الدشوش) في هذا الزمان ما لا يحتاج رب الأسرة إلى أن يضعه فوق السطوح؛ بل في الغرفة، ثم تأتي لك بجميع البرامج من جميع أنحاء العالم، لتختر منها ما تشاء، ولتضع يدك على الزر الذي تختاره، فتأتيك تلك الأفلام والمسلسلات الماجنة الخليعة من الذي ينظر إليها؟ إنها ابنتك، وأختك، وزوجتك، وجارتك، وبنت عمك. وإن لم تمنع هذه الصحون (الدشوش) من البداية، وإن لم تقطعها من دابرها، فسوف تصبح كالتلفاز، كما أننا الآن لا نستطيع أن نمنع (التلفاز) وقد كان فيمن كان قبلنا رجال صالحون إذا قيل لهم: أدخلوا (التلفاز) في بيوتكم؟ قالوا: كلا ولا. لن ندخل (التلفاز) إلا على قطع رقابنا؛ ولكن البلاء قد انتشر، والآن عندما يقال للصالحين: أدخلوا الصحون (الدش) في بيوتكم، وهذا البث المباشر يقولون: لا والله! لا ندخله إلا على قطع الرءوس، فنحن إن سكتنا على هذا المنكر، وإن انتشر في البيوت التي بجوارنا فسوف يدخل بيوتنا، بل إن بعض (الصحون) لا تنقل هذا البث في بيتها فقط؛ بل حتى في البيوت المجاورة، فيضع الفاسق أو الماجن بثاً مباشراً على سطح بيته فينتقل هذا البث إلى بيوت الجيران من غير أن يشتروا هذه الدشوش. عباد الله: عندما نقلب الصفحات والجرائد نتعجب من شاب عمره ثلاث عشرة سنة يسرق ويقبض عليه سارقاً للذهب والمجوهرات! أو عمره خمس عشرة سنة قبض عليه وهو يتعاطى المخدرات! أو بنت عمرها ست عشرة سنة تبيع ذهب أمها ثم تسافر إلى خارج البلد وتهرب! أو عمرها ثماني عشرة سنة هربت من بيت أبيها ولم يجدها إلا بعد شهر! ونتعجب كيف يتعلم ذلك الشاب كيف يسرق من الناس الذهب والسيارات والبيوت والمجوهرات والخزائن؟! بل نتعجب كيف تعلمت هذه البنت الصغيرة كيف تخرج من بيت أبيها وأمها؟! أتعلمون ما هو السبب؟ أو ما هو الطريق؟ إنه ذلك الجهاز الذي اشتريته بمالك وكدك وجهدك ثم وضعته في البيت، ثم بعد هذا لا تسأل يا عبد الله: كيف حصل للبنت كذا؟ أو كيف تعلم الابن هذا؟ فأنت المسئول عند الله جل وعلا يوم القيامة سائلك عن ولدك، وعن زوجتك، وعن أهل بيتك، وعن من تمولهم وتعولهم، يسألك الله عنهم يوم القيامة: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر:8] سائلك عن مالك من أين اكتسبته؟ وفيم أنفقته؟ وسائلك عن بيتك هل حفظته أم لا؟ عبد الله: التفت قليلاً إلى بيتك، وارجع قليلاً إلى أهل بيتك، واجلس معهم وفتش في أهل بيتك عن هذه المنكرات، ولا تقل يا عبد الله: كل الناس مثلي وكل الناس يفعلون ما أفعل {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103]. أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

رب الأسرة هو المسئول الأول عن بيته

رب الأسرة هو المسئول الأول عن بيته الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. أما بعد: ما ذكرناه -أيها الإخوة- إن لم يكن في بيتك فاحمد الله، وسل الله العافية، واحرص على أهل بيتك واحفظهم. ولكن أخبرك أن كثيراً من البيوت قد دخلها ما أقول! بل قد تجد المصلي الراكع الساجد يأخذ ابنته كاشفة شعرها ووجهها، ويخرج بها إلى الطرقات، وينزلها في الأسواق، لتذهب وتشتري وترجع، بل أقسم بالله أنني رأيت بعيني أباً كبيراً في السن من أهل الخير والصلاح تسير ابنته خلفه في الأسواق، كاشفة متعطرة متبرجة، يتبعها الرجال ولا يلتفت إلى ابنته أي دياثة أعظم من هذه؟! بل أي انطفاء للغيرة بعد هذا؟! عباد الله! يصبح الأمر إلى أن كثيراً من المصلين يسمح لابنته أن تخرج إلى المدرسة بلباس فاضح مع من تذهب؟ لا أدري متى ترجع؟ اذهبوا فاسألوها، إن شاء الله هي شريفة وعفيفة، ترجع من المدرسة إلى البيت وقد نظر إليها وافترسها مئات من الذئاب، وهو لا يعلم، أتعرفون ماذا يعرف؟ أو فيم يتعلم؟ أو على ماذا يجلس ويقوم؟ على الدينار والدرهم، أو على ماذا يسافر؟ ولماذا يرجع؟!

أيها الآباء! احرصوا على بناتكم

أيها الآباء! احرصوا على بناتكم عباد الله! لا نريد أن نكون في هذه الخطبة صريحين أكثر من هذا، فليفتش كلٌ منَّا بيته. عندما تدخل البنت البيت وعمرها أربع عشرة سنة، والمصيبة أنه يقول: جاهلة لا تعرف؛ ولو أنها تزوجت لأنجبت كثيراً من الأولاد، وهو يقول: إنها صغيرة ومسكينة، تدخل إلى البيت، وتأتي بالهاتف، وتدخل الغرفة وتغلق على نفسها الباب، وتتكلم الساعة والساعتين مع من تتكلم؟ تضحك عليك وتقول: مع الزميلة والصاحبة، حتى لو كانت الزميلة والصاحبة لِمَ لا تتكلم أمام الوالدة وأمام الوالد؟ ولماذا تكون المكالمات أكثر من ربع ساعة أو نصف ساعة؟ أي مكالمة هذه التي تستدعي كل هذه المدة، وتستدعي أن تغلق على نفسها الباب، وتستدعي ألا يكون في البيت إلا جهاز واحد؟ عباد الله: لنكن عاقلين وصريحين مع أنفسنا، لماذا هذا التقصير؟! لماذا هذا التهاون؟! أصبح الأب لا يرجع إلى بيته إلا في منتصف الليل؟! أين كنت؟ في المجالس ماذا تفعل؟ أتحدث نقضي الوقت يرجع لينام، ثم يقوم ويخرج، وإذا سألته عن التربية؟ قال: الحمد لله! يأكلون أحسن الأكل، ويشربون أحسن الشراب، ويلبسون أحسن الملابس، وكلهم أوائل في الدراسة، فهل هذه هي التربية فقط؟! عبد الله: إن أعظم التربية هي تربية الدين والإيمان تعلمهم الصلاة، تمنعهم من هذه الأمراض، تعلمهم حسن الأخلاق، وتحذرهم من أصحاب السوء، ومن المنكرات والمعاصي. لقد أصبح بعض الدعاة إذا خاطب امرأة وقال لها: اتق الله واستتري، ترد عليه وتقول: وأنت ما دخلك؟ ولست مسئولاً عني، وماذا تريد؟ ما الذي جعلها ترد بهذه الكلمات وبهذه الجرأة؟! إنهم أولئك أشباه الرجال الذين سمحوا لها أن تخرج من البيت كاشفة عارية ولا يسألون عنها، بل إن بعض البيوت وصل بها الحال إلى أن المرأة هي التي تأمر وتمنع الرجل! وهي التي تأتي بالمال لتصرف على البيت! أي بيوت هذه البيوت؟! إذا كنا -ولنقلها صريحة- نسير خلف طريقة أهل الغرب والكفر والعربدة ونتبع سنن الذين كانوا قبلنا من اليهود والنصارى فلنقلها صريحة. أما هم! فالأم تبيع ولدها في دور الحضانة تبيعه بيعاً لتطلب منه الثمن. أما هم! فالزوج يأتي بصديقته داخل البيت، والزوجة تأتي بعشيقها داخل البيت. أما هم! فلا يعرف أمه إلا في يوم واحد في السنة (في عيد الأم) يأتي ليطمئن على أمه هل هي لا زالت حية أم لا؟ أما هم! فالأم تقتل ولديها في سبيل عشيقها. أما هم! فلا يعرفون بيتاً ولا أسرةً ولا راحةً ولا سكناً، يعملون اختباراً للجيش في بعض بلاد الغرب التي نتأسى بها ونسميها دولة حضارية ودولة مدنية، من كل سبعة يستثنى ستة ولا يبقى إلا واحد تعرفون لماذا يستثنون؟ لأن فيهم أمراضاً جنسية ووبائية تنتشر، من كل سبعة ستة، وقد أجريت إحصائية في سنوات ماضية قديمة في ثانوية بنات، فوجد أن أكثر من ثلث الثانوية قد حملن بطريقة غير شرعية، وأما البقية فلا يعني أنهن عفيفات! لا. إنما نجحن في تناول حبوب منع الحمل فلم يصبن بالحمل. عباد الله: لنكن صادقين، يأتيني شاب في صبيحة عرسه يبكي عندي وتتساقط الدموع من عينيه، أقول: ما الذي جرى؟ يقول: لا أستطيع أن أتكلم، يقول: زوجتي بنت عمي دخلت عليها في الليلة الماضية فاكتشفت أنها ليست بكراً، وأول من يتزوجها أنا، واتضح لي الأمر أنها كانت تعاشر الرجال قبلي، وكأنه يريد أن يبكي دماً، يقول: لم أكن أصدق ماذا أفعل؟ أريد أن أقتلها بفتوى واحدة. عباد الله: أتعرفون أبنت من هذه؟ إنها بنت الجيران إن لم تكن بنتك بيوت أهل الحي إن لم يكن بيتك إن لم يكن بيتك قد وصله بعض هذه المنكرات فإنها بيوت الأقربين والقريبات. عباد الله: لنكن حازمين في البيت، المنكر لا نسمح به، وصاحب السوء لا يدخل البيت، والذي لا يصلي والتي لا تصلي لا نسمح لهم بدخول البيت. نعم يا عباد الله! هكذا نكون حازمين، فهذه الأجهزة الخبيثة الخليعة، إن كنت رباً للأسرة ومسئولاً عنها فأخرجها من البيت ماذا سيحدث؟! الحمد لله! إن كثيراً من البيوت في هذه الأيام لا يدخلها (التلفاز) ولا ينتقد أحد هل عاشوا في ظلام كما يقولون؟! هل عاشوا في جهل؟! لا والله، هم أعلم وأفقه وأحفظ الناس في دينهم وأعراضهم، هل عاشوا في كآبة وضيق ونكد؟! لا والله، بل هم أسعد الناس في البيوت. نختم بهذه القصة: كان رجل كبيراً في السن، قد أدخل على بيته التلفاز، وكان يعيش في سعادة، ولم يكن يعلم ما العاقبة؟ فتوفاه الله عز وجل، ولما مات رآه صاحب له في المنام، يقول: كنت نائماً في المسجد، فرأيت فلاناً الذي توفي قبل فتره، رأيته في المنام، ووجهه قد اسود وقد تعذب، نظرت به يستغيث بي يقول: يا فلان! أنقذني، قلت: ما الخبر؟ قال: أخرج التلفاز الذي وضعته في البيت، قال: فانتبهت له، فرجعت مرة أخرى للنوم ثلاث مرات، قال: فرأيت نفس الرؤيا، قال: ففزعت من النوم وذهبت مسرعاً إلى بيت صاحبي، قال: فطرقت الباب، واستقبلني أولاده، فجلست معهم، وقلت لهم: أيها الأبناء! لو علمتم أن أباكم قد دخل النار أكنتم تفتدوه بماذا؟ قالوا: بجميع أموالنا وبجميع ما نملك، قال: إن أباكم قد أتاني في المنام وقال لي كذا وكذا، فإن شئتم فأخرجوا هذا التلفاز إن شئتم رحمة أبيكم، وتفكوه من هذا العذاب فأخرجوا هذا التلفاز البلاء والداء والشر، ومكر الخبائث، وهو مروج الدعارة في كثير من البيوت -لا نقول كلها- فأخرجوا ذلك التلفاز، وبكوا بكاء شديداً وهم يكسرون هذا التلفاز رحمة بأبيهم. رحمة بأنفسنا -يا عباد الله- وبأولادنا وزوجاتنا، رحمة بأهلينا، وأقاربنا، نمنع هذه المنكرات. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اللهم أعداءك أعداء الدين، اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر. أقول هذا القول، وأصلي وأسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الشباب والقرآن

الشباب والقرآن بدأ الشيخ حفظه الله في هذا الدرس بالمقارنة بين الشباب في زمن الصحابة والتابعين والسلف الصالح وبين شبابنا اليوم الذين هرولوا وراء الموسيقى والنساء والمخدرات فذكر من السلف الصالح ابن تيمية والنووي والشافعي في سن شبابهم ووضح علو همتهم. وبعد ذلك ذكر قصتين لشابين انجرا وراء قرناء السوء فانحرفا عن الطريق المستقيم. كما عرض لبعض نعيم الجنة، وتحدث عن أحوال أصحاب النار في النار. وختم الدرس بتوضيح طريق الجنة وطريق النار ليسلك الإنسان أيهما شاء، والجزاء يوم يقوم الأشهاد.

مقارنة بين شباب الماضي وشباب الحاضر

مقارنة بين شباب الماضي وشباب الحاضر الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد: فكم يفرح الإنسان عندما يلتقي بهذه الوجوه، ويجلس مع هذه الجموع، في حين أن كثيراً من الشباب في هذا السن وفي هذه الأوقات الله أعلم بحالهم، الخيِّر فيهم من ينام الآن في هذه اللحظات، ومنهم من يسهر أمام التلفاز، ومنهم من يلعب في النوادي والمراكز التي لا تهتم إلا باللعب، ومنهم من يفعل بعض المحرمات، قلما تجد إنساناً في هذا العمر يجلس في بيت من بيوت الله، ولعل الله عز وجل يكتب فيكم ممن قال فيهم: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ} [النور:36 - 37]. أي: يمكن أن يكون عمرك صغيراً لكنك في الحقيقة رجل كما قال الله عز وجل، لا يربط الإنسان في هذا المسجد إلا إذا كان رجلاً، قال تعالى: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ} [النور:37] ما الذي جعلهم يجلسون؟ قال: {يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور:37]. اسمع إلى قصص في مرحلة قبل الشباب يمر بها الإنسان وهي مرحلة المراهقة مرحلة الصبا والصغر يمر بها كل إنسان، انظر إلى أسلافنا ثم تذكر حال الشباب في هذا الزمن أصحابك في الفصل أصحابك في الشارع أقربائك جيرانك، اعرف حال السابقين وحال الناس في هذا الزمن ثم قارن، وأدع لك الحكم لتقارن بين السابق والحاضر.

قصة شاب حفظ القرآن وعمره ست سنوات

قصة شاب حفظ القرآن وعمره ست سنوات هذا شاب يقال له: سهل، من الشباب السابقين، لما أكمل من العمر ثلاث سنوات -أي: ما دخل الروضة- يقول: أول ما تكلم علموه كيف يذكر الله جل وعلا وعمره ثلاث سنوات. لما أكمل من العمر خمس سنوات، أتعرف ماذا حصل؟ صام رمضان كله، واستمر في الصيام إلى أن مات، ولما وصل عمره إلى ست سنوات، ختم القرآن كله، هل منا من يبلغ من العمر ست سنوات؟ أظن أنكم قد تعديتم هذه المرحلة وتجاوزتموها منذ زمن بعيد، عمره ست سنوات ويختم القرآن كله، ولما أصبح عمره تسع سنوات سافر من بلده يطلب العلم يطلب الحديث يحضر الدروس وعمره قد لا يتجاوز التسع سنوات.

الإمام الشافعي في سن الشباب

الإمام الشافعي في سن الشباب هذا الشافعي الذي ينتسب إليه مذهب الشافعية الإمام الجليل، حفظ القرآن وعمره سبع سنوات، من منا الآن ختم القرآن وعمره خمسة عشر سنة؟ لا تجد أحداً! أفضل واحد فينا ختم ثلاثة، أو أربعة أجزاء، أما من ختم عشرة أجزاء فهذا ما شاء الله فهو أفضلنا، وإذا سمعت له تجد أنه لا تفوت عليه صفحه أو صفحتين إلا ويخطئ، ما السبب وما الفرق بيننا وبينهم؟ ما الذي يجري؟ عقول مثل العقول، وأجسام مثل الأجسام، ولحم ودم وشحم الأجساد واحدة ما الفرق؟ الفرق أنهم كانوا منذ الصغر الواحد منهم إذا لعب نصف ساعة جلس الساعات الطويلة يحفظ ويقرأ ويردد ويكتب على الشيخ. الواحد منا الآن إذا حفظ ساعة أو ساعتين لعب باقي الساعات، وهم يلعبون ساعة ويحفظون باقي الساعات، ولهذا وفقهم الله عز وجل وحفظ أوقاتهم.

ابن تيمية وطلبه للعلم

ابن تيمية وطلبه للعلم شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله، هذا الشيخ كان صغيراً، وكان يحمل ألواحاً كبيرة، تخيل كيف كان يمشي مسافات بعيدة على رجليه! ما عنده دفاتر ولا ألواح خشب يحملها من أجل أن يكتب عليها الدرس، في يوم من الأيام رآه شيخ سمع أن هذا الولد نابغة -أي: عقلية جبارة، تقول له الجملة مباشرة يحفظها، هل هذا موجود فينا؟ إذا عملت اختباراً يتبين من النابغة؟ أما شيخ الإسلام فهو نابغة من نوع ثاني- جاء إليه هذا الشيخ فقال له: أنت ابن تيمية؟ قال: نعم. أنا ابن تيمية وكان صبياً صغيراً، قال: أعطني اللوح؟ قال: تفضل، فكتب عليه ثلاثة عشر حديثاً، فقال له: اقرأ، فقرأ عليه، يقول: فأخذت اللوح منه، فقلت: أسمعه عليّ، فقرأ الثلاثة عشر حديثاً كلها قراءة واحدة، حفظ الثلاثة عشر حديثاً، الآن لو أقول لكم: رددوا حديثاً واحداً عشر مرات هل تحفظونه؟ هذا قرأ ثلاثة عشر حديثاً حفظها مرة واحدة بقراءة واحدة. يمكن أن تقول: لا يمكن هذا أتعرف ما الفرق؟ نحن عقولنا امتلئت بقصص، وأشعار، وأفلام، ومسلسلات كرتونية، امتلئت بأسماء لاعبين بأسماء ممثلين وممثلات بأسماء موديلات السيارات بأنواع اللعب وبغيرها من الكلمات التافهة التي لو أتيت يوم القيامة قد لا تدخلك النار لكن لا تنفعك لدخول الجنة، لا تغني ولا تسمن من جوع. إذاً: أخي الكريم! عرفت الفرق بيننا وبينهم؟ ماذا سمى الله عز وجل الذين ذهبوا؟ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا} [الأحزاب:23] رجال! هؤلاء هم الرجال، ليست الرجولة في لعب الكرة، ولا في تمثيل بطولة مسلسل، وليست القضية أن أركب أفخم سيارة وأمشي بين الناس، ليست هذه هي الرجولة! إنما الرجولة في قول الله تعالى: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [النور:23]. هل عاهدت ربك على حفظ القرآن، فهذا هو الصدق وهنا الرجولة. بعض الشباب يقول: عاهدت ربي أن أصلي الخمس الصلوات في بيت الله، وأختم القرآن بعد تسع سنوات، هذا عهد بينك وبين الله، احضر مع الشباب الصالحين، المركز إذا كان عندهم مدرسون في المسجد أو الديوان فاحضر معهم في كل المجالس، هذا عهد بينك وبين الله من يوفي بهذا العهد؟ الرجل، {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} [الأحزاب:23]. من الرجال من قد ذهبوا شيخ الإسلام أين هو؟ ذهب، وكلما قلنا: شيخ الإسلام نقول: رحمه الله، ندعو له، لكن إذا قلنا ذلك اللاعب الذي اعتزل قبل خمس سنوات، نقول رحمه الله؟ لا. بل أقصى ما يحصل عليه هذا اللاعب لو صار نجماً من النجوم، ويصفق له عشرون واحداً في المباراة وفي النادي، ثم يصير أكبر لاعب، ما هي جائزته؟ أعلى جائزة يحصل عليها أنهم يعطونه حذاءً ذهبياً! أسمعتم بهذه الجائزة؟ يعطى حذاءً ذهبياً -أي: يكرم بالحذاء- وإذا قلنا: حذاء في المجلس، ماذا نقول؟ نقول: أجلك الله، وكرمك الله. إذاً: مستواه أن يحصل على حذاء، لأن جدارته وبطولته في جزمته في رجله -أجلكم الله- إذاً أيهما الرجلان؟ قبل أيام فتحت الرادو (المذياع) فإذا بي أسمع لشاب عمره أربع عشرة سنة في الخبر، في السعودية، يقرأ القرآن بأحسن ما يكون، وسأله الشيخ الذي يسمع له، قال: كم تحفظ؟ قال: أحفظ القرآن كاملاً، عمره أربع عشرة سنة، بل أزيدك من الشعر بيتاً، قبل أشهر أعطت المغرب جائزة لشاب ختم القرآن كله وكان عمره سبع سنوات، ختم القرآن كله: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور:37] لا تلهيه الملاعب ولا الشوارع، ولا ألعاب الأتاري والكمبيوتر، ولا النوم على الفرش، ولا صيد الحمام وتربيتها عن ذكر الله، يجعل ساعة للقرآن وساعة للعب.

النووي في صغره

النووي في صغره هذا النووي صاحب كتاب رياض الصالحين، الذي يقرأ في المساجد، هذا الكتاب من أشهر الكتب لهذا الرجل، لما كان النووي شاباً صغيراً يأتون أصحابه إليه، ويقولون له: تعال نلعب! تعال نلهو! وهو يقول: لا أريد أن ألعب، فيجرونه فيبكي عليه رحمة الله، تعرف لِمَ؟ لأنه يحفظ القرآن ويقرأ الكتب، وهم يذهبون ليلعبون. ليس اللعب بحرام، وليس لعب الكرة بحرام، ولكن أخي الكريم أنت -الآن- شاب في مقتبل حياتك، فرق بين شاب منذ الصغر إلى الكبر لا يعرف إلا الكرة، والسيارة والحمام، والمجلات والقصص، وبين شاب يلعب ساعة لكن إذا قلت له: اقرأ {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} [الأنفال:1]، مباشرة يقرأ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1] يقرأ بسرعة. تقول له: اقرأ براءة، يقرأ عليك: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة:1] اقرأ يا فلان {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ} [المجادلة:1] يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ} [المجادلة:1] تأتي إلى فلان من الشباب، وقل له: {اقرأ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} [النصر:1]؟ يقول لك: هل هذه في القرآن؟ تقول له: نعم. في القرآن اقرأ، فلا يستطيع يقرأ، بل اقرأ الفاتحة؟ يضيع بين آياتها، ما الفرق بين هذا وهذا؟ كلاهما يقرأ في الدنيا كلاهما سعيد في الدنيا، هذا يلعب وهذا يلعب، لكن هذا أوقات الفراغ أين قضاها؟

الجنة وبعض نعيمها

الجنة وبعض نعيمها أخي الكريم أخي الشاب! لعلك لا تعرفني، ولم تسمعني من قبل، لكن لعلنا نلتقي يوم القيامة في الجنة، تعرف ما صفاتها؟ وماذا داخلها؟ أخي الكريم! ألا تتمنى أن تدخل الجنة؟ الجنة ليس فيها شمس لكن تقول: كيف يرون؟ من أين تأتي الأضواء وليس هناك كهرباء، فمن أين يأتي النور؟ من منكم يجيبني لا توجد شمس ولا كهرباء في الجنة، فمن أين يأتي النور؟ الوجوه نيرة! نعم. لكن هناك نور كيف؟ الجنة فيها سقف، وجميع الجنان فيها سقف، الآن سقف الدنيا السماء: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً} [الأنبياء:32]. أما في الجنة فهناك سقف هو عرش الرحمن: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] أتعرف ماذا يخرج من السقف؟ أنوار وأضواء تضيء على أهل الجنة. أهل الجنة هل ينامون؟ ليس هناك نوم هل يتغوطون ويتبولون؟ يأكلون الطعام فكيف يخرج هذا الطعام من أجسامهم؟ يخرج منهم عرق، وهل العرق مثل الدنيا رائحته نتنة؟ لا. عرق الجنة مسك، كل ما أكلته يخرج منك بصورة عرق والعرق مسك. أي: لا تحتاج إلى أن تتطيب في الجنة، كل كلما تحب، يخرج العرق مسكاً، ألا تتمنى أن تدخل هذه الجنة؟ تخيل نهراً يجري من لبن نهراً من عسل هل رأيت العسل عندما يسكب؟ شكله جميل عندما ينزل، تخيل نهراً كاملاً يجري من عسل! أخي الكريم! تخيل خمراً لكن ليس كخمر الدنيا، تشرب فيما يذهب العقل، خمر لذة للشاربين، أنهار تجري من تحت بدنه، أمر عجيب حصل له! أخي الكريم! في الجنة وأنت جالس على الأريكة -على الفراش- تشتهي الرمان والفاكهة هل تقوم من الفراش لتقطفها؟ لا. إنما وأنت جالس تشتهي الفاكهة تنزل لك على الفراش، تقطفها وتأكلها تشتهي الماء تشتهي الشراب، تقوم من الفراش؟ لا. يمر عليك الغلمان المخلدون بالكئوس، اشرب كما تشتهي، يمكن أن تقول: أريد أن أجلس مع أصحابي ألعب! تعلب في الجنان، فيها أشجار كل شجرة ساقها ليس من خشب إنما من ذهب تمشي تحت الظل، وبعض الأشجار تمشي مائة سنة لا تقطع الظل. قد يقول قائل: هل نجلس مع بعض ونعلب؟ نعم. نجلس ونلهو ونأكل لا يوجد أحد يقول: وراءك دراسة وراءك عمل وراءك نوم وراءك شغل! لا. العب كما تشتهي. هل هناك صلاة في الجنة؟ لا صلاة، ولا حفظ قرآن، ولا دروس، ولا يأتيك الشيخ فيقول لك: تعال عندنا مركز وتعال وقت الحر، لا يوجد كل هذا، تجلس وتعلب كما تشتهي، وتلهو كما تريد، وتأكل ما تشتهي، مع من؟ هذا هو السؤال المهم! نجلس مع من في الجنة؟ وكيف ندخلها؟ وكيف نحصل على هذه الجنة التي نلعب فيها كما نشتهي؟ اسمع ماذا يقول الله عز وجل مع من تدخلها؟ {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ} [الزمر:73]. عبد الله! تعرف الزمرة التي تدخل معك الجنة؟ الذي كان يقرأ معك القرآن في الدنيا ويصلي معك الذي كنت تجلس معه، فإذا تكلمت بحرام قال لك: لا يجوز يا فلان، لا تغتاب الناس، إذا سببت وشتمت، قال لك: يا فلان! حرام، لا يجوز، اتق الله! تسأل عن هذه الكلمة يوم القيامة، الذي كان يدق عليك الباب يقول لك: يا فلان! تعال نصلي في المسجد، هذا الذي تدخل معه الجنة.

فريق في السعير

فريق في السعير هناك صنف آخر من الناس، تركوا صحبة الصالحين في الدنيا، كان يقول في الدنيا: لماذا أتعب نفسي؟ ولماذا أتضايق وأجلس في المسجد وأقرأ القرآن، وأحفظ، وأحضر الدروس؟ لماذا هذا التعب كله؟ أتمتع بالدنيا حتى إذا كبرت أتوب وأصلي وأدخل الجنة؟ أتعرف هذا الصنف من الناس أين سوف يكون مصيره؟ {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً} [الزمر:71]. يأتي يوم القيامة إلى المحشر أتعرف كم طول المحشر الذي يقف الناس؟ خمسين ألف سنة، الآن كم عشت الآن؟ أربع عشرة سنة، خمس عشرة سنة، بل قد مل بعض الناس من الدنيا، يقف الواحد خمسين ألف سنة على رجله لا يجلس، بعض الناس يعرق حتى يصل العرق إلى فمه ويلجمه إلجاماً. أخي الكريم! بعدها يجمع مع أصحاب الدنيا أهل اللعب أهل الطرب أهل الأغاني أهل المسلسلات والأفلام أهل متابعة النساء، أهل الدخان، هؤلاء كانوا أصحابه في الدنيا، يجمعون يوم القيامة هؤلاء الصنف فريق، وهؤلاء فريق، فريق يذهبون إلى الجنة، فانظر إلى صاحبك الذي كان معك يحفظ القرآن وتركته، الذي كان يضرب عليك الباب، يقول: تعال إلى المسجد فلا تسمع له، تنظر إليه يمشي مع أصحابه إلى الجنة، أما أنت يا مسكين فتجتمع مع أصحاب اللعب والطرب والأغاني إلى أين؟ إلى جهنم، فهل تعرف ما صفاتها؟ النار تتطاير بشرر ترى النار عندما نشعلها يخرج منها شرر لا يؤثر عليك، أتعرف شرار النار كيف حجمه؟ إنه بحجم القصر، أرأيت القصر البيت الكبير، هذا هو شرار النار، فكيف بالنار؟! النار مظلمة، ليس فيها نور، فأول ما يدخل هذا المسكين الشاب جنهم يرى فيها أصحابه من أهل الدنيا، الذين كانوا ينادونه للعب وللهو يقولون: لا. نم. يقول لهم: صلاة، يقولون: ما زلت صغيراً والعمر طويل، والعبادة باقية إلخ.

قرناء السوء في السعير يتلاعنون

قرناء السوء في السعير يتلاعنون أهل أشرطة الأغاني أهل المسلسلات والأفلام أهل الدخان أهل الكلام في النساء أهل المجلات الخليعة، أتعرف هؤلاء ماذا يفعلون في النار؟ أول ما يدخل يلعن صاحبه: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف:38] يسبهم ويشتمهم، ثم بعد ذلك يقول: لا مرحباً بكم، يردون عليهم: {بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا} [ص:60] أنت الذي دللتني على هذا المكان. اسمع إلى هذه القصة! أصحاب النار كانوا في الدنيا أصحاباً فاجتمعوا في النار، قال الله جل وعلا: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف:38] يجتمعون في النار وكل يقابل صاحبه، الذي كان يمنع على أصحاب المسجد، وعلى أصحاب الدين وأصحاب الخير: {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا} [الأعراف:38] ينادون الله، هذا الذي ضحك عليّ في الدنيا، هذا الذي كان يخدعني في الدنيا يا رب! هذا، ماذا تريد يا فلان؟ {رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ} [الأعراف:38]. يقول: يا رب! هذا هو الذي ضحك عليّ في الدنيا، هذا الذي خدعني في الدنيا، هذا الذي أعطاني الشريط، هذا الذي قال: اجلس معنا، هذا الذي منعني عن المسجد وعن حلق الذكر ماذا تريد يا فلان؟ فيقول: {فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ} [الأعراف:38] ضاعف له النار، فهو الذي كان السبب، وهو الذي ضيعني فزده عذاباً في النار، فيرد الله عليه فيقول: {قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:38] نضاعف لهم أيضاً وأنت نضاعف لك النار. ما هو السبب؟ لقد كنت مع أهل الصلاح والدين، تحفظ معهم قرآن وتعلب، تحضر معهم المسجد وتلهو، تسمع المسابقات وتحضر حلق العلم والذكر لكنك ما رضيت تركتهم! نضاعف لك العذاب في النار.

قصة انحراف شاب عن الطريق المستقيم

قصة انحراف شاب عن الطريق المستقيم جاءني شاب قبل فترة إلى المسجد، فأخذ يسلم علينا مع صحبه، وقال: يا شيخ! انظر إلى هذه الصورة، نظرت إلى الصورة، قلت صورة من هذه؟ قال: هذه صورتي، قلت: تكذب عليّ، قال: والله هذه صورتي، قلت: الوجه مختلف، هذه صورتك جميلة الشكل، أما الوجه الذي أمامي فهو قبيح مظلم قلت: ما السبب؟ ما الذي جرى؟ يقول: تعرفت فترة على أناس يقول: أعطوني شراباً لا أعرف ما هو، فإذا فيه مخدرات، ببسي أو غيره، يقول: فشربته وتلذذت بهذا الشراب، وبعد فترة أجبروني على المخدرات، فما استطعت أن أنفك منها، لأن المخدرات إن بدأت فيها لا تستطيع أن تتخلص منها، يضحكون عليه في البداية، ببسي أو عصير أو شاي أو حلوى ويضعون فيها المخدرات، ويقولون: كل هذه الحلوى وهذا يأكلها وهو لا يدري ما هي، فإذا به يتلذذ بها، وبعد فترة يقول: لم أستطع أن أتحمل، تركتهم فهددوني بالسلاح، قالوا: إن لم تتعاط معنا المخدرات نقتلك، يقول: حاولت، أدخلت المخدرات فمي، تعرف كيف يأتي يوم القيامة هذا الشاب ماذا يفعل إن لم يتب: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} [الفرقان:27] يأتي يوم القيامة -الواحد اليوم عندما يتحسر يعض على إصبعه- وهذا يوم القيامة يدخل يديه كلتيهما إلى فمه، ويعض على يديه: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} [الفرقان:27] لمَ؟ {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً} [الفرقان:27]. يا ليتني كنت معهم في حفظ القرآن في المساجد في المراكز أحضر الذكر أتعلم السنة، هذا يوم القيامة وهو يعض على يديه: {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً} [الفرقان:28 - 29]. أيها الشاب! أنت الآن في مقتبل الحياة، لا تدري ماذا يحدث خارج البيت خارج الشارع خارج هذا المحيط أتعرف ما الذي يجري في المجتمع؟ شباب عمر الواحد أربع عشرة سنة، يقبض عليه في السرقة في بيع المخدرات في أماكن محرمة ممنوعة. أتعرف بهذا يا أخي الكريم، الواحد منهم عمره ثمان أو سبع سنوات يشرب الدخان ما الذي أرداه إلى هذه الحال، إنه تعرف على فلان في الفريق، أو صحبة فصل، ما كان يصلي ولا يحضر مع الصالحين، كان يمنعني عن القرآن. مشيت معه فترة لعبت الكرة فإذا بالنهاية ماذا يحصل؟

خاتمة سيئة لأحد الشباب

خاتمة سيئة لأحد الشباب اسمع إلى هذه القصة العجيبة! كان شاب يحضر مع الصالحين المساجد حفظ القرآن حلق الذكر يحضر الديوانيات المسابقات، رجل سعيد في الدنيا، يلعب وقت اللعب، ويستفيد من وقته وقت الاستفادة، يطيع الله عز وجل، ويطيع والديه، ويحضر مع الصالحين، وفي يومٍ من الأيام تعرف على صحبة سوء، طرقوا عليه الباب، قالوا: يا فلان! تعال، قال: عندي طلعة مع الشباب، قالوا: مع من؟ قال: مع الصالحين، يسمونهم مطاوعة! قالوا: يا مسكين! أنت الآن شاب، تعال معنا نذهب إلى السوق، هناك بنات، وهناك ملعب وأغاني، ونتجول بالسيارة ونتعشى ونفعل ونفعل، وتردد هذا الشاب، يذهب أم لا؟ قال: أخبركم بعد العصر، جاء إخوانه الصالحون قبل صلاة العصر، ودقوا عليه الباب، فلان موجود؟ أرسل الخادمة أو غيرها من أهل البيت، وقالت: هو غير موجود -انظر الشيطان! خطوة خطوة، ذهب الصالحون للتأكيد فصدقوه، لعله غير موجود لعله مشغول- جاء أصحاب السوق بعد العصر يا فلان! هل تذهب معنا؟ قال: نعم! انظر الشيطان خطوة ذهب إلى السوق وترك الصلاة، وفي الطريق كان الشباب من الفسقة مسرعين بالسيارة، وأثناء تلك السرعة، انفجر أحد الإطارات، وهو قاعد عند سائق للسيارة، فانصرفت به السيارة إلى الخط السريع، أراد أن يثبتها فما استطاع، وهذا السائق علم أن السيارة سوف تنقلب فرمى بنفسه منها، أما ذلك الشاب فإنه جالس في السيارة، وحاول أن يخرج فتعلق ثوبه بالسيارة ويه لا زالت تمشي، ولا زال هذا الشاب معلق والسيارة تمشي ويضرب بالسيارة ويضرب بالشارع حتى انقلبت السيارة وهو متعلق فيها، ومات هذا الشاب، وما صلى صلاة العصر مسكين! الأجر انتهى، لو ذهب مع الصالحين كيف كان سوف يموت؟ صلى العصر، وجلس يقرأ القرآن، ومات وهو يقرأ القرآن إلى أين مصيره؟ إلى جنة عرضها السماوات والأرض، أما الآن فهو مسكين، ترك الصلاة، وأمضى إلى مصيره، انظر كيف عذبه الله في الدنيا! وبعد ذلك هذا الشائق، ما أصابته شيء، أصابه جروح خفيفة، قالوا له: ماذا جرى؟ قال: والله لا أدري هذا الذي مات هو الذي كان يقود السيارة وما تحكم بها، وكان متهوراً، ومسرعاً بها، فانقلبت بنا، وهو الذي كان السبب، اتهم صاحبه وكان صاحبه بريئاً. انظر أخي الكريم: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً} [الفرقان:27 - 28].

الحث على مجالسة الصالحين

الحث على مجالسة الصالحين أخي الكريم أخي الشاب! أنت الآن مقبل على الحياة حياة فيها شر عظيم، وأخطاء كثيرة، وفيها الفساد والمعاصي والكفر، فيها المخدرات فيها الدخان فيها الخمور السرقات الأغاني المسلسلات الطرب فيها معصية الله جل وعلا. أخي الكريم! اختر لنفسك ما تشاء، هؤلاء الصالحون عندهم اللعب، وعندهم طاعة الله عندهم السعادة في الدنيا والآخرة، أما أولئك الفسقة الفجرة فعندهم مضحكات في البداية، ويلهونك في بعض الألعاب، وبعض المباريات والأغاني والمسلسلات، ثم ما هي النهاية؟ النهاية تذكر: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف:38] يتلاعنون، ويتقاذفون، ويسب بعضهم بعضاً في النار، نار تعرف ما حجمها؟ كان النبي صلى الله عليه وسلم يمشي يوماً من الأيام فسمع صوتاً، فقال لأصحابه: (تعلمون ما هذا الصوت؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا حجر -صخرة- رميت في النار منذ سبعين سنة، والآن وصلت إلى قعر النار). تخيل! حجر تنزل سبعين سنة حتى تصل إلى القعر، أطول عمارة لو رميت صخرة منها لعلها تصل خلال عشر ثوان، أو عشرين ثانية، قد نظن أنها ساعة لأن العمارة بعيدة، لكن في الحقيقة عشر أو عشرين ثانية، فتخيل سبعين سنة والحجر تهوي، هذا هو قعر جهنم.

طريق الجنة وطريق النار

طريق الجنة وطريق النار عبد الله! إذا أردت طريق جهنم، فتعرف على الذي لا يصلي في المسجد، تعرف على فلان الذي لا يحفظ معك القرآن، تعرف على فلان الذي همه في الدنيا الأغاني، والمسلسلات، والسينما، والمسارح، تعرف عليهم واجلس معهم، واخرج معهم، واذهب معهم، فهذا هو طريق جهنم، إذا أردتها -يا عبد الله- وما أظنك تستطيع الصبر عليها. إذا أردت الجنة التي وصفناها قبل قليل، فهذا هو طريقها، وهؤلاء هم الصحبة، سوف تدخل معهم وأنت قابض بيديك على أيديهم، جماعة واحدة، ندخل بإذن الله جل وعلا في الجنة، لعلك تأتيني يوم القيامة، فتقول: يا فلان! وتناديني في الجنة، وأسلم عليك، فتقول: تذكرني؟ أقول: والله ذكرني، فتقول: تذكر في مسجد كذا، كنت جالساً أمامك وكنت تعمل لنا ذلك الدرس، أقول لك: نعم. تذكرت بإذن الله جل وعلا، فأقول لك: ماذا جرى؟ فتقول لي: يا فلان! من ذلك الوقت سرت مع الصالحين أحضر معهم وأذهب معهم، وأحضر الدروس، وأحفظ القرآن، حتى ختمت القرآن، ثم بعدها حضرت الدروس، وقرأت الكتب، وحافظت على الصلوات الخمس، حتى توفاني الله جل وعلا. أقول لك: يا فلان! عذبك الله؟ فتقول لي: لا والله، جئت إلى ربي جل وعلا، فكان ربي غفوراً رحيماً، أدخلني بسرعة إلى هذه الجنة، لعلي في ذلك اللحظة أعانقك وتعانقني، وأجلس معك على الأرائك، ونخوض في الحديث والسمر، ونتحدث حتى تغرب الشمس، وتقول لي: هل هناك غروب للشمس، أقول: لا. ليس هناك في الجنة غروب ولا شروق، نجلس في الجنة ما شاء الله. لعلك تأتيني يوم القيامة، تقول لي: يا فلان يا شيخ! تعال معنا نجلس مع الشباب فإنهم مجتمعين كما كانوا في وقت الدروس يجتمعون، فهم الآن في الجنة مجتمعون، عند الأشجار والأنهار، وفي القصور والخيام، لعل هذا الأمر يحدث. أخي الكريم! إذا أردت هذه الطريق، وهذه النهاية السعيدة، فاصبر مع إخوانك، واحمل هذا القرآن وهذه الدروس، وتحمل إخوانك في الله، هذا يقول لك: اجلس، وهذا يقول لك: قم، اصبر سنوات قليلة ثم تحصل على هذه السعادة العظيمة النهائية. أقول هذا القول، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الجنة والنار

الجنة والنار النار التي أطارت النوم من عيون الصالحين، فكانوا قليلاً من الليل ما يهجعون، وأبكت العيون بفظيع أهوالها، وجسيم أخطارها، وتعدد كرباتها. والجنة التي شمر لها أهل العزائم، فأضمأت الأكباد، وأسالت الدماء، ومزقت الأجساد، شوقاً ولهفاً لنعيمها الذي لا يوصف، وخيراتها التي لا تنقطع. إن أردت أن تقف على قطرة من بحر معرفتهما، وغيض من فيض من حقيقتهما، فقد أبان الشيخ في هذه الخطبة عن ذلك، فقلب طرفك في عباراته، وفرغ قلبك لعظاته.

حال الأشقياء في الآخرة

حال الأشقياء في الآخرة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد:

حال الأشقياء في المحشر

حال الأشقياء في المحشر أيها الأحبة! وفي المحشر بعد أن وقف الناس خمسون ألف سنة، وبعد ذلك الحر والعطش والعرق يشفع لهم نبيهم صلى الله عليه وسلم لفصل القضاء، فإذا هم يرون شيئاً قد أتى إنها جهنم، قال الله عز وجل: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} [الفجر:23]. بعد ذلك الحر والعطش إنها جهنم يقول ابن مسعود: قال صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بجهنم يومئذٍ ولها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها) {وَرَأى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً} [الكهف:53] علموا أنهم سوف يدخلونها، عند ذلك يسمعون صوت جهنم، يسمعون صوت جرجرتها، وصوت تغيظها، وصوت زفيرها من بعيد {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} [الفرقان:12] وهذا يدل على غيظها وغضبها، عند ذلك أيقن المجرمون بالعطب، وجثت الأمم على الركب وكلٌ منهم يقول: نفسي نفسي، يقول الله عز وجل: {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى * يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ مَا سَعَى} [النازعات:34 - 35] يتذكر يوم أن نام عن الصلاة، ويتذكر أمواله التي وضعها في الربا، ويتذكر أنه ما أمر بناته بالحجاب، ويتذكر أنه طالما نظر إلى النساء واستمع إلى الأغاني {يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ مَا سَعَى * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى} [النازعات:35 - 36]. عند ذلك يحاسبهم الله عز وجل يحاسب الكفار والمجرمين حساباً عسيراً، ثم: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:30 - 32] تدخل من منخره وتخرج من أسته، فيقاد إلى جهنم {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} [القمر:48] فيساق المجرمون الكافرون وهم يدعون على أنفسهم يقول أحدهم: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً} [النبأ:40] ويقول الآخر: {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً} [الفرقان:28] ويقول بعضهم {يَا وَيْلَتَنَا} [الكهف:49] ويدعون على أنفسهم بالهلاك والثبور {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا} [الزمر:17]. ألا تعلمون -أيها الإخوة- أنه يخرج منها شرر؟ {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ * كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات:32 - 34] حتى إذا اقتربوا منها فتحت أبوابها {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر:71] فإذا فتح خزنتها وهم {مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} [التحريم:6] إذا فتحوا جهنم يدخلونها فينظرون إليها {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ} [الأحقاف:20] فيقال لهم: {أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [الأحقاف:34].

حال الأشقياء في النار

حال الأشقياء في النار فيدخلونها {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف:38] يدخلون فينظرون إلى الذين أضلوهم في الدنيا؛ ينظرون إلى رؤسائهم، وإلى قاداتهم، وإلى أخلائهم، ينظرون إليهم قد سبقوهم في جهنم {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ} [الأعراف:38] يدخلونها، بعد أن يحاسب الكافر فيدخل جهنم يقول له صاحبه أول ما يدخل جهنم: {هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ} [ص:59] فيرد عليهم أصحابه في الدنيا {لا مَرْحَباً بِهِمْ} [ص:59] أول تحية {لا مَرْحَباً بِهِمْ} [ص:59] فيتلاعنون، ويسب بعضهم بعضاً، ويشتم بعضهم بعضاً، فأول ما يتقي بوجهه النار، أما يداه فمغلولتان، قد شدتا بالسلاسل، فيريد أن يتقي النار فلا يتقي النار إلا بوجهه، أكرم شيء عنده في الدنيا، لطالما كان يجمل وجهه، ولطالما كان يحسن وجهه، ولطالما كان يتقي الحر عن وجهه. أما جهنم: {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ} [الزمر:24] * وقال تعالى: {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون:104] الوجه الذي هو أشرف مكان في الجسد {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [القمر:48] أين ذلك الوجه؟ أين زينتك على وجهك؟! أين طيبك الذي كنت تضعه على الوجه؟! أين الجمال؟! {وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} [إبراهيم:50] انظروا إلى ذلك الموقف الذي تقشعر لهوله الأبدان، ذلك الوجه الذي طالما كان يجمله {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّار} [الأحزاب:66] كالسمك على النار يشوى، كيف تقلبه على النار؟ هكذا تقلب وجوههم {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً} [الأحزاب:66 - 68] ولكنهم لا ينفعهم الكلام، فإن جهنم أحيطت بهم {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة:49] {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [العنكبوت:55]. وقال تعالى: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ} [الأعراف:41] فراش من جهنم {وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف:41] لحافٌ من النار، ووجوهٌ قد غطيت بالنار، وجهنم تحيط بهم، حتى إن النار لتصل إلى قلبه {كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ} [الهمزة:4 - 7] تطلع: تصل {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ} [الهمزة:8] إنها: أي جهنم {فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} [الهمزة:9]. يريد أن يأكل في جهنم، لقد طال جوعه يقول بعض السلف: إن الجوع في جهنم يصل عذابه إلى عذاب النار، حتى استغاث بالطعام {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات:62 - 65] طلعها: ثمارها، أتظنونهم لا يأكلون منها؟ {فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ} [الصافات:66 - 67] ويأكلون طعاماً {ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً} [المزمل:13] يقول ابن عباس: [يأكلون الطعام من شوك يتعلق في حلوقهم لا هو يخرج منها ولا يدخل] طعام؟ {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ} [الغاشية:6] نفيس الشبرق اليابس من شوك يأكلونه {لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} [الغاشية:7] طعام يأكلونه {فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ} [الحاقة:35 - 36] يقول ابن عباس: [إنه صديد أهل النار] يأكلونه رغماً عن أنوفهم {وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} [الحاقة:36 - 37] وحينما يأكل الشوك والغسلين عندها يحس بأنه يحتاج إلى الماء فيستغيث بالماء: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً} [الكهف:29] يقرب ماء المهل إلى وجهه، فإذا أراد أن يشرب من شدة حره تسقط فروة رأسه، وينسلخ جلد وجهه إذا قرب وجهه المهل، لكنه يشربه، يقول تعالى: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد:15] يشرب الماء يريد أن يستغيث به من طعام الشوك؛ لكن الماء يسقط فروة رأسه، فيدخل به إلى أمعائه فتتقطع به الأمعاء، ثم يحرج من قدمه {وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ} [إبراهيم:16] قال مجاهد: هو القيح والدم وصديد أهل النار {يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} [إبراهيم:17] يريد أن يشرب، لقد أصابه العطش، لقد أهلكه العطش {لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً} [النبأ:24] ينقذهم الله عز وجل بشراب يشربه أهل النار {إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً} [النبأ:25] ماء قد انتهى حره، أتعلم ما هو الغساق يا عبد الله؟!! إنه السائل الذي يسيل من فروج الزواني {لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً * إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً * جَزَاءً وِفَاقاً} [النبأ:24 - 26]. يلبس ثياباً من النار {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ} [الحج:19] {وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُمْ} [إبراهيم:49 - 50] يا من كنت تلبس الحرير! يا من كنت تسبل ملابسك في الدنيا وتجرها خيلاء! {سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ} [إبراهيم:50] سرابيلهم: ملابسهم. وقطران: نحاس مذاب يلبسونه وثياب من نار، نسأل الله العافية. حتى إذا اجتمعوا في جهنم وعلموا أن النار قد أحاطت بهم، علموا أنه لا نجاة إلا بالله، ولا فرار إلا إلى الله، كانوا في الدنيا لا يلجئون إلى ربهم، يسمعون حي الفلاح فكانوا لا يلجئون إلى الفلاح، يسمعون الله أكبر وكانت الدنيا عندهم أكبر، يسمعون أن الربا حرام ويأكلون الحرام، ذلك موقفٌ يلجئون فيه إلى الله فيقولون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً} [فاطر:37] نصلي لك يا رب، نقيم الصلوات في المساجد، نأمر أهلينا بالحجاب وبالصلاة، أخرجنا منها {نَعْمَل صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر:37] فيرد الله عز وجل عليهم: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} [فاطر:37] أولم نعمركم حتى وصلتم إلى مرحلة البلوغ؟ ألم يظهر ذلك الشيب؟ ألم يأتك النذير؟ ألم تسمع يا غافل أن الربا حرام، وأن الزنا حرام، وأن النظر إلى النساء حرام، وأن الصلاة واجبة، وأن الدعوة إلى الله واجبة؟! {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر:37] حين ذلك ينادون مالكاً خازن النار: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77] لنمت في هذه النار، كانوا يحرصوا على الحياة، كان يتمنى الحياة، إذا مرض ذهب إلى الطبيب، كان لا يريد أن يذهب إلى صلاة الفجر؛ لأن الجو بارد، كان لا يريد أن يتوضأ؛ لأن الماء بارد، وكان لا يريد أن يدعو إلى الله، ويخاف على صحته، يخاف على ماله من الفقر {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77] فيجيبهم مالك بعد ألف عام: {قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف:77 - 78] بعد ذلك ينادون الله؛ لأنهم يعلمون أن ذلك عند الله عز وجل وبيده خلاصهم، فيقولون: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ} [المؤمنون:106] الآن يعترفون، الآن يندمون، الآن يتذكرون أنهم كانوا ظالمين {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:107] فيرد الله عز وجل عليهم: {قَالَ اخْسئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108] بعد ذلك لا يتكلمون، فيرجعون ولهم مقامع من حديد إلى النار خالدين فيها {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [هود:106 - 107].

حال السعداء في الآخرة

حال السعداء في الآخرة الحالة الثانية: السعداء الذين أمضوا حياتهم في صلاة، وعبادة، وصوم، وذكر لله عز وجل، كانوا يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، وكانوا ينظرون إلى الناس، فإذا منهم الغاصب، ومنهم الضال، ومنهم الذي لا يصلي، ومنهم الذي لا يزكي، ومنهم الذي لا يصوم، ومنهم المتبرجة، ومنهم ومنهم نظروا إلى الناس فلجئوا إلى الله عز وجل فأقاموا الصلاة، وذكروا ربهم.

حال السعداء في المحشر

حال السعداء في المحشر وفي ذلك الموقف يساقون إلى الجنة {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا} [الزمر:73] جاءوا إلى الجنة فاجتمع المؤمنون عند أبوابها ولها ثمانية أبواب، يخرج المصطفى والناس كلهم ينظرون إليه، إلى الحبيب المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم، يخرج من بين الناس فيأتي يتقدم الناس فيأتي إلى باب الجنة فيطرق بابها كما صح في صحيح مسلم عن أنس: فيستفتح (فيقول له خازن الجنة من أنت؟ فيقول: محمد -والمؤمنون كلهم يتشوقون ويتلهفون لينظروا ما في تلك الجنة التي طالما سمعوا عنها- فيقول الملك من أنت؟ فيقول: محمد، فيرد عليه: أمرت ألا أفتح لأحدٍ قبلك) فيفتح باب الجنة والمؤمنون ينظرون، فيأتي أول زمرة يدخلون باب الجنة صورتهم على صورة القمر ليلة البدر، يأتون إلى أبواب الجنة وما بين البابين، ما بين مصراعي الباب مسيرة أربعين عاما، وإنه ليأتي عليه يوم وإنه لكضيض: مزدحمٌ من المؤمنين يتدافعون ليدخلوا تلك الجنة التي سمعوا عنها، أول زمرة على صورة القمر، لا يبصقون فيها ولا يمتخطون ولا يتغوطون، ورشحهم المسك، يدخلونها، تخيل نفسك يا عبد الله! إذا فتحت أبواب الجنان فدخلتها ومن الناس من ينادى باسمه، أين فلان؟ يدخل من باب الريان كان يصوم، أين فلان؟ يدخل من باب الجهاد كان مجاهداً، أين فلان؟ يدخل من باب الصلاة، من باب الصدقة، ومنهم من ينادى من بابين، ومنهم من ينادى في ثلاثة أبواب، ومنهم من ينادى من أبواب الجنة الثمانية، أين فلان ليدخل جنة ربه التي وعد المتقون، حتى إذا دخل باب الجنة وهو على أبوابها: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [المطففين:24].

حال السعداء في الجنة

حال السعداء في الجنة ماذا ترى يا عبد الله؟ (ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر) ما الذي تراه؟ لبنة من فضة ولبنة من ذهب وملاطها الذي بينها المسك الأذخر، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وتربتها الزعفران، من يدخلها ينعم ولا يبئس، يخلد ولا يموت، لا تبلى ثيابهم، ولا يفنى شبابهم، وصدق الله: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً} [الإنسان:20] ترى أنهاراً فيها، كنت تسمع عنها، إذا دخلتها تراها بأم عينك، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (رأى نهراً في الجنة فسأل ما هذا النهر؟) نهر حافتاه قباب اللؤلؤ المجوف، طينه مسكٌ أذفر تلج عليه طيور أعناقها كأعناق الجزور، ينظر إليها، ما هذه الطيور؟ ما هذا النهر؟ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1] نهر الكوثر وغيره أنهار {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} [محمد:15] غير آسن أي: لا يتغير طعمه، ولا لونه، ولا رائحته {وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} [محمد:15] تخيل نهرٌ من لبن؟! {وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} [محمد:15] تخيل لذة للشاربين {لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنْزِفُونَ} [الواقعة:19] {وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً} [محمد:15] أنهارٌ من عسل مصفى تجري لا كعسل الدنيا. عيونٌ في الجنة تفجر {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} [الرحمن:66] فيها {عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} [الرحمن:50] {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} [الإنسان:5 - 6]. قصورٌ وغرفٌ وخيام في الجنة {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [الزمر:20] (للمؤمن في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة طولها ستون ميلاً) تخيل عبد الله! تدخل خيمة في الجنة طولها ستون ميلاً، للمؤمن فيها أهلون لا يرى بعضهم بعضاً {لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً} [الإنسان:13] إذاً من أين تأتي الأنوار؟ يقول شيخ الإسلام: نور يظهر من قبل العرش، نور يأتي من عرش الرحمن. فيها أشجار {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ} [الواقعة:27 - 28] لا شوك فيه {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ * وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [الواقعة:29 - 30] للراكب يسير في ظلها مائة عامٍ لا يقطعها {وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ * وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ} [الواقعة:31 - 33] الأشجار، تجلس على الفرش فتأتيك ثمارها وأنت جالسٌ على السرير {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} [الرحمن:54] إستبرق: حرير {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً} [الإنسان:14] تجلس على السرير فإذا بالثمار تأتيك لتقطفها، لا تقوم من فراشك لتقطفها. آنيتهم: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} [الإنسان:18 - 19] وأنت جالسٌ على الفرش يأتيك الولدان المخلدون {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} [الواقعة:18] ولدان {إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً} [الإنسان:19]. لباس أهل الجنة: ما لباسهم؟ {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج:23] يلبسون الحرير، يلبسون الذهب، يلبسون الفضة، يلبسون اللؤلؤ، يجلسون على الفرش {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ} [الغاشية:13] {مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} [الرحمن:76] يجتمعون وهم في لهوهم وهم في طعامهم، وهم يأكلون ويشربون، يجتمعون بعضهم مع بعض يتحدثون {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات:27] {قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} [الطور:26] كنا نخاف من النار في الدنيا، كنا نخاف من عذاب الله {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:26 - 27] يذهبون إلى سوقٍ وهو سوق الجمعة أتعلمون ما ذلك السوق؟ (إن في الجنة لسوقاً يأتونها كل جمعة فتهب ريح الشمال فتحثوا في وجوههم وثيابهم -لا يشترون إنما الريح تحثوا في وجوههم وثيابهم- فيزدادون حسناً وجمالا، فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسناً وجمالا، فيقول أهلوهم: والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالًا، فيردون عليهم: وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً، وذلك كل جمعة). لهم في الجنة نساء حور أتعلم ما هي الحور؟ نساءٌ بياض عينها قد اشتد بياضاً، وسواد عينها قد اشتد سواداً، وسعة عينها قد اتسعت {وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ الْلُؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} [الواقعة:22 - 23] يا من استبدل نساء الجنة بنساء الدنيا! يا من كان ينظر في الدنيا إلى النساء في الأسواق، وفي التلفاز، وفي الجرائد، وفي الصحف، ويتمتع بهن، أيستبدل نساء الجنة بهن، انظر إلى نساء الجنة {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً} [الواقعة:35] أنشأهن الله {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً} [الواقعة:36] أي: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:74] {عُرُباً أَتْرَاباً} [الواقعة:37] متقاربات في السن {لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة:38]. أتريد أن تعرف صفاتهن {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:56 - 58] تنظر إليهن كأنهن الياقوت والمرجان، وصفهن الله فقال عنهن: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} [الرحمن:70] وصف جمالهن فقال: {خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} [الرحمن:70] قال صلى الله عليه وسلم: (لو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت على أهل الأرض -اطلعت فقط- لأضاءت ما بينهما - بين السماء والأرض- ولملأته ريحا، ولنصيفها على رأسها -خمارها- خيرٌ من الدنيا وما فيها) وهم في ذلك الموقف يتمتعون بالنساء، يعطى أحدهم قوة مائة رجل ويتمتعون بالثمار {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ} [الواقعة:20] يتمتعون باللحوم {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة:21] يشربون من أنهار خمر وعسل ولبن وماء ونهر الكوثر، ويتزاورون ويمرحون، يقول الله عز وجل في ذلك الموقف يناديهم: (يا أهل الجنة تريدون شيئاً أزيدكم؟) {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] ماذا فوق الجنة؟ ما هي الزيادة؟ أفوق الجنة زيادة؟! فيقولون لربهم: (ألم تبيض وجوهنا، ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار) أفوق هذا النعيم نعيم؟! أبعد تلك الأنهار نعيم؟! أبعد الحور العين نعيم؟! بعد الثمار، والخيام، والقصور، والأشجار، أبعد اللؤلؤ، والحصباء، والياقوت، بعد كل هذا نعيم؟! (أتريدون أن أزيدكم؟ فيكشف ربنا عن الحجاب، فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم فينسون به نعيم الجنة كله) {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة:22] حسنة، لقد نظرت تلك الوجوه، فاستنارت عندما نظرت إلى ربها {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23] (إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته) {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23] تنسى بذلك نعيم الجنة كله. اللهم إنا نسألك الجنة ونعوذ بك من النار. أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنبٍ فاستغفروه، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

ظاهرة الفحش

ظاهرة الفحش الفحش في الكلام، والبذاءة في القول؛ صفة قبيحة حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم كل التحذير. وفي هذا الدرس المبارك -بإذن الله- قطوف وشذور من أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم في التحذير من هذه الصفة، وبيان ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من حسن العبارة ولطيف القول.

حكم سباب المسلم

حكم سباب المسلم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله تبارك وتعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

بغض الله للفاحش البذيء

بغض الله للفاحش البذيء أيها الإخوة المسلمون: نتكلم اليوم عن ظاهرة اجتماعية فَشَتْ في أوساط كثير من المسلمين، لا يكاد مسلم -إلا من رحم الله- يسلم من هذه الظاهرة، إما فعلاً أو سماعاً من غيره، وهي ظاهرة يتهاون بها المسلمون، حتى اعتادها بعض الكبار وكثير من الصغار، وبعضهم يقولها ولا يعقلها، وهي: ظاهرة السِّباب والشتم واللعن والفُحش والبذاءة. هذه الظاهرة التي انتشرت في كثير من أوساط المسلمين، حتى إنك لتدخل بعض المجالس، فتسمع من الفُحش والبذاءة، ومن السباب والشتم ما يجعلك لا تستطيع أن تجلس في هذا المجلس، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إن شر الناس منزلة مَن تركه الناس اتقاء فُحشه). مِن الناس مَن إذا جلستَ معه لا تتحمل الجلوس معه، فتتركه لفحشه ولبذاءة كلامه، حتى إنه بعض الأحيان ليصف العورات -أجلكم الله- وينادي الناس بأسماء البهائم والحيوانات، هذا الرجل إذا تركه الناس لهذا الفعل فهو من شر الناس منزلة عند الله، وقال عليه الصلاة والسلام: (إن الله يبغض الفاحش البذيء) يبغضه الله جلَّ وعلا، فكيف يهنأ لك بال، ويقر لك قرار والله عزَّ وجلَّ يبغضك إذا كنتَ متفحشاً في الكلام، بذيئاً في اللسان، تصف ما فحُش وغلظ من القول، وبعض الناس لا يتوانى أن يقول هذا في أي مجلس كان.

سباب المسلم فسوق والمسابان شيطانان

سباب المسلم فسوق والمسابان شيطانان وقال عليه الصلاة والسلام، يصف هؤلاء الذين يفعلون هذا الفعل، قال: (سباب المسلم فسوق) فسوق: أي: خروج عن طاعة الله جل وعلا، فمن الناس مَن إذا نادى لعن، وإذا غضب شتم، وإذا تهاتر مع بعض الناس سب وفحُش في الكلام، وقال: (المُسَّابَّان) أي: الذي يسب صاحبه ويرد عليه صاحبُه: (المُسَّابَّان شيطانان يتهاتران، ويتكاذبان) وصفهما النبي صلى الله عليه وسلم بأنهما شيطانان، لهذا الفعل البذيء، وكفى به إثماً وقبحاً أن الله عزَّ وجلَّ يبغضه: (وما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا متفحشاً) وكان إذا بالغ في العتب على أشخاص، قال: (ما باله؟! تربت جبينه) تربت جبينه أقصى ما يقوله عليه الصلاة والسلام في الناس. فانظروا الأدب الذي تحلى به! وانظروا عفة اللسان التي اتصف بها عليه الصلاة والسلام! ثم انظروا إلى مجالسنا، وانظروا إلى ما يحدث بين المسلمين من خصومة أو مزاح وكلام، وانظر إلى الفحش والبذاءة والسب والشتم واللعن، نعوذ بالله منها. وانظروا إلى القرآن كيف إذا تكلم عن بعض الأمور كنَّى ولم يصرِّح، أدباً في الكلام والحديث، فلما أرد الله عزَّ وجلَّ أن يَذكُر الجماع ما صرَّح به، بل سماه: ملامسة، وسماه مباشرة: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187] وأراد الجماع، ولكنه كنَّى، وقال: الرفث، وقال: الحرث: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة:223] وقال: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة:187]. قال ابن عباس رضي الله عنه: [إن الله كريم يكنِّي ما يشاء] انظروا إلى الكرم في الحديث، وانظروا إلى العفة، قال: [إن الله كريم يكنِّي ما يشاء، وإن الرفث هو الجماع]. ثم انظروا إلى مجالسنا، وانظروا إلى السب والشتم، حتى إن بعض الناس لا يتوانى، ولا يتورع أن يسب ويشتم ويذكر بعض الألفاظ القبيحة أمام صغار السن، حتى أصبح بعض صغار السن يتلفظون بها، ويقولونها وهم لا يعرفون معناها، ولا يدرون ما مغزاها، ولا يشعرون بخطورتها، والسبب: أنه رأى أباه يكلم أمه بهذه الألفاظ، أو يكلم جاره، أو يكلم صاحبه، أو تنازع أبوه مع رجل آخر، فسمع أباه يقول: كذا وكذا، فقلده واتبعه في هذه الكلمات.

شدة حياء النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه

شدة حياء النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وانظروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم كيف كان يكلم أصحابه: (كان أشد حياءً من العذراء في خدرها). في صحيح البخاري: (أن امرأة جاءت إليه عليه الصلاة والسلام فسألته عن كيفية الاغتسال من الحيض، فقال عليه الصلاة والسلام -وهو يشرح لها، ويبين لها كيفية الغسل- قال: خذي فرصة من مسك، وتتبعي بها أثر الدم، فتطهري بها، فقالت هذه المرأة: كيف أتطهر بها يا رسول الله؟ قال: تطهري بها، قالت: كيف أتطهر بها؟ قال: سبحان الله! تطهري بها، قالت عائشة: فرأيتُ في وجهه أنه قد استحيا عليه الصلاة والسلام، فأخذت عائشة هذه المرأةَ في جانب البيت، وأخذت تشرح لها كيف تغسل دم الحيض حياءً منه عليه الصلاة والسلام) ولم يكن فاحشاً، ولا متفحشاً، ولا بذيئاً، ولا طعاناً، ولا لعاناً عليه الصلاة والسلام. في يوم من الأيام سئل عليه الصلاة والسلام عن هذه الأمور، فكان يجيب بمثل ما أجاب، وكان يُرى في وجهه الحياء والعفة وكرم اللسان. وكان عليه الصلاة والسلام -كما وُصِف- أنه: (أشد حياءً من العذراء في خدرها) أعلمتَم من هي العذراء؟ المرأة التي لم تتزوج، وفي خدرها أي: في بيت أمها، وفي غرفتها، وفي دارها، فهكذا هو عليه الصلاة والسلام. أيها الأخ الكريم: إن المتفحش باللسان، والذي يتعود لسانه على السب والفحش، ووصف العورات، وغيرها من هذه الأمور البذيئة، فإن مروءته تسقط بين الناس، ويكون هذا الرجل رجلاً في الصورة ولكنه في الحقيقة قد سقطت مروءته ورجولته، أما لسانه فاللسان السوقي الذي اعتاد هذا الفُحش وتلك البذاءة. وجاءت امرأة -زوجة رفاعة رضي الله عنه- تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: (يا رسول الله! إن زوجي قد بتَّ في طلاقي -أي: طلقني ثلاث طلقات- قالت: فتزوجتُ عبد الرحمن -أي: زوجها الثاني، وهي تسأل، وعند رسول الله عائشة، وأبو بكر، وأحد الصحابة عند الباب، وحياءً منها انظروا كيف تسأل- فقالت: يا رسول الله! وليس مع هذا الرجل إلا مثل هذه الهدبة، وأخذت جزءاً من طرف ثوبها -حتى لم تستطع أن تتلفظ بهذه الكلمات، مع أنها تستفتي في دينها، قالت: إلا مثل هذه الهدبة، أي: رجل ضعيف لا يستطيع أن يجامع- وكان عند الباب أحد الصحابة، فقال: يا أبا بكر! ألا تنهَ هذه المرأة عمَّا تجهر به عند رسول الله؟! -أي: سكِّت هذه المرأة عن هذه الكلمات الفاحشة، وما قالت كلاماً فاحشاً، ولا كلاماً بذيئاً، ولا سيئاً قبيحاً كما يقوله بعض الناس- فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال لها: لعلك -يا فلانة- تريدين أن ترجعي إلى رفاعة، لا. حتى تذوقي عُسَيْلَتَه ويذوق عُسَيْلَتَكِ) فكان عليه الصلاة والسلام أفصح منها لساناً، وأشد أدباً عليه الصلاة والسلام فقال: حتى تذوقي عُسَيْلَتَه، كنَّى عن الجماع، بالعُسَيْلَة، هل رأيتم أدباً مثل هذا الأدب؟! وهل رأيتم عفة في اللسان مثل هذه العفة؟! وهل رأيتم كرماً وشرفاً ورجولة وأدباً مثل هذا قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]. تجلس عنده عائشة، فيمر بعض اليهود، فيقولون: السام عليك يا محمد، والسام: الموت، يظنون أنه لم يفهم، ففطنت عائشة فقالت: وعليكم السام واللعنة، أي: ترد عليهم مثلما شتموا، وفي رواية: قالت: عليكم السام والذام، أي: الذم، فقال: (مَهْ يا عائشة؟! لا تكوني فاحشة) وما بالغت عائشة، لكنها ردت السيئة بالسيئة، ولكن أدبه عليه الصلاة والسلام يمنعه من هذا، فقالت: (أما سمعتَ ما يقولون يا رسول الله؟! قال: نعم. ولكني قلت: وعليكم، انظروا إلى أدبه عليه الصلاة والسلام فرجع ما قالوا عليهم).

تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من وصف المعاشرة الزوجية

تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من وصف المعاشرة الزوجية وحبذا لو طبقنا هذا الأدب في كثير من مجتمعاتنا ومجالسنا وبيوتنا، بل عند بعض صغار السن والأولاد والأبناء، ولكن انظروا إلى أدبنا وأدبهم، انظروا إلى أخلاق الإسلام، كيف افْتُقِدَت في بعض صفوف المسلمين. حتى إن بعض الناس يأتي فيحدث بعض الرجال عمَّا فعل مع زوجته، وهذا من أشد الفُحش والبذاءة والطعن بزوجته، يتكلم بما فعل مع زوجته، حتى قال عليه الصلاة والسلام: (لعل أحدكم يحدث الناس بما فعل مع زوجته، ولعلها تحدث بما فعلت مع زوجها، فسكت الصحابة، ثم قال: لا تفعلوا، فإنما مثل ذلك مثل شيطان لقي شيطانة فتغشَّاها والناس ينظرون) تخيلوا شيطاناً يتغشَّى -أي: يجامع شيطانة- في الطريق والناس ينظرون، فهذا مَثَل مَن يأتي ويصف ما فعل مع زوجته، وهي تأتي وتصف ما فعلت مع زوجها -نعوذ بالله- فهذا الوصف القبيح إذا كان الأمر حلالاً، فكيف ما يفعله كثير من المسلمين -هداهم الله- حيث يصف بعض الأمور المحرمة؟! يقول: في العام الماضي وفي الإجازة السابقة، وفي يوم كذا ذهبتُ إلى المكان الفلاني، وسافرتُ إلى بلد كذا، ففعلتُ مع فلانة كذا وكذا، أيُّ قبح أعظم من هذا القُبح؟! إذا كان الحلال بهذا القُبح، فكيف بالحرام يا إخوة؟!

الشتم واللعن والتحذير منهما

الشتم واللعن والتحذير منهما مِن الأمور التي تزداد خطورة على هذه الخطورة قضية اللعن، وما أدراك ما اللعن؟ بعض الناس اعتاد اللعن على لسانه، حتى إنه في المدح يلعن، وفي ذكر فلان يلعن، وفي الإخبار عن فلان يلعن، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن اللعنة إذا خرجت من صاحبها تصعد إلى السماء، فتوصَد أبوابُ السماء دونها، فترجع إلى الأرض، فتوصَد أبوابُ الأرض دونها، ثم تأتي إلى الذي لُعن -إلى الذي لعنتَه- فإن كان أهلاً لها أصابته اللعنة، وإلا رجعت إلى قائلها). أتعرف ما هو اللعن الذي اعتاده كثير من المسلمين؟ اللعن هو: الطرد من رحمة الله، واسمع وانظر وفتِّش في مجالس المسلمين، واحصِ كم يقع بينهم من اللعن: (ليس المؤمن بالطعَّان ولا اللعّان) وقال عليه الصلاة والسلام: (لعن المسلم كقتله) فإذا لعنتَه كأنك قتلته يا عبد الله. اللعن، وما أدراك ما اللعن الذي انتشر في صفوف كثير من المسلمين؟ ثم اعلم -يا عبد الله- أن بعض الشتم كفر بالله جل وعلا، وهو سب الله، أو سب رسوله عليه الصلاة والسلام، أو سب هذه الملة، أو شيء منها، وكثير من الناس من يدعي الإسلام، وينطق بالشهادتين، ثم يسب دين فلان، ويسب شرعه، ويسب رسوله عليه الصلاة والسلام، وحين يسبه فإنما وقع في الكفر، عافانا الله وإياكم منه. ثم إن بعض الشتم وبعض السب يوجب الحد! أتعرف ما هو الحد؟ الحد هو: جلد ثمانين جلدة، فيُجلد ثمانين جلدة على كلمة قالها، وما هي هذه الكلمة؟ أن يصف فلاناً بالزنا، أو اللواط، أو هذه الفواحش، لو وصف فلاناً بالزنا، فقال له: يا زانٍ، فإنه يُجلد ثمانين جلدة، وهذا هو الفاسق الذي لا تُقبل له شهادة أبداً. ثم اعلم -يا عبد الله- أنه لو قال مثلاً: أنتَ أزنى من فلان، فإنه يُجلد مائة وستين جلدة -مرتين يُجلد- لأنه وصف فلاناً, ومَن فضَّله عليه بالزنا، فقال: أنت أزنى من فلان، فيُجلد مرتين، كل هذا عقوبة له. ثم لو قال كلمة دون الزنا، وأقل من الزنا، فإنه يُعزَّر، مثل أن يصف الناس بالحيوانات أو بالبهائم، فإن حكم الله كما قال بعض العلماء أن يُعزَّر، إما بالضرب، وإما بالسجن، وإما ببعض أنواع التعذيب، حتى يكف عن هذه الألفاظ البذيئة. عباد الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أقول هذا القول، وأستغفر الله.

أسباب انتشار ظاهرة الفحش

أسباب انتشار ظاهرة الفحش الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مَن لا نبي بعده. أما بعد: قال عليه الصلاة والسلام: (أتدرون مَن المُفلس؟ قالوا: المُفلس من لا درهم له ولا متاع، قال: المُفلس مِن أمتي مَن يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة وحج، ويأتي وقد سب هذا، وشتم هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا) مسكين، لو في كل يوم سبة واحدة، فإنه في السنة يزداد سبه على الثلاثمائة والستين سبة، فيأتي الناس كلهم يجتمعون عليه- فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، حتى إذا فنيت حسناته، أتعرف ما حسناتُه؟ صلاته ضاعت، صيامه فَنِي، زكاته ضاعت، حجه ذهب، كل أعماله قد ذهبت وولت، تعبه في الدنيا كله قد ضاع، قال: (حتى إذا فنيت حسناته، أُخذ من سيئاتهم، ثم طُرحت عليه، ثم طُرح في النار) أتعرف ما الذي أرداه؟ (وهل يكب الناسَ في النار على مناخِرهم إلا حصائدُ ألسنتهم). اللسان يا عبد الله، احفظ لسانك عن سب الناس وشتمهم، ووصف القبيح والبذيء والفُحش وما غَلُظ من القول. عباد الله: ما الذي جرَّأ الناس على هذا الكلام؟ أسباب كثيرة: من هذه الأسباب: السبب الأول: مخالطة الفاحشين الفحَّاشين، بذيئي اللسان: فالمرء على دين خليله، وانظر -يا عبد الله- المجالس التي تجلس فيها، فإن كانت هذه المجالس فيها من السب والشتم والفُحش والبذاء فإنك يوماً من الأيام سوف تقول مثلما يقولون، والله جل وعلا يقول: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} [الفرقان:72] هذه المجالس لا يُجْلس فيها. السبب الثاني: ثم من الأسباب: بعض المسلسلات والأفلام والقصص، التي تخبر بالفُحش والبذاءة، والقبح والسب واللعن -عافانا الله وإياكم منها- حتى إن بعض الناس يقص منها بعض القصص في الجرائد والمجلات والكتب، فيقص بعض الفواحش وكيفية وقوع الرجل على المرأة، وكيفية عمل بعض المنكرات، وما قَبُح من القول، فيصفه بالتفصيل في بعض القصص التي تُنشَر في بعض الجرائد والمجلات، وبعضها تكون في أفلام تُبَث عبر الهواء مباشرة من دول الغرب، والكفر والإباحة، ثم يعتاد كثير من المسلمين هذه الكلمات، فإذا أنكرت عليه يقول: أنا أفضل من فلان، ويا مسكين! أنت لا تعلم ما يقول فلان، وما يفعل فلان، أنا فقط أتلفظ، أما فلان فيفعل كذا وكذا. سبحان الله! حتى أصبح المنكر معروفاً، وأصبحت الكبائر صغائر، وأصبح الناس يتهاونون بهذه الألفاظ. وتذكر دائماً يا عبد الله، وتفكر في هذا الحديث: (إن الله يُبغض الفاحش البذيء) يُبغضه الله جل وعلا. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اللهم أعداء الدين، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.

هل وجدتم السعادة؟

هل وجدتم السعادة؟ إن الناظر إلى حياة الأمم خلال هذه العصور، يجد أنها قد ابتعدت عن منهج الله سبحانه، وتركت كتاب ربها وراءها ظهرياً، وسعت سعياً حثيثاً وراء المناهج الغربية والأفكار الدخيلة، والشعوذة الزائفة، ظناً منها أنها هي السعادة الحقيقية، المؤدية إلى الرقي والتمدن، والازدهار، ولكن هيهات! بحثت عن السعادة وما علمت أنها لن تجدها حتى تراجع دينها، ومنهج ربها سبحانه.

السعادة الحقيقية

السعادة الحقيقية الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وخاتم النبيين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. ثم أما بعد: فهذا المجلس لعلك تجلسه يوم القيامة في الجنة، في روضةٍ من رياض الجنة، فإياك إياك والملل! وإياك إياك والسآمة! فإن هذا المجلس عظيم! تحضره الملائكة، بل وتحفه إلى السماء الدنيا، ويختم هذا المجلس بـ (قوموا مغفوراً لكم؛ قد بُدِّلت سيئاتكم حسنات) فهي دقائق معدودة، تُمحى بها كثير من السيئات، فتحمل وتصبر فإن هذا الصبر له أجرٌ عظيم. أيها الأخ الكريم! لو سألت الناس جميعاً ماذا تطلبون من الدنيا؟ وماذا تريدون؟ وما هي أغلى أمنية عندك في هذه الدنيا؟ أغلب الناس وكل واحدٍ منهم سوف يقول: أريد أن أعيش سعيداً مرتاحاً مطمئناً، أبحث عن شيء يُسمَّى السعادة والراحة، كلّ الناس يلهث ويتعب وراءها، وينصب من أجلها، من أجل أن يعيش سعيداً في هذه الحياة الدنيا. انظر إلى من يجمع الأموال: الملايين العمارات العقارات والأرصدة، لا يعدها ولا يستطيع حسابها، هل حصل على السعادة؟! سله! واجلس معه اجلس مع أولئك الذين يتمتعون بالغناء والطرب منذ الصباح إلى المساء ليلهم طرب نهارهم طرب أغاني وموسيقى ومعازف، سلهم! هل حصلتم على السعادة؟! كيف سوف يجيبونك؟ سل أولئك الذين يبحثون ويطلبون الشهرة والسمعة بين الناس، يتمنى يوماً من الأيام أن يظهر على صفحات الجرائد فيقال: النجم، أو المطرب، أو الممثل فلان الفلاني، هذه غايته وأمنيته، وبعد أن يحصل عليها سله! هل وجدت السعادة؟! هل وجدت راحة البال؟! كلا وربي! إن السعادة لا توجد إلا في شيء واحد وهو طاعة الله جلَّ وعلا {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكا} [طه:124] ويقول ربنا: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] يقول الله: كل من أعرض عن ذكري وعن طاعتي عن القرآن عن المساجد، فحياته وعيشته ودنياه كلها ظنكٌ في ظنك {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً} [طه:124 - 125] يا رب! كنت في الدنيا أبصر وأرى، فلم حشرتني؟ A { قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:126] كذلك في الدنيا ألا تذكر ذلك المسجد في ذلك المكان بعد صلاة المغرب لما جلست واستمعت إلى آياتي لكنك نسيت؟ أتذكر تلك الخطبة -خطبة الجمعة- التي جلست فيها، واستمعت، وأنصت، وعاهدت ربك ثم نسيت؟ أتذكر ذلك الشريط الذي استمعت إليه، وعاهدت ربك بالتوبة، وما هي إلا أيام ونسيت؟ {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:126]. عبد الله: من الناس من تصل به الكآبة والحزن والضيق والهم في الدنيا، وعنده ملايين عنده أرصدة عنده كلما يريده من الدنيا، ولكنه الحزن والضيق، أي ضيق؟! ضيق الصدر {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125] فمن شدة الضيق يجلس مع أصحابه في مجلس في ليلة حمراء، يتعاطى بعض الحبوب، جلست معه يوماً من الأيام، فسألته! لمَ تتعاطاها؟ فقال لي: لأنسى تلك الهموم والأحزان، ولأشرح الصدر شيئاً ما، ولأعيش في أوهام أبتعد بها عن هذه الدنيا الكئيبة، وعن هذه الحياة المظلمة، وعن هذه العيشة الضيقة، بتلك الحبوب!! إنه مسكين، حبة بعد أخرى، ثم ثالثة، ثم رابعة، ثم يشعر بالألم، ثم لا يتحمل يوماً إلا ويتعاطاها، ثم حياة كئيبة لا يعرف زوجاً، ولا بنتاً، ولا أماً، ولا أباً، ليس في قلبه أية رحمة، يقتل من يجد لأجل تلك الحبوب يسرق ما يجد لأجل تلك الحبوب! ثم أين مصيره؟ جرعة زائدة في ليلة سوداء مظلمة مع أصحابه الأشقياء أخذها ليتمتع بها ولينسى همه؛ فإذا به يُعالج سكرات الموت، ويستنجد بأصحابه! أليس منكم راق؟ أليس منكم طبيب؟ أنقذوني! أرجعوا الروح فإني أحس بها تخرج من رجليَّ، أتعرف ما السبب؟ أخذ جرعة زائدة فإذا بهم يهجمون عليه لينقذوه ولينجدوه، كيف؟ يقطعون شرايينه وأوصاله يمزقون جلده لينزف الدم من يديه ومن رجليه طلباً لنجاته، ولكن هيهات هيهات! بكى صاحبه استنجد أخوه، وجاءوا بالطبيب، ولكن لا مناص؛ فإذا به يُفارق الحياة الدنيا، ثم يُوضع في كيسٍ للقمامة، ثم يُرمى في إحدى الزبالات، ولم يدرِ به أحد، ولم يشعر به إنسان، غادر الدنيا ولم يصل على جسده أحد، ولم يطلب له الرحمة أحد، ولم يستغيث له بالمغفرة أحدٌ من الناس، أي عيشةٍ تلك؟! {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124]. ألم تسمع بذلك الذي جمع ملايين الدنانير، ملايين ومليارات، جمعها بهمٍ وغم، وتعب ونصب، ثم هو بعد هذا يتعب في حفظها، ويتعب في نمائها، ويهتم لحفظها حتى بلغ به الكبر عتيا، ثم ماذا؟ ثم أولاده وفلذات أكباده يترقبونه متى يُفارق الدنيا؟ ومتى يترك لنا هذه الأموال؟ بنته تعد الأيام عداً لموته، وولده يتربص به لوفاته، أهله أقرباؤه يتقربون ويتزلفون إليه ليس لأجله بل لأمواله، أيُّ حياةٍ تلك؟! وأي سعادة أرادها؟!

حال السعداء

حال السعداء أتعرف أيها الأخ الكريم! من السعيد في هذه الدنيا؟ إنه الذي يقوم لصلاة الفجر والناس نيام، إنه ذلك الذي أمضى حياته بين القرآن والمسجد والذكر والمباح وطاعة الله جلَّ وعلا، إنه الذي إن نام الناس في الليل قام، لعلك تسأل سؤالاً: ما بالهم إذا نام الناس قاموا؟! وإذا ضحك الناس بكوا؟! وإذا لعب الناس توقفوا؟! ما بالهم لا ينامون كما ينام الناس؟ ما بالهم لا يلبسون كما يلبس الناس؟ ما الذي جرى؟ أتعرف ما السبب؟ {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ} [الرعد:28] إنهم وجدوا اطمئنان القلب أين؟ {وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].

قصة رجل اهتدى وعرف السعادة

قصة رجل اهتدى وعرف السعادة اسمع يا عبد الله! إلى هذا الرجل كيف اطمأن قلبه؟ وكيف انشرح صدره؟ كان لا يعرف من الدنيا إلا النساء والأغاني والطرب! ظن أن السعادة هناك، وظن أن الحياة أغنية، وامرأة، وكأس، ونوم، وأكلٌ وشرب، ثم تنتهي الدنيا، فإذا به في الشارع يأتيه أحد الرجال الصالحين، يراه من بعيد فيسرع إليه لينصحه، فإذا بالفتاة تهرب فإذا به يأتي إلى هذا الشاب لينصحه، اسمع إلى تلك القصة الغريبة، جاء لينصحه ويُذكِّره بالله جلَّ وعلا، فإذا به يقول له: يا عبد الله! ألا تخاف من الله وتخشاه؟ فإذا به يذكره بقول الله جلَّ وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18] يُذكِّره وينذره يوم القيامة، ويحذره عذاب الله جلَّ وعلا، يقول: نصحته نصف ساعة، ثم توقفت وإذا بي أراه وعيناه تدمعان! يبكي، عيناه تذرفان الدمع، يقول: فتعجبت من حاله، فأخذت رقم هاتفه وذهبت إلى بيتي ولم أتذكره إلا بعد أسبوعين، يقول: فرفعت سماعة الهاتف في الصباح، فسلمت عليه وقلت له: أنت فلان؟ قال: نعم، فقلت له: أتذكرني؟ قال: وكيف أنسى الصوت الذي كان سبباً في هدايتي. الله أكبر! انظر إذا أراد الله أن يهدي إنساناً، وقال: وكيف أنسى الصوت الذي كان سبباً في هدايتي؟ قال: الله أكبر! اهتديت، قال: والله إنني منذ تلك الموعظة قد صلح حالي، والتزمت بطاعة الله، فقلت له: اليوم أزورك بعد صلاة العصر وسوف آتيك إلى البيت، فقال: حيَّاك الله! يقول هذا الشيخ الداعية: صليت العصر، وبعد صلاة العصر جاءني ضيوف أخروني عن الموعد. يقول: فإذا بي أنتظر مغادرة الضيوف، فذهبوا وقد حلَّ الليل، فقلت: لا بد أن أزوره على الموعد، يقول: فجئته في الليل متأخراً؛ فطرقت الباب، فخرج لي رجلٌ كبير في السن، فقلت له: أين فلان؟ قال: من؟ قال: فلان بن فلان؟ قال: دفناه قبل ساعة، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، غير صحيح اليوم كلَّمته بالهاتف، قال: لم يكن به بأس، صلَّى الظهر وتغدَّى معنا، ثم نام، وقال: أيقظوني لصلاة العصر، يقول: فجئنا لنوقظه فإذا به قد فارق الحياة الدنيا، فقلت له: ومن أنت؟ قال: أنا أبوه، قال أبوه: ومن أنت؟ قال: عرفت ابنك قبل أسبوعين، قال: إذاً أنت الذي أنقذ ابني من النار {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]. أسألك -أخي الكريم سؤالاً! أسألك بالله وأجبني! أجب نفسك بنفسك إلى متى هذه الحياة؟ إلى متى والواحد منا إن صلىَّ صلاةً فرَّط بالأخرى؟ لم يمر عليه يوم يحافظ فيه على خمس صلوات في بيت الله إلا ما ندر إلى متى؟ إلى متى يمر علينا الشهر والشهران ولم نختم فيه القرآن مرة؟ إلى متى والعين تنظر للحرام؟ إلى متى والأذن تستمع للحرام؟ إلى متى واللسان لا يُبالي حداً من حدود الله غيبة، نميمة، سُخرية، كذب، استهزاء؟ إلى متى يا عبد الله؟ {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ} [الحديد:16].

بلال وسعادته في الدنيا

بلال وسعادته في الدنيا انظر إلى بلال رضي الله عنه هذا الرجل الذي إن نظرت إلى ظاهره تقول: هذا مسكين عُذِّب في الحياة الدنيا. أيها الأخ الكريم: نحن المساكين! أما هو فهو من أسعد الناس في هذه الحياة الدنيا، أتعلم ما الذي جرى له؟! كان يُجرّ في الرمضاء وعلى صدره الصخرة، وكان الأطفال خلفه يركضون ويضحكون، والسفهاء يرمونه بالحجارة، وهو يتلفظ بقوله: أحدٌ أحد! قالوا له: نتركك ونعتقك بشرط أن تكفر بهذا الدين؟ وهو يرد عليهم فيقول: أحد أحد! تعرف كيف مات هذا الرجل؟ كان يحتضر وعنده زوجته، فبكت زوجته فقال لها: ولمَ تبكين؟ قالت: واحزناه، وا بلالاه، تبكي على زوجها، قال لها: بل واطرباه، وافرحاه، غداً نلقى الأحبه محمداً وحزبه لعلك إن نظرت إلى حاله تقول: مسكين! ماذا جمع من الدنيا؟ أي كنوزٍ جمعها؟ أي نعيمٍ عاشه في الدنيا؟ إنه السعيد حقاً، سمع النبي صلى الله عليه وسلم خشخشة نعليه في الجنة.

حبيب بن زيد يموت شهيدا سعيدا

حبيب بن زيد يموت شهيداً سعيداً أسمعت بـ حبيب بن زيد هذا الرجل كان رسولاً لرسول الله إلى مسيلمة الكذاب، أرسله النبي صلى الله عليه وسلم رسولاً إليه يأمره بالرجوع إلى الإسلام، فقال له: تشهد أني رسول الله؟ قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. قال: ماذا؟! ألا تعلم أني رسول الله؟ قال: إن في أذني صمماً، انظر كيف ردَّ عليه! فإذا به يشير ذلك المنافق المرتد إلى جندي من جنوده أن يقتله فقطع أعضاءه عضواً عضواً ثم مات {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30].

البحث عن السعادة

البحث عن السعادة عبد الله! ألا تريد السعادة! ألا تريد الراحة في الدنيا! لعلك بحثت عنها فلم تجدها، إنك لن تجدها في الملايين، ولن تحصل عليها في القصور أو في السيارات الفاخرة، ولا عند النساء، ولا بالأرصدة، ولا في بلاد الإباحية والخنا والفجور، لن تجدها إلا بين دفتي المصحف، لن تحصل عليها إلا في آخر الليل في السحر، إذا قمت وصليت بها ركعتين، لن تراها إلا وأنت تطوف حول البيت، وأنت تقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك! سل الصالحين وقل لهم: ما أسعد لحظة مرت عليكم في الحياة؟ بعضهم سوف يُجيبك فيقول: إنه قيام الليل في ليالي رمضان، وبعضهم يقول لك: وأنا أفطر بتلك الرطب وتلك التمرات في بيت الله الحرام في شهر رمضان، أسمع الأذان يقول: الله أكبر! وأنا آكل تلك الرطب، وبعضهم يقول: إنها لحظات الجهاد في سبيل الله، انتظر الموت ولا أجده، رأيت صاحبي فارق الدنيا، وزملائي استشهدوا، وأنا أبحث عن الموت فلا أجده، إنها أسعد لحظات حياتي. وبعضهم يقول لك: إنها لحظة بكاء، دمعت فيها عيني في بيتٍ من بيوت الله، ليس فيه أحد وأنا أقرأ كلام الله.

غلام يبحث عن السعادة

غلام يبحث عن السعادة اسمع يا عبد الله إلى هذا الغلام كيف بحث عن السعادة؟ قام شيخٌ كبيرٌ في المسجد يحث الناس على الجهاد في سبيل الله، وكان الوقت وقت حرب دخل النصارى فيه على المسلمين، وغزو بلادهم، فقام الشيخ يَحثُّ الناس على الجهاد، فخرج وجاء وقت الاستعداد للجهاد، فجاء الشيخ وركب الفرس، فنادته امرأة: أيها الشيخ! فالتفت إليها وولى ولم يجبها، فنادته وقالت: أيها الشيخ! أسألك بالله أن تجيبني؟ فقال لها: ماذا تريدين يا أمة الله؟ قالت: أيها الشيخ! سمعت خطبتك في المسجد وأردت أن أُجاهد في سبيل الله ولم أجد إلا هذا الظرف فخذه يا شيخ! واجعله رباطاً لك في سبيل الله. يقول الشيخ: فأخذت الظرف ففتحته! أتعرف ماذا وجد فيه؟ وجد فيه ظفيرتيها -شعر تلك المرأة- قصت شعرها لتجاهد به في سبيل الله، وقالت له: أسألك بالله أن تجعله رباطاً لخيلك في سبيل الله، ليس عندي ما أجاهد به في سبيل الله إلا هو، فأخذ الشيخ تلك الظفيرتين، وربط بها فرسه وهو يتعجب من أمرها، وذهب للجهاد فإذا به يُنادى فالتفت! فإذا بغلامٍ صغير يناديه، فيقول له: يا شيخ! فقال له: ماذا تريد أيها الغلام؟ قال: أسألك بالله أن تحملني معك على فرسك في سبيل الله، قال: يا غلام! إن الله قد وضع عنك الجهاد في سبيل الله، وأنت صغير ولست بمكلف. فقال: أسألك بالله أن تحملني معك على فرسك، قال: لا. قال: أسألك بالله. قال: أحملك معي بشرطٍ واحد؟ قال: وما هو الشرط؟ قال: أحملك معي بشرط أنك إذا قُتِلتَ في سبيل الله واستشهدت وبعثك الله عنده يوم القيامة أن تشفع لي عند الله. قال: لك ذلك أيها الشيخ. يقول: فحملته وأردفته معي على خيلي وهو غلام صغير، يقول: فإذا بنا ندخل المعركة، وحمي الوطيس فإذا بالغلام يضرب كتفي ويقول لي: يا شيخ! فقلت له: ما تريد؟ قال: أعطني ثلاثة أسهم، قال: اجعلها لغيرك يا غلام، قال: أعطني ثلاثة أسهم، يقول: فأعطيته تلك الثلاثة، يقول: فإذا به يأخذ السهم الأول، وهو يقول: بسم الله! فإذا به يصيب نصرانياً رومياً ويسقط من ذلك السهم. قلت: الله أكبر! غلام ولكنه مستعدٌ للجهاد في سبيل الله، يقول: فأخذ السهم الثاني! فإذا به يقول: بسم الله ورمى به رومياً آخر، يقول: فقال بالثالث: بسم الله! وأصاب به ثالثاً، يقول: فتعجبت من أمره! يقول: وبعد لحظات نظرت إليه فإذا به قد أصيب، أصابه سهمٌ طائش، يقول: وسقط من على الفرس، يقول: ونزلت أمسح الدم من عليه فكلمته وقلت له وهو يحتضر ويفارق الدنيا: يا غلام! أذكرك العهد الذي بيني وبينك أن تشفع لي عند الله يوم القيامة، فقال لي: يا شيخ! خذ هذه الخرقة وأعطها لأمي، فقال له: يا بني! وكيف أعرف أمك؟ فقال الغلام: يا شيخ! أمي صاحبة الظفيرتين {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران:34] يقول: فمات فبكيت، يقول: فانتصرنا في تلك المعركة. قال الشيخ: فأخذت الخرقة ورجعت إلى المدينة، فطرقت الباب! فإذا بأخته تخرج، فقالت: ما شأنك؟ قال: أبشرك. قالت: وما ذاك؟ قال: أبشركم بموت ابنكم، فقالت: الله أكبر! وخرجت الأم وهي تكبر، وتقول: مات أبوه فاحتسبناه عند الله، ثم مات أخوه الكبير فاحتسبناه عند الله، والآن يموت هذا الغلام الصغير فنحتسبه عند الله جلَّ وعلا. أرأيت يا عبد الله؟ {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30] لعلك تتعجب! لِمَ لَمْ ينم الأولون؟ ولمَ سهر الأولون؟ {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18] كانوا ينتظرون يوماً كان مقداره خمسين ألف سنة.

بحث السلف عن السعادة

بحث السلف عن السعادة يقول كعب الأحبار: عينٌ في النار يغمس فيها الرجل غمسة واحدة فيخرج وقد انفصل الجلد واللحم عن الجسم، لم يبق إلا العظام وهو حي أحشاؤه وعظامه، أما لحمه وجلده قد انفصل عن العظم، يقول: ويتعلق جلده ولحمه بكعبه، ويمشي يجر جلده ولحمه {لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً * إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً} [النبأ:24 - 25] أرأيت لماذا ضحوا بأنفسهم؟ أرأيت! لماذا كان الواحد لا ينام الليل؟ أعلمت لماذا كان الواحد منهم لا يُفارق كتاب الله؟ كان إذا قرأ دمعت عينه. ألم تعلم أن عمر كان إذا صلَّى سمع نشيجه من وراء الصفوف، أما أبو بكر فكان لا يستطيع الصلاة إذا صلَّى بالناس، أول ما يبدأ بالفاتحة بكى، علمت لمَ كان عثمان لم يرفع رأسه عن القرآن حتى قُتِلَ وهو يقرأ في المصحف؟ حتى سال الدم على المصحف، فبكت زوجته وهي تقول: قتلتموه وإنه ليحي الليل بالقرآن {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ} [الزمر:9] أمام التلفاز يدخن يلعب بالورق يتحدث في الأحاديث الباطلة اللاغية، أم ماذا يفعل؟ {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ} [الزمر:9] يحذر الآخرة، يخاف من يوم القيامة. يقول ابن عباس: يجمع بين رأسه ورجله في النار. تخيل!! كيف يجمع بين الرأس والرجل؟ يقول: يُكسر كما يكسر الحطب فيلقى في التنور. أرأيت كيف تكسر الحطب لتلقي في النار؟ هكذا يُكسر يوم القيامة {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ} [الرحمن:41] النواصي -الرءوس- والأقدام يكسر ثم يُلقى في النار {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77] يتمنون الهلاك! يتمنون الموت؛ ولكن {قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف:77 - 78].

رسائل وتوجيهات لرجل الأمن

رسائل وتوجيهات لرجل الأمن أخي الكريم! قبل أن أختم هذه الموعظة وهذا الحديث هذه رسائل أوجهها خاصة لك: رجل الأمن: احفظها واجعلها نبراساً لك في حياتك الدنيا: إن وظيفتك عظيمة، وغايتك في الدنيا سامية، ومهمتك صعبة، أن تحفظ الأمن للناس، إن هذا العمل عظيم وصعب؛ ولكن أجره عند الله عظيم إن أخلصت النية، أوجه لك هذه النصيحة فاحفظها، وهذه الرسائل فعها يا عبد الله! أولها: إنما أنت عبدٌ لله! {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً} [مريم:93 - 94] كل من في السماوات والأرض يأتي لربه جلَّ وعلا يوم القيامة عبد {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] فأنت قبل أن تكون ما تكون أنت عبدٌ لله جلَّ وعلا، تسمع وتطيع لله تبارك وتعالى، ولا تقدم على أوامر الله أحداً، لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق:1]. عبد الله: إن من الناس من يدخل جهنم، فيتقلب فيها كالسمك، قال تعالى: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا} [الأحزاب:66] فاحرص على طاعة الله، ومن طاعة الله: الحرص على الصلوات الخمس، خمس فرائض لله تبارك وتعالى: الفجر، والظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء. هذا رجلٌ ماتت أخته في الزمن القديم، فحملها ليدفنها، فإذا به أثناء دفنها سقطت محفظة نقوده، أراد أخذها فنسي، فدفن أخته ورجع إلى البيت، فحلَّ الليل، فرجع مرة أخرى إلى أخته في الليل لينبش القبر ويخرج نقوده، فإذا به في الليل لوحده في القبر، يحفر القبر فلمَّا وصل إلى جثة أخته، إذا به يجد جثتها تحترق، فردم القبر وأسرع إلى بيته، فدخل وسأل أمه! فقال: يا أُماه! أخبريني عن حال أختي، قالت: عن أي شأنها تستخبر؟ قال: أخبريني عن حالها فإني رأيت قبرها يشتعل عليها ناراً، قالت: لم يكن بأختك أمرٌ أكرهه إلا أنها كانت تُؤِّخر الصلاة عن وقتها، تصلي لكن تؤخر الصلاة عن وقتها. والمفرط متى يصلي الفجر؟ بعد ما تطلع الشمس. متى يصلي العصر؟ لما تصفَّر الشمس. متى يتذكر المغرب؟ إذا أذن العشاء {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59]. احرص -يا عبد الله- ألا يدخل في هذه الأذن إلا ما أحلَّ الله تبارك وتعالى، ولا تنظر بهذه العين إلا إلى ما أحل الله جلَّ وعلا، ولا تتكلم بلسانك إلا بما يرضي الرب جلَّ وعلا قال تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65] سوف يأتي يوم من الأيام هذه اليد تتكلم، والجلود -يا عبد الله- تنطق، تنطق بمن لمس هذا الجلد. أسمعت بذلك الرجل لأول مرة في حياته! ذهب إلى إحدى البلاد ليفعل بعض الأفعال التي حرمها الله جلَّ وعلا؟ لم يُجرِّب هذا الفعل في حياته أبداً لأول مرة، ذهب وعاشر امرأةً بالحرام، وبعد أيام نظر إلى جسمه فإذا به قد تغيَّر، لكنه تحمَّل، ولم يرد أن يذهب إلى الطبيب، فطالت به الشهور وخشي أن يرجع إلى بلده وبه هذا المرض، لكنه لم يتحمل هذا المرض ولم يذهب مع هذا إلى الطبيب، فظل شهوراً طويلة ثم ذهب إلى الطبيب وقد أنهكه المرض، فإذا به في غرفةٍ رمي بها وحيداً فريداً غريباً، قال له الطبيب: هل فعلت شيئاً؟ قال: لا. هل عاشرت امرأة؟ قال: لا. قال: لا بد أنك فعلت شيئاً. قال: أبداً يخاف الفضيحة والعار، فلما اقتربت ساعة وفاته وعلم أنه سوف يُفارق الدنيا، قال للطبيب: نعم! عاشرت امرأةً بالحرام، فإذا بالطبيب يتركه ويُسلِّم أمره إلى خالقه جلَّ وعلا، وما هي إلا أيامٌ تعذب بها ثم فارق الحياة الدنيا. عبد الله! أي حياة تلك الحياة؟!

ملازمة طاعة الله عز وجل

ملازمة طاعة الله عز وجل أولاً: عليك بطاعة الله، لا تقدم على الله تبارك وتعالى أحداً، يقول الله جلَّ وعلا: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285] إذا سمعت فأطع ربك جلَّ وعلا، ولا تقدم على أمر الله أحداً.

تجنب الظلم

تجنب الظلم الأمر الثاني: يا عبد الله! في حياتك الدنيا إياك والظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة إياك أن تظلم إنساناً، ولو بكلمة، أو لو بضربة، أو باتهام، أو بأي أمرٍ كان (فالمفلس يوم القيامة من يأتِ بصلاة وصيام ولكنه شتم هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإذا فنيت حسناته، أخذت من سيئاته ثم طُرِحت عليهم، ثم طُرِحَ في النار) {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} [إبراهيم:42]. لا تقل: هذا من جنسية كذا، وهذا إنسان حقير، وهذا إنسان ضعيف فتظلمه! فالله جلَّ وعلا لا يظلم أحداً، ويوم القيامة يأتِ الظالم السمين العظيم لا يزن عند الله جناح بعوضة، يطؤه الناس بأقدامهم؛ لأنه ظلم {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [إبراهيم:42]. عبد الله: هذه نصيحة وموعظة، أطلب منك طلباً قبل أن أختم الحديث، قبل أن تضع رأسك على الفراش، أو وأنت تنتظر ساعة النوم، أن تُفكِّر في هذه الكلمات، واجعل هذه الليلة آخر ليلة في حياتك: تزود من التقوى فإنك لا تدري إذا جنَّ ليلٌ هل تعيش إلى الفجر فكم من صحيحٍ مات من غير علة وكم من سقيمٍ عاش حيناً من الدهرِ وكم من صغارٍ يرتجى طول عمرهم وقد أدخلت أجسادهم ظلمة القبر وكم من عروسٍ زينوها لزوجها وقد نُسجت أكفانها وهي لا تدري وأحسن منه قول الله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر:5]. واجعل هذه الليلة بداية حياة جديدة لك بينك وبين الله الميلاد الجديد، اجعل هذه الليلة صفحة جديدة بينك وبين الله، وقل من قلبك صادقاً: يا رب! {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:84] قلها صادقة: يا رب! تبت إليك، قلها وأخرجها من قلبك: يا رب! لا عودة إلى الذنوب والمعاصي، يا رب! من هذه الليلة سوف أحرص على خمسٍ في اليوم والليلة، لن أفارق بيت الله، لن أهجر القرآن، يا رب! لساني بإذنك لن يتلفظ إلا بما أحلَّ الله، فإن زللت وإن غفلت فارجع إلى الرب جلَّ وعلا، فإنه يقول عن نفسه: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82] هذا وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

وقفة محاسبة

وقفة محاسبة محاسبة النفس نتيجة طبيعية لإدراك حقيقة الدنيا، وحقيقة الآخرة. ومن أدرك هذه الحقيقة لا يفتأ يستعد في كل حال للقاء ربه، فيقبل بجوارحه ولبه، على إصلاح جسمه وقلبه، ويزهد في الدنيا الفانية، ليثقل وزنه في الآخرة الباقية، ويتفكر في الموت، ويمعن النظر في لقاء الله، فلا يملك بعد ذلك أن يعصيه. وهنا وقفات في فضل الطاعة والتوبة، وخطر المعصية والتسويف، وصور ناصعة من حياة أهل الله من السلف الصالح.

الاستعداد الدائم للقاء الله

الاستعداد الدائم للقاء الله الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فالعنوان وقفة محاسبة. أيها الأخ الكريم! قبل أن أدخل في الموضوع، حاول أن تعيش معي هذه الآية، وأن تترجمها في حياتك العملية، ثم لنجعلها مدخلاً لحديثنا، وهي قول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18] هل أنت من الذين آمنوا؟ إذن فأرخ لها سمعك: (اتقوا الله) فاجعل بينك وبين عذاب الله وقاية، ثم بعدها انظر ماذا قدمْتَ لغد. أيُّ غد يا عبد الله؟ الغد قريب {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً} [المعارج:6] * {وَنَرَاهُ قَرِيباً} [المعارج:7] قريب يا عبد الله، ربما تكون هذه الليلة هي الأخيرة، وربما لن ترى الفجر، وربما لن ترى الشمس تشرق عليك بعد هذه الليلة، وما يدريك ربما لن ترجع إلى أهلك بعد هذه اللحظات، بل ربما لن تسمع حديثي إلى النهاية، وما يدريك، هي أقرب من لمح البصر، بل يا عبد الله الأمر يأتي بغتة وفجأة. هذا رجل خرج من بيته، فقال لأهله: ماذا تريدون وماذا تطلبون؟ قالوا: نريد كذا وكذا، فإذا به يذهب، وبعد قليل يصل اتصال إلى أهل البيت: أهذا بيت فلان بن فلان؟ قالوا: نعم، قالوا: إن أباكم أو ابنكم أو زوجكم ينتظركم في المستشفى الفلاني، أسرعوا! فإذا هو قد فارق الدنيا، مسكين كان يظن أنه سوف يرجع إلى البيت. وهذا الذي بنى البيت ولما يؤثثه، انتظر متى يؤثث البيت وكان يحلم ويخطط، وكان يتأمل ولكن الأجل أقرب. وهذا الذي كان يدرس، ينتظر الشهادة أربع سنين، ولما ذهب ليستلم الشهادة، فإذا هو بحادث يفارق به الحياة الدنيا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18]. أيها الأخ الكريم: اجعل نفسك أمام الله جل وعلا وكأن الله يحاسبك، وكأن ميزان الأعمال قد نصب، وكأن الكتاب قد وضع أمامك: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَة} [الكهف:49] نظرة، كلمة، زلة، أغنية استمعت إليها، كلها مكتوبة، أف للوالدين، ترك للصلاة، غيبة، نميمة، {لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49].

الموانع التي تشغل الإنسان عن محاسبة نفسه

الموانع التي تشغل الإنسان عن محاسبة نفسه مما يمنع الناس عن رؤية هذه الحقيقة أمور:

الدنيا ومتاعها

الدنيا ومتاعها أولها: الدنيا. وانظر إلى تكالب الناس على الدنيا، يمر النبي صلى الله عليه وسلم على تيس، أو جدي أسك ميتاً -أسك: أي مقطوع الأذن- يمر عليه فيقول للناس: من يشتري هذا بدرهم؟ فيقولون: يا رسول الله! جيفة نتنة، لو كان حياً ما اشتراه أحدنا بدرهم أو درهمين، كيف وهو جيفة ميتة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (للدنيا أهون عند الله من هذا عند أحدكم). {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان:33] تصدنا الدنيا عن ذكر الآخرة، كان سفيان الثوري في المسجد، فقال لصاحبه: ائتني بالماء، يقول: فجئت له بإناء فيه ماء يقول: فوضع يده اليمنى على خده الأيمن، ووضع يده اليسرى على خده الأيسر، وأخذ ينظر إلى الماء، قال: فذهبت ونمت أول الليل، فاستيقظت على الفجر، يقول: فجئته بعد صلاة الفجر، فإذا هو على هذه الحالة، يده اليمنى على خده الأيمن واليسرى على خده الأيسر وهو في المسجد، فقلت له: يرحمك الله، ما زلت على هذه الحالة منذ أن فارقتك، قال: لا زلت أتفكر في أمر الآخرة. {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [النور:36] * {رِجَالٌ} [النور:37] الآن بعد صلاة العصر من يجلس إلى المغرب في المسجد من الناس؟ كان عبد الله بن المبارك بعد العصر لا يكلم أحداً، يجلس في المجلس يذكر الله حتى تطلع الشمس، من منا يفعلها ولو مرة في الأسبوع، ولو كان يوم جمعة؟! ومن الذي يشغلنا؟ إنها الدنيا {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور:36 - 37] تعرف ما الذي جعلهم في المساجد بعد الفجر وبعد العصر؟ {يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور:37]. الإمام أبو حنيفة يقوم الليل كله بآية، يرددها ويبكي طول الليل إلى الفجر، تعرف ما هذه الآية؟ {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:27]. إنها الدنيا يا عباد الله! حتى أنه قال يوماً لأصحابه عليه الصلاة والسلام: (ما لي وللدنيا! ما لي وللدنيا! ما أنا في الدنيا إلا كراكب، استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها) قال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} [الكهف:46]. الدنيا تتزين لك بصورة امرأة، وبيع وشراء، ومجالس لشرب الشاهي والقهوة إلى منتصف الليل، ثم لا صلاة فجر ولا قيام ليل، هذه هي الدنيا يا عبد الله! الدنيا أسهم، وربا، وأموال، وتجارات، هذه هي الدنيا. يقول أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه: [جاهدنا مع رسول الله عليه الصلاة والسلام حتى فتح الله علينا، يقول: فقلنا بيننا وبين أنفسنا بعد أن فتح الله للمسلمين: لو التفتنا إلى ضياعنا ومزارعنا فأصلحنا ما فيها]. تركوا المزارع، والضياع، تركوا البيوت، وجاهدوا في سبيل الله، فلما نصر الله دينه، قالوا: لو التفتنا إلى مزارعنا فأصلحنا ما فيها، لا تنس نصيبك من الدنيا، فإذا بالرب جل وعلا ينزل قوله: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195] أرأيت كيف صدتنا هذه الدنيا؟ فحاسب نفسك كيف تقضي وقتك، كم للدنيا وكم لله جل وعلا. هذا الإمام أحمد ثماني عشرة سنة يلبس حذاءً واحداً، كلما تقطع النعل خصفه بيده، يرقعه بيديه رضي الله عنه ورحمه الله؛ دخل عليه ابنه عبد الله يوماً، فرآه في غرفة مظلمة متربع، مستقبل القبلة يبكي، فقال له: يا أبي! ما لك يرحمك الله؟ قال: أتفكر في أمر الآخرة، فقال له ابنه: يا أبي هلا اتكأت على الحائط، أنت رجل كبير متعب، اتكئ على الحائط قال: أستحي أن أناجي ربي وأنا متكئ. {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} [الانفطار:6 - 7] عبد الله! سل نفسك ما الذي غرك؟ يقول: (للدنيا أهون عند الله من هذا عند أحدكم) وقال: (لو كانت هذه الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء).

نسيان المصير

نسيان المصير ومما يلهينا: نسيان الموت والمصير. هل تفكرت يوماً في مصيرك يا عبد الله؟! لو كنت طريح الفراش، سل نفسك؛ لربما تكون هذه حالتك، وسوف أروي لك حالة يمر بها أكثر الناس بل كلهم، هذا رجل على الفراش، أحس بأمر غريب، رأى شيئاً عند ظهره أو عند رأسه جالساً، قال له: من أنت؟ فقال: أنا ملك الموت، أنا ملك الموت، قال: ما الذي جاء بك؟! قال: جئت لأنتزع الروح -لأقبض الأمانة- فقال له: انتظر قليلاً، قال: ولم؟ قال: انتظر عندي بعض الذنوب، عندي أفلام أريد أن أحرقها، وعندي أموال ربوية سوف أتصدق بها، انتظر قليلاً ما صليت الفجر اليوم، انتظر قليلاً لم أغتسل من جنابة، انتظر لقد اغتبت أناساً وأخذت أموالهم وظلمتهم ولم أتحلل منهم، انتظرني قليلاً قال: كلا. فإذا بالروح تنزع، وإذا بمن دخل عليه يصيح؛ دخلت أمه تبكي ودخل أبوه، ودخلت زوجته، ينظر إليهم لا يستطيع أن يرد على أحدهم. البنت الصغيرة انطرحت على صدره تقول له: يا أبي ما لك لا تجيب؟! الولد يقول له: يا أبي ألم تعدنا بالسفر؟! ألم تعدني بتلك السيارة، وبهذه اللعبة؟! يا أبي ما لك لا تجيب؟! ينظر إلى زوجته الثكلى، تقول له: يا فلان لمن تتركنا؟ والأب قد جاء بالطبيب، والأم تنوح، وينظر إليهم ولكن: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [القيامة:26 - 27] فجاء الطبيب يحاول علاجه ولكن: {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} [القيامة:28] فراق البيت والأثاث، أم فراق الأولاد والبنات، لمن تتركهم يا عبد الله؟! فراق القصور، والسيارات، والشهادة، والمنصب، والأرصدة، والزوجة، والوالد، والوالدة: {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} [القيامة:28] فإذا به بعد لحظات يغسل، ثم يوضع في الكفن {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} [القيامة:29] ثم حمل على الأعناق؛ إن كان فاجراً يصيح: يا ويلها أين تذهبون بها؟ يا ويلها أين تذهبون بها؟ {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:30] ثم وضع في القبر فيا ويله! {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة:31 - 32] يا ويله ما صلى الفجر، ولا صلى العصر، ولا حافظ على الدين. يا ويله! خرج إلى حفرة ولا زال يترك بعض المعاصي والذنوب! يقول عند الوفاة: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون:99] يقول: يا رب لحظة، يا رب ليلة واحدة فقط، تظنه لو رجع يقبل أولاده، أو يعاشر زوجته، أو يسكن قصره، أو ينفق أمواله، لا ورب العزة، يريد أن يرجع لأجل شيء واحد {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً} [المؤمنون:99 - 100]. فإن لم يكن هو، فكن أنت يا عبد الله، والله يريد أن يرجع فلا يرفع رأسه عن السجود، ولا يقطع لسانه عن ذكر الله، يريد أن يرجع فيبكي الدم وليست الدموع توبة من تلك المعاصي والذنوب ولكن: {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون:99 - 100] كان في الدنيا كثيراً ما يقول: يا رب لن أعود إلى المعصية، أو بعد سماع هذه الكلمات يقول: وعزتك وجلالك لأحفظن على الفجر، وأقوم الليل، وأعتزل الفجور والمنكرات، فإذا به بعد يوم أو يومين يرجع كما كان، كلمة هو قائلها. أصيب بمرض، فقال: يا رب! لئن شفيتني من هذا المرض والله لأتوبن ولأنبيبن إليك، وبعد أيام لما شفاه الله رجع كما كان، كلمة هو قائلها؛ كذاب: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100]. أسألك بالله أن تذهب إلى المقبرة، لست على موعد، ولا تقصد فقط اتباع الجنازة، اذهب لوحدك، واجلس عند القبور واسأل أهلها، وانظر هل يجيبوك؟ أين جمال وجوههم، وكيف صنعت بها الديدان؟ أين قوة أجسادهم، وكيف فعلت بهم الأرض؟ يا عبد الله! سلهم: أين الملوك؟ أين العظماء؟ أين أهل القصور؟ أين أهل الأموال؟ أين أهل النساء؟ ماذا فعلوا في القبور؟ عبد الله سلهم واجلس عندهم، هل يجيبك أحد؟ أتيت القبور فناديتها أين المعظم والمحتقر تفانوا جميعاً فما مخبر وماتوا جميعاً ومات الخبر فيا سائلي عن أناس مضوا أما لك فيمن مضى معتبر

التسويف وطول الأمل

التسويف وطول الأمل لا تقل آخر مرة أفعل هذه المعصية، وما يدريك لعلها اللحظة الأخيرة، لعل ملك الموت ينتظر الآن، أول ما تقرب عند هذه المعصية يهجم عليك، هذا الرجل كان صالحاً، وكان مع الصالحين، وكان يحضر مثل هذه المجالس، غرته الدنيا، وسول له الشيطان، فإذا به يترك الصالحين إلى قوم فجرة فسقة، مرت الأيام ودارت، ولا زال يحافظ على الصلاة ولكن يفعل بعض المعاصي، قال له الفجرة الفسقة: نريد أن نسافر إلى بلاد كذا وكذا، قال: أعوذ بالله، قالوا: تمتع معنا، قال: معاذ الله، فصمموا عليه فأجابهم، وسافر معهم إلى بلاد الخنا والزنا، جلس معهم في الغرفة، كل ليلة يذهبون إلى المعاصي ولا يذهب معهم، يخاف الله، لا زال فيه شيء من الإيمان، كل ليلة يحاولون به ولكن لا فائدة، الرجل لا زال متمسكاً بشيء من دينه، جاءوا إليه بعاهرة داعرة، قالوا: لا بد أن ندخله معنا فيما نحن فيه، فإذا بهم يفتحون عليه الباب وكان لوحده في الليل، وأدخلوا عليه العاهرة، وأقفلوا عليه الباب، فلا زالت تراوده ويردها، وتحاول به فيصدها، ولا زالت به حتى وقع عليها، فلما وقع عليها قبض الله روحه {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [القلم:44 - 45]. لعلك تقوم لصلاة الفجر، ثم ترجع وتنام، لكنها النومة الأخيرة، فكيف تلقى الله جل وعلا؟ تركت الصلاة، نمت عن صلاة الفجر يا عبد الله، لعلك تقول: هي آخر مرة سوف أكلمها وأجلس وأختلي معها، ثم أتوب إلى الله جل وعلا، يختلي فإذا به يفارق الدنيا، سافر لأول مرة في حياته، ليفعل الزنا في بلاد يظن أنه لن يراه بها أحد، دخل إلى الغرفة، أغلق الباب مع مومسة فاجرة، كان يعاشرها بالحرام، فإذا بالفندق يحترق، وإذا به لا يكتشف إلا في نهاية الأمر أن الفندق يحترق، فتح الباب ليهرب لكن القدر والأجل كان أقرب، جثة متفحمة، رأيت خاتمته يا عبد الله، لا تقل: المرة الأخيرة، ولا تقل: إن شاء الله هذه آخر مرة، انتبه يا عبد الله: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:135] بشرط {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135].

من قصص الصابرين على الطاعة

من قصص الصابرين على الطاعة عبد الله: ثباتك على دينك إلى أن تموت واجب، ليست القضية يوماً أو يومين، اليوم أصلي وغداً لا أصلي، اليوم أنا صالح وغداً مع الفجرة الفسقة وهكذا إلى أن تموت.

ماشطة بنت فرعون

ماشطة بنت فرعون مر النبي صلى الله عليه وسلم في المعراج على رائحة طيبة، فقال لجبريل: ما هذه الرائحة الطيبة؟ قال: هذه رائحة ماشطة بنت فرعون اسمع إلى خبرها ونبئها، فنبؤها عجيب، وخبرها عظيم، قال: رائحة ماشطة بنت فرعون فرعون الذي كان يجمع الناس والحاشية والوزراء، ثم ينادي فيهم: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] بحثت لكم في الأرض ما وجدت لكم آلهة إلا أنا، وكان يتهكم موسى، يقول لـ هامان: {ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} [غافر:36 - 37] أريد أن أنظر إلى هذا الإله المزعوم، انظر كيف التهكم والاستهزاء. فرعون الجبار الذي يقول: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24]. هذه امرأة خادمة عند ابنته، آمنت فكتمت إيمانها خوفاً على أولادها الصغار، وفي يوم من الأيام كانت تمشط لبنت فرعون، فسقط المشط، أخذت المشط فزل اللسان، فقالت: باسم الله، فسمعتها البنت، قالت: تقصدين أبي؟ قالت: لا. طغى الإيمان وطفح، نسيت العذاب والقتل، ونسيت أولادها، قالت: بل ربي وربك ورب أبيك الله رب العالمين، قالت: سأخبر أبي. وأبوها هو صاحب السيف، سفاك الدماء، الشوارع تسيل من دماء الذين قتلهم ظلماً، قالت: أخبريه، ولم تبال بأولادها ولا بنفسها، دخلت في القصر وعن يمينها وشمالها الجلادون، الجلاوزة، فجاءت إلى فرعون الذي يقول: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24] قال: يا فلانة! أولكِ رب غيري؟ قالت: نعم. ربي وربك الله رب العالمين. قال: ما تقولين؟ قالت: ما تسمع، ربي وربك الله رب العالمين، قال: أحضروا أولادها الصغار، تخيل، وكن في موقفها يا عبد الله، والأم أعظم شفقة من الأب، جاءوا بأولادها الرضع يبكون، وأحميت القدور، فجاءوا بالولد الأول، وقالوا: ترجعين؟ كلمة واحدة تقولها تنجي نفسها وأولادها، ولكن اسمع إلى الصبر على الدين والثبات، جيء بالولد الأول فإذا به ينزل في القدر، وهو حي يبكي فيدخل، فينفصل اللحم عن العظم، حتى تقطع لحمه وعظمه في القدر ومات، والأم تنظر ولم ترجع عن دينها شبراً، جيء بالولد الآخر وأحرق وهو يبكي، وتخيل ذلك المنظر وهو ينادي أمه، يا أماه! يا أماه! تظن الولد ينظر إلى أمه ولا يستنجد بها، والمسكينة يعتصر قلبها على أولادها، ولد تلو الآخر، انفصلت عظامهم عن لحومهم، ثم جيء بها إلى ذلك القدر، دورها الآن، فقالت لفرعون: لي إليك حاجة. ظن الطاغية أنها سوف ترجع، ففرح، قال: ماذا تريدين؟ قالت أسألك إذا أحرقتني أن تجمع عظامي وعظام أولادي في كفن واحد، وتدفننا جميعاً، قال: ذلك لك من الحق علينا، ثم رميت في القدر، فشم أفضل الخلق عليه الصلاة والسلام رائحتها في السماء في المعراج. {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} [البروج:4 - 7]. لمَ كل هذا؟ لمَ حرق الناس؟ لمَ قتلهم؟ لمَ صلبهم؟ لمَ طردهم؟ حتى قال أفضل الخلق: (أومخرجي هم؟ قيل: ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عودي). {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8]. عبد الله: يصبرون على دينهم بقتل أولادهم، أنت على ماذا تصبر يا عبد الله؟ الواحد يقاوم نفسه ويجاهد نفسه لصلاة الفجر، نسأل الله العافية، الصديق الآن والتقي الذي يصلي الفجر في جماعة، وكانوا لا يعدون الذي لا يصلي الفجر في جماعة شيئاً، كانوا يلومون الذي لا يقوم الليل، أما الفجر فصلاته معتادة عندهم، وكان الذي لا يصلي فقط هم المنافقون، الآن يقاوم نفسه على صلاة العصر، الآن يجاهد نفسه لترك تلك الفتاة، أو لهجر ذلك المسلسل، أو لترك تلك المباريات، وهذه الأفلام والمسلسلات، يقاوم نفسه لحضور مجلس علم وذكر، انظر الفرق بيننا وبينهم.

أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها

أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18] انظر يا عبد الله إلى السابقين، عائشة رضي الله عنها، يدخل عليها عروة رضي الله عنه، يقول: دخلت عليها وهي تصلي وتقرأ قول الله جل وعلا: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:27] الصديقة بنت الصديق، تقرأ هذه الآية وتبكي، يقول: فطال عليّ المقام، يريد أن يسلم عليها، يقول: فذهبت إلى السوق وقضيت حاجتي، ثم رجعت إلى بيتها، فوجدتها تقرأ الآية نفسها وتردد وتبكي: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:27]. ولهذا دخل عليهم أفضل الخلق عليه الصلاة والسلام يوماً وهم يضحكون، والضحك حلال ويحق لهم أن يضحكوا، قال: (لو تعلمون ما أعلم، لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً). فأين البكاء؟

قصص أخرى للمحاسبة

قصص أخرى للمحاسبة ثابت البناني، لشدة بكائه كادت عيناه أن تذهبا، كاد يصاب بالعمى، فجاءوا له بالطبيب، فقال له الطبيب: أعالجك بشرط واحد، قال: وما هو؟ قال: ألا تبكي، إن كنت تريد عينك فلا تبك، قال: وما خيرهما إن لم تبكيا. يقرأ ابن مسعود على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن يقول: فإذا به يقول لي: حسبك! يقول: فنظرت فإذا عيناه تذرفان، وذلك في آية {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء:41]. عمر بن عبد العزيز، تقول فاطمة: قرأ قول الله في صلاة الليل: {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} [القارعة:1 - 5] تقول: شهق شهقة حتى سقط على الأرض يبكي، تقول: فظننته مات، تقول: فقام مرة ثانية، وأخذ يجول في الدار، وهو يردد ويقول: يا ويلي من يوم يكون الناس فيه كالفراش المبثوث، ويلي من يوم يكون الناس فيه كالفراش المبثوث!

وقفة محاسبة

وقفة محاسبة عبد الله: هؤلاء الزهاد العباد، وهذا قولهم، فما قولنا يا عبد الله؟! لم هذه الغفلة؟ إنها النظرة، إنها الكلمة، إنه المجلس الذي نستمع فيه إلى الغيبة والنميمة، إنه يا عبد الله الذنب على الذنب على ذلك القلب حتى صار كما قال تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] النكتة بعد الأخرى، حتى صار القلب أسود، وصار لا يفقه، وصار بينه وبين ذكر الله حجاب، وصار كأن في أذنيه وقراً لا يتدبر، حتى أن بعض الناس يشتكي يقول: والله أفكر في المعصية في السجود (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد) فأي غفلة؟! وأي ملهيات أوصلتنا إلى هذه الحالة؟! أخي الكريم: جلسة محاسبة، حاسب نفسك، قبل أن يحاسبك الله جل وعلا، وزن هذه النفس، ضع كفة حسنات وكفة سيئات، وانظر أيهما ترجح؛ كفة الحسنات أم كفة السيئات، وإياك إياك أن تلتفت يمنة ويسرة، وتقول: أنا أفضل من غيري، فإن الأولين كانوا يبكون؛ عمر قبل الوفاة قال لابنه عبد الله: يا بني! ضع خدي على الأرض قال: لمََ يا أبي؟ قال: يا بني ضع خدي على الأرض، فأنزله ووضع خده على الأرض، وقال: ويل لأمي إن لم يغفر لي ربي، ويل لأمي إن لم يغفر لي ربي قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون:60] قلوب خائفة، يصلي ويصوم، ويركع ويسجد ويتصدق، ولكن القلب خائف: {أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60]. تقول زوجة مسروق: كان يقوم الليل حتى تنتفخ القدمان، فإذا أذن الفجر يزحف كما يزحف البعير، تقول: وأنا أجلس خلفه وأبكي على حاله، هكذا السابقون يا عبد الله! يروى عن عثمان أنه كان يختم القرآن كله في ليلة، لا تقل لي: هذا خلاف السنة، أين نحن من السنة؟ أين نحن من قيام الليل يا عبد الله؟ يختم القرآن كله في ليلة، قتل وهو يقرأ في المصحف، طعن تسع طعنات، حتى سال الدم على المصحف، فقالت زوجته وهي تبكي: قتلتموه وإنه ليحيي الليل بالقرآن، أنزل الله فيه: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ} [الزمر:9] لا التلفزيون، ولا السهرات، ولا مباريات، بل: {قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً} [الزمر:9] اشترى الجنة ثلاث مرات، ومع هذا يقوم الليل كله: {يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] هذا هو العلم النافع الذي يؤدي بك إلى قيام الليل، وصيام النهار، وقراءة القرآن، وذكر الله: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:2] يوجل القلب ويخاف {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2]. أخي الكريم: هذه وقفة في طريق العمر، ولعلنا نلتقي وإياك عند الله جل وعلا، وما يدريك، فلعلنا نكون تحت عرشه يوم القيامة، ولعل الله عز وجل يظلنا في ظله يوم لا ظِلَّ إلا ظٍلُّه، فتأتيني، فتقول لي: يا فلان، تذكر تلك الجلسة، لقد تغيرت حياتي بعدها، لا ندري، لعلي أقبض بيدك وتقبض بيدي، ونحن ندخل جنة الرحمن، لا ندري لعلنا نكون من أول زمرة تدخل الجنة، لا ندري يا عبد الله؟! لعلك تأتيني يوم القيامة، فتقول لي: هل تذكر ذلك المجلس؟ جزاك الله عني كل خير، فمنه بدأت أترك المعاصي، بدأت أقيم الليل، وأصوم بعض الأيام، وأعتكف على كتاب الله، به هجرت تلك المجالس. لعلنا نلتقي عند الله جل وعلا، فذلك هو الفوز الحقيقي، {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185]. اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ولمن خاف مقام ربه جنتان

ولمن خاف مقام ربه جنتان إن الله عز وجل أرسل رسوله بالهدى إلى الناس أجمعين، فأنذر الله به المشركين، وحذرهم عقابه وعذابه، وبشر به المؤمنين، ووعدهم جنته ورضوانه. وقد تناول الشيخ حفظه الله في هذه المادة وصف الجنة وما فيها من نعيم دائم للمؤمنين، وبيّن من هم أهلها، والذين يستحقون دخولها، وضرب على ذلك أمثلة من الشباب والرجال المشتاقين إلى الجنة.

رحلة الأبرار إلى الجنة

رحلة الأبرار إلى الجنة الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد: عبد الله! وأنت تجلس في هذا المسجد تخيل أنك قد دخلت الجنة، لأن هذه المجالس هي روضة من رياض الجنة، فلعل الله يجمعنا في مستقر رحمته، في روضة من رياض الجنة. فاسمع -عبد الله- وتخيل، لعل الرجاء يولِّد العمل، ولعل بعد العمل يكون الصبر عليه، ثم الجزاء الجنة. يأتي العبد الصالح التائب إلى الله، إما أن يدخله الجنة بغير حساب، وإما أن يعرض عليه الأعمال عرضاً، ثم يقول له يذكره بالذنوب: عبدي! أتذكر ذنب كذا؟ أتذكر ذنب كذا؟ وقد تاب منها، ثم يقول الله له: سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم. فيعطى كتابه باليمين فلا يصدق نفسه، فيقدم على الناس يقول: {هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:19 - 20] كنت في الدنيا أسجد وأركع وأصلي طلباً للنجاة من ذلك اليوم: {إِنِّي ظَنَنْتُ} [الحاقة:19] يعني: علمت {أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَةْ} [الحاقة:19] ثم يساقون إلى الجنة. ولنبدأ تلك الرحلة وذلك المشهد. عبد الله! تخيل واستشعر أنك في تلك الزمرة!

سوق المتقين إلى الجنة ودخولهم

سَوق المتقين إلى الجنة ودخولهم أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا} [الزمر:73] أتعرف أن الجنة تتلألأ من بعيد؟ يخرج منها ريح على مسيرة أربعين سنة، يشمون رائحتها، بل هي تقترب إليهم: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الشعراء:90] فيجتمعون عند أبوابها الثمانية وقد أغلقت، ينتظرون سيدهم يخرج من بينهم عليه الصلاة والسلام، فيأتي إلى بابها، فيأخذ حلقة من حلقاتها فيطرق الباب، فيسمعه الخادم فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول الملك والناس يتلهفون، انتظاراً وشوقاً، يقول: بك أمرت لا أفتح لأحد قبلك، فيفتح بابها، فإنها والله نور يتلألأ، وريحانة تهتز، يرى المؤمنون فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم قد دخل، وإذا الأنبياء يدخلون، وإذا أول هذه الأمة دخولاً أبو بكر رضي الله عنه، وإذا أول زمرة على صورة القمر يدخلون. أتعرف أن منهم سبعين ألفاً يدخلون الجنة؛ كل واحد قابض على يد أخيه لا يدخل أولهم حتى يدخل آخرهم؟ عبد الله! مصراعي باب الجنة مسيرة أربعين سنة، وإنه ليأتي عليه يوم وإنه لكظيظ -مزدحم- بالناس، أسأل الله تعالى في هذا المكان أن نكون ممن يزدحم في ذلك اليوم في الدخول عليه.

استقبال الملائكة وتسليمها على المؤمنين

استقبال الملائكة وتسليمها على المؤمنين إذا دخلت عبد الله أتعلم ماذا ترى؟ تستقبل المؤمنين الملائكة تسلم عليهم عند أبوابها، يدخل معك أولادك إن كانوا صالحين، وزوجتك إن كانت صالحة، ويدخل معك الأب والأم إن كانوا صالحين، وأصحابك في الدنيا إن كانوا صالحين: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} [الرعد:23] يدخلون معك. وتخيل -عبد الله- نفسك تدخل وأبناؤك حولك، وزوجاتك وآباؤك كلهم على سن واحدة أبناء ثلاث وثلاثين سنة، جُرْداً مُرْداً، مكحلين، يدخلون على صورة القمر ليلة البدر، لا يبولون، ولا يتغوطون، ولا يتفلون، أول ما يدخلها المرء تستقبله الملائكة تقول له: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:24].

أوصاف الجنة

أوصاف الجنة أول ما يدخلها فإذا الأرض بيضاء: أتعرف ما هي؟ زعفران ولؤلؤ وياقوت، يطؤها برجله، إذا دخل يعرف مسكنه أكثر مما كان يعرف مسكنه في الدنيا، أول ما يدخل الجنة يرى عجباً، اسمع وتخيل واستشعر أنك قد دخلتها!

قصور الجنة وقبابها

قصور الجنة وقبابها يرى القصور لبنة من فضة، ولبنة من ذهب، وأخرى من فضة، وأخرى من ذهب، وبينهما المسك، يدخلونها يعرفون بيوتهم أكثر مما كانوا يعرفونها في الدنيا: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [الزمر:20] غرفهم يُرى باطنها من ظاهرها وظاهرها من باطنها، يَرى في الجنة فإذا قباب اللؤلؤ قد انتثرت له خيمة طولها ستون ميلاً، تخيل أنك فيها الله أكبر! أي جمال هذا؟! وأي روعة تلك؟!

أنهار الجنة

أنهار الجنة عبد الله! يقول الله عز وجل عن صفة أنهارها -هذا ماء مسكوب، والأنهار تجري، وليس في الجنة أخاديد: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً} [محمد:15] وتخيل! كيف يجري العسل أم كيف يجري النهر من الخمر واللبن! عبد الله! تصور كيف تتفجر العيون، ويخرج منها الماء المسكوب فيأتون يشربون، بل تجد منه شربة لا تظمأ بعدها أبداً.

أرض الجنة وسقفها

أرض الجنة وسقفها عبد الله! إن في الجنة أرضاً مرمرة بيضاء من فضة؛ كأنها مرآة يمشي عليها أهل الجنة، عليها الأشجار، ما في الجنة شجرة إلا وساقها ذهب. أتعرف ما فوقها؟ إنه عرش الرحمن: {لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً} [الإنسان:13] لعلك تسأل: كيف يرون أم كيف ينظرون وما في الجنة شمس؟ النور يأتيهم من عرش الرحمن، فتمتلئ الجنة نوراً وتخيل ذلك المنظر وقت شروق الشمس ولم تطلع، والدنيا قد أسفرت، فالجنة أفضل من هذا: {وَلا زَمْهَرِيراً} [الإنسان:13] فلا يلدغهم البرد.

أشجار الجنة وثمارها

أشجار الجنة وثمارها عبد الله! ليس في الجنة شجرة إلا وساقها من ذهب، بل إن في الجنة شجرة يسير الراكب على الجواد المضمَّر في ظلها مائة عام لا يقطع ظلها، فما شكلها؟ أما منظرها: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ} [الواقعة:27] * {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ} [الواقعة:28] نعم. في الجنة سدر، ونعرف أن في السدر شوكاً فكيف يُدخله الله الجنة؟ كل شوك قد خضد أي: طُمِس، وجُعِل مكانه ثمرة يخرج منها طعام يزيد على اثنين وسبعين لوناً، كل لون يختلف عن الآخر، ألين من الزبد وأحلى من العسل، مكان كل شوكة! فما بالك بالثمرة التي في الجنة أصلاً: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ * وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [الواقعة:27 - 30] وتخيل مائة سنة يمشون تحت الظل لا يقطعونه، فتأتي الريح على الأشجار فتهتز ذوائب الأغصان التي في الأشجار، فإذا اهتزت في الجنة تصدر صوتاً لم يسمعه بشر قط، ليس هناك أحلى من هذا الصوت صوت وأي صوت! أحلى من المعازف والموسيقى، وأحلى من أصوات الدنيا كلها، ينتشر الصوت في الجنة كلها، تخيل ذلك المنظر، وتخيل -عبد الله- ذلك الموقف.

طعام أهل الجنة وشرابهم

طعام أهل الجنة وشرابهم عبد الله! في الجنة طعام وشراب فماذا يأكلون؟ أم ماذا يشربون؟ اسمع عبد الله وتخيَّل! {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ} [الواقعة:20] وهو جالس على الفراش يشتهي التفاح ليس كتفاح الدنيا، يشتهي الرمان، يشتهي أي ثمر على شجر الجنة، يأتيه الثمر وهو جالس: {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً} [الإنسان:14]. إذا أراد أن يشرب يطوف عليه الولدان المخلدون: {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} [الواقعة:18] من خمر قد امتلأت الكئوس، ثم ماذا تشتهي؟ {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلاً * عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً} [الإنسان:17 - 18]. ماذا تشتهي من الشراب؟ من الطعام؟ من الفاكهة؟ {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة:21]. ليس هناك أنعم منها ولا ألذ منها: {مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} [الزخرف:71].

لباس أهل الجنة

لباس أهل الجنة عبد الله! هذا طعامهم، فماذا يلبسون؟ أهل الجنة يلبسون الحرير وأساور الذهب والفضة، لو أن سواراً من الجنة بدا لطمس نور الشمس، ولو أن مما يطل ظفر من الجنة بدا لتزخرفت منه السموات والأرض. يلبسون الحرير قال الله عز وجل: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج:23]. أما الحور العين: عليها سبعون حلة، يَرى مخَّ ساقها من وراء الحلل واللحم، ما أنعمها! وما أرقها! وما أجملها يا عبد الله! تلك هي الحور العين، ويلبس الرجال الحرير، حرموا أنفسهم في الدنيا من الحرير والذهب فجازاهم الله حريراً وذهباً في الجنة.

سوق أهل الجنة وسررهم

سوق أهل الجنة وسررهم يتجمعون كل جمعة في سوقها، وهل في الجنة سوق؟ نعم، يجلسون على كثبان من اللؤلؤ في كل جمعة، فتهب عليهم الريح، فتحثو المسك في وجوههم وعلى ثيابهم ويرجعون إلى أهليهم فيقولون لهم: لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً فيقولون: وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً، فيجلسون على السرر، أتعرف صفتها؟ بارتفاع السماء عن الأرض: {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ * وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ} [الغاشية:13 - 15] وسائد قد صُفِّفت: {وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} [الغاشية:16] البُخْتُ والوسائد قد وزعت في بيته وفي قصره وفي خيمته.

وصف الحور العين في الجنة

وصف الحور العين في الجنة إن في الجنة لحوراً؛ اسمع إلى صفاتهن، وتعجب منهن يا عبدَ الله! وما سوف أذكره لك في هذه الجلسة جزء قليل مما ذكره الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. إن في الجنة لحورية ينظر الرجل في وجهها، فيرى وجهه فيها، حور عليها لؤلؤ اللؤلؤة الواحدة خير من الدنيا وما فيها، حور يا عبد الله، لو اطلعت إحداها على الأرض لأضاءت ما بين السماء والأرض ولملأته ريحاً، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها، يسلم عليها، فيقول لها: من أنت؟ فتقول: أنا من المزيد الذي أخبر الله عنه، ثم ينظر إليها فإذا عليها التيجان اللؤلؤة فيها تضيء ما بين المشرق والمغرب. قال تعالى: {وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ الْلُؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ * جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الواقعة:21 - 24] ينظر إليها، ومن شدة إعجابه بها يعانقها أربعين سنة، لا يملها ولا تمله، ينظر إليها، أتعرف صفتها؟ مَن الذي أنشأها؟ {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً} [الواقعة:35] أنشأهن الله: {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً} [الواقعة:36]- {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:56]- {عُرُباً أَتْرَاباً} [الواقعة:37] متحببات إلى أزواجهن، وفي الآية الأخرى: {كَوَاعِبَ أَتْرَاباً} [النبأ:33] قد برزت ثُدُيُّهُنَّ، وجَمُلت وجوههن، واللهُ قد سماهن (خيرات حسان) كأنهن اللؤلؤ والياقوت. عبد الله! تلك هي الحور العين يغنين بأغنيات: نحن الخيرات فلا نبأس، فتأتي تلك المرأة التي قد حسن جمالها على تلك الحور العين فيسألها الرجل: ومن أنت؟ فتقول: أنا من نساء أهل الدنيا، أنا من الصائمات القائمات، ثم ترد تلك الصائمة التي هي من أهل الدنيا وهي أجمل من الحور العين، ترد على الحور العين فتقول لهن: نحن المصليات وما صليتن، نحن الصائمات وما صمتن، نحن المتصدقات وما تصدقتن، نحن الذاكرات وما ذكرتن، فتقول عائشة رضي الله عنها (فغَلَبْنَهُنَّ) نعم والله، فإن نساء أهل الدنيا إن دخلن في الجنة أجمل من الحور العين، يعطى الرجل قوة مائة رجل، يجامع ما شاء، ويتلذذ بما شاء، بل له في الخيمة أهل إن أتى إلى واحدة ما تراه الأخرى، وإن أتى إلى الأخرى ما تراه الثالثة، يجامع في الليلة مائة مرة لا يتعب، يتلذذ معها، ما بالك بمن عانقها! ما بالك بمن جلس معها!

أدنى أهل الجنة منزلة

أدنى أهل الجنة منزلة يا عبد الله! لا تستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير! أتعلم ما هو جزاء أدنى أهل الجنة منزلة؟ جزاؤه: يدخل الجنة وله مثل ملك الدنيا عشر مرات، فيقول: (أتهزأ بي وأنت رب العالمين؟ فيقول الله له: لك مثله وعشرة أمثاله في الجنة) ذلك أدنى أهل الجنة منزلة، يقوم على رأسه عشرة آلاف خادم، بيد كل واحد صفحتان، إحداهما من ذهب، والأخرى من فضة، ما بالك بأعلى أهل الجنة منزلة؟ (أولئك الذين أردت، فلم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر). عبد الله! {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]. يجتمع أهل الجنة في الجنة أتعرف أين يجتمعون؟ أم على ماذا يجلسون؟ أم من الذي يخدمهم؟ أما ماذا يشربون ويأكلون؟ أم فيم يتحدثون؟ {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً * إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً} [الواقعة:25 - 26]. عبد الله! هل لك أن تتصورها! هل لك أن تشمر إليها! هل لك أن تترك تلك المعاصي والذنوب! فإن الحياة قصيرة. دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثواني ما لك يا عبد الله تسمع الأذان فتولي هارباً؟! وترجع نائماً؟! تقرأ القرآن فما أراك تقبل عليه؟! وتذكر الله ولا تخشع؟! وتسمع آيات الله تتلى وأنت معرض عنها؟! عبد الله! أما سمعت إلى الجزاء؟!

وصف الجنة في سورة الرحمن

وصف الجنة في سورة الرحمن استمع إلى عنوان المحاضرة وما بعدها من آيات لعلك تخشع وتتدبر! {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46] خاف: تاب؛ فأدلج فبلغ المنزل، وصلى في الليل والناس نيام، وأطعم الطعام، وركع وسجد وبكى من خشية الله، وكلما دعته نفسه للمعصية قال: {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ} [المائدة:28] إني أخاف عذاب يوم عظيم، فإذا عصى رجع إلى الله وتاب، وادَّكَرَ وأناب. {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} [الرحمن:46 - 48] حدائق قد امتلأت في الجنة ليس هناك ساق لها إلا وهو من ذهب، وتخيل أخي إلى أصواتها وظلها فليس في الجنة شمس: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} [الرحمن:49 - 52] ومهما تصورت فالجنة أحلى وأجمل ومهما تخيلت فلن يخطر على قلب بشر: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} [الرحمن:53 - 54] الحرير الغليظ والديباج، وإذا كانت هذه هي البطائن فما بالك بظاهرها أنعم بها وأجمل! {بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} [الرحمن:54] قطوفها وجناها دانٍ: قريب ما تحتاج أن تقوم لتقطفه: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} [الرحمن:55 - 56] ما ترى غيرك: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:56] لم يلمسها ولم يطمثها إنس ولا جان: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:57 - 58] تخيل امرأة بشكلها ياقوت الجنة والمرجان أي صفة هي؟ {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * هَلْ جَزَاءُ الْأِحْسَانِ إِلَّا الْأِحْسَانُ} [الرحمن:59 - 60] هل جزاء الإحسان من صلاة وركوع، وسجود وخضوع، وقيام ليل، وصيام نهار إلا الإحسان!

شباب شمروا إلى الجنات

شباب شمروا إلى الجنات لما سمع بها الأولون شمروا لها وجدُّوا، وقاموا الليل، وصاموا النهار، وقرءوا القرآن، وطلبوا العلم، ودعوا إلى الله، وجاهدوا في سبيله.

حنظلة غسيل الملائكة

حنظلة غسيل الملائكة هذا حنظلة في ليلة عرسه ينام مع زوجته، فإذا به يسمع: حيَّ على الجهاد، حيَّ على الجهاد، فينتفض من الفراش ويقوم فيجاهد في سبيل الله، فيُقتل في ليلة العرس، فيراه الصحابة وجسمه يقطر من الماء، وليس هناك ماء، ولم ينزل مطر، ما باله؟ من أين أتى الماء؟ قال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده! لقد رأيته بين السماء والأرض تغسِّله الملائكة بصحاف من ذهب وفضة، اذهبوا إلى زوجته فاسألوها، فذهبوا إليها، فقالت لهم: قام من عندي وهو على جنابة) لم يدرك أن يغتسل حتى ذهب إلى الجهاد، فقُتل.

عمير بن الحمام وشوقه إلى الجنة

عمير بن الحمام وشوقه إلى الجنة عمير بن الحمام، شيخ كبير يسمع حديث رسول الله ينادي: (قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض، قال: بَخٍ بَخٍ، قال: ما حملك على قولك: بَخٍ بَخٍ؟ قال: جنة عرضها السموات والأرض ما حملني إلا رجاءَ أن أكون من أهلها، قال: فأنت من أهلها، وكانت بيده تمرات، قال: إنها لحياة طويلة حتى آكل هذه التمرات، فرماها، وأقبل إلى المعركة فقُتل). عبد الله! إنها لحياة طويلة حتى تستمع إلى ذلك الفيلم، وحتى تلعب ذلك اللعب، وحتى تنام، وحتى تبيع وتشتري، وحتى تفعل وتفعل، والله إنها لحياة طويلة.

شاب صغير مع أبي قدامة يشتاق إلى الجنة

شاب صغير مع أبي قدامة يشتاق إلى الجنة استمع يا عبد الله إلى أبي قدامة الشامي، يقوم في الناس خطيباً يحثهم على الجهاد، والروم قد قدموا على المسلمين يحاربونهم، فقام أبو قدامة الشامي يحث الناس على الجهاد، وعلى القدوم على جنة الرحمن، وعلى الموت في سبيل الله فذهب إلى المعركة، وجدَّ الناس، وتأهبوا للقتال، فجاءت امرأة بيدها ظرف فقالت له تناديه: يا شيخ! تسلم عليه، فما رد عليها، خاف من الفتنة، فنادته الثالثة، فنظر إليها، فقالت: خذ هذا الظرف، فوالله لا أجد غيره، ففتحه فإذا فهي ضفيرتان؛ ما هذا يا أمة الله؟ شعرها، قالت: والله ليس عندي أغلى منهما، أنفقه في سبيل الله، أسألك بالله لَمَا جعلته لجاماً لفرسك في سبيل الله! قال: الله أكبر! الله أكبر! جيش فيه لجام الفرس ضفيرة لامرأة، فذهب إلى المعركة ودخل فيها فجاءه صبي صغير فقال له: يا عم، أسألك بالله لَمَا أخذتني معك في الجهاد! قال: أنت صبي صغير عذرك الله فارجع قال: أسألك بالله لَمَا حملتني معك في الجهاد في سبيل الله، فحمله على الدابة قال: بشرط، قال: وما هو الشرط؟ قال: أسألك إن متَّ شهيداً وأتيتَ إلى الله يوم القيامة أن تجعلني من الذين تشفع فيهم، قال: هو ذاك، فحمل الصغير على دابته ودخلا في المعركة، وفي أثناء المعركة قال له: يا عم أعطني ثلاثة أسهم قال: يا بني! اجعلها للرجال يرمون بها في المعركة قال: يا عم أعطني ثلاثة أسهم، فأعطاه الثلاثة فرمى الأول وقال: السلام عليك يا أبا قدامة فرمى الأول فقَتَل به رومياً نصرانياً، فأخذ الثاني فقال: السلام عيك يا أبا قدامة، فرمى به فقتل به نصرانياً، فرمى الثالث فقَتَل به نصرانياً ثالثاً، فجاءتة رمية طائشة فسقط من على الدابة، فنزل الشيخ الكبير إلى ذلك الصبي الصغير فنظر إليه وهو يقول: يا بني! لا تنسَ الوعد الذي بين وبينك، ثم قال له: يا عم خذ هذا الخَرْجَ، فأعطه لأمي قال: ومن أمك يا بني؟ قال: أمي التي أعطتك ضفيرتها: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران:34]. فأخذ الخَرْجَ واجتمع الناس عليه ليدفنوه كما يُدفن سائر القتلى، فلما وضعوه في الأرض لفظته الأرض وأخرجته، سبحان الله! وكلما وضعوه في الأرض لفظته الأرض وأخرجته، فنام ذلك الشيخ الكبير، أخذته نومة، ثم جيء له في المنام، فقيل له: يا أبا قدامة! اترك ولي الله، فتركوه وابتعدوا عنه، فجاءت طير من السماء تتخطفه وتأكل لحمه، ثم ذهبت ولم يبق إلا العظم، فأرجعوه في الأرض، وتعجبوا فلما رجعوا إلى بلدهم وكان بيده ذلك الخَرْج طرق الباب على بيته، فخرجت أخته فقالت له: أمهنئ أم معزٍّ قال لها: بل مهنئ باستشهاد ولدكم، فقالت له: لقد رُزِئْنا بأبينا، قُتل أبونا في الجهاد فاحتسبناه عند الله، ورزئنا بأخينا الأكبر فاحتسبناه عند الله، والآن رزئنا بأخينا الأصغر فنحتسبه عند الله، ثم خرجت أمه التي أعطته الضفائر فقالت له: أمعزٍّ أم مهنئ؟ قال: بل مهنئ بموت ولدكم في سبيل الله، ثم أعطاها ذلك الخَرْج وأخبرها بالخبر فقال لها: جاءته طير فأخذت لحمه ثم ذهبت، فقالت له أمه: شهيد إن شاء الله قال: وما ذاك؟ ففتحت الخَرْج فإذا فيه صوف كان يلبسه ذلك الصبي تقول: كان إذا جاء الليل يلبس هذا اللباس ثم يصلي ويركع ويسجد، حتى إذا جاء السحر ونزل الرب إلى السماء الدنيا قال: اللهم لا تحشرني إلا من حواصل الطير، يعني: في بطون الطير، شهيداً في سبيلك يا رب! تقول: كل ليلة كان يدعو بهذا الدعاء أما الأول فاستجاب الله له، أما الثاني: فهي ترجوه عند الله، ثم احتسبته عند الله فقال الرجل: لا إله إلا الله! إي والله! لا إله إلا الله! شمروا للجنة: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب:23]. تخيل صبياً يفعل هذه الأفعال! تخيلوا امرأة تفعل ذلك الفعل! ما بالنا نحن الرجال! ما بالنا نحن الأشداء!

صفات أهل الجنة

صفات أهل الجنة أتعرف تلك الجنة أعدها الله لمن؟ للذين هم في صلاتهم خاشعون، للذين هم للزكاة فاعلون، ولفروجهم حافظون، للذين أطاعوا الله ورسوله ففعلوا السنن وحاربوا البدع، للذين وحدوا الله عز وجل، وتركوا الشرك بالله صغيره وكبيره، للذين أقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وركعوا مع الراكعين، للذين تركوا المراء، وتركوا الكذب وإن كانوا مازحين، لمن حسنت أخلاقهم، لمن أطعموا الطعام، وألانوا الكلام، وأفشوا السلام، وصلوا بالليل والناس نيام. نعم يا عباد الله! للآمرين بالمعروف، والناهين عن المنكر، وللدعاة في سبيل الله، نعم يا عبد الله، للذين ضمنوا ما بين لِحاهُم وما بين أفخاذهِم. عبد الله! أولئك عباد الله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53] لا تقنط يا عبد الله، ركعتان تحسن فيهما وتستغفر الله عز وجل من ذنبك يغفر الله لك ذنبك كله: (مَن قال: سبحان الله وبحمده مائة مرة؛ حُطَّت عنه خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر)، (يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم). فحيَّ على جنات عدن فإنها منازلنا الأولى وفيها المخيمُ وحيَّ على روضاتها وخيامها وحيَّ على عيش بها ليس يُسأمُ فيا ساعياً في غمرة الجهل والهوى صريع الأماني عن قريب ستندمُ قد دنى الوقت الذي ليس بعده سوى جنة أو حر نار تضَرَّمُ وتشهد أعضاء المسيء بما جنى كذاك على فيهِ المهيمنُ يختمُ {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21]. أسأل الله عز وجل الذي جمعنا في هذا المكان؛ أن يجمعنا وسائر المسلمين في مستقر رحمته إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلِّ اللهم وسلِّم على نبينا محمد وعلى آله صحبه أجمعين.

البدار إلى دار الأبرار

البدار إلى دار الأبرار إن الله سبحانه وتعالى أمر المؤمنين بطاعته، ووعدهم جنته، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى أوصاف الجنة في كتابه وعلى لسان رسوله، ومع ذلك فإننا لن ندرك حقيقة تلك المعاني والصفات إلا عندما ندخلها إن شاء الله.

أوصاف الجنة

أوصاف الجنة بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه. أما بعد: البدار إلى دار الأبرار، ولعل العنوان يدل على عنوان المخيم المبارك إن شاء الله، ألا وهو مخيم: رياض الجنة، وسوف نتجول الليلة إن شاء الله في رياض الجنة، بأفكارنا وشعورنا، يحاول كل رجل منا وهو جالس أن يتخيلها، ومهما تخيلت ومهما تصورت فالجنة أعظم، حتى قال الله جل وعلا: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة:17] مهما تخيلت وتصورت ففيها: (ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر). عبد الله: اسمع إلى هذه الصفات، وأريد منك أن تشتاق إليها، كان النبي صلى الله عليه وسلم يحدث أصحابه مرة، فقال لهم: (قوموا إلى جنة -فذكر صفة واحدة من صفاتها- قال: عرضها السموات والأرض، أو كعرض السماء والأرض، فقال أحدهم: بخٍ بخٍ، قال: ما حملك على قولك بخٍ بخٍ؟ قال: رجاء أن أكون من أهلها -سمع صفة واحدة- فدخل في المعركة فقاتل حتى قتل). صفة واحدة، والآن سوف نسرد لكم صفات، ونحاول أن نجمع لكم شتات من أوصاف هذه الجنة، فهل لك أن تشتاق إليها؟ وهل لك أن تبادر وأنت في ليلة هي أول ليلة من ليالي رمضان؟ وبإذن الله جل وعلا في هذه الليلة فتحت أبواب الجنة التي سوف نتكلم عنها، وغُلِّقت أبواب النيران وفي كل ليلة -وهذه أولها- عتقاء من النار، فاحرص يا عبد الله أن تكون هذه الليلة من عتقاء النار، كل ليلة، وإذا أعتقك الله من أول ليلة فأنت الرابح، والله مهما فعلت إلى أن تموت فقد أعتقت من النار، لن تمسك النار. عبد الله: احرص من أول ليلة، ففي هذه الليلة صفدت بإذن الله الشياطين، مردة الجن، فالأمر ميسر، ولله عتقاء (وينادي منادي: يا باغي الخير أقبل! ويا باغي الشر أقصر) فاسمع يا عبد الله إلى صفاتها، وتخيلها يا عبد الله، واعلم أنك إن لم تدخلها فإنك محروم. أهل الجنة إذا جاءوا عند الله يوم القيامة، وإذا استقبلوا ربهم عند الله جل وعلا يوم القيامة فجاء العبد المؤمن إلى ربه، فيقول له الله جل وعلا: (عبدي! أتذكر ذنب كذا) تذكر تلك الليلة وذلك الموقف، تذكر عندما كلمت فلانة، تذكر عندما نمت عن الصلاة، تذكر عندما استمعت إلى الأغاني، تذكر لما أكلت الربا، تذكر يا عبدي! ولكنه تاب، ولكنه أناب، ولكنه استغفر فيقول له الله جل وعلا: (سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، فيقول هذا الرجل: ذنوبي، يقول الله جل وعلا: أغفرها لك اليوم فيعطى الكتاب بيمينه، فيولي للناس يقول: {هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:19 - 20]) أي: أيها الناس اقرءوا، انظروا ماذا عملت؟ انظروا إلى الصلاة والقيام والصيام والقرآن، انظروا: {هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:19 - 20].

وفود عباد الرحمن إلى الجنان

وفود عباد الرحمن إلى الجنان فيذهب مع أصحابه، ومع زملائه، يتجمعون أفواجاً، زمرةً، فتساق هذه الزمرة إلى الجنة، إلى التي كان يسمع عنها في الدنيا، وكان يحدث عن أوصافها، القلب من شوقه يكاد يطير فرحاً، يشم رائحتها على بعد أربعين عاماً، ثم يساقون إلى الجنة وقد أغلقت أبوابها، في تلك اللحظة الأبواب كلها مغلقة، كل باب منها ما بين مصراعيه مسيرة أربعين سنة ما تصل إلى الطرف الآخر. وتخيل المؤمنين، الدفعة الأولى، الزمر الأولى، كلهم عند أبواب الجنة مصطفين لها ثمانية أبواب وليس باباً واحداً، ينتظرون أفضل البشر محمد عليه الصلاة والسلام، يتقدم الناس، والناس ينظرون ويتشوقون ويتلهفون، فيأتي إلى حلقة من حلقات أبواب الجنة، وللجنة حلقات، فيطرق باب الجنة، فيسأله رضوان خازن الجنة من أنت؟ فيقول: أنا محمد، انظر إلى التواضع، انظر إلى الأدب، أنا محمد عليه الصلاة والسلام فيقول الملك: أمرت ألا أفتح لأحد قبلك. ما يفتح الباب لغيره، وما يؤذن في دخول الجنة إلا بعده عليه الصلاة والسلام (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى) أي: أبى دخول الجنة، فإذا بالباب يفتح، وتخيل أنك تنظر إلى هذا المنظر الباب يفتح، والرائحة تخرج، والنور يشع، والناس تدخل زمرة زمرة، وأول هذه الأمة دخولاً أبو بكر، فإذا بهم يدخلون الجنة، وإذا بك ينادى باسمك، أين فلان بن فلان ليدخل من باب الريان، كان يكثر من الصيام، أين فلان يدخل من باب الصلاة كان يكثر من الصلاة، أين فلان ليدخل من باب الجهاد كان مجاهداً في سبيل الله، أين فلان ليدخل من باب الصدقة، ومنهم من ينادى من بابين، ومنهم من ثلاثة أبواب، يختار أي باب يدخل، ومنهم من ينادى من ثمانية أبواب وأبو بكر منهم، أين فلان بن فلان؟ تخيل ينادى باسمك، فإذا بك تدخل، أتعرف كيف يدخلون أهل الجنة؟ يدخلون الزمرة الواحدة كل واحد ماسك بيد الآخر، صاحب العمل في الدنيا وزميله، ومن كان يحضر معه الدروس ويصلي ويصوم معه، يقبض على يديه، فلا يدخل واحد إلا ويدخل الآخر، ولا يدخل أولهم إلا ويدخل آخرهم، باب اتساعه مسيرة أربعين سنة.

استقبال الملائكة للمؤمنين

استقبال الملائكة للمؤمنين عند ذلك تستقبلهم الملائكة تقول لهم: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ} [الرعد:24] صبرتم على ماذا؟ على قيام الليل. هل صبرتم على التلفاز أو اللعب، أو اللهو، لا والله: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ} [الرعد:24]. النساء في كل مكان، الأغاني بمتناول يده، الخمر، الربا، يستطيع أن يحصل عليه لكنه صبر، وترك كل هذا لله {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ} [الرعد:24] تأتيه المصائب تلو المصائب، والآلام والحوادث لكنه صبر وما جزع، ورضي بقدر {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:24] ويدخل بعض الناس مع ذريته وآبائه، وزوجاته، تدخل الجنة العائلة كلها، بعضهم مع بعض، تخيل يا عبد الله تدخل مع أبيك وأمك، تدخل مع زوجتك وأولادك، وأهل بيتك كلهم، تدخل معهم دفعة واحدة وزمرة واحدة. عبد الله: هل يوجد نعيم أفضل من هذا النعيم؟ أول ما تدخل ماذا ترى؟ {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً} [الإنسان:20] إنه نعيم وملك كبير.

وصف أرض الجنة ومنازلها وقصورها

وصف أرض الجنة ومنازلها وقصورها أما أرض الجنة فهي كالمرآة بيضاء، من اللؤلؤ، أو الزعفران، أو الياقوت. تطؤها رجلك. تريد أن تسير إلى منزلك، أتعرف أين يكون منزلك في الجنة؟ أما منزلك يا عبد الله تعرف مكانه في الجنة كما تعرف بيتك في الدنيا، تهرول إلى بيتك فإذا بخيمة طولها ستون ميلاً عند باب القصر، هذه الخيمة كيف بالقصر يا عبد الله؟! تخيل الآن: القصر من ذهب وفضة، ملاطها أي: ممسوحة بالمسك يا عبد الله! هذا ظاهره، كيف بباطنه يا عبد الله؟! نعيم ما تتصوره: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]

وصف غرف الجنة وأشجارها

وصف غرف الجنة وأشجارها عبد الله: إذا دخلت تلك الغرف فإنك ترى باطنها من ظاهرها وظاهرها من باطنها {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ} [الزمر:20] إذا دخلت داخل الغرفة، في القصر ترى خارج القصر وأنت داخل القصر. عبد الله! تخيل منظر هذه الغرفة، بل تخيل تلك القصور، بعض الناس إذا دخل بيوتاً في الدنيا ينسى الدنيا وما فيها من حسنها وجمالها، كيف بقصر بناه الله جل وعلا؟! كيف بجنة أنشأها الرحمن جل وعلا؟! عبد الله: إذا خرجت من قصرك ماذا ترى؟ ترى أشجاراًَ موزعة في الجنة، وتخيل وتصور، الأشجار ما من شجرة إلا ساقها من ذهب، عليها ثمار، إذا اشتهيت الثمر لا ترفع يديك، وتتعب نفسك بل ينزل لك الثمر حتى تقطفه بيدك {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً} [الإنسان:14] ليس في الجنة شجرة إلا ساقها ذهب. أخي الكريم: في الجنة شجرة طول ظلها مسيرة مائة عام، للراكب السريع، على الجواد السريع مائة سنة، لا يصل إلى طرف الظل، مائة عام كم مرة يقطع الأرض ويدور حول الأرض؟ هذا ظل الشجرة يا عبد الله! كيف بصفتها؟! كيف بلونها؟! كيف بشكلها يا عبد الله؟! {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ} [الواقعة:27 - 28] السدر في الدنيا فيه شوك، أما سدر الجنة فهو مخضود قد زيل عنه الشوك، وفي مكان كل شوك ثمرة، تفتق الثمرة عن اثنتين وسبعين لوناً، ما من لون يشبه الآخر.

وصف أنهار الجنة وعيونها

وصف أنهار الجنة وعيونها طعام لأهل الجنة {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ * وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [الواقعة:28 - 30] يجلسون تحت الأشجار، ويأكلون من الثمار، وهم على الأنهار، وتخيل أنك تجلس على حافة نهر، صفة النهر ليس كالدنيا، أنهار الدنيا تجري في أخاديد، يحفر الأرض النهر فيجري فيها، أما في الجنة فلا، يسير نهر الجنة بغير أخاديد، يسير على أرضها: {وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ} [الواقعة:31] تخيل أنك تجلس على حافة النهر، وعندك، وبجنبك، أصحابك وإخوانك، ولعلهم أبناؤك يا عبد الله، ولعله أبوك وأمك، تجلسون على حافة النهر، أما حافة النهر، فإنها قباب اللؤلؤ والياقوت، أتظن يا عبد الله أنها أنهار من ماء فقط؟ لا. {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} [محمد:15] تصور الآن، نهر يجري من لبن: {وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} [محمد:15] تخيل هذا النهر يجري من خمر، وأي خمر؟ {وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} [محمد:15] وتخيل النهر الرابع: {وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً} [محمد:15] تخيل النهر من عسل وهو يجري وتشرب منه ما شئت، وتجلس على حافته ما شئت يا عبد الله! أما العيون في الجنة فإنها تفجر، يقول الله جل وعلا: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} [الإنسان:5 - 6].

طعام أهل الجنة وشرابهم

طعام أهل الجنة وشرابهم عبد الله: يأكلون ويشتهون بغير جوع ولا عطش فيأكلون ويشربون، أتعرف ماذا يأكلون وماذا يشربون؟ قال تعالى: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة:20 - 21] أي فاكهة يتخيرونها، بل أي لحم يشتهونه، يجلس في مكانه يأتيه ولا يتعب ولا يقوم من مجلسه، بل يطوف عليه الغلمان، بالصحائف، وبالأكواب، وبالأباريق، ماذا تشتهي خمر؟ لبن؟ ماء؟ عسل؟ كل ما تشتهي من شراب، وما تشتهي من طعام، يمشي عليك وأنت تجلس على الأريكة.

وصف سوق أهل الجنة

وصف سوق أهل الجنة في كل أسبوع لهم سوق يخرجون إليه في كل جمعة، فإذا بهم يجلسون على كثبان من الرمل، يجلسون فتأتي ريح تحثوا على وجههم، ثم يرجعون إلى البيوت والخيام، والقصور والحور العين، يرجعون فيقول لهم أهلوهم قالوا: والله، لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً، فيقول هؤلاء الرجال: وأنتم والله قد لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً.

وصف فرش أهل الجنة

وصف فرش أهل الجنة يجلسون على فرش، وعلى آرائك، تعرف ما صفتها؟ {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ} [الغاشية:13 - 14] فالسرر مرفوعة حتى قال بعضهم: مرفوعة إلى قدر السماء قال تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} [الرحمن:54] بطائن هذه الفرش داخلها من إستبرق، ما تكلم الله عن ظاهرها، تركه الله جل وعلا.

صفة نساء الجنة

صفة نساء الجنة عبد الله: ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. واستعد الآن وتخيل صفات نساء الجنة، واعتبر واستمع! واعلم أن ما سوف أذكره لك حق، لا مرية فيه، واعلم أنه مهما وصفنا، فحور الجنة أعظم مما نصف. تأتيه الحورية من أهل الجنة، فيعانقها فيرى وجهه في صفحة خدها؛ من حسنها، وجمالها، ونعومتها. يا عبد الله! عليها تاج على رأسها، فيه لؤلؤ واللؤلؤة الواحدة لو كشفها الله؛ لأضاءت ما بين المشرق والمغرب، اللؤلؤة الواحدة يا عبد الله! في بعض الروايات إن صحت: (أن الرجل في الجنة يعانقها أربعين سنة لا يتركها ولا يمل منها) قال تعالى: {وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ الْلُؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} [الواقعة:22 - 23] صفة الحورية كاللؤلؤة يا عبد الله! في حسنها وجمالها، لو أن امرأة من أهل الجنة طلعت فقط ونظرت إلى أهل الأرض لأضاءت ما بين السماء والأرض، تخيل يا عبد الله! كيف بمن يعانقها؟! كيف بمن يعاشرها؟! يعطى الرجل قوة مائة رجل، كم مرة تجامع في الليلة الواحدة، مرة مرتين، مائة مرة لا تتعب يا عبد الله: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً} [الواقعة:35] من الذي أنشأهن؟ إنه الرحمن جل وعلا. نصيفها -خمارها- على رأسها خير من الدنيا وما فيها، يا من تتكالب على الدنيا! يا من ألهتك الدنيا عن الصلاة وعن الذكر وعن القرآن! يا من تمتع بالدنيا، ونسي أمر الله جل وعلا خمار الحورية على رأسها خير من الدنيا وما فيها يا عبد الله! {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً} [الواقعة:35 - 36] لو تطؤها مائة مرة فإنها بكر: {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً * عُرُباً أَتْرَاباً} [الواقعة:36 - 37] في سن واحد وفي عام واحد، لا يكبر سنها، ولا تبلى ولا تشيب ولا تنتن، ولا يأتيها الحيض. لا ترى غيرك: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:56]. عبد الله لا ترى غيرك، ولا تحب سواك، ولا تعلم سواك قابعة في قصرك، أو في خيمتك، كم مرة تجامعها، بل ليست واحدة يا عبد الله! لك في القصر حور، ولك في الخيام حور، ولك ما تشتهي من الحور العين يا عبد الله! {وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ الْلُؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ * جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الواقعة:22 - 24].

أدنى أهل الجنة منزلة

أدنى أهل الجنة منزلة عبد الله: إن أدنى أهل الجنة منزلة، -يقول بعض السلف- لمن يقوم على رأسه عشرة آلاف خادم، كل واحد بيده صفحتان واحدة من ذهب والأخرى من فضة، وصح في الحديث عن أدنى أهل الجنة منزلة: (أن له مثل الدنيا وعشرة أمثالها) اسمع إلى الحديث الصحيح يقول عليه الصلاة والسلام: (لو أن مما يقل ظفر) تخيل يا عبد الله! لو تحمل شيئاً من الجنة بظفرك، وتخرجه من الجنة، أتعرف ماذا يحصل؟ (لتزخرفت خوافق السموات والأرض) هذا لو تحمله بظفرك (مناديل سعد في الجنة خير من الدنيا وما فيها) (موضع سوط أحدكم في الجنة خير مما طلعت عليه الشمس). عبد الله: هل فكرت في غيرها؟ قال تعالى: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ} [الواقعة:27]. عبد الله: أتعرف من هم أعظم من أصحاب اليمين، وأعلى من أصحاب اليمين؟ قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة:10] أهل قيام الليل، أهل الصدقة، أهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر {أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} [الواقعة:11 - 14].

النظر إلى وجه الله

النظر إلى وجه الله عبد الله: واسمع إليهم وهم يتمتعون، وهم يلهون عند الأنهار تحت الأشجار في القصور في الخيام، يجامعون الحور العين، في لحظة واحدة يناديهم الرب، فيقول: (يا أهل الجنة! يا أهل الجنة! يا أهل الجنة! فيستمعون، فيقول لهم الرب: تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون: يا رب! ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار؟ وأي نعيم أعظم من هذا؟ فيقول: فيكشف الرب عن الحجاب، فينظرون إليه جل وعلا فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى وجهه جل وعلا: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]) فينسون بعد هذا النظر نعيم الجنة وما فيها. عبد الله: إذا كانت هذه بعض صفات الجنة، فهلا شمرنا.

المشتاقون إلى الجنة

المشتاقون إلى الجنة اسمع إلى الأولين كيف كانوا يشمرون إلى هذه الجنة، وانظر لنفسك هل أنت من المتسابقين إليها؟ أم أنت ممن تستمع إلى بعض صفاتها، ثم بعدها ترجع إلى حالك السابق، أغاني، وزمر، وطرب، ونوم عن صلاة، وقلة ذكر، وعدم قراءة قرآن.

قصة أبي قدامة مع امرأة وابنها

قصة أبي قدامة مع امرأة وابنها يقول أبو قدامة الشامي: خطبت في الناس وكان وقت جهاد في سبيل الله، فتكلمت في فضل الجهاد، وحث الناس على الجهاد، فلما نزلت من الخطبة جاءتني امرأة فنادتني فقالت: يا شيخ! فالتفت فإذا بامرأة، فتركتها، فقالت: يا شيخ! قال: فالتفت فإذا هي تنادي فتركتها، فقالت لي: يا شيخ! والله لتقف، فوقفت واستمعت إليها، ماذا تريد فقالت لي: يا شيخ! سمعت خطبتك عن الجهاد، فوالله لا أملك شيئاً أجاهد به إلا هذا الظرف فخذه واستعمله في الجهاد في سبيل الله، يقول: فأخذت هذا الظرف، وذهبت المرأة، يقول: ففتحت هذا الظرف فإذا فيه ظفيرتان، قد قصت شعرها ووضعته في ذلك الظرف، لا تملك غيره، وأي شيء أعظم عند المرأة من شعرها، ما عندها مال، ولا دارهم، ولا تستطيع أن تجاهد فقصت شعرها، ووضعته في ذلك الظرف، ليستخدم في الجهاد في سبيل الله. يقول: فربطت به فرسي، وصعدت على الفرس لأذهب إلى الجهاد، يقول: فلما ذهبنا، فإذا بصبي يناديني، فقال لي: يا شيخ! قلت: ماذا تريد؟ قال: يا شيخ! قلت: ماذا تريد؟ قال: احملني معك للجهاد في سبيل الله، قلت: يا بني أنت صغير والله قد عذرك، قال: أقسمت عليك لتحملني معك للجهاد في سبيل الله، يقول: فقلت له: بشرط واحد، قال: وما هو الشرط، قال: إنك إذا مت ولقيت الله جل وعلا أن تشفع لي عند الله؛ لأن الشهيد يشفع في سبعين من الناس يا عبد الله! يقول: فقال لي: نعم، فحملته على فرسي، ردفته، يقول: ودخلنا في الجهاد، وبدأت المعركة، وحمي الوطيس، وفي أثناء المعركة ناداني ذلك الغلام الصبي، فقال لي: يا شيخ! فقلت: ماذا تريد؟ فقال: أعطني سهماً، قال: اترك السهم لأهله، قال: أعطني سهماً، يقول: فأعطيته ثلاثة أسهم، يقول: فوضع السهم في النبل، ثم قال: باسم الله، فرمى السهم فأصاب به نصرانياً فقتله، وأخذ الآخر فقال: باسم الله، يقول: فرمى به الآخر فقتله، يقول: وأخذ الثالث فقال: باسم الله، فرمى الثالث وقتله، {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17]. يقول: وبعد الثلاثة أصيب بسهم في صدغه، فسقط من على الفرس، فنزلت إليه أسعفه، فنظرت إليه وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة يحتضر، فقلت له: يا غلام يا غلام لا تنسى العهد الذي بيني وبينك أن تشفع لي عند الله، فقال: يا شيخ! خذ هذه وأعطها لأمي، يقول: فأخذت خرقة، فقلت له: ومن أمك يا بني؟ فقال ذلك الغلام: يا شيخ! أمي صاحبة الظفيرتين، أمي صاحبة الظفيرتين، أمي صاحبت الظفيرتين، وفارق الدنيا. يقول: فرجعنا من المعركة، وطرقت الباب، فخرجت لي بنت، فقلت لها: أين أمك؟ فقالت هذه البنت: بشرنا يا شيخ! عن أخي، فقال: أخوك قد استشهد في المعركة في سبيل الله، فقالت البنت: الحمد لله، الحمد لله، مات أبي فاحتسبناه عند الله، ثم مات أخي الكبير فاحتسبناه عند الله، الآن يموت أخي الصغير فنحتسبه عند الله، الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. الله أكبر كيف كانوا يتسابقون إلى الجنة {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21].

حنظلة وشوقه إلى الجنة

حنظلة وشوقه إلى الجنة أسمعت بـ حنظلة يا عبد الله؟! هذا الصحابي الجليل، في ليلة عرسه، وأي ليلة أعظم من هذه الليلة لأهل الدنيا؟ في ليلة عرسه يجامع الزوجة، فإذا به يسمع صيحة الجهاد، حي على الجهاد، حي على الجهاد، يا خيل الله اركبي، يا خيل الله اركبي، فينتفض من فراشه، ثم يقوم فيركب على فرسه، ثم يذهب إلى الجهاد في سبيل الله فيقاتل حتى يموت ويستشهد، يقول عليه الصلاة والسلام: (الله أكبر لقد رأيته بين السماء والأرض تغسله الملائكة). عبد الله: هلا كنا كأمثال هؤلاء، الواحد منهم يشم رائحة الجنة وهو على الدنيا.

أنس بن النظر وشوقه إلى الجنة

أنس بن النظر وشوقه إلى الجنة أسمعت بـ أنس بن النضر في غزوة أحد، ينظر إلى سعد جالساً فيقول ل سعد: [يا سعد! ما الذي أجلسك؟ فيقول: لقد مات رسول الله، فيقول: وماذا تصنع بالحياة بعد رسول الله؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه الصلاة والسلام، فيتقدم في المعركة ويقول لـ سعد: يا سعد! واه لريح الجنة، واه لريح الجنة، إني أجدها دون أحد] {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [الواقعة:10 - 12]. أتظن أن الشهيد إذا مات فإنه في حفرة ضيقة؟ لا. إن روحه معلقة في الجنة، في حواصل طير يطير في الجنة إلى أن تقوم الساعة، يا عبد الله! لا تظنهم أمواتاً {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169]. لقد ذهب الناس، ولقد سبق المفردون، ولقد وصل بعض الناس وهو على الدنيا يمشي لقد وصل إلى الجنة. (يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة) أتعرف ما صفة هذا الرجل الذي مشى على الدنيا وكتب من أهل الجنة؟! (إذا نام فإنه لا يحمل في قلبه على أحد من المسلمين غشاً، أو حسداً، أو غلاً) أهل الجنة: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47] تعرف كيف دخل الجنة؟! سلَّم صدره على المسلمين، وأحسن الظن بإخوانه، وأحب في الله جل وعلا، ولم يبغض إلا لله جل وعلا، لا لحظوظ نفسه ولا لهواه. عبد الله: أهل الجنة دخلوا الجنة بصلاة آخر الليل، وبصيام أول النهار يا عبد الله! فحي على جنات عدن فإنها منازلنا الأولى وفيها المخيم وحي على روضاتها وخيامها وحي على عيش بها ليس يسأم فيا ساهياً في غمرة الجهل والهوى صريع الأماني عن قريب ستندم أفق قد دنا الوقت الذي ليس بعده سوى جنة أو حر نار تضرم وتشهد أعضاء المسيء بما جنى كذاك علا فيه المهيمن يختم عبد الله: ونحن في هذه الليلة المباركة، ما يدريك لعلك في هذه الليلة يكتبك الله من أهل الجنة، وماذا تريد من الدنيا إذا كتبك الله من أهل الجنة؟! عبد الله: جاهد نفسك ألا يمر رمضان إلا وقد غفر الله ذنبك (رغم أنفه من أدرك رمضان ولم يغفر له). عبد الله: جاهد نفسك ألا تمر هذه الليلة، إلا وقد أعتقك الله من النار. عبد الله: أتعرف ما هو السبيل، السبيل دمعتان آخر الليل، أو في سجود، وأنت رافع يديك إلى الله، تذكر ذنوبك السابقة، ثم ترجو رحمة الله، ثم تدمع العين، ثم يتوب الله عليك.

قصص رجال تابوا إلى الله

قصص رجال تابوا إلى الله اسمع إلى هذا الرجل، يقول عن هذا الشاب الذي قد أهلته الدنيا وأضاعته بين الشهوات، والملذات، كيف ختم الله عز وجل له. اسمع يا عبد الله ولعلك تكون من هؤلاء الرجال، يقول: رأيته يكلم فتاة في الطريق، فأتيت لأنصحه، يقول: لما اقتربت منه هربت الفتاة، فجئت لأنصح هذا الشاب، فإذا به يستمع، يقول: وأنا أنصحه لمدة نصف ساعة، يقول: فلما ختمت الكلام ذرفت عيناه بالدموع، بكى، (عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله) هل لك أن تبكي من خشية الله، يا عبد الله؟ إذا أردت الجنة هذا طريقها، يقول: فبكى، ثم قلت له: يا فلان أعطني رقم هاتفك، يقول: فأعطاني رقم هاتفه، يقول: وبعد أسبوعين تذكرته، فاتصلت عليه، فقلت: فلان تذكرني؟ قال: نعم، قال: وكيف أنسى صوتاً كان سبباً لهدايتي، قال: الله أكبر اهتديت، قال: والله منذ تلك الكلمات وقد شرح الله صدري، لا أفارق المسجد ولا القرآن، قلت: أزورك الليلة، قال: متى؟ قلت: بعد صلاة العصر، قال: فشغلني شاغل، وجئته في الليل فطرقت الباب، فقلت: أين فلان؟ قالوا: من تريد؟ قلت: فلان، قالوا: دفناه قبل ساعة {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} [الفجر:27 - 29] فقال لي هذا الشيخ الكبير: ومن أنت؟ قال: عرفت ابنك قبل أسبوعين، قال: دعني أقبل رأسك قال: لِمَ؟ قال: دعني أقبل رأساً أنقذ ابني من النار. عبد الله: لا تضمن أنك ستخرج من هذه الخيمة، ولا تتيقن أنك سترى الشمس تطلع، ولا تضمن نفسك أنك إذا نمت أن تصحو من نومك. يا نفس توبي فإن الموت قد حانا واعصي الهوى فالهوى ما زال فتانا أما ترين المنايا كيف تلقطنا لقطاً فتلحق أخرانا بأولانا وفي كل يوم لنا ميت نشيعه نرى بمصرعه آثار موتانا يا نفس ما لي وللأموال أتركها خلفي وأخرج من دنياي عرياناً أبعد خمسين قد قضيتها لعباً قد آن أن تقصري قد آن قد آنا ما بالنا نتعامى عن مصائرنا ننسى بغفلتنا من ليس ينسانا نزداد حرصاً وهذا الدهر يزجرنا كأن زاجرنا بالحرص أغرانا أين الملوك وأبناء الملوك ومن كانت تخر له الأذقان إذعانا صاحت عليهم حادثات الدهر فانقلبوا مستبدلين من الأوطان أوطانا خلو مدائن كان العز مفرشها واستفرشوا حفراً غبراً وقيعانا يا راكضاً في ميادين الهوى مرحاً ورافلاً في ثياب الغي نشوانا مضى الزمان وولى العمر في لعب يكفيك ما قد مضى قد كان ما كانا عبد الله: البدار البدار، السباق السباق، واعلم يا عبد الله أن من الناس من كتب الله له الجنة وهو يمشي على الأرض، فكن من هؤلاء النفر. نسأل الله عز وجل أن يعتقنا وإياكم في هذه الليلة من النار، وأن يكتبنا في دار الأبرار، وصلى الله وسلم على سيد الأبرار وعلى آله وصحبه أجمعين.

أين المصير؟

أين المصير؟ إن الذي يتفكر في حال من مضوا يعلم يقيناً أن مصيرهم إما إلى نار تلظى أو إلى جنة عرضها السماوات والأرض، والله عز وجل قد بين لنا كلا الطريقين، فمن أراد أن يكون مصيره الجنة فالطريق واضح ولكنه شاق، ومن أراد أن يكون مصيره النار فالطريق أيضاً واضح وسهل، فالجنة قد حفت بالمكاره والنار بالذي النفس تشتهي.

ضرورة التفكر فيمن مضوا

ضرورة التفكر فيمن مضوا الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه. وبعد: مر عمر بن عبد العزيز رحمه الله بعد أن صلى الناس العيد -وكان في وفد، وهو على بغلته، وكان أميراً للمؤمنين- على مقبرة فقال للوزراء وللحشم والخدم: انتظروا قالوا: إلى أين؟ قال: إلى المقبرة، فذهب إلى المقبرة ووقف عندها وأخذ ينظر إلى القبور، إلى الذين مضوا من الناس، فقال رحمه الله: أتيت القبور فناديتها فأين المعظم والمحتقر تفانوا جميعاً فما مخبرٌ وماتوا جميعاً ومات الخبر فيا سائلي عن أناسٍ مضوا أما لك فيما مضى معتبر تروح وتغدو بنات الثرى فتمحوا محاسن تلك الصور فجثا على ركبتيه وأخذ يبكي رحمه الله. أما تعتبر أيها الأخ! أناسٌ مضوا، كم من قريبٍ لك سمعت خبره فإذا هو قد قضى، وكم من صاحبٍ لك كان يضحك ويمشي ويلعب كان يبني الآمال، وكان يحلم أنه سوف يتزوج ويبني ويحصل على الأموال، وسوف يسافر، وينجب، ويفعل ويفعل ولكن الموت كان أسرع من هذا، قضى حياته ولم يكمل أعماله وأشغاله في الدنيا، ألا تعتبر؟! سوف نتكلم بهذه الكلمات أيها الأخ العزيز! وحاول أن تصبر معي، فإنك بإذن الله في مجلسٍ من مجالس الرحمن، وفي روضة من رياض الجنان، فاستمع واصبر لعل الله عز وجل أن ينفعك بهذه الكلمات، وما يدريك لعلنا أن نقوم من هذا المجلس فيقال: (قوموا مغفوراً لكم، قد بدلت سيئاتكم حسنات) وما يدريك لعل الله يطلع علينا في هذا المجلس فيغفر لجميعنا حتى من أتى لحاجة، فتقول الملائكة: (يا رب إن فيهم فلاناً إنما أتى لحاجة، فيقول الله عز وجل: هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) ولو كان لحاجة. أين المصير؟! انظر إلى الناس من حولك: هذا يعلب ويلهو، وهذا يصلي ويسجد ويركع، هذا يذهب ويسافر للزنا وللخنا، وهذا يسافر للعمرة وللجهاد، وهذا يجمع المال لينفقه في المعاصي، وهذا يجمعه لينفقه في الطاعات. أين المصير؟!

التذكير بالذنوب يوم القيامة

التذكير بالذنوب يوم القيامة إنه يوم الجمع {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التغابن:9] سوف نبدأ معكم -هذه الليلة- في جلسة نتكلم فيها عن المصير، مصير مَنْ؟ مصير الناس جميعاً، المؤمن والفاجر، المسلم والكافر، سوف نتكلم عن مصيرهما في هذه الدقائق باختصارٍ شديد، واسمع وسل نفسك أي المصيرين تختار؟ أخي العزيز: سل نفسك ماذا تريد، هذا المصير أو ذاك؟ في أي الفريقين تريد أن تكون {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7]؟ يأتي ذلك العبد المذنب الفاجر الذي أمضى ليله ونهاره في المعاصي، يستمع إلى الأذان فيولي، يدعوه ربه للزكاة فيمنع ويجمع، يأمره الله عز وجل بالطاعة، بالذكر بالصلاة بالعبادة بالصيام فيصد ويولي، طالما أتاه رجلٌ صالح، فقال: يا أخي! اتقِ الله، وأعطاه شريطاً، وأهداه كتاباً، وزاره ونصحه ووعظه، لكنه أدبر واستكبر وأصر على المعاصي. يلقى الله عز وجل يوم القيام، فيقول له الرب تبارك وتعالى: عبدي! ألم أصح لك جسدك؟ ألم أسقك من الماء البارد؟ أتذكر ذنب كذا؟ أتذكر ذنب كذا؟ أتذكر يوم أن ذهبت في تلك الليلة وواعدتها ولقيتها ففعلت ما فعلت؟ أتذكر تلك الليلة التي دخلت فيها في البيت وفتحت التلفاز ونظرت، أتحسب أنني لم أكن أراك {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} [التوبة:78] عبدي! ألم تذكر ذلك الموقف الذي أهداك ذلك الرجل الصالح شريطاً أو كتاباً، أو نصحك أو بلغك أو وعظك، فصددت واستهزأت واستكبرت وأصررت على المعاصي، أتذكر كذا أتذكر كذا؟ {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة:12] وأنت تقول: رب أبصرت، رب أيقنت، نعم إن هذا لهو الحق، يا رب رأيت النار ورأيت الجنة، يا رب إن هذا لهو الحق المبين، أرجعني أعمل صالحاً غير الذي كنت أعمل، ولكن هل ينفعه الندم؟ وهل تنفعه الحسرة؟ كلا. وإنما يعض على كلتا يديه ويقول: {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً} [الفرقان:28].

عذاب النار

عذاب النار الآن يبدأ المصير، والآن تبدأ الجلسة، والآن استمع وتخيل، وإياك إياك عبد الله أن تتواكل على رحمة الله وتنسى أن الله شديد العذاب، يقال له -والله عز وجل ينظر إليه ويكلمه-: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:30 - 32] سلسلة كل حلقة منها كحديد الدنيا، تدخل هذه السلسلة في منخره وتخرج من دبره، ثم يجر على وجهه إلى جهنم، فلما يقترب منها ينظر إلى الملائكة تستقبله في النار، فتقول له الملائكة: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ} [الزمر:71] فتذكر هذا المجلس، وتذكر هذه الكلمات -التي أنت تسمعها الآن- إن لم يوفقك الله للتوبة. يدخل النار الفاجر فماذا يرى فيها وقد فتحت أبوابها؟ أول ما يدخلها يجدها سوداء مظلمة، لا يستطيع أن يرى فيها شيئاً، نارٌ سوداء والعياذ بالله {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ * كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ} [المرسلات:32 - 33] إذا دخلها الفاجر يتذكر ذنوبه في الدنيا، ما نفعته تلك المرأة! أين أمواله التي كان يجمعها؟ {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28 - 29] ما نفعه ذلك الجاه! أين منصبه؟ أين خدمه؟ أين حرسه؟ أين ذلك المنزل الذي كان لطالما ترك الصلاة لأجله؟ كان يجلس في البيت فيؤذن المؤذن فيستمر في تنظيفه وتلميعه وترتيبه، فينسى ذكر الله والصلاة، هل نفعه البيت؟ أم نفعته تلك الأرصدة التي كان يعدها عداً؟ المسكين يحسب أن ماله أخلده! أم تنفعه تلك المرأة التي كان يتبعها ويلحقها ويركض خلفها، وينسى ذكر الله والصلاة والعبادة وقيام الليل والدعاء؟ نسي كل هذا، ثم أول ما يرى جهنم {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ} [الفجر:23] يتذكر ماذا؟ ذنوبه في الدنيا {وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} [الفجر:23] يتذكر يوم كان أمام الناس صالح، أما إذا جلس لوحده في البيت يفعل ما يفعل، كلما خلا بمحارم الله انتهكها، لا يرده عن ذلك شيء، إنما كان يعبد الناس لا يعبد الله، كان إذا صلى يرائي، وإذا تصدق يرائي، وإذا حج يرائي، وإذا اعتمر يرائي، وإذا صام يرائي، كل أفعاله رياءٌ في رياء، فإذا اختلى بمحارم الله انتهكها، الآن يبدأ مصيره، إذا دخل النار -أعاذنا الله وإياكم منها- ماذا يجد في النار؟ {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف:38] يرى أصحابه في النار، من هم؟ الذين كانوا يصدونه عن الذكر وعن الصلاة. وعندما قرر في يوم من الأيام التوبة وعزم عليها، وقال: إني تبت الآن، وقال: يا رب عوداً إليك، هذا عهد جديد بيني وبينك فلما ذهب إلى الصلاة ناداه صاحبه فقال: يا فلان عندنا سهرة! يا فلان تعال معنا نسافر! تقول له: أصلي، يقول لك: تصلي وأنت الآن شباب! لا تضحك على نفسك، لا تتعقد ولا تتزمت، تعال معنا وتشبب، قال: أريد أن أذهب إلى الصالحين، قال: إنهم معقدون، إنهم إرهابيون، إنهم متشددون، تعال معنا نتمتع بالحياة. ثم إذا دخل إلى النار رأى صاحبه قد سبقه إليها {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا} [الأعراف:38] الآن اجتمعوا كلهم في النار، ماذا يطلبون؟ {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا} [الأعراف:38] يا رب! هذا الذي أضلني، يا رب! لطالما كنت أريد التوبة فصدني عنها، يا رب! كلما أردت التوجه إليك صدني ومنعني وأغراني بالمعاصي، يا رب! يا رب! {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ} [الأعراف:38]. فيرد الله عز وجل عليهم جميعاً: {قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:38] كل واحد منكم سوف نزيده الضعف في العذاب لماذا صددت عن ذكر الله؟! فصاحبك ما ربطك؟ وما قيدك؟ وما منعك من الصلاة؟ وما كان له عليك من سلطان إلا أن دعاك فاستجبت له أيها الضال الكافر! {لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:38]، وإذا دخل أهل النار النار يحترقون فيها {كَلَّا إِنَّهَا لَظَى} [المعارج:15]. يا عبد الله! يا من أغرته الملاهي! يا من أغرته الأغاني! يا من كان طوال حياته يجمل وجهه! يتزين أمام المرآة! ويذهب إلى دولٍ كثيرة يطلب الصحة والعافية! يا من كان يجمع المال ويعده عداً، أتعرف ماذا يأكل أهل النار؟ أم ماذا يشرب أهل النار؟ أم كيف يعيش أهل النار؟ عبد الله: إياك إياك أن تكون موقناً أنك لست من أهلها، إن الرجل العاقل هو الذي يخاف من النار ويخاف أن يقع فيها. أما لباسهم فقد قال الله عز وجل عنه: {سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ} [إبراهيم:50] نحاس مذاب، أرأيت النحاس المذاب كيف يكون حاراً لا تستطيع أن تضع يدك عليه؟ إنهم يلبسونه لبساً {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} [الحج:19]. أما الفرش: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ} [الأعراف:41] ينامون على النار، ويلبسون النار، فماذا فوقهم؟ {وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف:41] أتريد ظلاً؟ أتريد برداً؟ {مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ} [الزمر:16] النار من فوقهم، ومن تحتهم، وعن أيمانهم، وعن شمائلهم، النار يلبسونها لبساً. أما طعامهم فيخبر الله عنه بقوله: {أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ} [البقرة:74] أما الطعام فإنه النار نعوذ بالله، قال بعض السلف: "إن عذاب الجوع في النار يعدل عذاب النار كله" يجوعون فيطلبون الطعام فيعطيهم الله عز وجل طعاماً أتعرف ما هو؟ يا من أغراه طعام الدنيا فأكل الحرام وقد أغناه الله بالحلال! يا من كان لا يكفيه طعام الدنيا، فيأكل من هذا، ويتلذذ بهذا، حتى وصل إلى الحرام فبدأ يأكل منه! أتعرف ما عقوبة أهل النار وماذا يأكلون؟ يأكلون من الزقوم: (لو أن قطرة من الزقوم قطرت في الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم) كيف بمن يكون طعامه؟! عبد الله: إن الأمر حقيقة، لا تظن أن الأمر هزل {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة:40] {وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق:14]. {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ} [الدخان:43 - 44] يأكلونها، أتعرف ما الذي يحصل بعدها؟ {كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ} [الدخان:45] إذا أكلوا الزقوم فإن البطون تغلي {كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} [الدخان:46] ثم {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الدخان:47] يدفع دفعاً، ويسحب سحباً إلى وسط الجحيم، ثم بعد هذا ماذا؟ {ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ} [الدخان:48] ثم بعد هذا ماذا؟ {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:49] كنت عزيزاً في الدنيا، كنت في الدنيا إن دخلت مجلساً قام الناس لك، وإذا مررت في مكان هابك الناس، وسلموا عليك ولم يستطع أحدٌ أن يتكلم في مجلسك؛ لأنك أنت العزيز الكريم، والآن ذق إنك كنت في الدنيا تتكبر على الناس وتتفاخر عليهم، أما اليوم فذق إنك أنت العزيز الكريم. يجوعون فيأكلون طعاماً، واسمع إلى هذا الطعام {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ} [الغاشية:6] نباتٌ فيه شوك، يأكلونه، أتعرف ماذا يحدث لهم؟ {وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً} [المزمل:13] تغص به الحلوق، فلا يستطيع أن يخرجه ولا أن يبتلعه، فيطلب من الله عز وجل الماء {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً} [الكهف:29] أردت الماء؟ تُعطى الماء ولو كنت من أهل النار، فلما يقترب من الماء تسقط فروة رأسه من شدة حره -الأمر حقيقة- {يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً} [الكهف:29]. عبد الله: هل لا زلت مستمراً على الأغاني؟! أبعد هذا لا زلت تصر على ترك الصلاة؟! أبعد ما سمعت من عذاب أهل النار لا زلت تصد عن ذكر الله؟! إن أنت إلا في غرور، إي والله إنك في غفلة، توشك أن تكون ميتاً. استمع أيضاً إلى عذاب أهل النار ولعلك إلى الآن لم تستجب، وإلى الآن لم يرق القلب، وإلى الآن المسكين يظن أنه يقوى على عذاب النار. أما إن سألت عن أهل النار وعما يحصل لهم من عذاب؟ إنهم في النار ينظرون إلى أهل الجنة يتنعمون، وهو في النار يقول الله عز وجل له: انظر هذا مكانك في الجنة؛ ليزداد حسرة على حسرة {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [سبأ:33] كل هذا الحر وكل هذه النار وكل هذا الجحيم، ومع هذا توضع الأغلال في عنقه، يشوى في النار كما يشوى الجراد والسمك، أرأيت كيف يشوى على النار؟ (ناركم هذه جزءٌ من سبعين جزءاً من نار جهنم). أسمعت عن صرخات أهل النار؟ يقول تعالى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر:37] ربي أرجعني إلى الدنيا، والله لن آكل درهماً ربا، سوف آمر زوجتي وبناتي بالحجاب، وأؤدي زكاة مالي، ولن أتخلف عن صلاة الفجر يوماً واحداً، يا رب أرجعني إلى الدنيا وسوف وسوف فيرد الله عز وجل عليه: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر:37]. فهم في النار قد أنهكهم حرها ولهيبها، وباتوا من الجوع والعطش يأكلون -أجاركم الله- من صديد أهل النار، إن جلودهم تتشقق فيخرج منها الصديد فيأكلونه قبل أن تحرقهم النار {كَلَّا إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى} [المعارج:15 - 16] أتعرف ما معنى: نزاعة للشوى؟ ينفصل الجلد واللحم عن العظم من شدة حرها {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56] إلى متى؟ هل يخف العذاب في النار؟ لا. ولكن يقول الله: {فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَاباً} [النبأ:30]. ثم ينظرون إلى مالك خازن النار ويقولون له: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77] يا مالك! نتمنى أن نكون تراباً في النار يا مالك! نريد الموت. يا مسكين! ما طلب الله عز وجل منك شيئاً، وإنما أراد منك خمس صلوات في اليوم والليلة فأبيت إلا النار! ما أراد الله عز وجل منك إلا جزءاً يسيراً من المال تؤدي به زكاة مالك فأبيت إلا النار، ما طلب الله منك شيئاً، أحل لك النعم كلها وحرم عليك بعضها، أحل لك النكاح فأبيت إلا الزنا، أحل لك جميع أنواع الشرب والمشروبات فأبيت إلا الخمر أن تشربها، ما طلب الله عز وجل منك شيئاً لكنك أبيت إلا النار. {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77] فيرد عليهم مالك بعد ألف سنة فيقول لهم: {إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77] إنكم ماكثون في هذه النار، والسبب: {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ} [الزخرف:78] أتذكرون ذاك اليوم في ذلك المجلس؟ أتذكرون تلك الخطبة؟ أتذكر ذلك الشريط الذي استمعت إليه؟ أتذكر ذلك المجلس الذي جلسته وحدثك به رجلٌ صالح؟ أتذكر صاحبك الذي مات فلم تتعظ؟ أتذكر

صفات الجنة وأهلها

صفات الجنة وأهلها أما ذلك العبد الصالح -وأسأل الله أن يهديك لتكون صالحاً- الذي إن أذن المؤذن لصلاة الفجر وقال: الصلاة خيرٌ من النوم، وثب من فراشه وذهب إلى الصلاة وصلى وذكر الله. ذلك العبد الصالح لو كانت عنده من الأعمال ما عنده واستمع إلى (حي على الصلاة) رمى كل ما في يديه، ثم ذهب إلى المسجد يؤدي فريضة الله. ذلك العبد الصالح الذي إن جلس لوحده في البيت واختلى بمعصية من معاصي الله اتقى الله وصد وابتعد عن معاصي الله. ذلك العبد الصالح الذي إن جلس في مجلس يدار فيه منكر أنكره فإن لم يستطع خرج من ذلك المجلس. ذلك العبد الصالح ما تسمع منه إلا كل خير، إن نطق فبذكر الله، أو بغير معصية الله، ذلك العبد الصالح الذي أشغلته طاعة الله، وأشغلته محبة الله، ملأت قلبه طاعة الله ومحبته والشوق إلى لقائه، ذلك العبد الصالح ما مصيره؟ يقف بين يدي الله عز وجل فيقول الله تبارك وتعالى له -وادع الله أن تكون من أولئك-: (عبدي أتذكر ذنب كذا؟ -ومن من الناس لا يعصي الله- أتذكر ذنب كذا؟ فيقول: أي ربي هلكت، فيقول الله عز وجل له -لأنه تاب منها في الدنيا- سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، ثم يأخذ صحيفته بيمينه فيولي إلى الناس فيقول: {هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:19 - 20]). أيها الناس: في المحشر، {اقْرَأوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة:19] ماذا تجدون؟ إنها الصلاة، وذكر الله، والصدقة، والدعاء، والصيام، والعمرة، والجهاد. ماذا ترون؟ كل خير، إنها التوبة والاستغفار، إنه التسبيح والتحميد والتهليل والاستغفار. ماذا ترون؟ صلاة الضحى، وصلاة الوتر، والرواتب، والسنن، والنوافل. ماذا ترون؟ الدعوة إلى الله، وطلب العلم ونشره. ماذا ترون؟ {هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة:19]. ثم يجتمع مع أصحابه في المحشر فيقول الله عز وجل: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً} [الزمر:73] يجتمعون على أبواب الجنة، ماذا ينظرون؟ بل ماذا ينتظرون؟ ينتظرون نبيهم أفضل البشر يخرج من بينهم، ليفتح لهم باب الجنة، والجنة لها ثمانية أبواب وما يدريك لعلك تكون منهم؟ ما يدريك لعلك تكون من أول زمرة وأول فوجٍ يدخل الجنة؟ يأتي أفضلهم إلى باب الجنة وله حلقة فيأخذ بها ويطرق باب الجنة، والناس ينتظرون، إنهم يتشوقون، إنهم يتلهفون، إن ريحها تخرج منها من مسيرة سنوات طوال، ينظرون يريدون أن يدخلوها، فيفتح فيستفتح فيقول له الملك: من أنت؟ فيقول: أنا محمد، فيقول الملك: أمرت ألا أفتح لأحدٍ قبلك، فتفتح أبوابها، الله أكبر! ثم ماذا ترى؟ ترى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} [عبس:38 - 39] وجوه مستبشرة، ضاحكة فرحة، فإذا بباب الجنة يفتح، وإذا بالملائكة تنادي بالأسماء: أين فلان ليأتي من باب الريان؟ لأنه أكثر من الصيام أين فلان ليأتي من باب الصلاة؟ لأنه أكثر من الصلاة، وذاك أكثر من الصدقة، فيقال: أين فلان ليأتي من باب الصدقة؟ وذاك جاهد في سبيل الله، فيقال: أين فلان ليأتي من باب الجهاد؟ وبعضهم ينادى من بابين، الله أكبر! يختار أي البابين يدخل، وبعضهم من ثلاثة، وبعضهم من أربعة، وبعضهم من ينادى من أبواب الجنة كلها؟ أين فلان ليدخل من هذا الباب؟ أتعرف؟ أسمعت أن: (ما بين مصراعي باب الجنة مسيرة أربعين عاماً) تمشي من الطرف الأول للباب فلا تصل إلى الطرف الثاني إلا بعد أربعين عاماً وإنه ليأتي عليه يوم وإنه لكضيض، مزدحم بالناس، تخيل نفسك وقد أمر بك إلى الجنة، وأتيت إلى بابها، ووطأت قدماً فيها، فماذا ترى؟ {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً} [الإنسان:20] تنسى هموم الدنيا كلها، أين تعب الصلاة؟ أم أين تعب الجهاد؟ أم أين تعب الصيام؟ والصدقة والنفقة؟ أين التعب كله؟ ذهب، بقيت الآن اللذة والسعادة، يدخل بقدم لا يأمن العقوبة، فإذا دخلت القدم الأخرى ودخل الجنة ماذا يرى؟! أما الأرض فبيضاء، أما إذا نظر إلى العلو فليس فيها شمس، كيف يرى الناس، أم كيف ينظرون؟ يأتي نورٌ من قبل عرش الرحمن، فيفيض على أهل الجنة نوراً. يدخلون الجنة فإذا الأرض بيضاء، تحت رجله ماذا يرى؟ حصباؤها اللؤلؤ، الياقوت، والزعفران تحت رجله يطأها بقدميه، يدخل في الجنة إلى أين يذهب؟ هل يعرف منزله؟ يعرف منزله أفضل مما كان يعرف منزله في الدنيا، يركض إلى منزله وقصره في الجنة، أتظنه كقصور الدنيا؟ لا. لبنة من فضة، والأخرى من ذهب، ثم من فضة، والأخرى من ذهب، وتخيل منظرها ليس كذهب الدنيا ولا كفضة الدنيا. يمر في الطريق ماذا يرى؟ يرى أنهاراً {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} [محمد:15] أتحسب أن أنهار الجنة أخاديد كالدنيا؟ لا، إن نهر الجنة يسكب على الجنة سكباً {وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ} [الواقعة:31] لا يجري في أخاديد بل يجري على الجنة هكذا، نهر من ماء غير آسن لا يتغير طعمه {وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ} [محمد:15] الله أكبر! هل لك أن تتصور نهراً من لبن؟ يجري ذلك النهر، وإذا أردت أن تشرب فاشرب، إذا أردت أن تغرف منه فاغرف منه ما شئت فإن هذا اللبن لا يتغير طعمه. ثم {وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} [محمد:15] يا من استبدل خمر الجنة بخمر الدنيا، يا من استبدل الحلال بالحرام، أذكرك وأخبرك أن في الجنة يجري الخمر فيها جرياً، لذة للشاربين، {لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنْزِفُونَ} [الواقعة:19] يشربون من خمر الجنة ما شاءوا، أتستطيع أن تتخيل هذا؟ بل أزيدك نهراً رابعاً {وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً} [محمد:15] هل تتخيل نهراً من عسل يجري؟ الله أكبر! الله أكبر! {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:61]. ثم يذهب إلى قصره فيرى عند القصر خيمة من لؤلؤة مجوفة، أتظنها كهذه الحجرة؟ لا. بل طولها في السماء ستون ميلاً، هل تظن أنك ترى آخرها؟ يدخلها صاحبها فإذا به يرى فيها أهلون، أتعرف صفتهم؟ أتعرف صفة زوجته؟ يعطى قوة مائة رجل، يجامع في اليوم الواحد مائة مرة ولا يتعب. قال عليه الصلاة والسلام: (لو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت على أهل الأرض لأضاءت ما بينهما -ما بين السماء والأرض- ولملأته ريحاً، ولنصيفها على رأسها -خمارها على رأسها- خيرٌ من الدنيا وما فيها) {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً} [الواقعة:35] من الذي أنشأهن؟ إنه الرحمن {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً} [الواقعة:36] مهما تطأهن فإنهن أبكارا {عُرُباً أَتْرَاباً} [الواقعة:37] متحببات لأزواجهن متساويات في الأعمار {عُرُباً أَتْرَاباً} [الواقعة:37] لمن؟ {لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة:38] لأصحاب الصلاة، والصيام، وذكر الله، وقيام الليل، والجهاد في سبيل الله، ودين الله {لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ * ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ} [الواقعة:38 - 40] إذا رأيت ساقها -وسوف أخبرك عن ساقها بلا حياء؛ لأنه أخبر بذلك عليه الصلاة والسلام- ترى مخ ساقها من وراء اللحم، ما أرقه، وما ألطفه، وما أنعمه، ترى العظم من وراء اللحم، أتظن كيف يكون شكلها؟ أم كيف يكون جمالها؟ يروى: أنه يجامع الحور فإذا به في لحظة يبزغ نورٌ عظيمٌ من فوقه يظن أنه الرحمن، فيقول: ما هذا؟ فتقول له امرأة وتنظر إليه فتقول: أما كان لنا فيك دولة؟ أي: أما اكتفيت بهذه فتأتي إلينا فتجامعنا، فيقول: من أنت؟ فتقول: أنا من الذين قال الله فيهم: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:35] فيجامعها فإذا به بعد لحظات يبزغ نورٌ عظيم فيقول: ما هذا؟ فتقول امرأةٌ ثالثة: أما كان لنا فيك دولة؟ فيقول: من أنت؟ فتقول: أنا من الذين قال الله فيهم: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة:17] على فرش من حرير، يلبسون الحرير، ينامون على الفرش، ويتكئون عليها، خدمهم كاللؤلؤ المنثور، ينامون على الأرائك. يشتهي ثمار الجنة، وفاكهة مما يتخيرون، لا يقوم من مكانه ليقطف الثمار، بل تأتي الثمار إليه {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً} [الإنسان:14] تأتي الثمار فيقطفها، كُلْ ما شئت، واشرب ما شئت، وتمتع بما شئت، ثم وهو في ذلك النعيم يأتيهم منادىٍ فيقول: يا أهل الجنة! تريدون شيئاً أزيدكم؟ تريدون نعيماً غير هذا؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار؟ فيكشف ربنا عن الحجاب فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم، وينسون به نعيم الجنة كله {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23].

الصدق في التوبة

الصدق في التوبة أيها الأخ العزيز: هل تفكرت في هذا المصير؟ سل نفسك أي الطريقين تختار؟ وأي الطريقين تريد أن تسير فيه؟ {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:3] بادر نفسك بالتوبة، ولا تقل: سوف أتوب من الغد، وما تدري فلعلك لا تدرك الغد، إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء. أخي العزيز: لا تقل يا رب تبت إليك ولا زلت مصراً على المعاصي، وعقدت في قلبك أن ترجع إليها، فإنك تستهزئ على الله، لا تقل: يا ربِ تبت إليك ولا زلت تحتفظ بالمعاصي في البيت، ولا زالت أموالك في بنوك الربا، ولا زلت تفعل المعاصي وتقول: يا رب أستغفرك وأتوب إليك، قال الله عز وجل {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135]. جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه في غزوة مؤتة يحمل الراية بيده اليمنى -انظروا إلى أولئك النفر الذين باعوا أنفسهم لله عز وجل- فإذا بها تقطع -لو كنت مكانه ماذا تفعل- ثم مسكها بيده اليسرى، ولسان حاله: أموت وتقطع يدي ولا تسقط راية الإسلام. فلما حملها بيده اليسرى قطعت يده اليسرى، فأصبح بلا يدين، وماذا تظنه فاعلاً؟ مسك الراية بعضديه وضمهما على الراية، فإذا بالرماح تكسر على ظهره، وهو يتلفظ أنفاسه الأخيرة ويقول: يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وباردٌ شرابها والرومُ رومٌ قد دنى عذابها كافرة بعيدةٌ أنسابها وفاضت روحه إلى الله، قال عليه الصلاة والسلام: (لقد طار في الجنة). أقول هذا القول، وأصلِّ وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وجزاكم الله خيراً.

مكر اليهود

مكر اليهود إن عقيدة الولاء والبراء من أوثق عرى الإيمان، فيجب علينا أن نتبرأ من أعداء الله، وعلى رأسهم اليهود الذين لعنهم الله، وغضب عليهم، وجعل منهم القردة والخنازير. فإنهم الذين تجرءوا على الله بالسب والرمي بالنقائص، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً. وهم الذين قتلوا الأنبياء وحاربوا الرسل، وفي هذا العصر هم وراء كل فتنة وحرب وفساد.

اليهود مكر على مر التاريخ

اليهود مكر على مر التاريخ إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المسلمون: معنا اليوم ذكرى للمسلمين، حتى لا ينسوا عقيدتهم، وهي من أصول هذا الدين الإسلامي، وهذا الأمر يجب أن يتذكره المسلم في اليوم والليلة سبع عشرة مرة، لا يكتمل إسلامه إلا به. إن هذه العقيدة أصَّلها الله عزَّ وجلَّ في القرآن كثيراً وذكرنا بها حتى لا ننسى، سواءً كان منا طالب علم، أو عامي، أو عالم، أو جاهل، لا بد أن يعتقد هذه العقيدة، وهي عقيدة تتعلق بالولاء والبراء، بل هي أصل البراء وأوَّله، وهو: بغض أعداء الله جلَّ وعلا، وعلى رأس أعداء الله ما سوف نتكلم عنهم في هذه الخطبة، عن بعض تاريخهم، وبعض أعمالهم حتى لا ينسى المسلمون، إنهم اليهود لعنهم الله، الذين غضب الله عليهم ولعنهم وجعل منهم القردة والخنازير. أي أمة في الأرض أبغضها الله عزَّ وجلَّ وغضب عليها، فجعل منها قردة وخنازير مثل هذه الأمة؟! أمة اليهود لعنهم الله وقبحهم، انظر إلى فعلهم في الماضي، وفعلهم في الحاضر، حتى لا ننسى هذه العداوة التي أمرنا الله بتكرارها سبع عشرة مرة في اليوم والليلة، لقوله جلَّ وعلا: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:6 - 7]. صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (المغضوب عليهم هم اليهود) نكرر هذا في اليوم والليلة، في الفرائض والنوافل، فهو من أوجب الواجبات على المسلمين أن يتعلموه لكي يتبرءوا من اليهود يتبرءوا من هذه الأمة الملعونة التي غضب الله عليها.

اليهود وأقوالهم في ذات الله

اليهود وأقوالهم في ذات الله انظروا -يا عباد الله- كيف يعاملون ربهم جلَّ وعلا، وماذا ينسبون إليه، ثم إن علمنا قبح مقالاتهم في الله لا نستبعد قبح مقالاتهم في الناس، بل وأفعالهم فيهم. يقولون عن الله جلَّ وعلا -وهذا قد كتبوه بأيديهم في التوراة ونسبوه إلى الله- قالوا: إن الله جلَّ وعلا نزل إلى الدنيا، فتمثل في صورة إنسان، فتصارع مع يعقوب عليه السلام، الله جلَّ وعلا يتصارع مع نبي من الأنبياء، ثم ماذا؟ قالوا: إن يعقوب قد طرح الله أرضاً، قاتلهم الله ولعنهم! انظر ماذا قال الله فيهم في القرآن: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة:64] قالوا: يد الله مغلولة، الله بخيل لا ينفق على الناس، انظروا إلى الفقراء الجياع المرضى! انظروا إلى هذه الأمم كيف تموت جوعاً؟ الله بخيل، قبَّحهم الله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة:64] فأخبر الله أن يده مبسوطة انظروا إلى النعم انظروا إلى ما أنزل الله من السماء والأرض انظروا إلى هذه الخيرات انظروا إلى آثار رحمة الله!! انظروا كيف يسبون الله جلَّ وعلا، يقولون في توراتهم: إن الله لما خلق السماوات والأرض تعب ونصب؛ فاستراح بعد خلقه لها، فرد الله عليهم فقال: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38] ما مسنا من تعب. ولا نصب، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً! يقولون عن الله: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181] الله يطلب منا أن ننفق ونطعم الجياع والفقراء، إذاً الله فقير ونحن أغنياء انظروا كيف يسبون الله جلَّ وعلا!

أقوال اليهود في أنبياء الله

أقوال اليهود في أنبياء الله جاءوا إلى رسل الله جلَّ وعلا واحداً واحداًَ، إما أن يكذبوه، وإما أن يقتلوه، ولم يؤمنوا بنبي واحد من الأنبياء، هم أكثر أمة على وجه الأرض أرسل الله لهم الرسل والأنبياء، مئات بل ألوف من الرسل والأنبياء، ومع هذا كذبوهم، وقتلوا بعضهم. انظروا ماذا قالوا عن لوط عليه السلام، نبي من الأنبياء اختاره الله من بين الناس؛ لكي يبلغ رسالات ربه، فقصوا عنه قصة مختلقة -وهذا مذكور عندهم في التوراة- فقالوا: إن لوطاً شرب يوماً من الأيام خمراً فسكر، ثم لما سكر لم يكن يشعر بنفسه إلا وقد وقع على ابنته فزنا بها في من؟! في نبي من الأنبياء: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} [الكهف:5]. ثم لم يكتفوا بهذا! جاءوا إلى داوُد عليه السلام، وهو من رسلِهم وأنبيائهم، قالوا عن داوُد: إنه ابن زنا، وأنه أنجب ولداً، فزنا ولده بأخته من أبيه، وأن ذريته كلهم من أبناء الزنا ذريته من الأنبياء والرسل كلهم من أبناء الزنا، ماذا بقي للأنبياء؟! بل ماذا بقي للرسل؟! جاءوا إلى سليمان عليه السلام، فقالوا: كانت له سبعمائة من النساء يتمتع بهن ويجامعهن وينكحهن كما يشاء، صار النبي لا يعرف من الدنيا إلا الشهوات والملذات. ولم يكتفوا بهذا، بل قالوا عن سليمان: إنه كان يرى نساءه يعبدن الأصنام والآلهة لا ينكر عليهن من شدة حبه لهن، بل كان في بعض الأحيان يساعدهن في تقريب القرابين لهذه الآلهة، حُبٌّ وعشقٌ ووَلَهٌ وشهوةٌ أعمت بصائر سليمان عليه السلام تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً. اليهود هم اليهود، هم الذين غضب الله عليهم، وهؤلاء هم من نسلهم، سبوا الله، وسبوا الأنبياء، جاءوا إلى عيسى عليه السلام وقد أنطقه الله في المهد: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً} [مريم:30] فقالوا: لا. أنت ابن زنا! {وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً} [النساء:156] نعم! نسبوا إلى مريم الزنا، ثم لما كبر عيسى عليه السلام تبعوه ليقتلوه يقتلون نبياً من الأنبياء، تبعوه حتى رفعه الله جلَّ وعلا: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} [البقرة:87]. ولهذا الله عزَّ وجلَّ في القرآن كثيراً ما يعيد علينا قصتهم وأخبارهم وأفعالهم، يأمرهم الله عزَّ وجلَّ بألا يصطادوا في يوم السبت، فيتحايلوا على ربهم جلَّ وعلا، فكانوا يضعون الشباك يوم الجمعة، ثم يأخذونها يوم الأحد، وكأنهم لم يصطادوا يوم السبت، يكذبون على الله، ويتحايلون عليه سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة:65] بسبب تحايلهم على الله جلَّ وعلا لعنهم الله فأصبحوا في الصباح فإذا جزء منهم قد تحول إلى قردة، وجزء منهم قد تحولوا إلى خنازير قبَّحهم الله ولعنهم: {أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المائدة:75].

عداء اليهود لرسول صلى الله عليه وسلم

عداء اليهود لرسول صلى الله عليه وسلم جاء اليهود إلى نبي هذه الأمة ورسول هذه الملة، خير الأنبياء وخير الناس أجمعين، سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، جاءوا إليه فكذبوه، ولم يصدقوه، وفي توراتهم تبشير به، يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، يعلمون أنه جاء بالحق، وأنه رسول من عند الله، فكذبوه، وقالوا: ما بُشر به، ولا أخبرنا نبينا به، ثم جاءوا إليه يحاولون تكذيبه ورده وصده، فلما هاجر إلى المدينة احتضنوا المنافقين وألَّبوهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم لم يكتفوا بهذا، بل ألَّبوا المشركين في غزوة الخندق والأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم لم يكتفوا بهذا، بل جاء خبيثهم لبيد بن الأعصم عليه لعنة الله، فسحر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ جزءاً من شعره في مشط ومشاطة، فسحر نبي هذه الأمة، حكمة من الله أرادها، فكان كما تقول عائشة رضي الله عنها: [يفعل أشياء ولا يدري أنه فعلها، ويتكلم بأمور لا يشعر أنه يتكلم عليه الصلاة والسلام] ثم نجاه الله منهم. ثم لم يكتفوا بهذا، بل جاءت يهودية، فقرَّبت إليه شاةً ووضعَت فيها سُمَّاً، تريد قتل نبي هذه الأمة، فأراد أن يأكل منها، فأكل شيئاً قليلاً، فأخبره الله جلَّ وعلا أن الشاة مسمومة، فتركها عليه الصلاة والسلام، ولا زال يتجرع مرارة هذا السم حتى توفَّاه الله جلَّ وعلا. جاء في يوم من الأيام إلى أحد أحيائهم، فلما اقترب عند سطح من السطوح، جاء أحدهم من فوق هذا السطح، ليرمي بصخرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} [البقرة:87]. هذا هو تاريخهم مع الله جلَّ وعلا، ومع الأنبياء ومع الكتب والرسالات. فهاهم في التوراة يأتون إليها، فيكتبون ما تهوى أنفسهم فيها، وينسبونها إلى الله جلَّ وعلا: {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة:79] ومحوا بعضه، ولبَّسوا الحق بالباطل: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:42]. قتلوا عشرات بل مئات من الأنبياء والمرسلين، هذا فعلهم في أنبياء الله، فكيف بفعلهم في الناس ومن هم دون الأنبياء؟! إنهم الذين أخبر الله عنهم: {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة:60]. أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم.

اليهود وراء كل فتنة في هذا العصر

اليهود وراء كل فتنة في هذا العصر الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. أما بعد: أما فعلهم في هذا الزمن وفي واقعنا فهو أكثر من أن نتكلم عليه في هذه الخطبة، فكل مسلم عاقل يعرف دين الله وشرعه، يعلم يقيناً من قلبه أنه لا عهد بيننا وبين اليهود، ولا صلح بيننا وبين اليهود، ولا سلام بيننا وبين اليهود، فهم أهل نقض العهود، كما قال الله عزَّ وجلَّ عنهم: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:100] لا عهد بين المسلمين وبين اليهود. عاهدهم خير هذه الأمة، وصالحهم عليه الصلاة والسلام، وكانت الغلبة والقوة له، وكان الحكم له عليهم، عاهدهم وصالحهم ولكن لم يلبثوا إلا وأججوا الفتن، ودسوا الدسائس، وحاولوا قتله، ثم نقضوا العهد بينهم وبينه صلى الله عليه وسلم، فقتل عليه الصلاة والسلام بعضهم، وأخذ أموالهم، وأجلى كثيراً منهم، حتى أمر آخر حياته ألا يبقى أحدٌ منهم في هذه الجزيرة. اليهود قبَّحهم الله هم المغضوب عليهم في هذا الزمان وفي غيره من الأزمنة، كل حرب على وجه الأرض وكل معركة تدور بل أكثر المعارك والحروب على وجه الأرض لهم يد فيها، وهم طرف فيها، كما قال جلَّ وعلا عنهم: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} [المائدة:64]. يؤججون الحروب، ويثيرون المعارك، ويثيرون الفتن بين الأمم، ليبقوا أقوياء، فهم الذين يتدخلون في تجارة الأسلحة، ويقبضون في النهاية الثمرة، يتفرجون ويضحكون على الأمم كيف تتقاتل، وكيف تتصارع؟ ليبقوا أقوياء، لعنهم الله وأذلهم: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [المائدة:64] نعم! يسعون في الأرض فساداً. إنهم يتدخلون في نشر المخدرات والخمور بين الشعوب والأمم، ويصرحون بهذا، بل أكثر بيوت وأماكن الدعارة على وجه هذه الأرض لهم يد فيها ويتدخلون فيها. يا عباد الله! محافلهم الماسونية، ومحافلهم اليهودية قد انتشرت في بقاع الأرض كلها، بل بعض أعضائهم وبعض من ينتسبون إليهم يتسمون بالمسلمين كذباً وزوراً ثم يبثون السموم والدسائس بين المسلمين، يحرشون بينهم، ويفتنون في صفوفهم، وينشرون الخمور والمخدرات والدعارة والزنا لتبقى الشعوب هكذا في غفلة: {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [المائدة:64]. نعم. إنهم اليهود، أعداء الله جلَّ وعلا، أشد الناس على وجه هذه الأرض عداوة للمؤمنين وللمسلمين: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ} [المائدة:82] قدمهم الله على جميع الكفار والمشركين. أخبر عليه الصلاة والسلام أن المعركة قائمة بين المسلمين واليهود، بين المؤمنين وأعدى أعدائهم إلى قرب قيام الساعة، حتى تأتي تلك المعركة الفاصلة بين المسلمين واليهود، وقائد المسلمين عيسى عليه السلام، أنزله الله من السماوات إلى الأرض؛ ليقود المسلمين في تلك المعركة، أما قائد اليهود فهو الدجال الأعور، الذي يدعي الألوهية، يخرج معه من يهود أصفهان سبعون ألفاً، وينتشرون من بقاع اليهود ليتجمعوا في فلسطين والشام؛ ليقاتلوا المسلمين في الفسطاط -يتقاتل تحته جميع المسلمين وجميع اليهود- لتكون المعركة الفاصلة والحاسمة التي يتشوق إليها المسلمون، والتي يحدث المسلمون بها أنفسهم وينتظروها بفارغ الصبر، بل في تلك المعركة لا يقاتل البشر فقط؛ بل يقاتل في تلك المعركة الملائكة والأحجار والأشجار، كلها تقاتل مع المسلمين، فيختبئ اليهودي الذليل خلف الحجر والشجر: (فيقول الحجر والشجر: يا مسلم يا عبد الله! هذا يهودي ورائي تعال فاقتله) فيأتي إليه المسلم فيحز رأسه ويقتله ويسفك دمه حتى يستأصل المسلمون اليهود، حينئذٍ لا يبقى على قيام الساعة إلا قليل، وتصبح الدنيا على قيام الساعة بعد أن يستأصل المسلمون اليهود. عباد الله: لا بد أن نحدث أنفسنا بعداوتنا وبكرهنا وببغضنا لهم، لا نقول في الفاتحة: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7] إلا ونحن نتذكر اليهود الذين غضب الله عليهم ولعنهم وجعل منهم القردة والخنازير. ثم نربي أجيالنا وأبناءنا على بغضهم وعداوتهم وكرههم، وعلى إعداد العدة لمحاربتهم في يوم من الأيام، عدة نفسية، وإيمانية، وعقائدية، وجسدية، نعد العدة لحربهم وقتالهم، انتظاراً لتلك المعركة الفاصلة التي وعدنا الله جلَّ وعلا بها على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اللهم أعداء الدين. اللهم عليك باليهود والنصارى الذين يحاربون أولياءك، ويبدلون دينك، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك. اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات. أقول قولي هذا وأصلي وأسلم على أشرف خلق الله محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم.

رحل الرجل

رحل الرجل على العبد أن يستعد استعداداً تاماً لملاقاة الله تعالى، فإن هذه الدنيا قصيرة، وإن الآخرة أبدية سرمدية، وهناك من كان يؤمل آمالاً ويظن أنه سوف يخلد في هذه الحياة، فإذا بالموت يقطع أمله، ويبتر أحلامه، وهو غير مستعد للقاء ربه، ولم يعد العدة للقبر ووحشته، فماذا ترى يكون مصيره؟ وهناك من أعد العدة، وتجهز للسفر، فإذا به يجد النور في قبره، والنجاة والسلامة من نار ربه، فيسعد بجنة عرضها السماوات والأرض.

حال العبد عند الموت

حال العبد عند الموت باسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد: فلقد مر عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى على مقبرة بعد أن صلى بالناس صلاة العيد، فبعد أن مر على المقبرة قال لمن حوله: امكثوا، وكان معه الوزراء والأصحاب، فذهب إلى المقبرة، وأخذ ينظر إلى القبور، فقال قولته المشهورة: رأيت القبور فناديتها فأين المعظم والمحتقر تفانوا جميعاً فما مخبر وماتوا جميعاً ومات الخبر فيا سائلي عن أناس مضوا أما لك في ما مضى معتبر ثم سقط على ركبته، وأخذ ينادي: يأيها الموت! ماذا فعلت بالأحبة؟ وأخذ يبكي رحمه الله. أتذكر فلاناً كان صاحباً وقريباً لك في يوم من الأيام، كان يلعب معنا، ويجلس معنا، ويدرس معنا، وفي العمل معنا أين هو الآن؟ أين ذهب؟ يوم من الأيام فتحت الجريدة فإذا اسم فلان صاحب لك قد توفي وفارق الحياة سبحان الله! وإذا رجل اتصل عليك ذاك اليوم فرفعت السماعة وكلمته، فقال: أتعرف فلاناً؟ فقلت: كيف لا أعرفه وقد كنت قبل أيام معه. قال: إنه قد ذهب وفارق الدنيا سبحان الله! ماذا كان يعمل، وبم كان يحلم؟ كان يحلم أن يدرس ويحصل على الشهادة كان يحلم بالزواج وإنجاب الأبناء كان يحلم بالسيارات بالأثاث بالقصور بالبيوت بالسفر بالدنيا؛ ولكن! أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185] ذائقة: كأنه شربها في الصباح، إلى هذه الدرجة {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185] المصيبة هي: هل هناك من يستأذنك؟ هل هناك من يخبرك؟ أم أنه حادث سيارة وانتهى الأمر، أو لعلها نومة لا تستيقظ منها ولا تدري هل تخبر أهلك؟ وماذا تريدون إذا رجعت من العمل أو من المدرسة؟ فإذا بك لا ترجع، لا تعلم لعلها السفرة الأخيرة، لعلها وأنت تلعب أو تسبح أو تنام أو أنت ساجد أو قائم أو راكع! لا نعرف! {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:78] والله لو كنت في أفضل الأماكن، وحولك الأطباء قد تجمعوا ليرجعوا لك الروح إنها النهاية. ولو أنا إذا متنا تركنا لكان الموت راحة كل حي ولكنا إذا متنا بعثنا ونسأل بعده عن كل شي أيها الأخ العزيز! أريد منك في هذه اللحظات أن تتخيل نفسك وقد جاءك ملك الموت، ولنبدأ معاً هذه الرحلة. يا أخي الكريم: لعلك في هذه اللحظة تلتفت فإذا بملك الموت جالس عند رأسك، ونعرف حينها إن كنت عبداً صالحاً، هل صليت الصلاة، وحافظت على الواجبات، وهل إن عصيت الله تبت، وإن أذنبت رجعت واتقيت الله وأتبعت السيئة الحسنة؟ إن كنت من هؤلاء وجاءك ملك الموت، فإذا بك تنظر إلى ملائكة بيض الوجوه مد البصر من حولك، لعل الأم تبكي، ولعل الزوجة تبكي، ولعل الأب يبكي، ولعل الطبيب يأتي ويحاول أن يداويك ويرجع لك الروح؛ لكن {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [القيامة:26 - 27] ينادون: من يداوي هذا؟ أرأيت إن أتتك السكتة؟ {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [القيامة:27] كأن القارئ قد خنقته العبرة، وكأنه قد تردد هل من راق؟ أي: من يداويه وهو يعلم أنها النهاية {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاق} [القيامة:28]. أخي الكريم! لو كانت هذه اللحظة قد أتتك هل أنت مستعد؟ حاسب نفسك هل صليت الصلوات الخمس في بيت الله بخشوعها وأركانها وواجباتها، أم أنك لا تعرف بما صلى الإمام في صلاة العشاء أم أن الفجر ليس في جدولك؟ لا نعرف. أخي الكريم! كم تلفظت بكلمة حرام في هذه الليلة أو في ذلك اليوم؟ أخي الكريم! ماذا أديت من حقوق الله في بر الوالدين وصلة الرحم وطلب العلم والدعوة إلى الله؟ كم زلة وقعت منك هذا اليوم كن صادقاً مع نفسك. أخي الكريم! إذا خدعت فإنك لا تخدع إلا نفسك. نبدأ إلى تلك الرحلة رحلة الرجل الصالح الذي تاب إلى الله، نعم. يذنب، ولكنه يندم، ويخاف ويوجل القلب، ويرجع إلى الله، ويتبعها الصالحات. هذا الرجل يأتيه ملك الموت وهو مستعد وجاهز، تخرج روحه كما تسيل القطرة من فيّ السقاء، هل يحس ويتألم بها؟ لعل الجسد يتألم أما الروح فلا، تخرج الروح كما تسيل القطرة، فيأخذها ملك الموت، فتخرج كأطيب ريح وجدت على وجه الأرض، فتصعد إلى السماء الدنيا فيفتح لها، هذه روح شريفة، مرغ جبهته لله، باراً بوالديه، واصلاً أرحامه، متصدقاً في سبيل الله، يصلي الصلوات الخمس، يعف عن الحرام، إن زل رجع إلى الله وتاب، تفتح له أبواب السماء كلها إلى السماء السابعة ثم ترجع إلى جسده، وهو الآن في حفرة ضيقة؟ يسمع أناساً يمشون فوقه، يسمع قرع نعالهم، فالأمر سريع، لعلها ساعات قليلة؛ بل لعلها دقائق، والناس لا يزالوا حوله، ولا ندري لعلهم قد صفوا صفوفاً يعزي بعضهم بعضاً، ولعل أباه يبكي عليه فوق قبره، ولعل الإخوان يقولون: مسكين فارق الدنيا! مسكين لم يتمتع بشبابه! مسكين ذهب ولم يكمل دراسته! ولم يرَ الزوجة! ولم يرَ ابنه في بطن أمه! ولم يفعل ولم يفعل!

حال المؤمن في قبره

حال المؤمن في قبره أيُّ مسكين ذلك الذين يجلس فإذا به بملكين أسودين أزرقين ينتهرانه فيقولان له: من ربك؟ فيجيب إجابة المستيقظ: ربي الله ما دينك؟ ديني الإسلام؛ لأنه عندما كان يسمع: الله أكبر! كان الله عنده أكبر من كل شيء، وعندما كان يسمع: الصلاة خير من النوم، رمى الفراش وهب مسرعاً إلى المسجد، وعندما كان يخر ساجداً لله فيقول: سبحان ربي الأعلى، كان في قلبه أن الله هو الأعلى من كل شيء في قلبه وفي حياته، وإن سأل فلا يسأل إلا عن شيء هو موافق لشرع الله، شراء السيارة حرام أم حلال وما حكم الشرع فيه؟ هذه الصلاة هل هي بدعة أو سنة وما حكم الشرع فيها؟ كان لا يسأل إلا عن دين الله؛ ولهذا إذا سئل: ماذا تقول في الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فينادي منادٍ من السماء: أن صدق عبدي، وجاء في بعض الروايات: فيفتح له باب إلى النار، فينظر إلى النار، فيقال له: هذا مكانك لو عصيت الله، نار يأكل بعضها بعضاً، سوداء مظلمة، ثم يغلق الباب ويفتح له باب إلى الجنة، فيقال له: هذا مكانك، انظر لعلك لا زلت فوق رأسه في المقبرة، وبعضهم يمشي عليه وهو ينظر إلى قصره في الجنة، ينظر إلى الأنهار والأشجار، ثم يغلق الباب، فيقول: ربِ أقم الساعة! ربِ أقم الساعة! ربِ أقم الساعة، فيأتيه رجل طيب الثياب، حسن الوجه، طيب الرائحة، فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالخير؟ فيقول: أنا عملك الصالح، والله ما علمتك إلا سريعاً لطاعة الله بطيئاً إلى معصيته. نعم. تعصي الله؛ لكنك تخاف؛ كل الناس يخطئون ويعصون لكنك إن عصيت فلا تحرص على المعصية إن عصيت الله فإنك ترجع بعد المعصية؛ تندم تتوب تخر ساجداً لله تبكي تستغفر الله تنكسر وتنطرح بين يديه. يقول: والله ما علمتك إلا بطيئاً إلى معصية الله، سريعاً إلى طاعته، فيجلس عنده، فيقال له: نم نومة العروس، فيأتيه من ريح الجنة ويفرش له من فراش الجنة مد بصره.

خروج المؤمن من قبره إلى المحشر

خروج المؤمن من قبره إلى المحشر الله أكبر! الناس فوقه يظنونه في حفرة ضيقة ونحن المساكين وليس هو نحن في عذاب وليس هو، فقد فتح له في قبره مد بصره، وفرش له من الجنة، وتأتيه رائحة من الجنة، ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، يبكون وهم يخرجون من المقبرة، وهو يدعو الله أن تقوم الساعة، ينام نومة ثم يستيقظ على ماذا؟ يستيقظ حين يسمع صيحة فوقه؛ فإذا بالقبر ينشق، ثم إذا به يخرج يستمع إلى الناس وهم يبكون، والبعض منهم يدعو ثبوراً، والبعض منهم يضرب نفسه، حتى يقول المجرمون: {يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس:52]؟ فيرد عليهم: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس:52] هذا الذي كنا نقرأه في كتاب الله هذا الذي كنا نسمع به في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يقال لهم: أيها الناس! هلموا إلى ربكم، فيقف تحت ظل العرش أرأيت! الأمر سريع، يقف تحت ظل عرش الرحمن إنه من السبعة الأصناف من هم؟ رجل قلبه معلق بالمساجد، نشأ في عبادة الله، شاب أتته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله، الشهوة تدعوه، كان عنده قوة وجرأة لكنه يخاف الله، فإن كان من هؤلاء السبعة, فيكون تحت ظل عرش الرحمن. إن الأمر -أيها الإخوة- حق وصدق وليس بالهزل كم يقف الناس؟ خمسين ألف سنة، أما هو فيقف كما بين صلاة الظهر والعصر، أرأيت الأمر كم هو؟ إنه لحظات، بالأمس كان في الدنيا فمات، ثم نام في القبر، ثم استيقظ، ثم يؤتى إلى الرحمن -إن كان يحاسب- فتعرض عليه أعماله عرضاً عبدي! أتذكر ذنبك؟ أتذكر تلك الليلة وذلك اليوم؟ قبل أن تلتزم كم كنت تفعل وتفعل لا تصلي الصلوات، تذكر يا فلان، لكنه التزم بشرع الله، وغير حياته، وإن عصى الله ستر على نفسه، يقول الله له تلك الكلمات العظيمة: سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، فإذا بالكتاب يعطى باليمين، ومن شدة الفرح يولي إلى الناس، فيقول: {هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:19 - 20] كنت متأكداً منه هذا اليوم، كنت أشعر أن هناك يوم قيامة، وكنت مصدقاً وواثقاً به، لهذا كانت آمالي كلها رجاء ذلك اليوم، والخوف من ذلك اليوم أيها الناس اقرءوا كتابيه! ماذا ترون؟ فيرون صلاة الفجر، وقيام الليل، وقراءة القرآن، والتسبيح والتهليل والتحميد والذكر، وطلب العلم، والدعوة إلى الله، وصحبة الصالحين ماذا يرون؟ عمرة وحج وجهاد وأذان وصلاة واستغفار. اقرءوا كتابيه، إن كانت معصية سترها الله، بل لعل الله عفا عنها ومحاها، {اقْرَأوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:19 - 20]، إلى أين يذهب؟ الأمر سريع ونراه قريباً، يحشر مع زمرة لعلها كانت معه في الدنيا أو تساويه في الدرجات يوم القيامة {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً} [الزمر:73]. أخي الكريم! لم لا ترجو أن تتوب إلى الله، تخيل نفسك وأنت تمشي إلى الجنة! هل يحتاجون إلى مشي طويل؟ لا، {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الشعراء:90] تقترب منهم الجنة فإذا بهم قد انتظروا عند أبوابها، ولها ثمانية أبواب مغلقة، ما بين مصراعيها مسيرة أربعين سنة تخيل عظمها! يخرج منها ريح يوجد من مسيرة كذا وكذا، ويتقدمهم أفضلهم عليه الصلاة والسلام من هو؟ إنه محمد صلى الله عليه وسلم، ذلك الذي كنت طالما أسأل عن سنته وهديه، وأحب أن أقتفي أثره كيف كان يقرأ يصلي يتوضأ كيف كان يعلم الناس؟ كل هديه أسأل عنه، الآن رأيته بعيني يتقدم الناس، فيقدم على حلقة من حلقاتها، فيطرق الباب -والأمر حقيقة فادعُ الله أن تكون منهم- فيقول الملك: من أنت؟ فيقول: (أنا محمد -انظر إلى التواضع- فيقول له الملك: بك أمرت ألا أفتح لأحد قبلك، فإذا بالباب يفتح والناس ينظرون). الله أكبر! هل تظن أنك سوف تتخيل كيف يفتح الباب وماذا يكون داخل الباب؟ مهما تخيلت، مالا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17] كم هو الأمر؟ سريع ولن ندخل في تفاصيل الجنة، ولكن لمحة سريعة.

وصف الجنة وحال المؤمن فيها

وصف الجنة وحال المؤمن فيها إن أول زمرة يدخلون الجنة كصورة القمر ليلة البدر، تخيل: كالقمر وما أجمل من القمر! يدخلونها تظن ماذا يرون فيها؟ إذا رأيت إلى صورهم وهم يدخلونها {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} [عبس:38 - 39] يدخلون إذا رأيت ماذا ترى {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً} [الإنسان:20] أربعة أنهار: نهر من لبن هل تتصور هذا؟ والله الأمر عجيب! أم هل تتخيل نهر من عسل يجري وليس أي عسل؛ إنه عسل مصفى من الذي صفاه؟ تخيل خمر لذة للشاربين! ليس كخمر الدنيا ماء يجري أنهار، قال بعض السلف: لا تجري في أخاديد إنما تجري على أرض الجنة المستوية. تخيل كيف يجري عليها النهر؟ أرض مستوية ليس فيها أخاديد، قال سبحانه: {وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ} [الواقعة:31] قال بعضهم: ليس في أخاديد. هكذا تجري على أرض الجنة، تخيل هذه الأنهار! ما بالك بالأشجار ما في الجنة شجرة إلا ساقها من ذهب، تخيل ولو لحظات! هل تتصور ظلها مائة عام يجري فيه الجواد المضمر مائة عام لا يقطع هذا الظل. والله إنه ليكفي أن نتخيل هذه النعمة شوقاً إلى الجنة، تخيل القصور! بعضها من ذهب وأخرى من فضة، أتعرف لمن؟ لمن ألان الكلام، وأفشى السلام، وصلى بالليل والناس نيام. أتعرف لمن؟ لمن تعب وظمأ بالهواجر -في النهار يظمأ وفي الليل يقوم- لمن يقرأ القرآن، لمن يطلب العلم (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجن) نعم! يدخل الحنة لكن بأي طريق؟ بطريق سهل ميسر. أخي الكريم! أتعرف ماذا في الجنة؟ وإذا دخلت في القصر ماذا ترى فيه؟ حور عين، لو أن واحدة منهن نظرت إلى أهل الأرض لأضاءت ما بين السماء والأرض. لو تحمل شيئاً من الجنة بظفرك وأخرجته منها، لتزخرفت خوافق السماوات والأرض، سوار واحد لرجال أهل الجنة -وليس للنساء- إذا خرج من الجنة طمس نور الشمس فالأمر عجيب يا إخوة! {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً} [الواقعة:35] من الذي أنشأهن؟ إنه الرحمن الذي أنشأ لك الحور العين! عبد الله! تتركها لساقطة فاجرة متبرجة يأتيها أيام في الشهر تُنْتِن يأتيها زمن يرق عظمها وجلدها ثم تذهب إلى المقبرة. عبد الله! كن صادقاً مع نفسك، واتق الله، ولتنظر نفس ماذا قدمت لغد؟ إذا كانت لك الحور العين بتلك الصورة فسوف أصف لك شابة يرى مخ عظامها من وراء اللحم كيف هي لطيفة ورقيقة! إذا كان الجلد واللحم من رقته لا يمنع رؤية العظم داخل الساق كيف هي يا عبد الله؟ لا ترى غيرك في الجنة ولم ترَ قبلك أحد، قاصرات الطرف لا ترى غيرك، كأنهن لؤلؤ مكنون، مغطى من جمالها وحسنها؟ كل أسبوع تزداد حسناً وجمالاً، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. يجتمع أهل الجنة يتذكرون ما كان يحصل لهم في الدنيا، كل أحد يقول: تذكروا عندما كنا نفعل كذا وكذا {قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} [الطور:26] تذكرون كان لي صاحب في الدنيا لا أراه الآن سواء في العمل في المدرسة في الشارع في البيت من الأقرباء ليس هو معنا الآن في الجنة أين هو؟ {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} [الصافات:51] في الجنة يتحدثون كان صاحب يمشي معي في كل مكان؛ لكن ترك يوماً من الأيام والتزم مع الصالحين ماذا قال له؟ {يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} [الصافات:52] كان عندما تبت ورجعت إلى الله، والتزمت مع الصالحين كان يقول لي: أإنك لمن المصدقين، أين تذهب تضيع نفسك شبابك حياتك وتربي اللحية، امشِ نسافر ونذهب السوق، وفلان وفلانة {يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَدِينُونَ} [الصافات:52 - 53] حتى نموت وحتى يبعثنا الله أياماً طويلة أإنا لمدينون؟ من صدقك أن الله سوف يحاسبنا، ونحن مسلمون والحمد لله، وبعد لحظة وإذا بالنار تكشف لهم وهم جالسون في الجنة، قال تعالى: {قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ} [الصافات:54]، يقول لأصحابه في الجنة: ألا ترون؟ {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الصافات:55] رأى صاحبه في قعر النار يحترق نار تلظى، نزاعة للشوى، من حرها ينفصل العظم عن اللحم، وتتطاير بشرر كالقصر، يأكل ما يسيل من فروج الزواني؛ بل إذا تشقق الجلد وخرج الصديد تسابق إليه أهل النار ليأكلونه، يأكلون طعاماً ذا غصة وهو ينظر إليه، ابتلع الطعام من شوك تغص بها الحلوق، يريد أن يشرب الماء فيقترب منه ليشرب فعندما يقترب تسقط منه فروة الرأس {إِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهًَ} [الكهف:29] يقول لأصحابه: هل أنتم مطلعون؟ {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الصافات:55]. والآن تبدأ المحادثة: من في الجنة يحدث من في النار! نعم. إنها الحقيقة أحدث فلاناً الذي كان طالما يجرك من الهداية، ويمنعك منها، ويصدك عن الصلاة، ويشوه سمعة الصالحين، ويحدثك بالنساء، ويدعوك للزنا وللسفر إلى الحرام، والذي كان طالما يدعوك للحرام، الآن تراه وتحدثه وأنت في الجنة {قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} [الصافات:56] كدت تهلكني معك {وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [الصافات:57] ثم يلتفت إلى من حوله في الجنة، فيقول لهم: {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الصافات:58 - 60] ثم ختم الله بتلك الآية: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:61] لمثل هذا -أخي الكريم- قم لصلاة الفجر افتح كتاب الله واقرأ عندما يقال: الله أكبر فليكن حقاً الله أكبر لمثل هذا أخي الكريم! كف لسانك عن أعراض المسلمين بر بوالديك صل الأرحام اترك الفسقة الفجرة واستبدلهم بالصالحين {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:61].

العصاة ومصيرهم

العصاة ومصيرهم الصنف الآخر: من الناس من هو؟ إنه رجل فاجر، طالما ارتكب المنكرات، ووقع في الذنوب، إذا سمع: الله أكبر! صد وولى، يقوم من فراشه يستمع "حي على الصلاة حي على الفلاح" ثم يرجع وينام، لا يريد أن يصلي، إنه لا يعرف الفجر إلا بعد طلوع الشمس نسأل الله العافية، بل ويجعل الساعة بعد طلوع الشمس وقد انتهى وقت الصلاة، إنه أسقط ركناً من أركان الدين عاق لوالديه قاطع للرحم لسانه يسري في أعراض المسلمين يمنة ويسرة لا يتورع عن أحد؛ سواء كان له فضل أو ليس له فضل في الدين رجل لا يعرف إلا النساء والأغاني والمخدرات والدخان والربا والمحرمات والمنكرات لا يعرف المساجد ولا يعرف التوبة إلى الله ولا الرجوع إليه، يأتيه ملك الموت في غفلة ليقبض منه الروح، فأول ما يرى ملك الموت يقول له: من أنت؟ يقول: ملك الموت؟! وهذا المسكين لم يرجع الأمانات إلى الناس، ولم يستسمح من المسلمين، ولم يؤدِ الصلوات، هذا المسكين إلى الآن وهو كل يوم يرتكب المعاصي، ويظن أن الله لا يطلع على ما يعمل الآن جاء ملك الموت؛ وهو لعله يكون أمام التلفاز في سفر إلى الحرام، فإذا بالروح تتمزق وتتفرق في الجسد؛ فإذا بملك الموت ينزعها نزعاً {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً} [النازعات:1] تتوزع الروح في الجسد، فتتقطع العروق والمفاصل، وتخيل أنهم في أول العذاب، يضربون وجوههم وأدبارهم، والملائكة تنظر إليه! ما باله مسود الوجه؟ لماذا يصرخ؟ ماذا حدث له؟ موتة طبيعية ولكنه يصرخ ويبكي! أتعرف من الذي يضرب؟ إنها الملائكة {وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الأنفال:50] تجر الروح الملائكة كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض. الله أكبر! طالما كان يتطيب وينظر في المرآة ويجمل وجهه ويسافر ويشتري بأغلى الأثمان ما يطيب ويجمل به وجهه، (إن الله جميل يحب الجمال) لكنه فاجر خبيث القلب والروح، خرجت روحه كأخبث ريح جيفة وجدت على ظهر الأرض، فترفع إلى السماء الدنيا فلا يفتح لها، {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} [الأعراف:40] أعوذ بالله! فإن عرف أن السماء لم تفتح له فليبشر {وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف:40]، وأنى له أن يدخل، تطرح روحه في الأرض طرحاً، يقوم فإذا قرع النعال فوقه، والبعض منهم يقول: اعملوا بالظاهر، فيقولون: كان رجل مسلماً صالحاً وهم لا يعرفوا ما في باطنه، يقول أحدهم بعد أن تاب: لقد نبشت ألف قبر من قبور المسلمين، فوجدتها كلها قد حولت عن القبلة. كان عثمان رضي الله عنه إذا ذكر له القبر بكي حتى تبتل لحيته، ونحن نتكلم عن القبر وعن صفات وأحوال الميت فما تنزل منا دمعة ما الفرق؟ المظهر واحد اللحى طويلة، والأذن قصيرة، ونطبق السنة الظاهرية -وهذا طيب ولعله من الواجبات- لكن المصيبة كل المصيبة في القلوب، أن قلوبنا تختلف عن قلوبهم.

مصير العاصي في قبره

مصير العاصي في قبره استمع ماذا يحدث للعاصي! ترجع الروح إلى الجسد، فيأتيه ملكان أسودان أزرقان ينتهرانه من ربك؟ ما دينك؟ ما تقول في الرجل الذي بعث فيكم؟ ثم تعاد الأسئلة مرة أخرى من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، كان يعرف في الدنيا لكنه نسي ما دينك؟ لا أدري، إنه رسوب في الاختبار. ماذا تقول في الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: لا أدري. فيقول له الملك: ومحمد رسول الله؟ فيقول: كنت أسمع الناس يقولون كلاماً فأقول مثلهم، فيقال له: لا دريت ولا تليت، وانتهى الاختبار؛ فإذا بمرزبة على رأسه لو ضرب بها جبل لهدته، ثم يعود مرة أخرى، فيضرب ضربة ثانية يسمعها كل من حول القبر إلا الجن والإنس، ولو سمعه من حول القبر من الجن والإنس لصعقوا. لا حول ولا قوة إلا بالله يصيح صيحة، تخيل مطرقة! قال بعضهم: لو حملها أهل منى ما استطاعوا حملها، ثم بعدها يفتح له باب من الجنة، فيقال له: هذا مكانك لو أطعت الله، انظر القصر! الأمر كان سهلاً جداً، خمس صلوات فرضهن الله، خمس في العمل وخمسون في الأجر طاعة الوالدين، صلة رحم، طيب الكلام، عف عن الحرام، حرم الله عليك الزنا وأباح لك الزواج بأربع. الله أكبر! الحلال كثير والحرام قليل لكنك أبيت، فيغلق عليه باب الجنة ويفتح له باب إلى النار، فيقال: هذا مكانك، قد أبدلك الله به ذلك المكان، فإذ به يرى الشرر يتطاير، والنار السوداء المظلمة يأكل بعضها بعضاً، يرى الحميم والزقوم والغسلين فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيق عليه في القبر حتى تختلف أضلاعه، ثم ماذا؟ يأتيه رجل -تخيل- قبيح المنظر، منتن الريح والثياب، فيقول له: من أنت؛ فوجهك الوجه يجيء بالشر؟ فيقول: أنا عملك الخبيث، والله ما علمتك إلا سريعاً في معصية الله نعم! كلما اتصل بك أحد تذهب مباشرة إلى المعصية؛ كلما تفتح جريدة ونظرت دعوة إلى المنكر ذهبت إليها سريعاً، بطيئاً إلى طاعة الله إذا دعيت إليها. الله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله! يطيع الله لكن ببطء، يقوم للصلاة لكنه كسلان، ينفق لكنه كاره، يصلي ويتظاهر بالصلاة أمام الناس، وليس في قلبه حب لله، ولا خوف من الله، ولا رجاء في رحمة الله أبداً، إنما هي مظاهر، بطيء التفاعل في طاعة الله، فإذا به يقول: رب لا تقم الساعة رب لا تقم الساعة رب لا تقم الساعة!

خروج العاصي من قبره إلى المحشر

خروج العاصي من قبره إلى المحشر هل ينام؟ هل الوقت عليه قصير؟ لا والله! يجلس مع الذي بجانبه والقبر قد اختلف عليه حتى اختلفت أضلاعه، ويأتيه من حر النار وسمومها إلى قيام الساعة، ثم بعدها إذا بالقبر ينشق، فإذا به يخرج من قبره ماذا يقول؟ {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس:52] فيرد عليهم: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس:52] وعندما يخرج ماذا يرى؟ الناس يخرجون من قبورهم، فتضع كل ذات حمل حملها، وتذهل كل مرضعة عما أرضعت، والطفل الصغير الذي لم يذنب قط قد شاب شعره ما بالكم بالذي يأتي في الليل، ويغلق على نفسه الباب، ويفعل ما يفعل؟! ما بالكم بالذي لا يصلي الفجر إلا في الشهر مرة أو مرتين!! ما بالكم بالذي يجلس ويغتاب الناس! ما بالكم عباد الله بالذي يعق والديه، تقول له أمه: افعل كذا؟ فيقول: لا أفعل! ما بالكم إذا كان الطفل الصغير يشيب رأسه! أيها الناس! هلموا إلى ربكم، يقف خمسين ألف سنة قف لحظة وفكر ما معنى خمسين ألف سنة؟ كم سنة مضت حتى الآن؟ عشرين ثلاثين، اسأل من عمره سبعين أو ثمانين سنة؟ ماذا يقول مع أنه ينام ويتنعم ويشعر ببعض النعيم، ولكنه يقول: مللت من الدنيا! فما بالك بمن يقف على رجليه خمسين ألف سنة {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4] لو كان تحت الظل لهان الأمر، لكن تخيل! الشمس تدنو بمقدار ميل، والعرق يتصبب على قدر الذنوب، في ذلك اليوم تبدأ الحسرات، بعضهم يبكي فيقول: {يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهَِ} [الزمر:56] كان يدعونني الصالحون ويقولون لي: تعال معنا إلى الدرس إلى المسجد إلى الصلاة إلى العمرة، كانوا يدعوني إلى الصلاح، يا حسرتى! هل تنفع الحسرة؟ {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةَِ} [مريم:39] سماه الله يوم الحسرة لأن الناس كلهم يتحسرون؛ والواحد منا إذا تحسر عض على إصبع أو على اثنين أو على ثلاث، لكن هذا يدخل كلتا يديه في فمه ثم يعض عليهما {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً} [الفرقان:27 - 28] يسميه باسمه، زيد أو عمرو أو فلان، فتسميه باسمه يوم القيامة الذي أضلك عن هذا الطريق وعن هذه الهداية، وعن المسجد، وعن قراءة القرآن، وعن الصالحين، فتذكره باسمه، وتدعو عليه يوم القيامة {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي} [الفرقان:28 - 29] كنت صالحاً، وكنت أجلس مع الصالحين لكنه أضلني عن الذكر، وبعد الحسرات إذا به ينادى: أين فلان؟ فقد انتهت خمسون ألف سنة، وجاء الرب ليقضي بين الناس، وقبله ماذا يحصل؟ تأتي جهنم تخيل -يا عبد الله- يا من لا زلت متردداً أتوب أو لا أتوب؟ ألتزم أو لا ألتزم؟ يا من لا يزال متردداً -عبد الله- يكفيك من هذا التفكر، الناس ينتظرون، فإذا بالناس يسمعون صوت جهنم تناديهم وتزفر وتشهق {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} [الفرقان:12] تجر لها سبعون ألف زمام -أي: مثل الحزام- مع كل زمام سبعون ألف ملك ما بين أذنه إلى عاتقه مسيرة أربعين سنة أو سبعين سنة. تخيل! كل زمام له سبعون ألف ملك أتعرف ماذا يفعلون؟ يجرونها. قال بعضهم: لو لم تكن لها أزمة لعتت وأحرقت كل بر وفاجر، فجعل الله لها أزمة، المكان بعيد إذا رآها الناس خروا جميعاً -حتى الأنبياء- على الركب يقولون: اللهم سلم سلم، اللهم نفسي نفسي {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَة} [الجاثية:28] في تلك اللحظات عندما يرى جهنم {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} [الفجر:23] في تلك اللحظة {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَان} [الفجر:23] يتذكر تلك اللحظة عندما كان يأتي في الليل ويفعل ما يريد من المعاصي ولا يندم، وبعدها يتذكر تلك اللحظة، لا أحداً يراه في السوق، يختلي بالمرأة ويكلمها وتكلمه، ويواعدها وتواعده، فيتذكر ذلك اليوم، قام من الفجر واستمع الأذان لكنه رجع ونام وهو غير مبالٍ، ولا ندم ولا خاف ولا رق قلبه ولا تاب، يتذكر ذلك المجلس حين كان يجلس فيذكر فلاناً ويضحك، فلان فيه كذا وكذا، وكان يتخذ الأساليب الشيطانية الخبيثة! نعم، قال: جزاه الله خيراً لكنه يبدأ يستلمه وينهش في عرضه، يتذكر تلك الأوامر التي لم يستجب لها، وتلك المحرمات التي انغمس فيها {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} [الفجر:23] ماذا يقول؟ {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر:24] نعم والله! سل أولئك الذين قضوا أيامهم مع النساء في السفرات والزنا والخنا وشرب الخمور والأغاني واجلس معهم جلسة واسألهم: هل تحسون حقاً بالسعادة؟ لا والله؛ هم أتعس الناس أتعرف ما نهايتهم؟ يرمي بنفسه من أعلى شارع لينتحر، سلوهم في السويد في أمريكا ما نهايتهم؟ يقذف بنفسه من أعلى شارع، أو يشنق نفسه لم؟ لأنه لم يشعر بالسعادة {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:124] هل حس بالسعادة في الدنيا؟ لا والله؛ ضيق في الدنيا، ثم ضيق في القبر، ثم ضيق يوم القيامة، ومصيره إلى النار. سل أولئك: ما أسعد يوم عندكم في حياتكم الدنيا؟ يقول: إنها ليالي رمضان، أين؟ يقول: وأنا في المسجد أصلي القيام هذه أحلى الأيام والليالي في الدنيا. سله: ما أحلى الجلسات؟ يقول: جلسة جلسناها في الحرم نقرأ كتاب الله، هذه هي أمتع أيام الدنيا، سلهم: ما أحلى الكلمات التي خرجت منك؟ يقول: حين جلست يوماً أقرأ كتاب الله. ما أحلى مجلس جلسته؟ يقول: حين جلست أستمع إلى ذلك الرجل عندما كان يحدثنا وننتصح بكلامه، هذه أحلى الجلسات، سله عن قلبه؟ فإذا بك تجده أشرح الناس صدوراً {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَاٍ} [هود:108] في الجنة وفي القبر ما مصيرهم؟ سعادة في الدنيا، وسعادة يوم القيامة، والجزاء من جنس العمل، أما ذاك فاختار الضيق في الدنيا، فهو ضيق في قبره، وضيق في المحشر. وصلى الله وسلم على نبيه محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الرقية الشرعية

الرقية الشرعية إلى كل مصاب بمس أو سحر أو عين اعلم أن العلاج والشفاء بيد الله، والله سبحانه وتعالى ما أنزل داء إلا وأنزل له دواء، واعلم أن هناك آيات تنفعك إذا تدبرت معانيها، وأنفع العلاج لصد المس الشيطاني والسحر هو الالتجاء إلى الله والاعتصام به وقوة الإيمان ورسوخه في القلب. وهناك سور عظيمة في كتاب الله تصد السحرة وتبطل السحر.

رسالة إلى المصابين بالمس أو السحر أو العين

رسالة إلى المصابين بالمس أو السحر أو العين الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين. ثم أما بعد: أيها الأخ الكريم: أوجه هذا الكلام إلى كل أخ -أو أخت في الله- قد ابتلاه الله عز وجل بداء المس أو السحر أو العين، والله عز وجل يبتلي عباده الصالحين، بل يبتلي المرء على قدر دينه، فإن كان في دينه شدة زيد له في البلاء، والمؤمن يواجه البلاء بالصبر، بل أعظم من الصبر الرضا بقدر الله جل وعلا، كما قال الله جل وعلا: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:156 - 157]. بل قال الله عن الذين يصبرون على البلاء ولا يتسخطون ولا يجزعون: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10]. أخي الكريم: أوجه هذا الكلام إليك إن كنت قد أصبت بمس أو سحر أو عين، وهذه الأمراض الثلاثة طالما قد انتشرت في أوساط كثير من الناس، بل خاصة ضعاف الإيمان. واعلم أن العلاج والشفاء بيد الله جل وعلا: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80]. وإذا كان الإنسان يعتقد في غير الله أن بيده الضر والنفع، فإنه لا ينفعه كل ما سوف نقرؤه عليه من كلام الله جل وعلا. فاعتقد واجزم وتيقن أن الشفاء بيد الله وحده، والله عز وجل إذا أراد أن ينزل الدواء على الداء أصاب. ولا يبقى الإنسان مريضاً طوال حياته إلا إذا لم يشأ الله عز وجل أن يشفيه. فاسمع -أخي الكريم- إلى هذه الآيات وتدبر، واعلم أن القرآن لا ينفع من لا يتدبره، والله عز وجل ذم الناس الذين يسمعون أو يقرءون القرآن ولا يتدبرون، قال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]. والذي يقرأ القرآن أو يستمع إلى القرآن ولا يتدبر؛ لا ينتفع به، بل هذا نوع من أنواع الهجر للقرآن، وهو أنك تسمع ولا تعرف ما الذي تسمعه، أو يقرأ عليك القرآن ولا تدري ما الذي يقرأ عليك، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ عليه فيبكي، وقد كان بعض أصحابه إذا تليت عليهم آيتان بكوا حتى الصباح يرددون هذه الآية أو يستمعون إليها، بل منهم من مات وهو يسمع بعض آيات القرآن.

الفاتحة هي العلاج

الفاتحة هي العلاج فاسمع -أخي الكريم- إلى هذه الآيات العظيمات، وهذه الآيات -أيها الأخ الكريم- جُرِبت وجربها كثير من الناس أنها إذا قرئت على مسحور أو ممسوس أو مصاب بالعين أنه يبرأ بإذن الله جل وعلا، والأمر كله يرجع إلى تقدير الله. متى يكون الشفاء؟ قد يؤخر الله عز وجل الشفاء لحكمة حتى يحط الله عنه الخطايا والذنوب ويكفر عنه السيئات. وأول ما نبدأ به هو أعظم سورة في القرآن، بل ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها، وهي السبع المثاني، بل إنها القرآن العظيم، بل هذه السورة -أخي الكريم- هي الشافية وهي الرقية، وهي التي ثبت أن أحد الصحابة قرأها على ملدوغ بعقرب فبرئ بإذن الله جل وعلا. فاسمع إليها وتدبرها، ثم انظر إلى أوصاف الله فيها، واعلم أن الله عز وجل ما جعلها أعظم سورة إلا لما فيها من آيات ومعانٍ عظيمة. أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. أعوذ بالله، أي: ألجأ إلى الله، وأستجير بالله جل وعلا لدفع كل ضر وكل شر، وهو الله العظيم السميع العليم. ممن؟ من الشيطان الرجيم، فهو مرجوم، ملعون مطرود من رحمة الله، من همزه ونفخه ونفثه. واسمع -يا عبد الله- إلى البسملة وهي التي فيها بركة: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:1] هذه الكلمات فيها بركة عظيمة يشعر بها إي إنسان، فلو أكلت وقلت: باسم الله حرم الشيطان الطعام، ولو دخلت البيت وقلت: باسم الله حرم المبيت وجلس خارج البيت، ولو جامعت أهلك وقلت: باسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه يصرف عنكم، وإن قضي ولد فإنه يبرأ من الشيطان بإذن الله. وإن دخلت الخلاء وقلت: باسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث؛ حفظت بإذن الله، وإن نزعت الثياب وقلت: باسم الله، كان بينك وبين أعين الجن والشياطين ستر وحجاب. {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:1 - 7].

عظم سورة البقرة وما فيها من الآيات

عظم سورة البقرة وما فيها من الآيات ثم اسمع -يا عبد الله- إلى سورة لو قُرِئت في بيت فر الشيطان منه، بل إذا سمع هذه السورة تتلى لا يقترب من البيت ويخاف ويفر، أتعرف ما هي هذه السورة؟ إنها سورة البقرة، سورة وأي سورة! يقول عليه الصلاة والسلام عن هذه السورة: (اقرءوا البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة) أكبر السحرة وأكبر الشياطين لا يقدرون عليها، بل أن بعض من قرئ عليه البقرة كان يحترق الشياطين والجن الذين فيهم، ويراهم الممسوس يحترقون، لأن البقرة قرئت عليهم. سورة وأي سورة! سوف أتلو عليك من أعظم آياتها، فاسمع وتدبر حفظك الله، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:1 - 2] من هم المتقون؟ {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:3] يؤمن بالجنة، ويؤمن بالنار، ويؤمن بأن هناك يوماً للحشر، يحشر الله فيه الأولين والآخرين، والإنس والجن، يؤمن بعذاب القبر، ويؤمن بأهوال يوم القيامة: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ} [البقرة:3]. اسمع وانتبه، الذي لا يقيم الصلاة لا تنفعه هذه الآيات، والذي لا يقيم الصلاة لن يبرأ إلا بعد أن يقيمها، إلا إذا شاء الله جل وعلا. فتش في صلاتك وابحث، هل أنت من الخاشعين فيها، المحافظين على أوقاتها، المتدبرين للآيات التي تقرأ فيها، الذي يحفظ أركانها وواجباتها، أم أنت من الناس الذين ينقرونها نقراً، ولا يعرف الفجر إلا بعد طلوع الشمس، ولا العصر إلا بعد أن تغرب الشمس: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:3 - 5].

حقيقة وقوع السحر وعلاجه

حقيقة وقوع السحر وعلاجه السحر هل له حقيقة؟ نعم. يا عبد الله! لكن إياك إياك أن تصاب بالوسواس، وتظن أنك مسحور إلا بعد أن تتأكد وتتيقن، واعلم أن أكبر السحر، وأعظم السحر وشر السحر؛ لا يستطيع أن يقوى أمام كلام الله جل وعلا، وأن هذا القرآن يحطم ما تحته، وأن كلام الله جل وعلا يحرق كلام السحرة، وينسفه ويدمره ولو كانوا أكبر السحرة.

هدف الشياطين من السحر

هدف الشياطين من السحر عبد الله: يقول عليه الصلاة والسلام عن هدف الشياطين من السحر، فإياك أن تستجيب لهم: (إن الشيطان يضع عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه في الناس، فيأتيه جنوده فيقول لأحدهم: ما فعلت؟ قال: ما زلت به حتى فعل كذا وكذا، فيتركه ويقول للآخر: ما فعلت؟ حتى يأتيه شيطان يقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله) إياك إياك أن تستجيب له، كم وكم من ضعاف الدين والإيمان يغره الشيطان، أو يصاب بسحر فإذا به يطلق زوجته. سبحان الله! لمَ تستجيب يا عبد الله؟ قال: (ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله، فيقول الشيطان له: نعم أنت، فيقربه ويدنيه ويلتزمه). واسمع إلى هذه الآية العظيمة، التي دمرت السحرة والشياطين وأحرقتهم: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} [البقرة:10] لأنهم اتهموا سليمان أنه كان يتعامل بالسحر، وكذبوا والله: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} [البقرة:10]. لأن الساحر يتعامل مع الشياطين، فإذا به يلبسه أو يصيبه بالضيق أو بالاختناق، أو يكرهه بزوجته، أو بأهل بيته، فهو شيطان كافر بالله العظيم: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة:10] ألم ترَ بعض المسحورين كره زوجته وأبغضها ولا يطيق النوم معها، ولا يشتهي رؤيتها، ولا يجامعها منذ سنوات؟: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة:10]. اعتصم بالله، والتجئ إلى الله؛ لأن الله يقول: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:10] بل لو اجتمع شياطين الإنس والجن الذين على وجه الأرض كلهم على أن يضروك لن يضروك إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليك: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة:10]. فهذا ما يفعله الساحر والشيطان -الذي لعله يسمعني في هذه اللحظات- واسمع إلى قول الله جل وعلا فيه: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة:10] لأنه مدحور وخائف، لأنه في النهاية هو الخسران.

قوة الإيمان وأثرها على السحر

قوة الإيمان وأثرها على السحر عبد الله: إن القضية كلها ترجع إلى قوة الإيمان، وقوة اليقين في القلب بالله جل وعلا، وإخلاصك لله جل وعلا، فعلى قدر إيمانك تفر الشياطين منك، ألم تسمع إلى عمر كلما رآه الشيطان في فج سلك فجاً غيره، بل في بعض الروايات أنه إذا رآه الشيطان خر على وجهه، وهذا من شدة إيمانه ومن قوة يقينه بالله جل وعلا ومن توحيده للرب جل وعلا، فهو لا يتوجه إلى غيره ولا يستعين بسواه، ولا يتوكل على غيره، فحسبه الله جل وعلا. عبد الله: القضية قضية إيمان وإخلاص وتوجه القلب إلى الله، وتبرُّؤ من الذنوب والمعاصي، أتعرف من هو الله الذي تعبده؟ أتعرف من الذي تتوكل عليه؟ أتعرف من الذي تستعين به؟ اسمع يا عبد الله: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [البقرة:16] إله واحد -يا عبد الله- وليس هو إله ثم شيطان، ثم كاهن ثم ساحر. فتوجه إلى الله وحده، أتعرف ما صفاته؟ {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة:16]. اسمع إلى أفعاله في السماء والأرض، اسمع إلى آياته الكونية: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة:164]. كن منتبهاً واستمع فإن ما سوف يتلى الآن هو أعظم آية في كتاب الله، آية لا تعدلها آية، ولا توزن بآية، ولا تساويها آية في كتاب الله، كلها صفات لله، وأوصاف للرب القدير. عبد الله! وأنت تسمعها تدبرها وادخل في معانيها وتفكر فيها، واعلم -عبد الله- أنك مهما تخيلت، فالله أعظم، ولا يجوز لك أن تتخيل صفات الله جل وعلا. عبد الله: إنها أعظم آية، إذا قرأتها في الليل -من عظمها- لم يزل عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح، آية لا تتحملها الشياطين، آية فيها أوصاف الله جل وعلا وخلقه، ومن خلقه كرسيه، أتعرف ما كرسيه؟ إنه موضع قدميه، أتعرف ما عظم هذا الكرسي؟ فالسماوات السبع وبين كل سماء والتي تليها مسيرة خمسمائة عام والأرضين والكواكب والنجوم كلها لو كانت حلقة لكانت بالنسبة للكرسي كحلقة في صحراء، فالصحراء هي الكرسي والحلقة هي السماوات السبع والأرضين والكون كله، أتعرف ما هو العرش؟ أتعرف ما نسبة الكرسي بالنسبة للعرش؟ الكرسي كالحلقة والعرش كالصحراء: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] لا تأخذه سنة: نعاس ولا نوم. عبد الله: يعلم ما توسوس به نفسك، هل تقوى عليه أو تقدر عليه، اسمع إلى هذه الآية كيف تزلزل الشياطين: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [البقرة:25] وهذه كلمة التوحيد ومعناها لا معبود بحق إلا هو: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255] أي: لا يعجز الله حفظ السماوات والأرض: {وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:25]. إذا كان لا يعجزه حفظ السماوات والأرض، هل يعجزه حفظ عباده الصالحين المتقين؟ هل يعجزه حفظ أوليائه المتقين؟ عبد الله: اسمع إلى خاتمة البقرة. أما خاتمة البقرة فلها شأن عظيم، ولها تأثير كبير، وما أدراك ما تأثيرها؟ إذا قرأتها في ليلة، تكفيك تلك الليلة، بل جاء في الحديث أن الله عز وجل كتب كتاباً، قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام. تعرف ما شأن هذا الكتاب؟ أنزل منه آيتين فقط ختم بها سورة البقرة، أتعرف من أين خرجت؟ من كنز تحت عرش الرحمن، اسمع إليهما وتدبرهما واعرف -يا عبد الله- بأن الله رحم عباده بتلك الآيتين. {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:285 - 286].

حقيقة الإسلام

حقيقة الإسلام عبد الله: أتعرف ما هو الإسلام؟ أتظن أن الإسلام كلام نقوله، أم هو كلام مكتوب في جنسية أو جواز أو ورقة؟ أنت تقول أنا مسلم، ولكن الإسلام برهان، وهو أنك تستسلم لله جل وعلا. أي دين يقبل الله منك؟ أتعرف ما هو الإسلام؟ أنك تستسلم لله جل وعلا أن تستسلم المرأة لله، بحجابها وبصلواتها وبطاعتها لله جل وعلا، أن يستسلم الرجل لله جل وعلا، فلا يرابي ولا يغش ولا ينم ولا يغتاب ولا ينظر للنساء، هذا هو الإسلام يا عبد الله! الإسلام ليس هو كلاماً، وليس هو دعوى كل إنسان يدعيها. عبد الله: الاستسلام: أن نستسلم لله في بيوتنا، فلا نعلق الصور، ولا نسمع صوت الموسيقى والأغاني ولا نعزفها ولا ندخل في بيوتنا الحرام، من مجلات خليعة، ومن أفلام ماجنة ومن غيرها من منكرات، هذا هو الإسلام الذي يقبله الله: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ} [آل عمران:18 - 19] فتستسلم لله، وتنطرح بين يدي الله، وتستجيب لله. وليس هو أن تأخذ ما يعجبك والذي لا يعجبك ترده، ليس هذا هو الإٍسلام، أن تؤمن ببعض الكتاب وتكفر ببعض، بل يجب أن تقبله كله بحذافيره صغيره وكبيره: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [آل عمران:19]. عبد الله: يا من أصبت بالمرض، وتخبطتك الشياطين، وضاقت بك الدنيا بما رحبت إلى من تلجأ؟ إلى ربك، إلى الله العلي القدير، ادعه -يا عبد الله- في السجود، الجأ إليه في الأسحار، اسجد بين يديه، وادعه تضرعاً وخفية. عبد الله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62]. عبد الله! إن الله تعالى وعد {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] تعرف من تدعو؟ تدعو الذي بيده ملكوت السماوات والأرض، تعرف من تدعو يا عبد الله؟ الذي سخر الليل والنهار، الذي استوى على العرش ويعلم ما توسوس به كل نفس، ادعه والجأ إليه وتضرع واعرف -يا عبد الله- أن الله يقبل الدعاء ممن هو موقن بالإجابة وملح بالدعاء، فالله عز وجل يستجيب له: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} [الأعراف:54]. كذب المنجمون، كذب السحرة، كذب المشعوذون؛ فإن السموات والنجوم والقمر وكل شيء مسخر بأمر الله: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} [الأعراف:54 - 56]. وهنا يخاطب الله شياطين الجن والإنس، ويخاطب الكفرة، والذين ظلموا والذين آذوا عباد الله في أنفسهم وأهليهم: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} [الأعراف:56] ثم يا عبد الله! يا من ابتليت! اسمع إلى قول الله: {وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:56].

معركة موسى مع السحرة

معركة موسى مع السحرة اسمع إلى هذه المعركة الكبيرة، وهي معركة عظمى يشهد لها التاريخ، في الصف الأول كليم الله موسى عليه السلام، إنه الذي كلمه الله جل وعلا من فوق سبع سماوات، يقف في صف، من هو الذي في الصف الآخر؟ إنهم السحرة -شياطين الإنس والجن- كلهم قد اجتمعوا، ليدفعوا موسى عليه السلام وليحاربوه، إنهم أعظم السحرة في عصر فرعون، كل ساحر عليم ومن تحت يديه شياطين الكفر، وشياطين ومردة من الجنة، كلهم تحت أيديهم، وليس ساحر واحد بل سحرة الكفر كلهم، وموسى لا يملك إلا عصا ولا يلبس إلا الثوب البالي، ولا يملك جيشاً ولا عتاداً ولا أسلحة، لا يملك إلا التوكل على الله والإيمان بالله جل وعلا، من مع موسى؟ إنه الله جل وعلا: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46]. بدأت المعركة: {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى} [طه:65] قال موسى يخاطب شياطين الجن والإنس: بل ابدءوا بما عندكم، فألقوا الحبال وألقوا العصي، فإذا بها كأنها أفاعي تسعى، انظر السحر: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:66] فسحروا أعين الناس واسترهبوهم، وإذا العصي كلها تتحول إلى ثعابين في أعين الناس، وهذا من فعل شياطين الجن والإنس، فإذا موسى عليه السلام يخاطبهم: {قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ} [يونس:81]. الله أكبر! الله أكبر يا عبد الله! تيقن بالله جل وعلا، لو كان الذي فيك أعظم سحر على وجه الأرض، بل لو اجتمعت عليك شياطين الإنس والجن فاسمع: {إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ * وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [يونس:81 - 82]. وإلى الآن موسى فقط تكلم وما بدأ في الرد على هؤلاء الشياطين، فإذا الله عز وجل يوحي إلى موسى، واسمع إلى أثر كلام الله لموسى على هؤلاء السحرة، ولهذا أقول لك: إن القرآن يحرقهم ويدمرهم يا عبد الله! فإذا بالله جل وعلا يوحي إلى موسى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} [الأعراف:11] وكأن العصا عندنا هي إيماننا بالله جل وعلا. إذا ألقيناه على السحرة ما الذي يحصل؟ {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} [الأعراف:117] الله أكبر! عصا موسى تلقف جميع عصي السحرة وثعابينهم: {فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ * وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف:117 - 122]. لما رأى السحرة من الإنس أن الله أبطل سحر شياطين الجن، إذا بهم يسجدون لله، ويخرون سجداً لله جل وعلا، كل هذا -يا عبد الله- حتى تعلم وتتيقن أن الإيمان الصادق والإيمان بالله لا يقف أمامه شيء، وأن كلام الله جل وعلا يبطل كل السحر، وأن كلام الله جل وعلا يهدم سحر شياطين الجن والإنس، فتيقن وتوكل على الله جل وعلا، ولتكن عقيدتك: {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:69]. كلما دخلت بيتاً، وكلما ركبت سيارة، رددها في قلبك، وفي عقلك وفي ذهنك: {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:69]. عبد الله: تظن أن الله عز وجل لمَ خلقنا وأوجدنا؟ وهذا لا بد أن يعرفه الإنس والجن وهو أن الله ما خلقنا إلا لغاية واحدة {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ * وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} [المؤمنون:115 - 117] من ساحر أو شيطان أو طاغوت أو مشعوذ أو كاهن، فهؤلاء كلهم طواغيت من دون الله جل وعلا: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [المؤمنون:117] انتظر يوم الحساب وتمهل، فإن كنت تراه بعيداً فإنه قريب: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً} [المعارج:6 - 7] {فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ * وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} [المؤمنون:117 - 118].

سورة الصافات وأثرها على الشياطين

سورة الصافات وأثرها على الشياطين ثم اسمع إلى هذه السورة، وهي سورة عظيمة، وقد جُرِبَت، ولعل بعضكم قد شاهد أثرها على شياطين الجن، فهي تحرقهم وتدمرهم وتهلكهم بإذن الله جل وعلا: هذه السورة يبدؤها الله جل وعلا بوصف ملائكته، من هم الملائكة؟ إنهم جنود الرحمن: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] يقفون لله جل وعلا ويستجيبون له. والملائكة تزجر الناس زجراً، بل ملك واحد صاح صيحة، فأهلك قرية كاملة. ثم -في هذه السورة- يخبر الله عن الكواكب التي في السماء والنجوم، أتعرف ما وظيفتها وما غايتها يا عبد الله؟ هذه النجوم التي في السماء شهب ترمي شياطين الجن ممن يسترق السمع من السماء. واسمع -يا عبد الله- إلى ربنا جل وعلا كيف يعذبهم ويهلكهم ثم قال الله: {دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ} [الصافات:9] أي: ما هو اليوم ولا الغد فقط، بل هو مستمر، في الدنيا بكلامه جل وعلا، وإذا لم يتب شياطين الإنس والجن إلى الله جل وعلا فالعذاب الواصب المستمر المتصل عنده جل وعلا في نار جهنم. اسمع إلى هذه السورة التي طالما أحرقت شياطين الجن والإنس وبدأها الله بالتسمية لأنها بداية السورة، وباسم الله كما ذكرنا بركة، بل: (مر رجل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على دابته فتعثرت الدابة فقال الرجل: تعس الشيطان. قال: لا تقل تعس الشيطان، فإن الشيطان يتعاظم حتى يصير كالبيت، ولكن قل: باسم الله فإنه لا يزال يتصاغر في نفسه حتى يكون كالذباب) قل باسم الله إن دخلت بيتك إن دخلت غرفتك إن أتيت إلى فراشك إن دخلت خلاءً إن أكلت أو شربت إن رميت حجراً إن سكبت ماءً، دائماً قل باسم الله فإنها بركة يا عبد الله، بسم الله الرحمن الرحيم اسمع وصف الملائكة: {وَالصَّافَّاتِ صَفّاً} [الصافات:1]. فهي تحضر مثل هذه المجالس؛ مجالس الذكر، والمجالس التي يقرأ فيها القرآن تحضرها الملائكة وهي جنود للرحمن، والشيطان عندما كان مع المشركين في غزوة بدر ليؤججهم ويثيرهم على المسلمين، فلما اقترب ورأى ملائكة الرحمن تنزل، ورأى الملائكة العظام قال: {إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:48]. {وَالصَّافَّاتِ صَفّاً * فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً * فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً * إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} [الصافات:1 - 4] من هو؟ إنه الله {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} [الصافات:4] قل لمن يعبدون النار، وقل لمن يثلثون، ويعبدون المسيح، قل لمن يكفرون بالله جل وعلا وأخبر اليهود والنصارى، وعُباد الشمس وعُباد القمر وعُباد النار: {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ * رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} [الصافات:4 - 5]. رب المشارق جل وعلا، مشارق النجوم ومشارق الكواكب ومشارق الشمس، ومشرقها في الصيف والشتاء: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ * إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} [الصافات:5 - 6] اسمع: {وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ} [الصافات:7]. والله لو كان مارداً، ولو كان أعتى الشياطين، فإنهم لا يستطيعون للرحمن، فالكواكب ترجمه: {وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ * إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات:7 - 10]. وليسأل شياطين الجن، وليسألوا أجدادهم وعلماءهم: ما الذي جرى بولادة محمد صلى الله عليه وسلم؟ أتعرف ما الذي جرى؟ كان الشياطين يسترقون السمع، فلما ولد خير الخلق عليه الصلاة والسلام تعجب الجن ورأوا أمراً عجباً، فالسماء بدأت ترجمهم، والكواكب بدأت تحرس السماء وبدأت الشهب تحرقهم حرقاً ببركته عليه الصلاة والسلام، وبركة رسالته وبعثته عليه الصلاة والسلام.

إسلام الجن وتوبتهم

إسلام الجن وتوبتهم اسمع -يا عبد الله- إلى بعض الجن الذين تابوا، وإلى بعض الجن الذين أسلموا وصدقوا مع ربهم جل وعلا، كانوا كفاراً ولكنهم لما سمعوا القرآن وأحسوا بلذته، وبحلاوته آمنوا بالله جل وعلا، ليس فقط آمنوا بل ذهبوا إلى قومهم يدعونهم إلى الله، وأخبروا قومهم أنه من آمن فله الثواب والمغفرة ومن كفر فله العذاب العظيم، فما جلسوا جلسات بل مرة واحدة، سمعوا كلام الله فإذا بهم مؤمنون ودعاة إلى الله: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ} [الأحقاف:29] وهذا الآيات دعوة مني صادقة إلى كل كافر من شياطين الجن -إي والله- أن يؤمن بالله جل وعلا ويسلم لله جل وعلا. فوالله لو كان كفره قد ملأ السماء والأرض وتاب، لبدله الله عز وجل له حسنات، بل والله لو فتن الناس عن دينهم وصدهم عن سبيل الله، وكان هو الذي أضل خلقاً كثيراً عن الله جل وعلا وأوردهم جهنم، لو تاب؛ تاب الله عليه: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف:29] الله أكبر! ليس فقط آمنوا بل صاروا دعاة إلى الله، وكم وكم سمعنا أن من الجن من آمن، وليس فقط آمن بل ذهب إلى قومه يدعوهم إلى الله جل وعلا: (ولأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم). قالوا: {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف:30 - 31]. والله لو كانت التوبة صادقة، ودمعت العين وانكسر القلب: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ} [الأحقاف:31 - 32]. لا تظن يا من تصر على الظلم والكفر والمعاصي أنك معجز الله، لا والله، بل الله عز وجل يملي للظالمين حتى إذا أخذهم لم يفلتهم جل وعلا: قال الله جل وعلا: {وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأحقاف:32]. بل اسمع إلى الرب جل وعلا كيف يتحدى معاشر الجن والإنس، بل طواغيتهم، بل أقوى خلق الله من الجن والإنس يتحداهم الرب جل وعلا، انظر إلى التحدي وإذا استطعت أن تقبله فافعل، فهذا ما يعرضه الله جل وعلا عليك من تحد: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الرحمن:33] هذا هو التحدي، يطلب الله منك أن تنفذ من أقطار السماوات، فانفذ وتعد السماء الدنيا إذا كنت تستطيع: {إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:33 - 34]. الجن لما سمعوا هذه الآية آمنوا وقالوا: لا نكذب بآيات ربنا، آمنوا لأنهم كانوا صادقين مخلصين، عرفوا أن الدنيا أيام قلائل وسنوات قليلة، ثم حساب بين يدي العزيز الجبار. {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنْتَصِرَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:34 - 36] أتعرف ما الذي أقرؤه عليك الآن؟ إنه كلام الله حقاً، بصوت وحرف، كلام لا يشابهه كلام المخلوقين، وهو صفة من صفاته جل وعلا، أتعرف هذا الكلام لو أنزل على جبل لتصدع الجبل ولتكسر، بل إن من الحجارة لما تهبط من خشية الله!! أتظن أنك -يا مخلوق! يا ضعيف! - تقوى على هذا القرآن، أتعرف من الذي تكلم بهذا القرآن، إنه الله الملك العزيز الجبار، أتعرف من هو الجبار؟ مسكين يا من تعاند الله! مسكين يا من تواجه الجبار! والله لا تقوى على الجبار المهيمن. عبد الله: أتعرف من هو؟ الذي لا إله غيره، عالم الغيب، عالم الشهادة، عبد الله! هو الخالق الذي خلقك، وبرأك، وصورك. اسمع إلى وصف تأثير القرآن واسمع إلى أوصاف الله جل وعلا: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر:21 - 24].

سور عظيمة تبطل السحر

سور عظيمة تبطل السحر عبد الله: يسرني ويسعدني ويفرحني أن أختم هذه القراءات بسور عظيمات تفك أكبر سحر، وتبطل أكبر سحر يا عبد الله! إنها سورة الإخلاص التي تعدل ثلث القرآن، وليس فيها إلا وصف الله، وليس فيها إلا صفة الله العظيمة. عبد الله: سأل الله بها رجل فقال: (اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله، الذي لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، أن تغفر لي. فقال عليه الصلاة والسلام: قد استجيب له). اسأل الله بها يا عبد الله! سورة من عظمها تعدل ثلث القرآن، والله ما يقوى عليها شياطين الإنس ولا شياطين الجن، أتعرف ما هي؟ بسم الله الرحمن الرحيم: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4]. أتعرف ما معنى الصمد؟ الذي تلجأ إليه المخلوقات كلها في السماوات والأرض: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} [هود:56] النملة في جحرها تلتجئ إليه، والسمكة في البحر تلجأ إليه جل وعلا، والطير في السماء يلجأ إليه جل وعلا، بل حتى الكافر وقت الضيق والمصيبة يلجأ إليه جل وعلا. الصمد الذي لا جوف له، السيد جل وعلا، الذي بلغ في سؤدده كمالاً لا يبلغه كمال، وفي شرفه شرفاً لا يبلغه شرف: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4]. ثم المعوذتان -يا عبد الله- اقرأهما دائماًَ في الصباح ثلاثاً -مع الإخلاص ثلاثاً- وفي المساء ثلاثاً، واختم بها كل صلاة، وعود عليها صبيانك وأولادك الصغار، فإنها آيات تحطم الجبال، وتحطم ما تحتها. استعاذة بالله، تعرف ما معنى الاستعاذة؟ هو أن تلجأ إلى الله تعالى، مر عليه الصلاة والسلام ليلة من الليالي في الصحراء، وإذ بالشياطين قد تجمعوا له وبيد كل واحد منهم نار يريد أن يحرق بها وجهه عليه الصلاة والسلام، أتعرف ماذا قال؟ احفظ هذا الدعاء وقله دائماً: (أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، من شر ما خلق وبرأ وذرأ، ومن شر ما ينزل من السماء، ومن شر ما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض، ومن شر ما يخرج منها، ومن شر فتن الليل والنهار ومن شر كل طارق إلا طارقاً يطرق بخير منك يا رحمان، فانطفأت نيرانهم فولوا على أدبارهم) الله أكبر! قل صباحاً ومساءً أعوذ بكلمات الله التامات ثلاثاً، وعود عليها صبيانك، وعود أطفالك قول: (أعوذ بكلمات الله التامه، من كل شيطان وهامه، ومن كل عين لامه) وقلها في كل مكان يا عبد الله. ولتكثر من هذا الدعاء أعوذ بكلمات الله التامه، من كل شيطان وهامه، ومن كل عين لامه، إذا خفت خوفاً شديداً، فقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق. إذا رأيت منظراً غريباً فقل: أعوذ بالله منك، أي: ألتجئ إلى الله، ومن التجأ إلى الله حماه، فأنت تفر إلى الله. عبد الله: إن غضبت غضباً شديداً فقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إذا دخلت مكاناً مظلماً، فقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فإنه لم يزل عليك من الله حافظ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] رب الفجر إذا انفلق، رب الصباح: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} [الفلق:1 - 3] من شر الليل إذا حل، ومن شر القمر إذا ظهر في الليل: {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق:3 - 4]. ومن شر السواحر اللائي ينفثن في العقد التي يرقين عليها: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:4 - 5]. بسم الله الرحمن الرحيم: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} [الناس:1 - 6]. عبد الله: قبل أن أختم، اعلم أن الله ما أنزل بلاء إلا بذنب، ولن يرفع بلاء إلا بتوبة، فتب إلى الله جل وعلا، واعرف أن البلاء قد يكون لذنب أصبته، فهناك معصية وذنباً أنت أذنبته وأنت تعلم به، وإيمانك قد ضعف، وفتور وغفلة. قد يكون هذا هو السبب في هذا الذي أنت فيه يا عبد الله! سواءً كان عيناً أو سحراً أو مساً وإن كنت من الصالحين، فاعرف أن ما فيك بسبب ذنوبك، وتب إلى الله جل وعلا، فكل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون، واهجر المعاصي واهجر أماكن الغناء، وأماكن الفحش والبذاءة، واهجر الفسقة والفجرة، وابدأ مع الله صفحة جديدة. واعلم أنك إذا أقبلت على الله وتقربت إليه شبراً، تقرب الله إليك ذراعاً. هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ساعات الندم

ساعات الندم ساعات الندم التي قد تمر على الإنسان كثيرة منها: ساعة الندم على فوات الطاعة، أو ساعة الاحتضار والانتباه في القبور، ومنها أيضاً: ساعة البعث من القبور، وساعة رؤية جهنم، وساعة جعل الحسنات هباء منثوراً، وساعة الوقوف للحساب، وأعظمها ساعة الحسرة في النار. فيا أيها العبد! اجتهد ألا تأتيك هذه الساعات فإنها الحسرة كل الحسرة.

الندم على التفريط

الندم على التفريط الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين. أما بعد: ساعات الندم! في ساعات الندم لا يجلس الإنسان إلا ويتذكر معاصيه وذنوبه، ويتذكر فيها ما فرط في الدنيا وغفلته فينتبه فيصبح عنده انكسار لله عز وجل يندم فيه على ما فرط. استمعوا إلى هذه القصة: شاب صغير السن هداه الله في بيتٍ قد امتلأ بالفجور والمعاصي والمنكرات والفواحش، أبوه لا يعرف القبلة، حاول أن يدعو أباه إلى الله فلم يستجب له، فأتى إلى إمام المسجد يبكي عنده ويقول له: إن أبي يعصي الله ولا يعرف ربه، حاولت أن أدعوه إلى الله فلم يستجب لي، فماذا أفعل؟ قال له: إذا قمت في الثلث الأخير من الليل فتوضأ وضوءك للصلاة -وكان حافظاً صغيراً- ثم صلِ لله ركعتين وادع الله عز وجل في تلك الركعتين أن يهدي أباك، قال: فكان الشاب في كل ليلة يفعل هذا الفعل، وفي ليلة من الليالي قام الشاب يصلي في الليل فدخل الأب البيت بعد سفرةٍ قد فعل فيها ما فعل، ولم يكن أحد يدري به، ففتح الباب ودخل والناس نيام في البيت، فسمع صوت بكاءٍ في غرفة من الغرف فاقترب ينظر فإذا ابنه الصغير يبكي، فاقترب منه ليسمع ماذا يقول، فسمع ابنه يرفع يديه إلى الله وهو يقول: اللهم اهد أبي، اللهم اشرح صدر أبي للإسلام، اللهم افتح صدر أبي للهداية، فسمع الأب هذا الكلام وإذا به قد انتفض وأخذته قشعريرة، قال: فخرج من الغرفة واغتسل ثم رجع إلى الغرفة والابن ما زال يبكي ويرفع يديه إلى الله، فصلى بجنب ابنه ورفع يديه بجنب ابنه والابن يقول: اللهم اهد أبي والأب يقول: آمين، اللهم افتح قلب أبي، والأب يقول: آمين، فبكى الأب وبكى الابن، فلما انتهى الابن من صلاته التفت فرأى أباه يبكي فاعتنق أباه وجعلا يبكيان إلى الصباح، فكانت بداية هداية هذا الأب. قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه ابن ماجة: (الندم توبة) فإذا جلس الإنسان يتذكر ذنوبه وأخذ يذكر تلك المعاصي، وتلك الليالي الظلماء، ويتذكر يوم أن جلس مع صديق السوء، ويتذكر يوم أن فتح المجلة الخليعة فنظر، ثم يتذكر عفو الله عليه، وإمهال الله له وحلم الله عليه يبكي والله. قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [آل عمران:135] فاحشة يعني: كبيرة، ظلموا أنفسهم يعني: صغيرة {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135].

من ساعات الندم

من ساعات الندم

ندم الصالحين على فوات الطاعة

ندم الصالحين على فوات الطاعة ومن ساعات الندم: ساعات المؤمنين الطائعين الصالحين إذا فاتتهم الطاعة {تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة:92]. روي أن حاتم الأصم وهو رجل صالح فاتته صلاة العصر في جماعة، فصلاها في البيت، فجلس يبكي؛ لأن صلاة الجماعة قد فاتته -نقول هذا لكثيرٍ من المؤمنين الذين تفوتهم الصلاة بكليتها حتى يخرج وقتها- فجاءه أصحابه يعزونه على فوات صلاة الجماعة، فنظر إليهم وكانوا قلة فبكى، قالوا: ما يبكيك رحمك الله؟ قال: لو مات ابن من أبنائي لأتى أهل المدينة كلهم يعزونني، أما أن تفوتني صلاة فلا يأتيني إلا بعض أهل المدينة!! ووالله لموت أبنائي جميعاً أهون عندي من فوات صلاة الجماعة: {تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة:92] ندم لأنه ترك الطاعة، وندم لأنه ارتكب المعصية، فهذه من ساعات الندم.

ساعة الاحتضار

ساعة الاحتضار ومن ساعات الندم -أيها الإخوة! - ساعة كلنا مقبلون عليها، وكل منا سوف يأتيها، الصالح والفاجر والملك والفقير، العظيم والحقير، الكبير والصغير، كلٌ منا سوف يقدم عليها، ما هي هذه الساعة؟ إنها ساعة الاحتضار، روي عن أبان بن عياش رحمه الله، قال: خرجت من عند أنس بن مالك في البصرة فإذا جنازة تمر عليَّ يتبعها أربعة نفر، فقلت: سبحان الله! جنازة لا يتبعها إلا أربعة! قال: فأخذت العهد على نفسي لأتبعن هذه الجنازة، فاتبعتها حتى إذا كنا في المقبرة، قال: فصلينا عليها ثم دفناها وبعد أن قضينا دفنها قلت لهم: أسألكم بالله جنازة من المسلمين لا يتبعها إلا أربعة نفر أين المسلمون؟! فقالوا: انظر إلى هذه المرأة، فإذا امرأة من بعيد، قالوا: فإنها استأجرتنا لنتبع هذه الجنازة، اذهب إليها فاسألها عن الخبر، قال: فتبعتها حتى دخلت بيتها، فطرقت الباب عليها فخرجت فسألتها فقلت: يرحمك الله ما بال هذه الجنازة؟ قالت: هذا ابني، لما حضرته ساعة الوفاة -انظروا إلى الندم وتذكر المعاصي وكان عاقاً لأمه فاجراً فاسقاً- قال لي: يا أماه! أتريدين السعادة لي؟ قلت: إي والله أريد لك السعادة. مهما عق الابن أمه أو أباه فإنهم في تلك الساعة ينسيان كل شيء ولا يتذكران إلا سعادة الابن، قلت: إي والله أريد لك السعادة، فقال: إذا اقتربت ساعتي فضعي قدمك على خدي ثم قولي: هذا جزاء من يعصي الله، ثم ارفعي يديك إلى الله عز وجل وقولي: اللهم إني قد أمسيت راضية عنه، فارض عنه، ولا تخبري أحداً بموتي فإنهم يعرفون أني أعصي الله ولا أطيعه، تقول: فلما اقتربت ساعته وضعت قدمي على خده ورفعت يديَّ إلى الله، وقلت: هذا جزاء من يعصي الله، اللهم إني قد أمسيت راضية عنه فارض عنه، قال: وبعد قليل تبسمت، فقلت لها: ما الذي حدث؟ قالت: رأيته البارحة في المنام وهو يضحك فقلت له: مالك؟ قال: لقيت رباً كريماً رحيماً غير غضبان؛ بدعوتك لي يا أماه. انظروا إلى تلك الساعة التي يقترب فيها الرجل من آخرته. عثمان رضي الله عنه كان إذا حضر جنازةً بكى، قيل له: ما يبكيك رحمك الله؟ قال: [القبر أول منازل الآخرة، فإن كان يسيراً فما بعده أيسر، وإن كان شديداً فما بعده أشد]. عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه الخليفة الراشد بعدما صلى بالمسلمين العيد خرج مع أصحابه فمر على مقبرة فقال لأصحابه: اجلسوا انتظروني، فنزل من بغلته -وكان أميراً للمؤمنين- ونظر إلى الملوك والأمراء والوزراء والعظماء والسادة أين هم تحت التراب، فأخذ ينشد ويقول: أتيت القبور فناديتها أين المعظم والمحتقر تفانوا جميعاً فما مخبر وما توا جميعاً ومات الخبر تروح وتغدو بنات الثرى فتمحوا محاسن تلك الصور فيا سائلي عن أناس مضوا أما لك فيما مضى معتبر ثم قال: أيها الموت! ماذا فعلت بالأحبة؟! ثم جلس وأخذ يبكي وينتحب، ثم رجع إلى أصحابه وهم ينظرون إليه، فقال: أتدرون ماذا يقول الموت؟ قالوا: لا ندري. قال: يقول: بدأت بالحدقتين فأكلت العينين، وفصلت الكفين عن الساعدين، والساعدين عن العضدين، والقدمين عن الساقين، والساقين عن الفخذين. {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [القيامة:26 - 27]. ساعة ندم، تتذكر فيها -يا عبد الله- يوم كنت تفتح المجلة وتنظر إليها ولا أحد ينظر إليك، تتذكر يوم كنت تجلس أمام التلفاز وتقول: سوف أستغفر الله سوف أصلي سوف أتوب، تتذكر يوم أن كنت تحادثها بالهاتف ولا أحد يسمعك إلا الله، تتذكر يوم أن كنت تسمع المؤذن يؤذن لصلاة الفجر وتستيقظ ثم تقول: أصلي بعد طلوع الشمس، تتذكر يوماً من الأيام كنت تسمع الصالحين ينادونك فلا تستجيب لهم، تتذكر يوماً من الأيام تسمع مجالس الذكر فتولي هاربا، يوماً من الأيام كنت تأكل الربا، كنت تستهزئ بأهل الدين، وفي تلك الساعة تحس أن نبضات قلبك أصبحت ثقيلة، ضربة تسمعها، ثم ضربة أخرى تعدها، ثم ضربة ثالثة، ما بال القلب بدأت تثقل ضرباته؟ ما بال الأنفاس كأنها تخرج من ثقب إبرة؟ تنظر حولك، فإذا الأم تبكي عليك، تنظر إلى زوجتك قد احتضنت ابنتك وهي تبكي عليك، ابنك الصغير قد رمى نفسه عليك وهو يبكي ويقول: أبي أبي! ولا تستطيع أن تجيبه، تنظر إلى أبيك وقد جاء بالطبيب، والطبيب يسمع دقات قلبك، وأنت تنظر وتعلم أن الفراق قد أتى، تنظر إلى إخوانك يبكون ويندبون وينوحون، تنظر إلى من حولك هم في واد وأنت في وادٍ آخر، ما بال القدمين قد بردتا؟ ما بال الساقين قد التصقتا؟ ما بال الكفين لا تستطيع أن تحركهما؟ ما بال العينين قد شخصتا {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:26 - 30]. تريد الروح أن تخرج فتنطلق تلك الصرخة {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99 - 100] فتسمع A { كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100]. لما حضرت معاذ بن جبل الوفاة ماذا كان يقول؟ قال: [أعوذ بالله من ليلة صباحها إلى النار. ثم قال: مرحباً بالموت زائراً مغيباً، وحبيباً جاء على فاقة، اللهم إني كنت أخافك وأنا اليوم أرجوك]. أبو هريرة لما حضرته الوفاة، أتعرفون من هو أبو هريرة؟ إنه طالب العلم الزاهد العابد، ما كان يشبع ليلة يتبع النبي صلى الله عليه وسلم ليسمع العلم يقول: [لقد رأيتني يوماً أصرع يحسب الناس أنني مجنون وما بي إلا الجوع] جاع بطنه لله لطلب العلم، ليحفظ لنا هذا الدين، لما حضرته الوفاة بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: [بعد السفر، وقلة الزاد، والخوف من الوقوع من الصراط في النار]. {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:185] كل نفس سوف يأتيها هذا اليوم يا غافلاً عن العمل قد غره طول الأمل الموت يأتي بغتة والقبر صندوق العمل في تلك اللحظة تتذكر يوماً من الأيام ذهبت إلى بلاد الكفر والفجور والزنا والخنا فواقعته، تتذكر يوماً من الأيام كنت تسمع النداء فتولي هارباً، تتذكر يوماً من الأيام كنت تُدعى للإنفاق فأمسكت وأحجمت وبخلت، تتذكر يوماً من الأيام مررت على المنكرات والذنوب والفواحش ولم تنكرها، لم تأمر بالمعروف، ولم تنه عن المنكر، لم تتكلم في سبيل الله، لم تفعل شيئاً في سبيل الله، تتذكر هذه الذنوب كلها وأنت طريح الفراش.

ساعة الانتباه في القبور

ساعة الانتباه في القبور من ساعات الندم: ساعة يطول فيها مكوث العبد في قبره في الظلمة، يقام في ذلك القبر الضيق المظلم فماذا ينظر؟ إنه يرى ملكين أسودين أزرقين يقولان له: من ربك؟ ما دينك؟ ما تقول في الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، هاه هاه لا أدري، ماذا يدري في الدنيا؟ ماذا يحفظ؟ يحفظ الأغاني والزمر والطرب، يحفظ المسلسلات والأفلام، أما أنه يحفظ كلام الله فلا والله، أما أنه يعرف السنن، فلا والله، كان يقلد فلاناً وفلانة ولا يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان لا يعرف في الدنيا كلام الله، بل كان يعرف كلام الشيطان. إن لم تجب على ذلك السؤال ماذا يكون مصيرك؟!! {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27]. الآن يتذكر عقوق والديه، يوم عق والده، وعق أمه، يوم قطع رحمه، الآن يتذكر يوم أكل الربا، ويتذكر يوم استمع إلى الأغاني، يأتيه رجلٌ منتن الثياب قبيح المنظر وجهه يجيء بالشر فيقول: من أنت؛ فوجهك يجيء بالشر؟ فيقول: أنا عملك الخبيث أنا ذلك اليوم الذي ذهبت فيه إلى تلك المنكرات، أنا ذلك اليوم الذي غبت فيه عن الصلوات، أنا ذلك اليوم الذي استمعت فيه إلى الأغاني والمسلسلات، أنا ذلك اليوم الذي تجولت فيه في الأسواق تنظر إلى النساء يمنة ويسرة لا ترعى لله حرمة، أنا ذلك اليوم الذي غفلت فيه عن الله وفرطت فيه في الطاعات، أنا ذلك اليوم أبشر بالذي يسوءك، هذا يومك الذي كنت توعد.

ساعة البعث من القبور

ساعة البعث من القبور من ساعات الندم: يوم يكون العبد في قبره معذباً يضيق عليه القبر حتى تختلف أضلاعه، وفي لحظة من اللحظات ينشق عنه القبر، ماذا يسمع؟ يسمع صوت السماء وهي تنشق وتنفطر، ينظر إلى الكواكب وهي تتناثر، والشمس قد انطمست وذهب نورها، يخرج من قبره فينظر إلى البحار قد انفجرت وتحولت إلى طين، ماذا يخرج من تحته؟ إنهم أناس يخرجون من تحته، والوحوش تخرج، ما بال الناس ينفضون عن وجوههم التراب، ماذا يقول؟ يقول إن كان مفرطاً: {يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس:52] يصرخ يا ويلنا ماذا فعلنا في الدنيا؟! كان لاهياً غافلاً متمتعاً، كان يأكل ويشرب، كان يلهو ويلعب، كان غافلاً عن الأجل فيصرخ ويقول: {يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس:52] فيقول الصالحون له: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس:52]. فاطمة زوجة عمر بن عبد العزيز كانت تبكي بعد وفاة عمر، فقيل لها: ما يبكيك؟! أأسفاً على عمر؟ فوالله إنه بعد الموت لهو خير منه قبله، فقالت: لا والله ما أبكي على موته ولا على وفاته، تقول: رأيته ليلة قائماً يصلي، فأخذ يقرأ حتى وصل إلى قول الله: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ الْمَنْفُوشِ} [القارعة:4 - 5] فصاح وقال: يا سوء صباحاه! يا سوء صباحاه! حتى سقط، ثم قام على ذراعيه وأخذ يبكي ويئن حتى ظننت أن روحه سوف تخرج، ثم هدأ، ثم بعد ذلك قرأ مرةً أخرى وقال: يا سوء صباحاه! يا سوء صباحاه! ويلي من يوم يكون الناس فيه كالفراش المبثوث، تقول: ثم سقط كالميت ولم يستيقظ إلا على أذان الفجر تقول: فكلما تذكرته بكيت: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} [ق:41 - 42] يا له من ندم! ويالها من حسرة! تخرج فتنظر إلى أمك وهي تناديك وتقول: يا بني! حسنة أتبلغ بها، يا بني: حسنة أفك بها رقبتي من النار، فتقول لها: إليكِ عني، إليكِ عني. يناديك الأب، فيقول: يا ولدي! لقد أطعمتك من جوع وكسيتك من عري، يا بني! حسنة أتبلغ بها، فتقول له: نفسي نفسي، إليكَ عني يا أبي. يأتيك الابن فيبكي ويقول: يا أبي! حسنة أدخل بها الجنة، فتقول له: إليك عني إليك عني. فهذه من ساعات الندم.

ساعة رؤية جهنم

ساعة رؤية جهنم ومن ساعات الندم: ذلك اليوم الذي سماه الله يوم الحسرة، لم سمي يوم الحسرة؟ لما يتحسر فيه الناس ويندمون على ما فرطوا في هذه الدنيا، فإذا رأوا جهنم تذكروا الدنيا، وتذكروا الملذات، والناس إذا رأوا جهنم جثوا على الركب، وأيقن المجرمون أنهم بالعطب، وأفصحت جهنم عن الغضب، وهناك يقول كل واحد من الناس: نفسي نفسي: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} [الفرقان:12] يرى الناس جهنم وهي تجر، لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها، يقول النبيون نفسي نفسي، ماذا يقول المذنبون؟ ماذا يقول المسيئون؟ ماذا يقول المذنب؟ إذا كان الأنبياء يقولون: نفسي نفسي، ماذا نقول نحن يا عباد الله؟ {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً} [المعارج:6 - 7] ثم نتذكر في ذلك الموقف: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكّاً دَكّاً * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ} [الفجر:21 - 23] تلك الليلة التي فرح فيها أهل البيت عندما كانوا بجوار التلفاز، كم يفرحون؟ كم يسعدون بتلك الليلة؟ يتذكرها. وتلك الليلة التي سافر فيها مع زوجته وأبنائه إلى دول الفجور والزنا والخنا، كانوا سعداء في الدنيا فيتذكرها، يتذكر تلك الليلة عندما كانت في السوق فنظر إليها فكلمها وكلمته وتواعد معها وقابلها، يتذكر تلك الليلة التي مر فيها على المنكرات فغض البصر، ولم يتكلم ولم ينه عن تلك المنكرات ولم يغيرها: {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} [الفجر:23] يتذكر يوم قالت له أمه: افعل، فقال: لا أريد أن أفعل، ويتذكر يوماً من الأيام كان يقول لأمه: لم فعلت؟ ولم لم تفعلي؟ وكان يرفع صوته عليها، يتذكرها: {وَرَأى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً} [الكهف:53] يا غافلاً عما جاء في القدر ماذا الذي بعد شيب الرأس تنتظر عاين بقلبك إن العين غافلةٌ عن الحقيقة واعلم أنها سقر سوداء تزفر من غيظ إذا سعرت للظالمين فلا تبقي ولا تذر لو لم يكن لك غير الموت موعظة لكان فيه عن اللذات مزدجر {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22].

ساعة جعل الحسنات هباء منثورا

ساعة جعل الحسنات هباء منثوراً نظرت إلى الصلوات، ونظرت إلى الصيام والحج فإذا بها قد جعلها الله هباءً منثوراً، نظرت إلى عبادتك إلى طاعتك ففرحت، جبال من الحسنات فإذا الله عز وجل يجعلها هباءً منثوراً! لم؟ في ليلة من الليالي كنت تجلس لوحدك فتعصي الله، فتجد بعض الناس في تلك الساعة يعضون أصابعهم من الندم {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً} [الفرقان:27]. شاب صالح كان يصلي مع الناس، وكان ملتزماً بدين الله، تعرف على بعض الشباب الفسقة الفجرة، تعرف عليهم ولم يكن يعلم خطر جليس السوء، فاستدرجوه ليذهب معهم إلى بؤر الزنا والخنا، فراودوه حتى أقنعوه بهذا، فذهب معهم إلى تلك الدولة، وفي تلك البلاد لم يكن يمضي معهم الليل، كان إذا جاء الليل ذهب لوحده في الغرفة فأغلق على نفسه الباب حتى لا يعمل معهم المنكرات، فهو شاب طيب صالح، كل ليلة على هذه الطريقة يجلس معهم في النهار، فإذا جاء الليل ذهب لوحده في الغرفة وأغلق على نفسه الباب، ولم يرض أهل السوء والفجور إلا أن يدخلوه معهم في جهنم، وفي تلك الليلة أتوه بامرأة عارية ففتحوا عليه الباب، وأدخلوا المرأة إلى الغرفة ثم أغلقوا الباب عليه، ومازالت تراوده وتراوده حتى وقع عليها، فلما وقع عليها قبض الله روحه. {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً} [الفرقان:27 - 29]. ماذا ترى في يوم الحسرة؟ ترى بعضهم يصرخ ويقول: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً} [النبأ:40] تنظر يمنة ويسرة فترى الولدان قد شابت رءوسهم، ترى القلوب قد بلغت الحناجر في يوم الندم والحسرة، ترى بعض الناس يصرخ، ما هذا؟! لأنه كان يزني ويشرب الخمور والمخدرات، كان لا يصلي، كان لا يعرف لله عز وجل حقاً، تنظر إليه في تلك الساعة وهو يبكي ويقول: {يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر:56] وبعضهم ماذا يقول؟ {أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [الزمر:57] وكذب والله! لو كان يريد الهداية لهداه الله، ولو بدأ بالخير لأعانه الله عليه: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:3] حتى يوم القيامة يكذب على الله ويقول: {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [الزمر:57].

ساعة الوقوف للحساب

ساعة الوقوف للحساب وفي تلك اللحظة وهو قد ندم وتحسر يناديه الله عز وجل، وتناديه الملائكة: أين فلان بن فلان؟ فيريد أن يهرب لكن الملائكة يأتونه ويجرجرونه بالسلاسل، فيقف أمام الله فيذكره الله عز وجل بذنوبه ومعاصيه، فيقال له: أتذكر ذنب كذا؟ أتذكر تلك الليلة؟ أتذكر ذلك النهار؟ أتذكر يوم كنت تستهزئ بالصالحين؟ أتذكر يوم كنت تغتاب الناس؟ أتذكر ذلك المجلس الذي كنت تستهزئ به من فلان وفلان؟ أتذكر وتذكر ثم يقال: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * >ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:30 - 32]. انظر إلى حالهم أمام الله وقد قُرروا بالذنوب {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة:12] بلغت القلوب الحناجر وشخصت الأبصار، انظروا إلى النار التي كنتم تستهزئون بها وتكذبون: {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ * اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا} [الطور:15 - 16] انظروا إلى النار {وَرَأى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً} [الكهف:53] {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [القمر:48]. مثل وقوفك يوم الحشر عريانا مستعطفاً قلق الأحشاء حيرانا النار تزفر من غيظ ومن حنق على العصاة وتلقى الرب غضبانا اقرأ كتابك يا عبدي على وجل انظر إليه ترى أن كان ما كانا لما قرأت كتاباً لا يغادرني حرفاً وما كان في سرٍ وإعلانا نادى الجليل خذوه يا ملائكتي روا بعبدي إلى النيران عطشانا يا رب لا تخزنا يوم الحساب ولا تجعل لنارك فينا اليوم سلطانا قرأ عمر بن الخطاب يوماً في الصلاة سورة الطور: {وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} [الطور:1 - 2] حتى بلغ قوله تعالى: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} [الطور:7 - 8] فسقط مريضاً في البيت شهراً كاملا، يعوده الناس وما به شيء إلا أنه تذكر تلك الآية. النبي صلى الله عليه وسلم يمر في ليلة من الليالي على بعض البيوت، فسمع عجوزاً تقرأ القرآن، فاقترب من البيت يستمع إليها ماذا تقول؟ فكانت تردد قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1] من المخاطب؟ إنه الرسول عليه الصلاة والسلام. ما هي الغاشية؟ إنها القيامة الطامة الكبرى الصاخة، هل أتاك يا محمد هذا الحديث؟ حديث عجيب وأمر غريب، وهولٌ عظيم، وكرب وزلزلة شديدة، هل أتاك يا محمد؟ يقول: فاقترب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الباب وأخذ يستمع إليها وهي تقرأ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1] فكان يقول وهو يبكي: نعم أتاني نعم أتاني. عمر بن عبد العزيز قام ليلة من الليالي فأخذ يبكي فأبكى أهله وأبكى الجيران، فلما أصبح سألوه: ما بالك يرحمك الله في الليلة الماضية تبكي؟ قال: [قرأت قول الله عز وجل: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7] فلا أدري إلى أيهما أصير، فبكى وبكى حتى سقط من البكاء رحمه الله].

ساعة الندم في النار

ساعة الندم في النار عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يأتي البكاء على أهل النار فيبكون حتى تنقطع الدموع، ثم يبكون الدم) الدمع ينقطع في النار فيبكون الدماء، هل تصورت هذا المنظر؟ وهل تعدل النظرة إلى التلفاز تلك اللحظة؟ هل تعدلها تلك السهرة أو ذلك اللقاء معها؟ هل تعدلها تلك الصحبة الفاسدة؟ لا والله. يقول: (ثم يبكون الدم حتى يصير في وجوههم كهيئة الأخدود من كثرة البكاء -تشق الوجوه كالأخاديد- ولو أنزلت فيه السفن لجرت) لو أنزلت السفن في دموعهم ودمائهم لجرت السفن. {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} [الأحزاب:66] فماذا يتذكرون؟ {يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} [الأحزاب:66 - 67]. يا سائراً في غمرة الجهل والهوى صريع الأغاني عن قريب ستندم أتت الذي ليس تعجب سوى جنة أو حر نارٍ ستضرم وبادر مادام في العمر فسحة وحجك مبرور وفرضك طيب وزد وسارع واغتنم زمن الصبا ففي زمن الإمكان تسعى وتغنم وسر مسرعاً فالموت خلفك مسرعا وهيهات ما منه مفر ومهزم في تلك الساعة الأخيرة؛ ساعة الندم الأخيرة ينادون ربهم ويقولون: {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:106 - 107]. يقول الحسن لصاحبه بعد أن دفنوا جنازة: لو قام من قبره ماذا تظنه يفعل؟ قال: يصلي ركعتين، قال: فإن لم يكن هو فكن أنت. يرد الله عليهم في النار بعد أن قالوا: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:107] فهناك يعترفون ويقولون: كنا قوماً ضالين كنا غافلين كنا لا هين كنا جاهلين، فيرد الله عز وجل عليهم بعد سنواتٍ طوال {قَالَ اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108]. فبعد هذا لا يتكلمون وتطبق عليهم النار وتغلق الأبواب، نعوذ بالله من جهنم. اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا. وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم.

كل نفس ذائقة الموت

كل نفس ذائقة الموت الموت حقيقة لابد منها؛ فكل الناس سيموتون، صغيرهم وكبيرهم، ذكرهم وأنثاهم، مسلمهم وكافرهم؛ إذاً لابد من الاستعداد للموت قبل نزوله، وذلك بالأعمال الصالحات التي تنجي العبد يوم القيامة من العذاب الأليم هذا هو ما تكلم عنه الشيخ، ذاكراً بعض صور المحتضرين، مستشهداً بقصيدة شعرية تصف الموت وما بعده.

الموت حقيقة لابد منها

الموت حقيقة لابد منها إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المسلمون ما من بشرٍ ولا من مسلمٍ ولا كافرٍ إلا سوف يمر في لحظات حرجة، لن يغادر هذه الدنيا إلا بها، ولن يغادر هذه الأرض إلا وهو يذوق تلك السكرات؛ إنها اللحظات الحرجة التي لا بد وأن نلقاها، ولا بد وأن نمر بها بكى أبو هريرة رضي الله عنه حين حضرته الوفاة، فقيل له: يا أبا هريرة! ما يبكيك؟ وهو صحابي جليل طلب العلم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [بعد السفر، وقلة الزاد، وضعف اليقين، وخوف الوقوع من الصراط في النار]. قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185] كل نفس مؤمنة وكافرة، كل نفس صالحة وفاجرة {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:185].

أبو العتاهية يعظ الرشيد

أبو العتاهية يعظ الرشيد بنى الرشيد قصراً عظيماً، فدخل الشعراء عليه يزورونه ويتكلمون عن هذا القصر ويتمدحون به، فدخل عليه أبو العتاهية فأخذ يمدح هذا القصر، فقال للخليفة: عش ما بدا لك سالماً في ظل شاهقة القصور يجري عليك بما أردت مع الرواح مع البكور ففرح الخليفة بهذا المدح، ثم قال له أبو العتاهية: فإذا النفوس تغررت بزفير حشرجة الصدور فهناك تعلم موقناً ما كنت إلا في غرور فبكى الرشيد حتى سقط على الأرض من البكاء، ثم أمر بالقصر فأقفل، ثم رجع إلى كوخه وبيته القديم.

الاستعداد للموت

الاستعداد للموت عباد الله: هلا استعد كل منا لتلك اللحظات؟! هلا تأهب لذلك اليوم؟! هلا عمل لتلك الساعة؟! أم أن الواحد منا غافلٌ عنها، يظن أنه سوف يعيش في الأرض أبد الدهر، وسوف يطول به العمر، وسوف يبلغ كذا وكذا، فإذا بملك الموت ينتظره، وإذا الأجل أقصر من الأمل، وإذا به يفارق الدنيا وهو لم يستعد لهذا اليوم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر:18]. حاسب نفسك -يا عبد الله- قبل أن تأتيك تلك اللحظات، ماذا قدمت للغد؟ كيف ستلقى الله جل وعلا؟ على ماذا يختم لك ملك الموت؟ هل أرجعت الأمانات إلى أهلها؟ هل تبت من جميع الذنوب والمعاصي؟ هل أديت الواجبات؟ هل أديت الحقوق إلى أهلها؟ أم أنك غافلٌ عن تلك اللحظات، غافلٌ عن تلك الساعة! عبد الله! ما يدريك لعل ملك الموت يزورك وأنت بين أولادك، وأنت عند زوجتك، أو عند أبيك وأمك، إما في المستشفى، أو في البيت، أو في حادث سيارة، وتخيل -أخي الكريم- ملك الموت قد دخل عليك وأنت عند أهلك وأحبابك وأولادك الصغار، تأتيك بنتك الصغيرة فتقول لك: يا أبي لم لا تجيبني؟ وأنت تعلم أنك سوف تفارق الدنيا، يأتيك ولدك الصغير فيقول لك: يا أبي لمن تتركنا؟ يا أبي لمن تدعنا في هذه الدنيا؟ وتنوح عليك الزوجة، وتبكي الأم، ويأتي الأب بالطبيب {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [القيامة:26 - 27] بلغت الروح الترقوة ولا زالت العين تبصر، ولا زالت الروح لم تخرج، هو ينظر إلى قدمه قد يبست وبردت، وينظر إلى من حوله يبكون، ويأتي الأب بالطبيب، والأخ بالرفيق {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ) [القيامة:26 - 27] وكأن هذه السكتة التي في القرآن لعبرة قد خنقت صاحبها {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [القيامة:27]. من يرقيه؟ من يداويه؟ من يطببه؟ من يعالجه؟ من يرد الروح إلى صاحبها؟ {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} [القيامة:28] هو متأكد ومتيقن أنه مفارق، أتعلم -يا عبد الله- فراق ماذا؟ إنه فراق الأثاث فراق السيارات فراق المنزل فراق القصور فراق الأرصدة فراق الزوجة فراق الأولاد فراق الدراسة فراق الأهل والأحباب فراق الدنيا بأسرها {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} [القيامة:28 - 29] وبنته على صدره تبكي، وولده يجر يده، وزوجته تنادي: إلى من تتركنا؟ إلى من تدعنا؟ وهو له شأنٌ آخر، وهو له همٌ آخر، إنه لم يتب من جميع الذنوب والمعاصي، إلى الآن ما صلى الفجر في جماعة، إلى الآن هذه العاصية ما تحجبت وما اهتدت وما استقامت، إلى الآن لا زال يسمع الطرب، والأفلام الخليعات، إلى الآن أمواله في الربا وفي البنوك الربوية، إلى الآن ما حافظ على الصلاة. {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} [القيامة:28 - 29] أي: في الكفن يا عبد الله! فغسل ثم كفن والتفت الساق بالساق، ثم حمل على الأكتاف، فإن كان فاجراً، وإن كانت فاجرة، فإنهم يصيحون بأعلى صوتهم: يا ويلها! أين تذهبون بها؟ {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ * فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة:30 - 32]. عبد الله: هل فكرت في تلك اللحظات؟ هل أنت مستعدٌ لها؟ هل أنت منتبهٌ منها؟ كم وكم من الناس أتانا خبره قد مات وهو شاب، بل مات وهو صغير، بنى البيت ولما يسكنه ففارق الدنيا، اشترى السيارة ولما يجلس فيها بل جلس فإذا بحادثٍ قد فارق به الدنيا، عقد على فلانة ولما يدخل بها وفارق الدنيا، درس ودرس ولما يحصل على الشهادة وفارق الدنيا، جمع الأرصدة والملايين ثم لم يتمتع بها وفارق الدنيا. انظر إلى من حوى الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير القطن والكفن

صور للمحتضرين

صور للمحتضرين عبد الله: انظر إلى الناس، وانظر إلى أحوالهم، كم وكم من الناس من يموت وهو على الذنوب والمعاصي، من يموت ولا زالت أمواله في البنوك الربوية، من يموت ولم يدع أهله إلى الصلاة، ولم يأمر بناته بالحجاب، ولم يذكرهم بالله جل وعلا! كم وكم من الناس من غادر الدنيا وهذا حاله! اسمع إلى أولئك النفر ممن غادروا الدنيا على هذه الحال: هذا رجلٌ يقال عنه أنه كان من أهل الفساد، سافر إلى بلدٍ تشرب فيها الخمور، وتفعل فيها الفواحش، وكان كبيراً في السن، لكنه لم يعتبر ولم ينتبه لحاله، سافر إلى بلاد الإباحية، فدخل في غرفة في فندق، فطلب زجاجاتٍ من الخمر ألا يتقي الله؟! ألم يعلم هذا الرجل أن الله قد حرم الخمر ومن شربها في الدنيا لم يشربها في الآخرة؟! ألم يعلم هذا الرجل أنه من شرب الخمر في الدنيا فإنه سيسقى من طينة الخبال وردغة الخبال في قعر جهنم؟! ألم يعلم هذا الرجل أن الله قد حرمها وجعلها رجساً من عمل الشيطان؟! يطلب زجاجات الخمر، فإذا به يشرب زجاجة تلو أخرى، ويشرب ويشرب {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:14] ولا يدري ذلك المسكين أن الساعة بانتظاره والأجل مكتوب، فإذا به يحس بالغثيان وبالإعياء؛ لأنه شرب كثيراً، فدخل في دورة المياه، دخل ليخرج ما شربه -أجلكم الله- ثم أطال عليهم ولم يخرج من الغرفة ليومين أو ثلاثة، فكسروا عليه الباب ودخلوا، فإذا به قد فارق الدنيا منذ ثلاثة أيام أتعرف أين كان رأسه؟ لقد كان في مصرف المجاري. قال الله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون:99] انظر إليه في تلك اللحظة ماذا يقول؟ {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} يا رب يوماً واحداً، ساعة واحدة، لحظة واحدة أرجع، أتعرف لم يا عبد الله؟ أتظنه ليأكل، أو ليشرب، أو ليجامع، أو ليسكن القصر، أو ليتمتع بالأموال؟ كلا وربي! {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99 - 100] رب أرجعني أصلي حتى الموت، أسجد حتى تقبض روحي، والله لن أتعامل بالربا بعد اليوم، تقول المرأة: رب ارجعوني أتحجب من جميع الرجال، ولا أستمع الأغاني بعد اليوم! رب ارجعون ولن تضيع علي صلاة الفجر مرة واحدة! رب ارجعون ولن أفعل كذا وكذا! {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ}. يرد الله عليه: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100] الفرصة واحدة، والعمر واحد، والنذير يأتيك مرة واحدة، لكن هلا اعتبرنا يا عباد الله؟! هلا انتبهنا لأنفسنا؟! عبد الله: هل تعجبك ميتة ذلك الرجل الذي كبر به السن، ودق عليه العظم، وشاب شعره، وكان حريصاً على الصلوات الخمس في بيت الله، فلما كبر سنه وجاءته ساعة الوفاة سمع الأذان يؤذن، فقال لأولاده: احملوني إلى المسجد. قالوا: يا أبتاه! إن الله قد عذرك. قال: أسمع الأذان ولا أجيب، لا إله إلا الله! احملوني إلى المسجد. قالوا: يا أبتاه! قد أعذرك الله. قال: احملوني إلى المسجد، فإذا به يصلي صلاة المغرب، ثم لما كان في السجدة الأخيرة قبض الله روحه، وسوف يبعث عند الله ساجداً، وذاك الرجل يبعث عند الله سكيراً عربيداً، رأسه في مصرف المجاري، هل يستوي هذا وهذا؟! {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:35 - 36].

أفنجعل المسلمين كالمجرمين

أفنجعل المسلمين كالمجرمين أتظن -يا عبد الله- أن الله يساوي بين من يستمع للقرآن، ويحفظ القرآن، ويتلذذ بالقرآن، وبين من يستمع إلى الموسيقى والغناء، ويحفظ الغناء، ويتلذذ بالغناء: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم:35]. أتظن -يا عبد الله- أن الله يساوي بين من يقوم في الصباح الباكر إلى بيت الله ليصلي ركعتين لله جل وعلا، وبين من يقوم على الغناء وعلى الطرب، ويقوم لعمله بغير صلاة، يقوم لتجارته بغير صلاة، لا يصلي الفجر في جماعة، ولا يصلي الظهر في جماعة، ولا يعرف ذكر الله، أتظن أن الله يساوي بين هذا وهذا؟! أتظن أن الله يساوي بين من ينفق أمواله في الربا، وبين من ينفق أمواله في الصدقات؟! لا يا عبد الله! لا يساوي الله عز وجل بين هذا وهذا {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28]. أبداً لا يستوون في حكم الله الذي يفتح محلاته التجارية، ومعارضه، وتجارته في الحرام؛ ليفسد في بلاد الله، وليهلك الحرث والنسل، أيجعله الله كمن يهدي الناس، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويدعو إلى الله جل وعلا، ويقتصر في أمواله على الحلال أتظن أن الله يساوي بين هذا وهذا؟! كان هناك أربعة نفر سافروا إلى بلادٍ لعمل الفواحش، فإذا بهم في منتصف الليل يدخلون مرقصاً من المراقص، يرقصون مع النساء ويشربون الخمور، ثم في أثناء شربهم ولهوهم ورقصهم في منتصف الليل، والرب قد نزل إلى السماء الدنيا، إذا بأحد الأربعة يسقط على الأرض مغشياً عليه، فجاء الثلاثة إليه ينادونه: يا فلان! يا فلان! فإذا به يحتضر، فقال أحد الثلاثة لهذا الرجل: يا فلان! قل: لا إله إلا الله. أتعلم -يا عبد الله- بم أجاب؟ لقد قال: زدني كأس الخمرة وتعالي يا فلانة، قل: لا إله إلا الله، قال: زدني كأس الخمرة وتعالي يا فلانة. ثم فارق الدنيا على هذه الحال، ثم يبعث عند الله وهو على هذه الحال، وهو يقول: زدني كأس الخمرة وتعالي يا فلانة {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185]. عبد الله: هناك الفوز الحقيقي، وهناك النجاة الحقيقية، لا تنظر إلى الناس في الدنيا غنيٌ وفقير، كبيرٌ وصغير، عظيمٌ وحقير، فهم في حكم الله سواء، وبادر بالأعمال الصالحات، وإنما العبرة بالخواتيم، فهلا استعد كلٌ منا لتلك اللحظات، وانتبه لها، وتاب إلى الله جل وعلا؟! أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

قصيدة شعرية تصف الموت وما بعده

قصيدة شعرية تصف الموت وما بعده الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده أما بعد: أيها الإخوة المسلمون: إذا أردت -يا عبد الله- أن تعلم ما الذي سوف يحصل لنا بعد الموت، وما الذي سوف يجري لنا بعد الموت؛ فاسمع إلى هذه الحكمة من هذا الشاعر الذي يصف حال المؤمن والفاجر في حال الموت وما بعده، اسمع وانتبه، واعلم أنك المقصود بهذه الكلمات، لا تقل: أنا أفضل من غيري، ولا تقل: الحمد لله عندي بعض الأعمال الصالحات، فإن بعض الناس ليس بمسلم، وبعض الناس فاجر وكافر لا تقل هذه كلمات، واتهم نفسك بالتقصير، واتهم نفسك بالنفاق، واتهم نفسك بكل ما تتهم غيرك يقول هذا الشاعر: ذنوبك يا مغرور تحصى وتحسبُ وتجمع في لوحٍ حفيظٍ وتكتبُ وقلبك في سهوٍ ولهوٍ وغفلةٍ وأنت على الدنيا حريصٌ معذبُ تباهي بجمع المال من غير حله وتسعى حثيثاً في المعاصي وتذنبُ أما تذكر الموت المفاجيك في غدٍ أما أنت من بعد السلامة تعطبُ أما تذكر القبر الوحيش ولحده به الجسم من بعد العمارة يخربُ أما تذكر اليوم الطويل وهوله وميزان قسطٍ للوفاء سينصبُ تروح وتغدو في مراحك لاهياً وسوف بأشراك المنية تنكبُ تعالج نزع الروح من كل مفصلٍ فلا راحم ينجي ولا ثم مهربُ وغمضت العينان بعد خروجها وبسطت الرجلان والرأس يعصبُ قاموا سراعاً في جهازك أحضروا حنوطاً وأكفاناً وللماء قربوا وغاسلك المحزون تبكي عيونه بدمعٍ غزيرٍ واكفٍ يتصببُ ولربما يكون ابنك، ولربما يكون أخوك، ولربما يكون خليلك. وغاسلك المحزون تبكي عيونه بدمعٍ غزيرٍ واكفٍ يتصببُ وكل حبيب لبه متحرقٌ يحرك كفيه عليك ويندبُ وقد نشروا الأكفان من بعد طيها وقد بخروا منشورهن وطيبوا وألقوك فيما بينهن وأدرجوا عليك مثاني طيهن وعصّبوا وفي حفرة ألقوك حيران مفرداً تضمك بيداء من الأرض سبسبُ إذا كان هذا حالنا بعد موتنا فكيف يطيب اليوم أكلٌ ومشربُ وكيف يطيب العيش والقبر مسكنٌ به ظلماتٌ غيهبٌ ثم غيهبُ وهولٌ وديدانٌ وروع ووحشةٌ وكل جديدٍ سوف يبلى ويذهبُ فيا نفس خافي الله وارجي ثوابه فهادم لذات الفتى سوف يقربُ ولا تحرقن جسمي بنارك سيدي فجسمي ضعيفٌ والرجا منك أقربُ فما لي إلا أنت يا خالق الورى عليك اتكالي أنت للخلق مهربُ وصلِّ إلهي كلما بر شارق على أحمد المختار ما لاح كوكبُ اللهم أعز الإسلام المسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اللهم أعداء الدين. اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشدٍ يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر. اللهم من أراد بنا وبالإسلام والمسلمين سوءاً فأشغله في نفسه، واجعل تدبيره تدميره، واجعل كيده في نحره. اللهم آمنا في أوطاننا، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين. اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. أقول هذا القول، وأقم الصلاة.

أسباب هلاك الأمم

أسباب هلاك الأمم إن الله عز وجل قد أخبر في كتابه الكريم أنه أهلك أمماً وقرى كثيرة، فلم يبق لهم أثراً، بل صاروا أثراً بعد عين، وعبرة لمن اعتبر فما هي الأسباب التي أهلكهم الله تعالى لأجلها؟ هذا هو ما تحدث عنه الشيخ؛ فقد ذكر أسباباً كثيرة لهلاك الأمم، منها: الظلم، والترف، وكفر النعم، وكثرة المنافقين، وموالاة الكافرين، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفشو الربا، وخراب المساجد، وترك الجهاد، وظهور الفواحش ثم ذكر حديثاً جامعاً لأسباب هلاك الأمم.

هلاك الأمم بالذنوب والمعاصي

هلاك الأمم بالذنوب والمعاصي إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: أيها الإخوة المسلمون: معنا في هذه الخطبة نذير لنفسي ولإخواني المسلمين، وهي بعضٌ مِن الأسباب التي بها يدمر الله عز وجل القرى ويهلك الأمم. وكم وكم من القرون ومن الأمم ومن القرى أهلكها الله جل وعلا! فمنها قائم إلى الآن، ومنها حصيد حصده الله جل وعلا، فلا تجد منهم باقياً ولا أثر ولا نفساً منفوسة، أين هم؟ ذهبوا إلى الله جل وعلا، وأهلكهم الله تبارك وتعالى، ودمرهم ولَمْ يُبْقِ منهم أحداً، وهل هذا ظلم من الله جل وعلا؟! قال الله تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [هود:101] ما ظلم الله جل وعلا أحداً بل هم الذين ظلموا أنفسهم {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف:96]. وكم أهلك الله عز وجل من القرى ومن الأمم بذنوبهم وبمعاصيهم وبهذه الأسباب التي سوف نذكرها في هذه الخطبة، قال تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ} إنهم كثر {وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً} [الإسراء:17] الله جل وعلا لا تخفى عليه خافية، ولا يحابي أحداً على أحد، وهو العدل الذي إن أهلك أمة بسبب فإنه يهلك الأمم جميعاً بهذا السبب، وهذه هي مقتضى حكمته جل وعلا.

بيان أسباب هلاك الأمم

بيان أسباب هلاك الأمم فاسمع -يا عبد الله- إلى هذه الأسباب التي سوف نسردها في هذه الخطبة سرداً، ولولا ضيق الوقت لفصَّلنا فيها. وهذه الأسباب إن وجد منها سبب؛ فاعلم أن هذه القرية وهذا البلد وذلك المجتمع وهذه الأمة تنتظر الهلاك من الله جل وعلا، إنْ عاجلاً أو آجلاً.

الظلم

الظلم السبب الأول: الظلم: إن الظلم من أعظم الأسباب التي يهلك الله عز وجل بها القرى، قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102]. وكم يحصل في بعض الأمم وفي بعض القرى من الظلم ظلم الناس لربهم جل وعلا، وظلم الناس بعضِهم بعضاً، تجد كثيراً من العمال والموظفين ومن الأجانب ومن المغتربين من يمكث عدة أشهر ولا يحصل من مسئوله ومديره وكفيله على دينارٍ واحد، وكم جاءنا ممن يبكي بين أيدينا ويشتكي من كفيله الذي حرمه لقمة العيش لأولاده! يقول بعضهم: مكثت ستة أشهر ولم يعطنِي ديناراً واحداً، ولو اشتكيت عليه لهدَّدني بالسفر وبالرجوع والطرد إلى بلادي وكم هو الظلم الذي يحصل في بعض البلاد لصغار الناس والموظفين والعمال والمواطنين الذين لا يستطيعون أن يحصلوا على بعض حقوقهم فضلاً عنها كلها، إنه الظلم يا عباد الله! ومن أعظم الظلم ما يكون على المؤمنين الموحدين، وعلى الدعاة إلى الله جل وعلا، وعلى أولياء الرحمن، وإن وقع الظلم على هؤلاء فاعلم أن هذه القرية تحارب الله جل وعلا، وهذه القرية تنتظر بعث الله تبارك وتعالى يأتيها صباحاً أو مساءً، بياتاً أو هم قائلون، واسمع إلى قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً} [الكهف:59]. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله: "إن الدول تزول مع الظلم ولو كانت مسلمة"، ولو كان أهلها مسلمون، ولو كانوا مصلين، ولو كانوا راكعين، ولو كانوا ساجدين، فإنهم يزولون؛ لأن فيهم الظلم. عباد الله: إياكم إياكم والظلم! فإن الله تعالى حرم الظلم على نفسه وجعله بين عباده محرماً.

الترف وكثرة النعم

الترف وكثرة النعم السبب الثاني: الترف وكثرة النعم: تجد بعض الناس يلبس من الملابس، ويسكن من القصور، ويركب من المراكب، ويسكن في الأثاث الوثير الذي لا يعقله عاقل ولا يستحسنه إنسان عنده مَسْكَة مِن عقل اسمع كيف يؤدي الترف بكثير من الناس إلى الفجور والعصيان والفسوق، حتى إنه لَمَّا يسكن في قصره البهيِّ، ويركب مركبه الفاخر؛ ينسى دين الله جل وعلا، وينسى أوامر الله ولا يرضى ولا يقبل أن يُؤمَر بمعروف أو يُنهَى عن منكر. قال الله جل وعلا: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً} [الإسراء:16] أي: إذا أردت أن تعرف أن هذه القرية أراد الله أن يهلكها فاسمع إلى هذه العلامة: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} [الإسراء:16] أمر الله المترفين بأداء الزكاة، بإقام الصلاة، بالستر والعفاف، أمر الله المترفين بالحكم بكتابه، وبطاعة نبيه عليه الصلاة والسلام {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} [الإسراء:16] أي: عارضوا أمر الله، وعاندوا شرع الله جل وعلا لا تنظر إلى الفقراء، لا تنظر إلى المساكين، لا تنظر إلى الضعفاء؛ فهم أتباع الرسل، وهم يتَّبعون أمر الله، وإذا أردت أن تعرف أمر هذه القرية هل هو إلى زوال أو إلى بقاء فانظر إلى المترفَين، وانظر إلى الملأ الأعلى، وانظر إلى الأغنياء هل هم على شرع الله؟ هل يقيمون حدود الله؟ {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [الإسراء:16] أتعرف ما هو القول؟ إنه قول العذاب وكلمة العذاب والعياذ بالله!

كفر النعم

كفر النعم السبب الثالث من أسباب هلاك الأمم ودمار القرى وفسادها: كفر النعم: تجد بعض الناس يُنعم الله عليه فلا يَشكر الله تعالى، ينعم الله عليه فينسى حق الله عز وجل عليه في هذه النعمة، قال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} [النحل:112] وهما مقترنان، فكثير من الناس وكثير من الأمم لَمَّا أذاقها الله لباس الجوع ولم ترجع أذاقها الله لباس الخوف، وكثير من القرى لَمَّا أذاقها الله لباس الخوف فذهب الأمن وذهبت الطمأنينة ولم ترجع أذاقها الله لباس الجوع {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112] إنه بسبب كفر النعمة يا عباد الله! {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7] يحصل الواحد منهم على الملايين، بل على المليارات ولا يؤدي زكاة أمواله، ولا يُعطِي النفقة من ماله، ولا يُطعِم المسكين، ولا يُنعِم على اليتيم، ولا يُؤدِّي حق الله عز وجل في أمواله.

كثرة المنافقين

كثرة المنافقين السبب الرابع من أسباب هلاك الأمم ودمار القرى وهلاك المجتمعات: كثرة المنافقين الذين يتولَّون زمام الأمور، ويُنَصَّبُون ويتولَّون أمور المؤمنين: المنافقون الذين يُظهرون الإسلام ويبطنون الكفر ومحاربة أولياء الرحمن، ويحاربون الدعاة إلى الله والعلماء وطلبة العلم والمتدينين ويتظاهرون بالإسلام، ثم مع هذا يتولَّون أمور المؤمنين، ويتولَّون زمام شئونهم، قال عليه الصلاة والسلام: (إذا وُسِّد الأمرُ إلى غير أهله -أي: أُعطِي الزمام من لا يستحقه- فانتظر الساعة) قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} [البقرة:11 - 12] يتظاهرون بالإصلاح، بل يقوم بعضهم ويقول للناس: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26] يا قوم! أخاف من الفساد، أخاف أن يهلكوا هذه الأمة، أخاف أن يمزقوا المجتمع، أخاف أن يظهروا فيها الفساد، أخاف أن يغيروا دينكم؛ ولهذا قتلتُهم، ولهذا سجنتُهم، ولهذا طردتُهم، ويتظاهر المنافق بأنه يحمي هذا الدين ويحمي حوزته، ويخطب في الناس ويزعم أنه يحافظ على دينهم وعلى كرامتهم وهذه من علامات فساد هذه الأمة وزوالها ودمارها يا عباد الله!

موالاة الكافرين

موالاة الكافرين السبب الخامس: أنك تجد أهل هذه القرية وأهل هذا المجتمع يوالون الكفار ولا يوالون المؤمنين: تجدهم يوالون أعداء الله جل وعلا، ويفتخرون بنصرتهم وبإعانتهم، ويحاربون أولياء الله جل وعلا، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال:73] أي: إن الكفار هم الذين يتولون بعضُهم بعضاً {إِلَّا تَفْعَلُوهُ} [الأنفال:73] أي: إلاَّ يوالي بعضُكم بعضاً، ويوالي عباد الله المؤمنين، ويوالي الدعاة والمصلحين، ويوالي أهل العلم وأهل التقوى وأهل الصلاح: {إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:73] فساد يعم الأرض والمجتمع، فساد يعم القرى، فتنة تدمر الشعوب وتمزق صفوفها؛ لسبب واحد وهو أنهم والَوا أعداء الله وتركوا عباد الله، النفقات والصدقات والمعونات والإعانات كلها لمن؟ للكفار من الشعوب، لأعداء الرحمن، أما المسلمون فإنهم يموتون من الجوع، ويَهْلَكون من العُري، يطلبون ديناراً واحداً فلا يصلهم، وتُقْطَع الطرق وتُمْنَع عنهم، ولاءً لأعداء الله وبراءً من أولياء الله.

ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر السبب السادس: ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: إن من أسباب هلاك الأمم ودمارها وفسادها: ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والله جل وعلا يقول: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25]. وكلٌّ منكم -يا عباد الله- يعلم حديث سفينة المجتمع، التي أخبر عليه الصلاة والسلام بأن جميع مَن فيها من الصالحين والفُجَّار يَهْلَكون إذا ترك الدعاةُ إلى الله الأمرَ بالمعروف والنهيَ عن المنكر فقال: (إن أخذوا على أيديهم) أي: منعوهم، ولم يتركوهم يفعلون المنكرات، بل دخلوا عليهم في قعر دارهم، وأمروهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر، وتجرءوا فقالوا للظالم: أنت ظالم، وقالوا لصاحب الخطيئة: أنت مخطئ، وقالوا لصاحب المنكر: يا صاحب المنكر كف عن منكرك، إن تجرءوا على هذا، قال: (نجوا ونجوا جميعاً، وإن تركوهم) قال هذا: ليس لي دخل، وقال ذلك: أخاف على أموالي وأهل بيتي، وقال الثالث: أخجل أن أتكلم، وقال الرابع: هذا بيد ولاة الأمور، وقال الخامس والسادس والسابع كذلك، ثم جلسوا في بيوتهم: (هلكوا وهلكوا جميعاً).

فشو الربا

فشو الربا السبب السابع: فُشُوُّ الربا: إذا ظهر الربا في قرية في أمة في مجتمع؛ فاعلم -يا عبد الله- أنه في انتظار الحرب من الله جل وعلا، حربٌ بالكوارث، حرب بالسنين، حرب بالقحط، حرب بالديون، حرب بتسليط الأعداء على هذا المجتمع وعلى تلك القرية، والله جل وعلا يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:278] ولو كان ديناراً، ولو كان درهماً، ولو كان فلساً واحداً، فكيف بالملايين من الربا؟! كيف بالبيوت التي تُغْنَى في كل يوم من الربا؟! كيف بالمعاملات التي تؤسَّس على الربا؟! كيف بإجبار الناس على الربا؟! {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279] اعلموا وائذنوا وانتظروا حرباً من الله، ومَن مِنَّا يقوى على الحرب من الله؟! عباد الله: إن الأمة والشعب والمجتمع يخافون من حرب الدول، وحرب ولاةٍ مِن أمثالهم، وحرب بعض القرى القوية، فكيف إذا كانت الحرب من الله جل وعلا تنزل من فوق سبع سماوات؟! وكيف تظنون كيفية حرب الله؟! إن الله عز وجل أهلك أمماً بصيحة من مَلَك. واللهُ جل وعلا أرسل الريح فدمرت قرى. واللهُ تبارك وتعالى لَمَّا أذن للماء أن يطغى طغى، فإذا به يغطي أمماً وشعوباً كانت بالأمس موجودة، أما اليوم فقد زالت من الوجود. واللهُ جل وعلا جنودُه ما يعلمها إلا هو. واللهُ تبارك وتعالى قوته لا تعدلها قوة. واللهُ جل وعلا إذا حارب قوماً فلا لا طاقة لهم بمحاربة الله. {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} [البقرة:279] أي: بترك كل دينار من الربا {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279] كيف والمجاهرة في هذا الأمر موجودة! تفتح الصحف والجرائد فإذا بمؤسسات وشركات وأفراد ومنفذين يدْعُون شعوبَ الإسلام وعبادَ الرحمن إلى التعامل بالربا، ويسهِّلون لهم الأمر ويغرُونهم لمحاربة الله عز وجل ورسوله، وقد قال عليه الصلاة والسلام في هذا الأمر: (ما من قوم يظهر فيهم الربا إلا أخذوا بالسنين) أي: بالقحط، وبالدَّين، يصبح الإنسان وراتبه ألف دينار، لكن يأتي آخر الشهر وقد استدان من الناس إلا أُخِذوا بالسنين يا عباد الله!

تخريب المساجد وهدمها

تخريب المساجد وهدمها السبب الثامن: تخريب المساجد وهدمها: ومن أسباب زوال الأمم ودمار الشعوب وهلاك القرى: تخريب المساجد وهدمها؛ فإنك ترى هذه القرية وذلك المجتمع يدمرون المساجد ويخربونها ويهدمونها على رءوس أصحابها. قال الشوكاني: والتخريب نوعان: تخريب حسي؛ أن تُهَدَّم المساجد وتُخَرَّب. وتخريب معنوي: أتعرفون ما هو التخريب المعنوي؟ أن تُعَطَّل عن أهدافها، فتُمْنَع المحاضرات، وتُمْنَع الدروس، وتُقْفَل أبوابها، ويُمْنَع الناس من الجلوس فيها، وذلك لغير مصلحة شرعية، قال الله جل وعلا: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ} [البقرة:114]. بل سمعنا عن بعض البلاد التي تزعم الإسلام وتتظاهر بشريعة الرحمن أنهم يقفلون المساجد حتى عن بعض الصلوات، فيقفل المسجد عن صلاة الفجر، فليس هناك صلاة الفجر، ومَن أراد أن يصلي الفجر فليصلِّ في بيته، ولا تذكر الله عز وجل في بيت الله، ويكفيك جريمةً وإثماً وعقوبةً أنك تتحلق مع اثنين أو ثلاثة لتقرءوا القرآن في بيت الله جل وعلا! هذه جريمة أعظم حتى من الزنا! وأعظم حتى من الفواحش التي لا يؤخذ على أيدي الناس فيها!

ترك الجهاد في سبيل الله

ترك الجهاد في سبيل الله السبب التاسع: ترك الجهاد في سبيل الله: فإذا تُرِكَ الجهاد في سبيل الله فاعلم أن القرى والأمم في طريقها إلى الذل والهلاك والدمار، قال الله جل وعلا: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195]. قال أبو أيوب في تفسيرها، هذا الصحابي الجليل يقول: [نزلت فينا معشر الأنصار، لَمَّا جاهدنا في سبيل الله، ونصر الله هذه الأمة وهذا الدين، قلنا: لو لجأنا والتفتنا إلى ضِياعنا ومزارعنا فأصلحنا ما فيها، فأنزل الله جل وعلا: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195]]. بل قال عليه الصلاة والسلام: (إذا تبايعتم بالعِينة، واتبعتم أذناب البقر -أي: انشغل الناس بالربا وبالزروع- وتركتم الجهاد في سبيل الله؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم). ذل وهلاك ودمار وفساد وبوار للمجتمعات إذا تركوا الجهاد في سبيل الله، إذا تركوا دينه ولم ينصروه، ورضوا بالزروع وبالتجارات وبالمحلات وبالشركات وبالأثاث وبالبيوت، رضوا بالدنيا وركنوا إليها، وتركوا جهاد المال واللسان والنفس؛ فإن الله عز وجل يسلط عليهم ذلاً لا ينزعه عنهم حتى يرجعوا إلى دينه. أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم.

ظهور الفواحش

ظهور الفواحش الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. أما بعد: أيها الإخوة المسلمون: السبب العاشر من أسباب هلاك الأمم ودمارها: ظهور الفواحش فيها. قال عليه الصلاة والسلام: (لا إله إلا الله! ويلٌ للعرب من شر قد اقترب، فُتِحَ اليوم من ردم يأجوج ومأجوج قدر هكذا -وحلق بالسبابة والإبهام- فقالت له إحدى زوجاته: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟! -فينا مصلون، فينا رُكَّع سُجَّد، فينا من يقرأ القرآن، فينا من يحضر حلق العلم والذكر- قال: نعم. إذا كثر الخَبَث). أتعرفون ما هو الخبث؟ قال ابن حجر عليه رحمة الله: الخبث هو الزنا، وأولاد الزنا، والفواحش، والفجور، أن ينتشر الزنا، حتى إنك تجد كثيراً من اللقطاء في الشوارع طفل عند باب المسجد، طفل في أحد الشوارع، طفل في المستشفى لا يُعْرَف مَن أمه ولا مَن أبوه، بل تشتهر بعض البيوت بالفواحش والدعارة، وأسبابها من المغنين والمغنيات والمطربين والمطربات، والمطربون يُجْلَبون إلى هذه البلاد وغيرها من البلاد لنشر الفاحشة والدعارة، والغناء كما قال بعضهم: بريد الزنا. قال عليه الصلاة والسلام: (سيظهر في هذه الأمة خسف وقذف ومسخ، قالوا: متى يا رسول الله؟ قال: إذا ظهرت القِيان -أي: إذا كثرت المغنيات- والمعازف، وشُرِبَت الخمور). عباد الله: إن بلاد الغرب والشرق الآن يعانون من انتشار الزنا والفواحش، بل إن هذه البلاد تشتكي من مرض ابتلاهم الله عز وجل به، يسمى: مرض الإيدز؛ بسبب نشرهم للإباحية وللفجور وللدعارة، يقال: إن هذا المرض يقتل قتلاً بطيئاً يصبح الرجل معه كالمجنون على الفراش، ثم يتلوث ولا يستطيع أن ينجي نفسه، ثم يصبح يهذي ولا يعرف ما يتكلم به، ثم يُشَل الجسد، ويصبح معتوهاً مجنوناً، ثم يموت موتاً بطيئاً وهو على فراش الموت، لا يستطيع قريب ولا صاحب أن يقترب منه، وهذا المرض -يا عباد الله- يقولون في الإحصائيات: إنه سوف يأتي عام 2000م ويُقَدَّر مَن يصاب بهذا المرض بأربعين مليوناً، أربعون مليوناً يصابون بهذا المرض.

حديث جامع لأسباب هلاك الأمم

حديث جامع لأسباب هلاك الأمم واسمع -يا عبد الله- إلى هذا الحديث الجامع المانع لأسباب هلاك الأمم ودمار القرى وفساد المجتمعات، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معشر المهاجرين! خمس إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن -اسمع لهذه الخمس الجامعة المانعة التي تشمل هذه الأسباب السابقة كلها- قال: لََمْ تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها) حتى يصبح الأمر في الجرائد، حتى يصبح الأمر مِن الدعوة لأسباب الزنا، والحفلات الغنائية، وعروض الأزياء، والأغاني، والأفلام الماجنة، يصبح الإعلان فيها في كل ملأ، بل على الصفحات، وعلى البيوت، وعلى الجدران، إذا أعلنوا بها؛ قال: (إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم) وهل سمعنا بالإيدز من قبل؟! وهل سمعنا بهذه الأمراض من قبل؟! {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]. ثم قال: (ولم ينقصوا المكيال والميزان -أي: يتعاملون بالربا، ويتعاملون بالغش، ويأخذون حقوق الناس ويظلمونهم- إلا أخذوا بالسنين، وقلة المئونة، وجور السلطان عليهم) ثلاث عقوبات: الأخذ بالسنين، أي: القحط. وقلة المئونة، يصبح الرجل عنده مال لكن لا يستطيع أن يحصل على شيء، وجور السلطان، أي: ظلم السلطان عليهم. والثالثة: (ولم يمنعوا زكاة أموالهم) عنده ملايين ولا يخرج بعض الدنانير، ولا يخرج زكاة أمواله، بخيل، مقتر، ويمنع حق المسلمين وحق الفقراء، قال: (إلا منعوا القطر من السماء) ليس هناك مطر، ولا أريد أن أدلل لك على هذا الأمر، ولا أريد أن أخبرك أن الشمس قد طلعت، وأن أدلل لك بأن الجو الآن هو في النهار، لا أريد أن أخبرك بهذه الأدلة، فهذا أمر بَدَهِي، قال: (ولولا البهائم لم يمطروا) قد يمطرون؛ لكن لأجل البهائم وليس لأجلهم. والرابعة: (ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله، إلا سلط الله عليهم عدواً من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم) يسلط الله عزَّ وجلَّ عليهم الأمم الظالمة والطاغية والكافرة؛ فتسلب ما في أيديهم، وتسلب أموالهم، وتنتهك أعراضهم، وتدمر بيوتهم، وتخرجهم من أراضيهم، ما هو السبب؟ إن السبب هو أنهم نقضوا عهد الله وعهد رسوله عليه الصلاة والسلام. وهل من عهد -يا عباد الله- أن نبني هذه البنوك الربوية؟! وهل من عهد الله وعهد رسوله أن نأتي بفِرَق ماجنة داعرة عاهرة لتطرب الناس وتزمر وتفعل الفواحش؟! وهل من عهد الله -يا عباد الله- أن ندعو الناس لأن يجلسوا وينظروا إلى النساء وهن عاريات إلى قريب من السوأتين وما حولها ويسمونها عروض أزياء؟! هل من عهد الله -يا عباد الله- أن نترك شريعة الله خمس أو ست سنين ولم نطبق منها شيئاً؟! هل هذا من عهد الله يا عباد الله؟! قال صلى الله عليه وسلم آخر الحديث: (وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل الله بأسهم بينهم) فتنة المجتمع، يضرب بعضُهم بعضاً، تصير فتنة أحزاب، وجماعات، ومذاهب، وقتال داخل المجتمع، ما السبب يا رسول الله؟ قال: (وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل الله بأسهم بينهم) مَن الذي يريد الآن أن يمزق المجتمع؟ مَن الذي يريد الآن أن يشق الصفوف؟ مَن الذي يريد أن يظهر الفتن؟ قال: (وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل الله بأسهم بينهم) الذي لا يريد أن يحكم بكتاب الله، الذي يضع العراقيل والمعوقات لأجل ألا يُحْكَم بكتاب الله، خذوا على يديه فإنه هو الذي يريد أن يمزق المجتمع، وهو الذي يريد أن يشق الصفوف، فهل يرضى الغيورون؟ وهل يرضى الرجال؟ وهل يرضى أولو الدين والعفة والمروءة أن يسمحوا لأولئك أن يأتوا بمغنين ومغنيات؟! أو أن ينشروا الفساد في المجتمع؟! لا بد أن يقوموا فيأخذوا على أيديهم، ولا بد أن يقوم أولئك الظلمة الفجرة فيردُّوا عليهم ثم تكون الفتنة، {أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة:49]. عباد الله: هذه هي أسباب هلاك الأمم ودمار القرى، واعلموا أن الله جل وعلا إذا أهلك فإن هلاكه شديد، وإن أخذه أليم، وإن عقوبته كبيرة ليست كعقوبة البشر. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اللهم أعداء الدين. اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد، يُعَزُّ فيه أهل طاعتك، ويُذَلُّ فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، ويُنْهَى فيه عن المنكر. أقول هذا القول. وأقم الصلاة.

قوم صالح

قوم صالح في قصص الأنبياء مع أقوامهم عظة وعبرة، ومن أهم تلك الأمم قوم صالح، فإنهم كذبوه، وعتوا عن أمر ربهم، فأخذهم الله، وهكذا من عصى الله، وفي هذه الخطبة يذكر الشيخ ذلك

قصة قوم عليه السلام

قصة قوم عليه السلام الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. أما بعد: أيها الإخوة الكرام! لقد أعطى الله عز وجل قوم صالح من الخيرات العظيمة والأمن والنعيم والرفاهية ما لم يؤت أحداً من العالمين في ذلك العصر؛ لكنهم كفروا بالله، وجحدوا أمره، وعبدوا غيره، ولم يشكروه جل وعلا، فأرسل إليهم صالحاً نذيراً.

تذكير صالح لقومه بالله وتكذيبهم له

تذكير صالح لقومه بالله وتكذيبهم له إنه صالح عليه السلام، نبي عربي أرسله الله جل وعلا لينذر قوماً هو منهم وفيهم، ينذرهم عذاب الله جل وعلا، فجاءهم صالح فقال: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59] وهي دعوة الرسل والأنبياء، بل هي بداية الدعوات، هي نبذ الشرك، وتوحيد الله جل وعلا: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59] جاءوا لصالح عليه السلام {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا} [هود:62] كنا نظن أن فيك عقلاً قبل هذه الكلمات، كنا نحسن فيك الظن بأنك حكيم قبل هذه الدعوة، أما الآن فأنت مجنون، {قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [هود:62] أتنهانا عن عبادة ما عبد الآباء والأجداد والقبيلة {وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} [هود:62]؟! وجاءوا مرة أخرى وقالوا له: {إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} [الشعراء:153] أي: سحرك الجن، أو سحرك بعض الناس فجئت بهذه الدعوة. انظروا السب! انظروا الشتم! انظروا الاتهام! ما رد عليهم إلا بكلمات فيها الشفقة والرحمة، قال: يا قوم! -انظروا إلى الخطاب! - {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ} [الشعراء:146] يا قوم! أتظنون أن الأمن يستمر؟! يا قوم! أتظنون أن نعمة الأمن والطمأنينة تستمر عليكم أبد الدهر؟! {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} [الشعراء:146 - 148] أتظنون كل هذه النعمة دائمة وباقية وأنتم تكفرون بالله؟! لا تحكمون فيما بينكم بشرع الله؟! ولا تتحاكمون إلى الله؟! وهذه الكلمات إن دلت فإنما تدل على الشفقة. ثم ذكَّرهم بالبيوت: {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وأَطِيعُون} [الشعراء:149 - 150] أي: خافوا الله واخشوه. انظروا إلى الكلمات كيف خرجت من هذا القلب الرحيم! ولكنها سرعان ما تقابَل بالاتهام وبالشتم: {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} [الشعراء:153].

قوم صالح يطلبون معجزة ثم يكفرونها

قوم صالح يطلبون معجزة ثم يكفرونها جاءهم في يوم من الأيام وكانوا جلوساً في نادٍ من نواديهم، فأمرهم بعبادة الله، فخرج أحدهم فقال: يا صالح! تريد منا الإيمان؟ قال: نعم. آمنوا بالله وحده: {لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} [الأنعام:90] لا أريد المال ولا المنصب، ولا الزوجة ولا البيت، ولا أريد شيئاً منكم، أريد منكم أن تنقذوا أنفسكم من النار. قالوا: يا صالح! نؤمن لك بشرط واحد. قال: وما هو؟ قالوا له: أخرِج لنا من هذه الصخرة ناقة عشراء، أي: ناقة في بطنها جنين. ثم ماذا؟ وفيها لبن يكفي القرية كلها، وكان في القرية ما يقارب خمسة آلاف بيت، وفي كل بيت مجموعة من الأفراد. قالوا: وتؤمنوا؟ قالوا: نعم نؤمن. قال: وعد بينكم وبين الله؟ قالوا: نعم وعد بيننا وبين الله. فقام صالح عليه السلام يصلي، ويرفع يديه إلى الله، ويدعو ربه جل وعلا، فإذا بالناقة تخرج أمام أعينهم مبصرة، فخرجت هذه الناقة من الصخرة، وفي بطنها جنين، {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} [الإسراء:59] أي: أمام الأعين والناس ينظرون، فانبهروا، وآمن كثير من الناس، ولكن الأكثر منهم كفر، وغالبهم ظلموا أنفسهم: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا} [الإسراء:59]. قال: يا قوم! آمنوا، هذا وعد بينكم وبين الله. ولكن طبيعة الناس أنهم يعِدُون الله، فلما يأتيهم بالآيات والبينات يكفرون ويظلمون، ويفجرون ويجحدون {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103]. فأخذ يدعوهم ويلح عليهم، يقول: هذه ناقة الله، ناقة شريفة، أضيفت إلى الله جل وعلا، لم تخرج كما خرجت النوق، إنما خرجت من صخرة، فهي ناقة مشرفة: {لَهَا شِرْبٌ} [الشعراء:155] أي: يوم لا تشربون شيئاً من البئر، ولا تشرب ماشيتكم {وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء:155] أي: وأنتم تشربون في اليوم الآخر. مرت الأيام فجاءت بغيٌّ من بغايا قومه -وانظروا إلى النساء وكيدهن! - أهلك الله هذه القرية بسببها، فجاءت إلى رجل فقالت: أمكنك من نفسي بشرط واحد. قال: وما هو الشرط؟ قالت له: أن تقتل هذه الناقة، وكان قد قال لهم صالح: {وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ} [هود:64] أي: لا تعترضوا لها بسوء {فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ} [هود:64] وقال: {أَلِيمٌ} [الأعراف:73] وقال: {عَظِيمٍ} [الشعراء:156] كل هذه الأوصاف أوصاف لذلك اليوم، فجاءت البغي واشترطت على عشيقها أن يقتل هذه الناقة، وجاءت امرأة عجوز كافرة لها أربع بنات قالت: مَن يقتل هذه الناقة فإني أخيره من هذه البنات الأربع.

قتلهم الناقة ونزول العذاب عليهم

قتلهم الناقة ونزول العذاب عليهم فقام كدار المسالك ومعه أشقى القوم، وجمعا سبعة من أصدقائهما في تلك القرية كما قال الله جل وعلا: {تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} [النمل:48] اثنان ومعهم سبعة، فاجتمعوا على هذه الناقة، فرموها بالنبال، فسالت الدماء، ثم حزوا رأسها وقطعوها، فرغت رغاء سمعه كل من كان بحولها، فسمع ابنُها هذا الرغاءَ فولَّى وهرب، قال بعض المفسرين: دخل في الصخرة التي خرج منها، وقال بعضهم: بل تبعوه وقتلوه كما قتلوا أمه، فرغى ثلاث مرات. فنظر صالح عليه السلام إلى ناقة الله، نظر إليها ميتة مقتولة، فبكى صالح عليه السلام بكاءً شديداً مراً، وأشفق على قومه فقال لقومه: أدركوا ولدها لعل الله أن يتوب عليكم، أدركوا ولدها، فلحقوا ولدها فإذا هو مقتول كما قتلت أمه، فنظر صالح وبكى، وقال لقومه: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ} [هود:65] ثلاثة أيام لا تعيشون بعدها، ويأتيكم عذاب الله جل وعلا. فنظروا إلى صالح وكانوا يعلمون أنه صادق. فلما جاءوا اليوم الأول يوم الخميس وأصبحوا فإذا الوجوه كلها مصفرَّة، وجوه القوم كلها قد اصفرَّت وقد جفت العروق، فنظروا إلى بعضهم بعضاً فلما أمسوا قال قائلهم: ألا قد ذهب يوم من الأجل، ألا قد ذهب يوم من الأجل! فلما أصبحوا في يوم الجمعة إذا وجوههم كلها قد احمرَّت، وعلموا بقرب الموعد، فلما أمسوا قالوا: ألا قد مضى يومان من الأجل، ألا قد مضى يومان من الأجل! فلما جاء اليوم الثالث أصبحوا وقد اسودَّت الوجوه، فلما أمسوا قال قائلهم: ألا قد مضى الأجل، ألا قد مضى الأجل! فحفر كل واحد في غرفته قبره، وجلس فيه، وتحنط، وتكفن، وانتظر وعد الله جل وعلا، وقبل الفجر أوحى الله لصالح: اخرج أنت ومن آمن، وما آمن معه إلا قليل من قومه، قال بعضهم: مائة وعشرون فقط، كل هذه السنين لم يؤمن مع صالح إلا مائة وعشرون نفساً، وبقي خمسة آلاف بيت، كلهم كفروا بالله، قال: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود:65]. فلما جاء اليوم الرابع وقد انتهت المدة ومضى الأجل، أصبحوا وقد وبزغ الفجر، وإذا بهم يسمعون صيحة من السماء، والأرض ترجف تحتهم، فإذا بأنفسهم كلها قد زهقت وخرجت إلى الله، وقد تقطعت القلوب: {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ} [هود:67 - 68] عارضوا أمر الله، وعصوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكفروا بربهم جل وعلا، ولم يحكموا بينهم بما أنزل الله، بل عبدوا غيره ولم يشكروه جل وعلا. فإذا بالجنات، وبالعيون، وبالأنهار، وبالبيوت الفارهة، وإذا بالقصور كلها {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} [هود:68] تمر على ديارهم -وهي موجودة إلى هذه اللحظة- فترى أثر اللعنة، وأثر الغضب على بيوتهم، بل مر عليه الصلاة والسلام على بيوتهم في غزوة تبوك، فسمع أن بعض الصحابة قد ذهب مسرعاً ليرى قصورهم وبيوتهم قد نحتت في الجبال، فنهاهم عليه الصلاة والسلام وقال: (لا تدخلوها إلا وأنتم باكون، فإن لم تبكوا فتباكوا؛ أن يصيبكم ما أصابهم) أي: لعله يصيبكم العذاب الذي أصابهم، فإن اللعنة قد نزلت في ديارهم، وإن غضب الله قد حل بهم. يقال: إن رجلاً من قبيلتهم قد نجا، تعلمون لِمَ؟ لأنه كان وقتها في حرم الله جل وعلا، كان يعبد الأصنام في بيت الله الحرام، وكرامة لهذا البيت لم تأخذه الصيحة، فلما مرت الأيام -ويقال له: أبو رغال - خرج من حرم الله، فلما خرج أصابته الصاعقة، فإذا به يخر على الأرض صريعاً، حتى مر عليه الصلاة والسلام في غزوة حنين بثقيف، وثقيف هؤلاء جدهم أبو رغال، فلما مر بهم قال لهم: (قبر مَن هذا؟ قالوا: قبر جد من جدودنا، قال: هذا قبر أبي رغال، هذا الذي نجا من قوم صالح، وعلامته: أن تجدوا في قبرة غصناً من ذهب) فتناهشه القوم، فأخرجوا ذلك الغصن، صدقاً لنبوته عليه الصلاة والسلام. عباد الله! هذه القصة فيها من العبر الكثيرة ما سوف نرجئه إلى الخطبة الثانية. أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

العبرة المأخوذة من قصة صالح عليه السلام

العبرة المأخوذة من قصة صالح عليه السلام الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. أما بعد: أيها الإخوة الكرام، ما الذي جرى لقوم صالح؟! لقد أنعم الله عليهم بالنعيم الكثير، والأمن، والطمأنينة، والرفاهية، والأموال، والذهب، والفضة؛ ولكنهم وللأسف نسوا أمر الله، حتى أوحى الله عز وجل إلى صالح أن يذكِّرهم ألا تنسوا عذاب مَن كان حولكم: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ} [الأعراف:74] أي: جعلكم الله أحياءً وقد أهلك القرى مِن حولِكم، ألا ترون مَن حولَكم كيف يُعذَّبون! وكيف يُهلَكون! وكيف يموتون جوعاً! وكيف يُهلَكون بالعذاب! وأنتم في أمن ونعيم وطمأنينة؟! {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً} [الأعراف:74] أي: فتذكَّروا نعيم الله؛ ولكنهم عصوا أمر الله، وردوا دينه، وعصوا رسله، واتبعوا الشهوات والملذات. فهاهم قوم ثمود يكفرون بالله! وهاهم قوم لوط يأتون الفاحشة؛ يأتون الرجال من دون النساء! وهاهم قوم شعيب يطففون المكيال والميزان! وهاهم بعض هذه الأمة يَجْمَعون معاصي الأمم كلها: فهم ينشرون الربا، ويبارزن الله عز وجل به! وهاهم ينشرون الفواحش في كل طريق! وهاهم يتركون أمر الله، ولا يحكمون شرع الله! وإن مرض مريضهم لجئوا إلى غيره جل وعلا! وإذا أصابتهم مصيبة دعوا غيره سبحانه وتعالى، واستعانوا بسواه جل وعلا! وهاهم قد جمعوا ذنوب الأمم السابقة كلها! وقد توعَّدهم عليه الصلاة والسلام بالخسف، والقذف، والمسخ، كما حصل للأمم السابقة. عباد الله! بعد أن أهلك الله قوم صالح جاءهم صالح عليه السلام، ونظر إلى القرية، وإلى أبناء عمومته، وإلى أهليه وأقربائه، وكلهم صرعى جاثمون، وكلهم هلكى في بيوتهم، فأخذ يكلمهم: سبحان الله! صالح يكلمهم وهم يسمعونه وهم أموات يسمعون صالحاً، أتعرفون ماذا قال لهم؟! {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:79] أي: فلا تلوموني، فقد نصحتكم، وذكَّرتكم، وأمرتكم، ونهيتكم، وقرأت لكم آيات الله، وحذَّرتكم من الشرك والفواحش، وحذرتكم من ترك أمر الله، واجتناب نهيه {وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:79]! يا قومِ إياكم أن تلوموني، نعم. أنا ابن عمكم، وأنا من قريتكم وقبيلتكم {وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:79]! عباد الله! إن المجرمين في قوم صالح تسعة؛ ولكن الله أهلك بسببهم خمسة آلاف بيت، قال تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} [النمل:50 - 51] لِمَ يا رب، القوم أجمعين؟! لِمَ يا رب، أهلكت الناس كلهم؟! لأنهم سكتوا عنهم، لأنهم رضوا بفعلهم، وما أخذوا على أيديهم، فأغرقت السفينة بمن فيها. {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} [النمل:51] وانظر إلى القرية، وإلى القبيلة، وإلى القوم! {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} [النمل:52] حتى إنك إذا مررت بها في هذا الزمن، فوالله الذي لا إله غيره! لكأنك تظن القوم قد هلكوا في الأمس القريب، وإذا مررتَ بهم فلكأنك ترى أثر اللعنة تنزل، وإذا مررت بديارهم فكأنك تسمع صياحهم، عبرةً لمن بقي من الناس، وعظة لمن يأتي مِن بعدِهم. عباد الله! هذه القصة لا تمر بنا تسلية، ولا قضاءً للأوقات، إنما هي عبرة للأمم، وإنما هي موعظة للأجيال؛ حتى يتذكروا. إذا عصوا الناس أمر ربهم، وجاهروا بالمعصية، وظهر فيهم الربا، والزنا، وعطَّلوا شرعه جل وعلا، ودعوا غيره، فليعلموا وليبشروا بعذاب الله جل وعلا يصيبهم كما أصاب مَن قبلَهم. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اللهم أعداءك أعداء الدين. اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، المسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.

§1/1