دروس للشيخ مصطفى العدوي

مصطفى العدوي

أباطيل الشيعة

أباطيل الشيعة أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بافتراق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، وقد نتج عن هذا الافتراق ظهور طائفة من أخبث الطوائف وأشدها على أمة الإسلام ألا وهي الشيعة، ومن أبرز عقائدهم التي يخالفون بها عموم أمة الإسلام: الرجعة والتقية ومهديهم المنتظر ونحو ذلك، ولابد على المسلم أن يطلع على شيء من عقائد هذه الطائفة وأباطيلها حتى يكون على بينة.

أباطيل الشيعة

أباطيل الشيعة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد الأمين، وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين. وبعد: فإن نبينا محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم خرج ذات ليلة على أصحابه فوجدهم قد صلوا المغرب منتظرين لصلاة العشاء، فقال صلى الله عليه وسلم لهم: (ما زلتم هاهنا؟ قالوا: ما زلنا هاهنا يا رسول الله! قال: ما زلتم هاهنا؟ قالوا: ما زلنا هاهنا يا رسول الله! قال: ما زلتم هاهنا؟ قالوا: ما زلنا هاهنا يا رسول الله! فنظر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى السماء وإلى النجوم التي فيها وقال: النجوم أمنة السماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما توعد). وأخبر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن أمته ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة، فقال صلى الله عليه وسلم: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة)، ولابد أن يعرف المسلم هذه الفرق، كما ورد عن أمير المؤمنين عمر أنه قال: (تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية)، فإذا نشأ في المسلمين من لا يعرف الجاهلية حكم على المسلمين بالكفر وبالضلال، نتيجة أنه لم يعلم أمور الجاهلية التي كانت فيها، بل تجد كثيراً من الناس قد يصحب فرقة من تلك الفرق التي في حديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة)، يصحبون هذه الفرق على أنها بعض العاملين للإسلام، برزوا في جانب وقصروا في جانب آخر! وهذا الفهم فهم رديء، وستتضح الآن أنواع الفرق التي تعددت في الإسلام، والتي ينسحب عليها حديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بجلاء، حتى يُقرّ الحق في مكانه، ويحكم على كلٍ بما يستحق. * نظرة تاريخية في افتراق أمة محمد صلى الله عليه وسلم: الأمر على ما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فافترقت أمته بعد موته صلى الله عليه وسلم مباشرة، اختلفت أمته بعض الاختلافات الطفيفة، ثم بدأت هذه الاختلافات في الازدياد والاتساع، إلى أن خرج بعض أمة محمد صلى الله عليه وسلم من دائرة الإسلام إلى دائرة الكفر -والعياذ بالله- بعد أن مات رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقبل أن يدفن نشأ بعض الخلاف بين الصحابة، أين ندفن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وكيف نغسل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هل نجرده كما نجرد موتانا أو نغسله من فوق الثياب؟ فأصابتهم سِنَةٌ فغسلوه من فوق الثياب بعد أن سمعوا المنادي ينادي بذلك، ثم قالوا: أين ندفن رسول الله؟ فاختلفوا، فجاء أبو بكر وحسم مادة النزاع وقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنه لم يدفن نبي إلا حيث قبض)، ودفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكانه الذي قبض فيه. وبعد دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم حصل خلاف بين أصحابه على الأمير الذي سيؤمّر عليهم، وعلى الخليفة الذي سيستخلف عليهم، إلى أن انتهى الأمر في سقيفة بني ساعدة بتأمير أبي بكر الصديق واستخلافه خليفة عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ثم جاء خلاف آخر بين بعض الصحابة، وهو الخلاف في ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم، من سيرث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وهل لبناته ميراث منه؟ فجاءت فاطمة تطالب بميراثها من رسول الله، وقال أبو بكر: (إني سمعت رسول الله يقول: إنا معشر الأنبياء لا نورث، ما تركنا فهو صدقة)، فتخاصمت سيدة نساء أهل الجنة مع سيد شيوخ أهل الجنة، فاطمة مع أبي بكر رضي الله عنهما، وماتت على ذلك بعد ستة أشهر من وفاة أبيها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ثم جاء بعد ذلك المرتدون فمنعوا الزكاة، وهذا أكبر من الخلافات المتقدمة، وقالوا: قد كنا نعطي المال لمحمد، فمات محمد فلا زكاة، فبدأت حروب الردة، وتخللت حروب الردة -التي شملت مانعي الزكاة والمرتدين- ادعاءات بالنبوة، فادعى مسيلمة الكذاب أنه نبي مرسل من عند الله، وأطلق على نفسه رحمان اليمامة، حتى تسلط عليه أصحاب رسول الله وشردوه وقتلوه، قتله وحشي بن حرب، ورجل آخر من الأنصار. ثم جاء أيضاً طليحة الأسدي وادعى النبوة أيضاً، فأُرسل إليه خالد بن الوليد، ففر من خالد بعد هزيمته إلى الشام، ثم بعد ذلك أسلم وحسن إسلامه، وكان يقاتل كأشد القتال مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مغازيهم ضد الفرس وضد الروم. ثم حفظ الله أمة محمد عليه الصلاة والسلام بـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فدفع الله به الخلاف، ثم قتل عمر بعد سنوات من استخلافه، فولي عثمان الخلافة، فازدادت أمور المؤمنين سوءاً، وازدادت الخلافات واتسعت رقعتها، وأدى هذا الخلاف إلى مصرع ومقتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، وهو يتلو كتاب الله عز وجل، ذبح بأيدي أقوام يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله! وبدأت الفرق في الانتشار، فظهرت فرقة الخوارج التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصلها لما جاءه رجل فقال له: يا محمد! اعدل، فوالله! إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنه يخرج من ضئضئ هذا أقوامٌ تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية). ثم جاءت فرقة القدرية التي نفت القدر، فقالوا: لا قدر، ليس هناك شيء مقدر. ثم ظهرت فرقة الشيعة، ومنهم فرقة السبئية على وجه الخصوص، والذي نحن بصدده اليوم هو الحديث عن فرقة الشيعة على وجه الإجمال، فشرح أحوالهم يطول، وبدعهم تميت القلب، ولكنه شيء أردنا تبيينه إحقاقاً للحق وإظهاراً لباطل المبطلين كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:55]. * أصول فرق الشيعة إجمالاً: فرقة الشيعة تنقسم إلى أربع فرق على وجه الإجمال، تنقسم إلى: الزيدية، وإلى الكيسانية، وإلى الإمامية، وإلى الغلاة أو الغالية، وهي أكفرهم على الإطلاق وسيأتي سبب ذلك. أخفهم فرقة الزيدية، وفرقة الزيدية انقسمت إلى ثلاث فرق: الجارودية، والسليمانية، والبترية، هذه ثلاث فرق من فرق الزيدية، ثم انقسمت الكيسانية إلى فرقتين: فرقة تقول في محمد بن علي بن أبي طالب الذي هو محمد ابن الحنفية إنه حي يرزق بجبل يسمى جبل رضوى، عن يمينه نمر، وعن يساره أسد، تحدثه الملائكة ليلاً ونهاراً، لا يموت ولن يموت، حتى ينزل فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن مُلأت ظلماً وجوراً. والفرقة الثانية من الكيسانية قالوا: إن محمد بن علي بن أبي طالب كان إماماً في عصره، ولكنه قد مات، وهو الذي كان يستحق الإمامة. أما فرقة الإمامية فتنقسم إلى خمس عشرة فرقة، منها: الإثنا عشرية التي عليها إيران الآن، ومنها الموسوية، ومنها الشيطانية اتباع رجل يدعى بشيطان الطاق، وكان ينكر كثيراً من آيات الله عز وجل، ومنها الكاملية، ومنها الناووسية، ومنها الباقرية، والمحمدية، إلى إكمال خمس عشرة فرقة، هذه هي فرق الإمامية. أما الغلاة فأخرجهم عدد كبير من العلماء من دائرة المسلمين، فلا يعدون في الفرق، ولا يبعد عن هؤلاء المتقدمين أن يكون بعضهم خارجاً عن طوائف أهل الإسلام.

فرقة الشيعة

فرقة الشيعة وسنورد الآن إن شاء الله على وجه الإجمال معتقدات هذه الفرق على وجه الإجمال؛ لأن تخصيص كل فرقة بشرح يحتاج إلى محاضرة كاملة لشرح أقوالها، ولكنا سنتعرض بمشيئة الله للأصول العامة لهذه الفرق أو لبعضها.

الرد على دعاة التقريب بين أهل السنة والشيعة

الرد على دعاة التقريب بين أهل السنة والشيعة فأي تخريف أبعد من هذا التخريف؟ وأي حق مع فرق تطعن في أصحاب رسول الله؟ قد يقول قائل: هيا بنا نتعاون مع الشيعة كي ننصر الإسلام، كيف تتعاون مع رجل يكفر أبا بكر الصديق، ويكفر عمر بن الخطاب؟ إذا حدثته عن أبي هريرة قال لك: كذاب، أسقط لك حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأسقط لك كتاب ربك عز وجل، فكيف تلتئم مع مثل هذا الذي لا يوقر رباً ولا يوقر رسولاً ولا يوقر كتاب الله ولا يوقر صحابياً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم!! من يرضى أن يسمع من يسب أبا بكر الصديق؟ هل يرضي مسلم أن يؤتى بتفسير ابن كثير ويرمى على الأرض ويقال: هذا ابن كثير لا يفهم شيئاً، اتركوا ابن كثير وابن قليل؟ هل يرضي مسلم أن يسمع هذا الكلام يا عباد الله؟! ويضع يده في يد شيعي بغيض يطعن في أصحاب رسول الله! كيف تكون بجانبه وقد طعن في سلفك الصالح، أبي بكر وعمر وعثمان وسائر أصحاب رسول الله باستثناء خمسة أو ما يقاربهم؟ الله عز وجل قال في كتابه الكريم: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر:10] أي: أن حال المؤمن الذي جاء من بعد الصحابة أنه دائماً يقول: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر:10]، فيأتي شيعي بغيض ويطعن فيهم ويلعنهم ويكفرهم، كيف نتعاون -يا عبد الله- مع من يخالف كتاب الله ويكذبه صراحة؟ هل هذا البغيض خير لك من الصديق أبي بكر؟: (إن من أحب قوماً حشر معهم) كما قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. قال الله سبحانه وتعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:18]، فهل سيسخط عليهم بعد أن رضي عنهم؟ وهل سيخون أبو بكر بعد تزكية الله له؟ هل ورد لنا أن أبا بكر قد خان -يا عباد الله- بعد أن رضي الله عنه؟! قال الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100]، ألم يكن أبو بكر من السابقين الأولين يا عباد الله؟! ألم يكن عمر من السابقين الأولين؟ ألم يعطِ أبو بكر ماله كله لرسول الله؟ ألم يهاجر أبو بكر من بلده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تاركاً بيته؟ وفيه يقول المصطفى عليه الصلاة والسلام: (لو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً)، ويبكي أبو بكر لما سمع مقالة رسول الله مستشعراً فراق رسول الله صلى الله عليه وسلم. كيف بك يا عبد الله! تسمع طعناً في صحابي كـ عمر الذي فتح الله على يديه الفتوحات، ودخل الناس على يديه في دين الله أفواجاً، ويأتي بغيض سخيف يثني على أبي لؤلؤة المجوسي قاتل عمر بن الخطاب ويوقره ويقول: إنه بطل من الأبطال؛ لأنه قتل عمر بن الخطاب؟ كيف تضع يدك في يد زنديق مثل هذا الزنديق يا عبد الله؟! فالولاء والحب والبغض يجب أن يكون في الله: (فإن من أحب قوماً حشر معهم)، من أحب رسول الله عليه الصلاة والسلام وأصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام حشر معهم، ومن أحب المجوس، من أحب أبا لؤلؤة المجوسي، ومن أحب أتباع الزيغ والضلال حشر معهم يا عباد الله!، فاتقوا الله ربكم، وذبوا عن أعراض أصحاب نبيكم كما تذبون عن أعراض آبائكم وأعراض أجدادكم، قولوا: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر:10]، قولوا: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18]، رضي الله عنهم أجمعين وحشرنا الله مع صحابة نبيه الكريم عليه الصلاة والسلام، حشرنا الله معهم جميعاً في أعلى جنة الخلد، وقاتل الله الشيعة الملحدين الذين يذمون أصحاب النبي الأمين عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.

الشيعة وتأليه غير الله

الشيعة وتأليه غير الله معتقدات هذه الفرق في ألوهية الله عز وجل فيه دخن، فأكثر هذه الفرق وقع في الشرك بالله عز وجل! فغالبيتهم يدعو غير الله، وهذا لا يخفى على من ذهب إلى إيران أو رأى الإيرانيين وهم يطوفون بالبيت الحرام قائلين: يا علي! يا حسن! يا حسين! يا فاطمة! أثناء الطواف حول البيت العتيق، ولكن ليس هذا هو منتهى الكفر عندهم، فهناك فرقة وهي السبئية ألهت علي بن أبي طالب! حتى أن علياً لما بلغته مقالتهم جمعهم، فقالوا له: أنت هو، قال: وما هو؟ -كما يقولها بعض الصوفية الآن: هو هو- قال لهم: وما هو؟ قالوا: أنت الله!! فخد لهم الأخاديد وأشعل فيها النيران، ثم عرضهم على النار، فقالوا: الآن تأكدنا أنك أنت الله؛ لأن رسول الله قال: (لا يعذب بالنار إلا رب النار) فأنت رب النار! هذه الفرقة فرقة السبئية ألهوا علي بن أبي طالب وقال علي من ذلك: لما رأيت الأمر أمراً منكراً أججت ناري ودعوت قنبراً وفرقة ألهت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي المحمدية، وفرقة ألهت آدم عليه الصلاة والسلام وقالوا: إن الألوهية انتقلت من آدم إلى الأنبياء، فآدم إله، ونوح إله، وتسلسلت الألوهية إلى أن وصلت إلى محمد عليه الصلاة والسلام، وبعد أن مات انتقلت الألوهية إلى علي بن أبي طالب، ومنه إلى الحسن، ومن الحسن إلى الحسين، إلى أن انتهت إلى جعفر بن محمد الذي يطلقون عليه جعفر الصادق. وخرجت طائفة تسمى الخطابية بلا حياء من الله ولا من البشر، في جموع غفيرة في زمنهم، وملئوا شوارع الكوفة قائلين: لبيك جعفراً! لبيك جعفراً! مكان: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، فقالوا: لبيك جعفراً! لبيك جعفراً! فهذا قول ثالث عند الشيعة في أمر الألوهية، فريق يدعي أن علياً هو الإله، وفريق يدعي أن محمداً هو الإله، وفريق يدعي أن الألوهية تسلسلت من آدم عليه الصلاة والسلام إلى الأنبياء إلى أن انتهت إلى جعفر بن محمد الذي هو جعفر الصادق بن محمد الباقر، وخرجوا ملبيين يقولون: لبيك جعفراً! لبيك جعفراً! وهؤلاء طائفة من الخطابية. وفريق آخر ادعوا ألوهيات أُخر، وقد ادعى النبوة من يسمى أبو منصور العجلي حيث قال: إنه صعد إلى الرب، وأن الرب مسح على رأسه، فنزل من عند الرب يحل للناس الحرام ويحرم عليهم الحلال، ويأمرهم بإتيان المحارم وتزوج الأخوات والأمهات والبنات، زاعماً أن ربه أمره بذلك، وأحل لهم الدم والميتة ولحم الخنزير، وإذا سُئل عن الدم في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة:3] قال: إنها أسماء أشخاص! كان هذا الرجل يلقب بالكسف ويكنى بـ أبي منصور العجلي، وأتباعه يتلون قوله تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ} [الطور:44]، ويتهكمون على من خالفهم ويقولون: هذا هو الكسف الذي سقط من السماء ليبشر الناس! وطوائف أُخر ادعت لها أرباباً غير الله سبحانه وتعالى، كفرقة الكيسانية التي تبعت المختار بن أبي عبيد الثقفي الذي ادعى -أول ما خرج- نصرة آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه غاضب لظلم بني أمية لهم، فلما تبعه جمع غفير ادعى النبوة، فلما تبعه جمع غفير ادعى الإلهية! إلى أن قتل إلى غير رحمة الله عز وجل، لعنه الله.

الشيعة وعقيدة الرجعة

الشيعة وعقيدة الرجعة ومن عقائد كثير منهم الرجعة، والرجعة تقتضي أن بعض أئمتهم سيرجع مرة ثانية، واختلفوا في هؤلاء الذين سيرجعون أحياء مرة ثانية وينتصرون من كل من ظلمهم قبل أن تقوم الساعة.

موقف الشيعة من الفقه

موقف الشيعة من الفقه وفقههم ليس مبنياً على أحاديث ثابتة مسندة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل مبنية على التخاريف، فقد زلت أقدامهم في الفقه، وزلات الأقدام في الفقه لا تقارن بجانب الزلات العقائدية، فأباحوا نكاح تسع نسوة لقوله تعالى: {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3] فقالوا: إن الواو تقتضي الجمع، والواو لا تقتضي هنا الجمع؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الرجل الذي كان متزوجاً بعشر نسوة بمفارقة ست وإبقاء أربع، وإن كان هذا الحديث عليه بعض الكلام إلا أن إجماع المسلمين من أهل السنة والجماعة عليه، ثم أيضاً في فقههم إباحة نكاح المتعة، كما قال القائل: ألا يا صاح فاخبرني بما قد جاء في المتعة ومن قال حلال هي كمن قد قال بالرجعة لها زوجان في طهرٍ وفي طهرٍ لها سبعة فالمرأة تقابل الرجل وترتضيه فيعطيها مالاً، كما يفعل هذا الآن سفلة العراق وسفلة لبنان وسفلة إيران، يلتقي الرجل بالمرأة فيزني بها ويعطيها دراهم معدودة، ويفتتح المحل بهذا في الصباح الباكر حتى يبارك له بزعمه في رزقه من أول نهاره، فهذه من عقائدهم، وقد حرم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم نكاح المتعة عام خيبر إلى الأبد. ومنهم طائفة الإسماعيلية، وهي إحدى طوائف الإمامية، وقد تقدم أن الإمامية خمس عشرة فرقة، والإسماعيلية فرقة منهم، ماذا تقول تلك الإسماعيلية؟ تقول بعض فرقها -وهم في اليمن قرب نجران-: إن الصلوات خمسين صلاة في اليوم والليلة؛ لأن الله افترضها كذلك، فعند كل فريضة عشر صلوات، وقبل أن تنتهي أنت من صلاة الظهر سيكون أحدهم قد صلى العشر الصلوات المكتوبة عليه بزعمه. وفرقة قالت: لا، ليست هي بخمس صلوات ولا بخمسين، إنها تسع عشرة صلاة في اليوم والليلة، وعلى ذلك يصلون تسع عشرة صلاة في اليوم والليلة، وكل هذه من الأباطيل والترهات. فضلاً عن ذلك افتراؤهم على أهل السنة والجماعة، إذ يقولون: إن من قال: آمين في الصلاة بطلت صلاته؛ لأن آمين عندهم كلام، والصلاة إذا تكلم فيها الشخص فقد بطلت صلاته، وإذا اُبتلي شيعي بأهل سنة بجواره وأحب أن يتقيهم وجاءت الصلاة وجاء التأمين فيها قال: آمِّينَ، مشدداً لها على أنها آية من قوله تعالى: {وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} [المائدة:2] أي: ولا قاصدين البيت الحرام، ويقول فريق منهم: إن الضم يبطل الصلاة، والضم هو وضع اليد اليمنى على اليد اليسرى في الصلاة، وهذه ليست بشيءٍ بجانب الطامات الكبرى في مسائل العقائد، ومسائل دعاء غير الله، ومسائل تلك القباب والمشاهد التي فُعلت للخميني بعد موته، وكانت قبل الخميني تفعل لهم كي يطاف بها ويتبرك بها، ويترك بيت الله العتيق، ويترك توحيد الله عز وجل، فإذا طاف طائف منهم بالبيت دعا واستغاث بـ علي والحسن والحسين عند بيت الله الذي أمر الله أن ينقى ويطهر من الشرك كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة:125]. ومنهم فرقة يقال لهم: المكارمة أو البهرة، يأتون من بلاد الهند الزائغة إلى بلاد اليمن، ويتعرى إمامهم تماماً، كما ولدته أمه، ويُحمل على عرش له ثمانية أرجل، ويحمله ثمانية، ويقبلونه في كل جزء في جسمه قائلين تاليين: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة:17].

الشيعة وخرافة المهدي المنتظر

الشيعة وخرافة المهدي المنتظر وما موقفهم من المهدي المنتظر؟ اختلفوا فيه أيما اختلاف، وضلوا فيه أيما ضلال، وكفر بعضهم بعضاً غاية التكفير بسبب الخلاف في ذلكم المهدي المنتظر، فقالت فرقة من فرق الإمامية -ومنها الاثنا عشرية التي في إيران حالياً-: إن المهدي المنتظر هو محمد بن الحسن الذي ينتهي نسبه إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقالوا: إن محمد بن الحسن هذا دخل السرداب، وسيخرج ليعيد العدل والقسط إلى البلاد وعلى العباد، بعد أن ملئت ظلماً وجوراً، وسينتصر من كل من آذى آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيعيد ويحيي الذين ظلموا آل بيت رسول الله، فيمزق شملهم ويفرق جمعهم. ويقف على سردابه الإيرانيون الآن، يلطمون الخدود ويشقون الجيوب، رجالاً ونساءً وأطفالاً قائلين: يا محمد! يا مهدي! اخرج فقد ملئت الأرض ظلماً وجوراً، ويبكون وتسيل الدموع على خدودهم انتظاراً لهذا المهدي المنتظر، وفي الحقيقة أنه شخصية لا وجود لها من الأصل، لأن أبا هذه الشخصية المزعومة كان عقيماً، لا يولد له ولد، وأثبت ذلك العلويون الذين ينتهي نسبهم إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فهم يسطرون أنسابهم أباً عن جدٍ إلى رسول الله، فسطروا في الحسن هذا أنه لم يولد له، ولكن لكي تبقى الإمامة ادعوا أن أمه -أم محمد - ولدت ولداً وأخبأته عن الناس، فاختفى في السرداب، وكانت الأموال تجمع له، فيأخذها الذين على أبواب السرداب، فاختلفوا فيما بينهم، فجاء رجل اسمه محمد بن نصير وأراد أن يكون هو محمد بن الحسن ليتقاضى الأموال، فرفضوا ذلك رفضاً شديداً، فانفصل هو بفرقة سماها النصيرة لرفضهم أن يكون هو الخليفة، وأن يكون هو البواب على السرداب، قالوا: وكان على السرداب رجل زيات، له دكان، فكان على الأموال التي تأتي للسرداب، فانشق هو عليهم وأنشأ فرقة أخرى تسمى النصيرة، وأصبح له أتباع ألهوه كما ألهت فرق الشيعة غيره. هذا هو موقفهم من المهدي، وتقدم أن فرقة منهم تقول: إنه محمد ابن الحنفية، وهو حي الآن بجبل رضوى، عن يمينه أسد وعن يساره نمر وتحدثه الملائكة، وفرقة قالت: إنه محمد بن الحسن الذي ينتهي نسبه إلى علي بن أبي طالب، وفرقة ثالثة قالوا: إن المهدي هو جعفر بن محمد الملقب بـ الصادق، وهو الذي سيأتي ويعيد للناس العدل.

موقف الشيعة من الحكومات المسلمة

موقف الشيعة من الحكومات المسلمة وما موقفهم من الحكومات المسلمة؟ ولسنا نعني بالحكومات المسلمة الموجودة الآن، إنما نعني بالحكومات المسلمة من عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى الآن. موقفهم من الحكومات المسلمة أنها لم تقم أي حكومة مسلمة من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الآن، إلا السنوات اليسيرة التي تولى فيها علي بن أبي طالب خلافة المسلمين وإمارة المسلمين، أما خلافة أبي بكر فهي عندهم كذب واختلاس، وكذلك خلافة عمر، وكذلك خلافة عثمان، حتى يطعنون عن صلاح الدين الأيوبي الذي حرر الله به بلاد المسلمين من أدناس الصليبيين الكفرة، فيطعنون فيه؛ لأنه كان له صولات وجولات على الشيعة في عدة جوانب، فيلحقونه بأصحاب رسول الله، وينال منهم نفس اللعن الذي يناله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فلا نبك على صلاح الدين إذا كانت الطامة أكبر من صلاح الدين، وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. فهم في هذا سلكوا مسلكاً غلبوا فيه اليهود والنصارى، فاليهود إذا ذكرت لهم حبراً من أحبارهم، أو النصارى إذا ذكرت لهم حوارياً من حواريي عيسى وقروه وبجلوه، أما هؤلاء فطعنوا في أصحاب نبيهم الذين هاجروا وتبوءوا الدار والإيمان من قبلهم، الذين تصدقوا بكل أموالهم لله عز وجل، الذين آثروا الآخرة على الدنيا، وآثروا ما عند الله على الزوجات، وعلى البنات والبنين، وعلى الضيعات، وعلى سائر من في الأراض، آثروا إرضاء رب العالمين على كل أحد. فهذا موقف الشيعة من الحكومات، لا يقرون لأي حكومة بالإسلام إلا حكومة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وبعد حكومة رسول الله حكومة علي بن أبي طالب. ومن ثم ناصبوا المسلمين العداء على مدار الزمان والمكان، فمنهم نصير الدين الطوسي، وليس نصيراً للدين بل نصير الشرك والإلحاد، كان يأتي بأبيات وقصائد للخليفة العباسي أثناء خلافته، ولما دخل هولاكو بلاد المسلمين كان في استقباله نصير الشرك والإلحاد الطوسي مع ابن العلقمي، ومع ابن أبي الحديد اليد اليمنى لـ ابن العلقمي الوزير الشيعي الباطني الخائن، الذي أسلم زمام الخلافة العباسية لـ هولاكو، وجاء هولاكو بمن معه من المغول والتتار فاكتسحوا بلاد المسلمين وذبحوا الأبناء، وذبحوا البنات، وذبحوا الرجال، كما يُفعل الآن -بل أشد- بالمسلمين في بلاد البوسنة والهرسك، كانت المرأة من المغول ومن التتار تأتي إلى عشرين رجل أو إلى خمسين رجل وتقول لهم: ناموا فينامون، وتقول لهم: ابقوا على حالكم، فيبقون، وتذهب وتأتي بالسكين فتذبحهم جميعاً عن آخرهم ولا يتحرك منهم متحرك، وكان السبب في هذا كله نصير الشرك والإلحاد الطوسي ذلك الشيعي مع ابن العلقمي الوزير الرافضي، الذي كان يتستر بمبدأ التقية، ويتظاهر بأنه محسن إلى بني العباس، وبجانبه أيضاً ابن أبي الحديد. هذه بعض مواقفهم المخزية في الإسلام والمسلمين، والحكومات المسلمة. كانوا يتسترون بمبدأ التقية، فإذا جاء العدو وتمكنوا من المسلمين مزقوا أهل السنة كل ممزق، وشتتوهم كل تشتيت، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

موقف الشيعة من السنة

موقف الشيعة من السنة أما موقفهم من السنة فهم بعيدون غاية البعد عن سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال جملة أحاديث نقلها عنه أصحابه رضي الله عنهم، نقلها الصديق أبو بكر، ونقلها أمير المؤمنين الفاروق عمر، ونقلها ذو النورين عثمان بن عفان، ونقلها أبو هريرة، ونقلتها عائشة، ونقلها غير هؤلاء من أفاضل الصحابة كـ ابن عمرو وابن عمر وغيرهم، وهم يكفرون هؤلاء الصحابة، إذا جئت تقول لهم: قال أبو هريرة يقولون: أبو هريرة كافر لا نقبل حديثه، فيردون سنة رسول الله من هذا المنطلق، إذا جئتهم بحديث يقول لك قائلهم: من الذي رواه؟ تقول له: أبو بكر ذلك الصديق الذي قال الله فيه: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40]، فالله أثبت في كتابه أن أبا بكر صاحب للنبي صلى الله عليه وسلم، فيقولون: هو كذاب كافر مختلس للخلافة على أمير المؤمنين، هذا موقفهم من سنة رسول الله. فإذا كان هذا هو موقفهم من الصحابة، فهذا تدمير لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعها؛ لأن الصحابة هم الذين نقلوا لنا سنة نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وليس هذا فحسب بل هم الذين نقلوا لنا القرآن، هم الذين جمعوا القرآن من الرقاق ومن الصحف ومن الجلود فأثبتوه ورسموه على هذا النحو الميسر، الذي قال الله فيه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] فإن طعنوا في أصحاب رسول الله فقد طعنوا في كتاب الله، وطعنوا في سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ثم لما طعنوا في سنة رسول الله، بدءوا في افتراء أحاديث على رسول الله عليه الصلاة والسلام، وتقولوا أقاويل تؤيد باطلهم، مثل حديث: (أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوى) فيقولون: إن أهل البيت كالسفينة لابد أن تركبها وإلا فإنك ستهلك، ويفترون على رسول الله عليه الصلاة والسلام الكذب ويقولون: (لما خلق الله الجنة ماتت ميتة فأنشأ الله لها الحسن في ركن والحسين في ركن فثبتاها) ويقولون: قال رسول الله: (خلقت أنا وعلي بن أبي طالب وزكريا ويحيى من طينة واحدة وعجينة واحدة)، ويقولون عن علي بن أبي طالب: (أنا الصديق من أبى فقد كفر)، ويفترون عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال في علي: (علي خير البشر من أبى فقد كفر) أي: من حاول تفضيل أبا بكر أو عمر على علي بن أبي طالب فقد كفر عندهم، وخرج من دين الإسلام. هذا هو موقفهم من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولله الحمد أن كتبهم غير مسندة، وليست متصلة الأسانيد إلى رسول الله، إنما يقول قائلهم: بلغنا عن أجدادنا، بلغنا عن آبائنا، من الذي أبلغهم؟ الله أعلم، لم يذكر، فهي كلها أكاذيب، وكلها بلاغات لا تثبت بحال عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

الشيعة وعقيدة التناسخ

الشيعة وعقيدة التناسخ أما دعواهم في مسائل العقائد، فيقولون في العقائد جملة أقوال، فمن عقائدهم عقيدة التناسخ، وفحواها أن الأرواح تتناسخ، يعني: إذا مت أنت انتقلت روحك إلى غيرك، قد يكون هذا الغير إنسان، وقد يكون حيوان، وقد يكون كلب، وقد يكون خنزير، وقد يكون سمكة، وقد يكون دودة، فإذا مت أنت تحولت روحك وتناسخت إلى جسم وهيكل غيرك، ويبنون على ذلك ترهات باطلة، أنهم يأتون ببغل وبحمار وبعنزة، فيضربون البغل ضرباً مبرحاً، مؤلماً غاية الألم، ويأتون بحمار كذلك، ويضربونه غاية الضرب، ويأتون العنزة الصغيرة ويضربونها ضرباً قاسياً، لماذا تفعلون ذلك؟ يقولون: إن روح أبا بكر تناسخت في هذا، وروح عمر تناسخت في ذاك، وروح عائشة تناسخت في هذه العنزة، وما هو ذنب هذا الحمار، وذنب هذا البغل، وذنب هذه العنزة، الذين اخترتموهم من دون البغال ومن دون الحمير ومن دون العنز؟ ما ذنب هؤلاء؟ ومن الذي أدراكم أن روح هؤلاء تناسخت في هؤلاء؟ هذه العقيدة عقيدة التناسخ موجودة ومتأصلة عند كثير من فرق الشيعة.

الشيعة وعقيدة التقية

الشيعة وعقيدة التقية تأتي عقيدة أخرى وهي عقيدة التقية، عقيدة التقية هذه فحواها أن الشخص يظهر ما لا يبطن، وأعملوها فراراً من البلاء الذي وقعوا فيه، والتعكير الذي عكر عليهم لما قالت فرقة منهم: إن أبا بكر اختلس الخلافة على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قالوا: إن رسول الله أوصى بالخلافة من بعده لـ علي بن أبي طالب، وكذبوا في هذا الافتراء، ثم قالوا: إن أبا بكر اختلس الخلافة على علي، وإذا قلت لهم: لماذا سكت علي إذاً؟ قالوا: سكت علي تقية! وهذا أساس مذهب التقية! فرقة أخرى منهم لم ترض هذا المسلك، وقالت: كفر أبو بكر، وكفر عمر، وكفر عثمان، وكفر علي؛ لأنه أقرهم، ثم أسلم علي لما تولى الخلافة؛ لأنه قَبِلها وأخذ حقه، وأمضى ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فنشأت عقيدة التقية التي بها يظهرون ما لا يبطنون، ويستحلون الكذب نصرة لمذهبهم، فإذا رءوا رأياً وضعوا له أحاديث عن رسول الله، واختلقوا له الأكاذيب ويروونه، فعقيدة التقية من العقائد التي لا تجعل أحداً من أهل الإسلام يصدقهم، وإذا ووجهوا بها: أنكروا ذلك، كما فعل ذلك ابن العلقمي ونصير الشرك والإلحاد الطوسي على ما سيأتي في قصتهما إن شاء الله. ومن عقائدهم الزائغة أيضاً القول بفناء الجنة والنار، فيقولون: إن الجنة ستأتي عليها أزمنة وتنتهي هي وأهلها ومن فيها، وإن النار سيأتي عليها وقت تنتهي هي وأهلها ومن فيها!

موقف الشيعة من عقيدة الرؤية

موقف الشيعة من عقيدة الرؤية ومن عقائدهم الزائغة أيضاً، القول بعدم رؤية الله عز وجل في الآخرة، فالكفار كما قال تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15]، أما المؤمنون فقد قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب، وسترون ربكم كما ترون الشمس في يوم صحو ليس دونها سحاب)، وقد قال الله سبحانه وتعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]، وقال جمهور المفسرين في تفسير قوله عز وجل: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]: إن الزيادة هي النظر إلى وجه الله عز وجل يوم القيامة، فكانت هذه جملة من عقائدهم.

موقف الشيعة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم

موقف الشيعة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما موقفهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم ينج منهم أحد من أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، فما بين كافر وفاسق وفاجر، فريق منهم يطلق على عدد كبير من الصحابة الكفر، وفريق يقولون: ليسوا بكفار بل هم فسقة، والفاسق هو المجرم، هذا موقفهم من صحابة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ويدعون عليهم في صلاتهم، وفي كتب تشابه الكتب التي عند عامة المسلمين مثل: دلائل الخيرات، وإن كان دلائل الخيرات كتاب أكثره باطل بل جله بل كله باطل، ففي كتب الشيعة صلاة تسمى الصلاة العمرية أو اللعنية أو قريباً من هذا الاسم، يقولون: اللهم العن صنمي قريش، وجبتيهما، وطاغوتيهما، وابنتيهما، يقولون ذلك في أبي بكر وعمر وعائشة وحفصة أزواج رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، هذا موقفهم من أصحاب رسول الله. كفروا أبا بكر كما كفروا عثمان بن عفان، كما كفروا وانتهكوا عرض عمر بن الخطاب أيما انتهاك، فضلاً عن تكفير سائر الصحابة، كـ عمرو بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان وغيرهم من صحابة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كان هذا موقفهم من أصحاب رسول الله، وما زال هذا هو موقفهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا.

موقف الشيعة من القرآن

موقف الشيعة من القرآن موقفهم من القرآن الكريم أنه محرف! وألف رجل اسمه الطبرسي -وهو من علماء الشيعة- كتاباً سماه: فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب، وأتى فيه بآيات وقال: إنه كان في القرآن آيات فحرفت، وقد زعم أن الله قال -وليس الله بل شيطانه-: (يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والنبي والولي اللذين بعثناهما إليكم يهديانكم إلى صراط مستقيم) يقصد علي بن أبي طالب ورسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقالوا أيضاً: إن سورة الانشراح كان فيها: (ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك وجعلنا علياً صهرك)، وخفي على هؤلاء الحمقاء المجانين أن سورة الانشراح نزلت بمكة قبل أن يتزوج علي بن أبي طالب رضي الله عنه بـ فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم! فـ علي تزوج بـ فاطمة رضي الله عنها في مدينة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وسورة الانشراح سورة مكية. فضلاً عن إثباتهم التحريف الباطل، وادعائهم الكاذب بتحريف القرآن، وتأويلهم آيات القرآن على حسب ما يريدون، فأولوا الجبت والطاغوت بـ أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وأولوا البقرة في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67] بأن البقرة هي عائشة زوج رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فهذا موقفهم من كتاب الله سبحانه وتعالى.

موقف الشيعة من الرسالات

موقف الشيعة من الرسالات أما موقفهم من رسالات الله، فقد قالت فرقة منهم: بإيجاب النبوات بعد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقالوا: إن النبوة انتقلت لـ علي بن أبي طالب، ومنه إلى الحسن، ومنه إلى الحسين رضي الله عنهم، ثم انتقلت إلى محمد ابن الحنفية، أي: أن النبوة في علي وفي أبنائه الثلاثة، وقالت فرقة منهم: بنبوة رجل يسمى بيان بن سمعان، وكان هذا الرجل المجرم مدعياً للنبوة ومتجلداً فيها، ومعه رجل آخر اسمه المغيرة بن سعيد، وقد أحرقهما خالد بن عبد الله القسري بالنار، فجاء المغيرة بن سعيد إلى النار، فتوجس منها، وجاء بيان بن سمعان فاحتضن النار بقوة، مظهراً التجلد والتثبت فأُحرق إلى غير رحمة الله، وسيده المغيرة بن سعيد جبن عن النار فأحرق بها رغم أنفه، فقال خالد القسري لا تباعهما: إنكم مجانين، كان الأولى أن تجعلوا الإمارة عليكم لـ بيان بن سمعان، وكانوا من حمقهم وخيبتهم وجهلهم يتلون قوله تعالى: (هذا بيان للناس ولينذروا به)، وينزلونها على نبيهم المزعوم! وجاء نبي آخر عندهم يسمى بـ عمير التبان، يقولون في عمير التبان: إنه كان إذا مسك التبن تحول له ذهباً، فعبدوه وألهوه من دون الله عز وجل، وكل فرقة ادعت نبياً يتبع من دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويفسرون قوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40] بأنه زينة النبيين؛ لأن الخاتم هو ما يتزين به، ويوردون على ذلك شبهاً مثل حديث: (إن مثلي ومثل الأنبياء قبلي كاللبنة أو كجدار نظر الناس إلى حسنه فرءوا الجدار طيباً إلا موطن لبنة فأنا اللبنة) فيقولون: إن محمداً عليه الصلاة والسلام هو خاتم النبيين أي: زينة النبيين، وليس معناه: أنه لا نبي بعده، وقد كذبوا الخبر الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنه لا نبي بعدي)، وقوله أيضاً: (بعثت أنا والساعة كهاتين)، فهذه دعواهم في مسائل الرسالات.

موقف الشيعة من جبريل عليه السلام

موقف الشيعة من جبريل عليه السلام ما موقف هذه الفرق الشيعية من الملائكة؟ لهم موقف خطير من ملائكة الرحمن، فهم يتهمون جبريل عليه الصلاة والسلام أنه قد خان؛ لأنه نزل بالرسالة على محمد صلى الله عليه وسلم، وفي الأصل أنها كانت لـ علي، والتمست فرقة منهم له المعاذير، وقالت: إن جبريل معذور، وهذه الفرقة الأخيرة التي التمست لجبريل المعاذير سميت الغرابية، لماذا سميت الغرابية؟ لأنهم قالوا: إن محمداً كان أشبه بـ علي من الغراب بالغراب، فلذلك أخطأ جبريل وهو معذور، ولعنته سائر فرق الشيعة! وخفي على هؤلاء العميان -عميان البصر والبصيرة- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند نزول الرسالة عليه كان ابن أربعين سنة، وعلي صبي صغير رضي الله عنه، ورسول الله صلى عليه وسلم كان أبيض، وكان إلى الطول أقرب منه إلى القصر، أما علي بن أبي طالب فكان إلى القصر أقرب منه إلى الطول، ورسول الله كان له شعر، وعلي كان أصلع، ولم يكن له إلا شعرات في آخر رأسه رضي الله عنه، ورسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يكن أبجراً، وعلي بن أبي طالب كان أبجراً رضي الله عنه، أي: له كرش كما يسميه الناس، هذه صفات علي، فهل يخفى على جبريل الأمين صلى الله عليه وسلم حتى يخطئ في النزول؟ ثم هل يقره ربه على هذا الخطأ؟ الله سبحانه وصفه بالأمين كما قال عز وجل: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:193 - 195]، فالفرقة الغرابية جاءوا يوجهون هذا القول فوقعوا في كفر آخر! فلم يلعنوا جبريل؛ لأنه أخطأ، والخطأ مرفوع ما دام الشخص مجتهداً، ووقعوا في كفر آخر وهو تكذيب آيات الله سبحانه وتعالى، فهذا موقفهم من الملائكة.

الأسئلة

الأسئلة وسنورد الآن إن شاء الله على وجه الإجمال معتقدات هذه الفرق على وجه الإجمال؛ لأن تخصيص كل فرقة بشرح يحتاج إلى محاضرة كاملة لشرح أقوالها، ولكنا سنتعرض بمشيئة الله للأصول العامة لهذه الفرق أو لبعضها.

حديث الكساء

حديث الكساء Q ما حال حديث: الكساء؟ A الحديث ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخذ علياً وفاطمة والحسن والحسين وطرح عليهم الكساء، وهو حديث الكساء المشهور، وقال: (اللهم إن هؤلاء أهلي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً)، ولكن لا يمنع أن يدخل فيهم غيرهم، فإن الله سبحانه وتعالى قال: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:32 - 33] فدخل نساء رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في معنى الآل، وقال عليه الصلاة والسلام: (إنا آل محمد لا نأكل الصدقة)، فآل رسول الله منهم الحسن ومنهم الحسين ومنهم علي ومنهم فاطمة ومنهم أزواجه، ومنهم بنو العباس وغيرهم ممن حرمت عليهم الصدقة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ابتلاء الأنبياء

ابتلاء الأنبياء إن للابتلاء حكماً وفوائد كثيرة جداً، فهو يكفر الذنوب، ويرفع الدرجات، وتنال به الإمامة في الدين وتنال به محبة الله سبحانه. وإن من أشد الناس بلاءً الأنبياء، فإن من نظر في سيرهم وما لاقوا من الابتلاءات وما كانوا عليه من صبر يدرك استحقاقهم لهذه المنزلة التي بلغهم الله إياها.

حكم الابتلاء

حِكم الابتلاء إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. ثم أما بعد: فإن محبة الله تبارك وتعالى تتمكّن من القلوب وتنمو وتربو وتزداد بالاطلاع على كتاب الله عز وجل، وبالنظر إلى سنن الله تبارك وتعالى في خلقه، وبالنظر إلى الحكم والغايات المترتبة على هذا القضاء والقدر. يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [المؤمنون:75]، أفادت الآية الكريمة المباركة -وكتاب الله كله كريم ومبارك، وصحفه كلها مطهرة- أن الله سبحانه وتعالى إذا عافى الناس في أبدانهم وعافاهم في أموالهم وذرياتهم تمادوا في الغي، واستمروا في الظلم والعتو والفجور، ولكن يكسر العبد حتى تقف مسيرته الفاجرة إلى فجوره، يمرض حتى تنقطع آماله في اغتراف المآثم والجرائم، فيبتلى العبد لوقف مسيرة الطغيان التي هو فيها سائر. وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي أخرجه الإمام أحمد وغيره من حديث محمود بن لبيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل ليحمي عبده من الدنيا وهو يحبه كما تحمون مريضكم من الطعام والشراب وأنتم تحبونه)، فكما أن مريضك يتطلع إلى الطعام الشهي وإلى الشراب الهني، وأنت تعرف ذلك تمام المعرفة، لكن تمنعه من طعامه، وتمنعه من شرابه، ليس كراهية له، إنما محبة له وحفاظاً عليه، كذا ربكم سبحانه يحمي عبده من الدنيا وهو يحبه حتى لا يقع هذا العبد فيما حرّم الله تبارك وتعالى، وفيما نهى عنه، وفي الحديث عن رسولكم محمد صلى الله عليه وسلم: (إذا أحب الله قوماً ابتلاهم، فمن صبر فله الصبر، ومن جزع فله الجزع)، وكلكم قد علم أن مزيد النعم تحمل على مزيدٍ من الطغيان، وأن الابتلاءات ترد العبد إلى ربه رداً جميلاً. أما كون النعم تحمل على الطغيان فقد تضافرت بذلك الآيات والأحاديث، قال الله تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى:27]، وقال تعالى: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6 - 7]، وقال تعالى: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا} [الإسراء:83]، وقال تعالى: {ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [الزمر:8]، فجرت سنة الله في الخلق على أنهم إذا أمدوا بالعافية والمال والجاه والولد بدءوا في الطغيان والتطاول على الخلق، فيبتليهم الله بالبلايا، بلاءً تلو بلاء؛ لإرجاعهم إلى طريقه. قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} [الأعراف:94]، لماذا أخذناهم بالبأساء والضراء؟ قال تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} [الأعراف:94] أي: لعل أكف الضراعة منهم ترتفع إلى الله تسأله وترجوه وترغب إليه وتلجأ. وقال تعالى أيضاً في كتابه الكريم: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون:76]، فيفترض أن العذاب والبلاء يحدثان استكانة لله رب العالمين. وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ} [الأعراف:130] أي: بسنوات الشدة {وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف:130]. وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في شأن كفار قريش: (اللهم أعني عليهم بسنين كسني يوسف)، ذلك حتى يرجعوا إلى دينهم. فاستفيد من ذلك كله أن من أجلِّ مقاصد البلاء وأعظمها أن يرجع الشخص إلى دينه، فأستفيد -أنا وأنت أيها المسلم- من البلاء أن نستكين لربنا، وأن نرجع إليه، وأن نغنم من هذا البلاء رجعة وأوبة إلى الله تبارك وتعالى، وكذا نغنم استغفاراً.

تكفير الذنوب والخطايا ورفع الدرجات

تكفير الذنوب والخطايا ورفع الدرجات فالحكم والغايات من وراء الابتلاءات والمحن كثيرة جداً، لا يعلم أمدها ولا مداها إلا الله تبارك وتعالى، فمن أجل مقاصد تلك الابتلاءات التي تحل بنا: - أن نخرج منها وقد تحاتت عنا الذنوب والخطايا كما يتحات ورق الشجر. قال نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم: (ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بذلك من خطاياه)، وفي رواية: (إلا تحاتت عنه خطاياه -أي: تساقطت عنه خطاياه- كما يتحات ورق الشجر). ولما نزل على رسولكم محمد عليه الصلاة والسلام قوله تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [النساء:123] بلغت من الصحابة مبلغاً شديداً فشكوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام ما أصابهم من الهم وقالوا: (أينا لم يعمل سوءاً يا رسول الله؟ قال عليه الصلاة والسلام: أبشروا وسددوا وقاربوا ففي كل ما يصاب به المسلم كفارة لذنوبه). وفي الحديث الآخر: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لـ أبي بكر رضي الله عنه لما شكا بشكوة مماثلة: (يا أبا بكر ألست تنصب؟ ألست تتعب؟ ألست تصيبك اللأواء؟) أي: أن كل ذلك تكفر به الخطايا وتمحى به الذنوب. ولا يخفى عليكم أن نبيكم محمداً عليه الصلاة والسلام كان يُبتلى ابتلاءً أضعاف أضعاف ما يبتلى به غيره، دخل عليه ابن مسعود رضي الله عنه وقد وعك وعكة شديدة فقال: (أراك -يا رسول الله- يضاعف عليك البلاء، أذلك بأن لك أجرين؟ قال: أجل، إنا معشر الأنبياء يضاعف لنا الأجر كما يضاعف لنا البلاء). وتعلمون كذلك أن رسولكم عليه الصلاة والسلام دخل على امرأة يقال لها أم السائب وهي تشتكي الحمى وترجف ويرجف جسمها فقال لها: (مالك يا - أم السائب - تزفزفين؟ قالت: يا رسول الله! الحمى لا بارك الله فيها. فقال عليه الصلاة والسلام: لا تسبي الحمى)، وأخذ منه: أن الأمراض لا تسب فإنها كفارات، (لا تسبي الحمى فإنها تذهب بخطايا بني آدم كما يذهب الكير بخبث الحديد). إذاً: استفدنا من قوله عليه الصلاة والسلام: (لا تسبي الحمى) أننا لا نسب عموم الأمراض؛ لأنها تمحو خطايا بني آدم، فالذي يطلقه الأطباء على مرض السرطان -عافانا الله وإياكم منه- إنه مرض خبيث، لا ينبغي أن يطلق هذا الإطلاق؛ وذلك لأن السرطان شأنه كشأن غيره، بل شأنه لشدته أعظم من شأن غيره في محو الخطايا وإزالة الذنوب. فينبغي أن ندقق -أيها الإخوة- في الاصطلاحات التي نطلقها حتى لا تتضمن وصفاً لشيء بعكس ما هو فيه، وحتى لا تتضمن اعتراضاً على قضائه وقدره. إن نبيكم محمداً عليه الصلاة والسلام أتته أمة سوداء تشكو إليه ما مسها من الضر، كي يدعو الله لها، قائلة: (يا رسول الله! إني أصرع -يصيبها الصرع- فادع الله لي، فقال عليه الصلاة والسلام: إن شئت دعوت الله فشفاك، وإن شئت صبرتي ولكٍ الجنة. قالت: أصبر يا رسول الله! ولكن ادع الله لي ألا أتكشف) أي: لا تنكشف سوءتي أثناء صرعي، فدعا الله لها ألا تتكشف، فكانت تصرع ولكن ببركة دعوة رسول الله لا تتشكف، فكان الحبر الكريم عبد الله بن عباس رضي الله عنهما إذا رآها وقد تعلقت بأستار الكعبة تدعو ربها سائلة راجية مستغفرة يقول: (من سره أن ينظر إلى امرأة من أهل الجنة، فلينظر إلى هذه الأمة السوداء المتعلقة بأستار الكعبة) ويقص ابن عباس رضي الله عنهما على المسلمين خبرها. أيها الإخوة: قد عاد نبيكم محمد عليه الصلاة والسلام مريضاً أعرابياً، وكما لا يخفى عليكم فالأعراب جمعوا مع جفاء القلوب جهلاً بالشريعة وأحكامها (فذهب النبي عليه الصلاة والسلام إلى الأعرابي يزوره ويعوده، فوجده قد حم حمة شديدة، فقال النبي مصبراً ومواسياً: لا بأس، طهور إن شاء الله، فقال الأعرابي: طهور؟ -أي: تقول لي: طهور- بل حمى تفور، على شيخ كبير، تزيره القبور، فقال عليه الصلاة والسلام: فنعم إذاً) أي: أن الأمر إذاً كما اخترت لنفسك، فما دمت اخترت لنفسك ألا تكون الحمى كفارة، وألا تكون الحمى تطهيراً من الذنوب فكما اخترت لنفسك. ويذكر الشراح بإسناد يحرر: أن الرجل ما مرت به ليلتان إلا ومات، وذلك لحلول أجله، ثم إنه لم يقبل دعوة النبي عليه الصلاة والسلام، وهكذا دوماً مصير من لم يستسلم لدعوة النبي له، كما حدث نظيره لرجل يقال له: حزن وهو جد سعيد بن المسيب بن حزن فقد أتى النبي عليه الصلاة والسلام فقال له: (ما اسمك؟ قال: اسمي حزن يا رسول الله! قال: بل أنت سهل، قال: لا أغير اسماً سمانيه أبي يا رسول الله!) قال سعيد بن المسيب رحمه الله: (فما زالت الحزونة فينا) أي: أن الحزن لازمهم على الدوام. أيها الإخوة: لقد قال عليه الصلاة والسلام في شأن مرض شديد يحل بالأبدان ألا وهو مرض الطاعون: (الطاعون شهادة لكل مسلم)، وكذا في المبطون إذ قال: (شهداء أمتي خمسة: المطعون -أي: الذي أصابه الطاعون- والمبطون، والغريق، والحريق، وصاحب الهدم). وقال أيضاً: (والمرأة تموت بجمع) أي: التي تموت في نفاسها شهيدة كذلك، كذا قال رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام. وفي الحديث: (يختصم الشهداء والمتوفون على فرشهم في قتلى الطاعون -كل يريد أن يأخذ الذين ماتوا من الطاعون إلى صفه يوم القيامة- يقول الشهداء: يا ربنا! أشبهت دماؤهم دماءنا، ويقول المتوفون على فرشهم: يا ربنا! ماتوا على فرشهم كما متنا على فرشنا، فيقول الله تعالى: انظروا إلى دمائهم، إن أشبهت دماؤهم دماء المتوفين على فرشهم فهم منهم، وإن أشبهت دماؤهم دماء الشهداء فهم منهم، فيجدون دماءهم قد أشبهت دماء الشهداء فيلحقون بهم) فضلاً من الله ونعمة منه تبارك وتعالى. أيها الإخوة: لقد قال عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: (من ابتليته بحبيبتيه -أي: بفقدان عينيه- فصبر عوضته خيراً منهما الجنة). أيها الإخوة: إن الدرجات ترفع بالابتلاءات، فكم من شخص منَّا له عند الله منزلة علية! لا يبلغها بعمله، لا يبلغها بصلاته ولا بصيامه ولا بقيامه، لكن يبلغها بالصبر في الفتن، يبلغها بالهم والحزن، يبلغها بابتلاء في ولد، وبابتلاء من جار شرير مفسد بالصبر عليه، فتبلغ بهذه إلى المراتب التي لم ترفعك إليها صلاتك ولم يرفعك إليها صومك، ولم يرفعك إليها كبير عمل قدمت، لكن تبلغها بالصبر على البلاء. إن الفتاة التي تقدم بها السن، ولم ترزق بزوج صالح تقر به عينها، ترتفع درجتها بصبرها على قضاء الله، وعلى قدر الله، وتلك التي تزوجت ولم تنجب لعلها ترتفع كذلك بصبرها عند الله درجات، وعساها وقد حرمت الولد أن تمد يديها لربها سائلة إياه الولد.

استخراج جوانب من العبودية

استخراج جوانب من العبودية إن الابتلاءات والمحن تستخرج منك جوانب من جوانب العبودية، لا تفعلها وقت رخائك ووقت يسارك، وإن الابتلاءات والمحن تستخرج منك دعوات مباركات كما استخرجت من زكريا عليه السلام وهو يمد يديه إلى السماء: {رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء:89] وهو يدعو ويقول: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران:38]. إن هذه الابتلاءات تستخرج منك دعوات لا تستشعر لها طعماً ولا تذوق لها حلاوة إلا عند البلاء. تستخرج منك دعوة كتلك التي دعا بها أيوب عليه السلام: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83]، وكالتي دعا بها نوح عليه السلام: {أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر:10] كلها دعوات لا تخرج بإخلاص وبشدة إخلاص إلا مع عظيم الألم وشدة البلاء، فتستخرج أنواعاً من العبودية كالخضوع لله، وكالإخبات إليه، وكحسن التضرع واللجوء، وهذه لا تستخرج في وقت الرخاء واليسار. إن الابتلاءات تستخرج منك ما كان مكنوناً، إنها أحياناً تذرف من أقوام الدمع وترقق منهم القلب، فلا تكاد تشعر بنعم الله عليك إلا إذا حرمت هذه النعم، فلا تكاد تشعر بنعمة البصر إلا إذا ابتليت برمد، فإذا ابتليت برمد، أو بدمع لا ينقطع، أو بغشاوة على العين، شعرت بنعمة الله على سلامة البصر، وبنعمة الله إذ عافاك في البصر. أيها الإخوة: لا يشعر أحدكم بمعنى قول الله تبارك وتعالى: {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} [الإنسان:28] إلا إذا ابتلي بسلس البول، بلعاب يسيل ولا ينقطع، أو بنخام ونخاعات تنزل من الأنف {وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} [الإنسان:28] معناها: قوينا عضلات التحكم فيهم، فعضلات التحكم في الفم شدها الله وقواها، وكذلك في الأنف، وفي العين، وفي الأذن، وفي القبل والدبر، فلا تشعر بهذه الآية إلا إذا ابتليت بسلس للبول، لا يستطيع له الأطباء علاجاً، إلا إذا ابتليت بإسهال مستمر لا تستطيع التحكم فيه، إلا إذا ابتليت بصديد ينزل من الإذن لا تستطيع أن تتحكم فيه، فتشعر حينئذٍ بنعم الله تبارك وتعالى عليك {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} [الإنسان:28]، فالابتلاءات كما أن ترق بها القلوب بإذن الله، وبها تشكر نعم الله تبارك وتعالى على العبد. إن مصائب حلت لصحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام، بل وبرسولنا محمد عليه الصلاة والسلام وكان من ورائها حكم وغايات لا يعلم مداها إلا الله.

الحكمة من ابتلاء النبي عليه الصلاة والسلام والصحابة

الحكمة من ابتلاء النبي عليه الصلاة والسلام والصحابة إن مصائب حلت لصحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام، بل وبرسولنا محمد عليه الصلاة والسلام وكان من ورائها حكم وغايات لا يعلم مداها إلا الله.

صور من ابتلاء الصحابة الكرام

صور من ابتلاء الصحابة الكرام وهذا أبو بكر الصديق يبتلى بالمرتدين، ويبتلى بالطاعنين فيه من الروافض وقاتل الله الروافض الذين يقولون عن أبي بكر: إنه سرق ميراث رسول الله، وهو الذي قد تصدق بكل ماله لنصرة هذا الدين؛ لكن يبتلى من شراذم الروافض بأنه أكل ميراث فاطمة بنت رسول الله، وهو البار الصادق الخليفة العادل الراشد رضي الله تعالى عنه، وهو سيد شيوخ أهل الجنة. ويبتلى الفاروق عمر بالقتل وهو في صلاة الفجر، ولا يرعوي القاتل على حرمة لله، بل يقتل رجلاً عادلاً وهو يصلي صلاة الفجر، ويطعنه بخنجر وهو في صلاة الفجر، فأي فجور أشد من هذا الفجور، يقتل مسلماً وهو يصلي الفجر بخنجر مسموم، وتتحقق رؤيا عمر التي رآها قبيل وفاته: (رأيت كأن ديكاً أتاني فنقرني ثلاث نقرات)، فلما طعن الثلاث طعنات تلا عمر قول الله تعالى: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب:38]. فمهما احترزت -يا ابن آدم- لابد وأن يأتيك قدر الله تبارك وتعالى الذي قدر لك. وهذا أمير المؤمنين الخليفة الراشد عثمان بن عفان الحيي الذي تستحي منه الملائكة، الذي زوجه الرسول بابنتيه، يقتل قتلة بشعة، وهو يتلو كتاب ربه، فتسيل الدماء وتنزف وهو يتلو كتاب ربه، ولا يلوي قاتلوه على ذكرى ذكروا بها، فإنه ذكر الخوارج أمام أصحاب النبي وقال: أناشدكم الله يا أصحاب محمد! هل تعلمون أن الرسول قال: (من حفر بئر رومة فله الجنة) فحفرتها من خالص مالي، وجعلت دلائي فيها كدلاء المسلمين؟ أتشهدون لي بذلك يا أصحاب محمد؟ قالوا: نشهد لك بذلك، ثم يقول: يا أصحاب محمد! أتشهدون أن رسول الله قال: (من جهز جيش العسرة فله الجنة) فجهزته جميعاً من خالص مالي؟ قالوا: نشهد لك بذلك يا أمير المؤمنين! فقال: فبم يقتلونني؟ فبم يقتلونني؟ ثم يقول عثمان: والله! ما مسست ذكري بيميني منذ أسلمت، ولكن لا يلوي أهل البدعة على أحد، فقتلوه وهو يتلو كتاب ربه كما قال الشاعر: تمنى كتاب الله أول ليله وفي آخره لاقته حمام المقادر وهذا الخليفة الراشد علي أمير المؤمنين رضي الله عنه، ابن عم رسول الله، وزوج ابنته، يبتلى بخوارج فجرة عاثوا فساداً في الأرض، ابتلي بمكفرين كفروه، وهو أول من أسلم من الصبيان، بمكفرين كفروه وهو المبارز يوم بدر، بمكفرين كفروه وهو الذي نام في فراش النبي محمد عليه الصلاة والسلام ليلة الهجرة، بمكفرين كفروه وهو والد سيدي شباب أهل الجنة. ابتلي بخروجهم عليه، وقتلهم له وهو خارج لصلاة الفجر رضي الله تعالى عنه، فقتله خارجي ويفرح بقتله أشد الفرح، فلم يقتله ويحزن، بل يقتله وهو سعيد لأنه قتل علياً المبشر بالجنة، وهو أول من يجلس للخصومة بين يدي الرحمن عز وجل! ولا يقف الأمر عنده، بل ولداه سيدا شباب أهل الجنة حسن وحسين رضي الله عنهما، اللذان قال فيهما النبي: (هما ريحانتاي من الدنيا) أما الحسن فيذكرون أنه مات مسموماً، فالله أعلم بذلك وبمن سمه، وأما الحسين ابن بنت رسول الله فيحجب عن الماء حتى لا يشرب، والماء يشرب منه الكلب، ويشرب منه الكافر، ويشرب منه اليهودي والزنديق، وابن بنت رسول الله سيد شباب أهل الجنة مع أخيه ينظر إلى الماء وهو في أشد العطش ويحرم منه! ويأتي الآتي فيقطع رأس الحسين ويضعه في طست، ويذهب به إلى أمير غشوم ظالم يعبث بالسيف فيه، وبين الأسنان، ويطعن في حسن الحسين رضي الله تعالى عنه. أيها الإخوة: لقد ذهب بصر عبد الله بن عباس الذي كان يقرأ به كتاب ربه، ويلتمس أفضل التأويلات فيه، لقد ذهب هذا البصر الذي كان يطلع به على سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك صبر واحتسب رضي الله عنه، كما ذهب بصر العالم الصحابي الجليل جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه، وهم كرام كرام رضي الله تعالى عنهم، ومع هذا ابتلوا ابتلاءات شديدة. وهذا عبد الله بن الزبير أول مولود ولد في الإسلام بمدينة رسول الله يقتل، بل ويصلب على مشارف مكة التي كرمها الله، وخالته هذه زوجة رسول الله. أيها الإخوة: إن الابتلاءات تحل بأهل الإسلام كما تحل بغيرهم، كما قال تعالى: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء:104]، فنحن كمسلمين نرجو من الله الجنة، فينبغي أن نقدم مزيد صبر على البلاء، وينبغي أن نقدم مزيد احتساب للأجر فإنا نرجو من الله ما لا يرجوه غيرنا. وإن كانت الابتلاءات لازمة إلا أن سؤال العافية لازم أيضاً، قال عليه الصلاة والسلام: (إن السعيد لمن جنب الفتن، ولمن ابتلي فصبر فواها) ولقد كانت أكثر دعوة يدعو بها نبينا محمد: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار). فاللهم! ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. اللهم! جنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم! جنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن. اللهم! عافنا في أبداننا وفي أسماعنا وفي أبصارنا، واجعل ذلك الوارث منا يا رب العالمين! اللهم! عافنا في أزواجنا وذرياتنا، وأصلح لنا الأزواج والذريات، وأصلح لنا النيات يا رب العالمين! اللهم! مسكنا بالعروة الوثقى حتى نلقاك، اللهم! ثبتنا على كلمتي الإيمان والهدى حتى نلقاك. اللهم! من أراد بالإسلام والمسلمين خيراً فوفقه لكل خير، ومن أراد بهم شراً فعليك به، فإنه لا يعظم عليك أخذه يا رب العالمين! اللهم! ول على المسلمين خيارهم، واصرف عنهم شرارهم يا رب العالمين! ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا. اللهم! اشف مرضانا ومرضى المسلمين، وارحم موتانا وموتى المسلمين، واقضِ الدين عنا وعن المدينين، وفك أسرانا وأسرى المسلمين، وعليك بكل جبار عنيد، وبكل باغ مريد يا رب العالمين! اللهم صلِ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.

صور من ابتلاء الأنبياء

صور من ابتلاء الأنبياء الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: لقد سمعتم -أيها الإخوة- طرفاً مما ابتلي به من كان قبلنا، ولسنا جميعاً ببدع من الخلق، بل نحن خلق كسائر خلق الله تبارك وتعالى، نبتلى كالذين ابتلاهم الله تبارك وتعالى، وتتنوع علينا الخطوب وتتنوع علينا الابتلاءات كما تنوعت على من كان قبلنا، وقد قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2 - 3] وقد قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:31]، إن المستقرئ للتاريخ عموماً وكذا المستقرئ لكتاب الله يرى ما حل بالذين كانوا من قبلنا، وهذا عرض سريع جداً للإصابات والابتلاءات التي ابتلي بها من كانوا قبلنا: فأبونا آدم عليه السلام فضلاً عن طرده من الجنة يبتلى بابتلاء آخر شديد وشاق عليه أيما مشقة، يبتلى بأن يقتل ولده الطالح الشرير المفسد ولده الصالح، فتخيل إذا حل بك -يا عبد الله- هذا البلاء، إذا كان لك ولدان أحدهما صالح في غاية من الصلاح، وبار بك وتقي، والآخر شرير مفسد، فيتسلط الشرير المفسد على الصالح فيقتله، كيف سيكون الأمر؟! إن رحماً قطعت، إن دماءً سفكت، إن هموماً شربت، إن أحزاناً حلت، إن نيراناً أعدت، وإن جناناً كذلك أعدت، فماذا يصنع آدم عليه السلام أمام هذا الابتلاء الشديد المر القاسي؟ ولده الطالح يتسلط على الولد الصالح المذكر بالله ويقتله قتلة شديدة بشعة، أبوك آدم يبتلى بهذا عليه الصلاة والسلام. كذلك نوح عليه السلام فضلاً عن تكذيب قومه له، يرمونه بالجنون! ويزداد الرمي يوماً بعد يوم، يصنع السفينة على البر فيزداد رميهم له بالجنون، يقولون: انظروا هذا الذي كان يزعم أنه نبي، فدل على جنونه عندهم أنه يصنع سفينة على البر، والسفن تصنع في البحار، وتزداد السخرية وهو يحمل فيها من كلٍ زوجين اثنين، كيف بهم وهم يرونه يجمع قطاً وقطة، جدياً وعنزة، ديكاً ودجاجة، ويضعها على السفينة وهي على البر؟! إن السخرية منه قد ازدادت وازدادت؛ ولكن الله يعلم والبشر لا يعلمون، وابتلي فضلاً عن تلك السخرية والتكذيب بولدٍ عاق وبولد كافر، يدعوه نوح: {يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} [هود:42] فيقول الغبي: {سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود:43]، فيبتلى عليه السلام بموت ولده أمام عينيه على الكفر -والعياذ بالله- فموت الولد أمر مقدر على الجميع؛ لكن موته على الكفر أمر شاق على من يعلم عن الله أوامره ومن يعقل عن الله شرعه. كذلك يبتلى بزوجة مؤذية شريرة تدل الكفار على من آمن فيسومونهم سوء العذاب. أنتقل إلى الخليل الذي وفى، يبتلى خليل الرحمن بجبار عنيد، بحاكم ظالم مبير يقول له: أنا أحيي وأميت، ويدعي أن الإلهية له، يبتلى به فيصبر إبراهيم على البلاء ولا يجبن ولا يتراجع، بل يقول له بقوة وبصراحة وجرأة بلا مداهمة ومماراة: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة:258]، ثم يقول: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:258]، فكلمة الحق أمام هذا الطاغية الجائر لم تعجل بأجل إبراهيم عليه السلام، ويبتلى بنار أعدها له المجرمون وأشعلوها، وهم لا يمزحون ولا يداعبون ولا يهددون، بل قذفوه فيها وهو صابر محتسب يقول: حسبنا الله ونعم الوكيل. يبتلى كذلك في البدن فيؤمر بالختان، وهو في الثمانين سنة ولا يتردد، فيأتي بالقدوم -آلة النجار- فيقطع من نفسه الجلدة صابراً محتسباً لأمر الله، ويبتلى في ولده: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:102] فيجيب الابن البار {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا} [الصافات:102 - 103] أي: استسلما {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات:103] طرحه على وجهه وأتى بالسكين، فحينئذٍ نزل الفرج {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات:104 - 107]. أنتقل إلى الكليم الكريم موسى عليه الصلاة والسلام، ابتلاء تلو ابتلاء، من الجبابرة فرعون وهامان وقارون الكذاب، ومن بني إسرائيل، وقد ذكر في الموقوفات أن قارون أعد خطة للنيل من موسى عليه السلام، فأوعز إلى امرأة بغي من البغايا بعد أن أعطاها ألفين من الدراهم أن تقذف موسى بالزنا، فبينا موسى يخطب في بني إسرائيل قام قارون قائلاً: يا نبي الله! ما عقوبة من زنى وهو محصن؟ قال: عقوبته الرجم، قال: يا كليم الله! ما عقوبة من زنى وهو محصن؟ فقال: عقوبته الرجم، ثلاثاً، قارون يؤكد ويستثبت من الفتيا، فقال للمرأة: قومي فتكلمي. فقامت وقذفت موسى أمام الملأ بالفاحشة وهو كليم الرحمن، فقال موسى: أناشدك بالذي أنزل التوراة أهذا قد حدث؟ قالت: أما وقد ناشدتني فوالله! ما حدث هذا، ولا شيء من هذا، بل قارون أعطاني من المال كذا وكذا. في ذلك وفي غيره أيضاً يقول تعالى: {لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب:69]، فتهم تقذف للأبرياء، وأعراض تنتهك، وهم عليها صابرون، والله ينجيهم ويبرئ ساحتهم. أما عيسى روح الله وكلمته التي ألقاها إلى مريم، فهو الآخر يقذف من شراذم اليهود بأنه ولد زنا، وتتهم الصديقة الكريمة العفيفة المحصنة مريم عليها السلام بأنه زنى بها يوسف النجار الذي كان يدخل عليها المحراب، وهي الصديقة الكريمة التي أحصنت فرجها، فيمكن الله لعيسى شفاء المرضى بإذنه سبحانه وتعالى، من الأمراض المستعصية، يبرئ الأكمه والأبرص، بل ويحيي الموتى بإذن الله؛ ولكن يتهمونه بأنه ساحر عليه الصلاة والسلام. أما نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم فصنوف البلاء عليه تعددت، منذ ولد يتيماً تعددت وتنوعت، فنشأ يتيماً ثم ماتت أمه، فأصبح يتيم الأبوين، ثم يبدأ في رعي الغنم عليه الصلاة والسلام، ثم يعمل أجيراً عند خديجة بنت خويلد قبل تزوجها، ثم تمر به الأمور أمراً تلو أمر، فيؤذى في بلده، ويخرج منها وينظر إلى تلال مكة وجبالها وهو مهاجر والدمع ينحدر من عينيه قائلاً: والله! يا مكة! إنك لأحب بلاد الله إلى الله، وأحب بلاد الله إليّ، ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت، ثم تتوالى عليه الابتلاءات في المدينة من يهود، ومن أهل نفاق، ويرى رؤى مزعجة لما سيحل بأمته، ثم يموت ويلقى ربه صلوات ربي وسلامه عليه، كما مات غيره من الرسل، فيبتلى المسلمون بذلك وتتنوع الابتلاءات.

الصبر على البلاء سبب لمحبة الله

الصبر على البلاء سبب لمحبة الله أيها الإخوة! اصبروا على الابتلاءات تحظوا بمحبة ربكم، إن الله يحب الصابرين، إن الله مع الصابرين، {أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:157]. - فمن مقاصد الابتلاء نيل محبة الله بعد نيل الإمامة، ألم تروا أن أيوب عليه السلام نال درجة علية وشهادة سامية بصبره على البلاء؟ قال تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:44]، ثلاث شهادات لو نال واحدة منها شخص منا ما وسعته الدنيا بأسرها، قال: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:44]. هل نال الصديق يوسف درجة الصديقية إلا بالصبر على ما حل به من البلاء؟! هل نال نوح درجة العبد الشكور إلا بصبره على البلاء؟! وإبراهيم الذي وفى هل نال درجة الإمامة إلا بصبره على البلاء {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124]؟! الشاهد: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة:124] أي: بأوامر ونواهٍ، فقام بهن وصبر، فقال الله له: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة:124] فالإمامة تنال بالصبر محبة الله تنال بالصبر معية الله تنال بالصبر الدرجات ترفع بالابتلاءات والصبر عليها. جعلنا الله وإياكم من الصابرين، استغفروا ربكم إنه كان غفاراً.

حادثة الإفك وما يستفاد منها من الحكم والغايات

حادثة الإفك وما يستفاد منها من الحكم والغايات أيها الإخوة: إن الابتلاءات تفرز حكماً لم نكن ندركها إلا بهذه الابتلاءات، فلقد أفرز حادث الإفك الأليم حكماً وغايات لا يأتي عليها الحصر، ذكر العلماء منها مائة فائدة، منها: - إحسان الظن بأهل الإسلام {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ * لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور:12 - 13]. فليست كل شائعة يطعن بها في عرض وينال بها من مسلم تصدق؛ كلا، بل يلزمنا الظن الحسن بإخواننا أهل الإسلام {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور:12] وكما قال تعالى في شأن هذا الحادث {لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور:11]، إن الصديقة بنت الصديق نالت إمامة بسبب هذا الحادث. - وكذا الابتلاءات تنال بها الإمامة {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24]، إن الصديقة عائشة نزل في شأنها قرآن يتلى في المحاريب ويحفظ في الصدور، ويدرس في الكتاتيب، وفوق ذلك هو ثابت بين دفتي المصحف إلى أن يأتي أمر الله، ثابت ثناء الله عليها وتبرئتها في هذا الكتاب العزيز: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور:11]، وكذا ثابت في شأنها {َالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور:26] كله ثناء على عائشة. - استفيد من هذا الحادث رغم مرارته إقالة عثرة ذوي العثرات وذوي الهيئات، إذ أن الله تبارك وتعالى قال: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:22]، فالصبر الصبر.

غزوة أحد وما فيها من ابتلاء وما يستفاد منها

غزوة أحد وما فيها من ابتلاء وما يستفاد منها ابتلي النبي عليه الصلاة والسلام بالذي ابتلي به يوم أحد، ولم يكن أمراً عند المسلمين متوقعاً، فلم يكن متوقعاً عند أهل الإيمان الذين أقروا لله بالوحدانية ولنبيه بالرسالة أن يدال عليهم أهل الكفر، وأن يغلبهم يوماً ما أهل الكفر، لكن قدر الله وما شاء فعل، ابتلي المسلمون -ببعض ما قدمت أيديهم- بأن يدال عليهم عدوهم، ابتلي المسلمون يوم أحد بقتل أفاضل كرام، فقتل حمزة عم رسول الله، الشجاع المقدام الذي هو أسد الله بوصف رسول الله له، وتأتي امرأة آنذاك شريرة مفسدة كافرة بسكين فتبقر بطنه وتستخرج الكبد تلوكها بلسانها، وتجدع من حمزة الأنف، تقطع الأنف بالسكين، وتقطع أعضاءه وتمثل به تمثيلاً شديداً، وحمزة هو من؟ حمزة عم رسول الله عليه الصلاة والسلام. ولا يقف الأمر على ذلك، بل رأس النبي الكريم عليه الصلاة والسلام شج، ونزف منه الدماء، وتأتي فاطمة عليها السلام بماء تغسل به الرأس الكريم لإزالة أثر الدماء فلا يزداد الدم إلا انصباباً من رسولنا محمد، ولا يسكن الدم، حتى تأتي بحصير وتحرقه وتأخذ رماده وتسد به جرح النبي عليه الصلاة والسلام. وليس هذا فحسب بل تكسر رباعيته وهو الصادق المصدوق سيد الناس يوم القيامة، فسيد ولد آدم، تكسر رباعيته عليه الصلاة والسلام! ولا يقف الأمر عند هذا بل يقف كافر عند ذاك فيقول متطاولاً ظالماً باغياً: (اعل هبل). أي: صنم هبل ارتفع يا هبل، ارتفع يا هبل فقد ارتفعت، كذا يزعم، ويقول: (لنا العزى -أي: لهم الصنم العزى- ولا عزى لكم). كل ذلك يفعل في خير القرون مع خير الرسل مع سيد ولد آدم، وسيتعجب أهل الإسلام فيقولون: أنّى هذا؟! كيف يحدث هذا؟! كيف يكون هذا؟! كيف يدال أهل الشرك وأهل الظلم على المسلمين؟! من أي وجه أتانا هذا؟! فيقول تعالى: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165]، أنتم الذين تسببتم لأنفسكم، بمعصية بعضكم للنبي عليه الصلاة والسلام. فيستفاد من ذلك درس، وهو أن المعاصي لها شؤم -والعياذ بالله- حتى مع خير القرون، إنها تسبب البلاء، إنها تسلط عليك العدو الباغي الأثيم، إنها تحرم الأرزاق كما حرم آدم سكن الجنة بسببها، وكما كشف عنه ستره وغطاؤه، وانكشفت عورته وطفق يستر نفسه بورق من ورق الجنة بسبب معصيته إلى أن تاب الله عليه. لقد تلقى المسلمون دروساً من غزوة أحد، فعلينا أن نستفيد منها نحن ونتعلم، والأمر كما قال هرقل وقد سأل أبا سفيان بن حرب عن نبينا محمد قبل أن يسلم أبو سفيان بن حرب قال له: هل حاربتم هذا الرجل؟ قال: نعم حاربناه، قال: كيف كان قتالكم إياه؟ قال: الأيام بيننا دول والحرب بيننا سجال، ينال منا وننال منه، قال هرقل -وكان كافراً لكنه كان حكيماً-: وهكذا الرسل تبتلى ثم تكون لها العاقبة. إذاً: لقد تلقى المسلمون من غزوة أحد دروساً نافعة جداً، فرغم ما مسهم من الأذى وما أصابهم من القرح، من الله عليهم بمنن لا يأتي عليها الحصر من وراء هذه الغزوة المباركة، فقد علموا أنه لابد من إعداد العدة للكفار، عدة إيمانية وعدة كذلك من العتاد، كما قال تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران:121].

ابتلاء العباد [1]

ابتلاء العباد [1] جعل الله تبارك وتعالى الحياة الدنيا دار ابتلاء واختبار، فمن العباد من يبتلى بالضراء، ومنهم من يبتلى بالسراء، فمن صبر في الضراء وشكر في السراء فاز وربح، ومن كان غير ذلك خاب وخسر. ومن نظر إلى أحوال أهل البلاء فحري به أن يشكر نعمة الله عليه بالعافية.

الدنيا دار ابتلاء

الدنيا دار ابتلاء الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداًَ عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. وبعد: فقد شاء الله سبحانه وتعالى أن يجعل هذه الحياة الدنيا دار ابتلاء واختبار؛ ولذلك خلق خلقه، كما قال تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان:2]، وكما قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك:2]، وقال سبحانه: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقّ} [المؤمنون:115 - 116] أي: تعالى الله عن العبث، فهو الملك الحق: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:116]، وقال سبحانه كذلك: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} [القيامة:36 - 37]، فلذلك معشر الإخوة: خلق الله سبحانه وتعالى خلقه للابتلاء وللاختبار، حتى سيدنا ونبينا محمد عليه الصلاة والسلام، قال الله له كما في الحديث القدسي عند مسلم: (إن الله قال لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام: وإني مبتليك ومبتلٍ بك) هكذا قال الله سبحانه -في الحديث القدسي- لنبيه محمد عليه أفضل صلاة وأتم تسليم. فهذه هي الحياة الدنيا كلها وما عليها ابتلاء، وكلها وما عليها اختبار، حسن الحسن، وجمال الجميل، وثراء الغني، وفقر الفقير، وصحة الصحيح، ومرض المريض، كل ذلك ابتلاء، قال الله سبحانه: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف:7]، ثم قال مبيناً مآلها بعد ذلك: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} [الكهف:8]، وقال الله سبحانه محذراً من هذه الفتنة: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:131] (أزواجاً منهم) أي: أصنافاً من الكفار.

الإحسان إلى أهل البلاء

الإحسان إلى أهل البلاء انظروا إلى من حولكم من أهل البلاء، وتفكروا في أحوالهم، ولا تنسوا شكر نعم الله عليكم، ولا تنسوا مواسات إخوانكم الذين ابتلاهم الله سبحانه، أمدكم الله بنعمة الأمن في بيوتكم، ونعمة المطعم والمشرب، ولكن ثَم مسلمون في أنحاء العالم وبقاع الأرض مشتتون ومشردون ليس لهم مأوى يأوون إليه، فعليك أن تحمد الله إذا آويت إلى فراشك عند نومك، وتقول ما علمك نبيك محمد عليه الصلاة والسلام مستشعراً نعمة الله عليك: (الحمد لله الذي كفانا وآوانا)، حقاً كم ممن لا كافي له ولا مؤوي؟ إخوانكم في بلاد العالم من المسلمين يشردون ويشتتون ويفارقون الأهل والديار والأموال والأولاد، يتركون كل ذلك فراراً بدينهم، وفراراً بأنفسهم من أعداء الله سبحانه، وأنتم تطالعون ذلك في الصحف، فإخوانكم في بلاد كوسوفا يشتتون ويشردون ويطردون، تاركين الأهل والأولاد والأثاث والمتاع فراراً بدينهم ثم فراراً بأنفسهم من العدو النصراني الصليبي الحاقد، يشتتون أيما تشتيت، وتبقر بطون النساء، ويذبح الأولاد، كالذي كان يصنع على عهد فرعون الأثيم، وآخر شيء وصلني في نشرة من إخواننا هنالك: رجل وزوجته وابنته التي تدرس هنالك، قتل زوجها وهي تبلغ من العمر ثمانية وعشرين عاماً وهي حامل، فجاء هؤلاء الكفرة الصرب الظالمون إلى هذا البيت، وأمروهم بالخروج منه، وقالوا: بعد أن تدفعوا عن كل رأس منكم مائة -من عملتهم- فدفعوا عن كل شخص منهم مائة، فقالوا: وأين مائة الجنين؟ فقالوا: هذه المائة للجنين، فقالوا: إننا نأخذ على الذكر مائة وعلى الأنثى مائتين، فقالوا: هذه المائة التي معنا لكونه ذكراً إن شاء الله، فقالوا لرب البيت: إن لم يكن ذكراً شنقت، وفعلاً أتوا بالمشنقة، ووضعوا رقبته فيها، والكرسي تحت رجليه، فقالوا: غاية ما نفعل بك إذا كنت كاذباً أن نسحب الكرسي من تحت رجليك! وجاءوا إلى المرأة الحامل وبقروا بطنها وهي حية بلا رحمة ولا شفقة، فاستخرجوا المولود فكان ذكراً، ففكوا المشنقة من عنق الرجل، وذبحوا المولود، وتركوا الوالدة ينزف دمها حتى ماتت! هذه أفعال بشعة تفعل بإخوانكم من أهل الإسلام. فضلاً عن إخراجهم من ديارهم وهم مئات الألوف، فاحمدوا الله الذي أطعمكم من جوع، والذي آمنكم من خوف، وهذه النعمة لا يستشعرها الناس إلا إذا سلبت منهم، استعيذوا بالله من قهر الرجال، فأي قهر لرجل يذبح ولده بين يديه؟ أي قهر يحدث لك أن ترى رجلاً يفعل بامرأتك الفاحشة؟ يهتك عرض ابنتك أمام عينيك، ورأسك يداس بالأقدام وبالنعال، أي قهر للرجال أشد من هذا القهر يا عباد الله؟! فاحمدوا الله على نعمة الأمن التي تعتبر ابتلاء من الله، وشاركوا إخوانكم الذين ابتلاهم الله بمثل هذه البلايا بالدعاء، أو بالمال، فشاركوا إخوانكم بشيء من التبرعات بكفالة يتيم هنالك، أو سد جوع جائع هنالك، أو كسوة عارٍ، حتى يزكي الله قلبك ومالك، وتستشعر أنك تشارك إخوانك ولو بالشيء اليسير، استشعاراً لإخوة الإسلام التي تربطك بهؤلاء الأعاجم، لا يربطك بهم نسب، ولا يربطك بهم حسب، بل ولا تربطك بهم لغة، فلغتهم غير لغتك، ليس بينك وبينهم إلا أخوة الدين والإسلام. يا عباد الله! استشعروا برباط الإسلام الذي يربطكم بإخوانكم، فليتبرع لهم متبرع ولو بعشرة قروش، فإن النبي قال: (اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة)، وأمكم عائشة رضي الله عنها جاءتها امرأة معها ابنتان تسألها، فدخلت عائشة رضي الله عنها إلى البيت فما وجدت شيئاً غير تمرة، فأخرجتها وسلمتها للمرأة، فشقتها المرأة بين ابنتيها نصفين، فأخبرت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال عليه الصلاة والسلام: (من ابتلي بشيء من هذه البنات فصبر عليهن، كن له ستراً من النار يوم القيامة)، فيا معشر الإخوة عليكم بالدعاء لإخوانكم، وعليكم بالتبرع لإخوانكم، والحمد لله على كل حال. اللهم! انصر الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم! أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم! خذ بأيدينا ونواصينا إلى البر والتقوى، اللهم! عليك بالصرب الظالمين وبكل باغٍ معتد أثيم يارب العالمين، اللهم! انصر الإسلام والمسلمين، وأيدهم بنصرك وبتأييدك يا سميع الدعاء يا مجيب السائلين، وكلل اللهم مساعينا جميعاً بالتوفيق، وتقبلها بقبول حسن, واجمعنا جميعاً مع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في أعلى جناتك، جنات الخلد التي أعدت للمتقين.

الحث على التوبة لمن لم يصبر عند البلاء

الحث على التوبة لمن لم يصبر عند البلاء الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: معشر الإخوة: كم ابتلينا واختبرنا فرسبنا في الابتلاءات والاختبارات! كم منا من شخص ابتلي فلم يقل ما يرضي الله عز وجل، ولكن رب العزة سبحانه وتعالى فتح باب التوبة للتائبين، فتح باباً لا يغلق لمن أراد أن يتوب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن للتوبة باباً مفتوحاً لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها) وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل)، فجدير بكل من رسب في هذا الاختبار، أو لم يقم بشكر نعمة أنعم الله بها عليه أن يرجع إلى الله، أن يرجع إلى الله مستغفراً أواهاً منيباً، فالله سبحانه وتعالى يحث كل مذنب أن يرجع إليه، قال تعالى -وانظر إلى هذه الآية الطيبة الكريمة ذات المعاني العظيمة، التي عدها بعض أهل العلم من أرجى الآيات في كتاب الله-: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمِ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:110]، فأي آية في الحسن بعد هذه الكلمات؟ فيا معشر الإخوة: أحبوا ربكم كما يحبكم ربكم، ربكم سبحانه يحبكم ويصلي عليكم ليخرجكم من الظلمات إلى النور، فاشكروه واحمدوه واستغفروه، وتدبروا آياته، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب:41 - 42]، ثم قال بعدها في الآية التي تلتها: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:43]، فكأن معنى الآية -والله أعلم-: كما أن الله سبحانه وهو في السماء مستوٍ على العرش، يصلي عليكم، وملائكته يصلون عليكم ليخرجكم من الظلمات إلى النور فبالمقابل اذكروه ذكراً كثيراً وسبحوه بكرة وأصيلاً، فإنه سبحانه وتعالى بالمؤمنين رحيماً. فجدير بكم -معشرة الإخوة- أن تقابلوا نعم الله بالشكر، وتقابلوا ابتلاءات الله أياً كانت أنواعها بالصبر؛ ليجد ربكم سبحانه الواحد منكم صابراً من أهل الفضل والصلاح: {نَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:44]، فكل من ابتلي بالضراء عليه أن يكون في عداد الصابرين، وكل من ابتلي بالسراء عليه أن يكون من الشاكرين.

الحكمة من الابتلاء

الحكمة من الابتلاء فيا معشر الإخوة: ليكن أحدكم فطناً لما يدور حوله، ولما يحل به ولما هو فيه، فوالله! قد تبتلى وأنت لا تشعر، تخرج من بيتك آمناً مطمئناً، تأكل وتشرب وأنت في أمن وفي رغد من العيش، وهذا في نفسه فتنة، الأمن فتنة ستسأل عنها يوم القيامة، ومن ثم قال تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:3 - 4]، وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت:67] أي: هلا قاموا بشكر نعمة الأمن؛ فالناس يتخطفون من حولهم! هلا قاموا بشكر نعمة الصحة والعافية، والناس مرضى يتوجعون من حولهم! هلا قاموا بشكر نعمة الغنى؛ والناس يتضورون جوعاً من حولهم. قال رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام وقد ذهب إلى بيت رجل من الأنصار هو وأبو بكر وعمر، فقرب لهم ماءً ورطباً فأكل النبي وصاحباه وشربوا، ثم قال (والذي نفسي بيده! -أقسم الرسول والحديث ثابت وصحيح- لتسألن عن نعيم هذا اليوم)، فهذا ابتلاء ولكنك لا تشعر به. يا عبد الله! يا من آتاك الله منصباً! اعلم أن في المنصب ابتلاء لك، فلا تزدرِ من هم تحت يديك، يا من أصيب بالفقر! اعلم أن في الفقر ابتلاء لك فكن من الصابرين، وللابتلاءات حكم فاعلمها واغتنم الخير منها، قال تعالى: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام:43] أي: هلا تضرع هؤلاء المبتلون فمدوا أيديهم ورفعوها إلى السماء، فجدير بكل من ابتلي أن يرفع يد الضراعة إلى الله سائلاً إياه بكشف الضر، وكذلك قال ربنا سبحانه حاثّاً لنا على الصبر عند البلاء -في شأن أيوب عليه السلام -: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:44]، فليجد الله كل من ابتلاه منا صابراً فلنصبر على ما ابتلانا الله سبحانه وتعالى به، قد تبتلى بجار من جيران السوء، قد تبتلى بحاكم ظالم، قد تبتلى بمفسد في الريف، فلتصبر على كل أنواع البلاء كلها، واسأل الله العون والسداد، وفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه، وثبتنا على الحق وإياكم، واستغفروا ربكم إنه كان غفاراً.

ابتلاء الأنبياء والرسل

ابتلاء الأنبياء والرسل معشر الإخوة: لسنا بدعاً من الخلق، فقد ابتلي آباؤنا من قبلنا؛ ابتلي أبونا آدم صلى الله عليه وسلم، ولكن قدر الله وما شاء فعل، ابتلي آدم بشجرة -وهذا أمر الله وقضاؤه- فأخرج من الجنة، قال الله له ولزوجه: {كُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأعراف:19]، ولكن جاءه إبليس الغوي ليغويه، ويقول له: {يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} [طه:120]، وأيضاً أقسم له بالله على ذلك كما قال تعالى: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:21]، فأنزلهما عن رتبة الطاعة بخداع، فلما عصيا أمر ربهما نزع عنهما ستره كما قال تعالى في كتابه الكريم: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا) [الأعراف:27]، وهكذا تفعل المعاصي تعري بعد ستر -والعياذ بالله- قال تعالى: {يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا} [الأعراف:27] ظهرت العورات وانكشفت بسبب المعصية، {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} [الأعراف:22] حتى يسترا عوراتها، نعوذ بالله من الفضائح! ثم تاب الله عليهما. ثم جاء ابنا آدم وابتلي أحدهما بالآخر فقتله. وجاء نوح فابتلي بوصف قومه له بالكذب، وهو الصالح العاقل النبي الكريم الحليم الرشيد صلى الله عليه وسلم، نوح العاقل الكريم أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض يتهم بأنه كذاب وبأنه مجنون، ومن أشق أنواع الابتلاء أن تبتلى بابن يقول عنك: إنك كذاب، أو بأب يقول عنك: إنك كذاب، أو بجيران كذلك، وأنت الصادق النزيه، فابتلي نوح عليه السلام بهذا النوع من أنواع الابتلاء، وهو أشق أنواع الابتلاء على النفس، كما قالت عائشة: (يا رسول الله! هل أتى عليك يوم هو أشد من يوم أحد؟ -تعني: أشد عليك من هذا اليوم الذي شج فيه رأسك، وكسرت فيه رباعيتك، وبقر فيه بطن عمك حمزة فاستخرجت كبده فلاكته امرأة- قال: نعم يا عائشة! لقد لقيت من قومك ما لقيت وكان أشد ذلك علي أنني خرجت يوماً أعرض نفسي على عبد ياليل بن عبد كلال فكذبني وردني)، فكان هذا أشق على رسول الله عليه الصلاة والسلام من شج رأسه، ذهب إلى رجل يدعوه إلى الله، ويبين له طريق الخير والشر، فيقول له: ارجع فأنت كذاب، ابتلي نوح بهذا النوع من هذا البلاء. أما الخليل إبراهيم عليه السلام فتعددت بلاياه، ابتلي بالعقم وعدم الإنجاب، ابتلي بلقاء الجبابرة، ابتلي بعد ذلك بالولد حيث رزق به، ثم أمر بذبح الولد، كما قال ربنا: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات:106 - 107]. وابتلي موسى وقال الله في شأنه: {وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه:40]. وابتلي سليمان عليه السلام، فقال تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} [ص:34]، وقبله أبوه داود قال تعالى: {وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص:24 - 25].

صور الابتلاء

صور الابتلاء وفي هذه الحياة الدنيا الكل مبتلى بالآخر، قال تعالى: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف:32]، وقال سبحانه: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان:20]، فالكل مبتلى في هذه الحياة الدنيا، لا تكاد تنجو من ابتلاء إلا وقعت في ابتلاء آخر، مؤمناً كنت أو غير مؤمن، ورب العزة يبين لنا ذلك، يبين لنا أنه يختبرنا ويبتلينا، أحياناً إجمالاً وأحياناً صراحة في الشيء الذي أنت مقدم عليه، يقدم الحجيج على الحج في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام فيقول الله لهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة:94] أي: يا من أحرمتم بالحج {لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} [المائدة:94]، ولما مرّ طالوت بالجنود قال لهم صراحة: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} [البقرة:249] أي: مختبركم بنهر، وأحياناً يأتي التنبيه بالابتلاء إجمالاً: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2 - 3]، فيكون الشخص في فتنة كفتنة الفقر -والعياذ بالله من الفقر- فيكافح ويكافح إلى أن ينجو من فتنة الفقر، فيبتلى بفتنة أخرى في ولده، يأتيه ولد شقي غوي يكدر عليه حياته، فيسلم من فتنة الولد فيبتلى بفتنة في الزوجة، فيسلم من فتنة الزوجة فيبتلى بحادث في طريقه يدمر عليه سيارته، ويكون سبباً في خراب بيته، وفي تحطيم جسمه وإصابته، يعافى من ذلك، فيبتلى بجار من جيران السوء ينكد عليه معيشته، فيبتلى بالسراء ويبتلى بالغنى، وهذا من شر أنواع البلاء؛ لأنها تطغي ولأنها تنسي، كما قال سبحانه: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6 - 7]، وكما قال سبحانه: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا} [الإسراء:83]، فيبدأ بالطغيان واحتقار العباد إلا من رحم الله سبحانه وتعالى، كما قال سبحانه وتعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35]، فهذه الحياة الدنيا كلها ابتلاء واختبار، ولا تظن أبداً أنك ما دمت معافى في البدن، معافى في المال، وسيماً في منظرك، في أبهة من الأبهات، لك منصب، ولك جاه، لا تظن أن هذا إكرام من الله سبحانه وتعالى لك، فلو كان هذا إكراماً من الله لك لما قال سليمان النبي الكريم الذي سخرت له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب، والشياطين كل بناء وغواص، وجاءه عرش ملكة سبأ واستقر عنده قبل أن يرتد إليه طرفه: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل:40]، تبتلى بالفقر ليعلم الله هل تمتد يدك إلى الحرام أم تقنع بالحلال؟ تبتلى بالصحة والعافية ليُعلم هل تواسي أهل البلاء أم لا؟ وليُعلم كذلك هل تستعمل صحتك في طاعة الله ومرضاته أم أنك من الذين قال الله فيهم: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة:205 - 206]؟ يبتلي الله العباد بصنوف من الابتلاءات، تكون نائماً وقرير العين في البيت وإذا بطارق يطرق عليك الباب -ونعوذ بالله من طوارق الليل والنهار إلا طارقاً يطرق بخير يا رحمان- يقول لك: انزل؛ ابنك فُقئت عينه! انزل؛ أبوك أصيب بحادث! اخرج؛ أمك قد ماتت! ابتلاء من حيث لا تحتسب، كل هذا اختبار وابتلاء من الله سبحانه، فمن الناس من يعرف الحكمة من وراء ذلك فيقول كما قال سبحانه: (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:156 - 157]، وآخرون يقولون متحسرين متأسفين: {لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [آل عمران:156]. فلابد -معشر الإخوة- أن نفقه الحكمة من خلقنا، والله! ليست كي نأكل ونشرب، ونتلذذ بالمطاعم وبالنساء على الفرش، ثم ماذا بعد ذلك ما الذي ينتظرنا؟ ينتظرنا قبر موحش مظلم -والعياذ بالله- نسأل الله أن يجعله علينا جميعاً روضة من رياض الجنان.

ابتلاء العباد [2]

ابتلاء العباد [2] إن الابتلاء سنة ماضية منذ أن خلق الله الخلق، به يعرف الصابر من الجازع، ويعرف الشاكر من الكافر، والله عز وجل حين قدر البلاء على بعض عباده جعل لهم لقاء صبرهم ثواباً ومنزلة لا يبلغها غيرهم، فكان أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل.

التخويف من النار

التخويف من النار الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: معشر الإخوة: إننا نعيش في غفلة شديدة حتى عن كتاب ربنا الذي بين أيدينا، وقد حق على المسلمين شكوى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال الله سبحانه: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30]، فالكثير منا وإن تلا هذا الكتاب العزيز لا يتدبر معانيه، ومن أعظم المعاني التي جاءت وسيقت في كتاب ربنا تلكم المعاني التي تذكرنا بما هو آتٍ، وأعظم ما هو آت هو النار، تلك النار التي خوف الله سبحانه وتعالى بها عباده، فلا يرقأ لأحد دمع، ولا يهدأ له بال كلما مر على آيات تصف هذه النار التي أعدت للكافرين، وأعدت أيضاً للعصاة المجرمين الآثمين، جمعت هذه النار كل صنوف العذاب، ذكر الله في كتابه صور الإذلال والتعذيب الموجودة في هذه النار، فذكر فيها طعاماً من أسوأ الأطعمة، وشراباً من أسوأ الأشربة، ومناماً هو أسوأ منام، ذكرت فيها صور الإذلال والامتهان لكل من عصى ربنا الرحيم الرحمن. كل ما يتوقع ويتصور من صور التعذيب موجود في هذه النار، ففي شأن طعام أهل النار يقول الله سبحانه وتعالى: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ * لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) [الغاشية:6 - 7]، ويقول سبحانه: (وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ) [الحاقة:36 - 37] ويقول الله سبحانه: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا * وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا} [المزمل:12 - 13] وما معنى (طعاماً ذا غصة)؟ هو طعام ينشب في الحلوق كما يقول العامة: (لقمة وقفت في حلقي)، طعام ينشب في الحلوق ويتعلق بها، تأتي تبلعه فلا تستطيع، هذا شيء من صور طعام أهل النار. أما شرابهم: فكما قال الله سبحانه: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:29]، ماؤه من بخار الماء الشديد الحار، يحترق وجه الشخص -والعياذ بالله- قبل أن يصل الماء إلى الشفاه. وأما منامهم: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) [الزمر:16]، {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأعراف:41]. أما ثيابهم: فكما قال ربنا: {قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الحج:19 - 22]. أماكنهم التي يسكنونها أماكن ضيقة والعياذ بالله! وضيق الأماكن صورة من صور العذاب كما قال سبحانه: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا} [الفرقان:13] أي: دعوا على أنفسهم بالهلاك، قال الله سبحانه: {لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} [الفرقان:14]. أماكنهم التي يدخلونها عميقة، كان النبي صلى الله عليه وسلم جالساً مع أصحابه فسمع وجبة -أي: صوتاً شديداً- فقال لأصحابه: (أتدرون ما هذا؟ هذا حجر ألقي في النار منذ سبعين خريفاً فلم يصل إلى قعرها إلا الآن) أماكن موحشة مظلمة! كذلك الرفقاء فيها رفقاء سوء، لا تجد عندهم أنس بحال من الأحوال، بل يلعن بعضهم البعض الآخر، ويلعنون من دخل فيها كما قال ربنا: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:38]، كل ما تتخيل من صور العذاب موجود في النار، تخشى في دنياك من الوحوش والحيات، لكن العاصي يوم القيامة -كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في شأن مانع الزكاة-: (يطارده شجاع أقرع) وهي: حية ضخمة وعظيمة سقط شعر رأسها من شدة السم الذي فيها، فيلاحق مانع الزكاة، ويقول له هذا الشجاع: أنا كنزك أنا مالك، ثم يطوقه برقبته كما قال تعالى: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [آل عمران:180]، ويقضم يده كما يقضم الفأر! ومن صور الامتهان في الدنيا أن تدوس على شخص برجلك، وفي الآخرة يقول سبحانه: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ} [فصلت:29]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر يطؤهم الناس بأقدامهم)، ويقول عليه الصلاة والسلام: (من آتاه الله إبلاً فلم يؤد زكاتها بطح لها يوم القيامة بقاع قرقر) -أي: يوضع في قاع مستوٍ من الأرض- وتأتيه إبله أعظم ما كانت، تطؤه بأقدامها، وتنطحه، كلما مر عليه أخراها عاد عليه أولاها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم ينظر بعد ذلك سبيله إلى الجنة أو إلى النار. ومن صور العذاب في الدنيا الكي بالنار، وفي الآخرة كذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته صفحت له صفائح من نار، يكوى بها وجهه وجبينه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة)، ثم ينظر سبيله إلى الجنة أو إلى النار، وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة:34 - 35]، كل صور العذاب -والعياذ بالله- التي تتخيلها واردة في نار جهنم مع الفارق بين نار الدنيا ونار الآخرة كما قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: (ناركم التي توقدون عليها جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم، قالوا: وإن كانت لكافية يا رسول الله! قال: إنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً) أو كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وهي نار مغلقة على أهلها، وهم في داخلها في عمد ممدة، كما قال سبحانه: {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُوصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} [الهمزة:8 - 9]، وكما قال: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:29].

الحث على تدبر آيات الوعيد والنار

الحث على تدبر آيات الوعيد والنار أيها الإخوة الكرام: كتاب ربكم الذي بين أيديكم لا تخلو سورة من سوره في الغالب عن ذكر هذه النار؛ ولذلك أرسل الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم نذيراً ومخوفاً منها كما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الأحزاب:45]، وقال له لما تدثر بالفراش: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:1 - 2] قم فخوف الناس مما يستقبلهم، قم خوف الناس من نار جهنم، ولذلك يقول ربنا سبحانه وتعالى في شأن نبينا محمد عليه الصلاة والسلام: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} [الأنعام:15 - 16] فمن صرف عنه عذاب جنهم فقد رحمه الله، وتقول الملائكة: {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [غافر:9]، ولذلك كان رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام دائم الاستعاذة بالله من النار في صلواته وبعد انقضاء صلواته وفي مجالسه وطرقاته، وهل لأحد من طاقة بهذه النار؟! جرب بنفسك مرة، وقف فقط بجانب القدر وهو يغلي وقرب منه وجهك وانظر ما الذي ستجده؟ يا عباد الله! اتقوا النار كما قال رسولكم محمد صلى الله عليه وسلم، أي: اجعلوا بينكم وبينها وقاية، اجعلوا بينكم وبين النار وقايات، حتى يقيكم الله من هذه النار، وأعظم هذه الوقايات -كما لا يخفى عليكم- توحيد الله سبحانه وتعالى، فمن لم يوحد الله عز وجل واتخذ شريكاً معه دخل النار بلا إشكال، وثَم وقايات أخر، وقايات يجعلها الشخص بين نفسه وبين النار، ومن هذه الوقايات الصدقة كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ولو بشق تمرة) فإنها تحجبك عن النار، فإن لم تجد فكما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (فمن لم يجد فبكلمة طيبة). معشر الإخوة! اقرءوا كتاب ربكم قراءة الموقن المصدق بما أُعد، لا تقرءوه قراءة المجود له فحسب، بل اقرءوه قراءة المتدبر المصدق بوعده وبوعيده، المتفكر في آياته، اقرءوا قول الله عز وجل: {إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} [غافر:71 - 72] اقرءوا هذه الآيات وتعقلوها، اقرءوا قول ربكم سبحانه: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [فصلت:21]، اقرءوا بتمعن قول ربكم واعقلوه: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ * وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:93 - 94] اقرءوا وأيقنوا بقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الأنفال:50]، تخيل المجرم الأثيم وقت الاحتضار والملائكة تستقبله بالضرب على وجهه وعلى دبره قائلة له: (ذق عذاب الحريق). فيا معشر الإخوة! كتاب الله بين أيديكم، ولكن من هو العاقل المتدبر المتأمل؟ الفرق بينكم وبين أهل الكفر: أنكم أقررتم بهذا الكتاب وأيقنتم أنه من عند الله سبحانه، وأن نبيكم محمداً عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى، هذا الفارق بينكم وبين أهل الكفر، فما بالكم لا تقبلون على هذا الكتاب، ولا تقرءونه وتنظرون ماذا يريد منكم ربكم، وماذا ينتظركم في قبوركم وعند موتكم وعند بعثكم، لم لا تدبرون القرآن هذا التدبر؟ إن النبي عليه الصلاة والسلام صح عنه أن قال: (يؤتى بأنعم أهل الدنيا يوم القيامة فيصبغ صبغة في النار ثم يقال له: يابن آدم! هل وجدت نعيماً في حياتك قط؟ فيقول: لا والله ياربي! ما وجدت نعيماً في حياتي قط)، صح هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين وفي غيرهما. فجدير بكم أن تزهدوا عما في دنياكم الزائلة الفانية، فالموت يتخطف الناس من حولكم، سواءً كانوا أهل علم وصلاح، أو أهل فجور، كل يتخطف من حولكم، ويدفن بأيديكم، ويوارى أمام أعينكم، وقد قال الله سبحانه: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [الرعد:41]، وقد قال فريق من أهل العلم في تأويل قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} أن ذلك يكون بقبض أهل العلم كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من قلوب العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رءوساً -أو رؤساء- جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا) وثم أقوال أخر منها: أن الناس يموتون من حولهم، وثم قول ثالث: أن البلاد الكافرة كانت تسلم وتدخل الإسلام على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام فتنقص دائرة الكفر. فيا عباد الله: أقبلوا على كتاب الله، أقبلوا عليه إقبال العقلاء أهل الفهم الصحيح الثاقب، واسألوا ربكم العون والتوفيق، والله المستعان.

كل نفس ذائقة الموت

كل نفس ذائقة الموت الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: معشر الإخوة: في كل يوم نشيع ميتاً، سواءً كان قريباً، أو حبيباً، أو حتى عدواً، وسواء كان عالماً، أو جاهلاً، نشيع صغيراً أو نشيع كبيراً، نشيع شاباً أو نشيع شيخاً، نشيع طفلاً رضيعاً أو نشيع عجوزاً شمطاء، والله سبحانه وتعالى كتب الآجال على العباد، وما أحد منا يدري متى أجله، فإن الله استأثر بهذا العلم عنده سبحانه وتعالى، وقد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:34]، والعقلاء منكم يفهمون ذلك، فمنا من كان يصلي معنا في الأسبوع الذي مضى، وهو الآن مع المقبورين، ولا ندري نحن عن أنفسنا هل نحن غداً في عداد الأحياء وفي عداد أهل الدنيا أم أننا من أهل القبور؟ الله أعلم بذلك كله، فإن الشخص ينام ولا يدري هل هو ممن قال الله فيهم: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الزمر:42] ? معشر الإخوة: كل نفس ذائقة الموت كما أخبر ربنا سبحانه وتعالى، والموت في نفسه مصيبة كما قال الله سبحانه: {فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} [المائدة:106]، وللموت سكرات، فرسولنا اعترته بعض هذه السكرات، وهو سيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام، وهو الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقد حضرته سكرات الموت ويده في ركوة فيها ماء، فجعل يمسح رأسه وجبينه ويقول: (لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات)، هذا وهو نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، وإن كان للموت سكرات، وإن كان لنزع الروح آلام، وإن كان الفراق يؤلم ويوجع ويحزن؛ لكن ثَم ما هو أعظم، وهو أن يموت العبد مفرطاً في حق الله، فليس كل ميت يبكى عليه، أما البكاء حق البكاء فهو على رجل مات مفرطاً في جنب الله، مضيعاً لحقوق الله، البكاء حق البكاء على رجل مات تاركاً للصلاة متوعداً بقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:4 - 5]، متوعداً بقوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم:59]، البكاء حق البكاء على امرأة ماتت متبرجة؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم في شأن المتبرجات: (صنفان من أهل النار لم أرهما: نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها)، البكاء حق البقاء على رجل مات وهو آكل للربا، أو آكل لأموال الناس بالباطل، أو آكل لأموال اليتامى ظلماً، هذا الذي ينبغي أن تتصدع عليه الأكباد، ولذلك جاءت أم حارثة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -وكان حارثة قد قتل ببدر أصابه سهم غرب، لا يعرف راميه فقتله- وقالت: (يا رسول الله! أخبرني عن حارثة، أخبرني عن ولدي، فوالله! يا رسول الله! إن كان في الجنة صبرت واحتسبت، وإن كان غير ذلك ليرين الله ما أصنع) فإن كان غير ذلك حق لها أن تبكي عليه وأن تتوجع وأن تتألم، أما إن كان في الجنة فكما قال الرسول عليه الصلاة والسلام لما نعى إلى أصحابه زيداً وجعفر وابن رواحة: (وما يسرهم أنهم عندنا)، وفي رواية: (وما يسرنا أنهم عندنا)، فهكذا قالت أم حارثة: (يا رسول الله! أخبرني عن حارثة إن كان في الجنة صبرت واحتسبت، وإن كان غير ذلك ليرين الله ما أصنع)، فقال لها رسول الله عليه الصلاة والسلام: (أوهبلت يا أم حارثة؟ إنها جنان، وإن ابنك قد أصاب الفردوس) فلها حينئذ أن يسكن حزنها، بل ولها أن تبتهج وتسر.

الاستعداد للموت

الاستعداد للموت فيا معشر الإخوة: من كان له قريب عزيز عليه فليذكره بتقوى الله، وليرده إلى طريق الله سبحانه، فوالله! مهما مات من إخوان فالحزن كل الحزن على من مات مفرطاً في جنب الله، فيقول يوم القيامة: {يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [الزمر:56 - 57]، أو يقول حين يرى العذاب: {لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر:58]، هذا هو الذي يبكى عليه، والعياذ بالله. فيا معشر الإخوة: قوا أنفسكم وإخوانكم من النار، واحذروا مما يقرب إليها من قول وعمل، فدنياكم مهما تكالبتم فيها ومهما تصارعتم فيها؛ فأمرها إلى قلٍ، وأمرها إلى زوال، وأمرها إلى فناء. فيا معشر الإخوة: أحسنوا العمل، وأخلصوا النوايا لله، وطهروا القلوب، واستعدوا للرحيل فقد أزف، فالغالب منكم مضى من عمره النصف على الأقل، وقد قال نبيكم محمد عليه الصلاة والسلام: (أعمار أمتي ما بين الستين والسبعين وقليل من يتجاوز ذلك)، أو كما قال عليه الصلاة والسلام، وماذا ينتظر أحدكم إلا ما قال الشاعر: يسر الفتى طول السلامة والبقا فكيف يرى طول السلامة يفعل يرد الفتى بعد اعتدال وصحة ينوء إذا ما رام القيام ويعمل وأحسن من ذلك قوله تعالى: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ} [يس:68]، وقد كان نبيكم محمد يتعوذ بالله من أن يرد إلى أرذل العمر فصلوات الله وتسليماته عليه. فاعلموا أنكم على الغد القريب سيكون حالكم كحالهم، فمغلقة عليكم أبواب المقابر كما تغلقونها على الناس، ومغسلون ومكفنون ومصلىً عليكم كما تصلون على الناس. اللهم! انصر الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واختم لنا جميعاً بخاتمة خير أجمعين، يا رب العالمين! اللهم! ارحم علماء المسلمين يا رب العالمين! نور لهم في قبورهم، ووسع لهم فيها يا أرحم الراحمين! وخذ بنواصينا إلى الخير، واجعلنا من المتذكرين المعتبرين.

اتباع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم في السراء والضراء

اتباع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم في السراء والضراء أرسل الله تعالى رسله لتبليغ شرعه، وأمر خلقه باتباعهم واقتفاء سنتهم، ولما أرسل الله محمداً صلى الله عليه وسلم أمر أمته باتباع شرعه، ونهاهم عن مخالفته حتى ولو أدال عليهم الأمم، وجعل أصحاب نبيه عليه الصلاة والسلام وعلماء الأمة سرجاً يهتدى بها كل هذا حتى لا يكون للناس حجة على الله.

الترغيب في تعلم السنة والسيرة النبوية

الترغيب في تعلم السنة والسيرة النبوية بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. وبعد: إن سيرة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم هي خير السير على الإطلاق، وكلامه صلى الله عليه وسلم هو أحسن الكلام، وهديه هو خير الهدي، وحديثه أصدق الحديث صلوات الله وسلامه عليه، ومن ثَم أمر الله سبحانه وتعالى أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا معه ويتفقهوا في دينهم منه، فقال الله جل ذكره: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122] أي: فهلا خرج من كل قبيلة فرقة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المغازي، تأتم به، وتتأسى به، وتتعلم منه، ثم ترجع إلى أهلها فتنذرهم وتحذرهم، (فلولا نفر) أي: فهلا خرج نافراً مع رسول الله في المغازي، {مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}، فيحث الله سبحانه وتعالى أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم على الخروج معه في مغازيه للتعلم منه ونقل هذا العلم إلى القبائل، أما وقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا نستطيع الخروج مع النبي صلى الله عليه وسلم في مغازيه فلا يسعنا إلا اتباع سننه، والاطلاع على سيرته صلوات الله وسلامه عليه، وقد شاب السيرة كثيرٌ من الأحاديث الضعيفة والموضوعة التي لا تثبت، ولكن ثم قدر كبير كاف ووافٍ ثابت من الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة، فضلاً عما في كتاب الله سبحانه وتعالى من بيان لهذه السير والمغازي. فلنتناول شيئاً من هذا الثابت من خلال كتاب ربنا سبحانه، ومن خلال سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الثابتة الصحيحة، ففيها مدّكر ومعتبر.

سنة الابتلاء

سنة الابتلاء يقول الله سبحانه وتعالى مخاطباً أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم، والناس لهم تبع، وذلك عقب غزوة أحد: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:140 - 141]، حزن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهم والغم الذي لحقهم وأصابهم في غزوة أحد، كيف يحدث هذا وهم مسلمون مؤمنون ومعهم سيد ولد آدم محمد صلى الله عليه وسلم؟ تنالهم الهزيمة وتلحقهم الجروح، يشج رأس نبيهم صلى الله عليه وسلم، وتكسر رباعيته -أي: السن التي في المقدمة-، ويقتل أحب رجل إليه وهو عمه حمزة، ويمثّل به، فتبقر بطنه، وتستخرج كبده وتلوكها هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان، ويمثّل بـ أنس بن النضر ويمزق جسمه، ولا يعرفه أحد إلا أخته وعرفته ببنانه، أي: بأطراف أصابعه. حزن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لذلك، وحزنوا لمقالة أبي سفيان: أعل هبل، فقال الله لهم مخففاً ومسرياً عنهم، ومعلماً لهم ولمن جاء من بعدهم: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ} [آل عمران:140] قتل وجرح، {فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} [آل عمران:140] وذلك يوم بدر، {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140]، سنة الله في الحياة أن الأيام دول، أنت اليوم منتصر وغداً مهزوم، أنت اليوم صحيح معافى تعزي الناس، وتشهد جنائزهم، وهم غداً معك يعزونك في مصابك، ويشهدون جنائزك، هذه حال الحياة الدنيا، الكافر والمؤمن فيها سواء، لم يقدر على الكفار دائماً بالهزيمة، ولم يقدر على المؤمنين دائماً بالنصر، بل الأيام دول كما أخبر الله جل ذكره، وقد سأل هرقل أبا سفيان عن حالهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل حاربتموه؟ قال: نعم. قال: كيف كانت الأيام بينكم وبينه؟ وكيف كانت الحروب؟ قال: الحروب بيننا وبينه دول، ننال منه مرة، وينال منا مرة. قال هرقل: وهكذا حال الرسل، يدال عليهم ثم تكون لهم العاقبة. فهذا هو شأن الحياة الدنيا، لا تبقى لشخص على وتيرة واحدة، ولو كان النصر دائماً حليفاً للمؤمنين لأورثهم طغياناً وكبراً واستغناء عن الله سبحانه وتعالى، ولكن يكسروا ويدال عليهم مرة، ثم يعلو أمرهم وينتشر قولهم، هذه سنة الله سبحانه وتعالى في خلقه. يشترك الكفار وأهل الإيمان في مصائب الدنيا وفي حلاوتها قال الله جل ذكره: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي: فمتاع الحياة الدنيا يشترك فيه الكفار والمؤمنون: {خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:32]، أي: لا يشارك المؤمنين فيها أحد يوم القيامة، فهكذا حال الحياة الدنيا.

صبر أتباع الرسل عند البلاء

صبر أتباع الرسل عند البلاء قال الله: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ * وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} [آل عمران:145 - 146]، (ربيون) في تفسيرها أقوال، أحدها: العلماء، والثاني: الألوف، وكأينٍ من نبي قاتل معه ألوف كثيرون، وعلماء كثيرون، وأبرار كثيرون، {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [آل عمران:146]، ما وهنوا وما ضعفوا في سبيل الله، بل احتسبوا ذلك عند الله، ليسوا كمن قال الله فيهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11]، فمن الناس من يظهر تمسكاً بالكتاب والسنة ثم أمام أدنى ابتلاء يسقط ويولي الأدبار، نعوذ بالله من تولية الأدبار! أما الربيون فليسوا كذلك، ثبتهم الله، قال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا} [آل عمران:146]، إمامهم محمد صلى الله عليه وسلم يبتلى فيصبر، تسيل يديه بالدماء فيقول لإصبعه والدم ينزف منها: (وهل أنت إلا إصبع دميت، وفي سبيل الله ما لقيت)، أما إخواننا الآن فليسوا كذلك: أخٌ يلتحي، فتأخذه الشرطة يوماً فلا يرجع إلا وهو منتكس! كأن الهموم استحوذت عليه -والعياذ بالله-، أي خورٍ أشد من هذا الخور؟ لم يضرب ولم يلطم ولم يؤذ فترك الجمعة والجماعات، وولى الأدبار من أجل شرطيّ قبض عليه في كمين لاتباعه لسنة النبي الأمين عليه الصلاة والسلام! الربانيون ليسوا كذلك، فالربانيون أو الربيون ما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا، فالله يحبهم، والله يحب الصابرين، فما كانوا قولهم -حتى تتأسوا بهم- إلا أن قالوا عند حلول المصائب ونزول البلايا ولقاء العدو: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} [آل عمران:147]، هكذا قالوا؛ علموا أن عدوهم ينتصر عليهم بسبب ذنوبهم، فطلبوا من الله المغفرة، قالوا: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:147]، طلبوا من الله المغفرة، لم يزكوا أنفسهم بل اعترفوا بإسرافهم على أنفسهم بالذنوب، وهذا حال المؤمن لا يزكي نفسه بل يتواضع ويخشى من صغار الذنوب، قالوا: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} فلا يثبت إلا من ثبته الله {وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}. إذاً: قبل طلب النصر نطلب مغفرة الذنوب، هكذا ينبغي أن يكون العبد قبل طلب النصر والرزق يطلب مغفرة الذنوب، لا ترفع الأكف إلى الله وأنت ظالم ومعتد وآثم، لا ترفع أكف الضراعة إلى الله وقد لوثت نفسك بمظالم العباد، بل اطلب من الله غفران الذنوب والحط من الخطايا ثم سله الرزق والعافية: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:147 - 148].

موت النبي ابتلاء عظيم

موت النبي ابتلاء عظيم قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:140 - 141]، إلى قوله: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:143 - 144]، وهذه الآية كانت إرهاصاً وتقدمة لموت رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ فليستعد المسلمون لاستقبال موت رسولهم وحبيبهم صلى الله عليه وسلم، ولكن منهم من وعى الآية وعقلها وحفظها، ومنهم من لم يكد يتصور أن نبيه سوف يموت صلى الله عليه وسلم، مع توافر الآيات في هذا الباب، كقوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30]، وكقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء:34]، وكقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185]، مع توافر هذه الآيات لم يكد بعض الصحابة يتصور أن النبي صلى الله عليه وسلم سوف يموت، فقدم الله ذكر ذلك في غزوة أحد تمهيداً لوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليستعد المستعد وليتأهب المتأهب، قال الله جل ذكره: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} [آل عمران:144]، هذا شأنه: أنه بشر، لكنه رسول من عند الله: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ}، أي: مضت من قبله الرسل، رسول كشأن سائر المرسلين، كإبراهيم، ونوح، وموسى، وعيسى، وإخوانه من المرسلين ليس بإله، ولا بملك، ولا من حملة العرش، بل هو رسولٌ قد خلت من قبله الرسل: {أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144]. هذه الآيات نزلت في غزوة أحد لما تفشى في الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قتل، ولما قال أبو سفيان: (أفي القوم محمد؟ قال الرسول صلى الله عليه وسلم: لا تجيبوه، ثم قال أبو سفيان: أفي القوم أبو بكر؟ قال: لا تجيبوه، ثم قال أبو سفيان: أفي القوم ابن الخطاب؟ قال الرسول صلى الله عليه وسلم: لا تجيبوه، فحينئذ انتشى أبو سفيان وسعِد لأن هؤلاء قد قتلوا، ثم قال: يوم بيوم بدر، والحرب سجال، والأيام دول، كذا قال أبو سفيان، ثم استطرد قائلا: وفي القوم مُثلة -أي: مثلنا برجل وهو حمزة - لم آمر بها ولم تسوءني، ثم طفق قائلاً: أعل هبل، فـ عمر ما أطاق هذه الكلمات: فرد عليه قائلاً: أي عدو الله! قد أبقى الله لك ما يسوءك. انتشر بين الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل، فحزن قومٌ لذلك أشد الحزن، وقال فريقٌ منهم: وما لنا في الحياة بعد موت نبينا عليه الصلاة والسلام؛ وتقدموا للقتال، وحزن آخرون واستكانوا، فعاتب ربنا الجميع فقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144] ولما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في الأجل الذي كتبه الله له وحدده، أخبر عمر بموت الرسول صلى الله عليه وسلم فما صدق أن الرسول قد مات، وذهب ينهر ويزجر من زعم أن النبي قد مات، وقال: إنه سيرجع ويقطع أيدي رجالاً وأرجلهم، وأبى أن يقر بموت رسول الله، والناس من حوله يلتفون؛ فجاء أبو بكر ذلكم البار الراشد العاقل الحافظ، فقال: أيها الرجل المتكلم! على رسلك، فالتف الناس حول أبي بكر، وتركوا عمر، فقال: أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ثم تلا قوله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144]. فلا تعلق عبادتك على موت شخص أو حياته، أياً كان هذا الشخص، وأياً كانت منزلته وقدرهُ، فربك سبحانه حيٌ لا يموت، قريبٌ يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، يقترب منك ذراعاً إذا اقتربت منه شبراً، يقترب منك باعاً إذا اقتربت منه ذراعاً، يأتيك هرولة إذا أتيته تمشي، فكن على صلة بربك، وكن على ثقة به سبحانه وتعالى، قال سبحانه: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران:145]، فلماذا الحزن والهم؟ ولماذا النكد والجبن؟ ولماذا الخوف؟ فالأرزاق مقسومة، والآجال مقدرةٌ مضروبة.

ابتلاء الصحابة يوم أحد

ابتلاء الصحابة يوم أحد قال الله جل ذكره: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ * وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [آل عمران:142 - 143]، كان أصحاب رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم يتمنون الموت، والمراد بالموت هنا -كما قال فريق من المفسرين- الشهادة في سبيل الله، فجاء يوم أحد واتخذ الله فيه الشهداء؛ فمنهم من أطاق وأقدم وتحمل، ومنهم من تكاسل عن ذلك وقصر، بل ومنهم فرّ وولى الأدبار. فهذا أنس بن النضر رضي الله تعالى عنه غاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر، وحزن حزناً شديداً لكونه غاب عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقال: غبت عن رسول الله يوم بدر، وإن أشهدني الله مشهداً مع رسول الله ليرين الله ما أصنع، فكان يوم أحد، فتقدم، ولقي سعد بن معاذ الذي اهتز له عرش الرحمن لما مات، فقال له وقد احتدمت المعركة: يا سعد! تقدم وأقبل يا سعد! فوالله! إني أشم رائحة الجنة خلف أحد، قال سعد: فما استطعت أن أصنع الذي صنع! تقدم أنس بن النضر فتمزق جسمه عن آخره، تمزق وجهه وسائر بدنه بالسيوف وبالسهام، ولم يظهر أي شيء منه إلا أطراف الأصابع، حتى قال سعد بن معاذ: والله! ما استطعت أن أصنع الذي صنع! وفيه نزل قول الله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23]. أما بعض الصحابة الأفاضل فولوا الأدبار، فـ عثمان رضي الله عنه فر يوم أحد، لكن الله عفا عنهم كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} [آل عمران:155]، وسيأتي لها مزيد تأويل إن شاء الله.

حكمة الله في الابتلاء

حكمة الله في الابتلاء قال الله تعالى ذكره: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ}، ولكن فضلتم عليهم بشيء {وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104]، فرجاؤكم يستلزم منكم صبراً وجهداً؛ فاصبروا على طاعة الله، وجاهدوا ابتغاء مرضات الله، هكذا الحياة الدنيا، تصاب -أيها المؤمن- مرة، والكافر كذلك هو الآخر يصاب مرة، هكذا تتداول الأيام بين الناس. ولكن شتانٌ بين مصيبة يصاب بها المؤمن فترتفع درجاته، ومصيبة يصاب بها الكافر أو الفاجر كمقدمة للعقوبات التي تنزل عليه من الله سبحانه وتعالى، فعقوبات المؤمن كفارة له حتى الشوكة يشاكها، أما الكافر والفاسق فهي بشائر انتقام من رب العالمين من هذا الكافر وذاك الأثيم، قال سبحانه: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ} فلا تحزنوا، {فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ}، يوم بدر، {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} [آل عمران:140]، فرب رجل لم يوصله عمل صالح إلى منازل من منازل الكرامة التي أعدها الله له في الجنان، قد تكون لك في الجنة درجة عالية رفيعة، وعملك الصالح قصر ولم يوصلك إليها؛ صلواتك قليلة، صدقاتك قليلة، حجك قليل، ذكرك قليل، ولكن كُتبت لك عند الله الحسنى، فحينئذ تبتلى بأنواع من الابتلاءات في بدنك وأهلك وأولادك حتى ترفع درجتك وتعلو منزلتك عند الله سبحانه وتعالى. قال الله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران:140]، وقد كان اتخذ الله شهداء كثير من أصحاب نبيه محمد صلى الله عليه وسلم يوم أحد، {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} -ليبتلي الله أهل الإيمان- {وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:140 - 141]. ثم قال سبحانه: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:142]، أم حسبتم: أفظننتم أن تدخلوا الجنة ولم تبتلوا حتى يظهر منكم الكاذب في دعواه من الصادق؟ هذا ظن خاطئ، فمن ظن أن الحياة السعيدة تدوم له دائماً وأبداً، فقد أخطأ وخالف سنن الله سبحانه وتعالى، فإن الله قال: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2]، فلا تظن هذا الظن أبداً، وتوقع البلاء في أي لحظة من السراء أو الضراء، فالابتلاءات تتشكل وتتنوع، ولا يفقهها ولا يعلمها إلا أولو الأبصار وأصحاب العقول، أما رأيت سليمان عليه السلام لما رأى العرش مستقراً عنده: {قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النمل:40]؟ هذا نوع بلاء، فغاية الإكرام تحمل غاية الابتلاء، وما يعقلها إلا العالمون.

قبض الله العلم من الأرض

قبض الله العلم من الأرض صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من قلوب العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً -وفي رواية: رؤساء جهالاً- فسئلوا فأفتوا بغير علمٍ؛ فضلوا وأضلوا). قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من قلوب العباد)، هذا قبل أشراط الساعة الكبرى، أما من أشراط الساعة الكبرى: أن ينتزع العلم من قلوب العباد، قال حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه: (يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب، فيسرى على كتاب الله في ليلة؛ فلا يبقى في الأرض منه آية، ويقول الشيخ الكبير كلمة واحدة علقت بذهنه من الدين: لا إله إلا الله، فيقول له ولده: يا أبت! ما هذه الكلمة التي تقولها، فيقول: يا بني! وجدنا آباءنا يقولونها فنحن نقولها)، هذا بين يدي الساعة، لكن قبل الأشراط الكبرى للساعة، العلم يقل، قال عليه الصلاة والسلام: (من أشراط الساعة أن يقل العلم، ويكثر الجهل).

السنة في قبر الموتى والعلماء وغيرهم

السنة في قبر الموتى والعلماء وغيرهم ثم مات أقوامٌ معاصرون، ففي بلدنا هذا مات بعض أهل العلم، فالتف الناس حول جنازته كما هو وارد عن رسول الله، وفي الدعاء للأموات خير، والميت رحمه الله تعالى كان محسناً، ولكنه بشر من البشر، يجري عليه ما يجري على البشر، فقد قال الله عن نبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]، لكن نحن الذين جئنا بعد الأموات لا ينبغي أبداً أن نفتن بأي شخصٍ كائناً من كان؛ فعبادتنا لربنا هي الأصل، من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، وليس من الأموات أحد بمعصوم، فأقوال كل شخص يحكم عليها بموافقتها للكتاب والسنة أو بمخالفتها للكتاب والسنة، ولكن الذي أحزننا -ونسأل الله العوض والخير- أن يتخذ قبر الشيخ المتوفى رحمه الله تعالى بجوار المسجد، وتنشأ حوله مقصورة، وقد علمنا جميعاً حديث نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم حين قال في مرض موته: (لا تجعلوا قبري عيداً، لا تجعلوا قبري عيداً)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا إن من كان قبلكم اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد؛ فإني أنهاكم عن ذلك). معشر الإخوة: لنا شرعٌ يتبع مهما كان الميت، مات الشيخ محمد شعراوي رحمه الله تعالى، ونسأل الله أن يوسع له في قبره، وأن ينور له فيه، ولأمواتنا ولعموم المسلمين، آمين يا رب العالمين! ولكنه بشر، ملزم بشريعة رسول الله كما يلزم بها غيره، لكن عندما تفشى في أصحاب الوجاهات مخالفات للسنن، وفارقوا بها غيرهم؛ والناس يهتمون بأصحاب الوجاهات ويصلون عليهم صلاة الغائب، وصلاة الغائب لم تصلَّ إلا على من لم يصل عليه أصلاً، أما إذا مات شخص وصُلي عليه في بلدته أو مكانه فلا تشرع عليه صلاة الغائب، فنبينا ما ثبت عنه أنه صلى صلاة الغائب إلا على النجاشي، وكان النجاشي بأرض الحبشة، فمات بها وكان أهلها من الكفار، فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً لأصحابه: (إن أخاً لكم قد مات بالحبشة، فصف أصحابه، وكبر بهم أربع تكبيرات)، أما حال الناس الآن: أنهم إذا مات شخصٌ له وجاهة صلوا عليه صلاة الغائب، وإذا مات مسلم آخر لم يصلوا عليه صلاة الغائب، فهذه التفرقة لا دليل عليها لا من كتاب ولا من سنة. مات الشيخ محمد متولي شعراوي رحمه الله، وجعلوا قبره مجاوراً للمسجد محاطاً بمقصورة؛ فنخشى غاية الخشية ألا يمر عام إلا وقد أُنشئ له مولد، وقد أقيمت حول قبره بدعة، ونبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم يوصي فيقول لـ علي: (لا تدع قبراً مشرفاً إلا سويته)، مشرفاً، أي: عالياً، إلا سويته. وعمر لما ذهب يستأذن عائشة أن يقبر بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم، أرسل ابن عمر وقال له: قل لها: إن عمر يستأذن أن يدفن بجوار صاحبيه، فإن أذنت فالحمد لله، وإن لم تأذن فردوني إلى مقابر المسلمين، فأذنت عائشة، وعثمان الخليفة البار الراشد دُفن في مقابر المسلمين، فما أخال ولا أظن أحداً أكثر منه غنى، عثمان من أهل الجنة، صاحب رسول الله، الحيي الكريم يدفن مع سائر المسلمين، وكذلك طلحة والزبير وسائر أصحاب النبي الأمين، رضي الله تعالى عنهم أجمعين. فالشاهد: أن الشيخ رحمه الله تعالى لا نعلم أبداً أنه أوصى أن يبنى له هذا القبر وأن يدفن فيه، ولا نعلم هل دفن فيه أم لا؟ بل يخبرنا إخواننا أنه جزاه الله خيراً دفن في مقابر المسلمين، لكن نخشى أن هذا البناء الموجود القائم الآن يحال إلى قبر، وأن ينتقل برفاته إليه، فيصبح عنده عيد من الأعياد المبتدعة، ومولد من الموالد المستقبحة المستهينة التي نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم. ليس للشيخ رحمه الله ذنبٌ فيما أحدثوه من بعده، فالعزير ليس له ذنبٌ مع الذين قالوا: عزير ابن الله، والمسيح ليس له ذنبٌ مع الذين قالوا: المسيح ابن الله، فإن الله قال: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:101]، وقال تعالى: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، أما نحن فيلزمنا اتباع سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، وندعوا للميت بالرحمة، ولا نفتن به، ولا نصرف عن ديننا بسببه، ولا نحدث في ديننا إحداثاً ونتحمل نحن آثامها وآثام من ارتكبها، لنا ديننا ولنا هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فنحذر أيما تحذير من اتخاذ القبور مساجد، ومن المغالاة في حب الأشخاص حتى لا نفتن، ليس الشيخ محمد رحمه الله بأفضل من الحسين سيد شباب أهل الجنة، ولا بأفضل من الحسن، ولكن له منا جميعاً أن نكثر من الدعاء له ولسائر الأموات أن يرحمهم الله سبحانه، وأن يفسح لهم في قبورهم وأن ينور لهم فيها، نسأل الله سبحانه أن يوسع لهم جميعاً في القبور، وأن ينور لهم فيها. ثم أيضاً أقواله كأقوال غيره من أهل العلم لا تؤخذ بالتسليم المطلق، بل هو قد أصاب في مسائل وأخطأ في أخرى، كما أصاب الصحابة في مسائل وأخطئوا، أقواله كأقوال غيره تعرض على الكتاب والسنة، فهما خير حكم، بل لا حكم غيرهما على الأقوال والأشخاص، فكلٌ يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر كما قال الإمام مالك رحمه الله، فيا عباد الله! الله الله! في سنة نبيكم محمد وفي اتباع الشرع، لا تحيدوا عنه ولا تنحرفوا عنه.

قبض العلم بموت العلماء

قبض العلم بموت العلماء تقدم أن العلم يقبض بقبض العلماء، وفي الحقيقة أنه قد مضى من أمة محمد علماء أجلاء، خيرهم وأفضلهم على الإطلاق رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، فإن كان لنا معزى فعزاؤنا برسولنا محمد صلوات الله وسلامه عليه، سيد ولد آدم، فخير معلم هو عليه الصلاة والسلام، فمن أراد أن يتذكر مصيبته فليتعز بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فقد جرى عليه ما يجري على البشر، حتى قالت ابنته فاطمة لـ أنس بعد أن أتى من دفنه عليه الصلاة والسلام: يا أنس! أطابت نفسك أن تحثو على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب؟ ولكن {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب:38]، مات بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، وهم خير قرن، وخير أمة أخرجت للناس، مات الصحابي الجليل أبي بن كعب الذي كان سيداً من السادات، وكان أعلم الناس بالقراءات كما قال عمر: (أقرؤنا أبيُّ، مات الحَبر ابن مسعود الذي قال عن نفسه: (والله! ما من آية في كتاب الله إلا وأنا أعلم أين أنزلت وفيمن أنزلت، فوالله! لو كنت أعلم أحداً أعلم بكتاب الله مني تبلغه المطايا لأتيه)، كل ذلك قال والصحابة لا يردون عليه بشيء، احتراماً لعلمه وتقديراً لقدره، حتى أن عمر نظر إليه وقال: (كنيف ملئ فقهاً رضي الله تعالى عنه). مات كذلك أعلم الصحابة بالفرائض: زيد بن ثابت العالم الجليل الذكي التقي، تعلم لغة قوم في خمسة عشر يوماً لما أمره رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتعلم السريانية، مات وذهب يشيع جنازته عبد الله بن عباس الذي كان في يوم من الأيام يأخذ بلجام الدابة ويبركها له، فيقول زيد بن ثابت: (يا ابن عم رسول الله! دع عنك لجام الدابة، فيقول: لا، هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا، وبعظمائنا وبكبرائنا، ويأخذ له بلجام الدابة ويبركها له)، فينزل زيد لـ ابن عباس ويقبل رأسه ويقول: (هكذا أمرنا أن نفعل بآل بيت رسول الله عليه الصلاة والسلام)، تواضع متبادل من الطرفين، كل يعطي الآخر حقه الذي هو له، ولا يبخسه حقه، مات زيد بن ثابت وذهب ابن عباس يشيع جنازته؛ فدفن زيد وأهيل عليه التراب، فقال ابن عباس وهو ينظر إلى التراب الذي يهال عليه: إنا لله وإنا إليه راجعون، لقد دفن اليوم علمٌ كثير). ولما مات حذيفة بن اليمان صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي أعلمه رسول الله بأسماء أهل النفاق، كما في أحاديث الفتن، لما أدركته الوفاة التي كتبت على العباد، ما كان يزكي نفسه بأنه ليس من أهل النفاق، لا يزكيها ولا يثني عليها، وكذلك من حوله، ينظر إليهم حذيفة فيقول: (اللهم! إني أعوذ بك أن يكون ممساي في النار) هكذا يقول حذيفة تواضعاً منه رضي الله عنه وأرضاه. إلى غير هؤلاء العلماء الكرام من التابعين كـ ابن المسيب وعروة وقتادة، ثم من بعدهم كـ مالك والشافعي وأحمد، وأبي حنيفة وغيرهم من العلماء، ثم غير هؤلاء كثير، جمٌ غفير: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ} [الجمعة:8]. كل هؤلاء الكرام لم يكونوا معصومين من الأخطاء، كلهم جهلوا مسائل وعلموا مسائل، {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:76]، كل الصحابة والتابعين وأتباع التابعين منهم من أفتى وأصاب في فتواه، ومنهم من أفتى فتاوى جانبت الصواب، أما نحن أهل الاتباع فلا يسعنا أن نتابع أحداً على مسألة أخطأ فيها أياً كان شأنه بعد ظهور الدليل من كتاب الله ومن سنة رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام.

التحذير من إيواء أهل البدع والمحدثين

التحذير من إيواء أهل البدع والمحدثين ثم نذكركم بحديث لرسول الله صلوات الله وسلامه عليه؛ إذ قد خالفه الكثيرون إما جهلاً منهم وإما استخفافاً به، ألا وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله من آوى محدثاً، لعن الله من غير منار الأرض)، أما تغيير منار الأرض، فتغيير العلامة التي تحدد حد الأرض التي لك ولصاحبك. أما الذي يعنينا هو حديث: (لعن الله من آوى محدثاً)، فكثير من الناس يؤجرون بيوتهم لأقوام لا أخلاق لهم ولا دين، فإذا رفع إيجار السكن أو الدكان، يؤجر له بصرف النظر عن دينه، فإذا أسكنت رجلاً فاسداً في بيتك أو امرأة من البغايا أو تاجرة للمخدرات، أو أسكنت رجلاً فاسقاً في البيت أو يبيع الدخان في محل لك، أو يتخذه مقهى أو ملهى من الملاهي المحرمة؛ فأنت آثم، ولا تبعد عن الذين آووا المحدثين، ولا عن اللعنة التي توعدك بها رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام، كذلك الذين يئوون أصحاب الموالد، ويستقبلونهم، ويحيون البدع في بيوتهم، هؤلاء أيضاً ينسحب عليهم حديث رسول الله: (لعن الله من آوى محدثاً)، فجدير بكل صاحب بيت ومحل وعمل ألا يئوي إليه محدثاً من المحدثين، بل عليه أن يفكر أن الفاسد إذا سكن البيت، فأول من تصاب به أنت، وأول من تبتلى به ذراريك، لا تسكن في بيتك رجلاً قبيحاً غير محترم، لا تسكن في بيتك نساء كاسيات عاريات يفتنك وأبناءك، لا تسكن في البيت امرأة متبرجة تتبرج أمامك وأمام أبنائك، فكم من بلية حدثت بسبب هذا الاختلاط المزري! فيا عباد الله! اتقوا الله في أنفسكم، وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78 - 79]. اللهم! أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، واجعلنا للمتقين إماماً. اللهم! طهرنا من عيوبنا، وأعنا على إصلاح أخطائنا، واسترنا في حياتنا وبعد مماتنا وعند لقائك، يا رب العالمين! اللهم! صل وسلم وبارك على نبينا محمد أفضل صلاة وأتم تسليم، اللهم! ارحم أمواتنا وأموات المسلمين يا رب العالمين! وصل اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

تحذير عباد الرحمن من همزات الشيطان

تحذير عباد الرحمن من همزات الشيطان الشيطان حريص على إدخال الأحزان إلى قلوب المؤمنين، وله في ذلك طرق كثيرة، وقد حذرنا الله ورسوله منها، ومن تلك الطرق الأحلام المفزعة، وهي مما لا يكاد يخلو منها أحد من عباد الله، وبناءً على هذا فإن للأحلام آداباً شرعية ينبغي العلم بها، ولتعبير الرؤيا أصول يحسن الإلمام بها.

التحذير من الشيطان الرجيم

التحذير من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. وبعد: إنَّ الله سبحانه وتعالى حذرنا في جملة آيات من كتابه من الشيطان، فقال سبحانه: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6]، وقال سبحانه: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27]، ويقول سبحانه: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} [يس:60 - 62]، والنصوص في هذا الباب متظافرة ومتكاثرة ومتواردة.

طرق الشيطان لإدخال الأحزان إلى قلب المؤمن

طرق الشيطان لإدخال الأحزان إلى قلب المؤمن

التناجي

التناجي من عمل الشيطان أن يدخل الهموم والأحزان إلى قلب المؤمن، وله في ذلك سُبل، وله في ذلك طرق، منها دعوته وتحريضه على التناجي، حيث يتناجى اثنان أمام الثالث، فيذهب الشيطان إلى الثالث ويشككه في إخوانه، ويجعل الريب يملأ قلبه، ومن ثم قال الله سبحانه: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [المجادلة:10]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الآخر حتى تختلطوا بالناس)، وفي رواية أخرى: (فإن ذلك يحزنه) أي: تناجي الاثنين يحزن الثالث، وقد وردت زيادة فيها ضعف في هذا الحديث وهي: (حتى يستأذناه). فالشيطان يدخل إلى قلب ابن آدم ويشوش عليه فكره من باب التناجي، وقد كان الناس يأتون إلى رسول الله فيتناجى بعضهم مع رسول الله فتذهب الظنون بالمسلمين، ويقولون في أنفسهم: لعله يخبر رسول الله أن هناك عدواً يريد أن يغزو المسلمين، ولعله ولعله، فالشيطان يدخل إلى ابن آدم من باب النجوى؛ ليقطع ما بينه وبين إخوانه من صلات، وليفسد ما بينه وبين إخوانه من محبة، فهذا باب التناجي، يدخل منه الشيطان ليحزن الذين آمنوا.

التخويف من الأعداء

التخويف من الأعداء قال الله سبحانه: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} [آل عمران:175] أي: (يخوفكم بأوليائه) على رأي أكثر المفسرين. يخوف أولياءه على ظاهرها. فعلى التأويل الأول: يخوفكم من أوليائه، فتأتي تمتثل أمراً أو سنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيلقي بك الشيطان هاهنا وهاهنا، ويجلب عليك بخيله ورجله، ويخوفك من كل شيء، والله سبحانه وتعالى قال في كتابه الكريم معلماً إيانا كيف نصنع في مثل هذا المقام: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:173 - 174]. فإذا أتيت تفعل سنة من سنن رسول الله، أو تمتثل أمراً وحكماً لله فلا تظن أبداً أن الله سيخذلك، وأن الله سيتخلى عنك، فهذا من الظن السيئ بالله سبحانه وتعالى، فلا تظن أبداً أنك إذا أقبلت على الله تخلى عنك، فهذا من الظن السيئ بالله، وقد قال ربنا سبحانه في الحديث القدسي: (من تقرب إليَّ شبراً تقربت منه ذراعاً، ومن تقرب إليَّ ذراعاً تقربت منه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة)، فلا تظن أبداً بحال من الأحوال، أنك إذا أقبلت على الله تخلى الله عنك، وإن كانت الأمور في أوائلها وفي ظواهرها قد تلبس عليك، ولكن الله قال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} [الطلاق:2 - 3]، وقد قال سبحانه: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر:36]، وقال سبحانه: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173]. فلا يذهب بك الشيطان بعيداً ويزين لك النجاة في معصية الله، كلا، فالدمار في معصية الله سبحانه وتعالى، والهم والنكد في معصية الله سبحانه وتعالى، وإن لاحت لك الأمور على وجه غير هذا الوجه، وإن ظهرت لك الأمور التي تحبها وتسر بها من وراء المعصية، فالأمر على عكس ذلك، وقد قال تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216]، فكن على ثقة بالله سبحانه أنه ينصر من تولاه ومن وكل أمره إليه. فالتخويف من أعداء الله مسلك من مسالك الشيطان، يسلكه الشيطان لترهيبك وتخويفك من إقبالك على السنن وإقبالك على الدين، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام فيما أخرجه النسائي بسند صحيح: (إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه، فقعد له بطريق الإسلام قال له: تسلم وتدع دينك ودين آبائك ودين أجدادك! فعصاه فأسلم، ثم قعد له بطريق الهجرة قال له: تهاجر وتدع أرضك وسماءك وأرض أبيك وأرض أجدادك! فعصاه فهاجر، ثم قعد له بطريق الجهاد قال له: تجاهد فتقتل فترمل المرأة وتتزوج من بعدك، وييتم الأطفال! فعصاه فجاهد، فمن فعل ذلك كان حقاً على الله أن يدخله الجنة)، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

الرؤى والأحلام المفزعة

الرؤى والأحلام المفزعة ومن المداخل التي يدخل الشيطان بها للتشويش على أهل الإيمان الرؤى والأحلام المفزعة المزعجة، فهو يخوف من طريق هذه الرؤى، فيأتيك برؤيا قد سبكها وأتقنها، فلا تشك في صدقها من شدة سبكها وحسن صياغتها، حتى يشتت عليك فكرك، ويدمر عليك عقلك، ويجعلك دائماً قلقاً مضطرباً، ولكن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الرؤيا ثلاث: منها رؤيا من الله، ومنها حديث للنفس، ومنها رؤيا تحزين وتخويف من الشيطان)، فيخوف الشيطان العباد بهذه الرؤى المزعجة، ولكن نبينا محمد عليه الصلاة والسلام علمنا هدياً، وسن لنا سنناً لاتقاء هذه الرؤى المفزعة، حتى إن أبا قتادة رضي الله عنه يقول -كما في الصحيحين-: كنت أرى الرؤيا تمرضني -أي: من شدة هولها وشدة مطالعها وثقلها- فسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا رأى أحدكم ما يكره فليتعوذ بالله من شرها ولا يحدث بها أحداً فإنها لن تضره) فسري عني، وذهب عني الذي كنت أجد -أي: من هم هذه الرؤيا ومن ألم هذه الرؤيا.

أصول الرؤيا في الكتاب والسنة

أصول الرؤيا في الكتاب والسنة والرؤيا أُثبتت أصولها في كتاب الله، ولم يجد الملاحدة إلى الآن تأويلاً مقبولاً سائغاً عندهم للرؤى التي يرونها. فتتحقق كما رأوا، فأحدهم قد يرى رؤيا وتتحقق بعد عام، فيقف على تفسيراته المادية الإلحادية، قائلاً: كيف كان هذا؟ قد رأيت هذا من عام في نومي! فيحتار ولا يجد تأويلاً سائغاً مقبولاً على منهجه الإلحادي الشيوعي لتأويل الرؤى، فيقف تائهاً حيراناً استهوته الشياطين في الأرض. ولكن أهل الإسلام يعلمون أن الرؤى منها أشياء من الله سبحانه وتعالى يبشر الله بها أهل الإيمان، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام (لم يبق بعدي من المبشرات إلا الرؤيا الصالحة، يراها المؤمن أو تُرى له، وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثاً). وفي كتاب الله أن يوسف عليه السلام رأى رؤيا فتحققت له بعد سنوات، ورأى الخليل إبراهيم أنه يذبح إسماعيل، فقال إبراهيم: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:102]، ورأى رسولنا رؤيا، قال تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:27]، إلى غير ذلك، ورأى الملك -كما في سورة يوسف- رؤيا، ورأى السجينان اللذان كانا مع يوسف رؤيا، كما قال تعالى عنهما: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:36]، فهذه أصول الرؤيا في كتاب ربنا، وفي سنة نبينا عليه الصلاة والسلام.

الأدب مع الله في الألفاظ

الأدب مع الله في الألفاظ من آداب الحلم المزعج المفزع ما قال النبي صلى الله عليه وسلم ابتداءً: (الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان)، وقد يقال: لماذا الحلم من الشيطان؟ و A أن كل شيء مقدر من الله سبحانه، ولكن الشيطان سبب فقط، ومن هذا الباب أنه لا ينسب الشر إلى الله، بل ينسب الخير كله إليه، مع أن الكل من عند الله، لكن تأدباً مع الله لا ينسب الشر إليه، كما قال الخليل إبراهيم: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:78 - 80]، فأتى بالإطعام وبالهداية وبالشفاء كلها منسوبة إلى الله سبحانه، لكن لما ذكر المرض قال: ((وَإِذَا مَرِضْتُ)) [الشعراء:80] مع أن الأمراض أيضاً مقدرة، لكن يجب الأدب مع الله سبحانه، فقال: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80]. ومن هذا الباب قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك) مع أن المصائب مقدرة ومكتوبة ومسطرة. ومن هذا الباب قول الخضر لموسى -كما حكى الله تعالى عنه-: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:79] فنسب العيب إلى نفسه، وفي قصة الغلام قال: {وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} [الكهف:80 - 81]، فكل خير ينسب إلى الله سبحانه وتعالى. فلتلزم -يا عبد الله- جانب الأدب مع الله في خطابك وفي كلامك، ولا تتخاطب مع ربك وتصفه بالأوصاف التي يوصف بها البشر، فلله سبحانه وتعالى جلال وعظمة وكمال سبحانه وتعالى، فتحدث عن ربك بالذي في كتابه، وبالذي في سنة نبيه، قال عليه الصلاة والسلام: (الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان).

آداب الرؤيا

آداب الرؤيا للرؤيا السيئة أو المزعجة آداب، وهي ألاَّ تحدث بها أحداً، وتتعوذ بالله من شرها، وتتفل عن يسارك ثلاثاً، وتتحول عن جنبك الذي كنت عليه، وإذا كانت شديدة الإفزاع فلتقم ولنصل، وكل هذا ثابت عن رسول الله، فهي خمسة آداب: تعوذ بالله من شرها ومن شر الشيطان، واتفل عن يسارك ثلاثاً، ولا تحدث بها أحداً، وتحول عن جنبك الذي كنت عليه، وقم إلى الصلاة، فحينئذٍ لا تضرك كما أخبر رسولك محمد عليه الصلاة والسلام، وكما قال أبو قتادة: فلما علمت ذلك من رسول الله سري عني. وقد جاء رجل إلى رسول الله فقال: يا رسول الله: إني رأيت البارحة رؤيا، رأيت كأن رأسي قطع فتدحرج، فذهبت وراءه أتبعه، فجئت برأسي ووضعته في مكانه. فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: (لا يخبرن أحدكم بتلاعب الشيطان به في منامه)؛ فهذا تلاعب من الشيطان بك وأنت نائم، فلا تخبر به الناس، ولا تضحك الناس عليك، ولا تشمت الناس بك، ولا تأتِ إلى رجل لا يعرف للرؤيا تعبيراً فيعبرها لك على وجه يكره. وقد حسن بعض العلماء -وإن كان في هذا نزاع- حديث: (الرؤيا لأول عابر) أي: على أول تعبير، ولأول معبر يعبرها، وصحح آخرون حديث: (الرؤيا على رجل طائر ما لم تُعبر، فإذا عُبرت فقد وقعت)، واستأنس بعضهم لهذا المعنى بما ورد في قصة يوسف مع السجينين في قوله تعالى: {قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:36]، فقد أورد بعض المفسرين قولاً الله أعلم بصحته، وهو أنه لما فسرها تفسيراً مزعجاً في الوجه الذي قال فيه -كما حكى الله تعالى عنه-: {فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ} [يوسف:41] قال الرجل: إني كنت أتحالم. أي: أدعي أنني رأيت. فقال: {قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} [يوسف:41]، والله أعلم بصحة ذلك. فالشاهد أنك لا تقص الرؤيا إلا على عالم، أو على ناصح، وإذا رأيت رؤيا تحبها فحدث بها من تحب فقط، لا تحدث بها شخصاً تكرهه فيحسدك عليها، ومن ثم قال يعقوب ليوسف عليهما السلام -كما حكى الله تعالى عنه-: {يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يوسف:5]، فلا ينبغي أن تقص الرؤيا على شخص -وإن كان مسلماً- إذا كان هذا الشخص يحسدك على ما أنت فيه من نعيم. وقد استدل الحسن البصري رحمه الله تعالى بقوله: {فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} [يوسف:5] على أن المؤمن قد يحسد، فقد قيل للحسن: يا حسن أيحسد المؤمن؟ قال: سبحان الله! ما أنساك لإخوة يوسف إذ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ، اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ. فتأدبوا -معشر الإخوة- بآداب الرؤيا، وهي تلكم الآداب الواردة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وليحذر أحدكم أشد الحذر من الافتراء والكذب في الرؤيا، وأن يري عينيه ما لم تريا، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن من أفرى الفراء -أي: من أكذب الكذب- أن يُري الرجل عينيه ما لم تريا)، أي: تقول: أنا رأيت رؤيا فيها كذا وكذا وأنت لم تر ذلك. وقال عليه الصلاة والسلام: (من تحلم بغير حلم كلف يوم القيامة أن يعقد بين شعيرتين وليس بفاعل) أي: الذي يقول: أنا رأيت كذا في الرؤيا، وهو كاذب في هذا الادعاء يكلف يوم القيامة أن يعقد بين شعيرتين (وليس بفاعل) أي: ولن يصير ذلك، فيعذب ويؤنب حتى يعقد، إلا أن يعفو الله سبحانه وتعالى عنه، كما يعفو عن أهل التوحيد، والله سبحانه أعلم. فجدير بك أن تكون صادقاً في حديثك، وصدق الحديث ينعكس على صدق الرؤيا، فإذا كنت صادقاً في الحديث كانت رؤياك حقاً، ولذلك الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه، لما كانوا أصدق الناس كانت رؤياهم مثل فلق الصبح، وكانت رؤيا رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام تأتي كفلق الصبح، والخليل رأى رؤيا فتحققت كما تقدم.

أهمية تعبير الرؤى

أهمية تعبير الرؤى لا يقللن شخص من قيمة الرؤيا، فقد ثبت في البخاري ومسلم من حديث سمرة بن جندب أن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا صلى الفجر سأل أصحابه: (هل رأى أحد منكم البارحة رؤيا؟) فيقصون عليه رؤاهم فيؤولها لهم رسول الله عليه الصلاة والسلام، وقال لهم ذات يوم: (هل رأى أحد منكم رؤيا البارحة فسكتوا؟ فقال: لكني رأيت الليلة عجباً)، فطفق عليه الصلاة والسلام يقص عليهم رؤيا طويلة مفادها إيراد أنواع من العذاب لمرتكبي بعض الكبائر، ومن أمعن النظر فيها يجد أن كل من عصى الله بجارحة من الجوارح فتعذب تلك الجارحة منه، فإذا عصيت ربك بفمك عُذبت فيه، وإذا عصيت ربك بفرجك عُذبت فيه، وإذا عصيت ربك بعقلك وبرأسك عُذبت فيه، وهكذا. ففي هذا الحديث أن النبي عليه الصلاة والسلام رأى رجلاً مستلقياً على قفاه وآخر معه صخرة، فيأتي بالصخرة ويضرب ها رأس هذا المستلقي فيتكسر الرأس، وتتكسر الصخرة، ثم يرجع هذا الضارب يجمع تلك الصخرة المتفتتة، فيجد الرأس قد التأم، فيكرر نفس العمل السابق، فيكسر الرأس وتتكسر الصخرة، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم: ما هذا الذي أرى؟ فقيل له: هذا الذي يأخذ القرآن فيرفضه، وينام عن الصلاة المكتوبة. فهذا جزاء الرافض لكتاب الله النائم عن الصلاة المفروضة. ثم مر عليه الصلاة والسلام على قوم رجال ونساء في مثل التنور، يأتيهم لهب من أسفل منهم، فيحرق هذا اللهب فروجهم، فيُسمع لهم صياح، وتسمع لهم ضوضاء، فسأل: من هؤلاء؟ قال الملكان: هؤلاء الزناة والزواني من أمتك يا محمد. فانظر إلى هذا الذي استمتع بفرجه في الحرام، وإلى تلك البغي التي استمتعت بفرجها في الحرام كيف تطهر في الآخرة؟ نار ولهب تحرق تلك الفروج العاصية، فبعداً لشهوة دنيئة وقتها قصير ومنتهٍ في الحياة الدنيا، فهي لحظات تقضى فيها شهوة في الحرام، ودقائق معدودات، ويبقى على صاحبها النكد، وأي نكد؟ وكم زمانه؟ فرج يحترق، وجسم يتألم بلهب، فيسمع الصياح إلى أمد لا يعلمه إلا الله. فجدير بكل عاقل أن يفكر في هذه اللذة الفانية، التي لا تستغرق إلا لحظات وثوانٍ ودقائق، ثم بعدها عذاب أليم مؤلم موجع لا يزول، قال تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ} [الفرقان:68 - 70]. فانظر إلى الفرج المستمتع بالحرام كيف يعذب، وانظر إلى الفم آكل الربا، فقد رآه الرسول صلى الله عليه وسلم يسبح في نهر من دم، فيأتي متجهاً إلى الشاطئ وإذا برجل عند الشاطئ جمع أحجاراً كلما اقترب هذا السابح من الشاطئ فتح فمه فألقمه حجراً بقوة في فمه، فيرجع ثانية إلى وسط نهر الدم، ويُفعل به هكذا دائماً وأبداً إلى أن يشاء الله، فهذا الفم الذي طعم الربا من اللائق به أن يسبح في أنهار من دم، فيمتلئ دماً ويلقم أحجاراً، وهكذا مصير أكلة الربا. ورأى النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً في هذه الرؤيا الطويلة الكذابين على الله وعلى رسله وعلى أهل الإيمان، الذين يكذبون الكذبة فتنتقل في الآفاق، كالمذيعين الكذابين والصحفيين الكذابين الذين ينتشر كذبهم، فرأى النبي عليه الصلاة والسلام كلوباً من حديد يوضع في فم الكذاب فيشرشر الفم إلى القفا، والأنف إلى القفا، ثم يتجه إلى الجانب الآخر فيُفعل به هكذا، فهؤلاء الذين يكذبون الكذبة تبلغ الآفاق. فجدير بكم أن تطهروا جوارحكم -معشر الإخوة- من كل معصية لله، ومن كل معصية لرسول الله عليه الصلاة والسلام. وباب الرؤى باب واسع وعريض وله فقه، ومن أراد التعبير فعليه الإلمام بأكبر قدر من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم معرفة أحوال الذين رأوا الرؤى، فيختلف تعبير الرؤى باختلاف من رآها، فقد تأول على وجه حسن إذا كان الشخص صالحاً، وقد تأول على غير ذلك بحسب حال الشخص.

أصول تعبير الرؤى

أصول تعبير الرؤى لتعبير الرؤى أصول، وهناك مدلولات يستدل بها على الرؤى، فمن رأى -مثلاً- أنه قد كسي بالثياب فالثياب علامة ستر وعلامة دين، ومن رأى أنه يشرب لبناً فاللبن علم، ومن رأى أنه يشرب خمراً فليحذر وليفكر في نفسه؛ فالخمر غواية، ومن رأى أنه يركب سفينة فالسفينة نجاة، والعين الجارية للشخص يراها عمل صالح، ومن رأى حيات -كما قال كثير من العلماء- فهي أعداء؛ لقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (ما سالمناهن منذ حاربناهن) وكذلك الجمال لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (الإبل خلقت من الشياطين)، ومن نفخ شيئاً فطار فأمر هذا الشيء إلى ذهاب؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (رأيتني ألبس سوارين من ذهب فنفختهما فطارا فأولتهما كذابين يخرجان من بعدي)، وهما الأسود العنسي صاحب صنعاء، ومسيلمة الكذاب صاحب اليمامة، فمن نفخ شيئاً فطار فأمر هذا الشيء إلى ذهاب، ومن رأى أن شيئاً حدث له في سيفه فكسر يحدث له في أقاربه، كما قال الرسول في شأن رؤياه يوم أحد. وثم مدلولات تعبر بها الرؤى، كالأسماء الصالحة في الرؤى مدلولاتها صالحة كذلك، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (رأيت كأننا في دار عقبة بن رافع وأُتي لنا برطب من رطب ابن طاب فأولتها أن العاقبة لنا في الآخرة، وأن الرفعة لنا في الدنيا، وأن ديننا قد طاب)، فللأسماء الطيبة مدلولات في الرؤى، فهذا يحملنا على اختيار الأسماء الطيبة والأسماء الصالحة لأبنائنا، فهي فأل طيب في اليقظة وفي المنام كذلك.

أثر الجليس الصالح وجليس السوء

أثر الجليس الصالح وجليس السوء لابد لكل إنسان من جليس، يمسح عنه دمعته إذا حزن، ويكشف كربه إذا ادلهمت به الخطوب، ويؤنس مجلسه، ويعينه على قضاء حوائجه، ومعايشة تصاريف الحياة، وأقرب جليس للإنسان هو الزوجة، فإن كانت صالحة أنشأت أسرة صالحة، وإن كانت غير ذلك فالعكس من ذلك، لذا لابد من الاهتمام بما يصلح شأن المرأة، والحذر من كل الوسائل المساهمة في إفسادها، ولن يكون ذلك إلا بالسير على هدي الكتاب والسنة على فهم سلف الأمة رضوان الله عليهم أجمعين.

أثر الجليس الصالح وجليس السوء

أثر الجليس الصالح وجليس السوء إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. إن للجليس تأثيراً على جليسه أيما تأثير، فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته: (إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء كمثل حامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحاً نتنة -وفي رواية- ريحاً خبيثة). فهذا مثل ضربه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم للجليس الصالح وللجليس السوء، وحسّن بعض العلماء حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل)، وقال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68]، وقال سبحانه: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء:140]، وقال عليه الصلاة والسلام كذلك: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلسن في مائدة يدار عليها الخمر)، فهذه النصوص وغيرها من النصوص تضبط لنا أصدقاءنا ومن نجالس، وتضبط لنا مجالسنا كذلك، فليس للمسلم أن يصادق من يشاء، ولا أن يجالس من يريد، ولا أن يقعد حيث أراد، بل في مجلسك أنت منضبط فيه بأمر الله، فليس لك -يا مسلم- أن تجالس من تشاء، وإنما هذا للكفار الذين انسلخوا من الأديان واعتبروه -بزعمهم- ديمقراطية، أما نحن -أهل الإسلام- فمقيدون بأمر الله لنا، فليس لنا أن نجلس مع كل شخص، وليس لنا أن نخوض في كل قول، وليس لنا أن نغشى كل مجلس، بل غشياننا للمجالس واختيارنا للأصدقاء كما أمرنا ربنا سبحانه وتعالى، وذلك أن الجليس يؤثر في جليسه، فإما أن يقربه من الله سبحانه، وإما أن يبعده عن الدين، فإن الذكرى لأهل الإيمان تنفعهم، وإنك إذا رأيت أقواماً صالحين اقتبست من أخلاقهم وعاداتهم، وإذا جالست أقواماً أشراراً علق بذهنك قولهم، وأخذت من سجاياهم وطبائعهم الخبيثة، فلذلك ضُبطنا في مجالسنا وضُبطنا في أصدقائنا، حتى إن كانت هذه الصداقات مع أقرب الأقربين وهو على انحراف عن كتاب الله يترك ولا يبالى به.

الزوجة أعظم جليس

الزوجة أعظم جليس إن خليل الرحمن إبراهيم صلى الله عليه وسلم ذهب إلى تركته بنفسه يتفقد أحوالها، ويتفقد أحوال إسماعيل عليه السلام، فوجد امرأة غير حامدة لله سبحانه، ولا شاكرة لنعمائه، فأوصى ولده أن يغيّر عتبة بابه وأن يطلقها، وذلك لأن للمرأة تأثير في زوجها، ومن ثم جاءت بعض وجوه التأويل في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن:14]، وكذلك جاء قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ) [آل عمران:14]، وجاءت أقوال بعض المفسرين في تفسير فتنة النساء المذكورة في حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء)، وهي أن فتنة النساء ليست كامنة في الإعجاب بهن والوقوع في الفاحشة معهن فقط، ولكن ثم أوجه أخر للإفتتان عظيمة قد يفتن الشخص بزوجته بسببها، أو تفتن المرأة بزوجها بسببها. وهذا يجرنا إلى تناول آيات الأحزاب بشيء من الشرح والتفسير والتأويل، يقول الله سبحانه في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:28 - 29]، فهذه الآيات لها سبب نزول، فإن نساء النبي صلى الله عليه وسلم -وهن خير النساء- سألنه النفقة، واستقللن العطاء الذي يأخذنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطلبن مزيداً من النفقة من رسول الله عليه الصلاة والسلام، وورد أن بعضهن قلن: لو كنا عند رجل آخر لكسينا الحرير، وللبسنا الذهب الوفير إلى غير ذلك، فحزن النبي من ذلك حزناً شديداً عليه الصلاة والسلام، وفي بعض الروايات أنه اعتزلهن شهراً صلى الله عليه وسلم، فذهب إليه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فدخلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجداه واجماً حزيناً ساكتاً عليه الصلاة والسلام ونساؤه حوله، فأراد عمر أن يدخل السرور على رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال: (لو رأيتني -يا رسول الله- وقد سألت بنت خارجة -يعني زوجته- النفقة، فقمت إليها يا رسول الله فوجأت عنقها -أي: ضربتها في عنقها وطعنتها في عنقها- فقال أبو بكر مثل ذلك، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: هن حولي فيما ترى يسألنني النفقة)، فقام أبو بكر إلى عائشة ليطعنها في عنقها، وقال لها: تسألين النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده! وقال عمر لـ حفصة مثل ذلك، وقام أبو بكر وعمر ليضرب كل منهما ابنته، فمنعهما النبي صلى الله عليه وسلم، ونزلت آية التخيير: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب:28]، وذلك أن المرأة قد تطلب من زوجها شيئاً فوق طاقته فيضطر الشخص -وهذا ليس في حق رسولنا محمد فهو معصوم عليه الصلاة والسلام، ولكن الآيات تنزل عليه وهي عامة- فيضطر أن يمد يده إلى الحرام لإشباع رغبة زوجته، فنزلت آية التخيير، فبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بـ عائشة فقال لها: (يا عائشة إني عارض عليك امراً فلا عليك ألا تعجلي حتى تستأذني أبويك)، ثم تلا عليها آية التحريم فقالت: يا رسول الله: أفي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أختار الله ورسوله والدار الآخرة، ولكن -يا رسول الله- لا تخبر أحداً من نسائك أني اخترت الله ورسوله والدار الآخرة فقال عليه الصلاة والسلام: (إن الله لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً، ولكن بعثني معلماً، لا تسألني امرأة منهن عن اختيارك إلا أخبرتها بالذي اخترتيه)، ثم مر النبي على سائر نسائه فاخترن مثل ما اختارت عائشة رضي الله تعالى عنها. فالإبقاء أحياناً على امرأة دينها ضعيف ورخيص قد يجعل زوجها معها في عذاب الله سبحانه وتعالى، فيدخلهما في ارتكاب المحاذير وارتكاب المحرمات، فحينئذ لا يجالس رجل امرأة أصرت على هذا الحال من الحياة الذي لا يبالي معه بأكل المال من الحلال وأكله من الحرام. فنزلت آية التخيير على رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أن أزواجه رضي الله عنهن كن محسنات فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة، قال الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات الكريمات: {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا * يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [الأحزاب:29 - 30]، فلمنزلتهن وشرفهن عظمت الذنوب في حقهن، وقوله تعالى: (بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ): قال بعض العلماء: منها سوء الخلق والنشوز. فكل ما علت مرتبة الشخص عظمت منه الذنوب، واستقبحت منه أشد من غيره. قال تعالى: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا} [الأحزاب:31]، والقنوت هنا: الطاعة. قال تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [الأحزاب:32] (لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ) أي: في المنزلة والشرف لا يضاهيكن أحد من النساء، وإذا كان هذا قيل لنساء نبينا محمد عليه الصلاة والسلام ورضي الله عنهن وهن قد سألن النبي النفقة واستكثرنه النفقة فلأن يصدر ذلك من بعض نساء زماننا فهو وارد. والله أعلم.

خطورة تفشي التبرج في المجتمع

خطورة تفشي التبرج في المجتمع قد آل الأمر بنساء زماننا إلى ما هو أبشع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعث في أمة مشركة تشرك بالله، ومع ذلك يقول: (صنفان من أمتي من أهل النار لم أرهما: نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها) الحديث، فمع أن الأمة التي بعث فيها الرسول عليه الصلاة والسلام كانت مشركة لكن لم يعهد منها هذا التبذل وهذا التعري المزري الذي تفعله المتفحشات من النساء؛ حيث يرتدين البناطيل اللاصقة بالأجساد، فهي أمور لم يرها رسولنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتنظر إلى بعض الفتيات -مع أن آباءهن مسلمون وأمهاتهن مسلمات- يمشين ببناطيل وردت من بلد الكفر تجسد العورات، وتظهر الخفي -والعياذ بالله-، ولا يستحين ومعهن آباؤهن وأمهاتهن، كأن الغيرة قد انعدمت في قلوب آبائهن وأصبح كل منهم ديوثاً لا يغار على عرضه. فالرجل يحكم عليه بما يصدر منه، وبما يصدر من أهل بيته كذلك، فإذا رؤيت فتاة تخرج بهذه الصورة المزرية فليُعلم أن أباها فيه شيء من الدياثة، وفيه انعدام غيرة وقلة إيمان -والعياذ بالله-؛ لأن الرجل يفترض فيه أنه مسئول عن أهل بيته لقول الله تعالى: {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم:6]، ولقول النبي عليه الصلاة والسلام: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)، فإذا جئت تزن الأشخاص فتصف شخصاً من الناس بأنه طيب وفي أحسن حال مع أنه ترك ابنته تخرج متبذلة ساقطة على هذا النحو المزري فأي طيب هذا؟ إنما الطيب الذي يمتثل أمر الله وأمر رسول الله عليه الصلاة والسلام. قال الله سبحانه: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33]، فنهاهن الله عن المنكر، ثم أمرهن بالمعروف فقال: {وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33].

وسائل القرآن لسد أبواب الفتنة

وسائل القرآن لسد أبواب الفتنة قال تعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} [الأحزاب:32]، أي: في خطابكن مع الرجال. {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} أفادت الآية الكريمة أن من الرجال رجالاً في قلوبهم مرض، فثم رجال في قلوبهم صلاح، وآخرون في قلوبهم مرض، وآخرون امتلأت قلوبهم إيماناً، وآخرون امتلأت قلوبهم فجوراً وإثماً، وفئة من اصحاب النبي محمد عليه الصلاة والسلام قال الله فيهم: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:18]، وفئة أخرى قال الله فيها: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب:60]، فطائفة من الرجال قلوبها صالحة نقية صافية، وفئة أخرى من الرجال في قلوبها مرض، فإن تكلمت المرأة أي كلمة حملوها على محامل السوء، فتتكلم معهم المرأة ونيتها طيبة فيحملون مقالتها ما لم تحمله، فيظن أنها تريد منهم الفاحشة -والعياذ بالله-، فكل يؤول على ما استقر في قلبه -والعياذ بالله-، ولذلك قال الله لنساء نبيه رضي الله عنهن: ((فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا)) [الأحزاب:32]، فهكذا ينبغي أن تكون المرأة، جزلة جادة في خطابها إذا احتاجت إلى خطاب مع الرجل، كما قال سبحانه: {وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا} [البقرة:235]، وكما قالت المرأتان بأسلوب جزل قوي: {لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص:23]، فهكذا تكون الكلمات التي تصدر من الطيبات، فدائماً تصدر أفواههن كلمات طيبات تقطع أطماع الطامعين فيهن. قال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] أي: لا تكثرن الخروج إلا للحاجات. فالأصل القرار في البيت، فتجلس في بيتها، ولا تخرج لمزاحمة الموظفين، ولا تخرج للتبذل في المواصلات والاحتكاك بالرجال، ولا تخرج إلا إذا دعتها الضرورة للخروج، وقال الرسول عليه الصلاة والسلام: (المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان، وأقرب ما تكون المرأة من ربها وهي في قعر بيتها)، فمن كانت عنده امرأة موظفة لا حاجة له في خروجها إلا الطمع في المال فبقاؤها في بيتها خير له وخير لها في دنياهما وأخراهما، قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ}، فلا يغرنك أن بنت فلان في الجامعة، ولا أن بنت فلان في الدبلوم، ولا أن بنت فلان في وظيفة كذا وكذا، فهؤلاء يشابهن الإماء في أعمالهن، أما الموقرات المحترمات اللواتي لا حاجة لهن إلى الخروج فأصل مجلسهن في بيتهن، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (صلاة المرأة في بيتها خير من صلاتها في المسجد، وصلاتها في حجرتها خير من صلاتها في بيتها، وصلاتها في مخدعها خير من صلاتها في حجرتها)، فالمرأة الوقورة مجلسها بيتها، والصالحات قلن: {لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص:23]. فالناس يقومون بما قومهم به ربهم سبحانه، فلا تقوم الفتاة المتبذلة بأنها في جامعة كذا، وقد خرجت متبذلة متبرجة مزاحمة للناس، ولا توقرها بكونها تدرس في الجامعة، فلن تغني عنها الجامعة من الله شيئاً، قال الله سبحانه وتعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33] وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الجاهلية الأولى كانت بين إدريس ونوح عليهما السلام، فكان هناك رجال يسكنون الجبال ومعهم نساؤهم، ورجال يسكنون السهل ومعهم نساؤهم، فكان نساء الجبل فيهن دمامة، ورجال الجبل فيهم صباحة وجمال، وعلى العكس من ذلك كان الأمر في السهل، فحصل احتلاط بين رجال الجبل ونساء السهل، وانعكست الأمور وتفشت الفواحش -والعياذ بالله-، وهذا روي عن ابن عباس، وليس عن رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام. فرب العزة سبحانه قال: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33]، فمن صورها أن المرأة كانت تخرج تسافح الرجال -والعياذ بالله- وتختلط بهم.

اهتمام الكتاب والسنة بالأسرة المسلمة

اهتمام الكتاب والسنة بالأسرة المسلمة قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33]. في الآية الكريمة منقبة كبرى لأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعموم أهل بيته، أما الآيات فظاهرها أنها نزلت في آل بيت رسول الله، فظاهرها -كما قلنا- أنها نزلت في أزواج رسول الله، وآل بيته داخلون في الآية، فلما نزلت هذه الآيات: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} دعا النبي عليه الصلاة والسلام علياً رضي الله عنه وفاطمة وحسناً وحسيناً رضي الله عنهم أجمعين، ووضع عليهم جميعاً كساءه وقال: (اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً)، فجاءت أم سلمة وقالت: وأنا معهم يا رسول الله! قال: (أنت من أهل بيتي) فدخل علي والحسن والحسين وأمهما فاطمة في هذا النص الكريم. وقد بين رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام طرفاً من حق أهل بيته وأوصى بهم، قال عليه الصلاة والسلام: (إني تارك فيكم الثقلين لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما أبداً: كتاب الله وأهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي)، فهذا في أهل بيت رسول الله المتبعين لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما رجال زعموا أنهم من أهل بيت رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام، وطفقوا يجمعون أموال الصدقات، ويأكلون أموال الصدقات تحت دعوى أنهم من أهل بيت الرسول، وقد علموا أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إنا -آل محمد- لا نأكل الصدقة إنما هي أوساخ الناس)، ووجد الرسول عليه الصلاة والسلام يوماً في فم الحسن تمرة من تمر الصدقة فقال له -وهو طفل رضي الله عنه-: (كخ كخ! أما علمت أنا -آل محمد- لا نأكل الصدقة)، فاستخرجها الرسول عليه الصلاة والسلام من فيه. قال الله سبحانه: ((إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)) [الأحزاب:33]، ثم قال الله لهن: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} [الأحزاب:34]، فهذا حث لنساء النبي عليه الصلاة والسلام على بث العلم الشرعي المتمثل في كتاب الله وسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، فالذي يتلى في بيوت أزواج رسول الله هو كتاب الله، والحكمة التي هي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا أمر للنساء أن يشاركن الرجال -حيث لا فتنة- في تبليغ كتاب الله وسنه نبيه محمد عليه الصلاة والسلام، وجدير بالنساء اللواتي آتاهن الله علماً أن يبثثنه في النساء إذا احتاجت النساء إلى ذلك، أو للرجال إذا لم يكن في الأمر فتنة، فقد قال ربنا سبحانه في نساء نبينا: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53]. قال تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} [الأحزاب:34].

مسئولية رب الأسرة أمام الله

مسئولية رب الأسرة أمام الله نقول للمسلمين: علموا نساءكم كتاب ربكم وسنة نبيكم عليه الصلاة والسلام، فهذا الذي ينفعكم في دنياكم وفي أخراكم. فقد أقبل علينا هذا الزمن بما فيه من شر وفساد، وعري وتبرج، وأذكركم بحديث نبيكم محمد عليه الصلاة والسلام علكم تعقلونه، وعلكم تفهمونه، قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وأصاب بعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا أرادوا أن يستقوا -أو: أن يشربوا- مروا على من فوقهم، فآذوا من فوقهم بمرورهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً -أي: نقرب المسافة ولا نصعد إلى أعلى-، فلو تركوهم -أي: لو تركهم الذين هم أعلى السفينة- وما أرادوا لغرقوا جميعاً، ولو أخذوا على أيديهم لنجوا ونجوا جميعاً)، فالمنكرات التي من حولنا إذا لم ننكرها نحن وصلت إلى بيوتنا، ووصلت إلى بناتنا، ووصلت إلى أزواجنا، فالبنت المتبرجة إذا لم تنهها عن المنكر وتُذَّكر والديها بالحكمة واللين والاحترام ستتعلم منها ابنتك، وستجيء ابنتك تطلب منك أن تكون مثل بنت فلان؛ لما رأته من حالها، والولد الذي يشرب ويتناول المخدرات إذا تركته وهو ولد جارك، وهو بعيد عن المسجد أوشك ولدك أن يتعلم منه، وأن ينقل إليك بلاياه، أما إذا أخذت على يد السفهاء حفظك الله سبحانه بما حفظت به أولاد المسلمين، وبما حفظت به بنات المسلمين، وارتد عملك الطيب عليك.

صور من فساد المجتمع ووسائل علاجها

صور من فساد المجتمع ووسائل علاجها فنحن يوماً بعد يوم في هذه الأيام نرى أقواماً لا خلاق لهم إذا تزوج أحدهم أو زوج بنته -وقد ابتلوا بفقر- يقترضون الأموال، ويأتون بالفرق فرق الشر والفساد، فيستأجرون الزينة والساقطين من أصحاب الفرق فرق الغناء والفساد والشر كي يحييوا ليلة فرحهم بالشر والفساد والفسق والمجون، وكثير من إخواننا يقف موقف الناظر، والواجب أن يقف موقف المنكر بقلبه، وهي أضعف مراتب الإيمان كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام، وإذا جاء شخص يتكلم وينكر بلسانه خشي من مغبة الإنكار باللسان، وإذا تجرأ وجاء ينكر خشي من مغبة الإنكار باليد من الحكومة التي لا تولي أمر دينها أدنى اهتمام في هذه الأيام، بل تحارب في كثير من الأيام المتمسكين بأمر الله، وإذا جاءت محاضرة ترهق غاية الإرهاق ليصرح لها من الدولة، أما موطن شر وفساد وفسق ومجون ودعارة فلا يحتاج إلى أدنى تصريح، فجدير بإخواننا أن يحافظوا على دينهم، والذي نقوله لهم أن يقوم بعض إخواننا بتقديم شكاوى للشرطة. قبل حدوث هذه البلايا، ولا يبال بحق جاره أمام حق الله، فيقدم الشكوى بأن هذه الأمور تغوي أبناءنا وتنشر الفساد فيهم، وهكذا يقدم واحد تلو الآخر شكاويهم حتى نخفف من الشر والفساد، ولا زال هناك من رجال الشرطة من أهل الصلاح من لا بأس بهم يتتبعون مواطن الشر ومواطن الفساد، ويحتاجون إلى من يعرفهم، فإذا وصلت منك شكوى في هذا الشر والفساد، وعللت شكواك ولو بعلة دنيوية، كأن تقول: أولادي في الامتحانات. أو: رأسي يؤلمني. أو نحو ذلك، فالمهم أن تهتم بهذا الأمر أيما اهتمام. فجدير بنا -معشر الإخوة- أن نسلك السبل القويمة بالتي هي أحسن لتترك هذه الشرور فنحفظ أبناءنا وبناتنا، وإن ابنك الصغير الذي يذهب وينظر إلى المرأة التي ترقص، وينظر إلى الرجل الذي يحتضنها لعله أن يفعل هذا بأخته، والسبب أنه رأى ذلك في الحرس الفلاني، أو الشاشة الفلانية، أو الفلم الفلاني. فعليك -يا عبد الله- أن تكون حكيماً في إنكار المنكر، وتزكي الصلاح الكامن في رجال الشرطة الذين فيهم بقايا من صلاح حتى يتحركوا لإزالة هذه المنكرات، وأنت مأجور، ورب العزة يقول: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3] فإذا كان لك جار له بنت سافلة تمشي بوضع مزرٍ مخزٍ فذكر والدها بما أوجبه الله عليه، فليس هناك أي عاقل يقر بحال من الأحوال أن تخرج فتاة متبذلة على هذا النحو المزري. وقد تجد في أيام الاختبارات -ولا عجب- أن الأب يوقظ ابنه مبكراً، ويوقظ ابنته مبكرة للاختبار، ويقوم الأب بنفسه يعمل الشاي للبنت وللابن، لكي يذهب إلى الاختبار وعقله موزون، ولا يبالي بأن الولد ترك صلاة الفجر، كما قال رب العزة سبحانه وتعالى -وصدق فهو أصدق القائلين- {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ} [القيامة:20 - 21] وكما قال: {إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا} [الإنسان:27]. فالرجل يجلس منبسطاً فرحاً وهو يرى ولده مقبلاً على كتب المدرسة، ويرى ابنته مقبلة على كتب المدرسة، ويجلس في خدمتهما، وتجلس الأم على قدم وساق لخدمة الولد ولخدمة البنت كي لا تذهب عن الولد فتأخذه نومة فيخسر في دنياه بزعمها، ولا تبالي هل فتح الولد مرة كتاب الله وتلا ما فيه، وهل جاء هذا الولد يوماً وقال: يا أبي ما معنى هذه الآية، وما معنى قول الله كذا، وما معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا. فجهل الآباء جعلهم لا يبالون بشيء من ذلك، ولم يعودوا يبالون هل صلى أولادهم أم لم يصلوا. فيا عباد الله: الآخرة آتية، قال تعالى: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ} [الدخان:40]، {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا} [النبأ:17]، وقال تعالى: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} [الأنعام:15 - 16] اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، واجعلنا للمتقين إماماً، اللهم! أصلحنا وأصلح بنا، وأصلح بناتنا وأبناءنا وأزواجنا ونساءنا يا رب العالمين، اللهم! احفظنا جميعاً بحفظك، واكلأنا جميعاً برحمتك، واقذف في قلوبنا إيماناً -ياربنا- تقر به أعيننا، وترضى به عنا، وارحم -اللهم- موتانا وموتى المسلمين، ونور لهم في قبورهم، وافسح لهم فيها، وصل اللهم وبارك على نبينا محمد.

شفاء القلوب

شفاء القلوب إن القلب ليصدأ كما يصدأ الحديد، بسبب الغفلة والإعراض عن الله سبحانه وتعالى، وعلاجه ذكر الله عز وجل. وإن القلب ليصاب بأمراض تحجزه عن طاعة الله ورسوله وحب الخير للمسلمين، وعلاج هذه الأمراض لا يكون إلا بالالتزام بكتاب ربنا وسنة نبينا، والسير على منهج الأئمة من الصحابة والتابعين.

معنى قوله تعالى: (إلا من أتى الله بقلب سليم)

معنى قوله تعالى: (إلا من أتى الله بقلب سليم) الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد الأمين، وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين. وبعد: موضوعنا اليوم بمشيئة الله تبارك وتعالى موضوع يتعلق بالقلوب التي هي أصل الخير والشر كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث النعمان بن بشير المتفق عليه: (ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) فإذا أصيب أحدكم -عافنا الله وإياكم- بمرض في قلبه بحث عن أعلم أهل الطب بطب القلوب، ولكن ثَم للقلوب مرض آخر هو الذي يسبب النكسات والابتلاءات في الدنيا والآخرة، وقليل من العباد من ينتبه له ويتفطن، للقلوب أمراض غير تلك المعهودة التي تبادرون بعلاجها عند أطباء القلوب الحذّاق، وقليل منكم من ينتبه لقلبه ويصلحه، ولا يخفى عليكم أن الذي ينفع يوم القيامة هو القلب السليم، فإن الخليل إبراهيم صلى الله عليه وسلم الذي جاء ربه بقلب سليم دعا ربه فقال: {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} [الشعراء:87] (لا تخزني): لا تذلني ولا تهني -يا رب- يوم يبعثون! {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89] سليم مِن ماذا؟ فريق من أهل العلم يقول: سليم من الشرك. وفريق منهم يقول: سليم من الشك، أي: يوقن أن لقاء الله حق، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم حق. القول الثالث: سليم من الغل والأحقاد، قلب سليم لا يحمل غلاً لأحد من المسلمين. القول الرابع: سليم من الحقد والكبر. القول الخامس: أن سليم بمعنى لديغ، والعرب تطلق على اللديغ (سليم) تفاؤلاً، كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الذي أخرجه البخاري ومسلم، قال: (مررنا بقوم مع بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فسألنا هؤلاء القوم القرى -أي: حق الضيف الذي يكرم به- فأبوا أن يكرمونا، فلدغ سيدهم، فجاءوا إلينا وقالوا: إن سيد هذا الوادي سليم) أي: لديغ، فيطلقون السليم على اللديغ تفاؤلاً بالشفاء، فمن العلماء من قال: {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:89] أي: لديغ من مخافة الله عز وجل، فمخافة الله تسربت إليه، فكأنها لدغته. القول السادس في تأويل قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:89] أي: سليم لم يصب بالقسوة. القول السابع: سليم من الران، فلم ترن عليه ذنوب، ولم يختم عليه بأختام، ولم يقفل عليه بأقفال، فللقلوب أقفال تقفل عليها فلا يصل الخير إليها، قال سبحانه: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] فهناك قلوب عليها أقفال، صفتها يعلمها الله، لا يتسرب إلى تلك القلوب التي عليها أقفال شيء من الخير، وقلوب أخر عليها ختم، وقلوب أخر مطبوع عليها، وقلوب جمعت بين هذه المصائب كلها، هي في نفسها ميتة، وعليها ختم وطبع، وعليها ران، وعليها أقفال، فجمعت بين هذه البلايا كلها. والذي استظهره عدد من العلماء أن معنى قوله تعالى: (سليم) يحمل على كل هذه المعاني. وعلى قدر سلامة قلبك في الآخرة يكون قربك من الله، على قدر قربك من الخير، وعلى قدر مرضك ومرض قلبك في الآخرة على قدر قربك من الشر عياذاً بالله من ذلك، فيوم القيامة يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:89]. وقال الله تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم:37] كما لا يخفى عليكم، آتاه الله الإمامة عليه الصلاة والسلام بأمور، ليس خبط عشواء، الإمامة تنال بالبذل والفداء والتضحية، فابتلاه الله سبحانه وتعالى في جسده بأن ألقي في النار وهو صابر محتسب صلى الله عليه وسلم، أمر بالختان وهو ابن ثمانين سنة، فجاء بالقدوم -الآلة المعروفة- ليقطع بها ذكره دون (بنج) ولا شيء، وهو ابن ثمانين سنة! أمر بذبح ولده فامتثل وأخذ ولده كي يذبحه، أمر بلقاء الجبابرة والصدع بالحق عندهم فقال للذي تجبر وتكبر: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة:258]؛ فلذلك قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة:124] وفَّى بهن، فلما أتمهن قال الله له: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} فآتاه الله الإمامة، ومع أن الله آتاه الإمامة لكن لم ينتفع قلب أبيه القذر بإمامة إبراهيم صلى الله عليه وسلم، فإبراهيم قال: {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} [الشعراء:87]. أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما بالأسانيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يلقى إبراهيم صلى الله عليه وسلم آزر يوم القيامة، وعلى وجه آزر قترة وغبرة -عليه غبار فهو وجه كالح مظلم- فيقول إبراهيم صلى الله عليه وسلم: يا أبت! ألم أقل لك لا تعصني؟ فيقول له أبوه: أما اليوم فلن أعصيك أبدا، فيقول إبراهيم صلى الله عليه وسلم: يا رب! يا رب! ألم تعدني أنك لا تخزني يوم يبعثون؟ وأي خزيٍ أخزى من أبي الأبعد! فيقال: يا إبراهيم! انظر إلى تحت رجليك، فينظر إبراهيم صلى الله عليه وسلم إلى رجليه) فماذا يرى؟ (يرى أن أباه قد تحول إلى ذيخ ملتطخ) والذيخ: هو ذكر الضباع، أبوه تحول إلى ضبع ملتصق بوساخته وقذارته، ملتصق بالبراز عافانا الله وإياكم، ملتصق بالعذرة! (ويؤخذ بقوائمه فيلقى في النار)، فالقلب الذي ينفع يوم القيامة هو القلب السليم، ليس القلب الملوث بالشرك، فيوم القيامة لا ينفع مال ولا بنون {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:89] فالقلب السليم ينفع صاحبه في الآخرة، وينفع صاحبه في الدنيا، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي لا يخفى عليكم: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وإلى أعمالكم)، (التقوى ها هنا! التقوى ها هنا! التقوى ها هنا! ويشير ثلاث مرار إلى صدره صلى الله عليه وسلم)، في الدنيا كذلك القلب السليم ينفع، لما أسر بعض المشركين يوم بدر، وكان المسلمون يأخذون منهم الفداء فقال بعضهم: يا رسول اللهّ! إنا كنا مسلمين فكيف ندفع الفداء ونحن كنا مسلمين، وإنما أظهرنا الكفر خوفاً من الكفار؟! فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [الأنفال:70] إن كان في قلوب بعضكم خير -والله يعلم بالقلوب- فالله سوف يعوضكم عن هذا الفداء الذي افتديتم به أنفسكم، {يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ}، وإضافة إليه {وَيَغْفِرْ لَكُمْ}، والله سبحانه وتعالى يوم الفتح أنزل السكينة في قلوب المؤمنين لما علم في قلوبهم، قال سبحانه: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:18]، فعلم الله ما في قلوب أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم من الخير {عَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً} [الفتح:18 - 19]. فصلاح القلب عليه صلاح الدنيا والآخرة، وفساد القلب عليه فساد الدنيا والآخرة عياذاً بالله من ذلك، فجدير بنا أن نعرف الأمراض التي تعتري قلوبنا ونعالجها، وليس هناك طبيب أمهر يعالج قلبك -بعد الله سبحانه وتعالى- من نفسك التي بين جنبيك، أنت تعرف مرضك وتعرف كيف تداويه بإذن الله تعالى، غاية ما يفعله أهل الذكر أنهم ينبهونك، ويصفون لك الدواء، والأمر بيدك -بعد الله سبحانه- إن شئت أطعت، وإن شئت رددت، ومرد ذلك كله إلى الله عز وجل.

مرض الشرك وعلاجه

مرض الشرك وعلاجه تعتري القلوب أمراض أعظمها مرض الشرك والرياء والعياذ بالله! مرض الشرك علاجه أن تقول كمسلم: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، يأتي مرض الرياء الذي خافه علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعاً، وذكر أن هذا المرض من أصيب به سعرت به نار جهنم عياذاً بالله من ذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أخوف ما أخاف على أمتي الشرك الأصغر، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟! قال: الرياء) وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أول من تسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة: رجل عالم أتي به فسئل: ماذا عملت في علمك؟! فيقول لله عز وجل: يا رب! تعلمت فيك القرآن، وعلمته للناس، فيقال: كذبت، ولكنك تعلمت ليقال: عالم، فيؤخذ به فيلقى في النار) فأول الناس هؤلاء الثلاثة توقد بهم جنهم، كما تبدأ في إشعال النار بالكبريت! والثاني رجل مجاهد مراءٍ (أتي به فعدد الله نعمه عليه وقال له: ماذا عملت فيها؟! فقال: يا رب! قاتلت فيك وقتلت، فيقال: كلا، ولكنك قاتلت ليقال: جريء، فيؤخذ به فيلقى في النار) وهذا ذكره الإمام البخاري في باب: لا يقال: فلان شهيد. والثالث: (رجل آتاه الله من صنوف المال فتصدق، فأتي به يوم القيامة، فقيل له: ماذا عملت في المال؟ قال: يا رب! أنفقت في سبيلك وتصدقت، فيقال: لا، ولكنك تصدقت ليقال: هو محسن، وقد قيل فيؤخذ فيلقى في النار)، هؤلاء الثلاثة أول من تسعر بهم النار، أفعالهم التي فعلوها فعل خير، لكن قلوبهم ملوثة، لوثت بالرياء منهم عياذاً بالله، فأحبط الرياء أعمالهم، يأتي أقوام بكم هائل من الحسنات في الظاهر، لكنهم عملوها رياء الناس، فكما قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا} [النساء:38]. فمرض الرياء من أخطر الأمراض التي ترد على القلب، وكما سمعتم كان سبباً في إسعار النار وإيقادها بهؤلاء الثلاثة: العالم والمجاهد والمتصدق. ما هو علاج مرض الرياء؟ الاستعاذة بالله من مرض الرياء، وقد ورد في علاجه حديث تكلم فيه، ألا وهو حديث أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه فقال له: (قل: اللهم! إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم)، والحديث منازع في تحسينه وتضعيفه، ومن حسنه حسنه لأنه في باب فضائل الأعمال، فهذا أحد أنواع علاج الرياء. هناك علاجات أخرى أقوى وأعظم وهي: البعد عن الناس، ومراجعة النفس، والصلاة بالليل والناس نيام، فتعمد أن تبتعد عن الناس في ليلك، وتصلي في الليل حيث لا يراك إلا الله سبحانه وتعالى، واجتهد بعد أن تتعوذ بالله من عين لا تدمع أن تذرف دمعات لله سبحانه وتعالى حيث لا يراك الناس، فالنبي صلى الله عليه وسلم ذكر السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ومنهم: (ورجل ذكر الله خالياً) أي: بعيداً عن الناس، (ففاضت عيناه)، فتعمد -كي تكسر هذا المرض، وتبعده عن نفسك- أن تعمل الخيرات سراً، رسولنا صلى الله عليه وسلم كان نائماً في لحاف عائشة رضي الله عنها ذات ليلة، فنام صلى الله عليه وسلم، ونامت عائشة فانتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظن أن عائشة قد نامت، فتسلل صلى الله عليه وسلم وتركها نائمة وهي أقرب الناس إليه، زوجه، تسلل من الفراش، واتجه عليه الصلاة والسلام إلى المقابر في البقيع في الليل حيث لا ضوء ولا يراه الناس، ولا يوجد كهرباء بل ظلام دامس، اتجه إلى البقيع حيث مقابر أصحابه الذي دفنوا في حياته صلى الله عليه وسلم، وهو يعرفهم فقال لهم: (السلام عليكم -أهل الديار- من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون) فسلم عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا لهم عليه الصلاة والسلام بما شاء الله أن يدعو، ثم انصرف، ولا يخفى عليكم أن عائشة تبعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظنت عائشة أنه ذهب إلى بعض أزواجه كظن النساء الضعيف، فاتجهت بعده إلى المقابر، فرآها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسرعت إلى البيت ثم اضطجعت في السرير، فلما جاء ورآها قال: (مالك يا عائشة حشيا رابية؟) أي: مالك أرى نفسك يعلو وينخفض، ثم قال: (لتخبريني أو ليخبرني اللطيف الخبير! قالت: مهما يكتم الناس يعلمه الله يا رسول الله! ثم قصت عليه الخبر، فقال: أتخافين أن يحيف الله عليك ورسوله؟! قالت: فلهدني في صدري لهدة أوجعتني) صلى الله عليه وسلم، فمن علاج مرض الرياء أن تصلي بالليل والناس نيام، تجتهد وتذهب تتصدق سراً، قال سبحانه: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} [البقرة:271]. عليك أن تخلو بنفسك وتكثر من الاستغفار كما قال الخليل صلى الله عليه وسلم: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} [مريم:48]، فلا تجعل كل أفعالك الخيرة ظاهرة أمام الناس، اجعل لنفسك قسطا من الخير لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، اجعل لنفسك نصيباً من الخير لا يعلمه إلا خالقك سبحانه وتعالى، تتقرب به إلى الله عز وجل، وقد قال ابن القيم رحمه الله: إن الصالحين كانوا يحرصون على كتمان أحوالهم مع الله إلا في الحالات التي تستدعي أن يتأسى بهم الناس، وأنشد ابن القيم رحمه الله تعالى في ذلك أبيات شعر، فقال: من سارروه فأبدى السر مجتهداً لم يأمنوه على الأسرار ما عاشا وأبعدوه فلم يظفر بقربهم وأبدلوه مكان الأنس إيحاشاً لا يأمنون مذيعاً بعض سرهم حاشا ودادهم من ذلكم حاشا حث رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم على الصدقة، فقال: عمر في نفسه ولم يقل لأحد من الناس: (إن الرسول صلى الله عليه وسلم حث الناس في هذه الليلة على الصدقة، ودائماً أبو بكر يسبقني فيتصدق، فلأتصدقنّ الليلة، فحمل نصف ماله ووضعه بين يدي رسول الله، فقال له: ما أبقيت لأهلك؟ قال: مثله، ثم جاء أبو بكر بماله كله فقال له رسول الله: ما أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله! فقال عمر: والله! لا أسابقك بعد اليوم أبداً يا أبا بكر). إذا حصل لك نوع كرامة من الله فلا تحدث الناس على سبيل التعالي على أنك كريم عليهم، بل إذا حدثت تحدث بنعم الله عليك شاكراً لأنعمه سبحانه وتعالى.

مرض العجب وعلاجه

مرض العجب وعلاجه مرض الرياء أحد الأمراض التي تتسرب إلى القلب، ويلتحق به العجب فهو نظيره وسميه، فالعجب كذلك من أمراض القلب، ففي صحيح البخاري أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، ركب برذوناً -والبرذون هو البغل- فمشى البرذون وعمر فوقه، والبغل يمشي ويهز الذي فوقه، فيحدث له نوع من أنواع الاختيال، فلما ركب عمر البرذون ومشى به مدة نزل من فوقه، قالوا له: لماذا نزلت يا أمير المؤمنين؟! قال: (أبعدوه عني، والله! ما نزلت عنه حتى أنكرت نفسي)، يعني: نفسي كانت قبل أن أركبه طيبة خفيفة، فلما ركبته تسرب العجب إليها، وإذا بالناس حولي كأنهم لا شيء، هذا حاصل كلام أمير المؤمنين عمر. وإخواننا الأثرياء يشعرون بذلك! فأصحاب الأموال الكثيرة إذا ركب أحدهم سيارة (مرسيدس) يحس أن الناس حوله صعاليك! ويبدأ يظلم، كما قال عمر: أنكرت نفسي كأنها نفس أخرى، لكن إذا ركب حماراً أو ركب دراجة أحس أنه واحد مثل الناس، فيمشي زيد بين الناس وهو متواضع كما يتواضع الناس. لهذا عليك أن تبعد عن نفسك أسباب العجب إذا وجدت شيئاً يجلب لك العجب ويذكيه في نفسك، فاتركه لله سبحانه وتعالى، وليس من باب التحريم، ولكن اتركه لله حتى يعوضك الله عز وجل خيراً منه إيماناً تجد حلاوته في قلبك. تجد إخواننا جالسين في المجالس، فيبدأ التعارف: من الأخ؟ يقول: أخوكم فلان، الثاني يقول: أخوكم فلان، فيأتي واحد غلبه الشيطان، ويقول: أخوكم الدكتور فلان، هو أهلك نفسه قبل أن يهلك غيره، إذا كان يقصد الدكتور من باب التعريف، فله نيته ولن يتسرب إن شاء الله شيء إلى قلبه، أما إذا قالها على سبيل التباهي في المجلس تتشبع نفسه بذلك الكبر، فيهلك نفسه؛ إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر -أمثال النمل- يطؤهم الناس بأخفافهم) يأتي آخر: العقيد فلان! العميد فلان! أي عقيد وأي عميد وقد مات من هم خير منك آلاف المرات؟ أين أنت من ثمود الذين جابوا الصخر بالواد، ومن فرعون ذي الأوتاد، ومن عاد إرم، ومن غيرهم من الأمم؟ فمثل هذا يجلب الكبر إلى الناس، تخيل أنه لو قال كلمة مثل هذه، وآخر مثله طبيب قال: أخوكم في الله -بانكسار- فلان بن فلان، لا شك أن الثاني سيزيده الله عز وجل تواضعاً ورفعة في الدارين ويحبه كل الجالسين، أما هذا الذي تعالى عليهم، فهل يقبل الجالسون تفاخره؟ ومن طبع البشر أنهم لا يحبون من تكبر عليهم وتجبر، ولكن يحبون من خفض لهم الجناح وألان لهم القول. فمن أنواع العجب نوع كهذا، وعلاجه أن تكسر نفسك وتتواضع لله سبحانه وتعالى، تتواضع لله في أوصاف الفقراء، وفي أوصاف الضعفاء فلعلهم عند الله خير منك، ولا يخفى عليكم في هذا الباب حديث أبي بكر رضي الله عنه مع الأربعة الفقراء الغرباء، سلمان وصهيب وعمار وبلال، لما مر بهم أبو سفيان بن حرب عام الفتح، ورءوا أن أبا سفيان كان رئيساً للكفر، وكان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما زال يمشي، ولم ينل من الأذى فقالوا الأربعة: والله! ما أخذت سيوف الله من عدو الله مأخذها - أي: فكان ينبغي أن يقتل مثل هذا الرجل- قال أبو بكر رضي الله عنه: أتقولون هذا لسيد قريش؟! ثم استدرك أبو بكر فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! بلال وصهيب وسلمان وعمار قالوا: كذا، فقلت لهم: كذا، فماذا قال له الرسول صلى الله عليه وسلم؟ قال: (يا أبا بكر! هل أغضبت إخوانك يا أبا بكر! لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك عز وجل! فانطلق أبو بكر سيد شيوخ أهل الجنة إلى هؤلاء الأربعة، فقال: يا إخوتي! أغضبتكم؟ فقالوا: لا، يغفر الله لك). فعلاج العجب التواضع، وخفض الجناح للمسلمين، ومجالسة المتواضعين، أما أن تجالس دائماً المتكبرين فستقتبس من أخلاقهم، ومن ثَم قال رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام: (شر الطعام طعام الوليمة) هذا الحديث فقه، لماذا شر الطعام طعام الوليمة؟ قال: (يدعى إليها الأغنياء، ويترك الفقراء)، فلمّا دعي إليها الأغنياء، وكلهم أغنياء يحصل التباهي والتفاخر ويحصل استقلال، يعني: مهما قدمت للأغنياء تسخطوا ما جئت به، لكن قد تدعو إلى وليمة عملتها واحداً من الفقراء الضعفاء فيخرج من عندك وقد أكل أكلة عمره ما أكلها في حياته، فيدعو لك دعوة تستفيد منها، فمجالسة الصالحين تجعلك تقتبس من أخلاقهم، هم يؤثرون في الطباع؛ لذلك الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في شأن الجوار والمجالسات، بل حتى مجالسات الدواب: (الفخر والخيلاء في الفدادين أهل الإبل) والشاة أو الخروف دائماً تكون في الأرض، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم (والسكينة والوقار في أهل الغنم) (الفخر والخيلاء في أهل الفدادين أهل الإبل) فلما كانوا مع الأنعام المستكبرة اقتبسوا من أخلاقها، ومن مشى مع الغنم المتواضعة اقتبس من أخلاقها، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما بعث الله من نبي إلا وقد رعى الغنم قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال: وأنا رعيتها على قراريط لأهل مكة)، فلذلك الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أشد الناس تواضعا، وأرحم الناس بالناس عليهم الصلاة والسلام.

قسوة القلوب وعلاجها

قسوة القلوب وعلاجها تجد أقسى الناس قلوباً اليهود؛ لأنهم نقضوا العهود مع الله، فقال تعالى في شأن اليهود: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} [المائدة:13] في شأن اليهود {لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} [المائدة:13] يمسكون بالمسلم أو غير المسلم فيضربونه، تصيح أو ما تصيح، ما في قلبه رحمة، أصبح القلب كما قال تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة:74]، لا يلين أبداً، تتوقع أنك ستعتذر إليه يلين قلبه لك، هذا ممتنع عندهم تماماً، أما قلب المؤمن فكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قلب رقيق لكل ذي قربى ومسلم). قسوة القلوب علاجها الاستغفار والوفاء بالعهود والمواثيق، فالاستغفار كما في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً، فأيما قلب أشربها) أي: قبل هذه الفتن (نكت فيه نكتة سوداء، وأيما قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى تصير القلوب على قلبين:) ينتهي الأمر إلى قلبين: (قلب أسود مرباداً كالكوز مجخياً) يعني: قلب مثل الكوز أسود من داخله ومقلوب، لا يستمسك بأي خير؛ لأنه مقلوب على وجهه، لا يوجد خير يثبت فيه، وآخر (أبيض كالصفا لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض) أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالذنوب التي تتوارد عليك يومياً تحتاج منك إلى جهاد وغسيل لها، كما يذهب مريض الكلى إلى الغسيل الكلوي، وهكذا على مريض القلب وكلنا مرضى، نسأل الله أن يعافينا وإياكم! كلنا يذنب يومياً، على كل منا أن يصنع ما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الباب، قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح (إنه ليغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم مائة مرة) وفي رواية (إني أستغفر الله وأتوب إليه في اليوم سبعين مرة) وقال ابن عمر رضي الله عنهما: (كنا نعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد: رب اغفر لي وتب عليّ إنك أنت التواب الغفور، سبعين مرة) يقولها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يغسل ما على قلبه صلى الله عليه وسلم، فنحن أكثر ذنوباً ولا شك من نبينا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم، فنحتاج إلى استغفار، ولن يكلفك ذلك خمس دقائق {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} [النساء:147]؟ ماذا سيستفيد الرب سبحانه وتعالى من تعذيبك إن شكرت وآمنت؟! فعلى المسلم أن يكون ذكيا، وفطنا، يعرف من أين تأتي له الابتلاءات وكيف يرفعها، فالمصائب التي تحل عليك -يا عبد الله- من وجهين: إما أن تكون مصيبة تحل بك من أجل أنها ابتلاء من الله، يبتليك الله لينظر: هل تصبر فتثاب أو لا تصبر؟ والله أعلم. وإما أن تأتيك مصيبة بسبب ذنوبك، فإذا كنت خفيفاً لا تشعر بأنك مذنب ومسرف على نفسك، وتشعر أنك مطيع لله، فالنفس أحياناً تكون نشيطة خفيفة من الذنوب والآثام، فإذا كنت في هذه الحال نشيطاً لا ترى أنك مذنب -وكلنا مذنب- خفيفاً من الذنوب والآثام، وأصبت بمصيبة، فعليك أن تعلم أن هذه المصيبة في الغالب ابتلاء من الله سبحانه وتعالى يختبر صبرك، فتصبر كما صبر أيوب إذ قال الله عز وجل لما ابتلاه: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:44] هذا نوع. مصائب أخرى تأتيك بذنوبك، قال سبحانه: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]، فالمصيبة الأولى يلزمها صبر، والثانية يلزمها استغفار، فمن فوائد الاستغفار: أن الله يرفع عنك البلاء، ويبيض الله عز وجل به قلبك.

اضطراب القلب سببه وعلاجه

اضطراب القلب سببه وعلاجه القلوب كما لا يخفى عليكم لها نوع آخر من المرض وهو الاضطراب، قلب كثير الاضطراب، ما هو سبب هذا الاضطراب؟ أولاً: سبب الاضطراب أنك تفعل آثاماً أحياناً صريحة أنها آثام عندك، وأحياناً مشتبهة والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (البر ما اطمأنت إليه النفس) أي: سكنت إليه النفس (والإثم ما حاك في صدرك، وكرهت أن يطلع عليه الناس) فالإثم يجعل النفس لا تطمئن، ومعنى لا تطمئن أي: لا تسكن، ومعنى لا تسكن أي: تضطرب، فتسبب هذه الأشياء انفعالات على القلب، فتجد نفسك قلقاً غير مرتاح. الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لقلب المرء أشد تقلباً من الماء في المرجل) يعني: الماء في القدر إذا وصل إلى درجة الغليان، بدأ يتقلب والفقاقيع تطلع وتنزل، فكذلك القلب يتقلب هذا التقلب الشديد؛ ولذلك قال ابن عمر: كان أكثر أيمان النبي صلى الله عليه وسلم (لا ومقلب القلوب!) وكان يقول: (اللهم يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك، اللهم يا مصرف القلوب والأبصار! صرف قلبي إلى طاعتك) وإبراهيم الزكي الذي آتاه الله رشده يقول للمشركين: أنا لا أخاف من أصنامكم، ولا أخاف ما تشركون به إلا في حالة واحدة: (إلا أن يشاء ربي شيئاً) إلا أن يشاء ربي أن يقذف في قلبي الخوف من هذه الأصنام، فالقلوب قد تتبدل في لحظة واحدة عياذاً بالله؛ لأن الشخص منا لا يملك لنفسه شيئاً، ولا يملك قلبه، والله يقول: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:24] يعني: أنت لا تستطيع أن تتحكم في قلبك. الرسول صلى الله عليه وسلم لما عاتبته بعض أزواجه في حبه الزائد لـ خديجة وقد ماتت ماذا قال؟ قال: (إني رزقت حبها في قلبي) يعني: لا أستطيع أن أصرف هذا الحب عن قلبي، وقد قال عدد من العلماء: وفيه خبر عن المعصوم صلى الله عليه وسلم أن المحبة التي في القلب من الله سبحانه وتعالى، فلما كانت القلوب متقلبة لزمنا أن نطلب ما يثبتها على الإيمان، فأولوا الألباب يقولون: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8] {رَبَّنَا لا تُزِغْ} أي: لا تمل {قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8]. فطلب الثبات للقلب علاج له من الاضطراب، وذكر الله تطمئن به القلوب كما قال الله سبحانه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} يعني: قلوب الذين آمنوا إذا حصل لها شيء من الاضطراب تطمئن بذكر الله، ومعنى تطمئن: تسكن، ويزول عنها خوفها وقلقها، ثم قال الله تعالى {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] أي: جدير بذكر الله أن يطمئن القلوب، {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} ما المراد بذكر الله الذي تطمئن به القلوب؟ لأهل العلم قولان في المراد بذكر الله الذي به تطمئن القلوب: ففريق من أهل العلم يقول: إن المراد بذكر الله القرآن، فالشخص إذا كان مضطرباً وقرأ القرآن بتؤدة وتفقه سكن وذهب عنه الهم الذي يجد، ودليلهم على أن المراد بذكر الله هو القرآن قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، فقالوا: إن المراد بذكر الله الذي تطمئن به القلوب هو القرآن. وفريق منهم يقول: إن المراد بذكر الله الحمد والتسبيح والتهليل والتكبير وسائر الأذكار المشروعة، والقول بالتعميم في هذه المواطن أولى، بمعنى أن المراد بذكر الله: القرآن وسائر الأذكار، فكلها تطمئن القلب، وتذهب الخوف والقلق، ومن ثَم لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين يستبان، وأحدهما انتفخت أوداجه وعلا صوته، واحمر وجهه، فقال عليه الصلاة والسلام: (إني أعلم كلمة لو قالها هذا لذهب عنه الذي يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لذهب عنه الذي يجد) فالاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم ذكر لله سبحانه وتعالى، ومعنى (أعوذ بالله) أي: أستجير بالله وألجأ إليه من الشيطان الرجيم، فذكر الله أحد المثبتات كما تذهب إلى الطبيب فتقول له: أعطني مقويات عامة للقلب، فيعطيك بعض الأدوية من أدوية الصيدليات. فهناك مقويات عامة للقلب، إذا كنت تخاف وقلبك يرتعد من بعض الناس فذكر الله يثبتك في هذا الموطن، إذا خفت قوما قل: (حسبي الله ونعم الوكيل) وأكثر منها، ف ابن عباس يقول كما في البخاري: (((حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)) [آل عمران:173] قالها إبراهيم عليه السلام لما ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه لما قال لهم الناس: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173]). إذا أصبت بمصيبة كأن جاءك خبر موت أخيك أو أبيك القلب يقلق ويضطرب، والهم يزداد عليك، وهناك اضطراب زائد، فعلاجه ذكر الله، وصْفةٌ إلهية موجودة في المصحف: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:156 - 157] فذكر الله يقوي القلب، لا يقوي القلب فقط بل يقوي البدن كذلك، لا يخفى عليكم أن فاطمة أتت إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام تسأله خادماً وتريه أثر الرحى في أيديها، يدها تأثرت من الطحن، وتريد خادماً من رسول الله، قال لها الرسول صلى الله عليه وسلم: (أولا أدلك على ما هو خير لك من خادم،) تسبحين ثلاثاً وثلاثين، وتحمدين ثلاثاً وثلاثين، وتكبرين ثلاثاً وثلاثين عند النوم (فهو خير لك من خادم) فأهل العلم يقولون: هذا مقو عام، يقوي الجسم ويجعل الشخص ينشط أكثر مما يفعله الخادم. فذكر الله سبحانه وتعالى من أقوى المقويات للقلب والمثبتات لها في كل الأحوال وفي كل المواطن، إذا جئت إلى مكان وأنت فيه خائف، وذكرت الله عز وجل اطمأن قلبك، وذهب عنك الخوف، لو قلت: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق) اطمأن قلبك وذهب الخوف عنك، لو قمت من النوم وأنت منزعج غاية الانزعاج من الرؤيا المفزعة، وقلبك مضطرب ينبض مرعوب من الرؤيا المفزعة، علاجها في شيء يسير علمنا إياه رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، أرشدنا ألا نحدث بها، ولا نكلم بها أحداً، وأن نتفل عن يسارنا، وأن نتعوذ من شرها، فجاء ذكر الله في صورة التعوذ بالله من شرها، إذا كانت مفزعة فقم إلى الصلاة فإنها ذكر لله أيضاً كما قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14] قال أبو قتادة رضي الله عنه: كنت أرى الرؤيا أثقل عليّ من الجبل، فالشيطان يدخل من خلال حلم مفزع يرتبه لك ترتيباً في الرؤيا، ويوهمك أنك ستموت غدا يقيناً أو تصاب بحادث أو ابنك سيصاب بشلل ويرتب لك ترتيباً أنك ستدمر، ويعكر عليك حياتك كلها بسبب هذه الرؤيا المفزعة، ف أبو قتادة يقول: (كنت أرى الرؤيا أثقل عليّ من الجبل، فلما سمعت حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم سري عني ولم أعد أبالي) فيقول الذكر الذي علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم أنها خمسة آداب: 1 - أن تتفل عن يسارك ثلاثاً. 2 - أن تتعوذ بالله من شرها. 3 - ألا تحدث بها أحداً. 4 - أن تتحول عن جنبك الذي أنت عليه. 5 - وإن كانت مزعجة قم فصل. خمسة آداب ولن يضرك شيء بإذن الله، فبذكر الله تطمئن القلوب.

مرض الكبر والتعالي وعلاجه

مرض الكبر والتعالي وعلاجه من أمراض القلوب: الكبر والتعالي على الناس، وعلاجه كما سمعته: التواضع، وقد كانت الأمة تأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في الصحاح- وتقول: إن لي إليك حاجة، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم! فتأخذ بيده وتمشي به في سكك المدينة حتى يقضي لها حاجتها، ويأتيه الرجل فيفزع منه، فيقول الرسول: (هون عليك إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة)، يأتي الرجل من البادية إلى مدينة رسول الله عليه الصلاة والسلام يسأل الناس عن الرسول وهو جالس في المسجد لا يعرفه أحد، فيسأل: أيكم محمد؟ من منكم محمد عليه الصلاة والسلام؟ على ماذا يدل قول الأعرابي للصحابة أيكم محمد؟ يدل على تواضع النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا من تميزه، تعال انظر الآن إلى الضباط والشرطة، مستحيل أن يأكل جندي صغير مع عميد، مستحيل أن يحصل ذلك أبداً عندهم، وإذا أكل الجندي مع العميد صارت مصيبة كبرى تحل على المجتمع! جاء في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يرمي جمرة العقبة يقول الصحابي: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرة لا ضرب ولا طرد، ولا إليك إليك) بخلاف ما عليه المسئولون هذه الأيام، فهذا كله يجلب تواضعاً ينعكس أثره على القلب، ونحن نسأل أصحاب المناصب أو ضباط الشرطة إذا خرج الضابط وهو لابس الزي العسكري عليه سيفين ونجمة أو سيف ونجمتين في رتبة (لواء) كيف يجد نفسه وهو لابس هذا الزي؟ وكيف يجد نفسه وهو لابس ثوباً أبيض مثلاً؟ هو نفسه يشعر بقلبه أنه متواضع عندما يلبس ثوباً أبيض ويمشي به، وعندما يلبس الزي الثاني ينتفش وكأنه لا يوجد أحد على وجه الأرض يوازيه! نسأل مدير الشركة: كيف حاله وهو جالس على كرسي الإدارة؟ وكيف حاله وهو ماشٍ في الشارع؟ وكيف أنت -يا عبد الله- وأنت راكب على الباص ذاهب إلى الجامعة؟ وكيف حالك إذا ركبت (تاكسي مخصوص)؟ قلبك يأتيه بعض الكبر وأنت في (التاكسي المخصوص)! وقلبك وأنت في الباص متواضع، ولا أقول إنه محرم أبدا والعياذ بالله! لا يمكن أن نصف شيئا بالتحريم، لكن الكلام على مسألة كيف تجد قلبك أنت؟! وهذا من باب معالجة القلوب يا عباد الله. سمعتم أثر عمر وهو راكب على البرذون وقال: (والله! ما نزلت من عليه حتى أنكرت نفسي)، فتخيل وقس نفسك، جرب مرتين: اذهب مرة إلى الجامعة (بالتاكسي)، ومرة إلى الجامعة بالباص، ومرة إلى الجامعة مشياً، وانظر قلبك في هذه الأحوال الثلاثة كيف يكون؟ فهذا رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام يأتي الأعرابي يبحث عنه فيسأل: أيكم محمد؟ فيقولون: هو هذا الرجل الأبيض المتكئ، الرجل الذي تراه جالساً هو محمد صلى الله عليه وسلم! بكل بساطة وبلا تكلف عليه الصلاة والسلام، فمن علاج القلوب التواضع لله سبحانه وتعالى. ومن علاجها سماع المواعظ وذكر الله، فالله يقول في سماع القرآن: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:23] تلين الجلود والقلوب إلى ذكر الله سبحانه. قال العرباض بن سارية رضي الله عنه: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون)، فالشاهد: أن الموعظة أثرت في القلوب، فسماع الوعظ يؤثر في القلب. أما سماع الأغاني فيقسي القلب عياذاً بالله! جرب -يا من تسمع الأغاني- اسمع مرة أغنية من الأغاني لبعض الممثلات أو المغنيات، ومرة اذهب واسمع القرآن كيف تجد القلب؟ تجد القلب يظلم عند سماع الأغاني، وتجده يخاف ويتسرب إليه الوجل إذا سمع كتاب الله سبحانه وتعالى، فجدير بنا أن نحرص على مجالس الذكر؛ فإنها مجالس خير، ترقق القلوب، وعليك دائماً أن تقلل من الكلام بغير ذكر الله؛ فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله -كما قال فريق من أهل العلم- تقسي القلب، تبقى تهذي طوال اليوم في قيل وقال، وتجيب من هنا إلى هنا! فأي كلام ليس فيه فائدة يترك على القلب صدأ ووسخاً، ومسطر عليك، وكله له نكسات، فلا يخلو القيل والقال من الاغتياب، والاغتياب ذنب، فيؤثر هذا الذنب على قلبك سواداً كما سمعتم من حديث النبي صلى الله عليه وسلم.

أثر المعاصي على القلب

أثر المعاصي على القلب وكثرة الضحك كذلك تؤثر على القلب، ليست الحياة هكذا ضحك كثير وكلام كثير، الإنسان إذا تحدث كثيراً، وكلمه الناس كثيراً في موضوعات شتى سيمتلئ القلب، والقلب له قدرة معينة فيمتلئ القلب من هذا العبث كله، وهذا الوسخ كله، ولا يجد لذكر الله مكاناً، كما قال القائل: أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فوجد قلباً خالياً فتمكنا الشيء الذي يؤثر على القلب سيثبت فيه، فالشيء الذي يأتي على القلب أولاً يثبت فيه، فأقبل على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتق اللغو والرفث والقراءة في المجلات الخليعة؛ فرب صورة عارية تنظر إليها في مجلة وأنت ذاهب تشتري من بقال فتجد مغبتها في قلبك، وتجد أثرها السيء في قلبك، وأنت جالس تذاكر أو تقرأ القرآن تعرض لك، يذكرك الشيطان صورة البنت التي رأيتها في المجلة، وصورة وجهها ورجليها على المجلة، وهذا شيء كلنا جربه فلذلك نحرص على أن نملأ قلوبنا بذكر الله، ونحرص على أن نملأ قلوبنا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى لا يجد اللغو واللهو مكاناً ولا متسعاً في قلوبنا، إذا امتلأ قلبك بذكر الله وبسنة رسول الله صرف عنه السوء بمشيئة الله تعالى. فمن علاج القلوب أن تملأه بذكر الله، في قصة الواهبة نفسها، قال الصحابي: زوجنيها يا رسول الله! قال: (كم معك من القرآن؟ قال: كذا وكذا، قال: تحفظهن عن ظهر قلب؟ قال: نعم، قال: زوجتكها بما معك من القرآن)

البعد عن مواطن الريبة

البعد عن مواطن الريبة هناك أمور أخر تكون سبباً في أذى الآخرين، عليك أن تتقيها، فمثلاً: لا تقف في موقف شبهات فيأتي الشيطان يقذف في قلب أخيك شراً تجاهك، فيقال: هذا الرجل وقف في هذا الموقف ينتظر فتاة ينتظر مخدرات ينتظر حشيشاً فيقذف في قلب الناس تجاهك شراً، ورسولنا خير معلم يعلمنا حتى تكون قلوبنا سليمة، فكان يمشي مع صفية يقلبها إلى منزلها في الليل لما جاءت تزوره في المعتكف، فراءه رجلان من الأنصار فأسرعا، فقال: (على رسلكما إنها صفية) فقالا: سبحان الله! يا رسول الله! يعني: كيف تظن أننا نظن بك أنك واقف مع امرأة أجنبية؟! قال عليه الصلاة والسلام: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً)، فالشيطان يأتي ويقذف في قلبك شيئاً، فحتى تحافظ على قلوب إخوانك المسلمين عليك ألا تضع نفسك في مواقف الشبهات، فتجعل الشيطان يعان علينا، وحتى تحافظ المرأة على قلوب الرجال يقول تعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} [الأحزاب:32]، المرأة وهي تتحدث مع الرجل لا تخضع بالقول لكن تتكلم بطبيعتها، ولا ترقق، النساء في هذا على قسمين: منهن من تخضع بالقول. ومنهن من تصرخ صراخاً، والوسطية مطلوبة في كل شيء، تتكلم المرأة كما كانت النسوة على عهد رسول الله يتكلمن، لم يرد أنهن تواطأن كلهن على وضع الأيدي على الفم أثناء الكلام، فلا تخضع بالقول، ولا تشدد على نفسها، كأن تضع شيئاً على فمها بل تتكلم كما تتكلم المرأة على طبيعتها بدون خضوع بالقول، وبدون تشديد على نفسها. نساء النبي خير من تأسى بهن نساؤنا يقول الله تعالى لهن: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [الأحزاب:32]، واعلم أن قلبك قد يظلم بسبب حديثك مع امرأة ترقق لك صوتها، وهي قد تكون دميمة جداً! فترقق لك صوتها حتى تقع في الحبال، فقلبك يظلم عياذاً بالله! قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} لماذا نسألهن من وراء حجاب؟ قال: {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53] هذا السؤال من وراء حجاب أطهر لقلوبكم يا رجال! وأطهر لقلوبكن يا نساء! هذا هو كلام الله، فما يأتي بعد ذلك واحد سمج سخيف الرأي يصافح المرأة ويضغط على يدها ويقول: الإيمان في القلب يا عم الشيخ! سماجات وسخافات أيها الإخوة! وختاماً: علينا جميعاً أن نفعل ما فعله رسولنا عليه الصلاة والسلام سواء مع الناس أو مع أنفسنا، فكان هناك أقوام قلوبهم ضعيفة، إيمانهم ضعيف، فسموا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: المؤلفة قلوبهم، قلوبهم تريد أن تخرج من الإسلام، فالرسول عليه الصلاة والسلام كان يعطيهم العطية، حتى تسكن قلوبهم إلى الإسلام، مسلك حسن في تأليف القلوب البعيدة الشاردة عن الدين، كيف تؤلف القلوب البعيدة الشاردة عن الدين؟ تؤلفها بشيء من المال، بهدية تجلب المحبة في القلب. وبالنسبة لأنفسنا نكثر من التعوذ من قلب لا يخشع، فرسولنا عليه الصلاة والسلام كان يكثر من ذلك فيقول: (اللهم! إني أعوذ بك من قلب لا يخشع، وعلم لا ينفع، ونفس لا تشبع، ودعاء لا يسمع)، وكان يقول أيضاً: (اللهم! اجعل في قلبي نورا)، كان يسأل ربه سبحانه وتعالى أن يجعل في قلبه نورا (وفي لساني نوراً، وفي سمعي نوراً، وفي بصري نوراً، ومن أمامي نوراً، ومن خلفي نوراً)، وكان يطلب من الله أن يغسل قلبه، فالقلب أبيض في الأصل، أي: قلب المؤمن، فيأتي الذنب تلو الذنب فيسوده، وكلنا خطاء كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم (والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون) وقوله: (كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة: العين تزني وزناها النظر، واليد تزني وزناها البطش) إلى آخر الحديث، فكل هذه الذنوب تسبب على القلب أوساخاً وسواداً، فرسولنا يقول معلما لنا: (اللهم! اغسل قلبي من الذنوب والخطايا)، اغسله من الذنوب والخطايا ليس بالنار، إنما (اغسل قلبي من الذنوب والخطايا بالماء والثلج والبرد، اللهم! نق قلبي من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس)، فعلمنا رسولنا صلى الله عليه وسلم هذا الدعاء، حتى يأتي القلب يوم القيامة وهو أبيض سليم من الآفات التي تتسرب إليه.

مرض الغل والحسد وعلاجه

مرض الغل والحسد وعلاجه ومن الآفات التي تتسرب إلى القلب الغل للذين آمنوا عياذا بالله! الغل للذين آمنوا من أخطر الأمراض التي تعتري القلوب، وحسد أهل الإيمان من أخطر الأمراض التي تعتري القلوب، ولا يكتشفه إلا أنت، ليس هناك طبيب سيكتشف الغل الذي في قلبك، اذهب للأخ الفاضل الدكتور فاروق رضوان وقل له: انظر هل في قلبي غل أو لا يا دكتور؟ هل سيعرف أن في قلبك غل أو ليس فيه غل؟ من أخطر الأمراض في القلوب الغل للذين آمنوا، فعلاج الغل للذين آمنوا أن تدعو بما دعا به الصالحون قبلك: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر:10] هو مؤمن، وأنت تكره المؤمن! وما عملوا فيك شيئاً وأنت تكرههم وتتمنى لهم المصائب، وتحسدهم! فما علاج ذلك؟ علاج ذلك: أن تقوم مثلاً من الليل فتدعو للمؤمن وتقول: اللهم! وفقه، اللهم! ارحمه، اللهم! استر عليه، اللهم! بارك له، فيكون ذلك عذرك أمام الله، ويذهب الله سبحانه وتعالى بذلك ما في نفسك وما في قلبك من حسد، ثم هو من مصلحتك أنت، يعني: إذا كان في قلبك حسد لأخيك، أو غل لأخيك فقمت في صلاة الليل وقلت: اللهم! وفقه وبارك له في ماله، اللهم! ارزقه وبارك له في ذريته، في الحقيقة أنت تدعو لنفسك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب، إلا وعند رأسه ملك موكل يقول: آمين، ولك بمثله). فأنت لن تخسر عندما تدعو لأخيك، قال تعالى: {فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} [محمد:38] إذا بخلت بدعوة لأخيك وامتنعت عن الدعاء، فالأمر كما قال تعالى: {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} [محمد:38]، ونهج المرسلين والمؤمنين دائماً أنهم لا يدعون الله بالمغفرة لهم فحسب، بل يقول نوح: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}، يدعو للجميع {وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} [نوح:28] فحتى يذهب حقدك على إخوانك ادع الله لهم، واعلم أنك بحسدك لهم مرتكب كبيرة من الكبائر، فالحاسد مرتكب كبيرة، إذ أحببت لأخيك من قلبك أن تحل به مصيبة، أو أن يفتضح، فهاهي عقوبتك من الله: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:19]. فاسأل الله أن يغسل قلبك من الذنوب والخطايا، ويطهره بالماء والثلج والبرد، وتعوذ بالله دائماً من قلب لا يخشع، وعلم لا ينفع، ونفس لا تشبع، ودعاء لا يسمع، وأكثر من الذكر والاستغفار في طرقك وفي مجالسك، وفي عملك حتى يهدي الله قلبك، ورد المظالم إلى أهلها قبل أن تموت، فكل ذلك يرقق القلب، ويسلمه بإذن الله من الآفات التي تعتريه، وتأتي يوم القيامة بقلب سليم كما جاء الخليل إبراهيم صلى الله عليه وسلم ربه كما قال الله: {إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الصافات:84] رزقنا الله وإياكم جميعاً سلامة القلوب. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

صلة الرحم

صلة الرحم صلة الرحم فرض فرضه الله سبحانه وتعالى، وحث عليه رسوله صلى الله عليه وسلم، وذكر أنه من الأسباب التي يبارك الله بها في عمر الإنسان، وصلة الأرحام لا تقتصر على من يصلون الرحم من جانبهم، وإنما تتأكد في حق من يقطعونها أيضاً، وقد توعد الله قاطع الرحم بالوعيد الشديد في الدنيا والآخرة.

فضيلة صلة الأرحام

فضيلة صلة الأرحام باسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: فمن الأوامر التي جاءت بها الشرائع كلها الأمر بصلة الأرحام، فهذا أمر متفق عليه بين الشرائع كلها، فلم تنسخ آية من الآيات التي وردت آمرة بصلة الأرحام، بل كلها آيات محكمات. ولصلة الأرحام أثرها في التعامل مع الأقربين، فليس من وصل كمن قطع، وقد قال عدد من العلماء في شرحهم لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا إن آل بني فلان ليسوا بأوليائي، إنما أوليائي المتقون، لكن لهم رحم سأبلها ببلالها)، قالوا في شرح هذه المقولة الأخيرة: (سأبلها ببلالها): إن الرحم شُبهت بالجلد اليابس، فإذا بللت الجلد بالماء لانت في يديك، وسهل عليك ثنيها، وكذا الرحم؛ إذا وصلتهم سهل عليك أمرهم بإذن الله، فإذا كنت تسأل عنهم وتهدي إليهم وتتفقد أحوالهم، فإنهم حينئذٍ يحبونك ويقبلون منك قولك ويلينون في يديك، أما إذا كنت قاطعاً، ولست بواصل؛ فإن كلامك يذهب سدى ولا يلقى قبولاً عند أقاربك ولا عند أرحامك. جاءت جملة من النصوص من كتاب ربنا سبحانه وتعالى ومن سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم تحث بل وتأمر بصلة الأرحام، قال الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} [الإسراء:26] فذوو القربى -الذين لهم حق- هم الأرحام عموماً، وكذلك قال الله تبارك وتعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى} [النساء:36]، وهم الأرحام عموماً كما بينا، وقال الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى} [البقرة:83]، فلذوي القربى حق، وقال رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن ينسأ له في أثره، ويبسط له في رزقه فليصل رحمه) كذا قال رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم. وكان صلوات الله وسلامه عليه في بداية أمره وبداية بعثته مع دعوته إلى التوحيد كان أيضاً يأمر بصلة الأرحام، فلما سأل هرقل أبا سفيان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً له: بما يأمركم -يعني النبي صلى الله عليه وسلم-؟ قال: (يأمرنا بالصلاة والصدقة والعفاف والصلة) يعني بذلك صلة الأرحام.

كيفية صلة الأرحام

كيفية صلة الأرحام هذا ولصلة الأرحام صور: فمن صلة الأرحام: زيارتهم في بيوتهم، وتفقد أحوالهم، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يزور ذوي رحمه، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يزور علياً وفاطمة رضي الله تعالى عنهما، وأحياناً كان النبي صلى الله عليه وسلم يزور علياً رضي الله عنه فقط، أو يزور فاطمة رضي الله عنها فقط، وكان يزور أم هانئ، ويزور غيرها من ذوي الأرحام والقرابات، فلزيارة الرحم أثرها الطيب في توطيد العلاقات، وفي إنبات المحبة وإثباتها، وخاصة إذا صوحبت بهديةٍ، ولا يكن وصل الرحم فقط في زيارتهم، بل يمكنك الاطمئنان عليهم برسالةٍ كتابية أو شفهية أو بهاتف، وبعيادة مرضاهم، فكل ذلك -بإذن الله- ينبت المودة والمحبة، وإذا كان في ذهابك إلى الأرحام منكرٌ، كأن تكون ابنة العم متبرجة على سبيل المثال، وستحدث خلوة أو نظر، وهي لا تحل لك -أعني أن النظرة إليها لا تحل لك-، فتوصل الرحم بسبيل آخر، والموفق من وفقه الله، جعلنا الله وإياكم ممن وصلوا أرحامهم، وصل اللهم على نبينا محمد وسلم تسليماً. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

التحذير من قطع الرحم وبيان عاقبة القاطع

التحذير من قطع الرحم وبيان عاقبة القاطع هذا وقد حذرنا ربنا تبارك وتعالى من قطع الأرحام في كتابه الكريم تحذيراً شديداً، فقال ربنا سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22 - 23]، فقاطعو الرحم أصمهم ربنا وأعمى أبصارهم، ولذا فقد ورد عن علي بن الحسين رحمهما الله تعالى أنه أوصى ولده فقال: (يا بني! لا تصاحب قاطع الرحم، إني وجدته ملعوناً في كتاب الله في ثلاثة مواطن -أحدها الذي ذكرناه- والثاني في قول الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [الرعد:25]، والثالثة آية البقرة التي في آخرها: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة:27]). فقاطع الرحم ملعون، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لما خلق الله الخلق قامت الرحم فتعلقت بقوائم العرش -وفي رواية: فأخذت بحقو الرحمن- وقالت: يا رب! هذا مقام العائذ بك من القطيعة، فقال الله لها: أما ترضين أن أصل من وصلك، وأن أقطع من قطعك؟ قالت: بلى؛ يا رب! قال: فذلك لك)، فكأن الرحم هربت من قوم يريدون ذبحها، ويريدون قطعها، فاستجارت بمن؟ استجارت بالله، واستنجدت بالله، وتعلقت بقوائم العرش؛ فأنصفها الله بقوله: (أما ترضين أن أصل من وصلك، وأن أقطع من قطعك؟ قالت: بلى، قال: فذلك لك)، أي: لك -أيتها الرحم- أن أصل من وصلك، وأن أقطع من قطعك. ولذا في الحديث أن الرحم تقول: (من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله)، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم محذراً من قطع الرحم: (لا يدخل الجنة قاطع -وفي رواية: قاطع رحم-). فقطاعو الرحم ملعونون، لعنهم الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم، وبين رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم ما أعد الله لهم من العقوبة.

وجوب صلة الأرحام وإن كانوا غير مسلمين

وجوب صلة الأرحام وإن كانوا غير مسلمين الرحم توصل حتى وإن كانت كافرة، قال النبي صلى الله عليه وسلم -كما تقدم-: (ألا إن آل بني فلان ليسوا بأوليائي، إنما أوليائي المتقون، لكن لهم رحم سأبلها ببلالها) أي: أصلها بصلتها، وأيضاً قال تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8]، جاءت أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم تقول: (يا رسول الله! إن أمي أتتني وهي راغبة وهي مشركة، أفأصل أمي يا رسول الله؟! قال النبي صلى الله عليه وسلم: صلي أمك).

وصل الرحم وإن قطعت

وصل الرحم وإن قطعت الرحم وإن قُطعت توصل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس الواصل بالمكافئ، إنما الواصل الذي إذا قطعت رحمهُ وصلها)، معناه: إذا وصلك ابن عمك فوصلته كما وصلك، فلست بالواصل حق الوصل وتمام الوصل؛ لأنك حينئذٍ مكافئ، إنما الوصل تمام الوصل من إذا قطعت رحمهُ وصلها، وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أتدرون من الرقوب فيكم؟ قالوا: الرقوب من لا يولد له يا رسول الله! قال: ولكن الرقوب من لم يقدم شيئاً من الولد)! وقد بينا أنه يجب وصل الرحم، حتى الرحم الكافرة. قالت خديجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنها، لما جاءها من غار حراء قائلاً: (زملوني زملوني! لقد خشيت على نفسي، قالت: كلا؛ والله! لا يخزيك الله أبداً: إنك لتصل الرحم)، فاستبعدت أن يخزيه الله بسبب صلته للرحم. وقال ابن الدغنة لـ أبي بكر، وقد رأى أبا بكر رضي الله عنه خارج مكة: إلى أين تذهب يا أبا بكر؟! قال: أسيح في الأرض أعبد ربي عز وجل، فقد أخرجني قومي، قال له ابن الدغنة: والله! ما مثلك يخرج -يا أبا بكر - إنك لتصل الرحم، وتحمل الكلَّ. فكذلك قال ابن الدغنة ما حاصله: أن الذي يصل الرحم لا ينبغي أبدا أن يخرج من دياره، ثم ضمه إليه وآواه إليه، رضي الله تعالى عن أبي بكر. وإن اشتد عليك أقاربك فأيضاً عاملهم بالتي هي أحسن. فقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا رسول الله! إن لي رحماً أصلهم ويقطعونني، وأعطيهم ويمنعوني، وأعفو عنهم ويسيئون إليّ، وأحلم عنهم ويجهلون عليّ، أي: ما العمل مع هؤلاء يا رسول الله؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لئن كنت كما قلت؛ فكأنما تسفهم الملّ -أي: الرماد الحار- ولم يزل معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك)، فعلينا بصلة الأرحام وإن قاطعونا، وعلينا بالإعطاء لهم وإن منعونا، وعلينا بالصبر عليهم وإن جهلوا علينا. كل ذلك يلزم المتقين، لقول نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم: (ولكن لهم رحم، سأبلها ببلالها).

صفات وغرائز خلق الله وبعض أحكام الشتاء وزكاة النقدين

صفات وغرائز خلق الله وبعض أحكام الشتاء وزكاة النقدين لقد جرت سنة الله سبحانه في الحياة الدنيا على المفاضلة بين الخلق في كل شيء، فلذلك ترى اختلافاً كثيراً بين مخلوقات الله كافة، وليس بين بني آدم فحسب، حتى إن التمايز والتفاضل يشمل الجان والملائكة والدواب والنباتات وغيرها، وهذا من حكمة الله سبحانه وتعالى وتدبيره.

سنة المفاضلة بين الخلق

سنة المفاضلة بين الخلق الحمد لله الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خلق كل شيء فقدره تقديراً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله الله سبحانه وتعالى بالهدى ودين الحق وجعله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، عليه أفضل صلاة وأتم تسليم، وعلى آله وأصحابه رضي الله عنهم أجمعين. وبعد: فكما لا يخفى على كل لبيب أن الله سبحانه وتعالى خلق الدنيا للابتلاء وللاختبار، قال الله سبحانه: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك:2]، لهذا خلقت الحياة الدنيا، وقال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم إذ بعثه: (إني مبتليك ومبتلٍ بك)، فجرت سنة الله سبحانه وتعالى في هذه الحياة الدنيا وعلى هذه الحياة الدنيا أنها للابتلاء وللاختبار، وجرت سنة الله أيضاً على المفاضلة بين الخلق في كل شيء، وعلى المفاضلة بين كل الأشياء كذلك كما قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} [الإسراء:21]، وكما قال تعالى: {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام:165]، وكما قال سبحانه: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف:32]، فجرت سنة الله سبحانه على المفاضلات بين الخلق، فترى اختلافاً كثيراً بين الخلق، وليس بين بني آدم فحسب، بل بين الدواب وبين الأشجار والنباتات وبين الأسماك وبين الجان وبين الملائكة، وقد قدمنا لذلك نماذج مراراً، ولا بأس للتذكير ثانية: {فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55] وابتداءً فقد قال تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة:29]، فكل ما في الأرض خلق لبني آدم، سواء للانتفاع به أو للاعتبار به والادكار، فإذا نظرنا في عالم الحيوانات سنرى تباينات لا يحصيها إلا خالقها سبحانه وتعالى، فترى حيواناً يؤلف، وآخر شرساً لا يؤلف بحال من الأحوال، ترى شاة متواضعة منكسرة، وترى جملاً متعالياً متكبراً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (السكينة والوقار في أهل الغنم -قال العلماء: لاقتباسهم من أخلاقها- والكبر والخيلاء في الفدادين أهل الإبل) فأهل الإبل أهل كبر واختيال اقتبسوا أخلاقهم من صفات ما يعايشونه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (على ذروة سنام كل بعير شيطان)، وترى قطاً قد يؤلف، وترى نمراً لا يؤلف بحال من الأحوال، وترى أسداً كريماً عند افتراسه للفريسة لا يأكل منها إلا إذا قتلها، وترى نمراً دنيئاً يتلذذ بتمزيق الذبيحة وهي حية قبل أن تموت، ترى خنزيراً -عياذاً بالله- قد فقد غيرته ولا يبالي بعرضه، وترى ديكاً غيوراً شديد الغيرة على الدجاج التي معه ويقاتل من أجل الدجاج أشد القتال، وهذه سنة الله سبحانه وتعالى جرت في هذه البهائم والدواب، ترى نحلاً منظماً مرتباً في عمله، وترى فراشاً طائشاً ساعياً هاهنا وهاهنا بعضه يركب بعضاً، ترى جراداً منتشراً يمشي في أسراب، وترى فراشات تقذف بنفسها إلى النار، ولله الأمر من قبل ومن بعد، ترى حيواناً ذكياً كالقرد، وترى آخر ضعيف الرأي كالفيل، سنن لله سبحانه في الخلق من الدواب وغيرها حتى نعتبر وندكر بها. والحيوانات فيها ما لا يحصيه إلا الله، فترى خفاشاً خلق من لحم ودم لا يرى في النهار ولا في الليل إلا ساعة واحدة بعد الفجر وساعة أخرى بعد غروب الشمس، وما سوى ذلك لا يرى فيه، ومن عجيب قدرة الله وعظيم صنعته فيه أن أنثاه تحيض، فمع أنه يحيض ويلد إلا أنه يطير، ومع طيرانه لا يبيض، وتراه يضحك ويبكي! فهذه سنن لله في الخلق، لعل معتبراً أن يعتبر ولعل مدكراً أن يدكر ترى حيَّة نصبت عداوتها لبني آدم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في شأن الحيات: (والله ما سالمناهن منذ حاربناهن) وكما قال تعالى في شأنهن أيضاً عند بعض المفسرين: {اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [البقرة:36] قالوا: إن ضمير الجمع لبني آدم وللشيطان وللحيات، والله تعالى أعلم. كذلك يمتد الأمر إلى النباتات: فترى نباتات كلها طيبة الطعم، وأخرى حامضة مرة لا تستساغ بحال من الأحوال، وترى نباتات أكلها يقوي البدن وأخرى تفتك بالأجسام، وترى نباتات كريمة ضربها النبي مثلاً للمؤمن فقال عليه الصلاة والسلام: (إن من الشجر شجرة مثلها مثل المؤمن) وهي النخلة، وترى أخرى قال النبي صلى الله عليه وسلم فيها: (إنها من شجر اليهود) وهي الغرقد، سنة جرت لله سبحانه وتعالى في الخلق: {صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد:4]. أما الأسماك فشأنها أعجب من ذلك، وأما الجن فالجن أيضاً طرائق متعددة فمنهم الأبله، ومنهم الشيطان المارد، ومنهم الجاهل، ومنهم الغبي، ومنهم الذكي، كما قالوا عن أنفسهم: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا} [الجن:11].

المفاضلة بين بني آدم

المفاضلة بين بني آدم وبنو آدم على هذا أيضاً، لم تختلف سنة الله فيهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله قبض قبضة من جميع الأرض فخلق منها آدم -صلى الله عليه وسلم- فجاء بنوه الأحمر والأسود وبين ذلك، وجاء بنوه الطيب والخبيث وبين ذلك)، فترى من بني آدم أقواماً من ذوي القلوب اللينة الطيبة، وترى من بني آدم أقواماً من ذوي القلوب التي هي أشد من الحجارة قسوة، كما قال تعالى في شأن أقوام: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:74]، وترى من بني آدم رجلاً كريماً في غاية الكرم، وآخر بخيلاً في غاية البخل، ترى من بني آدم رجلاً شجاعاً في غاية الشجاعة لا يبالي بحال من الأحوال، وترى من بني آدم رجلاً جباناً في غاية الجبن، ترى من بني آدم رجلاً ماكراً كمكر الثعالب بل أشد، وترى من بني آدم رجلاً ساذجاً لا ينم إلا عن سجية طيبة ولا يكاد يضمر شراً لأحد، وتراهم في الألوان على هذا النمط، فترى من بني آدم من هو من ذوي السواد الداكن الشديد، وترى الأبيض الأمهق، ترى من بني آدم رجلاً خفيف الدم تحبه وتستسيغه لأول وهلة تراه، وترى من بني آدم رجلاً ثقيلاً بغيظاً تكرهه من أول وهلة تراه، ترى من بني آدم أقواماً جبلت ألسنتهم على إخراج الكلمة الطيبة، وترى آخرين من بني آدم جبلت ألسنتهم على إخراج الكلام الخبيث، كما قال تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور:26]، ومن أمثل ما قيل في تفسيرها: الكلمات الطيبة تخرج من الطيبين، والكلمات الخبيثة تخرج من الخبيثين. ترى من بني آدم رجالاً خيرين طيبين يسعون لإعمار بيوت الله بأموالهم وأجسامهم، وترى من بني آدم أقواماً مفسدين يمنعون مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ويسعون في خرابها، ترى من بني آدم رجالاً يسعون لرعاية الأيتام والإنفاق عليهم، وترى من بني آدم من يأكل أموال اليتامى ظلماً، هذه سنن لله جرت في الخلق وجبل عليها الخلق، وإلا لما خلق الله النار، ولما فاضل بين الدرجات، ولما باعد بين الدركات، قال تعالى: {انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} [الإسراء:21]. ترى حتى في خير القرون قرن النبي محمد عليه الصلاة والسلام وصرفاً للنظر عن الجبابرة وأهل الكفر: كـ أبي جهل وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وأمية بن خلف، بغض النظر عن هؤلاء الكفرة الفجرة، فإنك إذا نظرت بين صفوف المسلمين وبين صفوف متبعي رسول الله في الظاهر رأيت أخلاقاً شتى، فترى رجلاً كريماً جواداً كـ عدي بن حاتم الطائي وكـ سعد بن عبادة وكـ جعفر بن أبي طالب الذي يقول فيه أبو هريرة: (ما رأيت رجلاً أكرم من جعفر بن أبي طالب بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم: كنا نذهب إليه يطعمنا ما عنده، فإذا لم يجد شيئاً يعصر القربة التي فيها السمن حتى يستخرج كل ما فيها، ثم يقطع لنا القربة حتى نلعق ما بداخلها، من شدة الجوع الذي أصابنا) ترى قوماً كهؤلاء الكرام، وفي المقابل ترى من هم أشحة، فقد قالت هند لرسول الله: (يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني وولدي) وهو زوجها، فمع سيادته لقومه إلا أنه يؤثر عنه البخل، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سيدكم يا بني سلمة؟ قالوا: سيدنا الجد بن قيس على أنَّا نبخله يا رسول الله! ققال عليه الصلاة والسلام: وأي داء أدوى من البخل؟) ترى من أصحاب رسول الله من هو مشهور بالشجاعة العظمى كـ حمزة وعلي وخالد رضي الله تعالى عنهم، وترى من أثر عنه بعض الهلع في الغزوات كـ حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه، وفي الوقت ذاته تراه شاعراً كريماً جليلاً ينافح عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وقد تسربت إلى خير القرون قرن النبي صلى الله عليه وسلم بعض الأمور التي لا ينفك عنها البشر، ومن رحمة الله بنا أنه سبحانه وتعالى بينها لنا بياناً شافياً وبين لنا طرق العلاج فيها حتى لا نفاجأ بأمور تحدث في أوساط الطيبين ومن ثم نستنكر سيرة الطيبين كلها، كلا؛ فرسولنا محمد عليه الصلاة والسلام سيد ولد آدم وخير نبي وقد بعث في خير أمة أخرجت للناس، وأصحابه خير الناس رضي الله تعالى عنهم أجمعين، ولكنهم بشر لا ينفكون أبداً عن بشريتهم، فثبت أن من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من ارتكب فاحشة الزنا إذ هو بشر؛ ولكنه ندم وأقلع وأناب، فأتى إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام مضحياً بنفسه وبحياته كي يطهر نفسه ويوافي ربه سبحانه وتعالى وليس عليه إثم، فلا يخفى عليكم أمر ماعز إذ جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام معترفاً بذنبه وبجريمته ويقول: (إن الأبعد قد زنى يا رسول الله!) فيأتي إلى الرسول من على اليمين فينصرف عنه الرسول إلى الشمال، فيستدير مع الرسول إلى الشمال ويقول: (إنه قد زنى يا رسول الله!) فينصرف الرسول عنه إلى الناحية الثالثة، فيأتي إلى الرسول من تلقاء وجهه ويقول: (إنه قد زنى يا رسول الله!) فيقول الرسول: (لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت)، حتى أقر الرجل بجريمته وجريرته فأقيم عليه الحد حد الرجم ومات إلى رحمة الله طاهراً من ذنبه، وترى آخر يمارس الزنا زمن الرسول عليه الصلاة والسلام ويزني بنساء المجاهدين في سبيل الله، ويخرج النبي صلى الله عليه وسلم في مغازيه فيرجع وإذا بقوم من أهل النفاق تخلفوا وعبثوا بنساء المسلمين الذين ذهبوا للجهاد، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما بالنا نخرج غزاة في سبيل الله فيتخلف أقوام نرجع وقد منح أحدهم الكثبة من اللبن للمرأة لفعل الفاحشة معها، له نبيب كنبيب التيس في نسائنا! من وجدته يفعل ذلك لأنكلن به)، فكان قوم من هذا الصنف زمن النبي عليه الصلاة والسلام، وكان قوم من أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام أعطاهم الله فضلاً كبيراً هائلاً في جانب، ولم يعطهم في جوانب أخر، فهذا أبو ذر الغفاري رضي الله تعالى عنه يقول النبي صلوات الله وسلامه عليه في شأنه: (ما أقلت الغبراء -أي: ما حملت الأرض- ولا أظلت الخضراء -أي: ما أظلت السماء- أصدق لهجة من أبي ذر)، ومع ذلك يقول له الرسول عليه الصلاة والسلام: (يا أبا ذر! إني أراك ضعيفاً فلا تتأمرن على اثنين، ولا تتولين مال يتيم) مع صدق لهجته، لكن هذا جانب لا يجيده أبو ذر رضي الله تعالى عنه، ويسأل أبو ذر رسول الله: كيف أفعل مع أمراء الظلم؟ فيرشده الرسول صلى الله عليه وسلم إلى البعد عن الفتن، وإلى كسر سيفه إذا وجد قتالاً بين أهل الإسلام. فكان من أصحاب رسول الله قوم برعوا في جانب غاية البراعة، ولم يبرعوا في جوانب أخر، سنة لله جرت في الخلق، وقال الرسول عليه الصلاة والسلام: (الناس كإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة). وقد كان هناك قوم يسعون إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام بقلوب طيبة يسألونه عن أبواب الخير كي يقوموا بها ويتنافسوا في ذلك أشد التنافس، وكان هناك قوم مفسدين يطعنون في المسلمين، وليس في المسلمين فحسب، بل يطعنون في الرسول نفسه، يشتمون الرسول ويقولون عنه وعن أصحابه: (ما نرى أصحابنا هؤلاء إلا أكذبنا ألسنة، وأوسعنا بطوناً، وأجبننا عند اللقاء) وكان قوم من أهل البخل والنفاق إذا رءوا محسناً تصدق بكثير قالوا: ما تصدق بالكثير إلا رياء، وإذا تصدق بقليل قالوا: إن الله غني عن درهمه! فقال تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة:79] بل لم يقف أمرهم على الطعن في الصحابة، بل طعنوا في رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة:58]، يطعن فيك -يا محمد- ويقول فيك: إنك تغل وتأخذ الصدقة لنفسك! فقال تعالى في كتابه الكريم مدافعاً عن نبيه: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} [آل عمران:161]، أبداً لا ينبغي أن يكون من خلق الأنبياء أن أحدهم يغل، بل أشد وأنكى من ذلك: طعنوا في عرضه واتهموا امرأته بالزنا وهو سيد ولد آدم وهي الطيبة الطاهرة، وكل ذلك لم يعكر على مسيرة رسولنا عليه الصلاة والسلام، بل قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:9]، فكانت مسيرة النبي محمد عليه الصلاة والسلام لا تخلو أبداً من ابتلاءات ولا من نكد، ومضت مسيرة رسول الله منذ أن بعثه الله سبحانه وتعالى إلى أن قبضه الله عز وجل، فمنذ أن بعثه الله وهو يلاقي عناء بعد عناء صلوات الله وسلامه عليه، وعند قبضه يقول لأصحابه: (هلموا أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً)، فيختلف الصحابة فيما بينهم، يقول العباس: (قربوا يكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً) ويقول عمر: (حسبنا كتاب الله، إن الرسول في سكرات الموت) فماذا يقول الرسول وهو ينازع ويئن؟ فللموت سكرات كما قال عليه الصلاة والسلام

ضرورة الامتثال لسنة النبي صلى الله عليه وسلم ظاهرا وباطنا

ضرورة الامتثال لسنة النبي صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً ذكرنا هذا حتى لا يتصور أن إخواننا الملتحين ملائكة، فهم بشر تجري عليهم أحكام البشر كلها، وإن امتثلوا سنة الرسول عليه الصلاة والسلام في لحيتهم فإن هناك أخلاقاً أخرى غير اللحية يجب أن تمتثل أيضاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنه ثم أقوام جبلت ألسنتهم على الغيبة والطعن في الأعراض، ثم هداهم الله إلى سنة النبي في اللحية فالتحوا، ولكن مازالت باقية فيهم سنة الغيبة والطعن في الأعراض، فليس هذا بضائر لدين الله أبداً وليس بضائر لعموم سنة رسول الله فإن الله قال: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، لكن جدير بمن امتثل سنة رسول الله في الظاهر أن يمتثلها أيضاً باطناً، وأن يتأدب بأخلاق النبي حتى لا تزل قدم بعد ثبوتها، فكم من شخص أراد الاستقامة ورامها فإذا وجد شخصاً ملتحياً يطعن في إخوانه المسلمين يقول: هؤلاء بعضهم ينحر في بعض! إذا وجد أخاً ملتحياً يغش في بيعه وفي شرائه قال: هؤلاء سنيون! وينتكس ولا يصل الأمر عند تركه للحية بل يترك الصلاة ويطعن في المصلين كذلك، وقد علمنا من كتاب ربنا أن الله قال: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، وفي كتاب ربنا: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} [الأنعام:164] وقال الله سبحانه: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} [النجم:36 - 40]، فيا من امتثلتم سنة نبيكم عليه الصلاة والسلام في الظاهر التزموا أخلاق نبيكم كذلك، وتأدبوا بأخلاق النبي، ولا تظن أبداً أن السنة تكمن فقط في اللحية أو في الثوب، ماذا ينفعك امتثالك للسنة في أمر اللحية وأنت مغتاب للمسلمين والمسلمات؟ ماذا ينفعك امتثالك للسنة في أمر اللحية وقلبك أسود مظلم وأنت قاطع للأصحاب؟ إنه ثم أمور من أمور ديننا العظمى التي يجب أن تمتثل ولا يتخلى عنها، فالتخلي عنها يعتبر تخلياً عن ديننا. فيا معشر الإخوة! التمسوا سنن نبيكم محمد عليه الصلاة والسلام، فأنتم تعلمون أن الخلق بينهم اختلافات طويلة، في الأخلاق وفي الأرزاق وفي الآداب وفي المعاملات وفي الذكاء وفي الغباء وفي الطول وفي القصر، فلتكن لنا مرجعية نرجع إليها لتحديد أي خلق نتخلق به ونقيس عليها الأمور، ولا مرجعية للمسلم إلا كتاب ربه وسنة نبيه محمد عليه الصلاة والسلام، فلزاماً علينا كمسلمين رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً أن نقف على أوامر الله وأوامر رسوله، ننظر بأي الأخلاق نتخلق؟ وبأي الآداب نتأدب؟ وهل نحن على الجادة وعلى الطريق المستقيم؟ أم نحن في طريق يردينا؟ فلزاماً أن ندرك ذلك ابتداءً وعموماً. معذرة -معشر المسلمين- لما يصدر من بعض الملتحين من زلات، معذرة إلى الله وإلى شرع الله من خطأ المخطئين، بل من خطأ أنفسنا، فدين الله يؤخذ من كتاب الله ويؤخذ من سنة رسول الله، ويفترض أنه يؤخذ من أهل الامتثال للكتاب والسنة، ولكن إن صدر خلق مشين فإن الله قال: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} [الأنعام:164]، كما قد علمتم. مسيرة نبيكم انظروها واقتبسوا من معينها، واقتبسوا من أخلاق نبيكم محمد عليه الصلاة والسلام ترشدوا وتهتدوا، ولزاماً أن يرضى كل منكم بما قضاه الله له، وإلا إذا لم يرض بما قضاه الله له فسيقع فيما لا طاقة له به، وسيهلك، ولا نقول: ارض بالأخلاق الدنيئة! أبداً، فلا ينبغي أن يستمر أحد على أخلاقه الدنيئة، بل ثم أمور لا طاقة لك بها كأن تكون خلقت فقيراً، أو خلقت ضعيف الخلق، أو خلقت دنيئاً، فهذه أمور لا طاقة لك بها، فقد جرت سنة الله على الاختلاف، حتى الاختلاف الجبلي: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم:22] أي: من آياته الدالة على كمال قدرته. فمن آيات الله سبحانه: أن ترى هذا جميلاً في غاية الجمال، ترى امرأة عليها مسحة جمال كأنها قطعة قمر، وترى امرأة في غاية الدمامة تسرب إليها الشيب قبل المشيب، وتسرب إليها الانحناء قبل الكبر والهرم، فتتعجب من إرادة الله! ولكن كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان:20]، فمثل هذه الأمور التي لا طاقة لك بها وإنما جبلت عليها على الشخص أن يكون راضياً بقضاء الله، فلا تقل أبداً: لماذا أضفى الله على هذا الشخص وجاهة ولم يضفها علي؟ لماذا وسع الله على هذا في الرزق؟ لماذا تفوق هذا الولد ولم يتفوق ولدي؟ كل هذه أمور قسمها الله، وهناك آباء يضربون أبناءهم ضرباً شديداً إذا أتى في الامتحان بـ (90%)! لم تضربه يا أخي؟! يقول: كان يجب أن يأتي بـ (95%)! يجب على من؟! إن النسيان واجب في حق بني آدم، فقد يذاكر الشخص الدرس غاية المذاكرة ثم ينساه، فهذا نبينا محمد قد نسي، قال عليه الصلاة والسلام: (يرحم الله فلاناً! لقد أذكرني آية كذا وكذا من سورة كذا وكذا كنت أنسيتها)، والناسي لا يعاتب أمام الله، فكيف تضرب ولدك وتقول له: لماذا أتيت بـ (90%) وكان ينبغي أن تأتي بـ (95%)؟! فأنت لا تملك أمر نفسك، وإن الله قادر على إذهاب عقلك فضلاً عن عقل ولدك، وإن الله قادر على أن ينسى ولدك كلما ذاكره في وقت هو في أشد الاحتياج إلى تذكره. فيا معشر الإخوة! علينا أن نوطن أنفسنا على الرضا بقضاء الله وبقدره، فكم من شخص تقلد أرقى المناصب وضره -والله- منصبه؟! وكم من شخص جمع أكثر الأموال وضرته -والله- أمواله؟! ولا يخفى عليكم أن الذي تقلد أرقى المناصب زمن الخليل إبراهيم قال للخليل إبراهيم: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة:258]، والذي تقلد أرقى المناصب زمن موسى عليه السلام يقول: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، ويقول: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، ويقول عن نبي مرسل كريم من أولي العزم من الرسل: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:52]، هكذا صنع به المنصب أن يقول هذه المقولة، وأما المال فلا يخفى عليكم أنه بلغ برجل أن قال: {مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا} [الكهف:35] ثم قال: (وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} [الكهف:36]، هكذا حمله المال على الكفر والجحود إذ قال: (وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً}، ثم تطاول على رب العباد فقال: {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا} [الكهف:36]، هكذا حمل المال أهله وأصحابه، وحملت الوجاهة قوماً على الكفر والاعتراض على رسالة محمد إذ بعث فيهم النبي عليه الصلاة والسلام فقالوا مقالتهم: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف:31 - 32]. فيا عباد الله! افقهوا عن الله سبحانه أمره، وافقهوا عن الله فعله، وافقهوا عن الله تدبيره، وكونوا راضين بقضاء الله، إن الكبر والغرور والعجب والحقد حملت إبليس على الاستنكاف عن السجود لآدم، وإن الحقد والحسد حمل إخوة يوسف على قتل أخيهم يوسف، وعلى تخطئة أبيهم يعقوب. فارضوا بقضاء ربكم، ووطنوا أنفسكم على اتباع سنة نبيكم محمد عليه الصلاة والسلام، واستغفروا ربكم إنه كان غفاراً.

بعض أحكام الشتاء

بعض أحكام الشتاء الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فبين يدي فصل الشتاء وفي ثناياه نذكر ببعض الأحكام الفقهية المتعلقة به: ابتداءً يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اشتكت النار إلى ربها فقالت: يارب! أكل بعضي بعضاً، فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف، فأشد ما تجدون في الصيف من حرها، وأشد ما تجدون في الشتاء من بردها)، فعلى ذلك ينبغي أن نتذكر ما أعد الله للعصاة في النار إذ الله قال: {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ * وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} [ص:57 - 58] (والحميم): ما بلغ أعلى درجات حرارته، (والغساق): ما انحط إلى أخفض درجات برودته، وأهل النار يتداول عليهم هذا النوع من العذاب: (حميم وغساق)، وإنك إذا شربت مشروباً ساخناً وأتبعته بماء بارد توشك أسنانك أن تقع، وأهل النار -عياذاً بالله منها- يذوقونه حميم وغساق، {وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} [ص:58]، أي: أصناف شتى من المتضادات ومن المتشابهات أيضاً. وهذه بعض الأحكام الفقهية المتعلقة بالشتاء: يسن المسح على النعلين عند الوضوء إذا كنت لبست نعليك على طهارة، وتوقيت ذلك: يوم وليلة للمقيم، وثلاثة أيام بلياليها للمسافر، وكذلك يسن لك إذا أنت لبست خفيك على طهارة أن تمسح عليها يوماً وليلة إذا كنت مقيماً، وثلاثة أيام بلياليها إذا كنت مسافراً، واليوم والليلة يعني: خمس صلوات، هذا وكما لا يخفى عليكم أن الخفين غير النعلين، فالخف: ما يغطى به الكعب، ولست أعني بالكعب العقب، إنما الكعب الذي أمر الله بغسله في الوضوء، فالخف: ما غطى الكعب، أما النعل: فما كان دون الكعب أو ما كان محاذياً له، فهناك ثلاثة أحكام بالنسبة للمسح: المسح على الخف، وهذا بالاتفاق، ويعتبره العلماء من معتقدات أهل السنة والجماعة، ومن معالم أهل السنة والجماعة، فيقول أهل السنة: ومعتقدنا جواز المسح على الخفين، فبالاتفاق يجوز المسح على الخفين بالتوقيت السالف ذكره. أما المسح على النعلين التي هي دون الكعبين: ففيه نزاع بين العلماء، إلا أن الأحاديث تكاد أن ترتقي بمجموع طرقها إلى إثبات المسح على النعلين، وإن كان الأمر لا يخلو من نزاع في شأن النعلين، لكن جوز كثير من أهل العلم المسح على النعلين. أما الجوربين: فالأحاديث التي وردت فيها عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أعلها العلماء الأولون، وقد أعلها عشرة من أهل العلم كما نقل عنهم النووي رحمه الله في كتابه المجموع شرح المهذب، ولكن ومع إعلالها، وبعض النزاع الوارد في صحتها إلا أن الجمهور يقولون بالمسح على الجوربين، لورود ذلك عن أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقد صح عن طائفة من صحابة النبي الكريم صلى الله عليه وعلى آله وسلم المسح على الجوربين. ومن العلماء من يشترط في الجوارب شروطاً من ناحية السماكة ومنهم من لا يشترط، وأما الخبر عن رسول الله فليس ثم خبر يحدد شروطه، فمدار الاشتراطات على أقوال للفقهاء، والأظهر أن ما يطلق عليه جورب عموماً يمسح عليه، والله تبارك وتعالى أعلم. هذه ثلاثة أحكام بالنسبة للمسح. تأتي مسألة متفرعة من هذا وهي: إذا توضأ شخص ولبس جوربيه أو لبس خفيه على طهارة ثم بعد ذلك خلع الجوربين أو الخفين هل ينتقض الوضوء أم لا؟ أو شخص توضأ وغسل رجليه ثم لبس الجوربين على طهارة، ثم بعد ذلك نقض الوضوء فتوضأ ومسح على الجوربين، ثم بعد ذلك خلع الجوربين، فهل ينتقض الوضوء، أو هل يلزمه غسل الرجلين أم لا؟ هذه المسألة محل اختلاف بين العلماء: فمن العلماء من يقول: ينتقض الوضوء بخلعه للجوربين وعليه أن يعيد. وثم آخرون قاسوا ذلك على حلق الشعر، قالوا: كما أن المتوضئ إذا مسح على شعره ثم حلق الشعر لا ينتقض وضوءه فليكن كذلك الجورب، فهذان وجهان لأهل العلم في هذه المسألة. ننتقل إلى مسألة: في المطر، أمر النبي أن يقول المنادي في اليوم المطير: (صلوا في رحالكم، صلوا في رحالكم)، حتى يرخص للقوم في الصلاة في بيوتهم، (فصلوا في رحالكم) ورد من حديث ابن عباس أنها بعد: حي على الفلاح، وورد من حديث ابن عمر أنها مكان (حي على الصلاة، حي على الصلاة)، فهذا يحمل على التنوع، فإن قال أحد مكان حي على الصلاة: (صلوا في رحالكم) جاز ذلك، وإن قال أحد بعد حي على الفلاح: (صلوا في رحالكم) جاز له ذلك، فالمراد بالرحال: البيوت، فهكذا يكون هناك ترخيص في التخلف حتى عن الجماعة إذا قال المؤذن: (صلوا في رحالكم)، أما إذا لم يقلها المؤذن فليس ثم وجه للتخلف عن الجماعة، وقد قال النبي: (هل تسمع النداء؟ قال: نعم. قال: فأجب، أو لا أجد لك رخصة).

أحكام زكاة النقدين

أحكام زكاة النقدين معشر الإخوة! ننبه على أمر عارض على وجه السرعة -ونعتذر للإطالة- وهو ما يتعلق بنصاب الزكوات: بالنسبة لنصاب الذهب، نصاب الذهب هو: عشرون مثقالاً، وهذا رأي جمهور العلماء، والمثقال هو الدينار، والذي عليه الجمهور أنه الدينار الذي صكه عبدالملك بن مروان، وقال البعض: إنه لم يتغير في جاهلية ولا إسلام، فالدينار وزنه مترجماً بالجرامات كما ترجمه فريق من أهل الاختصاص في هذا الصدد: أربعة جرامات وربع، فعلى هذا تكون العشرون مثقالاً، أي: العشرون ديناراً تعادل خمسة وثمانين جراماً من الذهب، فنصاب الذهب: خمسة وثمانون جراماً، لكن هذا من الذهب الخام، أي: الخالص الصافي، وكما لا يخفى عليكم أن الذهب كي يستعمل ويشكل تشكيلاً جيداً تضاف إليه بعض سبائك النحاس حتى يلين ويسهل في التشكيل، فكلما ازدادت نسبة الإضافات من النحاس كلما سهل تشكيله، فيضعون نسبة من النحاس حتى يخفض الذهب إلى عيار واحد وعشرين من أربعة وعشرين، فالذهب الذي مع أكثر الناس عياره واحد وعشرون، فإذا ترجمنا الخمسة والثمانين جراماً من الذهب الصافي الخام -كما يسمونه- إلى الذهب الذي هو عيار واحد وعشرين كانت النسبة تقريباً سبعة وتسعين جراماً، وما يعادل (15% أو 20%)، أي: سبعة وتسعين جراماً واثنين من عشرة على وجه التقريب، فهذا نصاب الذهب الذي هو واحد وعشرون جراماً، فالقول الذي يقوله كثير من الناس: إن نصاب الذهب خمسة وثمانون جراماً صحيح؛ ولكن هذا من الذهب الخام الخالص الصافي، أما الذهب عيار واحد وعشرين فتضرب في النسبة: أربعة وعشرين على واحد وعشرين، أعني: تضرب الخمسة وثمانين جراماً في النسبة أربعة وعشرين على واحد وعشرين؛ فينتج تقريباً سبعة وتسعين واثنين من عشرة، وهذا نصاب الذهب، أما إذا نزلت للذهب الذي هو عيار ثمانية عشر فهذا قد أضيفت إليه نسبة نحاس أكثر فتضرب في النسبة: في أربعة وعشرين على ثمانية عشر، فينتج لك النصاب من الذهب الذي هو عيار ثمانية عشر. أما نصاب الفضة: فهو خمس أواق، والنبي يقول: (ليس فيما دون خمس أواق صدقة) وترجمتها بالجرامات: ما يعادل خمسمائة وخمسة وتسعين جراماً من الفضة، فعلى ذلك إذا جئنا نقيس الزكوات على التي معنا بالنسبة للزكوات زمن الرسول، فقد كان الذي عنده ذهب يخرج ذهباً بنصاب الذهب، والذي عنده فضة يخرج فضة، لكن أمر العملة الورقية الموجودة الآن أمر نازل بالمسلمين حيث لم يكن في زمن الرسول، فعلى أي شيء نقيس؟ البعض يقول: نقيس على نصاب الذهب إذا كان الذهب رصيداً للعملة الورقية، أما الآن وقد ألغي في كثير من الدول الذهب كرصيد للعملة الورقية فبقي الأمر قائماً، فإذا قست على نصاب الفضة فإن جرام الفضة سعره يقارب سبعين قرشاً، فعلى ذلك سيكون: خمسمائة وخمسة وتسعين في سبعين قرشاً تعادل أربعمائة وعشرين جنيهاً على وجه التقريب، فسيكون الذي زاد معه المبلغ على هذا القدر سيزكي إذا بنى على نصاب الفضة، أما إذا بنى على نصاب الذهب فعلى القدر الذي سمعتموه. فالذي عنده ذهب يزكي على نصاب الذهب، والذي عنده فضة يزكي على نصاب الفضة، والذي عنده عملة ورقية هو بالخيار، وإن كان الأنفع له في دينه أن يزكي على نصاب الفضة؛ لكونه أنفع للفقير، هذا والله أعلم. اللهم! أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، واجعلنا للمتقين إماماً. اللهم! أقر أعيننا بالنظر إلى وجهك يوم نلقاك، اللهم! أقر أعيننا بالنظر إلى وجهك يوم نلقاك، اللهم! أقر أعيننا بالنظر إلى وجهك يوم نلقاك، واسقنا من حوض نبيك محمد شربة لا نظمأ بعدها أبداً. ربنا لا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا واغفر لنا وارحمنا فأنت خير الراحمين! اللهم! وحد بين قلوب المسلمين وبين صفوفهم، اللهم! وحد بين قلوبهم وبين صفوفهم وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين! اللهم! زلزل أقدام اليهود وأهل الشرك والنصارى يا رب العالمين! اللهم! من كاد للإسلام وأهله فخذه أخذة واحدة أخذة عزيز مقتدر، ومن عمل وسعى لرفعة راية الإسلام والمسلمين فأيده بتأييدك وانصره بنصرك واحفظه من بين يديه ومن خلفه إنك سميع الدعاء مجيب السائلين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله.

صيانة الأعراض

صيانة الأعراض إن من أجل المقاصد التي جاءت بها الشرائع السماوية بعد الأمر بتوحيد الله عز وجل صيانة الأعراض، وقد أطبقت جميع الديانات السماوية على حرمة جريمة الزنا، وجاء في شريعتنا تحريم هذه الفاحشة، وسدت كل الذرائع التي تؤدي إليها، ومن ذلك تحريم النظر إلى النساء، وتحريم سماع الغناء، وتحريم التبرج والسفور، وتحريم الخلوة بالمرأة، وغير ذلك.

اتفاق الشرائع السماوية على تحريم الفواحش

اتفاق الشرائع السماوية على تحريم الفواحش بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهديه الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. وبعد: فإن من أجل المقاصد التي جاءت بها الشرائع بعد الأمر بتوحيد الله عز وجل صيانة الأعراض، ومن ثم قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33]، فاتفقت الشرائع كلها على تحريم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وكان من أبشع هذه الفواحش فاحشة الزنا، جاء التحذير منها أيما تحذير، قال الله سبحانه: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء:32]، وقال الله سبحانه: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:5 - 7]، وقال سبحانه: {وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ} [الفرقان:68 - 70]، وقال سبحانه: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2 - 3]، وقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (ورأيت رجالاً ونساءً عراة على مثل التنور يأتيهم لهب من تحتهم فيحرق فروجهم، فقلت: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الزناة والزواني يا محمد!)، هذا شيء من عقوبتهم ذكر على لسان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، يبين مدى الألم الذي يلحق بهذه الفروج، التي استمتعت بالحرام، وتلذذت بالفحش والعياذ بالله!

تحريم الوسائل المؤدية إلى الزنا

تحريم الوسائل المؤدية إلى الزنا فحرم الله سبحانه وتعالى الزنا، ولم يرد في أي شريعة من الشرائع التي نزلت من عند الله سبحانه شيء يبيح الزنا بحال من الأحوال، لا في الإسلام، ولا في اليهودية، ولا في النصرانية، ولا في أي شرع نزل من عند الله، بل اتفقت الشرائع كلها على تحريمه، ومن ثم جاء في شريعتنا مزيد من الاحتياطات.

حرمة خضوع النساء بالقول

حرمة خضوع النساء بالقول كذلك من السبل الموصلة إلى هذه الفاحشة الكبرى، خضوع النساء بالقول، ورب العزة يقول في كتابه الكريم: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [الأحزاب:32] فالنسوة اللواتي يخضعن بالقول، ويرققن القول للرجال الأجانب مرتكبات للمآثم، ومرتكبات للحرام، فثم رجال في قلوبهم مرض إذا رقت المرأة في قولها له ظن أنها تريد منه الفاحشة قولاً واحداً، ولا يفكر فيما سوى ذلك، ومن ثم نهى الله سبحانه النساء عن الخضوع بالقول فقال: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [الأحزاب:32]، وقال سبحانه: {وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا} [البقرة:235] فلا ينبغي لامرأة أن تخضع بقولها في الهاتف، ولا في حديثها مع الرجال الأجانب، فإن ذلك يدعو إلى الفاحشة ويزينها، ولكن كما قال القائل أيضاً: وما عجب أن النساء ترجلت ولكن تأنيث الرجال عُجابُ فثم رجل يتحدث في الهاتف أو مع الناس بأسلوب جافٍ وقوي، فإذا تحدث مع النساء خضع لهن بالقول كما تفعل النسوة، فيقع في حبائله نساء كثيرات يفتن بهن ويفتن به، فكل ذلك من السبل الداعية إلى هذه الرذيلة، وإلى هذه الفاحشة، فاحشة الزنا والعياذ بالله!

حرمة سماع الغناء

حرمة سماع الغناء ومن السبل الموصلة إلى هذه الفاحشة سبيل الاستماع إلى الغناء المصحوب بالمعازف الذي يهيج الكامن ويثير الشر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف)، فكل أغنية مصحوبة بالموسيقى أو بالمعازف حرام، فالمعازف حرام لما سمعتموه من نبيكم محمد عليه الصلاة والسلام، وكذلك تلك الأغاني التي لم تصحب بالمعازف، ولكنها تزين الفحش وترغب في الفجور، كتلك الأغاني الساقطة الهابطة، التي تقول فيها امرأة: خذني بحنانك خذني، ونحو هذه الأغاني الهابطة الساقطة، التي لا تنم إلا عن فحش، ولا تدفع إلا إلى شر، فالاستماع إلى ذلك فيه نشر للفساد، والله يقول في كتابه الكريم: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205].

حرمة التبرج والسفور

حرمة التبرج والسفور وكذلك من السبل الموصلة إلى هذه الفاحشة، التبرج المزري الذي يُفعل الآن، تخرج النساء كاسيات عاريات، كأنه خفي عليهن قول نبينا محمد عليه الصلاة والسلام: (صنفان من أمتي من أهل النار لم أرهما، نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات، رءوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا)، فهذا التبرج المزري الذي نهى عنه ربنا في قوله: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33] من أعظم الدوافع إلى الشر، ومن أعظم الدوافع إلى الفساد، كيف يفعل هذا الشاب الممتلئ رجولة وفحولة إذا رأى امرأة تسير في الطريق بهذه المناظر القبيحة؟ كيف يفعل الشاب إذا نظر إلى فلم مؤداة كعموم الأفلام الهابطة الدعوة إلى الرذيلة ومضمونه قصة حب أو عشق تئول إلى زنا والعياذ بالله؟ كيف يفعل هذا الشاب إذا رجع إلى بيته ووجد أمامه في البيت أخته المتبرجة هي الأخرى؟ ألا يئول ذلك إلى فعل الفواحش حتى مع المحارم والعياذ بالله؟! إن التبرج نهى عنه ربنا ونهى عنه نبينا محمد عليه الصلاة والسلام أيما نهي، بل قال نبينا عليه الصلاة والسلام حاثاً على ستر المرأة لجميع بدنها، قال عليه الصلاة والسلام: (المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان، وأقرب ما تكون المرأة من ربها وهي في قعر بيتها)، ومن ثم جاءت نصوص نبيكم محمد عليه الصلاة والسلام تحث المرأة على القرار في البيت، إذ هي بخروجها تطمع الشريرين فيها، وتتسبب في الغواية بها: (صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد، وصلاتها في حجرتها أفضل من صلاتها في بيتها، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في حجرتها). وكذلك لا يخفى عليكم أن المرأتين اعتذرتا إلى موسى لما سألهما فقال لهما: {مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص:23] أي: إنما ألجأتنا الضرورة إلى أن نخرج من بيوتنا وإلى أن نسقي الأنعام فأبونا شيخ كبير، فلم تكلن الفضليات يخرجن إلا للضرورات، وعند الحاجات، وعند الملمات، فالقرار في البيت من أفضل الوسائل للابتعاد عن جريمة الزنا، وعن الافتتان بالنساء، فإن الفتنة بالنساء من أعظم الفتن على الإطلاق، إذ قال ربنا: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ} [آل عمران:14] فصدرت الشهوات بالنساء، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء)، وكذلك قال عليه الصلاة والسلام: (ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء)، فهذه سبل ذكرنا بها نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، وحذرنا من كل سبيل يدعو إلى الوقوع في هذه الفاحشة.

حرمة الخلوة بالمرأة الأجنبية

حرمة الخلوة بالمرأة الأجنبية ومن السبل الداعية إلى هذه الفاحشة والميسرة لها، الخلوة بالنساء الأجنبيات اللواتي لسن بمحارم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إياكم والدخول على النساء، قال رجل: أفرأيت الحمو يا رسول الله -أي: قريب الزوج-؟ قال: الحمو الموت) هكذا قال النبي عليه الصلاة والسلام، فالذين يتساهلون ويدخلون إخوانهم على زوجاتهم، والذين يتساهلون ويدخلون أبناء عمومتهم على نسائهم، عليهم أن يستمعوا إلى المذكور في حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (الحمو الموت)، فلا تتساهل -يا عبد الله- في إدخال رجل أجنبي بيتك، وتمكنه من زوجتك، وإن كان هذا الرجل قريباً لك، وإن كان هذا الرجل في ظنك تقياً، فإن رجالاً في زمن نبيكم محمد -وهو أفضل الأزمان- دخلوا على نساء فصدرت منهم الفواحش، جاء رجل إلى النبي محمد عليه الصلاة والسلام -كما في البخاري - وقال: (يا رسول الله إن ابني كان عسيفاً عند هذا الرجل -أي: أجيراً عنده- فزنى بامرأته) حدث هذا على عهد نبينا محمد، رجل أجير عند آخر زنى بامرأته. وقد يقع مثل ذلك الآن مع أقوام قلت غيرتهم، يدخلون المدرس الخصوصي البيت في غياب الرجال، فيدخل يعبث بالبنات، ويعبث بالنساء في غياب الرجل، وهذه خلوة محرمة، وكذلك لا يمكن طبيب من الخلوة بالمرأة، فالطبيب رجل والمرأة مرأة، وكذلك قد يتخذ الطبيب ممرضة في عيادته، ويدخلها على الرجال، أو هو نفسه يخلو بها، فكم من بلية حدثت بسبب هذه اللقاءات بين الرجال وبين النساء، فلم يبح الله لطبيب أن يخلو بممرضة، ولا لمدرس أن يخلو بطالبة، ولا لسائق أن يخلو بربة بيت ولا بامرأة، ولا لرجل أن يخلو بخادمة في بيته، ولا لمدير أن يخلو بسكرتيرة، كل هذا محرم، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ألا لا يخلون رجل بامرأة فإن ثالثهما الشيطان). فجدير بك -يا عبد الله- أن تحرص على نفسك غاية الحرص من هذه الفتنة، فجريمة واحدة من هذه الجرائم، وفعلة واحدة تنكد عليك دنياك، وتنكد عليك أُخراك، قال النبي عليه الصلاة والسلام قال: (وما فعل قوم الفاحشة إلا ظهرت فيهم الأوجاع التي لم تكن في الأمم من قبلهم) فالحذر الحذر -أيها الناس- من هذه الفتنة الكبرى، ومن مقدماتها، قال تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء:32].

حرمة سفر المرأة بدون محرم

حرمة سفر المرأة بدون محرم نهى النبي عليه الصلاة والسلام المرأة عن السفر بدون محرم، لماذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم المرأة عن السفر بلا محرم؟ منعاً من وقوعها في هذه الفاحشة، فالمرأة بجبلتها ناقصة الدين، وناقصة العقل، تخدع من المكرة، فمن ثم قال عليه الصلاة والسلام: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا ومعها محرم).

حرمة تطيب المرأة عند خروجها

حرمة تطيب المرأة عند خروجها وكذلك نهى النبي عليه الصلاة والسلام المرأة عن التطيب عند خروجها، حتى لا تجذب إليها أنظار الرجال، قال عليه الصلاة والسلام: (أيما امرأة خرجت من بيتها متطيبة فمرت بقوم ليجدوا ريحها فهي زانية)، والزنا مراتب كما لا يخفى عليكم، قال عليه الصلاة والسلام: (أيما امرأة شهدت معنا العشاء الآخرة، فلا تمسن طيباً، ولا تمسن بخوراً) كل ذلك حتى لا تجذب إليها الرجال، وقال تعالى: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31].

التفريق بين الأولاد في المضاجع

التفريق بين الأولاد في المضاجع وأمر نبيكم محمد عليه الصلاة والسلام كذلك بالتفريق في المضاجع داخل البيوت، فلا تترك ابنتك المراهقة الشابة متبذلة في ثيابها أمام إخوانها الذين قد امتلئوا فحولة، وتتركهم ينامون في فراش واحد، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (علموا أولادكم الصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع)، هكذا أدبكم نبيكم محمد عليه أفضل صلاة وأتم تسليم، فالتمسوا سنته، واقتفوا أثره، واهتدوا بهديه، عسى الله سبحانه أن يلحقكم به في أعلى جنة الخلد التي أُعدت للمتقين.

حرمة النظر إلى النساء

حرمة النظر إلى النساء جاء في شريعتنا تحريم كل سبيل يؤدي إلى هذه الفاحشة، سدت كل الذرائع التي توصل إلى هذه الفاحشة، ابتداءً من النظر إذ قال ربنا سبحانه: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:30 - 31]، فجاء تحريم النظر المحرم الذي يئول بصاحبه إلى هذه الفاحشة، وسواء كان النظر إلى أجساد العاريات، أو كان النظر إلى المجلات الساقطة الهابطة التي تنشر صور العرايا من النساء، مهيجة للناس على فعل الفواحش كما قال ربنا: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء:27]. فالنظر إلى الصور العارية في المجلات، وكذلك إلى المناظر العارية في أجهزة الإعلام من تلفاز وإنترنت وفيديوهات كل ذلك محرم، النظر إلى المناظر العارية المهيجة للشهوات والمعينة على الفسق والفجور كل ذلك محرم وممنوع، وكذلك ما يفعله شرار الشباب الفساق الذين يتجولون على المحلات التي تبيع ملابس النساء الداخلية، فينظرون إلى قمصان النساء ويتغزلون فيها، فكل ذلك من النظر المحرم، إذ كان يثير الشهوات ويشجع عليها، وكذلك النظر إلى المردان الذي يئول إلى فعل الفواحش بهم ومعهم، كل ذلك حرمه جمهور العلماء؛ صيانة للإنسان، ودرءاً لهذه الفتنة العظمى والبلية الكبرى بلية الزنا، التي تفسد على الشخص حياته وتنكد عليه معيشته. فأول سبيل يؤدي إلى الفاحشة النظر، ولذا حرمه الله سبحانه بالآيات التي سمعتم، وقد سُئل نبيكم محمد عليه الصلاة والسلام عن نظر الفجأة، فقال صلى الله عليه وسلم: (اصرف بصرك)، وأخرج الطبراني بإسناد فيه كلام أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (النظرة سهم مسموم من سهام إبليس من تركها مخافة الله أبدله الله إيماناً يجد حلاوته في قلبه)، فهذا السبيل الأول، وهو النظر المحرم، وقد حرمه الله سبحانه وتعالى علينا درءاً لهذه الفتنة، ودرءاً لهذه البلية.

وسائل الوقاية من فاحشة الزنا

وسائل الوقاية من فاحشة الزنا فمن السبل الواقية من هذه الفاحشة الكبرى، بل من أعظم السبل على الإطلاق للوقاية منها:

مراقبة الله سبحانه وتعالى

مراقبة الله سبحانه وتعالى مراقبة الله سبحانه وتعالى، وقد قال ربكم سبحانه: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19] فراقبوا الله، واعلموا وأنتم تنظرون هذه النظرات المحرمة أن الله سبحانه يعلم خائنة الأعين، ويعلم كذلك ما تكنه الصدور وما تعلن، فرأس الأمر مراقبة الله سبحانه، والخوف من عقابه جل وعلا، هذا رأس النجاة.

الزواج

الزواج ثم إن هناك سبيلاً آخر علمنا إياه وذكرنا به نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، قال عليه الصلاة والسلام: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)، وكذلك عليك بالاستعفاف قال الله سبحانه: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:33]، فرغبنا نبينا في الزواج دفعاً لهذه الفتنة العظمى، فإذا لم تجد من المال ما تتزوج به بكراً فتزوج ولو بثيب، امرأة مات عنها زوجها وترك لها أطفالاً وبُنيات صغيرات، عندها أثاث، وعندها بيت، لا تسأل إلا بعلاً يسترها، فتقدم لمثل هذه وتعفف بها، فإن نبيك محمداً عليه الصلاة والسلام سيد ولد آدم تزوج أول ما تزوج خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، وهي تكبره بخمسة عشر عاماً وهي ثيب، وكانت من أحب نسائه إليه، ولما كان يكثر من ذكرها عاتبته عائشة في ذلك غيرة، فقال عليه الصلاة والسلام (إني رُزقت حبها) مع أنها كانت ثيباً وأكبر منه سناً. فإذا لم تستطع أن تتزوج ببكر فتزوج بثيب وتعفف بها، واكفل أيتامها، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة، وفرق بين أصبعيه)، وكذلك قال: (الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، أو كالصائم الذي لا يفطر، وكالقائم الذي لا يفتر) هكذا قال عليه الصلاة والسلام، لا تنتظر سنة كاملة متأخراً عن الزواج من أجل أن تجهز غرفة للسفرة، كل -يا عبد الله- على الأرض، وعجل بالبناء قبل سنة، كل على الأرض ولا يلزمك أن تؤجل عاماً من أجل أن تشتري بعض الكراسي وسفرة تأكل عليها، فكن عاقلاً وكن ذكياً في صنعك. كذلك لا تنتظر عامين آخرين حتى تجهز غرفة نوم كبرى، ولكن نم على الميسور، وإذا وسع الله عليك فوسع على نفسك، ووسع على أهل بيتك، فنبيك محمد كان ينام على الحصير حتى يؤثر الحصير في جنبه، إن نبي الله موسى عليه السلام آجر نفسه ثمانية أعوام، بل أتم أكمل الأجلين وأفضل الأجلين عشر سنوات أجيراً من أجل عفة فرجه، صلى الله عليه وعلى نبينا وسلم. فبادروا إلى التعفف يا عباد الله! فيا دعاة الإسلام! كونوا من ذوي الغيرة على الأعراض، وكونوا من ذوي الغيرة على النساء، لا يسمح أحدكم لامرأته ولا لابنته أن تخرج مختلطة تزاحم في المواصلات، متبرجة ينظر إليها القاصي والداني، يا دعاة الإصلاح! من منكم يرضى أن تزني أخته؟ من منكم يرضى أن ينظر الشباب الشرير المفسد إلى أخته نظرة بها أذى وبها مكروه؟ فعفوا عن نساء الناس تعف نساؤكم، ويعف الأجانب عن بناتكم.

التحذير من مكر العابثين بالأعراض

التحذير من مكر العابثين بالأعراض أيها العباد! أيها المسلمون! في هذه الأزمان صار الذئاب يفترسون الفتاة، ولا يرضون بافتراسها مرة، بل مرات ومرات متعددة، تكثر شكاوى النساء التائبات، فتيات كن غاويات في بعض أزمانهن، فعبث بهن عابث، وارتكب معهن الفاحشة مرتكب، ثم صورها على هذه الحال، وسجل كلامها وهي على تلك الحال من الفحش، ثم لما تابت إذا هو يطاردها وإذا هو يهددها، إما أن تمكنه ثانية من نفسها وإلا نشر الأشرطة، ونشر الصور، ونشر المناظر التي جرت بينه وبينها، فتذعن المرأة وتنتكس مرات ومرات والمعصومات من عصمهن الله. فجدير بكل فتاة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تتقي الله في نفسها، وأن تحذر أشد الحذر من هؤلاء الذئاب الذي لا يرقبون فيها إلاً ولا ذمة، جدير بكم أن تحذروا أخواتكم ونسائكم من هؤلاء الذئاب، الذئاب الذين يتلطفون في الحديث في الهواتف، كأنهم الحملان، يتلطفون في الحديث مع النساء في الهواتف إلى أن يوقعوا النساء في الحبائل والأشراك، ثم بعد ذلك لا يرقبون في الفتاة إلاً ولا ذمة.

مسئولية أولياء الأمور تجاه نسائهم وبناتهم

مسئولية أولياء الأمور تجاه نسائهم وبناتهم فيا عباد الله! اتقوا الله في أنفسكم، اتقوا الله في بناتكم، ما معنى أن تخرج ابنتك قد لبست فستاناً وحسرته من المنتصف حتى قارب عورتها؟ ما معنى هذا إلا الدعوة إلى الفحش، ما معنى أن تخرج ابنتك وقد لبست ملابس ضيقة؟! ولم تكتف بضيقها بل شقتها من أسفل كي يرى الناس عورتها والعياذ بالله، فمن منكم يرضى لابنته أن تكون هكذا؟ إن أهل الشر والفساد سُئلوا سؤالاً: لماذا تصممون الأزياء مفتوحة من الخلف ولا تصممونها مفتوحة من الأمام؟ ليس السؤال سؤال إنكار إنما السؤال سؤال استفسار، قالوا: إنهم جربوا شق الثوب من الخلف فوجدوه أكثر إثارة من شق الثوب من الأمام، فلذلك شقوا ثوب المرأة من الخلف. وصنعوا عطوراً خاصة بالنساء كي تجذب الرجال إليهن، وصدق الهل إذ يقول: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء:27]. فإذا كان هناك دعاة للشر، فكونوا من أئمة الخير ومن الدعاة إليه، وإذا كان ثم دعاة إلى الفحش وإلى الرذائل، فهذه سنة لله جرت في الخلق أن يكون من العباد دعاة للشر والفساد، وفي المقابل دعاة للعفة والطهر والطهارة قال ربنا سبحانه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن:2]، فأهل الشر يريدون بكم وبنسائكم الشر، ولا يبرحون من نشر شرهم، ومن نشر فسادهم، بل يعكفون آناء الليل وأطراف النهار للتحضير لإفسادكم، ولإفساد نسائكم، ولنشر الدعارة والفسق والفجور. فكونوا -يا عباد الله- من ذوي الشهامات، ومن ذوي الكرامات، ومن ذوي الغيرة على أنفسكم وعلى بناتكم، ولكم جميعاً لقاء عند الله سبحانه يحاسبكم على ما قصرتم وعلى ما فرطتم، فقبل أن يأتي يوم تقول فيه نفس: {يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [الزمر:56 - 57] قبل هذا فانتبهوا لأنفسكم وانتبهوا لبناتكم، (فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته). لا تترك ابنتك تقرأ المسرحيات، ولا تقرأ الصحف الداعية إلى الفسق وإلى الفجور، لا تترك ابنتك ساعات الليل والنهار تنظر إلى الأفلام الخليعة المهيجة للفواحش، لا تترك ابنتك مع خاطبها الذي خطبها ولم يعقد عليها بعد. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

صفات عباد الرحمن

صفات عباد الرحمن لعباد الرحمن صفات بينها الله في كتابه العزيز، فهم يتعاملون مع ربهم بحفظ حدوده وطاعة أوامره، كما يتعاملون مع عباد الله بالتواضع ولين الجانب، ولا يقترفون ما يذهب بحقوق العباد من شهادة زور وغيرها، وإذا أتوا معصية أو إثماً فسرعان ما يرجعون ويتوبون إلى الله سبحانه وتعالى، وقد وعد الله من اتصف بهذه الصفات بالغرفات في جنات النعيم.

تفسير آيات بينات من سورة الفرقان

تفسير آيات بينات من سورة الفرقان الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد الأمين، وعلى آله وصحبه، ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين. وبعد: فلقد طلب مني أحد الإخوة حفظهم الله تعالى، أن يتحول مجرى الدرس في ليلتنا هذه إلى شيء ترق به القلوب وتسمو به الأخلاق، وخير ما ترق به القلوب وتسمو به الأخلاق هو كتاب ربنا سبحانه وتعالى، وتناوله بشيء من البيان، خاصةً إن كان هذا البيان بسنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم خير الأنام. فلنتناول شيئاً من كتاب الله سبحانه وتعالى بالتأويل والبيان، وقد كتب الله سبحانه وتعالى رفعةً لحاملي كتابه، المبتغين بذلك وجهه سبحانه وتعالى، نتناول شيئاً من سورة الفرقان، والله المستعان! ولا حول ولا قوة إلا بالله.

مآل وعاقبة العصاة

مآل وعاقبة العصاة ثم جاء التهديد للعصاة: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي} [الفرقان:77] أي: لا يبالي الله عز وجل بكم أيها العصاة! لا يبالي بكم، فمن أنتم حتى يبالي بكم ربكم؟! {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} [الفرقان:77]: لولا إيمانكم، لولا صلاتكم، وكما قال النبي عليه الصلاة والسلام فيما قبل مبعثه: (إن الله سبحانه نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عَرَبَهم وعَجَمَهم، إلا غبرات من أهل الكتاب) أي: بقايا من أهل الكتاب كانوا يقومون على طاعة الله. فالذي لا يطيع ربه ولا يؤمن به لا يبالي به الله سبحانه وتعالى، لا يُهْتَمُّ به ولا يُلْتَفَتُ إليه، بل هو كالأنعام، بل هو أضل سبيلاً. {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} [الفرقان:77]: لولا إيمانكم، ولولا تصديقكم، ولولا صلاتكم، وإلا فالله لا يعبأ بكم. {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً} [الفرقان:77]: أي: سوف يكون العذاب كائناً ولا بد للمكذب وللمعرض. جنبنا الله وإياكم التكذيب، ورزقنا الله وإياكم التصديق، وأورثنا الله وإياكم الغرف نحن وأزواجنا وذرياتنا والمؤمنين. وصلى الله على نبينا محمدٍ وسلَّم تسليماً كثيراً، والحمد لله رب العالمين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

من صفات عباد الرحمن سؤال الله أن يكونوا أئمة صالحين

من صفات عباد الرحمن سؤال الله أن يكونوا أئمة صالحين {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74] أي: اجعلنا أئمة لأهل التقى، اجعلنا أئمة في صلاتنا، في زكاتنا، في أقوالنا، في أفعالنا، لا يطلبون أن يكونوا أئمة في الإجرام، ولا أئمة في الفسق، إنما يطلبون أن يكونوا أئمة للمتقين، {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74].

مآل وجزاء عباد الرحمن وسبب ذلك

مآل وجزاء عباد الرحمن وسبب ذلك قال تعالى: {أُوْلَئِكَ} [الفرقان:75] أي: الذين ثبتت صفاتهم وظهرت أعمالهم واتضحت معالمهم ومعتقداتهم. {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} [الفرقان:75]، والغرف في أعالي الجنان، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم، كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في السماء؛ لتفاضل ما بينهم. قالوا: يا رسول الله! تلك منازل الأنبياء لا يبلغها أحد غيرهم؟ قال: كلا، والذي نفسي بيده! رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: وإن أبا بكر وعمر منهم) رضي الله تعالى عنهما، نسأل الله أن يلحقنا وإياكم بهم. {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} [الفرقان:75]: صبروا على ماذا؟ صبروا على التكاليف التي كلفهم الله بها، صبروا على جهل الجاهلين، صبروا على عبادة ربهم، صبروا على طاعة الله، صبروا على الجوع، صبروا على الخوف، صبروا عند البأساء وعند الضراء وحين البأس، أعرضوا عن اللغو، وصبروا على أذى المؤذين وجهل الجاهلين. {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ} [الفرقان:75] بماذا؟ هل بالأماني أم بالأعمال؟ قال تعالى: {يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} [الفرقان:75]: رجل ترك فراشه الدافئ وزوجته الحسناء، وامرأة تركت فراشها وزوجها، والكل قام يصلي لله رب العالمين، الكل قام يسبغ الوضوء على المكاره، طالباً رضا الله سبحانه وتعالى، الكل يقتطع من ماله وينفق ابتغاء وجه الله، كل ذلك يُفْعَل سراً لا جهراً ولا رياءً ولا سمعةً، إنما يُبْتَغى بذلك وجه الرب الأعلى سبحانه وتعالى. {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً} [الفرقان:75] تحيةً مِن مَن؟ وتسليماً مِن مَن؟ قال تعالى: {سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:58]، وقال سبحانه: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ} مسلِّمين قائلين: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:24]. سلام من الله، سلام من الملائكة، سلام من الأنبياء. {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً * إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً} [الواقعة:25 - 26]. {وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً} [الفرقان:75]: كل ذلك -بعد توفيق الله- بصبرهم، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24]. وكما قال تعالى عن الخليل إبراهيم: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة:124]: قام بهن خير قيام، صبر على النار إذ ألقي فيها، وصبر على ذبح ولده إذ أُمِر بذبحه، وصبر على الختان إذ أُمِر بالاختتان وهو ابن ثمانين سنة، فاختتن بالقَدُوم، آلةِ النجار المعروفة، وصبر على لقاء الجبابرة، وصبر على بناء الكعبة، صبر على خصال الفطرة، فالله قال له بعد هذا الصبر: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} [البقرة:124]. وهكذا عباد الرحمن {يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً * خَالِدِينَ فِيهَا} [الفرقان:75 - 76] أي: لا يتحولون عنها أبداً، {لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً} [الكهف:108]. {خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً} [الفرقان:76]: نِعْم المقر ونِعْم المقام.

من صفات عباد الرحمن سؤال الله الولد الصالح

من صفات عباد الرحمن سؤال الله الولد الصالح قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان:74] أي: ما تقرُّ به أعيننا، فلا ننظر إلى المحرم، رجل يريد من ربه أن يُقَنِّعه بزوجته، وأن يعفه بزوجته، وأن تقر عينه بزوجته، يسأل ربه ذلك؛ حتى لا يلتجئ ببصره إلى الحرام، يسأل ربه أن يمده بأولاد صالحين طيبين محسنين؛ حتى لا يلتجئ إلى حسد أولاد الآخرين، يسأل الله أولاداً صالحين؛ حتى يدعوا ربهم له بعد موته. {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان:74] لا يطلبون الولد للفخر ولا للخيلاء ولا للتباهي ولا للاستكثار أبداً، فإذا كان الولد سيأتي طالحاً والعياذ بالله! فبئس المجيء جاء، فليذهب وليمت في صغره، ولا يُبْكى عليه، فهاهو الخضر يقتل غلاماً بأمر الله! لِمَ قتله؟ قال: {وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً} [الكهف:80]، وقال بعد ذلك: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف:82]. فكم من ولد أرهق أبويه طغياناً وكفراً! فإذا كان الولد سيأتي على هذا النحو فسُحقاً وبُعداً لمثل هذا الولد. أما إذا أتى الولد صالحاً فهنيئاً لمثل هذا، وليُسأل الرب سبحانه وتعالى مثل هذا، كما كان عباد الرحمن يسألون: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان:74] أي: ما تقر به أعيننا.

من صفات عباد الرحمن الابتعاد عن اللغو

من صفات عباد الرحمن الابتعاد عن اللغو قال سبحانه: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} [الفرقان:72] كما قال تعالى في كتابه الكريم: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:3]، وقال سبحانه: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:55]. قال الله سبحانه: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} [الفرقان:72]: لم ينلهم شيء من هذا اللغو، ولم ينلهم شيء من هذا الباطل.

من صفات عباد الرحمن الانتفاع بكتاب الله

من صفات عباد الرحمن الانتفاع بكتاب الله قال سبحانه: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمَّاً وَعُمْيَاناً} [الفرقان:73] لم يتعامَوا عن التذكير، بل انتفعوا به، لم يكونوا كالذين قال الله فيهم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ} [البقرة:206] فهذا جزاءه كما قال ربنا: {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة:206]؛ ولكن يقفون عند حدود الله، إذا ذُكِّروا تذكروا، كما كان أمير المؤمنين عمر؛ إذ دخل عليه عيينة بن حصن الفزاري فقال له -أول ما دخل عليه-: اتقِ الله يا ابن الخطاب! فإنك لا تعدل. فهم عمر أن يبطش به؛ لما قال له هذه المقالة: اتقِ الله يا ابن الخطاب! فإنك لا تعدل. فقال الحر بن قيس مذكراً لأمير المؤمنين عمر - والحر كان من حملة كتاب الله-: يا أمير المؤمنين! إن هذا الرجل من الجاهلين، والله يقول: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199]. قال: فوالله! ما تخطاها أمير المؤمنين عمر ولا تعداها، بل كان وقافاً عند كتاب الله عزَّ وجلَّ. هؤلاء قوم وصفهم الله بقوله: {إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمَّاً وَعُمْيَاناً} [الفرقان:73]، أي: لم يكونوا صماً عن استماعها، ولا عمياناً عن الانتفاع بها وإبصارها.

قبول توبة من تاب وآمن وعمل عملا صالحا

قبول توبة من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ} [الفرقان:70] أي: إلا من تاب وآمن فالله للذنوب والزلات غفار، قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53]، (والله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها) كما قال النبي عليه الصلاة والسلام، وقال: (إن الله يقبل توبة عبده ما لم يغرغر). قال تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ} [الفرقان:70] فلا ينبغي لأحدٍ أن يُقَنِّطَ أحداً من رحمة الله، فهنيئاً للتائبين! {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً} [الفرقان:70] فضُمَّ العمل الصالح إلى التوبة.

معنى إبدال الله السيئات حسنات

معنى إبدال الله السيئات حسنات {فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:70] كيف تُبَدَّل السيئات بحسنات؟! أفضل ما قيل في ذلك -والله أعلم بكتابه وبتأويله، إذ هو أنزله سبحانه وتعالى- إن المذنب التائب كلما تذكر الذنب أحدث له توبة، فمن ثَمَّ يحدث له ثواب على هذه التوبة، فكأن السيئة بُدِّلت حسنة، وكما يقول العلماء: رب زلة قدم زلها شخص أورثته توبةً وإنابةً واجتهاداً في العمل الصالح، فنال بسبب هذه الزلة توبةً كبيرة واستغفاراً هائلاً وأعمال بر واسعة، فبُدلت السيئات إلى حسنات، غُفِرت السيئة ثم بقي له من ثواب الاستغفار وثواب العمل الصالح الذي أتبعه بها. {فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً} [الفرقان:70 - 71].

من صفات عباد الرحمن ابتعادهم عن شهادة الزور

من صفات عباد الرحمن ابتعادهم عن شهادة الزور ثم بين الله صفات هؤلاء الصالحين الأتقياء عباد الرحمن فقال سبحانه: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان:72] هذا حالهم. الشهادة هنا بمعنى الحضور، فتقول: شهد فلانٌ الشيءَ، أي: حضر فلان الشيءَ. وتقول: شهد فلانٌ على الشيءِ، أي: أقام عليه إقراراً. فالشهادة هنا بمعنى الحضور. فقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان:72] أي: لا يحضرون مجالس اللهو، ولا مجالس الشرك، ولا مجالس العبث، ولا مجالس المجون، فهذا ليس من دأبهم، ليس من ديدنهم، ليس من شأنهم. هذا شأن سَقَطَة الناس وسَفَلَة الناس، هذا شأن الغافلين من الناس. أما أولو الألباب فكما رُوِي عن يحيى بن زكريا عليهما السلام، وهو طفل صغير صبي يأتيه أصحابه فيقولون: (يا يحيى! هلم نلعب يا يحيى! فيقول: ما للعب خُلِقنا، ما للعب خُلِقنا). وهذا من تأويل قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيَّاً} [مريم:12]. فأولو الألباب وعباد الرحمن لا يحضرون هذه المجالس المدنسة؛ مجالس اللهو والمجون، مجالس الغزل، مجالس العشق والحب الخليع، الذي يفعله أهل الوقاحة وأهل السفور وأهل التمرد وأهل العصيان. هم لا يحضرون مثل هذه المجالس بحال من الأحوال، ولا يحضرون مجالس الشرك كذلك. وكذلك هم لا يشهدون الزور بالمعنى المعهود للشهادات، فإذا دُعُوا إلى شهادة كانوا قوامين لله شهداء بالقسط، لا يشهدون الزور، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قال الصحابة: ليته سكت!). فهم إذا رءوا شيئاً شهدوا كما رءوا ليست شهادتهم للمشهود له، إنما شهادتهم لله، فإن الله أمر بإقامة الشهادة له، قال سبحانه: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق:2]، فثَمَّ شخصٌ يرى مجرماً يظلم شخصاً، فحينئذٍ يذهب ويقول كلمة الحق، فيرهِّبه الظالم ويخوفه ويهدده بإحراق بيته، أو بإحراق سيارته، أو بمكيدةٍ يدبرها له، فتخشى على الشاهد أمُّه، فتقول له: يا ولدي! ما لك وللناس، دعنا وشأننا ودعهم وشأنهم، يحاسبهم ربهم. هكذا تقول الأم الجاهلة التي جَبُنَتْ وتقاعست عن الحق، وتلقن ابنها الجُبن، فقلبها آثم. أما الأم التقية الورعة فتقول لولدها: يا بني! توكل على الله، وقل قول الحق لله سبحانه. فهنيئاً لك إذا جئت أمام الله وأنت مقتول، وليس لك ذنب إلا أنك قلت كلمة الحق ابتغاء وجه ربك سبحانه وتعالى. علم هؤلاء الأفاضل من عباد الرحمن أن الشهادة لله ينبغي أن تقام لله، يجب أن تقام لله لا لأحد سواه، علموا قول الله تعالى: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:181 - 182]. علموا قول نبيهم محمد عليه الصلاة والسلام: (إن المقسطين على منابر من نور يوم القيامة؛ الذين يعدلون في حكمهم وأهلهم وما وُلُّوا). فكذلك علموا قول الله تعالى في كاتم الشهادة: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة:283] أي: فاجر قلبه. فلذلك قالوا كلمة الحق، قالوها ولم يخشوا في الله لومة لائم، علموا أن الله قادر على أن يستبدلهم بقوم آخرين.

من صفات عباد الرحمن عدم الإشراك بالله

من صفات عباد الرحمن عدم الإشراك بالله ثم يبين لنا ربنا سبحانه أصل ديننا الذي هو أصل الأصول كلها، ألا وهو توحيده سبحانه، قال الله سبحانه: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} [الفرقان:68] بل هم موحدون، وانفصل أهل الإسلام عن سائر الملل والنحل في كل البقاع، بأن أهل الإسلام يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، أما سائر أهل الأديان فيجعلون لله شريكاً آخر، كل يدعي لله شريكاً غير الآخر، أما أهل الإسلام فلا يدعون مع الله إلهاً آخر، فاتخاذ إله آخر أعظم جُرم يرتكب في حق الرب. سئل النبي صلى الله عليه وسلم: (أي الذنب أعظم يا رسول الله؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك) سبحانه وتعالى، هذا ذنب لا يُغفر بحال إذا مات عليه شخص. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} [النساء:48]. وقال سبحانه: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً} [النساء:116]. وقال سبحانه: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:88].

من صفات عباد الرحمن عدم سفكهم للدماء والوقوع في الزنا

من صفات عباد الرحمن عدم سفكهم للدماء والوقوع في الزنا قال الله سبحانه في شأن أهل الإيمان أهل التوحيد: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الفرقان:68] والحق موضح في قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) وجاءت أمور أُخر تندرج تحت هذه البنود السالفة: كقتال الفئة الباغية التي ذكرها الله في كتابه: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات:9]، وكالمفسدين في الأرض من قطاع الطرق، وكمن عمل عمل قوم لوط، كما هو منصوص في أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام. {وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} [الفرقان:68] هذه الآية فيها رد على أهل الإرجاء الذين يقولون: إن الإيمان في القلوب فقط، وليس على عمل الجوارح ثواب أو عقاب، وهذا قول من أضل الأقوال وأبعدها عن تشريعات الحكيم الحميد سبحانه، أي: الذين يقولون: إن الأعمال تتأخر عن الاعتقاد، والله توعد القتلة وتوعد الزناة وتوعد أهل الشرك حيث قال: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} [الفرقان:68]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ورأيت رجالاً ونساءً عراة على مثل التنور، يأتيهم لهب من أسفل منهم فيحرق فروجهم -تلك الفروج التي استمتعوا بها في الحرام- فيُسمع لهم صراخ ويُسمع لهم ضوضاء ويُسمع لهم عويل، سألتُ: مَن هؤلاء؟ قال: هؤلاء الزناة والزواني) عياذاً بالله من ذلك! وقال سبحانه: {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً} [الفرقان:69] أي: ذليلاً مهاناً حقيراً والعياذ بالله!

من صفات عباد الرحمن أنهم يرجون رحمة الله ويخافون عذابه

من صفات عباد الرحمن أنهم يرجون رحمة الله ويخافون عذابه فهكذا عباد الرحمن، ليست أمورهم مبنية على الأماني الباطلة فقط، بل قدموا أعمالاً يرجون بها رحمة ربهم سبحانه وتعالى. قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ} [الفرقان:65] هكذا يتعوذون بالله من النار؛ لأنهم يعلمون أنه لا صارف للعذاب إلا هو سبحانه وتعالى. وقوله تعالى: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً} [الفرقان:65] أي: مستديماً ملازماً. {إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} [الفرقان:66].

من صفات عباد الرحمن الاقتصاد في معايشهم

من صفات عباد الرحمن الاقتصاد في معايشهم ثم يبين الله سبحانه وتعالى منهج حياة هؤلاء في التعاملات مع الناس، ويبين منهجهم في اقتصادهم، وفي سيرهم كذلك، فدينُنا {تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42]، وشرعُنا خير شرع، وربنا سبحانه وتعالى ما فرط في الكتاب من شيء. فليس فقط يبين لنا ربُّنا حالَنا في الليل وصَلاتَنا في الليل؛ ولكن منهجنا الذي نسلكه كذلك في الإنفاق يبينه لنا ربُّنا. يبين لنا ربنا سبحانه اقتصادنا وكيف نكون فيه. قال الله سبحانه: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} [الفرقان:67] هذا حالهم في الإنفاق، ليسوا بالمتهورين المسرفين المبذرين إخوان الشياطين، وليسوا بالشحيحين البخلاء المذمومين، الذين حازوا شر الأدواء وهو داء البخل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سيدكم يا بني عمرو بن عوف؟! قالوا: يا رسول الله! الجد بن قيس، على أنَّا نُبَخِّلُه يا رسول الله! قال: وأي داء أدوى من البخل؟! بل سيدكم فلان) وسمى لهم النبي صلى الله عليه وسلم سيداً آخر غير الجد بن قيس. فعباد الرحمن مقتصدون في سيرتهم، مقتصدون في إنفاقهم، كما علمهم ربهم إذ قال: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} [الإسراء:29]. وكما قال: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً} [الإسراء:26 - 27]. وكما قال: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف:31]. هكذا تسير وتضبط أمور الاقتصاد بضوابط ليس لها نظائر في التاريخ، وليس لها نظائر في العالم كله، إنفاق بقَدَر، وإمساك بقَدَر، وسط بين هذا وذاك، {تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42]. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الاقتصاد والسمت الحسن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة). فكما يبين الله لنا أحوالنا في الليل، وكما يبين الله لنا أحوالنا في التفكر في آلائه، يبين لنا طريقتنا في الإنفاق كما قال ذلك سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} [الفرقان:67] أي: في اعتدال وتوسط. فالحمد لله على هذا الدين القويم.

من صفات عباد الرحمن قيام الليل

من صفات عباد الرحمن قيام الليل قال الله سبحانه -مبيناً حالهم في الليل بعد أن بين حالهم في النهار-: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً} [الفرقان:64] فهذا مبيتهم يبيتون لربهم، فعملهم لله سبحانه وتعالى وحده لا شريك له، لا رياء فيه، ولا سمعة فيه، وهذا مستفاد من قوله: {يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ}، حالهم دائرٌ بين القيام والسجود. {يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً} [الفرقان:64]: وكما وصفهم ربهم سبحانه: {وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:18]. وكما وصفهم بقوله: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة:16] لماذا؟ {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [السجدة:16]. وكما ذكرهم ربنا بقوله: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ} [الزمر:9] أي: يطيل القيام ساعات الليل الطويلة {سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9] هذا مطلبهم؛ حَذَرُ الآخرةِ وطلبُ رحمةِ الله سبحانه وتعالى، ليلهم على هذا المنوال. هذه -يا إخوة- ليست أساطير، إنما هي سير أهل الفضل والصلاح، فهم قدوة للسالكين الذين يريدون أن يسلكوا مسلك أهل الفضل، مسلك عباد الرحمن الذين يبيتون لربهم، ليس مبيتهم في جدل طويل، وليس مبيتهم في لهوٍ وعبث، إنما مبيتهم لربهم سجداً وقياماً. ومع هذا المبيت الطويل الذي يتقلبون فيه بين السجود والقيام والركوع، مع هذا المبيت الطويل لربهم على هذا النحو وعلى ذاك المنوال، فهم يقولون: ربنا اصرف عنا عذاب جهنم! هم يعملون الأعمال ويسألون الله القبول، لا يعملون الأعمال ويفتخرون بها، بل كما وصفهم ربهم: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60]. سألت أمُّنا عائشة رضي الله عنها نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية وقالت: (يا رسول الله! {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60] أهو الرجل يسرق ويزني ويخاف أن يعاقب؟ قال: لا يا ابنة الصديق! إنه الرجل يصوم ويتصدق ويصلي ويخاف أن لا يُقْبَل منه). حالهم كحال إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، رحمة الله عليك يا خليل الرحمن! ترفع القواعد من البيت أنت وولدك إسماعيل وتقولان: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:127]، ثم تطلبان من الله الثبات على الطريق حتى الممات: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:128].

من صفات عباد الرحمن التواضع والسكينة والوقار

من صفات عباد الرحمن التواضع والسكينة والوقار قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً} [الفرقان:63]: هذا حالهم، يمشون على الأرض في تواضع وسكينة ووقار، يمشون على الأرض غير مستكبرين وغير متكبرين وغير متجبرين كذلك، فثَمَّ رجل يمشي على الأرض لمالٍ قد آتاه الله إياه وابتلاه الله به، قد امتلأ صدره كبراً وغروراً، وارتفع بأنفه إلى السماء ظاناً أنه يُترك سدىً، وأن الله أكرمه بهذا المال، وهذا آخر يمشي متغطرساً مختالاً لكونه نال الشهادة، حصل على (الماجستير) أو (الدكتوراه) أو على درجة عليا في الطب، امتلأ كبراً وامتلأ فخراً وتيهاً وغروراً، وذاك أجهل منه يمشي لمنصب قد ناله يوشك أن يزول عنه، قد امتلأ هو الآخر كبراً وتيهاً وفخراً. أما عباد الرحمن فليسوا كذلك، يعلمون تمام العلم أن ما هم فيه -سواءً الذي هم فيه كان خيراً أو كان شراً- إنما هو ابتلاء وفتنة، كما قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:49]، وكما قال النبي الكريم الزكي سليمان -عليه السلام- لما رأى عرش ملكة سبأ مستقراً عنده -لقد انتقل إليه العرش في لمح البصر قبل أن يرتد إليه طرفه-: {قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل:40]. عباد الرحمن من شأنهم أنهم يمشون على الأرض هوناً، أي: متواضعين، قلوبهم خاشعة لله، قلوبهم خائفة وجلة من لقاء الله، قلوبهم خائفة من مكر الله سبحانه وتعالى، فهم خائفون من إحباط السيئات التي تطالبهم، إذا فكر أحدهم في شيء يسخط الرب عليه، سرعان ما رجع إلى صوابه وسرعان ما يثوب إلى رشده.

من صفات عباد الرحمن القول الطيب الحسن والعفو والصفح

من صفات عباد الرحمن القول الطيب الحسن والعفو والصفح قال تعالى: {الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [الفرقان:63]: فكم من جاهل؟!! فالله جَبَلَ الخلق على أخلاق شتى كما قال: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} [نوح:14]، فمنهم كريم الأخلاق، ومنهم بذيء الأخلاق، سيئ الصفات، هكذا جُبِل الخلق، {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل:4]. فعباد الرحمن إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً، أي: قالوا قولاً مهدئاً، قولاً مؤمِّناً، قولاً طيباً، لا يقابلون الإساءة بالإساءة، وإنما من شيمهم العفو والصفح كما أمرهم ربهم، وكما علمهم ربهم إذ قال: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:34 - 35]. فهؤلاء عباد الرحمن لا توقفهم البذاءات، ولا يقفون عندها منتصرين لأنفسهم، إنما كما وصفهم ربهم: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:55]. قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [الفرقان:63] فهذا سيرهم في النهار، وهذا حالهم في المشي بين الناس، مشيٌ يحمل التواضع، يحمل الانكسار لله سبحانه وتعالى ولخلقه، عرفوا وأدركوا تماماً قدر أنفسهم، وأنهم مُقْدِمون على يوم تشخص فيه الأبصار لله رب العباد.

الحكمة من اختلاف الليل والنهار

الحكمة من اختلاف الليل والنهار قال الله سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً} [الفرقان:62] هذا يخلف هذا، لماذا؟ قال تعالى: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ} [الفرقان:62] لمن أراد أن يتعظ ويعتبر وينظر إلى قدرة الله سبحانه، وينظر إلى نهاية كل شيء، فالليل ينتهي، والنهار ينتهي، والدنيا تنتهي، و {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27]. قال تعالى: {أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان:62] أو أراد أن يقدم شكراً لله على ما أولاه الله من نعم، فمن فاته حزبه من الليل، ومن فاته ورده من الليل الذي كان يذكر فيه الرب، فليستدركه بالنهار، (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فاته حزبه من الليل صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة) صلوات الله وسلامه عليه. فمن أراد أن يقدم شكراً لله وكان يقدمه بالليل في صلوات أو أفعال بر، وفاته ذلك لعارضٍ فليقدمه بالنهار، ومَن كان يفعل شيئاً من ذلك في النهار وفاته هذا الصنيع فهاهو الليل لمن أراد شكوراً، هاهو الليل يأتي بما فيه من نجوم وزيناتٍ في السماوات، وفيه انتشارٍ الوحوش والحشرات، كل ذلك يدعو إلى التدبر، كل ذلك يدعو إلى التأمل. تأمل قول الله تبارك وتعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ * وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص:71 - 73]. وهذا التفكر ينبغي أن يلازم أهل الإيمان، ثم يلزمهم أيضاً للوصول إلى أعالي الجنان أن يتصفوا بهذه الصفات التي ذكرها الله في كتابه.

معنى: تبارك

معنى: تبارك يقول الله سبحانه وتعالى في هذه السورة الكريمة: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً * وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [الفرقان:61 - 63]. أما قوله تعالى: (تَبَارَكَ): فالبركة تطلق على معنيين: المعنى الأول: أن البركة هي ثبوت الخير في شيء. المعنى الثاني: أن البركة تطلق على النمو والازدياد. فعلى التأويل الثاني: ازداد خيره وكثرت نعماؤه، كذلك تنزه وتقدس وكثرت آلاؤه.

التفكر في أسماء الله وشرعه ومخلوقاته

التفكر في أسماء الله وشرعه ومخلوقاته قوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً} [الفرقان:61] أما البروج فهي النجوم، ويقول أهل العلم: إن الله سبحانه وتعالى كما أنه يُتَعَبَّد بصلواتٍ وزكواتٍ وحجٍ وصيامٍ وصدقاتٍ واعتمارٍ وأمرٍ بالمعروف ونهيٍ عن المنكر، كذلك فالرب سبحانه وتعالى يُتَعَبَّد بأشياء أخر، ومن هذه الأشياء التي يُتَعَبَّد بها الرب، ويثبت لصاحبها الثواب: التفكر في آلاء الله سبحانه. فالتفكر والتدبر يثاب عليه العبد، كما يثاب على الصلاة، وكما يثاب على الصيام، وكما يثاب على الحج، ومن ثم جاءت نصوص الكتاب العزيز، بل ونصوص السنة المطهرة، تحث على التفكر وعلى التدبر والتأمل، قال الله سبحانه وتعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21]. وقال الله سبحانه وتعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [الأنعام:11]. والأمور التي يُتَفَكَّر فيها ويُتَدَبَّر بالنسبة لربنا سبحانه وتعالى ثلاثة أمور: الأول: التفكر في شرع الله سبحانه، كيف أنه شرع حكيم، يدعو إلى كل خير، وإلى كل بر، وينهى عن كل رذيلة وعن كل شر ومكروه، فالتفكر في شرع الله شيء مطلوب. الثاني: التفكر في أسماء الله الحسنى، وكيف أنها كلها حسنى. الثالث: التفكر في آلاء الله، وفي مخلوقاته سبحانه وتعالى. فإذا تفكرت في شرع الله تجد أنه حقاً كما قال سبحانه: {تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42]، فليس في كتاب الله آية تدعو إلى رذيلة أو فسق عياذاً بالله!، بل كله يدعو إلى الخير، وكله يدعو إلى الفضيلة. حفظ الله لنا بهذا الكتاب العزيز عقولنا، فحرم علينا الخمر التي تقود الرجل المتعاطي لها إلى أن يعبث بعذرته! وإلى أن يعبث بأمه! وإلى أن يعبث بأخته! فقال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ} [المائدة:90 - 91]. حفظ الله لنا بهذا الشرع أعراضنا، فلم يسوِّغ لأي أحد أن ينتهك أعراض المسلم، لم يسوغ لأي أحد أن ينظر إلى امرأتك، أو إلى ابنتك، أو إلى أختك، أو إلى أمك، مجرد النظر، قال الله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30]. وحرم الله الزنا، الذي به تختلط الأنساب. وحرم الله على الناس أموالنا، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} [النساء:29]. وقال نبينا محمد عليه الصلاة والسلام: (كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه). وكذلك حفظ الله سبحانه وتعالى دماءنا، فنهانا ابتداءً عن أن نشير بسلاح في وجوه إخواننا: (رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً قد أخرج سيفه من غمده، فقال: ألم أكن نهيتكم عن هذا؟! لعن الله من فعل هذا). وقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار). الحديث. فحفظت أعراضنا بهذا الشرع الكريم، وحفظت أموالنا، وحفظت عقولنا، وحفظت دماؤنا، وحفظت كذلك تصوراتنا، فليس لك أن تصول وتجول بفكرك كيف تشاء! بل ضُبِط ذلك منك، فهذا شيء من هذا الشرع الحكيم الكريم المجيد. أما أسماء الله فتفكر في أسماء الله، إذا كنت -على سبيل المثال- محاسباً تعمل في شركة، كيف أنك ترهق غاية الإرهاق من إتمام حسابات هذه الشركة، أو إتمام جزء منها. فتصور أن الله سبحانه يحاسب كل عبد من عبيده، ليس فقط على عمله وليس فقط على قوله، إنما يحاسبه كذلك على أعمال قلبه، ويعلمها سبحانه، ويثيب عليها ويعاقب، إن كانت خيراً فخير، وإن شراً فشر، وليس أنت وحدك المحاسَب، بل كل الخلق يحاسبون، وليس بنو آدم فحسب، بل الإنس والجن كذلك يحاسبون، وليس الجن والإنس فحسب، بل كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (لتؤدُّنَّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجَلْحاء من الشاة القَرْناء)،: (رأى النبي عليه الصلاة والسلام -كما ورد في بعض الروايات- شاتين تنتطحان، فقال لبعض جلسائه: أتدري فيم تنتطحان؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: لكن الله يدري، وسيؤدِّي لكل منهما حقها) فالشاة الجَمَّاء يقاد لها من الشاة القَرْناء، وهكذا. فربنا سبحانه وتعالى يحاسب الخلق أجمعين. فتفكر في هذا واعقله جيداً وافهم كيف أنه سريع الحساب. الدود في الصخور الصماء، والطيور في أوكارها، والوحوش في غاباتها، والحيتان في عالم البحار، كل ذلك يعلمه الله، ويعلم مستقر ومستودع ذلك كله سبحانه وتعالى، يعلم سعي الجميع، هذا السعي المتنوع المختلف يعلمه ربنا سبحانه، وسيجازي الجميع عليه. واخرج يوماً من بيتك قاصداً سوقاً من الأسواق أو تجمعاً من التجمعات، وانظر إلى الغادي والرائح من الناس، اخرج فقط للتفكر في أحوال الناس، هذا غادٍ وهذا رائح، هذا كئيب حزين، وهذا مبتسم مسرور، فمَن الذي أضحك؟! ومَن الذي أبكى؟! إنه الله الذي أضحك وأبكى. تفكر في أحوال الناس! وانظر إلى أشكال الناس! هل ترى في الخلق شخصاً يشبه الآخر؟! ترى هذا يهتم ويجري، وهذا متكاسل، هذا ذكي ونبيه، وهذا متخبط بليد لا يدري ماذا يصنع، والجميع يعلم أحوالَهم ربي سبحانه وتعالى. تفكر في نفسك! مَن أنت في وسط هؤلاء الناس؟! وإلى أين مصيرك؟! وإلى أين تسير؟! تفكر في أصوات الناس ولهجات الناس وبناء أجسام الناس! هذا خفيف الدم، وهذا ثقيلٌ بارد، ثقيلٌ على القلب، لا تستطيع أن تخاطبه، هذا دمه يجري ويرغِّبك في النظر إليه، هذا طويل فارع، وهذا قزم قصير، والخلاق والعليم هو الله سبحانه وتعالى. فكر في هذا جيداً! وأرجع البصر إلى السماء، وانظر! هل ترى فيها ثقباً واحداً؟! ثم ركِّز البصر مرةً ثانية ينقلب إليك البصر خاسئاً مكروباً وهو حسير، أي: كئيب متعَب؛ إذ لم يستطع أن يكتشف شيئاً فيه خلل، لم يستطع أن يكتشف ثقباً واحداً. انظر إلى الرياح وسرعتها في يوم، وحملها للغبار، وانظر إلى لينها وبطئها في يوم آخر! مَن الذي سخرها؟! ومَن الذي ذلَّلها؟! هذه أمور يلزمك أن تتفكر فيها، فالتفكر فيها نوع من أنواع العبادة. جُزْ ببصرك إلى السماء، وانظر إلى الطير وهي صافات، ثم هي تقبض أجنحتها، ما يمسكها إلا الرحمن، ولا يعلم فيمَ تفكر إلا الرحمن! ثم ارجع فانظر ثانيةً إلى البحار، إلى حوت كبير متوحش، يأكل الأسماك ويلتهمها، وإلى تمساح، وإلى سمكة أخرى ضعيفة هي المأكولة ليست هي الآكلة! انظر إلى حكمة الله في هذا الخلق كله! وانظر إلى الغابات، وما فيها من الحيوانات، منها: طائفة محترمة، وطائفة جائرة ظالمة. منها: طائفة تُؤْلَفُ وتُؤَلَّفُ، ومنها طائفة أخرى لا تُؤْلَفُ ولا تُؤَلَّفُ. منها: طائفة عُرِف من خصالها كرم الأخلاق والوفاء، وطائفة أخرى عُرِف من خصالها الغدر والخيانة، طائفة عُرِف من خصالها الذكاء الخارق، وطائفة عُرِف عنها الغباء والبلادة، كل ذلك يعلمه ربي سبحانه وتعالى، طائفة تعلمت المكر، وأخرى تختال في مشيتها، والكل يعلمه ربي. كذلك طيور بيضها قليل ونسلها قليل؛ ولكن عمرها مديد وبأسها شديد، كالنسور، وطيور أخر تتكاثر بالملايين آناء الليل وأطراف النهار؛ لكن موتها سريع وأجلها قريب. فهَبْ أن هذه النسور تتكاثر تكاثر العصافير، إذاً لأذهبت الأخضر واليابس. انظر إلى هذه المرأة الدميمة، وانظر إلى تلك الجميلة الحسناء، والكل مآله إلى قبر موحش مظلم! فانظر إلى حكمة الله! فهذه أمور يُتَعَبَّد الرب سبحانه وتعالى بها. فاخرج يوماً بعد يوم، واخلُ بنفسك يوماً بعد يومٍِ وفي وسط الأشجار كذلك، هذه زهرة حمراء تأتي إليها نحلة تمتص رحيقها، وفي الوقت نفسه وبجوارك عذرة ملقاة يأتيها الذباب! فسبحان الذي خلق الخلق وقدَّر المقادير، الذي قدَّر فهدى سبحانه وتعالى! اخرج يوماً خصيصاً لهذا النظر! وانظر إلى نفسك وما حواه جسمك من خلق شديد في زمن من الأزمان! انظر إلى طبيبِ تشريحٍ كيف يشرح الرجل! وانظر إلى طبيبِ أمراضٍ للقلب وكيف يجري عمليات القلب، وكذلك تشريحات المخ، وكيف تكون! وكيف يدار الجسم! انظر إلى الدورات الدموية وإبداع الله سبحانه وتعالى لخلقه. فهذا نوع من السؤال غفل عنه الكثيرون! كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يقوم إذا ذهب شطر من الليل ينظر إلى السماء قائلاً: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا} [آل عمران:190 - 191]: أي: قائلين: يا ربنا! (ما خلقت هذا باطلاً)، أي: عبثاً (سبحانك) فأنت لا تعبث، سبحانك! أنت لا تلعب {مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [آل عمران:191 - 192]، ثم يناجي ربه: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ} [آل عمران:193]، يقرأ العشر آيات خواتيم آل عمران

الأسئلة

الأسئلة باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد:

حكم من احتلمت وهي حائض ولم تغتسل

حكم من احتلمت وهي حائض ولم تغتسل Q هل تأثم المرأة إذا احتلمت ولم تغتسل؛ لأنها حائض؟ A لا تأثم، إذ لا دليل على التأثيم.

حكم الرقص على أغان يذكر فيها اسم الله وحكم الزغاريد

حكم الرقص على أغان يذكر فيها اسم الله وحكم الزغاريد Q ما الرأي في نساء يرقصن على أغانٍ يُذكر فيها اسم الله في الأفراح، وهذا الأمر انتشر بين النساء؟ A هذا عملٌ يدخل في اتخاذ آيات الله هزواً والعياذ بالله يرقصن على أنغام فيها اسم الله سبحانه! هذا لا يفعله ذو دِين. والرقص برمته لم يكن معهوداً في نساء الصحابة أمام بعضهن البعض. أما بالنسبة للزغاريد: فقد ورد حديث: (صوتان ملعونان: صوت رنة عند نعمة، ورنة عند مصيبة)؛ لكن الحديث إسناده ضعيف. فإذا جلس النساء يزغردن حيث لا يسمعهن رجال، ولا يفتتن بهن رجال، فالزغاريد لا أعلم نصاً يحرمها؛ لكن إن كانت هذه الزغاريد ستفتن رجالاً، فحينئذٍ اللهُ لا يحب الفساد. - أما بالنسبة للتكشف فإن التكشُّف معروفٌ حدَّه، وحد التكشّف إجمالاً كما قال بعض أهل العلم -وهذا رأي ابن تيمية -: إن عورة المرأة على المرأة من السرة إلى الركبة، وقال آخرون: إن عورة المرأة على المرأة ما يظهر غالباً من المرأة كالشعر والساق؛ لكن حيثما وجدت فتنة فاللهُ لا يحب الفساد. وصلى الله على نبينا محمد وسلَّم تسليماً كثيراً. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

حكم من صلى المغرب في الحرم بعد طواف الوداع

حكم من صلى المغرب في الحرم بعد طواف الوداع Q طفت طواف الوداع ثم أذَّن عليَّ المؤذن للمغرب، فهل يجوز الصلاة في الحرم؟ A نعم، يجوز الصلاة في الحرم، ثم تنصرف.

ضعف سند حديث: (داووا مرضاكم بالصدقة)

ضعف سند حديث: (داووا مرضاكم بالصدقة) Q ما حال حديث: (داووا مرضاكم بالصدقة)؟ A حديث: (داووا مرضاكم بالصدقة) إسناده ضعيف.

الدعاء عند ختم القرآن

الدعاء عند ختم القرآن Q هل هناك دعوة تقال عند ختم القرآن؟ A لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء في ذلك، إنما الوارد أن أنساً كان يدعو هو وأهله بعد ختم القرآن.

حكم قراءة القرآن من المصحف في الصلاة

حكم قراءة القرآن من المصحف في الصلاة Q هل يجوز القراءة من المصحف في الصلاة؟ A جمهور أهل العلم على الجواز في صلاة النافلة، مستدلين بأن ذكوان مولى عائشة كان يؤم بـ عائشة من المصحف، ومستدلين بأن النبي كان يحمل أمامة في الصلاة. أما ابن حزم فله رأي في هذه المسألة ضعيفٌ، وهو أنه يقول: بعدم الجواز مستدلاً بحديث: (إن في الصلاة لشغلاً)، ولذلك يقول بالبطلان! لكن الجمهور على التجويز كما سمعتم.

صحة إسناد حديث صلاة التسابيح

صحة إسناد حديث صلاة التسابيح Q هل حديث صلاة التسابيح صحيح أم لا؟ A مُنازَعٌ في صحته، والظاهر لي: أن إسناده صحيح.

تحريك الإصبع في التشهد

تحريك الإصبع في التشهد Q أيهما أصح: تحريك الإصبع في التشهد أم رفعه فقط؟ A سؤال يحتاج إلى إيضاح: فتحريك الإصبع في التشهد مِن عدمه كل ذلك مروي من طريق راوٍ يقال له: عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل بن حجر، قال وائل: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يشير بإصبعه في الصلاة)، رواه عن وائل على هذا النمط وبهذا السياق: (رأيت النبي يشير بإصبعه في الصلاة) عاصم عن أبيه عن وائل، ورواه عن عاصم خمسة عشر شخصاً بهذا اللفظ. وجاء شخص آخر يقال له: زائدة بن قدامة رواه عن عاصم وهو نفس الشيخ بلفظ: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يشير بإصبعه في الصلاة يحركها)، فزاد زائدة لفظة: (يحركها)، فعمل بها بعض العلماء، وأبى الآخرون أن يعملوا بها وقالوا: رواية الخمسة عشر أصح من هذا الراوي الأخير؛ لأن روايتهم ذكرت الإشارة فقط، والله أعلم.

معنى حديث: (ثلاثة تقطع الصلاة)

معنى حديث: (ثلاثة تقطع الصلاة) Q نرجو توضيح حديث: (ثلاثة تقطع الصلاة: المرأة، والكلب، والحمار)؟ A هذا الحديثُ ثابتٌ وصحيحُ الإسناد بلا شك. لكن ينقل النووي رحمه الله تعالى عن جماهير السلف والخلف: أنهم أوَّلوا القطع، وقالوا: إن المراد قطع الخشوع ونقص الخشوع. فلا شك أن المرأة إذا مرت أمام رجل يصلي، الشيطان يدخل له من هذا الباب، فيفكر في هذه المرأة. فنقل النووي عن جماهير العلماء أن المراد بالقطع قطع الخشوع، وليس المراد بالقطع قطع الإبطال. والله سبحانه وتعالى أعلم.

حكم تأدية صلاة الاستخارة وسنة الوضوء وقت الكراهة

حكم تأدية صلاة الاستخارة وسنة الوضوء وقت الكراهة Q هل يجوز أن نصلي صلاة الاستخارة أو سنة الوضوء في الوقت المكروه؟ A نعم، يجوز؛ لأنها من ذوات الأسباب، وبلال قال له النبي عليه الصلاة والسلام: (دلني على أرجى شيء عملتَه، فإني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة! قال: ما توضأت في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب الله لي أن أصلي).

حكم من حج عن أبيه من ماله الخاص

حكم من حج عن أبيه من ماله الخاص Q أبي مات ولم يحج، فحججت عنه بمالي، فهل لي ثواب الحج؟ A لك أجر، ولن يَتِرَكَ اللهُ عملَك إن شاء الله.

حكم الأناشيد

حكم الأناشيد Q هل هناك شيء يدعى بـ (الأناشيد الإسلامية) في عصر الرسول عليه الصلاة والسلام؟ A هذا الاصطلاح: أناشيد إسلامية، وغير إسلامية، اصطلاح جديد ظهر الآن؛ لكن بالنسبة للأناشيد عموماً، منها ما هو محرم، ومنها ما هو مباح، والأناشيد زمن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يوجد منها، وتقال في المناسبات، كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام لـ عائشة يوم أن ذهبت إلى عرس للأنصار ثم رجعت: (ماذا كان معكم من اللهو؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو -والرسول لم يكن يحسن الشعر، كما لا يخفى عليكم- فقال لها: قولي: أتيناكم أتيناكم، فحيانا وحياكم، ولولا الحبة السوداء، ما حلت بواديكم) إلى آخر ما قال عليه الصلاة والسلام، ولم يكن صلى الله عليه وسلم بمتقن للشعر؛ لأن الله يقول: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} [يس:69]. وقد ورد أيضاً في هذا الباب أن النبي قال: (اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فانصر الأنصار والمهاجرة). وكان في بعض الأحيان يُخَالف فيها، فيقول: (فانصر المهاجرة والأنصار)، وهذا دليل على عدم ضبطه للشعر صلى الله عليه وسلم، وهذا من مناقبه صلى الله عليه وسلم، وذلك أن ربنا قال: {وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس:69]، هو نبي وسيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام. الشاهد من ذلك: أن مؤدى الأناشيد هذه: إن كان للخير وفي مناسبات ولم يُتَّخَد دَيدناً، فلا بأس به، وإن كان اتُّخِذ دَيدناً وعادةً، وفيه حث على الفجور وعلى الخمور وتصوير المحرمات وتصوير الفواحش فهو حرام، {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205].

حكم تحويل المسجد إلى مدرسة لتحفيظ القرآن

حكم تحويل المسجد إلى مدرسة لتحفيظ القرآن Q زاويةٌ أسفل أحد المنازل على مسافة ستين أو سبعين متراً لا تقام فيها جمعة، يصلي فيها حوالي أربعة أشخاص أو خمسة. وتوضيح السؤال: أن السائل يقول: إنه قريبٌ منا في الشارع الخلفي مسجدٌ تقام فيه الصلوات على بُعد ثلاثين متراً، هل يجوز تحويله إلى دار لتحفيظ القرآن الكريم؟ A لا يحوَّل إلى دار للتحفيظ، بل يحفظ القرآن فيه ويبقى على ما هو عليه.

مس النبي صلى الله عليه وسلم صدور بعض أصحابه للحاجة

مس النبي صلى الله عليه وسلم صدور بعض أصحابه للحاجة Q هل من شأن النبي عليه الصلاة والسلام مس صدر الصحابة بيده الشريفة؟ A ورد أن الرسول عليه الصلاة والسلام مسح صدر بعض أصحابه؛ لكن هل هي سنة مطردة أو كانت للحاجة؟ الظاهر: أنها كانت للحاجة، كما في بعض الطرق عن عثمان بن أبي العاص الثقفي: (أنه كان قد ولاه الرسول صلى الله عليه وسلم على الطائف، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وشكا إليه شيئاً يجده في الصلاة منذ أسلم، وأن الشيطان يلبِّس عليه صلاته -ففي بعض الروايات-: أن النبي عليه الصلاة والسلام مسح على صدره). وكذلك ورد أن النبي عليه الصلاة والسلام ضرب بيده في صدر جرير بن عبد الله لما قال: (يا رسول الله! إني لا أثبت على الخيل، فضرب النبي بيده في صدره، فقال: اللهم! ثبته، واجعله هادياً مهدياً، فلم يسقط عن خيله بعد ذلك) أو كما ورد. فالظاهر: أن هذا وارد للحاجة، والله سبحانه وتعالى أعلم.

حكم من ألقي عليه السلام وهو في الخلاء

حكم من ألقي عليه السلام وهو في الخلاء Q ماذا يفعل من ألقي عليه السلام وهو داخل الخلاء؟ وما حكمه؟ A مَن كان داخل الخلاء فهو بين أمرين: - إما أنه قاعد على حاجته يقضيها يبول أو يتغوط، فهذا جاء له نظير من سنة النبي عليه الصلاة والسلام، من حديث ابن عمر: (أن رجلاً مر على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول فسلم عليه، فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم عليه السلامَ. -وفي بعض الروايات-: أن النبي ذهب إلى جدار بعد أن قضى حاجته، وتيمم، ورد عليه السلامَ). - وإما أن يكون في الخلاء ولا يبول، فلا أعلم مانعاً من الرد إذا كان واقفاً مجرد وقوف، إلا أن من أهل العلم من يقول: إن من توقير اسم الله ألا يكون في مثل هذا الموطن، فينبغي أن تخرج وترد عليه السلامَ؛ لكن ورد في الباب حديث كذلك، مؤداه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الرجلين قد كشفا عن عورتيهما يتخليان، يتغوطان ويتحدثان، فقال: إن الله يمقت على ذلك)؛ لكنه حديث ضعيف الإسناد. والله سبحانه أعلم.

الصدق والصادقون

الصدق والصادقون الصدق صفة من الصفات الكريمة، وخلة من الخلال الحميدة، أمرت الشريعة الإسلامية بالتحلي به، والصديقون يحشرون في زمرة الأنبياء والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، وبالصدق يشعر العبد بالطمأنينة، وينجو من الهلاك، وتحل به البركة. وقد حرم الإسلام الكذب بكل صوره، ولم يجزه إلا في ثلاثة مواطن: في الحرب، وبين الزوجين، وفي الإصلاح بين الناس.

الصدق من صفات الله تبارك وتعالى

الصدق من صفات الله تبارك وتعالى بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهديه الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. وبعد: عباد الله: إن لله سبحانه وتعالى صفات يحب أن يتخلق بها عباده، ولله عز وجل صفات لا يحب أن يتخلق بها عباده، فهي له وحده سبحانه وتعالى، فمن الصفات التي هي لله سبحانه ويحب أن يتخلق بها عباده صفة الكرم، فهو كريم يحب الكرماء، وكذلك صفة العفو عن الناس، فهو عفو يحب العافين عن الناس، وكذلك صفة الجمال، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله جميل يحب الجمال)، وصفة الرحمة، فالله رحيم يحب من عباده الرحماء. ومن هذه الصفات أيضاً صفة الصدق، وعليها مدار الحديث إن شاء الله، فالله سبحانه وتعالى قال عن نفسه: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122]، وقال عن نفسه: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء:87]، وقال عن نفسه: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ} [آل عمران:95]، فالله سبحانه وتعالى فيه هذه الصفة، فهو سبحانه وتعالى صادق فيما وعد، وصادق فيما أخبر، وصادق في كل شيء سبحانه وتعالى، وليس أحد أصدق من الله قيلاً أبداً، وليس أحد أصدق من الله حديثاً، وأمر الله نبيه أن يقول هذه الكلمة فقال تعالى: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران:95].

الصدق من صفات الأنبياء والمرسلين

الصدق من صفات الأنبياء والمرسلين إن رسل الله عليهم الصلاة والسلام اتسموا بهذه الصفة وهي صفة الصدق، كما قال تعالى: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات:37]، وقال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} [مريم:41]، وقال عن إسماعيل: {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} [مريم:54]، وقال عن إدريس: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} [مريم:56]، وقيل عن يوسف عليه الصلاة والسلام ذلك أيضاً بشهادة الكفار كما حكى الله تعالى: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ} [يوسف:46].

حث الشريعة على الصدق والتحذير من الكذب

حث الشريعة على الصدق والتحذير من الكذب صفة الصدق في الحديث حث الله عليها، وحث عليها نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه في الصحيحين وغيرهما: (عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً)، فقوله: (عليكم بالصدق) أي: الزموا الصدق، ولا تنحرفوا عنه، ولا تحيدوا عنه، وإن كان في ظاهره المضرة عليكم، وقوله: (ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً) أي: على المرء أن يمرن نفسه ويعود نفسه أن يكون صادقاً، فإن كذب مرة يستغفر ويتحرى أن يصدق في المرة القادمة، وبعد الصديق يحشر مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (وإياكم والكذب -يحذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من الكذب-؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً).

ثمار الصدق

ثمار الصدق

الشعور بالطمأنينة

الشعور بالطمأنينة الصدق سبب للطمأنينة، فإذا كذبت قذفت إلى قلبك الشك والوساوس، وجلست في هموم وفي غموم، قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (دع ما يريبك -أي: ما تتشكك فيه- إلى ما لا يريبك) فأي شيء تشعر أن فيه إثماً وتحتار في أمره اتركه، واعمد إلى الشيء الذي لا شبهة فيه ولا ريب فيه، فقوله: (دع ما يريبك)، أي: ما يشكك ويجعلك توسوس قائلاً: هل هو حلال، هل هو حرام فأحياناً شيطانك ينتصر ويحل لك الحرام، وأحياناً تنتصر أنت وتجنح إلى أنه حرام فعلاً، فحينئذٍ (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك؛ فإن الصدق طمأنينة، وإن الكذب ريبة) كما قال عليه الصلاة والسلام.

حصول البركة

حصول البركة الصدق -يا عباد الله- سبب للبركة، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما)، فإن قلت للمشتري: سلعتي فيها من العيوب كذا وكذا وكذا وبينت له بارك الله في بيعكما، واعلم أن بيانك له العيب لن يمنع رزقاً ساقه الله إليك أبداً، فرزقك مكتوب لك وأنت في بطن أمك، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام فيما أخبر به عبد الله بن مسعود عنه: (ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد)، فرزقك مكتوب وأنت في بطن أمك، فلا تظن أبداً أن الصدق -الذي هو طاعة لله سبحانه وتعالى- سيسبب لك نقصاً في الرزق، ولا تظن هذا الظن السيئ أبداً، بل على العكس، فالصدق بركة والكذب ممحق للسلعة مذهب للبركة، والذي يخبر بأن البركة ستحل هو رسول الله عليه الصلاة والسلام حيث قال: (إن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما). ومن الناس من يغش في كل شيء، حتى إن بعضهم عند بيعه البقرة ونحوها يخزن اللبن في ضرعها ثلاثة أيام حتى يوهم المشتري أنها غزيرة اللبن، وأقوام آخرون عند بيعهم الدجاج يطعمونه طعاماً مليئاً بالملح حتى يشرب الدجاج ماءً كثيراً فيزن وزناً أكبر، فصور الغش والخداع لا تنتهي، ومن صور الغش، من يتاجر في اللبن فيخلط اللبن البقري بغيره ويغش الناس ويقول: أنا أبيعه بالبنط. والعامي لا يفهم البنط، وإنما يذهب العامي يشتري على أنه لبن من لبن أهل بلده فإذا به مغشوش، والبائع يقول: أنا أبيعه بالبنط ويحترف النصب على الناس. فيا عباد الله: كلٌ يتفنن كيف يصل إلى المال عن أي طريقٍ حلالٍ أو حرامٍ، ولا يهمه إلا جمع أكبر قدر من المال، ويحتال بأي حيلة، ويلتمس أي سبب يخادع به نفسه، ويغش به نفسه أولاً، وماذا يضير المشتري إذا شرب لبن بقر مخلوط بغيره؟! لكن أنت -يا غشاش- ستقف بين يدي ربك عز وجل، ويسألك: لماذا غششت العباد؟ ويؤخذ من حسناتك إلى إخوانك، ويطرح من سيئات إخوانك عليك؛ لأمر قد تراه يسيراً.

ظهور الصدق على وجه صاحبه

ظهور الصدق على وجه صاحبه الصدق يظهر على وجه صاحبه، والكذب يظهر على وجه صاحبه، قال عبد الله بن سلام رضي الله عنه: لما سمعت بمقدم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى المدينة أتيت فنظرت في وجه النبي صلى الله عليه وسلم فإذا هو ليس بوجه كذاب، إنما هو وجه رجل صالح صادق. فالصدق يظهر على وجه صاحبه، والكذب والغش والخيانة كل ذلك يظهر على وجه صاحبه كذلك، وإن حاول أن يرسم على وجهه الابتسامات ليسترها إلا أن الله عز وجل يفضحه لغشه وخيانته -والعياذ بالله-، ولأكله أموال الناس بالباطل.

النجاة

النجاة الصدق نجاة وإن ظننت أنه هلكة، ولا تخفى قصة كعب بن مالك لما تخلف عن غزوة تبوك مع رسول الله عليه الصلاة والسلام، فلما رجع الرسول سالماً غانماً آمناً من غزوته جلس في المسجد بعد أن صلى فيه ركعتين -وهذه سنته إذا رجع من الأسفار-، ثم جلس في المسجد فجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم، وجاء المعذرون يلتمسون المعاذير الكاذبة المنتحلة، فما جاءوا يستغفرون بل جاءوا يختلقون الأكاذيب أمام رسول الله عليه الصلاة والسلام حتى يعفو عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحتى يقبل معذرتهم، فكلٌ التمس سبباً. وانظر كيف جاء أهل الصدق وأهل الإيمان، فقد جاء كعب بن مالك، فلما سأله النبي عليه الصلاة والسلام: (ما خلفك يا كعب عن الغزوة؟ -وهو الرجل الصادق رضي الله عنه- قال: والله -يا رسول الله- لم يكن لي عذر في التخلف عنك، ووالله -يا رسول الله- لو جلست بين يدي أي رجل من أهل الدنيا لاستطعت أن أخرج منه بمخرج، ولكني أخشى إن كذبت عليك أن ينزل الله فيَّ قرآناً يفضحني الله به -أو كما قال كعب - فاقض فيَّ يا رسول الله. فقال النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه في شأن كعب -وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل أعذار المنافقين-: أما هذا فقد صدق، فامكث حتى يقضي الله فيك). وهُجر كعب بن مالك خمسين ليلة لا يكلمه أحد من أهل الإسلام، ولا يردون عليه السلام، ولا يبايعونه، ولا يشترون منه، إلى أن جاء أمر أكبر، حيث أمره النبي أن يترك زوجته، حتى اشتد به البلاء، واشتد به الكرب، وكما هو موجود في كل عصر، فإنك إذا صدقت يأتيك شيطان من شياطين الإنس يقول لك: لماذا تصدق؟ كنت ستتكلم بأي كلمة وتخرج من المأزق، وشياطين الإنس لا يخلو منهم زمان ولا يخلو منهم مكان، وضعاف الإيمان لا يخلو منهم زمان ولا يخلو منهم مكان، فجاءه بعض أقاربه وقالوا: يا كعب! ما منعك أن تكون ذهبت إلى رسول الله فقلت له: خلفني كذا وكذا! وبعد ذلك سيستغفر لك الرسول كما استغفر لفلان وفلان من المنافقين، قال كعب: فمن شدة مقالتهم عليَّ هممت أن أذهب إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام فأكذب نفسي، وأقول له: يا رسول الله كان لي عذر وأختلق الأكاذيب، قال كعب بن مالك: ولكني سألت -وهنا تنفع مجالسة الصالحين والتأسي بهم- هل هناك أحد من الناس قال مثل مقالتي؟ قالوا: نعم. قال مثل مقالتك هلال بن أمية ومرارة بن الربيع، قال: فذكروا لي رجلين صالحين لي فيهما أسوة أتأسى بهما، فهما قد شهدا بدراً مع رسول الله عليه الصلاة والسلام، قال: وهل لقيا مثل ما لقيت؟ قالوا: نعم، لقيا مثل ما لقيت من رسول الله، يهجرهم الناس وأزواجهم كذلك، إلا أن امرأة هلال استأذنت رسول الله فقالت: (يا رسول الله: إن هلالاً شيخ كبير ضائع لا يستطيع أن يخدم نفسه، فهل عليَّ جناح أن أخدمه؟ قال: لا. ولكن لا يقربكِ قالت: والله -يا رسول الله- ما له في النساء من حاجة، والله -يا رسول الله- منذ أن قلت له ما قلت ما زال يبكي). فانتبه كعب بن مالك إلى أن له أسوة، وصبر حتى أنزل الله عز وجل التوبة عليه، قال الله عز وجل: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة:118] أي: تاب الله على الثلاثة الذين خُلِّفُوا، قال كعب بن مالك: والله لقد نفعني الله بالصدق، فإن الله تاب عليَّ. أما أهل النفاق فقال الله فيهم شر مقالة، ووصفهم شر وصف، قال تعالى: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:95 - 96] فهكذا وصفهم الله، ومعنى: (إنهم رجس) أي: نجس. فانظر إلى عاقبة الصدق، وقد ذهب كعب إلى رسول الله وقال: إن من توبتي يا رسول الله أن انخلع عن كل مالي صدقة لله وصدقة لرسول الله عليه الصلاة والسلام، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك)، هكذا علمه رسول الله عليه الصلاة والسلام.

شهادة أهل الكفر بصدق النبي عليه الصلاة والسلام

شهادة أهل الكفر بصدق النبي عليه الصلاة والسلام يجب عليك -يا عبد الله- أن تتحلى بهذه الحلة الكريمة، وتتمثل بهذه الخصلة القويمة خصلة الصدق، فهي دعوة رسولك، فقد سأل هرقل أبا سفيان: بماذا يأمركم محمد؟ قال: يأمرنا محمد بالصدق فـ هرقل الكافر علم أن الصدق من خصال الرسل، فقال: والله ما كان ليصدق مع الناس ويكذب على الله، فإذا كان محمد يعلمكم الصدق فكيف يصدق في حديثه مع الناس ويكذب على الله؟! فما كان -عليه الصلاة والسلام- ليكذب على الله، وشهد له بذلك أهل الكفر من المشركين، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: (لما نزلت: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214]، ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جبل الصفا ونادى: يا معشر قريش، يا بني عبد المطلب، يا صفية عمة رسول الله، فاجتمعت له قريش، فقال عليه الصلاة والسلام لهم: يا معشر قريش: لو أخبرتكم أن خيلاً وراء هذا الوادي تريد غزوكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك كذباً قط -عليه الصلاة والسلام- قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد). فالزم هذه الخصلة -يا عبد الله- مهما كلفتك، والزم هذه الخصلة الطيبة، وتخلق بهذه الخصلة الجميلة تسعد في الدارين، وتعرف نفسك -إذا كنت صادق الحديث- بأن ترى الرؤيا في الليل فتصبح وقد تحققت الرؤيا كما رأيتها، كما قال صلى الله عليه وسلم: (أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثاً)، أي: إذا كنت صادقاً في الحديث فرؤياك تتحقق، ولما كان نبينا محمد أصدق الناس لهجة كان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح.

الحالات التي يجوز فيها الكذب

الحالات التي يجوز فيها الكذب من العلماء من ذكر بعض المباح من الكذب بناءً على حديث النبي عليه الصلاة والسلام؛ حيث رخص في الكذب في ثلاثة مواطن: الكذب في الحرب؛ إذ الحرب خدعة، والكذب للإصلاح بين المتخاصمين حيث تذهب إلى فلان فتقول له: فلان ما قال فيك إلا خيراً، وقال فيك كلاماً طيباً وتلتمس أي كلمة طيبة خرجت من في خصمه حتى تصلح فيما بينهما، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فيقول خيراً أو ينمي خيراً). لكن هناك قوم يذهبون إلى الإفساد بين الناس بالكذب والخيانة، وقوم يفسدون الزوجات على أزواجهن غدراً وخيانة، فيكون هناك خلاف بين زوج وزوجه، ويدخل رجل مرتدياً ثوب الإصلاح وثوب الحريص المشفق على الزوجين، يريد أن يدخل -بزعمه في الظاهر- ليصلح بين زوجين، وفي باطنه يسعى سعياً حثيثاً لتدمير الأسرة حتى يتزوج هو تلك المرأة التي تطلق، فهذا ملعون، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ليس منا من خبب امرأة على زوجها)، فهو يسعى سعي الواشين المكرة المفسدين الظلمة للإصلاح في الظاهر وفي ثنايا كلامه يقول لزوجته: اصبري عليه فإن فيه كذا، ويطعن بما يريد تحت مقولة: (اصبري عليه)، ويسرد كل العيوب التي فيه، عياذاً بالله. فأنى يبارك لمثل هذا المفسد؟ فالكذب شرع للإصلاح، ولم يشرع الكذب للتفريق بين الزوجين، ألا فليستبشر هذا بأنه من ورثة هاروت وماروت، ومن جند هاروت وماروت اللذين يفرقون بين المرء وزوجه، فليبشر من كان على هذه الخصلة الذميمة للتفريق بين الأحبة، وللتفريق بين الزوجين، ولتشتيت الأسر بالطلاق، فليبشر هذا بأنه من سرايا إبليس الذين يبثهم لفتنة الناس، وأنه أقرب جنديٍ إلى إبليس؛ فإن إبليس يضم من فرق بين الزوجين ويدنيه ويقول: أنت أنت أي: أنت الرجل أنت الرجل. فللإصلاح بين الزوجين أن يكذب الرجل على زوجته لإرضائها، لا بوعد وإخلاف وأكل حقوق وتضييع حقوق، وإنما يبالغ لها -مثلاً- في وصف حبه لها، وتبالغ له هي الأخرى في وصف حبها له، ويبالغ في وصف جمالها أمامها، وتبالغ في وصف رجولته أمامه، فالكلمة الطيبة صدقة تطمئن القلب وتخمد الشيطان، فالكذب يباح في ثلاثة مواطن: في الحرب، وبين الزوجين، وللإصلاح بين الناس. وقد قال بعض أهل العلم: إن هناك صدقاً مذموماً، وفي الحقيقة لا نوافق من قال بأن هناك صدقاً مذموماً، فالصدق كله خير، وإن كان معنى كلامهم صحيح، كاغتياب الناس وإن كان فيهم ما تقول إن كنت صادقاً فيما تخبر عنه، كأن تذهب إلى شخص وتقول له: فلان قال فيك كذا وكذا وكذا وأنت صادق، لكنك مذموم تأكل النتن، وتأكل الجيف، وتأكل لحم أخيك ميتاً، وإن كنت صادقاً في نقلك، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الغيبة فقال رجل: (فإن كان في أخي ما أقول يا رسول الله؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته). ألا فالزموا الصدق يا عباد الله، وادعوا ربكم أن يحشركم مع الصديقين، واستغفروه إنه كان غفاراً.

إتقان العمل في الحج

إتقان العمل في الحج جدير بنا في كل عمل من الأعمال، وفي أي طاعة من الطاعات أن نحرص على الإتقان، وذلك من خلال رجوعنا إلى كتاب ربنا وسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. والحج هو أحد الأعمال العظيمة التي اعتنت بها الشريعة، وحتى يتم أداء هذه الشعيرة على التمام فلابد من اتباع تعاليم الإسلام، واجتناب كل ما من شأنه أن يخل بهذه الفريضة الجليلة.

صور سعي العباد

صور سعي العباد إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده رسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. وبعد: أقسم الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم بقوله: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} [الليل:1 - 3]، يقسم الله سبحانه وتعالى بهذا كله على شيء ألا وهو: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل:4] أي: السعي الذي نقوم به في حياتنا الدنيا متنوع ومختلف ومتعدد، فمنا من يسعى للآخرة، ومنا من يسعى للدنيا، منا من يسعى لطلب المال والجاه في الحياة الدنيا، ومنا من يسعى لرفعة درجاته في الآخرة، منا من يسعى في أعمال البر والصلاح، ومن الناس من يسعى في أعمال الشر والفساد، وقد قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى} [النجم:39 - 41]، فأفادة الآية الكريمة أن السعي الذي نقوم به في دنيانا سنراه في أخرانا، كما قال تعالى في الآية التي سمعتموها: {وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى} [النجم:40 - 41]، فمنا من سعيه مشكور، كما قال الله سبحانه: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} [الأنبياء:94]، وفي هذا أيضاً يقول تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء:19]، وقال الله في شأن أقوام آخرين: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:103 - 104]، فلابد من أن نرى جزاء سعينا كما وعد ربنا، فهو أصدق القائلين سبحانه وتعالى، وكذلك لا بد أن تبلى السرائر كما قال ربنا سبحانه وتعالى، والحَكَم على السعي الصالح المحمود المشكور والسعي الباطل المردود هو كتاب الله سبحانه وتعالى وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فمن أراد أن يتقن السعي فلينظر إلى كتاب الله وإلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ففيهما الحكم على سعيك، هل هو سعي مشكور يشكره لك ربك سبحانه وتعالى أم هو سعي باطل مردود؟ ولذلك كان لزاماً علينا كي نتقن العمل أن نتعلم كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، فليس كل عامل يثاب على عمله، بل هناك من يعمل ويعاقب على هذا العمل؛ فالله سبحانه وتعالى ذم المرائين في كتابه، وبين أنه قد أحبط عملهم، وكذلك ذمهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في سنته، قال سبحانه في شأنهم: {وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23]، وقال الله في الحديث القدسي: (من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه) أو كما قال عليه الصلاة والسلام. فجدير بنا في كل عمل من أعمالنا أن نتعلم كيفية إتقان العمل من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكثير من الناس يتقنون أمر دنياهم أيما إتقان، يسهرون الليل والنهار لإتقان أمور دنياهم؛ لنيل المراتب العلية في الدنيا، ولنيل المال الوفير في الدنيا، ويغفلون تمام الغفلة عن إتقان العمل للآخرة، وقد تقدم شيء مما يتعلق بإتقان العمل في الصلاة.

مسائل متعلقة بالحج

مسائل متعلقة بالحج واليوم نذكر شيئاً مما يتعلق بإتقان العمل في الحج، فهذا موسمه، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يكتبه لنا ولكم من حضر ومن غاب منا أجمعين.

المبيت بمزدلفة

المبيت بمزدلفة ثم قال الله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة:198] أي: في رجوعكم من عرفات اذكروا الله عند المشعر الحرام -وهو المزدلفة- وكما هو معلوم يشرع المبيت فيها إلى أن يسفر الصبح جداً، أما ذوو الأعذار فلهم أن ينطلقوا من المشعر الحرام فيتجهوا إلى منى بعد غياب القمر، كما أباح لنا ذلك نبينا محمد عليه الصلاة والسلام إذ قالت أسماء: إن النبي قد أذن للضعفة في ذلك. وينبغي أن ينتبه الحاج إلى هؤلاء المطوفين الذين يسرعون في مرورهم من مزدلفة، فيأتون من عرفات يقفون فقط لالتقاط الجمرات من مزدلفة، ثم ينصرفون رأساً إلى منىً، هذا صنيع فيه ترك لواجب ألا وهو المبيت بمزدلفة، وعلى الأقل إلى غياب القمر، فهذا الذي رخص فيه النبي عليه الصلاة والسلام للضعفة من النساء أو لأصحاب الأعذار من الرجال، فجدير بك أن تنتبه لهذا؛ لأن كثيراً من أهل العلم يوجبون دماً على من لم يفعل هذا، وإن كانت المسألة فيها بعض النزاع. قال الله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} [البقرة:198]، فتذكر نعمة الله عليك بالهداية في هذه الأماكن {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:199]، وفي تأويل الآية: أن القرشيين كانوا إذا حجوا، انطلق الناس إلى عرفات، وبقي القرشيون بمزدلفة ولم يتجاوزوها؛ لأنهم من الحمس -أي: من الأحمسيين- وليس لهم بزعمهم أن يتجاوزوها، قال جبير بن مطعم: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم واقفاً بعرفات، فقلت: ما لهذا يقف هذا الموقف وهو من الحمس؟! وكانت قريش تظن أن النبي صلى الله عليه وسلم سيتجه من منى إلى مزدلفة ولن يتجاوز مزدلفة بحال، فطفقوا يرقبونه، فلما تجاوز النبي صلى الله عليه وسلم مزدلفة متجهاً إلى عرفات تعجبوا من أمره! ولكن ذلك منه صلوات الله وسلامه عليه إمضاء لقول الله تبارك وتعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:199].

الاجتهاد في ذكر الله عند الانتهاء من المناسك

الاجتهاد في ذكر الله عند الانتهاء من المناسك قال الله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة:200] أي: اجتهدوا في ذكر الله كما يذكر أحدكم أباه أو كما يذكر أحدكم نفسه بل أشد من ذلك. قال تعالى: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة:200]، ليس له حظ ونصيب في دعاء الآخرة، فكل تركيزه في الدعاء على أمر الدنيا {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201]، فلك أن تسأل ربك من خيري الدنيا والآخرة، وهذه كانت أكثر دعوة يدعو بها النبي عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:202 - 203]، وهي: أيام التشريق {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [البقرة:203]. فيا معشر الإخوة! عظموا شعائر الله؛ فإن تعظيم شعائر الله من تقوى القلوب قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32].

من تعذر عليه الحج وفي نيته أن يحج

من تعذر عليه الحج وفي نيته أن يحج معشر الإخوة! الحج خير دليل على امتثالنا لأمر ربنا، فكم من تساؤلات تجري في الحج ليس لنا أي إجابة عليها إلا أن نقول: إنا والحمد الله من أهل الإسلام، نتبع ما أمرنا به ربنا، وما أمرنا به نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، قال زنديق: لمَ يذهب ذاهب إلى كعبة يطوف حولها سبعاً، وإلى جمرات فيرجمها بسبع حصيات، وإلى عرفات فيقف في الشمس طويلاً، وإلى مزدلفة فيبيت هناك؟ فنجيب على ذلك كله بأننا والحمد لله من أهل الإسلام، رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً، فما في وسعنا إلا الامتثال لأمر ربنا، فإنا مسلمون ممتثلون لأمر الله، متبعون لسنة رسول الله، سواء علمنا الحكمة من وراء ذلك أم لا، وهذا جوابنا لكل سؤال من أهل زندقة أو من أهل إلحاد أو من أهل نفاق، شعارنا: رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً، اتبعنا ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين. إن العبد يغنم غنائم كبيرة لا تكاد تحصى، وهو لم يقدم كبير عمل إلا أنه تعذر عليه الحج وفي نيته أن يحج، وقد قال رسولنا صلى الله عليه وسلم عن بعض أصحابه وهم في المدينة: (إن بالمدينة لأقواماً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا شاركوكم الأجر) يعني: في الخروج للغزو: (إلا شاركوكم الأجر)، فلك أن تغنم غنائم وأنت في بيتك قد حيل بينك وبين الحج بقلة مال، أو لضعف في بدن، أو لعدم تيسر الحصول على تأشيرة للحج، وأنت في بيتك تغنم غنائم كثيرة لأنك أصلحت نيتك، وسألت الله بصدق تيسير أداء فريضة الحج، وقد قال رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام: (من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه)، وربنا يقول: {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [البقرة:212]، فإذا كانت نيتك صحيحة تريد من قلبك أن تحج أو أن تجاهد في سبيل الله أو أن تتصدق أو أن تصلي وسلكت الأسباب المؤدية لذلك وحيل بينك وبين ذلك؛ فمن فضل الله -إذ هو كريم سبحانه، وعلينا أن نعرف حق المعرفة أنه كريم سبحانه- أن يثيب من كانت هذه نواياه، حتى أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (من خرج من بيته يريد الصلاة) -يعني: أنه لم يقصر في الخروج لكنه خرج يريد الصلاة- (فوجد القوم قد صلوا، كتب له أجر الجماعة)، فجدير بكل مسلم أن يصلح نواياه، والله سبحانه ذو فضل على المؤمنين، وهو ذو الفضل العظيم سبحانه وتعالى يثيب على النوايا كما قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى} [الأنفال:70] الذين حزنوا على ما أعطوه من فداء: {َيا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ} [الأنفال:70] أي: يعوضكم الله مكان هذه الأموال التي دفعتموها {خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ ويَغْفِرْ لَكُمْ} [الأنفال:70]، وكما قال الله تعالى في شأن أصحاب نبيه: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح:18] أي: من الحب للخير ومن الإيمان، {فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [الفتح:18 - 19]، فإذا لم يستطع أحد الحج فجدير به أن يكثر من سؤال ربه التيسير للحج فإن الله يثيبه على ذلك، وييسر له أيضاً، فهذا من فضله ومن كرمه سبحانه وتعالى، فإذا لم يتيسر له هذا السبيل، فليصلح نيته والله يجزيه على ذلك، وعلى العموم من صلحت نواياهم أكرمهم الله من فضله، إن ربي رحيم ودود كريم مجيب سبحانه وتعالى.

زاد الحاج

زاد الحاج قال الله تعالى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197] {وَتَزَوَّدُوا} أمرنا الله في هذه الآية الكريمة بزاد من زاد الدنيا وهو الطعام والشراب، وسبب نزول هذه الآية أن أهل اليمن كانوا يحجون ولا يتزودون ويقولون: نحن المتوكلون، فإذا قدموا مكة والمدينة سألوا الناس، ومدوا أيديهم للناس! فقال الله سبحانه: {وَتَزَوَّدُوا} أي: بالطعام وبالشراب، ثم أرشدنا الله إلى زاد آخر هو أعظم ألا وهو زاد التقوى، فقال تعالى: {فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} أي: تزودوا بالزادين معاً: زاد الحياة الدنيا وهو الطعام والشراب، وزاد الآخرة وهو زاد التقوى، ولهذا نظائر متعددة في كتاب الله، قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا} [الأعراف:26]، وهو الثياب الذي نتزين به، ثم قال تعالى مرشداً إلى لباس آخر هو أهم وأعظم: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف:26]، أي: كما أنكم تكتسون بثياب وزينة من الثياب الظاهرة التي تستر الأبدان، فكذلك فلتكتسوا بلباس التقوى فإن لباس التقوى خير، وكما قال الله سبحانه وتعالى لداود عليه السلام: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ:11] اعمل الدروع التي تستتر بها عن الكفار وعن سهامهم {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} أتقن صنعتك في نسج الدروع، ثم قال الله له: {وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سبأ:11]، فهي إشارات لكل عامل مجتهد في دنياه أن يجتهد كذلك في عمل الآخرة، قال تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة:197] أي: خافوني، وخافوا عقابي، واحذورا عقابي، واحذروا نقمتي، واحذروا بأسي، واحذروا غضبي {يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ}: يا أصحاب العقول! فيا أصحاب العقول! لا تغتروا بعقولكم ولا بكبير أعمالكم إنما اتقوا الله ربكم، واحذروا بأسه، واحذروا غضبه.

البيع والشراء للحاج

البيع والشراء للحاج ثم أباح الله لنا شيئاً فقال سبحانه: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:198]، قال العلماء: رفع الله الإثم عن الشخص الذي يتاجر في الموسم، فلا بأس أن تبيع وأن تشتري وأنت تحج، ولا بأس أن تذهب معتمراً أو حاجاً وتأتي بسلع تتاجر فيها، مبتغياً فضل الله تبارك وتعالى في ذلك، فإن كانت خسارة فلا يدخل عليك الشيطان ويقول لك: إنما خسرت لأنك فعلت محظوراً، بل أنت سلكت أبواب الرزق الحلال، فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إن أطيب الكسب: عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور،) قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} [البقرة:198] أي: ليس عليكم إثم ولا حرج: {أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:198].

حرمة الرفث والفسوق والجدال في الحج

حرمة الرفث والفسوق والجدال في الحج وقوله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} [البقرة:197] أي: من ألزم نفسه بالحج وأوجبه على نفسه فعليه أن يتخلق بأخلاق الحجيج، قال تعالى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197] فالأماكن تختلف من حيث شدة الحرمة فيها، فثَم مكان الذنب فيه أعظم من مكان آخر، وثَم زمان الذنب فيه أعظم من زمان آخر، فالرفث والفسوق والجدال كل ذلك مذموم في الجملة -اللهم إلا بعض أنواع الرفث- لكن حرمة ذلك في الحج آكد فمن تلبس بالحج {فَلا رَفَثَ} والرفث: كل كلام قبيح، وحتى الكلام في هذا الموطن هو من الرفث الممنوع، فلا يتحدث الحاج بشأن النساء خاصة في حضور النساء بما يتعلق بأمور الجماع.

أشهر الحج

أشهر الحج قال الله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197]، وهذه الأشهر هي: شوال وذو القعدة وذو الحجة، لأنه لا يشرع حج بعد انقضاء عرفات وليلة المزدلفة، فمن أهل العلم من يقول: تنتهي بانتهاء اليوم العاشر من ذي الحجة، أو تنتهي بطلوع فجر العاشر من ذي الحجة، فإذا لم يكن أدرك عرفات فلا يشرع لأحد حج إلا من العام المقبل. ومن أهل العلم من قال: أشهر الحج تمتد إلى نهاية يوم الثالث عشر من ذي الحجة؛ لأن أعمال الحج ما زالت باقية فيه، ومنهم من قال: تمتد إلى نهاية ذي الحجة، والله سبحانه أعلم.

حكم ارتكاب محظور من محظورات الإحرام

حكم ارتكاب محظور من محظورات الإحرام قال الله سبحانه: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196]، هنا مقدر محذوف ولا بد {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} أي: من ارتكب محظوراً من محظورات الإحرام كأن حلق شعره -مثلاً- أو غطى رأسه فحينئذ كما قال الله سبحانه: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ} وهو: ثلاثة أيام، {أَوْ صَدَقَةٍ} وهو: إطعام ستة مساكين، {أَوْ نُسُكٍ} وهو: شاة على الأقل، {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196]، الذي يتمتع بعمرته إلى حجه يتحلل بينهما؛ أعني: يعتمر عمرة ثم يتحلل من عمرته ويبقى حلالاً، يلبس ما يشاء، يتطيب كيف يشاء، يأتي أهله كيف يشاء، إلى أن يأتي يوم الثامن من ذي الحجة فيهل بالحج، فهذا الذي يقال له: متمتع، وحكمه من ناحية الدماء أن عليه دماً كما قال ربنا سبحانه: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196] ن فمفاده أن الذي لا يتمتع بالعمرة إلى الحج ليس عليه دم من الأصل، والقارن يلحق بالمتمتع من ناحية الدم، فعلى القارن دم كما أن على المتمتع دماً كذلك. قال تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة:196]، لم ينص على تحديد هذه الأيام ربنا سبحانه في كتابه ولا نبينا عليه الصلاة والسلام في سنته، فمن العلماء من قال: يوم السادس والسابع والثامن من ذي الحجة، ومنهم من قال: الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر وثمَّ أقوال أخر، والأمر في ذلك واسع كما قال كثير من أهل العلم، وقوله تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة:196] من باب التأكيد حتى لا يتسرب إلى الذهن أنها ثلاثة أو سبعة، كما في قوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبوت:48] (بِيَمِينِكَ) والخط إنما يكون باليمين، إنما جيء بذلك للتأكيد، وكما في قوله تعالى: {وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام:38] (بِجَنَاحَيْهِ) والطير لا يطير إلا بجناحيه، قال تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [البقرة:196].

حكم المحصر

حكم المحصر وقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} [البقرة:196] أي: إن منعتم من إتمام الحج والعمرة {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196]، ومحل ذلك إذا لم تشترط، فإذا اشترطت عند إحرامك من الميقات قائلاً: اللهم! محلي حيث حبستني، أي: أتحلل -يا رب- في المكان الذي أمنع فيه، فحينئذ إذا اشترطت هذا عند الحج فليس عليك دم إذا أنت منعت من أداء الحج، أما إذا لم تشترط عند إهلالك بالحج، ومنعك عدو، أو منعت لفقدان جواز سفرك، أو منعت لكسر حل بك، أو منعت لمرض نزل بك، فعليك إذا لم تشترط هدي، وأقله شاة عند كثير من أهل العلم، {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:196] يعني ربنا سبحانه: إذا منعت -أيها الحاج- من إتمام الحج بعلة من العلل، ولم تكن قد اشترطت؛ فاذبح ما استيسر من الهدي -وأقله شاة- قبل أن تتحل من إحرامك، ولكن أين محل هذا الهدي الذي قال الله فيه: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:196]؟ فما فمحل هذا الهدي الذي ينبغي أن يتحلل فيه المحرم؟ مثلاً: إذا أنت خرجت مهلاً بالحج من أي ميقات من المواقيت، من أبيار علي، أو من ذي الحليفة، أو من رابغ التي هي ميقات لأهل مصر، ثم بعد أن تجاوزت الميقات وأهللت منعت لأي عارض؛ حينئذ تذبح هدياً، ولكن أين محل هذا الهدي الذي ينبغي أن يتحلل فيه المحرم؟ يقول فريق من أهل العلم: لابد أن يرسل هذا الهدي إلى مكة ويذبح هنالك، وتبقى في إحرامك حتى يصل هديك إلى مكة، فإذا تيقنت أنه قد ذبح فحينئذ تحل من إحرامك؛ لأن الله يقول: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إلى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:33] هذا قول. لكن جماهير العلماء أنك تتحلل حيث حبست، وتذبح حيث حبست؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام خرج عام الحديبية فصده المشركون عن بيت الله الحرام عند الحديبية، فكان النبي صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه عند الحديبية خارج الحرم، في منطقة يقال لها: الشميسي، فتحلل النبي هناك ونحر هديه هنالك، ولم يكن ذلك داخل الحرم، فهذا هو الذي قوى وجهة نظر الجمهور القائلين بأن الشخص إذا منع من الحج يتحلل حيث منع، ويذبح حيث منع، ويتأكد هذا ويتأيد بأنه لا يستطاع في كثير من الأحيان بالنسبة للذي أحصر أن يرسل هدياً إلى مكة، قد لا يستطاع في كثير من الأحيان ذلك، فليتحلل حيث منع وحيث حبس.

تفسير قوله تعالى: (وأتموا الحج والعمرة لله)

تفسير قوله تعالى: (وأتموا الحج والعمرة لله) يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] أتموا الحج والعمرة لله إذا بدأتم فيهما، فأتموهما ولا تنقضوهما، هذا قول من الأقوال، وهكذا كل عبادة إذا شرعت فيها لا ينبغي لك أن تنقضها وأن تتركها، بل كما قال ربنا: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33]، اللهم إلا إذا جاءت بعض النصوص في بعض المسائل المستثناة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة)، فيرى الكثير من العلماء: أنه يستحب لك أن تخرج من صلاة النافلة وأن تدخل في صلاة الفريضة لهذا الحديث: (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة)، ولقول الله تعالى في الحديث القدسي: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه). وإن كان البعض من أهل العلم يستدلون بالآية الكريمة: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33] على مشروعية الإتمام والتجوز فيه، والأمر في ذلك غريب! لأن هذا من المسائل التي فيها نص، أما التي ليس فيها نص فإذا شرعت في عبادة فلتتم عبادتك، هذا هو الأصوب والأقرب. فمن الأقوال في تأويل قوله سبحانه: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] إذا شرعتم فيهما فأتموهما. وهناك قول آخر: حجوا واعتمروا لله لا لأحد غير الله سبحانه وتعالى، لا تجعلوا مع الله شريكاً في الحج، ولا تبتغوا بذلك رياءً وسمعة عند الناس، فإن من شعائر الحج: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، فلا تستهل الحج بلفظ هو صواب غاية الصواب بقلب بعيد عن هذا اللفظ، قلب رجل مراء -والعياذ بالله تعالى-، فقوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] أي: لا تشركوا مع الله أحداً في تلبيتكم لله سبحانه، وكما لا يخفى عليكم أن أهل الشرك كانوا يقولون: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، ثم يقولون: إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك، وكان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إذا قال أهل الشرك: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، يوقفهم صلوات الله وسلامه عليه عند هذا القدر، ولكنهم يأبون عليه، ويستمرون في جعل الشريك لله سبحانه وتعالى. {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] وثمة أقوال أخر، منها: أن تحرم من دويرة أهلك، وقيل غير ذلك، وهذا ليس محلها.

الأضحية حكمها وشروطها

الأضحية حكمها وشروطها معشر الإخوة ينبغي لمن كان منا موسراً أن يضحي، فالأضحية سنة سنها لنا نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، وقد قال ربنا في كتابه الكريم: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2] أي: وانحر لربك، وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163]. الأضحية قربة يتقرب بها العبد إلى الله، فلو اشتريت بألف جنيه لحماً، واشتريت شاة بمائتي جنيه، فإنك تثاب على ذبح الشاة أكثر من ثوابك على شراء اللحم، فالذبح في نفسه نسك وقربة وعبادة يتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى، دلت على ذلك الآيات والأحاديث، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لعن الله من ذبح لغير الله)، فالذبح نفسه عبادة، فالأضحية سنة مستحبة عن رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام، ولقد (ضحى النبي عليه الصلاة والسلام بكبشين أملحين أقرنين سمينين). للأضحية شروط كما لا يخفى عليكم، فلا يضحى إجمالاً بذوات العيوب، ولا يضحى إجمالاً إلا بالمسنة، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تذبحوا إلا المسنة إلا أن يعسر عليكم فلتذبحوا الجذعة من الضأن) والمسنة: هي الثني من كل شيء، فالثني من المعز من له سنة تامة ودخل في الثانية، والثني من البقر ما له سنتان ودخل في الثالثة، والثني من الإبل ما له خمس سنوات ودخل في السادسة، لا يجزئ إلا ذلك، يعني: لا يصح أن تذبح من الماعز ما عمره أقل من سنة، ولا من البقر ما عمره أقل من عامين، ولا من الإبل ما عمره أقل من خمس سنوات، فإن فعلت فهو لحم وليس من النسك (إلا أن يعسر عليكم فلتذبحوا الجذعة من الضأن)، ومن أهل العلم من قال: جذعة الضأن عمرها سنة، ومنهم من قال: جذعة الضأن ستة أشهر والأمر في تحديدها قريب، فلتستعدوا بذلك، وإن لم يكن هذا بواجب، فالنبي عليه الصلاة والسلام (ضحى عمن لم يضح من أمته) ولكنها سنة مستحبة، سنة لخليل الله إبراهيم وسنة لنبي الله محمد خاتم النبيين عليه أفضل صلاة وأتم تسليم. فمن وجد سعة فليضح، والله سبحانه وتعالى يثيبه على هذه الأضحية، فلا تكن مريضة بين مرضها، ولا عرجاء بين عرجها، ولا عوراء بين عورها، ولا تكن من ذوات العيوب الظاهرة الواضحة، ولا تكن هزيلة كذلك، فإن سلفنا الصالح -أهل الفضل والصلاح- كانوا عند تقربهم لله ينتقون أفضل وأجل وأعظم قربة يتقربون بها إلى الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة:267]، يا من بخلتم! ويا من عمدتم إلى الرديء فأخرجتموه وذبحتموه! اعلموا أن الله غني حميد، غني عنكم وعن قرباتكم، والأمر كما قال تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:37]، فجدير بكم أن تستعدوا بأضحية إن كان ربنا قد وسع عليكم، فلا تبخلوا عن أنفسكم، والأضحية تجزئ عن أهل البيت الواحد.

حكم اجتماع جنازة مسلم وكافر في آن واحد

حكم اجتماع جنازة مسلم وكافر في آن واحد معشر الإخوة! نبين بعض المسائل الفقهية التي عرضت لنا وهي مسألة اجتماع أكثر من جنازة؛ أحد هؤلاء الأشخاص كان متمسكاً بدينه، والآخر كان مسرفاً على نفسه بالذنوب والمعاصي أو كان تاركاً للصلاة أو كان مشركاً من المشركين، إذا اجتمعت جنازة -على سبيل المثال- ميت ساحر وميت آخر مسلم وصالح فما العمل؟ رأى فريق من أهل العلم ترك الصلاة على الساحر لكفره، واستدل العلماء على كفر الساحر بقوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102]، قال تعالى: {يعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102]، فمن العلماء من يستدل على كفر الساحر بهذه الآية الكريمة، فإذا كان الميت ساحراً واجتمعت جنازته مع جنازة مسلم فما العمل؟ ابتداءً ينبغي أن ينصح أهل الميت الصالح بألا يجمعوا الجنازة مع هذا الساحر، بل تميز جنازة أهل الفضل وأهل الصلاح عن جنازة السحرة والكفار، بل هو واجب إذا استيقنت من سحره ومن كفره أن تميز جنازة أهل الفضل فيصلى عليها، وأما الساحر فلا يصلى عليه أصلاً، لا يصلى على الكافر لقوله تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة:84] فلا يصلى على أهل النفاق، ولا على أهل الكفر، ويلحق بهم السحرة فلا يصلى عليهم، لكن قدر وأتي بجنازة فيها ميت ساحر مع ميت ليس بساحر فهل نترك الصلاة عليهما معاً لوجود الساحر أم ماذا نصنع؟ فمن أهل العلم من يجوز الصلاة ويقول: إن النبي عليه الصلاة والسلام مر على مقبرة مشركون، ويهود، وأهل نفاق، وفيهم مسلمون، فسلم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم جميعاً، وقد نهينا عن ابتداء اليهود بالسلام؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام)، فمن العلماء من قال: صل وادع للمسلم ولا تدع للكفار، هذا وجه قوي، وحق المسلم لا يسقط، وإن امتنع أهل الفضل عن الصلاة، ليس لأن الصلاة على المسلم حرام آنذاك، ولكن امتنعوا عن الصلاة زجراً لكل ساحر ومشعوذ، فحينئذ قد سلك نبينا محمد مسلك الزجر في جملة من المواطن، وترك الصلاة على أقوام أحياناً مع أنهم من أهل الإسلام حتى ينزجر غيرهم، فكان عليه الصلاة والسلام إذا أتي بجنازة ليصلي عليها سأل: (هل عليه دين؟) إن قالوا: لا، صلى عليه، وإن قالوا: عليه دين، سأل: (هل ترك لدينه وفاء؟) فإن قالوا: نعم، صلى الله النبي عليه الصلاة والسلام، وإن قالوا: لا، لم يصل عليه النبي عليه الصلاة والسلام، فعل ذلك إلى أن أغناه الله فقال: (أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم من ترك كلاً أو ضياعاً فعلي، ومن ترك مالاً فلورثته)، هكذا قال عليه الصلاة والسلام. فالشاهد أن المدين مسلم ومع ذلك كان عليه الصلاة والسلام يترك الصلاة عليه قبل أن يوسع الله سبحانه على نبيه محمد عليه الصلاة والسلام، وهذا للترهيب من الدين، ومن أكل أموال الناس، ومن المماطلة في سداد الديون، فإن ترك أهل الفضل الصلاة عليهما معاً من أجل أن ينزجر القوم، ولا يجعلوا ميتهم يصلى عليه مع هذا الماجن وهذا الساحر، فحينئذ هذا وجه سديد سلكه بعض العلماء، والزجر بالهجر وارد، والأدلة عليه كثيرة متعددة كما لا يخفى عليكم، هذا ما أردنا أن نلفت النظر إليه.

حكم قضاء دين الميت

حكم قضاء دين الميت هنا أيضاً في هذه البلدة -جزى الله أهلها خيراً- يقف واقف عند القبر ويقول: من له دين على الميت فقد أحيل الدين على فلان، فأخوه فلان متكفل به، جزاه الله خيراً على هذا القول، لكن تبين أن كثيراً من هؤلاء يكذبون، يقولون هذا عند القبر، وبعد أن ينصرفوا من القبر يأتي أصحاب الديون يطالبونهم فإذا بهم يماطلون، أول يوم تأخذهم الشفقة على الميت، ثم يئول بهم الأمر إلى الترك، فنقول: إن هذا الصنيع الآن جرى من طرف واحد ولابد أن يرضى الذي أحيل دينه على هذا، وإلا فالذمم ما زالت متعلقة، أعني: إن ذمة الميت لا تبرأ إلا إذا وافق صاحب الدين على الإحالة، قال النبي عليه الصلاة والسلام (من أحيل على مليء فليتبع)، لكن إذا مات شخص وهو مدين ومثقل بالديون، فجاء أخوه وقال: من له دين فهو عليّ فهل بهذا تبرأ الذمة؟ هب أنه وجد أن الديون كثيرة؛ يعني قال: من له دين فعليّ، وكان يظن أن الذي عليه فقط ألف جنيه وبوسعه أن يتحملها، فإذا به يفاجأ أن الديون مائة ألف، فهل نقول: عليك المائة ألف كاملة؟ {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، وتبقى ذمة الميت محملة بالدين، صحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام أجاز لما قال أبو قتادة: علي دينه يا رسول الله! قال النبي عليه الصلاة والسلام: (انطلقوا فصلوا على صاحبكم)، فقال أبو قتادة: عليّ دينه يا رسول الله! ولم يستفصل الرسول عليه الصلاة والسلام عن قدر الدين كم هو، هذا محله أن يكون في حيز المستطاع، وأن يكون القائل: علي دينه رجل من الأمناء، أما إذا كانت أموال الناس ستضيع فكم من شخص مسرف على نفسه قال: عليّ دين الميت، فذهب الناس يطالبونه بعد أسبوع من موت الميت، فإذا به يسبهم وإذا به يشتمهم، فحينئذ إذا أقر صاحب الدين بالحوالة أي بأنه قبل بأن يتحول دينه على فلان حينئذ تبرأ ذمة الميت، تبرأ ساحة الميت، فينبغي أن يذهب إلى أصحاب الديون! ويقال: يا أصحاب الديون أنتم رضيتم أن يحال الذي لكم على فلان من الناس إن قالوا: قبلنا، برأت ساحة الميت، وسقطت عنه كل الديون، وتحولت إلى الذي تحمل هذه الحمالات، وإن لم يرضوا بذلك لفجور أو للمماطلة في الذي أحيل عليه أو لفقر الذي أحيل عليه حينئذ ذمة الميت ما زالت متعلقة بالدين، وتؤخذ الديون من أصل الميراث الذي تركه هذا الميت. هذا ما أردنا أن نبينه، وإن كان في المسألة خلاف، لكن هذا الذي ظهر والله سبحانه أعلم بالصواب، وأعلم بتأويل كتابه، وأعلم بسنة نبيه محمد عليه الصلاة والسلام، فإن أصبنا فمن الله، وإن أخطأنا فمن أنفسنا ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان مما نقول من خطأ، ونسأل الله أن يلهمنا وإياكم الصواب في القول والعمل. اللهم! أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، واجعلنا للمتقين إماماً. اللهم! ألف بين قلوب عبادك المؤمنين، وخذ بأيديهم إلى النصر والتمكين يا رب العالمين! يا مجيب السائلين! وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

أحكام الصيام [1]

أحكام الصيام [1] لقد شرع الله الصيام لحكم عظيمة، ومن أعظم هذه الحكم امتثال أمر الله سبحانه وتعالى. وللصيام فوائد كثيرة منها: التضييق على الشيطان بالجوع؛ لأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، والصوم يضيق مجاري الدم. ومن الفوائد المترتبة على الصوم أيضاً: إحصان الفرج وغض البصر؛ والإحساس بما يعانيه فقراء المسلمين من الجوع، فيكون ذلك سبباً في سخاء النفس عند البذل لهم.

تفسير آيات الصيام وبيان الأحكام المتعلقة بها

تفسير آيات الصيام وبيان الأحكام المتعلقة بها باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فنتكلم عن تفسير آيات الصيام وما يتعلق بها من أحكام: يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]. قوله تعالى: (كُتب)، أي: فرض، وإن كانت الكتابة أحياناً تأتي بمعانٍ أخر، فتأتي أحياناً الكتابة بمعنى: التقدير، كما قال تعالى: {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [البقرة:187] أي: ما قدره الله لكم، لكن قوله: (كُتب) في هذا الموضع، معناه: فرض وأوجب.

التوجيه الصحيح لقوله: (وأن تصوموا خير لكم)

التوجيه الصحيح لقوله: (وأن تصوموا خير لكم) قال تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:184]، أن: هنا مصدرية، فالمعنى: وصيامكم خيرٌ لكم، فهنا ينبغي أن تفهم: خير لكم من ماذا؟ لأن البعض يحملها على أنها خيرٌ لكم من الإفطار في السفر، أو خيرٌ لكم من الإفطار في المرض، وهذا محملٌ ضعيف، إنما قوله تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} أي: خير لكم من الفطر والإطعام. قد كان الأمر أول فرض الصيام: إما أن تصوم وإما أن تفطر وتطعم، سواء كنت مسافراً أو مريضاً أو لم تكن، كان للجميع هذا الترخيص. فقوله: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}، فيه دليل على أن أعمال البر تتفاضل، وهناك فاضل، وهناك ما هو أفضل من هذا الفاضل، وهناك مفضول.

المراد بقوله تعالى: (فمن تطوع خيرا)

المراد بقوله تعالى: (فمن تطوع خيراً) قوله تعالى: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا} [البقرة:184]، قال العلماء، المراد بتطوع الخير هنا: أطعم مسكينين أو ثلاثة بدلاً من المسكين الواحد، وهذا قول له وجاهته، وقد تقدم معنا كثيراً في عدة مسائل من مسائل الفقه. فإذا جاءنا شخص وقال: ولد لي ولد وأريد أن أذبح عنه شاتين كما حثنا رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام، كما في الحديث: (أمرهم أن يعق عن الغلام شاتان مكافئتان، وعن الجارية شاة)، فيقول: أريد أن أذبح عجلاً مكان الشاتين، هل هذا يجزئ؟ فنقول: من باب الأقيسة القوية: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل البقرة أو البدنة تقوم مقام سبعة في الحج، والحج أعظم من العقيقة، فمن ثم يجوز لك على هذا القياس أن تذبح عجلاً، وأجرك أعظم، والله تعالى أعلم.

معنى قوله تعالى: (وعلى الذين يطيقونه فدية)

معنى قوله تعالى: (وعلى الذين يطيقونه فدية) قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} [البقرة:184]، أيضاً يقدر أنهم أفطروا، والفدية طعام مسكين، {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:184]. ذهب جمهور أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى تأويل الآية على النحو التالي: قالوا ما حاصله: إن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في أول أمر الصيام لم يكونوا قد تدربوا على الصيام، فلما أُمِروا به رحمةً من الله سبحانه بهم، كانوا بالخيار: إما أن يصوموا، وإما أن يفطروا ويطعموا مكان كل يوم مسكيناً، فكان في أول أمر الصيام، لك أن تصوم، ولك أن تفطر وتطعم مكان كل يوم مسكيناً، وهذا رأي جمهور أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم باستثناء عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما، قالوا: ثم نسخ هذا التخيير بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185]. فقوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} إن هم أفطروا ألا وهي {طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:184]، وتقدير طعام مسكين تقدير عرفي كذلك. صحيح أنه ورد عن بعض السلف الصالح رحمهم الله، التقدير: بمد من شعير أو مد من أقط أو مد من حنطة، لكن كان هذا هو الذي في زمانهم، وليس فيه خبرٌ ثابت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، فإذا كنت من بلدة أهلها يأكلون اللحم فلتطعم المسكين لحماً، إذا كنت من بلدة أهلها يأكلون الفول فلتطعم المسكين من الذي تأكل منه، أي: من الذي يأكل منه عموم الناس، وهي وجبة واحدة.

ما يجب على من أخر القضاء إلى رمضان آخر

ما يجب على من أخر القضاء إلى رمضان آخر قوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184]، يؤخذ منه بعض الفقه، فالله سبحانه وتعالى لم يحدد متى هذه الأيام الأخر، فمن ثمّ يجاب على التساؤل الذي يصدر كثيراً من النساء: امرأةٌ كان عليها أيام من رمضان السابق، فدخل عليها رمضان هذا وهي لم تقض تلك الأيام، فماذا عليها؟ فيرى البعض أن عليها أن تصوم فيما بعد، وأن تطعم عن كل يوم مسكيناً، والإلزام بالإطعام ليس له دليل؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184]، ولم يحدد متى هذه الأيام الأخر، فالقول بإلزامها بإطعام مع الصيام إذا دخل عليها رمضان، ولم تكن قد صامت الأيام السابقة قولٌ لا دليل عليه، وإن أورد شخصٌ علينا أثر أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها الذي فيه: كان يكون عليّ الصيام من رمضان، فلا أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان للشغل برسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا الأثر ثابت عن عائشة رضي الله عنها، إلا أن القول بالشغل برسول الله صلى الله عليه وسلم ليس من قول عائشة، إنما هو من قول يحيى بن سعيد القطان أدخله على كلام عائشة رضي الله عنها. فعلى كلٍ ليس في هذا الأثر إلزام بالإطعام، إنما فيه استحباب المبادرة إلى القضاء قبل أن يأتي رمضان آخر، وهذا الصنيع صحيح، ألا وهو استحباب القضاء قبل أن يأتي رمضان آخر، حتى لا تتراكم على الشخص الديون، فالله يقول: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148]، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: (دين الله أحق أن يقضى). وقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184]، لم يذكر أنها على التوالي، فعلى ذلك فمن أفطر أياماً فإن له أن يُجزِّئْ قضاء هذه الأيام ولا يلزمه التتابع في قضاء ما فاته من أيام قد أفطرها في رمضان.

وجه التشبيه بين صيامنا وصيام من قبلنا

وجه التشبيه بين صيامنا وصيام من قبلنا قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:183] هنا تشبيه، هل التشبيه ينسحب على أصل الفرضية؟ أعني: هل الصيام فرض عليكم كما كان مفروضاً على من كان قبلكم؟ أم أن التشبيه يقصد الصفة، أي: كتب عليكم رمضان بصفة الصيام فيه، غير الامتناع عن الطعام والشراب، كما كان على من كان قبلكم رمضان أم أن الصيام مفروضٌ عليكم كما كان مفروضاً على من كان قبلكم، مع اختلاف في صفة الصيام التي كان عليها الأمم من قبلنا؟ الذي يظهر والله أعلم: أن المشابهة إنما هي في أصل الفرض، فكما أن الصيام فرض على من كان قبلكم، فقد فرض عليكم، لكن هل الصفة هي الصفة؟ لا أعلم شيئاً صريحاً في هذا صراحة تامة، اللهم إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أحب الصيام إلى الله صيام داود، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً)، وكذلك لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وجد اليهود يصومون عاشوراء، فسأل عن سبب ذلك؟ فقالوا: هذا يومٌ أنجى الله فيه موسى من الغرق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (نحن أحق بموسى منهم، فصامه النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه)، فهذا يقرب من قول القائل: بأن صفة صيام من كان قبلنا كصفة صيامنا، والله تعالى أعلم.

الحكمة من الصيام هي التقوى

الحكمة من الصيام هي التقوى قوله تعالى: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]، أي: لعل التقوى تحدث لكم، وهذه هي حكمة الصيام، وكيف تحدث التقوى بالصيام؟ أورد العلماء ثلاثة أمور بها تحدث التقوى: الأمر الأول: قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)، فكلما كان جريان الدم سريعاً كلما كان حركة الشيطان أسرع وأوسع، فمن ثم إذا أكلت كثيراً تحرك فيك الشيطان كثيراً، ولذلك ذكر العلماء في أبواب الحروز من الشيطان ترك الفضول في كل شيء، فالفضول في الطعام يحرك الشيطان تحريكاً أقوى، ويحرك الشهوة كذلك، ومن ثم ورد في بعض الأخبار: (فضيقوا عليه مجاريه بالجوع)، فالجوع يقلل عمل الشيطان لتقليله لجريان الدم، هذا شيء. الأمر الثاني: أن الصيام على وجه الخصوص أقوى عبادة تقوي مراقبة العبد لربه سبحانه وتعالى، فالمراقبة لله سبحانه في الصيام أكثر منها في غير الصيام. الأمر الثالث: أن هذا الصيام يشعرك بأحوال الضعفاء والمساكين، وذلك إذا جُعت أحسست بجوع الجائعين وعطش العطشى، فيحملك هذا على تقوى الله وإعطاء هؤلاء، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاءً).

المراد من قوله تعالى: (أياما معدودات)

المراد من قوله تعالى: (أياماً معدودات) قوله تعالى: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:184]، المراد بها: قليلات محصورات، يأتي عليها العد، ويؤيده قوله تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} [يوسف:20]، فالمراد بالدراهم المعدودة: الدراهم القليلة، وكذلك يؤيد هذا المعنى قول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يسرد الحديث كسردكم، إنما يتكلم كلمات لو عدها العاد لأحصاها). فالمراد بقوله تعالى: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} أي: أياما قليلات يأتي عليها العد ويأتي عليها الحصر.

حد المرض والسفر الذي يباح بهما الفطر للصائم

حد المرض والسفر الذي يباح بهما الفطر للصائم قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184]، ما هو حد المرض الذي به يباح للصائم أن يفطر؟ حد هذا المرض عرفي، يرجع فيه إلى الأعراف، بلا إفراط ولا تفريط، فالذي يقول: إن من أصابه وجعٌ في ضرسه أو أصابته سعلة أو أصابه بعض الزكام أو بعض الصداع في الرأس يجوز له الفطر مطلقاً، قوله: مجازف وبعيد عن الصواب، وكذلك الذي قال: لا ينبغي أن تفطر إلا إذا أشرفت على الهلكة والموت، كذلك قولٌ بعيد عن الصواب، وكما قال العلماء: وكلا طرفي الأمور ذميم. وإنما المرض الذي يفطر معه الصائم حده عرفي، كأن يقول الناس: إن فلاناً مريض فمن ثم يستحق أن يعاد، فصومه يزيده مرضاً إلى مرضه أو لا يتحمل، فهذا هو حد المرض الذي به يباح للصائم أن يفطر. إذا كان مريضاً مرضاً مزمناً لا يرجى برؤه فماذا عليه؟ الذي عليه عدة من أيام أخر وهو لا يطيقها، فماذا يصنع؟ ليس هناك دليل ملزم من كتاب الله ولا من سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام يلزمه بكفارة ما من الكفارات، إنما قول من قال: عليه أن يطعم مكان كل يوم مسكيناً، إنما هو اجتهاد لبعض الصحابة، وسيأتي مزيد تفصيل فيه إن شاء الله. قوله تعالى: {أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184]، هل قوله: {أَوْ عَلَى سَفَرٍ} يعطي مدلولاً ما في التفريق بين المسافر الذي جدّ به المسير والمسافر النازل الحال؟ المسافر على حالتين: مثلاً: أنت مسافر إلى مكة، سيقال عنك: جد بك المسير، هذه الحالة الأولى. أما الحالة الثانية: إذا نزلت مكة ووضعت رحلك، فإنك لم تعد فيمن جد بهم المسير، بل إذا وصلت إلى مكة وبقيت فيها أياماً هل لك أن تفطر أثناء إقامتك بمكة أم أن كلمة: {أَوْ عَلَى سَفَرٍ}، تعني: المسافر الذي جدّ به المسير وقطع جزءاً من اليوم في السفر؟ كأن الأخير هو الأظهر، والله تعالى أعلم. قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [البقرة:184]، هنا مقدرٌ لابد منه، فالمقدر هو: فأفطر، فالمعنى: فمن كان مريضاً أو على سفر فأفطر فعدة من أيام أخر، أما من كان منكم مريضاً أو على سفر فصام فلا يلزم بإعادة، فلا بد من التقدير هنا كما هو رأي الجمهور. أما أهل الظاهر فقالوا: لا تقدير، وبعضهم لهم مقالات يتعجب منها حيث قالوا: من كان مريضاً أو على سفر، وصام في سفره وفي مرضه فإن عليه عدة من أيام آخر، وهذا غريب! لأن النبي عليه الصلاة والسلام صام في السفر وما أعاد الأيام التي صامها، ولا أمر أحداً من أصحابه صام أن يعيد هذه الأيام، فعلى هذا ترد التقديرات في كتاب الله، وهذا كالتقدير الوارد في قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196]، فهنا تقدير أيضاً: فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه فارتكب محظوراً ففدية من صيام أو صدقة أو نسك، أما من كان مريضاً أو به أذى من رأسه ولم يرتكب محظوراً، فلا يلزم بفدية. قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184]، هنا سؤال يطرح نفسه: هل الصوم في السفر أفضل أم الإفطار؟ هذه المسألة تنازع فيها سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وعروة بن الزبير رضي الله عنهما، وذلك في مجلس أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز يوم أن كان أميراً على مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال سالم: أما أنا فلا أصوم في السفر، أخذته عن أبي، يعني: عن عبد الله بن عمر، وقال عروة: أما أنا فأصوم في السفر، أخذته عن خالتي، يعني: عائشة رضي الله تعالى عنها، فارتفعت أصواتهما عند عمر بن عبد العزيز، فقال لهما: إن كان يسرٌ فصوموا، وإن كان عسرٌ فأفطروا. وبنحو ذلك قال ابن عباس: عسر ويسر فخذ بيسر الله سبحانه وتعالى، واختاروا لأنفسكم ما اختاره الله لكم، فإن الله قال: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185]. والأدلة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد شهدت لهذا المعنى، ففي معرض الصوم في السفر ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم سافر مع أصحابه في يومٍ شديد الحر، قال أبو الدرداء: (حتى إن أحدهم ليضع يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة)، فهذا في معرض تجويز الصوم في السفر. وكذلك جاء حمزة بن عمرو الأسلمي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! إني رجلٌ أسرد الصوم، أفأصوم في السفر؟ قال: إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر)، وكذلك قال فريق من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: (سافرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فمنا الصائم ومنا المفطر، فلم يعب المفطر على الصائم، ولم يعب الصائم على المفطر)، أما في معرض الفطر في السفر: (فإن النبي صلى الله عليه وسلم مر على رجل من الصحابة أغمي عليه وقد ظلل عليه وكان مسافراً، وقد اجتمع حوله الناس فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا مسافر وهو صائم يا رسول الله! فقال عليه الصلاة والسلام: ليس من البر الصيام في السفر). وكان النبي في بعض المغازي، وذهب المفطرون يخدمون إخوانهم الصائمين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ذهب المفطرون اليوم بالأجر)، وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الغزوات فقال لأصحابه: (إنكم مصبحو العدو غداً والفطر أقوى لكم)، فحثهم النبي صلى الله عليه وسلم على الفطر، فهذا كله يؤكد ما ذهب إليه الجمهور: من جواز الصوم في السفر، وجواز الإفطار، ولكن من شق عليه الصوم فليفطر، ومن أطاق الصيام صام، ومن أفطر قضى بصفة عامة، والله تعالى أعلم.

تعريف الصيام لغة وشرعا وبيان المسائل المتعلقة به

تعريف الصيام لغة وشرعاً وبيان المسائل المتعلقة به والصيام وهو: الامتناع، هذا هو التعريف اللغوي للصيام، ومنه قوله تعالى لمريم عليها السلام: {فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} [مريم:26] أي: صمتاً عن الكلام. أما الصيام من الناحية الشرعية: هو الامتناع عن الطعام والشراب والجماع من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، ويكون ذلك مصحوباً بالنية أي: نية الصيام. ومن هذا التعريف تخرّج جملة من المسائل، أعني: من تعريف الصيام الذي هو: الامتناع عن الطعام والشراب والشهوة من طلوع الفجر إلى غروب الشمس مع النية، تخرّج جملة من المسائل: ابتداءً يشهد لهذا التعريف قول الله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي في شأن الصائم: (يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي). أما بالنسبة لوقته: فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187]. أما بالنسبة للنية: فلقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات). فتخرج من تعريف الصيام جملة من المسائل، فبالنسبة للطعام ترد جملة من المسائل النازلة منها: مسألة الْحُقن مثلاً، فهل الحقن طعام أو شراب يفطر به الصائم أم أنها ليست بطعام وليست بشراب؟ فلقائل أن يقول: إنها ليست بطعام يستطعم ولا بشراب يستشرب كذلك، ثم هي ليست بشهوة يقيناً، فيكون على هذا الرأي أن الحقن برمتها لا يفطر بها الصائم. ولقائل آخر أن يفصل بين الحقن التي تقوم مقام الطعام، والتي هي للدواء فقط، فالتي تقوم مقام الطعام مفطرة، والتي لا تقوم مقام الطعام ليست بمفطرة، ولكن يرد عليه أن الحقن المغذية، ليست بطعام يطعم، فعلى ذلك الذي يبدو أن القول الصحيح هو قول من قال: إن الحقن برمتها لا تفطر. ترد مسألة السواك: السواك يشرع للصائم لأمور ثلاث: الأمر الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة)، ولم يفرق النبي صلى الله عليه وسلم بين صائم وبين مفطر، فلهذا العموم يشرع السواك. الأمر الثاني: حديث نص في الموضوع وإن كان في إسناده كلام، وهو ما قاله بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:: (رأينا النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يحصى يستاك وهو صائم). الأمر الثالث: أن السواك ليس بطعام وليس بشراب وليس بشهوة، فعلى ذلك فالسواك لا يفطر، ثم يلحق به معجون الأسنان مثلاً، فمعجون الأسنان ما لم يصل إلى الجوف فهو جائز مع الكراهة؛ أما الكراهة فلأنه يتبعه كثير من أعمال المضمضة، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (وبالغ في المضمضة والاستنشاق إلا أن تكون صائماً)، فهذه بعض الملحقات التي تلحق بالطعام. مسألة الطيب: الطيب كان موجوداً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان البخور موجوداً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يرد أن أحداً أفطر بسبب تطيبه أو بسبب استعماله للبخور، ولم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن من استعمل الطيب أو البخور فإنه يفطر. فعلى ذلك: لا بأس بالطيب والبخور للصائم، والمانع يلزمه الدليل. مسألة التبرع بالدم: إخراج شيء من الدم من الجسم، هذا في الأصل ينبني على حكم الحجامة. فالحجامة ورد فيها قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أفطر الحاجم والمحجوم)، إلا أن كثيراً من أهل العلم يذهبون إلى أن هذا الحديث منسوخ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: (احتجم وهو صائم)، واحتجامه وهو صائم، كان بعد قوله: (أفطر الحاجم والمحجوم)، فلذلك كما قال فريق من أهل العلم: إن الإفطار مما دخل وليس مما خرج، فعليه فإن إخراج الدم من الجسم بوسيلة ما من الوسائل لا يفطر الصائم، اللهم إلا دم الحيض على ما سيأتي بيانه إن شاء الله. مسألة القطرة: لقائل أن يقول: إنها ليست بطعام وليست بشراب وليست بشهوة، وكذلك الدواء الذي يصب في الأذن يأخذ نفس الحكم من ناحية أنه لا يفطر الصائم. فتعريف الصيام هو: ترك الطعام والشراب والشهوة، ما المراد بالشهوة؟ بالاتفاق يدخل الجماع في الشهوة، سواء صاحبه قضاء الوطر أم لم يصاحبه ذلك، أما إذا لم يحدث جماع وحدث إنزالٌ بوسيلة ما من الوسائل، كالاستمناء الذي يفعله شرار الشباب والفساق منهم، وتفعله شرار الفتيات اللواتي لا يراقبن الله، ولا يراعين حرمة الله سبحانه وتعالى، ولا يراقبن ملائكة الرحمان الكرام الكاتبين، فهل الاستمناء الذي يفعله هؤلاء الشريرون يفسد الصيام أو لا يفسد الصيام؟ يرى جمهور أهل العلم: أن إخراج المني بوسيلة ما من الوسائل عن عمد يفطر الصائم؛ وذلك لقول: النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى في شأن الصائم: (يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي)، وهذا المستمني لم يدع شهوته بل قضاها، وهذا رأي جمهور العلماء. ومن أهل العلم من قال: إن المراد بالشهوة في قوله تعالى: (وشهوته من أجلي): شهوة الجماع، وهم قلة من العلماء، أعني: الذين قالوا: الاستمناء لا يفطر الصائم، وحملوا الشهوة في الحديث على شهوة الجماع فقط. مسألة: إذا أصبح الرجل جنباً من جماع غير احتلام فعليه أن يتم صومه اغتسل قبل الفجر أم لم يغتسل؛ وذلك لحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصبح جنباً من غير احتلام ويتم صومه صلى الله عليه وسلم). كذلك إذا نام شخصٌ بالنهار وقدر عليه أنه احتلم فلا يفسد صومه، وعليه أن يتم صومه كأن شيئاً لم يكن. مسألة المذي: المذي لا يفطر على الصحيح من الأقوال، والذي يُمذي لا يكون قد قضى شهوته بل ما زالت باقية فيه. فهذا كله يخرج من تعريف الصيام: ترك الطعام والشراب والشهوة من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، ويكون ذلك مصحوباً بالنية كما تقدم.

أحكام الصيام [2]

أحكام الصيام [2] لقد فضل الله شهر رمضان بأن أنزل فيه القرآن، وجعل فيه ليلة هي خير من ألف شهر، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من قام ليله وصام نهاره إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه. فالواجب على كل مسلم أن يستغل شهر رمضان بكثرة تلاوة القرآن ومدارسته، وكثرة الصلاة والذكر والاستغفار والدعاء، والتزود فيه من الأعمال الصالحة، فهو بمثابة المحطة التي نتزود منها لسفر معادنا إلى ربنا سبحانه.

معنى نزول القرآن في شهر رمضان

معنى نزول القرآن في شهر رمضان الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: يقول الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185]، شهر رمضان أنزل فيه القرآن أول ما أنزل، وإلا فالقرآن نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم على مدار ثلاث وعشرين سنة، فهذا قول، وقيل: أنزل جملةً من السماء السابعة إلى سماء الدنيا كما قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1]، وكما قال: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ} [الدخان:3]، فهذا الشهر هو شهر نزول القرآن فينبغي أن تكثر فيه من تلاوة القرآن، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كان جبريل يعارضني بالقرآن في كل عام مرة في رمضان ثم عارضني في هذا العام مرتين، وما أرى ذلك إلا لحضور أجلي)، فيستحب لك أن تكثر من قراءة القرآن الكريم في هذا الشهر، إذ هو شهر القرآن، ولذلك كان بعض أهل العلم يغلقون كتبهم ويقبلون على كتاب الله، لمدارسة كتاب الله، وتلاوة كتاب الله سبحانه وتعالى.

حكم الزيادة على إحدى عشرة ركعة

حكم الزيادة على إحدى عشرة ركعة وهل للمصلي أن يزيد عن إحدى عشرة ركعة أو لا يزيد؟ سنجيب بإيجاز واختصار: له أن يزيد، أما ما ورد عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (ما زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان ولا في غيره عن إحدى عشرة ركعة)، فمتعقب من وجوه: أولاً: هذا الخبر ثابت عن أم المؤمنين عائشة، لكن ينبغي إذا درسنا مسألة من مسائل الفقه أن نأخذ بجميع الأدلة التي وردت فيها، لا نأخذ بحديث واحد، وإلا فالخوارج ضلوا ضلالاً بعيداً، بسبب أنهم أخذوا ببعض الأدلة وتركوا البعض، فهم جاءوا إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة قاطع)، وقالوا: إن قاطع الرحم يخلد في النار، وفي المقابل ضلت المرجئة ضلالاً بعيداً، بسبب أنهم أخذوا بحديث: (من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة)، وقالوا: إيمانه على إيمان جبرائيل وميكائيل مهما عمل من المعاصي، وتركوا آيات الربا وآيات القتل، وسائر الآيات التي وردت في مرتكبي الكبائر والصغائر. إذاً: علينا أن نعمل بجميع الأدلة، فحديث عائشة رضي الله عنها: (ما زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إحدى عشرة ركعة). ثانياً: قد ورد من حديث أم المؤمنين عائشة أيضاً وأخرجه البخاري عنها في الصحيح: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في الليل ثلاث عشرة ركعة)، فقال بعض أهل العلم: إن الركعتين الزائدتين تحمل إما على سنة العشاء أو على نافلة الفجر، وهذا القول مدفوع؛ لأن قولها: كان، يفيد المداومة، ثم أيضاً قد ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قام من الليل، فصلى ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم أوتر)، فكان ذلك ثلاث عشرة ركعة. وورد نحوه من حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والمثبت مقدم على النافي. ثالثاً: أن حديث عائشة رضي الله عنها فيه وصف لصلاة رسول الله عليه الصلاة والسلام، قالت: (كان يصلي أربعاً لا تسأل عن حسنهن وطولهن -أي: أربعاً طويلة- ثم يصلي أربعاً لا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يوتر بثلاث)، فإذا رُمت موافقة سنة الرسول عليه الصلاة والسلام فستأخذ بالسنة صفة وعدداً، لا تأخذ السنة من ناحية العدد وتترك السنة من ناحية الصفة، فإذا جاء شخص وقال: إني قد صليت إحدى عشرة ركعة في عشر دقائق أو في نصف ساعة، هل نقول: إنك أصبت سنة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟ صحيح أنه أصابها من ناحية العدد، ولكنه لم يصبها من ناحية الصفة. فإذا أردت الموافقة، فلتوافق في الصفة ولتوافق في العدد، لكن هب أنني جئت أوافق في الصفة فوجدت المصلين معي لا يطيقون ولا يتحملون، بل وأنا أيضاً لا أطيق ولا أتحمل صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف أصنع؟ قال العلماء: إذا قصرت في الصفة فزد في عدد الركعات؛ وذلك حتى تصل إلى أحب القيام إلى الله قيام داود، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أحب القيام إلى الله قيام داود)، ولم يضبطه النبي بعدد، بل ضبطه النبي بزمن، فقال عليه الصلاة والسلام: (أحب القيام إلى الله قيام داود، كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه)، فالرسول عليه الصلاة والسلام ضبطه بالزمن وليس بالعدد، وكذلك قوله تعالى: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات:17] ضبطٌ بالزمن، وكذلك: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ} [الزمر:9] أي: ساعات الليل، ضبطٌ كذلك بالزمن، فلذلك قال مالك رحمه الله: أستحب ستة وثلاثين ركعة، لماذا -يا مالك - وأنت رويت حديث أم المؤمنين عائشة في صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة ركعة؟! فيرى هو وأصحابه وعموم جمهور العلماء: أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يصلي في بيته إحدى عشرة ركعة يطول كما يشاء، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إذا صلى أحدكم لنفسه فليطول كيف يشاء)، لكن إذا كنت تصلي بالناس فتراعي حال المأمومين. وهنا بعض المناقشات الفقهية الخفيفة: هل إطالة القراءة مع قِلّت عدد الركعات أفضل أم التخفيف في القراءة والإكثار من عدد الركعات؟ فيرى البعض: أن طول القراءة أفضل؛ لحديث النبي عليه الصلاة والسلام: (أفضل الصلاة طول القنوت) أي: طول القراءة فيها. ويرى آخرون: أن الإكثار من السجود أفضل؛ لحديث: (أعني على نفسك بكثرة السجود). والأمر في هذا واسع، والنظر إلى حال المأمومين أمر مهم. رابعاً: أن هناك عمومات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفادت تجويز الزيادة على إحدى عشرة ركعة، منها حديث: (صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة)، وهذا في الصحيحين، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة أو حط عنك بها خطيئة)، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ليصل أحدكم نشاطه فإذا فتر فليقعد)؛ وللحديث الذي سمعتموه آنفاً: (إنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة)، وقوله: (أعني على نفسك بكثرة السجود)، وغير ذلك كثير كثير. أما ما ورد عن عمر رضي الله تعالى عنه من جمع الناس على أبي بن كعب على إحدى عشرة ركعة، فقد ورد أيضاً من عدة طرق يشد بعضها بعضاً أنه جمعهم على أبي على ثلاث وعشرين ركعة. وجمع العلماء بين ذلك كـ البيهقي رحمه الله، فقال: فعل ذلك أحياناً، وفعل ذلك أحياناً، وهو الصحيح؛ لعلة وهي: أنه خرج عليهم وهم يصلون في الليل فقال: نعمت البدعة هذه والتي ينامون عنها أفضل، وفي رواية أخرى: أنهم كانوا ينتهون عند بزوغ الفجر من الصلاة، فدل هذا على التنويع كما اختاره البيهقي رحمه الله تعالى.

حكم ختم القرآن في قيام رمضان

حكم ختم القرآن في قيام رمضان وهل يلزم ما يفعله الأئمة الآن حيث أن الإمام يُجَزِّئُ القرآن على ثلاثين ليلة، ويقرأ بالمصلين في كل يوم جزءاً من القرآن حتى يختمه إلى آخر الشهر؟ نقول: هذا الأمر من باب المباح، أما استحبابه من عدمه فمحله النظر في حال المصلين، وإلا فلم يرد أن النبي صنع هذا الصنيع مع المصلين، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يقم بالصحابة إلا ثلاث ليال، ثم ترك القيام خشية أن يفرض، ولم يرد تفصيل في هذه الأيام الثلاثة، كيف كان الرسول يقرأ؟! ما هي السور التي قرأ بها في هذه الليالي الثلاث؟! وقد قال الله تبارك وتعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل:20].

حكم قراءة القرآن من المصحف في الصلاة

حكم قراءة القرآن من المصحف في الصلاة وهل يشرع للرجل وللمرأة أن يقرأان من المصحف؟ يجوّز الجمهور ذلك؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يحمل أمامة في الصلاة، فحمل المصحف من باب أولى؛ ولأن ذكوان مولى عائشة كان يؤمها من المصحف، فعلى رأي الجمهور، يجوز أن تقرأ -أيها الإمام- من المصحف، أما العبث الذي يحدث وهو أن المأموم يحمل مصحفاً ويتابع الإمام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوماً لأصحابه: (ما لي أنازع! لعلكم تقرءون بعدي؟ قالوا: نعم يا رسول الله! قال: لا تفعلوا إلا بأم القرآن)، فهذه المنازعة لا تشرع، وليس فيها كبير فائدة ولا كبير معنى، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة)، وهذا دليل يشجع على حضور الجماعات، وإن كان التأخير إلى الثلث الأخير من الليل أفضل لمن أطاق ذلك؛ وذلك لقول أمير المؤمنين عمر لما رأى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يصلون مجتمعين: نعمت البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل؛ بل لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فإن صلاة آخر الليل مشهودة محضورة، فينزل ربنا إلى السماء الدنيا إذا كان الثلث الأخير من الليل، فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه).

تفسير قوله تعالى: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه)

تفسير قوله تعالى: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) وقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)) هذا ناسخٌ لما تقدم من قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:184]، أما ابن عباس فيرى أنه لا نسخ، وأن الآية الكريمة: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} محمولة على الشيخ الكبير، والمرأة العجوز، والمرضع والحامل، قال: لهم أن يفطروا ويطعموا مكان كل يوم مسكيناً.

الحكمة من تكرار قوله: (ومن كان مريضا أو على سفر)

الحكمة من تكرار قوله: (ومن كان مريضاً أو على سفر) لماذا قيل: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:185] مرة ثانية، وقد تقدم ذكرها؟ قال فريق من أهل العلم: إنها أعيدت حتى لا يتوهم متوهمٌ أن قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185] ناسخٌ لكل ما تقدم بما فيه نفس الرخصة للمريض والمسافر بالإفطار، فكرر: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:185] لإثبات بقاء الرخصة، حتى لا يتوهم شخص أن الرخصة لم تزل باقية للمريض والمسافر في الفطر.

حكم الفطر للشيخ الكبير والحامل والمرضع

حكم الفطر للشيخ الكبير والحامل والمرضع فهذا يقودنا إلى معرفة ما على الشيخ الكبير الذي لا يستطيع الصيام وكيف يصنع؟ على رأي ابن عباس: أنه يفطر ويطعم مكان كل يوم مسكيناً، وهكذا كان يصنع أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه لما كبر سنه، كان يفطر ويطعم مكان كل يوم مسكيناً. أما الجمهور فيرون أن الآية منسوخة، فعلى هذا فالشيخ الكبير مخاطب بالصيام إن هو أطاق، فإذا لم يطق فالله تعالى يقول: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، والذمم بريئة ما لم يكن هناك دليل صريح ملزم، والله تعالى أعلم. أما المرضع والحامل، فما شأنهما؟ فيهما أقوال: القول الأول: إنهما يفطران ويطعمان ويقضيان، أقول: هذا الجمع لا أعلم دليلا عليه، أي: الإفطار مع القضاء مع الإطعام. القول الثاني: إنهما يقضيان فقط شأنهما شأن المريض وشأن المسافر، وهو قول الأحناف قياساً على المريض وعلى المسافر. القول الثالث: لا قضاء عليهما ولا إطعام مستدلين بحديث أنس بن مالك الكعبي القشيري: (إن الله وضع عن المرضع والحامل الصوم)، فقالوا: هذا رسولنا بين أن الله وضع عنهما هذا، لكن هل هذا الوضع مؤقت إلى أن تتحسن أحوالهما أم هو وضعٌ كلي؟ لا نستطيع الجزم بأنه وضعٌ كلي؛ لأن الصيام مكتوبٌ علينا، فعلى ذلك بالنسبة للحامل والمرضع يتلخص الأمر في شأنهما لمن أراد الاختيار: أنهما تقضيان إن استطاعتا، فإن لم تستطيعا أطعمتا، فإن لم تستطيعا القضاء ولا الإطعام فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها.

المشقة تجلب التيسير

المشقة تجلب التيسير وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185] هذه آية ينبغي أن يستصحبها أهل الفتيا دائماً، {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185]، فهي إحدى آيات رفع الحرج عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهي كثيرة ومنها قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، وقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، وقوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]، وقوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:173]، وقوله: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106]، وقوله: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:119]، إلى غير ذلك من الآيات.

وقت إكمال عدة رمضان ومشروعية الذكر بعد إتمامه

وقت إكمال عدة رمضان ومشروعية الذكر بعد إتمامه قال تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} [البقرة:185] أي: عدة رمضان ثلاثين يوماً إن غم عليكم، وإلا فالشهر تسع وعشرون، كما قال عليه الصلاة والسلام: (الشهر هكذا، الشهر هكذا، الشهر هكذا فخنس إبهامه في الثالثة)، {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة:185]، أخذ منه بعض العلماء مشروعية ذكر الله سبحانه وتعالى عند انقضاء الأعمال، {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:185].

الحكمة من إدخال قوله تعالى: (وإذا سألك عبادي) بين آيات الصيام

الحكمة من إدخال قوله تعالى: (وإذا سألك عبادي) بين آيات الصيام وقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:186]، لماذا أدخلت هذه الآية في ثنايا آيات الصيام؟ قال كثير من أهل العلم: أدخلت هذه الآية بين آيات الصيام؛ لبيان أنه يستحب للصائم أن يكثر من الدعاء، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا ترد دعوتهم)، فذكر منهم: (الصائم حتى يفطر)، وليس حين يفطر فقط، إنما حتى يفطر، فطول اليوم وأنت صائم، لك دعوة مستجابة. قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:186]، عن أي شأن من شئون ربنا سبحانه سأل العباد نبيهم محمداً صلى الله عليه وسلم؟ هل سألوه عن رحمة الله؟ هل سألوه عن عفو الله؟ عن انتقام الله؟ عن صفات الله؟ كل ذلك ليس المراد هنا، إنما سألوه عن القرب والبعد، قالوا: أقريب ربنا فنناجيه يا رسول الله أم بعيد فنناديه؟! فقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:186]، فدليله أنهم لم يسألوه عن شيء في هذا الباب إلا عن القرب والبعد، فحذفت كلمة: (قل) فلم يقل الله: (فقل لهم: إني قريب) بل قال: {فَإِنِّي قَرِيبٌ}؛ للدلالة على القرب كذلك من ناحية النظم القرآني.

حقيقة إجابة الدعاء

حقيقة إجابة الدعاء وقوله تعالى: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186]، هذا يُشكل على من لا فقه له، فيقول: كيف يقول الله: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}؟! وكيف يقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]، وهاأنذا قد دعوت وقد دعوت، فلم أر يستجب لي؟! فكيف يوفق بين وعد الله بالإجابة وبين تخلف الإجابة في الظاهر عن كثير من الداعين؟! أجاب العلماء على ذلك بعشرة أجوبة وأزيد، فمن هذه الأجوبة: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال -فيما أخرجه أحمد في المسند بسند حسن-: (ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثمٌ ولا قطيعة رحم إلا أعطي بها إحدى ثلاث: إما أن يصرف عنه من السوء مثلها، وإما أن يعطى مسألته، وإما أن تدخر له الإجابة إلى يوم القيامة)، فتقول: يا رب! ارزقني، قد ترزق عاجلاً غير آجل، وقد تدخر لك الإجابة إلى الآخرة، وقد تكون هناك مصيبة ستحل بك فصرفها الله عنك، هذه ثلاثة أجوبة. الجواب الرابع: أن الإجابة مقيدة بمشيئة الله، كما قال تعالى: {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ} [الأنعام:41]، فجعلها مردودة إلى مشيئة الله. الوجه الخامس: أنك تسأل ربك مسألةً ويعطيك ربك خيراً من هذه المسألة وأنت لا تشعر، قد يقول قائل: يا رب! زوجني فلانة، يرى أن في زواجه منها خيراً كثيراً، كما يصنع الذين أولعوا بفتاة أو بامرأة من النساء، ووقع الأمر بهم إلى الحد الذي جعل الشاعر الذي أحب امرأة سوداء يقول: أحببت لحبها السودان حتى أحببت لحبها سود الكلاب!! أحب الكلاب السوداء من أجل أن محبوبته سوداء! انظروا كيف أن الأمر وصل به إلى هذا الحد! كل يوم يدعو: يا رب! زوجني فلانة، وربنا سبحانه يختار لك الخير، فيعلم أن زواجك من هذه المرأة شرٌ عظيم وأنت لا تشعر، قد تفتنك عن دينك، هذا شيء، وقد تتزوجها وتصاب بمرض من جراء زواجك بها، قد تتزوجها فتكون عقيماً، قد تتزوجها فلا تحفظ لك فراشك، قد وقد، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216]. قد يقول شخص: يا رب! يسر لي (فيزة) إلى الكويت أو إلى السعودية، وطول اليوم يدعو، وربه قد ادخر له رزقاً في هذه البلاد، ويريد حجبه عن السفر لنيل هذا الرزق، ويعلم أنه قد يسافر وقد يصاب بحادث أليم فيرجع مهشم الرأس، مقطع الأوداج، وقد كُسرت عظامه، وهشم وجهه والعياذ بالله! فربنا يختار الأنفع لنا، هو يعلم سبحانه وتعالى ونحن لا نعلم. الوجه السادس: قد تتأخر الإجابة كي تكثر من الدعاء فتثاب، فإنك كلما قلت: يا رب! ارزقني فإنك تثاب؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (الدعاء عبادة)، ولذلك تأخرت الإجابة عن بعض أهل الفضل والصلاح أزمنة طويلة جداً، تأخرت الإجابة عن أيوب عليه الصلاة والسلام فلبث في بلائه ثمانية عشر عاماً، حتى رفضه القريب والبعيد إلا اثنان من أبناء عمومته. (قال أحدهما يوماً للآخر -لما طال أمد المرض بأيوب عليه السلام-: ترى يا هذا! لقد أذنب أيوب ذنباً لم يذنبه أحد من العالمين، قال: لماذا؟ قال: إنه مكث في بلائه ثمانية عشر عاماً وهو نبي ويدعو ولا يستجاب له، فهذا يدل على أنه صنع شيئاً لا نعرفه نحن إنما يعرفه الله، فما صبر الرجل حتى ذهب إلى أيوب وأخبره، فقال أيوب عليه السلام: الله أعلم بما تقولان، لكن الله يعلم أني كنت أمرُّ بالرجلين يختصمان في مال، فأكره أن يذكر الله سبحانه وتعالى في كذب، فأذهب إلى بيتي وآتي بمال من مالي فأدفعه إلى الخصم حتى لا يقسم بالله كاذباً، الله أعلم بما تقولان، وحزن حزناً شديداً عليه السلام لهذه المقالة، ودعا ربه: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83]. فخرج يوماً مع زوجته لقضاء حاجته، فانتظرته زوجته وقد كان حيياً عليه السلام، فذهب بعيداً عنها فأوحى الله إليه بقوله: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص:42]، فضرب برجله فخرج الماء، فاغتسل وشرب فأذهب الله ما بخارجه وما بداخله من داء، فرجع إلى امرأته في أحسن ما يكون، فقالت له: أيا عبد الله! أما رأيت نبي الله ذاك المبتلى؟ فوالله! لقد طال عليّ المقام في انتظاره، فقال لها: أنا هو، قالت: اتق الله! ولا تهزأ بي ولا تسخر مني، فقال: أنا هو، فكررت عليه المقولة وقالت: والله! ما رأيت أحداً شبيهاً به منك إذ كان صحيحاً، قال: أنا هو فحمد الله سبحانه وتعالى على ما كان). الشاهد: أن البلاء لبث به زمناً طويلاً وربه سبحانه وتعالى لا يخفى عليه حاله، ولكن كل دعوةٍ دعا بها أبوب أثيب عليها، ومن ثم جاءت التزكية والشهادة، ليست تزكية مزورة، إنما تزكية من رب العالمين، قال تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:44]، ثلاث تزكيات من الله سبحانه وتعالى بعد هذا الجهد والعناء الطويل: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:44]، {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص:25]. كذلك تأخرت الإجابة عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها شهراً أو يزيد؛ وذلك عندما قذفت بما قذفت به أم المؤمنين عائشة، ولا شك أنها كانت تدعو ربها، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام وأهل الإسلام كذلك كانوا يدعون ربهم أن يكشف هذه الغمة، فما جاء الخبر إلا بعد شهر من تهوك المتهوكين وإفك الأفاكين، والرسول يغتم لذلك غماً شديداً، والكل يدعو بكشف الغمة وزوالها، ولكنَّ الجواب تأخر والمصيبة ازدادت، ومصيبة أخرى وهي: أن الوحي ينقطع عن بيت رسول الله من النزول ويتأخر؛ فيتخذ ذلك أهل النفاق ذريعة للطعن في رسول الله، وفي بيت النبوة، ويقولون: ما انقطع الوحي إلا أن البيت تدنس، فبعد ذلك كله يأتي الفرج، عائشة تقول: والله! ما كنت أطمع في أكثر من أن يري الله نبيه رؤيا في منامه يبرئني الله بها، وأيضاً تقول عائشة: لشأني في نفسي أحقر من أن ينزل فيّ وحيّ يتلى، ولكن فضل الله أوسع، فلا شك أن في ذلك كله خيراً لأهل الإسلام، كما قال تعالى: {لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ} [النور:11]. فأحياناً تتأخر الإجابة حتى تدعو وتدعو وتدعو، فتثاب وتثاب وتثاب، فكما أن المصلي يثاب والمتصدق يثاب والمعتمر يثاب والذاكر يثاب، فكذلك الداعي يثاب، فالله يختار لك أفضل مما تختاره أنت لنفسك والله سبحانه وتعالى أعلم.

من أسباب عدم إجابة الدعاء

من أسباب عدم إجابة الدعاء فعلى ذلك يلزمك أن تكثر من الدعاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يستجاب لأحدكم ما لم يستعجل قيل: وكيف الاستعجال يا رسول الله؟! قال: يقول: قد دعوت وقد دعوت فلم أر يستجب لي فيستحسر عن الدعاء فيترك الدعاء)، والناظر إلى حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، تجد أن اليأس لم يتسرب إلى قلوبهم، يعقوب عليه الصلاة والسلام سنوات طوال تمر به ويقول في آخرها: {يَا بَنِيَ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87]، وزكريا عليه السلام مع كبره يقول: {رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء:89]. قد يحجب عنك إجابة الدعاء بسبب مظالم العباد، فأنت تدعو ومظلوم يدعو عليك، دعوتك تصعد، ودعوته تصعد تدمر دعوتك، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول -فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى-: (وإياك ودعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب، يرفعها الله فوق الغمام ويقول: بعزتي لأنصرنك ولو بعد حين)، أي: ولو بعد زمن، فإن نصر المظلوم حقٌ على الله سبحانه وتعالى. ونضرب في ذلك أمثلة لأصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام: (أروى بنت أبي أوس اختصمت مع سعيد بن زيد أحد العشرة المبشرين بالجنة في بئر في أرض، فادعت أروى أنها لها، ورفعته إلى مروان بن الحكم فاستدعاه مروان فقال له: أخذت أرض أروى يا سعيد، قال: أنا آخذ أرضها بعد الذي سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم! قال: وماذا سمعت من رسول الله؟ قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: من أخذ شبراً من الأرض ظلماً طوقه يوم القيامة من سبع أرضين، قال: والله! لا أسالك بينة بعد هذا، فقال سعيد بن زيد: اللهم! أعم بصرها، واجعل قبرها في دارها، فكبرت حتى عمي بصرها، ومرت على البئر التي خاصمت فيها فسقطت فيها، فما استطاعوا إخراجها فكانت قبرها). ونحوه صنع سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه؛ وذلك لما طعن فيه أهل الكوفة، حين أرسلوا رسالة إلى عمر رضي الله عنه: أن سعداً لا يحكم بالسوية، ولا يخرج في السرية، ولا يعدل في القضية، فأرسل عمر إلى مساجد الكوفة من يسأل عن أخبار سعد، فذهب إلى المساجد وكل أهلها يثنون على سعد خيراً، فمر بمسجد لبني عبس، وقال -أي رسول عمر -: أناشدكم بالله أن تقولوا في سعد الذي تعلمونه، فقام رجل فقال: أما وقد نشدتنا بالله، فإن سعداً لا يحكم بالسوية، ولا يعدل في القضية، ولا يخرج في السرية! تعجب سعد من ظلم هذا الظالم المفتري الكذاب، فقال سعد: اللهم! إن كنت تعلم أن عبدك هذا قام رياء وسمعة؛ اللهم! أطل عمره، وأطل فقره، وعرضه للفتن، فكبر الرجل حتى انحنى ظهره، وسقط حاجبه على عينه، ومع هذه الحال المزرية من الكبر كان يمشي في الطرقات يغمز الجواري ويتعرض لهن، فإذا عوتب قال: أصابتني دعوة سعد رضي الله تعالى عنه. فإياك ودعوة المظلوم، فقد تدعو ومظلوم يدعو عليك فدعوته تدمر دعوتك. ومن أسباب حجب الدعاء أنك قد تدعو وأنت آكل للحرام كأكل الربا والرشوة وغيرهما من المحرمات، والنبي صلى الله عليه وسلم: (ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء، يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له؟)، قد تدعو الله بلسانٍ مغتاب تخوض به يميناً ويساراً في أعراض المسلمين والمسلمات، قد تدعو الله بقلب مليء بالغل والأحقاد والحسد للمؤمنين والمؤمنات، كيف يستجاب لك وأنت تتمنى من قلبك أن تنزل بصاحبك مصيبة، أو أن تنزل بجارك مصيبة، أو أن يخرص لسانه فلا يتكلم، أو أن يصاب بحادث؟! فكيف تدعو الله بقلب حمل هذا الدنس، وحمل هذا الوسخ؟! قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي} أي: فيما أمرتهم به من دعاء {وَلْيُؤْمِنُوا بِي} أي: ليصدقوني فيما أخبرتهم به، {لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186]، والراشد هو المستمسك بدينه على صلابة فيه.

تفسير قوله تعالى: (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم)

تفسير قوله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) وقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة:187]، ما المراد بالرفث الرفث بصفة عامة: يطلق على الكلام الذي يقال عند مقدمات الجماع، ويطلق على الجماع نفسه كذلك، وهنا المراد به الجماع نفسه. ومن مجيء الرفث الذي يراد به مقدمات الجماع، ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ذكر عبد الله بن رواحة رضي الله عنه فقال في شأنه: (إن أخاً لكم ليقول الرفث)، وذلك أنه قال: وفينا رسول الله يتلو كتابه إذا انشق معروف من الفجر ساطع أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا به موقنات أن ما قال واقع يبيت يجافي جنبه عن يمينه إذا استثقلت بالمشركين المضاجع وقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ} [البقرة:187]، هل كان هذا الرفث حراماً حتى يقال: (أُحِلَّ)؟ كان الأمر في أول فرض الصيام إذا غربت الشمس، لك أن تأكل وتشرب إلى حد أن تنام، مثلاً: لو أن المغرب يؤذن في الخامسة، لك مباح لك أن تأكل وتشرب إلى أمدين: الأمد الأول: إلى أن تنام، أو إلى أن يأتي عليك الفجر، فإذا نمت بعد الساعة الخامسة قبل أن تأكل خمس دقائق أو ساعة حرُم عليك الأكل والشرب إلى اليوم الثاني في المغرب، يعني: إذا نمت مثلاً بعد أذان المغرب مباشرة، فإنه يحرم عليك أن تأكل وتشرب إلى غدٍ وقت الإقطار، ولو نمت في الساعة التاسعة واستيقظت الساعة الحادية عشرة ليس لك أن تأكل ولا أن تشرب. فكان هناك صحابي يقال له: قيس بن صرمة الأنصاري، كان يعمل، فرجع مجهوداً من العمل، أصابه جهد شديد، رجع إلى بيته فقال لزوجته: هل عندكم طعام؟ قالت: لا، ولكن أنطلق أبحث لك عن طعام، فذهبت تبحث له عن طعام، ومن شدة التعب الذي به نام، فلما رجعت ورأته نائماً، علمت أنه لن يأكل ولن يشرب إلا غداً في المغرب، فقالت له: خيبة لك، -ليس المراد بالخيبة على اصطلاحنا- فأصبح من غد صائماً، فلم يستطع أن يواصل فأغمي عليه في النهار، فنزل: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ الآية} [البقرة:187]. وكذلك كان قومٌ يخونون أنفسهم، فهذا عمر رجع يوماً متأخراً إلى امرأته، وأراد منها ما يريد الرجل من امرأته، فقالت له: إني نمت، فقال لها: ما نمت، قال تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ} أي: تخونونها {فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} [البقرة:187]. وقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة:187]، أي: طول الليل، {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة:187]، واللباس هنا: السكن والفراش، ليس كما ترجمه بعض الذين ترجموا القرآن، وهم لا يدرون عن معانيه شيئاً، ترجموه بالإنجليزية فقالوا: ((هُنَّ لِبَاسٌ))، أي: هن ( clothes) لكم وأنتم ( clothes) لهن! فهذه الترجمة تنم عن جهل المترجم بروح الدين والشريعة.

مشروعية الاعتكاف في عموم المساجد

مشروعية الاعتكاف في عموم المساجد وقوله تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187]، فالجماع عند جماهير العلماء يفسد الاعتكاف. فقوله: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} فيه مشروعية الاعتكاف في عموم المساجد، أما حديث: (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة)، فالصواب وقفه على حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه، وعلى صحته فهو محمولٌ على نفي الفضيلة الكاملة، أي: لا اعتكاف أفضل من الاعتكاف في المساجد الثلاثة، وذلك لمضاعفة أجر الصلاة في هذه المساجد، والمساجد الثلاثة هي: المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى، {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة:187]. وفقنا الله وإياكم لكل خير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

معنى التوبة والعفو والصفح

معنى التوبة والعفو والصفح وقوله تعالى: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} [البقرة:187]، أما التوبة فهي الرجوع إلى الله، فتوبوا إلى الله: ارجعوا إلى الله، أما العفو: فهو ترك المؤاخذة بالذنب، أما الصفح: فهو إزالة أثر الذنب من القلب. فمثلاً: رجلٌ شتمك، إذا عفوت عنه لا تشتمه كما شتمك، إذا صفحت عنه تزيل أثر هذه المسبة من قلبك، كما فعل أحد السلف مع جارية أتت إليه بطعام، فلما أتت إليه بطعام كان فيه مرق، وعنده أضياف فأتت مسرعةً فسقط المرق على صاحب البيت أو على الأرض، فأراد سيدها أن يلطمها، فقالت له: إن الله يقول: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ}، فقال: كظمت غيظي، فخشيت أن يعاقبها فيما بعد، فقالت: ويقول: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}، قال: عفوت عنك، قالت: ويقول: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134]، قال: اذهبي فأنت حرة لوجه الله، فالصفح محو أثر الذنب.

معنى المباشرة في الآية

معنى المباشرة في الآية وقوله تعالى: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ} [البقرة:187]، المباشرة: هنا الجماع في هذا الموطن؛ لدلالة قوله: {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [البقرة:187] أي: الولد. والمباشرة أيضاً: تطلق على ما دون الجماع، لكن أبيح الجماع، وأبيح ما دونه في هذا المقام، وللصائم في النهار كذلك أن يقبل ويباشر ما دام أنه يأمن على نفسه أن يقع في الجماع؛ وذلك لحديث عائشة رضي الله تعالى عنها: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل ويباشر وهو صائم، قالت: أيكم يملك إربه كما كان الرسول يملك إربه؟!)، وكان عبد الرحمن زوجاً لـ عائشة بنت طلحة، فدخلا على أم المؤمنين عائشة وهما في عنفوان الشباب، وهما صائمان، فقالت له: يا عبد الرحمن! ما يمنعك أن تقبل زوجتك وتلاعبها؟ قال: يا أم المؤمنين! أقبلها وأنا صائم؟! قالت: كنت أصنع ذلك أنا ورسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

تفسير قوله تعالى: (وابتغوا ما كتب الله لكم)

تفسير قوله تعالى: (وابتغوا ما كتب الله لكم) وقوله تعالى: {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [البقرة:187]، فيه حثٌ على الأخذ بالأسباب، ذكر العلامة ابن القيم وغيره ما حاصله: لو قام رجلٌ حديث عهد بعرس، هو وزوجته الحسناء من الليل يصليان ويدعوان ربهما: يا رب! ارزقنا الولد، يا رب! ارزقنا الولد، كل ليلة على هذا المنوال ولم يقربها أبداً، ماذا عساها أن تقول له؟! تقول له: أبك خبل؟! أبك جنون؟! ما حدث جماع! هذا يوم ضنك، والجماع سبب من أسباب الحمل. فالآية مما يستدل بها على مشروعية الأخذ بالأسباب.

بيان مفهوم: (الخيط الأبيض من الخيط الأسود)

بيان مفهوم: (الخيط الأبيض من الخيط الأسود) وقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187]، تأخر نزول قوله تعالى: (مِنَ الْفَجْرِ)، فكان رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يربطون خيوطاً بيضاء وخيوطاً سوداء في أرجلهم، ويأكلون ويشربون حتى يظهر لهم هذا من ذاك، إلى أن نزل: (مِنَ الْفَجْرِ) فعلموا أن المراد: بياض النهار وسواد الليل. أما مسألة الإمساك التي يقول بها بعض من أهل العلم، فليست أبداً على الإلزام، إنما أخذها البعض من حديث زيد بن ثابت عندما سئل: كم قدر ما بين السحور والأذان؟ قال: قدر خمسين آية، هذا وصف حال، وإلا فقد قال سهل بن سعد: (كنت أتسحر مع أهلي ثم تكون سرعتي أن أدرك السجود مع رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وفي الآية نصٌ على الوقت الذي لا يؤكل فيه ولا يشرب، ألا وهو: تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر. وأحب هنا أن أنبه على أثر حذيفة بن اليمان -وإن كان ظاهره الحق إلا أنه شاذ ومعلول- حيث قال: (تسحرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إنه والله! النهار، إلا أن الشمس لم تطلع)، فهو لا يثبت عن حذيفة رضي الله عنه؛ لأنه معلول وشاذ. وقوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187]، ليس المراد بالليل: اشتباك النجوم، إنما المراد بالليل: غروب الشمس؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر)؛ ولقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار من هاهنا، وغربت الشمس فقد أفطر الصائم)، وما وجه الخيرية في قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر) وإنما هي دقائق؟ قال فريق من العلماء: حتى يقطع على جمهور الموسوسين وسوستهم، والله أعلم. أما الشيعة: ففهموا من الآية: أنهم يمتنعون عن الأكل والشرب إلى أن تظهر النجوم؛ وذلك لأنهم لم يتأملوا أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام في هذا الباب، فالحمد لله الذي وفقنا لسنته عليه الصلاة والسلام.

أدب التخاطب

أدب التخاطب لقد علمنا ديننا الإسلامي الحنيف كيف نتخاطب مع بعضنا البعض، وكذلك مع الأعداء، وبين لنا ما الذي يجوز من القول وما الذي لا يجوز، فأمرنا بحسن الكلام، ونهانا عن البذاءة والفحش واللغو والرفث، وما ذاك إلا لنسد على الشيطان الرجيم الأبواب التي يدخل منها ليفسد ذات البين، وينزغ بين المسلمين.

فقه التخاطب مع الناس

فقه التخاطب مع الناس الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فحديثنا عن فقه التخاطب مع الناس، فكما أن للصلاة فقهاً، وكما أن للزكاة فقهاً، وكما أن للحج فقهاً، وكما أن لسائر العبادات فقهاً؛ فكذلك للتخاطب مع الناس وللحديث معهم فقه، بث في كتاب الله وبث في سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

لفت النظر بتكرار الكلمات عند مخاطبة الناس

لفت النظر بتكرار الكلمات عند مخاطبة الناس ثم طريقة أخرى للفت النظر إليك إذا كان لحديثك شأن، ألا وهي تكرار الكلمات كما قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: (ألا وقول الزور، ألا وقول الزور، ألا وقول الزور، فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يكررها حتى قلنا: ليته سكت). هذا شيء مما يتعلق بأدب الخطاب الوارد من كتاب الله، ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، نسأل الله سبحانه أن يهدينا لأحسن الأخلاق والأقوال والأعمال، وأن يهدينا إلى الطيب من القول، وأن يهدينا إلى صراطه المستقيم، وصلْى اللهُ وَسَلَّمَ وَباَرَكَ على نَبِينا محمد وآله وصحبه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

إثارة كوامن الخير عند الناس

إثارة كوامن الخير عند الناس وعليك إذا خاطبت الناس أن تثير الكامن فيهم من خير، وهذا باب قد تقدمت مباحثه مراراً، فإن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه الكريم: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} [الإسراء:3] أي: يا ذرية الصالحين المؤمنين المحمولين مع نوح في الفلك؛ لأن المحمولين مع نوح كانوا مؤمنين، فكونوا صالحين مؤمنين كآبائكم، ونحو ذلك قوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [البقرة:40] أي: يا أولاد النبي الصالح والنبي الكريم إسرائيل كونوا صالحين كأبيكم إسرائيل صلى الله عليه وسلم، ونحوه قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)) أي: يا من آمنتم بي، وصدقتم رسلي، فهذه أساليب تحيي خصال الخير في القلوب، فتذهب إلى رجل فتقول له: يا ابن الشجاع! الذي بارز الأبطال، أبوك كان شجاعاً وأخوك كان مغواراً، وجدك قتل في سبيل الله، فتقدم وبارز الأبطال، وأحيي مجد آبائك وأجدادك، فيقبل على القتال مندفعاً إليه. تذهب إلى آخر وتقول: يا ابن العلماء! أبوك كان عالماً، وجدك كان فقيهاً، وأخوك كان قارئاً لكتاب الله، فأقبل على العلم، فحينئذٍ يقبل إحياء لمجد آبائه، وإحياء لمجد أعمامه وإخوانه. تذهب إلى ثالث فتقول: يا ابن المحسنين! تصدق، أبوك أنشأ مسجداً، وعمك أنشأ مدرسةً، وخالك أنشأ مستشفى، فأقبل وتصدق إن الله يجزي المتصدقين، فيقبل حينئذٍ ويتصدق. وشتان ما بين مثل هذا القول، وآخر مسموم محموم يقول: يا ابن الجهلاء! ويا ابن الأغبياء! ويا ابن البخلاء! فماذا عساك أن تجني من رجل قلت له: يا ابن البخلاء! من صدقة؟! ماذا عساك أن تجني من رجل قلت له: يا ابن الأغبياء! أقبل وتعلم؟! أكيد أنه سينفر عنك وسيفر منك، فعليك حينئذ أن تهيّج مشاعر الناس لفعل الخير، وأن تذكرهم دائماً بفعل الخير. وعليك كذلك أن تستعمل عبارات تلفت أنظار الناس إليك، إذا كان ثَمّ أمر تريد بثه في عموم الناس، قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ جرير بن عبد الله في حجة الوداع: (يا جرير! استنصت الناس -أي: أسكتهم-، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم رافعاً صوته: لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض). لك أن تذكر الناس أيضاً مع رفع الصوت وتضمِّن المسألة شيئين: رفع الصوت، مع التذكير بالخير، كما قال العباس للأنصار يوم حنين: يا أصحاب سورة البقرة! بأعلى صوته، يا من بايعتم تحت الشجرة!. فيذكرهم بالمناقب التي لهم خاصة، فسورة البقرة نزلت على رسول الله في المدينة، فاختص بها الأنصار، واختصوا بالبيعة أيضاً مع غيرهم، أي: كان لأغلبهم فضل في البيعة تحت الشجرة، فخاطبهم العباس بذلك: يا أصحاب رسول الله! يا أصحاب سورة البقرة! يا من بايعتم تحت الشجرة!. بصوت مرتفع غاية الارتفاع، وقد كان العباس مشهوراً بالصوت المرتفع، حتى قالوا: لقد زجر أبو عروة الأسد بصوته المرتفع رضي الله تعالى عنه. لك أن ترفع الصوت أحياناً، وإن كان الأصل هو التوسط في الصوت، لا ترفع الصوت ولا تخفض إلا إذا دعت الضرورات لذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة من الغزوات، ورأى الناس يتوضئون ولا يحسنون الوضوء، فيتركون الأعقاب بلا غسل، فنادى بأعلى صوته: (ويل للأعقاب من النار، ويل للأعقاب من النار، ويل للأعقاب من النار).

ضرورة اجتناب أهل الفحش والبذاءة والجهل ومداراتهم

ضرورة اجتناب أهل الفحش والبذاءة والجهل ومداراتهم ثم اتقِ أيضاً فحش الفاحش البذيء، فالناس ليسوا على شاكلة واحدة، فمنهم الصالحون ومنهم دون ذلك كانوا طرائق قدداً، منهم الذي يفهم وقد امتلأ ذكاء واستنارت بصيرته، ومنهم الجاهل الغبي الذي لا يفقه ولا يفهم، فجدير بك أن تتعامل مع هذا الجاهل بحذر، وأن تتقيه قدر الاستطاعة، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ائذنوا له بئس أخو العشيرة أو ابن العشيرة. فلما دخل ألان له الكلام، قلت: يا رسول الله! قلت الذي قلت ثم ألنت له الكلام؟! قال: أي عائشة! إن شر الناس من تركه الناس أو ودعه الناس اتقاء فحشه)، فلم يدخل رسولنا معه في ثرثرات أو مجادلات لا فائدة فيها. جاءه اليهود فقالوا: السام عليك يا محمد! -والرسول يعرف قولهم جيداً، فهم يعنون: الموت لك-، فقال عليه الصلاة والسلام: وعليكم، فقالت عائشة رضي الله عنها: وعليكم السام واللعنة -وشق عليها ما ذكروه لرسول الله- فقال لها الرسول صلى الله عليه وسلم: (يا عائشة إن الله لا يجب الفحش ولا التفحش) قالت: يا رسول الله! أو لم تسمع ما قالوا؟!، قال: (قد علمت وقد رددت عليهم، فيستجاب لنا فيهم، ولا يستجاب لهم فينا)، فالمداراة أصل، فبذيء الأخلاق يُتقى وينفرد عنه، وقد قال الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199]، وهذه الآية لها مناسبة، فقد تلاها الحر بن قيس رضي الله تعالى عنه على أمير المؤمنين عمر لما جاءه عيينة بن حصن الفزاري -وكان من المؤلفة قلوبهم على عهد رسول الله- فجاء إلى ابن أخيه الحر بن قيس وهو من القراء الذين كان يدنيهم عمر منه، فكان عمر يقرب من مجلسه حملة كتاب الله، فيستشيرهم في مسائله، فكان الحر من هؤلاء الحملة لكتاب الله فقال: يا ابن أخي! إن لك وجهاً عند هذا الأمير -يعني: عمر - فاستأذن لي عليه، فاستأذن الحر بن قيس لعمه عيينة بن حصن الفزاري في الدخول على عمر، فأذن له عمر، فما هو إلا أن رأى عمر فقال له: يا ابن الخطاب! -بهذه اللهجة لهجة البدو الغلاظ الشداد- إنك لا تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل، فتعجب عمر من هذا الداخل بهذه الصورة الشديدة اللاذعة في الكلمات، فَهَمّ عمر أن يبطش به، فقال الحر بن قيس -وهذا من بركة كتاب الله وحمله-: يا أمير المؤمنين! إن الله يقول: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199]، وهذا من الجاهلين، قال ابن عباس: فوالله! ما تخطّاها عمر ولا تعداها، كان وقّافاً عند كتاب الله عز وجل، فوقف عمر عند الآية ولم يتجاوزها، ولم ينزل بالرجل عقوبة، وقد أحسن في ذلك الصنيع، فالرسول صلى الله عليه وسلم قد سمع أكثر من ذلك من عيينة بن حصن ومن غير عيينة بن حصن، ولم يؤاخذهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما صدر منهم، وبما خرج من أفواههم من قبيح الحديث والكلام.

جواز التغيير في الألفاظ المعتادة عند التعبير عما في النفس بما يؤدي الغرض

جواز التغيير في الألفاظ المعتادة عند التعبير عما في النفس بما يؤدي الغرض عليك إذا أردت التعبير عما في نفسك أن تغير في الألفاظ تغييرا يؤدي الغرض، ولا يخدش كذلك، قال النبي عليه الصلاة والسلام ل عائشة (إني أعرف غضبكِ عليّ من رضاك) قالت: وكيف ذلك يا رسول الله؟!، قال: (إن كنت عليّ غضبى قلت: ورب إبراهيم، وإن كنت عني راضية، قلت: ورب محمد)، قالت: (أجل والله لا أهجر إلا اسمك يا رسول الله!)، فأم المؤمنين تريد أن تعبر عما في نفسها لرسول الله بأسلوب حكيم مؤدب ومهذب؛ لأن رب محمد هو رب إبراهيم عليهما الصلاة والسلام، ولكن تخاطب سيد الأنبياء وسيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام، فيشعر بالتغيير في الألفاظ، فحينئذ يدرك أن هناك شيئاً ما قد حدث فيفتش في هذا الشيء، وكان النبي عليه الصلاة والسلام لبيباً فاهماً، وهي رضي الله عنها كانت على قدر كبير من الفهم والذكاء؛ فكان الرسول يدخل عليها كل يوم يمازحها ويقرأ عليها السلام، ولكن لما كان حادثة الإفك كانت يدخل فيقول: (كيف تيكم؟)، فشعرت أن شيئاً ما قد حدث لرسول الله صلى الله عليه وسلم في شأنها.

ضرورة التأدب مع الكبار عند التخاطب معهم

ضرورة التأدب مع الكبار عند التخاطب معهم عليك أن تعرف أثناء الحديث مع الناس أخبار الناس، فلا تبادر وأنت صغير بالحديث بين يدي الكبير، بل كن ورعاً وكن مؤدباً متخلقاً بأخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فللكبير حق وله سابقة في الخير، وعليك أن توقر وأن تحترم الكبير، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لم يعرف لكبيرنا حقه) وفي رواية (ليس منا من لم يوقر كبيرنا) وجاء حويصة ومحيصة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحدثان، فذهب أصغرهما يتكلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كبر! كبر!) وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (سأل النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه سؤالاً، فقال لهم: إن من الشجر شجرة مثلها مثل المؤمن، فأخبروني ما هي؟ قال: فوقع الناس في شجر البوادي، ووقع في نفسي أنها النخلة، فجئت أتكلم فإذا أنا أصغر القوم، فهبت أن أتكلم فسكت) الحديث. فللكبير حق ينبغي أن يؤدى إليه، إذا أردت أن تتكلم فاستأذنه بأسلوب مؤدب وبأسلوب مهذب، كما كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم يفعلون.

عدم ذكر مرتكبي الأخطاء بأسمائهم في المجامع الكبرى إلا لضرورة

عدم ذكر مرتكبي الأخطاء بأسمائهم في المجامع الكبرى إلا لضرورة كذلك لا تذكر أسماء أشخاص بأعيانهم مهما ارتكبوا، لا في المجامع الكبرى، ولا في خطب الجمعة؛ فإن رسولنا محمداً عليه الصلاة والسلام ابتلي غاية الابتلاء، وأوذي غاية الأذى من عبد الله بن أبي بن سلول، وكان من ذلك أن قذف ابن سلول زوجةَ رسول الله بالزنا، ومع ذلك يصعد الرسول صلى الله عليه وسلم على المنبر فيقول: (من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي، فوالله ما علمت عن أهلي إلا خيراً) حتى قال الصحابة: من هو هذا الرجل يا رسول الله؟! أخبرنا من هو؟! وقال سعد بن معاذ: (إن كان منا من الأوس قتلناه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك) ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسمه مع شدة الأذى، وكان عليه الصلاة والسلام يكثر أن يقول: (ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا)، فلا تذكرالناس بأسمائهم بما أذنبوا وما أسرفوا فيه، ولذلك قال ربنا جل ذكره: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء:148] ثم أرشد إلى العفو بقوله: {أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} [النساء:149] فينبغي ألا تذكر أحداً بسوء في المجامع الكبرى، إلا إذا لم يكن هناك بد من إزالة شره إلا بمثل هذا، فتكون حينئذ ضرورة تخرجنا عن أصلنا الذي هو عدم ذكر الأشخاص، والضرورة تقدر بحسبها، وقد ورد في هذا الباب حديث الرجل الذي كان له جار يؤذيه فذهب إلى رسول الله يشكوه، فما ازداد الجار إلا أذى لجاره، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرج متاعه إلى قارعة الطريق، فأخرج متاعه إلى قارعة الطريق، فكان الناس يمرون به ويسألونه: لم أخرجت متاعك إلى قارعة الطريق؟ قال: جاري فلان يؤذيني، جاري يؤذيني، فكلما مر به قوم ورءوا ذلك، سبوا هذا الجار ولعنوه، فجاء الجار مهرولاً قائلاً: ارجع إلى بيتك ولن ينالك مني بعد ذلك إلا الخير. وهذه الضرورات تقدر بقدرها وبحسبها، والله سبحانه وتعالى أعلم.

ضرورة انتقاء الألفاظ الحسنة عند التخاطب مع الناس

ضرورة انتقاء الألفاظ الحسنة عند التخاطب مع الناس انتق الألفاظ التي تتحدث بها، فانتقاء الألفاظ فضل ومنة من الله يمن بها عليك، فالغرض الذي يمكن أن يؤدى بكلمة طيبة فلا تعدل عنها إلى كلمة شديدة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه)، وقد وردت للسلف في هذا جملة هائلة من الأقوال. فمثلاً: رجل ضُرِبَ وجيء بك لتحقق، فإذا قلت: أين المضروب؟! وأين الضارب؟! نال منك المضروب مزيد من الإهانة بكلمتك: (أين المضروب) لكن إذا قلت: أين صاحب الحق؟! فحينئذ ترجع للمضروب شيئاً مما فقد منه، والمؤدى واحد. روي عن عمر رضي الله عنه: أنه مر بقوم في بيتهم نار، فلم ينادي: يا أصحاب النار! وإنما نادى: يا أهل الضوء! فالمؤدى واحد، ولكن الرفق والتفاؤل مطلوب، والكلمات التي تشعر بإزعاج يجب اجتنابها، ففرق بين أن تقول: يا أهل النور! أو يا أصحاب الضوء! وبين قولك الآخر: يا أصحاب النار! أو يا أهل النار! مع أن المؤدى من هذا ومن ذاك واحد. مثلاً: رجل متزوج بزوجة على زوجة فلا يستعمل لفظ: الزوجة القديمة والزوجة الجديدة، ولكن له أن يقول: الأولى أو الثانية، أو أم فلان وأم فلان والمؤدى واحد. فالألفاظ التي تخرج منك ويمكن أن تؤدى وتخرج في ثوب جميل، فأدها في ثوب جميل، والمنتبه لهذا من هداه الله، والموفق من وفقه الله، فإن الله سبحانه يقول: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} [الحج:24]، فمن الذي هداهم؟ الذي هداهم يقيناً وقطعاً هو الله، وبذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل ربه ذلك فيقول: (اللهم اهدني لأحسن الأخلاق والأقوال والأعمال، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت). وأيضاً عليك أن تراعي مناسبات الحديث، فلكل مقام مقال كما قال الناس، بل وكما سلك رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه المسالك، فقد تجد من يذهبون إلى عرس ويذكرون الناس بالموت، ويستدل بعضهم بحديث (أكثر من ذكر هاذم اللذات) والحديث صحيح، لكن المناسبة لا تقتضيه، والرسول عليه الصلاة والسلام قال ل عائشة - لما قدمت من عرس- يا عائشة!: (ماذا كان معكم من اللهو، فإن الأنصار يعجبهم اللهو)، فانتق مناسبات الحديث، والكلمات التي تصدر منك. علي رضي الله عنه يقول: (كنت رجلاً مذاءً -أي: كثير المذي- فاستحييت أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لمكان ابنته مني) لأن سؤال المحارم عما يتعلق بالجماع يؤذي المحارم، ويخدش حياء المحارم، أنت متزوج بفتاة، فكونك تتحدث في الجماع أمام أخيها أو أمام أبيها، أو أمام أقاربها، هذا يخدش -بلا شك- حياء الأخ، ويخدش حياء الأب، ولذلك قال علي: (كنت رجلاً مذاءً فاستحييت أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لمكان ابنته مني، فأمرت المقداد فسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: اغسل ذكرك وتوضأ)، فللكلام مناسبة. وانظر إلى فقه الأنصار وإلى ذكاء الأنصار رضي الله تعالى عنهم، لما وقع العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأسر، وجيء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقيداً، وأراد الأنصار أن يتركوا فداء العباس إكراماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يقولوا: يا رسول الله! ائذن لنا أن نترك لعمك فداءه، فحينئذ إذا قالوا هذه المقالة، استشعر منها أنهم يمنون ويتفضلون على رسول الله؛ لأن لعمه الفداء، ولكن انظر إلى هذا الأدب الذي تأدبوا به، فقالوا: (يا رسول الله! ائذن لنا أن نترك لابن أختنا فداءه)، فالأنصار أخوال العباس، فلم يقولوا: ائذن لنا أن نترك لعمك حتى تكون المنة منهم عليه، ولكن قالوا: ائذن لنا أن نترك لابن اختنا فداءه؛ حتى يقلبوا المنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم، فانتق هذه الألفاظ وتحدث بها بين الناس، والفاهم من فهمه الله سبحانه وتعالى.

ضرورة إمعان النظر في الكتاب والسنة للاستفادة من آدابهما

ضرورة إمعان النظر في الكتاب والسنة للاستفادة من آدابهما فأمعن النظر في كتاب الله واستفد هذه الآداب، أمعن النظر في كتاب الله، واستعمل الوسائل التي تربطك بالمخاطب، إذا كان ثَمّ تكليف منك يصدر إليهم، أو طلب منك تطلبه منهم. فكما أسلفنا ينظر إلى أدب الطلب في قول موسى صلى الله عليه وسلم للخضر: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف:66]، ورد الخضر معتذراً لموسى أيضاً عليهما السلام: {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} [الكهف:67]، ثم يلتمس له العذر، فيقول له: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} [الكهف:68]، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم أن الخضر قال لموسى: (يا موسى! إنك على علم من الله علمك الله إياه لا أعلمه، وأنا على علم من الله علمني الله إياه لا تعلمه)، فهذا فيه التماس للعذر لموسى صلى الله عليه وسلم في عدم قدرته على التحمل في قول الخضر له: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} [الكهف:68] فانظر إلى كتاب الله! وانظر إلى أساليب الخطاب التي سلكها الأنبياء مع الناس واقتبس منها! انظر إلى مقولة موسى لفرعون، وكيف اشتدّ موسى أيضاً مع فرعون مع أنه أمر في أول الأمر أن يقول لفرعون قولاً ليناً؛ لعله يتذكر أو يخشى، ولكن لما أبى فرعون هذا القول اللين، استعمل موسى طريقة أخرى في الخطاب يقتضيها المقام، فقال له فرعون: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء:23 - 24]، قال فرعون لمن حوله: {أَلا تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشعراء:25 - 28]، قوله: (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) يقابل الجنون الذي اتهم به موسى صلى الله عليه وسلم، وإن كان لا يكافئه، وكذلك قول موسى عليه السلام لفرعون لما قال له فرعون: {إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا * قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء:101 - 102] أي: هالكاً، فكانت كلمات الشدة أحياناً تخرج على حسب ما يقتضيه المقام.

ضرورة التجاوز عن الزلات عند التخاطب مع الناس

ضرورة التجاوز عن الزلات عند التخاطب مع الناس خذ العفو من أخلاق الناس أثناء حديثك معهم، فإذا صدرت من بعضهم بذاءات في شأنك وحسنات، فخذ الحسنات وتجاوز عن الهفوات، وتجاوز عن الزلات، وأمعن النظر في كتاب الله سبحانه، وانظر إلى مقولات الأنبياء وأهل الفضل والصلاح إذ اتُهموا، فكيف دافعوا عن أنفسهم وقت الاتهام! وإذ ظلموا، كيف دافعوا عن أنفسهم أمام الظالمين! فهود عليه السلام، قومه يقولون له: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ} [الأعراف:66]، فينفي ويقول: {لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ} [الأعراف:67]، ونوح يقولون له: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأعراف:60]، فيقول: {لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ} [الأعراف:61]، فنوح ينفي عن نفسه الضلال، وهود ينفي عن نفسه السفه، فهما لم يردا المقالة بمثلها، فهو لم يقل لهم: بل أنتم السفهاء، ونوح لم يقل لهم: بل أنتم الضلال، لا يريدان أن يسعرا حرباً أخلاقية معهم، لا فائدة فيها ولا محصلة من ورائها، ولكن غاية ما صنعا أنهما نفيا عن أنفسهما السفاهة والضلال. وانظر أيضاً إلى سائر قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع من عاداهم، ومع من ظلمهم، واستفد من كتاب الله هذه الأخلاق الحميدة. يوسف صلى الله عليه وسلم هو النبي الذي اتهم من قبل امرأة العزيز، وقبل ذلك أُلقي في غيابة الجب إلى غير ذلك، وابيضت عينا أبيه من الحزن فهو كظيم لفقده، ويأتيه إخوته بعد ذلك فيقول لهم مقالة منبهة مذكرة: {هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ * قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ} [يوسف:89 - 90] بتواضع وخضوع، ولم يقل: أنا العزيز يوسف، أو أنا الملك يوسف، {أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:90]، فقالوا حينئذ: {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف:91]، فيقول لهم عليه الصلاة والسلام: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ} [يوسف:92]، (لا تثريب) أي: لا تعيير ولا توبيخ ولا تأنيب، {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:92]، ويوفي بما عاهدهم عليه، فلما دخل عليه أبواه وإخوانه مصر قادمين من بلادهم قال: {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} [يوسف:100] ولم يقل: إذ أخرجني من غيابة الجب؛ حتى لا يُذَكِّرَ إخوانه بالذنب الذي صدر منهم، فقد وعدهم أنه لن يوبخهم ولم يؤنبهم، فلذلك قال: {إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} [يوسف:100]، ثم حمّل الشيطان التهمة كلها بقوله: {مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف:100].

ضرورة مخاطبة الناس على قدر عقولهم

ضرورة مخاطبة الناس على قدر عقولهم وينبغي أن تخاطب الناس على قدر أفهامهم، وعلى قدر عقولهم، أما إذا خاطبتهم بطريقة واحدة تخاطب عالمهم وجاهلهم بأسلوب واحد، وتحرص على ألا ينزل خطابك عن درجة معينة؛ فأنت حينئذٍ لست بمسدد ولست بموفق، قال علي رضي الله عنه: حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟! وروي عن ابن مسعود أنه قال: ما أنت بمحدث الناس حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة، ولما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أبا هريرة: (بأن من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة، وخرج أبو هريرة ليخبر بذلك الناس، فكان أول من لقيه عمر، فأخبر عمر بذلك، فضربه عمر ضربة أسقطته على استه على الأرض، فرجع أبو هريرة مذعوراً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص عليه نبأ ما دار بينه وبين عمر، ودخل عمر في إثره، فقال: يا رسول الله! إذن يتكلوا ويتركوا العمل يا رسول الله! فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: إذاً: فلا تخبرهم يا أبا هريرة!)، ونحو ذلك حديث معاذ بن جبل حين قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تبشرهم فيتكلوا)، ولكن معاذاً أخبر بها عند موته تأثماً، أي: خشية الوقوع في الإثم. **.

ضرورة التواضع والطلاقة عند مخاطبة الناس

ضرورة التواضع والطلاقة عند مخاطبة الناس وعليك عند خطابك للناس أن تكون متواضعاً مقبلاً عليهم بوجه طلق، لا تكلمهم وأنت مصعر الخد لهم، فقد قال لقمان لولده: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان:18]، ووصف الله صنفاً من أهل النار بقوله: {ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الحج:9] فثناء العطف والإعراض بالوجه أثناء الحديث، كل ذلك ينافي هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل أقبل عليهم بوجه طلق أثناء الحديث معهم؛ وذلك لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط) وليشعر منك أخوك بالتواضع أثناء الحديث، فهذه رسالة سليمان عليه السلام إلى ملكة من الملوك: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل:30 - 31] لم يسطرها: من الملك الأعظم ملك الإنس والجن والطير، لم يسطرها بالملك الذي يفهم لغة الطير وسخرت له الرياح، ولكن قال مقالة رجل متواضع يشعر بعبوديته لله سبحانه: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ} [النمل:30]، وجرد كل المقدمات ليس من الدكتور سليمان، ولا من الملك سليمان، ولا من المهندس سليمان، ولا من الأستاذ ولا من الوزير، إنما بيسر وسهولة: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل:30 - 31]، ونحو ذلك صدر من رسول الله صلى الله عليه وسلم في رسالته إلى هرقل (بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم)، وفي أثناء الرسالة ما يشعر بالعبودية إذ فيها: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64]، وكذلك قول عموم الرسل لأقوامهم: {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [إبراهيم:11] فهكذا عليك أن تشعر من أمامك بالتواضع له أثناء الحديث، وبخفض الجناح له أثناء الحديث، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً)، فمن تواضع لله سبحانه أعزه الله سبحانه وتعالى.

الإتيان بمقدمات واعتذارات بين يدي التخاطب مع الناس عند الحاجة

الإتيان بمقدمات واعتذارات بين يدي التخاطب مع الناس عند الحاجة ولتقدم بين يدي حديثك وخطابك مع الناس مقدمات إذا احتاج الأمر إلى مقدمات، فالمواضيع ذات الأهمية الكبرى تحتاج أحياناً إلى مقدمات وإلى استهلالات وإلى استفتاحات تتقدم بها بين يدي حديثك، وبين يدي خطابك، والمقدمات تتنوع بحسب المواقف، قد تتقدم الأسئلة، والكلمات باعتذارات بين يدي السؤال، كما قالت أم سليم تقدمة بين يدي سؤالها المحرج أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: (يا رسول الله! إن الله لا يَسْتَحْيِي من الحق -فهكذا قدمت هذه المقدمة- فهل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ قال عليه الصلاة والسلام: نعم إذا رأت الماء)، وقدمت أيضاً أم سليم رضي الله تعالى عنها مقدمة حسنة بين يدي إخبار زوجها بوفاة ولده، فقالت: يا أبا طلحة! أرأيت لو أن قوماً أعاروا قوماً عارية، ثم جاءوا يطلبونهم عاريتهم فمنعوهم فما رأيك في هؤلاء القوم الذين منعوا العارية أن يردوها؟ قال: ما كان ينبغي لهم أن يجحدوا العارية، وما كان ينبغي لهم أن يتبرموا إذا طلبت منهم العارية، قالت: فإن الله سبحانه قد أعارك ولدك ثم قبضه إليه، فانظر كيف أتت بهذه المقدمات الحسان رضي الله تعالى عنها بين يدي حديثها. وها هو كذلك عروة بن مسعود الثقفي يقول للقرشيين المشركين -أثناء صلح الحديبية يحثهم على الإقبال على رسول الله وهو مشرك معهم-: ألستم بالولد؟ قالوا: بلى، قال: ألستُ بالوالد -أي: بمثابة الوالد لكم-؟ قالوا: بلى، قال: ألا تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ وأهل كذا وكذا كي يقاتلوا معكم ضد محمد صلى الله عليه وسلم، فلما امتنعوا مني جئتكم بأهلي وولدي كي نقاتل معكم؟ قالوا: بلى نعلم ذلك، قال: فهل تشكون فيّ، قالوا: لا، قال: فإني أعرض عليكم خطة رشد، إن هذا الرجل أتاكم بخطة -يعني: محمداً صلى الله عليه وسلم- فيها خير لكم، فدعوني حتى آتيه، فمثل هذه المقدمات قدم عروة بن مسعود حديثه مع المشركين حتى يقنعهم بمقالته، وهذا أسلوب مسلوك متبع في كتاب الله، قال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [المؤمنون:84 - 85]، فأحياناً يتقدم الخطاب بسؤال للفت نظر المخاطب، ولهذا سأل الرسول أصحابه جملة من الأسئلة؛ لتنبيههم على الإجابات التي تأتي بعد هذه الأسئلة حيث قال: (أتدرون أي يوم هذا؟) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: (يوم النحر، (أتدرون من الرقوب فيكم؟) قالوا: الرقوب من لا ولد له يا رسول الله! قال: (لا، ولكن الرقوب من لم يقدم شيئاً من الولد)، فأحياناً يتقدم الكلام بتقديمات على حسب ما يقتضيه المقام، إن جئت تعاتب شخصاً فلا بأس أن تثني عليه وتمدحه بالحق بين يدي العتاب؛ وذلك لأن الله قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [التوبة:43]، فتقول للشخص أنت: سامحك الله لم فعلت كذا؟! أنت شاب نبيه وذكي من الأذكياء، فلم صنعت هذا الذي لا يليق بك ولا يليق بمستواك العقلي؟! فالانتقاد وإن كان شديداً منك، لكنه قدم بهذه الكلمات: نعهدك ذكياً، نعهدك تفهم دائماً فلم صنعت كذا؟! فيحاول المخاطب أن يرجع إلى أصله من الذكاء والنباهة فيعتذر عن الخطأ الذي صدر منه؛ كراهية أن ينفر منك، فلمّا خاطبته بهذا الخطاب الجميل أقر واعترف بخطئه، فلذلك يتقدم العتاب أحياناً بمثل هذه الكلمات: (عفا الله عنك) تثني عليهم، ثم بعد ذلك تدخل مع الثناء العتاب ضمناً، وهذا كما أسلفنا مذهب سُلِكَ، فأنت إذا جئت تكلف شخصاً بشيء ثقيل فانتظر حتى يأتي معه شيء من الأشياء الخفيفة على القلب والنفس، فأدخل هذه مع تلك، ونحو ذلك قال عمر بن عبد العزيز: إني أريد أن أخرج للناس بالمرة، أي: بالتكليف المر، أو بالكلمة المرة، فأنتظر حتى تأتي الحلوة، فأدخل المرة معها، فلذلك ينبغي أن تفهم هذا وأن تتجه إليه. قال الله سبحانه وتعالى لإبراهيم صلى الله عليه وسلم: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ * إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود:74 - 75] ثم قال الله له: {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} [هود:76] بعد قوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} جاء بعد أن أثنى على إبراهيم بأنه الحليم الأواه المنيب، فقال الله له: {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا}. ، وضمّن أيضاً خطابك وانتقادك دفاعاً عن المنتقد ودفاعاً عن المخاطب، فإن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه الكريم في شأن داود وسليمان عليهما السلام: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء:78 - 79] فحتى لا يُتّهم داود بقلة الفهم من أقوام جاهلين، قال تعالى بعد قوله: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء:79]: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:79]، ثم ذكر منته على داود بقوله: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:79]، وكذلك قال ربنا سبحانه وتعالى في شأن يعقوب عليه الصلاة والسلام: {وَقَالَ يَا بَنِيَ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ * وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا} [يوسف:67 - 68]، ثم أثنى الله على يعقوب حتى لا يظن أحد ظن السوء بيعقوب صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى مثنياً عليه: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:68].

ضرورة الإمساك عن الكلام إلا الكلام الحسن

ضرورة الإمساك عن الكلام إلا الكلام الحسن فإذا لم يكن في الكلام فائدة فأمسك عن الكلام فهو خير لك، واحفظ ماء وجهك أمام الناس، وإذا كان لزاماً أن تتكلم وأن تتخاطب مع الناس فلا يسعك حينئذ إلا الامتثال لأمر الله، ألا وهو: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83]، وقوله: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء:53] وقوله تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} [الإسراء:53]، وقال سبحانه كذلك: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34]، وقال تعالى في شأن أهل الإيمان أولي الألباب: {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} [الرعد:22]، وفيها وجهان لأهل العلم: الوجه الأول: أنهم إذا شُتِموا، أو سُبوا، أو لُعِنوا من أحد قابلوا ذلك بعفوٍ وبصفح وبإحسان، بل وبدعاء لمن ظلمهم ولمن أساء إليهم. الوجه الثاني في قوله تعالى: {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} [الرعد:22] أي: يتبعون السيئة الحسنة كما في قوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114]، وكما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها) فلزاماً عليك إذا تخاطبت مع الناس أن تتكلم بالكلمة الطيبة وبالكلام الجميل الحسن، فإن الكلمة الطيبة شعار للمتكلم بها، فالطيبون تصدر منهم الكلمات الطيبة، والخبثاء والشريرون تصدر منهم الكلمات الخبيثة، وتصدر منهم الكلمات الشريرة، قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ} [النور:26] وعلى رأي أكثر المفسرين أن المراد بها: الكلمات والعبارات الخبيثة تصدر من الخبيثين، وقوله تعالى: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور:26] المراد بها: أن الصالح يحرص على الزواج بالصالحة والعكس بالعكس، وهذا أيضاً وجه للمفسرين. فالكلمة الطيبة شعار لقائلها، وعلامة على طيب قائلها، وعلى حسن خلق قائلها، والكلمة الخبيثة عكس ذلك، ثم الكلمة الطيبة تصعد إلى السماء، فتفتح لها أبواب السماء قال الله سبحانه: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10]، أما الكلمات الخبيثة فقد اجتثت من فوق الأرض كالشجرة الخبيثة {مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} [إبراهيم:26]، ثم إن الكلمة الطيبة صدقة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الكلمة الطيبة صدقة)، ثم أيضاً الكلمة الطيبة تتقى بها النار، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة)، فبالكلمات الطيبة تذهب الشحناء وتزال من القلوب، وبالكلمات الطيبة تحل المشاكل بين العباد، وترفع الخصومات التي بينهم، وبالكلمات الطيبة تثبت المودة والمحبة في القلوب. فكم من مشكلة حلت بسبب كلمة طيبة! وكم من جريمة دفعت بسبب كلمة طيبة! وكم من صلات قد قويت بين الأرحام بسبب كلمات طيبة. وعلى العكس فكم من جريمة قد ارتكبت بسبب وشاية وبسبب كلمة خبيثة! وكم من نيران قد سعرت بسبب الوشايات من النمامين! وكلمات النمامين الخبيثة! بل حروب بين دول قد وقعت بسبب كلمات خبيثة وكلمات شريرة!

جواز استخدام الكلمات الشديدة عند الحاجة

جواز استخدام الكلمات الشديدة عند الحاجة فلا يسعك حينئذ إذا أردت الكلام إلا أن تتكلم بالكلم الطيب، الذي به يرضى الله سبحانه وتعالى عنك، ولكن أحياناً يحتاج الأمر إلى شدة في الألفاظ، وأنت حين تشتدّ ينبغي أن تكون كالطبيب المعالج، فالطبيب الذي يعطي للمريض الإبرة يعلم تمام العلم أن الإبرة تؤلمه وتوجعه، والطبيب الذي يقضي ببتر ساق المريض يعلم أن بتر الساق يؤلم؛ ولكنه لدفع شر أعظم، واتجهوا إلى هذا العلاج إذا لم يكن ثَمّ وسائل أخر تقوم مقامه، ثم يقلع عن هذا النوع من الدواء إذا ارتفع المرض، وكذلك الكلمات، الأصل استعمال الكلم الطيب؛ لقوله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83]، ولقوله تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء:53]، فهذا الأصل في التعاملات مع الناس وفي التخاطبات معهم، لكن إذا احتاج الأمر منك إلى لفظ لاذع وشديد فبحسبه، يستعمل اللفظ اللاذع والشديد ثم يقلع عنه إذا ارتفع الداء، وقد استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من ذلك، فقال: (من تعزى بعزاء الجاهلية فعضوه بهن أبيه)، وقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه ل عروة بن مسعود الثقفي: اذهب فامصص بظر اللات. إذاً: يجوز استعمال كلمات شديدة في هذا الباب، على ألا تكون ديدناً متبعاً في كل الأحيان، بل عند وجود المرض فقط، إذا كان الذي أمامك لا ينزجر إلا بكلمة شديدة فاشتدّ حينئذ حتى ينزجر ثم ارجع إلى مقامك الأول من حسن الخلق وطيب الكلام. جاءت غنائم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه فيها سيفاً، فقال: (نفلنيه يا رسول الله! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ضعه. ثم غلبت سعداً نفسُه، فقال: نفلنيه يا رسول الله! قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ضعه. ثم غلبته نفسه كذلك، فقال: نفلنيه يا رسول الله! قال: فحد لي رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته، فقال: ضعه من حيث أخذته)، واشتدّ الرسول في اللفظ، وهكذا سلك الخضر مع موسى عليهما السلام لما قال موسى له -وكان قد أخذ عليه العهد ألا يسأله عن شيء إذا أراد اتباعه-: {قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} [الكهف:71 - 72] ثم لما رجع موسى إلى السؤال مرة ثانية، {قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا} [الكهف:74] فاشتدد له الخضر في الكلام، فاستعمل كلمة زائدة عن الكلام الأول {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ} [الكهف:75]، فأدخل كلمة (لك) التي تفيد الشدة في اللفظ، فينتقل الأسلوب ويتغير على حسب حال من هو أمامك، إذا احتاج إلى شدة استعملت معه، وإلا رجعنا إلى أصلنا من الكلم الطيب والحديث الحسن العذب.

مراقبة الله في الأقوال

مراقبة الله في الأقوال وابتداء ينبغي أن يعلم العبد أن ألفاظه وكلماته مسجلة عليه، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18]، ويقول سبحانه: {بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف:80]، ويقول سبحانه: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:29]، ويقوله سبحانه: {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة:6]، فأفادت هذه النصوص كما أفاد غيرها كذلك: أن كلمات العبد تسجل عليه، وقال فريق كبير من أهل العلم: حتى المزاح، وحتى اللهو، وحتى قول الرجل لجاريته: ناوليني الطعام، أو هذا الطعام ناقص الملح، أو زائد السكر، فكل ذلك يسجل على العبد، فإذا كانت الكلمات تسجل على العبد، فجدير بالعبد أن يقلل الكلمات قدر الاستطاعة، وعلى هذا حثنا ربنا سبحانه في كتابه، قال الله سبحانه وتعالى في شأن أهل الإيمان: {والَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:3]، وقال سبحانه كذلك في شأنهم: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان:72]، وقال سبحانه كذلك: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:55]، وكذلك حثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)، وتقدم مراراً قول الإمام النووي رحمه الله تعالى: إذا استوى عندك الوجهان في الكلام، ولم تدر هل في الكلام خير أو ليس فيه خير، لزمك الإمساك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فليقل خيراً أو ليصمت)، وقال صلوات الله وسلامه عليه: (من صمت نجا)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم كذلك: (إن الله كره لكم قيل وقال)، وقال عليه الصلاة والسلام أيضاً: (وإن من أبغضكم إليّ الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون)، قال الترمذي رحمه الله تعالى: والثرثار: هو كثير الكلام، ولذلك كانت كلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم قليلة، قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكلم كلاماً لو عدّه العادُّ لأحصاه)، وقالت: (لم يكن صلوات الله وتسليماته عليه يسرد الحديث كسردكم، إنما يتكلم كلمات لو عده العادُّ لأحصاه). هكذا تصف أم المؤمنين عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكثرة الكلام منافية للهيبة، ومذهبة للوقار، ومذهبة للبهاء، وموقعة في الزلل، وموقعة في الخطأ، ومدعاة لكثرة الحساب ولطول الحساب يوم القيامة، ثم هي أيضاً تجعل الناس يملُّون حديثك، ولذلك لما كان عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه يتخوّل أصحابه بالموعظة كل خميس، فقالوا له: يا أبا عبد الرحمن! لو حدثتنا كل يوم، قال: (إني أكره أن أملّكم، وإنما أتخولكم بالموعظة كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوّلنا بالموعظة؛ كراهية السآمة علينا). أي: كراهية أن يتسرب إلينا الملل. ويتأكد الإمساك عن الكلام إذا لم يكن في الكلام فائدة، فإذا لم يكن في الكلام فائدة فامتنع عنه بالكلية، ولذلك قال هؤلاء الفتية النجباء العقلاء الأذكياء أصحاب الكهف -لما استيقظوا من منامهم-: {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف:19] أي: قال بعضهم: لبثنا يوماً، وقال آخر: لبثنا نصف يوم، أو ثلث يوم، فاتفقت كلمتهم على أن قالوا: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} [الكهف:19] وانقطع حينئذ الجدال، واتجهوا حينئذٍ إلى العمل، فقالوا: {َابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} [الكهف:19]، وفي نفس السورة قال الله سبحانه وتعالى موضحاً هذا الأدب من وجه آخر: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف:22]، ولما أقبلت مريم عليها السلام تحمل وليدها بين يديها، وعلمت يقيناً أن قومها لن يصدقوها إذا قالت لهم: أتاني الملك فنفخ فيّ من روحه، فلم يصدقها القوم حينئذ، ولذلك أمرت بالسكوت وأمرت بالصمت؛ إذ ليس للكلام فائدة قال الله لها: ((َإِمَّا تَرَيْنَ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا)) أي: صمتاً {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} [مريم:26]، وكذلك عائشة رضي الله تعالى عنها لما قال لها الرسول صلى الله عليه وسلم مقالته في حديث الإفك: (إن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله فإن العبد إذا أذنب واستغفر الله غفر الله له، قالت: والله! قد رميتموني بأمر الله يعلم أني منه بريئة، ولو قلت لكم: إني لبريئة لم تصدقوني، فلا أجد لي ولكم مثلاً إلا كما قال أبو يوسف: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18]).

الأسئلة

الأسئلة

خطبة العيدين واحدة بلا جلوس أثنائها

خطبة العيدين واحدة بلا جلوس أثنائها Q قرأتُ أن لخطبة العيدين جلسة استراحة ولكن أئمتنا لا يعملون بذلك فما هو الوجه في ذلك؟ الإجابة: باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. لم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجلس جلسة استراحة في خطبة العيد، إنما هي خطبة واحدة على الصحيح، والذين قالوا بأن هناك جلسة استراحة قاسوها على خطبة الجمعة، والله سبحانه وتعالى أعلم.

حكم من أراد أن يكتب لبعض أولاده بشيء من المال

حكم من أراد أن يكتب لبعض أولاده بشيء من المال Q رجل كبير السن تزوج امرأتين توفيت الأولى وأنجبت منه ثلاثة، ثم تزوج الثانية وأنجبت ثلاثة، ولكن الثلاثة الذين أنجبتهم الأولى جائرون على إخوتهم الصغار الذين هم من الزوجة الثانية؛ لأنهم صغار، فهل يجوز له أن يكتب للثلاثة الصغار نصف البيت؟ الإجابة: لا يجوز لك ذلك، إنما إذا أردت أن تقسم التركة قسمت على كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام وتحفظها، ولا تمكن أحداً منها إلا بعد الوفاة كل يتسلم نصيبه؛ خشية أن يجور أحد على أحد، فلك أن تكتبها وتحفظها مع رجل من الصالحين، فإذا توفاك الله، فكل يأخذ قسمه الذي قسمه الله تبارك وتعالى له، هذا محله إذا خشيت أن يضيع على الصغار حقهم من هؤلاء الجائرين.

حكم قراءة القرآن بدون وضوء

حكم قراءة القرآن بدون وضوء Q هل تجوز قراءة القرآن بدون وضوء؟ الإجابة: نعم تجوز؛ لحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه)، ولما أخرجه البخاري ومسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ من الليل، فنظر إلى السماء وقرأ العشر آيات الخواتم من سورة آل عمران، ثم قام إلى شن معلقة فتوضأ منها، أي: أنه قرأ العشر الآيات قبل أن يتوضأ صلوات الله وسلامه عليه.

ضعف حديث: من قرأ آيات خواتم الحشر في ليلة

ضعف حديث: من قرأ آيات خواتم الحشر في ليلة Q عن أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: (من قرأ آيات خواتم الحشر في ليلة فقد ضمن له الجنة) ما صحة هذا الحديث؟ الإجابة: في إسناده ضعف.

أسئلة متنوعة [1]

أسئلة متنوعة [1]

حكم إهداء المرأة صداقها لزوجها

حكم إهداء المرأة صداقها لزوجها باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: Q هل تحل الهبة في الصداق؟ A الذي أفهمه من السؤال: هل يجوز للمرأة أن تهب صداقها لزوجها؟ هذا المفهوم، أم السائل يريد شيئاً آخر؟ إذا كان يريد هذا الشيء فإن الله يقول: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء:4]، لكن هذه الآية فيها: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا} [النساء:4] فالأولى فقط أن تتنازل له عن شيء من صداقها، وتحتفظ بشيء منه معها، لكن إن فعلت ووهبته كله لا مانع من ذلك، لكن الأفضل لها أن تحتفظ لنفسها بجزء من صداقها.

حكم أخذ المستأجر مالا من المالك لقاء الخروج من بيته

حكم أخذ المستأجر مالاً من المالك لقاء الخروج من بيته Q إذا كنا مستأجرين فهل الحق في أخذ مقابل مادي لإخلاء السكن؟ سواءً كان هذا المبنى آيلاً للسقوط أم لا، مع العلم أننا حين أخذناه كان الإيجار مناسباً جداً للمالك؟ A لا يحق لك أن تأخذ شيئاًَ من المالك عند خروجك من السكن، فكيف تأخذه؟ وبأي وجه حق تأخذه؟ أنت دفعت إيجاراً مقابل أشهر سكنتها، فعلى أي أساس وبأي وجه حق تأخذ مالاً من المالك؟!

حكم تغيير لون الشعر

حكم تغيير لون الشعر Q هل يجوز تغيير لون الشعر بماء الأكسجين؛ وهو يزيل لون الشعر الأسود ويعطي لوناً أصفراً أو أحمراً؟ وهل هذا يعتبر تغييراً لخلق الله؟ A إذا شهد الأطباء أن هذا لا يضر بالشعر، ولا يؤثر على سلامته فلا بأس، وقد حث النبي على تغيير الشعر والشيب بأنواع ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث كالحناء ونحوها، إذا لم يكن ضاراً بالشعر، فالمعول عليه فتيا الأطباء في هذا.

حكم رفع اليدين في دعاء الجمعة

حكم رفع اليدين في دعاء الجمعة Q هل رفع اليدين في الدعاء وقت صلاة الجمعة جائز أم بدعة؟ A إن فعل أحياناً فلا بأس، لكن المحافظة عليه لا أعلمها واردة عن رسول الله، ولا عن أصحابه.

حكم تشبيك الأصابع في المسجد

حكم تشبيك الأصابع في المسجد Q هل تشبيك الأيدي في المسجد مكروهة أو محرمة؟ A الذي يظهر لي -والله أعلم- أنها ليست بمكروهة وليست بمحرمة، والحديث الوارد في هذا: (إذا عمد أحدكم إلى المسجد فلا يشبكن بين أصابعه) منازع في تحسينه وتضعيفه، من العلماء من يحسنه، لكن متن: (إذا عمد أحدكم إلى المسجد) أي: في الطريق إلى المسجد، ومنهم من يضعفه، وأشار البخاري إلى تضعيفه حيث بوب بباب: (تشبيك الأصابع في المسجد وغيره) -على ما يحضرني- فاستدل بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وشبك بين أصابعه)، وبحديث: (كيف بك يا عبد الله بن عمرو إذا بقيت في حثالة من الناس قد مرجت عهودوهم وخفت أماناتهم، وأصبحوا هكذا؟ وشبك بين أصابعه)، فهذا من ناحية الصحة أصح من حديث: (إذا عمد أحدكم إلى المسجد فلا يشبكن بين أصابعه).

المقصود بالتسبيح قبل طلوع الشمس وقبل الغروب

المقصود بالتسبيح قبل طلوع الشمس وقبل الغروب Q هل يفضل قراءة القرآن بعد صلاة الفجر والعصر إلى طلوع الشمس وإلى غروبها، أم الأذكار الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ A أظن -ولله أعلم- أن منشأ سؤال السائل هو: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه:130]، لكن المراد بالتسبيح في هذه الآية عند كثير من العلماء هو: صلاة الفجر وصلاة العصر، فالتسبيح بمعنى الصلاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل والنهار، فيجتمعون في صلاة الفجر وفي صلاة العصر، فيعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا، ثم تلا: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه:130]) فتنزل هذه على صلاة الفجر وصلاة العصر، هذا إذا كان السائل قد استنبط سؤاله من هذا المعنى للآية الكريمة، لكن إذا كان بعيداً عن الاستنباط فالأمر له بالخيار.

المقصود بالشفع بعد العشاء

المقصود بالشفع بعد العشاء Q هل هناك صلاة نافلة بعد العشاء تسمى الشفع؟ وماذا يقرأ فيها؟ A صلاة النافلة بعد العشاء ركعتان، وبعدها صلاة الليل، وصلاة الليل تختم بالوتر الذي هو: إما ركعتان وركعة، وإما ثلاث ركعات معاً، فالركعتان إذا صليتهما قبل الركعة فبعض العلماء يسميهما: الشفع، فيقرأ فيهما بسورة الأعلى بعد الفاتحة، وفي الثانية بسورة الكافرون بعد الفاتحة.

نصيحة لمن لا يستطيع صلاة الفجر جماعة

نصيحة لمن لا يستطيع صلاة الفجر جماعة Q منذ فترة وأنا أشعر بقلق رهيب فلا أنام طوال الليل، وعندما أسمع قرآن الفجر أغرق في نوم عميق، مع أنني أقول أذكار الليل كل ليلة، وأستعيذ بالله من الشيطان، وأقرأ القرآن منكسراً كي أنام، ولكن دون جدوى، حتى أسمع القرآن في الفجر فأنام وأستيقظ الساعة السابعة، ثم أجد نفسي أبكي، وأجلس هكذا حتى وقت الظهر، ويأتي الليل وكأنه لم يحدث شيء فأغرق في نوم عميق عن صلاة الفجر، فماذا أفعل؟ A اعتصم بالله ثم بالأذكار الواردة في الكتاب والسنة، وإذا شعرت بنوم قبيل الفجر فاخرج إلى المسجد وصل فيه مع المسلمين، ولو قبل الفجر بنصف ساعة، ففي المسجد تتعاون مع إخوانك المسلمين على الخير، وهو وقت من أرجى الأوقات للإجابة، فعندما تقوم في الثلث الأخير من الليل اخرج إلى المسجد واستعن بالله، وكلف من يوقظك من أهل البيت، ولو بنضح الماء على وجهك، والله أعلم.

الصلاة خلف المؤتم

الصلاة خلف المؤتم Q ما حكم الصلاة خلف المؤتم؟ حيث أنه ورد حديث ينهى عن ذلك وهو: لا صلاة خلف مؤتم A يا أخي السائل! -غفر الله لك- لا أعلم حديثاً فيه: لا صلاة خلف مؤتم. فأخبرنا أين رأيته؟!

مراعاة الشرع في تسمية المولود

مراعاة الشرع في تسمية المولود Q حديث: (أحب الأسماء إلى الله عبدالله وعبدالرحمن)، حديث ثابت صحيح هل ورد أحاديث باستحباب أسماء نساء؟ فما أحب أسماء النساء بالنسبة لأولادنا؟ وهل اسم ثوبة شاذ فأغيره أم لا؟ A الرسول ما غير اسم ثويبة، لكن زينب كان اسمها برة فغيره النبي صلى الله عليه وسلم إلى زينب لما قيل له: تُزكي بهذا الاسم. الأسماء الواردة على عهد رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام أو التي استحبها النبي صلى الله عليه وسلم نستحبها، وما سوى ذلك فقد يدخل إلى باب المباح إذا لم يكن فيه شيء يخل بالشرع، أو يدخل إلى باب الكراهية، فمثلاً: شخص يسمي ابنته نانسي، فهذا اسم فيه تشبه، بالكافرات، فلازم إذا أردنا أن نتشبه أن نتشبه برسولنا محمد صلى الله عليه وسلم وبأصحابه رضي الله عنهم. فالاسم الوحيد الذي كرر في القرآن الكريم من أسماء النساء هو: مريم، كرر ما يقارب عشرين مرة، أقل قليلاً أو أكثر قليلاً، فما استحبه رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم نستحبه، وهناك أسماء طيبة على عهد الرسول كأسماء زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم، مثل: ميمونة رضي الله عنها، وصفية رضي الله عنها، وما سوى ذلك، فهو مباح إلا إذا كان هناك معنى قد يحمله على الكراهية أو الاستحباب، فيكون على حسب المعنى الذي أحاط بالاسم، والله تعالى أعلم. ولكن قد توسع بعض الإخوة العلماء في كراهية بعض الأسماء، ولا أعلم لهم في الحقيقة مستنداً، فرأيت بعض إخواننا الدعاة سطر في بعض كتبه كراهية اسم: رحاب، لكن في الحقيقة لا أعلم ما هو الدليل على هذه الكراهية، وكره اسم: وصال، ولا أعلم دليلاً على هذه الكراهية، فالأولى التوقف إلى أن يظهر معنى يحكم لنا على الاسم، وبعدها نحكم عليه إما بالكراهة أو بالاستحباب أو بالتحريم، كاسم فاتن أو فتنة، فهذا يرجع إلى المعنى.

معنى الحية

معنى الحية Q خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الحية، والفأرة، والغراب، والكلب العقور، والحدأة. ما معنى الحية؟ A الحية أنثى الثعابين، والحية تطلق على الثعبان أيضاً. والحدأة: الحداية، والكلب العقور: الكلب الذي يعض.

حكم صلاة الجماعة للمسافر

حكم صلاة الجماعة للمسافر Q هل تجب صلاة الجماعة على المسافر؟ A الجماعة للمسافر فيها نزاع، فالمسافر الذي جد به المسير لا تجب عليه عند الجماهير، والمسافر النازل الذي نزل البلدة التي يريد السفر إليها للعلماء فيه قولان، واستدل بعضهم بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (هل تسمع النداء؟ قال: نعم. قال: لا أجد لك رخصة)، على أنها تجب عليه الجماعة. واستدل بعضهم بأن الأصل في المسافر: أن الجماعة لا تجب في حقه ولا الجمعة، قالوا: أما الجمعة؛ فلأن النبي في عرفات لم يصل الجمعة وكان مسافراً، وكذلك الجماعة من باب أولى.

حكم صلاة النساء في البيت جماعة

حكم صلاة النساء في البيت جماعة Q جماعة من النساء في البيت فهل من الأفضل أن تصلي كل واحدة منفردة أم في جماعة؟ وهل تجهر من أمتهم في الصلاة الجهرية إذا كان لا يسمعها الرجال؟ A يصلين جماعة في البيت ولا بأس بذلك، وقد ورد عن بعض النسوة من السلف هذا الفعل.

حكم صلاة جماعتين في مسجد

حكم صلاة جماعتين في مسجد Q أقيمت جماعة ثانية بالمسجد وتنبهت الجماعتان إلى ذلك، فهل تستمر كل منهما أم تنضم إلى الأخرى؟ A لا أحفظ دليلاً خاصاً في هذا الباب، فالمسألة محل اجتهاد، والله أعلم.

حكم طواف الحائض بالبيت للضرورة

حكم طواف الحائض بالبيت للضرورة Q هل يجوز للحائض أن تطوف بالبيت إذا حان وقت الرحلة وما زال الدم ينزف؟ وعلى أي مذهب؟ A لما حاضت صفية بنت حيي رضي الله تعالى عنها وكانت طافت طواف الإفاضة قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن صفية قد حاضت، قال: (عقرى حلقى)، وهي كلمة تقولها العرب لا يقصدون بها معناها، (عقرى): عقرها الله، (حلقى): يعني أي: حلقها الله، الشاهد قوله: (أحابستنا هي؟ أمؤخرتنا هي؟)، أي: ستسبب لنا تأثيراً لكل القافلة، ثم استدرك وقال: (ألم تكن طافت طواف الإفاضة؟)، قالوا: بلى، قال: (فلتنفر إذاً). إذا كانت المرأة الحائض طافت طواف الإفاضة سقط عنها طواف الوداع، وفي هذا يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (رخص للحائض أن تنفر إذا هي طافت طواف الإفاضة)، أما إذا لم تكن الحائض قد طافت طواف الإفاضة فقد قال الرسول لـ عائشة لما حاضت: (افعلي ما يفعل الحاج إلا أن تطوفي بالبيت) يعني: لا تطوفي بالبيت مادمت حائضاً، فالأصل: أن الحائض لا يجوز لها أن تطوف وهي حائض، فالمرأة الحائض لا يجوز لها أن تطوف أثناء مدة الحيض، ولكن هناك ضرورات تجيز للحائض أن تطوف وهي حائض؟ فهناك ضرورات تبيح المحظورات، فمثلاً: لا يجوز لي أن آكل الميتة، ولكن أحياناً يجوز لي أن آكلها إذا كنت سأموت من الجوع: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:173]، ولا يجوز لي أن آكل من طعام إذا لم يذكر اسم الله عليه، إذا أهل به لغير الله، لكن إذا كنت سأموت من الجوع، فيجوز لي أن آكل، لا يجوز لي بحال أن أكفر، لكن إذا أكرهت على الكفر جاز لك أن تتلفظ بلسانك، لا يجوز لي أن أصلي عرياناً، لكن إذا لم أجد ثياباً فأصلي عرياناً، لا يجوز لي أن أصلي بلا وضوء، لكن إذا لم أجد الماء فأتيمم، كذلك إذا لم أجد الماء ولا التراب أصلي بلا ماء ولا تراب. الأدلة على هذا التأصيل لا حصر لها {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]، {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7]، (بعثت بالحنيفية السمحة)، {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185]، {وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحديد:9]، {وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة:207]، كل هذه النصوص تعمل في مسألتنا. نأتي إلى مسألة المرأة الحائض التي تخشى على نفسها من الضياع إذا تخلفت عن الرحلة، فمثلاً: الحكومة وضعت وقتاً محدداً لإقلاع الطائرة، والرفقة كلها ستنطلق، فمثلاً الرفقة كلها ستنطلق من جدة إلى أستراليا في يوم كذا، المرأة حائض، ماذا تصنع هذه الحائض؟ إن قلنا لها: انتظري حتى تطهري ثم طوفي تقول: نعم سأنتظر، لكن كيف أنتظر بدون محرم؟ محرمي يريد السفر إلى عمله، ويأبى البقاء معي، ولست مأمورة أيضاً بتعذيب محرمي، فماذا نصنع؟ هل يقال لها كما قال بعض الفقهاء: اذهبي إلى بلادك ولا تحلي من إحرامك، ولا يقربك الزوج إلى أن تطهري ثم ارجعي؟ فعند ذلك تقول: هذا في غاية المشقة علي، وليس معي أموال لذلك، والحكومة السعودية لا تسمح للشخص أن يدخل مرة ثانية بالتأشيرة، ووقت الحج سينتهي إذا كانت نفساء مثلاً، فهل نقف مكتوفي الأيدي أمام هذا الأمر أم تتدخل عمومات من الشرع فتحل لنا هذه الإشكالات؟ هذه المسألة أول من طرقها فيما اطلعت عليه بصورة مفصلة متسعة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى؛ لأنها تفشت بعصره بصورة كبيرة، فقد كان الناس يأتون من بلاد بعيدة، ومن قبل كان كل واحد معه جمله ينتظر زوجته وهذا أمر سهل، لكن الآن ارتباطات في مجموعات، ومطوفين، والمرأة لا تعرف، فليس كل النساء متعلمات، فالمهم أنه يخشى عليها أن تفقد وتضيع تماماً إذا لم يكن معها رجل يفهم، ونحن الآن نبني على أناس عقلاء يفهمون، لكن هناك أناس في غاية الجهل. الشاهد: أن شيخ الإسلام ابن تيمية بنى على الضرورة التي وقعت للمرأة بما حاصله: أن الضرورة تقدر بقدرها، يعني: لا يفتح الباب ويقال: يجوز للمرأة المضطرة أن تطوف وهي حائض، لا يفتح الباب على مصراعيه، إنما يفتى لكل محتاج بالقدر الذي احتاج إليه من خلال العمومات الواردة في الشرع، أما من القائل بهذا القول؟ فهو شيخ الإسلام ابن تيمية وانتصر له انتصاراً شديداً جداً، وفي الآخر: ختم البحث بقوله: هذه المسألة ظهرت لي في زمني، ولم أر من تكلم فيها من العلماء من قبلي، فإن كان الذي ذكرته صواباً فمن الله، وإن كان خطأ فمن نفسي ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان من الخطأ، والله أعلم.

عدم ثبوت قصة علقمة في تفضيله زوجته على أمه

عدم ثبوت قصة علقمة في تفضيله زوجته على أمه Q ما حال حديث علقمة الذي فيه أنه يفضل زوجته على أمه، فأمر الرسول بأن يجمع له حطب ونار؟ A لا يثبت.

ضعف حديث تقديم المرأة طاعة زوجها على طاعة أبيها

ضعف حديث تقديم المرأة طاعة زوجها على طاعة أبيها Q الزوجة التي سافر زوجها وأمرها بعدم الخروج فمرض والدها ثم لم تذهب لزيارته؛ لأن الرسول أمرها بطاعة زوجها وعدم زيارة أبيها ثم مات أبوها ودخل الجنة بسبب طاعة ابنته لزوجها؟ A الحديث ضعيف تالف الإسناد.

حكم عقد قران لزان وزانية

حكم عقد قران لزانٍ وزانية Q أعمل مأذوناً شرعياً، وأتاني أهل فتاة زنى بها شاب متزوج، وطلبوا مني أن أعقد لهم القران، فما حكم هذا العقد؟ وكان الشاب الذي زنى موافقاً على العقد وهي موافقة؟ A لا مانع أن تعقد لهما، غاية ما تتخوف منه: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً} [النور:3]، وهذه زانية، فلا بأس، بل استحب بعض السلف ذلك، لأمور منها: من ناحية الستر، ومن ناحية أنهما أعلم ببعضهما، وحتى لا تقع هي تحت رجل صالح وتغرر به، فبعض السلف يستحبون ذلك مادام الزوج موافقاً.

حكم وضع القطن في الأنف والأذن والدبر للميت

حكم وضع القطن في الأنف والأذن والدبر للميت Q هل يجوز وضع القطن في منافذ الميت بعد الغسل؛ أي: في الأنف والأذن والدبر؟ A بالنسبة لوضع القطن في منافذ الميت إن احتيج إليه فعل، وإن لم يُحتج إليه لم يفعل، أما دليل المانعين أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر القطن، فيجاب أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يذكر صفة الغسل تفصيلياً، إنما قال: (اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً أو أكثر إن رأيتن ذلك بماء وسدر، واجعلن في الآخرة شيئاً من كافور)، فالرسول أجمل وأرشد إلى بعض السنن التي تراعى في الغسل، لكنه لم يشر في الحديث إلى جزئيات الغسل باعتبار أن من يخاطبهم الرسول يعرفون كيف التغسيل. فالشاهد: إن احتيج إليه فعل، وإن لم يحتج إليه ترك، والله أعلم.

حكم أخذ أشرطة من مؤسسة تنصيرية وإتلاف ما فيها

حكم أخذ أشرطة من مؤسسة تنصيرية وإتلاف ما فيها Q لقد راسلت مؤسسة تنصيرية واعتبروني صديقاً لهم، وأرسلوا لي الهدايا والكتب والشرائط، الشاهد: أنني آخذ الشرائط وأسجل عليها، فهل ينطبق عليهم قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال:36] A نعم ينطبق عليهم ذلك وأنت لك نيتك، لكن لا تراسلهم خشية أن تقع بعد ذلك في محظور.

حكم لبس المراة القفازين أمام النساء

حكم لبس المراة القفازين أمام النساء Q هل يجوز لبس القفازين للنساء أمام النساء؟ A الجمهور يرون أن عورة المرأة على المرأة كعورة الرجل على الرجل، فيقولون: إنها من السرة إلى الركبة إلا إذا خشيت من امرأة أن تصفها لزوجها، فحينئذ سيكون هذا من باب دفع الفساد، {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205]، فعلى ذلك: لبس المرأة الكف أمام امرأة أخرى لا أعلم دليلاً على تحريمه، والذي عنده دليل من الإخوة الجالسين يذكرني به جزاه الله خيراً. المختصر من أقوال أهل العلم في عورة المرأة أمام المرأة: أن كثيراً من أهل العلم يقولون: عورة المرأة على المرأة كعورة الرجل على الرجل، وبعضكم يقول: لا يوجد دليل لكن قد تشتهي المرأة المرأة، فنقول: إذا وجدت مفسدة فنحن معك في أن المنع يتعين؛ لأن الله لا يحب الفساد.

تحريم الخلوة بابنة الخال

تحريم الخلوة بابنة الخال Q عرضت علي ابنة خالي العمل معها في مشروع تجاري -صيدلية- هل يجوز لي البقاء معها في مكان واحد؟ A إذا كانت الخلوة ستتحقق فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يخلون رجل بامرأة فإن ثالثهما الشيطان)، ولا أظنها لن تتحقق، بل ستتحقق يقيناً، فوجودك الدائم مع امرأة في صيدلية في عمل واحد لا بد أن تتحقق أوقات الخلوة، وتخرج كلمة، وترى منها عورة، وترى منك، فالبعد أحوط لك في دينك، والله تعالى أعلم. إلا إذا كانت خلوة ستتحقق فيحرم قولاً واحداً.

عدم القيام مع القدرة في صلاة النافلة

عدم القيام مع القدرة في صلاة النافلة Q هل القيام ركن في صلاة النافلة عند القدرة كما هو ركن في صلاة الفرض؟ A من العلماء من يفصل بين الفرض والنفل، ويستدل بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (أجر القاعد على النصف من أجر القائم)، فيفصل بهذا الحديث بين صلاة النفل ويقول: يجوز فيها أن تجلس؛ لكن أجرك على النصف ولا تبطل الصلاة، هذه وجهة القائلين بأنها ليست ركناً في صلاة النفل. والله أعلم.

تقييم الشيخ لكتاب: عمر أمة محمد

تقييم الشيخ لكتاب: عمر أمة محمد Q هل قرأت كتاب: عمر أمة محمد؟ A هذا الكتاب بعنوان: عمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم، تلقاه الناس، وفي الكتاب فصل باطل من أصله، وفيه خرافات كثيرة وصريحة، ولكن في ثنايا الكتاب أورد بعض الأحاديث الصحيحة ووضعها في موضعها، لكن الفصل الذي من أجله طبع الكتاب، ووسم الكتاب باسمه فصل خطأ، ولكن الأخ -جزاه الله خيراً- أرسل لبعض الإخوان من أهل العلم، وقال: إنني مستعد للتراجع في جريدة الأهرام وصحيفة الأخبار بعد أن ترسلوا لي التقييم الكامل للكتاب. والفصل هو تحديد عمر الأمة، وهو يستدل بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنما بقاؤكم في الأمم من قبلكم من العصر إلى غروب الشمس)، فيقول: إن اليهود -مثلاً- على الاستقراء للشريعة من الصبح إلى الظهر، والنصارى من الظهر إلى العصر إلخ

هل من شروط الإمامة أن تكون في مكة

هل من شروط الإمامة أن تكون في مكة Q شرط الإمام الأعظم أن يكون قرشياً، وهل من شروط الإمامة أن تكون في مكة؟ A لا، لا يشترط أن يكون مكانها قريش، وإلا فـ علي انتقل إلى الكوفة رضي الله تعالى عنه، ومعاوية انتقل إلى الشام. وحديث: (الأئمة من قريش) عده عدد من العلماء من الأحاديث المتواترة.

تعريف اليتيم

تعريف اليتيم Q هل اليتيم الذي مات أبوه قبل أن يبلغ؟ A نعم، هو الذي مات أبوه قبل البلوغ.

حكم القنوت في صلاة الفجر

حكم القنوت في صلاة الفجر Q حكم القنوت في صلاة الفجر؟ A فيه أربعة آراء للعلماء ذكرناها بأدلتها من قبل: أحدها: أنه مستحب، وهو قول الإمام الشافعي؛ لحديث البراء بن عازب وفيه: (كان رسول الله يقنت في المغرب والفجر)، قالوا: فنسخ القنوت في المغرب وبقي في الفجر كما في صحيح مسلم، وهذا رأي الشافعي. وقال فريق آخر من أهل العلم: نقنت عند النوازل فقط؛ لحديث أنس وغيره: (أن النبي قنت شهراً يدعو على رعل وذكوان وعصية عصت الله ورسوله). قول ثالث: وهو معزو إلى الأحناف: إنه بدعة؛ لحديث: (أي بني! محدث). القول الرابع وهو قول ابن حزم حيث يقول: فعله حسن وتركه حسن؛ لأن الرسول قنت وترك. هذه أربعة أقوال فصلناها في محاضرة سابقة فليرجع إليها الأخ. فالشاهد: أنك لا تشتد مع المخالفين في هذه الجزئية، حتى لو واظب عليه بعض الأئمة كالشافعية فإنه لا يدخل في الابتداع، وهذه من المسائل التي لا تحتاج إلى تشنجات زائدة، مسألة فيها وجهان للعلماء، اختر رأياً؛ لأن كل رأي مدعم بالدليل، وإذا كان عندك استعداد للمناظرة فلتناظر حتى نخرج حكماً. اختر أي رأي، قلت لك: الإمام الشافعي استدل بحديث البراء، ولكل قول جملة من الأدلة، لكن أذكر لك نموذجاً لكل احتجاج، احتج بحديث البراء: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقنت في الصبح). فأثبت الإمام الشافعي مشروعية القنوت في صلاة الصبح، بل وبالغ وفسر الصلاة الوسطى بأنها صلاة الصبح؛ لأن فيها القنوت. وغيره من العلماء استدلوا في المقابل بحديث: (أي بني! محدث) قال سعد بن طارق: سألت أبي عن القنوت في الفجر. فقال: (أي بني! محدث) فأجيب على هذا بأن المثبت مقدم على النافي، وأجيب بإجابات أخر منها: أن طارقاً الذي هو والد سعد بن طارق كان وافداً على الرسول وانصرف، فمجالس الرسول نقله أوقع في القلب من وافد وفد على الرسول ثم انصرف. قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن من البيان لسحراً)، فأنت يمكن أن تقرأ لكاتب يسحبك سحباً إلى مراده فتقع في رأيه وأنت لا تشعر، وبعد ذلك يرسخ هذا الرأي في ذهنك وتنافح وتكافح من أجله أشد الكفاح، فتصبح المسألة عندك منتهية، فإخواننا الجالسون أغلبهم يتجهون للقراءة -مثلاً- في كتاب زاد المعاد، وهو كتاب موفق في الغالب، لكن رأي مؤلفه ابن القيم رحمه الله في مسألة القنوت رأي محدد وهو: أنه يقنت عند النوازل فقط، لكن إذا تحولت لقراءة كتب الشافعية لتغير رأيك شيئاً ما، أو على الأقل إذا ما تغير فإنك ستلتمس عذراً لمن خالفك في هذا الرأي، فالشاهد: التنويع في القراءة مطلوب أيضاً، والبحث عن الدليل في كل مكان.

سرقة المرأة من مال زوجها

سرقة المرأة من مال زوجها Q امرأة تسرق من مال زوجها، ويتكرر هذا أكثر من مرة، وهجرها في المضجع، ولكنها ما زالت مصرة حتى أنه تسلل الشك إليه من ناحيتها، فماذا يفعل؟ A قال الله جل وعلا: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء:34] فعليه أن يستعمل الوعظ، ثم إذا استعمل الوعظ هجر في المضجع، فإن لم يؤد الهجران في المضجع إلى نتيجة ضربها ضرباً ليس بالمبرح، وبعد هذا إن أصرت على ذلك فعليه أن ينظر إلى حجم السرقة؛ فإن سرقت -مثلاً- في الشهر جنيهين أو خمسة فليتغافل عن ذلك، أما في الشهر تسرق نصف الراتب مثلاً، فهذا شيء كثير، بمعنى أنه ينظر إلى المفاسد والمصالح العامة، فيمكن أن تكون سرقتها لغرض، فلما بشر أعرابي ببنت قال: ما هي بنعم الولد، قالوا له: لم؟ قال: نصرها بكاء، وبرها سرقة. أي: إذا جاءت لتنصرني من شخص اعتدى علي، فإنها ستظل تبكي عليَّ، وإذا أرادت أن تكرمني بإكرام فإنها ستسرق من بيت زوجها وتعطيني. فالشاهد: أن سبب أخذ زوجته للمال بغير إذنه، فإما أنه ممسك وشحيح؛ فحينئذ معها مستند شرعي أن تأخذ، قال الرسول لـ هند: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)، أو أنها -مثلاً- تريد أن تصل أبويها وهو محجر عليها ومضيق عليها في ذلك، فقد تأتي أمها -مثلاً بأكل، وهي تريد أن ترد لأمها شيئاً من هذا الطعام، فتقتطع جزءاً من المال وتشتري به شيئاً لأمها، فهي ليست مصيبة لكونها لم تستأذن الزوج، لكن لا تكون الوقفة كما ذكر أخي أن نقول له: طلقها! لا الله لا يبتليك به.

حكم التبول قائما

حكم التبول قائماً Q ما حكم التبول قائماً؟ A التبول قائماً جائز إذا أمن ارتداد الرذاذ عليه؛ لحديث حذيفة في البخاري: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم فبال قائماً).

حجب الأبناء للأحفاد في الميراث

حجب الأبناء للأحفاد في الميراث Q توفيت والدتي في حياة والديها، وتوفي والديها بعد ذلك وتركوا ميراثاً، ولكن خالي وخالتي يقولان: ليس لي شيء؟ A نعم ليس لك شيء، أمك ماتت وأبوها حي وأمها حية، بعد ذلك مات جدك، لم تأخذ أنت الميراث، وهناك من يحجبك، فإذا قلت: آخذ ميراث أمي، أمك ماتت، والميت لا يرث، فمادام هناك من يحجب فليس لك شيء، أما الحكومة فتجعل وصية واجبة للأحفاد بما لا يتجاوز ثلث التركة.

حال حديث: (لا تخف من ذي سلطان)

حال حديث: (لا تخف من ذي سلطان) Q حديث: (لا تخف من ذي سلطان مادام سلطاني وملكي لا يزول) A ضعيف لا يثبت.

الفرق بين حج المفرد والقارن والمتمتع

الفرق بين حج المفرد والقارن والمتمتع Q الفرق بين حج المفرد والقارن والمتمتع؟ A المفرد: الذي يقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك حجاً، فيأتي إلى مكة ويطوف بالبيت ويسعى -يقدم السعي إن شاء- ويبقى على إحرامه حتى يأتي يوم الثامن فيخرج إلى منى ويكمل أعمال الحج. أما القارن: فيأتي ويقول: لبيك حجاً في عمرة، يأتي يطوف ويسعى ويبقى على إحرامه، ويكون عليه هدي، وأيضاً لا يتحلل من عمرته، ويذبح هديه يوم النحر. أما المتمتع: فيعتمر، وبعد أن يعتمر يتحلل، وبعد أن يتحلل يأتي يوم الثامن ويهل بالحج، فعليه دم للتمتع. فالقارن والمتمتع عليهما دم، وهذا يتحلل من عمرته -أي: المتمتع-، والقارن يقرن بينهما، أما المفرد فليس عليه دم.

حكم تأجير الموزع للمجلات دون علم المالك

حكم تأجير الموزع للمجلات دون علم المالك Q آخذ جريدة أو مجلة وأدفع ثمنها مع الاتفاق مع البائع على ردها مرة أخرى مقابل أن أترك له نسبة عشرة في المائة من الكراء، فهل هذا جائز أو غير جائز؟ A الظاهر أنه لا يجوز؛ لما فيه من استهلاك للجريدة أو المجلة، بصرف النظر عن الموضوعات التي فيها، فهذه المجلات لو هي ملكه الخاص فهو اشتراها، بمعنى: هب أنني ناشر مثلاً، اشتريت كتباً من دور نشر أخرى وتملكتها، فلي أن أسمح بذلك وأقول لك: خذ الكتاب واقرأه وأعطني -مثلاً- عشرة قروش، أو خذ المجلة واقرأها وأعطني عشرة قروش، لكن إذا كنت موزعاً لم أشتر، فإنما أنا موكل في بيع هذه الكتب، فالذي يباع يباع والذي لا يباع يرد، فلا يجوز لي أن أعطيك المجلة تقرؤها وآخذ عشرة في المائة منك؛ لأنني سأرد المجلة ثانية إلى أصحابها وتكون قد استهلكت، فلا يجوز إلا إذا كان صاحب المجلات متملكاً لها، أما إذا كان وكيلاً في البيع أو موزعاً فلا يجوز.

لا فرق بين قولك: (صلى الله عليه وسلم) وقولك: (عليه الصلاة والسلام)

لا فرق بين قولك: (صلى الله عليه وسلم) وقولك: (عليه الصلاة والسلام) Q يقول الأخ أنت تقول: (عليه الصلاة والسلام) وقال أحد المشايخ: إن الصحيح أن تقول: (صلى الله عليه وسلم)؟ A الذي عهدته من تصرفات السلف أنهم يقولون: (صلى الله عليه وسلم)، ويقولون: (عليه الصلاة والسلام) ـ وكل هذا داخل تحت قوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، فنعيد الكرة إلى من يقول: إن الأفضل أن تقول: (صلى الله عليه وسلم) فنسأله سؤالاً: من أين جاء تفضيل قول: (صلى الله عليه وسلم) على قول: (عليه الصلاة والسلام)؟ لم يرد في حديث (صلى الله عليه وسلم) فيما علمت، إنما الذي درج عليه السلف هو استعمال الصيغتين، وإن كان التغليب عندهم وهو: (صلى الله عليه وسلم) أما (صلى الله عليه وسلم) جوازها مأخوذ من قوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، مأخوذ منه (صلى الله عليه وسلم)، و (عليه الصلاة والسلام) أما الصيغ التي علمنا إياها رسول الله كحديث كعب بن عجرة قل: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد إلخ الصلاة الإبراهيمية، فلا تستطاع في كل مجلس، وكلما ذكر الرسول، إنما هو لعقب التشهد، كذلك رواية أبي حميد الساعدي، وكذلك غيرها من الروايات. الشاهد: أن الظاهر الجواز والله أعلم، والمانع عليه الدليل.

اختلاف حكم اللقطة باختلاف الزمان والمكان والحجم

اختلاف حكم اللقطة باختلاف الزمان والمكان والحجم Q هل هناك حد أدنى للقطة حتى يمكن أخذها والانتفاع بها؟ A اللقطة تختلف من مكان إلى مكان، ومن زمان إلى زمان، فلو فقد شخص عند محطة الدولة في المنصورة عشرة جنيهات فإنه لن يبحث عنها لا سنة ولا شهر اً واحداً ولا أسبوعاً، لكن إذا سقطت في القرية فإنه قد يبحث عنها شهراً، فكلما مر بمكانها تذكر؛ لأن القرية محدودة، فاللقطة تختلف من مكان إلى مكان، ومرد ذلك إلى الأعراف، فالذي يجد لقطة يظن أن أهلها سيبحثون عنها وأنها ذات قيمة فإنه يعرفها التعريف الشرعي لمدة سنة، والذي يجد لقطة لن يبحث عنها إلا يوماً أو يومين، فيستمتع بها بعد مرور التعريف المشروع. مثلاً: الرسول عليه الصلاة والسلام سئل عن لقطة الغنم، فقال: (لك أو لأخيك أو للذئب)، يعني: إما أن تأخذها أنت، وإما أن يأتي صاحبها ويأخذها، وأما إذا لم تأخذها أنت ولا صاحبها أتى الذئب وأكلها، فمثل هذا الحديث هل نطبقه هنا الآن؟ قد انعدمت الذئاب هنا، فنقول: تختلف اللقطة من مكان إلى مكان إلى مكان، ومن زمان إلى زمان، وتختلف في الحجم أيضاً.

عدم لزوم عقوبة للذنب في الدنيا

عدم لزوم عقوبة للذنب في الدنيا Q هل لا بد للذنب من عقوبة في الدنيا قبل الآخرة؟ A لا، لا يلزم: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]، وحديث: (إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه)، إسناده متكلم فيه لكن معناه ثابت، قد يحرم الرزق بالذنب يصيبه، {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف:96]

حكم إمامة المرأة للرجال

حكم إمامة المرأة للرجال Q هل يجوز للمرأة أن تؤم الرجال في الصلاة؟ A لا يجوز؛ لأنه لم يرد أصلاً أن المرأة تؤم رجلاً، والله تعالى يقول: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء:34]، وضم إلى ذلك أيضاً حديث: (خير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها)، كل ذلك يفيد أن المرأة لا تؤم الرجل.

حكم ذهاب المرأة إلى طبيب

حكم ذهاب المرأة إلى طبيب Q المرأة إذا كانت في حالة ولادة هل يجوز إرسالها إلى طبيب أمراض نساء؟ A إن اضطرت إلى ذلك، ولم تجد امرأة كفئاً من النساء ذهبت، والضرورة تقدر بقدرها.

حكم أخذ الشعر الخارج في الخدين

حكم أخذ الشعر الخارج في الخدين Q ما حكم أخذ الشعب الخارج في الخدين؟ A له حكم أخذ ما زاد على الخدين من الشعر، شخص يأخذ من الشعر الذي على خديه. اللحية العظم، فالخدين فيهما تفصيل: كل ما كان على العظم التي هي اللحية لا يجوز أخذه، أما إذا نبت على الوجنتين شعر فيجوز أخذه، وليس كل ما على الوجه يسمى لحية، فمثلاً: بعض الناس ينبت لهم شعر بين الأنف والخد، فهذا ليس من اللحية أما اللحية فهي العظم. فالظاهر والله أعلم: أن الشعر البعيد عن هذه العظمة يجوز أخذه خاصة إذا كان يؤذي، والله أعلم.

الصبر على طاعة الوالدين

الصبر على طاعة الوالدين Q والدي يضربني لحضوري المساجد، ويضربني لإطلاق اللحية، ويضيق علي في أموري، ويبعدني عن الصالحين؟ A اصبر على والدك، وادع الله سبحانه وتعالى له.

حكم قراءة العريان للقرآن

حكم قراءة العريان للقرآن Q هل يجوز لشخص قراءة القرآن داخل الحجرة وهو عريان؟ A الله أحق أن يستحيا منه من الناس، قاله النبي صلى الله عليه وسلم، والسلف كانوا يوقرون كتاب الله غاية التوقير. وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

أسئلة متنوعة [2]

أسئلة متنوعة [2]

حكم صيام العشر الأول من ذي الحجة

حكم صيام العشر الأول من ذي الحجة Q ما حكم صيام العشر الأول من ذي الحجة؟ A صيام العشر الأول من ذي الحجة ورد فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثان: الحديث الأول: حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها الذي أخرجه مسلم وفيه: (ما صام رسول الله صلى الله عليه وسلم العشر قط). الحديث الثاني: أخرجه النسائي وغيره من طريق راوٍ يقال له: هنيدة بن خالد، رواه مرة عن حفصة قالت: (أربع لم يكن يدعهن رسول الله صلى الله عليه وسلم: صيام العشر)، واختلف على هنيدة، فرواه مرة عن أمه عن أم سلمة مكان حفصة، ومرة عن أم سلمة مباشرة، وثمّ أوجه أخر من أوجه الاختلاف! فمن ناحية الصحة الظاهر -والله سبحانه أعلم- أن حديث عائشة الذي في صحيح مسلم أصح، وإن كان فيه نوع اختلاف عن الأعمش ومنصور أيضاً، لكن من العلماء من حاول التوفيق بين الحديثين وقال ما حاصله: إن كل زوجة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حكت الذي رأته، ولكن تمادت فنفت، أو تمادت فأثبتت، فالرسول صلى الله عليه وسلم إنما كان يدور على كل امرأة في كل تسعة ليال ليلة، فعلى هذا يقال: إذا صام الشخص أحياناً وأفطر أحياناً، أو صام سنوات وأفطر سنوات فله وجه، وإذا عمل بأي من الرأيين فله سلف. ومن أهل العلم من أدخل الصيام ضمن الأعمال الصالحة الواردة في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله عز وجل من هذه العشر. قالوا: ولا الجهاد يا رسول الله. ؟ قال: ولا الجهاد، إلا أن يخرج أحدكم بنفسه وماله ثم لا يرجع من ذلك بشي)، والله أعلم.

عدم ورود أحاديث في فضل صيام العشر من ذي الحجة

عدم ورود أحاديث في فضل صيام العشر من ذي الحجة Q هل وردت أحاديث في فضل صيام العشر؟ A لا أعلم أي حديث ورد في فضل صيام العشر إلا العمومات الواردة في فضل الصيام.

حكم الموسيقى

حكم الموسيقى Q ما حكم الموسيقى؟ A قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه البخاري معلقاً: (ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف) والمعازف منها: الموسيقى، فعلى قوله: (يستحلون) يعني: أنها محرمة، والله أعلم.

الحذر من الصديق أكثر من العدو

الحذر من الصديق أكثر من العدو Q احذر عدوك مرة واحذر صديقك ألف مرة فلربما انقلب الصديق فكان أعلم بالمضرة هل يوجد شيء من الكتاب أو السنة يوافق هذا الكلام؟ A لا أعلم شيئاً يوافق هذا الكلام، ولكن من العلماء من حسن حديث: (أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما)، وإن حسن -مع أننا نرى أنه ضعيف- لكن أيضاً لا يؤدي هذا المعنى.

عدم صحة حديث صور الأنبياء

عدم صحة حديث صور الأنبياء Q حديث الصور للأنبياء هل هو صحيح؟ A ليس بصحيح.

صحة حديث: (لا أجمع على عبدي خوفين ولا أمنين)

صحة حديث: (لا أجمع على عبدي خوفين ولا أمنين) Q حديث فيه يقول الله عز وجل: (لا أجمع على عبدي خوفين ولا أجمع له أمنين: إذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة، وإذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيام)؟ A لا يثبت.

حديث وضوء النبي كلما خرج من الغائط

حديث وضوء النبي كلما خرج من الغائط Q عن منصور عن إبراهيم قال: حُدثت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرُ خارجاً من الغائط قط إلا توضأ؟ A لا يصح.

حديث: (من صمت نجا)

حديث: (من صمت نجا) Q عن عبدالله بن عمرو حديث: (من صمت نجا)؟ A حديث: (من صمت نجا) حسن، ولكن له فقه، فللصمت أوقات، وللكلام أوقات.

صحة حديث: (أقصر من الطعام، فإن أطولهم شبعا في الدنيا أكثرهم جوعا يوم القيامة)

صحة حديث: (أقصر من الطعام، فإن أطولهم شبعاً في الدنيا أكثرهم جوعاً يوم القيامة) Q حديث: (أقصر من الطعام فإن أطولهم شبعاً في الدنيا أكثرهم جوعاً يوم القيامة)؟ A الحديث إسناده ضعيف، ومن العلماء من حسنه بناءً على أنه في فضائل الأعمال للتقلل من الطعام.

حديث: (من كانت الدنيا أكبر همه)

حديث: (من كانت الدنيا أكبر همه) Q ما صحة حديث: (من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه)؟ A لا يثبت.

حكم بيع دفاتر الموسيقى

حكم بيع دفاتر الموسيقى Q حكم بيع كراسات الموسيقى؟ A تقدم ضمناً.

حديث: (كنس المساجد مهور الحور العين)

حديث: (كنس المساجد مهور الحور العين) Q ( كنس المساجد مهور الحور العين)؟ A لا يصح.

حديث زواج الرجل في الجنة ألف حورية كل شهر

حديث زواج الرجل في الجنة ألف حورية كل شهر Q ( إن من أهل الجنة من يتزوج في شهر واحد ألف حوراء يعانق كل واحدة منهن مقدار عمره في الدنيا) ? A لا يثبت، كل الأحاديث التي الأخ ذاكرها في هذا الباب لا تثبت.

حكم نظر المرأة إلى مجموعة رجال

حكم نظر المرأة إلى مجموعة رجال Q بعض الطالبات في الجامعة يقلن: بجواز النظر إلى مجموعة الرجال طالما أنها لا تنظر إلى شخص بعينه حتى أنهن يشاهدن بعض المسرحيات الدينية؟ A صحيح أن من العلماء من قال: إنه يجوز للمرأة أن تنظر إلى مجموعة الرجال؛ لأن عائشة نظرت إلى مجموعة الأحباش؛ ولأنه وردت في بعض الطرق أن امرأة ثابت بنت قيس كانت تنظر إلى زوجها في وسط الرجال، وهذا يحتاج إلى نظر في إسناده؛ ولأن النساء كن يصلين خلف الرجال، لكن محل هذا كله إذا أُمنت الفتنة؛ لقوله تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:31]، فإذا المرأة نظرت فإنها ستشتهي الرجل أو يقع في قلبها رجل فحينئذ يحرم عليها أن تنظر؛ لقوله تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:31]. لكن من ناحية الجواز جائز لحديث: (اعتدي عند ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك عنده)، أما حديث: (أفعمياوان أنتما)، فهو ضعيف.

حكم جلوس العالم مع مجموعة من الفتيات بدون حاجز

حكم جلوس العالم مع مجموعة من الفتيات بدون حاجز Q ما حكم جلوس عالم مع مجموعة من الفتيات بدون حاجز بينهم؟ A إذا كانت الفتنة مأمونة والنسوة مستترات جاز وإلا فلا، والجواز محله وسنده أن النبي كان يعظ النساء بعد صلاة العيد وبلال معه، فإذا كانت النسوة مستترات والفتنة مأمونة جاز، لأن الله يقول: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205].

صحة حديث: (من صلى قبل الظهر أربعا وبعده أربعا)

صحة حديث: (من صلى قبل الظهر أربعاً وبعده أربعاً) Q حديث: (من صلى قبل الظهر أربعاً وبعده أربعاً دخل الجنة)؟ A لا أعلمه ثابتاً، فيه كلام.

حياة عيسى عليه السلام

حياة عيسى عليه السلام Q هل رفع عيسى عليه السلام كان وهو حي أو ميت؟ A الظاهر أنه حي، أما قوله تعالى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران:55]، فقد تقدم الكلام عليه بما حاصله: أن الوفاة تطلق على النوم، {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} [الزمر:42]، وقيل: الواو لا تقتضي الترتيب بل تقتضي مطلق التشريك، فقولك: جاء زيد وعمرو لا يعني أن زيداً جاء ثم جاء عمرو، (فإني متوفيك ورافعك) لا يمنع أن تكون (رافعك ثم متوفيك) أي: إذا جاء أجلك، وقد تقدمت مباحث في ذلك، والله يقول: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} [النساء:157].

هل تصح قراءة شيء من القرآن بعد الفاتحة في جميع الركعات

هل تصح قراءة شيء من القرآن بعد الفاتحة في جميع الركعات Q هل تصح قراءة القرآن بعد الفاتحة في جميع الركعات؟ أم أنها تتعين في الركعتين الأوليين فقط؟ وما حكم من لم يقرأ شيئاً من القرآن بعد الفاتحة في صلاة الفريضة والنافلة مع قدرته على القراءة؟ A بالنسبة للقراءة بعد الفاتحة في صلاة الظهر في الركعة الثالثة والرابعة يجيزها بعض العلماء أحياناً، أما العصر فتجوز قراءة سورة بعد الفاتحة لكن الأولى تركها عندهم، فوجه ذلك: أن النبي عليه الصلاة والسلام لما وصف الصحابي صلاته قال: (كان يقرأ في الظهر في الأوليين بنحو من ثلاثين آية، وفي الأخريين على النصف من ذلك، وكان يقرأ في العصر في الأوليين بنحو من خمسة عشر آية، وفي الأخريين على النصف من ذلك) فدل ذلك على أن الأخريين في الظهر أطول من الأخريين في العصر؛ لأن الأخريين من الظهر بقدر الأوليين من العصر، فاستنبط بعض العلماء من هذا الحديث أن العبد يشرع له أن يقرأ أحياناً في الركعتين الأخريين من الظهر. أما الذين قالوا بالاقتصار على الفاتحة فقالوا: إن النبي كان يقرأ في الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة، وفي الأخريين بفاتحة الكتاب، فهذا يحمل على تعدد أحوال رسول الله، فأحياناً كان يفعل هكذا وأحياناً كان يفعل هكذا، وليس هناك دليل يمنع. أما من لم يقرأ شيئاً أصلاً بعد الفاتحة فصلاته صحيحة.

حكم صيام العشر من ذي الحجة قبل قضاء صوم رمضان

حكم صيام العشر من ذي الحجة قبل قضاء صوم رمضان Q هل يجوز صيام العشر الأيام الأول من ذي الحجة قبل قضاء أيام الحيض التي كانت في رمضان؟ A نعم يجوز، لكن قضاء أيام الحيض قد يكون أولى؛ لأن أيام الحيض واجب أن تقضى، لكن ليس لصيام أيام العشر كبير فضل لما سمعتموه من خلاف في مشروعية صومها، فإن قال قائل بصومها للتي كان عليها أيام من أيام الحيض؛ لأن أمد قضاء أيام الحيض موسع فله وجهته، وهي وجهة صحيحة، ومن قال بتقديم الفرض على النفل فوجهته أيضاً صحيحة، ولا تخفى عليكم.

حكم صلة بنات العم والخال

حكم صلة بنات العم والخال Q هل صلة الرحم تصل إلى بنات العم وبنات الخالة؟ وما هي كيفية صلة الرحم لي، وهن كلهن متزوجات وفوق الأربعين؟ وهل يجوز الجلوس معهن مع وجود محرم؟ A نعم، كل ذلك جائز إذا أمنت الفتنة، فتقول: السلام عليكم، وكلمتين طيبتين، وهدية خفيفة، وتنصرف.

حكم بيع التقسيط

حكم بيع التقسيط Q سمعت تحليل فضيلتكم للبيع بالتقسيط، فما الدليل على ذلك علماً بأن أكثر أهل العلم الموجودين سمعت منهم التحريم؟ A كلامك على حد سماعك، وإلا فجل علماء السعودية -بمعنى: الأكثر- يفتون بالجواز، أما الأدلة على جواز البيع بالتقسيط مع زيادة السعر فمنها: الدليل الأول: قوله تعالى: {أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة:275] وهذا بيع. الدليل الثاني: حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (البيعان بالخيار)، وهذا بيع، والبائع فيه بالخيار. فأصل البيوع جائزة لهذين الدليلين؛ لأن الرسول باع واشترى، فنقول للقائل: ما هو المانع أصلاً؟ إذا كان عندنا الأصل الثابت: أن البيوع حلال، {وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ} [الفرقان:20]، فأصل البيوع حلال، فالذي يمنع صورة من صور البيوع يمنعها بدليل، ويشترط في الدليل الصحة، والصراحة، أي: أن يكون الدليل صحيحاً صريحاً في البيع أو نصاً في البيع. أما القائلون بمنع بيع البائع بالتقسيط مع زيادة السعر، فقد تشبثوا بحديث واحد وهو: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة وقال: من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا)، فمن ناحية الصحة قوله: (فله أوكسهما أو الربا)، ضعيف لا يثبت، الثابت: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة)، هذا الثابت، فقلنا لهم: إن الحديث غير واضح المعنى، فما معنى: (نهى رسول الله عن بيعتين في بيعة)؟ قالوا: أن تبيع السلعة بثمن نقداً وبثمن أعلى إلى أجل، فنجيب عليهم: إننا لا نرتضي هذا التفسير؛ لأن الأكثرين على تفسير آخر، ولأن السلعة إذا بيعت بثمن نقداً وبثمن أعلى إلى أجل إنما بيعت بيعة واحدة، إما بيعت بثمن ما نقداً، أو بيعت بثمن ما إلى أجل، فهي بيعة واحدة، فما هو تفسير العلماء للبيعتين في بيعة؟ أما الذين قالوا بالجواز كـ ابن القيم وغيره وعدد كبير من العلماء قالوا: معنى أن تباع السلعة بيعتين أي: أن السلعة نفسها تباع بيعتين كما في الحديث، فمثلاً: أن أبيع هذه السلعة بعشرة لأحمد إلى أجل، فأحمد اشترى مني السلعة وعليه لي عشرة جنيهات، ثم أحمد نفسه يبيعني نفس السلعة التي اشتراها بعشرة يبيعها لي بثمان جنيهات نقداً، فيكون مديناً لي بعشرة جنيهات، والذي أخذه مني ثمانية، فالسلعة بيعت بيعتين بين بائع ومشتر، بيعت مرة من المشتري للبائع، ومرة من البائع للمشتري، مرة نقداً ومرة ديناً، فكانت كالحيلة للوصول إلى الربا، فهذا تفسير البيعتين في بيعة. ويستدل لما سبق بأثر -وإن كان فيه كلام- لكن ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في أكثر من أربعين موضعاً تقريباً في مجموع الفتاوى، وهو أثر زيد بن أرقم وفيه: أن امرأة أتت إلى عائشة فقالت: (يا أم المؤمنين! إني بعت زيداً عبداً نسيئة بثمانمائة درهم أو دينار، واشتريته منه نقداً بستمائة) فقالت لها عائشة: (أخبري زيداً أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب) وإن كان في الأثر إلى عائشة كلام، لكن هي صورة البيعتين في بيعة، فكذا قال عدد كبير من العلماء. فعلى ذلك: الذي يقول بالتحريم ليس معه بحث مضن، وقد قابلت عالماً فاضلاً ألف في هذه الجزئية كتاباً يمنع، وهو الشيخ عبدالرحمن عبدالخالق حفظه الله، فسألته: هل يوجد في الباب دليل يمنع غير هذا الحديث؟ قال: ليس هناك شيء إلا هذا مع بعض الأقيسة في هذا الباب. أقول: مادام هذا وقد اختلف معك غيرك في تفسير البيعتين في بيعة فلا معنى بالتحريم؛ لأن الأقيسة قد تخون الشخص عند تقرير الأحكام. مثلاً: مسائل الربا تختلف عن البيوع، والرسول صلى الله عليه وسلم جاء إليه رجل بتمر، فقال له: (من أين أتيت بهذا التمر الجيد؟ هل كل تمر المدينة هكذا)، قال: (لا يا رسول الله كان عندي صاعان من تمر رديء فاشتريت بهما صاعاً من تمر جيد) فمن ناحية العقل أنه يجوز ذلك، لو تقول لي: عندنا صاعان من تمر الواحد بخمسين جنيهاً، وهناك صاع تمر بمائة جنيه، فالعقل يقتضي أنه يجوز لي أن أعطيك الصفيحة التي بمائة وآخذ الصفيحتين اللتين بمائة، لكن الرسول نهى وقال: (بع تمرك واشتر حيث تشاء)، فمن ناحية العقل يقرها، لكن الرسول منع، فالبيع شيء حلال والربا شيء حرام، وهذا هو الظاهر لي والله تعالى أعلم، ومن أراد المزيد فليرجع إلى كلام العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في هذا الباب. ويا حبذا لو رجعتم لكلام الأوائل، والصورة التي وصفناها من البيعتين في بيعة التي اخترناها وذكرناها الإمام الشافعي يجيزها إذا لم يكن هناك تواطؤ، فالإمام الشافعي يقول: إذا جاءت عفواً، أي: أنت اشتريت مني ثم بعت لي بدون تواطؤوتخطيط، فهذا حلال؛ لأن الأصل أن البيع حلال.

حكم الحلف بالطلاق المعلق بشرط

حكم الحلف بالطلاق المعلق بشرط Q رجل أقسم على زوجته بأنها ستكون طالقاً إذا ذهبت إلى منزل أبيها، بعد فترة رق قلبه لها ثم اصطحبها بنفسه إلى بيت أبيها، فهل يقع اليمين بالطلاق، أم ماذا؟ A الذي يبدو لي أنه لا يقع، والله أعلم.

حكم فسخ الخطبة بعد النظر إلى المخطوبة

حكم فسخ الخطبة بعد النظر إلى المخطوبة Q شاب عمره ثمانية وعشرين سنة يعمل في السعودية ثم جاء إلى مصر ليخطب، فتعرف على فتاة وعائلتها عن طريق قريبته، وأخبرت أخت العروس القريبة أن عمر أختها أربع وعشرون سنة، تردد الشاب في البداية ولكنه حسبها في رأسه فاتفقوا أن يشتروا (الشبك) ولكن قبل أن تحدث الخطوبة على الملأ سأل الشاب الفتاة عن عمرها فقالت: ست وعشرون سنة، أيضاً اكتشف أن نظرها ضعيف، وهي اعترفت له بذلك وأنها ترتدي نظارة، فكانت النتيجة أنه عدل عن قراءة الفاتحة، فما الحكم؟ A هذه قصة طويلة، والسائل من المفروض أن يكون فقيهاً فيختصر السؤال، فقصر الخطبة وإطالة الصلاة مئنة على فقه الرجل، فإذا أراد أن يترك خطيبته فلا حرج عليه.

لا تعارض بين نصوص القرآن

لا تعارض بين نصوص القرآن Q يقول الله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} [الأعراف:32]، ويقول: {وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:28]، فهل هناك تعارض؟ A ليس هناك تعارض أبداً، هذه في باب وهذه في باب، باب الحل والتحريم: الله أحل لك الطيبات، لكن لا تعد عيناك عنهم طالباً زينة الحياة الدنيا عند هؤلاء الكفار، أي: أن الزينة حلال لكن إذا جئت تترك الزينة حرام عليك تركها.

عدم ثبوت دفن النبي عليه الصلاة والسلام لأظافره أو شعره

عدم ثبوت دفن النبي عليه الصلاة والسلام لأظافره أو شعره Q هل كان النبي يدفن أظافره التي يقصها، ويدفن شعر رأسه الذي يقصره؟ A لم يثبت شيء من ذلك.

أحوال القبر من علم الغيب

أحوال القبر من علم الغيب Q هل يكون الإنسان بعد دخول القبر على الحالة التي كان عليها في الدنيا عند سؤال الملكين؟ A الله أعلم كيف يكون، لكنه يقام ويقعد ويحاسب، الكيفية يعلمها الله سبحانه وتعالى.

حديث: (من صلى أربعين يوما كتبت له براءتان)

حديث: (من صلى أربعين يوماً كتبت له براءتان) Q حديث: (من صلى أربعين يوماً لا تفوته تكبيرة الإحرام كتبت له براءتان من النار ومن النفاق)؟ A في إسناده ضعف.

حكم الصلاة على المنتحر

حكم الصلاة على المنتحر Q المنتحر من المسلمين هل يصلى عليه؟ A بالنسبة للحكم في المنتحر هل يصلى عليه أو لا يصلى عليه؟ أتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم برجل قتل نفسه بمشاقص فلم يصل عليه. فذهب فريق من أهل العلم: إلى أن المنتحر لا يصلى عليه لهذا الحديث. والجمهور: رءوا أن المنتحر يصلى عليه. فكيف أجابوا على حديث فعل الرسول من عدم الصلاة؟ قالوا: إن الرسول ما صلى عليه زجراً لأمثاله، لكنه ما نهى عن الصلاة عليه، قالوا: إن الرسول ما صلى عليه، لكنه لم ينه عن الصلاة عليه، والله أعلم.

حكم اكتشاف عيب في الزوجة

حكم اكتشاف عيب في الزوجة Q شاب تزوج بفتاة واكتشف أنها لا تحيض! فماذا يفعل وقد كتبت عليه قائمة بالعفش؟ A إن تسأل عن الناحية القانونية لا أعلم عنها شيئاً، اسأل المحامي. إن كنت تسأل عن الناحية الشرعية: إذا كانت لا تحيض يتحمل وليها جزاء تغريره بك، وهو الذي يرد إليك الصداق، هذا إذا كانت لا تحيض لعيب، لا لصغر.

حكم إزالة الوشم بماء النار

حكم إزالة الوشم بماء النار Q رجل صنع بيده وشماً وكتب: أعز الناس أمي، ورسم قلباً عليها، ثم تاب بعد أن علم أن الوشم حرام، لكن لا يمحى هذا الوشم إلا بطريقتين: بماء النار وهذا يشوه الجسد، أو بأشعة الليزر ولكنه مكلف، فهل يجب عليه الإزالة أم لا؟ A إن استطاع أن يزيلها بدون ضرر ولا مشقة أزالها وإلا فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، والتوبة تجب ما قبلها.

حكم تحدث الزوجة بما يقع بينها وبين زوجها في الفراش

حكم تحدث الزوجة بما يقع بينها وبين زوجها في الفراش Q امرأة حدثت بما حدث بينها وبين زوجها في الفراش، فما هو الحل الذي يتخذه الزوج؟ A علمها سنة رسول الله أن الذي يحدث بأمور الفراش كشيطان يجامع شيطانة، علمها وأدبها وفهمها الشرع، فإن انتهت فالحمد لله، وإن لم تنتهي فاهجرها في المضجع، فإن لم تنتهي فاضربها ضرباً ليس بمبرح، والله أعلم.

حكم قراءة القرآن لمن لا يجيد التجويد

حكم قراءة القرآن لمن لا يجيد التجويد Q هل يحرم علي القراءة في المصحف ما لم أتعلم قواعد التجويد على يد قارئ من القراء؟ A يكره أن تقرأ خطأ، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (الذي يقرأ القرآن وهو يتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران) أي: إذا كان هناك لحن واضح.

حكم تحديد مدة القصر في السفر

حكم تحديد مدة القصر في السفر Q سافرت لمحافظة خارج محافظتي للعمل هناك ولا أدري كم أبقى هناك شهرين أو أكثر، فهل أقصر الصلاة أم أتم؟ A من أهل العلم من قال: تقصر وإن طالت المدة إلى ستة أشهر أو سنة مادمت مسافراً ولا تدري متى الرجوع. والجمهور يقولون: تتم بعد الأربعة أيام أو الثلاثة أيام بعد الخورج، واختياري مع القائلين بأنك تقصر؛ لأنه لا دليل على التقييد بأيام. والله أعلم.

حديث: (من أفرى الفرى)

حديث: (من أفرى الفرى) Q ما صحة حديث: (إن من أفرى الفرى أن يري العبد في المنام عينيه ما لم تريا)؟ A الحديث صحيح، ومعناه: إن من أكذب الكذب، وأشد أنواع الافتراء أن تقول: أنا رأيت الليلة كذا وكذا في النوم، وأنت ما رأيت شيئاً، الرسول يقول: (من كذب في حلمه كلف أن يعقد يوم القيامة بين شعيرتين وليس بعاقد)، أي: الذي يكذب في الحلم يأتي يوم القيامة ويكلف أن يربط حبتين شعير مع بعضهما، وهو لن يستطيع، فيعذب بذلك، فإما أن تربط أو تعذب.

حديث: (إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم)

حديث: (إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم) Q ما صحة حديث: (إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم وإنما يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق) A لا أعلمه عن رسول الله.

حكم زواج رجل من امرأة رضع من جدتها

حكم زواج رجل من امرأة رضع من جدتها Q هل يحل لي الزواج من فتاة قد رضعت من جدتها؟ A لا يحل لك الزواج بها؛ لأنك إما عم لها أو خال من الرضاعة.

معنى حديث: (من سن في الإسلام سنة حسنة)

معنى حديث: (من سن في الإسلام سنة حسنة) Q ما معنى: (من سن في الإسلام سنة حسنة)؟ A مناسبة الحديث توضح: أن الرسول كان جالساً في المسجد فأتاه قوم من غطفان مجتابي النمار -يلبسون جلود النمار- فلما رأى ما بهم من الفقر والفاقة قام فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) [النساء:1] الآيات، فقام رجل فتصدق فتبعه الناس فقال الرسول: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها) فهنا السنة ليس معناها اختراع أو إحداث في الدين، إنما فعل بر أمر الله سبحانه وتعالى به.

حكم فسخ عقد الزواج بسبب إخلاف والد الزوجة لموعد الزفاف

حكم فسخ عقد الزواج بسبب إخلاف والد الزوجة لموعد الزفاف Q أخ عقد بأخت، وقال والد الأخت: الدخول بعد سنة، ثم انتهت السنة، فقال: بعد سنة أخرى، وأخلف الوعد أكثر من مرة، فهل يجوز أن أفسخ العقد؟ A يجوز، لكن إن كنت تحب زوجتك، وهذا الذي صبرك، فاصبر حتى يأتي الفرج من الله.

الحكمة من منع أكل آل بيت رسول الله الصدقة

الحكمة من منع أكل آل بيت رسول الله الصدقة Q ما الحكمة من عدم أكل النبي وآل بيته الصدقة؟ A قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما هي أوساخ الناس)، ولأن الله سن وشرع له ذلك عليه الصلاة والسلام، وهذا أمثل ما يجاب به في مثل هذه المواطن.

حكم عمل المرأة

حكم عمل المرأة Q هل يجوز عمل المرأة مع عدم الحاجة إلى عملها؟ A إن كان بالضوابط الشرعية جائز، لكن الأولى أن تستقر في بيتها.

حكم إخراج زكاة المال في بناء المساجد

حكم إخراج زكاة المال في بناء المساجد Q هل يجوز إخراج زكاة المال للمساجد؟ A لا يجوز أن تخرج زكاة المال في بناء المساجد؛ لأن المساجد ليست من المصارف الثمانية: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ) [التوبة:60]، فالبند الوحيد الذي يمكن أن يدخل هو في سبيل الله، لكن (سبيل الله) عند جمهور المفسرين المراد به: الجهاد ومتبوعاته. ومن العلماء من يوسع في قوله تعالى: (في سبيل الله) ويدخل فيه المساجد ولكنهم قلة قليلة، والجمهور على أن بند (في سبيل الله) خاص بالجهاد وملحقاته.

حكم النوم جنبا

حكم النوم جنباً Q إذا جامع الرجل زوجته قبل أن يقول أذكار النوم فهل له أن يقولها وهو جنب وفيها قراءة آية الكرسي والمعوذتين؟ A يكره له أن ينام على جنابة، سئل النبي صلى الله عليه وسلم: (أينام أحدنا وهو جنب يا رسول الله؟! قال: نعم، إذا توضأ).

حكم الصلاة في ثوب به مني

حكم الصلاة في ثوب به مني Q ما حكم الصلاة في ثوب به مني؟ A إذا كان يابساً فافركه وصل فيه، وإذا كان رطباً فاغسله، هذا الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما إذا علمت بوجوده وتركته على حاله فقد خالفت السنة، والصلاة صحيحة.

طاعة الزوج مقدمة على صلة الأرحام

طاعة الزوج مقدمة على صلة الأرحام Q حدث بين زوجي وزوج أختي مشكلة، وأدى ذلك أن زوجي يمنعني من زيارة أختي عندما تحضر من سفرها، ويقول لي: لا يريد أن يسمع سيرتها على الرغم من أنها ملتزمة، وتبذل كل ما في وسعها بالهدايا لي ولبناتي ولإرضاء زوجي قبلي، فماذا أصنع؟ A ادع الله سبحانه وتعالى أن يهدي زوجك ويسمح لك بالذهاب، فإذا أذن فالحمد لله، أما إذا ما أذن فيمكن أن تذهبي إلى والديك أو والدك وتلتقي مع أختك عندهما، فإن ما تيسر هذا ولا ذاك فاصبري وأرسلي إليها كلمات طيبة منها: أنا أرغب في المجيء إليك لكن يحول بيني وبينك حائل من الشرع وهو طاعة الزوج، وعليك أن تذكري الزوج بأنه بعمله هذا قاطع للرحم في هذه الصورة.

حكم من ينشر صورا فيها استهزاء بالرسول عليه الصلاة والسلام

حكم من ينشر صوراً فيها استهزاء بالرسول عليه الصلاة والسلام Q ما الرأي فيما حدث من اليهود الذين نشروا صورة تستهزئ بالرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن الكريم؟ وأرجو من قيادات جماعة أنصار السنة أن تشجب وتعلن ذلك بأعلى صوت. A صراحة أنت -أيها السائل- سائل ملوم، فالجرم الأكبر ارتكبه الصحفيون المصريون، فالجريمة الكبرى ليست بيد يهود، لكن الصحفي الخبيث الذي نشر هذه الصورة هو المسيء أولاً وأخيراً، فمعلوم عندنا جميعاً أن اليهود والكفار يسبون الإسلام ويسبون الله ورسوله، فكون صحفي ماجن -نسأل الله أن يجازيه بنيته- يأتي إلى صورة وينشرها، وفيها سب لرسول الله فمعناه: أنه يقصد سب الرسول صلى الله عليه وسلم، فاللوم على الصحفي الماجن، وعلى كل من شارك في هذا العمل، وعلى كل أخ أرسل سؤالاً في هذا الباب أيضاً، فالبعض يتداولون الأوراق في مثل هذه الأشياء، وكان ينبغي أن تدفن أصلاً، وبعض الطائشين -على ما بلغني- في بعض البلاد علق هذه الصورة وقال: اثأروا للمسلمين من اليهود! أنت بهذا العمل تفضح نفسك ودينك، الآن معلوم يقيناً أن اليهود كفار وأن كل الكفار ينالون من المسلمين بشتى الطرق، هناك أمور تساعد على مثل هذا، فيجب أن يقدم هذا الصحفي إلى محاكمة شرعية لأنه أساء إلى المسلمين. أيها السائل! ليس الأمر موقوفاً على صورة نشرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو صورة مثلت لشخص من أهل الصلاح أو لنبينا محمد أو لغيره، هناك ما هو أعظم من ذلك، فلا تستثار بمسألة صورة، وأما ترتيباتك لحرب اليهود فبالطريقة التي يسلكها أهل العلم، والله أعلم

علاج العين

علاج العين Q إذا وقع ضرر من جراء الحسد بالفعل، فأي شيء من القول أو الفعل نضبطه لأجل التعويض العاجل والآجل من قبل الله عز وجل؟ A إن كان الذي حسد ممن يمتثلون أمر الله، وطلب منه الغسل فليغتسل، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلب من عامر بن ربيعة أن يغتسل وقال: (إذا استُغسلتم فاغتسلوا)، فيؤخذ الماء ويصب على المحسود، وإن لم يكن من هذا الصنف فباب الدعاء مفتوح، والتعوذات كذلك تقرأ والله هو الذي يكشف الضر، والله أعلم. يغسل داخل إزاره، وليس المراد القماش نفسه، إنما المراد الذي يغطى به الإزار أي: الحقوين، نقطة اتصال نهاية الرجلين بالبطن.

عدم علم الشيخ بوجود رسالة للشوكاني في الوسوسة

عدم علم الشيخ بوجود رسالة للشوكاني في الوسوسة Q هل للإمام الشوكاني رسالة في الشك لمن ابتلي بالوسوسة؟ A لا أعلم شيئاً عن ذلك.

كيفية الجمع بين إخفاء النعمة عن الحاسد وبين الإحسان إليه

كيفية الجمع بين إخفاء النعمة عن الحاسد وبين الإحسان إليه Q كيف التوفيق بين أن تخفي النعمة عمن تظنه يحسدك وأن تعطيه وتحسن إليه؟ A نقول: حتى لا يصل الشخص إلى مرتبة الحساد فأكرمه قبل أن يحسدك، والله أعلم.

أقسام الرؤى

أقسام الرؤى Q امرأة ترى في المنام ما يرى الرجال، وهي ترى رجالاً يعاشرونها معاشرة الزوج وهي لا تعرفهم! هل هؤلاء جن؟ A هذه الرؤيا من الشيطان -والعياذ بالله- أو حديث نفس، الرؤى على ثلاثة أقسام: إما رؤيا من الله، أو حديث للنفس، أو رؤيا تخويف من الشيطان.

المقصود من حديث: (من صلى لله أربعا في أول النهار)

المقصود من حديث: (من صلى لله أربعاً في أول النهار) Q حديث: (من صلى لله أربعاً في أول النهار) هل يقصد بها صلاة الضحى؟ وما تخريج الحديث؟ A لا يقصد بها صلاة الضحى، يقصد بها صلاة أربع ركعات أول النهار. أما تخريج الحديث فهو في مسند الإمام أحمد، وفي سنن الترمذي من حديث نعيم الغطفاني وإسناده صحيح.

الدعاء سبيل الشفاء

الدعاء سبيل الشفاء Q أخ قريب كان ملتزماً وهو طالب في كلية الهندسة، وأصيب بمس منذ خمس سنوات وعولج بالقرآن وكذلك عولج عند طبيب نفسي ولكنه ما زال مريضاً؟ A الله هو الذي يكشف الضر سبحانه وتعالى: {َيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [الأنعام:41]، لا يلزم من كونك تقاضيت العلاج أن تشفى، فالله هو الذي يكشف الضر، وأيوب صلى الله عليه وسلم لبث به بلاؤه ثمانية عشرة سنة حتى رفضه القريب والبعيد إلى أن دعا ربه، فباب دعاء الله سبحانه وتعالى مفتوح لا يغلق، فعليك به.

فروق بين عدة كلمات في باب النكاح

فروق بين عدة كلمات في باب النكاح Q ما الفرق بين الزواج والنكاح والعقد والتسري والوطء والدخول والبناء؟ A التفريق الدقيق لا أستطيعه الآن، الزواج والنكاح: الزواج من الازدواج أن يكون للشخص زوجة، الزواج أن يتزوج الشخص، والعقد يجعلك بدل أن تكون شخصاً تكون زوجاً معك زوجة. أما النكاح: فأغلب ما يطلق في كتاب الله على عقد الزواج فحينئذ يتساوى مع الزواج، لكن أحياناً يطلق النكاح على الجماع كما في قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230] أي: حتى يتزوجها ويجامعها. أما العقد: فمعروف، يتساوى مع الزواج. أما التسري: أن تتملك أمة من الإماء فتستمتع بها، فالتسري مع الإماء ليس مع الزوجات. أما الوطء فهو الجماع، والدخول هو: الجماع، والبناء كذلك.

حكم العمليات الاستشهادية

حكم العمليات الاستشهادية Q قرأت في إحدى مجلات التوحيد في العام الماضي فتوى بعدم شرعية العمليات الاستشهادية لحركة حماس! وقد استأت جداً لهذا الكلام، وخاصة أن الكثير من العلماء اعتبرها من أفضل أنواع الجهاد؟ A هذه المسألة مازالت محتاجة إلى تحرير دقيق؛ لأن مسألة النصوص الخاصة فيها قليلة، فعند الفتيا فيها تحتاج إلى تجميع نصوص عامة وبعض المرويات الخاصة في هذا الباب، فمثلاً: قد يقول قائل بالجواز -مع أننا نحكي فقط ولا نقطع في الحكم الآن والله أعلم- لأمور ظهرت في أول وهلة عند البحث في هذه الجزئية، مثل ما صح في قصة أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال الراوي عنه: خرجنا إلى غزو الروم ومعنا أبو أيوب الأنصاري فخرجت لنا الروم بجمع عظيم، وخرجنا نحن المسلمون أيضاً بجمع عظيم، فلما تصاففنا قفز رجل من المسلمين إلى صفوف الروم ودخل في وسط الروم يقتلهم فقتل، فقال المسلمون: سبحان الله! ألقى بيديه إلى التهلكة، فقال أبو أيوب الأنصاري: كلا، ما ألقى بيديه إلى التهلكة إنكم تفهمون -أو قال لفظاً قريباً من هذا- الآية على غير وجهها، إن هذه الآية: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195] قال: نزلت فينا معشر الأنصار.

حديث الأذان والإقامة في أذن المولود

حديث الأذان والإقامة في أذن المولود Q ما صحة حديث الأذان والإقامة في أذن المولود؟ A الأذان في أذن المولود اليمنى والإقامة في الأذن اليسرى حديث ضعيف، كذلك: (تصدق بوزن شعره ذهباً) حديث ضعيف.

حديث: (من استنجى من فساء أو ضراط)

حديث: (من استنجى من فساء أو ضراط) Q ما حال حديث: (من استنجى من فساء أو ضراط ليس مني) A لا أعرف شيئاً عن هذا الحديث أبداً، وأظنه إلى الوضع أقرب منه إلى الضعف.

علاج السحر بالرقى الشرعية

علاج السحر بالرقى الشرعية Q بالنسبة لربط الرجال عند الزواج، هل يجوز الذهاب إلى الشيخ لعلاج هذا الربط؟ A أي شيخ؟! ارق نفسك بـ (قل هو الله أحد)، و (قل أعوذ برب الفلق)، و (قل أعوذ برب الناس)، واصدق في التوكل على الله، وذلك أولى من أن تذهب إلى شيخ إلا إذا لمست الصلاح في رجل ليس هو المتخصص الذي يعالج من العفاريت، ويضع يده على النساء، ويغش الناس، ويجعل النساء في غرفة ويقرأ على الجميع، والتي تصرخ تصرخ والتي تصيح تصيح! هذه الخرافات التي لم تكن على عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، إذا لمست الصلاح في شخص يأتي ليرقيك رقية شرعية كما كان الرسول يرقي، أو ارق نفسك بنفسك، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى نفث في يديه المعوذات ومسح بهما سائر جسده. وأبو سعيد الخدري لما كان في سفر ووجد رجلاً لديغاً -ولم يكن متعلماً للرقية- ولا شيء، جلس ورقاه بفاتحة الكتاب، قال: (وما أدري أنها رقية)، فارق نفسك، وأحسن الصدق والتوكل على الله، وأكثر من الأذكار الواردة عن رسول الله في هذا الباب مثل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، والآيتين الأخريين من سورة البقرة، وكل ما ورد فيه نص.

حكم إسبال اليدين بعد الرفع من الركوع

حكم إسبال اليدين بعد الرفع من الركوع Q ما الأصح من أقوال العلماء في اسدال اليدين بعد الرفع من الركوع؟ هل توضع على الصدر أم تسدل؟ A هذه المسألة من المسائل التي تحتمل الوجهين، فيجوز لك -على رأي فريق من العلماء- أن تسدل يديك، ويجوز لك أن تضع اليمنى على اليسرى؛ لأن الأدلة ليست صريحة في هذا الباب، فمن قال: تسدل، قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الركوع رجع كل مفصل إلى موضعه، وقالوا: هذا هو الوضع الطبيعي للمفصل، ومن قال: تضع اليد اليمنى على اليسرى استدل بعموم: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم واضعاً يده اليمنى على اليسرى في الصلاة) و (أمرنا بوضع أيماننا على شمائلنا في الصلاة)، وثم أدلة لهؤلاء، وأدلة لهؤلاء لكن ليست صريحة.

مسألة تقديم اليدين أم الركبتين عند السجود

مسألة تقديم اليدين أم الركبتين عند السجود Q هل تقدم اليدين أم الركبتين عند النزول إلى السجود في الصلاة؟ A بعد ما درست المسألة وقرأت بعض كتب إخواننا الأفاضل من المحققين وكتب علمائنا الأوائل الأفاضل الذين بحثوا المسألة اتضح لي أن الأحاديث الواردة في الباب لا تثبت، وقد أُلفت رسائل في هذا الباب ومنها: رسالة لأخينا الشيخ الفاضل: أبي إسحاق حفظه الله بعنوان: نهي الصحبة عن النزول بالركبة، ورسالة في المقابل لأحد إخواننا أيضاً في السعودية في إثبات النزول بالركبة، ولـ ابن القيم بحث في إثبات النزول في الركبة في تعليقه على سنن أبي داود. فبعد النظر في الأقوال وجدت أن الأقوال محتملة، فهناك مسائل تحتمل الوجهين للعلماء، فإذا تبنيت رأياً واعتقدت صحته اعمل به، ولكن في مثل هذا الموطن لا تثرب على من رأى الرأي الآخر مادام مدعماً بالدليل.

حكم مصافحة العمة والخالة

حكم مصافحة العمة والخالة Q ما حكم مصافحة النساء المحارم مثل: الخالة والعمة؟ A لا بأس في ذلك.

حكم الرجوع في الهبة

حكم الرجوع في الهبة Q اقترض شخص مبلغاً من المال ولما قام بالسداد حلف الآخر بعدم أخذه، ثم رجع وطالب به، فهل من حقه أم لا؟ A الراجع في هبته كالكلب يرجع في قيئه، لكن لعله احتاج أن ترد إليه ماله، فلا تتشبث بالمال فيكون كريم الأخلاق وتكون دنيء الأخلاق، فقد أقرضك مبلغاً من المال فجئت تسدد إليه المال، قال: لا والله! لن آخذه، كرماً منه وفضلاً منه، فلعل الله وسع عليه في ذلك الوقت، وأرجأه منك إلى وقت آخر، لكن هب أنه قال: لن آخذه وليس إرجاءً، وبعد ذلك احتاج إليه فطلبه، فكن أنت كريماً ولا تسأل: هل من حقه أو ليس من حقه؟ فأخلاق الكرام لا تستدعي مثل هذا الموقف، بل أخلاق الكرام: ما جزاء الإحسان إلا الإحسان.

حكم أخذ المخطوبة شيئا من المهر بعد الفسخ

حكم أخذ المخطوبة شيئاً من المهر بعد الفسخ Q بعد فسخ الخطوبة كان الرجل هو الراغب، هل من حق المخطوبة أخذ (الشبكة) مع العلم أنها جزء من المهر؟ A الخطبة لا تجيز للمرأة أن تأخذ أي شيء من الصداق، أما العقد فيجعل المرأة تأخذ نصف الصداق إذا طلقت قبل الدخول بها، أما الخطوبة فلا يحل للمرأة إلا الهدايا التي تتداول، فالراجع في هبته كالكلب يرجع في قيئه.

وقت أذكار المساء

وقت أذكار المساء Q متى تقال أذكار المساء بعد العصر أم بعد المغرب؟ A رأي الأكثرين أنها بعد العصر، والله أعلم.

منهج ابن حزم في العقيدة

منهج ابن حزم في العقيدة Q هناك قول يقول: إن ابن حزم جهمي في العقيدة! هل هذا صحيح؟ A نعم، وصف ابن حزم بأنه جهمي جلد في العقيدة، مع أنه ظاهري في مسائل الفقه إلا أن قدمه زلت في العقيدة زللاً شديداً حتى وصفه عدد من العلماء بأنه جهمي جلد.

حكم إرضاع الطفل حولين كاملين

حكم إرضاع الطفل حولين كاملين Q : { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة:233] هل هذه الآية للوجوب؟ A ليست للوجوب؛ لأن في الآية {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة:233]، فليست للوجوب.

وجوب رد الحقوق إلى أهلها

وجوب رد الحقوق إلى أهلها Q شخص عند استلام مرتبه وجد به زيادة خمسين جنيهاً عن مرتبه ولم يقم بإعادتها للخزينة، وقد تم سداد العجز للخزينة من زيادات رصيد مبيع قسم البيع، ولما لم يعرف الآن صاحب المال قام بالإنفاق بقيمة المال على المسجد فهل قد سقط الدين عنه؟ A نرجو الله أن يكون قد سقط الدين عنه مادام أنه لم يدفعها لشخص بعينه، أما إذا كان القائم على الخزينة هو الذي يتحمله فلا يسقط عنك الدين، لكن مادمت قلت: إن قسم البيع قد سدد المبلغ، ففي هذه الحالة سقط عنه، والله أعلم. وإذا كانت حكومة فالأمر غير القطاع الخاص، فالمسجد أيضاً من مهمات الحكومة أن تنفق عليه، لكن إذا كان قطاعاً خاصاً فلا بد أن يرجع إلى صاحب المال، فالقطاع الخاص لا بد أن ترد المال إلى صاحب العمل.

فضل حلق الذكر

فضل حلق الذكر Q أحضر كثيراً من دروس العلم التي لست بحاجة إليها الآن، وهذا يضيع كثيراً من وقتي، حيث أن هناك أشياء أهم بالنسبة لي، فأنا أرى أن أقرأ الكتب بنفسي في المنزل، فما الرأي في ذلك؟ A عليك أن تقدر مصلحة نفسك، لكن على الأقل لا تحرم نفسك بين الحين والآخر من أن تحفك الملائكة، ومجالس الذكر (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) ثم إن هناك شيئاً قد تقرأه بنفسك وتضل ولا تفهم شيئاً على وجهه الصحيح، ولكن عند مجالستك إخوانك يظهر لك الشيء الذي خفي عليك. كنت أدرس مرة في بداية تحقيق الأحاديث منذ سنوات طويلة فوجدت في السند رجلاً اسمه الحرث، فجلست أبحث مدة يوم كامل في كتب الرجال والجرح والتعديل فما وجدت أبداً هذا الاسم، فبكل بساطة قال لي أحد إخواني الذين سبقوني في الطلب: هو أصلاً الحارث، لكن الأوائل لا يكتبون الألف بل يكتبونها: الحرث، كهاشم لا يكتبون الألف، ويكتبون: هشم، ويضعوا ألفاً قد تسقط أحياناً، وقد جلست يوماً كاملاً وأنا في البحث حتى كدت أتعقد من التعب والإرهاق! فأحياناً إخوانك الكبار يفيدونك. وأحد الإخوة تعب تعباً شديداً في تفسير قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف:81]،لم يفهم الآية، يقرأ التفاسير ولم يفهم أيضاً فذهب للشيخ عبد الرزاق عفيفي رحمة الله عليه، وبكلمة واحدة فسر له الآية، قال: قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين لهذا الولد، لكنه مستحيل أن يكون للرحمن ولد فأنا لن أعبد إلا الله. مثال ثالث: شخص كان داخل البيت ثم جاء وهو مهموم بهم بالغ اعتراه، فسئل: لماذا -يا أخي- أنت مهموم؟ فكل البيوت تحدث فيها مصائب، والابتلاء لكل مسلم فما هو الشيء الذي يجعلك مهموماً؟ فقال: أنا أحتلم كثيراً ولا أجد ماء، فماذا أصنع؟ وكأن هم الدنيا كله فوق رأسه، فإذا كنت تحتلم كثيراً ولا تجد الماء فتيمم، فكأن الهم أزيح من على قلبه، وهو أمر يعرفه القاصي والداني! {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء:43] لكن غاب عنه مسألة التيمم، فأحياناً كلمة واحدة تشفى بها من إخوانك، وبركة مجلس العالم ومجالس الذكر تثبت بها، وكذلك الملل الذي يتسرب إليك وأنت في البيت. وحلق الذكر تحضرها الملائكة وتنزل عليها السكينة، تحضرها ملائكة أخر غير الملائكة الذين يحفون بأجنحتهم، وهم الملائكة الذين ينقلون الصلاة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فأوقات المجالس في صحائف الأعمال يوم القيامة فكلها خير وبركة، أما في البيت فجلوسك مع زوجتك قد يشغلك عن المذاكرة.

خطورة حمل السلاح خوفا من اعتداء شباب سيئين

خطورة حمل السلاح خوفاً من اعتداء شباب سيئين Q هل يجوز لي حمل السلاح بسبب الخوف من شباب فاسد تشاجرت معهم، فأخاف وأشعر بالرعب منهم، وهذه الحالة سببت لي عدم التركيز؟ A استغفر الله من ذنبك الذي سلط عليك هذا العدو؛ لأن الله يقول: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى:30]، فاستغفر الله وقل: حسبي الله ونعم الوكيل، وأكثر منها، فلما قال الناس لأصحاب رسول الله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ} [آل عمران:173 - 174]، فأنت تذكر أن حالتك هي عدم التركيز، فأنت في هذه الحالة العقلية قد تبطش بالذي أمامك، فلا تحمل سلاحاً في مثل هذا الموطن، فقط أكثر من الذكر والاستغفار، وادفع بالتي هي أحسن السيئة، وأدخل وسطاء يصلحون بينك وبين هؤلاء الأشقياء. والله الهادي. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

أفضل أيام العام

أفضل أيام العام أيام العشر الأول من ذي الحجة من أفضل أيام العام وأجلها على الإطلاق، فحري بالمسلم أن يستغل هذا الموسم العظيم بالتقرب إلى الله تعالى بالطاعات والأعمال الصالحات، حتى ينال من الجواد الكريم أعلى الدرجات، ومن هذه الأعمال الصالحة التي ينبغي للعبد أن يحرص عليها في هذه الأيام: الصلاة، والصيام، والصدقة، وذكر الله، والحج، والإقلاع عن الذنوب والمعاصي.

فضل العشر الأول من ذي الحجة

فضل العشر الأول من ذي الحجة الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. وبعد: فإننا في مطالع الأيام المباركة، فالعشر الأول من ذي الحجة خير أيام العام على الإطلاق، قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله عز وجل من هذه الأيام -يعني: العشر الأول من ذي الحجة-، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله يا رسول الله؟! قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا أن يخرج أحدكم بنفسه وبماله ثم لا يرجع من ذلك بشيء)، فهذه هي أفضل أيام العام على الإطلاق، تفوق أيام رمضان، ولما قابل العلماء بين هذه الأيام وبين العشر الأخيرة من رمضان كان توسط قولهم أن قالوا: إن نهار الأيام العشر الأول من ذي الحجة أفضل من نهار أيام العشر الأخر من رمضان، وليالي العشر الأخر من رمضان أفضل من ليالي العشر من ذي الحجة. فعلى كل لهذه الأيام فضيلة كبرى سمعتموها في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الآنف، بل قد أقسم بها ربنا سبحانه وتعالى في كتابه الكريم -على قول لبعض المفسرين- فقال تعالى: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر:1 - 2]، فهذه أفضل أيام العام على الإطلاق، ومن المعلوم أن فضائل الأيام إذا عظمت عظمت حرمات هذه الأيام كذلك، فكما أن الحسنات تتضاعف لمن أقبل فيها على العمل الصالح، فكذلك الذي ينتهك حرمة هذه الأيام بالذنوب والمعاصي تتضاعف آثامه، كما قال فريق من أهل العلم. فنحن في يوم من أيام العشر من ذي الحجة في شهر من الأشهر الحرم وفي يوم جمعة فتوالت الفضائل في يومنا هذا الذي نحن فيه، فكما سلف أن فضائل يوم ما أو شهر ما إذا زادت زادت الآثام فيها لمقترف الآثام، وهذا له أدلته من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يوماً -ألا وهو يوم النحر- قائلاً: (أي يوم هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال: أليس بيوم النحر؟ قالوا: بلى، قال: أي شهر هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: أليس بالشهر الحرام؟ قالوا: بلى، ثم قال: أي بلدة هذه؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: أليست البلدة الحرام؟ قالوا: بلى، قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذه، ألا هل بلغت، اللهم فاشهد)، فإذا عظمت الفضائل عظمت الحرمات. ولذلك لما عظم قدر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عظم الافتراء عليه، فقال عليه الصلاة والسلام: (إن كذباً عليَّ ليس ككذب على أحدكم، من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)، ولما عظم قدر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وعظم فضلهن كذلك عظم الذنب منهن، قال تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} [الأحزاب:32]، وقال تعالى: {مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا * وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا} [الأحزاب:30 - 31]، وقال سبحانه في شأن بيته الحرام: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25] وفي الوقت نفسه فإن الصلاة فيه تعدل مائة ألف صلاة. فلهذا قال فريق من أهل العلم: إن الأيام إذا عظمت حرماتها عظم ثوابها وعظم الإثم على من اقترفه، وقد قيّد ذلك أيضاً بعدة من الأدلة، فقد عظّم النبي صلى الله عليه وسلم مسجده -المسجد النبوي- والصلاة فيه تعدل ألف صلاة فيما سواه من المساجد، ولذلك من حلف على يمين فاجرة عند منبر رسول الله عليه الصلاة والسلام في وقت فضيل ألا وهو بعد صلاة العصر فإنه مرتكب لكبيرة من أبشع الكبائر، ومن حلف على يمين فاجرة في مسجد رسول الله بعد صلاة العصر إثمه أبشع، وجرمه أكبر.

الأعمال المستحبة في العشر الأول من ذي الحجة

الأعمال المستحبة في العشر الأول من ذي الحجة وبعد هذا الاستهلال نذكر بهذه الأيام، وبشيء من العمل الصالح الذي ينبغي أن يُفعل فيها، إذ المقام بذلك أليق. فمن المعلوم أن الفرائض كلما عظمت عظم نفلها كذلك، ومن المعلوم أن الإسلام بني على خمسة أركان، كما قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، ,وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً) فلما كان الإسلام مبنياً على هذه الخمسة كان نفل هذه الخمسة أعظم النفل على الإطلاق، فنفل الفرائض هو أعظم النفل، فلذلك قول: لا إله إلا الله محمد رسول الله الذي به ينعقد إسلام الشخص، هو أفضل القربات التي يتقرب العبد بها إلى ربه سبحانه وتعالى، كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث يصح لشواهده: (أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله) ولا إله إلا الله كذلك يرد معها عموم ذكر الله عز وجل، فإن الله سبحانه قال: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45]. أما ما المراد بقوله تعالى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45]؟ فالعلماء لهم فيه أقوال مشهورة. أشهرها: أن ذكر الله لك إذا أنت ذكرته أكبر من ذكرك له، كما في الحديث القدسي: (من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم) فهذا القول الأول. والقول الثاني: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45] أي: ذكر الله في الأصل أعظم من الصلاة، فإن الصلاة إنما شرعت لذكر الله، قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14] أي: أقم الصلاة لتذكرني فيها. والقول الثالث: أن قوله تعالى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45] أي: مراقبة الله عند محارمه أعظم من الصلاة كما قال بعض المفسرين، وإن كان أكثرهم على القول الأول.

الحج

الحج وأما الحج من سبق به فهنيئاً له بالسبق، ومن منع الحج وحرمه -فكما أسلفنا- يسأل ربه سبحانه أن يكتب له ثوابه، فإن الله سبحانه كما أنه يجازي على الأعمال الصالحة فهو سبحانه من كرمه يجازي على النيات الصالحات، وقد قدمنا في ذلك حديث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: (إن في المدينة لرجالاً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا شاركوكم الأجر، حبسهم العذر).

التوبة والإقلاع عن الذنوب والمعاصي

التوبة والإقلاع عن الذنوب والمعاصي فيا عباد! الله اغنموا أعمالاً صالحات في هذه الأيام، ذكروا الناس بالله، من كان مسرفاً على نفسه فليقلع عن إسرافه، ومن كان مداوماً على عادة سيئة خبيثة فليقلع عنها، وليستح من ربه في هذه الأيام الطيبة المباركة، ومن كان ملازماً لعادة التدخين الخبيثة فليقلع عنها، ولينصح إخوانه بالإقلاع عنها، فالمدخن والله لا يسمي الله عند تدخينه، إذا تناول السيجارة هل يقول عند تناولها: باسم الله؟ إذا انتهى من شربها هل يقول: الحمد لله؟ هل يفعل ذلك؟ هل يدخل إهداء رجل لرجل سيجارة تحت حديث نبينا محمد عليه الصلاة والسلام: (تهادوا تحابوا) هل يدخل في هذا الباب؟ هل تدخل السيجارة في الطيبات، أم أنها تدخل في الخبائث؟ هل تدخل في النافع للأجسام والأبدان، أم أنها تدخل في المضر للأجسام والأبدان؟ هل هناك طعام يطعم أو شراب يشرب ثم يمتهن ويهان كالسيجارة؟ فبعد شربها توطأ بالأقدام، هل رائحتها طيبة؟ إذا جئت تصافح المدخن وإذا جئت تسلم عليه هل رائحته طيبة أم إن رائحته خبيثة؟ ولكنك تجده يتعامى عن مشاعر المسلمين! إن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إذا أكل أحدكم ثوماً أو بصلاً فليعتزلنا وليعتزل مساجدنا فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم) أما هذا المدخن المتعامي شارب السيجارة، والله إن أهل الخير والصلاح يتقززون منه عند الاقتراب من فمه لما يخرج من فمه من رائحة نتنة، ومن رائحة خبيثة، فالشيطان قد أفسد عليه أمره، وأعماه عن خبث رائحته، كما هو فعل الشيطان بأوليائه ومريديه ومطيعيه، هل الملائكة تقبل عليه كما تقبل على حامل المسك؟ فإذا طيب العبد فمه بالسواك تقبل الملائكة على فمه كما قد حُسن في ذلك حديث، فلا يخرج شيء من فيِّ القارئ المطيب بالسواك إلا وقد دخل في فيِّ الملك، كما حسنه بعض العلماء، هل هذا يكون مع الذي لوث فمه بالسيجارة؟ فاعقلوا يا عباد الله! وليتق الله أصحاب البقالات الذين يؤثرون العاجلة على الآجلة، ويؤثرون الدنيا على الآخرة، ولا يبالون إلا بإدخال المال عليهم، ألا يتقي الله بقال يجلب السجائر ويبيعها للناس، يضر بأجسامهم ويذهب بأموالهم مقابل متاع رخيص زائل فانٍ ألا وهو جنيهات معدودات، يدخلها على بيته فيصبح بيته مهدداً بالأوبئة والأمراض، وقد يخرج أحد أبنائه عاقاً يذهب له بالأول كما يذهب له بالآخر. إن البركة من الله سبحانه، البركة في الرزق الحلال الطيب يا عباد الله! فمن كان ملازماً عادة خبيثة وسيئة كشرب السجائر، وكالإدمان على النظر في شاشات التلفاز القبيحة، وفي (الفيديوهات) المدمرة، وفي أجهزة البث، وأجهزة الإعلام المفسدة للأخلاق، المدمرة للإيمان، المدمرة لأعراض المسلمين والمسلمات، من كان مديماً للنظر في هذه القاذورات فليقلع عنها فإن رب العزة يقول: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36]. هل تظن يا من نظرت إلى امرأة متبرجة في التلفاز أنك لست بآثم، ويا من نظرت إلى رجل في التلفاز هل تظنين أنك لست بآثم؟ أين قوله تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36]؟ هل تظن يا من تنظر إلى امرأة متبرجة في التلفزيون أنك لا ترتكب معصية؟ إن كل ذي فطرة سليمة وكل ذي ذوق سليم يعلم تمام العلم أنه آثم بنظره إلى ما حرم الله، ولكن ثم مكابرون، وثم مجادلون، وكما قال ربنا لنبينا محمد: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33]، فإذا جادلت البشر فمن ستجادل يوم القيامة؟ إذا جادلت عن نفسك وعن ذنوبك في الحياة الدنيا أمام عباد الله، فكيف ستجادل ربك يوم القيامة؟ إن يوم القيامة ليس كأيام الدنيا {تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} [النحل:111] لكن كما قال تعالى: {وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [النحل:111]. فالزم مراقبة الله، وأخرج من بيتك هذه القاذورات، لا تدخل بيتك سيجارة، ولا تدخل بيتك تلفزيون، ولا تدخل بيتك تصاوير تطرد الملائكة الكرام من بيتك، (فإن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة) كما قال النبي عليه الصلاة والسلام. فيا عباد الله! هذه أيام طيبة، تكرم الله وتفضل بها علينا، فأكثروا فيها من عمل الصالحات وأقلعوا فيها عن الذنوب والمعاصي والآثام، ووالله إن أمركم جميعاً لا يخفى على ربكم سبحانه، فها أنتم في هذه البلدة كبيرة الحجم تودعون وتشيعون كل يوم عزيزاً عليكم تقبرونه، ويقف جميعكم أمام القبر، يذكر بالله، أو يستغفر للميت، ولا يرجع بعبرة، فخذوا العبر من دنياكم ومن أنفسكم، ففي ذلك آيات لأولي النُهى. اللهم آتنا رشدنا يا رب العالمين! واجعلنا من السابقين إلى الخيرات بإذنك يا رب العالمين! اللهم اهدنا لأحسن الأقوال والأعمال والأفعال لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، ربنا أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذا هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.

الأضحية للموسر

الأضحية للموسر ثم مع ذلك معشر الإخوة من وجد منكم سعة فليضح، فإن الأضحية قربة يتقرب العبد بها إلى ربه سبحانه وتعالى، ويمتثل فيها أمره سبحانه وتعالى حيث قال: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2] ويمتثل أمر ربه حيث قال: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163]، هذه قربة من القربات نتقرب بها إلى الله سبحانه، فالزم شروطها التي سنها رسولك محمد عليه الصلاة والسلام، وقد سبق بيانها، ولتكن بعد صلاة العيد لا قبله، فإن النبي عليه الصلاة والسلام لما جاءه أحد أصحابه وقال: (إن ذبحت قبل الصلاة يا رسول الله؟! قال: شاتك شاة لحم) أي: ليست من النسك في شيء.

الإصلاح بين الناس

الإصلاح بين الناس فيا عباد الله! تذكروا إخوانكم الجياع والعراة، وتذكروا الأيتام، وتذكروا كذلك الأرامل في هذه الأيام، تذكروا أيضاً من بينهم خصومات من إخوانكم، واتقوا الله وبادروا بالصلح فيما بينهم، قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1] فاتقوا الله! فإن لم يكن كلام ربنا موجهاً لنا فلمن؟ ولمن وجه قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال:1]؟ فبادروا بالصلح بين أهل الخصام، بادروا بالإصلاح بين المتخاصمين ابتغاء وجه الله، لا ليقال عنكم إنكم أهل إصلاح، ولكن بادروا بالصلح ابتغاء وجه الله، وليعلم المظلوم أن الله قال: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134].

الصلاة

الصلاة أما الصلاة فشأنها عظيم وشأن مقدماتها عظيم، فابتداؤها أذان المؤذن، وفي فضل المؤذن أنه لا يسمع مدى صوته إنس ولا جان إلا شهد له يوم القيامة، ولا يسمع صوته حجر ولا مدر ولا شجر إلا شهد له يوم القيامة، ثم أنت بذهابك إلى الصلاة تخطو خطوة ترتفع بها درجة وخطوة أخرى تزال عنك بها خطيئة، ووضوءك للصلاة يغسلك من الذنوب ويغسلك من الخطايا، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات هل ترون أن ذلك يبقي من درنه شيئاً؟ قالوا: لا يبقي ذلك من درنه شيئاً -أي: من أوساخه شيئاً- يا رسول الله! فقال عليه الصلاة والسلام: وكذلك الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا). آثار الخطى إلى المسجد تكتب لك في صحائف أعمالك، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس:12] وكذلك دخولك المسجد فعلى باب المسجد ملائكة يسجلون اسمك في عداد الداخلين، صلاتك ترقبها الملائكة، بل ويرقبها رب العالمين سبحانه، وتشهدك لله ترتفع به درجة، وكذلك سجودك فإنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط الله بها عنك خطيئة، وانتظارك للصلاة في المسجد سبب في صلاة الملائكة عليك، ولاستغفار الملائكة لك، كما أن انتظارك للصلاة من الرباط الذي قال فيه الرسول عليه الصلاة والسلام: (وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذالكم الرباط فذالكم الرباط)، صلاة في جوف الليل ترفعك درجات في عليين.

الصوم

الصوم أما الصوم فأجره عظيم -قد قدمنا ما يتعلق به في هذه العشر- ويكفي فيه قول ربنا في الحديث القدسي: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به)، وقوله عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك)، وقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (إن في الجنة باباً يقال له الريان يدخل منه الصائمون لا يدخل منه أحد غيرهم يقال: أين الصائمون؟ فيقومون فيدخلون فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد غيرهم)، وقال عليه الصلاة والسلام: (من صام يوماً في سبيل الله باعد الله بين وجه وبين النار سبعين خريفاً).

الصدقة

الصدقة فهذا الذي سمعتموه أعمال صالحة يزكي بها العبد نفسه، ولكن ثم أعمال بر وصلاح متعدية النفع إلى العباد، ومنها: الصدقات، لقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اتقوا النار ولو بشق تمرة)، قال عليه الصلاة والسلام في مطلع هذا الحديث: (ما منكم من أحد إلا وسيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان، فإن استطاع أحدكم أن يتقي النار ولو بشق تمرة فليفعل، فإن رجالاً يوم القيامة ينظرون عن أيمانهم فلا يرون إلا النار، وينظرون عن شمائلهم فلا يرون إلا النار، وينظرون إلى الأمام فلا يرون إلا النار فاتقوا النار ولو بشق تمرة) أو كما قال صلى الله عليه وسلم. فجدير بكل مسلم أن يكون متعدي النفع إلى غيره من العباد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أُجرت عليها حتى ما تجعل في فيِّ امرأتك)، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا تصدق أحدكم بصدقة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا الطيب؛ فإن الله سبحانه يقبلها بيمينه، فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم فلوه أو مهره، حتى تأتي يوم القيامة كالجبل العظيم). فجدير بكل منكم أن يتأمل قوله تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9]، وأن يتأمل قوله تعالى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} [الإنسان:9 - 10]، ويتأمل كذلك حديث النبي عليه الصلاة والسلام إذ قال: (ما من يوم تطلع فيه الشمس إلا وينزل ملكان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، والآخر يقول: اللهم أعط ممسكاً تلفاً)، وليتذكر أحدكم قوله تعالى: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ:39]، وليتذكر كذلك أصحاب الجنة الذين تمالئوا على البخل وتمالئوا على الشح وتمالئوا على حرمان الفقراء فأقسموا {لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلا يَسْتَثْنُونَ} [القلم:17 - 18]، فكان من أمرهم وأمر جنتهم أن {طَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ * فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ} [القلم:19 - 21] إلى أن قال تعالى: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ * عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ} [القلم:30 - 32]. فليتأمل أحدكم ذلك كله، ولتعلم أن بطنك لن تشكرك، ولكن يشكر لك ربك سبحانه حسن صنيعك، فاجعل طعامك يوماً بدل اللحم فولاً، وتصدق بالفارق على الفقراء، فما هي إلا دقائق معدودة وتستوي أنت ومن طعم الفول ومن طعم البطاطس، وإنما هي بطن تملأ وجوف يعبأ، (ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب) كما قال رسول الله عليه الصلاة والسلام، فالكل يستوي، والعاقبة للتقوى: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا} [مريم:76]. فيوم من الأيام من سنتك أن تأكل فيه لحماً، فآثر الفقراء على نفسك وقدم اللحم لهم، فإنك إن فعلت ذلك وقيت النار بإذن الله، كن حريصاً على أُخراك كحرصك على دنياك، تستوي الجبنة الرومي مع الطعمية والكل سواء، وفارق ذلك ادفعه لمسكين أو يتيم، يبارك الله لك في أهلك وفي بدنك وفي أموالك، فالدنيا أمرها إلى زوال، وعاقبتها إلى فناء.

ذكر الله

ذكر الله إن ذكر الله يعظم في هذه الأيام، ويستحب الإكثار منه في هذه الأيام، وليس في هذه الأيام فحسب، بل على الدوام كذلك، قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن شرائع الإسلام قد تكاثرت عليَّ يا رسول الله! فأخبرني بشيء أتشبث به، فقال رسول الله: لا يزال لسانك رطباً بذكر الله عز وجل) فالأفواه تطيب وترطب بذكر الله عز وجل، والذاكرون هم السابقون، وإن كان عملهم سهلاً عليهم ويسيراً إلا أنهم هم السابقون، قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه وقد كان في سفر معهم فمروا بجبل يقال له: جمدان، قال: (سيروا هذا جمدان سبق المفردون، قالوا: ومن المفردون يا رسول الله؟! قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات). وقد حسن بعض أهل العلم حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلكم على خير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: ذكر الله). والذاكر في حرز من الشيطان الرجيم طالما أنه يذكر ربه، في حرز من الشيطان طالما هلل عشراً في الصباح والمساء، الذاكرون لهم مغفرة وأجر عظيم، كما قال ربنا: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:35]، الذاكرون قلوبهم مطمئنة: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]، الذاكرون أبدانهم صحيحة، وقلوبهم سليمة، وذكر الله يقوي البدن، لذلك أرشد نبينا محمد عليه الصلاة والسلام ابنته فاطمة -سيدة نساء أهل الجنة- إلى ما هو خير لها من خادم فقال لها: (تسبحين ثلاثاً وثلاثين، وتحمدين ثلاثاً وثلاثين، وتكبرين أربعاً وثلاثين عند النوم فهو خير لكِ من خادم) فهذا شيء من فضل ذكر الله. فلذلك سأل موسى الكليم عليه السلام ربه تبارك وتعالى أن يمده بأخيه هارون قال: {هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا} [طه:31 - 35]، وما منع الله زكريا عليه السلام من الكلام عند بشارته بالولد لم يرخص له في ترك الذكر، قال تعالى: {قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} [آل عمران:41]. فداوم على ذكر الله يا عبد الله! ذكر الناس بربهم، أدخل في خطابك معهم ذكر الله، قل لهم: عفا الله عنكم، سامحكم الله، جزاكم الله خيراً، الله المستعان، لا حول ولا قوة إلا بالله، فكلما تيسر لك إدخال ذكر الله أو إدخال اسم الله في جملة فأدخله، ولذلك كره البعض أن يقال: جُزيت خيراً، بحذف لفظ الجلالة، ولا أعلمها واردة عن رسولنا محمد، إنما الوارد جزاك الله خيراً، فالذي يقول: جُزيت خيراً ويحذف لفظ الجلالة خالف الأولى، وخالف الأفضل، فالأفضل تطييب الأفواه بذكر الله. فكن دائم التذكير للناس بربهم، ذكر المعتدين بربهم، وذكر أصحاب المعروف بربهم، وذكر الفقراء بربهم، وذكر الأغنياء بربهم، كلما سنحت لك فرصة فذكر فيها بالله، فهذا ولد آدم يذكر أخاه بربه فيقول: {لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [المائدة:28]، وهذه مريم عليها السلام تمثل لها جبريل بشراً سوياً فظنته رجلاً معتدياً فذكرته بالرحمن وقالت له: {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا} [مريم:18]، وهذه ابنة العم لما قعد ابن عمها بين رجليها قالت له مذكرة: (اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه)، وها هو رسولنا يذكر المتلاعنين بعد أيمانهما فيقول لهما مذكراً بالله: (الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما من تائب؟)، ورسولنا يرى أبا مسعود البدري رضي الله تعالى عنه يضرب غلاماً له، فيناديه من خلفه: (اعلم أبا مسعود! لله أقدر عليك منك على هذا الغلام، فالتفت أبو مسعود فإذا برسول الله عليه الصلاة والسلام من خلفه، فقال له: يا رسول الله! هو حر لوجه الله، قال النبي عليه الصلاة والسلام: لو لم تفعل للفحتك النار) أو كما قال صلى الله عليه وسلم، وها هو يعقوب يقول لبنيه بعد أن أصابه منهم من الهم والكرب ما يكاد يغلبه قال: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18]، فغلب على لسانك ذكر الله عز وجل في هذه الأيام، بل وعلى الدوام كذلك.

التوحيد

التوحيد إن أعظم ما دعا إليه الأنبياء والرسل هو توحيد الله تعالى، ورغم أن المشركين كانوا يقرون بتوحيد الربوبية إلا أنهم أنكروا توحيد الألوهية فجعلوا لله شركاء معه، وقد جاءت الدعوة المحمدية لترسيخ هذه العقيدة في قلوب العباد، فهدمت الأصنام، وحذرت من كل ما هو ذريعة إلى الشرك من دعاء عند قبور الأولياء والصالحين، والتقدم إليهم بالقرابين، ونحو ذلك من مظاهر الشرك وصوره.

عمرو بن عبسة يحكي قصة إسلامه

عمرو بن عبسة يحكي قصة إسلامه إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدث بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:71]. وبعد: فقد أخرج الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه حديثاً طويلاً من حديث عمرو بن عبسة رضي الله تعالى عنه -نذكره باختصار وإيجاز لما فيه من النفع والفوائد- قال: (كنت وأنا في الجاهلية أرى الناس على ضلالة، وأنهم ليسوا على شيء وهم يعبدون الأوثان، فسمعت برجل بمكة يزعم أنه نبي، فركبت راحلتي حتى أتيته، فإذا قومه جرآء عليه -أي: قومه متجرئون ومتسلطون عليه صلى الله عليه وسلم- قال: فتلطفت حتى دخلت عليه، فقلت له: ما أنت؟ قال: أنا نبي، قلت: وما نبي؟ قال: أرسلني الله عز وجل، قلت: وبم أرسلك الله عز وجل؟ قال: أرسلني الله عز وجل بصلة الأرحام، وبكسر الأوثان، وأن يوحد الله لا يشرك به شيء، قلت: فمن تبعك على هذا الأمر الذي تدعو إليه؟ قال: معي حر وعبد -وكان معه آنذاك أبو بكر وبلال رضي الله عنهما- قلت: إني متبعك على هذا الأمر، قال: إنك لن تستطيع ذلك الآن، ولكن ارجع إلى بلدك، فإذا سمعت بي قد ظهرت فائتني، فرجعت إلى بلدي، وطفقت أتحسس الأخبار، فعلمت أنه قد هاجر إلى المدينة وترك بلده مكة، فقدمت علي طائفة من أهل يثرب، فقلت لهم: ما شأن هذا الرجل الذي وفد إلى بلادكم وحلّ بها؟ قالوا: حاول قومه قتله فلم يستطيعوا، والناس يتبعونه سراعاً، ويدخلون في دينه أفواجاً، فركبت راحلتي حتى أتيت المدينة، فلقيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: أتعرفني؟ أتذكرني؟ قال: نعم، أنت الذي أتيتني بمكة، فقلت: فإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فعلمني يا نبي الله! مما علمك الله وأجهله، أخبرني عن الصلاة يا رسول الله! قال عليه الصلاة والسلام: صلِّ الصبح ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس؛ فإنها تطلع بين قرني شيطان، فإذا ارتفعت الشمس فصلّ فإن الصلاة حينئذٍ مشهودة محضورة، ثم إذا استقل الظل بالرمح -يعني: وقت الزوال- فإن جهنم تسجر حينئذ -أي: تتوقد وتشتعل حينئذٍ- فأقصر عن الصلاة حتى يرى للتلول فيء -أي: حتى يظهر للتلال ظل- ثم صلِّ؛ فإن الصلاة مشهودة محضورة، ثم صلِّ حتى تصلي صلاة العصر، ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس؛ فإنها تغرب بين قرني شيطان، ثم صلِّ، قلت: فالوضوء يا رسول الله؟! قال: أما الوضوء فإن أحدكم إذا قام يتوضأ فمضمض واستنشق واستنثر خرجت خطاياه، أو خطايا وجهه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، ثم إذا غسل وجهه تساقطت ذنوبه من وجهه مع قطر الماء الذي يتساقط من لحيته، ثم إذا غسل يديه إلى المرفقين خرجت الخطايا التي ارتكبتها يداه، وتساقطت هذه الخطايا مع الماء أو مع آخر قطر الماء، ثم إذا مسح رأسه تساقطت خطايا رأسه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، ثم إذا غسل رجليه خرجت الخطايا التي ارتكبتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا أقبل على الصلاة يصلي وجمع قلبه لله سبحانه وتعالى خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه)، هذا الحديث بإيجاز واختصار أخرجه الإمام مسلم رحمه الله بشيء من الطول، وإنما ذكرنا المستفاد منه بمعناه. الشاهد من ذلك: أن عمرو بن عبسة رضي الله عنه كان رجلاً كافراً، إلا أنه كان يظن ويعتقد من قلبه أن الناس على ضلال وهم يعبدون الأوثان، وأن هذا ليس بدين وليس بشرع يتبع قوم يعبدون أحجاراً، أو أشجاراً، أو أصناماً، أو أوثاناً. كان عمرو بن عبسة رضي الله عنه يظن أن هذا كله عبث، وهذا الذي ظنه متوافق مع الفطر الصحيحة المستقيمة السوية، كما حدث نفس الشيء لـ زيد بن عمرو بن نفيل والد سعيد بن زيد رضي الله تعالى عنهما، وسعيد بن زيد هو زوج أخت عمر بن الخطاب من السابقين الأولين إلى الإسلام رضي الله عنه. أما أبوه فكان قبل مبعث رسول الله عليه الصلاة والسلام، وكان قد استقر في نفسه كذلك أن الناس ليسوا على شيء، وهم يعبدون الأوثان، وكان رجلاً من أهل التوحيد والاستقامة على الطاعات، حتى إن الحاكم في مستدركه أخرج بإسناد صحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث ذهب هو وزيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه إلى زيد بن عمرو بن نفيل ببعض اللحم قبل أن يبعث الرسول عليه الصلاة والسلام، فنظر زيد بن عمرو بن نفيل إلى اللحم الذي أتيا به، فرفض أن يأكل منه، وقال: إني لا آكل من لحمكم، إني لا آكل مما تذبحون على أنصابكم، الله خلق الشاة ثم ساق لها الرزق، ثم تذبحونها على غير اسم الله، وكان يبني على العموم، وطفق زيد يبحث عن الدين الحق المستقيم، وخرج إلى البرية يبحث عن دين سوي غير دين الشرك يتعبد به ربه سبحانه، حتى قدم على يهود، فقال: أريد الدخول في دينكم معشر يهود، قالوا: إنك لن تستطيع الدخول في ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله عز وجل، قال: والله لقد فررت من غضب الله، ولا أحمل من غضب الله شيئاً، وكيف أتحمل غضب الله، هل عندكم شيء آخر؟ قالوا: ليس عندنا شيء آخر إلا أن تكون حنيفاً قال: وما الحنيف؟ قالوا: ملة إبراهيم عليه السلام، ثم ذهب إلى النصارى فقال: يا معشر النصارى! إني أريد أن ادخل في دينكم، قالوا: لن تدخل في ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله، قال: والله لا أتحملها، ولا أطيقها، فهل عندكم من شيء آخر؟ قالوا: لا إلا أن تكون حنيفاً، قال: وما الحنيف؟ قالوا: ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فخرج من عند هؤلاء وأولئك قائلاً وناظراً إلى السماء: اللهم إني أشهدك أني على ملة إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وبه كان يفتخر الشاعر فيقول: وجدي الذي منع الوائدات وأحيا الوئيد فلم يوأدِ

فوائد حديث عمرو بن عبسة

فوائد حديث عمرو بن عبسة كان هناك ثَم قوم أنار الله بصائرهم، وأراد لهم الهداية يبحثون عن الحق لاتباعه، ويبحثون عن الدين القويم لاعتناقه، ولا يخفى عليكم أمر سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه، فهذه الطوائف أهمها أمر دينها، لم تههمها بالدرجة الأولى بطونها ولا فروجها، ولا الدراهم والدنانير، وإنما أهمهم أمر دينهم.

ما ينبغي على المسلم تعلمه بعد الشهادتين

ما ينبغي على المسلم تعلمه بعد الشهادتين جاء عمرو إلى مدينة رسول الله عليه الصلاة والسلام فعرفه الرسول ولم ينسه عليه الصلاة والسلام، وقربه إليه، فبدأ الرجل يسأل عن حاجته ويتعلم دينه، فقد كان في بادية وأهلها جهلاء، فسأل عن أهم الأمور بعد الشهادتين، سأله عن الصلاة، والظاهر أنه سأله عن مواقيتها؛ بدليل جواب النبي عليه الصلاة والسلام، قال له: (صل الصبح ثم أقصر عن الصلاة) أي: امتنع عن الصلاة (حتى تطلع الشمس؛ فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان)، فلا نفل بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، وحتى ترتفع في السماء قدر رمح؛ ذلك (لأنها تطلع بين قرني شيطان، والكفار حينئذ يسجدون لها)، وقد نهينا عن مشابهة الكفار في صنائعهم، حتى لا يظن ظان أن ساجداً يسجد للشمس، وكذلك حتى لا يتعاظم الشيطان ويتعالى أثناء صلاة الناس وقت طلوع الشمس، إلا أن فريقاً من أهل العلم يستثني بالنص ذوات الأسباب من الصلوات؛ وذلك لأن الرسول عليه الصلاة والسلام صلى ركعتي الظهر بعد العصر لما شغله وفد عبد القيس عنها، ولأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (يا بلال! أخبرني عن أرجى عمل عملته؛ فإني سمعت دف نعليك في الجنة؟ قال: يا رسول الله! ما توضأت وضوءاً ولا تطهرت طهوراً في ساعة من ليل أو نهار إلا وصليت بذلك الطهور ما كتب الله لي أن أصلي). ولحديث: (يا بني عبد مناف! لا تمنعوا أحداً طاف بالبيت وصلى في أي ساعة شاء من ليل أو نهار)، فدلت هذه النصوص على جواز صلاة ذوات الأسباب في أوقات النهي. ثم رخص الرسول في الصلاة حتى وقت الزوال حيث قال: (حتى يستقل الظل بالرمح، ثم إذا رأيت للتلول فيئاً فصلِّ؛ فإن الصلاة مشهودة محضورة، ثم إذا جاء وقت العصر وصليت العصر فأقصر عن الصلاة حتى تغرب؛ فإنها تغرب بين قرني شيطان، ثم صلِّ فإن الصلاة مشهودة محضورة). ثم بيّن له النبي فضل الوضوء لما سأل عنه، وأن الخطايا تخرج مع الماء أو مع آخر قطر الماء تخرج خطايا الفم والأنف، والعينين، وتخرج خطايا الرأس والأذنين، وتخرج خطايا الأيدي والأرجل؛ كل ذلك بسبب الوضوء، فكما قال عليه الصلاة والسلام: (الطهور شطر الإيمان)، وكما قال عليه الصلاة والسلام: (أولا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؛ إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط فذلكم الرباط). ثم بيّن النبي صلوات الله وسلامه عليه فضل صلاة ركعتين، بشرط أن تقبل فيهما بوجهك على الله سبحانه، وتقبل فيهما على الله بقلبك، وتجمع قلبك عليهما وعلى القراءة والاستغفار والذكر فيهما، فإنك إن فعلت ذلك خرجت من ذنوبك كيوم ولدتك أمك. وفقنا الله وإياكم لأعمال البر والخير. واستغفروا ربكم إنه كان غفاراً.

من فقه الدعوة إلى الله تعالى

من فقه الدعوة إلى الله تعالى فقال الرجل: فإني متبعك، قال: (إنك لا تستطيع ذلك الآن ولكن ارجع إلى بلادك) ففيه أيضاً نوع من أنواع الفقه: أن الشخص والداعي إلى الله والآمر والناهي للناس ينبغي أن يكلفهم -إذا كلفهم- بما يطيقون، ويكلفهم بما يحتملون فإنك إذا كلفت الناس بما لا يطيقون ولا يحتملون فقد خالفت أمر ربك ابتداء ولم تُجب إلى مطلبك انتهاء، ولكن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كلف أصحابه بعمل كلفهم من الأعمال ما يطيقون وما يحتملون، وقد دعا أهل الإيمان ربهم فقالوا: {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة:286] فقال الله تبارك وتعالى لما قال أهل الإيمان ذلك: (قد فعلت قد فعلت)، وفي حديث وإن كان في إسناده كلام: (لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه، قالوا: وكيف يذل نفسه يا رسول الله؟! قال: يتحمل من البلاء أو يتعرض من البلاء لما لا يطيق) فرسولنا عليه الصلاة والسلام الذي أرسل رحمة للعالمين، الذي هو بالمؤمنين رءوف رحيم، قال لـ عمرو بن عبسة: (إنك لا تطيق ذلك الآن، فارجع إلى بلدك) وإن أسلمت وشهدت الشهادتين، لكن لا تظهر ذلك الآن، ونفس القول قاله النبي عليه الصلاة والسلام لـ أبي ذر الغفاري لما جاء وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، قال الرسول: (ارجع إلى بلدك فإذا سمعت بي قد ظهرت فائتني) قال أبو ذر: والله لأصرخن بها بين أظهرهم، وخرج وقالها في الملأ من قريش في قصة لا تخفى عليكم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ عمرو: (ارجع إلى بلدك فإذا سمعت بي قد ظهرت فائتني) فرجع إلى بلده، وكان يتحسس أخبار النبي عليه الصلاة والسلام، ويتسمع لها لأن هذا الأمر هو الذي يهمه بالدرجة الأولى قبل المطعم والمشرب، والزوجة والولد، والعشيرة والأقربين. فسمع أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد زال عنه بعض الشر الذي كان يحيط به، وزالت عنه بعض الشدة التي كانت تحل به، وهكذا فإن مع العسر يسراً، فالله يكشف الضر سبحانه وتعالى دائماً.

الأصول التي دعت إليها شرائع الرسل

الأصول التي دعت إليها شرائع الرسل فدخل عمرو سائلاً: ما أنت؟ قال: (أنا نبي) ولم يعرف الرجل معنى النبي، فقال: وما نبي؟ أي: وما معنى قولك نبي؟، قال: (أرسلني الله عز وجل) فسأله وبما أرسلك الله عز وجل؟ قال: (أرسلني بصلة الأرحام) أي: آمر الناس بأن يصلوا أرحامهم. وهذا من الأصول التي دعت إليها الشرائع كلها، فقد دعا إليها نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام، ليس في هذا اختلاف وليس في هذا افتراق، والنصوص في هذا الأمر لا تخفى عليكم، ويكفي أن القاطع ملعون كما قال الله: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22 - 23] ويلحق بذلك كل من سعى في تقطيع أرحام غيره، فإذا عمد شخص إلى التفريق بين أخ وأخيه، أو بين أخ وأبيه، أو بين امرأة وبنتها فهو ملعون مسحوب عليه اللعنة، وأعمى الله بصيرته كما قال تعالى في كتاب الكريم. (أرسلني بصلة الأرحام، وبكسر الأوثان) هكذا قال رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام أرسلني ربي عز وجل بكسر الأوثان، وسيأتي لذلك تفصيل إن شاء الله تعالى. (وأن يوحد الله لا يشرك به شيء) وهذا الفارق بين أهل الإسلام وغيرهم من جميع الملل والنحل الأخرى، الفارق بيننا وبين غيرنا ما جاء في كتاب ربنا بوضوح وجلاء وصفاء: أن الله واحد لا شريك له، {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنبياء:22] ورد ذلك في كتاب الله في جملة هائلة من المواطن، {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [النحل:51]، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4] لا شريك لله سبحانه وتعالى، هذا الفارق بيننا وبين أهل الملل الأخرى، فبجلاء ووضوح وصفاء في كتاب الله في عدة مواطن -بل في كل المواطن- يتضح هذا المعنى، وسيقت الآيات كلها لتقرير هذا المبدأ: أن الله واحد لا شريك له سبحانه، ومن ثَم قال رسولنا: (وأن يوحد الله لا يشرك به شيء) ثم قال عمرو بن عبسة لرسول الله: فمن معك على هذا الأمر، قال: (معي حر وعبد) هذا أيضاً من محاسن هذا الدين الذي لا يفرق بين الحر والعبد، ولا بين الأبيض والأسود، ولا بين ذي المنصب والوضيع, ولا بين الغني والفقير. أما الأديان الأخرى فاتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، أطاعوا السادات والكبراء فأضلوهم السبيل، ديننا ليس فيه فرق بين أبيض وأسود، فربنا لا ينظر إلى الصور والأشكال، ولكن ينظر إلى القلوب والأعمال، قد تجد الرجل من ذوي الشارات الحسنة، والوضاءة في الوجوه، والوسامة فيها، قد تراه يعجبك منظره، لكن ربنا يقول عن أقوم: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ} [التوبة:55]، ويقول: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون:4] فلا توقير في كتاب الله إلا لأهل التقوى.

موقف المتكبرين من رسل الله

موقف المتكبرين من رسل الله ركب عمرو بن عبسة راحلته حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فدخل على الرسول عليه الصلاة والسلام فوجد القوم مجترئين على رسول الله، سفيههم يتسلط على الرسول، وكبيرهم يَسُنُّ سنناً سيئة للتعدي على أنبياء الله، فيسخر الصغير والكبير من رسول الله، بل ويسخر العبد من رسول الله، فكان هذا شأن أهل الشرك مع رسول الله، يغرون به السفهاء، ولكن دائماً العاقبة للتقوى، وجد عمرو الرسول صلى الله عليه وسلم وقد تجرأ عليه القوم، وسخروا منه، كما هو الحال مع عموم الأنبياء وأهل الصلاح قاطبة يسخر منهم أهل الإجرام {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا}، ولكن {وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [البقرة:212] لم تمنع عمرو بن عبسة سخرية الساخرين من رسول الله عن أن يقدم عليه، وأن يستمع منه، ويعلم منه ما الذي يريده ويدعو عليه؟

من معالم توحيد الألوهية

من معالم توحيد الألوهية الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد:

معلم كسر الأوثان والأصنام

معلم كسر الأوثان والأصنام توافرت النصوص لتدمير الشرك وتقويضه، ولإبراز هذا المعنى ولإظهاره، فليس في الإسلام شرك، وليس في الإسلام أوثان. نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أُرسل بكسر الأوثان صلوات الله وسلامه عليه، ولما ينزل عيسى عليه الصلاة والسلام حين ينزل أول ما يصنع قبل قتله للدجال -على قول- يكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ولا يقبل إلا الإسلام صلوات الله وسلامه عليه، فكان من المقاصد في شرعنا: ألا تبقى أي وجهة إلا وجهة واحدة فيها ربنا سبحانه، تسلم الوجوه كلها لله سبحانه وتعالى. قال علي رضي الله عنه لـ أبي الهياج الأسدي وهو من أمرائه: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله عليه الصلاة والسلام: لا تدعن صورة إلا طمستها، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته، وقال رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام لـ جرير بن عبد الله البجلي رضي الله تعالى عنه: (ألا تريحني يا جرير! من ذي الخلصة) وهو صنم دوس الذي كان يعبد في الجاهلية، فقد كان لقبيلة خثعم من اليمن صنم يعبد وبيت مبني يقال له: ذو الخلصة، وكان يقال له: الكعبة اليمانية؛ لأن أهل اليمن يقصدون هذه الكعبة لتوقيرها وللطواف بها، وكان هذا يؤرقه عليه السلام ويشغله شغلاً زائداً أن ينصرف وجه من الوجوه إلى شيء غير بيت الله الحرام أو إلى شيء غير الله عز وجل، قال: (ألا تريحني يا جرير! من ذي الخلصة الكعبة اليمانية، فقال: يا رسول الله! إني لا أثبت على الخيل، فضرب النبي بيده في صدره، وقال: اللهم ثبته واجعله هادياً مهدياً) فانطلق جرير في رجال من أحمس -من قبيلته- إلى ذي الخلصة فحرقها، وأشعل فيها النيران، ثم رجع إلى الرسول فقال: يا رسول الله! والله ما تركتها حتى جعلتها كالجمل الأجرب، أي: حتى أحرقتها وأنهيتها تماماً، فبرك رسول الله عليه الصلاة والسلام على خيل أحمس وبرك على رجالها. وكذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا خالد بن الوليد! اذهب إلى العزى فأحرقها) فذهب إليها خالد، وكانت على تلال السمرات، فحرق السمرات -السمرات: أشجار كانت تحيط بها- ورجع إلى الرسول، فقال قد حرقتها يا رسول الله! قال: (ما صنعت شيئاً! اذهب فأحرقها ثانية) فذهب خالد، فإذا امرأة قد خرجت من هذا الوثن ناشرة لشعرها، وإذا بالحجبة والسدنة والكهان يخرجون وهم يمعنون الفرار في الجبل ويقولون: يا عزى! خبليه، أي: أصيبيه بالخبل وبالجنون، يعنون خالداً، فأقبل إليها خالد غير مبال بشعوذات المشعوذين ودجل الدجالين، فتجللها بالسيف فقتلها وحرق العزى، ورجع إلى الرسول فأخبره الخبر، فدعا له رسول الله عليه الصلاة والسلام أن يبارك الله فيه رضي الله تعالى عنه. فليس ثم وثن يعبد من دون الله، وليس ثَم وجهة يتجه إليها مع الله سبحانه وتعالى، إن النبي عليه الصلاة والسلام دخل الكعبة يوم دخل فاتحاً لمكة وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً، فجعل يطعن في وجوهها ويكبها على وجوهها صنماً صنماً، ويقول: {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81]، {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ:49] فجعل النبي يطعن في وجوهها، ويكبها على وجوهها صنماً صنماً، حتى كسرها رسول الله عليه الصلاة والسلام. فتكسير الأوثان وإزالة الأصنام والتماثيل مطلب شرعي يتأكد على المستطيع أما غير المستطيع فليس له أن يفعل؛ لأن الرسول لما لم يكن في وسعه أن يفعل كان يصلي في الكعبة عليه الصلاة والسلام والأصنام بها وهو بمكة لا يستطيع أن يغيرها، فلما مكنه الله سبحانه وتعالى ما تردد وما تأخر في تدميرها، وهذا فقه المسألة.

معلم إسلام الوجه لله

معلم إسلام الوجه لله معشر الإخوة! لزاماً علينا أن نسلم وجوهنا لله، لا لشيء سواه في حال من الأحوال، ولذلك تضافرت نصوص الشرع توجهنا وتأمرنا وترشدنا إلى إسلام الوجه لله، وإخلاص العمل لله وحده، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163]، {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2] أي: وانحر لربك كذلك، فكل وجهة غير وجهة الله فهي باطلة؛ لذلك منعنا من الصلاة في المساجد التي بها القبور حتى لا تتجه قلوبنا إلى ميت من الأموات في هذه القبور، وحتى لا نشرك بالله في ذلك. أمرنا بألا نحلف إلا بالله حتى لا تتجه القلوب والوجوه إلى شخص يعظم مع الله سبحانه وتعالى، أمرنا بعدم الطواف بأي قبر ولا بأي بيت إلا ببيت الله العتيق حتى لا تنصرف الوجوه والقلوب عن ربها وبارئها سبحانه وتعالى. أمرنا ألا نعظم إلا الأعياد التي عظمها ربنا امتثالاً منا لأمر الله عز وجل، فليس ثم عيد عند أهل الإسلام إلا العيد الذي شرعه الله.

ما تدل عليه كلمة التوحيد

ما تدل عليه كلمة التوحيد مما لا يخفى عليكم أن كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، قد جمعت بين أمرين: الأمر الأول: التبرؤ من كل الآلهة. والأمر الثاني: إثبات الألوهية لله وحده؛ فـ (لا إله) فيها تبرؤ من كل الآلهة، و: (إلا الله) إثبات الألوهية لله وحده، وهذا المعنى ظاهر في قول الله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، وأيضا في قوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا} [البقرة:256] أي: لا انكسار لها حتى تصل به إلى الجنان، فالآية صدّرت بقوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة:256]، والطاغوت على أرجح الأقوال: هو كل ما عبد من دون الله عز وجل، فيدخل فيه الساحر، والشيطان، والكاهن، والصنم، والوثن، والحاكم بغير ما أنزل الله، وكل شرع شرعه البشر لم يشرعه الله، فجدير بكل مسلم أن يكفر بالطاغوت إذ بُعث الأنبياء بذلك كما قال الله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} فيجب أن نتبرأ من كل طاغوت، وكاهن وشيطان، وحاكم وحكم يخالف حكم الله، ويخالف ما جاءت به رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم، وهذا ليس بنافلة ولا بفضل منك، بل هو واجب من أوجب الواجبات {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4] أي: وتكفروا بما سواه من الآلهة، والأنداد، والأصنام، والأوثان، فلنا في إبراهيم أسوة حسنة في هذا الباب الذي ذكرنا الله تعالى به.

إزالة الأصنام في الوقت الحاضر

إزالة الأصنام في الوقت الحاضر نقول وبالله التوفيق: في بلادنا مصر أوثان وأنصاب وأزلام وقبور يعبد الأموات فيها من دون الله، وتماثيل وخلاف ذلك، ولكن لما لم تكن لنا في إزالتها من طاقة، وإزالتها يحمل الكثيرين ما لا يطيقون ولا يحتملون فنقول: يرجأ ذلك بالنسبة لنا إلى أن يمكننا ربنا سبحانه، فحينئذٍ إذا مكننا ربنا فالأمر متجه إلينا، قال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:41] أمّا وقد مكن إخواننا في بعض الدول من إزالة صنم، ومن إزالة تمثال لرجل كافر ملحد وهو (بوذا) الذي عبد مع الله، وليست العبادة مقتصرة على السجود له فقط، إنما الطاعة أيضاً عبادة من أعظم العبادات، فإذا مكن الله إخواننا في دولة من الدول من إزالة هذا التمثال والصنم الذي كان صاحبه المجرم الأثيم يشرع شرائع لم ينزل بها كتاب منير، ولم يأت بها رسول كريم، فمكن الله إخواننا من تدميره، فنقول لهم هنالك: جزاكم الله خيراً، فمعلم من معالم الكفر أزيل، ومعلم من معالم الكفر دمر، وينبغي أن يبث في الناس هذا الفهم: أنه ليس في الإسلام صنم، وليس في الإسلام تمثال، وليس في الإسلام وثن. لو كان في الإسلام أصنام وتماثيل لصنع لنبينا محمد أفضل الخلق وسيد ولد آدم تمثال يعظم به، ولصنع لأصحابه أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وبلال وعمار وصهيب وسلمان تماثيل أيضاً، ولصنع للأئمة المهديين من بعدهم كالإمام مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد رحمهم الله، ولكن أين هذا كله؟ ليس في الإسلام شيء من هذا، بل يجب أن تتجه الوجوه كلها لخالقها وبارئها سبحانه وتعالى مسلمة خاضعة إليه. وإنه لعار على قوم يحملون علماً أن يظهروا تباكياً على ما وقع، وأن يأتوا بفلسفات فارغة للإنكار على ما فعل، ويشجبوا صنيع إخواننا؛ إذ كسروا الأوثان وأزالوا معلماً من معالم الشرك، وأزالوا عقيدة تتقلد من دون الإسلام، عار على رجال تقلدوا علماً أن يذهبوا ليواسوا أهل الكفر في المصاب الأليم الذي ألم بهم بزعمهم، ويتركوا المسلمين يذبحون في الأرض المباركة التي بارك الله فيها للعالمين، ولم نسمع أن شيخاً ذهب يشجب هذه الصنائع، وسمعنا عن أقوام يظهرون تباكياً على وثن أزيل. فنقول بوضوح وجلاء وصفاء: إن الله سبحانه ما أذن لهذه الأوثان أن تقوم، وما أذن لهذه الأوثان أن تعبد، وما شرعت هذه الأوثان في دين الإسلام أبداً، إنما هي من شرائع الكفار والمشركين، وقد قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] فلا تأخذوا ثقافتكم من صحف وجرائد ومجلات، ولا تغتروا بذهاب مبعوث من الأمم المتحدة الكافرة يبكي ويتباكى ويناشد، ولم يذهب هذا المبعوث لوقف إراقة دماء المسلمين التي تسال يوماً بعد يوم في الأرض التي بارك الله فيها للعالمين، فالحمد لله على نعمته، وكما قال نبينا محمد: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك)؛ فقه المسألة واضح وجلي، المستضعف يؤجل ذلك ولا يفعله؛ كأمثالنا في مصر نؤجل ذلك ولا نفعله لاستضعافنا، وقد أخر النبي ذلك لما صلى بمكة وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً، ولكن إذا جعل الله لنا دولة فحينئذ {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:41]. معشر الإخوة! إن إبراهيم عليه السلام الذي أمرنا الله بالاقتداء به: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:123] كسر الأوثان صنماً صنماً، ثم قال ساخراً من قومه: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ} [الأنبياء:63]. فيا عباد الله! اعلموا تمام العلم وتيقنوا تمام اليقين: أن التوحيد يبلغ بالعبد درجة عليا لا تبلغه بها الصلاة ولا الصيام، ولا الحج، التوحيد وإخلاص العمل لله وإسلام الوجه لله يبلغ بالعبد درجة عليا في أعالي الجنان، أما من أشرك بالله، وإن كان في الظاهر يصلي فعمله حابط {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65]، إنه لا ينبغي لنا في هذه الحال أن نتغنى بتراث الكفار، ولا ينبغي لنا بحال أن نتغنى وأن نفتخر بخوفو وبخفرع وبمنقرع وبأبي الهول وغير ذلك من الأوثان، لا ينبغي لنا أن نفتخر إلا بإيماننا وبإسلامنا، فوالله ليست هذه الأصنام بنافعة لنا في قبورنا، ولا في دنيانا، ولا في أخرانا كذلك، بل يوم القيامة يكفر بعضهم ببعض ويلعن بعضهم ببعضاً، ومأواهم النار وما لهم من ناصرين، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام في حديثه (ينادي منادٍ يوم القيامة: لتتبع كل أمة ما كانت تعبد؛ فيتبع أهل الأوثان أوثانهم، ويتبع أتباع الطواغيت طواغيتهم، ويتبع أهل الصليب صليبهم)، وهكذا تتبع كل أمة ما كانت تعبد. فجدير بكل شخص منكم أن يوحد ربه، وألا يشرك به شيئاً، وألا يظهر تباكياً على صنم يزال، فتراث كافر لا يحق أن يقال عنه تراث أو تاريخ أو حضارة، إنما إن كانت لها مقام فللعبرة، كما قال تعالى في شأن قوم من الكفار: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الصافات:137 - 138]. فجدير بنا أن نأخذ العبرة من مصارع هؤلاء الغابرين الهلكى، ونعلم تمام العلم أن {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27]، قال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:29]. أهل الإيمان أسلموا الوجوه كلها لله، وأهل الكفر أسلموا الوجوه لآلهة متعددة، فمنهم من أسلمها لحجر يظن أنه ينفع ويضر، ومنهم من أسلمها لشجر يتبرك به ويتمسح به، ومنهم من أسلمها لقبر يزعم أن فيه ولياً لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، ومنهم من أسلم الوجوه لقبور ولمقبورين فيها، يذهب يمسح قلنسوته وجلبابه بقبر هالك من الهلكى يظن أنه ينفعه، وقوم أسلموا الوجوه لبقر يعبدونها مع الله، فنشهد الله على البراءة من كل دين يخالف دين الإسلام. نشهد الله أنا رضينا به رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً، ونسأل الله سبحانه أن يمسكنا بالعروة الوثقى حتى نلقاه، نسأله سبحانه أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، نسأله أن يثبتنا بالقول الثابت عند سؤال الملكين لنا في قبورنا من ربك؟ فهل نقول ربنا بوذا؟ أو خوفو، أو البدوي؟ كلا وحاشى، فمن قال ذلك ومن تقلد شيئاً من ذلك حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين، بل ربنا {رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} [ص:66] فاعبدوه وأسلموا له الوجوه. اللهم يا مقلب القلوب! ثبت قلوبنا على دينك، اللهم يا مقلب القلوب! ثبت قلوبنا على دينك، اللهم مسكنا بالعروة الوثقى حتى نلقاك. شهدنا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وسمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا، ربنا فاغفر لنا ذنوبنا، وكفر عنا سيئاتنا، وتوفنا مع الأبرار، ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك، ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد. اللهم انصر الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وأهلك الكفرة أعداءك أعداء الدين، واختم لنا بخير أجمعين، وارحم أمواتنا وأموات المسلمين، وصلِّ اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

الحقوق الأسرية

الحقوق الأسرية تعتبر الأسرة النواة التي يقوم عليها المجتمع، وإذا صان رب الأسرة أسرته عن المشاحنات والمنافسات فقد توطدت أركان هذه الأسرة؛ ولا يستقيم حال الأسرة إلا إذا أُعطِي كل فرد فيها حقه وأعطى ما عليه من حق، وتعتبر الحقوق المالية ركيزة مهمة تعتمد عليها الأسرة في المحافظة على كيانها في نطاق الشرع وحدود العرف.

حق قيم البيت على أهل بيته

حق قيم البيت على أهل بيته اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السموات والأرض ومن فيهن؛ قولك حق، ووعدك حق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق. ثم أما بعد: فمحاضرتنا في الحقوق الأسرية، فللزوج حق وللزوجة حق وللابن حق، ويجب أن يعطى كل ذي حقه كما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قال: (إن لزوجك عليك حقاً، وإن لولدك عليك حقاً، وإن لربك عليك حقاً، وإن لزورك عليك حقاً)، وقال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} [الإسراء:26]. فجدير بكل منا أن يعرف ما له وما عليه في بيته، فما منا إلا أب أو ابن أو أخ أو أخت أو زوجة أو زوج فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء)، فكل ينبغي أن يعرف ما له وما عليه في البنية الأسرية. أولاً: بالنسبة للزوج أو للأب فهو القيم في البيت، وهذا المنصب نصبه الله سبحانه وتعالى فيه، قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالرجل راع في بيته وهو مسئول عن رعيته). فالقيم في البيت هو الرجل وهو الزوج، فله حقوق من أعظمها بل أولاها وأولها حق السمع والطاعة في البيت، فلابد أن يسمع أهل البيت وأن يطيعوا للزوج، وذلك في طاعة الله سبحانه وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم. فطاعة الأبوين من طاعة الله سبحانه ومن طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهي من البر بالوالدين، فقد أمر الله بذلك في كتابه الكريم، قال الله سبحانه وتعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل: (أي العمل أفضل يا رسول الله؟ قال: الصلاة لوقتها. قيل: ثم أي؟ قال: ثم بر الوالدين)، وتعددت الآيات التي تثبت هذا المعنى، قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء:36]، والآيات في هذا الباب في غاية الكثرة ولا تخفى عليكم، وكذلك أحاديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. فمن حق الأب في البيت أن يسمع له ويطاع، ولكن السمع والطاعة هذه مقيدة بطاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا أمر الأب أو أمرت الأم بمعصية الله سبحانه وتعالى فلا سمع لهما حينئذٍ ولا طاعة، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} [العنكبوت:8]، ويقول الله سبحانه: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [النجم:29]، وقال سبحانه: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28]، وقال سبحانه في شأن الأب الكافر: {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان:52]. إذا أمر الأب أو أمرت الأم بمعصية الله فلا سمع ولا طاعة لهما حينئذٍ، قال النبي صلوات الله وسلامه عليه: (إنما الطاعة في المعروف)، وجاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: (يا رسول الله! إن ابنتي تمرق شعرها وإن زوجها يستحثني على الدخول بها، أفأصل شعرها يا رسول الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله لعن الموصلات) أي: اللواتي يصلن شعورهن بشعور أخرى، وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم كذلك: (لعن الله الواصلة والمستوصلة)، فمنع النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأم من وصل شعر ابنتها وإن طلب الزوج منها ذلك. ولكن مع معصية الأبوين في دعوتهما إلى الحرام ينبغي بل ويجب أن يصاحبا بالمعروف كذلك، فإن الله يقول: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15]، فمع عدم الطاعة هناك مصاحبة بالمعروف كذلك. وفي هذا المعنى يقول الخليل إبراهيم صلى الله عليه وسلم لأبيه: {سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} [مريم:47]، وسلام عليك هنا معناها: أمان عليك مني، فلن أتعرض لك بأذىً ولن أمسك بسوء، فأنت أب وأنت والد وإن كنت مشركاً. وفي هذا المعنى يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن آل بني فلان ليسوا بأوليائي إنما أوليائي المتقون، ولكن لهم رحم سأبلها ببلالها) أي: لهم رحم سأصلها بصلتها، أي: لهم حق الصلة. وفي هذا أيضاً قول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة:8 - 9]. وفي هذا قصة أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنها، فقد جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت له: (يا رسول الله! إن أمي أتتني وهي راغبة -وهي مشركة- أفأصل أمي يا رسول الله؟! قال: صلي أمك) فالأب وإن كان مشركاً والأم وإن كانت مشركة لهما حق البر والصلة {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [لقمان:15]، فلا يطاعان في ذلك، ومع هذا لا تقطع صلتهما، فإن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه الكريم: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15]، إن أرسلاك إلى مكان سوء مثلاً فلا يطاعان، وذلك استنباطاً من حديث الساحر والراهب مع الغلام، فكان أهل الغلام يرسلونه إلى الساحر فيختلف إلى عابد فيستمع منه، ثم يرجع إلى أهله فيقول لهم: حبسني الساحر. وإذا تأخر على الساحر وأتاه قال: حبسني أهلي، فإذا أرسل إلى مكان فيه شر أو سوء فلا يستمع إلى الأبوين ولا يطعهما في معصية الله سبحانه وتعالى.

حق رب الأسرة في زواج أبنائه وطلاقهم

حق رب الأسرة في زواج أبنائه وطلاقهم تأتي بين الأوامر بالطاعة والأوامر بالمعصية أوامر أخرى فيها نزاع بعض الشيء بين أهل العلم، فمثلاً: إذا أمر الأب ولده بتطليق زوجته، هل يطيع الولد والده في تطليق الزوجة أو لا؟ وكذلك إذا ما أمر الوالد ولده بالزواج من فتاة بعينها، هل عليه أن يطيع والده في الزواج بها؟ وكذلك إذا ما أجبرت الفتاة على أن تتزوج رغماً عنها هل تفسخ عقود الأنكحة؟ هذه مباحث نتعرض لها على وجه السرعة. فإذا كان الأب صالحاً ومقصده مقصداً شرعياً في أمره بتطليق الزوجة لرؤيته لها تخالف أوامر الله، وتخالف أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الباعث له على الأمر بتطليقه هذه المرأة هو الوقوف على حدود الله؛ فيسمع له حينئذٍ ويطاع، قال ابن عمر: (كانت تحتي امرأة وكنت أحبها وكان عمر يبغضها، فذهب وشكاني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لي: أطع أباك؛ فطلقتها) وبهذا أوصى الخليل إبراهيم عليه السلام ولده إسماعيل صلى الله عليه وسلم، أن يغير عتبة بابه، ألا وهي تلك المرأة التي كانت متسخطة لأقدار الله غير مستبشة بالأضياف وغير مكرمة لهم، فأوصاه أبوه بأن يغير عتبة بابه. أما إذا كان الباعث للوالد على الأمر بتطليق المرأة هو عفتها وتحجبها وعدم اختلاطها بأبناء البنين، فلا يسمع له ولا يطاع؛ حينئذٍ فإن في السمع والطاعة له نوعاً من أنواع الشر، ونوعاً من أنواع الفساد، والله لا يحب الفساد، فقد قال الله سبحانه وتعالى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28]. فهذا بالنسبة لمسألة التطليق. أما بالنسبة لمسألة التزويج، فهل للأب أن يتدخل لتزويج ولده أم أنه ليس له الحق في ذلك؟ له الحق من جانب، وليس له الحق من جانب آخر، ليس له الحق في أن يفرض على ولده الزوجة التي يريدها، وقد ينفعل الأب أو ينجذب تجاه من يحب وليس الشخص مكلفاً بما يحب غيره، بل القلوب مردها إلى الله سبحانه وتعالى، لكن للوالد أن يشير، قال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما: (زوجني أبي من امرأة لها منصب وجاه فكان يتعاهدها فيسألها عن حالها مع زوجها، فقالت: والله ما كشف لنا ثوباً منذ أن دخلنا عليه، فشكاني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فذكر الحديث وفي آخره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولكني أنام وأرقد وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني)، وفي الحديث: (وإن لأهلك عليك حقاً) أو كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وليس للأب أن يجبر ابنته بحال من الأحوال على أن تتزوج بشخص لا تريده، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تنكح البكر حتى تستأذن، قيل: إنها تستحي يا رسول الله! قال: إذنها صماتها) وقالت خنساء بنت خدام: (زوجني أبي بابن عم لي ليرفع به خسيسته، وأنا كارهة، فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد نكاحي).

حق الزوج في تزين الزوجة له

حق الزوج في تزين الزوجة له هل من حق الزوج على زوجته أن تتزين له، أم أن ذلك من المستحبات وليس من الواجبات؟ ليس هناك دليل يوجب على المرأة أن تتزين لزوجها، إنما زينتها للزوج من باب المستحب لها فقط واتباع آثار السلف الصالح؛ فـ عائشة رضي الله تعالى عنها تقول: (استعرت قلادة من أسماء) والقلادة هي العقد، وذلك كي تتزين بها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت الحديث الطويل الذي فيه فقدانها للقلادة، ثم عثورها على القلادة، فقالت عائشة رضي الله تعالى عنها لبعض التابعين: انظر إلى ثوبي هذا إن جاريتي هذه تستنكف أن تلبس هذا الثوب وما كانت امرأة بالمدينة تقيم -أي: تزف- لزوجها إلا أرسلت إليّ تستعيره مني، وهذه الجارية تأنف أي تستكبر أن تلبس هذا الثوب. فيجرنا هذا إلى بحث فقهي سريع مختصر وهو: ما هو حكم استعارة الزوجة لثياب كي تتزين بها لزوجها؟ هل يشرع لها أن تستعير من امرأة أخرى ثياباً تتزين بها للزوج؟ الظاهر أن ذلك يجوز، لكن في أمر الثياب تفصيل، فثم ثوب من الثياب إذا استعارته امرأة كي تتزين به لزوجها وأخبرت زوجها لمن هذا الثوب، وخاصة تلكم الثياب الداخلية؛ فإن زوجها يتصور المرأة التي تلبس هذا الثوب، فيكون المنع من قبل حديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (لا تنعت المرأة المرأة لزوجها كأنه ينظر إليها، ولا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها) ففي مثل هذه الحالة عندما تصف له امرأة أخرى بهذا الفعل فقد تثير فيه الشر وتحرك فيه الفساد، فالنصوص العامة حينئذٍ تمنع من مثل هذا. وإن لم يكن في المسألة نص خاص من كتاب الله ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن ثم ثياب عامة تستعار كفساتين العرس أو الزفاف التي تزف بها المرأة، فإنها لا تكاد تصور امرأة ما بعينها وبشخصها، فالمناط مع هذا إن وجد الشر والفساد والوصف امتنعت الاستعارة، وإن لم يوجد ما يهيج على الفساد ويعين على الرذيلة فالأصل فيه الإباحة لما سمعتموه من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، ومن فعل فعلها، فيجوز حينئذٍ للمرأة أن تستعير الثياب والقلائد، وأن تستعير الخواتيم، تتزين بها لزوجها، وليست نساؤنا بخير من نساء رسولنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

حق الزوج في خدمة زوجته له

حق الزوج في خدمة زوجته له هل من حق الزوج في البيت على زوجته أن تقوم بخدمته، أم أن هذا من الأمور المستحبة؟ يستحب للمرأة استحباباً شديداً أن تخدم في بيت زوجها، وذلك هو شأن النساء الصالحات وفضليات النساء من نساء الأنبياء وبنات الأنبياء رضي الله تعالى عنهن. فهذه سارة كما ذكرها الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم، لما أقبل الأضياف على زوجها قال سبحانه: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ} [هود:71] أي: قائمة على خدمة الأضياف. وجاءت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى النبي صلى الله عليه وسلم لما سمعت بمقدم رقيق -أي: خدم- إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشكت إلى عائشة رضي الله تعالى عنها ما تلقى في يديها من أثر الرحى التي كانت تطحن بها، وطلبت منها أن تنقل شكواها إلى رسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم. فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم ونقلت له عائشة ما لقيت فاطمة من أثر الرحى في يديها؛ إذ يداها تشقت من العمل الشاق المرهق المتعب في طحن البر وإدارة الرحى، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة وعلياً وقال لهما (ألا أدلكما على ما هو خير لكما من خادم؟ تسبحان عند النوم ثلاثاً وثلاثين، وتحمدان ثلاثاً وثلاثين، وتكبران أربعاً وثلاثين؛ فذلكم خير لكما من خادم)، استنبط منه العلماء أن ذكر الله يورث قوة في البدن تعوض عن الخدم. وقبل أن ننتقل من هذه المسألة يطرح سؤال مفاده: هل يشرع تواجد الخدم في البيت؟ أو أن الأولى ترك الخدم؟ ورد في باب الخدم الذي سمعتموه من قول رسول الله لـ علي وفاطمة: (ألا أدلكما على ما هو خير لكما من خادم) وأرشدهما الرسول إلى التسبيح والتحميد والتهليل، لكن بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه كان به الخدم، في قصة ذهاب النبي إلى بعض أزواجه فأتى الخدم بصحفة من عند بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فقامت الزوجة التي عندها رسول الله فقلبت الصحفة وهي في يد الخادم. فأثبت هذا الحديث وجود الخدم في بيت رسول الله، وكذلك في بيت أبي بكر الصديق قالت أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنها -وهذا في باب خدمة المرأة لزوجها-: (كنت أسوس فرس الزبير وأجمع له النوى وأدق النوى قالت: ثم أتى إلى أبي بكر الخدم فأرسل إليّ خادماً فكأنما أعتقني). فالخادم يجوز اتخاذه إذا وجدت سعة في ذلك. مع أن الأولى والأفضل ما أرشد إليه رسول الله، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يختار لأهل بيته الأفضل خاصة ابنته فاطمة رضي الله تعالى عنها، باعتبارها سيدة نساء أهل الجنة، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يختار لها الأكمل والأفضل. وقد ذهب النبي صلى الله عليه وسلم إليها ذات ليلة فوجد على بابها ستراً موشياً فلم يدخل البيت ورجع مغضباً، فأرسلت فاطمة في إثره علياً تقول له: ماذا صنعت يا رسول الله، لم تدخل البيت؟ فقال: ما هذا الستر؟ قالت: يا رسول الله! مرني فأصنع به ما تشاء. قال: (أرسلي به إلى بيت فلان) أهل بيت لهم فيه حاجة، فأرسلت فاطمة رضي الله تعالى عنها بهذا الستر إلى أهل البيت؛ فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يختار لأهل بيته الأفضل. ففي باب خدمة المرأة لزوجها شكت فاطمة ما تجد من أثر الرحى في يديها لرسول الله، وقالت أسماء: كنت أسوس فرس الزبير وأعلفه، وأجمع له النوى وأدق له النوى، وكان ذلك على بعد ثلاثة فراسخ من مدينة رسول الله. وأيضاً في الباب قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لـ جابر: (يا جابر! تزوجت؟ قال: نعم يا رسول الله! قال: بكراً أم ثيباً؟ قال: بل ثيباً يا رسول الله! قال: هلا بكراً تلاعبها وتلاعبك، وتضاحكها وتضاحكك. فقال: يا رسول الله! إن عبد الله قد توفي وترك لي تسعة أخوات بنات، فخشيت أن أجيهن بفتاة خرقاء لا تحسن صحبتهن، فتزوجت بامرأة ثيب تحسن صحبتهن، وتمشطهن وتقوم بخدمتهن) أخذ من هذا أيضاً أن حال النساء على عهد رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام كان في خدمة الأزواج. وقال صلوات الله وسلامه عليه كذلك: (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لامرأة: (أذات زوج أنتِ؟ قالت: نعم يا رسول الله! قال: كيف أنتِ منه؟ قالت: ما آلوه إلا ما عجزت عنه -أي: لا أقصر في حقه إلا في شيء لا أطيقه- قال: انظري أين أنتِ منه؟ فإنما هو جنتك أو نارك)، وجاءت فتاة إلى رسول الله مع أبيها وأبوها يشكوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! إن ابنتي هذه أبت أن تتزوج، فقالت: يا رسول الله! والذي بعثك بالحق لا أتزوج حتى تخبرني بحقي على زوجي وبحق زوجي عليَّ، قال: لو كانت به قرحة فلحستها ما أدت حقه، قالت: إذاً والذي بعثك بالحق لا أتزوج. قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تنكحوهن إلا بإذنهن). وبهذا استدل فريق كبير من أهل العلم بل الجمهور على أن النكاح لا يجب على المرأة، حتى ابن حزم الظاهري الذي أبعد في مسائل النكاح مباعد شتى لم يقل بوجوب النكاح على النساء لهذا الحديث ولغيره. ومن الأدلة التي سيقت في باب خدمة النساء للرجال في البيوت ما ورد عند ابن أبي شيبة بإسناد فيه ضعف فحواه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى على علي رضي الله عنه بالخدمة الظاهرة، وقضى على فاطمة رضي الله عنها بالخدمة الباطنة) ولكن إسناد هذا الخبر لا يثبت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام. ومما استدل به كذلك على مسألة خدمة المرأة لزوجها قول الله جل ذكره: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228]، هذه عمدة استدلالات من قال باستحباب خدمة المرأة لزوجها في البيت في حدود استطاعتها وفي حدود طاقتها. وجمهور أهل العلم يرون أن هذه الخدمة على الاستحباب وليست على الإيجاب، فليس هناك نص صريح يوجب عليها الخدمة فهي إما نصوص تبين حال الفضليات، والصحابيات، فقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم سؤالاً صريحاً في هذا الصدد فقيل له: (يا رسول الله! ما حق أحدنا على زوجته؟ فقال صلوات الله وسلامه عليه -في مجمل الروايات-: ألا تمنع نفسها وإن كانت على قتب) أي: إذا دعاها إلى الجماع لا تمنعه نفسها، وفي روايات أخر (وألا تجلس أحداً على تكرمته إلا بإذنه) وفي روايات أخر: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه) أي: صوم التطوع. قالوا: فهذه الحقوق وجبت بنصوص: (لا تمنعه نفسها وإن كانت على قتب)، (وألا تأذن لأحد في بيته إلا بإذنه) و (ألا تصوم إلا بإذنه)، وكذلك الخروج من البيت لا تخرج إلا بإذنه، قالت أم المؤمنين عائشة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الإفك: (يا رسول الله! ائذن لي أن آتي أبوي، فأذن لها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم)، فدل ذلك على أن خروجها من البيت يكون بإذن، ودل على الاستئذان أيضاً قوله صلوات الله وسلامه عليه: (إذا استأذنكم نساؤكم إلى المساجد فائذنوا لهن). بقي مبحث آخر يتعلق بما ذكر وهو إذا كان الزوج غائباً هل يلزم المرأة أن تستأذنه في صوم التطوع؟ للعلماء في ذلك وجهان: أحدهما: لا يلزمها أن تستأذنه في صوم التطوع، وذلك لأن النبي قال: (لا يحل لامرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه) أي حاضر إلا بإذنه، فإذا لم يكن الزوج شاهداً فلا ينتحل هذا الحديث، ثم إن المعنى الذي من أجله تمتنع عن الصوم غير موجود. أما الذين قالوا: تستأذن -وهم قلة- فقالوا: إن له الحق في أن تكون زوجته ذات جمال ووسامة، ومن حقه أن يؤدي بها إلى ما يتعفف به، فهذا هو الوجه في ذلك. نرجع إلى الذي كنا بصدده وهو: مسألة خدمة المرأة لزوجها، فرأى فريق من العلماء وهو الجمهور: أن ذلك يستحب لها استحباباً شديداً، ورأى آخرون الوجوب، والقائلون بالاستحباب أكثر، والله سبحانه أعلم.

حكم تصدق المرأة من مالها أو مال زوجها

حكم تصدق المرأة من مالها أو مال زوجها وهل من حق الزوج أن يمنع زوجته من التصدق من مالها الخاص بها إلا بإذنه؟ هذه المسألة جمهور العلماء فيها على أنه ليس للزوج أن يمنع زوجته من أن تتصدق بمالها إذا شاءت أن تتصدق، وقد جاء في هذا الباب جملة من الأدلة العامة والخاصة، فمن الأدلة العامة على ذلك قوله تعالى: {وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ} [الأحزاب:35] وقال في آخر الآية: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:35] وعموم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة:267] وهي مخاطبة بقوله تعالى في الآية: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)). وأدلة خاصة في هذا الباب منها ما ورد في الصحيح من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى العيد ثم اتجه إلى النساء فقال: (يا معشر النساء! تصدقن فإني أريتكن أكثر أهل النار، قلن: وبم يا رسول الله؟ قال: تكثرن اللعن وتكفرن العشير). الشاهد: (فقامت المرأة تلقي خرصها في حجر بلال، وبلال يجمع الصدقات) ونحوه في حديث جابر ونحوه في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنهم جميعاً، فهذه الأحاديث أفادت أن النبي لما حثهن على الصدقة بادرن بالصدقة، ولم يرد أنهن ذهبن إلى الأزواج فاستأذن الأزواج للتصدق إنما بادرن بإلقاء الصدقة في ثوب بلال. وقد ورد في هذا الباب من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تحل للمرأة عطية من مالها إلا بإذن زوجها)، فهذا الحديث أشكل على بعض أهل العلم لتعارضه مع العمومات التي ذكرت من أن النسوة قمن فتصدقن في حجر بلال، وبالنسبة لإسناد هذا الحديث فهو من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، والمقرر عند أهل الحديث أن هذا الإسناد حسن إذا لم يعارضه ما هو أقوى منه، أما إذا عورض بما هو أقوى منه، فالأمر كما قال الإمام أحمد: إن أهل العلم إذا شاءوا أن يحتجوا برواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده احتجوا، وإن شاءوا أن يردوا رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ردوها. هنا يقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى في خبر عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرأة عطية من مالها إلا بإذن زوجها) قال: هذا الخبر ليس بثابت عندنا، ثم هو مخالف للكتاب، ثم هو مخالف للسنة، ثم هو مخالف للأثر، ثم هو مخالف للمعقول، والأمر كما قال الشافعي رحمه الله تعالى. وحمله بعض أهل العلم على الأدب لا على الإيجاب، وعلى التوادد والتراحم، فإن المرأة إذا تصدقت من مالها بغير إذن زوجها كان في نفس الزوج شيء، قالوا: قد يدفع هذا الشيء إلى التحسس إذ العلاقات بين الزوجين مبنية على التوادد والتراحم، كما قال الله سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21]. ثم ننتهي إلى شيء آخر: هل للمرأة أن تتصدق من مال زوجها من بيته بغير إذنه التحرير يقتضي أن ذلك مبني على حجم الصدقة، وعلى الأعراف السائدة، وذلك لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا تصدقت المرأة من بيت زوجها غير مفسدة فلها النصف، وللخادم النصف، وللزوج مثل ذلك) فقيد الإنفاق هنا بغير الإفساد، فمثلاً في اصطلاحاتنا إذا كانت المرأة تخبز خبزاً ومر بها فقير فناولته رغيفاً فلا بأس بذلك؛ إذ الأعراف قد جرت على ذلك، ثم إنها إن امتنعت وصفت في أوساط النساء بالشح، وبالبخل، وقد جاءت الشريعة الغراء بحفظ الأعراض من سيئ الأوصاف. (وللخادم): الخادم الذي يكون في بيوت الأثرياء القائم على المخزن، أحياناً الزوجة تقول له: أعط هذا السائل كذا، فمن الخدم من هم بخلاء، ومنهم من هم كرماء يفرحون بأمر سيدهم لهم، أو بأمر صاحب البيت لهم بالإنفاق، أما الإفساد فالأمر فيه ليس على ذلك. ثم: هل من حق الزوج أن يقبل من زوجته صدقة عليه؟ أي هل للزوجة أن تتصدق على زوجها، أو ليس لها ذلك؟ الأموال التي يأخذها الزوج من زوجته إما كهبات تهبها الزوجة لزوجها، جائز له أخذها، فإن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه الكريم: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء:4] وفي قوله هذا فقه للعطاء، فلا ينبغي للمرأة أن تعطي للزوج كل صداقها، بل إن أعطته تعطيه شيئاً وتدخر شيئاً لنفسها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر في الحديث: (ابدأ بنفسك ثم بمن تعول) فقال: (دينار أنفقته على نفسك ودينار أنفقته) إلى آخر الحديث لكن أفضلها دينار (أنفقته على نفسك)، فإن وهبت المرأة شيئاً لزوجها فلا تهبه كل صداقها إنما تهبه بعض الصداق لقوله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء:4]. كذلك في قوله جل ذكره: {فَإِنْ طِبْنَ} [النساء:4] أي: إن طيبت المرأة نفساً بالعطاء فكله هنيئاً مريئاً، أما إذا احتلت أنت أو ضغطت عليها كي تعطيك الأموال أو ابتززت أموالها بأي صورة من الصور فالله يقول: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} [البقرة:229] فلا يحل مال امرأة مسلم إلا عن طيب نفس منها، فليس للزوج أن يأخذ من مال زوجته شيئاً إلا عن طيب نفس، للآية الكريمة: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا} [النساء:4]، ولقول النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي صحح بمجموع طرقه: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه) فإذا وهبت المرأة شيئاً من مالها لزوجها جاز للزوج أن يقبل هذا المال، إذا طيبت نفساً بذلك، لكن هذا هو الشق الأول من الأموال، أو النوع الأول من الأموال التي تعطيها الزوجة لزوجها. ثم صدقة النفل: هل للزوجة أن تتصدق صدقة نفل على زوجها؟ نقل الصنعاني رحمه الله تعالى في سبل السلام الإجماع على جواز ذلك، أي: على جواز تصدق المرأة صدقة النفل على زوجها، أما صدقة الفرض ففيها شيء من الخلاف، والراجح أن صدقة المرأة صدقة الفريضة على زوجها جائزة إذا كان من المصارف الثمانية.

مشروعية إعطاء الزوجة زوجها زكاة مالها والعكس

مشروعية إعطاء الزوجة زوجها زكاة مالها والعكس بالنسبة لصدقة الفرض هل يجوز للمرأة أن تتصدق أو أن تخرج زكاة أموالها في زوجها؟ الراجح والله سبحانه أعلم من أقوال أهل العلم جواز ذلك، وذلك لقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ} [التوبة:60]، فإذا كان الزوج من المصارف الثمانية، فليس هناك دليل يمنع المرأة من أن تخرج الزكاة فيه. هذا شيء. الشيء الآخر هو مجيء زينب امرأة عبد الله بن مسعود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقولها لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله إن لي أيتاماً في حجري، وإن عبد الله -تعني: ابن مسعود - زعم أنه أحق هو وأولاده بالصدقة من غيرهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق ابن مسعود هو وأولاده أحق من غيره). وفي رواية أخرى لهذا الحديث: (هل يحق لي يا رسول الله! أن أتصدق على زوجي وعلى أيتام لي في حجري؟ قال: نعم، ولك أجران؛ أجر الصلة وأجر الصدقة)، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا الاستدلال لجواز إخراج المرأة لزكاة أموالها لزوجها؛ إذ لا يجب عليها أن تنفق عليه، أولاً لعموم الآية الكريمة: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة:60] إلى آخر الآية، ثانياً: عدم وجود المانع، ثالثاً: حديث زينب امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنها في هذا الباب. والأمر لا ينعكس، فلا يجوز للزوج أن يخرج زكاة أمواله في زوجته؛ إذ نفقتها واجبة عليه، واستثنى بعض أهل العلم هذه الحالات: إذا كانت المرأة قد استدانت قبل الزواج فللزوج أن يخرج زكاة أمواله لسد الدين عنها، إذ لا يجب أن يسد الدين عنها، أو إذا استدانت في أمر لا يجب على الزوج، كأن تكون استدانت مثلاً لصلة أهلها ثم عجزت عن الوفاء، أو استدانت لإعطاء أبويها الفقراء، ثم لم تستطع سداد هذه الديون التي حلت وألمت بها، فلها حينئذٍ أن تأخذ من زكاة مال زوجها لسداد ما عليها من الديون في مثل هذه الحالة. وهل يتصدق الرجل، أو يخرج الرجل زكاة أمواله في أبنائه؟ لا يجوز للرجل أن يخرج زكاة أمواله في أبنائه الذين تلزمه نفقتهم، وكل الذين تلزمه نفقتهم. قال العلماء أو جمهور أهل العلم: يجب على الأب أن ينفق على الأبناء الذكور من الولادة حتى سن البلوغ، وبعد سن البلوغ لا يجب، إلا إذا كانوا فقراء أو كانوا سيضيعوا بسبب عدم إنفاقه عليهم، أما إذا كان لهم أعمال يمارسونها فالجمهور على أن الإنفاق إلى البلوغ وعلى الإناث إلى عقد الزواج، وبعد عقد الزواج تنتقل النفقة من الأب إلى الزوج على رأي جماهير العلماء، ومن أهل العلم من يقول في شأن المعقود عليها وهم قلة: إن النفقة على المعقود لا تجب إلا بالتمكين، أي: إذا انتقلت عنده، لكن القول الذي عليه الأكثرون هو الأول، والله سبحانه وتعالى أعلم. أما إذا كان للرجل ولد متزوج ومعيشته مستقلة، فلا يجب على الوالد الإنفاق عليه، فحينئذٍ للأب أن يخرج له عند فريق من أهل العلم زكاة أمواله، إذ الإنفاق عليه ليس بواجب. كذلك إذا كان للأب بنت متزوجة وهي وزوجها فقراء، أو زوجها فقير؛ فللأب أن يخرج الزكاة في ابنته إذ لا يجب عليه أن ينفق عليها. والله سبحانه وتعالى أعلم.

الهبة للأولاد وأحكامها

الهبة للأولاد وأحكامها فريق من أهل العلم على أنه يجب على الأب ويجب على الأم أن يعدلا في الهبة، وذلك لحديث النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: (ذهبت أمي عمرة بنت رواحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إني نحلت ابني هذا نحلة، أي: أعطيته هبة -وكان معها زوجها بشير - فأردت أن أشهدك على هذه النحلة، فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ألك ولد غيره؟ قالت: نعم يا رسول الله! قال: أكل ولدك أعطيته مثل هذا؟ قالت: لا يا رسول الله! قال: ارجعي فأشهدي على هذا غيري) وفي رواية: (فإني لا أشهد على جور)، وفي ثالثة: (فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم). فأخذ فريق من أهل العلم من هذه النصوص وجوب العدل بين الأولاد في الهبات، ورأى فريق من العلماء وهم الجمهور: أن العدل بين الأولاد في الهبات مستحب وليس بواجب، ومن عمدة أدلتهم على القول بالاستحباب: أن الرجل أحق بماله ويتصرف فيه كيف يشاء، وإنما قول الرسول: (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم) أمر ندب وإرشاد واستحباب حتى لا تتولد الضغائن بين المسلمين. ومن الأدلة التي استدلوا بها على ذلك: ما ورد عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه بسند صحيح: (أنه رضي الله تعالى عنه أعطى عائشة رضي الله عنها عشرين وسقاً من تمر بالغابة، وهي على بعد أميال من مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم لما حضرته الوفاة قال: يا بنيتي! إني كنت قد أعطيتك عشرين وسقاً -والوسق: ستون صاعاً كما هو معلوم- من مالي بالغابة فإن كنت جلبتيه فهو لك -أي: إن كنت أخذتيه إلى رحلك فهو لك- وإن كنت لم تأخذيه فإنما هو مال وارث فلا يحل لك أن تأخذيه)، ولم يكن أعطى سائر إخوانها مثل الذي أعطاها رضي الله تعالى عنها، حتى أسماء ما أعطاها. فعمدة استدلالات الجمهور القائلين بأن العدل بين الأولاد في الهبات ليس بواجب وأنه مستحب: أن الأب أحق بماله، وأن احتياجات الأبناء تختلف، فهذا مثلاً ابن يدرس في الجامعة واحتياجاته تختلف عن ابن يدرس في الابتدائي، أو هذا ابن يدرس في الطب واحتياجاته تختلف عن ابن عامل، فهذا ينفق في العام ألفين أو ثلاثة آلاف، وهذا يدر دخلاً على الوالد، فمسألة التسوية في الهبات في مثل هذه الحالة تشق على الناس، فحينئذٍ قال جمهور العلماء: بأنها مستحبة، والله سبحانه وتعالى أعلم. لكن من أهل العلم من قال: إن الرجل عليه أن يعدل في الهبات قدر الاستطاعة، وما خرج عن وسعه وجهده فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ولا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها، أما أمر رسول الله الصريح: (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم)؛ فلا يعدل عنه إذ هو حديث الرسول وهو كالنص في المسألة والله سبحانه أعلم. ترد مشاكل ومسائل: رجل له أولاد تعلموا في كليات وأبناء آخرون لم يتعلموا، أو رجل له ولدان أحدهما عامل في شركة أو فلاح يدر على أبيه في كل يوم دخلاً، والآخر من الأبناء يأخذ من أبيه أضعاف هذا الدخل الذي يدره هذا الولد، فهذا عمل ودر دخلاً على البيت، وهذا يأخذ من الأب أموالاً كثيرة طائلة كي يتعلم بها، وهذه الأموال التي يدفعها الأب ليست بواجبة على الأب إنما هو من باب الفضل، فهل يجوز والحالة هذه أن يعطي الأب ولده العامل شيئاً من التعويض مقابل المال الذي أعطاه؟ النصوص الشرعية والقواعد العامة تجيز ذلك إذا مكنه منه قبل الوفاة، أما بعد الوفاة فكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه؛ فلا وصية لوارث). ومن أهل العلم من استثنى الزمنى من الأبناء، أي: الذين عندهم مرض مزمن، وقال: يجوز للأب أن يخص من عنده مرض مزمن من أبنائه -كالبنت الكسيحة أو العرجاء التي يظن أنها لن تتزوج- بشيء من المال كهبة يسلمها إياها في دنياها كي تستعين به على نوائب الدهر. وهذا رأي له وجاهته، ومما يشهد له قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] وقوله: (كفى بالمرء إثماً أن يحبس عمن يملك قوته)، (فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته). وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

العشر الأوائل من ذي الحجة

العشر الأوائل من ذي الحجة فضل الله العشر من ذي الحجة على بقية أيام العام، وجعل العمل فيها أحب إليه من غيرها، وحث سبحانه على الذكر فيها فقال: (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ)، فيستحب فيها الإكثار من الأعمال الصالحة، ويرى بعض أهل العلم أن الصيام داخل في العمل الصالح المرغب فيه في هذه العشر، وقد سن المصطفى صلوات الله وسلامه عليه أن من عزم على أن يضحي فلا يأخذ من شعره وأظفاره -أسوة بالحاج- حتى يضحي.

فضل العشر الأول من ذي الحجة

فضل العشر الأول من ذي الحجة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. وبعد: فإنا إن شاء الله على مشارف أفضل عشرة أيام في العام، على مشارف الأيام المعلومات التي ذكرها الله في كتابه، حيث قال: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج:28]، والأيام المعلومات عند جماهير أهل العلم: هي العشر الأول من ذي الحجة، وهي أفضل أيام العام على الإطلاق، وقد أقسم الله سبحانه وتعالى بها في قوله: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر:1 - 2].

كلمات قليلة أجورها عظيمة

كلمات قليلة أجورها عظيمة قال عليه الصلاة والسلام في بيان بعض أفراد الذكر: (لئن أقول: سبحان الله، والحمد الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر؛ أحب إلي مما طلعت عليه الشمس)، أحب من الآلاف بل من الملايين من الجنيهات، بل أحب إليه من كل شيء طلعت عليه الشمس من قصور وبيوت وتجارات وعمائر، ألا وهي كلمة: (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكب). وقال عليه الصلاة والسلام (من قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة، حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر)، الخطايا تحط وإن كانت مثل زبد البحر -من كثرتها- بقوله: سبحان الله وبحمده مائة مرة. وقال عليه الصلاة والسلام: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم). وثَمَّ ذكر آخر فيه نفع وفضل، قال عليه الصلاة والسلام لـ أبي موسى الأشعري: (يا أبا موسى! هل أدلك على كلمةٍ هي كنزٌ من كنوز الجنة، قل: لا حول ولا قوة إلا بالله)، فلا حول ولا قوة إلا بالله، كنزٌ من كنوز الجنة.

في الذكر قوة حسية

في الذكر قوة حسية كيف يقوى البدن؟! هل يقوى البدن بذكر الله؟ نعم، يقوى البدن بذكر الله، ففي انشراح الصدور تقوى الأبدان، وتدفع الأمراض، وكما قال رسولنا لابنته فاطمة -لما جاءت تسأله خادماً-: (أولا أدلك على ما هو خير لك من خادم؟ تسبحين وتحمدين وتكبيرين عند النوم ثلاثاً وثلاثين فهي خيرٌ لك من خادم)، أو كما قال عليه الصلاة والسلام، وكما سمعتم قول الله تبارك وتعالى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا} [هود:3]، وفي الآية الأخرى: {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} [هود:52]، فبعد هذا الفضل العظيم والثواب الجزيل للذكر، هل يليق بك -يا عبد الله! يا من آتاك الله الرشد! ورزقك الله العقل- أن تغفل عن ذكر الله؟ هل يليق بك أن تعدل عن الذكر إلى الاغتياب والنم، فتجني حصاداً مراً في الاغتياب وذكر الناس، وتجني إماتةً لقلبك بترك ذكر الله وإدمان ذكر الناس.

الحرص على الذكر في عشر ذي الحجة

الحرص على الذكر في عشر ذي الحجة جدير بك يا عبد الله! أن ترتب لنفسك أوقاتاً خاصةً في هذه الأيام العشر، تسبح الله فيها كثيراً، وتحمده فيها كثيراً، وتهلل وتكبر، ولتقل: لا حول ولا قوة إلا بالله، حدد لنفسك أوقاتاً طويلة، تذكر الله فيها، وتصلي فيها على رسول الله عليه الصلاة والسلام، وقد علمت ما فيها من الأجر، قال عليه الصلاة والسلام: (من صلى عليّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً)، هل يليق بك ذلك يا عبد الله؟! فيا عبد الله! لا تغفل عن الذكر، ولا تغفل عن الشكر. عند دخولك البيت اطرد الشياطين بقولك: باسم الله. إذا أخذت المضجع اطرد عنك الشياطين التي تؤذيك وأنت نائم بقولك: (باسمك ربِّي وضعت جنبي وبك أرفعه)، أو الأحاديث الواردة في ذلك. أغلب ما يفعل بالأيام العشر، هو ذكر الله عز وجل، ثم سائر أعمال البر.

فضل الذكر

فضل الذكر إن شأن الذكر لعجيب، فالعبادات التي افترضها الله علينا إنما افترضت كي يذكر الله فيها، قال الله سبحانه: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14] أي: وأقم الصلاة لتذكرني فيها، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إنما جعل الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمار لذكر الله عز وجل)، فالعبادات التي افترضها الله علينا إنما افترضت كي نذكر الله سبحانه وتعالى فيها، ولا جرم؛ فإن الله يقول: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:35]، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام لما كان في سفر مع أصحابه، (سبق المفردون سبق المفردون! قالوا: ومن المفردون يا رسول الله؟! قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات)، وليس من عجب أن يدعو موسى صلى الله عليه وسلم ربه أن يمده بأخيه هارون؛ لعلة كبرى، قال موسى عليه الصلاة والسلام: {هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه:30 - 32]، لماذا؟ قال: {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا} [طه:33 - 35]، فموسى يطلب من الله أن يعينه بأخيه هارون، وأن يمنّ على أخيه هارون بالنبوة هو الآخر؛ لعلة لا شك أنها من أعظم العلل، ألا وهي: {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا} [طه:33 - 35]. فلا جرم -إذاً- أن ذكر الله فيه منتهى النفع؛ إذ العبادات شرعت من أجله، والأنبياء ما رخص لهم في تركه بحال من الأحوال، زكريا عليه الصلاة والسلام لما منع من الكلام، قال الله له: {آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} [آل عمران:41]، أي: أنك لا تستطيع الكلام ثلاثة أيام، ومع عدم استطاعة الكلام لا تمتنع من الذكر، بل قال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} [آل عمران:41]، ولم تسقط الصلوات التي هي محل ذكر الله في أشد الأوقات؛ لم تسقط عن أي مريض، ولم تسقط عن أي مسافر، ولم تسقط عن أي مقاتل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (صلّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع، فعلى جنب)، وفي بعض الروايات: (فأومئ إيماء)، فذكر الله ينبغي ألا يفارق العبد، بأية حال من الأحوال. ذكر الله به تذكر في الملأ الأعلى، قال الله سبحانه: (من ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملأٍ خير من ملئه)، فتخيل وأنت واقف مع إخوانك تذكرهم بالله أن ربنا يذكرك في الملأ الأعلى سبحانه وتعالى، قال الله في الحديث القدسي: (أنا مع عبدي إذا هو ذكرني وتحركت بي شفتاه)، وحسّن بعض العلماء حديثاً لرسول الله عليه الصلاة والسلام: (ألا أدلكم على خير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: ذكر الله). - ذكر الله يجلب محبة ربك لك: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، وأن يشرب الشربة فيحمده عليها). - ذكر الله به تطمئن القلوب الوجلة المضطربة: القلوب الخائفة تطمئن بذكر الله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ * الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} [الرعد:28 - 29]، فحقاً إنها نعمة ينعم الله بها على أهل الإيمان، إذا أصيبوا بمصيبة، أو حلت بهم كارثة، أو ابتلوا بفقدان مال أو عيال، أن يلهموا الذكر، فذكر الله يطمئنهم. - ذكر الله خير عوض لهم عما فات: قال تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:156 - 157]، يقوم الشخص من نومه، منزعجاً من رؤيا رآها فبذكر الله يطمئن قلبه ويسكن خاطره، إذا ذكر الله سبحانه وتعالى، وتعوذ بالله من شرها. - ذكر الله سبحانه يقوي القلب: قال تعالى في شأن من خوفهم الناس من عدوهم: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173]، فماذا كان؟ {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:174]، قالها أهل النفاق مرجع الرسول صلى الله عليه وسلم من أحد، وقد أنهكت قواه وقوى أصحابه، وقتل من قتل، وشج رأس نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، وانصرف آنذاك أبو سفيان مفتخراً متباهياً، قائلاً: اعلُ هبل! فأجابه عمر، بل الله أعلى وأجل، فانصرف رسول الله وأصحابه، فجاء أهل النفاق بالإرجاف إلى رسول الله وإلى أصحاب رسول الله، يقولون لهم: إن أبا سفيان ومن معه سيأتون لاستئصالكم -مع أن القوة منهكة، والنفوس كسيرة- فماذا قال رسول الله هو وأصحابه: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ} [آل عمران:172]؟! قالوا جميعاً: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173]، فماذا كان؟ كفاهم الله شر عدوهم قال سبحانه: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:174]، وكذلك كانت حال غلام ضعيف في وسط جبابرة ظلمة أخذوه ليلقوه من أعلى جبل، وأخذوه ليلقوه في وسط البحار، وما له معتصَم إلا بالله وبذكر الله، فقال -في كلا الحالتين-: اللهم اكفنيهم بما شئت، فكفاه الله سبحانه بما شاء، ورجع سالما آمناً غانماً. ذِكر الله سبحانه وتعالى نور لك في السماء نور لك في قبرك نور لك في أُخراك. - ذكر الله سبحانه حصنٌ لك من الشيطان الرجيم: قال الله سبحانه وتعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون:97 - 98]. ذكر الله -بما فيه من استغفار- تستدر به الأرزاق، وتتسع به المضايق: قال تعالى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود:3]، وكما قال نوح: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح:10 - 12]. ذكر الله -بما فيه من استغفار- تدفع به البلايا: قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33]، فجدير بك ألا تفارق الذكر في هذه الأيام الطيبة المقبلة عليك على وجه الخصوص، ولا تغفل عن ذكر الله أبداً، فإنك إن غفلت عن الذكر، انقضت عليك شياطين الإنس، بل وشياطين الجن كذلك، فالشيطان وسواس، وتدفع وسوسته ويبعد شره بذكر الله عز وجل.

ما هو العمل الصالح المنصوص عليه في فضل العشر؟

ما هو العمل الصالح المنصوص عليه في فضل العشر؟ تجتمع في هذه الأيام جملةٌ من الفضائل: فهي الأيام المعلومات كما ذكر ربنا سبحانه، وهي داخلةٌ في الأشهر الحرم، إذ هي من ذي الحجة، وذو الحجة من الأشهر الحرم، وكذلك فهي تحوي أفضل يوم في العام، وهو يوم عرفة، وكذلك تحوي يوم النحر، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله سبحانه وتعالى من هذه العشر -أي: عشر ذي الحجة- قالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا أن يخرج أحدكم -أي: إلى الجهاد- بنفسه وماله ثم لا يرجع من ذلك بشيء)، أما من خرج ورجع بنفسه وماله فالعمل الصالح أفضل من الجهاد، بنص حديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وما هو العمل الصالح الذي هو أفضل شيء في هذه الأيام؟ فمن أهل العلم من خص العمل الصالح بالذكر، فقال: المراد بالعمل الصالح ذكر الله عز وجل؛ وذلك لأن العمل الصالح أفضل من الجهاد، والجهاد من الأعمال الصالحة، فلو أطلقنا العمل الصالح لدخل فيه الجهاد، ولكن أريد به هنا صورة مخصوصة، ألا وهي الذكر، وقد وضحت هذه الصورة أفعال صحابة النبي الأمين عليهم رضوان الله، لقد أخرج البخاري معلقاً: أن ابن عمر وأبا هريرة رضي الله عنهما كانا يخرجان إلى السوق في هذه الأيام العشر فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما، أخرج البخاري معلقاً عن ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما: (أنهما كانا يخرجان في هذه الأيام العشر إلى السوق يذكران الله عز وجل ويكبران، فيكبر الناس بتكبيرهما).

حكم صيام التاسع من ذي الحجة

حكم صيام التاسع من ذي الحجة هل يسن للشخص صوم هذه الأيام التسع من ذي الحجة؟ ورد في ذلك عن رسول الله عليه الصلاة والسلام حديثان: أحدهما ينفي، والآخر يثبت. أما الذي نفى فقد ورد عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بسند صحيح، قالت: (ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم صائماً العشر قط)، ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم العشر قط، وورد في معرض الإسناد حديث رواه راوٍ يقال له: هنيدة بن خالد، رواه مرة عن أمه عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ومرةً عن امرأته عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ومرة عن حفصة، قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم العشر الأول أو التسع الأول من ذي الحجة)، وقد عمل بهذا الحديث بعض أهل العلم. ومن العلماء من أعله بالاختلاف وقالوا: إن الأصوب حديث عائشة. وعلى كلٍ: قد أدخل فريق من أهل العلم الصيام في العمل الصالح الذي ينبغي أن يحافظ عليه.

ما ينبغي فعله على من أراد أن يضحي

ما ينبغي فعله على من أراد أن يضحي قال عليه الصلاة والسلام: (إذا دخل العشر من ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره شيئاً)، يعني: يا عبد الله! إذا كنت تريد أن تضحي ودخلت عليك أول ليلة من ليالي العشر من ذي الحجة، فلا تأخذ من شعرك، ولا من أظفارك أي شيء، طيلة هذه العشر إلى أن تنحر، وهل هذا النهي عن الأخذ على التحريم أم هو على الكراهة؟ ذهب أكثر العلماء إلى أنه على الكراهة، وليس على التحريم، فقالوا -في معارض التعليل لكونه على الكراهة- إن الأضحية من أصلها ليست بواجبة فمتبوعاتها لا تجب، وهذا قول. لكن استدل الإمام الشافعي رحمه الله تعالى على جواز الأخذ من الشعر والأظفار، حتى للمضحي بحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (كنت أفتل قلائد النبي صلى الله عليه وسلم بيدي فيرسل بها من المدينة إلى مكة ولا يحرم عليه شيء مما يحرم على المحرم)، وهذا كما سبق يفيد بيان سنة من السنن أصبحت مهجورة وهي: أن الموسر الذي لم يحج، يذبح أو يرسل هديه أو ما استطاع من الهدي إلى مكة، وهذا فعل لرسول الله عليه الصلاة والسلام أغفله الكثيرون. الشاهد: أن أم المؤمنين عائشة كانت تفتل القلائد، أي: الحبال التي توضع في رقاب الإبل ورقاب الأنعام المتجهة إلى الكعبة، والرسول يرسلها ولا يمتنع عن شيء مما يمتنع منه المحرم، فدل ذلك على أنه يجوز له أن يأخذ من شعره، ومن أظفاره، لكن هذا مفهوم. أما المضبوط فهو: (إذا أراد أحدكم أن يضحي ودخل العشر فلا يأخذ من شعره، ولا من أظفاره شيئاً)، وهذا منطوق، والمنطوق الصريح أولى بالأخذ من المفهوم غير الصريح، فالرسول نهى نهياً صريحاً عن الأخذ من الشعر والأظفار لمن أراد أن يضحي فكذلك فافعلوا.

تلاوة القرآن في عشر ذي الحجة

تلاوة القرآن في عشر ذي الحجة من الذكر الذي لا ينبغي أن يغفل: كتاب الله، فعليك أن توليه مزيداً من الاهتمام في هذه العشر كذلك، قال الله جل ذكره: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر:29 - 30]، فكتاب الله لا ينبغي أن يهمل؛ لأن تلاوة كتاب الله تعمر الديار، وترك التلاوة يخرب الديار، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (مثل الذي يقرأ القرآن والذي لا يقرأ كمثل الحي والميت). معشر الإخوة! لقارئ القرآن بكل حرف من تلاوته حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، وليست (ألم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف، كما ثبت عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه. كتاب الله -معشر الإخوة- يطرد الشياطين، قال عليه الصلاة والسلام: (إن البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة ينفر منه الشيطان)، آية الكرسي تطرد عنك الشيطان عند منامك. تلاوة كتاب الله خير لك من الإبل وخير لك من الأنعام، كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام، فعليكم بكتاب الله فهو لكم نور، قال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة:15 - 16]. تلاوة كتاب الله تتنزل بسببها السكينة، وتحفك بسببها الملائكة. كتاب الله يأتيك شفيعاً يوم القيامة، يدافع عنك، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه، تقدمه البقرة وآل عمران، كأنهما غمامتان أو غيايتان، من طير صواف تحاجان عن صاحبهما)، تأتي سورة البقرة تدافع وتحاج عن صاحبها وتشفع لصاحبها: يا رب! عبدك كان يتلوني، كان يقرأ بي في الصلوات، وكان يقرأ بي في الخلوات، كان يذكرك بي وكذلك آل عمران هذه السور تأتي تدافع عن أصحابها يوم القيامة. فيا عباد الله! كتاب الله عليكم به لا تهجروه، ولا تتركوه، خاصة في هذه الأيام الطيبة المباركة، ففرغ من وقتك لذكر الله فيه.

حال كثير من المسلمين في عشر ذي الحجة

حال كثير من المسلمين في عشر ذي الحجة العجيبٌ والغريب من إخوة ظاهرهم السنن، والصلاح؛ أن المؤذن يؤذن وهم في عملهم غافلون! الصلاة تقام وأحدهم يفتح دكاناً ينجر نجارةً يخيط ثوباً يبيع في البقالة، ما هذا الغباء المستحكم يا عباد الله؟! {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون:9]، هذا كلام الله، الرجل ينتظر أن يرجع إلى امرأته فتقول له: كم رزقت من مال؟ لا تقول له: كم صليت من صلاة في جماعة؟! ولا كم تلوت من آية؟ لا. تقول له: كم ربحت؟ فيجتهد هذا الغبي المتجاهل المتغافل عن الذكر، ويغفل عن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون:9]، صدق الله سبحانه! ومن أصدق من الله قيلاً؟! جديرٌ بك يا أيها الأخ البقال! أن تغلق المحل عند الأذان فوراً ولا تتباطأ. جدير بك أيها الأخ الذكي! أن تغلق أي محل وتغفل أي عمل عند الأذان، إذا سمعت قول القائل: حي على الفلاح، أي غباء أصابك وأنت لا تجيب المؤذن؟ قال لك: حي على الفلاح، يعني: أقبل على السعادة أقبل على الخير أقبل على الفوز، ولكن أهل الجهل لا يعلمون. جدير بكل طبيب أن يغلق العيادة حين سماع المؤذن. بعض إخواننا يجهلون أو يتجاهلون عند أن يترك عاملاً أو عاملين من البالغين في المحل أن هذا لا يجوز، كأن الصلاة ليست مكتوبة على العمال! بل الصلاة مكتوبة عليك وعلى عاملك، وبئس العامل الذي يقف في المحل والصلاة تقام، بئس العامل، وليس بأمين ذلك العامل الذي يستأجر فيترك الصلاة، ويقف في الدكان، ابنة يعقوب صاحب موسى عليه السلام تلك الفتاة الذكية تقول لأبيها: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26]، قد تترك المحل -وفيه العامل- وتذهب للصلاة فيسرقك العامل جزاءً وفاقاً، قد ورد في حديث صحيح -العبرة منه ورادة-: أن رجلاً كان يقرض أمواله للناس، الدرهم بدرهمين -وهو حديث إسناده ثابت صحيح- وعلى هذه الوتيرة طيلة حياته، فجمع الأموال كلها، فوضعها في صندوق وسافر بها على الباخرة، وغفل ونام فجاء قردٌ ففتح الصندوق، وجعل يرمي ديناراً في البحر ويضع ديناراً على جانب في المركب، حتى أتى على الدنانير كلها، ألقى نصفها في البحر وأبقى نصفها في المركب، صحيحٌ أن متاع الدنيا ألقي، لكن هل يعذبه الله في الآخرة؟! نقف عن هذا فالله تعالى أعلم، لكن ربنا سبحانه وتعالى قد قال: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279]، فالحرام يذهب جفاء، والحلال يمكث في الأرض ينفع الله به الناس. فيا معشر الإخوة! -وخصوصاً الملتحين- كونوا قدوة حسنة في هذه الأبواب، إذا سمعتم داعي الله ينادي: حي على الصلاة، فامتثلوا قول ربكم، امتثلوا قول إخوانكم من الجن المؤمنين: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف:31]، وهنا يبرز اليقين فيما عند الله. فالتقي الذكي يفهم أن الرزق لن يفوت وأنه مدخر وباقٍ، قال النبي عليه الصلاة والسلام -في الحديث الذي حسنه بعض العلماء-: (إن روح القدس نفث في روعي، أن نفسا لن تموت حتى تستوفي أجلها ورزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب)، وفي بعض الروايات: (ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تنالوه بمعصية الله عز وجل)، وللحديث شواهد عامة في كتاب الله ومن سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، فالرزق مسطر لك ومقدر، وأنت في بطن أمك يكتب لك رزقك، ويكتب لك أجلك، فاتق الله وأجمل في الطلب، وما أدراك أن المال الكثير فيه خيرٌ لك؟! من أدراك بذاك؟! ومن أعلمك به؟! وربنا يقول: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى:27]، ويقول ربنا: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6 - 7]، {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ} [الإسراء:83]، فالمال ليس بخير في كل حال، إلا إذا اكتسب من الحلال وأنفق في الحلال، واتقى الله العبد فيه، فاستغفروا ربكم معشر الإخوة! وأنيبوا إليه من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون، اتقوا ربكم وارجعوا إليه من قبل: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [الزمر:56 - 57]، فهذه آيات الله بين أيديكم، وعلى مسامعكم فاتلوها وتدبروها، وفقنا الله وإياكم لكل خير، اللهم! أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً فنضل، واجعلنا للمتقين إماماً، اللهم! رطب ألسنتنا بذكرك، اللهم! رطب ألسنتنا بذكرك، وبالصلاة على نبيك محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، اللهم! احشرنا مع الذاكرين لك كثيراً والذاكرات، اللهم! منّ علينا بذكرك كثيراً يا رب العالمين! اللهم! اجعلنا من الذاكرين الله كثيراً ومن الذاكرات يا رب العالمين! اللهم! غنمنا الخير حيث كنا، وغنمنا السلامة حيث كنا يا رب العالمين! وامنن علينا جميعاً -يا ربنا- بالحشر مع نبينا محمد عليه الصلاة والسلام في الفردوس، وامنن علينا وتفضّل بالسقيا من حوضه يا رب العالمين! يا أكرم الأكرمين! وصل اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الغيبة وأخطارها

الغيبة وأخطارها الغيبة من الأمور المحرمة التي وقع فيها الكبير والصغير، والعالم والجاهل، ولعظيم خطرها ينبغي معرفة معناها، وأدلة الكتاب والسنة على تحريمها، وعظم إثم مرتكبها عند الله، ومتى تباح، وما هي كفارتها.

الغيبة

الغيبة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد الأمين، وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين. وبعد: فبين يدي حديثنا في ليليتنا هذه إن شاء الله نذكر بأننا في شهر من الأشهر الحرم التي قال الله سبحانه وتعالى فيها: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة:36]، وفصلها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (ثلاث متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، وشهر الله المحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان). وقد قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [البقرة:217]، فالإثم في الشهر الحرام ليس كالإثم في غيره، والذنب في الشهر الحرام ليس كالذنب في غيره، فجدير بنا أن نمتثل أمر ربنا سبحانه وتعالى، وأن نحذر ظلم أنفسنا أو ظلم غيرنا من عباد الله، قال تعالى: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة:36].

ما يجب على من سمع الغيبة

ما يجب على من سمع الغيبة ما هو اللائق بك إذا وجدت قوماً يغتابون الناس؟ يليق بك ألا تشاركهم في الأكل من هذه الجيفة، فلا تشاركهم ولا تلوث لسانك، وتمرض بطنك بهذا القبيح الخبيث. وعليك أن تقف موقف رجل عاقل تنصرهم ظالمين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً قالوا: كيف ننصره ظالماً يا رسول الله؟! قال: تمنعه من الظلم فذاك نصرك له) فقف عند هؤلاء وانههم عن المنكر، وذكرهم بالله قل لهم: لا يليق بكم أيها الفضلاء! أن تخوضوا في الأعراض، لا يليق بكم أيها الفضلاء! أن تلوثوا أفواهكم بالخبيث من القول، أنتم طيبون لستم للاغتياب بأهل، فاتقوا الله في أعراض إخوانكم، وليتذكر كل واحد منا قوله عليه الصلاة والسلام: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان). فلو وجدت قوماً يغتابون الناس فذكرهم بالله، تؤجر على هذا التذكير، وترفع درجتك عند الله سبحانه وتعالى. دعا عتبان بن مالك ذات يوم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته، فقال: يا رسول الله! تعال إلى بيتي صل فيه، أتخذ من ذلك المكان الذي صليت فيه مصلىً، فذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت عتبان فصلى ثم جلس مع أصحابه، فقد حبسهم عزان على طعام صنعه لهم، فإذا بأصحابه يطعنون في رجل يقال له: مالك بن الدخشن، ويقولون إنه منافق، فما كان من رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام إلا أن قال لهم: (أليس قد قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله؟ قالوا: بلى يا رسول الله! ولكن نرى وده ومجلسه مع المنافقين، قال عليه الصلاة والسلام: إن الله حرّم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله)، فالشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم دافع عن مالك في بيت عتبان. وكذلك في غزوة تبوك سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن كعب بن مالك: أين هو؟ فقام رجل يتكلم في كعب بن مالك، قال: يا رسول الله! حبسه برداه، والنظر في عطفيه, أي: عجبه اختياله بثيابه، ونظره في أكتافه وغروره بهذه الثياب وشغله عن الجهاد في سبيل الله، فقام معاذ وقال: لا والله يا رسول الله! ثم قال للرجل: بئس ما قلت، ثم قال: والله يا رسول الله! ما علمنا عليه إلا خيراًً، فدافع عن كعب بن مالك أمام هذا المغتاب. فإذا جاء رجل يقول: فلان من الناس بخيل، فقل له: يا أخي! اتق الله وهذا لا يجوز وأنا ذهبت إليه وأكرمني، وفلان ذهب إليه وأكرمه، وصنع أعمالاً من المعروف، وإذا قال رجل عن آخر: إنه متكبر، قل له: ليس هكذا يا أخي! أنا رأيته متواضعاً أنا رأيته يجالس الفقراء أنا رأيته يحمل متاع الفقراء أحياناً ويساعدهم رأيته دعاه فقير من الفقراء إلى بيته فأجاب، فليس هو بمتكبر أبداً، فدافع عن عرض إخوانك، فمن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة. فأول واجب عليك أخي المسلم! أن تنهى عن المنكر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من رد عن عرض أخيه المسلم قيض الله له ملكاً يرد عن وجهه النار يوم القيامة) أو كما قال صلى الله عليه وسلم، فهذا جدير بك. أما إذا ضعفت أمام هؤلاء الجالسين وكان جمهورهم جمهور قبيح مغتاب، فلا ترضهم أبداً بسخط الله، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس، ومن أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس). فإن لم تستطع الإنكار فاترك هذا المجلس، ولا تحاول إرضاء الأصحاب بمعصية ربهم سبحانه وتعالى، بل اترك المجلس قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68]، وقال سبحانه: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء:140]. فلا يليق بك أن تشاركهم في هذا النتن الذي يقولون، وأن تلوث لسانك، وأن تلوث فمك، وأن تضيع حسناتك على هؤلاء الذين تقوم باغتيابهم، فحسناتك تلقائياً تتحول إلى من اغتبته، ولذلك ورد عن ابن سيرين أن رجلاً أتاه وقال: اغتبتني يا ابن سيرين! قال: أأنت أبي حتى أغتابك، قال: كيف تقول هذا الكلام؟ قال: إني لا أرضى أن تذهب حسناتي على أحد إلا أن تذهب حسناتي لأبي، فلم أكن لأضيع حسناتي لك ولغيرك. فلا تذهب بحسناتك سدىً بعد أن اجتهدت في تحصيلها، بعدما صليت وصمت وزكيت واعتمرت وحججت لا تضيع الحسنات على أقوام هم في بيوتهم آمنين مطمئنين، وأنت تهدي إليهم هذه الحسنات التي تعبت فيها واجتهدت فيها. جدير بك أن تكون عاقلاً نبيهاً في كيفية اغتنام الحسنات، هذا واجب عليك أمام مجالس الاغتياب، ولا يليق بك أن تغتاب الصغير أيضاً، فهو مسلم عرضه كعرض المسلمين، ولا يجوز أن يغتاب على الرأي الراجح من أقوال العلماء، وكذلك المجنون لا يجوز أن يغتاب فهو مسلم من المسلمين.

اهتمام الكتاب والسنة ببيان عظيم خطر اللسان

اهتمام الكتاب والسنة ببيان عظيم خطر اللسان ولهذا جاءت نصوص الكتاب والسنة تحثنا على قلة الكلام وعدم الإكثار منه، قال تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ} [النساء:114] أي: لا خير في أكثر الكلام الذي يتكلم به الناس: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:114]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) قال النووي رحمه الله: فإن استوى عندك الوجهان في الكلام ولم تدرِ أفي الكلام خيرٌ أم لا؟ فأمسك عن الكلام، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من صمت نجا)، وقوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال). ولذلك كانت كلماته عليه الصلاة والسلام قليلة معدودة، قالت عائشة رضي الله عنها: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم كلاماً لو عده العاد لأحصاه, لم يكن يسرد الحديث سرداً كسردكم). ولذلك شدد صلى الله عليه وسلم على الاهتمام باللسان الذي هو مصدر الغيبة والنميمة, روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرفوعاً -وقد روي موقوفاً عن أبي سعيد رضي الله عنه, ومن العلماء من قال: له حكم الرفع-: (ما من يوم يصبح فيه العباد إلا والأعضاء كلها تكفر اللسان). أي: تخضع وتذل لللسان, وتلح على اللسان, تقول له: اتق الله فينا فإنما نحن بك, أي: نجاتنا بك, فإن أنت استقمت استقمنا, وإن أنت اعوججت اعوججنا. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (رأس الأمر الإسلام, وعموده الصلاة, وذروة سنامه الجهاد, ثم قال لـ معاذ -فيما حسنه بعض العلماء-: هل أخبرك بملاك ذلك كله؟ ثم أمسك بلسانه فقال: أمسك عليك هذا, قال: يا رسول الله! أوإنا مؤاخذون بما نتكلم؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس على وجوههم في النار إلا حصائد ألسنتهم). وقال النبي عليه الصلاة والسلام كذلك: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يتبين ما فيها يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب) أخرجه البخاري في صحيحه. فربَّ كلمة توبق على صاحبها دنياه وأخراه, هذا الرجل الذي قال لصاحبه: والله لا يغفر الله لك, قال الله له: من ذا الذي يتألى عليّ ألا أغفر لفلان؟ اذهب فقد غفرت له وأحبطت عملك, قال النبي عليه الصلاة والسلام: (تكلم والله بكلمة أوبقت عليه دنياه، وأوبقت عليه أخراه). فيا عباد الله! حافظوا على ألسنتكم، فالغيبة خارمة للمروءة، ومردية في النار، قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيتقاصون مظالم كانت بينهم في الدنيا)، ينجو المسلمون من النار، منهم من أتى بدرجة عليا، إن جئت تشبهها بدرجات الدنيا 90 أو 95%، أو 100%, وكل يأتي طامعاً في الدرجات العلى في الجنان فإذا بأقوام يوقفونه قائلين: قف مكانك! لنا عندك مظالم، اغتبتني يوم كذا وكذا أكلت مالي يوم كذا وكذا ضربتني يوم كذا وكذا طعنت في عرضي يوم كذا وكذا، فهذا ينهش من حسناته، وهذا يأخذ، حتى يصل إلى الدرجات السفلى، أو يوبق كما قال الرسول في حديث المفلس: (أتدرون من المفلس؟ من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وحج وصيام ويأتي شتم هذا وضرب هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، حتى إذا فنيت حسناته أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه ثم طرح في النار). وقد جاءت النصوص عن رسول الله عليه الصلاة والسلام تحذر من الإنسان اللسان أيما تحذير، قال عليه الصلاة والسلام: (من يضمن لي ما بين لحييه -يعني لسانه- وما بين رجليه -يعني فرجه- أضمن له الجنة؟). هكذا يقول نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم: (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة؟)، ومن المعلوم أن كل كلمة نتكلم بها تسجل وتحصى، يقول الله عز وجل: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:29]. {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة:6]، ((وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} [القمر:52 - 53]، وكما قال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:10 - 12]. وكما قال: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] فجدير بك أن تحفظ لسانك، وأن تمسك عن الشر، وأن تمسك عن الخوض في أعراض المؤمنين والمؤمنات، قال الحسن البصري رحمه الله: عجبت والله من قوم يحترز أحدهم غاية الاحتراز من بوله أن يرتد على ثوبه، ولا يحترز من اغتياب المسلمين والمسلمات، وهو كما قال الحسن رحمه الله، فأعراض المسلمين نتن كما قد سمعتم من كتاب ربكم: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:12].

المرء مخبوء تحت لسانه

المرء مخبوء تحت لسانه إذا أردت أن تقيّم شخصاً انظر ما الذي يخرج من فيه، هل خرج منه ثناء على الناس، وستر على المسلمين وستر على المسلمات؟ أم أن الخارج منه طعن في المسلمين وطعن في المسلمات؟ فإذا سمعت الكلم الطيب يخرج من فمه فاعلم أنه على خير، وإن رأيته ثرثاراً طعاناً فاعلم أنه على سوء وشر -والعياذ بالله-. واعلم كذلك أن في إيمانه نظراً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس المؤمن بالطعان ولا باللعان ولا بالفاحش ولا بالذيء)، وقال النبي صلوات الله وسلامه عليه: (لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة). وقال سبحانه لنا بما يفيد هذا الأصل -وهو أن الكلمات شعار لقائلها- فقال: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران:118] أي: إن كنتم من أهل الفهم فنحن بينا لكم الآيات من الكلمات التي تخرج من أفواه أعدائكم. وقال سبحانه: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:30] تستطيع أن تقيم من أمامك بشيء من الهدوء، تنظر في كلماته التي تخرج منه، وتنظر في حركاته وفي مدلولات الكلمات، وتعطيه حكماً بعد ذلك يناسبه أو يناسبك في التعامل معه كذلك. إذا رأيته ثرثاراً كثير الكلام فاعلم أن هذه الثرثرة تجره ولابد إلى اغتياب المسلمين والمسلمات، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من أبغضكم إليّ وأبعدكم مني مجلساً يوم القيامة الثرثارون) والثرثار كما قال الترمذي رحمه الله تعالى: هو كثير الكلام.

الغيبة كبيرة من الكبائر

الغيبة كبيرة من الكبائر وصنف آخرون فقالوا: إن هناك ملابسات تعظم أمر الغيبة وقد تصل بها إلى أكبر الكبائر، فتتوقف هذه الجريمة على قدر المغتاب، وعلى القدر الذي اغتيب به، وعلى المجلس الذي اغتيب فيه، قال الإمام أحمد رحمه الله: (إن لحوم العلماء مسمومة) وقال آخرون: إن اغتياب أهل الفضل والصلاح أشد من اغتياب غيرهم؛ لأن الله قال: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)؛ ولما مر أبو سفيان بـ سلمان وصهيب وعمار عام الفتح قالوا: والله ما أخذت سيوف الله من عدو الله مأخذها، فقال أبو بكر لهم: أتقولون هذا لسيد قريش؟ ثم انطلق أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره الخبر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بكر! إن كنت أغضبتهم فقد أغضبت ربك عز وجل). وهذه عائشة رضي الله عنها لما قالت يوماً لرسولنا محمد عليه الصلاة والسلام: (حسبك من صفية هكذا يا رسول الله! -وأشارت إلى قصرها- قال صلوات الله وسلامه عليه: لقد قلتِ كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته). وصح عن أسامة بن شريك رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن رجل طاف قبل أن يرمي، فقال: لا حرج، فسئل عن رجل نحر قبل أن يرمي، قال: لا حرج، فما سئل في يوم النحر عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: لا حرج لا حرج، إلا على رجل وقع في عرض أخيه المسلم فهذا الذي أصيب بالحرج وأصيب بالهلاك. فجدير بنا معشر الإخوة أن ننتبه لأنفسنا أمام هذا الداء، فثمّ رجل مع زوجته في فراش الزوجية الذي يفترض فيه أن يحمد الرب سبحانه وتعالى لكونه منّ بهذا الوئام، وبهذا الاجتماع، فتحاول المرأة جاهدة أن ترضي زوجها بذكر عيوب الناس، وبالطعن في الأعراض، هو الآخر يسعى في ذلك، فتتبدل ما بينهما من معيشة إلى نكد وهم وكرب وبلاء. يتساهل زوج من الأزواج فيخرج إلى إخوانه وإلى أشقائه فيخبرهم بحال زوجته في البيت، أو يخبرهم بالخصال التي تكرهها الزوجة، ظناً منه أنه لا اغتياب بين الزوج وزوجته، وهذا اغتياب يكاد يكون أبشع، وقد يكون أظلم، فيخبر أمه بالذي كان من زوجته، من عدم تنظيف البيت، أو من عدم إدخال الطعام، أو من عدم الإحسان للأولاد، وخفي عليه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ذكرك أخاك بما يكره) فتلقنه أمه درساً تقول له: النساء سواها كثير، وتملؤه غيظاً وحقداً على زوجته، فيرجع إلى البيت وتحدث مشكلة كبرى قد يكسر ما أمامه على إثرها لذنبه الذي صدر منه. وقد يحدث العكس، يذهب الزوج إلى زوجته، فيخبرها بما تكرهه الأم، حينئذٍ تثيره الزوجة على الأم فيحدث له نوع من أنواع العقوق المردي والعياذ بالله. فهذه أنواع من أنواع الاغتياب يسلكها الناس وهم لا يشعرون، والغيبة كما تكون باللسان تكون بالجوارح كذلك فالمحاكاة على سبيل الإيذاء والإزدراء والسخرية تدخل في هذا الباب كذلك، كأن تحكي مشية شخص على سبيل الاستهزاء وعلى سبيل السخرية منه. وأحياناً يأتي الشيطان إلى أقوام فيزين لهم الاغتياب تحت ثوب قشيب فيعمد كثير من المتفقهة بزعمهم إلى الاغتياب تحت ستار إحسان الألفاظ، تسأله عن شخص فيقول: الحمد لله الذي هدانا! ويريد بذلك الطعن في أخيه المسلم، أو يقول: الحمد لله على العافية! أو يقول: نسأل الله السلامة! والمستمع يفهم من ذلك النيل الشديد بالمتكلم فيه. كذلك تأتي امرأة تلبس الاغتياب ثوب الترحم، فتقول -مظهرة الشفقة على أختها المسلمة-: مسكينة فلانة، مسكينة فلانة، مظلومة فلانة، ثم بعد هذه التقدمة والثوب الذي تلبسه للغيبة تقول: صنع بها زوجها كذا وكذا، وقال بها أخوها كذا وكذا، وتذكر كل ما تريد تحت هذا الثوب الذي تصنعت وتسترت به ألا وهو ثوب الترحم على أختها المسلمة. وقد علمت تمام العلم أن أختها المسلمة تكره أن يذكر عنها هذا الذي ذكر تحت أي ثوب كان، وتحت أي شعار كان، فبعضهم يغتاب تحت ثوب الترحم، وتحت ثوب التعجب، عجبت من فلان! ألا تعجب إلى فلان، وتذكر المساوئ، أو تحت ثوب الغضب. فالله سبحانه يعلم كل ذلك، ويعلم المقاصد ويعلم ما تكن الصدور وما تعلن، ومن ثم يثيبه على ذلك أو يعاقبه، قال الله سبحانه وتعالى في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح:18] أي: من خير وإيمان، {فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:18]، فالله يثيب على ما تكنه القلوب، إن شراً فشر، وإن خيراً فخير.

حذر السلف وورعهم من الغيبة

حذر السلف وورعهم من الغيبة وهذا الداء البغيض قد رأى فريق من أهل العلم إنه يؤثر على الصيام، فيفطر الصائم، واستدلوا على ذلك بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه)، وبقوله عليه الصلاة والسلام: (رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش، ورب قائم ليس له من قيامه إلا التعب والنصب) وإن تكلم في إسناده لكن معناه قوي للشاهد الثالث. فرأى فريق أن الغيبة تؤثر في الصيام، بل بالغ بعضهم وقال: إنها تفطر الصائم، وإن كان الجمهور على خلاف ذلك، لكن هذا يبين مدى خطر الاغتياب. ومنهم من أورد سبباً لورود حديث: (أفطر الحاجم والمحجوم) وإن كان في السبب نظر من جهة الإسناد أن المرأتين كانتا تغتابان الناس، أو أن الرجلين كانا يغتابان الناس، فقال: (أفطر الحاجم والمحجوم). وذهب فريق آخر من أهل العلم إلى أن الغيبة تنقض الوضوء، وقد وردت جملة من الأحاديث في هذا الباب، لكن في أسانيدها مقال، والجمهور على أنها لا تنقض الوضوء، لكن على كل حال هذا يبين خطر هذه الغيبة. وقال فريق من أهل المعاني: عجبت والله من أمر رجل يغتاب المسلمين ثم يقوم إلى الصلاة وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مضمضوا من اللبن فإن له دسماً) واللبن حلال، فكيف نؤمر بالمضمضة من اللبن الحلال الذي له دسم، ولا نمضمض من النتن المتسرب إلى الأفواه من جراء أكل لحوم العباد. فجدير أن نتبع هذا القول بأن يقال: إن المضمضة اللائقة بهذا هي الاستغفار والدعاء لهذا الذي قد اغتيب، والثناء على هذا الذي قد اغتيب، فهو دواء لازم وواجب على كل من اغتاب، على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تبارك وتعالى. ثم إن هذا الاغتياب من خوارم المروءة لا شك، وأنت كمسلم عاقل رزين تستطيع أن تقيم الشخص الذي أمامك من الكلمات التي تصدر منه. كان عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى إذا ذكر عنده رجل بثناء حسن سأل: كيف هو إذا ذكر عنده أصحابه هل يطعن فيهم أم يثني عليهم؟ فإن قالوا: دائم الثناء على الناس، قال: إني أرجو له الخير، وإن كان دائم الطعن في الناس، قال: والله إني لا أظن الذي تظنون، أي: لا أظن به هذا الظن الحسن الذي تظنون. وأحسن من هذا قول الله تبارك وتعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور:26] فأقوى الأقوال في تأويل هذه الآية أن الكلمات الطيبة تصدر من الأفواه الطيبة، ومن أصحاب القلوب الطيبة، والكلمات الخبيثة تصدر من الخبثاء، فهم لها أهل.

مدى اهتمام الشرع برعاية وصون الأعراض

مدى اهتمام الشرع برعاية وصون الأعراض ونذكر بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في شهر من هذه الأشهر الحرم ألا وهو شهر ذي الحجة، وفي أفضل يوم فيه، وهو يوم النحر وفي أفضل بقعة من البقاع وهي مكة، قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (أتدرون أي يوم هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، -ظناً منهم أنه يريد أن يسميه بغير اسمه-، فقال: أليس بيوم النحر؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: أتدرون أي شهر هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم -ظناً منهم أنه يريد أن يسميه بغير اسمه-، قال: أليس بذي الحجة؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: أتدرون أي بلدة هذه؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: أليست البلدة؟ قالوا: بلى يا رسول الله! -يعنون البلدة التي قال الله فيها: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ} [النمل:91]-، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذه، ألا هل بلغت اللهم فاشهد، ألا هل بلغت اللهم فاشهد، ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب، فلعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه سمع). فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن حرمة الدماء وحرمة الأموال وحرمة الأعراض عظيمة عند الله كحرمة البلد الحرام، مع حرمة يوم النحر، مع حرمة شهر ذي الحجة. إذاً فلنتناول في ليلتنا هذه شيئاً مما تضمنه هذا الحديث، ومما تضمنته هذه الوصية الجامعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم. نتناول داءً عضالاً ألم بأمة محمد صلى الله عليه وسلم، ألم بكبيرها وبصغيرها، ألم بذكرانها وإناثها، ألم بعالمها كما ألم بجاهلها، ألم برؤسائها كما ألم بالمرءوسين، ألا وهو داء الغيبة أعاذنا الله وإياكم منه. هذا الداء به قطعت أواصر المودة والمحبة بين أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وجلبت الشحناء، وجلبت البغضاء، وذهبت حسنات أناس سدى، أناس اجتهدوا في الصلوات واجتهدوا في الصدقات، واجتهدوا في الحج والاعتمار، وضيعوا الحسنات باغتيابهم للمؤمنين والمؤمنات.

تعريف الغيبة

تعريف الغيبة فلنتناول شيئاً مما يتعلق بهذا الداء من أحكام وآداب، والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله. داء الغيبة متفشٍ ومنتشر في أوساط أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والغيبة عرفها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ورد في صحيح مسلم: (أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره، قيل: يا رسول الله! أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟! قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته).

أدلة تحريم الغيبة من الكتاب والسنة

أدلة تحريم الغيبة من الكتاب والسنة أما النصوص من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي وردت بتحريمها فهي فوق الحصر وفوق العد، فمن ذلك قول الله تبارك وتعالى: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:12]. وورد حديث -وإن كان في إسناده مقال- في قصة ماعز الأسلمي رضي الله تعالى عنه، ارتكب فاحشة الزنا، فأرقت عليه مضجعه، وأقلقت باله ولم يهدأ له بال، ولم يستقر له قرار، فأزعجته أيما ازعاج! وكيف لا تزعجه هذه الجريمة والنبي صلى الله عليه وسلم ذكر: (أنه رأى أقواماً عراة رجالاً ونساءً في متن تنور، يأتيهم لهب من أسفل منهم فيحرق فروجهم فيسمع لهم ضوضاء، فسأل: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الزناة والزواني من أمتك يا محمد!). كيف لا ينزعج والله يقول: {وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ) [الفرقان:68 - 70] الآيات. انزعج ماعز غاية الانزعاج من هذه الكبيرة التي ارتكبها، فأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (طهرني يا رسول الله! إني زنيت، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم وأشاح بوجهه إلى اليمين، فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قبل يمينه، وقال: طهرني يا رسول الله! فأشاح النبي صلى الله عليه وسلم بوجهه إلى اليسار، فتدارى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وآتاه من قبل اليسار، قال: طهرني يا رسول الله! قال الرسول صلى الله عليه وسلم: لعلك قبّلت، قال: لا يا رسول الله! قال: لعلك فاخذت، قال: لا يا رسول الله! ثم قال: إنه يعرف الزنا، وإنه قد زنى، فقال عليه الصلاة والسلام: أبك جنون؟ قال: لا، يا رسول الله! ليس بي جنون، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فرجم) إمضاء لأمر الله سبحانه، وإقامة لحد من حدود الله رجم ماعز، فقال رجل من جلساء النبي صلى الله عليه وسلم لصاحب له: عجبت من هذا الرجل الذي أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والرسول يرده مرة بعد مرة، فلم يرض إلا أن رجم كما يرجم الكلب، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم وسكت، ثم مر بهذين الرجلين على حمار شائل، أي: ميت قد انتفخ، وخرجت منه رائحة في غاية الخبث لا تطاق، فمر النبي صلى الله عليه وسلم مع هذين الرجلين وقال لهما: (انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار، قالا: نأكل من هذه الجيفة يا رسول الله؟! قال: والذي نفسي بيده! للذي نلتما من أخيكما أشد نتناً من هذه الريح، إنه والله الآن ينغمس في أنهار الجنة). وكان النبي صلوات الله وسلامه عليه جالساً يوماً مع بعض أصحابه، فهاجت ريح نتنة، فقال لأصحابه: (أتدرون ما هذه الريح؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هذه ريح الذين يغتابون الناس، ويقعون في أعراضهم). وقال صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: (مررت ليلة عرج بي بأقوام لهم أظفار من نحاس، يخمشون بها وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟! قال: هؤلاء الذين يغتابون الناس ويقعون في أعراضهم). وقال صلوات الله وسلامه عليه كذلك: (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان في قلبه! لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه الله ولو في قعر بيته). وقال صلوات الله وسلامه عليه: (إن أربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه المسلم). وقال صلوات الله وسلامه عليه: (كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه). هذه بعض النصوص الواردة في ذم الغيبة، وقال عليه الصلاة والسلام، في النميمة عندما مر بقبرين: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير -أي: ما يعذبان في كبير في أنظاركم- ثم قال: بلى إنه كبير، أما أحدهما فكان لا يستنزه من البول، وأما الآخر فكان يمشي بين الناس بالنميمة). وفي كتاب ربنا: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم:10 - 11] (هماز) يعني: يعيب الناس. وقال تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة:1] وهو الطعان العياب الذي يطعن في الناس ويعيب في الناس، هذه بعض النصوص ثم كم هائل منها يفيد تحريم هذا الداء المقيت. وقد نقل فريق من أهل العلم كالحافظ ابن كثير رحمه الله، والحافظ ابن حجر رحمه الله، وكذلك ابن حزم رحمه الله، الإجماع على تحريمها. أما القرطبي رحمه الله فنقل الإجماع على أنها كبيرة، وإن كان في نقله للإجماع نظر إلا أن أكثر أهل العلم على أن الغيبة من الكبائر، ولذلك ذكرها العلماء الذين صنفوا في الكبائر، وذلك للوعيد الشديد الذي ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن المغتابين.

كفارة الغيبة

كفارة الغيبة نختم البحث في مسألة وهي مسألة التحلل من الذي اغتبناه، فهب أن شخصاً اغتاب شخصاً وعلم بعد ذلك أن الغيبة محرمة كما قد سمعتم، فهل يجب أن يتحلل المغتاب ممن اغتابه، أو يكفي أن يستغفر ويدعو الله له، ويثني بخير عليه؟ يرى الأئمة: مالك، والشافعي، وأبو حنيفة رحمهم الله وقول عن أحمد أنه يجب أن تتحلل من الذي اغتبته وهذا محله -كما حمله العلماء- إذا بلغت الغيبة هذا الشخص الذي اغتيب، وكان من أدلتهم على مسائل التحلل في الأبدان والأعراض، قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء) وقوله صلى الله عليه وسلم: (من كانت له عند أخيه مظلمة من عرضه أو من شيء فليتحلل منه قبل ألا يكون دينار ولا درهم) وبحديث: (إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار فيتقاصون مظالم كانت بينهم في الدنيا). فاستدلوا بهذا على أن التحلل لازم، وخاصة إذا كانت الغيبة وصلت إلى الشخص الذي اغتيب. ومن العلماء من قال: إن قياس الأعراض على الأموال والأبدان غير سائغ؛ لأن التحلل من الأموال والأبدان يرجع بفائدة على الذي ضرب، أما التحلل من الأعراض إذا ذهبت إلى شخص وقلت له: أنا اغتبتك فسامحني، فليست كل النفوس تتسع لهذا الكلام، وإنما هناك أناس صدورهم متسعة يفرحون بذلك منك، ويدعون الله لك بالتوفيق وبالمغفرة، وهناك أقوام يدخل لهم الشيطان بضعف في قلوبهم فيسألونك: أمام من اغتبتنا؟ ماذا قلت في حقنا؟ ويفتحون معك مسائل فتشوش أنت عليهم فكرهم، وتزيدهم هماً إلى الهم الذي وقع عليهم بسبب اغتيابك لهم. ففي هذا المقام ترجع المسألة إلى مسألة المفاسد والمصالح، فحيث رجي من التحلل خير قدمت على التحلل، وحيث لا يرجى من التحلل خير اكتفيت بالثناء الحسن على من اغتبته، والاستغفار له، والتصدق من أجله إن شئت، فكل ذلك عمل صالح يكفر الله به عنك خطاياك، وقد قال الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114]. فجدير بمن اقترف شيئاً من ذلك منا جميعاً، وكلنا ضعفاء، وكلنا خطاءون كما قال ربنا سبحانه: {وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:28]، جدير بمن صدر منه شيء من ذلك أن ينظر في أمر نفسه قبل أن يقف بين يدي الله سبحانه وتعالى، وقبل أن ترد المظالم إلى أهلها، ثم عليه أن يستغفر الله استغفاراً كثيراً؛ لأن الغيبة تترك أثراً أيضاً على القلوب فتسودها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أذنب العبد ذنباً ينكت على قلبه نكتة سوداء، فإن تاب وأقلع محيت، وإن عاد نكتت نكتة أخرى سوداء حتى تغطي القلب كله -ثم قال-: هذا هو الران الذي ذكر الله في كتابه، وتلا: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14]). فأكثروا من الاستغفار فالله غفَّار للذنب والزلات، وصلى الله على نبينا محمد وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

متى تباح الغيبة

متى تباح الغيبة والغيبة كما سلف محرمة أيما تحريم، ولكن كما هو معتاد في أمور المحرمات فإن الله سبحانه وتعالى جعل حالات يكون فيها المسلم مضطراً ويصيبه الحرج إن لم يغتب، فدفعاً لهذا الحرج عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم جاءت الرخصة بهذا الأمر، فكما أن لحم الميتة محرم وأكل الخنزير محرم لكن كما قال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:173] فالمضطر ضرورته تقدر بقدرها، قال تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:119]. وهناك أحوال تلجئني إلى أن أذكر شيئاً في أخي يكرهه، فحينئذٍ إذا جاءت تلك الضرورة فإنها تكون بقدرٍ كما هو الحال مع أكل الميتة، وكما هو الحال مع التلفظ بكلمة الكفر. فالأصل في الاغتياب أنه محرم إذ أعراض المسلمين محرمة كما سلف، وعندها يرد Q ما هي الأمور التي تباح فيها الغيبة؟ أول هذه الأمور: التظلم، وهي ذكر مظلمة ظلمني بها هذا الشخص، وقد قال تعالى: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء:148] ففي هذه الآية جاءت أقوال العلماء، أحدها: إن من ظلم جاز له أن يجهر بالسوء من القول في حق من ظلمه، وثم قول آخر: إن من ظلم جائز له أن يدعو على من ظلمه، والقول الأول هو اختيار ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى، أي: إنه يجوز لمن ظلم أن يتكلم في عرض ظالمه. ومن هذا الباب يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (مطل الغني ظلم) والمطل من المماطلة، والمراد بالغني الغني الذي عليه دين وحل موعد السداد فيماطل، فمماطلته ظلم وفي حديث أبي داود بسند حسن: (لي الواجد ظلم) واللي هو المماطلة، والواجد أي الغني قال: (لي الواجد يحل عرضه وعقوبته)، أي: يحل لنا أن نتكلم في عرضه وأن نعاقبه، أما العقوبة فبالحد، فهذا الدليل الثاني على جواز الاغتياب لرد المظلمة. ولكن لهذا ضوابط: أولاً: يقول ربنا: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40] فمثلاً شخص أكل مالك، أو تأخر في سداد التزام لك عليه، فعرضه حلال ولك أن تقول: هو أكل مالي، لكن ليس لك أن تقول: هو يسرق، هو يزني، ابنته صفتها كذا، أخته صفتها كذا، أمه صفتها كذا؛ لأن الله يقول: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40] ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (المتسابان ما قالا فعلى البادي منهما ما لم يعتدِ المظلوم) (المتسابان ما قالا) هذا سب، وهذا رد عليه السباب، إثم ذلك كله على البادي منهما ما لم يعتد المظلوم، فإذا اعتدى المظلوم تحول الحق عليه بعد أن كان له. فمثلاً: رجل أكل مالك فهو آثم بأكل مالك، فإذا ذهبت أنت تقول للناس: يا ناس! فلان أكل مالي، فلك ذلك، مع أن العفو أفضل؛ لأن الله قال: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40]، وقال: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ} [الحج:60] ثم أرشد إلى العفو بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [الحج:60] لكن على كلٍ يجوز لك أن تنتصر بقدر المظلمة، فإذا صدر منك هذا واستطلت في عرضه قائلاً: هو يمشي مع النساء زوجته تمشي مع الرجال ابنته صفتها كذا وكذا، حينئذٍ سيأخذ هو من حسناتك وقد تفوق هذه الحسنات الدين الذي لك عنده، ويضيع حقك تماماً أمام الله سبحانه وتعالى بسبك وطعنك فيه، فإنك حينئذٍ قد تكون قاذفاً إذا أنت قلت فيه ما يدل على القذف. ومن الأدلة على جواز غيبة الظالم بذكر مظلمته، ما أخرجه البخاري في الأدب المفرد وأبو داود بسند حسن، أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان له جار يؤذيه، فذهب وشكاه إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام مرة بعد مرة والرجل لا ينتهي عن الظلم والأذى، فأمره النبي عليه الصلاة والسلام أن يخرج متاعه إلى الطريق، فأخرج متاعه إلى الطريق، فمر به الناس وقالوا: ما هذا المتاع؟ قال: جاري يؤذيني، فكل من يمر يسب في هذا الجار، فلما بلغ الجار هذا الصنيع وهذا السباب ذهب إلى المظلوم وقال له: ارجع إلى بيتك فلن ينالك مني أذى بعد اليوم، فهذا من باب التظلم. كذلك تجوز الغيبة في الاستفتاء، فقد جاء أن هند بنت عتبة شكت أبا سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: (يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني وولدي، فهل عليّ جناح أن آخذ من ماله بغير إذنه -وهو لا يعلم- قال: خذي ما يكفيك وولدكِ بالمعروف)، فوصفته بالشح وهو يكره ذلك، لكن كان المقام مقام فتيا فحينئذٍ لم يعنفها الرسول عليه الصلاة والسلام، فهذا وجه ويكون بقدر كما سبق. وإن كان من أهل العلم من يقول: هذا جائز بلا شك لتجويز الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن الأولى أن تعرّض، تقول المرأة: ما رأيك في رجل شحيح لا يعطي زوجته ما يكفيها وولدها ولا تسمي، حتى تبتعد عن الغيبة، فالأفضل ألا تسمي ولا تذكر أحداً باسمه، مادام الغرض سيتحقق والفتيا ستنال. ومن هذا الباب -باب الاستفتاء- كذلك مجيء امرأة رفاعة القرضي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقولها: (يا رسول الله! إن رفاعة طلقني فبت طلاقي، فتزوجت بعده بـ عبد الرحمن بن الزبير وإنه والله يا رسول الله! ما معه إلا مثل هدبة الثوب، وأشارت إلى طرف ثوبها -ولا شك أن زوجها يكره ذلك- قال عليه الصلاة والسلام: لعلكِ تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى يذيق عسيلتكِ وتذوقي عسيلته). ومما تجوز فيه الغيبة أيضاً عند الاستشارة كما جاءت فاطمة بنت قيس إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، قائلة: (يا رسول الله! إن معاوية وأبا جهم فقال عليه الصلاة والسلام: أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو جهم فلا يضع العصا عن عاتقه لكن أسامة) أي: أشير عليك بـ أسامة بن زيد. كذلك باب التعريف والبيان والتحذير، إذا كان رجلاً مشهوراً بالشر والفساد، مشهوراً بالاتجار بالمخدرات أو بالخيانة في النساء، أو بسرقة الأموال والسلب والنهب، جائز لك أن تحذر الناس منه، بل لزاماً عليك آنذاك أن تحذر الناس منه. أقبل رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بجوار عائشة رضي الله عنها، فقال لها: (بئس أخو العشيرة! فلما أقبل عليه ألان له النبي القول، قالت: قلت فيه ما قلت يا رسول الله! ثم ألنت له القول، قال: يا عائشة! إن شر الناس منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء فحشه)، فهذا في باب المداراة. وقال عليه الصلاة والسلام كذلك: (ما أظن فلاناً وفلاناً يعلمان من ديننا شيئاً) أو إذا كانت هناك مصلحة تعود على المسلمين بالنفع العام كما فعل زيد بن أرقم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قال عبد الله بن أبي ابن سلول: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فذهب زيد بن أرقم وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام بهذا الخبر الذي كان. ومن ذلك الجرح والتعديل لمن يتكلمون بأحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام، فرب رجل يكذب على رسول الله وهو لا يشعر، ونصح فلم ينتصح، فجدير بك أن تبين أمره، وهذا المسلك سلكه علماء الجرح والتعديل الأوائل كالإمام أحمد ويحيى بن معين والبخاري وغير هؤلاء الأفاضل. أما الشيعة فقلّ فقههم في هذا الباب وطفق قائلهم يطعن في ابن معين؛ لأنه طعن في رجال كثيرين من رجال الشيعة: ولابن معين في الرجال مقالة سيسأل عنها والرقيب شهيد فإن يك حقاً فهي غيبة وإن يكن زوراً فالوعيد شديد وهذا من جهل هذا القائل فإن ابن معين كان ينافح عن سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، ويبين حال الكذابين الذين افتروا الكذب على النبي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم. فهذه مواطن تشرع فيها الغيبة بالضوابط الشرعية التي سمعتموها، وقد صاغها بعض العلماء في أبيات شعر، وزاد بعضهم في هذه الأقسام التي ذكرت، وقلل بعضهم فيها، وأدمج بعضهم بعضها في بعض، والأمر في هذا كله قريب. ثم في ختام هذا الدرس هناك أمور ينبغي أن تفعلها أنت حتى لا توقع الناس في اغتيابك، منها المداراة كما بين النبي عليه الصلاة والسلام، فمداراة الناس مطلوبة، وكذلك إكرام الناس مطلوب، وكذلك اتقاء مواطن الشبهات، فلا تقف في موقف شبهة ومن ثمّ يطعن فيك الناس وأنت لا تشعر.

أمور تقيك من الغيبة

أمور تقيك من الغيبة من الذي يجنبك الغيبة الذميمة والمقيتة والبغيضة: إكثارك من ذكر الله، فهي وصية جامعة أرسلها سلمان الفارسي إلى أبي الدرداء للأخوة التي كان النبي عليه الصلاة والسلام آخى بينهما بسببها، قال سلمان لـ أبي الدرداء بعد أن حمد الله وأثنى عليه بما هو له أهل: (أما بعد, فإني أوصيك بالإكثار من ذكر الله فإنه دواء، وبالإقلال من ذكر الناس فإنه داء، والسلام عليكم ورحمة الله). كانت هذه رسالة موجزة وبليغة من سلمان، فقللها بعد ذلك ابن عون فقال: ذكر الله دواء وذكر الناس داء، وهذا يصدقه قول ربنا سبحانه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} [الرعد:28] لن تندم أبداً يوماً من حياتك لكونك قلت: سبحان الله، لن تندم أبداً يوماً من حياتك لكونك قلت: الحمد لله، ولكن قد تندم أيما ندم إذا ذكرت فلاناً من الناس بشر، لكن لن تندم لا في دنيا ولا في آخرة على كونك ذكرت سبحانه وتعالى. فعليك بالإكثار من ذكر الله فهو يشغلك عن ذكر الناس فضلاً عن ترطيب اللسان، فضلاً عن قمع الشيطان، فضلاً عن إرضاء الرحمن والارتفاع في الدرجات العلى، والترقي في النعيم المقيم. فهذا من أنجع الأسباب للوقاية من الغيبة، فينبغي أن تتقي مجالس السيئين الشريرين الذين هم كما وصفهم نبينا محمد عليه الصلاة والسلام كأنهم نافخو كير، بل والله هم أشد من نافخ الكير، قال عليه الصلاة والسلام: (ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة) هذا الصاحب السيئ ما إن تغادر مجلسه حتى يغتابك أنت ويصورك بتصويرات مشينة مهينة أمام زملائك الذين كنت معهم. فعليك بمجالسة أهل الفضل وأهل الصلاح؛ لأنهم في غيابك يدعون الله لك بالتوفيق. هذه بعض البواعث التي قد تبعث على الغيبة. ومن البواعث التي قد تبعث على الغيبة دفع الشائعات، فمثلاً: يبلغ عن شخص أنه قال في عرضك كذا وكذا، تقول: لا ما حصل مني كذا، بل هو الذي صدر منه كذا وكذا وكذا، وتقع في اغتيابه نتيجة شائعة جاءت إليك من مغرض من المغرضين. فيجب أن تنتبه لمثل هذه الشائعات وأن تتقي هذه الأدواء، وأن تسأل الله سبحانه وتعالى أن يهديك لأفضل الأخلاق والأعمال، وتستعيذ بالله من منكرات الأخلاق والأهواء والأدواء.

بواعث الغيبة

بواعث الغيبة هناك بواعث تبعث على الاغتياب جدير بنا أن نتقيها حتى لا نقع في هذه الغيبة المذمومة المحرمة، ومن هذه البواعث: قلة العلم بالله وبحدود الله؛ لذلك نجد الذين لا يعرفون حدود الله، ولا يوقرون أمره، ولا يعرفون حقوق أهل الإسلام هم الذين يغتابون، هم الذين، وهم الذين فلذلك العلم بحدود الله من أفضل الوسائل لكف الشخص عن الاغتياب. كذلك قلة الورع، فمن قل ورعه طعن في الأعراض، أما من زاد ورعه فكما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها في شأن زينب بنت جحش رضي الله عنها، قالت في شأن زينب مع حديث الإفك: (لما استشارها رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً: يا زينب! ما تقولين في عائشة؟ قالت: أحمي سمعي وبصري يا رسول الله! أهلك وما علمت عليها إلا خيراً، قالت عائشة: فعصمها الله بالورع). فالورع يعصم الشخص من الوقوع في الأعراض، أما قليل الورع -عياذاً بالله- فيخوض يمنة ويسرة في أعراض المسلمين والمسلمات. ثم كذلك الدافع إلى هذا الداء البغيض الحسد الذي يجب أن نتخلص منه، فالحسد يحمل على الغيبة، ويحمل على النميمة، كما قال الشاعر: حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه فالقوم أنداد له وخصوم كضرائر الحسناء قلن لوجهها حسداً وبغياً إنه لذميم فالحسد يجعلك دائماً تنتقد الناس، وتنتقص الناس، فجدير بك أن تسأل ربك سبحانه وتعالى أن يخلصك من هذا الداء. كذلك من البواعث على الغيبة المذمومة المقيتة هو ترك الانشغال بعيوب النفس والنظر في عيوب الناس، كما قال رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام: (يبصر أحدكم القذاة في عين أخيه وينسى الجذع في عينه)، (يبصر أحدكم القذاة -الشيء اليسير- في عين أخيه وينسى الجذع في عينه). فإذا انشغلت بنفسك وجدت فيها متسعاً للخوض فيها ومعها لإصلاحها، وابتعدت عن عيوب الناس، إذا انشغلت بنفسك لإصلاحها وجدت متسعاً للبعد عن الغيبة وللبعد عن النميمة. وقد سئل الإمام أحمد رحمه الله تعالى عن الذي دار بين علي ومعاوية رضي الله تعالى عنهما، فأجاب بآية كريمة لعلنا نتعلم منها قال: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة:134]. لن يسألك ربك سبحانه فيقول لك: من الذي كان على الصواب يا عبدي! علي أو معاوية؟ لن يسألك ربك عن هذا، إنما يسألك الله سبحانه كما قال: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:65] هذا الذي سيسألك ربك سبحانه وتعالى عنه. فلا تكن إذاً من الذين عميت عليهم الأنباء يومئذٍ فهم لا يتساءلون، سيسألك ربك عن نبيك محمد ماذا أجبته؟ كما قال عليه الصلاة والسلام: (إنكم مسئولون عني، فماذا أنتم قائلون؟) فأنت مسئول بالدرجة الأولى عن نبيك وعمّا جاء به، فهل اتبعت هذا الرسول الكريم؟ هل امتثلت أمره؟ قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء:64]. فاشتغل بعيوب نفسك، واسأل نفسك ما الذي امتثلت من أمر الله وما الذي ضيعته من أمر الله سبحانه؟ هل أنت ممن ستأتي يوم القيامة قائلاً: {يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر:56] فيا حسرتا، تعالي وحلي على هذا الشخص الذي فرط في جنب الله.

عظم إثم غيبة الأموات

عظم إثم غيبة الأموات أما الأموات فغيبتهم أشد من ثلاثة وجوه أو أربعة: أولها: أنهم مسلمون وإخوة لنا، لأن أخوة الإيمان لا تنقطع بالموت فإن الله يقول: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر:10]، وقال الرسول عليه الصلاة والسلام: (وددت أن أرى إخوة لنا، قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟! قال: أنتم أصحابي، إخواني الذين يأتون من بعدي) أو كما قال عليه الصلاة والسلام. فأخوة الإيمان لا تنقطع بالموت، فللميت حرمة، وحرمته ميتاً كحرمته حياً، وكسر عظمه ميتاً ككسر عظمه حياً، هذا أول شيء. الشيء الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا) فرب ميت تقوم بسبه وقد حط رحله في الجنة، قد رضي الله عنه وتجاوز عن سيئاته، وعفى له عما كان من سوء صنيعه واستقر في الجنة، وأنت فيما أنت فيه من هم وبلاء ونكد وشقاء. ثالثاً: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء). فلهذه القرائن المجتمعة: لا يسب الأموات، ولا يخاض في أعراضهم.

الأسئلة

الأسئلة

حكم غيبة المغتاب

حكم غيبة المغتاب Q هل يجوز لي الدفاع عن أختي في الله أمام الآخرين وبهذا سأضطر إلى أن أغتاب من ظلمها؟ A لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم لا تغتب من اغتاب بل عرض، وهنا يظهر ذكاء المؤمن وفقه المؤمن، (ومن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين).

استحباب لبس الجلباب والسروال للرجال

استحباب لبس الجلباب والسروال للرجال Q لماذا يستحب أن يلبس الرجال الجلباب والسروال بدلاً من البدلة؟ A لأن أحب اللباس إلى رسول الله كان القميص والسروال لستر العورات تحته.

هل يجوز مصافحة العجائز قياسا على البنات الصغيرات؟

هل يجوز مصافحة العجائز قياساً على البنات الصغيرات؟ Q هل تقاس مصافحة العجائز على مصافحة البنات الصغيرات؟ A لا تقاس؛ لأن العجائز نساء، والعجوز تدخل في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لأن يطعن أحدكم بمخيط من حديد في رأسه خير له من أن يمس يد امرأة لا تحل له) العجوز امرأة لكن الصفة ليست بامرأة، ثم ما معنى حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (إني لا أصافح النساء) وقول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (والله ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط) عليه الصلاة والسلام، والحديث الآخر المعروف: (لأن يطعن أحدكم بمخيط من حديد في رأسه خير له من أن يمس امرأة لا تحل له). وكما قال القائل: (لكل ساقطة لاقطة) فقد تكون عجوزاً في نظرك وتشتهى عند غيرك.

ما معنى أن المال المسروق يجب أن يكون محرزا؟

ما معنى أن المال المسروق يجب أن يكون محرزاً؟ Q قرأت في تفسير الشيخ فلان أن المال المسروق يجب أن يكون محرزاً، أرجو التوضيح؟ A إن من شروط السرقة أن يكون المال محرزاً، يعني مثلاً يكون المال موضوعاً في بيت، أو يكون محرزاً في جيب، أو في مخبئه، فيأتي شخص فيقتحم المخبأ ويأخذ المال، لكن إذا كان مالاً في الطرقات، فالمال الذي في الطرقات ليس محرز، وشبهة أنه لقطة تدفع الحد عن السارق، فهذا المراد بالمال المحرز، والله أعلم.

ما ينبغي على من اغتاب شخصا ثم طلب منه أن يسامحه فرفض

ما ينبغي على من اغتاب شخصاً ثم طلب منه أن يسامحه فرفض Q إذا تكلمت عن أخ مسلم وذهبت إليه وذكرت له ما قلت فيه، وطلبت منه أن يعفو عني، فرفض، هل الله يعفو عني هذه الغيبة؟ A الله أكرم! لابد أن تعرف أن ربك كريم، وأنه يعلم ما في القلوب ويثيب على ما في القلوب، إذا ذكرت لأولادك بعض الصفات الذميمة في أصدقائهم، وإذا كان لزاماً أن تحذرهم من أصدقاء مخصوصين فافعل، وإن وجدت سبيلاً إلى التعريض عرضت، والله أعلم.

ضرورة الحكمة في الدعوة إلى الله

ضرورة الحكمة في الدعوة إلى الله Q صديقتها دائمة الشكوى وتنصحها، لكن أحس بصدقها وأعلم ذلك، ولكنها مخنوقة، ودائماً ترتاح لي فقط، ماذا أفعل؟ A الضرورة تقدر بقدرها. أحياناً يأتيني شخص منفعل إنفعالاً شديداً جداً من شخص ظلمه فيتكلم في حق الذي ظلمه، وإذا قلت له: اسكت لا تغتب، فقد يسبه، ويمكن أن يتطرق إلى مسألة أعظم، فحينئذٍ أفوت له بعض الأمر مع مداومة التذكير في وقت هدوئه. ومن الأدلة على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم -كما لا يخفى عليكم- كان يحب خديجة حباً شديداً عليه الصلاة والسلام، حتى بعد موتها كان يتعاهد أصدقاء خديجة بالهدايا، فإذا ذبح ذبيحة قال: (أرسلوه إلى أصدقاء خديجة) فجاءته يوماً هالة بنت خويلد أخت خديجة تستأذن عليه صلى الله عليه وسلم، فعرف صوت هالة وارتاع لصوتها وقال: (اللهم هالة). فغارت عائشة رضي الله عنها غيرة شديدة وهجمت هجوماً شديداً على خديجة رضي الله عنها فقالت: (ما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين قد هلكت في غابر الدهر أبدلك الله خيراً منها؟ فقال عليه الصلاة والسلام: إني رزقت حبها). فماذا كان من رسول الله عليه الصلاة والسلام في هذا الموقف الذي هو مشتعل غيرة؟! فلربما أنه إذا نصح النصيحة ترد عليه، وإذا ردت على رسول الله؛ وقعت في الكفر أو الكبيرة والعياذ بالله، فقال عليه الصلاة والسلام: (إني رزقت حبها) وهذا هو أدب ولطف رسول الله صلى الله عليه وسلم. الشاهد أنه لم يتعقب ما صدر من عائشة رضي الله تعالى عنها من اغتياب في مثل هذا الموقف الذي صحبه انفعال، وليس معنى هذا أن يترك الشخص يسترسل، لكن أحياناً يتجوز بعض التجوز عن خطأ يصدر من شخص بكون المقام لا يتناسب مع تقديم العلاج. أحياناً الطبيب الذي يريد أن يصف دواءً معيناً يجد الجسم لا يتحمل الدواء، فيقول: اذهب وائت غداً وأنا أصف لك الدواء، والله أعلم.

هل تقييم الموظفين يدخل في باب النميمة؟

هل تقييم الموظفين يدخل في باب النميمة؟ Q ما حكم الكلام في موظفين مرءوسين من رؤسائهم بغرض التقييم؟ A لا بأس بذلك ولا يدخل في الغيبة.

هل الاستشارة والسؤال عن فلان يعد من الغيبة؟

هل الاستشارة والسؤال عن فلان يعد من الغيبة؟ Q ماذا يكون الرد إذا سألكم أحد عن شخص؟ A إذا سأل سؤال المستنصح المستشير المستفتي أكلمه بالذي أعلمه فيه، أما إذا سأل سؤال الفضولي المتتبع للعورات فلا يجاب بل يستر عليه.

ما معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (البكر تستأمر)

ما معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (البكر تستأمر) Q ما معنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (البكر تستأمر)؟ A يعني أنها تستأذن، فيقال لها: هل توافقين على الزواج من فلان أو لا توافقين؟ هذا معنى: (البكر تستأمر).

حكم إرغام البنت على الزواج ممن لا ترغب فيه

حكم إرغام البنت على الزواج ممن لا ترغب فيه Q إذا تقدم إلى امرأة زوج ديِّن لا عيب فيه، ولكنها لا تقبله ولا تشعر نحوه بالارتياح، فهل يجوز لوليها أن يرغمها على الزواج؟ A لا يجوز له ذلك بحال؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا تكرهوهن)، وقال: (لا تنكح البكر حتى تستأذن)، وفي الصحيح أن خنساء بنت خدام أتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم -وفي رواية: امرأة أتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم- فقالت: (يا رسول الله! إن أبي زوجني بابن عم لي، ليرفع بي خسيسته، فرد النبي صلى الله عليه وسلم نكاحها، فقالت: يا رسول الله! قد أجزت ما صنع أبي، ولكني جئت لأعلم أن ليس للآباء من الأمر شيء) أو لفظ قريب من هذا اللفظ، أي: ليس لهم شيء في إجبار المرأة على الزواج بشخص تكرهه.

حكم غيبة أولي الأمر

حكم غيبة أولي الأمر Q ما حكم الغيبة في أولي الأمر لدرء المفاسد؟ A إذا كانت المفاسد ستدرأ بهذا فتقدر بقدرها، ولكني لا أظن أن المفاسد تدرأ بمثل هذا الكلام، لكن نبتعد شيئاً ما عن مسألة أولي الأمر، ونرجع كرة إلى مسألة شخص فاسق، هل يجوز اغتياب هذا الفاسق أو لا يجوز؟ وأعني بالفاسق هنا: المجاهر بالفسق، الذي يظهر فسقه عياناً جهاراً، أما إذا كان مستتراً، فلا ينبغي أن تفضح هذا المستتر، والنبي يقول: (من ستر مسلماً) سترته من ماذا؟ سترته من شيء شانه. لكن الكلام على المجاهر بالمعصية، فالمجاهر بالمعصية القول المختار -والله تعالى أعلم- أنه إذا كان من وراء اغتيابه نفع عام أو تحذير عام فحينئذٍ نبين ما فيه محذرين وطالبين للنفع العام، أما إذا كان لمجرد التشفي فيه فإنا لم نؤمر بالتشفي في المسلمين، والله تعالى أعلم.

حكم تصرف المرأة بمالها دون إذن زوجها

حكم تصرف المرأة بمالها دون إذن زوجها Q إذا ورثت المرأة مالاً عن أبيها، فهل يجوز لها التصرف فيه بدون إذن زوجها وفي أي حدود؟ A نعم على رأي جمهور العلماء، يجوز لها التصرف في هذا المال بغير إذن زوجها؛ لأنه مال خاص بها، ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث تمسك به البعض في منع المرأة من ذلك، وهو حديث: (لا يحل لامرأة عطية من مالها إذا ملك رجل عصمتها إلا بإذن زوجها) وهذا الحديث وإن كان في إسناده بعض الأخذ والرد، لكن على فرض تحسينه فهو معارض بما هو أقوى منه، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم اتجه إلى النساء يوم العيد بعد أن قضى خطبة العيد فحثهن ورغبهن في الصدقة، فكانت المرأة تلقي خرصها وسخابها في حجر بلال، ولم يرد أنهن ذهبن واستأذن الأزواج، هذا أول دليل وهو ثابت في الصحيح. والدليل الآخر: هو أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين رضي الله عنها، فقالت له: (يا رسول الله! أما شعرت أني أعتقت وليدتي؟ -تعني أمة من الإماء- قال عليه الصلاة والسلام: أما إنكِ لو أعطيتها لأخوالك لكان خيراً لكِ). الشاهد من ذلك: أنها أعتقت وليدة لها بغير إذن زوجها الذي هو رسول الله عليه الصلاة والسلام، إذ قالت له: (أما شعرت أني أعتقتها يا رسول الله؟). فعلى ذلك: يجوز للمرأة أن تتصرف في مالها وإن لم يأذن لها زوجها، لكن من باب المودة والرحمة التي يفترض أن تكون بين الزوجين، يستحب لها أن تتفاهم مع زوجها أين تنفق؟ ولمن تنفق؟ استحباباً وليس إيجاباً، والله تعالى أعلم.

المواساة في الشريعة

المواساة في الشريعة شرعت المواساة في شريعتنا الإسلامية بصور متعددة، منها: المواساة بالمال، والمواساة بالجاه، والمواساة بالصلة، والمواساة بالتعزية، والمواساة بعيادة المريض، وغير ذلك. وانتشار المواساة في أوساط المسلمين يقوي الروابط الأخوية ويزيدها صلابة وتماسكاً. وقد أثر عن النبي صلوات الله وسلامه عليه وعن الصحابة وأئمة السلف كثير من المواقف التي تجلت فيها أهمية المواساة، فحري بكل مسلم الاقتداء بها.

صور المواساة

صور المواساة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده رسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. وبعد: فإن ديننا القيم كله محاسن، ومن محاسن هذا الدين القيم أنه شرعت فيه المواساة بين أبنائه ومعتنقيه والمتدينين به، ولهذه المواساة صور متعددة، فبالمواساة تتضمد الجراح وتطيب، فكل من جرح بجرح له من يواسيه، وكل من ابتلي بابتلاء وجب على المسلمين أن يلتفوا حوله، وفرضت له عليهم حقوق كي تضمد جراحه، وكي يجبر كسره. شرعت المواساة في ديننا بصور متعددة: فهناك مواساة بالأموال، وهناك مواساة بالأبدان، وهناك مواساة بالوجاهات، وهناك صور أخر من صور المواساة كالمواساة بالتعزية وغيرها من أنواع المواساة، فلا تكاد تبتلى إلا وتجد من يواسيك ويذكرك بالله، ويسليك بحديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. شرعت المواساة بالمال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: (آمن بي إذ كذبتموني، قلت لكم: أنا رسول الله إليكم، فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت، وواساني بنفسه وبماله) رضي الله تعالى عنه، فهذه مواساة من الأدنى للأعلى، ومن المفضول للفاضل، والمواساة هنا بالمال.

مواساة الفقراء والمحتاجين

مواساة الفقراء والمحتاجين ولا تقتصر أنواع المواساة على من ابتلوا بالموت، بل يواسى الفقراء أيضاً، ويواسى المساكين، ولذا قال ربنا في شأن الضعفاء لنبينا محمد عليه الصلاة والسلام: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام:54]. يواسى الفقراء كما واسى المهاجرون الأنصار؛ قدم المهاجرون إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت لهم في بلادهم بيوت، وكانت لهم في بلادهم أموال ودور، لكنهم تركوا ذلك كله مع محبة شديدة له، فتركوا الديار وفارقوا البلاد مع حبهم الشديد لديارهم وبلادهم، دل على ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو خارج من مكة، وهو واقف على جبل الحزورة ينظر إليها والدمع يذرف من عينيه على وجهه وخديه، يقول لها: (والله يا مكة! إنك أحب بلاد الله إلى الله، وأحب بلاد الله إليّ، ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت) ثم يفارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. لكنهم وجدوا من يواسيهم، وجودوا الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبونهم، ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا، بل {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9] حتى قال سعد بن الربيع لـ عبد الرحمن بن عوف: يا عبد الرحمن! انظر إلى أي زوجتي هاتين أعجبتك حتى أنزل لك عنها فتتزوجها! وقال: يا عبد الرحمن! إني رجل كثير المال فهلم أقسم مالي بيني وبينك نصفين! صور من المواساة افتقدها أهل الإسلام في هذه الأزمان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن الأشعريين وهم قبيلة أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: (إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم، جمع كل منهم ما عنده من طعام، ثم طرحوه، ثم اقتسموه بينهم بالسوية فأنا منهم وهم مني) (إذا أرملوا في الغزو) أي: قلَّ زادهم، وقلَّ طعامهم، (جمعوا ما عندهم من طعام)، فكل يأتي بالقليل أو بالكثير الذي عنده، صاحب القليل يأتي بقليله، وصاحب الكثير يأتي بكثيره، ثم يطرحونه جميعاً في مكان واحد، ثم يقتسمونه بينهم بالسوية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فهم مني وأنا منهم). هذه صور من صور المواساة يجب أن تتفشى فيما بيننا، ويجب أن ندفع الشح عن أنفسنا، فلنعد إلى حياتنا ما فقد من سيرة نبينا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ومن سير أصحابه الكرام، ألا فاستغفروا ربكم إنه كان غفاراً.

مواساة آل بيت رسول الله

مواساة آل بيت رسول الله وكان أبو بكر هو الآخر يقول: (ارقبوا محمداً صلى الله عليه وسلم في أهل بيته)، أي: من أراد أن يحسن إلى رسول الله فليحسن إلى أهل بيته بعد موته صلى الله عليه وسلم. ويقول أبو بكر ل علي كذلك: (والله يا علي! لأن أصل قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليّ أن أصل من قرابتي)، فهي مواساة لأهل بيت رسول الله بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد نزع من بينهم رسولهم وكبيرهم ومعلمهم وقريبهم محمد صلى الله عليه وسلم، فكان لابد من المواساة. واقعة أخرى في شأن آل زيد بن حارثة، كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما جالساً في المسجد، فرأى شاباً يجر ثوبه ويمشي في المسجد، بطريقة فيها نوع من الفخر لا يكاد يذكر. الشاهد: أنه قال متغيظاً عليه رضي الله تعالى عنه: من هذا الفتى؟ ويهم ابن عمر رضي الله عنهما أن يقول له قولاً شديداً، فقالوا له: هذا هو أيمن بن أسامة بن زيد، فنكس ابن عمر رأسه في الأرض، وقال: لو رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحبه، وأعرض ابن عمر عن الانتقاد الشديد الذي كان سيوجهه لـ أيمن بن أسامة بن زيد، مواصلة لمسيرة المحبة لأهل زيد التي بدأها رسولنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

مواساة الأيتام والأرامل

مواساة الأيتام والأرامل فهذه معشر الإخوة أنواع من المواساة لمن ابتلوا بفقدان قريب، أو لمن ابتلوا بفقدان عزيز، بأن تواصل معهم الخير الذي كان يعطى، وتواصل معهم رفع المعنويات والمحبة والمودة، وغيرها من أنواع الصلة. المواساة مشروعة في ديننا بصور أخر، فجعلت التعزية من حقوق المسلم على أخيه المسلم، والصحيح أنها لم تقيد بزمن، ولم تخصص بوقت، فحديث (لا عزاء بعد ثلاث) لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل قد ورد ما يعكر عليه، ألا وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قتل جعفر أمهل ثلاثاً، ثم ذهب إلى أهل بيته يعزيهم، فذهب إلى أسماء بنت عميس وكان عليه الصلاة والسلام يمسح على رءوس أطفاله اليتامى، ويطمئنهم ويطمئن أمهم. فأمهم تبكي وتخاف عليهم العيلة، أي: الفقر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مطمئناً لهذه الأرملة آنذاك (أتخشين العيلة عليهم، وأنا وليهم في الدنيا والآخرة) ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ل عبد الله بن جعفر دعوة بقيت له طيلة حياته، قال عليه الصلاة والسلام: (اللهم بارك لـ عبد الله بن جعفر في صفقة يمينه) فكان لا يبيع ولا يشتري شيئاً إلا ربح فيه، حتى التراب، فجعل الله له الربح ببركة دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلزاماً علينا أن نواسي من ابتلوا بفقد أبيهم، نواسي الأيتام الذين فقدوا أباً عزيزاً عليهم، كان يدخل عليهم في يومه بما رزقه الله من فاكهة وطعام وشراب فحرموا هذا العطاء، فلابد لهم ممن يواسيهم وهذا من محاسن هذا الدين القيم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة) وأشار عليه الصلاة والسلام بالسبابة والوسطى. فليوصل كل من ابتلي، وليعز كل مصاب، وليعد كل مريض، شرعت عيادات المرضى، وشرعت التعازي في الجنائز، وشرع الرفق بالأيتام والحنو عليهم، وشرعت الشفقة على الأرامل؛ شرع كل ذلك تخفيفاً للجراح التي يبتلى بها العباد، وقد أثني على رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا كله في جاهليته قبل أن يبعث عليه الصلاة والسلام، يقول أبو طالب في شأن رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل

مواساة من كان يحبه النبي

مواساة من كان يحبه النبي أسامة بن زيد كان يحبه رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم حباً جماً هو وأباه، وكما لا يخفى فهو الحب بن الحب، فمات عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فواصل عمر مسيرة الحب لـ أسامة بن زيد ومسيرة المودة له. حتى إن عمر رضي الله عنه حين كان يقسم الغنائم والعطاءات كان يقدم البدريين في القسمة على من جاء من بعدهم، وكل بحسب سبقه للإسلام؛ فجاء عبد الله بن عمر وأسامة بن زيد كي يأخذا عطاءهما، فأعطى عمر أسامة بن زيد أكثر من عطيته لابنه عبد الله بن عمر، فقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: يا أبت! إن أسامة لم يسبقني بمشهد في الإسلام، ولم يسلم قبلي، ولم يسبقني بغزوة من المغازي، فلمَ فضلته عليّ يا أبي؟! قال عمر: يا بني! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحبه أكثر منك، وكان يحب أباه أكثر من حبه لأبيك؛ فلذلك فضلته عليك! فواصل عمر رضي الله عنه مسيرة المودة لـ أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما.

مواساة صديقات الزوجة وأقاربها

مواساة صديقات الزوجة وأقاربها ومن حسن العهد أيضاً ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم مع أصدقاء خديجة ومع أقارب خديجة. كانت خديجة أم المؤمنين زوج رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وكانت من أحب الناس إليه صلوات الله وسلامه عليه، وكانت تواسيه بكلماتها الطيبة في أول بعثته، كقولها: (والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتنصر المظلوم، وتعين على نوائب الحق)، وقدمت له أموالها مواساة ومؤازرة منها، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبها. وبعد أن ماتت كان يكثر من الدعاء لها، وكان كلما ذبح ذبيحة من الذبائح أرسل إلى أصدقاء خديجة من هذه الذبيحة، وكان يتعاهد أصدقاء خديجة بالهدايا والعطايا، وكانت هالة بنت خويلد أخت خديجة رضي الله عنها كلما جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تستأذن، ارتاح لها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقابلها بحفاوة بالغة وقال: (اللهم هالة). غارت أم المؤمنين عائشة من ذلك، فقالت: (وما تذكر يا رسول الله! من عجوز حمراء الشدقين -أي: قد تساقطت أسنانها فأصبح مكان الأسنان حمرة- هلكت في غابر الدهر، أبدلك الله خيراً منها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله رزقني حبها) وفي روايات أخرى (واستني بمالها، وواستني وواستني وفعلت وفعلت) فهذا من حسن عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام، وفعله المعروف بأصدقاء خديجة رضي الله عنها.

مواساة أبي بكر وعمر لأم أيمن

مواساة أبي بكر وعمر لأم أيمن قال أبو بكر لـ عمر رضي الله عنهما بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عمر! انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها -وأم أيمن هي أم أسامة بن زيد رضي الله عنه- قال: فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها، فلما دخلا عليها بكت، فقالا لها: ما يبكيك يا أم أيمن؟! فـ أبو بكر وعمر ظنا أنها تبكي لفقدان رسول الله عليه الصلاة والسلام، فكان هو الذي يدخل عليها، فإذا بالذي يدخل عليها الآن رجلان آخران غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا شيء يحزن بلا شك، ولكن ما هو سبب حزنها الأكبر؟ قالا لها: ما يبكيك يا أم أيمن؟ أما تعلمين أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت أم أيمن: أعلم ذلك، والله إن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن أبكي لأن الوحي قد انقطع، فهيجتهما على البكاء فجعلتهما يبكيان معها، بكت لأن جبريل الذي كان ينزل على النبي عليه الصلاة والسلام فيوجه المؤمنين: يا أيها الذين آمنوا افعلوا كذا، يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كذا، الذي كان ينزل بما يرقق القلوب، الذي كان ينزل بما يجلي الأمور قد انقطع، فكان هذا سبب الفجيعة الكبرى لـ أم أيمن، فبكت وبكى أبو بكر وعمر معها رضي الله عنهم. الشاهد من ذلك: قول أبي بكر لـ عمر: انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها؛ فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها، فأرادا أن يعوضاها عن المصيبة التي ابتليت بها من فقدان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

مواساة أقارب وأصدقاء الوالد

مواساة أقارب وأصدقاء الوالد ومن صور المواساة أيضاً المواساة في حسن العهد، وهذا يؤخذ من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ودّ أبيه بعد موته). فمن أفضل أنواع البر: أن تبحث عن الذين كان يصلهم أبوك، وعن الذين كان يساعدهم أبوك، وعن الذين كان يعولهم أبوك، فتواصل المساعدة، وتواصل المعاونة؛ جبراً لكسر هؤلاء الذين فقدوا عزيزاً عليهم، والذين يظنون أن مورداً من موارد الرزق سينقطع عنهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ودّ أبيه بعد موته)، فتبحث عن أصدقاء أبيك، وعن أقارب أبيك، فتصلهم كما كان الأب يصلهم.

تأملات في سورة الطلاق [1]

تأملات في سورة الطلاق [1] شرع الله لعباده الزواج لبقاء النسل ولتحقيق الاستخلاف في الأرض، ولكن هذه العلاقة قد يشوبها ما يعكرها، حتى يؤدي إلى ضرورة انتهائها، فجعل الله من الطلاق حلاً لمثل هذه الأحوال، وقد تحدث الفقهاء عن مسائل هذا الباب وذكروا أحكام المطلقة مفصلة، وبينوا أن الطلاق ينقسم إلى: طلاق سني، وطلاق بدعي.

من أحكام الطلاق

من أحكام الطلاق بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: سورة الطلاق سورة مدنية، وفيها بيان كم كبير من أحكام الطلاق بعد أن استقرت إلى حد كبير أحوال المسلمين بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الطلاق لغة وشرعا

الطلاق لغة وشرعاً معنى الطلاق لغة: حلّ الوثاق، أي: حلّ الرباط، ومنه الإطلاق، كشخص أطلق شخصاً، أي: كان آخذاً به أو موثقاً إياه ثم أطلقه. فهذا من الناحية اللغوية. ومن الناحية الشرعية: حلّ عقدة النكاح، أو حلّ عقدة التزويج، فالتزويج أو النكاح ينعقد بقول الرجل الذي هو ولي المرأة للزوج: زوجتك موكلتي. أو: موليتي. أو: ابنتي. أو: أختي. فهذه العقدة تنحل بلفظ الزوج: أنتِ طالق، أو طلقتكِ، أو سرحتكِ، إذا كان التسريح مصحوباً بنية الطلاق، أو فارقتك، إذا كان الفراق مصحوباً بنية الطلاق.

الألفاظ التي يقع بها الطلاق

الألفاظ التي يقع بها الطلاق ألفاظ الطلاق منها ما هو صريح؛ فلا يحتاج القاضي معه إلى سؤال المطلق عن نيته، وهي كلمة: أنتِ طالق. أو: طلقتك. ومنها ما ليس بصريح لكنه يقع به الطلاق إذا كان ينوي ذلك أو يقصده. فكلمة: (سرحتك) التسريح يدل على الطلاق؛ فإن الله قال: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ} [الأحزاب:28] والتسريح أيضاً بمعنى: الإطلاق كما قال الله: {سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب:28]، وقال: {فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229]، على رأي من قال: إن المراد بالتسريح بالإحسان الطلاق. وفي ذلك قولان للعلماء. وكلمة (فارقتك) كذلك، قال الله: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق:2]، فإذا قال الرجل لامرأته: قد فارقتكِ. يسأل عن نيته، ماذا تقصد بقولك: قد فارقتكِ؟ إن قال: أقصد الطلاق وقع الطلاق، وإن قال: أقصد فراق المجلس، أو فراق هذه الليلة. لا تقع طلقة، أي: أن هناك ألفاظاً صريحة، وألفاظاً تحتاج إلى النية. أما قول الرجل لامرأته: الحقي بأهلكِ، اعتبرها فريق من العلماء تطليقاً إذا كانت مصحوبة بالنية، وأبى ذلك آخرون، ووجهوا ما ورد في كلام الرسول: (الحقي بأهلك) لـ ابنة الجون في بعض الروايات: (أنتِ طالق الحقي بأهلك) بتوجيهات، لكن سيأتي تحرير القول في ذلك إن شاء الله.

أقسام الخطاب الموجه للنبي صلى الله عليه وسلم

أقسام الخطاب الموجه للنبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1]، لماذا قال: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ} [الطلاق:1] ولم يقل: (إذا طلقت)، والسياق يقتضي أن يقول: (يا أيها النبي إذا طلقت النساء)؟ الخطاب الموجه لرسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم على ثلاثة أقسام: القسم الأول: المراد به الرسول نفسه عليه الصلاة والسلام، كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:50]. القسم الثاني: خطاب للرسول يراد به أمته، كما قال الله للنبي: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء:23]، ليس المراد به الرسول قطعاً؛ لأن والدي الرسول ماتا وهو في الصغر. القسم الثالث: خطاب للرسول المراد منه هو وأمته، كهذا الخطاب: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ} [الطلاق:1]، ومن العلماء من قال: إن الضمير هنا خاص بالأمة، فالمعنى: يا أيها النبي! قل للمؤمنين: إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن.

أحكام طلاق المعتدة

أحكام طلاق المعتدة قال تعالى: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1]، أي: مستقبلات عدتهن، أو حيث يقمن لعدتهن، يعني: لا تطلقوهن وهن في الحيض، بل طلقوهن وهن مستقبلات الحيض، أي: طلقوهن وهن أطهار. قال آخرون: وهو نص حديث الرسول عليه الصلاة والسلام: (طلقها في طهر لم تجامعها فيه) وهذا طلاق السنة، وطلاق السنة: هو أن يطلق الرجل امرأته في طهر لم يجامعها فيه، أو يطلقها وهي حامل قد استبان حملها. وأضاف إليه بعض العلماء شيئاً آخر: أو يطلقها إذا كانت لم تحض؛ وهي الصغيرة التي لم تحض أو الكبيرة التي حيضها منقطع. فهذا طلاق السنة بالنسبة للمرأة التي تحيض، أن يطلقها زوجها في طهر لم يجامعها فيه، أو وهي حامل قد استبان حملها، أي: ظهر حملها. لكن فرضاً أنه طلقها وهي حائض، أو طلقها في طهر جامعها فيه، فهذا ليس بطلاق على السنة إنما هو طلاق بدعي؛ فقد جاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره أن عبد الله بن عمر طلق امرأته وهي حائض، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم لذلك غضباً شديداً وقال: (أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟! مره فليراجعها، ثم يمسكها حتى تطهر، ثم إن شاء أمسك وإن شاء طلق) وفي رواية أخرى: (مره فليراجعها، ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر) أي: جعل لها طهرين في هذه الرواية الأخيرة، (ثم إن شاء أمسك وإن شاء طلق)، لكن حمل العلماء هذه الرواية الأخيرة التي فيها المكث طهرين أنها على الاحتياط أو الاستحباب لا الإيجاب، إنما هو طهر واحد، يمسكها حتى تطهر، ثم إن شاء طلق وإن شاء أمسك قبل أن يمسها. فترد علينا مسألة على عجل، ألا وهي: هب أن رجلاً طلق امرأته وهي حائض، مخالفاً بذلك سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فهل تقع هذه الطلقة أو التطليقة أم أنها لا تقع؟ ذهب جماهير السلف والخلف إلى أن هذه التطليقة تحتسب وإن كانت خلاف السنة، ومن هؤلاء مالك والشافعي وأحمد وأبو حنيفة وغيرهم، بينما ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وتبعه تلميذه ابن القيم رحمه الله إلى أنها لا تقع. وفي الحقيقة أن حجة شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا الموطن حجة داحضة، وليست بسديدة بحال -وسيأتي بيان ذلك-والصواب في ذلك ما رآه جماهير العلماء من السلف والخلف، ومنهم الأئمة الأربعة: أنها تقع؛ مع ما فيها من إثم على المطلق. أما حجة الجماهير القائلين بالوقوع، فمنها ما يلي: أولاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمر: (مره فليراجعها) قالوا: فلا مراجعة إلا وقد وقع طلاق. الثاني: قول ابن عمر رضي الله عنهما: (حسبت عليّ تطليقة)، وفي الرواية الثالثة قيل له: (أوتحتسب تلك تطليقة؟ قال: أومه. أفرأيت إن عجز واستحمق؟). ثالثاً: أنه قال لها: (أنتِ طالق) وهذه كفيلة بالمراد. أما حجج شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وتلميذه ابن القيم رحمة الله عليه فتتلخص في الآتي: أولاً: أورد من طريق ابن الزبير عن ابن عمر أنه قال: (أنه طلق امرأته وهي حائض، فلم يرها النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً). الإجابة على هذا: هذه الرواية ابتداءً أعلها جماهير المحدثين، وضعفها من الناحية الحديثية جماهير المحدثين، ويكفينا الدليل والأثر الصحيح بقول هؤلاء الأئمة الجهابذة أنها ضعيفة، وجماهير المحدثين وأهل العلل أعلوا رواية ابن الزبير التي فيها أن النبي لم يرها شيئاً، بل ورد عند الطيالسي أنه قال: (فعدها واحدة)، هذا شيء. الشيء الآخر في حالة صحة: (فلم يرها النبي شيئاً)، أي: لم يرها شيئاً على السنة، بل هي على البدعة وليس فيها تعلق بالوقوع من عدمه. الدليل الثاني الذي احتجوا به: رواية مختصرة رواها ابن حزم الأندلسي رحمه الله، وتبعه على هذا الاختصار شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد اختصرت اختصاراً أخل بالمعنى إخلالاً شديداً أوقع الباحث في ورطة، وها هو بيان هذا الاختصار ووجهه. احتجوا بما ذكره ابن حزم بإسناده إلى ابن عمر أنه: (سُئل عن طلاق المرأة وهي حائض؟ فقال: لا يعتد بتلك)، فهذا الأثر شنع به ابن القيم رحمه الله تشنيعاً شديداً في زاد المعاد، وفرح به فرحاً شديداً لتقرير مذهبه، وفي الحقيقة أنه اختصار مخل غاية الإخلال، فالرواية من نفس الإسناد إلى ابن عمر مذكورة عند ابن أبي شيبة في المصنف في باب الأقراء، بهذا الطول: (سُئل ابن عمر عن طلاق المرأة وهي حائض فقال: لا يعتد بتلك الحيضة) فزاد كلمة (الحيضة) أي: لا يعتد بتلك الحيضة أنها من الأقراء، أي: زمن العدة التي تعدتها المرأة. فلما اختصرت قدرها ابن القيم تقديراً آخر، فالرواية: (لا يعتد بتلك الحيضة)، اختصرها إلى (لا يعتد بتلك)، وقدر محذوفاً وهو: (لا يعتد بتلك الحيضة). يعني: المرأة إذا طُلقت وهي حائض هل تحسب هذه الحيضة في قوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228]؟ يعني الحيضة التي طلقت فيها المرأة تحتسب من زمن العدة، أو لا تحتسب؟ فلما كانت الرواية (لا يعتد بتلك الحيضة)، واختصرها ابن حزم وتبعه ابن تيمية على لفظ: (لا يعتد بتلك)، وحذفوا كلمة (الحيضة) وحملهم حذفهم أو روايتها محذوفة عندهم على أن يقدروا ما ساغ لهم من تقدير، وهو: لا يعتد بتلك التطليقة، وهذا خطأ مصادم لظاهر الرواية التي هي مطولة عند ابن أبي شيبة، وبوب لها ابن أبي شيبة كما أسفلنا في باب الأقراء. فكان في الحقيقة ما سطره ابن القيم رحمه الله في كتابه زاد المعاد مساغ ضحك، إذ طفق يصول ويجول على مذهبه وعلى طريقته من إطالة النفس في المسائل التي ينتصر لها رحمه الله، كما أطال النفس في عدة مواطن، ولكن الرواية الثابتة: (لا يعتد بتلك الحيضة)، دحضت ما دندن حوله رحمه الله تعالى. فكانت هذه أقوى الحجج التي احتج بها شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم. مضافاً إلى ذلك عندهم: أنه عمل محدث، والنبي يقول: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) وهذا ليس من هذا الباب، أيضاً إذا وقفنا مع حديث: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، وفهمناه هذا الفهم الغريب الذي فهمه شيخ الإسلام لكشفنا الكرب عن أقوال الكثيرين. هل في ديننا القتل؟ هل في ديننا أن شخصاً مسلماً يقتل آخر؟ فإذا قلنا: لا عقوبة عليه، والعمل مردود رفعنا عنه حرج القتل. هل في ديننا الأيمان الفاجرة أو الأيمان الغموس؟ هل يستدل لرفع الكفارات عمن أقسم يميناً غموساً؟ هل يرتفع عنه الحكم؟ أو هل ترتفع عنه العقوبة بهذا الفهم؟ باب العقوبات شيء آخر، لا يقال فيه: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد). فهل من الإكرام له أن نقول لمن طلق امرأته وهي حائض وخالف السنة أن نقول له: خالفت السنة ولا حرج عليك. والذي طلقها وهي طاهر نقول له: لا عليك الطلاق واقع لأنك وافقت السنة. كيف يقبل هذا عقلاً؟ إذا جئنا من ناحية العقل فـ شيخ الإسلام يقول ما حاصله: كيف نأمر المطلق امرأته وهي حائض أن يراجعها؟ ثم بعد أن تطهر نقول له: طلقها مرة ثانية؟ فنكون قد أوقعنا عليه تطليقتين. فهذه حجته. فنقول له: نحن قلنا له: راجعها، ثم بعد ذلك إن شئت أمسك وإن شئت طلق، ولم نأمره أمراً أن يطلقها إذا طهرت، إنما قلنا له: إذا طهرت إن شئت طلقت وإن شئت أمسكت، لكن الذي سبقت وقعت عليك، فهي إلى التأديب والتعزير أقرب. فلا يقال أبداً: إن من طلق امرأته أو خالف السنة وطلق وهي حائض أن طلاقه ليس بواقع، وإن من اتبع السنة طلاقه واقع، وهذا كلام واضح غاية الوضوح، فلما أراد شيخ الإسلام أن يرفع مطلق البدعة عمن طلق المرأة وهي حائض ويقول له: طلاقك ليس بواقع، أنزله بعكس من طلق على السنة، وهذا ليس بسوي ولا بصحيح، وقد قال ابن عمر فيما سمعتم: (حسبت عليّ تطليقة)، وقال النبي صلوات الله وسلامه عليه: (مره فليراجعها). كذلك من طلق امرأته في طهر جامعها فيه طلاقه أيضاً واقع؛ إذ ليس هناك أي دليل يفيد أنها لا تطلق، فما هو الدليل الذي يفيد أنه لا يقع؟ فقد سمعتم ما في الاستدلال بقوله: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) من توجيه. فعلى ذلك كما أسلفنا وأكدنا أن رأي الجماهير من العلماء ومنهم الأئمة الأربعة رحمهم الله تعالى هو الرأي الأسد، وهو الرأي الأصوب، والعلم عند الله سبحانه وتعالى. فلا داعي إذا جاء شخص وقال: أنا طلقت زوجتي ثلاث تطليقات أن نفتح له أبواب الشياطين، هو يقول: طلقتها منذ عشر سنوات، فهل أفتش هل كانت تلك أيام في حيضها أو لا؟ هل كنت جامعتها أو لم تجامعها؟ كل هذا لم يرد عن أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام ورضي الله تعالى عنهم، إنما هي وساوس واتباع للآراء الشاذة المرجوحة لغير دليل من الكتاب أو السنة الصحيحة، والله أعلم.

سكنى المعتدة ونفقتها

سكنى المعتدة ونفقتها قال تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} [الطلاق:1] أي: عدوا عداً دقيقاً، وفيه دليل على الحساب، {وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ} [الطلاق:1] فلا يجوز بحال لأي رجل طلق امرأته طلقة رجعية أن يخرجها من البيت كما يفعل بعض الجهلة من أهل زماننا، إلا أن تأتي بفاحشة مبينة، وسيأتي شرح معناها إن شاء الله. ولذلك عبر بقوله تعالى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق:1] هنا تظهر النكتة والحكمة في نسبة البيوت إلى النساء، فهي في العدة ما زال البيت بيتها، ولا يحق للمرأة أن تخرج من البيت أو تأخذ ثيابها وتذهب إلى بيت أبيها وبيت أمها، ولا يحل له هو الآخر أن يخرجها. {وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق:1] قال بعض العلماء: إنها الزنا -عياذاً بالله- وقال بعضهم: هي البذاءة على أهل زوجها، مثلاً: امرأة متوحشة شرسة تضرب والد الزوج والزوج وأم الزوج، فتحدث مفسدة كبرى إذا كانت بهذه الطريقة الشرسة. وهذا كله في مسألة المطلقة الرجعية، أما المطلقة ثلاثاً التي بُتَّ طلاقها فلا سكنى لها بل تحمل ثيابها وتخرج، إذ هي أصبحت أجنبية تماماً عن هذا الزوج. ويدل لمسألة خروج المطلقة المبتوتة وأنها لا سكنى لها ولا نفقة: حديث فاطمة بنت قيس رضي الله تعالى عنها، لأنها كانت متزوجة برجل من أهل اليمن فأرسل لها بآخر ثلاث تطليقات، يعني طلقها غيابياً من اليمن، وأرسل لها مع وكيله شيئاً من الشعير فسخطته، أي: قالت: هذا قليل. فذهبت هي ووكيل زوجها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: (لا نفقة لك ولا سكنى). فأخذ بهذا أيضاً جماهير العلماء، وأبى ذلك أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، وكان يقضي بأن كل مطلقة رجعية كانت أو غير رجعية لها النفقة والسكنى، فقال: (لا ندع كتاب ربنا)، وفي رواية فيها كلام: (وسنة نبينا)، قال عمر: (لا ندع كتاب ربنا عز وجل لقول امرأة لا ندري أنسيت أم ذكرت) فقالت عائشة: (إنما أخرجها رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيت زوجها؛ لأنها كانت حادة في لسانها شيء)، يعني: شديدة في لسانها على أهل زوجها. لكن أخذ الجمهور بمقتضى حديث فاطمة بنت قيس في أن المطلقة ثلاثاً لا نفقة لها ولا سكنى، وفريق آخر ومنهم أمير المؤمنين عمر أخذ بأن لها النفقة والسكنى لما سمعتموه. وفريق ثالث كالإمام الشافعي رحمه الله فصّل في هذه المسألة فقال: لها السكنى لقوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق:6] أما النفقة فليست لها؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام ما أقرها على مسألة النفقة. فإتيان المرأة بالفاحشة المبينة يكسبها أشياء، منها: امرأة مثلاً زنت -والعياذ بالله- وهي متزوجة، فللزوج أن يعضلها ليذهب ببعض ما آتاها، أي: ليسترد منها بعض الصداق الذي أخذته منه: {لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء:19]. وتتسبب الفاحشة المبينة أيضاً في إخراجها من البيت إذا طلقت: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} [الطلاق:1]. لكن هل ينسحب هذا على رجل حزن أو غاضب زوجته، وقال لها: أنا متعب اذهبي عند أهلك. هل يقال له: اتق الله ربك، ولا تخرجها من بيتها ولا تخرج؟ وهل يقاس ذلك على قوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ} [الطلاق:1] فلا أخرج الزوجة في لحظة مغاضبة بيني وبينها إلى بيت أبويها؟ وهل نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم ألحق عائشة بأبويها في حديث الإفك، هذا بعيد؛ لأن عائشة هي التي قالت: (يا رسول الله ائذن لي أن آتي أبوي) وليس الرسول هو الذي طردها إلى بيت أبويها. وعندما آلى النبي من نسائه هو الذي خرج، وعندما غاضب علي فاطمة هو الذي خرج ونام في المسجد. وأما الاستدلال بحديث كعب فليس فيه إلا الأمر باعتزال النساء، لكن نقول: إنه لا يجوز له في الأصل أن يخرجها، لكن إن قلنا: إن الرجل استشاط غضباً ويخشى من تواجدها مفسدة أعظم فاخترنا أخف المفسدتين وقلنا: اخرجي حتى يهدأ الرجل. نحن نقول: ليس من حقنا أن نخرجك، ولكن درءاً للشر وللمفسدة العظمى اذهبي إلى أهلك حتى يهدأ الرجل، هل نكون قد أثمنا؟ ربما يقول قائل: يجوز؛ لأن سيدنا إبراهيم عليه السلام قال لزوجة إسماعيل عليه السلام: قولي لإسماعيل أن يغير عتبة الباب، يعني: أن يطلق زوجته. نقول: لا. فالمسألة حتى إذا أخرجها الزوج من باب اختيار أخف الأضرار فهو من هذا الباب، ليس من باب أنه يجوز له أن يخرجها. لكن لا ينصح في كثير من الأحيان بالإخراج، لماذا؟ لأن النساء تبدأ تثرثر في الكلام زوجي ضربني، وكثير من النساء يكذبن ويغيرن في الحديث وتأتي الجارة الشريرة في صورة المتباكية والزوجة قد سكنت فتهيجها. يقال: إن شخصاً ذهب يصالح الأعمش على زوجته، فيقول لزوجته: اصبري عليه فإنه رجل أعمى مسكين لا يرى كثيراً، وجلس يذم في الأعمش كل الذم حتى يزهدها به، فقام عليه الأعمش وضربه وقال: والله ما أتيت لإصلاحها إنما أتيت لإفسادها. فهذا دأب أهل زماننا، تقول لها: اصبري ومع كلمة اصبري عشر طعنات في الزوج فتجعلها تبغض الزوج بغضاً لا نظير له، وقليل من الناس المصلحون والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تأملات في سورة الطلاق [2]

تأملات في سورة الطلاق [2] مسألة الطلاق من المسائل المهمة التي أولتها الشريعة اهتماماً بالغاً، ومن الدلائل على أهمية هذه القضية أن خصص الله لمناقشتها سورة كاملة في كتابه العزيز ألا وهي سورة الطلاق، وبالرغم من حساسية هذه القضية إلا أن هذه السورة قد أحاطت بجل أطرافها، وفض الله فيها النزاع بين الطرفين بما يرضي كلاً منهما ويعطيه حقه وافياً.

تفسير الآية الأولى من سورة الطلاق

تفسير الآية الأولى من سورة الطلاق بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: قال الله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق:1]، أفادت الآية الكريمة: أنه لا يحل لرجل طلق امرأة أن يخرجها من بيته، ولا يحل لها هي الأخرى أن تخرج من هذا البيت، {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق:1]. ومن العلماء من قال: إن المراد بالفاحشة المبينة: الزنا والعياذ بالله. ومنهم من قال: إن المراد بالفاحشة المبينة: البذاءة على أهل الزوج. وأثيرت مسألة: من حدثت بينه وبين زوجته مشكلة، وخشي من تواجدها أن تتفاقم وتتصاعد القضية، فهل له أن يقول لها: اذهبي إلى بيت أبيك؛ خشية من حدوث طلاق، أم أن ذلك لا يجوز له؟ ذكرنا أن الأولى أن يخرج هو من البيت، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما غاضب نساءه اعتزلهن صلوات الله وسلامه عليه، ولم يخرجهن هو من البيت، كذلك علي لما غاضب امرأته فاطمة رضي الله عنها خرج ونام في المسجد. ولكن إن استأذنت هي دفعاً للمشاكل وخرجت لبيت أبيها بإذن فلا بأس بذلك أيضاً، وذلك لأن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها في حديث الإفك قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله ائذن لي أن آتي أبوي)، فأذن لها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. قال الله سبحانه وتعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ} [الطلاق:1]، هذا في المطلقة طلاقاً رجعياً، أما المطلقة المبتوتة فليس لها نفقة وسكنى، على رأي جمهور العلماء. ومن العلماء من أثبت لها النفقة والسكنى، وهم قلة؛ منهم: أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه، لكن أصحاب هذا الرأي محجوجون بما روته فاطمة بنت قيس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لها لما طلقها زوجها فبتّ طلاقها: (لا نفقة لك ولا سكنى). ومن العلماء من أجاز لها السكنى دون النفقة، منهم الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، لقوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق:6] الآية. وهذا يرد على ما يفعله العامة الآن من إخراج المرأة من بيتها لمجرد صدور الطلاق الرجعي، فهذا عملٌ ليس بصحيح وليس عملاً شرعياً، فيحرم عليه أن يخرجها، ويحرم عليها هي الأخرى أن تخرج، وذكرنا أن النكتة في نسبة البيوت إليهن في قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق:1]، أنها ما دامت في العدة فالبيت بيتها لأنه نُسب إليها. قال الله: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق:1] فيجب أن توقر هذه الحدود، {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق:1] أي: لعله يحدث شيئاً وهو رجوع من الزوج إلى زوجته، ولعله يراها بعد أن طلقت فانكسرت ورق لحالها يراها في حاجة إلى مراجعة وإلى عطف وحنان، يراها وقد تعلق بها أبناؤها وبناتها وأنها في حاجة إلى رجعة. وهي الأخرى قد ترى من حاله انكساراً بعد التطليق وأنه لا يستطيع أن يقيم نفسه، ولا أن يطهي، ولا أن يغسل ثياب نفسه، فترق هي الأخرى لحاله فيحدث تراجع منها له، أو لعله يرى منها شيئاً من جمالها يعجبه ويستدرك، وفي الحديث: (لا يفرك مؤمن مؤمنة؛ إن كره منها خلقاً رضي منها آخر) فيبدأ بالتراجع والتنازل عن شيء من حقوقه. وهي الأخرى كذلك ترى أنها أخطأت، أو أنها ينبغي عليها أن تصبر على زوجها؛ إذ مع مثالبه فله جملة محاسن فتتغاضى عن مثالبه بعض التغاضي حتى تستقيم المعاشرة، أو تكون هناك أمور أخر أجملت في قوله تعالى: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق:1]. فإذا طلقت المرأة وأُخرجت من بيتها أو خرجت هي من بيتها في العدة؛ عقوبة من الله سبحانه أن يسلط عليها صديقات السوء اللواتي يحملنها على النشوز، وعقوبة كذلك له أن يتسلط عليه أصدقاء السوء من أتباع هاروت وماروت الذين يفرقون بين المرء وزوجه.

حكم الإشهاد على الطلاق

حكم الإشهاد على الطلاق قال تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق:2]، فالآية قطعاً ليس المراد بها ظاهرها؛ لأن إذا بلغت المرأة الأجل ولم تحدث رجعة انتهت منه، ولم تعد له زوجة، فالمراد بقوله: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} أي: قاربن بلوغ الأجل. {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق:2]، أي: أرجعوهن إليكم ولا تجعلوا الطلاق يمضي، {أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق:2] أو اتركوهن حتى تنقضي العدة. وكل ذلك من المعروف. وهذا في الحقيقة يلقي ضوءاً على أخلاق المسلمين التي ساءت كثيراً في هذه الأزمان، فإن الله ما أباح للزوج أبداً أن يمسك إلا بالمعروف، وما أباح له أن يطلق إلا بالمعروف، فليس له خيار في هذا، فإن الله قال: {فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229] أي: ليس لك اختيار في هذا أبداً؛ فإما أن تمسك بمعروف وإما أن تسرح بإحسان، أما الزوج الذي يحاول الإضرار بزوجته لأنه طلقها؛ فيوقع بها أشد النكال وأشد أنواع التعذيب، فهذا محرم عليه، والله قد قال: {وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة:237].

لزوم الإشهاد على الطلاق

لزوم الإشهاد على الطلاق قال تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2] استدل به على وجوب الإشهاد عند الطلاق وعند الرجعة، فقوله: {ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2] أي: منكم يا أهل الإيمان، فلا يجوز لك أن تشهد كافراً، وهل يجوز لك أن تشهد امرأة أو امرأتين على الطلاق؟ أو أن تقول: أشهد أربعاً؛ فالرجل يقوم مقام امرأتين في الطلاق قياساً على الأموال؟ أولاً: في شهادات النساء تفصيل، فشهادات النساء في الأموال مقبولة بالاتفاق كما قال الله: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282]، وشهادات النساء في الحدود ردها أكثر العلماء، قالوا: لأن الحدود تدفع بالشبهات، والله يقول في شأن النساء: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة:282] فالضلال شبهة يدفع بها الحد. أما الطلاق والنكاح فجمهور أهل العلم على أن شهادات النساء لا تعتبر فيه، لكن من العلماء من أجازها على أن شهادة المرأة تعدل نصف شهادة الرجل. قال تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2] أي: على الطلاق وعلى الإرجاع.

لزوم الإخلاص لله في الشهادة

لزوم الإخلاص لله في الشهادة {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق:2] أي: أنتم يا شهود عليكم إقامة الشهادة لا لعرض من أعراض الدنيا ولا لثناء، ولكن الشهادة تقام لله، ولذلك يقول العلماء في الشهادة على وجه الخصوص: كما أن فيها حقاً للعبد ففيها حق لله سبحانه. وشأن الشهادات بصفة عامة يقول الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء:135] أي: شهادتكم لله {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} [النساء:135] فلا تشهد لفقير لكونه فقيراً فتقول: هذا ضعيف أشهد له. ولا تشهد لغني لكونه غنياً سوف يعطيك، بل الشهادة تقام على وجهها لله، ولا تراعى فيها العواطف، يقول الله: {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} [النساء:135] فالله أرحم بهما منكم؛ ليس عليك إلا أن تقيم الشهادة. فعلى ذلك هنا تحول في الخطاب، صورته أن الله قال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2] فهذا خطاب لعموم المطلقين ولأهل النساء، ثم تحول الخطاب إلى الشهداء في قوله: {وَأَقِيمُوا} أنتم أيها الشهداء {الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} فهذا يسميه العلماء: التفات في الخطاب، وله صور في كتاب الله، ومنه في سورة الإنسان {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا} [الإنسان:22]، فبعد أن حكا عنهم {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً} [الإنسان:22] تحول إلى الخطاب (وكان) وكذا قوله: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} [يونس:22] تحول أيضاً الخطاب. {ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ} [الطلاق:2] الوعظ يطلق على التذكير، ويطلق على الزجر كما هو هنا، {ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ} [الطلاق:2] أي: يزجر به، أو يذكر به، {مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق:2] وهذه من ثمرات التقوى، {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:3] فيفيد أن التقوى سبب في سعة الرزق، والوقوف على حدود الله سبب في سعة الرزق وإن توهم متوهم غير ذلك. {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3] أي: ومن يكل أموره إلى الله فالله كافيه وناصره وحافظه {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} أي: ومن يتخذ الله وكيلاً له فالله يكفيه سبحانه، فهو نعم الوكيل. {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} [الطلاق:3] أي: ينفذ الذي يريده سبحانه وتعالى، لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق:3] أي أن كل شيء له قدر.

عدة الآيسة والصغيرة

عدة الآيسة والصغيرة قال الله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق:4] كبيرات السن اللواتي انقطع عنهن الحيض إذا طلقن وهن كبيرات السن فلا يعتددن بالأطهار ولا بالحيضات إنما يعتددن بالشهور، قال تعالى: {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق:4]. {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق:4] أي: واللائي لم يحضن كذلك عدتهن ثلاثة أشهر، فـ {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق:4] يفهمنا جواز تزويج الفتاة التي دون سنّ البلوغ، وجواز تزويج المرأة التي بها شيء من العيب والتي لا تحيض أصلاً. فمن قوله تعالى: {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} يستفاد: القول ببطلان هذا القانون المصري الذي يلزم الفتاة أن لا تتزوج، أو يحظر على الفتاة الزواج إلا بعد بلوغ سن السادسة عشرة من عمرها، وهن تحت طائلة القوانين الدولية الباطلة التي تسن في مؤتمرات السكان والمرأة بل ويريدون رفع هذه السن إلى أكثر من ذلك، وهذا كله مما يساعد على تفشي الرذيلة وانتشار الفاحشة. والرسول عليه الصلاة والسلام قد تزوج عائشة وهي بنت ست سنين، وبنى بها وهي بنت تسع سنين عليه الصلاة والسلام، وعمر تزوج أم كلثوم بنت علي ولا يخفى عليكم مكانها من الصغر، كذلك قال الله ربنا: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} [النساء:3] أي: في صداق اليتامى، واليتم يكون قبل البلوغ، إذ لا يتم بعد احتلام، وكل هذه الأشياء تدل على بطلان هذه القوانين الوضعية التي تمنع الفتاة من الزواج حتى تبلغ سناً معينا، ً ألا وهي السادسة عشرة من عمرها. قال تعالى: {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} أي: واللائي لم يحضن كذلك عدتهن ثلاثة أشهر. هناك عدد أخر تختلف في شأن بعض النساء كامرأة مشركة أسلمت تعتد بحيضة واحدة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في سبايا أوطاس؛ فاعتددن بحيضة واحدة. أما المختلعة فهل تعتد بثلاث حيض أو بحيضة واحدة؟ من العلماء من قال: إن المختلعة تعتد بحيضة واحدة. وهذا منقول عن أمير المؤمنين عثمان رضي الله تعالى عنه، وهذا لإثبات براءة الرحم من الحمل. ومنهم من قال: حكمها حكم المطلقة تعتد بالثلاث، والله سبحانه وتعالى أعلم. {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ} أي: الحوامل من النساء {أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4] فهذه الآية خاصة بالحوامل، أي: كل امرأة مطلقة وهي حامل فهل تنقضي عدتها بوضع الحمل أم أنه عام في المطلقات والمتوفى عنهن الأزواج؟ جمهور العلماء على أن المراد في الآية النساء الحوامل سواء كن مطلقات أو متوفى عنهن الأزواج؛ لأن الله قال: {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4]. بينما ذهب فريق من أهل العلم إلى أن أولات الأحمال هنا المراد بهن المطلقات، أما المتوفى عنها زوجها فتعدد بأبعد الأجلين، وما المراد بقولهم: أبعد الأجلين؟ مرادهم أن المتوفى عنها زوجها وهي حامل ورد فيها نصان: النص الأول قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة:234] فهذا في المتوفى عنها زوجها بصفة عامة حاملاً كانت أو حائضاً، وهذه الآية تفيد أن الحامل أجلها أنت تضع الحمل. فلدينا امرأة حامل مات عنها زوجها، تعتد بأربعة أشهر وعشراً؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة:234]، أم أنها تعتد بوضع الحمل؟ أما القول بأقرب الأجلين فهذا القول خطأ، لأن هذا القول مقتضاه أنها إذا كانت حاملاً الآن في الشهر الأول فمر عليها أربعة أشهر وعشر وهي ما زالت في السادس يحل لها على هذا القول أن تتزوج. وهذا لا يجوز بحال، فإن الرجل الجديد سيسقي ماءه زرع غيره، فلا يحل هذا بحال وهو من أكبر الكبائر، قال النبي عليه الصلاة والسلام لما رأى امرأة مجح على باب فسطاط فقال: (ما شأنها؟ لعله يريد أن يلم بها؛ لقد هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه قبره) أو كما قال عليه الصلاة والسلام. كذلك إذا وضعت، إذا قلنا: إن المرأة الآن حامل ووضعت بعد يوم واحد من وفاة زوجها، وقلنا لها: قد حللت، ألا يعكر علينا قول الله جل ذكره: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة:234] فلهذا التعكير قال ابن عباس أو علي رضي الله عنهما: تعتد بأبعد الأجلين، يعني: إن وضعت أولاً ولم يكن قد مضى عليها أربعة أشهر وعشر فإنها تنتظر حتى تمر عليها أربعة أشهر وعشر، وإن مضت أربعة أشهر وعشر ولم تضع فإنها تنتظر حتى تضع، كرأي علي أو ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. لكن قد ورد من السنة ما يخالف هذا الرأي، ويبين أن أولات الأحمال مطلقات أو متوفى عنهن الأزواج -بصفة عامة- أجلهن أن يضعن حملهن، وذلك في قصة سبيعة الأسلمية: (فقد توفي عنها زوجها وهي حامل فما لبثت أن وضعت حملها، فجاء أبو السنابل بن بعكك فقال لها: ما لي أراك متجملة للخطاب، والله إنك لا تحلين حتى تمر أربعة أشهر وعشر، فحملت عليها ثيابها وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! زعم أبو السنابل بن بعكك أني لا أحل للخطاب إلا بعد مضي الأربعة أشهر وعشر. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد حللت حين وضعت حملك). فهذا من السنة يفيد أن المتوفى عنهن الأزواج وهن حوامل أجلهن بوضع الحمل. قال تعالى: {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4]. إذا حدث سقط فهل هو بمثابة وضع الحمل؟ قال بذلك فريق من أهل العلم، خاصة إن كان هذا السقط قد تخلق، أي: مرت عليه أربعة أشهر التي هي مائة وعشرون يوماً التي ينفخ فيها الروح: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة) الحديث. ثم قال الله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق:4] فالآيات تفيد فضيلة تقوى الله، وانظر إلى ما ورد من فوائد التقوى في الآيات: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3]، {يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق:4] فالتقوى مناط خير كثير، ذكر هذه الآيات كلها في الطلاق لأن الغالب في المطلقين أنهم لا يتقون الله، حتى الملتحين الذين يصفون أنفسهم بأهل السنة، هم في الطلاق لا يتورعون، وينسون كل فضل كان بينهم، تجد أخاً ملتحياً ولا يخاف الله فيمن كانت يوماً زوجة له فيهينها، وهي الأخرى تشرده وتشنع عليه -والعياذ بالله- حتى هؤلاء كل يطعن في الآخر، فضلاً عن عامة المسلمين الذين يوشك أحدهم أن يذبح مطلقته، والله يقول: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق:4]. والمرأة هي الأخرى قد تبادر وتقول: مرت علي ثلاث حيض ولا تكون قد مرت، فتكذب، وهذا شيء بينها وبين ربها سبحانه وتعالى: {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ} [الطلاق:5] {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} [الطلاق:5]، هذا أيضاً في بيان فائدة تقوى الله سبحانه وتعالى.

حقوق المرأة وطفلها بعد الطلاق

حقوق المرأة وطفلها بعد الطلاق قال تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق:6] أي: على قدر سعتكم. ثم قال: {وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ} [الطلاق:6] أي: إن كن حوامل {فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق:6] أي: أجر الرضاع إن هي أرضعت لك ولدك. فالذي يطلق امرأته ويتركها تنفق على أولادها وتسعى وتكد من أجلهم آثم؛ فإن الرضاع الذي هو بثدي المرأة واللبن الذي هو من ثديها تؤتى عليه أجراً إذا أرضعت للزوج. قال تعالى: {وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق:6] {وَأْتَمِرُوا} من المؤتمر، أي: تشاور أيها الزوج مع هذه الزوجة التي طلقت منك في شأن الولد الصغير بالمعروف، وابحث أيها الزوج مع هذه الزوجة عن الصالح لهذا الولد، {وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق:6] فهل يفعل ذلك الناس الآن؟ هل يقول: يا أم فلان! تعالي نتفاهم؟ ما هو الأنفع لهذا الولد؟ وما هو الأصلح له؟ لا يحدث هذا في كثير من الأحيان، بل يبتعد الولد عن أبيه وهو يحاول الإضرار بها ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ} [الطلاق:6] يعني: لم تتفقوا على شيء، وكنت أيها الزوج معسراً بإعطاء الأجر للأم المرضعة {فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق:6] وإن أتى بامرأة أخرى لترضع فهي على حسابه إلا إذا كانت متطوعة. هناك نساء يطلقن بعد وضعهن مباشرة، فهل هؤلاء النساء اللاتي يطلقن بعد الوضع مباشرة ويردن الزواج، هل هن ملومات؟ وهل عليهن تثريب؟ وما قد حدث في هذه البلدة من أن امرأة مات عنها زوجها، وبمجرد انقضاء العدة مباشرة تزوجت، فالناس من أهل البلدة لاموها لوماً شديداً، والأمر أوسع من ذلك، فهي إنما فعلت شيئاً مباحاً لها خشية الوقوع في الحرام، لأن سبيعة الأسلمية لما وضعت ثم اكتحلت وتجملت ما عاب ذلك عليها النبي صلى الله عليه وسلم، والأمر واسع بين المسلمين. أما العادات فإن لم تخالف شرعاً فلا بأس، لكن هذه يقال: الأفضل لها كذا، والأفضل لها كذا هناك مصالح عامة ومصالح خاصة، وكل حال له ما يقتضيه. قال الله تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق:7] أي: على قدر السعة التي لديه، {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق:7] أي: ضيق عليه في الرزق، {فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7] فالآية فيها رفع الحرج عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم. ولقلة الذمم في هذا الزمان أقيمت المحاكم لفض النزاعات، وألزمت الدولة الزوج بنفقة معينة على قدر راتبه أو دخله، فأنت تقول هذا صحيح ويعد من المصالح المرسلة؟ فإذا قلنا للزوج: ادفع ما يجب عليك. قال: هذه عشرة. فلقلة الذمم وخرابها رأت المحاكم أن تقدر دخل الزوج، والقاضي يتحرى في ذلك؛ فيرسل المخبرين وترسل النيابات المخبرين والمباحث للبحث عن حال الزوج، وعن مصادر دخل هذا الزوج؛ ومن ثمََّ يقدرون النفقة. ثم بيّن ربنا سبحانه التحذير لمن يخالفون أمره في الطلاق وغيره {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ} [الطلاق:8] أي: وكم من قرية، {عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ} [الطلاق:8] في الطلاق وغيره؛ فالآية جاءت عقب آيات الطلاق {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا} [الطلاق:8]. {فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا} [الطلاق:9] أي: عاقبة تكذيبها. {وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} [الطلاق:9 - 10] وهذه الآيات ذيلت بها آيات الطلاق كما ذيلت آيات المواريث، في قوله: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء:14]، وهنا {فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ} [الطلاق:9 - 10] أي: يا أصحاب العقول! اعتبروا وقفوا عند حدود الله في مسائل النكاح، والطلاق، وعموم الشرع. فهذه القرى قد أهلكت {فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا * اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق:9 - 12] فلا تخفى عليه تصرفاتكم، ولا يخفى عليه أمركم، ولا شيء من شئونكم. والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

حفظ اللسان

حفظ اللسان اللسان شأنه عظيم وخطره جسيم، فهو سلاح ذو حدين، فقد يستخدمه العبد في الطعن وانتهاك الحرمات والخوض في الأعراض فيكون سبباً لهلاكه وتعاسته، وقد يستخدمه العبد في قراءة القرآن وذكر الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيكون سبباً لنجاته وسعادته.

اعتقاد العباد عبودية الله

اعتقاد العباد عبودية الله بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. وبعد: فإن مما يفارق به المسلمون غيرهم من أهل الملل والأديان أن أهل الإسلام يعتقدون اعتقاداً جازماً أنهم عبيد لله سبحانه وتعالى بكل معاني العبودية، فهم عبيد لله سبحانه وتعالى عبودية كونية قدرية، تجري عليهم أقدار الله سبحانه وتعالى وتنفذ فيهم، وكذلك هم عبيد لله سبحانه وتعالى عبادة شرعية دينية، فهم ممتثلون لكل ما أمرهم الله سبحانه وتعالى به، ومنتهون عما نهاهم الله سبحانه وتعالى عنه، فأهل الإسلام يفارقون غيرهم في هذا، فهم لا يعتقدون ما يعتقده غيرهم، فهم عبيد لله سبحانه وتعالى في كل شيء، وأئمتهم من الأنبياء وأهل الفضل والصلاح يوصفون ويوسمون بهذه العبودية، فيقول الله سبحانه وتعالى عنهم: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ} [ص:45] فوصفهم الله بأنهم عبيد له. وكذلك يقول الله سبحانه عن عيسى عليه الصلاة والسلام: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الزخرف:59]، ويقول الله عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} [الإسراء:1]، ويقول سبحانه عنه كذلك: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن:19]، ويقول سبحانه كذلك: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23]. فالمسلمون كلهم عبيد لله، عبيد لله عبودية كونية قدرية، وعبودية شرعية دينية، وليسوا بأحرار في أي شيء، بل هم مقيدون في كل شيء بما أمرهم الله به وبما نهاهم الله سبحانه وتعالى عنه، ومن ثم تظافرت الآيات لإثبات ذلك، قال الله سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، ونقول أهل الإيمان في صلواتهم: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، فليس لنا أن نخرج أبداً عن هدي ربنا لنا، ولا عن هدي نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم لنا، بل نحن لله عبيد في كل شيء.

نصوص تبين خطورة اللسان

نصوص تبين خطورة اللسان كل جوارحنا معبدة لله سبحانه وتعالى، وليس عندنا في الإسلام ما يطلقون عليه حرية الكلمة، بل هو اصطلاح محدث باطل، فليس لنا في الإسلام حرية الكلمة، فكلماتنا في الإسلام مقيدة، فلا تتكلم كما تشاء وتهوى، بل لك شرع تُضبط به، بل ليس لك في الإسلام أن تفكر كما تريد؛ فإن الله سبحانه وتعالى ضبط لنا جوارحنا حتى قلوبنا، قال سبحانه: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36]، وقال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12]، فنحن مقيدون في كل شيء، وعبيد لله سبحانه وتعالى في كل شيء. فألسنتا معبدة لله سبحانه، لا يترك لها الزمام والعنان تصول وتجول كيف شاءت، وحديثنا في يومنا هذا عنها؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم حذرنا أشد التحذير من ألسنتنا، وقد جاءت نصوص كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تضبط لنا الألسن، قال الله جل ذكره: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:1 - 3]، فليس لك أن تلغو وتتكلم كما تشاء. ووصف الله أهل الإيمان بقوله: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان:72]، وقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)، وقال النبي عليه الصلاة والسلام كذلك: (من صمت نجا)، وقال: (إن الله كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال)، وقال ربنا جل ذكره: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:114]. فهذه نصوص تذم كثرة الكلام، فليس لك تحت شعار حرية الكلمة أن تكثر من الكلام، بل الكثرة من الكلام مذمومة لهذه النصوص، ثم إن الكلمات مسطرة مسجلة، قال سبحانه: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18]، وقال الحسن البصري في تفسيرها: (حتى قول الرجل لامرأته أو لفتاته وجاريته: ناوليني الطعام ما بال الطعام نقص فيه الملح، ناوليني الشراب، فكل هذا يسطر في الصحائف)، وقال سبحانه: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49]، وقال سبحانه: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} [القمر:52 - 53]، وقال سبحانه: {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة:6]، وقال سبحانه: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:29]، وقال سبحانه: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8]، فالكل يسطر، والكل يسجل، والكل يثبت. ثم إن من الكلمات كلمات تردي صاحبها في جهنم -والعياذ بالله- وهو لا يشعر، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله عز وجل لا يظن أنها تبلغ ما بلغت يرفعه الله بها درجات، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله عز وجل لا يظن أنها تبلغ ما بلغت يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب)، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه -أي: لسانه وفرجه- أضمن له الجنة)، وقال عليه الصلاة والسلام: (وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم)، وقال صلوات الله وسلامه عليه لـ عائشة لما تكلمت بكلمة في شأن صفية بنت حيي رضي الله عنها مشيرة بيدها إلى قصرها:: (لقد قلتِ كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته). فكثير من الكلمات تردي صاحبها في جهنم وهو لا يشعر، وكثير من الكلمات تحبط أعمال قائلها وهو لا يشعر، إذ يكون الرجل مصلياً صائماً ذاكراً لله كثيراً فيتكلم بكلمات تذهب بثواب الصلاة وبثواب الصيام وبثواب الذكر، خاصة تلك الكلمات التي فيها اعتراض على الشرع، وتلك الكلمات التي فيها تجريح للأشخاص وخوض في أعراضهم، فهي كلمات لا تدمر من قيلت في حقه فحسب، بل تدمر القائل كذلك، وتدميرها للقائل أشد من تدميرها لمن قيلت فيه. فإن رب العزة سبحانه يقول في كتابه: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [النور:26]، ومطلع هذه الآيات قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [النور:23 - 25] ثم جاء قوله تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} [النور:26]، ومعنى (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ) على رأي جمهور المفسرين: أن الكلمات الخبيثة تصدر من الأشخاص الخبيثين، والكلمات الطيبة تصدر من الأشخاص الطيبين، فالطيبون لا يصدر منهم إلا كل طيب، ولا يصدر منهم الشر، والخبيثون يصدر منهم التجريح، ويصدر منهم التشهير، وتصدر منهم الفضائح، فهم بها أولى وهي بهم أليق. فالمسلم عليه أن يحفظ لسانه فيما يتعلق بأعراض المسلمين، وقد ثبت في نصوص عدة عن النبي الأمين محمد عليه الصلاة والسلام ما حاصله وفحواه أنه يجب على المسلم وجوباً أن يستر أخاه المسلم، إلا فيما دعت الضرورة إليه، كاستفتاء أو استنصاح، لكن ما سوى ذلك يجب على المسلم أن يستر أخاه المسلم، فإن هو فعل ذلك ستره الله في الدنيا والآخرة، وإن هو لم يفعل تتبعه الله حتى يفضحه في قعر بيته، قال النبي صلوات الله وسلامه عليه: (من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة)، وفي الحديث الآخر: (ومن تتبع عوراتهم تتبع الله عورته حتى يفضحه في قعر بيته)، أو كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقواعد الشرع لذلك شاهدة، وهي تشهد لشيء ألا وهو أن الجزاء من جنس العمل، فمن ستر المسلمين ستره الله، ومن فضح المسلمين تتبع الله عورته حتى يفضح.

الإعراض عن كثرة الكلام والاشتغال بالذكر

الإعراض عن كثرة الكلام والاشتغال بالذكر لذلك جدير بكل مسلم وحري بكل مسلم أن يمسك لسانه؛ فإن كثرة الكلام تجلب سخط الرب عليه، إذا كان فيه تعلق بالأعراض وانتهاك للحرمات. وكثرة الكلام وكثرة الخوض شأن الثرثارين الذين سقطت هيبتهم وذهب وقارهم، فالثرثار الذي يتكلم كثيراً ساقط الهيبة ذاهب الوقار، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (وإن من أبغضكم إليَّ الثرثارون المتشدقون المتفيقهون)، والثرثار: هو كثير الكلام، كما فسره جمهور العلماء. فيا عبد الله لا تتكلم كثيراً، ولا تخض في الأعراض، فاللغو مسطر عليك في صحائفك، مسود لتلك الصحائف، فلا تكثر الكلام بغير ذكر الله، وانظر إلى حال أهل الفضل وحال أهل الصلاح شُغلوا بالذكر عن قيل وقال، وشُغلوا بالذكر عن الخوض في الأعراض، فلا يصدر منهم إلا كل طيب، فيغنمون الغنائم بذلك، كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (الكلمة الطيبة صدقة)، فشُغلوا بالقول الطيب لما علموا أنه يصعد إلى الله فتفتح له أبواب السماء، كما قال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10]، فالكلم الطيب يصعد إلى ربنا سبحانه، والله سبحانه يرفع العمل الصالح إليه. فجدير بك -يا عبد الله- أن تطيب لسانك دائماً بذكر الله وبطيب الكلام، وقد رأينا أقواماً يفترض فيهم الصلاح تركوا ذكر الله، وتركوا تلاوة القرآن، فاتجهوا إلى الخوض في الأعراض وأنساهم الشيطان ذكر الله لما شُغلوا بتتبع عيوب الناس والوقوف على عوراتهم، وقد قال الله سبحانه في شأن أهل الكفر الذين اقتبس كثير من المسلمين منهم بعض الأخلاق الرذيلة: {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ} [المؤمنون:110]، فلما اتخذ قوم آخرين سخرياً أنسوهم ذكر الله، وحينئذٍ شغلوا بعيوب الناس عن عيوب أنفسهم، كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (يبصر أحدكم القذى في عين أخيه وينسى الجذع في عينه)، فنسي أقوام تهذيب أنفسهم، ونسي أقوام تلاوة كتاب ربهم، ونسي أقوام ذكر الله، فأوقعهم الشيطان في حبائله، وأوقعهم في القيل والقال، وفي انتهاك الأعراض، وفي تتبع العورات والعياذ بالله. فجدير بنا -معشر المسلمين- أن نقف مع أمر الله لنا، وأمر حبيبنا محمد عليه الصلاة والسلام لنا، ولننشغل بالذكر، ولننشغل بالأمر بالمعروف وبالنهي عن المنكر كما علمنا إياه رسولنا محمد عليه أفضل صلاة وأتم سلام، ولننشغل بذلك عن تتبع العورات وعن فضائح المسلمين، فرطب اللسان بذكر الله حتى تبيض صحائفك يوم القيامة فترتفع درجاتك، وهذا هو فيصل ما بين أهل الإسلام ومن أطلق عليهم الديمقراطيون، وهم الكذابون البعيدون عن الإسلام، فنحن في الإسلام ليس لنا الخيار، إنما نحن في الإسلام عبيد لله، لا نخوض بالألسن كما نحب، ولا نتطاول بالألسن كما نشتهي، بل لنا دين ولنا شرع يوجهنا، ولنا نبي يعلمنا ويأمرنا وينهانا، فلا يسعنا أبداً بحال من الأحوال الخروج عن هذا الدين إلا -عياذاً بالله- إذا كفر شخص، نسأل الله الثبات حتى الممات.

الأثر الناتج عن استشعار العبد رقابة الله

الأثر الناتج عن استشعار العبد رقابة الله يجب علينا -معشر الإخوان- أن نقف مع أنفسنا ونسألها: ما هو الحامل لنا على الخوض بألسنتنا فيما لا يعنينا؛ فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع)، ولنسأل أنفسنا كذلك: هل نحن من أهل الامتثال بتعليم نبينا ابن عمه الحبر الكريم عبد الله بن عباس حين علمه فقال له: (احرص على ما ينفعك)؟ وهل نحن نحرص دائماً على ما ينفعنا؟ وهل حرصنا على النافع، أم حرصنا على التمزيق وتشتيت الأعراض وانتهاك الحرمات؟ فكلٌ منا عليه أن يقف ويسأل نفسه: ما هو الحامل لي على إطلاق العنان للسان بالكلام؟ إذ قد رأينا في كتاب الله أن الرقابة علينا شديدة، ولكن من ينسى مراقبة الله له لابد أن يقع في الزيغ والضلال، ومن يقل يقينه ويضعف إيمانه برقابة الله سبحانه وتعالى عليه تشرد منه الشوارد، وتخرج منه الأوابد والمهلكات، ففي كتاب ربنا تختم مئات من الآيات -بل إن شئت قلت الآلاف- بمراقبة الله لك. كقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) فهذه الفقرة ختمت بها عشرات الآيات، فالله سميع يسمع كلامك، ويرى مقامك، وقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) فيه أن الله يعلم أقوالك خبير بأفعالك، وقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) فيه نفس المعنى، وفي قوله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة:158] ما يفيد أن الله يعلم أحوالك، وفي قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة:7] ما يدل على هذا المعنى، وفي قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} [المجادلة:1] وهي تسر بالحديث إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، ما يشعرك بأن الله سبحانه يسمع كلامك، ويرى مقامك، ويطلع على ما في نفسك، وقال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36]، والسؤال عنه يتأتى يقيناً بعد معرفته، والفؤاد: هو القلب. فالله سبحانه وتعالى يعلم ما فيه القلوب، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. ولو قرأت سورة واحدة من كتاب الله لظهرت لك فيها مئات من المعاني كلها تدل على إحكام مراقبة الله سبحانه وتعالى عليك، فهو رقيب عليك، وهو حسيب عليك، فهو رقيب حسيب سبحانه وتعالى، فما بالك تطلق للسان الفنان في الكلام، وما بالك تطلق للقلب الوساوس والشكوك والظنون، فالله سبحانه عنده السر كالعلن، فعنده سبحانه السر الذي في قلبك كالعلن البادي من لسانك، فكله عند الله سواء، {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، فإذا كان ذلك كذلك فاترك ما لا نفع فيه لك، واترك الخوض في الأعراض، واترك التشهير بالمسلمين، وأمسك عليك لسانك، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

آثار فضول الخلطة والمجالسة

آثار فضول الخلطة والمجالسة لا تكثر من المجالسة مع الناس؛ فإن فضول المجالسات من ورائها الشرور، وطول المجالسات مع الناس حتى مع الزوجات والأولاد يجرك إلى الإثم، ويجرك إلى القيل والقال، ألا ترى إلى الصحابي الكريم حنظلة لما خرج ذات يوم يشكو أمره إلى رسول الله، فقد خرج من البيت منكراً لقلبه لا يرضى عن حال قلبه، فلقيه أبو بكر فقال: إلى أين يا حنظلة؟ قال معترفاً ومقراً بذنبه: نافق حنظلة قال له: ولم ذاك؟ قال: يا أبا بكر: نكون عند رسول الله عليه الصلاة والسلام فيحدثنا عن الجنة والنار كأنها رأي عين، فإذا خرجنا ورجعنا إلى بيوتنا عافسنا الأزواج، وعافسنا الضيعات والأولاد، فنسينا كثيراً مما ذُكرنا به. فقال أبو بكر: وأنا والذي نفسي بيده، فانطلقا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده لو تدومون على ما أنتم عليه عندي من الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن -يا حنظلة - ساعة وساعة) فيا ليتنا وقفنا مع حديث رسولنا ساعة وساعة، ولكننا أضعنا الساعات كلها مع الأهل والأصدقاء والخلان والأقارب، ولم نترك ساعة نخلو فيها بربنا نعترف له بذنوبنا، ونرجع إليه من معصية اقترفناها. فيا عبد الله: فضول المجالسة وفضول المخالطة تجلب لك هموماً، وتجلب لقلبك قسوة، فلا تضييع كل وقتك مع الناس في المجالسات، بل عليك أن تخلو بربك أحياناً طويلة، فهذا شأن الأنبياء وأهل الفضل والصلاح، وكل كان يفعل ذلك، كل كان يتفرغ ويفرغ شيئاً من وقته لمناجاة ربه ولمراجعة ذنبه، فالخليل إبراهيم اعتزل قومه اعتزالاً، ومريم انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً، ورسولنا محمد حُبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء يتحنث فيه، وفي حديث رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام: (ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه). ألا فلتخلون بنفسك مع ربك، واذكر قول القائل: إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل عليَّ رقيب ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفي عليه يغيب فاخل بربك، واستغفر ربك إنه كان غفاراً، ودعك من كثرة المجالسات مع الناس، وجالس الكتاب العزيز، وجالس سنة النبي محمد عليه الصلاة والسلام، فقد تندم كثيراً على كلمة تكلمت بها مع البشر، ولكنك يقيناً لن تندم إذا تلوت آية من كتاب الله، ولن تندم إذا قرأت حديثاً لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ألا فاغنموا السلامة يا عباد الله، واسألوا ربكم أن يهديكم لأحسن الأخلاق.

حق الجار

حق الجار حثنا الله سبحانه على كل ما فيه خيرنا وصلاح أمرنا في ديننا ودنيانا وآخرتنا، ومما وصانا الله به: أن نحسن إلى الجيران سواء أكانوا من الأقارب، أو من عامة المسلمين، أو من غير المسلمين، وقد استمرت الوصية بالجار من جبريل عليه السلام لنبي الله صلوات الله وسلامه عليه حتى ظن أنه سيورثه، وما ذاك إلا لعظم حق الجار في الإسلام.

تعظيم الشرع لحق الجار

تعظيم الشرع لحق الجار باسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: فمن الحقوق التي ضيعت -يا عباد الله- حق الجار، فحق الجار قد ضاع عند كثير من الناس؛ بل عند كثير ممن يرتدون ثياب الصلاح، ضاعت عندهم حقوق الجار، ولا يخفى على هؤلاء أن رب العزة أوصى بالجار، وأوصى جبريل بالجار، وأوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجار، قال الله سبحانه: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى} [النساء:36] أي: الجار القريب، {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النساء:36] أي: الجار الذي لا تربطك به قرابة، أي: أحسنوا -يا عباد الله- إلى الجار ذي القربى، وإلى الجار الجنب الذي ليس بقريب، أحسنوا إليهما معاً، وقال الرسول عليه الصلاة والسلام مبيناً وصية جبريل بالجار: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) أي: سيكتب له نصيباً من الميراث كنصيب الأم، أو نصيب الأخ، أو نصيب الأخت، أو غير ذلك. وقال عليه الصلاة والسلام حاثاً للأمة على ذلك: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره)، وفي رواية: (فليكرم جاره)، وقال عليه الصلاة والسلام: (لا يمنعنّ جار جاره أن يغرز خشبة في جداره) هكذا علمنا رسول الله. وحذر النبي أشد التحذير من خيانة الجار، وعدم الإحسان إليه، قال عليه الصلاة والسلام: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن) يقسم النبي ثلاثة أيمان بالله أنه لا يؤمن، (قيل: من يا رسول الله؟)، من هو هذا الذي أقسمت ثلاثة أيمان أنه لا يؤمن؟ قال: (من لا يأمن جاره بوائقه). وعدَّ النبي عليه الصلاة والسلام خيانة الجار في أهله من أكبر الذنب، ومن أعظم الذنب، سئل النبي عليه الصلاة والسلام: (أي الذنب أعظم يا رسول الله؟! قال: الإشراك بالله، قيل: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قيل: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك)، فخيانتك للجار في أهله من أعظم الذنب، وترصدك وتجسسك على جارك من أكبر الحرمات.

الجار القريب أعظم حقا من البعيد

الجار القريب أعظم حقاً من البعيد يا عبد الله! اتق الله في جارك، خاصة إذا كان جاراً تربطك به قرابة، شخص يسكن في بيت فيه أمه وأبوه، يدخل البيت إلى أولاده ومعه الفاكهة، معه العنب، معه اللحم، معه أنواع الفاكهة، ولا يجعل عند نفسه بعض الدم، ولا جزءاً من الحياء، فيمر بأمه ولا يعطيها شيئاً من الطعام، ولا شيئاً من الشراب، أي جفاء أشد من هذا الجفاء؟! وأي غلظة أشد من تلك الغلظة؟! قطيعة للوالدين، وعدم إحسان للوالدين، وعدم إحسان للجيران. أمك وأبوك اللذان أفنيا عمرهما لراحتك، وسهرا على مرضك وعلى بكائك، وكانت أمك تمسح الأوساخ عنك، وحينما تشب وتكبر وتتزوج تؤثر زوجتك عليها! تأتي بالطعام لزوجتك وتخفيه عن أمك! ولا تستحي من الله! تخفيه تحت الثوب! وتسرع في الصعود إلى زوجتك! وأمك العجوز الكبيرة محرومة ليس لها بعد الله إلا أنت، وتفعل معها هكذا! أنى يبارك لمثلك إذا كنت على هذه الحال من الدناءة والطمع والجشع والأنانية! ماذا ستستفيد إذا أكلت عنقودين من العنب؟! كل واحداً وأعطِ أمك واحداً، قد يمرضك هذا الثاني إذا أدخلته بطنك، قد يسبب لك المغص والتلوي، فتصدق عن نفسك بجزء لوالديك، أو لوالدك أو لوالدتك، فلا تكن جلفاً جافياً غليظا ًيا عبد الله! فإذا كان الجار من ذوي القربى؛ فحقه من أعظم الحقوق، لاسيما إذا كان الجار والداً أو والدة، وكيف تطيب لك نفس أن تجلس أنت وزوجتك تضحكون وأنتم تأكلون، وأمك المسكينة وأبوك -الذي هو على حافة القبر وعلى شفير الموت- يجلس حزيناً لرؤيته أنك صعدت إلى أولادك وتركته، ويجلس حزيناً عندما يراك تتخفى وتستتر وتطلع مسرعاً على السلم حتى لا يراك؟! يا عبد الله! اتق الله في نفسك، راقب الله، فالرب قادر على أن يقنع أبويك، وقادر على سحب النعمة منك، وإبدالها عذاباً عليك، فاتق الله في جيرانك، ولا تؤذ جيرانك، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يا نساء المسلمات! لا تحقرن جارة جارتها، ولو فِرْسِنَ شاة) أي: ولو حافر شاة وهو ما بين ركبة الشاة إلى الحافة، وهو من البقر بمنزلة الكوارع، فلا تحقرن جارة جارتها ولو أن تهدي لها مثل هذه الهدية الحقيرة.

الحذر من الزوجة إذا صدت زوجها عن الإحسان إلى الأقارب والجيران

الحذر من الزوجة إذا صدت زوجها عن الإحسان إلى الأقارب والجيران لا تغلبنك زوجتك إذاً -أيها العبد- وتحثك على العقوق، ولا تعلمنك الزوجة البخل على الوالدين، وعلى الجيران، وعلى الأرحام، فأنت القوّام على البيت، والمرأة ناقصة عقل ودين، فلا تكن تلك ناقصة العقل والدين تغلبنك على الخير، وتصدنك عن الخير، ولا يهمها منك إلا بطنها وفرجها، هذه المرأة التي على هذه الشاكلة من الطمع والجشع والأنانية لا ينبغي أن تغلب رجلاً حليماً على جيرانه وعلى بنيه، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا طبخ أحدكم لحماً فليكثر المرق وليتعاهد الجيران) فأكثر المرق وتعاهد الجيران، وماذا يمنعك أن تأتي يوماً باثنين كيلو فاكهة، وتمر على بيت الجيران، أو على شقة الجيران، وتقول: خذ يا ولد يا محمد! أو يا ولد يا إبراهيم! أو يا بنت يا فلانة من الأطفال، خذي هذا، تضحك وتقسم عليها أن تأخذه، ماذا يضرك؟ هذا في الدنيا سيدفع عنك شروراً، وعلى الأقل شرور الجار الذي يتربص بك، فإذا وجد منك الجار هذا الكرم، فماذا عساه أن يفعل معك؟ هل تظن أن جارك سيجدك كريماً ويؤذيك؟! لا أظن ذلك في الغالب إلا من غلب عليه الشقاء والعياذ بالله، فالشأن أن الإحسان يجازى بالإحسان.

حرمة إيذاء الجار

حرمة إيذاء الجار ولا ينبغي لك في البيت أن تؤذي الجار فتأتي بمذياع أو مسجل يبث الفسق والدعارة؛ فتؤذي به الجار ليلاً ونهاراً، وأنت الآخر لا يليق بك أن تشكو جارك إلى الشرطة الذين لا يرقبون فيه إلّاً ولا ذمة، وتنتهز أي خطأ، وتشكوه إلى الشرطة. والجيرة لا تقتصر على البيوت، بل في المسجد، فلا ينبغي لك أن تؤذي جارك ولو برفع صوتك بالقرآن، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (كلكم مناجٍ ربه، فلا يجهر بعضكم على بعض بالقراءة)، وهذا في المسجد الذي هو بيت الله، والعبادة التي تتقرب بها إلى الله لا ينبغي أن تؤذي بها الجار في المسجد، إذا جلست في المسجد وأخوك يقرأ القرآن، فاخفض صوتك وليخفض صوته؛ حتى لا تشوش عليه، ولا تأت إلى المسجد وأنت آكل للثوم أو البصل فتؤذي جيرانك، ولا تأتِ إلى الجار في السيارة وتدخن السيجارة فتؤذيه، فأنت إذا آذيته تأثم، فلا تشرب السيجارة؛ فتضر نفسك وتضر جليسك الذي بجوارك. ولا تؤذ مؤمناً في العمل، ففي الأعمال أحقاد بين أهل الوظائف مع أنهم جيران، فالعامل الموظف معك في الوظيفة جار لك، فكونك تذهب إلى رئيسك في العمل، فتشي به وتكيد له؛ حتى تترقى وتأخذ درجة أعلى ما هذه الدرجة؟ ماذا عساك أن تفعل إذا غمست في دركات النار؟ ماذا عساها أن تفعل لك الدرجة الثالثة أو الدرجة الرابعة أو الخامسة وأنت داخل القبر؟ لن تنفعك الإدارة، ولن تنفعك الدرجات، ولن ينفعك الرياء داخل القبر، ولن ينفعك فيه منصبك ولا جاهك. فاتق الله في جارك في الوظيفة، وفي جارك في السفر، وفي جارك في البيت، وفي جارك في العمل، فتلك وصية نبيكم محمد عليه الصلاة والسلام، بل تلك وصية الله لنا في آية الوصايا العشر: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء:36]، إلى قوله {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النساء:36]. إخوة أفاضل ملتحون يخرج أحدهم من بيته إلى المسجد لعبادة الله، يمر على جاره ولا يلقي عليه السلام، فتخاطبه فيقول: يا هذا! اتركهم، إنهم كذا وكذا، ويختلق مائة عيب؛ حتى يبرر لنفسه ما ذهب إليه من مذهب، والعياذ بالله!

حق الجار الكافر

حق الجار الكافر والجار وإن كان كافراً فله حق، قال القرطبي وغيره من أهل العلم رحمهم الله: أطلقت الآيات وأطلقت الأحاديث الجار ولم تقيده، قال تعالى: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النساء:36] ولم يُذكر الجار المسلم فقط، فعمت الآية ولم تخص، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما زال جبريل يوصيني بالجار)، فعمّ ولم يخص، لم يخص جاراً مسلماً من جار كافر، فللجار حق فأده إليه، سلم عليه، عده إذا مرض، اسأل عنه إذا غاب، هكذا كان رسولنا عليه الصلاة والسلام يفعل.

الضرائر جارات

الضرائر جارات والجيرة أيضاً تنسحب على الضرائر من الأزواج، فهن جارات، قال عمر لـ حفصة: ولا يغرنك إن كانت جارتك -يريد عائشة - هي أضوأ منك وأحبُّ إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام منك. فالجيرة عامة، وليست بخاصة، فراقب الله فيها، فتلك أصول من أصول ديننا، تلك مراتب من الإيمان عالية، تلك منازل من أعمال البر راقية، فاحرص عليها يا عبد الله! لا تهتم فقط بسنن هي أدنى من هذه السنن، بل احرص على العمل بجميع السنن، احرص على العمل بكبير السنن وصغير السنن، وبكل الوارد عن رسول الله عليه الصلاة والسلام. سلوا ربكم أن يهديكم لأحسن الأخلاق؛ فلا يهدي لأحسنها إلا هو، وسلوه سبحانه أن يصرف عنكم سيئها؛ فلا يصرف عنا جميعاً سيئ الأخلاق إلا هو سبحانه وتعالى. اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق؛ لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها؛ لا يصرف عنا سيئها إلا أنت. اللهم اجعلنا من الكاظمين الغيظ، العافين عن الناس، أهل البر والإحسان، يا رب العالمين! واختم لنا بخير، واجعلنا مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً. اللهم اجعلنا من الذي جاءوا بالصدق وصدقوا به، واجعلنا من المتقين. وصلِّ اللهم وَسَلَّمَ وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

دروس وعبر من قصة يوسف

دروس وعبر من قصة يوسف إن الابتلاء من سنن الله التي لا تتبدل ولا تتغير، ويكون عظم الابتلاء على قدر عظم منزلة المبتلى عند الله، ومن القصص القرآني الوارد في الابتلاء قصة يوسف عليه السلام وما لقي من الظلم على يد إخوته في صباه، وما لقيه من السجن في شبابه بسبب كيد امرأة العزيز، وقد جاءت هذه القصة تسلية لنبينا صلوات الله وسلامه عليه وتثبيتاً له.

صبر المؤمن في الضراء وشكره في السراء

صبر المؤمن في الضراء وشكره في السراء إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [الأحزاب:70] * {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:71]. وبعد: فما زلنا مع سيرة نبي الله يوسف صلى الله عليه وسلم، نستمد منها الإيمان، والأدب، والحلم، والوقار صلوات الله عليه وسلامه وعلى نبينا محمد وعلى سائر الأنبياء والمرسلين أجمعين. فَسّر نبي الله يوسف للسجينين رؤياهما، ثم: {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف:42]، هكذا قدّر الله سبحانه وتعالى، وكما هو معلوم لدى أهل الإيمان أن قدر الله سبحانه وتعالى للمؤمنين خير إن هم رضوا بهذا القدر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، إن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وإن أصابته سراء فشكر فكان خيراً له)، فهذا حال المؤمن أمام النعم وأمام الابتلاءات، إن مرض حمد الله فأثيب، وإن رُزق حمد الله فأثيب كذلك، وهذا أمر المؤمن الذي يتعجب منه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. إن القضاء الشرعي الديني والقضاء الكوني القدري في كل منهما للمؤمن خير، وهو إن امتثل للقضاء الشرعي الديني بامتثال الأوامر التي أمر بها والانتهاء عن النواهي التي نهي عنها فله في ذلك خير، وإن جهلنا الحكمة التي وراءه. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً فجعل الفراش يقع فيها، وأنا آخذ بحجزكم أن تتساقطوا في النار)، أي: أننا لخفة عقولنا ولجهلنا بعواقب الأمور ومآلها كالفراش، فالفراش مشهور بالطيش وخفة العقل، يرى النار الموقدة يحسبها نوراً فيأتي إليها فيحترق، ونحن كذلك نرى الشهوات فإذا أقدمنا عليها وقعنا في جهنم والعياذ بالله! ونبينا يأخذ بحجزنا وأحزمتنا كي لا نتساقط فيها، ونحن نجادل ونفر من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نقع في هذه النار ونحن لا نشعر، فنظرنا قاصر. وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لما خلق الله الجنة قال لجبريل: يا جبريل! اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها، فقال: والله يا رب، لا يسمع بها أحد من الخلق إلا دخلها أو عمل لها، ثم حفها بالمكاره، فقال لجبريل: يا جبريل! فانظر إليها، فذهب ينظر إليها ثم رجع، فقال: يا رب، والله لا يسمع بها أحد -أي: بعد هذا- إلا فر منها، ولما خلق الله النار، قال لجبريل: اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر، فقال: والله لا يا رب! لا يسمع بها أحد إلا فر منها، ثم حفها بالشهوات، فقال: اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها، فقال: والله يا رب -بلفظ قريب- لقد خشيت أن يدخلوها جميعاً)، فالنار محفوفة بالشهوات، والنفس تواقة إلى هذه الشهوات، فإذا امتثلنا أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم الذي به أمرنا نجونا ولله الحمد وإن خفيت علينا العلل، وكذلك إذا رضينا بقدر الله الذي قدره علينا رغم أنوفنا فلله الحمد؛ نكون قد سلمنا وغنمنا وارتفعت درجتنا، ولكن هذا وذاك كلاهما مقيد بقيد طاعة الله ورسوله، أي: بأن نكون مطيعين لله مخلصين له الدين، فإن أصبنا بابتلاءات ونحن عصاة فهذه الابتلاءات تكون نقماً والعياذ بالله! الشاهد: أن الصديق يوسف صلى الله عليه وسلم أراد أمراً وأراد الله أمراً آخر. قال تعالى: {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف:42]، فالسجن بؤسه شديد والعياذ بالله! والسجن لا يتحمله إلا الصابرون؛ فقال: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف:42]، راجياً بذلك الخروج من السجن، ولكن لم يرد الله له ذلك في ذلك الوقت، {فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف:42]، هذا قضاء الله وقدره، وربنا ليس بغافل عن يوسف وعن الهم الذي أصيب به، ولا عن الكرب والنكد والهم الذي يعانيه يوسف عليه الصلاة والسلام. {فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف:42]، والأمور يدبرها ربنا، فهو الذي يدبر الأمر من السماء إلى الأرض، وله ملائكة يدبرون الأمر بإذنه، وقد اقترب الفرج وأراد الله ما أراد من إنجاء نبيه يوسف صلى الله عليه وسلم بعد أن نال من الحسنات ما نال بصبره على هذا البلاء الطويل في السجن من أجل عفته وطهارته ونقائه، فالهم الذي ينزل بالشخص يثاب عليه الشخص إن هو رضي بقضاء الله وقدره، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما يصيب المؤمن من هم ولا حزن حتى الشوكة يشاكها إلا حط الله بها من خطاياه كما تحط الشجرة ورقها)، في رواية: (حتى الهم يهمه)، فالهموم والأحزان لها ثواب إن صبرنا واحتسبنا.

تأويل يوسف لرؤيا الملك

تأويل يوسف لرؤيا الملك غنم يوسف عليه الصلاة والسلام من الحسنات ما غنم، ثم أراد الله نجاته، قال تعالى: {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف:43]، فالله سبحانه وتعالى أرى الملك هذه الرؤيا لحكمة، فالذي يدبر الأمر هو الله، وهذا يستفاد منه أن الفرج يأتي من حيث لا تحتسب، فإن رؤيا رآها شخص في منامه كانت سبباً في تفريج كرب شخص وهو لا يشعر. {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ} [يوسف:43]، سبع بقرات سمان وفي جوارها سبع بقرات ضعاف هزال نحاف، فإذا بالسبع الضعاف النحاف يأكلن السبع السمان، فهذا أمر على غير المعتاد، فالمفترض أن البقرة السمينة هي التي تعتدي على الضعيفة الهزيلة، ولكن الأمر على غير ذلك، فلفت نظر الملك ذلك، قال تعالى: {سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ}، قال بعض أهل اللغة، الأصل: أن السبع الآكلة هي التي تتقدم بالذكر: إني رأيت سبع بقرات هازلة تأكل سبعاً سمينة، لكن قدمت السبع السمان لعلة فهم منها ما فهم يوسف عليه الصلاة السلام. {إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ} [يوسف:43]: هذه رؤيا غريبة من الملك استحوذت على قلبه وعقله وكل فكره، وكونها تستحوذ على قلبه وعقله وكل فكره فهذا من الله، فقد نرى رؤيا وتمر مروراً عابراً، لكن هذه رؤيا عظمها ربنا سبحانه عظمها وعظم شأنها عند هذا الملك، فلم يهدأ للملك بالٌ ولم يستقر له حال حتى يقف على أمر هذه الرؤيا، فقال للملأ: (يا أيها الملأ) أي: يا أيها الأشراف يا رجال الدولة يا أيها السادة يا أهل الرأي والمشورة {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف:43]. فقالوا مقولة أهل الجهل، فالجاهل دائماً يتلقن تحت أي ستار. {قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ} [يوسف:44]، وكان من اللائق أن يقولوا: الله أعلم. وأن يكلوا العلم إلى الله سبحانه وتعالى، فلا يضربوا سريعاً بالغيب ويقولوا: أضغاث أحلام، وقد قال النبي صلوات الله وسلامه عليه: (الرؤيا على ثلاثة أنحاء: حديث للنفس، ورؤيا من الله، وحلم من الشيطان يخوف الله به أولياءه، أو تهاويل وتخاويف من الشياطين). قالوا أضغاث أحلام، أي: أغلاط، وليست من الرؤيا الحقة في شيء، فلا تقف عندها ولا تفكر فيها. {قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلامِ بِعَالِمِينَ * وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ} [يوسف:44 - 45]، أي: أنه تذكر يوسف صلى الله عليه وسلم إذ هو الذي فسر له الرؤيا التي فيها نجا. قال تعالى: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ} [يوسف:46] المفهوم من السياق: أنهم آكدوا له في الذهاب إلى يوسف، فدخل قائلاً مثنياً على يوسف عليه السلام: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ}: وفيه جواز الثناء على الأشخاص بما هو فيهم، إذا لم يكن يقطع الثناء أعناقهم. ((يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ)) أي: يا كثير الصدق، {أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} [يوسف:46]. فتكلم يوسف مفسراً الرؤيا مباشرة ولم يعاتب هذا السجين بقوله: لمَ لم تذكرني عند ربك؟ لأنه نبيٌ يعرف أن الأمور مقدرة، فلم يقف وقفات طويلة ينتقم بها من السجين، ولم يطلب أجراً لتعبير الرؤيا فهو نبيٌ كريم عليه الصلاة والسلام! ولم يطلب خروجاً من السجن أيضاً، وقال: أنا أذهب إلى الملك فأعبر الرؤيا أمامه بنفسي، كلا وحاشاه عليه الصلاة والسلام، ولم يدعه مرة ثانية إلى التوحيد بعد أن دعاه وفصل فيه من قبل، فهذه الدعوة حينئذٍ قد تكون بمقابل، فقد قدم من النصح ما فيه كفاية من قبل. {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا} أي: متتابعة متواصلة تثمر فيها أرضكم، ثم أرشدهم إلى العلاج بلا طلب منهم، قال لهم: {فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ} هذا ليس من تأويل الرؤيا، إنما هو علم زائدٌ أفادهم به يوسف صلى الله عليه وسلم. قوله: {فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ} [يوسف:47]، ليس من الرؤيا، إنما هو من التدبير والوقاية، فكما يقول أهل العلم وأهل الأصول: فيه جواز إجابة السائل بأكثر مما سأل إذا كان ينتفع بالجواب، وأخذ العلماء ذلك من مجيء فاطمة بنت قيس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، تستشيره فقالت: (يا رسول الله! إن معاوية وأبا جهم خطباني فأيهما أتزوج؟ قال عليه الصلاة والسلام: أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، ولكن انكحي أسامة بن زيد) وهناك أدلة متعددة على جواز إجابة السائل بأكثر مما سأل إذا كان فيه نفع للسائل وليس فيه ضرر على أحد. فقال يوسف: {تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا} [يوسف:47]، هذه هي السبع السنوات الخصاب التي هي السبع البقر السمان، {فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ} [يوسف:47]، أخذ العلماء من هذه الآية طريقة من طرق الادخار، وهي إبقاء الحب في السنبل ليبقى سنوات طويلة، فالحصاد يبقى سنوات متعددة إذا بقي الحب في السنبل. قال تعالى: {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ} [يوسف:47]، أي: اتركوه في سنبله ولا تحصدوه. قال تعالى: {إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ} أي: إلا على قدر الحاجة للطعام فقط، والباقي تبقون عليه في السنبل. قال تعالى: {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ} [يوسف:48]، وهن السبع العجاف، {يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ} أي: يأكلن المدخر كله. {إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ} [يوسف:48]، (مما تحصنون) أي: مما تدخرون للبذر في الأرض مرة ثانية. ثم أضافهم يوسف علماً ليس بالرؤيا، فقال: {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ} [يوسف:49]، فهذا لم يره الملك في رؤياه، وإنما رأى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف، ورأى سبع سنبلات خضر وآخر يابسات، ولم ير العام الذي فيه يغاث الناس، لكن فهم يوسف عليه السلام أن بعد السبع العجاف فرج ورخاء بما علمه الله، فقال: {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ} أي: يأتيهم الغيث واسعاً كثيراً، {وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} [يوسف:49]، لدرجة أن العنب يثمر ثمراً زائداً، ويبدأ الناس في عصره لصنع الخمر مرة ثانية، فكان الخمر مباحاً آنذاك، بل كان الخمر مباحاً في صدر الإسلام إلى أن نزل تحريم الخمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد امتن الله بذلك على هذه الأمة في صدر الإسلام، فقال: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل:67]، إلى أن نسخ هذا الحكم.

ظهور براءة يوسف عليه السلام

ظهور براءة يوسف عليه السلام قال تعالى: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [يوسف:50]، فطلبه الملك ولم يرد يوسف أن يخرج إلا بريئاً صلى الله عليه وسلم، وهذا فيه دليل على أن الإنسان يدفع الشبهات عن نفسه، ولا يعتقد أنه بدفع الشبهة أنه ناج، بل الذي ينجي هو الله: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38]، دفع الشبهات إنما هو من باب الأخذ بالأسباب فقط، وإلا فقد تثبت الشبهة عند دفعك لها، ولكن تعلمنا من نبينا عليه الصلاة والسلام أن ندفع الشبهات عن أنفسنا مع اعتقادنا أن البريء من برأه الله. فالنبي صلى الله عليه وسلم: (عندما مر به رجلان من الأنصار وهو واقف مع صفية بنت حيي زوجته يكلمها عند باب المسجد، فلما رآه الأنصاريان أسرعا المسير فناداهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال لهما: على رسلكما، إنها صفية بنت حيي، قالا: سبحان الله؟ وهل نشك فيك يا رسول الله؟ قال عليه الصلاة والسلام معلماً لهما وللأمة كلها: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً أو قال: شراً). فقد يحملك الشيطان على الوقوف مع امرأة في مكان خفي، أو يحملك الشيطان على الذهاب إلى امرأة زوجها غائب أو مات عنها زوجها، ثم يحمل إخوانك على الظن السيئ بك. فيوسف الصديق عليه الصلاة والسلام -ومشارب الأنبياء واحدة، وكلهم يستقون من الوحي النازل من السماء- لم يرد أن يخرج وهو متهم أبداً، بل قال لمن دعاه: ارجع إلى ربك أي: ارجع إلى سيدك كما أخبر الله بذلك في قوله: {قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} أي: ما شأنهن وما حالهن؟ {إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [يوسف:50].

ثبوت براءة يوسف باعتراف امرأة العزيز

ثبوت براءة يوسف باعتراف امرأة العزيز قال تعالى: {قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ} [يوسف:51]، من العلماء من قال: معناها معاذ الله، ومنهم من قال: معناها ننزه الله عن العجز أن يخلق بشراً عفيفاً مثل هذا البشر. {قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ} أي: قالت مظهرةً للحق، {الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} [يوسف:51 - 52]، هكذا يظهر الله الحق، فلم تنس امرأة العزيز الواقعة، فالذنب لا ينسى وخاصة عند من يراجع نفسه، فالمرأة طيلة تلك المدة وهي تراجع نفسها، كيف تسببت بعبد عفيف بريء نظيف لكونه لم يقترف الفاحشة معها؟! والنفوس اللوامة هي: دائمة اللوم لأصحابها، تذكرها نفسها اللوامة بما حاصله: كيف يقر لك قرار ويهدأ لك بال، وقد تسببت في سجن شخص بريء وألصقت به التهمة وهو عفيف؟ كيف تنامين في الفرش الوفيرة وتطيبين بالطيب الجميل وقد تسببت في سجن شخص بريء؟ فالنفوس اللوامة تلوم أصحابها الطيبين دائماً، أو الذين فيهم نزعة خير، ولا تزال بهم حتى يردوا الحقوق إلى أهلها، ويبحثوا عن وقت يعتذرون فيه، هكذا فعلت امرأة العزيز، فأعلنت صراحة أمام الملأ وأمام الناس كلهم في مجلس التحقيق ما تظن أنها تنجو به، قالت: {الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ} أي: تبين وظهر {أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف:51]، أي: أنا الذي دعوته إلى فعل منكر، فإنه لمن الصادقين، {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} [يوسف:52].

تحقيق الملك في قضية يوسف عليه السلام

تحقيق الملك في قضية يوسف عليه السلام قال تعالى: {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ} [يوسف:51]، دليل على أن الملوك لا يعرفون دقائق الأمور، فالملك كان لا يعرف دقائق الأمور، فغاية ما يظن أنه قيل له: عبد جميل فتنت به امرأة العزيز، لكن لا يتصور الجمال ولا يتصور الأحداث، أو قال: عبد جميل حاولت الاعتداء عليه امرأة العزيز، فحاشية السوء تزين للملك أن يفعل الذي تريد. ولذلك كان من نعم الله على الملوك والوزراء أن يقيض الله لهم بطانات صالحة وجلساء من أهل الصلاح، فإن الشخص الذي يكثر من الكلام على مسامعك يؤثر فيك بلا شك، فإن كان من أهل الصلاح فإنه يدلك على الخير، وإن كان من أهل الشر والفساد فإنه يدلك على الشر والعياذ بالله! قال عليه الصلاة والسلام: (ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كان له بطانتان، بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالسوء وتحضه عليه، والمعصوم من عصمه الله تعالى)، فجدير بكل منا أن ينتقي جلساءه وكل من يستمع إليهم، فلا تسمع لكل أحد أبداً، فإن أحداً من الناس قد يؤيدك على فعل الشر، فيسمع كلمة طيبة من أحد إخوانك الطيبين، فتنزل على قلبه كالبرد ترطب قلبه ويذهب الله بها الغضب عنه، ويقمع الله بها الشيطان، وآخر قد يكون في منتهى الهدوء والسكينة ولكن يأتيه آت شرير مفسد بكلمة تعكر عليه صفو حياته كلها، وتعكر عليه فكره، وترديه في الشر والعياذ بالله. فلذلك لا تسمع من كل أحد، ولا تصغِ إلى كل أحد، بل اسمع إلى المتقين وأهل الفضل والصلاح، واعرف أحوال الناس، فهناك أناس لا يأتونك إلا بالشر، وهناك أناس يأتونك بالبشارات، فاستمع إلى النصحاء الأمناء، فإن نبينا عليه الصلاة والسلام كان يخرج فيقول لأصحابه: (لا تحدثوني عن أصحابي)، وفي معنى الحديث: (إني أريد أن أخرج إليهم وأنا سليم الصدر) صلى الله عليه وسلم. ونستفيد أن الملك لم يكن يعرف شيئاً عن الذي حدث لامرأة العزيز، والعزيز غير الملك، والدليل أنه حقق في القضية، فالأمور تجري على وجه السرعة، قال: {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف:51] وهنا يظهر الله الحق على ألسنة المعتدين، وألسنة الخصوم. {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف:51]، أي: ما شأنكن؟ وإن كان هذا الإظهار في بعض الأحيان لا يتم في الدنيا، لكن يتم أمام ملك الملوك سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب)

تفسير قوله تعالى: (ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب) قوله تعالى: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ}، المفسرون لهم فيه وجهان: فمن العلماء كالحافظ ابن كثير وشيوخه وتلاميذه وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم ومن بعدهما يقولون: إن القائل في قوله تعالى: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} هي امرأة العزيز، وقولها: مطرد، فهي تطلب رضا يوسف صلى الله عليه وسلم، فمع أنها تسببت بفتنته، لكنها ما زالت تجله وتوقره وتحرص على إرضائه عليه الصلاة والسلام مع أنه عبد سجين. وهكذا المرأة أمام من لم يفعل معها الأشياء المحرمة، لكن إن فعل معها شيئاً محرماً، فتود أنها ضربته بعد ذلك بحذائها إن كان قد أجابها إلى طلبها بالمحرم، ولكن العفة والوقار حملتها على طلب رضاه، قالت: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} ولم أشهد عليه شهادة زور في غيابه، {وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} [يوسف:52]، أي: لا يوفق الله الخونة أبداً، {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} أي: لأني بشر، {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [يوسف:53]، كل ذلك على لسان المرأة التي اعترفت بعجزها وضعفها على رءوس الأشهاد، هذا قول الحافظ ابن كثير في طائفة كبيرة من المفسرين. وطائفة أخرى من المفسرين قالوا: إن القائل لقوله تعالى: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} [يوسف:52] هو يوسف عليه السلام، وقال ما بعد ذلك أيضاً، فيكون وجه التأويل على النحو التالي: قالت: {الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف:51]، وبعد ذلك تكلم يوسف لما بلغه قولها، فقال: ((ذلك)) أي: هذا الطلب مني لا لفضيحة المرأة، فأنا لا أحب أن أفضح أحداً، ولكن ليعلم زوجها أني لم أخنه بالغيب، أي: وقد وكلني ببيته وخلَّى بيني وبين امرأته، بعد أن أكرم مثواي وأنزلني منازل طيبة، فطلبت هذا البيان، لا لأفضح النساء فليس من شأني فضيحتهن أبداً، وليس من شأني فضيحة من اتهموني وقذفوني، فهذا ليس لي بسبيل، إنما إن فضحوني سترت عليهم، ولكن ليعلم زوجها أني لم أخنه بالغيب، فالله لا يهدي ولا يوفق الخائنين، وأيضاً أنا نفسي بشر فلا أبرئ نفسي من المعاصي ولا أزكيها. فهذا حق لحق نفسه عليه الصلاة والسلام، {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} أي: لا أنزهها عن الخطأ والقصور: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [يوسف:53]. هكذا البيان وهكذا الأدب، فسمع الملك هذه المقالات التي لا تخرج إلا من مشكاة النبوة، وسمع الملك كذلك اعترافات من النسوة، واعترافات من المرأة بلا ضرب ولا أذى، لقد سمع مقالات يوسف وهي في غاية الحسن والبهاء والجمال التي لا تصدر إلا من الأنبياء ومن سلك مسالكهم، فللأنبياء أقوال تعرف بهم ويعرفون بها، كما قال العلماء رحمهم الله في شأن الحسن البصري رحمه الله، فقد قال علي بن الحسين -الملقب بـ زين العابدين - وقد ذكر عنده الحسن البصري: ذاك الرجل الذي كلامه يشبه كلام الأنبياء. فللأنبياء سمتٌ وللأنبياء حديث، ولألفاظهم حلاوة، وعلى كلامهم طلاوة، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وقد قال تعالى: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور:26]، هكذا قال ربنا، فسمع الملك هذه المقالات، ولأول مرة يطرق سمعه مثل هذا القول الطيب الجميل! فحينئذ قال الملك: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ} لا للمجيء به فقط، بل قال: {أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} [يوسف:54]، أجعله خالصاً لنفسي مستشاراً لي، أستشيره في كل أموري، هكذا تتبدل الأحوال. قال الفضيل بن عياض -ولعله تلقى ذلك من الإسرائيليات-: إن الملك لما قال: ((ائْتُونِي بِهِ))، فإن امرأة العزيز رافقت العزيز حتى تشاهد الموكب الذي خرج به يوسف من السجن، فقالت عندما نظرت إلى حالها: سبحان من جعل العبيد ملوكاً لطاعته، وسبحان من جعل الملوك عبيداً لمعصيته. قال تعالى: ((وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ)) فالملك يسمع عن يوسف ويسمع كلامه عن بعد، فهو لم ير إلى الآن يوسف، ولكن لما جاء يوسف، وكلمه الملك ورآه ورأى علامات الجمال تكسوها علامات الوقار، رأى الحسن قد كمل بالنبوة والرسالة، فرأى أمراً لم يره لما كلمه، وكما قال نبينا محمد عليه الصلاة والسلام: (ليس الخبر كالمعاينة)، إذا سمعت بجمال شخص، فإنه يختلف الأمر إذا شاهدته، قال صلى الله عليه وسلم: (ليس الخبر كالمعاينة). والحمد لله رب العالمين.

سلسلة هي والفتاوى - الطهارة والحيض

سلسلة هي والفتاوى - الطهارة والحيض

معنى حديث: (النساء شقائق الرجال) وحكمه وسبب وروده

معنى حديث: (النساء شقائق الرجال) وحكمه وسبب وروده باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: فهذه طائفة من الأسئلة المتعلقة بالنساء وما يحتجن إليه من فقه، نستهلها بالجواب عن سؤال قدم عليَّ عن حديث: (النساء شقائق الرجال)، هل ثبت هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وهل له سبب ورود؟ وهل معناه يطرد أم لا؟ A نقول -والله والموفق والهادي إلى سواء السبيل-: أما هذا الحديث: (النساء شقائق الرجال) فيحسن بمجموع طرقه، ويعمل به. أما بالنسبة لسبب وروده فحاصله: أن أم سليم رضي الله تعالى عنها سألت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقالت: (يا رسول الله! المرأة ترى أن قد احتلمت -وفي رواية: إذا رأت المرأة في المنام أن زوجها يجامعها- أتغتسل؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم؛ إذا رأت الماء)، هذا هو متن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. أما عن اطراد معناه فإنه يطرد في كل ما لم يرد فيه نص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما المسائل التي وردت فيها نصوص من كتاب الله أو من سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يفرق فيها بين الرجال والنساء، فنحن نتبع هذه النصوص وتكون مستثناة من حديث: (النساء شقائق الرجال) فعلى سبيل المثال ورد في كتاب ربنا ما حاصله: أن شهادة المرأة تعدل نصف شهادة الرجل، إذ الله تبارك وتعالى قال في كتابه الكريم: {فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282]، وكذا قال الله سبحانه وتعالى في أبواب المواريث: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11]، فهذه مسائل وردت فيها نصوص فتستثنى من عموم حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (النساء شقائق الرجال). والله سبحانه وتعالى أعلم. وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وسلم.

حكم وضوء الرجل مع امرأته أو أمه أو ابنته من إناء واحد

حكم وضوء الرجل مع امرأته أو أمه أو ابنته من إناء واحد Q هل يجوز للرجل أن يتوضأ مع امرأته أو أمه أو ابنته من إناء واحد؟ A نعم يجوز ذلك، إذ لا مانع منه ابتداءً، ثم إنه قد أخرج البخاري في صحيحه من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (كان الرجال والنساء يتوضئون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعاً)، وهذا محمول على أنه كان قبل نزول آية الحجاب، أو على أنه مختص بالمحارم. فعليه: يجوز أن يتوضأ الرجل مع ابنته من إناء واحد، إذ لم يرد دليل صحيح صريح يمنع من ذلك. والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

حكم اغتسال الرجل مع زوجته من الجنابة

حكم اغتسال الرجل مع زوجته من الجنابة Q هل يجوز للرجل أن يغتسل مع زوجته من الجنابة؟ A نعم يجوز للرجل أن يغتسل مع زوجته من الجنابة؛ وذلك لحديث عائشة رضي الله تعالى عنها الذي أخرجه البخاري في صحيحه قالت: (كنت أغتسل أنا والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من إناء واحد كلانا جنب) وفي رواية عند مسلم في صحيحه: (كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء بيني وبينه واحد، فيبادرني حتى أقول: دع لي دع لي. قالت: وهما جنبان). وقد قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في شرح هذا الحديث: وأما تطهر الرجل والمرأة من إناء واحد فهو جائز بإجماع المسلمين؛ لهذه الأحاديث التي في الباب، والله أعلم.

حكم اغتسال الرجل مع زوجته عند اغتسالها من الحيض

حكم اغتسال الرجل مع زوجته عند اغتسالها من الحيض Q هل يجوز للرجل أن يغتسل مع امرأته عند غسلها من المحيض؟ A الذي يبدو والله تعالى أعلم أن ذلك يكره؛ وذلك لأن المرأة تحتاج في غسلها من المحيض إلى تتبع أثر الدم، وفعلها أشياء قد يتأذى الزوج بها. والله تبارك وتعالى أعلم. وعليه: فالأولى أن تغتسل المرأة من محيضها بعيداً عن زوجها؛ حتى لا يرى الزوج ما يكرهه منها، وقد يكون سبباً في نفرته عنها. والله تعالى أعلم.

حكم مسح المرأة على الخمار أثناء الوضوء

حكم مسح المرأة على الخمار أثناء الوضوء Q هل يجوز للمرأة أن تمسح على الخمار أثناء الوضوء؟ A يعني هذا السائل: أن بعض أهل العلم قد جوز للرجل أن يمسح على العمامة، فهل يجوز للمرأة أن تمسح على الخمار هي الأخرى؟ فهذا حاصل السؤال. فجوابه وبالله التوفيق: نعم، يجوز للمرأة أن تمسح على خمارها قياساً على مسح الرجل على عمامته، وقد ثبت في صحيح مسلم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح على الخفين ومقدم رأسه وعمامته)، وثبت عند البخاري من طريق جعفر بن عمرو عن أبيه قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يمسح على عمامته وخفيه) فعلى ذلك يجوز للمرأة أن تمسح على خمارها، لكن يستحب لها أن تمسح على شيء من مقدم ناصيتها ثم تتم المسح على الخمار خورجاً من الخلاف. والله تبارك وتعالى أعلم؛ وذلك لأن هناك خلافاً في مسح الرجل على عمامته، وقد رأى بعض أهل العلم في زيادة: (عمامته) في حديث البخاري أن فيها بعض الكلام، فعليه يستحب للمرأة خروجاً من أية خلاف، إذا لم ترد أن تنزع خمارها عن رأسها أن تمسح على مقدم ناصيتها، ثم تتم المسح على الخمار. والله تعالى أعلم.

حكم مس المرأة لفرجها وهي متوضئة

حكم مس المرأة لفرجها وهي متوضئة Q إذا مست المرأة فرجها وكانت على وضوء فهل ينتقض وضوءها بذلك، أم لا ينتقض؟ A يجب على المرأة أن تتوضأ من مس فرجها، وهذا على الراجح من أقوال أهل العلم في هذا الباب؛ وذلك لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يصح بمجموع طرقه وبشواهده: (من مس ذكره فليتوضأ، وأيما امرأة مست فرجها فلتتوضأ).

حكم مس المرأة ذكر طفلها وهي متوضئة

حكم مس المرأة ذكر طفلها وهي متوضئة Q هل مس المرأة ذكر طفلها ينقض وضوءها؟ A مس المرأة ذكر طفلها لا ينقض وضوءها إذ لم يرد دليل صريح في ذلك، والطفل يختلف عن الرجل الكبير، وأيضاً قد كانت النسوة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يحملن الأطفال ويغسلن الأطفال وينظفن الأطفال، فلم يرد في حديث واحد أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أمر امرأة مست ذكر طفلها أن تتوضأ من مس هذا الذكر. والله تبارك وتعالى أعلم.

حكم مس المرأة دبرها وهي متوضئة

حكم مس المرأة دبرها وهي متوضئة Q هل مس المرأة دبرها ينقض وضوءها؟ A لا ينقض الوضوء إذ لا دليل على ذلك، وإنما تغسل يديها لما عساه أن يكون قد لحقها من الأذى. والله تبارك وتعالى أعلم.

حكم مس المرأة للمتوضئ

حكم مس المرأة للمتوضئ Q هل مس الرجل للمرأة -ولا أعني بالمس الجماع هاهنا، إنما أعني المصافحة والقبلة ونحو ذلك- هل هذا المس ينقض وضوء الرجل؟ وهل ينقض وضوء المرأة؟ A الله سبحانه وتعالى قال في كتابه الكريم: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء:43] اختلف أهل العلم على قولين في تأويل قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء:43]: فذهب فريق منهم إلى أن الملامسة هاهنا المراد بها الجماع، وحجتهم أن إطلاق المس في كتاب الله سبحانه وتعالى أغلبه منزل على الجماع، فمن ذلك قول الله تبارك وتعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة:237] فالمس هنا المراد به الجماع، وكذا قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء:43] فقد اختار ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن المراد به الجماع، وكذا قول الله سبحانه وتعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة:3] في آية الظهار فالمراد به الجماع. وعليه فإن بعض أهل العلم منهم: الحبر الكريم عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما رأى أن مس المرأة بما دون الجماع لا ينقض وضوء الرجل، وأيضاً هو لا ينقض وضوء المرأة. بينما ذهب فريق آخر من أهل العلم، منهم: عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه وآخرون من أهل العلم إلى أن مس المرأة ينقض وضوء الرجل، وحملوا قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة:3] على عمومه. أما وجهة ترجيح القول الأول: قول عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما؛ فبسبب ما أخرجه مسلم رضي الله تعالى عنه من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الفراش فالتمسته فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد وهما منصوبتان وهو يقول: اللهم! إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك) فالشاهد منه: قول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (فالتمسته فوقعت يدي على بطن قدميه) فلو كان مسح عائشة رضي الله عنها لبطن قدم النبي صلى الله عليه وسلم ناقضاً لخرج النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته، وفي البخاري ومسلم أيضاً من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلاي في قبلته فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي، فإذا قام بسطتهما) فإذا كان المس ينقض الوضوء على عمومه لخرج النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته. والذي يظهر ويترجح بالأدلة والله تعالى أعلم أن مس المرأة لا ينقض الوضوء، ما لم يكن جماعاً، وهذا القول قول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وهو الحافظ الكريم الذي دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفقه في الدين وتعلم التأويل. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: قد كان المسلمون دائماً يلمسون نساءهم، وما نقل مسلم واحد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر أحداً بالوضوء من مس النساء، والله تبارك وتعالى أعلم، وهذا أيضاً رأي الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى. هذا وقد ورد في هذا الباب حديث فيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل نساءه ثم يخرج إلى الصلاة ولا يتوضأ)، وهذا الحديث ضعيف لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وفيما ذكرنا كفاية.

حكم غسل الجمعة بالنسبة للمرأة

حكم غسل الجمعة بالنسبة للمرأة Q سائل يسأل عن غسل الجمعة: هل يجب على المرأة أن تغتسل يوم الجمعة؟ A المرأة لا يجب عليها أن تغتسل يوم الجمعة؛ وذلك لأن الغسل عند أكثر العلماء إنما هو للصلاة، والمرأة لا يجب عليها أن تشهد الجمعة، فلما لم تجب عليها صلاة الجمعة لم يجب عليها الغسل ليوم الجمعة. والله تعالى أعلم. ولكن يبقى سؤال: هل يستحب لها ذلك، أم أنه لا يستحب؟ فنقول وبالله التوفيق: نعم يستحب لها ذلك، فالله تبارك وتعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222]، ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم يقول -كما في الحديث الذي أخرجه البخاري، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه-: (حق لله على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يوماً يغسل فيه رأسه وجسده). والله تبارك وتعالى أعلم.

حكم بول الغلام والجارية

حكم بول الغلام والجارية Q ما حكم بول الغلام والجارية؟ A بول الغلام الذي لم يأكل الطعام يرش موضعه، أما الجارية: سواء أكلت الطعام أم لم تأكل الطعام فبولها يغسل موضعه، وبالله تبارك وتعالى التوفيق. ومما يدل على ذلك ما أخرجه أبو داود رحمه الله تعالى، من حديث أبي السمح رضي الله عنه، قال: (كنت أخدم النبي صلى الله عليه وسلم، فكان إذا أراد أن يغتسل قال: ولني قفاك، فأوليه قفاي فأستره به، فأتي بـ حسن أو حسين رضي الله تعالى عنهما، فبال على صدره، فجئت أغسله فقال: يغسل من بول الجارية ويرش من بول الغلام) والله تعالى أعلم.

حكم ذيل المرأة الذي أصابه الأذى

حكم ذيل المرأة الذي أصابه الأذى Q ما الحكم في ذيل المرأة يصيبه الأذى؟ A قبل الجواب عن هذا السؤال: فنحب أن ندفع شبهة قد وقعت فيها أخوات كثيرات في فهمهن لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يرخينه شبراً -ثم لما قالت النساء-: يا رسول الله! إذن تنكشف صدور أقدامهن، فقال: يرخينه ذراعاً ولا يزدن على ذلك) اللفتة التي أحببنا النظر إليها، من أين يقاس الشبر؟ أو من أين يقاس الذراع؟ فبعض الفضليات ترى أن الشبر أو الذراع يقاس من الكعب إلى أسفل! وهذا الفهم ليس بصحيح، ولو كان ذلك ما قالت النساء: إذن تنكشف صدور أقدامهن، وإنما القياس يكون من منتصف الساق أي: من منتصف المسافة بين الركبة إلى الكعبين، فهذا هو الذي عليه كثير من أهل العلم. فلنرجع من ثم إلى سؤالنا عن الحكم في ذيل المرأة يصيبه الأذى، فإن المرأة تمشي وثوبها طويل يجر على الأرض فيصيبه الأذى أحياناً، فجواب هذا السؤال: أن المرأة إذا وطأت المكان القذر ثم وطأت الأرض اليابسة النظيفة فإن اليابسة النظيفة تطهر ما أصاب الثوب من المكان القذر؛ وذلك لما أخرجه أبو داود من حديث أم سلمة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم: (أن امرأة سألتها قالت: إني أطيل ذيلي وأمشي في المكان القذر؟ فقالت أم سلمة رضي الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يطهره ما بعده) هذا إذا كان المكان القذر يابساً لا يعلق منه بالثوب شيء، أما إذا كان رطباً فيلزم حينئذٍ الغسل، وقد نقل الخطابي عن مالك رحمه الله تعالى قوله: إن الأرض يطهر بعضها بعضاً إنما هو أن يطأ الأرض القذرة، ثم يطأ الأرض اليابسة النظيفة، فإن بعضها يطهر بعضاً، فأما النجاسة مثل: البول يصيب الثوب أو بعض الجسد فإن ذلك لا يطهره إلا الغسل. ونقل الخطابي عن الشافعي رحمه الله في هذا المعنى أيضاً: إنما هو فيما جر على ما كان يابساً لا يعلق بالثوب منه شيء، فأما إذا جر على رطب فلا يطهر إلا بالغسل. ثم قال الخطابي: وهذا إجماع الأمة.

حكم سقوط اللبن من ثدي المرأة عليها

حكم سقوط اللبن من ثدي المرأة عليها Q سائل يسأل عن لبن الرضاعة يسقط على الأم من ثديها أثناء إرضاعها لطفلها، هل يلزم غسله؟ A هذا اللبن ليس بنجس، ومن ثم لا يلزم غسله، وكانت النسوة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يرضعن أطفالهن، ولم يرد أي دليل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر امرأة أن تغسل لبنها الذي سقط على ثوبها، أو الذي سقط من فم ولدها، والله تبارك وتعالى أعلم.

حكم المذي الذي يخرج من المرأة عند الملاعبة وصفته

حكم المذي الذي يخرج من المرأة عند الملاعبة وصفته Q ما حكم المذي الذي يخرج من المرأة عند ملاعبة زوجها لها؟ وما صفة هذا المذي؟ A المذي الذي يخرج من المرأة عند ملاعبة زوجها ينقض الوضوء، فيجب على المرأة أن تتوضأ منه إذا أرادت الصلاة، وهناك إجماع من أهل العلم على ذلك، أما من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالدليل على ذلك حديث علي رضي الله عنه حيث قال: (كنت رجلاً مذاءً -أي: كثير المذي- فأمرت رجلاً أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم لمكان ابنته، قال: توضأ واغسل ذكرك) فلهذا الحديث مع الإجماع المنقول مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (النساء شقائق الرجال) يجب على المرأة إذا خرج منها هذا المذي أن تتوضأ. هذا ونلفت النظر هنا إلى شيء عارض: ألا وهو قول علي رضي الله تعالى عنه: (كنت رجلاً مذاءً فاستحييت أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكان ابنته) ذكر بعض الفضلاء من أهل الفقه: أنه يكره للرجل أن يتحدث عن شئون الجماع أمام محارم امرأته، لما في ذلك من خدش لحيائهم، وهذا استنباط حسن وجيد، وأدب ينبغي أن نتأدب به. أما عن صفة المذي: فقد قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: المذي ماء رقيق لزج يخرج عند شهوة لا بدفق ولا يعقبه فتور، وربما لا يحس بخروجه، ويكون ذلك للرجل والمرأة، وهو في النساء أكثر منه في الرجال. والله أعلم. أما الحافظ ابن حجر فقال: هو ماء أبيض رقيق لزج يخرج عند الملاعبة أو تذكر الجماع أو إرادة الجماع، وقد لا يحس بخروجه. وكإيضاح لما ذكره العالمان الجليلان: النووي، وابن حجر أقول وبالله التوفيق: إن هذا المذي يكاد يشبه الصمغ الذي نستعمله في لصق ورقة بورقة أخرى. والله تبارك وتعالى أعلم.

حكم الرطوبة التي تخرج من فرج المرأة

حكم الرطوبة التي تخرج من فرج المرأة Q سائلة تسأل عن رطوبة فرج المرأة: هل الرطوبة التي تخرج من فرج المرأة نجسة، أم طاهرة؟ A ابتداءً لم أقف على دليل صريح صحيح يدل على أن رطوبة فرج المرأة نجسة، أما ما أخرجه البخاري رحمه الله تعالى من حديث عثمان رضي الله عنه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجامع امرأته ولم يمن، قال: (يتوضأ كما يتوضأ للصلاة ويغسل ذكره) فليس بصريح في أن غسل الذكر إنما هو للإفرازات التي تخرج من المرأة، ولكنه يحتمل أن يكون إنما أمر بغسل الذكر نتيجة المذي الذي خرج منه، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم المقداد لما سأله عن المذي فقال: (توضأ واغسل ذكرك) فعلى هذا لما لم يرد دليل صحيح صريح يثبت أن رطوبة فرج المرأة نجسة بقينا مع الأصل، ألا وهو أنها طاهرة، وهذا قول عدد كبير من أهل العلم؛ نقله عنهم الإمام النووي رحمه الله تعالى في كتابه: المجموع، وهو كتاب يمثل الفقه الشافعي، وينقل مؤلفه عدداً من آراء المذاهب فيه. والله تعالى أعلم. أما بالنسبة لحكم هذه الإفرازات التي تخرج من فرج المرأة، فهل هي ناقضة للوضوء، أو ليست بناقضة للوضوء؟ فأيضاً لم يرد دليل صحيح صريح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفيد أنها تنقض الوضوء، فلما لم يرد دليل صحيح صريح على أن تلك الإفرازات التي تخرج من النسوة الحوامل أكثر ما تخرج، وتخرج من غيرهن من النسوة عند عطاس على سبيل المثال، وليس مخرجها من مخرج البول، فليس هناك دليل صريح صحيح يفيد أنها تنقض الوضوء، هذا على وجه الإجمال وقد قال بذلك عدد من أهل العلم، وكمزيد تفصيل فإن هذه المسألة لها أهميتها فنقول ابتداءً: إنه عند التنازع يلزم الرد إلى كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلا والسلام، وإذا كان ثمة إجماعات نقلت، فالله تبارك وتعالى يقول: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف:3]، ويقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء:59] هذا ابتداءً. ثم هناك تنبيه آخر ألا وهو: أن قول القائل: بأن كل ما خرج من السبيلين ينقض الوضوء، ليس بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ينعقد عليه أيضاً إجماع الأمة، وإنما أخذ هذا القول من جملة أدلة وردت وبينت أن كثيراً مما خرج من السبيلين ينقض، أما كحديث عن رسول الله عليه الصلاة والسلام فليس هذا بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، صحيح أن أغلب ما خرج من السبيلين ينقض كالريح، والغائط، ودم الحيض، ودم النفاس، وكذلك المني، والمذي، كل ذلك ينقض الوضوء وهناك أدلة تدل على نقضه للوضوء. لكن ثم أمور أخر كدم الاستحاضة، والاستحاضة غير الحيض كما هو معلوم، الاستحاضة: عرق انقطع فنزف دماً، وهذا يختلف عن دم الحيض -الذي يأتي المرأة في زمن من الشهر- في لونه وفي قدره وفي زمانه، فدم الاستحاضة كانت من النسوة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من تعتكف وهي مستحاضة، فربما وضعت الإناء تحتها وهي تصلي. على ذلك نعود فنقول: ليس هناك دليل صريح عن رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام، يفيد أن الإفرازات التي تخرج من فرج المرأة تنقض الوضوء، فلما لم يرد لنا هذا الدليل بقينا مع الأصل، ونحترز فنقول: إن الإفرازات تختلف عن المذي، فالمذي شيء والإفرازات شيء آخر، المذي: هو الذي يخرج من المرأة عند ملاعبة زوجها، فيخرج ولا تشعر المرأة أن شهوتها قد انقضت، إنما يخرج سائل يشبه الصمغ على ما فصلنا وذكرنا من أقوال العلماء، والله تعالى أعلم. وبالنسبة للإفرازات، هل هي ناقضة للوضوء، أم ليست بناقضة للوضوء؟ فالقول فيها ليس بقول واحد، إنما ذكرت ما ترجح لي، فإن كنت مصيباً فمن الله سبحانه الصواب، وإن كنت مخطئاً فمن نفسي ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان من ذلك. والله تعالى أعلم.

حكم الغسل على المرأة عند الاحتلام

حكم الغسل على المرأة عند الاحتلام Q هل على المرأة من غسل إذا احتلمت؟ A نعم، يجب عليها الغسل بالإجماع إذا خرج منها المني، سواء كان هذا الخروج في منامها أو في يقظتها، فإذا رأت المرأة أنها تجامع ولم تر الماء فلا غسل عليها، أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما، من حديث أم سلمة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: (جاءت أم سليم امرأة أبي طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله: إن الله لا يستحيي من الحق، هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم؛ إذا رأت الماء)، وعند مسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (سألت امرأة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل في منامه؟ فقال: إذا كان منها ما يكون من الرجل فلتغتسل) قال النووي رحمه الله تعالى: أجمع العلماء على وجوب الغسل بخروج المني، ولا فرق عندنا بين خروجه بجماع أو احتلام أو استمناء أو نظر أو بغير سبب، سواء خرج بشهوة أم بغيرها، وسواء تلذذ بخروجه أم لا. والله تبارك وتعالى أعلم.

حكم من جامعها زوجها ثم خرج منها مني زوجها بعد اغتسالها

حكم من جامعها زوجها ثم خرج منها مني زوجها بعد اغتسالها Q ما الحكم في امرأة جامعها زوجها ثم اغتسلت، ثم خرج منها مني زوجها بعد أن اغتسلت؟ A أكثر أهل العلم ذهبوا إلى أن المرأة لا غسل عليها إذا جامعها زوجها ثم اغتسلت ثم خرج منها مني الزوج بعد الغسل، أي: أن المرأة إذا جامعها الزوج واغتسلت، ثم خرج منها مني الزوج بعد الغسل فلا يجب عليها أن تغتسل مرة ثانية، ولكنها تتوضأ فقط. والله تبارك وتعالى أعلم.

حكم جماع الرجل للمرأة إذا لم ينزلا

حكم جماع الرجل للمرأة إذا لم ينزلا Q سائل يسأل عن رجل جامع زوجته فلم يمن، ولم تنزل هي الأخرى، هل عليهما الغسل؟ A إذا جامع الرجل زوجته فأنزل أو لم ينزل فقد وجب عليهما الغسل؛ مادامت حشفة ذكره قد دخلت في العضو منها؛ وذلك لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل) أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وفي صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجامع أهله ثم يكسل، هل عليهما الغسل؟ وعائشة رضي الله تعالى عنها جالسة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأفعل ذلك أنا وهذه ثم نغتسل). وفي الباب أيضاً عند مسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه قال: اختلف في ذلك رهط من المهاجرين والأنصار، فقال الأنصاريون: لا يجب الغسل إلا من الدفق أو الماء -يعنون: المني-، فقال المهاجرون: بل إذا خالط فقد وجب الغسل، يعني: إذا جامع الرجل زوجته فقد وجب الغسل سواء أنزلا أم لم ينزلا، أو أنزل أحدهما أو لم ينزل. فقال أبو موسى رضي الله عنه لما سمع هذا الاختلاف: فأنا أشفيكم من ذلك، قال: فقمت فاستأذنت على عائشة رضي الله عنها فأذنت لي، فقلت لها: يا أم المؤمنين! إني أريد أن أسألك عن شيء وأنا أستحييك، فقالت: لا تستحيي أن تسألني عما كنت سائلاً عنه أمك التي ولدتك، فإنما أنا أمك، قلت: فما يوجب الغسل؟ قالت: على الخبير سقطت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا جلس بين شعبها الأربع ومس الختان الختان فقد وجب الغسل). فعليه إذا جامع الرجل زوجته ولم ينزل ولم تنزل هي الأخرى فقد وجب على كل واحد منهما الغسل، هذا على رأي أهل العلم. وقد ورد في الباب ما قد يوهم ظاهره خلاف ذلك: ألا وهو حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (إنما الماء من الماء) أي: أن الماء لا يجب إلا بخروج المني، وهذا الحديث عند جمهور أهل العلم منسوخ، وكذلك ورد في الباب من حديث زيد بن خالد أنه سأل عثمان رضي الله عنه قال: (أرأيت إذا جامع الرجل امرأته فلم يمن؟ قال عثمان: يتوضأ كما يتوضأ للصلاة ويغسل ذكره) قال عثمان: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألت عن ذلك علياً والزبير وطلحة وأُبياً فأمروه بذلك، هذا الحديث أيضاً منسوخ عند جماهير العلماء بالأحاديث التي تقدمت. وكذلك من المنسوخ أيضاً في هذا الباب: حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل إلى رجل من الأنصار فجاء ورأسه يقطر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: لعلنا أعجلناك. قال: إذا أعجلت أو قُحطت فعليك الوضوء) وهذا أيضاً منسوخ كما بينا، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لعلنا أعجلناك) معناه والله أعلم: لعلك كنت تجامع زوجتك، فلما أرسلنا إليك قمت متعجلاً ولم تقض حاجتك، ولم تقض زوجتك حاجتها، أي: لم يحصل إنزال منك ولا منها، فقال: نعم، يا رسول الله! قال: (إذا أعجلت أو قحطت فعليك الوضوء) أي: إذا أعجلت أو قحطت عن زوجتك ولم تكن قضيت حاجتك فعليك بالوضوء، لكن هذا منسوخ كما بيناه. والله تعالى أعلم. هذا وقد ورد عن أبي بن كعب رضي الله عنه، وعن أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه أنهما تراجعا عن قولهما وذهبا إلى رأي الجمهور، فأوجبا الغسل بالتقاء الختانين ولو لم يكن مع هذا الالتقاء إنزال. ثم نقول: إن عائشة رضي الله تعالى عنها أعلم بهذا من غيرها، فهي زوجة رسول الله، علمها بهذه المسائل الخاصة عائشة رضي الله تعالى عنها أوسع وأدق من علم غيرها. والله تعالى أعلم. فعليه فالقول الذي عليه جماهير أهل العلم: أن الجماع يوجب الغسل ولو لم يكن معه إنزال، ولكن هنا أيضاً تنبيه هام ينبغي أن نلفت النظر إليه، ألا وهو المتمثل في السؤال التالي:

حكم من مس بذكره فرج المرأة دون إيلاج ودون إنزال

حكم من مس بذكره فرج المرأة دون إيلاج ودون إنزال Q إذا مس ذكر الرجل فرج المرأة من الخارج، ولم يولج ولم ينزل، أي: لم يحدث غياب للذكر في الفرج، ولا غياب لما يسميه العلماء: المدورة، إنما هو مساس من الخارج دون إيلاج ولا إنزال، فهل هذا يستوجب غسلاً؟ A لا يستوجب هذا غسلاً بالإجماع، فإذا مس ذكر الرجل فرج المرأة من الخارج، ولم يولج الحشفة في الفرج ولم ينزل فلا غسل عليهما، وقد نقل غير واحد من العلماء الإجماع على ذلك.

حكم من باشرها زوجها دون إيلاج فأنزل ولم تنزل وتسرب إلى فرجها

حكم من باشرها زوجها دون إيلاج فأنزل ولم تنزل وتسرب إلى فرجها Q إذا أصاب الرجل امرأته في غير الفرج فأنزل منيه خارج الفرج وهي لم تنزل منيها، فهل عليها غسل؟ A لا يجب عليها غسل؛ وذلك لأن المرأة لم تنزل ولم يحصل التقاء للختانين، فمادامت لم تنزل المني ولم يحصل التقاء للختانين فلا يجب عليها الغسل. وقد صح عن إبراهيم النخعي أنه سئل عن الرجل يجامع امرأته في غير الفرج فينزل المني؟ قال: يغتسل هو ولا تغتسل هي، ولكن تغسل ما أصاب منها، أي: تغسل الموضع الذي جاء فيه مني الرجل، هذا يدل على أنه يرى رأياً في طاهرة المني غير ما يراه العلماء الآخرون. وصح عن الحسن البصري أنه سئل عن الرجل يصيب المرأة في غير فرجها؟ قال: إن هي أنزلت اغتسلت، وإن هي لم تنزل توضأت وغسلت ما أصاب من جسدها من ماء الرجل. والله تعالى أعلم. أيضاً قد يرد سؤال هنا: إذا جامع الرجل امرأته بين فخذيها، فتدفق هذا الماء منه فتسرب إلى الفرج بدون إيلاج، ولم تنزل منياً، فلا يجب عليها غسل عند جمهور العلماء، قال النووي في المجموع: إذا استدخلت المرأة المني في فرجها أو دبرها ثم خرج منها لم يلزمها الغسل، هذا هو الصواب الذي قطع به الجمهور. ليس معنى قول النووي: إذا أدخلت الماء في دبرها أنه يجوز الجماع في الدبر، فهذه كبيرة من أبشع الكبائر فلتنتبه له النسوة، فيحرم ثم يحرم الجماع في الدبر. والله تعالى أعلم.

حكم امتناع المرأة من زوجها إذا عدم الماء

حكم امتناع المرأة من زوجها إذا عدم الماء Q المرأة يطلبها زوجها للجماع وليس هناك ماء تغتسل به، هل لها أن تتعلل وتمتنع من الجماع بسبب عدم وجود ماء للغسل، أم أن هذا ليس لها؟ A المرأة ليس لها أن تمنع نفسها من زوجها إذا دعاها لفراشه وإن لم يوجد الماء؛ وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال محذراً: (إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء لعنتها الملائكة حتى تصبح) فيلزمها أن تجيب زوجها، أما عن عدم وجود الماء فهنالك التيمم يقوم مقام الماء عند فقدانه، وعند كثير من العلماء: أن التيمم يرفع الحدث الأكبر أيضاً، فعلى المرأة أن تمتثل في هذا الباب. هذا وقد ورد عن عطاء يرحمه الله أنه قال: إذا طهرت الحائض فلم تجد ماءً تتيمم ويأتيها زوجها، هذا وثم آثار أخر في هذا الباب عن التابعين يرحمهم الله. والله أعلم.

حكم استعمال المرأة لمانع الحمل لغرض إتمام الرضاعة وغيره

حكم استعمال المرأة لمانع الحمل لغرض إتمام الرضاعة وغيره Q سائلة تسأل عن حكم استعمال المرأة لمانع من موانع الحمل أثناء فترة الرضاعة، وذلك حتى تتمكن من إتمام الحولين لإرضاع ولدها؟ A إن الله تبارك وتعالى قال: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة:233] فعلى ذلك: للمرأة أن تتناول وسيلة تمنعها من الحمل لإتمام الرضاعة، ما لم تكن هذه الوسيلة مضرة بجسمها قياساً على العزل، وقد صح عن جابر رضي الله عنه أنه قال: (كنا نعزل والقرآن ينزل) ومعنى العزل: أن يجامع الرجل زوجته، فإذا أراد أن يقذف المني أخرج ذكره منها وقذف المني خارج الفرج، فقياساً على العزل يجوز استخدام وسيلة لإتمام الرضاعة. هذا ما لم تكن هذه الوسيلة مضرة بالجسم؛ وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار). وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عن امرأة تضع معها دواءً وقت المجامعة، تمنع بذلك نفوذ المني في مجاري الحبل، هل ذلك جائز وحلال أم لا؟ وهل إذا بقي ذلك الدواء معها بعد الجماع ولم يخرج يجوز لها الصلاة والصوم بعد الغسل أم لا؟ فأجاب رحمه الله تعالى بما حاصله: أما صومها وصلاتها فصحيحة وإن كان ذلك الدواء في جوفها، وأما جواز ذلك ففيه نزاع بين العلماء، والأحوط أنه لا يفعل. والله تبارك وتعالى أعلم. أما بالنسبة للعزل أو لاستعمال وسيلة لغير هذه العلة المذكورة وهي إتمام الرضاعة، فالحكم فيها يختلف بالحامل على هذه الوسيلة، فإن كانت المرأة مريضة وشهد الأطباء الثقاة لها بأنها لا تتحمل الحمل، فحينئذ لا ضرر ولا ضرار، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، أما إذا تسرب إليها ما يتسرب إلى ضعاف الإيمان الذين يخشون من قلة الأرزاق فهذا يكره كراهية شديدة، يكره للمرأة أن تعزل أو أن تستعمل وسيلة لمنع الحمل؛ خوفاً من فوات الرزق كراهية شديدة جداً، بل إذا صاحبها هذا المعتقد فقد يصل الأمر معها إلى التحريم. أما ما يدعيه الناس من أن طفلين أفضل من ثلاثة أطفال، وأن ثلاثة أفضل من أربعة، فهذا يدفعه قول النبي عليه الصلاة والسلام: (تناكحوا تناسلوا فإني مباهٍ بكم الأمم)، والله سبحانه وتعالى يقول ممتناً على بني إسرائيل: {وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} [الإسراء:6]، ونبي الله نوح عليه الصلاة والسلام يقول لقومه: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح:10 - 12]، ونبينا صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث -وذكر منها-: ولداً صالحاً يدعو له). وقد يرد سؤال آخر: ما الحكم فيما إذا فعلت المرأة ذلك؟ أي: أنها استعملت وسيلة لا لغرض إتمام الرضاع، ولا لضرر لحق بها، ولا لخوف من فوات الرزق، وإنما لاستمتاع زوجها بها؟ فالجواب والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب: أن ذلك يكره لها؛ لأن الشخص كونه يرزق بالولد أولى من استمتاعه بامرأته؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تكاثروا فإني مباهٍ بكم الأمم)، لكن إن فعلت المرأة ذلك، واستعملت وسيلة كي يستمتع بها زوجها لم يحرم، لكن الأولى الإكثار من الذرية. والله أعلم.

حكم من نام مع زوجته في فراش واحد قبل أن تغتسل وهو متطهر

حكم من نام مع زوجته في فراش واحد قبل أن تغتسل وهو متطهر Q إذا جامع الرجل أهله ثم اغتسل ولم تغتسل، هل يجوز له أن ينام معها في فراش واحد ويحتضنها؟ A لا بأس بذلك، فلم يرد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء يمنع ذلك، وقد قال سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى: يباشرها وليس عليه وضوء، والمراد بذلك: أنه إن مسها ليس عليه وضوء. والله تبارك وتعالى أعلم. وعلى هذا الذي ذكرناه أكثر أهل العلم، أي: أن الرجل إذا جامع زوجته ثم اغتسل وما زالت على جنابة لم تغتسل فيجوز له أن يستدفئ بها وينام معها في الفراش. والله تعالى أعلم.

كيفية غسل المرأة من الجنابة

كيفية غسل المرأة من الجنابة Q سؤال مهم يتعلق بكيفية غسل المرأة من الجنابة؟ A أما صورة اغتسال المرأة من الجنابة فتتلخص بالآتي: تبدأ المرأة بغسل فرجها غسلاً جيداً، ثم تغسل يديها بعد غسل فرجها غسلاً جيداً أيضاً، ثم تتوضأ وضوءها للصلاة، بمعنى: أنها تتمضمض وتستنثر أي: تدخل الماء في أنفها ثم تنثره، ثم تغسل وجهها ثلاثاً أو مرتين أو مرة، ثم تغسل يديها إلى المرفقين ثلاثاً أو مرتين أو مرة، فكل ذلك جائز، ثم تمسح على رأسها وتؤخر غسل رجليها، ثم بعد ذلك تغسل شقها الأيمن، ثم تغسل شقها الأيسر، ثم تصب الماء على سائر جسدها. ويستحب لها قبل بداية الغسل -أي: بعد الوضوء مباشرة- أن تدلك رأسها تدليكاً شديداً حتى يصل الماء إلى أصل رأسها، ثم تفعل ما ذكرناه من غسل شقها الأيمن، ثم تتبع الأيسر، ثم تتنحى فتغسل رجليها، وهذا الذي ذكرناه ليس عليها بواجب إنما هو مستحب، بمعنى: أن المرأة إذا دخلت تحت (الدش) مباشرة وعممت جسمها بالماء مع رأسها أجزأ ذلك عنها، أي: كفاها وأزال عنها جنابتها مادامت نوت رفع الجنابة بذلك؛ وهذا لأنه قد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنه صلى فلما انقضت صلاته رأى رجلاً معتزلاً قال: ما لك يا فلان! لم تصل معنا؟ قال: يا رسول الله! أصابتني جنابة ولا ماء، فقال عليه الصلاة والسلام: إنما كان يكفيك التيمم، ثم لما جاء ماء إلى النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه ذنوباً من ماء -أي: دلواً من ماء- فقال: خذه فأفرغه على نفسك) ولم يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ. فعلى هذا نقول: إن وضوء المرأة قبل غسلها من الجنابة ليس بواجب عليها، إنما هو مستحب إن فعلته أثابها الله سبحانه وتعالى وأعطاها على ذلك حسنات، وإن لم تفعله فليست بآثمة، وغسلها كاف ومجزئ مادامت عممت الرأس والجسم بالماء. هذا ولا يلزم أن تنقض المرأة ضفائرها عند غسلها من الجنابة؛ وذلك لما أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: (قلت: يا رسول الله! إني امرأة أشد ضفر رأسي فأنقضه لغسل الجنابة؟ قال: لا؛ إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين)، ولحديث عائشة رضي الله تعالى عنها أيضاً الذي أخرجه مسلم في صحيحه: (أن عائشة بلغها أن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما يأمرالنساء إذا اغتسلن أن ينقضن رءوسهن -تعني: ينقضن ظفائر الرءوس- فقالت -وكانت رضي الله تعالى عنها شديدة الإنكار لمثل هذه المسائل على من خالفها- فقالت: يا عجباً لـ ابن عمرو هذا! يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رءوسهن! أفلا يأمرهن أن يحلقن رءوسهن! لقد كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد ولا أزيد على أن أفرغ على رأسي ثلاث إفراغات) تعني: أنها لم تكن تنقض ضفائر رأسها عند الاغتسال من الجنابة رضي الله تعالى عنها. فعلى ذلك: لغسل الجنابة سنن مستحبة، وإن لم تفعل هذه السنن وعممت الجسم كله بالماء مع الرأس والرجلين صح الاغتسال، ولا يلزم المرأة أن تفعل ما تفعله النسوة الموسوسات من إدخال الأصبع في المحل -أعني: في الفرج- عند الغسل أو الوضوء؛ إذ لم يرد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم دليل يلزم بذلك. والله تعالى أعلم.

كيفية غسل المرأة من المحيض

كيفية غسل المرأة من المحيض Q سؤال عن الغسل من المحيض وكيفيته؟ A انقضاء حيضة المرأة يعرف بأمرين: شيء يسمى: القصة البيضاء، تعرفه النساء يخرج من المرأة بعد انقضاء زمن الحيض، أو شيء آخر يسمونه: بالجفوف، ومعناه: أن تدخل المرأة قطنة في فرجها بعد انقضاء زمن الحيض فتخرج جافة، فيعرف انقضاء الحيض إما بالقصة البيضاء، وسيأتي لها تفصيل إن شاء الله في سؤال مستقل، أو بالجفوف، إذا رأت المرأة شيئاً من ذلك وجب عليها الغسل من المحيض، فتغسل فرجها غسلاً جيداً بالماء وبشيء مع الماء كالصابون على سبيل المثال، فقد كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعمل السدر، ففي زماننا يستعمل الصابون أو ما يقوم مقام الصابون (كالشامبوهات) ونحو ذلك، فتغسل المرأة فرجها غسلاً جيداً، ثم تتوضأ وضوءها للصلاة وتؤخر غسل رجليها، وتدلك رأسها دلكاً شديداً حتى يصل الماء إلى أصل رأسها، وإن كان الماء لا يصل إلا بنقض الضفائر في حالة الغسل من المحيض نقضتها؛ حتى تتأكد من وصول الماء إلى أصل رأسها. ثم بعد ذلك تغسل شقها الأيمن، ثم تغسل شقها الأيسر، ثم سائر الجسد، ويستحب لها أن تضع شيئاً من الطيب في مكان الدم الذي كان ينزل، فتطيب فخذيها وحول فرجها بمسك أو غيره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمرأة التي جاءت تسأله عن غسل المحيض: (خذي فرصة ممسكة -أي قطعة قطن أو قطعة قماش عليها مسك- فتتبعي بها أثر الدم)، ثم بعد ذلك تتنحى المرأة فتغسل رجليها. وهذا باختصار وصف غسل المرأة من المحيض، وهو كما بينا على الاستحباب، فلو دخلت المرأة تحت الدش وغسلت كل جسمها بالماء ونوت بذلك رفع الحيضة أجزأ ذلك عنها إذا وصل الماء إلى الجسم كله، ولكن إن فعلت سنة النبي صلى الله عليه وسلم فهو أفضل لها لها عند الله سبحانه، وقد أثنى الله على المؤمنات والمؤمنين بقوله: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:18] والله تعالى أعلم.

حكم من اجتمع عليها موجبان للغسل

حكم من اجتمع عليها موجبان للغسل Q إذا اجتمع على المرأة شيئان كل منهما يوجب الغسل، بمعنى: أن هذه المرأة جامعها زوجها، وقبل أن تغتسل من الجنابة حاضت، أو صورة أخرى: امرأة حائض لعب معها زوجها، وباشرها زوجها فيما دون الفرج أي: احتضنها وقبلها زوجها إلى أن وصل بها إلى أن أنزلت المني وهي حائض، فاجتمع الآن بها أمران: أولاً: أنها حائض. ثانياً: أنها أصبحت جنباً، فهل يلزمها أن تغتسل من الجنابة، أم أنه يجوز لها أن تترك الغسل من الجنابة، إلى أن تغتسل من الجنابة والحيض معاً؟ A فريق من العلماء يقولون: تغتسل من الجنابة، ثم إذا أتى وقت انقضاء الحيض اغتسلت من الحيض، لكن أكثر العلماء على أنه لا يجب عليها أن تغتسل من الجنابة إذا كانت حائضاً، فإذا انقضت الحيضة اغتسلت غسلاً عاماً يجزئ عن الأمرين معاً؛ وذلك لأنهم قالوا: إن الغسل إنما هو لاستباحة الصلاة، وقد كان الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم يجامع نساءه، وكان يؤخر الغسل عليه الصلاة والسلام أحياناً إلى أن يقوم من النوم، لكنه كان يتوضأ قبل أن ينام في مثل هذه الحالة، ويؤجل الغسل إلى الاستيقاظ. فعلى ذلك: إذا كانت المرأة حائضاً ولعب معها زوجها فأنزلت المني وهي حائض فإنه لا يجب عليها أن تغتسل من الجنابة وهي حائض، فإن أخرت الاغتسال حتى يكون مع غسلها من المحيض فلا بأس بذلك، وقد سئلت عائشة رضي الله عنها: (هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام قبل أن يغتسل، أم يغتسل قبل أن ينام -يعني: وهو جنب-؟ قالت: ربما فعل هذا، وربما فعل هذا) فقال السائل: الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة. وهذا كما بينا رأي كثير من أهل العلم: إذا اجتمع على المرأة غسلان أجزأ أن تغتسل عنهما غسلاً واحداً. والله أعلم.

أنواع وأقسام الدماء وصفاتها وحكمها

أنواع وأقسام الدماء وصفاتها وحكمها Q سائلة تسأل عن أنواع الدماء التي تخرج من فرج المرأة؟ A الدماء التي تخرج من فرج المرأة يقسمها كثير من العلماء إلى ثلاثة أقسام -ومن العلماء من يدخل قسماً رابعاً: أما النوع الأول من الدماء التي تخرج من فرج المرأة: فهو دم الحيض، وهو: دم قريب من السواد، غليظ كريه الرائحة، ينزل هذا الدم في أوقات معلومة لدى المرأة، وهي التي يسميها النساء: العادة الشهرية، فإذا نزل هذا الدم في زمن الحيض المعهود فإن المرأة تترك الصلاة وتترك الصيام، ولا يجوز لزوجها أن يقربها بجماع، فهذا بالنسبة لدم الحيض، والعلماء متفقون على أن دم الحيض دم نجس، والله تعالى أعلم، فهذا هو النوع الأول من أنواع الدماء. أما النوع الثاني فهو دم النفاس، وهو الذي يخرج من المرأة عقب الولادة، وحكمه حكم دم الحيض سواءً بسواء. أما الدم الثالث الذي يخرج من المرأة: فهو دم الاستحاضة، وحاصل القول في دم الاستحاضة: أنه دم يخرج من عرق قد انقطع، فيحدُثُ نزيف شديد من المرأة يستمر زمناً طويلاً مع بعض النساء قد يستمر سنوات، وقد يستمر شهوراً، وقد يستمر أياماً، يختلف في لونه عن لون دم الحيض، فهذا لونه أحمر قاني كسائر دماء الجروح، وأيضاً دم الاستحاضة مادام لم ينزل في زمن الدورة الشهرية، فلا يمنع المرأة من صلاة ولا يمنعها من صيام ولا يمنعها من جماع، فهذا بالنسبة لدم الاستحاضة. وهناك نوع رابع يذكره بعض العلماء ويسمونه: دم فساد، فينزل دم الفساد أحياناً في غير وقت الحيض، ولا يشبه لونه لون دم الحيض، وليس هو باستحاضة، فمن العلماء من يمثل له بقطرات دم تنزل من المرأة الحامل قبل الولادة. والله تعالى أعلم.

حكم صيام من طهرت من الحيض في الليل ولم تغتسل إلا بعد الفجر

حكم صيام من طهرت من الحيض في الليل ولم تغتسل إلا بعد الفجر Q إذا كانت المرأة حائضاً لكنها قد رأت الطهر قبل طلوع الفجر هل يجوز لها أن تصوم ذلك اليوم، أم أنه لا يجوز لها أن تصوم؟ A يجوز لها أن تصوم ذلك اليوم؛ لأن الصوم لا يستلزم الاغتسال، ومما يدل على ذلك: حديث عائشة رضي الله عنها، وكذا حديث أم سلمة رضي الله عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدركه الفجر وهو جنب، ثم يغتسل ويصوم)، وفي رواية: (وهو جنب من أهله، ثم يغتسل ويصوم). فعليه إذا كانت المرأة حائضاً ورأت الطهر في الليل، يفترض أنها تغتسل، لكنها إذا أخرت الغسل وأذن للفجر قبل أن تغتسل فإنه يجوز لها أن تنوي الصيام وتصوم. والله تبارك وتعالى أعلم.

دليل ترك المرأة للصلاة والصوم أثناء حيضها

دليل ترك المرأة للصلاة والصوم أثناء حيضها Q إحدى السائلات تسأل عن الدليل على أن الحائض تدع الصلاة والصيام؟ A إن النبي صلى الله عليه وسلم لما بين نقصان عقل المرأة ونقصان دينها، قامت امرأة تسأل وتقول: (وما نقصان ديننا يا رسول الله؟ قال: أليس إحداكن إذا حاضت لم تصل ولم تصم، قالت: بلى يا رسول الله، قال: فذلك من نقصان دينها) وقد انعقد الإجماع على ذلك، والله تبارك وتعالى أعلم.

جواز سجود المرأة الحائض سجدة التلاوة

جواز سجود المرأة الحائض سجدة التلاوة Q إذا سمعت المرأة الحائض آية فيها سجدة تلاوة، هل لها أن تسجد؟ A ذهب فريق من أهل العلم إلى جواز ذلك، واستدل: (بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا على أصحابه وعلى المشركين سورة النجم حتى بلغ قوله تعالى: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ * فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم:29 - 62] فسجد الجميع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا رجلاً كافراً كان ضخماً لم يستطع السجود فأخذ كفاً من الحصى فسجد عليه) ووجه الدلالة: أنه يصعب أن يقال: إن الجميع كانوا على وضوء، فهذا وجه الاستدلال والله تعالى أعلم. بيد أن من العلماء من يمنع أيضاً، لكن هذا اختيارنا ألا وهو جواز سجدة التلاوة من المرأة الحائض، والله تعالى أعلم.

حكم دخول المرأة الحائض المسجد

حكم دخول المرأة الحائض المسجد Q وهذا سؤال من الأهمية بمكان كبير ألا وهو: هل يجوز للحائض أن تدخل المسجد، أو لا يجوز لها ذلك؟ A ذهب فريق من أهل العلم إلى أنه لا يجوز للمرأة الحائض أن تدخل، واستدلوا بجملة من الأدلة منها: ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إني لا أحلُّ المسجد لجنب ولا لحائض)، وهذا الحديث لو ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لكان فاصلاً في المسألة فهو صريح الدلالة، إلا أنه لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فسنده ضعيف. الدليل الثاني الذي استدل به المانعون من دخول المرأة المسجد: هو قول الله تبارك وتعالى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء:43] قالوا: والمراد بالصلاة هاهنا: مواضع الصلاة. أما الدليل الثالث: فهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدني رأسه لـ عائشة رضي الله عنها وهو في المسجد، فأنتم تعرفون أن غرف رسول الله كانت لها أبوب إلى المسجد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكون في المسجد فيدني رأسه لـ عائشة رضي الله تعالى عنها وهي في غرفتها، حتى ترجله وهي حائض، فقالوا: لو كان دخول الحائض المسجد جائزاً لدخلت عائشة رضي الله تعالى عنها المسجد، ورجلت رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد. أما معنى ترجيل الشعر: فهو تمشيط الشعر، فكانت عائشة رضي الله تعالى عنها تمشط شعر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فليت النسوة يفعلن ذلك مع رجالهن، فهذه تكاد أن تكون سنة. أيضاً استدل المانعون بأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بإخراج الحيض إلى صلاة العيد، قال صلى الله عليه وسلم: (ويعتزل الحيض المصلى) فهذه أدلة المانعين من دخول الحائض المسجد. أما الذين جوزوا للمرأة الحائض أن تدخل المسجد فمن أدلتهم ما يلي: أولاً: قالوا: إنه لم يرد خبر صحيح صريح يمنع الحائض من دخول المسجد، قالوا: والخبر الصريح في ذلك: (إني لا أحل المسجد لجنب ولا لحائض) وهو ضعيف الإسناد. وأجابوا عن الآية الكريمة: {وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء:43] قال بعض المالكية: نحن نفرق بين الجنب والحائض من ناحية أن الجنب أمره بيده، فإذا منع من شيء قد يبادر إلى الاغتسال كي يفعل هذا الشيء، أما المرأة الحائض فلا يمكنها ذلك. الشيء الثاني الذي أجابوا به على ما ذكر: ذكروا من قوله صلى الله عليه وسلم: (ويعتزل الحيض المصلى) قالوا: إن المراد بالمصلى: الصلاة؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يصلي العيد في المسجد، إنما كان يصليه في الفضاء، فقالوا: إن قوله: (ويعتزل الحيض المصلى) أي: ويعتزل الحيض الصلاة. فأول ما استدل به المجيزون ألا وهو البراءة الأصلية، فقالوا: إن الوارد في هذا الباب الصحيح منه ليس بصريح، والصريح منه ليس بصحيح. وقالوا أيضاً: ومما يستدل به على جواز دخول الحائض المسجد: أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد -أي: كانت تجمع القمامة من المسجد- على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: ولم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تترك خدمة المسجد وقت حيضتها. الدليل الثالث الذي استدل به القائلون بجواز دخول الحائض المسجد مادام المسجد لم يتلوث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ عائشة -لما حاضت وكانت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الحج-: (افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت) قالوا: والحاج من النساء لها أن تدخل المسجد، ولكن لا تطوف؛ لأن الطواف بمثابة الصلاة مع الفروق الواردة في محلها. استدلوا أيضاً بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن المؤمن لا ينجس) فهذا دليل استدلوا به أيضاً. واستدلوا كذلك بأن عطاء بن يسار قال: رأيت رجالاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلسون في المسجد وهم مجنبون إذا توضئوا وضوء الصلاة، ومن ناحية الإسناد إسناده حسن. فهذه بعض استدلالات الفريقين، والذي يبدو والله أعلم: أن المانعين ليست لهم حجة قوية صريحة، والذي يبدو أن المسجد إذا أمن من التلوث فإنه يجوز للحائض دخوله، والله تبارك وتعالى أعلم. فنسأل الله أن يغفر لنا إذا كنا قد أخطأنا في هذه المسألة، والموفق لكل صواب هو الله سبحانه وتعالى.

حكم الذكر وقراءة القرآن للمرأة الحائض

حكم الذكر وقراءة القرآن للمرأة الحائض Q هل يجوز للحائض أن تذكر الله، وأن تقرأ القرآن؟ A نعم يجوز لها ذلك؛ وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لـ عائشة رضي الله عنها لما حاضت: (افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت) والحاج يستحب له أن يلبي، وأن يحمد الله، وأن يكبره وأن يهلله، وأن يقرأ القرآن، فعلى ذلك: يجوز للحائض أن تفعل ذلك. ثم أيضاً صح عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه. والمانعون لم يمنعوا من الذكر إنما منعوا من تلاوة القرآن، واستدلوا بحديث علي رضي الله عنه وفيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقضي حاجته، ثم يخرج فيقرأ القرآن ويأكل معنا اللحم، ولا يحجبه من القرآن شيء إلا الجنابة) وهذا الحديث لو صح لالتزمنا العمل به، لكنه ضعيف الإسناد ولا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحوه حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقرأ الجنب ولا الحائض شيئاً من القرآن) وهذا الخبر لو ثبت لكان فاصلاً، لكنها أخبار ضعيفة لا تثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم هناك فرق بين قراءة القرآن ومس المصحف، وقد ذهب أكثر العلماء إلى منع المرأة من مس المصحف، واستدلوا بدليلين: الدليل الأول: قول الله تبارك وتعالى: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79]. الدليل الثاني: ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول: (لا يمس القرآن إلا طاهر) فهذان الدليلان استدل بهما كثير جداً من أهل العلم على منع الحائض من مس المصحف، وعارض في ذلك آخرون كـ أبي محمد ابن حزم رحمه الله تعالى؛ فجوز للمرأة مس المصحف، وأجيب على الاستدلال بالآية على النحو التالي: قالوا -أعني: الذين جوزوا للحائض أن تمس المصحف-: إن الله قال: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:77 - 79] قالوا: فقوله تعالى: (لا يمسه) عائد على الكتاب المكنون، والمطهرون هم: الملائكة، قالوا: ومما يدل على ذلك قوله تعالى: {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس:13 - 16] والسفرة هم: الملائكة، قالوا: فالكتاب المكنون هو المعني بقوله تعالى: (لا يمسه) والمطهرون هم: الملائكة. وأجاب المجيزون لمس المصحف على حديث: (لا يمس القرآن إلا طاهر): بأن هذا الحديث لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل الطرق، هذا وجه جوازه، ولكن من باب الاحتياط نقول: إذا أرادت المرأة أن تمس المصحف فلتمسه بقفاز وهذا أبعد عن النزاع. والله تبارك وتعالى أعلم.

سبب نزول قوله تعالى: (ويسألونك عن المحيض)

سبب نزول قوله تعالى: (ويسألونك عن المحيض) Q سائلة من الأخوات الفضليات تسأل عن سبب نزول قول الله تبارك وتعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة:222] وعن معنى الآية الكريمة؟ A إن سبب نزول هذه الآية الكريمة ما أخرجه الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه: أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها -أي: لم يجلسوا للأكل معها- ولم يجامعوهن في البيوت، فكانت اليهود إذا حاضت المرأة أخرجوها من البيت، فسأل الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأنزل الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة:222] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اصنعوا كل شيء إلا النكاح) فأصبح المحذور هو النكاح. قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ} [البقرة:222] المراد بالاعتزال: اعتزال الجماع في الفرج؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (اصنعوا كل شيء إلا النكاح) فبلغ ذلك اليهود فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه. أي: أن محمداً عليه الصلاة والسلام كلما سمع أننا نفعل شيئاً خالفنا وفعل شيئاً آخر. فجاءه أسيد بن حضير وعباد بن بشر وهما صحابيان جليلان فقالا: (يا رسول الله! إن اليهود يقولون كذا وكذا فلا نجامعهن في البيوت فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم) يعني: أنه لم يرض أبداً بالكلام الذي جاء به أسيد بن حضير وعباد بن بشر رضي الله تعالى عنهما. والمعنى: أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل الذي حرم فقط من المرأة الحائض هو الجماع بالفرج، أما ما سوى ذلك من مساكنتهن في البيوت، ومن المباشرة فيما دون الفرج، فكل ذلك جائز وكل ذلك قد ثبت عليه الأدلة، فالمراد بالاعتزال: اعتزال النكاح في الفرج وعلى هذا كثير من أهل العلم؛ وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اصنعوا كل شيء إلا النكاح)، ولحديث بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد من الحائض شيئاً -أي أن يستمتع منها بشيء- ألقى على فرجها شيئاً) أي: جعل هذا الشيء على الفرج كالحائل بينه وبين الإيلاج، ويستمتع بما فوق هذا الشيء الذي وضع على الفرج، أي: أنه يستمتع بكل شيء من زوجته إلا الإيلاج في الفرج. وأيضاً ورد في هذا عند ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى بسند صحيح، عن عائشة رضي الله تعالى عنها: جاءها مسروق فدخل عليها فقال: السلام على النبي وعلى أهل بيته، فقالت عائشة: أبو عائشة؟ -أي: أنت أبو عائشة، فـ مسروق له بنت اسمها: عائشة - مرحباً، فأذنوا له فدخل فقال: إني أريد أن أسألك عن شيء وأنا أستحي، فقالت: إنما أنا أمك -تعني أن الله قال: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب:6] وأنت ابني، فقال: ما للرجل من امرأته وهي حائض؟ قالت: له كل شيء إلا الفرج. ثم إن عائشة رضي الله تعالى عنها من أعلم النساء بذلك؛ إذ هي زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومثل هذه المسألة الدقيقة هي أعلم بها بلا شك من غيرها. هذا ومن العلماء من قال: إن المراد من قوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ}: اعتزال ما بين السرة إلى الركبة، قالوا: فيجوز للرجل أن يفعل أي شيء مع امرأته إلا في المنطقة ما بين السرة إلى الركبة، قالوا: والدليل على هذا: ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث ميمونة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يباشر امرأة من نسائه أمرها فاتزرت وهي حائض). أجاب الأولون على ذلك: بأن هذا يفعل أحياناً، وما ذكر أولاً من وضع شيء على الفرج فقط يفعل أحياناً، أو من خيف عليه أن يقع في المحذور، فله حينئذ أن يأمر امرأته أن تضع شيئاً من سرتها إلى ركبتها تأتزر به؛ حتى لا يقع في جماع المرأة وهي حائض. والله تبارك وتعالى أعلم. أيضاً استدلوا على ذلك: بأن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كنت أغتسل أنا والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد كلانا جنب، وكان يأمرني فأتز فيباشرني وأنا حائض)، وأيضاً صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل: (ما يحل لي من امرأتي وهي حائض؟ قال: لك ما فوق الإزار) وهذا لا اختلاف بينه وبين القول؟ فوجه الجمع كما قدمناه. والله تبارك وتعالى أعلم.

حكم جماع المرأة التي طهرت من الحيض قبل اغتسالها

حكم جماع المرأة التي طهرت من الحيض قبل اغتسالها Q إذا رأت المرأة الطهر من المحيض وعلامة الطهر تتمثل في: القصة البيضاء، أو الجفوف، القصة البيضاء تعرفها النساء: وهي سائل أبيض ينزل من المرأة عقب انقضاء مدة الحيض، أو الجفوف: هو وضع قطنة في الفرج فتخرج جافة بعد انقضاء زمن الحيض، فإذا رأت المرأة الطهر الذي يرى بالقصة البيضاء أو بالجفوف ولم تغتسل، هل لزوجها أن يجامعها قبل أن تغتسل؟ A هذا سؤال حسن جوابه: لا يجوز لزوجها أن يجامعها إذا رأت الطهر إلا إذا اغتسلت، والدليل على ذلك: أن الله تبارك وتعالى قال في كتابه الكريم: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة:222] أي: يرين الطهر {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} [البقرة:222] أي: فإذا اغتسلن {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة:222]، وعلى هذا جمهور أهل العلم، وأعني بقولي جمهور أهل العلم: أكثر أهل العلم، فأكثر العلماء على أنه لا يجوز للرجل أن يجامع زوجته إذا رأت الطهر إلا إذا اغتسلت بعد رؤية الطهر، أما إذا لم تجد الماء فلها أن تتيمم شأنها شأن مريد الصلاة وفاقد الماء. والله أعلم. أيضاً سؤال يطرح لكن لإخواننا الذين تزوجوا بكتابيات -يهوديات أو نصرانيات- وهن باقيات على دينهن، وهذا الزواج جائز؛ لأن الله قال: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة:5] أي: العفيفات، فإذا تزوج شخص بكتابية وهي باقية على دينها، هل يجوز له أن يجامعها إذا طهرت من المحيض ولم تغتسل؟ فأيضاً أكثر العلماء على المنع؛ لأن الله قال: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} [البقرة:222] أي: فإذا اغتسلن {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة:222] والله تبارك وتعالى أعلم.

عدم جواز طاعة المرأة لزوجها في الحرام

عدم جواز طاعة المرأة لزوجها في الحرام Q هذا سؤال ينم عن محاولة خاطئة من رجل لاستحلال ما حرم الله! فسائلة تسأل تقول: زوجها يطلب منها الجماع وهي حائض، ويأمرها بالسمع والطاعة ويذكرها بحديث النبي صلى الله عليه وسلم في شأن الزوج: (انظري فإنما هو جنتك أو نارك) يعني: إذا أطعت الزوج دخلت الجنة، وإذا عصيته دخلت النار، فهل تطيعه؟ A أن الحديث ابتداءً حديث صحيح ثابت عن رسول الله، لكن هذا حق أريد به باطل، فطاعته إنما هي بالمعروف كما قال صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز لامرأة أن تطيع زوجها فيما فيه معصية الله، إذا طلب منها زوجها الجماع وهي حائض فلا تطعه؛ لأن الله قال: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة:222] فلا تطع الزوج إذا دعاها للجماع وهي حائض، ولا تطعه إذا دعاها للوطء في الدبر، فإن هذا من الكبائر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الطاعة في المعروف)، وقال صلوات الله وسلامه عليه: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قيل: كيف ننصره ظالماً يا رسول الله؟! قال: تمنعه من الظلم) وهذا الذي يحاول أن يظلم نفسه وأن يواقع زوجته وهي حائض يمنع من ظلمه، فلا يجوز للمرأة أن تطيعه في هذا ولا في أية معصية، والله تبارك وتعالى أعلم.

جواز نوم الحائض مع زوجها في لحاف واحد

جواز نوم الحائض مع زوجها في لحاف واحد Q سائلة تسأل: هل يجوز لها وهي حائض أن تنام مع زوجها في لحاف واحد؟ A نعم ذلك جائز ولا مانع منه، وقد قالت أم سلمة رضي الله عنها: (بينما أنا مضطجعة مع النبي صلى الله عليه وسلم في خميصة إذ حضت، فانسللت -أي: جاءتني الحيضة فتسللت وخرجت- من تحت اللحاف فأخذت ثياب حيضتي، فقال: أنفست؟ -يعني: أحضت، والحيض يطلق عليه نفاس- قلت: نعم، فدعاني فاضطجعت معه في الخميلة). فمن ثم قال العلماء يرحمهم الله تعالى: لا تكره مضاجعة الحائض، ولا تكره قبلة الحائض، ولا يكره وضع يدها في شيء من المائعات، يعني: لا تمنع الحائض من الطبيخ، ولا تمنع من غسل ثياب، ولا تمنع من وضع يدها في ماء، ولا تمنع من أي شيء، فإن هذا المنع من عمل اليهود المتشددين المتنطعين، فهذه أمور أحدثوها وابتدعوها في الأديان، وليست في كتاب الله وليست في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

حكم تغسيل الحائض لامرأة ميتة

حكم تغسيل الحائض لامرأة ميتة Q كثير من النسوة يسألن: هل يجوز للمرأة الحائض أن تغسل امرأة قد ماتت؟ A لا مانع من ذلك، ولم يرد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم دليل يمنع من ذلك. والله أعلم، وصل اللهم على نبينا محمد وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

شرح آيات الحج من سورة الحج

شرح آيات الحج من سورة الحج تضمنت آيات سورة الحج بعضاً من أحكام وأمور الحج التي ينبغي التنبه لها، كخطورة الشرك بالله في تلك البقاع، ومشروعية الإكثار من الطواف، ومشروعية المشي والركوب في الحج، ومشروعية البيع والشراء في الحج، ومشروعية الإمساك عن الشعر والأظفار عند دخول العشر لمن أراد أن يضحي، وحكم التضحية من غير بهيمة الأنعام، وبعض الأحكام التي تخص مكة، بالإضافة إلى بعض أحكام الأضحية.

تفسير قوله تعالى: (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت)

تفسير قوله تعالى: (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت) باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: فسنتناول تتمة موضوع الحج حتى تتكامل أحكامه إن شاء الله، وكذلك نتناول ما يتعلق بالأضاحي، وبأحكام العشر الأول من ذي الحجة. والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله. يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج:26 - 28]. قوله تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} [الحج:26] أي: هيأناه له عليه الصلاة والسلام، وجعلناه له متبوأً ومنزلاً.

وجه المناسبة بين قوله: (وإذ بوأنا) وقوله: (أن لا تشرك بي شيئا)

وجه المناسبة بين قوله: (وإذ بوأنا) وقوله: (أن لا تشرك بي شيئاً) فإن قال قائل: ما هي مناسبة قوله تعالى: {أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا} [الحج:26] مع قوله سبحانه: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} [الحج:26]؟ المناسبة -والله سبحانه وتعالى أعلم- أن كثيراً من الناس يشركون في بيوت الله سبحانه وتعالى، كما هو حادث الآن، ولذلك قال الله جل ذكره: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن:18]، فكما هو واضح في عموم المساجد أن كل مسجد به قبر يشرك فيه بالله عز وجل، كقبر التاج البدوي وقبر الحسين وغيرهما من القبور. وكان الأمر أشد من ذلك قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فكان أهل الشرك قد جعلوا حول الكعبة ثلاثمائة وستين صنماً، إلى أن جاء النبي صلى الله عليه وسلم فاتحاً مكة، فرأى هذه الأصنام الثلاثمائة والستين، ورأى أيضاً صورة إبراهيم وإسماعيل في الكعبة وهما يستقسمان بالأزلام. والاستقسام بالأزلام معناه: أن يأتي الشخص بثلاثة أقداح إذا أراد أن يفعل شيئاً، قدح مكتوب عليه افعل، وقدح مكتوب عليه لا تفعل، وقدح أبيض، ثم يديرها دورة فيجعل سهماً، إذا وقف السهم عند القدح الذي عليه افعل فعل، وإن وقف على القدح الذي عليه لا تفعل، لم يفعل، وإن وقف على القدح الذي هو أبيض، يعيد الدورة من جديد. فالشاهد: أن المساجد أشرك فيها بالله سبحانه وتعالى فجاء الاحتراز: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} [الحج:26] الأمر بالتطهير عام: طهره من النجاسات، وطهره من الأوساخ، وطهره من القاذورات، وهناك تطهير أعظم من هذا التطهير، وهي التطهير من الأوثان، والتطهير من الشرك. {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ} [البقرة:125]، فيؤخذ من هذه الآية فضل الموظف والعامل على نظافة المسجد، فالموظف والعامل على نظافة المسجد سلفه خير البرية إبراهيم صلى الله عليه وسلم. فقد جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (يا خير البرية. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ذاك إبراهيم عليه السلام)، فإذا كان سلفك يا من تنظف المسجد هو إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، فلا معنى لاستنكافك عن هذه الأعمال الكريمة عند الله سبحانه، فرب مهنة يستنزلها الناس ويستقبحونها وصاحبها عند الله في منزلة سامية عالية، ورب مهنة يستعظمها الناس في دنياهم وهي مهنة رديئة ملعون صاحبها، فالمؤذن في المسجد مهنة يستقبحها الناس الآن ويحتقرون المؤذن. والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (المؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة)، ويقول عليه الصلاة والسلام: (إن المؤذن يشهد له ما سمعه من إنس أو جن أو حجر أو مدر)، وقال عليه الصلاة والسلام: (لا يسمع مدى صوت المؤذن إنس ولا جن ولا شجر ولا حجر إلا شهد له يوم القيامة) فيأتي المؤذن يوم القيامة وجيهاً طويل العنق. وعلى العكس من ذلك مثلاً مدير بنك ربوي، فإن الرسول يقول في شأن المرابين: (لعن الله آكل الربا وكاتبه ومؤكله وشاهديه).

مشروعية الإكثار من الطواف

مشروعية الإكثار من الطواف قول الله تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} [الحج:26] بالنسبة للطواف بالبيت يسن ويشرع للحاج وللمعتمر أن يكثر من الطواف بالبيت بعد طواف الفرض، أو بعد طواف النسك الذي تلبس به، فإذا حججت أو اعتمرت فلك أيضاً بعد أن تعمل أعمال الحج، أو في أثناء أعمال الحج أن تذهب وتطوف بالبيت الحرام، وتكثر من الطواف، تطوف كل مرة سبعة أشواط وتصلي ركعتين خلف مقام إبراهيم، فمن كان متمتعاً وتحلل فلا بأس له أن يطوف أثناء تاحلله وذلك أجر وثواب عند الله سبحانه، فتكثر من الطواف بثيابك المعتادة. وقد ورد في بعض الطرق أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينزل في أيام التشريق من منىً إلى مكة كي يطوف بالبيت ليلاً ثم يرجع عليه الصلاة والسلام، فيسن لك قدر الاستطاعة أن تكثر من الطواف بالبيت بعد أن تؤدي أعمال النسك التي عملتها، وهذه سنة هجرها الكثيرون، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر من فعلها. وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحداً طاف بالبيت وصلى في أي ساعة شاء من ليل أو نهار) فأخذ العلماء من هذا الحديث جواز الطواف وصلاة ركعتين في أوقات الكراهة فضلاً عن أوقات الإباحة. {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ} [الحج:26] أي: والمصلين {وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج:26]. {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا} [الحج:27] أذن أي: ناد. والكلام لإبراهيم صلى الله عليه وسلم أي: نادِ يا إبراهيم في الناس أن هلموا وأقبلوا إلى الحج، قال المفسرون: ففعل إبراهيم صلى الله عليه وسلم ما أمر به، ولم يكن هناك من يسمع فنادى: يا أيها الناس! إن الله كتب عليكم الحج فحجوا، فكل الناس إلى أن ينزل عيسى ابن مريم يقول: لبيك اللهم لبيك. أي: إجابة لك يا الله بعد إجابة إذ دعوتنا إلى حج بيت الله الحرام، فعلى ذلك قول القائل: لبيك اللهم لبيك. كلمة: اللهم. معناها: يا الله، أي: سمعنا لك وأجبنا داعيك أجبنا، تكرير يفيد التأكيد.

مشروعية المشي والركوب في القدوم للحج وأثناء أداء مناسكه

مشروعية المشي والركوب في القدوم للحج وأثناء أداء مناسكه {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج:27] الأذان: الإعلام. {يَأْتُوكَ رِجَالًا} [الحج:27] أي: على أرجلهم. {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج:27] الضامر: هو الجمل الذي أتى هزيلاً متعباً مرهقاً من طول وعناء ومشقة السفر، فالجمل أو الفرس إذا مشي هذه المسافات الطويلة ووصل إلى بيت الله الحرام من مسافات شاسعة أصبح ضعيفاً وضامراً وهزيلاً، فيقال: ضمر الشيء: إذا انكمش {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج:27]. قوله سبحانه وتعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا} [الحج:27] فيه جواز الحج ماشيا {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج:27] فيه جواز الحج راكباً، وقد ركب النبي صلى الله عليه وسلم، وحمل بعض الصحابة حتى على إبل الصدقة، وكان عليه الصلاة والسلام من عرفات إلى مزدلفة قد أردف الفضل بن عباس وأسامة بن زيد خلفه صلى الله عليه وسلم، فدل ذلك على أنه عليه الصلاة والسلام كان راكباً، فلك أن تركب ولك أن تمشي، وإذا أرهقت أو أرهقت والدتك، أو أرهق أخوك أو أرهق أبوك فللمرهق أن يطوف بالبيت راكباً. اشتكت أم سلمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرها أن تطوف بالبيت راكبة، وليس هذا بناقص في الأجر، فإن العبد إذا مرض أو سافر كتب له من الأجر ما كان يعمل وهو صحيح مقيم، فلك أن تطوف إذا تعبت أو أرهقت وأنت محمول على الأكتاف، لحديث أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لها أن تطوف بالبيت وهي راكبة، ولك أيضاً أن تسعى بين الصفا والمروة وأنت راكب. وإذا قدر عليك وجئت إلى عرفات بعد غروب الشمس فلا بأس بحجك أيضاً، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ عروة بن مضرس لما وصل إليه وقال: يا رسول الله! أكللت نفسي وأتعبت راحلتي، وما تركت حبلاً إلا وقفت عليه حتى أدرك معكم الصلاة بمزدلفة. صلاة الفجر فقال عليه الصلاة والسلام: (من صلى معنا الغداة بجمع) أي: الفجر بمزدلفة (وكان قبل ذلك وقف ساعة من ليل أو نهار بعرفات فقد أتم نسكه وقضى تفثه) أو كما قال عليه الصلاة والسلام، فإذا وقفت أي ساعة من ليل أو نهار بعرفات فحجك صحيح والحمد لله. قال الله سبحانه: {يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج:27] ففي ذلك جواز الحج راكباً وماشياً، وقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم كل ذلك. ومن مشى لعدم استطاعته الإنفاق على الركوب، فكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لـ عائشة: (أجرك على قدر نصبك) وبالنسبة للنساء فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (جهادكن الحج والعمرة) وذلك لما قالت عائشة رضي الله: (نرى الجهاد أفضل الأعمال أفلا نجاهد؟ قال: لكن جهاد لا قتال فيه حج مبرور) فالحج مشقة على النساء لكنه جهادهن كما قال النبي صلوات الله وسلامه عليه. {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج:27] والفج الطريق، ومنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (وكل فجاج منىً ومكة طريق ومنحر) يعني أن لك أن تذبح في أي مكان في منىً أو في مكة. {يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج:27] أي: طريق بعيد.

تفسير قوله تعالى: (ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله)

تفسير قوله تعالى: (ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله) {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج:28] استدل بها العلماء على مشروعية التجارة في الموسم فإخواننا الذين يذهبون للحج ويتاجرون أيضاً لا بأس بتجارتهم في الحج لهذه الآية الكريمة {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج:28] فإذا تاجرت في الحج فبعت واشتريت فلا بأس، ما لم يشب البيع والشراء كذب ولا غش ولا رفث، فالبيع المبرور من أطيب الأرزاق. قال الله سبحانه {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج:28] الأيام المعلومات هي: العشر الأول من ذي الحجة، والأيام المعدودات في قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:203] هي: الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجة، وتسمى أيام التشريق، قال فيها الرسول صلى الله عليه وسلم: (أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل).

الكف عن الشعر والظفر لمن أراد أن يضحي

الكف عن الشعر والظفر لمن أراد أن يضحي أما الأيام المعلومات فهي: العشر الأول من ذي الحجة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يضحي، فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره شيئاً) فإذا كنت تريد أن تضحي في العيد فلا يشرع لك أن تأخذ من شعرك ولا من أظفارك شيئاً. هذا الامتناع يبدأ من دخول أول ليلة من ليالي ذي الحجة، (إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره شيئاً). وهل هذا النهي للتنزيه أو للتحريم؟ ذهب كثير من أهل العلم إلى أنه للتنزيه، واستدل الإمام الشافعي رحمه الله تعالى على الجواز بأن أم المؤمنين عائشة قالت: (كنت أفتل قلائد النبي صلى الله عليه وسلم فيرسل بها من المدينة إلى مكة ولا يحرم عليه شيء مما يحرم على المحرم) وهذه سنة ما رأينا أحداً أبداً من أهل بلادنا ولا سمعنا أنه فعلها، ما هي هذه السنة؟ يسن للموسر الذي لا يستطيع الحج أن يرسل هدياً إلى مكة. فقولها: (كنت أفتل قلائد النبي صلى الله عليه وسلم بيدي ثم يرسل بها من المدينة إلى مكة ولا يحرم عليه شيء مما يحرم على المحرم)، استدل الإمام الشافعي رحمه تعالى بهذا الحديث من قولها: (لا يحرم عليه شيء مما يحرم على المحرم) أنه يحل له أن يأخذ من شعره وأظفاره، مع أنه سيضحي عليه الصلاة والسلام. لكن هذا الاستنباط الذي استنبطه الإمام الشافعي ليس صريحاً كتلكم الصراحة الموجودة في قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره شيئاً) هذا أصرح في النهي، ولكن الأمر عند كثير من أهل العلم على أن الكراهة للتنزيه، لأنه الأضحية ليست بواجبة من أصلها، إنما هي مستحبة على ما سيأتي بيانه إن شاء الله. وأما بالنسبة للسنة المهجورة فإنه يسن للموسر أن يرسل هدياً إلى مكة إن لم يذهب إلى الحج، أعني أنه إذا وسع الله عليك فأرسل هدياً أو هديين أو ثلاثة على قدر استطاعتك مع الذاهب إلى الحج، ليذبحها لك هناك وأنت مأجور ومثاب إن شاء الله، هذه سنة ثابتة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام.

لا تصح الأضحية إلا إذا كانت من بهيمة الأنعام

لا تصح الأضحية إلا إذا كانت من بهيمة الأنعام قال سبحانه: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج:28] في هذا رد على ابن حزم الذي زعم أنه يجوز للرجل أن يضحي بديك، وورد أثر ضعيف الإسناد عن بلال رضي الله عنه وهو الذي ركب عليه قول العامة: مؤذنٌ ضَحَّى بمؤذنٍ. وهذا لا يثبت عن بلال رضي الله تعالى عنه. قال الله سبحانه: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج:28] والأنعام ثمانية قال الله سبحانه: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر:6] وقال سبحانه في الآية الأخرى: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ} [الأنعام:143] {وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ} [الأنعام:144] الآيات. فعلى ذلك يؤخذ أيضاً كما قدمنا أنه يجوز لك أن تضحي بالأنثى، لأنها داخلة في الأنعام، وسيأتي مزيد لذلك في باب الأضحية قريباً إن شاء الله. {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج:28] أخذ العلماء من هذه الآية استحباب الأكل من الأضحية استحباب الأكل من دم التمتع أو من الهدي بصفة عامة؛ لأن الله قال: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج:28] وثبت أن النبي عليه الصلاة والسلام لما نحر هديه وكانت مائة من الإبل، أمر بقطعة من كل واحدة منها فوضعها في قدر وأكل منها الرسول عليه الصلاة والسلام وشرب من مرقها، فهذه السنة وهذه الآية فيها دليل على استحباب الأكل من الهدي. والذي يضع ماله في بنك كبنك الراجحي وغيره من البنوك، هو من باب التوكيل في الذبح وذلك جائز، لأن النبي عليه الصلاة والسلام نحر ثلاثاً وستين، وأعطى علياً فنحر الباقي لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فالتوكيل في الهدي جائز، لكن الأفضل أن تذبح أنت بيديك إن استطعت وكنت تعرف، فإن النبي كان ينحر بيديه صلى الله عليه وسلم، ويستحب لك أن تأكل منها كذلك، فقد أكل منها رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن إن لم تستطع فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها. وقوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج:29] قضاء التفث المراد به: إزالة الأوساخ التي علقت بالبدن، ويدخل فيه قص الأظفار وحلق الشعر ونتف الأبط وحلق العانة ونحو ذلك. {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج:29] أي: التي كانوا قد نذروها من قبل، فمنهم من نذر أن يحج، ومنهم من نذر أن يذبح، ومنهم من نذر أن يطوف، ومنهم من نذر أن يصلي في الحرم، ومنهم من نذر أن يصلي أي صلاة كانت هناك ما دامت مباحة. {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29] والعتيق هو القديم. كما قال ابن مسعود في بعض السور الطوال: إنهن من العتاق الأول، إنهن من تلادي، أي: من قديم حفظي.

تفسير قوله تعالى: (ذلك ومن يعظم حرمات الله)

تفسير قوله تعالى: (ذلك ومن يعظم حرمات الله) قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج:30] الرقيب عليك في تعظيم حرمات الله هو الله سبحانه، فمن الذي يدري هل أنت أهديت أم لم تهد؟ هل رميت الجمرات أم لم ترم؟ هل عظمت حرمة مكة أم لم تعظمها؟ فلمكة حرمة. فعلى كل الحجيج أن ينتبهوا إلى هذه الحرمة، الذنوب في مكة تتضاعف، والله يقول في الحرم ككل، وللمعلومية الحرم يشمل مكة بكاملها ويشمل منى أيضاً، فمنى من الحرم، ويشمل أيضاً جزءً من مزدلفة، فكل هذه تنسحب عليها أحكام الحرم، والله يقول: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25] قال الرسول صلى الله عليه وسلم في شأن مكة: (لا يقطع شجرها، ولا يعضد شوكها، ولا تلتقط لقطتها). ومعنى: (ولا يقطع شجرها، ولا ينفر صيدها) أي: لا يجوز لك أن تفزع حمامة أمامك وتطيرها، ولا يجوز لك أن تقتل الصيد في الحرم، جرادة موجودة لا يجوز لك أن تقتلها حمامة موجودة لا يجوز لك أن تقتلها شجرة موجودة لا يجوز لك أن تقطع منها ورقة وتعبث بها، هكذا قال الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم. فلمكة حرمة يجب أن تراعى، لو وجدت أموالاً في الطريق، فإما أن تتركها، أو تأخذها وتسلمها للأمانات، ليس لك أن تلتقط لقطة مكة أبداً، ففيها تشديد من رسول الله صلى الله عليه وسلم. والمدينة كمكة في هذا الشأن قال عليه الصلاة والسلام: (اللهم إن إبراهيم حرم مكة، وإني أحرم المدينة ما بين لابتيها كما حرم إبراهيم صلى الله عليه وسلم مكة) الحديث. قال الله سبحانه وتعالى: {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج:30]. الرجس: يطلق على النجس، والأوثان نجسة، لكن ليست نجاسة حسية وإنما هي نجاسة معنوية. والزور: يطلق على الشرك، ويطلق على شهادات الزور، وهو عام، وقد علمتم أن الزور من أكبر الكبائر (ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت).

أفضلية الحلق على التقصير عند التحلل

أفضلية الحلق على التقصير عند التحلل {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32]. والتقوى: هناك تظهر واضحة في شخص خُيّر بين الحلق والتقصير، فيجد شعره جميلاً يقول: لو أحلق سيكون شكلي قبيحاً، وآخر يبادر بالطاعة وصدره منشرح جداً أنه سيضحي بهذا الشعر ويزيله لله سبحانه، ويغنم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم (رحم الله المحلقين. قالوا: والمقصرين يا رسول الله. قال: رحم الله المحلقين. قالوا: والمقصرين يا رسول الله. قال: رحم الله المحلقين. قالوا: والمقصرين يا رسول الله. قال: والمقصرين) في الرابعة جبراً لخاطرهم، والله قدم الحلق في كتابه الكريم. وتجد الناس عند التحلل على صنفين: - صنف منهم مقبل على الله ويؤدي العمل على ما يريده منه ربه سبحانه فيبادر بالحلق واختيار الأفضل تماماً. - وقسم يكتفي بإزالة جزء من الشعر بمقص، وهذا لا يجزئ إنما الذي يجزئ تعميم الشعر إما بالحلق وإما بالتقصير، إلا في حق النساء فقط، فيقصصن من شعورهن قدر أنملة، كما ورد عن الصحابيات رضي الله تعالى عنهن. أيضاً تجد تقوى الله ظاهرة عند قوم أثناء الذبيحة، فالبعض يشتري أرخص ذبيحة يأتي بها كي يذبحها، والثاني يذهب فيأخذ أحسن ذبيحة ويتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى، ويعلم أن ما يفعله من خير فلن يكفره والله عليم بالمتقين، ويعلم أن من يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره.

عظم ذنب من أشرك بالله في حرم الله

عظم ذنب من أشرك بالله في حرم الله {حُنَفَاءَ لِلَّهِ} [الحج:31]: حنفاء عن الشرك مائلين إلى الله، فمعنى: (حنفاء): مائلين عن الشرك. والحنيف: هو المائل. وجاء المثل عند العرب: والله لولا حنف في رجله ما كان في صبيانكم من مثله، تعني رجله معوجة قليلاً لكنه ذكي ولبيب، فالأطفال يسخرون منه، والنساء يسخرن منه فقالت امرأته: والله لولا حنف في رجله ما كان في صبيانكم من مثله. فالشاهد أن الحنيف: هو المائل عن الشرك المتجه إلى التوحيد. {حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ} [الحج:31] وخاصة في مواسم الحج، فإنه لا يليق بك أن تتجه لغير الله، وعجباً من قوم يقولون: مدد يا بدوي. ويذهبون للحج، يقولون: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، وهم يشركون بالله، ويتخذون البدوي معيناً وممداً لهم، وبعضهم يقول: مدد يا حسين، لذلك تكررت الآيات التي تنهى عن الشرك في ثنايا أبواب الحج. فكذاب أشر الذي يقول: لبيك لا شريك لك لبيك، وفي نفس الوقت يقول: مدد يا بدوي ومدد يا حسن ومدد يا حسين ويا حسين اشف لي ولدي إلى غير ذلك، هل كان الخليل إبراهيم يقول: يا بدوي اشف لي ولدي، كلا بل قال: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} [الشعراء:80 - 81]. ومصير المشرك ما ذكره الله تعالى: {حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31] كما قال الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما في المسند بإسناد صحيح من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه، وذكر احتضار العبد الكافر، (تنزل إليه ملائكة سود الوجوه، يأتونه ويأخذون روحه ويصعدون بها إلى السماء، ويخرج منها كأنتن ريح جيفة عرفت على وجه الأرض، فلا يمرون بملأ من أهل السماء إلا قالوا: ما هذه الروح الخبيثة، فيقولون: روح فلان ابن فلان. بأقبح أسمائه، فيصعدون بها إلى السماء الدنيا فيستفتحون، فلا تفتح له أبواب السماء، فتسقط تلك الروح من السماء إلى الأرض السابعة السفلى، ثم تلا عليه الصلاة والسلام: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31]). {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32] وشعائر الله بصفة عامة هي: أعمال الدين الظاهرة كما قدمنا، فرمي الجمار من شعائر الله، والصلاة من شعائر الله، واللحية من شعائر الله، والسعي بين الصفا والمروة من شعائر الله، والطواف بالبيت من شعائر الله، وكل أعلام الدين الظاهرة تكون من شعائر الله، والنحر من شعائر الله، والذبح من شعائر الله، والحلق من شعائر الله، والتقصير من شعائر الله.

تفسير قوله تعالى: (ذلك ومن يعظم شعائر الله)

تفسير قوله تعالى: (ذلك ومن يعظم شعائر الله) قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ * لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ * وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج:32 - 34] والمنسك لأهل الإسلام، قال كثير من العلماء: إنه الذبح الذي يذبح بمكة أو بمنى. {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا} [الحج:34] أيضاً قوله سبحانه عن قريب {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} [الحج:30] وقوله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ} [الحج:31] وقوله سبحانه وتعالى: {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الحج:34] كلها تمنع من اتخاذ الشريك لله في هذا المنسك الذي هو الحج، فلا ينبغي لك أبداً أن تأتي كبير الشرك ولا صغيره. فلا تذهب إلى منىً أو إلى عرفات وتلتقط صورة لنفسك، أو تلتقط المرأة صورة مع رجل، وترجع ترائي بها الناس، أن حججت أنا وفلان وفلان، فالحج لابد أن تخلص فيه الأعمال كلها لله سبحانه وتعالى، فغير لائق بالحاج على الإطلاق أن يذهب فيتصور على الصخرات في عرفات في مكان يباهي الله الملائكة بالحجيج ويقول: انظروا إلى عبادي هؤلاء أتوني شعثاً غبراً، أشهدكم أني قد غفرت لهم، فلا يليق بك أن تجمع بين كبيرة التصوير، وبين الرياء الذي هو أحد ضروب الشرك، والذي هو الشرك الأصغر كما قال الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم. قال الله سبحانه وتعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ * لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ * وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} [الحج:32 - 34] الطائعون الخائفين الوجلين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم أي خافت قلوبهم وارتعدت قلوبهم {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [الحج:34 - 36] البدن: هي الإبل. ومن العلماء من يطلقها على الإبل والبقر ويقول: البدنة يدخل في تعريفها الناقة ويدخل في تعريفها أيضاً البقرة، لكن استظهر كثير من العلماء أن البدنة خاصة بالناقة أو الجمل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من راح في الساعة الأولى يوم الجمعة فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة).

تفسير قوله تعالى: (والبدن جعلناها لكم)

تفسير قوله تعالى: (والبدن جعلناها لكم) {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج:36] أي: عند نحرها حين تنحر وهي صواف، أي: قائمة معقولة الرجل اليسرى، تقف على ثلاث أرجل والرجل اليسرى يضم ساقها منها إلى فخذها وتنحر، أي: تطعن في منطقة اتصال الرقبة بسائر الجسم، فهذه هي صفة نحر البدن. {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج:36] أي: قائمة معقولة الرجل اليسرى. {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج:36] وجبت أي: سقطت جنوبها على الأرض. {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الحج:36] كم يَطْعم منها ذابحها؟ وكم يُطْعِم منها الفقراء والمساكين؟ لم يرد في هذا تحديد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل الأمر على التوسعة والإباحة، وأما تقسيمها إلى ثلاث أجزاء فليس فيه خبر ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. قال تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا} [الحج:37] لن ينال الله شيء من هذه اللحوم ولا من هذه الدماء، إنما ليعلم من منكم التقي ومن منكم المعظم لحرمات الله، ومن منكم الموقر لحرمات الله، وكذلك قال: {وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} [الحج:37]. ولأن الحاج يشرع له أيضاً إن كان مستطيعاً أن يضحي، فالأضحية لا تسقط بالسفر، وهي بصفة عامة مشروعة للمقيمين أو للمسافرين. أما الهدي فالأمر فيه أيسر؛ لأن الله قال في شأن الهدي: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196]، لكن الأضاحي لها شروط لابد أن تفعل، ولابد أن تراعى هذه الشروط، وإلا كانت ذبيحتك أو شاتك شاة لحم كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، وهنا تكمل فائدة العلم بسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، فقد تذهب وتشتري بقرة وتشتري جملاً وتشتري كبشاً وتضحي وليس لك ثواب المضحي أبداً، فعليك أن تتعلم ما هي شروط الأضحية التي تجزئ عنك. وقد ورد أن صحابياً جاء يخبر النبي عليه الصلاة والسلام أنه ضحى، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام قال له: (شاتك شاة لحم) أي: ليس لك فيها أجر المضحي، فعليك أن تتعلم ما هي الشروط اللازمة في الأضاحي حتى تفعل أعمالك وتكون على بينة. هذا والأضحية مشروعة ومستحبة عند جماهير العلماء، وشاهدها من كتاب الله سبحانه وتعالى قول الله جل ذكره: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2] قال جمهور المفسرين: أي: صل لربك وانحر لربك، فكما لا تصلي إلا لربك فلا تنحر إلا لَهُ، والمراد بالنحر هنا الذبح بعد الصلاة، فهذا دليل مشروعيتها من الكتاب العزيز. ومن السنة (ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أقرنين أملحين موجوئين) والأملح: هو الأسود المختلط بالبياض، والذي غلب بياضه على سواده، لكن يجوز لك أن تضحي بأي لون من الألوان، ومن أهل العلم من قال: الأملح: هو الأبيض بصفة عامة.

شروط الأضحية

شروط الأضحية الأضحية من السنن التي رغب فيها الشرع وحث عليها، فجدير بمن وسع الله عليه أن يتقرب إلى الله بهذا النسك، ولابد أن يعلم أن للأضحية شروطاً قد بينها النبي صلى الله عليه وسلم ينبغي مراعاتها حتى يقبل هذا النسك.

فضيلة الأشهر الحرم

فضيلة الأشهر الحرم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: فإن أشهر الحرم قال الله سبحانه وتعالى فيها: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة:36]، والأشهر الحرم فسرها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بقوله: (ثلاث متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، وشهر الله المحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان)، فلا ينبغي أن نظلم في هذه الأشهر أنفسنا؛ فإن الإثم فيها أعظم من الإثم في غيرها، والذنب في هذه الأيام أعظم من الذنب في غيرها، دل على ذلك قوله تعالى في الآية السالفة الذكر، وقول الرسول عليه الصلاة والسلام لأصحابه في مكة يوم النحر: (أتدرون أي شهر هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم -مع معرفتهم بالشهر- قال: أليس بذي الحجة؟ أليس بالشهر الحرام؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: أي بلد هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: أليست البلدة؟ قالوا: بلى قال: أي يوم هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: أليس بيوم النحر؟ قالوا: بلى، فقال عليه الصلاة والسلام: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذه، ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد، ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد، ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد، ثم قال عليه الصلاة والسلام: ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب؛ فرب مبلغ أوعى من سامع) وقال عليه الصلاة والسلام: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) فلهذه الأشهر حرمة، فجدير بكل مسلم أن يحافظ على لسانه الذي طالما جال في الأعراض، وليحافظ على يده التي طالما امتدت إلى المآثم، وليحافظ على بصره الذي ذهب يمنة ويسرة طول العام، فليحافظ الشخص على سمعه، وعلى بصره، وعلى يديه ورجليه، وعلى قلبه في هذه الأشهر، فالذنب فيها أكبر والإثم فيها أعظم، وليحرص على عمل الخير من صدقة وصلة وبر وعيادة للمرضى وصيام وصلاة، إلى غير ذلك من أنواع البر في هذه الأيام، فالأجور فيها أعظم، كما أن الآثام فيها أعظم، فجدير بكل مسلم ألا يحرم نفسه من الخير في هذه الأيام.

الأضحية وشروطها

الأضحية وشروطها في شهر ذي الحجة يكون الناس على مشارف يوم النحر الذي تجهز الأضاحي له، فجدير بكل من وسع الله عليه أن يبدأ في تجهيز أضحيته التي يقدر عليها، لكن بالشروط التي بينها رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (لا تذبحوا إلا مسنة، إلا أن يعسر عليكم -أي: إذا أعسر عليكم- فاذبحوا جذعة من الضأن)، والحديث في صحيح مسلم، وإن كان بعض المعاصرين انتقدوه بما لا وجه له. والمسنة: هي الثني من كل شيء، فهي الثني من المعز، والثني من البقر، والثني من الإبل. أما الثني من المعز أو من الضأن فما بلغ سنة ودخل في الثانية. وأما الثني من البقر فما أتم سنتين ودخل في الثالثة. وأما الثني من الإبل فما بلغ خمس سنوات ودخل في السنة السادسة. وأما الجذع من الضأن الذي رخص فيه رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام لمن لم يجد المسنة فمن العلماء من قيده بسنة، ومنهم من قال: ستة أشهر فما زاد. فعلى ذلك لا يجوز لك أن تذبح بقرة أو ثوراً أضحيته وهو دون العامين، ولا يجوز لك أن تذبح جملاً دون خمس سنوات أضحية لك، ولا يجوز لك أن تذبح من المعز ما عمره أقل من السنة، فإنك إن فعلت فطعامك لحم وليس من النسك في شيء، إنما النسك أن يكون على ما وصف رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام: (لا تذبحوا إلا مسنة)، وكما أسلفنا فالمسنة: هي الثني من كل شيء، فهذا قول محمد عليه أفضل صلاة وأتم تسليم. ويجب أن تتقى العوراء البين عورها، والعرجاء البين عرجها، والمريضة البين مرضها، والعيوب المشهورة الكبيرة التي يطبق الناس على أنها عيب، والكبيرة التي لا تنقي. أي: ضعيفة.

فضيلة الأضحية

فضيلة الأضحية قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2]، فكما أن الصلاة يتقرب العبد بها إلى ربه فكذلك النحر يتقرب به العبد إلى ربه، فإذا اشتريت لحماً وأكلت لحماً في هذا اليوم فلحمك إنما هو طعام ليس من النسك في شيء. ولذلك إذا جاء شخص يستفتي ويسأل ويقول: هل لي أن أشتري لحماً إن كان هذا اللحم الذي سأشتريه أكثر وأعظم من لحم الشاة التي تذبح عقيقة أو ستذبح أضحية نقول له: لحمك إنما هو طعام ليس لك فيه شيء إلا أجر الإطعام، وليس لك فيه أجر القربة إلى الله، فالذبح في حد ذاته قربه يتقرب بها العبد إلى ربه، وقد قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام:162 - 163] فالنسك هو الذبح على رأي جمهور أهل العلم، فيجب أن يكون الاستهلال لله، فإذا أهللت لله تثاب، كما أن الذي يهل لغير الله سبحانه وتعالى يأثم، فذات الذبح والتقرب به إلى الله فيه أجر، أما شراء اللحم فليس فيه كبير أجر، ولذلك ينصح إخواننا الذين لم يوسع الله سبحانه عليهم، والذين قدر الله عليهم في أرزاقهم أن يشتركوا سبعة في بقرة فيقتسمونها، فلهم في ذلك أجر أفضل من أجر الشراء من الجزار، فهذا هدي نبينا محمد عليه الصلاة والسلام. وجدير بنا أن نلفت النظر أيضاً إلى سنة أخرى لمن لم يوفقوا للحج، ولمن لم يستطيعوا الحج وحيل بينهم وبينه وثم أقارب أو جيران لهم سيحجون، وهذه سنة هجرت وأغفلت، وقد كان رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام يفعل ذلك عندما كان لا يحج، فقد حيل بينه وبين الحج عليه الصلاة والسلام فقلد بدنه وأرسل هديه كي يذبح بمكة، فهذه سنة غفل عنها الناس، ألا وهي أن من لم يستطع الذهاب إلى الحج فله أن يعطي رجلاً يذبح عنه هدياً في مكة، وذلك لأن سوق الهدي الآن من المشقة بمكان، فتجوز حينئذٍ الوكالة فيه، فيجوز لرجل يريد التقرب إلى الله أن يعطي جاراً له من الحجيج ما يهدي به عنه، أو يوكله في الشراء والذبح عنه بمنى أو بمكة فكل فجاج منى ومكة منحر كما قال رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام، فهذه سنة خفيت على كثيرين، ولا نكاد نرى من يفعلها إلا غبرات من النساء كبيرات السن اللواتي يرسلن ببعض الحبوب لحمام الحرم بزعمهن أن في هذا قربة إلى الله، ولهن ما نوين، لكن السنة في ذلك إرسال الهدي، وقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام في زمنه -إذا كان ذلك ميسراً- يشعر البدن ويقلد الهدي ويرسله مع الزائرين إلى مكة. ثم ليطلب المحروم من الحج من ربه سبحانه أن يكتب له ثواب هذا الحج، فالأعمال إن لم تنل بالأبدان تنال بالنيات، فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا شاركوكم الأجر، حبسهم العذر)، وقد قال الشاعر: يا قاصدين إلى البيت الحرام لقد سرتم جسوماً وسرنا نحن أرواحا إلى أن قال: فمن سار بروحه فقد راحا فتمنوا من ربكم أن يكتب لكم الأجور بكونكم حيل بينكم وبين ذلك، وقد قال نبينا محمد عليه الصلاة والسلام: (من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه) اللهم يا ربنا يا سميع الدعاء: احشرنا مع نبينا محمد سيد ولد آدم في أعلى جنة الخلد التي أعدت للمتقين، وارزقنا أخلاقاً كأخلاق نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، واجعلنا يا ربنا في عداد المحسنين السابقين إلى الخيرات.

عام قد مضى

عام قد مضى لقد جعل الله تعالى الليل والنهار والشمس والقمر آيات لتذكر العباد بما هم صائرون إليه، ولم يجعل الله الدنيا نهاراً سرمداً أو ليلاً سرمداً لأمرين: أحدهما: لئلا يسأم العبد من هذا النمط الواحد، والأمر الثاني: للعظة والعبرة، وليتذكر الإنسان برحيل الليل والنهار انقضاء عمره وتصرم أيامه، ورحيله عن الدنيا ومفارقته لها، فالمرء ما هو إلا أيام، وإذا مضى بعضه أوشك أن يمضي كله.

مشاهد من يوم القيامة

مشاهد من يوم القيامة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. وبعد: فإن الله سبحانه وتعالى بين لنا أمر الآخرة خير بيان، وصوره الله سبحانه وتعالى خير تصوير؛ حتى نعلم على ماذا سنقدم، وقد ذكّرنا ربنا بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18]، وذلك أيضاً حتى نتزود له بخير زاد، وقد قال تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197]، وقال في كتابه الكريم: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:27 - 28]، ذكرنا الله سبحانه وتعالى ببعض مواقف الآخرة، فقال: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} [الأنعام:27]، من هم هؤلاء المعنيون بقوله تعالى: {إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} [الأنعام:27]؟ من العلماء من يقول: إنهم الكفار. ومنهم من يقول: إنهم أهل النفاق، لو ترى منظرهم إذ وقفوا على النار لرأيت منظراً بشعاً، لرأيت شيئاً مهولاً وهم وقوف على النار، وما المراد بوقوفهم على النار كذلك؟ من العلماء من قال: وقوفهم على النار وقوفهم على حافتها ينظرون إليها قبل أن يقتحموها. ومنهم من قال: وقوفهم على النار أثناء مرورهم على الصراط، فليس ثم جنة إلا بعد المرور على الصراط، فالكل يمر على الصراط كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وبجنبتي الصراط يقف الأنبياء والمرسلون يقولون: رب سلم سلم، فيمر الناس على الصراط كلهم مؤمنهم وكافرهم، أما الكافر فيسقط، والمؤمن ينجو. والصراط: هو جسر جهنم. ومن العلماء من قال: وقفوا على الصراط والنار تحتهم. ومنهم من قال: وقفوا على النار قبل اقتحامها، فماذا يقولون؟ {فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام:27]، ولو ترى إذ وقفوا على النار لرأيت مناظر لم تخطر لك على بال، وهذا المعنى أيضاً موجود في قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ} [الأنعام:30] أي: إذا رأيت حالاً من الذلة والانكسار لا تتصور ولا تتخيل، فإذا وقف الشخص يكلم ربه، فكما قال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا وسيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر عن يمنيه فلا يرى إلا النار، وينظر عن شماله فلا يرى إلا النار، وينظر عن أمامه فلا يرى إلا ما قد قدم، فليتق أحدكم النار ولو بشق تمرة). فالنار تحيط بالشخص من كل الجوانب، إلا الذين رحمهم الله سبحانه وتعالى، وهذا المعنى موجود أيضاً في قوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} [الأنعام:93]، لو تصورت هذا المنظر، ماذا فيه؟ قال: {وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ} [الأنعام:93] أي: بالضرب، يضربون المحتضر من الأمام ومن الخلف، كما قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [الأنفال:50]، لو رأيت هذا المنظر لعملت لذلك أعمالاً، وللذت إلى ربك سبحانه وتعالى، ولرجعت إليه كل الرجوع: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [الأنفال:50]، لو رأيت هذا المنظر لعملت لذلك أعمالاً، لانزعجت منه غاية الانزعاج، وهو كائن وإن كنت لا تراه، قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ} [الأنعام:27] إلى دنيانا {وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام:27]، قال تعالى: {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ} [الأنعام:28]، ظهرت حقائقهم التي كانوا يخفونها، ظهر أيضاً وجه نفاقهم الذي كانوا ينافقون به، فقد كذبوا في الدنيا، وأضلوا الناس عن طريق الله سبحانه وتعالى، فظهرت الحقائق يوم القيامة، كما قال تعالى: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق:9]، ظهرت الحقائق على الألسنة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يقال للعبد يوم القيامة: عملت كذا وكذا، فيقول: ما عملت شيئاً، فيختم على فِيهِ، فتنطق أركانه بالذي صدر منه وأحدثه، فيقول لهن: سحقاً لكن وبعداً فعنكن كنت أناضل)، أي: عنكن كنت أدافع. وكذلك قال فريق من أهل العلم: يظهر للمستضعفين غِش السادة والكبراء، الذين كانوا يغشونهم، فالسادة والكبراء كانوا يعمون على الناس حقائق الأمور، فيظهرها الله سبحانه وتعالى يوم القيامة: {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام:28]، وهذا يبين إِحكام الكفر في هؤلاء الكفار، فبعد أن أطلعهم الله سبحانه وتعالى على النار، ورأوا ما فيها من صور العذاب، تمنوا أن يعودوا إلى الدنيا ليعملوا أعمالاً صالحة، ولكن قال ربنا مبيناً استحكام الكفر في هؤلاء: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:28]، أي: لو ردوا في دنياهم لقالوا: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [الأنعام:29]، هذا قولهم في دنياهم ينكرون البعث، كما قال تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:78 - 79]، قال الله سبحانه: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ * قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً}، فالساعة تأتي بغتة معشر الإخوة، وليس ثم تفريق بين شيخ ضاعن في السن، ولا بين شاب ولا بين طفل: {حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا} أي: يا حسرة، تعالي وحلي، فهذا أوانك وهذا مقامك وهذا منزلك، {قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ}، تأتي يوم القيامة كل نفس تحمل أثقالاً وذنوباً على ظهورها (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [الأنعام:31]، ألا بئست هذه الأحمال! ألا بئست هذه الأثقال! ألا بئست هذه الأوزار التي تُحمل على الظهور: {أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ}، {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} يا محمد! نحن نعرف ونسمع ونرى ما تصاب به من الأذى، نحن نعلم الذي يحل بك، وأن هذا يضايقك {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ * وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا} أي: فلتكن لك فيهم أسوة حسنة {فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ * وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} أي: شق عليك وعظم تكذيبهم {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ} أي: فافعل ولن تستطيع، قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [الأنعام:35].

إنك لا تهدي من أحببت

إنك لا تهدي من أحببت وقفةٌ مع هذه الآية الأخيرة: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [الأنعام:35]، آيةٌ من الآيات التي تؤصل الإيمان بالقدر، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ}. فلتعلم يا محمد! ولتعلموا يا عموم البشر! أن أمر الهداية ليس بموكول إليكم، إنما هو إلى الله سبحانه، وأن أمر القلوب ليس بموكول إليكم، إنما هو إلى الله سبحانه وتعالى، فمن ثم لا تذهب أنفسكم حسرات على من أضلهم الله، وعلى من أغواهم الله سبحانه وتعالى، فإن ذهاب النفس حسرات على المبتعدين عن طريق الله نوع من أنواع الجهل، ونوع من أنواع عدم العلم بالله، ونوعٌ من أنواع التخبط، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات، قال الله سبحانه وتعالى لنوح عليه الصلاة والسلام إذ أخذته الشفقة على ولده فقال وقد رأى ولده يغرق أمام عينيه قال: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود:45 - 47]، ففيه جواز الاستدارك بعد الدعاء، فإذا دعوت ربك بدعوة رأيت أن بها خللاً وأنها لا تجوز، جاز لك أن تضرب عنها، وأن تسأل ربك سبحانه عدم تحققها، ولذلك أدلة، فإذا دعت أمٌ على ولدها ثم ندمت، فتعقب ذلك بدعاء آخر ألا يستجيب الله سبحانه وتعالى دعوتها، فهذا إبراهيم الخليل دعا ربه بالمغفرة لأبيه {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة:114]، ولما دعت الأم لولدها أن يكون مثل الفارس: (اللهم اجعل ابني مثل هذا، قال الولد: اللهم لا تجعلني مثله)، فيجوز لك أن تعقب الدعوة التي لم ترها سديدة بدعوةٍ أخرى. نرجع إلى ما كنا بصدده: ألا وهو أن أمر الهداية بيد الله سبحانه، وليس بأيدينا، قال تعالى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:63]، وقال الله سبحانه: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} [يونس:100]، فإذا علمت هذا فلا ينبغي أن تذهب نفسك حسرات على أحدٍ من الناس، لا على ولدٍ، ولا على زوجٍ، ولا على أخٍ، ولا على أب، ولا على صديق، فإنا وإن حزنا لعصيان من عصى، فينبغي ألا يتمادى بنا حزننا إلى أن نجهل، وأن نتدخل في أمر الله، فلعقولنا طاقة، وربنا هو الذي أحاط بكل شيء علماً، والله أعلم بالمهتدين، وأعلم بمن يستحق الغواية فيغوى، ويعلم من يستحق الهداية فيهديه سبحانه، فلا تذهب أنفسنا حسرات على ابتعاد من ابتعد، وعلى ردة من ارتد، وعلى شرود من شرد، فلله الأمر من قبل ولله الأمر من بعد، إننا قد نحكم على أمر من الأمور بحكم فيما ظهر لنا وبدا، ويكون في الأمر ووراء الأمر ما هو أعظم من ذلك، وما هو بخلاف ذلك.

إنما الأعمال بالخواتيم

إنما الأعمال بالخواتيم إن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رأوا رجلاً يقاتل معهم ضد الكفار أشد القتال، وظاهره أنه صحابي من صحابة رسول الله، رأوه يقاتل الكفار قتالا أشد القتال، فأعجبوا به أيما إعجاب، وجاء بعضهم إلى النبي عليه الصلاة والسلام يقول: يا رسول الله! ما أجدى اليوم منا أحد كما أجدى فلان، فقال نبينا محمد عليه الصلاة والسلام: (هو من أهل النار)، فشق ذلك على الصحابة وكبر عليهم، فالرجل يقاتل والرجل يجاهد، والرجل شجاع وجريء، فتبعه أحد الصحابة فرآه يقاتل العدو أشد القتال، ثم ما لبث أن طُعن، فما صبر على الطعنة فوضع مقبض سيفه في الأرض وذبابه بين ثدييه، ثم تحامل عليه حتى قتل نفسه، فجاء الرجل إلى الرسول، فقال: يا رسول الله! الرجل الذي أخبرت أنه من أهل النار فعل كذا وكذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الله أكبر! أشهد أني رسول الله، إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها). لذلك معشر الإخوة! {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99]، فاعلموا وأيقنوا أن المهتدي من هداه الله، وأن الغوي من أغوي، أغواه الله -والعياذ بالله-، ثم لا ينبغي أن تتحسر النفس على أحد، ولا أن تتقطع حسرات على أحد، قال تعالى لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [الأنعام:35]، فالله قادر على هداية الخلق أجمعين، ولكن شاء الله وقدر أن يخلق الناس مختلفة طبائعهم، مختلفة أفكارهم، مختلفة أخلاقهم، فترى من الناس التقي الورع الذي يرى ذنبه وكأنه جبل يوشك أن يسقط عليه، وترى من الناس الغوي الفاجر الذي يقترف الكبائر، وكأنها ذباب وقع على وجهه فهشه فطار. ترى من الناس الرجل الوفي الكريم، والرجل الماكر اللئيم ترى من الناس الرجل الشحيح البخيل، والرجل السخي الكريم، خصالٌ أنعم الله بها على العباد، وخصالٌ تخلق بها أقوام من أهل الفجور، خصالٌ وخصال، وتأتي تخلص إنساناً من خصلة، فلا تستطيع بحال من الأحوال، تريد أن تجعل البخيل كريماً، فلا تستطيع معه بحال، وإن أعطاك شيئاً أو أعطى آخر شيئاً فهو أشق عليه من أن يقطع جزءٌ من جسمه. شخصٌ آخر تأتي تعلمه المزاح أو المداعبات وهو لا يفقه أنواع المزاح ولا أنواع المداعبات، ويقلب الفرح هماً ونكداً وغماً خصالٌ اختلف بها خلق الله، إذ جبلهم الله سبحانه جبلات، ولا تملك لهم شيئاً إلا إذا حولهم الله وإذا غيرهم الله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ * إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [الأنعام:35 - 36]، هكذا قال تعالى: {وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} الموتى الذين تفرقت أجسادهم، وبليت أجسامهم، يبعثهم الله، {ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}، فاعملوا للقاء الله، وانظروا ماذا قدمتم لغدٍ.

وصايا متفرقة في نهاية العام

وصايا متفرقة في نهاية العام وما دام هذا العام قد انصرم فلننظر ماذا قدمنا في عام قد انقرض، في عام هذا ختامه؟ كم قمنا لله في ليل؟ كم تصدقنا من صدقة؟ كم أدينا من زكاة؟ هل اعتمرنا؟ هل حججنا؟ هل أصلحنا بين الناس؟ هل وصلنا الأرحام؟ فكل هذه أسئلة ينبغي أن يطرحها كل منا على نفسه، قبل أن يطرحها الله عليه ويسأله في يوم الدين: هل وصلت رحمك؟ كم صليت لله من ركعات؟ هل طهرت قلبك من غش المسلمين؟ فيجب علينا أن نراجع أنفسنا في ختام هذا العام الذي كاد أن ينصرم. انظروا إلى السيئات وقدموا لها توبةً واستغفاراً، وانظروا إلى الأرحام التي قد قطعت وعاهدوا الله على الوصل بعد هذا القطع الطويل، انظروا إلى الشح الذي قد صدر منكم، وعاهدوا الله على البذل وعلى العطاء، اعفوا عن الناس ليعفَو الله عنكم، فهو يحب الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس ويحب أهل الإحسان.

الإكثار من الدعاء بالثبات حتى الممات

الإكثار من الدعاء بالثبات حتى الممات وقد كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يكثر من الدعاء فيقول: (اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)، وكان أهل الإيمان يقولون: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران:8]، فيا عباد الله! سلوا الله الثبات على الإيمان حتى الممات، وسلوا الله التوفيق للعمل الصالح، فالموفق من وفقه الله، والمسدد من سدده الله، ثم سلوا الله سبحانه لأنفسكم ولعموم المؤمنين المغفرة من الذنوب، فعمموا في دعواتكم بعد التخصيص، خصوا أنفسكم، وخصوا أهليكم بالدعاء، ثم عمموا الدعاء لسائر المؤمنين والمؤمنات كما كان الأنبياء يفعلون، قال نوح: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} [نوح:28]، فبدأ بنفسه: {رَبِّ اغْفِرْ لِي} ثم بوالديه {وَلِوَالِدَيَّ}، ثم بأصدقائه: أتباعه وأقاربه: {وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا}، ثم عمم فقال: {وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا}. وهكذا أيضاً ملائكة الرحمن يقولون كما قال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر:7]، ثم يقولون: {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم} [غافر:8] وليسوا هم فقط، بل {وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [غافر:8]، وكذلك يأمر ربنا نبيه عليه الصلاة والسلام فيقول: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد:19]، وكذلك يقول تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10]. فإذا دعوت بدعوة فعمم بعد التخصيص، ففي تعميمك دعاءٌ بظاهر الغيب لإخوانك، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا وعنده ملكٌ موكل يقول: آمين ولك بمثل)، فإذا سألت الله أن يصرف عنك المرض، وعن أبنائك وعن إخوانك، فسل الله أن يصرفه عن عموم المؤمنين، وإذا سألت الله أن يفرج عنك الكرب، فسل الله أن يفرج أيضاً عن كل مكروب من المسلمين، وهكذا فاغنم أنت أجر الدعاء بظهر الغيب، ويقيض الله سبحانه لك بعد موتك، بل وفي حياتك من يدعو لك بظهر الغيب، كما دعوت أنت لأهل الإسلام، واستغفروا لذنوبكم، ولذنوب المسلمين والمسلمات، استغفروا الله لأنفسكم، ولآبائكم ولأمهاتكم، فماذا عساه أن يغنم منك أبوك بعد موتك، إلا مقولة منك: اللهم اغفر لأبي، اللهم اغفر لي ولوالدي. فيا عبد الله! عمم بعد التخصيص، اللهم اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم، ربنا اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات يا رب العالمين! اللهم ارحم أمواتنا وأموات المسلمين يا رب العالمين، ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حلمته على الذين من قبلنا، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به، واعف عنا واغفر لنا وارحمنا، أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين. اللهم خذ بيد كل ضال من شباب المسلمين، وفتيات المسلمين، ورجال المسلمين، ونساء المسلمين يا رب العالمين! خذ بأيدينا وأيديهم جميعاً إلى البر والتقوى، ووفقنا لما ترضى من العمل. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

رحيل العام يذكر برحيلنا من الدنيا

رحيل العام يذكر برحيلنا من الدنيا عباد الله! كما انقضى عامكم فستنقضي أعماركم، كما انقضت أيامكم ستنقضي دنياكم، وحينئذٍ تنظر نفسٌ ما قدمت لغد، وحينئذٍ تندم على التفريط في جنب الله، قائلة: {يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر:56] قائلة: {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [الزمر:57]، فقفوا مع أنفسكم وقفات وراجعوها وحاسبوها أشد الحساب حاسبوها على النظرات، حاسبوها على الصلوات، حاسبوها وسلوها كم قمت أيتها النفس في عامك المنصرم من ليلة تتقربين فيها إلى الله؟ كم تجافت الجنوب عن المضاجع؟ سلوا النفس أسئلة وحاسبوها حساباً، قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله، قبل أن يأتي يوم تقول فيه الأنفس: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام:27]، قبل أن يأتي هذا اليوم وأمركم بأيديكم، فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واستغفروا ربكم إنه كان غفاراً.

وجوب التوبة من جميع الذنوب والمعاصي

وجوب التوبة من جميع الذنوب والمعاصي احفظوا هذه الجوارح، فأنتم ستسألون عنها يوم القيامة، يقول الله: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36]، فأنت مسئولٌ عن سمعك وعن بصرك وعن فؤادك كذلك، فسوف تسأل عن سمعك، فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من تسمع إلى قوم وهم له كارهون صُبّ في أذنيه الآنك يوم القيامة)، والآنك: هو الرصاص المنصهر، والبصر أنت مسئولٌ عنه كذلك، ومن ثم جاءت أوامر الله لنا بغض البصر، قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ} قل يا محمد، لمن تبعك وصدقك، فأتباعك هم محل الخطاب، وهم الذين يندفعون للتذكير، ماذا تقول لهم؟ {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} هكذا أمر الله نبيه أن يأمرنا بهذا الأمر، {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى} أي: أطهر لهم، {ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:30]، هكذا أمر الله نبيه محمداً أن يأمرنا بغض البصر، وقال تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19]، وخائنة الأعين: هي النظرة الحرام إلى المرأة أو الأمرد وإن لم يعلمها البشر، فإن ربك سبحانه يعملها، وقد سئل النبي عليه الصلاة والسلام عن نظر الفجاءة، فقال: (اصرف بصرك)، وقال: (إنما جعل الاستئذان من أجل البصر)، وفي حديث في إسناده نوع كلام علي بن أبي طالب وقد حسنه فريق من أهل العلم: (يا علي! لا تتبع النظر النظرة، فإنما لك الأولى، وليست لك الآخرة)، أي: النظرة التي تصدر منك عفواً لست بمؤاخذ عليها، إنما النظرة التي تتعمدها فأنت عليها محاسب ومسئولٌ أمام الله، وقد أحسن الشاعر إذ قال: كل الحوادث مبداها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر كم من نظرة فتكت في قلب صاحبها فتك السهام بلا قوس ولا وتر وقال الآخر: يا رامياً بسهام اللحظ مجتهدا أنت القتيل بما ترمي فلا تصب وقال أيضاً: ترجو الشفاء بأحداق بها عطب فهل سمعت ببرء جاء من عطب

تحريم النظر إلى ما حرم الله وعواقبه

تحريم النظر إلى ما حرم الله وعواقبه فلا تتصور وأنت تنظر إلى المحرم أن هذه النظرة ستريح قلبك؛ بل ستدمره، وستفتك به أيما فتك، قد يزينها لك الشيطان، فتنظر راجياً الراحة بنظرة محرمة، والأمر على العكس مما تصورت وتوهمت، فالنظرة المحرمة تفتك بقلبك، وتعصف به، وتدمره. فيا عباد الله! أيها المؤمنون! أيتها المؤمنات! هذا أمر الله لنا جميعا: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:30]، أيها المؤمنون! قال الله سبحانه: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب:53]، لماذا السؤال؟ حتى لا ترى ببصرك وجه امرأةٍ وجسم امرأة فتفتن به: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53]، وقال تعالى أيضاً: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:31]، ولماذا قُدّم الأمر بغض البصر على الأمر بحفظ الفرج مع أن حفظ الفرج أعظم من غض البصر؟ قال العلماء: لأن البصر بريد للزنا -والعياذ بالله- فجدير بكل مسلم أن يمتثل أمر ربه، وقد قال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ} [النور:31]، توبوا إلى الله من هذا الذنب الذي لا يكاد أن يفارقه أحد. معشر الإخوة! ما زلتم في الأشهر الحرم لم تنقض ولم تنصرم، وإن كاد ذو الحجة أن ينقضي، فأنتم على مشارف شهر الله المحرم، الذي قال فيه النبي عليه الصلاة والسلام: (أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم)، فوطنوا أنفسكم، بالإكثار من الصوم في هذا الشهر الكريم، ولا تستصغروا أوامر ربكم، فإن ربكم سبحانه وتعالى يجازيكم على عملكم خير الجزاء، يأتي لكم بالموسم تلو الموسم حتى تغنموا الخيرات، وحتى تخرجوا من دنياكم بسلامٍ وأمان، سالمين آمنين مطمئنين، حتى لا تتخذوا حياتكم ودينكم لعباً ولهواً، تأتيكم مواسم الخير وكي يغتنمها العقلاء كي يغتنمها الفضلاء، موسم بعد موسم، فيوافوا ربهم سبحانه وتعالى بأعمال بر وأعمال خير، تكون سبباً في نجاتهم وفي مرورهم على الصراط آمنين إلى جنات النعيم. فأنتم على مشارف شهر الله المحرم فاغتنموه بالصيام وبأعمال البر فيه، ويا عباد الله! كما أن الأعوام تنقضي فالدنيا ستنقضي كذلك، فأكثروا من عمل الخيرات وتزودوا بخير زاد، وهو زاد التقوى، وسلوا الله سبحانه وتعالى أن يرحمكم وأن يسددكم، فالمسدد من سدده الله، وسلوا الله دائماً أن يثبت قلوبكم على الإيمان، فالمثبت من ثبته الله.

عام هجري جديد

عام هجري جديد ذكرى هجرة الحبيب عليه الصلاة والسلام لها مدلولات في حياة الفرد المسلم، والجماعة المسلمة، ولابد من أخذ العبر والدروس من هذا الحدث الذي غير مجرى التاريخ، للاستفادة منها في واقعنا الحاضر الذي لن يصلح إلا بما صلح به شأن أول هذه الأمة.

التذكير بالتوبة والاستغفار

التذكير بالتوبة والاستغفار بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. وبعد: فقد ختم بالأمس معشر الإخوة عام قد مضى وانصرم، وبدأنا اليوم في عام جديد، وكما قال الشاعر: تمر بنا الأيام تترى وإنما نساق إلى الآجال والعين تنظر فليس بعائد ذاك الشباب الذي مضى وليس بزائل هذا المشيب المكدر وكما قال تعالى: {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:64]، مضى هذا العام وانصرم، وفقدنا فيه من فقدنا من إخواننا والأعزة علينا، ومن المصلين معنا ومن غير المصلين كذلك قد ماتوا، ولا ندري هل يأتي علينا عام جديد أم نكون قد وسدنا التراب؟ فالله الله في أعمالكم، قال نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ). من المعلوم معشر الإخوة أن الأعمال عند خواتيمها يراعى فيها الله، وابتداءً فالأعمال لا تخلو من خير أو شر، فالخير يرجى له القبول، والشر يستلزم الاستغفار، عامكم قد مضى وانصرم، وقد حوى ما حوى من حسنات أو سيئات، فالحسنات يرجى لها القبول، فما ندري هل تقبلها الله سبحانه وتعالى، أما أنها تلف وتلقى في وجه صاحبها كما يلقى الثوب الخَلِق.

الإكثار من الاستغفار

الإكثار من الاستغفار كان أهل الفضل والصلاح يعملون أعمالاً صالحة ويسألون الله قبولها، فها هو الخليل إبراهيم عليه السلام مع ولده إسماعيل يرفعان القواعد من البيت ويقولان: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:127]، يبنيان الكعبة، وأي بناء أفضل من بناء الكعبة؟ يرفعان القواعد من البيت ومع رفعهما يقولان: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:127]. ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، يذبح متقرباً إلى الله بذبيحته وبأضحيته ويقول مع ذبحه: (باسم الله، اللهم تقبل من محمد، ومن آل محمد، ومن أمة محمد)، بل وأهل الإيمان عموماً كما قال تعالى: (الَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60] وفي حديث حسنه بعض أهل العلم الفضلاء، أن عائشة سألت النبي صلى الله عيه وسلم عن قوله تعالى: {والَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60] قالت: (يا رسول الله! هذه الآية في قوم يسرقون ويزنون ويخافون العقاب؟ قال: لا يا بنت الصديق، إنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف ألا يقبل منه). فلزاماً علينا معشر الإخوة، أن نسأل الله أن يتقبل منا كل عمل صالح، فقد تكون الأعمال قد شيبت بالرياء، والرياء يدمرها، قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23] وقال سبحانه في الحديث القدسي: (من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)، وقال نبينا محمد عليه الصلاة والسلام: (يقول الله تبارك وتعالى إذا جاء الناس بأعمالهم يوم القيامة: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم من جزاء؟) فتذهب الأعمال سدى ويذهب الجهد سدى، قال تعالى في شأن أقوام: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:103 - 104]. فكم من مجاهد تسعر به النار أول من تسعر! وكم من متصدق تسعر به النار أول من تسعر! وكم من عالم وطالب للعلم تسعر بهم النار أول ما تسعر -والعياذ بالله- كل ذلك إذا ابتغي بالعمل غير وجه الله سبحانه وتعالى. فلزاماً أن تسألوا ربكم تبارك وتعالى القبول، قبول الصلوات، قبول الزكوات، قبول الأعمال، فإن الله قال: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]، وأمام ركام السيئات، وجبال الخطايا لابد وأن تقدموا لها استغفاراً يليق بها. ولا يزكي أحدنا نفسه؛ لأن من شأن أهل الفضل والصلاح احتقار النفس في ذات الله والاستغفار، فإذا كان الأنبياء هذه حالهم، آدم عليه السلام وزوجه يقولان: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23] ونوح أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض يقول: {وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود:47]، وإبراهيم عليه الصلاة والسلام يقول: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:82]، وموسى الكليم يقول: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص:16]، وداود عليه السلام: {وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص:24]، وسليمان: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص:35]. نبينا صلى الله عليه وسلم يقول عن نفسه: (إنه يغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم مائة مرة)، وفي حديث آخر: (يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه فإني أستغفر الله في اليوم مائة مرة) ثم يعلم أصحابه ذلك، يقول أبو بكر: يا رسول الله علمني دعاءً أدعو به في صلاتي، قال النبي عليه الصلاة والسلام لهذا الصديق: (يا أبا بكر قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم). ثم إن ربكم يناشدكم جميعاً أن ترجعوا إليه: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31] ثم إن الله يذكرنا فيقول: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء:64] ويقول في آية ترق لها القلوب: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء:27] ويقول سبحانه وتعالى أيضاً: {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:199]. فيا معشر الإخوة! استجيبوا لربكم إذ أمركم بالاستغفار، إذ ينزل إلى السماء الدنيا إذا كان الثلث الأخير من الليل فيقول: (هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من سائل فأعطيه؟ هل من داعٍ فأجيبه؟) ماذا بعد ذلك؟ ماذا تريدون من ربكم سبحانه، الكريم الحليم الغفور الرحيم؟ وينادي في الثلث الأخير: من ذا الذي يستغفرني فأغفر له؟ من ذا الذي يسألني فأعطيه؟ من ذا الذي يدعوني فأجيبه؟

دعوة إلى التوبة وعدم القنوط من رحمة الله

دعوة إلى التوبة وعدم القنوط من رحمة الله فيا معشر الإخوة! قدموا استغفاراً طويلاً لأعمالكم، ولا تيئسن أحد من رحمة الله مهما قدم وأسرف، قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] وقال الخليل إبراهيم صلى الله عليه وسلم: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:56]، وقال حفيده يعقوب عليه السلام: {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87]، فلا تيئسوا أبداً من رحمة الله، مهما قدمتم، فللتوبة باب مفتوح لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها كما قال النبي عليه الصلاة والسلام. واعلموا أن ربكم يفرح برجوعكم إليه كما قال عليه الصلاة والسلام وأقسم على ذلك: (والله لله أفرح بتوبة عبده من رجل كانت معه راحلته في أرض فلاة، عليها زاده وطعامه وشرابه، فأضل راحلته وعليها الزاد والطعام والشراب فبحث عنها فلم يجدها، فلما يئس من رجوعها، نام مستسلماً للموت، واضعاً خده على يده، ينتظر الموت، فأفاق من نومه فإذا براحلته عند رأسه، فقال من شدة فرحه: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح) فربنا أفرح برجوع عبده إليه من هذا الذي أضل راحلته ثم وجدها. فلا ييئسن أحد من رحمة الله، ولا يقنطن أحد من رحمة الله، قال الشيطان لله عز وجل: (وعزتك يا ربي لا أبرح أغوي العباد مادامت الأرواح فيهم، قال تعالى: وعزتي لا أبراح أغفر لهم ما استغفروني). فلا ينبغي أن تقنط ولا أن تيئس أبداً من رحمة الله، ولا أن تقنط غيرك ولا أن تُيئسه من رحمة الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كان في بني إسرائيل رجلان متآخان، وكان أحدهما مسرفاً على نفسه والآخر عابداً، فكان العابد لا يرى المسرف على ذنب إلا ويذكره: اتق الله، دع ما تصنع، لا يحل لك، وفي يوم قال له هذه المقولة وقد رآه على ذنب، فقال المسرف على نفسه: يا هذا خل بيني وبين ربي عز وجل، أبعثت عليَّ رقيباً؟ فقال هذا العابد والله لا يغفر الله لك، قال تعالى: من ذا الذي يتألى عليَّ أن لا أغفر لفلان، اذهب فقد غفرت له وأحبطت عملك) فحبط عمل العابد إذ تألى على الله وأقسم أن الله لا يغفر لفلان. بل والنبي صلى الله عليه وسلم قال له ربه: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:128]. فلا تقنطوا أحداً من رحمة الله، ولا يخفى على أحد حديث قاتل التسعة والتسعين، سأل عن أعلم أهل الأرض، فدُل على راهب فأتاه، وقال له: إنه قتل تسعة وتسعين نفساً، فهل له من توبة؟ قال: لا، فقتله فأتم به المائة، وهذا من سوء الفقه، من خطأ العبادة بلا علم وبلا فقه، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدُل على عالم فأتاه، قال له: إني قتلت مائة نفس، فهل لي من توبة؟ قال: سبحان الله، ومن الذي يحول بينك وبينها؟ ولكن اترك أرضك -أرض السوء- واذهب إلى أرض كذا وكذا، ففيها قوم من أهل الصلاح يعبدون الله فاعبد الله معهم، ففعل ما أُمر به، ولكن مات في نصف الطريق. فحضرته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فاختصموا في أمره، قالت ملائكة الرحمة: رجل أقبل بقلبه إلى الله تائباً، قالت ملائكة العذاب: رجل قتل مائة نفس ولم يعمل خيراً، فاختصموا فيه، فأوحى الله إليهم أن يتحاكموا إلى أول من مر بهم، فأرسل الله إليهم ملكاً، فقال: قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيتهما كان أقرب فهو من أهلها، فقاسوا ما بين الأرضين، وكان من قدرة الله أن الرجل نأى بصدره إلى أرض أهل الصلاح قيد شبر، فوجدوه أقرب إلى أرض الصلاح بشبر، فتلقته ملائكة الرحمة. فلا ينبغي أن ييئس أحدٌ من رحمة الله، ولا أن يُيئس شخصاً من رحمة الله، في الصحيح أن الصحابي الملقب بـ حمار، هذا الصحابي كان يكثر من شرب الخمر، فيؤتى به فيجلد، ثم يعود فيؤتى به فيجلد، حتى قال بعض الصحابة: لعنك الله ما أكثر ما يؤتى بك، قال عليه الصلاة والسلام: (لا تلعنوه فإنه ما علمت يحب الله ورسوله) وفي بعض الروايات: (لا تكونوا عوناً للشيطان على إخوانكم).

الحذر من مكر الله عز وجل

الحذر من مكر الله عز وجل فيا معشر الإخوة! لا تيئسوا من رحمة الله، ولا تقنطوا أحداً من رحمة الله، وفي ذات الوقت لا تستهينوا بمحارم الله، فقد يظن ظان أنه بإسلامه يغفر له كل شيء، ورب العزة يقول: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الحجر:49] {وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} [الحجر:50] ويقول: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غافر:3]. وفي حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (دخلت امرأة النار في هرة حبستها لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت) وفي الحديث الآخر: (أن رجلاً كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج مع النبي في غزوة من الغزوات، فأتاه سهم فقتله، فقال الصحابة: هنيئاً له الشهادة في سبيل الله، قال عليه الصلاة والسلام: (كلا والذي نفسي بيده إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من المغانم لتشتعل عليه ناراً). فكما أن الشخص لا ييئس من رحمة الله، فعليه أيضاً ألا يغتر بسعة عفو الله {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99] {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام:15] هكذا قال ربنا في كتابه الكريم، ولسنا بخير من أصحاب نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، فلما عصوا نبيهم يوم أحد، حل بهم من البلاء والنكد ما لا يخفى: شج رأس نبيهم محمد عليه الصلاة والسلام، وكسرت رباعيته عليه الصلاة والسلام، وقتل عمه حمزة، وبقرت بطنه واستخرجت الكبد ولاكتها امرأة بأسنانها. لسنا بخير من نبي الله يونس، كان داعياً إلى الله عليه الصلاة والسلام، وكان نبياً كريماً يدعو إلى ربه تبارك وتعالى، فلم يجبه قومه، فخرج من البلدة مغاضباً عن غير أمر الله له، قال تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87] وفي الآية الأخرى: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ} [الذاريات:40] وفي الثالثة: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} [الصافات:143] * {لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات:144]. وأبونا آدم قبل كل هذا، ما الذي أخرجه من الجنة؟ ما الذي تسبب في نزع اللباس عنه، بعد أن كان مكسواً ومستوراً، وبعد أن كان منعماً في الجنة يأتيه من كل صنوف النعيم فيها؟ ما الذي كان سبباً في تعريته، ونزع اللباس والثياب عنه، وعن زوجته كما قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27]؟ ما الذي تسبب في هذا العري حتى جعل آدم على عورته ورقاً من أوراق الجنة؟ إنه ذنب عصى فيه ربه، ألا وهو: {لا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} [البقرة:35]، فاقترب منها آدم وزوجته عليهما السلام.

المعاصي سبب زوال النعم

المعاصي سبب زوال النعم فتأكدوا وأيقنوا يا أولي الألباب، أن الذي يبدل النعم ويحيلها إلى نقم هو العصيان والتمرد عن أمر الله، قال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا} [الطلاق:8 - 9]، وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَي أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [سبأ:15 - 17]. وغير هؤلاء: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا * وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا * وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا * وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُورًا} [الفرقان:37 - 40]. وغير هؤلاء: {وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ * فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت:39 - 40]. فاعقلوا هذه المعاني معشر الإخوة، قدموا استغفاراً وتوبة وإنابة، ولا تنسوا التحلل من المظالم، فالمظالم لا يكفيها الاستغفار بل لابد وأن تؤدى إلى أهلها، (لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء)، ويقول عليه الصلاة والسلام: (من كانت له عند أخيه مظلمة فليتحلل منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم، إنما هي الحسنات والسيئات). ويقول عليه الصلاة والسلام: (إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيتقاصون مظالم كانت بينهم في الدنيا).

ذكرى هجرة المصطفى عليه الصلاة والسلام

ذكرى هجرة المصطفى عليه الصلاة والسلام هاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة في مثل هذا اليوم، بعد أن لقي من البلاء ما لقي، وبعد أن ناله من العذاب ما قد ناله صلى الله عليه وسلم، وقبل ذلك كان الأذى قد امتد إلى أصحابه وبلغ بهم مبلغاً شديداً، فأذن لهم بالهجرة، فاتجه بعضهم إلى الحبشة. وكان ممن اتجه إلى الحبشة بعد الأذى الشديد الذي لا يطاق ولا يكاد يصبر عليه، جعفر بن أبي طالب وعثمان بن عفان رضي الله عنهم، في طائفة كبيرة من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام.

الإعداد للهجرة

الإعداد للهجرة ثم إن النبي عليه الصلاة والسلام كان قد قال لأصحابه: (إني أُريت دار هجرتكم، وإنها أرض ذات نخل وأراها اليمامة أو هجر) هجر: التي هي الآن في بلاد السعودية، فما كانت اليمامة ولا هجر بل كانت المدينة، ثم إن الصحابة بدءوا في الهجرة إليها واحداً تلو الآخر، وأراد أبو بكر أن يهاجر وأن يسبق النبي عليه الصلاة والسلام، فطلب منه النبي المكث والصبر، قال: (أترجو يا رسول الله أن تهاجر فأكون صاحباً لك؟ قال: نعم). ثم إن النبي أتى أبا بكر وكان أبو بكر قد أعد راحلتين راحلة له وراحلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلفهما أربعة أشهر استعداداً للهجرة، ولمشوارها الطويل، فجاء النبي إلى أبي بكر في الظهيرة. قالت عائشة: يا أبي قد جاء رسول الله عليه الصلاة والسلام في وقت لم يأتنا فيه، جاءنا في الظهيرة، فقال: ما أتى به إلا أمر قد حدث، فجاء النبي وقال: (قد أُذن لي في الهجرة، قال: الصحبة يا رسول الله، قال: الصحبة يا أبا بكر! فقال: عندي راحلتان خذ إحداهما يا رسول الله! قال عليه الصلاة والسلام -وهو العفيف المتعفف-: بالثمن) فاشتراها النبي من أبي بكر رضي الله تعالى عنه.

قريش تحاول قتل رسول الله

قريش تحاول قتل رسول الله قال تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]. تمالأ أهل الشرك في تلك الليلة على الفتك برسول الله عليه الصلاة والسلام واتفقوا على ذلك، فكان أن علياً نام في فراش رسول الله عليه الصلاة والسلام في تلك الليلة، ثم إن النبي خرج مع أبي بكر رضي الله عنه، وصلاة الله وسلامه على النبي الأمين، وجاء المشركون أمام بيت الرسول صلى الله عليه وسلم يرقبونه طول الليل، وعلي يتصنع لهم ويتقلب في الفراش، يوهمهم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما النبي فخرج مع أبي بكر حتى بلغا غار ثورٍ، فباتا فيه ثلاثة أيام، وكان يرعى عليهما غلام لـ أبي بكر، فيأتيهما في الليل بالغنم يسقيهما من ألبانها، وكان محمد بن أبي بكر رضي الله عنه يتفقد أحوال القوم بمكة وينقل أخبارهم إلى رسول الله، أما أسماء -ذات النطاقين- فكانت تربط الطعام بجزء من نطاقها ولذلك سميت ذات النطاقين، وتجهز للرسول ولـ أبي بكر سفرة الطعام وترسلها إليهم. فأصبح الصباح ودخل أهل الشرك على علي وهو نائم للفتك به ظناً أنه رسول الله، فإذا به علي، فسُقط في أيديهم: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]. أما رسول الله عليه الصلاة والسلام وأبو بكر رضي الله عنه، فاستأجرا رجلاً كافراً هادياً خريتاً عارفاً بالطرق، فجاءهما هذا الرجل وانطلق بهما في طريق الساحل متجهاً إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورصد المشركون الجوائز لمن يأتي برأس رسول الله وأبي بكر حياً أو ميتاً، وجعلوا مائة من الإبل لمن أتى بالرسول، ومائة أخرى لمن أتى بـ أبي بكر، ثم ضاعفوا الأعطيات لمن أتى بهما.

في غار ثور

في غار ثور وقبل ذلك وصل المشركون إلى باب غار ثور، والنبي فيه هو وأبو بكر، وأبو بكر يقول: يا رسول الله لو نظر أحدهم تحت رجليه لأبصرنا، والنبي يقول: (يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما) وفي ذلك يقول تعالى: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40]. أنجى الله نبيه وخرج مسافراً إلى المدينة في أيام طويلة، فلقيه الزبير في الطريق، وكان الزبير راجعاً من الشام بتجارات فيها الثياب البيض، فكسا النبي ثوباً أبيض، وكسا أبا بكر ثوباً أبيض، واتجه الرسول وصاحبه إلى المدينة، كلما سأل سائل أبا بكر - أبو بكر شخص يُعرف والرسول شاب لا يُعرف، مع أن الرسول أكبر سناً من أبي بكر - فكلما سأل سائل أبا بكر: من هذا الذي معك يا أبا بكر؟ قال: هذا هادٍ يهديني السبيل.

النبي صلى الله عليه وسلم يصل إلى المدينة

النبي صلى الله عليه وسلم يصل إلى المدينة علم أهل المدينة بمقدم رسول الله عليه الصلاة والسلام، وكانوا يخرجون لانتظاره عند الحرة كل يوم، لا يرجعهم إلى بيوتهم إلا حر الشمس، ثم إن أهل المدينة رجعوا ذات يوم من حر الشمس، وكان رجل من اليهود قد صعد على نخلة من نخيل المدينة يتابع الحدث، فرأى النبي وأبا بكر قادمين، فنادى بأعلى صوته: يا أهل المدينة هذا جدكم الذي تنتظرون قد وصل، فخرجوا إليه جميعاً مسرعين، أغلبهم لا يعرفه يظنه أبا بكر، فلما رأوا أبا بكر يقبل على خدمته، يأتيه من الأمام ومن الخلف يحرسه، علموا أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبلوا إليه والتفوا عليه يقبلونه، مستبشرين بقدومه، وأضاءت المدينة يوم أن دخلها النبي عليه الصلاة والسلام، وإن لم يكن الضوء حقيقة، لكن أضاءت كما يقول بعض أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، وأظلمت يوم وفاته عليه الصلاة والسلام، أظلمت في وجوه أقوام وأضاءت في وجوه أقوام. دخل النبي والكل يأخذ بزمام ناقته، ونبينا يقول: (دعوها فإنها مأمورة) ثم نزلت ناقته عند بني النجار، وهذا بأمر الله تبارك وتعالى، ثم شرع النبي في بناء المسجد. هذا باختصار شيء من هجرة النبي عليه الصلاة والسلام، ذلكم النبي الكريم، الذي ترك الأرض والديار وخرج من مكة وعيناه تذرفان الدمع، وهو يقف على جبل وينظر إلى بلاده، ينظر إلى مكة وإلى دياره في مكة ويقول: (والله إنكِ أحب بلاد الله إلى الله وأحب بلاد الله إليَّ، ولولا أن قومكِ أخرجوني منكِ ما خرجت). وقبل نبيكم محمد هاجر الأنبياء كذلك،: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} [العنكبوت:26] {قَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات:99]، فكما قال ربكم جل وعلا: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [العنكبوت:56 - 57]. فاذكروا معشر الإخوة! نبيكم محمداً عليه الصلاة والسلام، واذكروا أنكم دخلتم في عام جديد، فاسألوا الله التوفيق لصالح الأقوال، ولصالح الأعمال، ولصالح النوايا كذلك، دخلتم في شهر الله محرم، وأفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، فأكثروا من الصيام في هذا الشهر الكريم، فما زلتم في الأشهر الحرم، ومحرم منها فلا تظلموا أنفسكم، ولا تظلموا إخوانكم، وبادروا إلى الخيرات، واستبقوها، وأكثروا من الدعاء لإخوانكم ولأخواتكم المؤمنين والمؤمنات، أكثروا من الاستغفار لكل من سبقكم بإحسان من أهل الإيمان، بل وللمسيئين من أهل الإيمان، {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10]. اللهم يا ولي الإسلام وأهله، ثبتنا على الإسلام والإيمان حتى نلقاك، اللهم يا ولي الإسلام وأهله انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان، وارفع رايتهم فوق كل الرايات، اللهم اشف مرضانا ومرضى المسلمين، وأرحم موتانا وموتى المسلمين، واقض الدين عن المدينين، وفك أسرى المسلمين. وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أبو بكر وأذى قريش له

أبو بكر وأذى قريش له حتى إن الأمر اشتد بـ أبي بكر الصديق هو الآخر، فخرج من داره في مكة مهاجراً رضي الله عنه، فلقيه رجل يقال له ابن الدغنة كما قالت عائشة: ما عقلت أبواي إلا وهما يدينان الدين، أي: وهما على الإسلام، وكان قلما يمر علينا يوم إلا وأتى إلينا النبي صلى الله عليه وسلم بكرة وعشياً صباحاً ومساءً. ثم إنه بدا لـ أبي بكر أن يهاجر، بعد أن بلغ به الأذى واشتد، فخرج من مكة فلقيه ابن الدغنة، وكان سيداً من سادات قومه فسأله: إلى أين يا أبا بكر؟ قال أبو بكر: أخرج من بلدي أسيح في الأرض أعبد ربي عز وجل، لقد أخرجني قومي، قال له ابن الدغنة: والله يا أبا بكر لا تخرج منها، فإن مثلك لا يخرج يا أبا بكر، إنك رجل تصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق، فأنا لك جار يا أبا بكر، فانزل إلى جواري. فوافق أبو بكر على هذا العرض، ورجع به ابن الدغنة إلى قريش، ومر بالملأ من قريش وقال: يا معشر قريش، كيف تخرجون رجلاً يصل الرحم، ويحمل الكل، ويكسب المعدوم، ويعين على نوائب الحق؟ والله إن مثل هذا الرجل لا يُخرج، وقال: إني أنزلته في جواري، فقالوا له: لك ذلك، لكن لنا شرط أن يبقى أبو بكر في بيته يقرأ القرآن كما يشاء ويصلي كما يشاء، ولا يسمعنا القرآن، ولا يسمع نساءنا، ولا يسمع أبناءنا، فوافق أبو بكر على أن يقرأ القرآن في بيته، وعلى أن يصلي في بيته. ثم مضى على هذا زمن، ثم بدا له أن يبني في فناء داره مسجداً، ففعل، فكان يصلي فيه، وكان رجلاً رقيق القلب، لا يملك الدمع، فكان إذا قرأ القرآن بكى وذرفت عيناه الدمع، فالتفت حوله نساء قريش، وأبناء قريش ينظرون إلى صلاته، ويعجبون منه، فخشي القرشيون على أولادهم ونسائهم أن يؤمنوا لقراءة أبي بكر، فذهبوا إلى ابن الدغنة، قائلين له: إنا كرهنا أن نخفرك في رجل قد أجرته، فإما أن يترك أبو بكر قراءته، وإما أن يرد إليك جوارك، فإنا نخشى أن نؤذيه وهو في جوارك، فجاءه ابن الدغنة وقال: يا أبا بكر قد علمت ما عاهدت عليه قريش، فإما أن تقرأ في البيت ولا تعلن، فليس القرشيون بمقرين لك الاستعلاء، وأكره أن يتحدث الناس أني أخفرت في رجل قد أجرته، وإما أن ترد إليَّ جواري، قال أبو بكر: بل أرد إليك جوارك وأرضى بجوار الله عز وجل، فلقي من الأذى ما لقي.

عن اللغو معرضون

عن اللغو معرضون خطر اللسان عظيم، فقد يلقى الإنسان في جهنم والعياذ بالله بسبب كلمة يقولها، وربما يكب على وجهه في جهنم بسبب ما حصده لسانه، فليس هناك أحوج إلى طول حبس من اللسان حتى تكتب السلامة للعبد يوم يلقى الله.

النهي عن اللغو

النهي عن اللغو الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: فيقول الله سبحانه وتعالى في شأن أهل الإيمان: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:1 - 3]، ويقول الله في شأنهم كذلك: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:55]، ويقول تعالى أيضاً: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان:72]. فأهل الإيمان لا يقفون عند اللغو، بل يهجرونه ويتقونه، قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً، وإن من أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلساً يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيقهون)، يقول الترمذي رحمه الله تعالى: والثرثار: كثير الكلام، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال)، وقال النبي صلوات الله وسلامه عليه كذلك: (وهل يكب الناس على وجوههم في النار إلا حصاد ألسنتهم)، ويقول صلوات الله وسلامه عليه: (إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب)، فصلوات ربي وسلامه على هذا النبي الكريم. فعلى المسلم أن يقلل الكلام قدر الاستطاعة، قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من صمت نجا)، قال بعض الشراح لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت): إن استوى عندك الوجهان في الكلام ولم تدر أفي الكلام خير أم ليس فيه خير لزمك الإمساك؛ لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (فليقل خيراً أو ليصمت). وأيضاً فليعلم أن الكلمات تسطر، وأن الكلمات تكتب، قال الله تبارك وتعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] أي قول يسطر ويكتب، حتى المزاح يكتب، حتى الأنين يكتب. لقد كان الإمام أحمد رحمه الله تعالى في مرض موته يئن منه أنيناً فقيل له: يا إمام! إن طاوساً يقول: إن الأنين يكتب، يعني لقول الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] فيقول الراوي: فما أنّ الإمام أحمد رحمه الله تعالى حتى مات. ورب العزة يقول في كتابه الكريم: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49]. ويقول الله عز وجل: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} [القمر:52 - 53]، وقال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:10 - 12]. فالكلمات تكتب، فلأن تأتي صحائف أعمالك يوم القيامة نقية بيضاء مسطّر فيها ذكر الله عز وجل خير لك من أن تأتي صحائفك قد ملئت باللغو واللغط، واغتياب المسلمين والمسلمات.

كثرة الكلام تذهب البهاء والوقار

كثرة الكلام تذهب البهاء والوقار كثرة الكلام تذهب البهاء، وتذهب الوقار، فيمكنك أن تجلس صامتاً وتنظر إلى العابثين أمامك الذين يخوضون ويذهبون، ويثني بعضهم على نفسه غاية الثناء، ويمدح نفسه غاية المدح، وأنت جالس صامت تتعجب من صنيعه، وتقيم أخلاقه بناءً على ما تسمع منه. كثرة الكلام تزري بالأشخاص، كثرة الكلام بغير ذكر الله تذهب بالبهاء وبالوقار، فإن كان لزاماً من كلام فليكن كلامك بذكر الله تبارك وتعالى، وليكن كلامك فيه ذكرٌ لله تبارك وتعالى، وفيه صلاة وسلام على النبي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقلة الكلام تدعو إلى الاهتمام بكلامك والاستماع إليه، ومن ثم كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يعظ الناس كل خميس، فقال له قائل: يا أبا عبد الرحمن! وددت أنك حدثتنا كل يوم، فقال عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه: (إني أكره أن أملكم، وإنما أتخولكم بالموعظة كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة كراهية السآمة علينا). هذا وقد قال الله تبارك وتعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:114]. ونبينا محمد عليه الصلاة والسلام كان يتكلم كلاماً لو عده العاد لأحصاه، فكانت كلمات النبي صلى الله عليه وسلم كلمات معدودة لو تتبعها الذي يعدها لأحصاها من في النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ينبغي أن نقلل الكلام قدر الاستطاعة لما سمعناه من أمر لله وأمر للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، فكثرة الكلام كما بينا يكرهها الله تبارك وتعالى؛ إذ الله عز وجل يكره لنا القيل والقال، وكثرة الكلام التي بها يعد الشخص من الثرثارين، وتبعدنا عن مجلس نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

ترك الكلام إذا لم تكن فيه فائدة

ترك الكلام إذا لم تكن فيه فائدة تتأكد قلة الكلام إذا لم يكن في الكلام فائدة، فإذا لم يكن في الكلام فائدة فليمنع الكلام حينئذٍ، هذه مريم عليها السلام لما أتت قومها بعيسى عليه السلام تحمله، وهي تدرك أن القوم لن يصدقوها إذا تكلمت؛ لأن عندهم لا يتصور أن امرأة تلد بلا زواج ولا بغاء، لكن الله على كل شيء قدير، فعند ذلك قال الله لها: {فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} [مريم:26]، فإذا كان الكلام لن يجدي فلا داعي للكلام حينئذٍ. وهؤلاء الفتية أصحاب الكهف العقلاء المسددون الموفقون، لما قاموا من نومتهم التي ناموها، {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف:19]، فتدخل أحدهم قائلاً: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} [الكهف:19] أي: لا داعي لمواصلة الكلام في اللبث الذي لبثناه {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} [الكهف:19]. وهذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يقول له ربه تبارك وتعالى: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف:22]. فإذا لم يكن في الكلام فائدة فليمنع الكلام حينئذٍ، أما إذا كان الكلام بغير علم فحينئذٍ يقع الشخص في الحرام، فالله قال في كتابه الكريم: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36] وقال الله لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85]. فيؤمر الشخص بالإمساك عن الكلام إذا لم يكن عنده علم بما يتكلم به، ويؤمر بالإمساك عن الكلام إذا لم يكن في الكلام فائدة، فهذا إبراهيم صلى الله عليه وسلم يجادل الملائكة، فيقول الله له: {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} [هود:76]. وتقدم على مسامعكم -معشر الإخوة- قول نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم: (من صمت نجا)، فكثيراً ما تكون النجاة في الصمت، وكثيراً ما تكون النجاة في السكوت، إلا إذا كان ثم مقامٌ ستضيع فيه الحقوق فيلزمك حينئذٍ أن تتكلم بالحق الذي علمت، ولا تكتم الحق إذ الله قال: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة:283] ويجدر بي أن أذكر بحديثين لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم: أولهما: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يأتي أقوام يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، ويظهر فيهم السمن) فهذا حديث في ذم الذي يشهد دون أن تطلب منه الشهادة. وثم حديثٌ آخر: (خير الشهداء الذي يأتي بالشهادة قبل أن تطلب منه)، كيف الجمع بين الحديثين؟ إذا كانت الحقوق ستضيع للخوف من ذي سلطة وذي بأس فحينئذٍ (خير الشهداء الذي يأتي بالشهادة قبل أن تطلب منه)، أما إذا كانت الشهادات بالمجاملات فحينئذٍ: قوله: (يشهدون ولا يستشهدون) يتنزل على أمثال هؤلاء. وفقنا الله وإياكم لحفظ ألسنتنا، وصلى اللهم على نبينا محمد وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

فتاوى الحج والعمرة

فتاوى الحج والعمرة

مقدمة

مقدمة بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)، فعلامة الخير للعبد أن يوفق للفقه بالدين، وقد قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2]، وحسن العمل يتأتى بموافقة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن شرع في عبادة من العبادات فعليه أن يتفقه فيها، وأن يعلم ما له وما عليه تجاه هذه العبادة. وهذه جملة من الأسئلة المتعلقة بأعمال الحج والعمرة، نستعين بالله تعالى للإجابة عليها، والله ولي التوفيق:

أدلة وجوب الحج، والفورية والتراخي في وجوبه

أدلة وجوب الحج، والفورية والتراخي في وجوبه Q ما هي الأدلة على وجوب الحج؟ وهل وجوب الحج على الفور أم على التراخي؟ A إن الأدلة على وجوب الحج في غاية الكثرة، من كتاب الله تعالى، ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذا فقد انعقد الإجماع على وجوب الحج. أما من كتاب الله سبحانه فإن الله تعالى يقول: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:97]. وأما من السنة فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان)، وفي حديث جبريل عليه السلام لما أتى يعلم الناس أمر دينهم، وهو في صورة رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) فذكر الحديث وفيه: (وأن تحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً)، وفي صحيح الإمام البخاري رحمه الله تعالى: (أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: نعم)، فقولها: (إن فريضة الله على عباده في الحج) أفاد فرضية الحج. وفي صحيح الإمام مسلم رحمه الله تعالى من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (أيها الناس! قد فرض الله عليكم الحج فحجوا، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟! فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، حتى قالها الرجل ثلاثاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو قلت: نعم لوجبت، ولما استطعتم). أما وجوب الحج على الفور أو التراخي فإن جمهور أهل العلم قد ذهبوا إلى أن الحج يجب على الفور؛ لقول الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97]. وذهب الإمام الشافعي رحمه الله تعالى إلى أن الحج يجب على التراخي، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحج فور فرض الحج عليه، بل حج أصحابه في عام قبله، ثم حج بعد ذلك صلى الله عليه وسلم. وقد أجاب الجمهور على ذلك بما حاصله أنه قد لا يكون تيسر الحج في ذلك العام للنبي صلى الله عليه وسلم، فمن ثمّ تأخر إلى أن يسر الله تعالى له الحج.

حكم العمرة

حكم العمرة Q هل العمرة واجبة؟ A نقول وبالله التوفيق: إن العمرة مستحبة عند أكثر العلماء. وقد أجاب العلماء على الذين أوجبوا العمرة بأجوبة: منها: أن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم -الذي احتج به بعض الذين أوجبوا العمرة-: (احجج عن أبيك واعتمر): لبيان الجواز لا للإيجاب. وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد محمداً رسول الله) فذكر الحديث وفيه: (وتحج وتعتمر)، فقالوا: إن زيادة (وتعتمر) في الحديث مُعَلّة؛ إذ الحديث في الصحيح بدون هذه الزيادة. وأما ما ورد عن عمر رضي الله تعالى عنه حين جاءه وابصة بن معبد رضي الله تعالى عنه فقال: (إني وجدت الحج والعمرة مكتوبين علي فأتيت رجلاً من قومي، فقال لي: اجمعهما واذبح ما استيسر من الهدي، وإني أهللت بهما جميعاً)، فقال له عمر: (هديت لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم) فهذا متعلق -والله تبارك وتعالى أعلم- بقول الذي أفتاه: (اجمعهما واذبح ما استيسر من الهدي)، وليس بصريح في إيجاب العمرة، وقد قال الله تعالى: (ولله على الناس حج البيت) فاقتصر على الحج هاهنا، وأما ما ورد من قوله عليه الصلاة والسلام: (دخلت العمرة في الحج) فهذا لبيان جواز التمتع، والله تبارك وتعالى أعلم.

وصايا لمن أقبل على الحج

وصايا لمن أقبل على الحج Q شرعت في الحج، فما يلزمني بين يدي ذهابي إلى الحج؟ A نذكر أخانا السائل بالله عز وجل وبتقواه، ونذكره أيضاً أن يتحلل من المظالم، فإن الذنوب تغفر، وأما الحقوق المتعلقة بالعباد فلزاماً أن تؤدى إلى أهلها؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه، أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيان المفلس: (الذي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار). وعلى الذاهب إلى الحج أن يتزود بالكسب الطيب، فإن الله تبارك وتعالى قال في كتابه: (وتزودوا) أي: بالزاد اللازم للحج، ثم أشار إلى زاد آخر فقال تعالى: {فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197]، وقد نزلت هذه الآية الكريمة في أهل اليمن، فقد ورد في صحيح الإمام البخاري رحمه الله تعالى من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون: نحن المتوكلون، فإذا قدموا مكة سألوا الناس، فأنزل الله تبارك وتعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197]). فعلى الحاج أن يتزود بالكسب الطيب، وأن يكون حجه من مال طيب، فإن الله تبارك وتعالى قال في كتابه الكريم: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]، وقال نبيه محمد صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه: (إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون:51]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:172]، ثم ذكر الرجل يطيل الرجل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وغذي بالحرام فأنى يستجاب له!). وعليه أيضاً -أعني الحاج- أن يتقي الرياء المحبط للأعمال، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)، فلا يحج الحاج ليقال له: حاج، وإنما يحج طلباً للأجر والثواب من الله عز وجل، ولأداء فريضة افترضها الله تبارك وتعالى عليه, وإياه ومحدثات الأمور فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، ثم عليه أن يوصي إن كان له شيء يوصى فيه؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (ما حق امرئ مسلم له شيء يوصى فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده)، فقد يخرج الخارج للحج ولا يرجع إلى بيته، وكم من شخص قد أدركته المنية وهو محرم، وكم من شخص قد أدركته المنية وهو راجع من حجه، أو وهو ذاهب إلى حجه، فلذلك يلزمه أن يوصي إن كان له شيء يوصى فيه، والمستعان هو الله عز وجل.

آثار واردة في فضل الحج والعمرة

آثار واردة في فضل الحج والعمرة Q نريد التذكير بشيء من الوارد في فضل الحج والعمرة؛ إذ هناك من يزهد فيهما؟ A إن الحج ابتداء ً من أركان ديننا، فمقيمه مقيم لأركان هذا الدين القويم، وفي الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أي الأعمال أفضل يا رسول الله؟ قال: إيمان بالله ورسوله. قيل: ثم ماذا؟ قال: جهاد في سبيل الله. قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور)، وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه)، وكذلك قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد؟ قال: لا، ولكن أفضل الجهاد حج مبرور)، وقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيما أخرجه الإمام النسائي رحمه الله تعالى بسند صحيح: (تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحج المبرور ثواب دون الجنة)، وقد ورد في فضل العمرة جملة من الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وخاصة العمرة في رمضان، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لامرأة: (إذا كان رمضان اعتمري فإن عمرة في رمضان تعدل حجة)، وفي رواية ابن ماجة رحمه الله تعالى: (عمرة في رمضان تعدل حجة). ولا ينبغي أن يستكثر الشخص النفقات التي ينفقها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ عائشة رضي الله تعالى عنها في شأن العمرة: (ولكنها على قدر نفقتك، أو على قدر نصبك).

حج الصبي مع أمه

حج الصبي مع أمه Q امرأة ذهبت للحج ومعها صبي لها، فهل الأولى لها أن تحج عن هذا الصبي معها أم أنها تحج عن نفسها فقط؟ A يستحب لها أن تحج عن نفسها، وكذلك تحجج هذا الصبي معها، فقد جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعها صبي لها، فرفعته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (ألهذا حج يارسول الله؟!) قال: (نعم، ولك أجر)، والله تعالى أعلم.

مواقيت الإحرام المكانية

مواقيت الإحرام المكانية Q ما هي مواقيت الإحرام؟ A إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت مواقيت مكانية للحج والعمرة، فوقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل نجد قرن المنازل، ولأهل المدينة ذا الحليفة التي يسميها الناس الآن: أبيار علي، ووقت صلى الله عليه وسلم لأهل الشام الجحفة، ووقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل اليمن يلملم، وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل العراق مكاناً يسمى ذات عرق، إلا أن الصحيح أنه لم يثبت هذا عنه، ولكن الذي وقته لهم عمر رضي الله تعالى عنه. والمراد بهذه المواقيت: أماكن لا يتخطاها الشخص إذا كان ذاهباً إلى الحج أو العمرة حتى يهل من عندها، فلا يجوز لحاج متجهٍ من المدينة إلى مكة -مثلاً- أن يمر بذي الحليفة إلا ويهل من ذي الحليفة، ولا يتقدمها الشخص ولا يتأخر عنها، فمن تعمد تجاوز الميقات الذي حدده النبي صلى الله عليه وسلم ووقته بدون إحرام منه فهذا يلزمه عند جمهور أهل العلم دماً ليجبر الخلل الحادث في حجته أو عمرته، من جراء تخطيه الميقات دون إحرام، وبالله تعالى التوفيق.

سنن الإحرام في الميقات

سنن الإحرام في الميقات Q إذا وصلت إلى الميقات فماذا أصنع؟ A إذا وصلت إلى الميقات فيسن لك أن تغتسل؛ إذ قد ثبت عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال: (من السنة أن يغتسل الرجل إذا أراد أن يحرم)، ويسن لك مع هذا الاغتسال أن تتطيب، وذلك عند الإحرام قبل الإهلال بالحج أو بالعمرة؛ لحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه حين يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت)، وفي رواية عنها: (كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم)، فيسن لك قبل أن تلبي بالحج أو بالعمرة بعد الغسل أن تتطيب، أما إذا لبيت بالحج أو بالعمرة فتمنع من الطيب، وقد يرد على شخص إشكال في الحديث الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ يعلى بن أمية: (اغسل عنك الطيب الذي بك، وانزع عنك الجبة، واصنع في عمرتك ما كنت صانعاً في حجك)، فأجاب العلماء على هذا بما حاصله: هذا الحديث قد يكون مختصاً بالزعفران، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يغسل هذا الزعفران، أو أن هذا الحديث قد نسخ -أعني حديث يعلى بن أمية - والله تبارك وتعالى أعلم. وقد ورد أيضاً أن عائشة رضي الله عنها قالت: (كنا نخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة فنضمد جباهنا بالصبغ المطيب عند الإحرام، فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها فيراه النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينهاها)، فالحاصل أن الشخص بعد الاغتسال للإحرام قبل الإهلال يسن له أن يتطيب، وإن بقي أثر هذا الطيب معه ولو بعد التلبية فلا مانع، لكن لا يمس طيباً بعد أن يهل بالحج أو العمرة، وبالله تعالى التوفيق. كما ينبغي عليك أن تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بعض أنواع الثياب فعليك أن تتقيها؛ إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن المحرم: (لا يلبس السروايل، ولا القُمُص -والقُمُص: جمع قميص- ولا العمائم، ولا البرانس، ولا الخفاف إلا إذا لم يجد نعلين فليلبس خفين وليقطعهما أسفل من الكعبين)، فيمنع المحرم من لبس المخيط، ويمنع كذلك من العمائم، ويمنع كذلك من لبس السراويلات، إلا إذا لم يجد إزاراً فله أن يلبس السراويلات حينئذ؛ لما أخرجه الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب بعرفات فقال: (من لم يجد النعلين فليبس الخفين، ومن لم يجد إزاراً فليلبس السراويل) للمحرم)، وقد رأى الجمهور من العلماء أنه يفتق هذه السراويل، بينما ذهب بعض أهل العلم إلى الحديث على ظاهره فقالوا: لا تفتق السراويل، إلا الخفين إذا لم توجد النعال، فتقطع الخفاف إلى أسفل من الكعبين، والمراد بالكعبين: العظمان الناتئان عند ملتقى الساق مع القدم. فعلى ما سبق يحرم على المحرم أن يلبس ثوباً مخيطاً، ويحرم عليه أن يلبس العمامة، ويحرم عليه أن يلبس الخفاف التي تغطي الكعب، ولا يلبس من الثياب شيئاً مسه زعفران أو ورس، والله تبارك وتعالى أعلم.

وقت الإهلال بعد الاغتسال في الميقات، وحكم صلاة الركعتين قبل الإهلال

وقت الإهلال بعد الاغتسال في الميقات، وحكم صلاة الركعتين قبل الإهلال Q متى أهل بالحج أو بالعمرة بعد الاغتسال؟ وهل تلزمني صلاة ركعتين قبل هذا الإهلال أم لا؟ A الذي يظهر -والله تعالى أعلم- أن صلاة الركعتين عقب الاغتسال إن كانت سنة للوضوء فسنة الوضوء مستحبة، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ بلال رضي الله تعالى عنه: (يا بلال! دلني على أرجى عمل عملته، فإني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة) قال: يا رسول الله: (ما توضأت في ساعة من ليل أو نهار إلا وصليت بذلك الوضوء ما كتب الله لي أن أصلي)، وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حمد الله سبحانه وتعالى وسبح وكبر قبل الإهلال صلوات الله وسلامه عليه، وذلك بعد ركوبه الدابة عليه الصلاة والسلام، فبعد أن حمد الله تعالى وكبر وهو على راحلته أهل بالحج والعمرة صلى الله عليه وسلم، أي: أنه أهل بالحج والعمرة وهو راكب على دابته صلى الله عليه وسلم، ولكن ليس في هذا إيجاب، وإنما يجوز أن يهل بالحج أو بالعمرة ولو كان على الأرض، أو كان في المسجد، أو كان خارج المسجد، فالمهم أن يكون هذا عند الميقات، والله تبارك وتعالى أعلم.

الاتجاه إلى القبلة عند الإهلال

الاتجاه إلى القبلة عند الإهلال Q عند أهلالي هل يلزمني التوجه إلى القبلة؟ A يستحب لك عند الإهلال أن تكون متجهاً إلى القبلة، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم استقبل القبلة حين أهل صلوات الله وسلامه عليه.

معنى الإهلال

معنى الإهلال Q ما معنى الإهلال؟ A الإهلال: هو رفع الصوت بالتلبية، وتلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم التي لزمها هي: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك له)، فهذه لزمها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وكان من أصحابه من يزيد عليها بعض الزيادات، فكان عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما يزيد: (لبيك وسعديك، والخير بيديك، والرغباء إليك والعمل). وقد ورد عن صحابة آخرين أن منهم من كان يقول: (لبيك حقاً حقاً تعبداً ورقاً)، و (لبيك ذا الفواضل، لبيك ذا المعارج)، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسناد مُعلِّ أنه كان يلبي قائلاً: (لبيك إله الحق). فالحاصل من ذلك: أن صفة تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم التي لزمها: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك)، ومن أصحابه من كان يزيد زيادات لم ينكرها عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كزيادة ابن عمر رضي الله تعالى عنهما المذكورة: (لبيك وسعديك، والخير بيديك، والرغباء إليك والعمل).

رفع الصوت بالتلبية

رفع الصوت بالتلبية Q هل يشرع رفع الصوت بالتلبية أم أن ذلك لا يشرع؟ A رفع الصوت بالتلبية مشروع؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (أتاني جبريل صلى الله عليه وسلم فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال -أو قال بالتلبية- وقال: إنها من شعائر الحج)، وروى الإمام مسلم رحمه الله تعالى من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: (قدمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نصرخ بالحج صراخاً)، وفي الصحيحين عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: (صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر أربعاً، والعصر بذي الحليفة ركعتين، وسمعتهم يصرخون بهما جميعاً) أي: يرفعون الأصوات بالحج والعمرة جميعاً، والله تعالى أعلم.

فضل التلبية

فضل التلبية Q هل ورد حديث في فضل التلبية؟ A نعم، فقد ورد من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يلبي إلا لبى من عن يمينه أو عن شماله من حجر أو شجر أو مدر حتى تنصدع الأرض من هاهنا وهاهنا).

أنواع الحج

أنواع الحج Q كم هي أنواع الحج؟ A الحج ثلاثة أنواع: النوع الأول: حج الإفراد، وهو أن يلبي الملبي فيقول: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، لبيك حجاً)، ويستمر على إحرامه إلى أن يصل إلى مكة ويطوف بالبيت، ويسعى بين الصفا والمروة، ويبقى على إحرامه إلى أن يرمي جمرة العقبة -على ما سيأتي من تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى-. النوع الثاني: حج القران، وهو أن يقرن بين الحج والعمرة، فيقول عند الميقات: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، لبيك حجة في عمرة)، أي: أدخل الحجة مع العمرة. النوع الثالث: حج التمتع: وهو أن يقول: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لا شريك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، لبيك عمرة)، فهذا هو التمتع، فيتمتع بالعمرة إلى الحج، ثم بعد عمرته يتحلل منها، فإذا كان يوم التروية الثامن من ذي الحجة لبس المتمتع ملابس الإحرام من جديد، ويقول: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، لبيك حجاً). أما المفرد والقارن فيبقيان على إحرامهما بعد الطواف والسعي، ولا يتحللان إلا بعد رمي جمرة العقبة، وبالله تعالى التوفيق.

الاشتراط في الحج وما يترتب عليه

الاشتراط في الحج وما يترتب عليه Q ما معنى الاشتراط في الحج؟ A الاشتراط: أن يلبي المحرم بالحج أو بالعمرة قائلاً: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، لبيك عمرة، أو لبيك حجاً، أو لبيك حجة في عمرة، ثم يقول عقب ذلك مباشرة: اللهم! محلي حيث حبستني، أي: يارب! سأتحلل في المكان الذي لا أستطيع فيه مواصلة الحج؛ إذ قد أمرض، أو قد أفقد رفقتي، أو قد يحدث أي عذر يحول بيني وبين أداء عمرتي أو حجي، فحينئذ سأتحلل، فيعبر عن ذلك بقوله: اللهم محلي حيث حبستني، وفائدة ذلك أنه لا يُلزم بدم من جراء عدم إكماله الحج أو العمرة، أما إذا لم يشترط فيلزمه دم يذبحه لعدم إتمامه الحج أو العمرة، والاشتراط يعفيه من هذا الدم. والدليل على هذا الاشتراط: ما أخرجه الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على ضباعة بنت الزبير فقال لها: لعلك أردت الحج؟ قالت: والله لا أجدني إلا وجعة -أي مريضة-، فقال لها: حجي واشترطي، قولي: اللهم محلي حيث حبستني)، وَثَّم أدلة أخرى في هذا الباب كثيرة، والله تعالى أعلم.

حكم وعقد الزواج للمحرم

حكم وعقد الزواج للمحرم Q هل يجوز للمحرم أن يعقد عقد الزواج؟ A لا يجوز للمحرم أن ينكح ولا أن يخطب، وذلك لما رواه أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا ينكح المحرم ولا يُنكح، ولا يخطب) أي: لا يتزوج ولا يزوج غيره، ولا يخطب أثناء إحرامه، وإلى هذا ذهب فريق من أهل العلم. وقد ورد في هذا الباب: (أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم) أخرج ذلك الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقد أجيب عن ذلك ببعض الأجوبة، ومن العلماء من قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو حلال، وبنى بها وهو بسرف -وسرف: مكان-، ووهنوا بهذه الرواية رِوايَة عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقال آخرون من أهل العلم بالجمع بين الحديثين، فحملوا حديث: (لا ينكح المحرم) على الكراهية، وذلك لحديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الذي فيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم)، والله تعالى أعلم.

حلق رأس المحرم وأحكامه

حلق رأس المحرم وأحكامه Q هل للمحرم أن يحلق رأسه؟ A لا يجوز للمحرم أن يحلق رأسه؛ لأن الله تبارك وتعالى قال: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:196]، إلا أنه يجوز لمن كان به أذى من رأسه أن يحلق شعر رأسه وأن يفدي فدية، كما قال الله تبارك وتعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196]، وفي الصحيحين من حديث كعب بن عجرة رضي الله تعالى عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى القمل يتساقط على وجهه، فقال له صلى الله عليه وسلم: لعلك قد آذاك هوامك؟ -أي: هوام الرأس من القمل ونحوه- قال: نعم يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: احلق رأسك، وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو انسك بشاة)، وهكذا يقول فريق من العلماء: من ارتكب محظوراً من المحظورات فإنه يصوم ثلاثة أيام، أو يطعم ستة مساكين، أو ينسك نسيكة، والله تبارك وتعالى أعلم.

حكم غسل المحرم

حكم غسل المحرم Q هل يجوز للمحرم أن يغتسل؟ A نعم، يجوز للمحرم أن يغتسل، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل رأسه وهو محرم صلوات الله وسلامه عليه.

حكم استظلال المحرم بالشمسية

حكم استظلال المحرم بالشمسية Q هل يجوز للمحرم أن يستعمل الشمسية؟ A نعم. يجوز للمحرم أن يستعمل الشمسية.

حكم تغطية المحرم وجهه

حكم تغطية المحرم وجهه Q هل يجوز للمحرم أن يغطي وجهه أم أن ذلك لا يجوز له؟ A الرواية التي وردت في تغطية الوجه في سندها كلام، وذلك أن الحديث الذي ورد عن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما: (أن رجلاً وقصته دابته وهو محرم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُغسل بماء وسدر، ولا يُمس طيباً، ولا يُخمر رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً -وفي رواية- ملبداً)، فهذا الحديث فيه: (ولا يخمر رأسه)، وقد ورد الحديث بلفظ: (ولا تخمروا رأسه ولا وجهه)، وزيادة (وجهه) هذه نُوزِعَ في صحتها، وقد رأى كثير من علماء العلل تضعيفها، ومن ثم فينبني على تضعيفها جواز تغطية الوجه أثناء النوم، أما الرأس فلا يغطى. أما الذين صححوها من العلماء فمنعوا المحرم من تغطية وجهه، فتغطية الوجه فيها وجهان للعلماء رحمهم الله تعالى، والأحوط عدمه، وإن كان التحرير يقتضي تضعيف زيادة منع تغطية الوجه، والله تبارك وتعالى أعلم.

الحجامة للمحرم

الحجامة للمحرم Q هل يجوز للمحرم أن يحتجم؟ A نعم، يجوز للمحرم أن يحتجم، وقد احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم، أخرج ذلك الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه، والله تعالى أعلم.

وقت انقطاع تلبية المحرم

وقت انقطاع تلبية المحرم Q متى تنقطع تلبية الملبي بالعمرة؟ A تنقطع تلبية الملبي بالعمرة إذا دخل أدنى الحرم، أي: إذا وصل إلى حدود الحرم أمسك عن التلبية، وقد ورد عن عبدالله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه كان إذا دخل أدنى الحرم أمسك عن التلبية ويُحدِّثُ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك.

الاغتسال لدخول مكة

الاغتسال لدخول مكة Q هل ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغتسل لدخول مكة؟ A نعم، ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغتسل لدخول مكة، فقد أخرج الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما: (أنه كان لا يقدم مكة إلا بات بذي طوى حتى يصبح ويغتسل، ثم يدخل مكة نهاراً، ويذكر عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه فعل ذلك)، والله تبارك وتعالى أعلم. أما الذي لا يغتسل عند دخول مكة فليس عليه شيء، وإنما هي سنة مستحبة إن استطاعها، وإلا فلا شيء عليه.

الاضطباع والنسك الذي يشرع فيه

الاضطباع والنسك الذي يشرع فيه Q ما معنى الاضطباع ومتى يشرع؟ A الاضطباع هو: كشف الكتف الأيمن وتغطية الكتف الأيسر أثناء الإحرام، وهذا الاضطباع لا يشرع إلا عند الطواف، والله تبارك وتعالى أعلم. أما الذي يفعله الحجيج من الاضطباع من عند الميقات إلى أن ينتهوا من رحلة الحج، فهذا لا أعلم فيه خبراً ثابتاً عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

الوضوء للطواف

الوضوء للطواف Q ما حكم الوضوء للطواف؟ A الوضوء يشرع للطواف، وثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة توضأ، ثم طاف بالبيت صلوات الله وسلامه عليه، فهاهو قد توضأ بين يدي طوافه، والحديث أخرجه الإمامان البخاري ومسلم عليهما رحمة الله تعالى. ومما يستدل به أيضاً على مشروعية الوضوء للطواف: ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: (الطواف بالبيت صلاة إلا أنكم تتكلمون فيه فمن تكلم فلا يتكلمن إلا بخير)، إلا أن هذا الحديث عن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما قد أُعِلَّ، والصواب فيه الوقف على عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما، فليس هو من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: لا يصح مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ويكفي أن النبي عليه الصلاة والسلام توضأ ثم طاف بالبيت، وهذا -كما بَيَّنَا- في الصحيحين.

انتقاض الوضوء أثناء الطواف

انتقاض الوضوء أثناء الطواف Q من طاف بالبيت فانتقض وضوءه بعد الأشواط الثلاثة الأولى فماذا عليه؟ A عليه عند جمهور العلماء أن يذهب ويتوضأ ويتمُّ الأشواط الباقية، أي أنه يبني على ما سبق. ومن العلماء من لا يرى أن الوضوء من شرائط صحة الطواف فيرى أن يتم مع انتقاض الوضوء، ثم إن منهم من يقول: بعد أن يتمَّ يذبح ذبيحة، ولا أعلم دليلاً على تلك الذبيحة، وإن كان للقول بأنه يتمَّ مع انتقاض الوضوء وجه أيضاً، فقد ذهب إلى ذلك فريق من أهل العلم وهم الأحناف، وأجاب بعضهم على حديث: (أن النبي عليه الصلاة والسلام توضأ ثم طاف بالبيت)، بأنه يفيد الاستحباب، ولا يفيد الشرطية. والله تبارك وتعالى أعلم. وعلى كل نقول وبالله تعالى التوفيق: إن الاحتياط له أن يذهب ويتوضأ ويأتي ليتمَّ على ما سبق، ثم يصلي الركعتين. وبالله تعالى التوفيق.

كيفية الطواف المشروع

كيفية الطواف المشروع Q ما هي صفة الطواف المشروعة؟ A تبتدئ طوافك بالحجر الأسود، فإن استطعت أن تقبله وأن تستلمه قبلته واستلمته؛ إذ هذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ثم تبدأ بالطواف، وإن لم تستطع أشرت إليه مكبراً ثم بدأت في الطواف، ولا يشرع لك أن تزاحم الناس؛ إذ أذى المسملين لا يجوز لك، ورب العزة قال: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، وقال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، ثم تبدأ بالطواف، وليست هناك أذكار مخصوصة بالطواف كما يفعل بعض الناس، وإنما الذي ورد هو أن يقول بين الركن اليماني والحجر الأسود: (اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار)، وإن كان في إسناده بعض الضعف اليسير، إلا أن من أهل العلم من يعمل به لكونه في فضائل الأعمال، والأكثرون من العلماء على ذلك في هذا الباب أي: على قول: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) بين الركن اليماني والحجر الأسود، أما سائر الأركان فأنت مخير فيها بين الدعاء فتدعو الله تعالى بما شئت، أو تذكره بما شئت، أو تتلو كتابه كيف شئت، أو تصلي على النبي محمد صلى الله عليه وسلم كيف تشاء، فلا دليل يلزم بشيء معين، والله تعالى أعلم. وأما الملتزم وهو المكان الذي بين الحجر الأسود وباب الكعبة، ويقارب متراً ونصف المتر على وجه التقريب فيسن عنده الدعاء ويشرع، وأما ما ورد من أن صحابة النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يلصقون صدورهم وخدودهم بالملتزم فإسناده فيه ضعف، وبالله تعالى التوفيق. فالحاصل أنك تبدأ الطواف بتقبيل الحجر الأسود واستلامه، فإن لم تستطع أشرت إليه بشيء معك أو بيدك وكبرت، ثم تبدأ الثلاثة الأشواط الأولى بالرمل، والرمل: المشي السريع المتتابع، مع الاضطباع، والاضطباع: أن تكون كاشفاً عن كتفك الأيمن مغطياً كتفك الأيسر، وكلما مررت بالركن اليماني استلمته إن استطعت، فإن لم تستطع استلامه فلا تشير إلى الركن اليماني. فإذا انتهت الأشواط الثلاثة الأولى رجعت عن اضطباعك، وتوقفت عن الرمل، وسرت سيراً كسائر سيرك حول الكعبة، فتدعو ربك عز وجل بما شئت، واحذر أن تتسلل من الفتحة التي هي بين الحِجْر وبين الكعبة، وذلك لأن الحِجْر يعد من الكعبة، وقصة الحجر أن مشركي قريش لما أرادوا بناء الكعبة أرادوا ألا يدخلوا فيها مالاً من الحرام فقالوا: لا ندخل فيها مهر بغي، ولا ربا، ولا حلوان الكاهن، ولا شيئاً من الأموال المحرمة، فقصرت بهم النفقة الحلال أن يبنوا الكعبة على قواعد إبراهيم عليه السلام، فبنوا الكعبة على نحو مما هي عليه الآن، والذي لم يستطيعوا بناءه منها أحاطوا عليه بهذا القوس الذي هو الحِجْر، فلا يجوز لك أن تتسلل من الفتحة التي بين الكعبة والحجر وتخرج مختصراً على نفسك الطريق، بل لزامٌ عليك أن تطوف حول هذا القوس الذي هو الحِجْر؛ إذ هو من الكعبة، والله تبارك وتعالى أعلم.

فضل استلام الحجر

فضل استلام الحجر Q هل ورد حديث في فضل استلام الحجر الأسود؟ A نعم، فقد ورد في ذلك حديث أخرجه الإمام الترمذي رحمه الله تعالى وغيره من حديث عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في شأن الحجر: (والله! ليبعثنه الله يوم القيامة له عينان يبصر بهما ولسان ينطق به يشهد على من استلمه بحق)، والله تعالى أعلم.

مشروعية تقبيل الحجر الأسود

مشروعية تقبيل الحجر الأسود Q هل يشرع تقبيل الحجر الأسود؟ A نعم، يشرع تقبيل الحجر الأسود، فقد قبله عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وقال: (والله! لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك ما قبلتك).

ما يقال عند الإشارة إلى الحجر الأسود

ما يقال عند الإشارة إلى الحجر الأسود Q ما هو القول المشروع عند الإشارة إلى الحجر الأسود؟ A الذي ورد أن الشخص يقول: الله أكبر، هذا الذي وقفت عليه عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والله تعالى أعلم.

حكم صلاة ركعتين عقب الطواف

حكم صلاة ركعتين عقب الطواف Q ماذا يصنع الشخص بعد الشوط السابع من الطواف؟ A بعد الشوط السابع من الطواف يكون قد انتهى من طوافه، فيتجه إلى مقام إبراهيم عليه السلام، فيقرأ في طريقه إلى مقام إبراهيم عليه السلام قول الله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:125]، ثم يأتي خلف المقام، فإذا لم يكن هناك مكان خلف المقام مباشرة فله أن يرجع خلف المقام ولو بمسافة طويلة؛ إذ في الأمر فسحة، ثم يصلي ركعتين يقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة بسورة الكافرون، وفي الركعة الثانية بعد الفاتحة سورة الإخلاص (قل هو الله أحد)، والله تعالى أعلم.

المصلي في الحرم ومرور الناس بين يديه

المصلي في الحرم ومرور الناس بين يديه Q ماذا أصنع في الحرم وأنا أصلي والناس يمرون من بين يدي؟ A إن استطعت أن تستتر بشيء فاستتر، فتلك سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حث عليها ورغب فيها، وإن غلبت فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، والله تعالى أعلم.

مرور المرأة البالغة بين يدي المصلي

مرور المرأة البالغة بين يدي المصلي Q كنت أصلي ركعتين خلف المقام فمرت امرأة أمامي، وقد قرأت حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقطع الصلاة ثلاثة: المرأة الحائض، والحمار، والكلب الأسود)، فماذا أصنع وقد مرت المرأة أمامي؟ A جمهور العلماء أَوّلُوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقطع الصلاة ثلاثة) بأنه يقطع خشوع الصلاة ثلاثة، قالوا: وليس المراد الإبطال، والله تعالى أعلم. بيد أن قلة من أهل العلم حملوا الحديث على ظاهره، وحملوا القطع على الإبطال، إلا أنهم قلة، ويرد عليهم الحديث: (أن عائشة رضي الله تعالى عنها كانت تنسل من بين رجلي السرير ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي). ولكن الأحوط أن تحتاط من هذا احتياطاً شديداً خروجاً من الخلاف، والله تعالى أعلم.

استلام الحجر بعد ركعتي الفراغ من الطواف

استلام الحجر بعد ركعتي الفراغ من الطواف Q هل ورد أنه بعد صلاة ركعتين خلف مقام إبراهيم يذهب ويستلم الحجر مرة ثانية؟ A إن استطعت بعد صلاة ركعتين خلف المقام أن تذهب إلى الركن لتستلمه فقد ورد ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن استطعت أن تفعل فافعل، والحديث بذلك في صحيح الإمام مسلم رحمه الله تعالى من حديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما، وإن لم تستطع فلا شيء عليك، وبالله تعالى التوفيق.

الشرب من زمزم بعد صلاة الركعتين خلف المقام

الشرب من زمزم بعد صلاة الركعتين خلف المقام Q هل ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الشرب من زمزم بعد صلاة ركعتين خلف المقام؟ A نعم، قد ورد ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعد أن صلى ركعتين وعاد إلى الحجر واستلمه ذهب إلى زمزم فشرب منها، وصب على رأسه صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

السعي بين الصفا والمروة كيفيته وأذكاره

السعي بين الصفا والمروة كيفيته وأذكاره Q ماذا أصنع إذا انتهيت من صلاة ركعتين، وذهبت إلى زمزم فشربت الماء، ثم عدت إلى الركن فاستلمته؟ A تذهب إلى الصفا، فإذا مررت من جبل الصفا قرأت قول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة:158]، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ قوله تعالى: (إن الصفا والمروة من شعائر الله)، ثم يقول: أبدأ بما بدأ الله به، فبدأ صلى الله عليه وسلم بالصفا، فصعد عليه حتى رأى البيت -أي: حتى رأى الكعبة- فاستقبل القبلة فوحد الله تعالى وكبره، وقال وهو على الصفا: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده)، ثم دعا بين ذلك، فعل هذا ثلاث مرات صلى الله عليه وسلم، فالمشروع لك عند اتجاهك إلى الصفا، أن تقرأ الآية الكريمة، ثم تقول الذكر الوارد، وتدعو بين ذلك دعاءً طويلاً؛ إذ قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما جعل السعي بالبيت والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار من أجل إقامة ذكر الله عز وجل)، فيسن لك أن تدعو الله تعالى دعاءً طويلاً على الصفا، ثم تسعى متجهاً من الصفا إلى المروة، وبين العلمين الأخضرين وهو الأبطح تسرع في مسيرك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يُقطع الأبطح إلا شداً)، أي: يقطعه الشخص مسرعاً، والنساء ليس عليهن هذا الإسراع. فإذا وصلت من الصفا إلى المروة فقد قطعت شوطاً، فافعل على المروة ما فعلته على الصفا، ثم تتجه من المروة إلى الصفا وهذا الشوط الثاني، وتفعل ما فعلت أولاً، ثم من الصفا إلى المروة وهذا الثالث، ثم من المروة إلى الصفا وهذا الرابع، إلى أن تأتي بسبعة أشواط، فالذهاب من الصفا إلى المروة شوط، والعودة من المروة إلى الصفا شوطٌ ثانٍ، فتكون ذهاباً وإياباً قد قطعت ثلاث مرات ونصف تعادل سبعة أشواط، تفعل على المروة ما تفعل على الصفا، وتقطع الأبطح الذي هو بين العلامتين الخضراوين شداً، أي: مشياً مسرعاً، وتذكر الله عز وجل بما شئت من الذكر، وتدعوه بما شئت من الدعاء على الصفا والمروة، وتبدأ بالذي بيناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده)، فإذا انتهيت من السبعة الأشواط قصرت شعرك إن كنت معتمراً وستأتي بحجة بعدُ، أو حلقت شعرك إذا كنت معتمراً فقط، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (رحم الله المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله! قال: رحم الله المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله! قال: رحم الله المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله! قال في الثالثة: والمقصرين)، فإذا كنت معتمراً فقط استحب لك أن تحلق شعرك كاملاً ولك أن تقصر، والتقصير يكون من عموم الرأس لا من بعض الشعرات كما يفعله بعض الناس. أما إذا كنت ستحج، والعمرة عمرة تمتع بالحج فلك حينئذ أن تقصر فقط وتؤجل الحلق إلى يوم النحر، والله تبارك وتعالى أعلم.

حكم الركوب في الطواف

حكم الركوب في الطواف Q تعبت في الطواف، فهل يجوز لي أن أركب دابة أو أحمل على الخشب؟ A نعم يجوز لك أن تطوف راكباً، وقد طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على بعير، وكان كلما يمر صلى الله عليه وسلم على الحَجَر يستلم الحَجَر بمحجن كان معه صلى الله عليه وسلم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أم سلمة رضي الله تعالى عنها لما شكت إليه أنها مريضة: (طوفي من وراء الناس وأنت راكبة).

عمل المتمتع بعد الطواف والسعي

عمل المتمتع بعد الطواف والسعي Q ماذا يصنع المتمتع بعد الطواف والسعي؟ A المتمتع بعد الطواف والسعي يقص من شعره ثم يتحلل تماماً، وذلك بلبس الثياب إن كان معه ثياب، أو بإتيانه زوجته إن كانت معه زوجته، ويصبح حلالاً تماماً شأنه شأن الناس الذين هم محلون ليسوا بمحرمين، إلى أن يأتي يوم الثامن من ذي الحجة فيهل بالحج من مكانه الذي هو فيه قائلاً: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، لبيك حجاً) وينطلق إلى منى، وأما المفرد والقارن فلا يحلان من إحرامهما، بل يبقيان محرمين على إحرامهما بعد الطواف والسعي، ويجوز لكل واحد منهما أن يؤجل السعي إلى يوم النحر، وإن قدمه فلا يلزم بسعي آخر، والله تعالى أعلم.

أعمال الحاج يوم التروية

أعمال الحاج يوم التروية Q ماذا يفعل الحاج يوم الثامن من ذي الحجة؟ A في يوم الثامن من ذي الحجة، وهو الذي يسميه العلماء يوم التروية، يتجه الحجيج كلهم إلى منى، وهذا الاتجاه سنة مستحبة، فيصلون بمنى الظهر قصراً في وقته، ويصلون العصر قصراً في وقته، والمغرب ثلاث ركعات في وقتها، والعشاء ركعتين في وقتها، ثم ينامون، فإذا أصبحوا صلوا الفجر في وقته، وكل ذلك مع ذكر الله عز وجل ومع التلبية ومع التكبير، ثم يتجهون بعد طلوع شمس اليوم التاسع إلى عرفات، ويسن لهم -إن استطاعوا- أن يبقوا بنمرة -هي على حدود عرفات تشكل النصف الأول من مسجد نمرة- إلى زوال الشمس، ثم بعد زوال الشمس يدخلون عرفات، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقبة ضربت له بنمرة -أي: صنعت له بنمرة- فبقي فيها إلى أن زالت الشمس، ثم دخل عرفات بعد زوال الشمس -وزوال الشمس يكون قبل صلاة الظهر بما يقارب نصف ساعة-، وإذا لم يتيسر هذا لأكثر الحجيج فلا شيء عليهم، فلهم أن يدخلوا عرفات مباشرة بدون المكث في نمرة، إلا أنه من استطاع أن يتبع السنة ففي ذلك خير له، والله تعالى أعلم.

التكبير والتلبية عند الاتجاه إلى عرفات

التكبير والتلبية عند الاتجاه إلى عرفات Q هل الأولى للحجيج وهم متجهون من منى إلى عرفات أن يكبروا أم يلبوا؟ A السنة لهم أن يكبروا أو أن يلبوا، فالنبي عليه الصلاة والسلام حين اتجه مع أصحابه رضي الله تعالى عنهم من منى إلى عرفات كان منهم المكبر ومنهم الملبي، والله أعلم.

ما يشرع للحاج فعله يوم عرفة

ما يشرع للحاج فعله يوم عرفة Q ما الذي يشرع في عرفات؟ A يشرع في عرفات أن يجمع الحاج بين الظهر والعصر جمع تقديم، يصلي الظهر ركعتين ثم يصلي العصر ركعتين، ثم يتفرغ للدعاء والذكر والعبادة، ولا يلزمه أن يذهب إلى جبل الرحمة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف)، ويستحب له الإكثار من الدعاء والتهليل، فإن الله عز وجل يباهي بالحجيج ملائكته ويقول: (انظروا إلى عبادي هؤلاء أتوني شعثاً غبراً، أشهدكم أني قد غفرت لهم).

حكم صيام الواقف بعرفة

حكم صيام الواقف بعرفة Q هل يستحب الفطر يوم عرفة وأنا بعرفات أم يستحب لي الصيام؟ A النبي صلى الله عليه وسلم أفطر في عرفات وهو حاج عليه الصلاة والسلام، فإذا كنت حاجّاً ففي عرفات يسن لك الفطر حتى تستعين بذلك على الدعاء وعلى الذكر، ثم أنت موافق للسنة بفطرك. والله تعالى أعلى وأعلم.

إدراك الوقوف بعرفة بعد غروب شمس يوم عرفة

إدراك الوقوف بعرفة بعد غروب شمس يوم عرفة Q إذا وصلت إلى عرفات متأخراً مع غروب الشمس أو بعد غروبها يوم التاسع من ذي الحجة، فهل حجي صحيح؟ A نعم حجك صحيح، وذلك لما رواه أبو داود رحمه الله تعالى من حديث عروة بن مضرس رضي الله تعالى عنه قال: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بجمع -أي بمزدلفة- فقلت: جئت -يا رسول الله- من جبال طيئ، أكللت مطيتي، وأتعبت نفسي، والله! ما تركت من جبلٍ إلا وقفت عليه، فهل لي من حج؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أدرك معنا هذه الصلاة -يعني صلاة الفجر بمزدلفة- وأتى عرفات قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضي تفثه)، والله تبارك وتعالى أعلم.

المبيت بمزدلفة وما يشرع فيه

المبيت بمزدلفة وما يشرع فيه Q ما المسنون فعله في مزدلفة؟ A يسن لك في مزدلفة أن تجمع بين المغرب والعشاء فور وصولك إلى مزدلفة، ولم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم أوتر في مزدلفة، فلذلك من العلماء من يقول: هذه الليلةُ الوحيدةُ التي لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أوتر فيها، وأخذ بعض أهل العلم بأحاديث أخر في مشروعية الوتر في مزدلفة أيضاً. وفي مزدلفة تصلي المغرب ثلاث ركعات، أما العشاء فتصلى ركعتين، ثم تبيت في مزدلفة، ولم يشرع قيام الليل في تلك الليلة، والله تعالى أعلم.

مكان الوقوف بمزدلفة

مكان الوقوف بمزدلفة Q هل يلزمني أن أذهب إلى المشعر الحرام في مزدلفة أم أنني أقف في أي مكان فيها؟ A النبي صلى الله عليه وسلم وقف حين وقف، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (وقفت هاهنا وجمع -أي: مزدلفة- كلها موقف).

حكم الانصراف من مزدلفة بعد غروب القمر للمعذورين

حكم الانصراف من مزدلفة بعد غروب القمر للمعذورين Q من الذين رخص لهم أن ينصرفوا من مزدلفة بعد غروب القمر؟ A الذين رخص لهم أن ينصرفوا من مزدلفة متجهين إلى منى بعد غروب القمر هم الضعفة عموماً، ثم النساء أيضاً، فهؤلاء رخص لهم في الدفع من مزدلفة إلى منى بعد غروب القمر، وبالله تعالى التوفيق.

وقت رمي الجمرة الكبرى

وقت رمي الجمرة الكبرى Q الذين يصلون إلى منى مبكرين هل لهم أن يرموا الجمرة بعد صلاة الفجر أم أنهم ينتظرون حتى تطلع الشمس؟ A لهم أن يرموا الجمرة بعد صلاة الفجر، بل من العلماء من جوز لهم أن يرموا قبل صلاة الفجر؛ لحديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنها (أنها لما تقدمت رمت الجمرة ثم صلت الصبح)، إلا أن الأولى الانتظار لرميها بعد طلوع الشمس، لكن إن رمت قبل طلوع الشمس فجائز لها أن ترمي، وجائز للضعفة أن يرموا قبل طلوع الشمس، والمستحب بعد طلوعها لمن استطاع، والله تعالى أعلم.

صلاة الصبح بمزدلفة وأفضل أوقاتها

صلاة الصبح بمزدلفة وأفضل أوقاتها Q هل تصلى صلاة الصبح بمزدلفة في أول وقتها أم ينتظر حتى يسفر الصبح؟ A يسن في ليلة مزدلفة خاصة أن تصلى الفجر في أول وقتها، بل قد ورد في الرواية: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الفجر قبل ميقاتها الذي كان يصليها فيه)، وهذا محمول على أنه صلاها في أول وقتها، فالمسنون التبكير بصلاة الصبح في مزدلفة، ثم التفرغ للدعاء إلى أن يسفر الصبح جداً، ثم يتحرك من مزدلفة بعد إسفار الصبح جداً وقبل طلوع الشمس، والله تعالى أعلم.

مكان التقاط الحصى لرمي الجمرات

مكان التقاط الحصى لرمي الجمرات Q من أين تلتقط الحصى لرمي الجمرات؟ A تلتقط من أي مكان، وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد التقطها من الطريق بعد مزدلفة وهو متجه إلى منى صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فهذا الأفضل، وإلا فمن أي مكان شئت أن تلتقط فالتقط الحصى؛ إذ لم يرد دليل ملزم بالالتقاط من مكان معين، والله تعالى أعلم.

رمي الجمرة الكبرى يوم النحر

رمي الجمرة الكبرى يوم النحر Q ماذا يفعل الشخص إذا وصل إلى منى صبيحة يوم العاشر من ذي الحجة؟ A يسن له أن يبدأ بالجمرة الكبرى فيرميها بسبع حصيات، وهي التي ترمى في هذا اليوم فقط، ويكبر مع كل حصاة.

وقت انقطاع تلبية الحاج

وقت انقطاع تلبية الحاج Q متى تنقطع تلبية الحاج؟ A تنقطع تلبية الحاج بعد رمي جمرة العقبة الكبرى يوم النحر، ولكن يستمر في التكبير والتهليل والتسبيح ونحو ذلك، والله تبارك وتعالى أعلم.

من يجب عليه الهدي من الحجيج

من يجب عليه الهدي من الحجيج Q من الذي يجب عليه هدي من الحجيج؟ A الهدي يجب على المتمتع وعلى القارن، أما المفرد فلا شيء عليه.

أعمال الحاج يوم النحر

أعمال الحاج يوم النحر Q ما الأعمال التي تعمل يوم النحر في الحج؟ A هي أربعة أعمال: رمي جمرة العقبة بسبع حصيات يكبر الشخص مع كل حصاة، ثم بعد ذلك ينحر هديه إن كان عليه هدي ثم بعد ذلك يحلق، ثم بعد ذلك يطوف طواف الإفاضة ويسعى إن كان عليه سعي، وإن قدم شيئاً أو أخر شيئاً فلا حرج؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما سئل عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: (افعل ولا حرج).

التحلل الأصغر للمحرم

التحلل الأصغر للمحرم Q ماذا يحل لي بعد رمي الجمرة؟ A يحل لك كل شيء قد حرم عليك إلا النساء، فإذا طفت بالبيت حل لك كل شيء حتى النساء. وبالله تعالى التوفيق.

رمي الجمرات أيام التشريق

رمي الجمرات أيام التشريق Q أي جمرة ترمى أولاً أيام التشريق الثلاثة؟ وأي الجمرات يسن عندها الدعاء؟ A الجمرة التي ترمى أولاً أيام التشريق هي الجمرة القريبة من مسجد الخيف وهي الجمرة الصغرى، ثم بعد رميها يدعو الشخص دعاءً طويلاً ويستقبل القبلة، ثم يتجه بعد ذلك إلى الجمرة الوسطى فيرميها بسبع حصيات، ثم يستقبل القبلة وقد جعل الجمرة عن يساره فيدعو دعاءً طويلاً، ثم يرمي جمرة العقبة ولا يرمي بعدها، والله تعالى أعلم.

بيع الحاج وشراؤه

بيع الحاج وشراؤه Q هل يجوز للحاج أن يبيع وأن يشتري؟ A نعم يجوز للحاج أن يبيع وأن يشتري؛ لقول الله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:198]، وقد نزلت الآية الكريمة في التجارة في الحج، وقد قال الله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج:28]، والله تبارك وتعالى أعلم.

نزول الحيض بعد طواف الإفاضة وقبل طواف الوداع

نزول الحيض بعد طواف الإفاضة وقبل طواف الوداع Q طفت طواف الإفاضة ثم حضت، فجاء طواف الوداع وأنا حائض، فهل يجب علي الانتظار حتى أطهر وأطوف طواف الوداع أم لا؟ A مادام أنك طفت طواف الإفاضة فلا شيء عليك، ولك أن تنفري -أي لك أن تسافري- بدون طواف الوداع، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للحائض إذا كانت قد طافت طواف الإفاضة أن تنصرف.

استئذان المرأة زوجها للحج

استئذان المرأة زوجها للحج Q هل يجب على المرأة أن تستأذن زوجها في الخروج للحج؟ A إذا كان الحج حج فريضة فلا يلزمها أن تستأذن زوجها للخروج إلى الحج، ولكن تستأذنه من باب تطييب الخواطر فحسب، وأما إن كان الحج حج تطوع فقد أجمع العلماء على أنها تستأذن الزوج للخروج لحج التطوع، وبالله تعالى التوفيق.

خروج المعتدة للحج

خروج المعتدة للحج Q هل تخرج المعتدة للحج أم أنه لا يجوز لها أن تخرج للحج؟ A المعتدة لها أحوال: فإذا كانت معتدة من طلاق رجعي فلا يجوز لها الخروج للحج؛ لأن الله تعالى قال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ} [الطلاق:1]، وأما المطلقة المبتوتة -أي: التي طلقت آخر ثلاث تطليقات- فلها أن تخرج، وأما المعتدة من وفاة ففي شأنها قولان لأهل العلم: فذهب جماعة من الصحابة منهم عائشة وجابر وعلي وابن عباس رضي الله تعالى عنهم إلى الترخيص في الخروج إلى الحج للمعتدة من وفاة، وقد أخرجت عائشة رضي الله تعالى عنها أم كلثوم في عدتها للحج، ومنع من ذلك بعض أهل العلم، والله تبارك وتعالى أعلم.

ذهاب المرأة للحج بدون محرم وخلاف العلماء رحمهم الله تعالى فيه

ذهاب المرأة للحج بدون محرم وخلاف العلماء رحمهم الله تعالى فيه Q هل يجوز للمرأة أن تذهب إلى حج الفريضة بدون محرم أم أن هذا لا يجوز لها؟ A ذهب بعض أهل العلم كالإمام مالك وكالإمام الشافعي رحمهما الله تعالى إلى أنه يجوز لها أن تسافر إلى حجة الفريضة مع رفقة آمنة، ولو لم يكن معها محرم، ومن أدلتهم: قول الله تبارك وتعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97]، وكذلك ما روي: أن عمر رضي الله تعالى عنه أذن لنساء النبي صلى الله عليه وسلم بالحج في آخر حجة حجها، فحججن مع عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنهما. وعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله)، قالوا: والمسجد الحرام من هذه المساجد، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ عدي بن حاتم رضي الله تعالى عنه: (إن طالت بك حياة لترين الظعينة -أي: المرأة- ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحداً إلا الله)، فهذه أدلة هؤلاء الأئمة الذين قالوا بجواز خروج المرأة مع رفقة آمنة للحج بدون محرم. أما المانعون ومنهم الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى فاستدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا ومعها محرم) على المنع، والله تبارك وتعالى أعلم.

ملابس المرأة المحرمة

ملابس المرأة المحرمة Q هل تمنع المرأة المحرمة من ملابس معينة؟ A الوارد في هذا الباب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تنتقب المحرمة ولا تلبس القفازين)، فالنقاب الذي هو على قدر العين تمنع منه المرأة، وأما أن تسدل على وجهها سدلاً خفيفاً بدون فتحة أمام العين فلا بأس به؛ لأن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنها قالت: (كنا نغطي وجوهنا من الرجال، وكنا نمتشط قبل ذلك في الإحرام) وفي رواية: (كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات) كذا ورد عن أسماء وصاحباتها رضي الله تعالى عنهن.

الحيض قبل الوصول إلى الميقات

الحيض قبل الوصول إلى الميقات Q وصلت إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في طريقي للحج، وقبل أن أصل إلى ذي الحليفة حضت، فماذا أصنع؟ A ما عليك من شيء، وما عليك من ضرر، بل اخرجي مع الحجيج المتجهين إلى مكة، فإذا وصلت إلى ذي الحليفة فيفضل لك أن تغتسلي لا لإذهاب الحيض؛ إذ الحيضة ما زالت باقية، ولكنه للتطهر، ثم تلبين مع الناس قائلة: لبيك اللهم لبيك، بالتلبية التي تريدينها عمرةً أو حجاً إفراداً أو تمتعاً أو قراناً، وتفعلين كل ما يفعله الحاج إلا الطواف بالبيت، وبالله تعالى التوفيق.

لبس الخفين والسراويل للمحرمة

لبس الخفين والسراويل للمحرمة Q هل يجوز للمحرمة أن تلبس الخفين والسراويل؟ A نعم يجوز للمحرمة أن تلبس الخفين، وأن تلبس السراويل، وبالله تعالى التوفيق.

لبس الحلي للمحرمة

لبس الحلي للمحرمة Q هل يجوز للمحرمة أن تلبس الحلي من ذهب ونحوه؟ A نعم يجوز لها أن تلبس الحلي، فقد جاءت امرأة إلى عائشة رضي الله تعالى عنها، فقالت لها: (يا أم المؤمنين! إن ابنتي فلانة حلفت ألا تلبس حليها في الموسم -تعني موسم الحج-، فقالت عائشة رضي الله عنها: إن أم المؤمنين تقسم عليك أن تلبسي حليك كله)، والله تعالى أعلم.

اكتحال المحرمة

اكتحال المحرمة Q هل يجوز للمحرمة أن تكتحل؟ A لم يأت نص صريح في منع المحرمة من الكحل، ولكن ورد ما يشعر بالمنع وهو ما أخرجه الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه في قصة حجة النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها: (وقدم علي رضي الله تعالى عنه من اليمن فوجد فاطمة رضي الله عنها ممن حل، ولبست ثوباً صبيغاً، واكتحلت، فأنكر ذلك عليها فقالت: إن أبي أمرني بهذا -تعني: أن أباها لما اعتمرت أمرها أن تتحلل من عمرتها؛ لكونها لم تكن ساقت الهدي-) فإنكاره عليها أن تكتحل دليل على أن المحرم يمتنع من الكحل، هكذا فهم من السياق، والله تعالى أعلم. وذهب عدد من أهل العلم إلى أنه لا بأس بالكحل، وقد ورد عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال: (يكتحل المحرم بأي كحل شاء ما لم يكن فيه طيب). ويجوز للمحرمة أيضاً أن تختضب بالحناء إن شاءت؛ إذ لا مانع من ذلك، والله أعلم.

رفع الصوت بالتلبية للنساء المحرمات

رفع الصوت بالتلبية للنساء المحرمات Q هل يشرع للنساء أن يرفعن أصواتهن بالتلبية؟ A من أهل العلم من ذهب إلى جواز ذلك واستحبابه لحديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (جاءني جبريل فقال يا محمد! مر أصحابك أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية فإنها من شعائر الحج)، ولأن عائشة رضي الله تعالى عنها كانت ترفع صوتها بالتلبية. ومن العلماء من منع ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء)، وكأن القول المتوسط في هذه المسألة -والله تعالى أعلم- أنها إذا وجدت رجالاً يسمعون صوتها استحب لها الخفض، وإن لم تجد رجالاً يسمعون صوتها استحب لها الرفع جمعاً بين الأدلة، والله تعالى أعلم.

الحيض بعد إهلال المتمتعة بالعمرة

الحيض بعد إهلال المتمتعة بالعمرة Q إذا أهللت من الميقات بعمرة متمتعة بها إلى الحج، وبعد إهلالي بالعمرة حضت، وسيدخل علي وقت الحج وأنا حائض، فماذا أفعل؟ A الجواب -وبالله تعالى التوفيق- فيما قاله النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة رضي الله تعالى عنها، فقد أتت مكة وهي حائض ولم تطف بالبيت، ولم تسع بين الصفا والمروة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (انقضي رأسك وامتشطي وأهلي بالحج ودعي العمرة)، وهذا في يوم التروية لما دخل عليها الحج، والله تعالى أعلم. ثم بعد ذلك قالت: (ففعلت، فلما قضينا الحج أرسلني النبي صلى الله عليه وسلم مع عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله تعالى عنها إلى التنعيم فاعتمرت فقال: (هذه مكان عمرتك) رضي الله تعالى عنها.

رمل المرأة أثناء الطواف في الحج

رمل المرأة أثناء الطواف في الحج Q هل على النساء رمل في الحج؟ A ليس على النساء رمل في الحج أثناء الطواف، والله تعالى أعلم.

انتقاب المرأة في الطواف بعد قضاء العمرة

انتقاب المرأة في الطواف بعد قضاء العمرة Q قضيت عمرتي وأنا ما زلت في الحرم، فهل لي أن أطوف بالبيت وأنا منتقبة ولست بمحرمة؟ A نعم لك أن تطوفي بالبيت منتقبة مادمت قد انتهيت من أعمال عمرتك أو أعمال حجك؛ إذا كان الطواف عبادة مستقلة، والله تعالى أعلم.

زيارة المدينة المنورة بعد الحج أو العمرة

زيارة المدينة المنورة بعد الحج أو العمرة Q هل يلزمني بعد حجي أو عمرتي أن أتجه إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ A لا يلزمك ذلك، ولكن في ذلك ثواب إذا زرت مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصليت فيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى)، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة في مسجدي هذا تعدل ألف صلاة فيما سواه من المساجد)، وكذلك يسن لك إذا زرت مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تزور مسجد قباء، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يزوره راكباً وماشياً. هذا؛ وبالله تعالى التوفيق، وإن كنت قد أخطأت في شيء فمن نفسي ومن الشيطان، والله رسوله بريئان من ذلك، وما كان في تلك الأجوبة من صواب فمن الله وحده فله النعمة وله الحمد وله الثناء الحسن، وصل اللهم على نبينا محمد وسلم. والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

فتاوى رمضان

فتاوى رمضان

مقدمة

مقدمة الحمد لله رب العالمين، والصلاة السلام على نبينا محمد الأمين، وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين. وبعد: فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)، فعلامة الخير: أن يوفق العبد للفقه في دينه، وهذا يتأتى باتباع الوارد في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع الاطلاع على أقوال أهل العلم يرحمهم الله من صحابة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ثم التابعين، ثم أتباع التابعين، فمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. هذا ونحن الآن بين يدي شهر كريم مبارك، ألا وهو شهر رمضان، أهلّ الله علينا وعلى المسلمين هلاله بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، والتوفيق لما يحبه الله ويرضاه بين يدي شهر كريم تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب النار، وتسلسل فيه الشياطين بين يدي شهر القرآن، شهر الإحسان والجود والعطاء بين يدي هذا الشهر الكريم الدعاء فيه أقرب إلى الإجابة بين يدي هذا الشهر الكريم فيه ليلةٌ هي خيرٌ من ألف شهر بين يدي شهرٍ كريم من صامه إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قامهُ إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، وكذا فيه ليلة من قامها إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه. فجدير بكل منا أن يتأهب لاستقبال هذا الشهر استقبالاً يليق به؛ بالتحلل من المظالم، وبكثرة الاستغفار، وبتعلم أحكام الصيام، فكما هو معلوم أن الأجور تتضاعف إذا بنيت العبادات على علم صحيح موافق لسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ثم هذه طائفة من الأسئلة المتعلقة بهذا الشهر الكريم أسئلة تتعلق بالصيام، وأخرى تتعلق بالقيام، وثمّّ أسئلة أخرى تتعلق بالاعتكاف، مع شيء من الوارد في ليلة القدر، فنسأل الله سبحانه وتعالى التوفيق والسداد للإجابة عليها إجابة ترضيه سبحانه وتعالى، ويرفع الله بها درجاتنا ودرجاتكم وموازيننا وموازينكم، اللهم آمين.

تعريف الصيام

تعريف الصيام Q ما تعريف الصيام؟ A أما الصيام في اللغة: فهو الامتناع، ومنه قول الله سبحانه وتعالى لمريم عليها السلام: {فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} [مريم:26]، فقوله تعالى: {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} أي: صمتاً عن الكلام. أما من الناحية الشرعية، فالصيام: الامتناع عن الطعام والشراب والجماع من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، ويكون ذلك مصحوباً بالنية. هذا بالنسبة للتعريف الشرعي على وجه الإجمال للصيام.

حكم تبييت النية لصيام رمضان

حكم تبييت النية لصيام رمضان Q هل يجب تبييت النية من الليل لصيام شهر رمضان، أم أن هذا ليس بواجب؟ A جمهور أهل العلم على إيجاب تبييت النية لصيام شهر رمضان، وعليه فإذا لم تنو الصيام من الليل ثم طلع عليك نهار أول يوم في رمضان ولم تكن نويت من الليل، فصومك ليس بمحتسب، لكنك تتم صيام اليوم توقيراً لهذا الشهر الكريم، ثم بعد ذلك تعيد يوماً مكانه لكونك لم تنو الصيام من الليل. وهذا يختلف عن صوم النفل، فصوم النفل يذهب جمهور العلماء: إلى أنه يجوز أن تنعقد النية من النهار؛ وذلك لما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه دخل على عائشة رضي الله تعالى عنها ذات يوم، فقال: (هل عندكم شيء؟ قالت: فقلنا: لا، قال: فإني إذاً صائم، قالت: ثم أتانا يوماً آخر، فقلنا: يا رسول الله! أهدي لنا حيسٌ، فقال: أرنيه فلقد أصبحت صائماً، فأكل صلى الله عليه وسلم)، فبهذا استدل جمهور العلماء على أن صوم النفل يجوز فيه عقد النية من النهار. ومن العلماء من قال: إن النية يجوز عقدها من الصباح إلى الزوال، أي: إلى قبيل الظهر بنصف ساعة تقريباً. ومنهم من قال: ما دمت لم تأكل ولم تشرب -وهذا كما بينا في صيام النفل- فيجوز لك أن تعقد النية حتى ولو بعد الزوال. أما في شهر رمضان -فكما أسلفنا- فيلزم تبييت النية من الليل، هذا وقد ورد في هذا الباب حديث أم المؤمنين حفصة رضي الله تعالى عنها، ترويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا صيام لمن لم يبيت النية)، وأهل العلم في هذا الحديث بين مصحح ومضعّف، وأكثر العلماء الأولين على تضعيفه، وجعله موقوفاً على حفصة رضي الله عنها من كلامها وليس من كلام رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وعليه: فحديث: (لا صيام لمن لم يبيّت النية) الذي احتج به من احتج على لزوم تبييت النية من الليل في التطوع، ليس بثابت عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، هذا وقد وردت في هذا الباب جملةٌ من الآثار عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم: منها: حديث أم الدرداء رضي الله عنها: (أن أبا الدرداء كان يجيء بعدما يصبح فيقول: أعندكم غداء؟ فإن لم يجده قال: فأنا إذاً صائم). وكذا ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أنه كان يصبح حتى يُظهِر، ثم يقول: والله لقد أصبحت وما أريد الصوم، وما أكلت من طعام ولا شراب منذ اليوم، ولأصومن يومي هذا). وأيضاً ورد عن أبي طلحة رضي الله عنه: (أنه كان يأتي أهله من الضحى فيقول: هل عندكم غداء؟ فإن قالوا: لا، صام ذلك اليوم). فهذا محله -كما بينا- في صيام النفل. فعليه: يجوز في صيام النفل ما لا يجوز في صيام الفرض، وذلك من جواز عقد النية في النهار بالنسبة للشخص إذا لم يأكل وأراد الصيام.

الحكمة من مشروعية الصيام

الحكمة من مشروعية الصيام Q ما الحكمة من مشروعية الصيام؟ A أجيب على ذلك بقول الله تبارك وتعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]، فبالصوم تحدث التقوى، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)، وقد ذكر أهل العلم عللاً وحكماً للصيام، فقالوا: إن الغني إذا ذاق ألم الجوع شعر بإخوانه الفقراء الضعفاء، فمن ثم يتولد عنده -بإذن الله- الحنان عليهم والإحسان إليهم، ثم إن الصائم أيضاً تكثر منه الطاعات، والطاعات من خصال التقوى، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)، فقال فريق من أهل العلم: إن جريان الدم يكون أقوى إذا كان الشخص مفطراً، أما إذا كان الشخص صائماً قل جريان الدم في عروقه، ومن ثمَّ قل عمل الشيطان وضعف عمله، هذا والله تبارك وتعالى أعلم.

سبب اختصاص الله تعالى بالصيام

سبب اختصاص الله تعالى بالصيام Q لماذا خص الصوم من بين سائر العبادات أنه لله عز وجل، ففي الحديث القدسي: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به)؟ A قال فريق من أهل العلم: إن الصوم سرٌ بين العبد وبين ربه سبحانه وتعالى، ولا يَظهر إلا لله، ولا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، وما سواه من العبادات فظاهرٌ يراه البشر، أما الصوم فهو سرٌ بين العبد وبين ربه تبارك وتعالى. وقال آخرون من العلماء: إن الصوم يمنع من ملاذِّ النفس منعاً أكثر مما تمنعه غيره من العبادات، هذا والله سبحانه وتعالى أعلم.

حكم تقبيل الصائم ومباشرته

حكم تقبيل الصائم ومباشرته Q هل يجوز للصائم أن يقبل زوجته وأن يباشرها بما دون الجماع، أم أن ذلك ليس بجائز؟ A يجوز للصائم إتيان هذا إذا كان يملك أمر نفسه، وقد دل على ذلك حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل ويباشر وهو صائم)، والمباشرة هنا دون الجماع بلا شك، قالت رضي الله عنها: (وكان أملككم لإربه)، أي: أنه يستطيع التحكم في نفسه، فيمنع نفسه من الجماع، وفي رواية عن عائشة أيضاً رضي الله عنها قالت: (إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقبل بعض أزواجه وهو صائم، ثم ضحكت)، وكذلك قالت أم المؤمنين حفصة رضي الله تعالى عنها: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل وهو صائم)، وكذلك من حديث أم سلمة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبلها وهو صائم)، وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (هششت يوماً فقبلت وأنا صائم، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: لقد صنعت اليوم أمراً عظيماً، قال: وما هو؟ قلت: قبلت وأنا صائم، قال: أرأيت لو تمضمضت من الماء، قلت: إذاً لا يضر، قال: ففيم؟)، أي: ففيم تفطر؟ أي: وما هو الضرر إذا قبلت وأنت صائم؟ فالقبلة للصائم كالمضمضة بالنسبة له. هذا وقد فرق بعض أهل العلم بين الشاب والشيخ في مسألة القبلة، فرخصوا للشيخ الكبير في القبلة ومنعوا الشاب منها؛ لكونها قد تفضي معه إلى الجماع المهلك المحرم، وقد ورد هذا عن عدد من أهل العلم، وقد ورد فيه حديث ضعيف عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، حاصله: (أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المباشرة للصائم فرخص له، وأتاه آخرٌ فسأله فنهاه)، إلا أن هذا الحديث لا يثبت من ناحية الإسناد، وإن ثبت فمحله حيث تُخشى الفتنة على الشاب إذا قبّل. هذا وقد جوّز آخرون من أهل العلم القبلة حتى للشاب، واستدلوا بأن عائشة بنت طلحة كانت عند عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فدخل عليها زوجها عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وهو صائم، فقالت له أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (ما يمنعك أن تدنو من أهلك، فتقبلها وتلاعبها؟ قال: أقبلها وأنا صائم؟! قالت: نعم). قالوا: فهذه عائشة بنت طلحة، وكانت من أجمل النساء في زمانها، وكانت متزوجة بـ عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر، وهو شاب، ومع ذلك أرشدتهما عائشة رضي الله تعالى عنها إلى القبلة والملاعبة، ومحل هذا أيضاً أمن الفتنة، والله تبارك وتعالى أعلم.

حكم الاستمناء في نهار رمضان

حكم الاستمناء في نهار رمضان Q ما حكم الاستمناء الذي يفعله شرار الشباب إذا كان في رمضان، هل يفطر الصائم أم لا؟ A الجواب على ذلك حاصله: أن جمهور أهل العلم -ومعنى جمهور أهل العلم: أي أكثر أهل العلم- على أن الرجل إذا استمنى في رمضان فقد فسد صومه، وعليه إعادة ذلك اليوم، وحجتهم في هذا قول الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي في شأن الصائم: (يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي)، قالوا: فالذي استمنى وخرج منه المني لم يدع شهوته بل قد قضاها كاملةً. ومن العلماء -وهم قلةٌ- من قال: إن قوله في الحديث: (شهوته)، المراد به: الجماع، فعليه لم يجعلوه مفطراً، ولكن رأي الأكثرين على أن المستمني في رمضان قد بطل صومه، ولكنه يمسك عن الطعام والشراب حفاظاً على حرمة هذا الشهر الكريم، وبعد ذلك يقضي يوماً مكان هذا اليوم الذي كان قد أفطره.

حكم من أذن الفجر وهو جنب

حكم من أذن الفجر وهو جنب Q جامعت زوجتي من الليل ثم لم يسعني الوقت للاغتسال، فأذن المؤذن للفجر ولم أغتسل، فهل يصح صومي أو لا يصح؟ A الصوم صحيح ما دمت لم تجامع بعد الفجر، ثم بعد ذلك عليك أن تغتسل للصلاة وتصلي والصوم صحيح، وقد ورد في هذا الباب: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصبح جنباً من جماع غير احتلام، ثم يتم صومه صلى الله عليه وعلى آله وسلم).

حكم الاحتلام في نهار رمضان

حكم الاحتلام في نهار رمضان Q نمت في نهار رمضان فاحتلمت وأنا نائم، فهل هذا الاحتلام يفسد عليّ صيامي؟ A لا يفسد هذا الاحتلام عليك صيامك بالإجماع، وقد أجمع العلماء على أن الاحتلام لا يفسد الصيام، فقم واغتسل لصلاتك، وأتم صيامك، ولا تلزمك إعادةٌ، وبالله تعالى التوفيق.

حكم الاكتحال للصائم

حكم الاكتحال للصائم Q هل يجوز للصائمة أن تكتحل؟ A نعم، يجوز للصائمة أن تكتحل؛ إذ ليس هناك دليلٌ يمنعها من الاكتحال، وقد تقدم في الحديث القدسي في شأن الصائم: (يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي)، والكحل ليس بطعام ولا بشراب ولا بشهوة. وهذا رأي جمهور أهل العلم: أنه يجوز للصائمة أن تكتحل، وكذلك يجوز للرجل الصائم أن يكتحل، وقد قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:32].

حكم السواك للصائم

حكم السواك للصائم Q هل للصائم أن يستاك؟ A نعم، للصائم أن يستاك، وذلك لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث عام: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة)، ولم يفرق النبي صلى الله عليه وسلم بين صائم وغيره، وقد ورد أيضاً في حديث آخر لكن في سنده ضعفٌ يسير عن بعض صحابة النبي صلى الله عليه وسلم أن أحدهم قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ما لا أحصي يستاك وهو صائم)، ولكن التعويل على النص السابق، وهو: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة)، بدون تفريق بين صائم وغيره.

حكم استعمال معجون الأسنان للصائم

حكم استعمال معجون الأسنان للصائم Q ما حكم استعمال معجون الأسنان واستعمال الفرشاة للصائم؟ A إذا لم يتسرب شيء من المعجون إلى الجوف، وأمن من ذلك؛ فاستعمال الفرشاة والمعجون لا بأس به، لكن كرهه بعض العلماء سداً للذريعة، وقياساً على أن الصائم لا يبالغ في المضمضة والاستنشاق، ولكن إذا استعمل الشخص الفرشاة مع المعجون فصومه صحيح ما لم يصل شيءٌ من ذلك إلى الجوف، ولكن الأولى أن لا يبالغ في ذلك؛ لأن الصائم لا يبالغ في المضمضة ولا في الاستنشاق، لحديث: (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً)، وبالله التوفيق.

حكم تذوق الصائمة للطعام ومضغه

حكم تذوق الصائمة للطعام ومضغه Q هل يجوز للصائمة أن تتذوق الطعام وأن تمضغه لصبيها، أم أن هذا ليس بجائز؟ A يجوز لها ذلك ما لم يصل شيءٌ منه إلى جوفها، وقد وردت أثار عن عبد الله بن عباس تصح عنه بمجموعة طرقها أنه قال: (لا بأس أن يتذوق الخل أو الشيء ما لم يدخل حلقه وهو صائم)، وورد عن حماد أنه سئل عن المرأة الصائمة هل تتذوق المرق؟ فلم ير عليها في ذلك بأساً. وعليه يجوز للمرأة التي تطهي الطعام -على سبيل المثال- أن تتذوقه بلسانها، فتنظر أمالحٌ هو أم ليس بمالح؟ ما لم يصل شيءٌ من ذلك إلى جوفها، وبالله التوفيق.

حكم ما يدخل من القبل أو الدبر للصائم

حكم ما يدخل من القبل أو الدبر للصائم Q هذا سائلٌ يسأل عن الماء الذي يدخل في الدبر أو القبل من جراء استعمال دورات المياة الإفرنجية، فهل هذا يؤثر ذلك على صحة الصيام بشيء؟ A هذا لا يؤثر على صحة الصيام بشيء؛ لأنه ليس بطعام ولا بشراب ولا بشهوة، والحديث فيه: (يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي). وعليه أيضاً: فاستعمال الحقنة الشرجية التي يستعملها البعض لعلل أو لإزالة الإمساك، على الصحيح من أقوال أهل العلم أنها لا تفطر؛ وذلك لأن الحقنة الشرجية ليست بطعام ولا بشراب ولا بشهوة، والله تعالى أعلم.

أحكام الحقن للصائم

أحكام الحقن للصائم Q ما دمتم ذكرتم الحقنة الشرجية، فما شأن سائر الحقن، تفطر أم أنها لا تفطر؟ A ابتداءً مسألة الحقن بصورتها التي نحن عليها الآن تعد من المسائل النازلة، والمسائل النازلة هي التي لم تكن موجودةً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما نزلت بالمسلمين بعد زمن الرسول عليه الصلاة والسلام، أو نزلت في أزماننا هذه، فهذه يسميها العلماء: مسائل نازلة، فالمسائل النازلة في كثير من الأحيان ترد فيها اجتهادات للعلماء، وتتعدد فيها أقوالهم، فبالنسبة لسائر الحقن من أهل العلم من يقول: إن هذه الحقن تقوم مقام الطعام والشراب، فإذا كانت الحقن مغذية قامت مقام الطعام والشراب، ومن ثم يفطر من تناولها، بينما أبى ذلك آخرون فقالوا: إنها لا تدخل من مدخل الطعام ولا من مدخل الشراب، وعليه: فعند هذا الفريق الآخر لا تفطر، وهذا الذي تطمئن إليه النفس، وإن أراد شخصٌ الاحتياط فليصم يوماً مكان ذلك اليوم، ولا يفطر إذا تناول حقنة، وإن كان الأولى أن يؤجل تناولها إلى الليل. فعلى كلٍ: من العلماء من يجعلها تقوم مقام الطعام والشراب، وعليه: فإنها عندهم تفطر، وآخرون قالوا: إنها لا تدخل من مدخل الطعام والشراب، ولا يتلذذ بها الصائم، بل يتأذى بها، فعلى هذا الرأي لا تفطر، والأولى: الاحتياط للدين، فحتى إن تناولت حقنة في نهار رمضان فأكمل صومك، واحتياطاً صم يوماً مكانه، وبالله تعالى التوفيق.

حكم تناول الحقن لمرضى السكر

حكم تناول الحقن لمرضى السكر Q المريض بمرض السكر -عافانا الله وإياكم- إذا لم يتناول الحقنة تضرر بعدم تناولها، فهل يتناولها وهو صائمٌ، أم أنه يمنع من تناولها؟ A نقول وبالله التوفيق: تناولْها -وفقك الله لكل خير- وهذا جهدك وتلك طاقتك، والله يقول: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، ويقول تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78].

معنى الرفث ليلة الصيام

معنى الرفث ليلة الصيام Q ما سبب نزول قول الله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة:187]، وما معنى ذلك؟ A الرفث له عدة معانٍ، وكثير من الاصطلاحات في كتاب الله عز وجل تتعدد معانيها، ويفهم معنى كل اصطلاحٍ من السياق الذي ورد فيه، فكلمة (الرفث) أحياناً تأتي بمعنى: الفاحش من القول، وفي هذا الباب يقول الرسول صلى الله عليه وسلم مثنياً على عبد الله بن رواحة رضي الله عنه: (إن أخاً لكم لا يقول الرفث)، فذكر من أبيات شعره قوله: وفينا رسول الله يتلو كتابه إذا انشق مشهور من الليل ساطع أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا به موقنات أن ما قال واقع يبيت يجافي جنبه عن فراشه إذا استثقلت بالمشركين المضاجع فهذا ليس برفث من القول إنما هو قول طيب. والرفث أحياناً يراد به الجماع، وهو المراد في هذه الآية الكريمة: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة:187]، فالسؤال المطروح: هل كان الرفث حراماً حتى يقال: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ}؟ والجواب: أن الشخص في ابتداء فرض الصيام كان له أن يفطر إذا أذن المؤذن للمغرب، ثم إذا نام ولو بعد نصف ساعة من الأذان ثم استيقظ فلا يحل له أن يأكل ولا أن يشرب ولا أن يجامع زوجته إلى أن تغرب الشمس من اليوم التالي، وكان ثم صحابي لرسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه قيس بن صرمة الأنصاري وكان صائماً، فلما حضر وقت الإفطار أتى امرأته فقال لها: أعندك طعام؟ قالت: لا، ولكن أنطلق فأطلب لك، وكان يعمل طيلة يومه، فغلبته عيناه، فجاءته امرأته فلما رأته قالت: خيبة لك! لأنه لم يأكل، وسيصبح غداً صائماً، ومن يستطيع أن يواصل الصيام، فلما انتصف النهار أغمي عليه، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تبارك وتعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة:187]، فأبيح للمرء المسلم بعد ذلك أن يأكل ويشرب ويجامع طول الليل في رمضان بعد أن كان ممنوعاً منه إذا هو نام، وبالله تعالى التوفيق.

حكم من طهرت من الحيض قبيل الفجر ولم تغتسل

حكم من طهرت من الحيض قبيل الفجر ولم تغتسل Q امرأة حائض رأت الطهر قبيل الفجر، ولم يسعها الوقت كي تغتسل، بل طلع عليها الفجر ولم تغتسل، ولكنها رأت الطهر قبل طلوع الفجر، فهل تصوم وهل صومها صحيح؟ A نعم تصوم وصومها صحيح، وإن لم تغتسل إلا بعد طلوع الفجر، وقد تقدم شيءٌ يشهد لهذا، وهو (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصبح من جماع من غير احتلام، ثم يتم صومه صلوات الله وسلامه عليه)، وهذا الذي ذكرناه هو رأي جمهور أهل العلم، أي: أن أكثر أهل العلم على هذا: أن المرأة إذا رأت الطهر قبيل الفجر وطلع عليها الفجر ولم تغتسل، صح صومها إذا نوت الصيام، والله تبارك وتعالى أعلم.

حكم صيام الحائض

حكم صيام الحائض Q هل يجوز للحائض أن تصوم؟ A ليس للحائض أن تصوم، وإن صامت فصومها باطل؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما بين نقصان دين المرأة قال: (أليست إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟)، وهذا إجماعٌ من أهل العلم: أن الحائض لا تصلي ولا تصوم، فإذا انقضت حيضتها قضت الصيام ولم تقض الصلاة، فإذا ذهبت الحيضة قضت ما عليها من الأيام التي أفطرتها ولم تقض الصلوات، وهذا كما بينا بالإجماع، والله تبارك وتعالى أعلم.

حكم استعمال الأدوية لمنع الحيض للصيام

حكم استعمال الأدوية لمنع الحيض للصيام Q هل يجوز للمرأة أن تتناول دواءً يقطع حيضتها كي تتمكن من صيام شهر رمضان كاملاً، وكي تتمكن من قيام شهر رمضان كاملاً؟ A نعم هذا جائزٌ لها، وقد جوّزه فريق من أهل العلم، ولم يرد مانع منه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أن الأولى تركه؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى عائشة رضي الله عنها تحج وهي تبكي، فقال: (ما لكِ أحضت؟ ثم قال لها: هذا شيءٌ كتبه الله على بنات آدم)، ثم إن من الأدوية ما لا يقطع الحيضة بالكلية فيورث المرأة شكاً ووسوسة، فهذا الدواء وإن كان جائزاً إلا أنه يكره لما يخشى منه أن لا يقطع الحيض بالكلية، والله تبارك وتعالى أعلم.

صيام المستحاضة

صيام المستحاضة Q هل يجوز للمستحاضة أن تصوم؟ A المستحاضة غير الحائض، فالمستحاضة: هي التي انقطع منها عرقٌ فنزل الدم من فرجها واستمر نزوله مدةً تختلف عن مدة الحيض أو تتفق معها، لكن لون دم الاستحاضة يختلف عن لون دم الحيض، والزمن يختلف أيضاً في كثير من الأحيان، فالمستحاضة التي انقطع منها عرق ونزفت نزيفاً يلزمها أن تصوم، ويلزمها أن تصلي، ويجوز لزوجها أن يجامعها، هذا بخلاف الحائض، فالحائض تمنع من كل ما ذكر، وبالله التوفيق.

حكم من أفطر لكبر سنه

حكم من أفطر لكبر سنه Q هل يجب على الشيخ الكبير إذا أفطر في رمضان لعدم استطاعته الصيام أن يطعم؟ A من أهل العلم من قال: يجب عليه أن يطعم مكان كل يوم مسكيناً، وحجته في ذلك تأويل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما للآية الكريمة: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:184]، فقد ذهب ابن عباس رضي الله عنهما إلى أن هذه الآية لم تنسخ وأنها باقية في حق الشيخ الكبير، والمرأة العجوز، والمرضع والحامل الذين يستطيعون الصيام لكنه يجهدهم، فإذا صاموا شق عليهم الصيام، فقال في شأن هؤلاء: يطعمون مكان كل يوم مسكيناً، إذا هم أفطروا. أما الحجة الثانية التي استدل بها القائلون بأن الشيخ الكبير يطعم مكان كل يوم مسكيناً: فهو أثرٌ عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه: أنه لما أسن، أي: تقدم به السن -وكان لا يطيق الصيام- كان يفطر ويطعم مكان كل يوم مسكيناً. فعلى ذلك: ذهب فريق من أهل العلم -وهم الجمهور- إلى أن الشيخ الكبير إذا أفطر أطعم مكان كل يوم مسكيناً. وذهب آخرون من أهل العلم إلى أنه لا يلزم بشيء؛ وذلك لأنه مخاطب بالصوم، فعجز عن الصيام، والله لا يكلف نفساً إلا وسعها، وأجاب هذا الفريق الذي لم يلزم الشيخ الكبير بالإطعام: بأن الآية الكريمة: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:184]، منسوخة عند الجمهور، فقالوا: أمر هذه الآية الكريمة متعلق بالذي يطيق الصوم، قالوا: ففي أول فرض الصوم كان من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم مكان كل يوم مسكيناً، فهذا قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:184]، قالوا: ثم نسخت بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185]. فقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185]، نسخ التخيير في قوله تعالى: ((وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ)) [البقرة:184] قالوا: فليس في الآية إذاً حجةٌ على إلزام الشيخ الكبير بشيء، وأما فعل أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، فهذا فعلٌ موقوفٌ على صحابي، ولا يتنزّل منزلة الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالحاصل في المسألة: أن الشيخ الكبير إذا أفطر لعدم إطاقته الصيام على رأي الجمهور يطعم مكان كل يوم مسكيناً للحجج التي ذكرنا، ومن العلماء من قال: لا يلزم من ذلك بشيء. يبقى أنه مستحب له إذا أفطر أن يطعم ويكون ذلك أعظم لأجره، وإلا فـ {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286].

حكم صوم المريض مرضا مزمنا

حكم صوم المريض مرضاً مزمناً Q ما حكم المريض مرضاً مزمناً لا يرجى برؤه؟ A هذا المرض المزمن يشترط فيه أنه كمريض مخاطبٌ بقول الله تبارك وتعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] أي: فمن كان منكم مريضاً أو على سفرٍ فأفطر -هذا تقديرٌ يقدره العلماء- فعدةٌ من أيام أخر، فإذا لم يستطع الصيام في الأيام الأخر، فليس هناك شيءٌ من النصوص يلزمه بكفارةٍ أو بإطعام. فعليه: المريض مرضاً مزمناً لا يرجى برؤه، ليس هناك فيما علمت دليلاً يلزمه بإطعام مسكينٍ مكان كل يوم قد أفطره، وإن أطعم فهو خيرٌ له، إذ قال الله: {وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} [آل عمران:115]، هكذا عموماً بالنسبة للأمراض المزمنة التي لا يرجى برؤها، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

حكم إفطار الحامل والمرضع

حكم إفطار الحامل والمرضع Q الحامل والمرضع هل لهما أن تفطرا؟ A نعم لهما أن تفطرا، خاصةً إذا خافتا على نفسيهما أو على الطفل التلف والهلاك، وقد جاء في الباب حديث أنس بن مالك الكعبي القشيري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله وضع عن الحامل والمرضع الصوم وشطر الصلاة)، ثم هل تقضيان أم تطعمان، أم تطعمان وتقضيان، أو لا تطعمان ولا تقضيان؟ بكل قد قال بعض العلماء، وإن كان الظاهر لديّ -والله سبحانه وتعالى أعلم- ما ذهب إليه الإمام الأوزاعي وسفيان الثوري وغيرهما من العلماء: أنهما تفطران وتقضيان ولا يلزمان بالإطعام، وذلك قياساً على المريض، والله سبحانه وتعالى قد قال في شأن المريض: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184]، والله تبارك وتعالى أعلم.

حكم صيام المسافر في رمضان

حكم صيام المسافر في رمضان Q أيهما أفضل في السفر الصوم أم الإفطار؟ A الظاهر -والله تبارك وتعالى أعلم- أن الأمر يختلف باختلاف أحوال المسافر، فثم مسافرٌ الصوم في حقه أفضل، وثم مسافرٌ الفطر في حقه أفضل، وقد وردت أدلةٌ تشهد لهذا ولذاك. فمن الوارد في هذا الباب: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر فرأى رجلاً قد ظلل عليه والتف الناس حوله، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عنه فقالوا: هذا صائمٌ يا رسول الله! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ليس من البر الصيام في السفر)، وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فقام المفطرون بخدمة الصائمين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ذهب المفطرون اليوم بالأجر)، فهذا والذي قبله فيهما تزكيةٌ للفطر في السفر، وأيضاً قد ورد في هذا الباب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه وكانوا في غزوة من الغزوات: (إنكم مصبحو العدو غداً والفطر أقوى لكم)، فهذا أيضاً نصٌ يساعد القائلين بأن الفطر أولى في السفر خاصةً لمن يشق عليه الصيام في السفر. هذا وقد وردت أيضاً عدة أحاديث تشهد لمشروعية الصيام في السفر، منها ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث حمزة بن عمرو الأسلمي رضي الله عنه قال: (قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: أو أصوم في السفر؟ -وكان حمزة بن عمرو هذا كثير السفر- فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر). وكذلك ورد في الصحيحين من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره في يوم شديد الحر، حتى إن أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائمٌ إلا ما كان من النبي صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه). فهذا أيضاً دليل على مشروعية الصيام في السفر، هذا وقد سأل أبو حمزة رحمه الله تعالى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عن الصوم في السفر، فقال: (يُسرٌ وعسر، فخذ بيسر الله عز وجل). وكذلك ورد عن عروة بن الزبير وسالم بن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنهما كانا عند عمر بن عبد العزيز لما كان أميراً على المدينة، فجلس عروة وسالم مع عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، فتذاكروا الصوم في السفر، قال سالم: كان ابن عمر لا يصوم في السفر، وقال عروة: كانت عائشة تصوم في السفر، وقال سالم: إنما أخذت عن ابن عمر، وقال عروة: إنما أخذت عن عائشة، حتى ارتفعت أصواتهما، فقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: اللهم عفواً! إذا كان يسراً فصوموا، وإذا كان عسراً فأفطروا. وعليه: فالمسافر الذي يطيق الصيام في السفر يستحب له أن يصوم في السفر، حتى لا تتراكم عليه ديون؛ ثم إن الله قال: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148]، وقال: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ} [آل عمران:133]، أما إذا كان الصوم في السفر سيشق على الشخص فالأولى له أن يفطر، ثم يقضي بعد ذلك، وبالله تعالى التوفيق.

حكم الحجامة للصائم

حكم الحجامة للصائم Q هل يباح للصائم أن يحتجم، أم أن الحجامة تفطر الصائم؟ A ذهب الجمهور من أهل العلم إلى أن الحجامة لا تفطر الصائم، واستدلوا بحديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الذي أخرجه البخاري وغيره: (أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم). بينما ذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى إلى أن الحجامة تفطر الصائم، واستدل بحديث: (أفطر الحاجم والمحجوم)، والجمهور على أن الحديث منسوخٌ باحتجام النبي صلى الله عليه وسلم وهو صائم. أما الإمام أحمد فيؤول الرواية التي فيها (أن النبي صلى الله عليه وسلم: احتجم وهو صائم)، ويقول: الصواب: (أن النبي احتجم وهو محرم). ورواية: (أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهوصائم)، وكذا (أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم)، كلاهما في صحيح البخاري، وإن كانت الأقوى: (احتجم وهو محرم). ولكن قال بعض العلماء: الجمع ممكن، بأن يقال: احتجم وهو محرمٌ صائم. فعليه: نرى قوّة رأي الجمهور القائلين بأن الحجامة لا تفطر الصائم، خاصة إذا استحضرنا قول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما الذي يرى أن الفطر مما دخل ليس مما خرج. ويلتحق بمسألة الحجامة هذه مسألة: التبرع بالدم، فهل يجوز للشخص أن يتبرع بالدم وهو صائم؟ الجواب: على رأي الجمهور القائلين بأن الحجامة تجوز للصائم، فكذلك التبرع بالدم يجوز للصائم ولا يفطره، والله تبارك وتعالى أعلم.

حكم التقيؤ للصائم

حكم التقيؤ للصائم Q رجلٌ استقاء رغماً عنه، فهل يفطر أم لا؟ A هناك تفصيل بين من ذرعه القيء أو خرج منه القيء رغماً عنه، وبين من تعمد أن يتقيأ، فالذي ذرعه القيء وخرج منه عن غير عمدٍ؛ فبالإجماع صومه صحيح ولا يفطر، أما الذي استقاء متعمداً بأن وضع إصبعه مثلاً في فمه كي يستقيء عن عمد، فيرى جمهور العلماء أنه أفطر باستقاءته تلك، ويستدلون بخبرين: الخبر الأول: (من ذرعه القيء فلا قضاء عليه، ومن استقاء فليقضِ)، إلا أنه ضعيف الإسناد، والثاني: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قاء فأفطر)، فهاتان حجتان للجمهور القائلين بأن من تعمد القيء يفطر. وقال بعض أهل العلم -وهم قلةٌ-: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما قاء فأفطر، ليس بصريح في أن الإفطار كان من أجل القيء، ولكن لعل جسمه ضعف، فأفطر من أجل ذلك. فعليه: الأحوط أن من استقاء فليقضِ يوماً مكانه، وأكرر التفريق بين من قاء واستقاء، قاء أي: ذرعه القيء فلا يفطر، وأن متعمد القيء عند الجمهور يفطر، والله تبارك وتعالى أعلم.

اختلاف مطالع الهلال

اختلاف مطالع الهلال Q إذا رؤي الهلال في دولة من الدول، وأهل بلادنا لم يروا الهلال عندنا، فماذا نصنع؟ A هذه المسألة خاضعة لمسألة اختلاف المطالع، أو خاضعةٌ لمسألة: رؤية قطر للهلال هل تلزم به سائر الأقطار، أم أن لكل قطر هلاله الخاص به ورؤيته الخاصة به؟ جمهور أهل العلم على أن رؤية بلدة ملزمة لسائر البلدان، فإذا رؤي الهلال في بلدة لزم بقية الأمصار أن يصوموا كما صام أهل تلك البلدة، ودليل الجمهور على ذلك: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته). بينما ذهب فريق آخر من أهل العلم: إلى أن كل بلدةٍ لها هلالها الخاص بها، واستدلوا على ذلك بما رواه مسلم عن كريب أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام، قال كريب: فرأيت الهلال ليلة الجمعة، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر، فسألني عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، ثم ذكر الهلال فقال: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة، فقال: وأنت رأيته؟ فقلت: نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية، فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه، فقلت: أولا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا، هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. ففهم البعض من قول عبد الله بن عباس: (هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم)، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يصوموا استقلالاً إذا رأوا رؤية خاصة بهم، بينما وجه الجمهور هذا وقالوا: الذي أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم: أن نصوم لرؤيته وأن نفطر لرؤيته، والعبرة بما روى الراوي لا بما فهم. فعلى كلٍ: رأي الجمهور أن رؤية بلدة تلزم سائر البلاد، فإذا اخترت هذا الرأي فالحمد لله، ولكن لا يستحب لك أن تجهر بالخلاف في وسط الناس، فمثلاً: إذا كنت هاهنا في مصر وترى أن رؤية قطر آخر -كالسعودية مثلاً- تلزمك، وأردت أن تصوم أو أن تفطر فلك سلف في ذلك، لكن لا تجهر بخلافك بين الناس؛ لأن الخلاف شر، إنما تسر برأيك ولا تجهر به حتى لا تضعف كلمة المسلمين، ولا تشككهم في أمر دينهم، هذا وبالله تعالى التوفيق.

الزمن الذي يقضي فيه المفطر صيامه

الزمن الذي يقضي فيه المفطر صيامه Q هل لقضاء الصوم أمدٌ محددٌ يجب على الشخص أن لا يتجاوزه، بمعنى: شخصٌ أفطر أياماً من رمضان، هل هناك زمنٌ معين يلزم فيه بإعادة تلك الأيام؟ A لا أعلم في ذلك خبراً يحدد زمناً للقضاء، بل الله قال: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] أي: فعدد الأيام التي أفطرها يصومها في الأيام الأخر، ولم يحدد ربنا سبحانه وتعالى في كتابه زمناً لهذا القضاء، فعليه: الأمر مفتوح وواسع. وأيضاً هذا الكلام يحمل إجابة على سؤال قد يطرح، ألا وهو: المرأة التي عليها أيامٌ من رمضان، فلم تستطع أن تقضيها، ودخل عليها رمضان آخر، وصامت رمضان الجديد، وبقي عليها أيامٌ من رمضان سابق، فهل عليها كفارة مع القضاء أم لا؟ فالذي يظهر والله أعلم: أن عليها الإعادة، وليس هناك دليلٌ يلزمها بالإطعام أو الكفارة، وقد قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: (كان يكون عليّ الصيام من رمضان فلا أستطيع أن أقضي إلا في شعبان)، قال يحيى بن سعيد -أحد الرواة- للشغل برسول الله صلى الله عليه وسلم، فصنيع عائشة هذا محمول على الاستحباب، حتى لا تتراكم عليها أيامٌ من رمضان الجديد فوق ما سبق، والله تبارك وتعالى أعلم.

علاقة شهر رمضان بالقرآن

علاقة شهر رمضان بالقرآن Q ما وجه قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185] بين آيات الصيام؟ A إنه حثٌ بيّن على تلاوة القرآن في هذا الشهر الكريم؛ إذ هو شهره الذي نزل فيه، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعارضه جبريل بالقرآن في كل عام مرةً في رمضان، فلما كان العام الذي قبض فيه النبي صلى الله عليه وسلم عارضه بالقرآن مرتين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وما أرى ذلك إلا لحضور أجلي). وكذلك قد يطرح سؤال مشابهٌ هو: ما وجه تخلل قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186] بين آيات الصيام؟ فالجواب: وبالله تعالى التوفيق، والعلم عند الله تعالى: أن هذا أيضاً حثٌ على الدعاء، فالصائم من الذين تستجاب دعوتهم، ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حتى يفطر)، وذكر الحديث، فعليه: يستحب للصائم أن يكثر من الدعاء أثناء صومه، ويستحب له كذلك أن يكثر من تلاوة القرآن، هذا وبالله التوفيق.

حكم من أكل أو شرب ناسيا

حكم من أكل أو شرب ناسياً Q ما حكم من أكل أو شرب ناسياً في رمضان أو في صوم تطوع؟ A من أكل أو شرب ناسياً فإنما أطعمه الله وسقاه، كذا ورد عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أنه قال: (من أكل أو شرب ناسياً فإنما أطعمه الله وسقاه)، وهذا نص عام، يشمل صائم الفريضة والنافلة على السواء، وبالله تعالى التوفيق.

حكم صيام الصبيان

حكم صيام الصبيان Q هل يستحب لنا أن ندرب صبياننا على الصيام أم أن هذا فيه مشقةٌ عليهم؟ A يستحب لك أن تدرب أبناءك وبناتك الصغار على الصيام، وقد أحسن من قال: وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوده أبوه وفي الصحيح عن الربيع بنت معوذ رضي الله عنها قالت: (أرسل النبي صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأمصار: من أصبح مفطراً فليتم بقية يومه، ومن أصبح صائماً فليصم، قالت: فكنا نصومه بعد، ونصوّم صبياننا ونجعل لهم اللعبة من العهن، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذاك حتى يكون عند الإفطار)، أي: أن الطفل كان يصوّم فيدرب على الصيام، فإذا جاع وبكى أعطوه لعبة من الصوف يلعب بها وينشغل بها حتى يؤذن المؤذن للمغرب فيفطرون ويفطر، وقد ورد أن عمر رضي الله تعالى عنه قال لرجل سكران في رمضان: (ويلك! كيف تفطر وصبياننا صيام؟!)، فضربه عمر رضي الله عنه. فالشاهد: أن هذا الأثر يفيد أن الصبية كانوا يصومون زمن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

استحباب السحور للصائم

استحباب السحور للصائم Q هل يستحب للشخص أن يتسحر أم لا يستحب له ذلك؟ A نعم يستحب للشخص أن يتسحر، وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تسحروا فإن في السحور بركة)، ويستحب له أن يؤخر ذلك السحور، بمعنى: أنه يجعل السحور قريباً من الفجر، وذلك لما أخرجه البخاري من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: (كنت أتسحر في أهلي، ثم تكون سرعتي أن أدرك السجود مع رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وفي رواية: (أن أدرك السحور مع رسول الله صلى الله عليه وسلم). والرواية الأولى: (أن أدرك السجود)، عليها أكثر العلماء. وكذلك ورد في هذا الباب من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: (تسحرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قام إلى الصلاة، قلت: كم كان بين الأذان والسحور؟ قال: قدر خمسين آية)، أي: قدر ما يقرأ القارئ خمسين آية، فهذا يدل على تأخير السحور إلى قريب الفجر، وقد قال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187]، وبالله التوفيق.

وقت إفطار الصائم

وقت إفطار الصائم Q هل يستحب لي أن أفطر إذا كنت صائماً بمجرد غروب الشمس، أم أن الأولى بي أن أنتظر حتى أتقين من أن الشمس قد غربت، وحتى تشتبك النجوم؟ A الأولى لك أن تعجل بالفطر إذا تأكدت من أن الشمس قد غربت، وذلك لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث، الذي أخرجه البخاري وغيره: (لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر)، وكذا جاء عند البخاري من حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله تعالى عنه قال: (كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فصام حتى أمسى، ثم قال لرجل: انزل فاجدح لنا، قال: لئن انتظرت حتى تمسي، قال: انزل فاجدح لنا، إذا رأيت الليل أقبل من هاهنا فقد أفطر الصائم)، فأخذ من هذا تعجيل الفطر، وهو مستحب كما سمعتم، والله تبارك وتعالى أعلم.

وقت إمساك الصائم عن الأكل والشرب

وقت إمساك الصائم عن الأكل والشرب Q إذا أذن المؤذن للفجر وفي يدي لقمة فهل آكلها أم أنني أتوقف عن الطعام؟ A الذي عليه جمهور أهل العلم: أنك تتوقف عن الطعام مباشرةً إذا سمعت الأذان؛ لأن الله قال: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187]، ومن المعلوم أن المؤذن لا يؤذن إلا إذا رأى الخيط الأبيض؛ فهذا مستند الجمهور القائلين بأنك تتوقف عن الطعام. بينما ذهب بعض العلماء إلى أنك تأكل؛ لحديث: (إذا أذن المؤذن وقد وضع أحدكم اللقمة على فيه فليأكلها)، إلا أن الجمهور ضعفوا هذا الحديث، وبالله تعالى التوفيق.

عدد ركعات قيام الليل في رمضان

عدد ركعات قيام الليل في رمضان Q كم عدد ركعات قيام الليل في رمضان؟ A ورد عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: (ما زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، كان يصلي أربعاً لا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي أربعة لا تسأل عن حسنهم وطولهن، ثم يوتر بثلاث)، فأخذ بعض علمائنا يرحمهم الله تعالى من هذا الحديث: أن صلاة الليل لا يزاد فيها على إحدى عشرة ركعة. أما جمهور العلماء: فرأوا أن الأمر أوسع من ذلك، وذلك للآتي ذكره: وبين يدي ذكر أقوال العلماء وذكر استدلالاتهم ننبه على أمرٍ من الأهمية بمكان كبير، ألا وهو: أننا عند دراسة أي مسألة من مسائل الفقه نأخذ بكل الوارد فيها، ثم نصدر حكماً ينتظم جميع الوارد، ولا نبني على دليل واحدٍ ونترك باقي الاستدلالات، فحديث عائشة رضي الله تعالى عنها المذكور ثابت صحيح بلا شك، ولكن قد ورد عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها بسند صحيح أيضاً في الصحيح وغيره: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة)، وكذلك ورد عن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما في الصحيح وغيره: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قام من الليل فصلى ركعتين، ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين، ثم أوتر)، فكان المجموع: ثلاث عشرة ركعة. وكذلك ورد نحو هذا من حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله تعالى عنه، وكذلك ورد في هذا الباب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة)، أي: توتر لك ما قد صليت، وكذلك ورد في هذا الباب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة)، فكل هذه لا بد أن تؤخذ في الاعتبار. وهذا القول له وجاهته وله استدلالاته: أن العبرة في قيام الليل ليست بعدد الركعات، إنما هي بزمن القيام لله، بمعنى: إذا صلى شخص إحدى عشرة ركعة في عشر دقائق، وصلى آخر أربع ركعات في ساعة كاملة بطمأنينة، قالوا: فالعبرة في زمن القيام، واستدلوا لذلك بأن الله قال: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل:1 - 4]. قالوا: فالتعويل هنا على الزمن وليس على عدد الركعات. وكذلك قوله تعالى: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ} [آل عمران:113] أي: ساعات الليل، وكذلك قوله تعالى: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات:17]، وكذلك قول الرسول عليه الصلاة والسلام وهو يصف أحب القيام إلى الله الذي هو قيام داود عليه الصلاة والسلام، فيقول: (كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه)، أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر أحب القيام بأنه ثلث الليل، فهذا التفسير بناءً على الزمن ليس بناءً على عدد الركعات. ولذا ذهب جماهير العلماء إلى أن صلاة الليل لم تؤقّت بتوقيت عدديٍ معين، بل للشخص أن يصلي كما يشاء من الليل؛ إذ ليست هناك ساعات من الليل نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فيها، فإذا قال قائلٌ: أنا سأصلي إحدى عشرة ركعة اتباعاً للعدد الوارد عن رسول الله، فنقول: قد ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة ركعة أيضاً، ثم نقول: إذا أردت أن توافق سنة النبي الكريم عليه الصلاة والسلام -وهي خير السنن على الإطلاق- فانظرها كيف كانت، فقد كان يسجد السجدة كما في هذا الحديث التي ذكرته عائشة: (قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية)، فإذا كنت ستصلي منفرداً كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يصلي في بيته منفرداً، وتطيق أن تسجد سجدة قدرها خمسين آية؛ فالأولى لك أن تصلي بهذه الطريقة في بيتك وحدك، أما إذا كنت إمام قوم وستصلي بهم تلك الصلاة التي صلاها الرسول صلى الله عليه وسلم في بيته، فمن ثم ستشق على المصلين، وسينفض عنك الناس. ولذلك فإذا أردت أن توافق السنة فوافقها صفةً وعدداً، أما أن تصلي عشر ركعات أو إحدى عشرة ركعة في نصف ساعة وتظن أنك وافقت السنة، وتبدّع الذين يصلون ساعتين أو ثلاث ساعات، فهذا ليس عليه سلفك الصالح يرحمهم الله، وقد قال عطاء رحمه الله تعالى وهو من أجلة التابعين: (أدركت الناس يصلون ثلاثاً وعشرين ركعة). هذا وقد ورد في هذا الباب: أن عمر رضي الله عنه جمع الناس على أُبي بن كعب رضي الله عنه على إحدى عشرة ركعة، وفي رواية: أنه جمعهم على أبي على ثلاث وعشرين ركعة، والجمع بين الروايتين ممكن، وقد ذهب إلى الجمع بين الروايتين الإمام البيهقي رحمه الله تعالى فقال: في رواية: أن عمر قال: (نعمت البدعة هذه والتي ينامون عنها أفضل) لما رأى الناس قد اجتمعوا على أُبي بن كعب ففهم من هذا أنهم كانوا يصلونها أول الليل، ثم رواية أخرى عن أبي أنهم كانوا ينصرفون عند بزوغ الفجر، فكانوا يصلون أحياناً في أول الليل، وأحياناً يصلون عند بزوغ الفجر، فلا يمتنع أن يكون أُبي صلى أحياناً بإحدى عشرة وأحياناً صلى بثلاث وعشرين ركعة. وقد قال عدد من أهل العلم: إذا أطلت في القيام فقلل في عدد الركعات، وإذا خففت في القيام فزد في عدد الركعات حتى تصل إلى أحب القيام، وهو قيام داود الذي هو ثلث الليل، والله تبارك وتعالى أعلم.

الاعتكاف في المساجد الثلاثة

الاعتكاف في المساجد الثلاثة Q حديث: (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة)، هل هذا الخبر ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أنه ليس بثابت؟ A هذا الخبر لم يصح مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هو من قول حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه، وهو موقوف على حذيفة من قوله، ثم هو محمول على نفي أفضلية، فالمعنى: لا اعتكاف أفضل من الاعتكاف في المساجد الثلاثة، ويدل على هذا الحمل قول الله تبارك وتعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187]. وعلى هذا جماهير العلماء، فجماهير العلماء على جواز الاعتكاف في أي مسجد من المساجد خاصةً المساجد التي تقام فيها الجُمع، حتى لا يضطر المعتكف إلى الخروج لصلاة الجمعة في مسجد آخر، والله تبارك وتعالى أعلم.

بداية دخول المعتكف إلى معتكفه

بداية دخول المعتكف إلى معتكفه Q ما بداية وقت دخول المعتكف مُعتكفه؟ A من أراد الاعتكاف، فعليه أن يدخل المعتكف بعد غروب شمس يوم العشرين من رمضان، فعليه سيبيت ليلة الواحد والعشرين، ويستمر في المعتكف إلى أن يظهر هلالُ شوال، فإذا ظهر هلال شوال خرج من معتكفه، هذا هو قول جمهور العلماء في هذه المسألة، أما الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من: (أنه كان إذا صلى الفجر دخل معتكفه)، فهذا ليس المراد به ابتداء الاعتكاف، ولكن عند جمهور العلماء المراد به: وصف العمل اليومي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان كلما صلى الفجر دخل معتكفه صلوات ربي وسلامه عليه، وبالذي قلناه من بداية دخول المعتكف معتكفه يكون قد أتم اعتكاف عشر ليالٍ، وبالله التوفيق.

التحلل من مظالم العباد

التحلل من مظالم العباد أذكر نفسي وإخواني وأخواتي بين يدي هذا الشهر الكريم وفي أثنائه بالتحلل من المظالم، وهو إن كان الصائم الذي صام رمضان يغفر له ما تقدم من ذنبه إذا صامه إيماناً واحتساباُ، فثم ذنوب لا تكاد تغفر إلا إذا تحلل الشخص ممن ظلمهم، وهي المظالم المتعلقة بالعباد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين)، فالدين حق متعلق بالعباد، ولا يغفر حتى وإن مات الشخص شهيداً، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيتقاصون مظالم كانت بينهم في الدنيا)، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان له عند أخيه مظلمة فليتحلل منه قبل أن لا يكون دينار ولا درهم). فالله الله في حقوق العباد، خاصة في هذا الشهر الكريم، (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه)، ومن جميل المناسبات أن نذكر بأن الربع الذي وردت فيه آيات الصيام في كتاب الله ختمت بقوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:188]، أي: إذا كنا قد حرمنا عليكم الطعام والشراب أثناء النهار في رمضان، فكذلك لا تترك الطعام والشراب وتتجه إلى أكل أموال الناس بالباطل، فلا يليق بك أن تمتنع عن الطعام الذي هو سائر العام حلال، وإنما حرم في نهار رمضان، ثم تأكل المال بالباطل، فهو حرام في رمضان وفي غير رمضان. فاتقوا الله أيها الإخوة في أنفسكم، واتقوا الله في إخوانكم المسلمين، (كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه)، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد). وأيتها الأخت الكريمة! لا يليق بكِ أن تبارزي الرب بالعصيان والتمرد على أمره في رمضان ولا في غير رمضان، فكيف يليق بك أن تتقلبي في نعم الله عليك، وبما أنعم عليك به من حسن منظر وجميل عقل، ثم تتمردين على أمره سبحانه، وهو القادر على أن يبدل النعم إلى نقم، والرخاء إلى شدة، واليسر إلى عسر، عافانا الله وإياكم من زوال نعمته وتحول عافيته، وفجاءة نقمته وجميع سخطه. فالله الله في أنفسنا، لا نظلمها بجلب ما يضرها في دنياها وأخراها، واعلموا أيها المسلمون! أن الله لم يك مغيراً نعمة على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فالله لا يزيل النعم عن القوم إلا إذا حولوا طاعتهم بالليل إلى معاصٍ، فحينئذٍ تسلب منهم النعم. فها نحن في شهر رمضان يلجأ فيه التائبون والمنيبون إلى ربهم، فاجعلوها بداية طيبة للرجوع إلى الله، فربنا كان للأوابين غفوراً، جعلنا الله وإياكم من الأوابين، وتقبلنا الله وإياكم بقبول حسن. وصل اللهم على نبينا محمد وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

فتنة النساء

فتنة النساء تكاثرت الفتن وادلهمت، واجتاحتنا وسائل الإعلام الهدامة للفضيلة والعفة، وكان أكبر ما ركزت عليه تلك الأمواج العاتية الماجنة إفساد المرأة، فسعوا جادين لإخراجها؛ لتفسد في نفسها وتُفسد من حولها، وهذا يحتم علينا العودة إلى تعاليم ديننا الحنيف كي نجتنب تلك الفتن، وحجاب المرأة المسلمة وقرارها في بيتها خير حل للخروج من لجة هذه الفتن المدلهمة وكذلك ضبط علاقة الرجل بالمرأة وفق الضوابط الشرعية، والابتعاد عن وسائل الإعلام الهدامة للأخلاق والقيم والمبادئ.

التحذير من محقرات الذنوب

التحذير من محقرات الذنوب بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. وبعد: فإن من الأعمال أعمالاً يراها الشخص في عينه صغيرة وهي عند الله سبحانه وتعالى من الكبائر، فهذا أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه -كما في البخاري - يقول للتابعين الذين هم خير القرون بعد قرن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات). أي: من المهلكات، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب)، وقال الله سبحانه وتعالى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:15]. فهناك أمور تحسبها هينة في نظرك، ولكنها في نظر الله سبحانه وتعالى عظيمة وكبيرة من الكبائر، ولا يخفى عليكم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مر بقبرين فقال: (إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، ثم قال: بلى إنه كبير)، فكيف قال عليه الصلاة والسلام: (وما يعذبان في كبير) -ثم قال-: (بلى إنه كبير)، ثم فصّل فقال: (أما أحدهما فكان لا يستبرئ من بوله -أو لا يستنز من بوله كما في الرواية الأخرى- وأما الآخر فكان يمشي بين الناس بالنميمة)؟ يقول فريق من الشراح في قوله عليه الصلاة والسلام: (وما يعذبان في كبير) أي: وما يعذبان في شيء كبير في أنظاركم، ولكنه كبير عند الله سبحانه وتعالى، ثم ذكر السبب وهو عدم الاستبراء من البول، والسعي بين الناس بالنميمة. وقد يرى الشخص أشياءً يراها في نظره يسيرة، ولكنها تسجل عليه كبيرة، وتسوّد بها صحائفه يوم القيامة -والعياذ بالله- ولا يخفى عليكم أن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها لما قالت أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! حسبك من صفية كذا -تريد أنها قصيرة- قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: لقد قلتِ كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته). ومما لا شك فيه أن مما يهوِّن الكبائر عندك، ويجعلها في عينك من الصغائر كثرة المخالطة لأهل الإجرام ولأهل الفسق ولأهل العصيان، فكثرة المجالسة لأهل الظلم وأهل الفسق وأهل العصيان، تهوِّن عليك الذنوب وتسهلها عليك، فترى المجرم يرتكب الكبيرة وأنت ترتكب الصغيرة فتهون عليك صغيرتك أمام كبيرة هذا الأثيم، حتى تجتمع عليك الصغائر فتهلكك كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم محذراً: (إياكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه، كقوم نزلوا ببطن وادٍ فجاء هذا بعود، وجاء هذا بعود حتى جمعوا حطباً كثيراً فأنضجوا طعامهم) أو كما قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فتهون عليك الصغائر عند رؤيتك لمن يقترفون الكبائر، فالاختلاط يؤثر بلا شك في عقول الناس، وفي تفكيراتهم، وفي وزنهم للأشياء.

إفساد المرأة أبرز سمة لموجة التغريب

إفساد المرأة أبرز سمة لموجة التغريب لما كثر الاختلاط الآن بين المسلمين والكفار، وأصبحت عادات أهل الكفر تنقل إلى بيوتنا من خلال أجهزة الإعلام الفاسدة التي يديرها اليهود وأتباعهم ومن سار على نهجهم، سهلت علينا المعاصي وسهلت علينا الكبائر، ونفعل المعصية ونفعل الكبيرة وتستهين بها أمام أمواج الإجرام القادمة إلينا من بلاد الكفر، فتنقل إلى بيوتنا وإلى دورنا عادات وتقاليد أهل الكفر، فنقتبس منها شيئاً فشيئاً ونحن لا نشعر، فمثلاً: هناك جرمٌ كبير لم يره رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متفشٍ ومنتشر في بناتنا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صنفان من أمتي من أهل النار لم أرهما: نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رءوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا)، هذا الصنف الأثيم من النساء اللواتي ينتشرن في الشوارع في حال أسوأ من حال الجواري والإماء فيما مضى، حال هؤلاء الفتيات اللواتي يمشين متبرجات، لابسات أقصر الثياب، كاشفات عن شعورهن وعن سوقهن، ومتطيبات بأجمل الطيب، ويمشين على هذه الحال المزرية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -ولم ير هذا الصنف- في شأنهن ما سمعتموه: (صنفان من أمتي من أهل النار لم أرهما: نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رءوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا)، هذا صنف لم يره رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنا رأيناه، وكثير منا أقره! ولم يعد يبالي بابنته التي تخرج على هذه الحال المخزية المزرية، التي تدل حالتها على دياثة أبيها وعلى دياثة أخيها الذي يقر الخبث في ابنته وفي أخته، فهو لا يشعر أنه اقتحم باباً عظيماً من أبواب الدياثة، وعدم الغيرة على النساء، ولكنه رأى القوم يفعلون ذلك ففعل مثل أفعال القوم. فهذه كبائر ذكر النبي صلى الله عليه وسلم عقوبتها في غير ما حديث، وذكرت عقوباتها في ثنايا آيات في كتاب الله وأحاديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

وجوب الحجاب للمرأة

وجوب الحجاب للمرأة ولما كانت فتنة النساء عظيمة داوم رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام على التحذير منها، فأردنا أن نلفت النظر إلى شيء منها؛ لأن نبينا كرر التحذير من هذه الفتنة مراراً وتكراراً. إذ أن هناك أموراً تباح لنا مع النساء الأجنبيات اللواتي لسن لنا بمحارم، وأمور تحظر علينا، وأمور تلزم النساء في أنفسهن، فمن الأمور التي تلزم النساء في أنفسهن: الحجاب، كما أمرهن الله به، وكما أمرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم به، وكما كان فعل نسائه رضوان الله عليهن ونساء المؤمنين، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم منادياً نبيه محمداً عليه الصلاة والسلام: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب:59]، فلم يعد الأمر قاصراً على أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى بناته بل جاءت الآية عامة: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب:59]، وأقوى ما ورد في تفسير الإدناء تفسير لتابعي جليل هو عبيدة السلماني رحمه الله تعالى، فقد فسر الإدناء عملياً، فقام إلى جلباب متسع غطى به جميع جسمه وأبرز عينه اليسرى، هكذا فسر عبيدة رحمه الله تعالى هذا الإدناء بأن لبس جلباباً واسعاً غطى جميع الجسد من الرأس حتى القدم وأبرز العين اليسرى فقط، وهذا لم يعارض بقول آخر من أقوال التابعين في تفسير هذه الآية، وهو بسند صحيح. وقال الله سبحانه وتعالى كذلك في كتابه الكريم: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب:53]، وهذه الآية في سياق الخطاب لنساء النبي صلى الله عليه وسلم، وقد حاول البعض قصرها على نساء رسول الله عليه الصلاة والسلام، ورأى فريق آخر تعميم الحكم بها، وتعميم العمل بها، قال هذا الفريق الذي رأى التعميم: لأن الله قال في كتابه الكريم معللاً السؤال من وراء حجاب، قال: {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53]، وكما أن نساء النبي يحتجن إلى طهارة القلب فنساء المؤمنين من باب أولى كاحتياجهن إلى طهارة البدن. وكذلك لأن الآية الكريمة الأخرى التي سمعتم آنفاً: {قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:59] أفادت تعميم الحكم، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المرأة عورة)، فعمم عليه الصلاة والسلام ولم يخص، وقد قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في حديث الإفك -لما تخلفت عن الركب وقدم إليها صفوان بن المعطل السلمي - قالت: فلما رأيته خمرت وجهي بجلبابي. أي: غطيت وجهي بجلبابي. وقالت أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنها: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحج، فإذا حاذينا الركبان ورآنا الرجال أسدلت إحدانا جلبابها على وجهها، فإذا جاوزنا الرجال كشفت إحدانا الجلباب عن وجهها) وهذا في الحج. وبهذه النصوص استدل فريق من أهل العلم على وجوب تغطية جميع بدن المرأة، الوجه وسائر الجسم.

شروط حجاب المرأة المسلمة

شروط حجاب المرأة المسلمة وللباس المرأة شروط ذكرها العلماء في مواطنها، منها: أن يكون الثوب فضفاضاً متسعاً، لا كالذي تلبسه الفتيات الساقطات من البناطيل الضيقة، ومن اللبوسات الضيقة التي تحدد الجسم وتميزه، فهذا لبس الساقطات غير الصالحات، الداعيات بلبسهن إلى البغاء، والداعيات بلبسهن إلى الفاحشة -والعياذ بالله-، الفاتنات الرجال بصنيعهن الأثيم. فمن شروط اللباس الشرعي: أن يكون فضفاضاً، وأن يكون واسعاً، وألا يكون لافتاً للأنظار، فلا يكون هذا الثوب ثوب شهرة، فثوب الشهرة وإن كان فضفاضاً يمنع؛ لأنه يجذب أنظار الرجال إليه، والمرأة منهية عن فعل ما يجذب أنظار الرجال إليها، ولذلك قال ربنا سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور:31]، كانت بعض النساء تمشي وهي لابسة الخلخال فتضرب برجلها في الأخرى فيسمع صوت مشيها فيلتفت إليها الرجال فيرون منها شيئاً كالكعب وشيئاً من القدم، فنهيت المؤمنات الصالحات عن هذا الفعل لقوله تعالى: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور:31].

تجنب ما يؤدي إلى الإثارة

تجنب ما يؤدي إلى الإثارة وكذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم المرأة أن تخرج متطيبة من بيتها ولو إلى المسجد، فقال: (إذا شهدت إحداكن العشاء معنا فلا تمس طيباً، ولا بخوراً)؛ وذلك لأن الطيب يلفت الأنظار إليها، وكذلك قال عليه الصلاة والسلام: (أيما امرأة خرجت من بيتها متطيبة فمرت بالرجال ليجدوا ريحها فهي زانية)، هكذا قال عليه الصلاة والسلام، فكل ما يلفت النظر إلى المرأة يمنع، ويلحق بذلك رفع المرأة صوتها رفعاً زائداً فهذا يلفت نظر الرجال إليها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من نابه شيء في صلاته فليسبح، فإنما التصفيق للنساء)، فمنع النبي صلى الله عليه وسلم النساء من التسبيح في الصلاة لعلة وهي: ألا يشتغل بهن الرجال، فرفع بعض النساء والفتيات أصواتهن -بطريقة تلفت نظر الرجال إليهن، وتجعل الرجال يعرفون من المتكلمة- فعل مذموم وقبيح من النساء، ولا ينم عن كثير حياء، بل ينم عن قلة حياء، وبعدٍ عن سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. فالنساء يفترض فيهن أنهن جبلن على الحياء، هذا المفترض في شأن النساء، أما أن تناقش وتجادل وترفع صوتها فهذه أفعال قبيحة مذمومة تنافي الحياء المفترض في النساء، وإن كان ثمّ كلام مع النساء، فللكلام مع النساء ضوابط ذكرت ضمناً في قوله تعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [الأحزاب:32]، هذا خطاب من ربنا سبحانه إلى النساء، فكم من رجل تراه وديعاً رحيماً حليماً، ولكن بداخله قلب مريض -والعياذ بالله- فكلما حدثته أو خاطبته فوجد في قولها شيئاً من اللين في القول؛ ظن بها الظنون، وظن أنها تريد أن تمكنه من نفسها مباشرة، فعياذاً بالله من هذا الصنف المريض القلب الذي ذكره الله في كتابه بقوله: {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32]، ثم أرشد النساء جملة إلى قوله تعالى: {وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [الأحزاب:32]. ونحو هذا القول المعروف ذكره الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم في شأن اللواتي مات عنهن أزواجهن، قال تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ} [البقرة:235] أي: ستذكرونهن لشأن الزواج، {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا} [البقرة:235]، فالقول المعروف أُمر به الرجل مع المرأة، فلا يجوز لك أن تتكلم بكلمة مع امرأة تفتنها بها، وكذلك المرأة لا يجوز لها أن تتكلم بكلمة مع رجل تطمعه فيها وتغريه بها، وكم من رجل يتدخل بين رجل وامرأة للإصلاح، ويحمل في ثنايا مقالاته شيئاً من الإفساد أو ما يؤدي إلى تخبيب المرأة على زوجها ناسياً أو متناسياً حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من خبب امرأة على زوجها)، فالذي يتدخل لتخبيب امرأة على زوجها ولإفسادها على زوجها، سواء بصورة مباشرة للطعن في الزوج أو الغمز به أو بصورة غير مباشرة بإظهار شيء من محاسنه أمام المرأة، فتكره المرأة زوجها لكونها لا ترى هذه المحاسن فيه، ففاعل ذلك أثيم وآثم ظالم -والعياذ بالله-.

تحريم الذرائع المؤدية إلى الزنا

تحريم الذرائع المؤدية إلى الزنا جدير بنا -معشر الإخوة- أن نراجع مواقفنا أمام هذه الفتنة العظمى والطامة الكبرى، فتنة النساء التي حذر منها رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام أيما تحذير بقوله: (ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء)، وقوله: (فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت النساء)، ألا وسلوا ربكم أن يعصمكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن.

تجنب وسائل الإعلام الهدامة

تجنب وسائل الإعلام الهدامة ثم جدير بكل أب غيور، وجدير بكل أب فخور أن يبعد التلفزيون عن بيته، وأن يمنع إدخال الأغاني الساقطة أو الهابطة إلى بيته، وأن يمنع أيضاً الفيديو، وكذا أجهزة الشر المستحدثة كأجهزة البث المباشر -الدشوش-، فآلات الفساد هذه الجدير به أن يصرفها عن بيته؛ فهي منابت سوء، ومدمرات تدمر البيوت، فبسببها قد ترى البيت ظاهره التماسك، ولكن الأم تخرج موترة، والأب يخرج موتراً، والبيت مدمر من داخله، أي دين يبيح لأجهزة الإعلام الفاسدة هذه أن تبث منظراً فيه رجلٌ يقبل امرأة؟! أي دين يقر هذا العمل؟! لا اليهودية ولا النصرانية ولا الإسلام يقر أن يأتي منتج مفسد يبث صورة لرجل يحتضن امرأة أو يقبلها. هذا الفساد العريض والأفلام الساقطة التي يبثها هؤلاء الفاشلون المفسدون في الأرض، الذين قال الله سبحانه مبيناً حالهم: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء:27]. هل تظن أن نبينا محمداً يرى هذه المناظر ويقرها في بيته؟! سواء كان فيلماً خبيثاً ماكراً أوغيره مما يراد من ورائه الدعارة وبث الشر والفساد؟! هل ترى الرسول يسكت على ذلك؟! أو هل ترى أصحاب نبينا محمد يقرون ذلك؟! كما أشرنا فالمعاشرة والمخالطة تهوّن المعاصي، وتسهلها على النفوس، ولكن إن كان هذا ينفع في الدنيا فلن ينفع في الآخرة، فرب العزة يقول: {وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:39]-والعياذ بالله-. فجدير بكل أب غيور أن يحافظ على بيته من الأجهزة المدمرة، ولا يظن الخير أبداً في الأجهزة، فأي طفل لديه رائحة من الإسلام ومن تعاليم الإسلام لا يحتاج إلى من يفتيه في هذا الفيلم: أهو حرام أم حلال؟ لأن كل ذي فطرة سليمة يرفضه بشدة. وقد بُنيت الأفلام في مصر على شيء باطل جملة وتفصيلاً ألا وهو العشق، وما أكثر ما يركزون على حب شاب لفتاة، وقد ينتهي هذا الحب إما بفاحشة، وإما بسرقة، وإما بقتل، وإما بخيانة، هذا هو مستوى الأفلام الهابطة في مصر، مع ما يعتريها من رقص وغناء ماجن وتهييج على الفواحش. الحقيقة أنه ليس أحد من الناس يضربك حتى تدخل في بيتك تلفزيوناً، ولم يكرهك على أن تجعل فوق ظهر بيتك هذا الطبق الذي يُعد شعاراً ينمّ عن خبث ودياثة، وكذلك الفيديو وآلات الشهوات، فهل ضربك أحد؟ وهل أجبرك أحد حتى ترفع هذا الشعار على بيتك؟ إن الشيطان وأتباع الشيطان الذين سولوا لك سيتبرءون من فعلك يوم القيامة، ويقول إبليس: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم:22].

تحريم الخلوة بامرأة أجنبية

تحريم الخلوة بامرأة أجنبية ومن سبل الوقاية من هذه الفتنة الكبرى التي حذرنا منها رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجتناب ما نهى عنه رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام، فنحن جميعاً مأمورون بامتثال أمره عليه الصلاة والسلام واجتناب نهيه صلوات الله وتسليماته عليه، فلا يحل لك في حال من الأحوال أن تخلو بامرأة أجنبية، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إياكم والدخول على النساء، قال رجل: أفرأيت الحمو يا رسول الله؟! -أي: قريب الزوج كأخيه وابن عمه ونحو هؤلاء- قال: الحمو الموت)، فلا يجوز لك أن تدخل على امرأة أخيك في غياب أخيك، بل وصفك رسول الله -كما تقدم- بالموت، وقال عليه الصلاة والسلام أيضاً: (لا يخلون رجل بامرأة، فإن ثالثهما الشيطان). فإذا ذهبت إلى بيت مسلم من المسلمين ولم تجد الرجل في بيته انصرف راجعاً إلى بيتك، خيراً لك من أن تهان، وتعذب بعذاب الله يوم القيامة، فزلة قدم واحدة قد ترديك في جهنم، ولربما أوقعتك في الفاحشة -والعياذ بالله- فتصبح ملوماً من المحسورين، زلة قدم واحدة تزلها في هذا الباب وتقع في فاحشة الزنا -والعياذ بالله- تنكد عليك حياتك، وتقلب أمورك رأساً على عقب، وتكون سبباً في فقرك بعد غناك، وفي ذُلِّك بعد عزك، وفي امتهانك بعد إكرامك، بل وفي جلب النار لك، فإن النبي عليه الصلاة والسلام رأى أناساً عراة رجالاً ونساء في مثل التنور يأتيهم لهب من أسفل منهم، فكلما جاءهم اللهب ضوضوا -أي: صرخوا- فسأل: من هؤلاء؟ قيل له: هؤلاء الزناة والزواني. فزلة قدم واحدة تنكد عليك عيشك، وتدمر عليك حياتك، وتجعل الأمور مظلمة في وجهك، فاتق الدخول على النساء، وقد يسوّل لك الشيطان أنك مصلح، أو أنك منقذ للأسرة، ويزين لك الدخول بأية حجة ويستدرجك بأي عذر، فاتق الله في نفسك، واتق الله في أعراض المسلمين، والشيطان لا يكتفي بذلك، بل وأيضاً ينسج من حولك، فيذهب للناس وأنت داخل إلى البيت، ويقول لهم -موسوساً-: انظروا إلى هذا الخبيث، دخل بيت هذه المرأة، لماذا دخل؟ ولماذا يدخل كل يوم؟ فالشيطان يأتيك ويحملك على دخول البيوت، وفي الوقت نفسه يذهب إلى الناس ويقول لهم: هذا الرجل دخل بيت فلانة، ولا يدخله إلا لأنه يريد منها شيئاً، فيشوه صورتك أمام إخوانك، ولو أنك ابتعدت عن مواضع الرِّيَب لكان خيراً لك، وخير الهدي وأكمله هدي محمد صلى الله عليه وسلم، إذ قال عليه الصلاة والسلام محذراً: (إياكم والدخول على النساء)، وقال: (لا يخلون رجل بامرأة فإن ثالثهما الشيطان).

تحريم مصافحة من ليست بمحرم

تحريم مصافحة من ليست بمحرم كذلك لا تزين لك نفسك أن تصافح امرأة أجنبية، ولا أن تمسها، ولا أن تحتك بها، فرسولنا محمد عليه الصلاة والسلام يقول كما في البخاري: (إني لا أصافح النساء)، مع أنه عليه الصلاة والسلام معصوم ويقول: (إني لا أصافح النساء، إن قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة)، وتقول أمنا عائشة رضي الله تعالى عنها: (والله! -تقسم على ذلك بالله- ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط، إنما يقول: بايعتكن كلاماً)، أي: بلسانه، لم تمتد يده عليه الصلاة والسلام لمصافحة امرأة قط. وحذر رسولنا من ذلك فقال: (لأن يطعن أحدكم بمخيط من حديد في رأسه خير له من أن يمس امرأة لا تحل له)، فجدير بنا أن نلزم هدي نبينا عليه الصلاة والسلام بترك الخلوة بالنساء، وترك مصافحة النساء، وترك السفر مع النساء الأجنبيات، فالنبي قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا ومعها محرم)، هكذا قال نبينا محمد عليه الصلاة والسلام.

نصيحة لأولياء الأمور

نصيحة لأولياء الأمور نهيب بكل أب أن يكون غيوراً على أهل بيته، وأن يمتثل قول ربه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]. جدير بكل أب غيور أن يراقب بناته عند خروجهن من البيوت إن كان ولا بد من الخروج، فالأولى للمرأة القرار في بيتها كما نبهنا على ذلك مراراً، فربنا سبحانه يقول في كتابه الكريم: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33]، والمرأتان الكريمتان قالتا: {لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص:23]. ونبينا عليه الصلاة والسلام يقول: (أقرب ما تكون المرأة من ربها وهي في قعر بيتها)، ويقول نبينا محمد عليه الصلاة والسلام: (صلاة المرأة في بيتها خير من صلاتها في المسجد، وصلاتها في حجرتها خير من صلاتها في بيتها). فوالله! ثم والله! إن شهادة ابنتك التي حصلت عليها -الدبلوم أوالبكالوريوس أو اللسانس- لن تقربها من الله سبحانه قيد شبر ولا قيد أنملة، إنما يقربها عملها الصالح وحسن عقيدتها في الله سبحانه وتعالى، وإلا فأمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أمة أمية. مرادنا من هذا كله المحافظة على البنات وألا يقعن في المحرمات، فإن كان خروجها ضرورياً فلتخرج المرأة متحجبة كما أمرها ربها سبحانه، وكما أمرها نبيها محمد عليه الصلاة والسلام، تخرج محترمة موقرة كما أرشدها نبينا محمد عليه الصلاة والسلام. فيا معشر الإخوة: إنكم مسئولون عن رعاياكم كما قال نبيكم محمد: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)، وكما قال عليه الصلاة والسلام: (إنكم مسئولون عني، فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك بلغت وأديت ونصحت -فكررها رسول الله ثلاث مرار- إنكم مسئولون عني، فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك بلغت وأديت ونصحت، فرفع النبي عليه الصلاة والسلام يده إلى السماء ثم صوبها إلى الأرض، وقال: اللهم فاشهد، اللهم فاشهد، اللهم فاشهد). اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه.

فضائل العشر الأوائل من ذي الحجة

فضائل العشر الأوائل من ذي الحجة من أعظم الأيام عند الله عز وجل العشر الأول من ذي الحجة، فقد اجتمعت فيها فضائل الأعمال من صلاة وصيام وصدقة وحج، وقد شرع الله لمن لم يستطع الحج في هذه الأيام أن يكثر من الأعمال الصالحات، فقد فضل العمل الصالح في هذه الأيام على الجهاد في سبيل الله.

فضائل العشر الأول من ذي الحجة

فضائل العشر الأول من ذي الحجة باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد:

أقوال العلماء في العمل الصالح الذي قصده النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث

أقوال العلماء في العمل الصالح الذي قصده النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث وما هو العمل الصالح الذي يفعل في هذه الأيام، والذي يستحب الإكثار منه؟ روى فريق من أهل العلم: أن العمل الصالح عام، فكل بر وكل خير وكل عمل يتقرب به إلى الله، يصلح أن يطلق عليه عمل صالح، فمن ثم يزاد منه ويكثر منه في هذه الأيام. وقال آخرون: بل المراد بالعمل الصالح هنا ذكر الله عز وجل، ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر الحديث فقال: (ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام، قالوا: ولا الجهاد؟ قال: ولا الجهاد) فدل هذا الحديث على التفريق بين الجهاد وبين العمل الصالح المراد جعله في هذه الأيام. فالجهاد من الأعمال الصالحة لا شك، لكن هل هو المراد بحديث النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال فريق: المراد بالعمل الصالح هنا الذكر على وجه الخصوص؛ لأن النبي سئل: ولا الجهاد؟ قال: ولا الجهاد. فإذا أطلقنا العمل الصالح كان الجهاد داخلاً فيه، فيضم إلى كونه جهاداً أنه في الأيام العشر، وأيد هؤلاء أيضاً قولهم: بأن البخاري قد أخرج معلقاً عن ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم أنهما كانا يخرجان إلى الأسواق في العشر الأول من ذي الحجة فيكبران في الأسواق ويكبر الناس بتكبيرهما، فهذان الدليلان أو الوجهان رجحا قول من قال: إن المراد بالعمل الصالح هنا الذكر، وثم أقوال أخرى.

ما ورد في فضلها من الكتاب والسنة

ما ورد في فضلها من الكتاب والسنة فإننا إن شاء الله سنتحدث عن بعض الأعمال التي تعمل في هذه الأيام، فهي خير أيام في العام، وقد أقسم الله سبحانه وتعالى بها في كتابه الكريم فقال: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} [الفجر:1 - 3]، فالليالي العشر هي هذه الليالي، ليالي العشر الأول من ذي الحجة، وهي الأيام المعلومات التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم فقال: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج:28]. فالأيام المعلومات هي العشر الأول من ذي الحجة، والأيام المعدودات هي أيام التشريق الثلاثة الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجة. فالشاهد: أن هذه الأيام التي نحن في صددها الآن، هي خير أيام في العام على الإطلاق، وفيها يوم هو خير يوم في العام وهو يوم عرفة، جاء فضلها في الكتاب والسنة. ففي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله عز وجل من هذه الأيام، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله يا رسول الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا أن يخرج أحدكم بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء).

فضائل ذكر الله عز وجل

فضائل ذكر الله عز وجل ولا شك أن الذكر جاءت قد جملة من الأدلة التي تدل على استحبابه بصفة عامة، وفي هذه الأيام على وجه الخصوص، فمن فضل الذكر ما ذكر في كتاب الله سبحانه {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:35] وما أخرجه مسلم في صحيحه (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر، فمروا على جبل يقال له: جمدان فقال: سيروا هذا جمدان سبق المفردون، قالوا: ومن المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات). وقد ورد حديث آخر في مستدرك الحاكم بسند ظاهره الصحة وإن كان فيه نزاع، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أولا أدلكم على خير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق؟ (قالوا: بلى يا رسول الله. قال: ذكر الله). ويكفي في فضل الذكر أن نبي الله موسى صلى الله عليه وسلم سأل ربه أن يعينه بأخيه هارون، فقال: {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا} [طه:33 - 35] فالعلة هنا ذكرها نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام قال: {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا} [طه:33 - 35]. ويكفي أن زكريا عليه السلام مع كونه منع من الكلام كدليل على أن امرأته حملت، لكنه لم يمنع من الذكر، قال الله سبحانه وتعالى: على لسان زكريا {رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً} [آل عمران:41] أي: علامة على حمل زوجتي {قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} [آل عمران:41] ومع هذا الامتناع {وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} [آل عمران:41].

محبة الله لمن أكثر ذكره

محبة الله لمن أكثر ذكره ومن ذكر الله أحبه الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، وأن يشرب الشربة فيحمده عليها) فالله يرضى عنك إذا أكلت فقلت: الحمد لله، أو شربت فقلت: الحمد لله، وكذلك إلحاقاً إذا نمت فقلت: الحمد لله، (الحمد لله الذي كفانا وآوانا، فكم من لا كافي له ولا مؤوي). ويرضى عنك إذا قمت من نومك فقلت: (الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور)، ويرضى عنك إذا ركبت فسبحت فقلت: (سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون) فغيرك محروم وأنت مرزوق.

ذكر الله تكثير لحسنات العبد عند الله

ذكر الله تكثير لحسنات العبد عند الله الرسول عليه الصلاة والسلام لما جاءه فقراء المهاجرين وأخبروه بقولهم: (ذهب أهل الدثور بالأجور، وبالدرجات العلى والنعيم المقيم) ودلهم على الذكر؛ سمع الأغنياء بالذي تعلمه الفقراء من رسول الله صلى الله عليه وسلم فصنعوا كصنيعهم، فجاء الفقراء مرة أخرى إلى رسول الله فماذا قال الرسول؟ قال: (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) سبحانه وتعالى. وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (نعم المال الصالح للعبد الصالح) وقال النبي عليه الصلاة والسلام كذلك: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها). الشاهد: أن الغني الشاكر محمود على كل حال، وليس المقام مقام تفصيل وتفضيل بين الغني الشاكر أو الفقير الصابر، ولكن المراد أن الغني الشاكر محمود على كل حال، فليكن حالك هكذا دائماً، يدور بين الشكر عند النعماء، وبين الصبر والرضا بالقضاء عند الضراء. بذكر الله تنزل السكينة وتحف الملائكة وتغشى الرحمة، الملائكة تنزل على الذاكرين الله والذاكرات، وعلى التالين لكتاب الله، السكينة تغشاهم كذلك، الرحمات تتنزل عليهم كذلك، وفضلاً عن ذلك فإن، الرب سبحانه وتعالى يذكرهم.

ذكر الله حط للخطايا والذنوب

ذكر الله حط للخطايا والذنوب وذكر الله أيضاً مكفر للخطايا، قال عليه الصلاة والسلام: (من قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه، وإن كانت مثل زبد البحر) وفي رواية (ولم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال مثلما قال أو زاد عليه). وانظر إلى أصحاب الرسول لما أتوا إليه صلوات الله وسلامه عليه فقالوا: (يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور، وبالدرجات العلا، وبالنعيم المقيم. قال: وكيف ذلك؟ قالوا: يا رسول الله يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضل مال يتصدقون به، قال عليه الصلاة والسلام: أَوَلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه أدركتم به من قبلكم! وسبقتم من بعدكم! ولم يأت أحد بمثل ما جئتم به، قالوا: بلى يا رسول الله. قال: تسبحون وتحمدون وتكبرون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين) وقال عليه الصلاة والسلام: (معقبات لا يخيب قائلهن: ثلاث وثلاثون تسبيحة، وثلاث وثلاثون تحميدة، وثلاث وثلاثون تكبيرة دبر كل صلاة). فللذكر فضل عميم وثواب جزيل وهذا الذي ذكرناه طرف من هذا الفضل. والذكر به يرطب اللسان، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله عز وجل) فاللسان يترطب بالذكر، والقلب يهدأ بالذكر، والجسم يصح بالذكر. جرب وواظب على قراءة الأذكار، وقراءة (قل هو الله أحد)، و (قل أعوذ برب الناس) و (قل أعوذ بربك الفلق)، وتعوذ بالله من الشيطان الرجيم عند الغضب؛ ستجد أن الذكر راحة للبدن، راحة للفؤاد، راحة للسان، ذكر الله يجنبك اغتياب المسلمين والمسلمات، فإذا أتعبت عضلة اللسان في الذكر، كلت عن المعاصي، وكلت عن القيل والقال، ونظرت إلى المغتاب الذي يغتاب الناس أمامك واحتقرته، بل وأشفقت عليه لجهله وغفلته عن ذكر الله. جرب وأقبل على الذكر وانظر إلى الناس من حولك كل يخوض في القيل والقال، فوالله إنك ستشفق عليهم وترثي لحالهم، اشتغال بكل ما يغضب الله عز وجل، من تجريح واغتياب المسلمين والمسلمات، فهم في ضياع وإبطال وأنت في بناء وتشييد، أنت تذكر الله فتشيد لنفسك القصور، وتدخر لنفسك الكنوز، وهم في القيل والقال المكروه والمحرم، فيهدمون بيوتاً قد شيدوها، ويدمرون أعمدة قد أسسوها، والموفق من وفقه الله سبحانه وتعالى. ولذلك يحثنا رسولنا صلى الله عليه وسلم بل ويحث أحد العلماء والفضلاء، وأعلم الناس بالحلال والحرام، وهو معاذ بن جبل فيقول له: (والله يا معاذ إني أحبك) يقسم له الرسول على ذلك، ثم الوصية تأتي من حبيب لحبيبه فيقول له: (يا معاذ لا تدعن دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك). والذكر سبب في بركة الرزق، لما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جابر كي يقضي عنه ديون أبيه، وكان لديه ثمار بستانٍ له لكنها لا تبلغ عشر الدين قال لهم: (اقبلوا ما عنده، قالوا: ما نقبل إلا حقنا وافياً. فلما كان الغد دخل عليه الصلاة والسلام ودعا وبرك، فقضى جابر كل الديون التي عليه، وبقي الثمر كأن شيئاً لم يؤخذ منه). كذلك أم سليم تأتي بطعام في برمة، فجاء الرسول بمن معه من المسجد -ما يقارب الثمانين رجلاً- دخلوا والبرمة لا تكفي خمسة منهم، فدخل الرسول وبرك ودعا، فهذا الدعاء وهذا الذكر لله سبحانه وتعالى كان سبباً في تكثير الطعام، ومن ثم حث الرسول على الذكر عند بداية الأكل، فإذا سميت الله بورك لك في الرزق، وبورك لك في الولد، وبورك لك في الأكل، وإذا شاركك الشيطان في مطعمك، وشاركك الشيطان في ولدك، وشاركك الشيطان في بيتك، وشاركك الشيطان في جماعك؛ محقت بركة ذلك كله، فذكر الله يدفع عنك كل هذا الوباء والعياذ بالله.

ذكر الله جالب للأرزاق

ذكر الله جالب للأرزاق أما جلب ذكر الله للأرزاق فإن الدعاء من ذكر الله {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] والاستغفار من ذكر الله قال نوح: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح:10 - 12]. فضلاً عن الأجر الأخروي المدخر للذاكر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لأن أقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس).

ذكر الله حصن من الشيطان الرجيم

ذكر الله حصن من الشيطان الرجيم وذكر النبي صلى الله عليه وسلم (أن المؤذن إذا أذن أدبر الشيطان وله ضراط) وذكر النبي صلى الله عليه وسلم: (أن المؤمن إذا سجد -والسجود فيه ذكر لله- ولى الشيطان وهو يبكي) وذكر النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الرجل إذا سقط من على دابته فقال: باسم الله تصاغر الشيطان حتى يكون مثل الذباب). ولذلك ذكر العلماء أن شيطان المؤمن دائماً نحيل، لا يكاد يرفع رأسه إلا وضرب بسياط التسبيح والتهليل والاستغفار والتكبير وسائر أنواع الذكر، أما شيطان الكافر فعات متمرد، متطاول عليه يؤزه ويدفعه إلى المعاصي دفعاً، كما قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} [مريم:83] أي: تدفعهم إلى المعاصي دفعاً. ولذلك أوصانا الله بالذكر لدفع شر الشياطين فقال: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون:97 - 98].

ذكر الله شفاء من السقم

ذكر الله شفاء من السقم وقد كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يتداوى بالذكر عليه الصلاة والسلام، يشتكي فينفث في يديه بالمعوذات، ويمسح رأسه وسائر جسده صلى الله عليه وسلم، ويفعل ذلك ثلاث مرات عليه الصلاة والسلام، وكان يداوي بها أيضاً، فكان يرقي حسناً أو حسيناً ويقول: (باسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك، ومن شر كل نفس وعين حاسد الله يشفيك). فالرسول كان يداوي بالأذكار، والله سبحانه وتعالى قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:57 - 58] فذكر الله كما أسلفت تطمئن به القلوب وتقوى الأبدان، بل وبه تدفع الأمراض التي حلت بالأبدان، ألا ترون أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه رقى اللديغ الذي لدغته الحية بفاتحة الكتاب، فشفى الله اللديغ بإذن الله، هذا اللديغ الذي يحتاج الآن عند الأطباء كافة إلى ما يقارب العشرين حقنة، فشفاه الله سبحانه وتعالى بفاتحة الكتاب. فذكر الله له تأثير على القلوب وعلى الأبدان، وهو طارد للشيطان، قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة) وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا دخل أحدكم البيت فقال: باسم الله، قال الشيطان: لا مبيت لكم اليوم، فإذا ذكر الله عند طعامه قال الشيطان: لا مبيت لكم الليلة ولا عشاء، فإذا دخل فلم يذكر الله عند طعامه، ولا عند دخوله قال الشيطان أدركتم المبيت والعشاء).

ذكر الله قوة للبدن

ذكر الله قوة للبدن كذلك بذكر الله تقوى الأبدان، وذلك أنه جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ فاطمة: (أولا أدلك على ما هو خير لك من خادم) لما أتته تسأله وقد أثرت الرحى في يديها، (تسبحين وتحمدين وتكبرين دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، فهو خير لك من خادم). وقد قال تعالى أيضاً في شأن المستغفرين {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [هود:3] وفي الآية الأخرى {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} [هود:52] فذكر الله فيه قوة للبدن، ومن المعلوم حتى عند الأطباء أن الصدر إذا كان منشرحاً، والنفس إذا كانت منشرحة، قوي الجسم على مكافحة الأمراض، بل وهضم الرجل الطعام الذي يأكله، وإذا كانت النفس مغتمة غير منشرحة، فقد تأكل اللقمة فلا تهضم، ولا تشتهي الطعام أصلاً، فذكر الله سبحانه يريحك.

ذكر الله طمأنينة للقلوب

ذكر الله طمأنينة للقلوب وذكر الله سبحانه طمأنينة للقلب وقوة في الأبدان وعافية في الأجسام، ذكر الله طمأنينة للقلب وللفؤاد، وراحة للأبدان والأجساد، ودفع للوساوس والشياطين. به تستدر الأرزاق، وبه تدفع البليات، وبه تحط الخطايا والسيئات، به ترتفع الدرجات، ذكر الله به تطمأن القلوب، قال الله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]. فالقلب المضطرب الخائف يسكن ويطمئن إذا ذكر الله سبحانه وتعالى، ها هم أصحاب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم، خرجوا من غزوة أحد وبهم ما بهم من القتل والجراح، شج رأس نبيهم صلى الله عليه وسلم فأتاهم آت يخوفهم من عدوهم ويقول لهم: إن أبا سفيان قد استدار لاستئصالكم ومحو آثاركم واستباحة مدينتكم، فماذا قالوا أمام هذا التخويف وأمام هذا الإرجاف، وأمام هذا التهويل، قالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، فحكى الله مقالتهم في كتابه {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:173 - 174]. هذا الخليل إبراهيم صلى الله عليه وسلم يؤخذ ليلقى في النار، وهو ثابت صابر مطمئن القلب يقول: حسبي الله ونعم الوكيل، فكفاه الله شر عدوه. وهذا غلام آخر صغير في أيدي الجبابرة والظلمة أخذوه ليلقوه من أعلى شاهق أو يرجع عن دينه، أو ليلقوه في وسط اليم وهو يقول: اللهم اكفنيهم بما شئت، فيكفيه الله سبحانه وتعالى إياهم بما شاء، فبذكر الله تطمئن القلوب، قد تقوم فزعاً من نومك لرؤيا مزعجة، أزعجتك وأقلقت عليك مضجعك، تقوم وأنت مضطرب حزين مهموم من هذه الرؤيا، ولكن إذا ذكرت الله متعوذاً به من شرها واتبعت الوارد عن رسول الله فلن تضرك بإذن الله ويذهب عنك ما بك. قال أبو قتادة رضي الله عنه: كنت أرى الرؤيا أشق عليّ من الجبال، فلما سمعت حديث النبي صلى الله عليه وسلم سري عني. يقصد (الحلم من الشيطان والرؤيا من الله، فإذا رأى أحدكم ما يكره فليتفل عن يساره ثلاثاً، وليتعوذ بالله من شرها، ولا يحدث بها أحداً، فإنها لن تضره بإذن الله). وكذلك قد تكون متشككاً في أحد إخوانك، لكن إذا أقسم لك بالله اطمئن قلبك وذهبت عنك الوساوس، ما دام قد أقسم لك بالله سبحانه، فبذكر الله يطمئن القلب الخائف، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} [الرعد:28].

المقصد من العبادات إقامة ذكر الله عز وجل

المقصد من العبادات إقامة ذكر الله عز وجل ويكفي في الذكر أيضاً أن العبادات شرعت لذكر الله، قال الله سبحانه: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14] قال المفسرون: أقم الصلاة لتذكرني فيها، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إنما جعل الطواف بالبيت ورمي الجمار والسعي بين الصفا والمروة لذكر الله عز وجل). وكذلك الأضاحي والذبح قال تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج:34]. فالعبادات شرعت كي يذكر الله فيها، ويكثر من ذكره سبحانه وتعالى فيها، ويكفي أيضاً من فضل الذكر والذاكرين أن الله سبحانه وتعالى يذكرك إذا ذكرته، قال الله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [البقرة:152] فتخيل أنك تذكر الله في ملأ، فالله يذكرك في ملأ خير من هذا الملأ. فالله يذكرك إذا ذكرته (أنا مع عبدي إذا هو ذكرني وتحركت بي شفتاه، لو ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ولو ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه).

أعظم الذكر كتاب الله عز وجل

أعظم الذكر كتاب الله عز وجل من ذكر الله الذي فلا ينبغي أن يغفل: تلاوة كتابه هو أفضل الكلام، كما قال الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (لكل حرف منه حسنة، والحسنة بعشرة أمثالها) (ألم) ثلاثون حسنة، وبعد ذلك يضاعف الله لمن يشاء. بتلاوة كتاب الله وبحفظه ترتفع درجاتك، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يقال لصاحب القرآن يوم القيامة: اقرأ وارتق ورتل، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها) هكذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم. يرفع الله بالقرآن أقواماً ويضع به آخرين، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، فمن حفظه وعمل به رفعه الله سبحانه وتعالى درجات في الدنيا وفي الآخرة. (ولى أمير المؤمنين عمر رجلاً على مكة، فجاء الرجل إلى المدينة فقال له عمر: من خلفت بعدك على مكة قال: خلفت عليها ابن أبزى قال: كيف تخلف عليها مولى من الموالي؟) أي: ليس من أصل العرب بل هو مولى، إما أنه كان عبداً فأعتق، وإما أنه أسلم هو أو أحد أجداده على يد أحد العرب، (قال: يا أمير المؤمنين إنه قارئ لكتاب الله. قال: صدقت! إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله سبحانه وتعالى يرفع بهذا القرآن أقواماً ويضع به آخرين). تلاوتك لكتاب الله تشفع لك يوم القيامة، (يأتي القرآن يوم القيامة شفيعاً لأصحابه تقدمه سورة البقرة وسورة آل عمران كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما أمام الله عز وجل) فتخيل هذا الموقف، البقرة وآل عمران تأتيان تضللان وتدافعان عنك، تقولان: يا رب هذا عبد كان يقرؤنا، كان يقوم بنا في صلاة الليل، كان يحفظنا بالنهار، فتدافعان عن حاملهما أمام الله سبحانه وتعالى. فعليك بتلاوة كتاب الله ولا تكن ممن قيل فيهم: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30]، فمن هجران القرآن هجران التلاوة، وهجران العمل، وهجران التدبر، وهو على أقسام كما ذكر ذلك العلماء، فيكثر من قراءة كلام الله خاصة في هذه الأيام العشر، وكذلك الذكر عموماً.

أسباب فضيلة العشر والعمل المطلوب فيها

أسباب فضيلة العشر والعمل المطلوب فيها وتأتي فضيلة هذه العشر لأنها: أولاً: في الأشهر الحرم، فذو الحجة من الأشهر الحرم. ثم هي الأيام المعلومات {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج:28]. ثم فيها حديث الرسول: (ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا أن يخرج أحدكم بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء). ثم فيها يوم عرفة أفضل يوم، ثم فيها يوم الحج الأكبر، وأنتم على مشارفه، فلنكثر ذكر الله عز وجل. من كان له حزب من الاستغفار فليكثر منه، كان النبي صلى الله عليه وسلم يستغفر الله في اليوم مائة مرة، فمن كان له حزب من الاستغفار فليكثر منه، ومن كان له حزب من التلاوة فليكثر منه، ومن كان له حزب من قيام الليل فليكثر منه. وهل يصوم الرجل؟ أو لا يصوم؟ تقدمت الإجابة على مثل هذا بما حاصله أن للعلماء قولين، أو أن في الباب حديثين: أحدهما حديث عائشة: (ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم صائماً العشر قط). والثاني: حديث هنيدة بن خالد واختلف عليه، فرواه مرة عن امرأته عن بعض أزواج النبي، ومرة عن أمه عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ومرة عن حفصة كل رواياته فيها: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم التسع الأول من ذي الحجة). فبعض العلماء يقول: المثبت مقدم على النافي، أو أنه عليه الصلاة والسلام كان يصومها سنوات، ولا يصومها سنوات أخرى. وقول آخر من الأقوال: إنها تندرج -أي صيامها- تحت الأعمال الصالحة في حديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله عز وجل من هذه الأيام) وكما أسلفنا أن ابن عمر وأبا هريرة ورد عنهما من طريق معلقة عند البخاري كانا يخرجان إلى السوق فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما. كذلك هل يشرع الإكثار من الصدقات في هذه الأيام؟ من رأى تعميم القول في تفسير العمل الصالح قال: ينبغي أن يكثر من التصدق في هذه الأيام، فالصدقة محمودة على كل حال كما ورد ذلك في الكتاب العزيز، وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم. وكذلك هل يدخل الإصلاح بين الناس في هذه الأعمال الصالحة؟ قال بذلك كثيرون من أهل العلم.

الأسئلة

الأسئلة

فتاة نصرانية أسلمت وتخاف من بطش أهلها ما تفعل

فتاة نصرانية أسلمت وتخاف من بطش أهلها ما تفعل Q يقول الأخ جزاه الله خيراً: فتاة نصرانية أسلمت وتخشى بطش أهلها إذا أعلنت وأشهرت إسلامها، فماذا تفعل لكي تقيم شعائر الإسلام وفرائضه وسننه، وما واجبنا نحوها حيث إنها تدرس معنا. A تصلي خفية، قال عدد من الصحابة حتى أصبح الرجل منا لا يصلي إلا في بيته سراً، وذلك أيام الحجاج، فتصلي سراً، إن لم تستطع الصلاة سراً صلت ولو بالإيماء، إن لم تستطع الصلاة ولو بالإيماء صلت وهي نائمة، فتومئ إيماءً وهي نائمة، فتتقي الله ما استطاعت إذا أرادت أن تصلي.

فضل الحج

فضل الحج فضل الله سبحانه بعض الأيام على بعض، وللأشهر الحرم زيادة فضل ومزية، فقد فرض الحج في شهر ذي الحجة الحرام، والحج هو الركن العظيم الذي افترضه الله على عباده، وشرع لهم مناسكه، وباهى بالحجيج ملائكته، وأشهدهم أنه قد غفر لحجيج بيته الحرام إلى غير ذلك من الفضائل الكثيرة لهذا الركن العظيم.

فضل الأشهر الحرم

فضل الأشهر الحرم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد: معشر الإخوة: لا يخفى عليكم أن الله سبحانه اختص بعض الأيام وبعض الأشهر بفضائل لم يختص بها أياماً وشهوراً أخر، فمن هذه الأيام والشهور التي اختصها الله سبحانه هذه الأشهر التي نحن فيها الآن، وهي الأشهر الحرم، وسميت كذلك ما لها من حرمة، وحرمتها ثابتة في كتاب الله وفي سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، فلا ينبغي أن نقترف فيها الآثام، ولا أن نرتكب فيها المعاصي، قال الله جل ذكره: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة:36]، وقال النبي عليه الصلاة والسلام في تحديد هذه الأشهر الحرم: (ثلاث متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، وشهر الله المحرم، ورجب مضر) أي: رجب قبيلة مضر، إذ كانت قبيلة مضر مع كفرها تحافظ على حرمته، ولا تقدم فيه ولا تؤخر، قال: (ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان). فجدير بكم أن توقروا ما وقره الله وما وقره رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} قال العلماء: الذنب فيها أعظم من الذنب في غيرها؛ لأن الله نهى عن الظلم فيها نهياً خاصاً بعد النهي العام، فظلم النفس محرم على الدوام على مدار العام، لكن زيادة الاهتمام وزيادة النهي عن الظلم في هذه الشهور تفيد أن لهذه الشهور منقبة وميزة خاصة.

فريضة الحج وفضلها

فريضة الحج وفضلها ومن خير ما يفعله المسلم في هذه الأشهر الحج إلى بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلاً، وهو من خير ما تنفق فيه الأموال، وتضيع فيه الأثمان، ويبذل فيه الجهد، ومن ثم كان فريق من السلف كـ ابن المبارك رحمه الله يحج عاماً ويجاهد في سبيل الله عاماً آخر. ومن لم يحج وهو في سعة فعليه أن يتذكر أن هذا الترك للفريضة قد يئول به إلى الكفر، قال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:97]، (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ) أي: دين على الناس لربهم، وقال عليه الصلاة والسلام: (بني الإسلام على خمس -وذكر منها- وحج بيت الله لمن استطاع إليه سبيلاً)، وقال عليه الصلاة والسلام: (يا أيها الناس! إن الله كتب عليكم الحج فحجوا، فقام سراقة بن مالك فقال: يا رسول الله! أفي كل عام؟ قال: لو قلت: نعم، لوجبت، ولو وجبت ما استطعتم، ذروني ما تركتكم، فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم). فالشاهد: أن لله عليكم معشر المسلمين والمسلمات فريضة كفريضة الصلاة والصوم يجب أن تؤدى ألا وهي فريضة الحج، وقد ذهب جمهور العلماء: إلى أن هذه الفريضة تجب على الفور لمن استطاعها. بينما ذهب الشافعي رحمه الله إلى أنها على التراخي، لكن الجمهور وهم الأكثر عدداً قالوا: إن وجوبها على الفور لمن استطاع للآية الكريمة {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97]. وفضلاً عما في الحج من تأدية فريضة الله علينا، ففيه كذلك عظيم الأجر وجميل المثوبة، وفيه كذلك عظيم الكفارات لكبائر الإثم ولعظام الفواحش، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الحج يهدم ما قبله) وقال عليه الصلاة والسلام: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما ما اجتنبت الكبائر، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) وقال عليه الصلاة والسلام: (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه) وقال عليه الصلاة والسلام: (تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد) وقال صلوات الله وسلامه عليه: (ثلاثة كلهم ضامن على الله عز وجل -وفي رواية: كلهم في ضمان من الله عز وجل-: رجل خرج من بيته إلى المسجد كي يصلي، ورجل خرج غازياً في سبيل الله، ورجل خرج حاجاً) فالذي خرج إلى الحج فهو في ضمان الله، إن مات فهو إلى رحمة الله يبعث يوم القيامة ملبياً، وهنيئاً لمن مات وهو يحج؛ إذ يحشر يوم القيامة قائلاً: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، ومرحباً بها من موتة، يقوم الشخص لربه يوم بعثه وهو محرم يقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك فنعمت السعادة للعبد يوم لقاء الله إذ يلاقي ربه بتلك الهيئة. فيا معشر الأخوة! لا تضنوا بالأموال ولا تبخلوا عن إنفاقها في هذا الباب من أبواب الخير، فالشيطان يأتي يبخلك ويزهدك ويخوفك الفقر، قال تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:268] وربنا يقول: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ:39] قد تقف بعرفات ترفع يديك إلى مولاك وخالقك وبارئك: يا رب! اصرف عني كل سوء ومكروه، فيصرف الله أوبئة وأمراضاً كانت ستحل بك أو ببنيك فالله لا يخلف الميعاد، ومن أصدق من الله قيلا؟! ومن أحسن من الله حديثا؟! معشر المسلمين! لا تبخلوا على أنفسكم بفريضة من فرائض الله، ولا تحرموا أنفسكم مواقف يتنزل فيها ربكم إلى سماء الدنيا فيباهي بكم ملائكته قائلاً: (انظروا إلى عبادي هؤلاء أتوني شعثاً غبراً أشهدكم أني قد غفرت لهم) فلا تبخل عن نفسك يا من وسع الله عليه! ولا تبخل عن نفسك يا من قدر عليه رزقه، فعليك بدعاء الله؛ فإن العبد إذا أخلص النية كتب له من الأجر ما يعمل وهو غني سوي، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن بالمدينة لأقواماً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا شاركوكم الأجر حبسهم العذر) فإن لم تغنموا الحج فلا يفوتنكم الدعاء بإثبات الأجر فربكم واسع العطاء، كريم جواد، سبحانه وتعالى. اللهم يا ربنا! يا فاطر السموات والأرض! ويا مبدع السموات والأرض! أقر أعيننا يوم لقائك بالنظر إلى وجهك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة. اللهم يا ربنا! أسكنا مع نبينا محمد عليه أفضل صلاة وأتم تسليم في الفردوس، واسقنا من حوضه شربة لا نظمأ بعدها أبداً. اللهم يسر لنا الحج عامنا هذا والأعوام القادمة يا رب العالمين! وأثبت الأجر لمن حرم الذهاب يا كريم! يا من لا تنفد خزائنه! يا رب العالمين! اللهم انصر الإسلام وأهله وأذل الشرك والمشركين، وأنزل اللهم رحمتك على أمواتنا وأموات المسلمين، أفسح اللهم لهم في قبورهم، ونور اللهم لهم فيها يا رب العالمين! واجعلها خير منازل، واجعل ممساهم وصباحهم دائماً في جنات النعيم، واشف اللهم أمراضنا وأمراض المسلمين. وصلى اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

فقه التعامل بين المسلمين [1]

فقه التعامل بين المسلمين [1] ما من شك أن كل مسلم لابد له من مخالطة إخوانه المسلمين، والاحتكاك بهم، وعليه فلابد من وجود ضوابط تحكم علاقة المسلم بأخيه المسلم في حدود الشرع يأخذ كل ذي حق حقه، وتسود أخوة الإيمان عموم المؤمنين.

فقه التعامل مع المسلمين

فقه التعامل مع المسلمين بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبيه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فمحاضرتنا في هذه الليلة إن شاء الله موضوعها: جزء من فقه التعامل بين المسلمين، ولا شك أن كلاً منا يريد أن تكون له وجاهة في الدنيا والآخرة. وقد أثنى الله سبحانه وتعالى على بعض أنبيائه عليهم الصلاة والسلام بالوجاهة وهو عيسى صلى الله عليه وسلم، فقال عنه: {وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [آل عمران:45]، ودعا الخليل إبراهيم صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل أن يجعل له لسان صدق في الآخرين، فقال: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} [الشعراء:84]. فلا شك أن كلاً منا يريد أن تكون له وجاهة في الدنيا بين الناس، ووجاهة في الآخرة يوم يقوم الأشهاد، وهذا وذاك يتأتى باتباع كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والفقه فيهما، فكم من حامل علم وليس بفقيه كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)، فنقف وقفات مع بعض الآيات من كتاب الله، الأحاديث من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونقتبس منها بعض الأخلاق التي تصلحنا بإذن الله في تعاملاتنا مع إخواننا.

مراقبة الله والإخلاص له

مراقبة الله والإخلاص له الوقفة الأولى: أن علينا أن نبني تعاملاتنا مع الناس كلهم على أساس أصيل وثابت أُشير إليه في جملة من الآيات والأحاديث ألا وهو: تقوى الله سبحانه. فإذا أقبلنا نقبل لله، وإذا أدبرنا ندبر لله، وإذا أعطينا نعطي لله، وإذا منعنا نمنع لله، وإذا خاصمنا نخاصم لله، وإذا حاكمنا نحاكم لله. قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان)، وقال صلوات الله وسلامه عليه: (من أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس، ومن أسخط الناس برضا الله رضي الله عنه وأرضى عنه الناس). فجدير بنا أن تكون كل تعاملاتنا مبنية على هذا الأصل الأصيل: مراقبة الله وتقواه، والإخلاص، وترك ما سواه، قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: (من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)، والأحاديث في هذا الباب كثيرة.

الأخوة في الله

الأخوة في الله الوقفة الثانية: أن نبني تعاملاتنا مع المسلمين على أساس الأخوة في الله. فالمسلم أخو المسلم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يسلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، بحسب امرئ منكم من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً) وقد ثبت هذا الأصل بجملة نصوص في كتاب الله: قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:10]، وقال سبحانه: {فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران:103]، وقال سبحانه في شأن رجل قتل رجلاً: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:178]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم مقرراً لهذا الأصل: (كونوا عباد الله إخواناً، هو سماكم المسلمين المؤمنين عباد الله)، وقال عليه الصلاة والسلام: (لا يأخذ أحدكم عصا أخيه جاداً ولا لاعباً)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يبع بعضكم على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه). وقال الله سبحانه: {وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ} [الحجرات:11] فجُعل المسلمون كلهم كالنفس الواحدة. أي: ولا يلمز بعضكم بعضاً. وقال سبحانه: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النور:61] أي: ليسلم بعضكم على بعض، وقال سبحانه: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا} [النور:12] أي: بإخوانهم. فكل هذه النصوص تعزز هذا الأصل -الأخوة في الإسلام- فيجب علينا أن نبني تعاملاتنا مع المسلمين على هذا الأصل. وإخواننا الملتحون جزاهم الله خيراً وعفا عنهم قصروا الأخوة على الملتحين فقط، وهذا خلل في المسيرة التي أطلقوا عليها اسم الصحوة، فيقولون: فلان أخ. أو ليس بأخ ويجعلون الميزان هو اللحية فقط، أو هذه أخت أو ليست بأخت ويجعلون الميزان هو النقاب والخمار فقط. صحيح أن إعفاء اللحية واجب، وأن النقاب على رأي كثير من أهل العلم واجب، لكن ليس معنى كون الشخص حلق لحيته وعصا ربه فيها أنه خرج من عداد المسلمين كلا. فالمسلم أخو المسلم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. والمقصود من هذا: أننا عند تعاملاتنا مع المسلمين ينبغي أن نبني تعاملاتنا معهم على هذا الأصل: وأن أهل الإسلام بعضهم من بعض.

مستلزمات الأخوة الإيمانية

مستلزمات الأخوة الإيمانية وللأخوة في الله لوازم عديدة:

إنزال الناس منازلهم

إنزال الناس منازلهم هنا أصل لابد من معرفته كي تنجح في التعامل مع الناس، ومع المسلمين على وجه الخصوص وتحقيق الأخوة، وهو معرفة أقدار الناس، ومعرفة من تخاطب، فللأمير طريقة في المخاطبة، وللمأمور طريقة، وللجليل طريقة في الخطاب، وللحقير طريقة، وللعالم طريقة عند مخاطبته والتعامل معه، وللجاهل طريقة عند التعامل معه، والغني له أسلوب في الخطاب، والفقير له أسلوب في الخطاب، فلابد من إنزال الناس منازلهم. دخل جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه على النجاشي لما جاء عمرو بن العاص إلى الحبشة يشكو مهاجرة الحبشة إلى النجاشي فقال: أيها الملك! إنك ملك والملوك لا يصلح عندها كثير الكلام. فانظر إلى هذا الفقه: (إنك ملك لا يصلح عند كثير الكلام). فالملك له مشاغله وله اهتماماته إذ هو يسوس دولة، ولأفرادها عمومها مشاكل، ولها أعداء، فلا يصلح أن يجلس وقتاً طويلاً مع شخص في جزئيات صغيرة، فقدم جعفر مقدمة ذكية تلم عن فهمه لأحوال الناس، فقال: أيها الملك! إنك ملك والملوك لا يصلح عندها كثير الكلام، فوضعنا كذا وكذا وكذا وشرح وضعه رضي الله تعالى عنه. أي: للملك طريقة في الخطاب. والجاهل كذلك إذا تكلم معك فعليك أن تعامله بطريقة أخرى. جاء عيينة بن حصن الفزاري إلى ابن أخيه الحر بن قيس وكان الحر من جلساء عمر وأهل مشورته وهو من حملة القرآن، وكان عمر رضي الله عنه يدني منه حملة القرآن، ويقربهم ويجعلهم أهل الشورى وأهل المجالسة، فإذا نزلت به نازلة استشارهم إذ هو يعمل بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة، إلا كان له بطانتان: بطانة تأمره بالسوء وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالخير وتحضه عليه، والمعصوم من عصمه الله تبارك وتعالى). وجدير بكل رجل من أصحاب المسؤوليات والوجهات والأموال أن يجعل بعض مستشاريه من حملة كتاب الله، وحملة سنة رسول الله وحملة العلم، ليستشيرهم في أموره حتى لا يندم بعد ذلك، ولذا كان عمر يدني الحر بن قيس منه، فقال عيينة بن حصن لابن أخيه الحر بن قيس: يا ابن أخي إن لك وجاهة عند هذا الأمير -يعني: عمر وكان عيينة بن حصن رجل من البدو الأعراب، بل من المؤلفة قلوبهم- فاستأذن لي بالدخول عليه، فجاء الحر بن قيس رضي الله عنه ودخل على أمير المؤمنين عمر وقال: يستأذن عليك عمي عيينة بن حصن. فأذن عمر له، فلما دخل عيينة على عمر قال: يا ابن الخطاب -هكذا بجلافة الأعراب- إنك لا تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل، فهمّ به عمر ليبطش به فتدخل الحر وقال: يا أمير المؤمنين! إن الله يقول: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] وإن هذا من الجاهلين، فوالله ما تخطاها عمر ولا تعداها وسكت رضي الله تعالى عنه. والحمد لله رب العالمين.

التواصل وعدم الهجران

التواصل وعدم الهجران من مستلزمات الأخوة: تحريم الهجران. فلا يحل لمسلم أن يهجر أخاه المسلم فوق ثلاث، فمع أن هنا تخاصم وشقاق لكن الأخوة ما زالت باقية (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث) (لا يحل) أي: يحرم (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهم الذي يبدأ بالسلام).

مراعاة الأحوال

مراعاة الأحوال منها: مراعاة أحوال الإخوة: فإذا ما وجدت أخي غضبان أتقي ثورته وغضبه، وإذا غضبت أنا الآخر فلا أصدر قراراً في شأن إخواني. وهذه جزئية هامة لها أدلتها من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. فإذا غضبت لا تصدر قراراً أثناء الغضب فإن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وقد أرشد الرسول عليه الصلاة والسلام كما روي عنه من طريق عروة السعدي وإن كان الحديث فيه نوع كلام لكن لمعناه شواهد، (إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ). وفي صحيح البخاري من حديث سليمان بن صرد رضي الله عنه قال: (رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلين يستبان، أما أحدهما فقد علا صوته واحمر وجه وأنفه وانتفخت أوداجه، فقال عليه الصلاة والسلام: إني أعلم كلمة لو قالها هذا الرجل لذهب عنه الذي يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لذهب عنه الذي يجد). إذاً: الشيطان يحضر عند الغضب ويحملك على أن تصدر قرارات طائشة في وقت الغضب، ومن ثم قال الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان) وذلك لأن الغضب نوع من أنوع الإغلاق التي يغلق على العقل وتجعل الشخص يتصرف في غير ما يريد، ويصدر قرارات لا يصدرها وقت تأنيه وتصبره. فلذلك إذا أردت أن تصدر قراراً فلا تصدره وأنت متعب مرهق أو وأنت غضبان، وتحضرنا في هذا واقعة رواها البخاري في صحيحه وهي واقعة قتل زيد بن حارثة وجعفر وعبد الله بن رواحة رضي الله عنهما (قتل الثلاثة رضي الله عنهم في مؤتة فوصل خبرهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلس عليه الصلاة والسلام حزيناً يعرف في وجهه الحزن -وفي بعض الروايات-: وعيناه تذرفان صلى الله عليه وسلم، فجاءه رجل وأم المؤمنين عائشة بجوار الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن نساء جعفر يبكين. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اذهب إليهن فانههن عن البكاء. فذهب ورجع وقال: يا رسول الله! إن نساء جعفر يبكين وقد نهيتهن فلم ينتهين، قال: ارجع فانههن عن البكاء. فذهب ورجع وقال: يا رسول الله قد نهيتهن فلم ينتهين -ثلاث مرات-. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: فاحثو في وجوههن التراب. فحينئذٍ قامت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فقالت: والله ما أنت بفاعل، ما تركت رسول الله صلى الله عليه وسلم من العناء حتى قال لك الذي قال) رأت أم المؤمنين وهي الفقيهة العالمة رضي الله عنها أن القرار صدر من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إلحاح الرجل عليه، حتى أرهق رسول الله فصدر منه هذا الكلام. والشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع مقالة أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، فما عاتبها ولا زجرها عليه الصلاة والسلام، ولا تعقبها، فدل فعله وإقراره لها على صدق ما قالته، ولو كان ما قالته أم المؤمنين خطأ لتعقبها رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ هو لا يسكت على الخطأ ولا يقره، فإن قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى فلماذا قال مقالته الأولى: (اذهب فاحث في وجوههن التراب)؟ فالإجابة: إن الرسول صلى الله عليه وسلم يفعل أموراً تعليماً لأمته صلى الله عليه وسلم، كما صنع في قصة عمر مع أبي هريرة حيث قال عليه الصلاة والسلام لـ أبي هريرة: (يا أبا هريرة اخرج فبشر من قال لا إله إلا الله بالجنة. فخرج أبو هريرة يقول: من قال لا إله إلا الله دخل الجنة، فكان أول من التقى به عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فسمع مقالة أبي هريرة ونقله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قال لا إله إلا الله دخل الجنة. فضرب أبا هريرة ضربة أسقطته على الأرض على استه وقال: والله لا تحدث بهذا الحديث أحداً، فانطلق أبو هريرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكوا إليه عمر، ودخل عمر على إثر أبي هريرة رضي الله عنه فقال: يا رسول الله! إذاً يتكلوا. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: إذاً يتكلوا، فأقر الرسول صلى الله عليه وسلم عمر على مقالته) فهذا كان من باب التعليم. والمراد: أنك لا تضغط على شخص حتى يعطيك وعداً من الوعود ويخلف هذا الميعاد، ولا تضغط على شخص حتى يعدك وعداً فلا يفي لك بها، وإلا فأنت المتسبب في عدم الوفاء، بإرهاقك لأخيك المسلم. فيجدر بالشخص ألا يصدر قراراً في وقت غضب أو تعب، ويجدر بالمسلم كذلك ألا يكره ويحمل أخاه على أن يصدر قراراً في وقت تعبه وإرهاقه ولا يستطيع أن يفي له به، ولا يكثر من الإلحاح على إخوانه يحرجهم ويؤثمهم. وكذلك إذا كنت في سفر واعتراك التعب والإرهاق وخالطك الهمج والرعاع فلا تصدر قراراً في مثل هذا الوقت؛ لأنه يأتي على غير وجه صحيح. وفي الصحيح أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج مع المسلمين في موسم الحج فسمع قائلاً يقول: لو مات عمر لفعلنا كذا وكذا. ولأمّرنا فلاناً وفلانا فوالله ما كانت إمره أبي بكر إلا فلتة أو خلسة، على غرة منا، فلما سمع عمر هذه المقالة آذته وآلمته جداً، فقام في الناس يقول قولاً ويلقي خطبة في الناس، فجاءه بعض كبار الصحابة فقالوا: قبل أن يخطب خطبته: يا أمير المؤمنين إنك في موسم الحج، والموسم يجمع العقلاء والرعاع، منهم من يفهم ومنهم من لا يفهم، ومنهم من يعقل ومنهم من لا يعقل، فنخشى يا أمير المؤمنين إن تكلمت بكلامك في مثل هذا الموقف فهم عنك على غير وجهه، وحمله العالم والجاهل، والقاصي والداني، وأهل الحضر وأهل البادية، ومن في قلبه خير ومن في قلبه غل، فيحرفون كلامك، ولكن يا أمير المؤمنين تريث، لا تتكلم في مثل هذا الموطن، ولكن ارجع إلى المدينة فإن بها أهل العلم وأهل الفقه من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فحدثهم حينئذٍ بما تريد ويفهمون عنك الذي تريد، فرأى أمير المؤمنين عمر أن الكلام له وجاهة، فأجل الحديث إلى أن رجع إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حتى لا يفهم كلامه على غير وجهه رضي الله تعالى عنه، فجدير بالمسلم أن ينظر إلى المواطن والمواقف والأشخاص.

وجوب النصح لكل مسلم

وجوب النصح لكل مسلم ومن مستلزمات الأخوة الإيمانية: النصح للمسلم وتوجيهه إلى الخير، وقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم البيعة على بعض أصحابه بذلك. فهذا جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه، وكان من الصحابة الذين آتاهم الله جمالاً، حتى كان بعض السلف يطلق عليه يوسف أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الذي يقول عن نفسه: (ما رآني النبي صلى الله عليه وسلم إلا تبسم في وجهي) هذا الصحابي الجيل قال: (بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة والنصح لكل مسلم). ومن حق المسلم على أخيه: إذا استنصحه أن ينصح له، هكذا جاء في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا طلب منه العون أعانه، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى القوم الذين يمنعون الماعون عن إخوانهم بالذم فقال في سورة سماها بسورة الماعون: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ} [الماعون:1] إلى قوله: {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون:6 - 7] فالذين يمنعون الماعون عن إخوانهم المسلمين ذكروا بالذم في كتاب الله، والماعون: العارية التي تعار كالدلو والقدر ونحو ذلك. إذاً: للأخوة مستلزمات: هل تحب لسائر المسلمين ما تحبه لأخيه من أمك وأبيك بل ما تحبه لنفسك؟ هذا منطوق حديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وليس مفهومه: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، (كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه).

أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك

أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك منها: قول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يبع بعضكم على بيع أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه) فكما أنك تحب أن تربح فتحب لأخيك الربح كذلك، وعليك أن تنصح وتبين له. قال عليه الصلاة والسلام: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن نصحا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما) وكما أنك تحب أن تستر إذا أخطأت فلتحب لإخوانك ذلك أيضاً. أما إذا أحببت لإخوانك الفضيحة فرب العزة يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [النور:19] {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: عذاب مؤلم موجع في الدنيا والآخرة {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:19]. هذه رموز وإشارات تكتشف بها نفسك يا عبد الله، فلن ينزل عليك وحي من السماء يقول لك: أنت على خير أو أنت محسن أو لست بمحسن، إنما هناك نصوص من كتاب الله طبقها على نفسك، فإن انطبقت عليك كنت من أهل الإيمان وإلا فراجع نفسك، وانظر إلى قلبك: هل أنت تحب لإخوانك المسلمين ما تحبه لنفسك، كما قال نبيك محمد صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم -أي: لا يكمل إيمان أحدكم- حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه). إن حل بك خير فأحببته لإخوانك مثلما تحبه لنفسك فأنت على خير، أما إن كنت تحب لنفسك الخير وتحب لإخوانك المصائب والشرور فأنت بعيد عن طريق أهل الإيمان، وعليك أن تلتمس الطرق التي توصلك إليه، وإذا أحببت لإخوانك الفضيحة وشعرت من قلبك بالسعادة للمصائب التي تحل بهم، كأن تشعر في نفسك بالسعادة لرسوب أخيك المسلم، أو لفشله في عمل من الأعمال، أو لكونه افتضح في الناس، أو لكونه ابتعد عن الخير فأنت على شر عظيم، وتذكر قول ربك: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:19].

فقه التعامل بين المسلمين [2]

فقه التعامل بين المسلمين [2] ينبغي على المسلم عند تعامله مع إخوانه أن يعلم أن أخاه أحد رجلين: محسن أو مسيء، وأن الله لم يكتب العصمة لأحد من خلقه بعد رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، ومن أكثر معاتبة الإخوان جاء اليوم الذي لا يبقى له فيه أخ أو صاحب.

ضوابط في فن التعامل

ضوابط في فن التعامل

طيبة النفس في الأخذ والعطاء

طيبة النفس في الأخذ والعطاء ومنها: ألا تأخذ شيئاً من أخيك عن غير طيب نفس منه، فلا يبارك لك فيه: أخرج البخاري من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه قال: (أتينا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نستحمله) أي: نطلب منه أن يحملنا للجهاد على إبل الصدقة أو على خيل نجاهد عليها في سبيل الله، وهو في معنى قوله تعالى: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} [التوبة:92]. الشاهد: (أتينا إلى رسول الله نستحمله فقال: والله لا أحملكم وما عندي ما أحملكم عليه، فانطلقنا، فأتي إلى رسول الله بخيل فدعانا وأعطانا خيولاً أو إبلاً نركب عليها للقتال فانصرفنا، فقلنا في طريقنا: استغفلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينه) يعني: أخذنا من الرسول الخيل وكان قد أقسم أنه لا يبارك لنا في هذه الخيل فقالوا: (نرجع إلى رسول الله). الشاهد: أن الصحابة تورعوا عن أن يكونوا قد أخذوا شيئاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم على حين غفلة، أو على حين غرة، فكذلك لا تفعل مع إخوانك، فلا تستغفل أخاك حتى تأخذ منه حقاً ليس لك، أو شيئاً بغير طيب نفس منه. (فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! إنك أقسمت ألا تحملنا ثم حملتنا. فقال عليه الصلاة والسلام: إني والله ما حملتكم والله حملكم، وإني والله لا أحلف يميناً فأرى غيرها خيراً منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير). فحينئذٍ تأكدوا أنهم لم يستغفلوا النبي صلى الله عليه وسلم، وكل هذا رجاء أن يبارك لهم في هذا العطاء، ولذلك نجد أن من أخذ شيئاً من أخيه بنفس غير طيبة، أو عن شك أو ريبة في طيبة نفسه بذلك الشيء، نجده في قلق دائم، ولا يبارك له في هذا الشيء والمقدر سيكون، ولا يظن أحدنا أن ملازمة الورع تنقص الرزق، فهذا خطأ بين، فلا يحمل أحدنا استبطاء الرزق على أن يستغفل الناس أو أن ينال الزرق بمعصية الله سبحانه. والحقيقة أيها الأحبة! أن الموضوع طويل ولكن نكتفي بهذا القدر، وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الملاطفة وجبر الخاطر

الملاطفة وجبر الخاطر ومنها: الملاطفة في القول وجبر الخاطر: يوجد في شرعنا في تعاملنا مع الناس لكسب قلوبهم ما يسمى بجبر الخاطر، له أدلة من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن أدلتها من الكتاب: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة:241] فجبر خاطر المطلقة بالمتعة. {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [النساء:8] يعني: الفقراء المساكين إذا حضروا تقسيم التركة فلا بأس أن يجبر خاطرهم بشيء من المال. ومن العلماء من قال: إن خاطر إبراهيم صلى الله عليه وسلم جبر لما لم يؤمن به إلا القليل، فجبر الله خاطره بأن جعل كل الأنبياء الذين جاؤوا من بعده من ذريته عليه السلام، {وَجَعَلَهَا} [الزخرف:28] أي: كلمة التوحيد {كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف:28]. وجبر خاطر الصديق يوسف صلى الله عليه وسلم لما سجن واتهم بأن جعله عزيزاً على مصر، فجاء إخوته يقولون كما قال الله: {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} [يوسف:88]. فاجبر خاطر الناس ولو بكلمة طيبة، فهي في بعض الأحيان تقوم في مقام جبر الخاطر أفضل من آلاف الجنيهات، فالرسول صلى الله عليه وسلم عندما قسم الغنائم، أعطى قوماً ضعفاء الإيمان وأكرمهم عليه الصلاة والسلام غاية الكرم، ومنهم عيينة بن حصن أعطاه مائة من الإبل الأقرع بن حابس مائة من الإبل غيرهم وغيرهم من المنافقين أو ضعاف الإيمان، وممن أكرمهم: رجل اسمه عمرو بن تغلب كان جالساً ولم يأخذ من الغنيمة إلا الشيء اليسير جداً إن ذكر، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (والله إني أعطي قوماً وغيرهم أحب إلي منهم، أعطي قوماً وأكل قوماً إلى ما في قلوبهم من إيمان منهم عمرو بن تغلب، فكان عمرو يقول: والله هذه الكلمة لي من رسول الله أحب إليّ من حمر النعم) يعني: إذا أعطي عمرو بن تغلب مليون جمل لا تعدل عنده هذه الشهادة من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالكلمة الطيبة تجبر الخاطر، أفضل من كثير من المال، ومن ثم قال تعالى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} [البقرة:263]. وهذه فضيلة باقية لـ عمرو بن تغلب إلى يوم القيامة، ندارسها نحن وحديثها في البخاري ويدارسها من بعدنا إلى يوم القيامة، وهي شهادة من رسول الله لـ عمرو بن تغلب رضي الله تعالى عنه، فالكلمة الطيبة صدقة كما الرسول صلى الله عليه وسلم، وتؤتي أكلها في الناس بإذن الله، ولكن المهتدي إليها من هداه الله، والله يقول: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} [الحج:24] فسل الله أن يهديك لهذه الكلمات الطيبة. يقول الله عز وجل: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10] أي: العمل الصالح يرفع الكلم الطيب، تتكلم بكلام طيب وتتبعه بعمل صالح العمل الصالح يرفع الكلم الطيب إلى الله سبحانه وتعالى، والله يقول: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [إبراهيم:24 - 25] وإن كان أكثر العلماء على تفسير الكلمة الطيبة بلا إله إلا الله. تخرج من اللسان، أصلها ثابت في القلب، وفرعها في السماء، تصعد ثمرتها إلى السماء وتتقبل، وتفتح لها أبواب السماء، لكن مع هذا القول بأنها لا إله إلا الله لا مانع من دخول غيرها معها، فقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (الكلمة الطيبة صدقة) والآية عامة {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} [إبراهيم:24] فلا إله إلا الله أفضل كلمة، ويلتحق بها عموم الكلم الطيب وإن كان دونها في الفضل. هذه بعض الملاحظات التي نريد أن ننبه عليها، والباب واسع، ولكن كلل أعمالك برحمة العباد والعفو عن الناس. وتحضرنا واقعة وإن لم يكن إسنادها صحيح ولكن نأخذ منها العبرة: ذكر عدد من المفسرين في تفسير قوله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134] أن رجلاً من التابعين كان عنده أضياف فأتته جاريته بمرق حار فمن ربكتها سقط منها المرق على الأرض فتغيض عليها سيدها، وقام ليلطمها. فقالت: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} [آل عمران:134] فسكت، فخشيت بعد ذلك أن يضربها فقالت: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران:134] حتى تأخذ منه وعداً أنه لا يضربها فيما بعد، فقال: قد عفوت عنك. فقالت: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134] قال: اذهبي فأنت حرة لوجه الله، وهكذا كان الناس وقافين عند كتاب الله سبحانه وتعالى. ومن هذه القصة نأخذ: فضل الفقه الذي كان سبب نجاة وعتق هذه الأمة رضي الله عنها وعن سيدها. فجدير بنا معشر الإخوة أن نتخلق بخلق رسولنا صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأن نتبع سنته وأثره.

معرفة أنه لا عصمة لأحد بعد النبي عليه الصلاة والسلام

معرفة أنه لا عصمة لأحد بعد النبي عليه الصلاة والسلام ومنها: معرفة أنه لا معصوم بعد النبي عليه الصلاة والسلام: ولتعلم أيضاً أن الناس بشر يعتريهم ما يعتري البشر، أبوهم آدم أكملهم عقلاً كما في الحديث جحد فمن ثَم جحدت ذريته، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أبوهم آدم أشدهم حلماً نسي فنسيت ذريته). عصا فعصت ذريته، وهو من أكمل الخلق وأعقل الخلق وأحلم الخلق صلى الله عليه وسلم، فبنوه كذلك تصدر منهم هذه الأخطاء، فأحياناً يصدر منهم حب للنفس، فيغفر لهم في خضم فضائلهم، وفي ذلك قصص أخرجها البخاري وغيره: قال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اهتز العرش لموت سعد بن معاذ) وكان سعد بن معاذ سيداً للأوس وكان سعد بن عبادة سيداً للخزرج، وكان بين الحيين في الجاهلية ضغائن وحروب طاحنة. قال جابر مع أن جابر من الخزرج وسعد بن معاذ من الأوس، وكان الحيان يفتخران، حتى قال بعضهم: منا من حمته الدبر -يعني: النحل حمته من المشركين أن يقطعوا منه شيئاً- ومنا من اهتز له العرش. الشاهد: قول جابر وهو من الخزرج: اهتز العرش لموت سعد بن معاذ. فقيل لـ جابر: إن البراء يقول: إن الذي اهتز إنما هو السرير، يريد أن يؤول العرش بالسرير؛ لأن العرش يطلق عليه سرير، {نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا} [النمل:41] العرش: هو سرير الملك. فهم هكذا رضي الله تعالى عنه، وقد يكون سمع الحديث لكن أحياناً كما يقول القائل: وعين الرضا عن كل عيب كليلة كما أن عين السخط تبدي المساويا فعندما يكون بينك وبين شخص عداوة فإنك تراه بمنظار آخر، يأتيك أبيض فتحسبه أسود، يأتيك مبتسماً فتقول: جاء يشتم ويسب. فالشاهد: أن قائلاً قال لـ جابر: إن البراء يقول: اهتز السرير. فقال جابر: لا قد اهتز العرش إنما كان بين هذين الحيين ضغائن. أي: كان بين الأوس والخزرج ضغائن ففسر العرش بالسرير. فالشاهد: أن البراء بشر التبس عليه الأمر، وجاء في الرواية: إن البراء يقول: إن ثبت عنه فهو من البشر يجري عليه ما يجري على البشر. أيضاً: أمنا عائشة لما رأت مدى حب الرسول صلى الله عليه وسلم لـ خديجة، وقد كان عليه الصلاة والسلام وفياً غاية الوفاء لـ خديجة، وكان يحبها حتى بعد موتها، وإذا جاءت أختها هالة تستأذن ذكرته نبرات صوتها بـ خديجة رضي الله عنها، فيرتاع لها الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقول: (اللهم هالة)، وكانت عائشة رضي الله عنها تغار من اهتمام الرسول عليه الصلاة والسلام بهذه الزوجة، وإن كان قد ماتت، وعائشة لا تعرفها أصلاً بل إن فاطمة بنت الرسول بنت خديجة أكبر من أم المؤمنين عائشة رضي الله عنهن أجمعين، فـ عائشة تسمع رسول الله يقول: (اللهم هالة) قالت: (والله يا رسول الله ما غرت من امرأة قط كما غرت من خديجة، وإن كنت لم أرها)، لكثرة ما سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يذكرها. حتى قالت: يا رسول الله! ما تذكر امرأة عجوز، ماتت في غابر الزمان قد أبدلك الله خير منها، فيقول عليه الصلاة والسلام: (إني رزقت حبها). عائشة ما رأتها ومع ذلك طعنت فيها بدون أن تراها رضي الله تعالى عنها، فأحياناً يعتري البشر في حب للنفس والانتصار لها ما يعتريهم. وكما حدث مع الرسول عندما قال: مروا أبا بكر فليصل بالناس، قالت عائشة لـ حفصة: قولي له أبو بكر رجل أسيف، إذا قام مقامك فلم يسمع الناس من البكاء، ولكن مر عمر فقال عليه الصلاة والسلام: (إنكن صواحب يوسف مروا أبا بكر فليصل بالناس). والشاهد: أن عائشة تقول عن نفسها: (والله ما كنت أبداً أريد ألا يؤم أبو بكر بالناس إلا لشيء، إني خشيت إذا وقف أبو بكر مكان رسول الله أن يتشاءم الناس بـ أبي بكر لكونه جاء بعد الرسول). فحاصل كلامها: أردت أن ألحق هذا التشاؤم بـ عمر لا بأبي؛ فأرادت عائشة أن تدفع هذا كله عن أبيها وتلصقه بـ عمر. وفي حادثة الإفك قال عليه الصلاة والسلام: (من يعذرني من رجل بلغني أنه قال في أهلي، والله ما علمت عن أهلي إلا خيراً فـ سعد بن معاذ قام فقال: أنا أعذرك منه يا رسول الله، إن كان من عندنا من الأوس قتلناه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا فقتلناه، فقام سعد بن عبادة وقال: والله لا تقتله ولا تقدر على ذلك، وإن كان من قبيلتك لم تحب أن يقتل، فيقوم أسيد بن حضير ويقول: والله لنقتلنه، إنك منافق، تجادل عن المنافقين)، فهذه هفوات تغتفر للبشر. - واقعة أخرى في هذا الصدد: كان هناك رجل يقال له: أبو السنابل بن بعكك صحابي من أصحاب رسول الله، وكان رضي الله عنه قد تقدم لخطبة امرأة يقال لها سبيعة الأسلمية بعد أن مات زوجها، فأبت أن تتزوجه، وكانت سبيعة امرأة تتجمل للخطاب، قد اكتحلت واختضبت وتجملت للخطاب، لما رآها أبو السنابل متجملة وقد ردته قال: (ما لي أراك تجملت للخطاب؟ والله لا تحلين لأحد حتى يبلغ الكتاب أجلَه)، أي: حتى تنقضي أربعة أشهر وعشراً، وهذه عدة المتوفى عنها زوجها، {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة:234] وسبيعة عدتها عدة الحامل تنقضي بوضع الحمل، فقال هذه الكلمة وهو الذي لم يلبث أن خطبها، (فحملت عليها ثيابها وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن أبا السنابل يقول: كذا وكذا يا رسول الله، قال: قد حللت حين وضعت، فاصنعي ما بدا لكِ) أي: بمجرد الوضع قد حللت للخطاب فتزوجي إن شئت. وهذا الحديث هو عمدة العلماء القائلين: بأن أولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن، حتى المتوفى عنها زوجها، وليس في المطلقات فحسب؛ لأن سبيعة كانت قد توفي عنها زوجها. فالحاصل: أنهم بشر يعتريهم ما يعتري البشر ويغفر لهم ما يغفر للبشر (والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم). أيضاً عليك أن تعلم القاعدة المضطردة في كتاب الله (أن هناك فضل وهناك عدل)، فضل وعدل، تنزيل ذلك أو استنباطه من الآيات {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [النحل:90]، فالعدل جزاء السيئة بالسيئة، والإحسان العفو، {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة:45] كله عدل، {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة:45] فضل وعفو، {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40] عدل، {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ} [الشورى:40] عفو، {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ} [الحج:60] عدل {إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [الحج:60] عفو وفضل. هناك عدل وهناك فضل، فيجوز لك أن تأخذ بالعدل، ويجوز لك أن تأخذ بالفضل، فليس معنى أني جئته في وقت من الأوقات فلم أعف. وطلبت بحقي أني ظالم. وفي صحيح البخاري أيضاً (أن الرسول صلى الله عليه وسلم اجتمع عليه أهله في مرضه، فأرادوا أن يضعوا له اللد في فمه -دواء مر، يوضع في الفم رغم الأنف، فيفتح الفم بقوة ويصب فيه الدواء- فأشار إليهم الرسول ألا تفعلوا، فما التفتوا إلى إشارة الرسول بل قالوا: ما من مريض إلا وهو يكره الدواء- فوضعوا للرسول الدواء في فمه رغماً عنه). الشاهد: أنه لما أفاق قال: (لا يبقين أحد في البيت إلا لد وأنا أنظر). يعني: كل واحد في البيت كان يشاهد الموقف لابد أن يوضع اللدود في فمه أمام عيني، عليه الصلاة والسلام. وقال: (إلا العباس فإنه لم يشهدكم) فالرسول أراد أن يعاقب حتى لا تصبح الأمور دوماً مفتوحة لمن أراد أن يخالف، أو من أراد أن يظلم أو أي شيء من هذا الباب، وهذا تزكية لأمته صلى الله عليه وسلم، فليس معنى كونه أخذ بالعدل أنه ظلم صلى الله عليه وسلم.

إقالة ذوي الهيئات عثراتهم

إقالة ذوي الهيئات عثراتهم ومنها: إقالة ذوي الهيئات عثراتهم: ومن ذلك ما ورد في قصة حاطب بن أبي بلتعة رضي الله تعالى عنه، فقد كان من جلساء رسول الله عليه الصلاة والسلام وممن شهد بدراً، بل ذكر بعض العلماء: أنه كان من مستشاري رسول الله صلى الله عليه وسلم، يستشيره الرسول صلى الله عليه وسلم في أموره بل وفي أمور المسلمين، فخطط الرسول يوماً لغزو مكة، وأطلع حاطباً على هذا السر، فأرسل حاطب رسالة سرية مع امرأة من المشركين إلى مشركي قريش خلاصتها: إن النبي صلى الله عليه وسلم يريد غزوكم فخذوا حذركم -رسالة بهذه الصورة من حاطب إلى هؤلاء المشركين، والرسول صلى الله عليه وسلم يستأمنه على هذا السر- فأطلع الله نبيه على هذه الرسالة، وأعلمه إياها، فجاء الرسول واستدعى ثلاثة: علياً والمقداد والزبير وقال لهم: انطلقوا حتى تأتوا مكاناً يقال له: روضة خاخ، وستجدون هناك ضعينة -مسافرة- معها رسالة من حاطب إلى المشركين، فأتوني بالرسالة. قال علي: (فانطلقنا تعادى بنا خيولنا، حتى التقينا بالمرأة فقلنا لها: أخرجي الكتاب الذي معك. قالت: ما عندي كتاب. ففتشوها ودققوا التفتيش فما وجدوا شيئاً، فهموا بالانصراف، فقال علي: ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم لتخرجن الكتاب أو لنجردن الثياب. فلما رأت المرأة الجدّ في قول علي أهوت إلى حجيزتها فاستخرجت الرسالة وسلمتها لـ علي، فانطلقوا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا بها: من حاطب إلى فلان وفلان من المشركين وقرئت الرسالة على رسول الله عليه الصلاة والسلام وكان عمر جالساً بجوار الرسول صلى الله عليه وسلم، ورأى أن هذا الأمر جريمة كبرى، بل خيانة لرسول الله عليه الصلاة والسلام، وخيانة لأهل الإسلام، وكشفاً لسر من أسرار المسلمين للكفار، فأرسل الرسول إلى حاطب فجيء به، فقال عمر: يا رسول الله! دعني أضرب عنق هذا المنافق، إنه رجل خان الله وخان رسوله وخان المؤمنين). ولكن رسول الله -الرسول الأسوة- جاء يخاطب -المتهم- يسمع منه. وقد قال بعض العلماء في تفسير قوله تعالى: {وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص:24] عقب قوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ} [ص:21 - 22] ثم بدأ أحدهم في بث الشكوى: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي} [ص:23] أي: غلبني {فِي الْخِطَابِ} [ص:23] اشتكى {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص:23] فأصدر داود الحكم مباشرة وقال: {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} [ص:24]. قال العلماء في تفسيرها وهو أولى الأقوال والله أعلم: إن داود استغفر ربه وخر راكعاً وأناب؛ لأنه لم يسمع قول الخصم الآخر بل حكم للخصم الأول دون سماع ما عند الخصم الآخر. الشاهد: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لـ حاطب: (يا حاطب!! ما حملك على ما صنعت؟ قال حاطب رضي الله عنه: والله يا رسول الله!! ما كفرت بالله، بل أنا رجل مؤمن أحب الله وأحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكني يا رسول الله!! نظرت إلى نفسي وإلى أصحابك، فرأيت أصحابك يا رسول الله كل منهم له قريب في مكة، يدفع الله بهذا القريب عن أهله وماله الذي تركه بمكة، وأنا ليس لي أقارب في مكة يا رسول الله، فأردت أن أصنع معروفاً وجميلاً في المشركين حتى يحافظوا على أهلي وأموالي بمكة. وهذا من إيمانه رضوان الله عليه: فقد وكل الأمر إلى الله فقال: يدفع الله بها عن أهلي ومالي يا رسول الله، فكل أصحابك له أهل يدفع الله بهم عنه. فانفعل عمر أيضاً وقال: دعني أضرب عنق هذا الرجل يا رسول الله، منافق خان الله وخان رسوله وخان المؤمنين، فقال عليه الصلاة والسلام: إنه قد صدقكم، فلا تقولوا له إلا خيراً، وما يدريك يا عمر لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: يا أهل بدر اعملوا ما شئتم فإني قد غفرت لكم)، وكان عمر رضي الله عنه يعرف قدر نفسه فبكى عمر ودمعت عيناه وقال: الله ورسوله أعلم. إذاً: الرجل زلت قدمه زلة خطيرة لكن له سابقة خير، فقد شهد بدر فلا تذهب السيئة بعموم الحسنات، فلابد من تذكر أفعال البر التي عملها من وقع في خطأ، فلا تدفع أفعال البر نتيجة سيئة واحدة اقترفت وإن كانت كبيرة من الكبائر، فهي لا تنزع عن المسلم لباس الأخوة الإيمانية. ومثلاً: قذف المحصنات الغافلات المؤمنات كبيرة من أكبر الكبائر: أن تأتي إلى امرأة غافلة مؤمنة محصنة عفيفة، فتقول: فلانة زنت. كبيرة من أكبر الكبائر، فكيف إذا تعدت هذه الكبيرة إلى قذف امرأة رسول الله عليه الصلاة والسلام، ويقول القائل: عائشة فعلت كذا وكذا وكذا مع فلان، فهي كبيرة ضم إلى كونها كبيرة أنها طعن في عرض رسول الله عليه الصلاة والسلام. ومع هذا كله نزل تكذيب هذا القائل ليس من عندي ولا من عندك بل تكذيبه من الله، ومع ذلك كله أيضاً يقول الله لـ أبي بكر: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا} [النور:22] فعند وزن الناس بأعمالهم عليك أن تزن بميزان عدل وميزان قسط، فلا تزن بميزان جور وميزان هوى والعياذ بالله. عليك أن تدرك هذه المفاهيم جيداً ولا تكن أبداً يوماً عوناً للشيطان على إخوانك، فإن غلب الشيطان أخاك ثم جاء تائباً فافتح له صدرك لتقبل منه العذر. ما حديث شارب الخمر بخفي عنكم: رجل يجلد لشرب الخمر ثم يذهب ويؤتى به ويجلد مراراً، حتى قال بعض الصحابة: (لعنك الله ما أكثر ما يؤتى بك، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم، إنه والله ما علمته إلا يحب الله ورسوله). إذاً: قد يذنب الشخص، لكن هذا الذنب لا ينزع عنه حب الله وحب رسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا جاء أخوك معتذراً فلا تسد أبواب الاعتذار أمامه بل افتح له الباب، وقل له: يا أخي كلنا نذنب. غفر الله لي ولك، ستر الله عليّ وستر الله عليك، ووفقني الله وإياك، واستر عليه وساعده، واقبل منه الاعتذار حتى يصلح حاله، أما أن تغلق في وجهه الأبواب فما عساه أن يجني من وراء موقفك هذا، إلا أن يشرد عنك بل ويشرد عن الدين. إذاً: إذا وجدت في مسلم من المسلمين خطأ وفيه مناقب فعليك أن تثني عليه بما تعلم من المناقب التي فيه، ثم تذكِّره عرضاً بالخطأ، وهذه طريقة مضطردة في كتاب الله، الله سبحانه وتعالى، فقد ذكّر نبيه داود صلى الله عليه وسلم فقال: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء:78 - 79] يعني: الولد وحتى يحفظ عرض داود أيضاً قال تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:79] يعني: داود عنده فهم أيضاً فلا تظن غير ذلك. لذلك قال: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:79]. وقال الله سبحانه أيضاً في شأن يعقوب لما قال لبنيه: {وَقَالَ يَا بَنِيَ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [يوسف:67] إلى قوله: {وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [يوسف:68] ولكنه بين السبب فقال: {إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا} [يوسف:68] وحتى لا يأتي شخص ويقول يعقوب لا يفهم قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:68]. فإذا أردت أن تنتقد فانتقد وأظهر المحاسن التي في أخيك المسلم، كأن تقول لمن بدرت منه بادرة سيئة: أنت مخك نظيف وعقلك ناضج، لكن هذه فلتة فلتت منك فارجع إلى نظافة العقل، وآرائك السديدة التي نسمعها منك دائماً. إذاً: لا تجعل الخطأ يأتي على كل المحاسن، فهذا نوع من أنواع الظلم -والعياذ بالله- بل افتح للناس باب التوبة وباب الرجوع إلى الله سبحانه وتعالى وسهله عليهم، وعرّف الناس بربهم وخالقهم وعلمهم أن الله رحيم حليم يغفر الذنوب جميعاً.

مراعاة مراتب الناس وأحوالهم

مراعاة مراتب الناس وأحوالهم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين. وبعد: فإن التعامل بين المسلمين فن من الفنون التي ينبغي أن يعتنى بها. وهناك لوازم وضوابط لنجاح التعامل بين الناس: منها: مراعاة مراتبهم وأحوالهم، فمراعاة أحوال الناس ومراتبهم من أسباب النجاح في التعاملات مع الناس، فكم من شخص يتحمل منك الكلمات الشديدة، وثم أشخاص لا يتحملون منك نظرة غضب فقط فضلاً عن الكلمات النابية الشديدة، فمن ثم كان لزاماً عليك أن تتعامل مع الناس بحسب أحوالهم. ونذكر في ذلك واقعتين واقعتان حدثتا لـ أبي بكر الصديق رضي الله عنه: أما الواقعة الأولى فحدثت لـ أبي بكر مع عمر، وعمر وهو رجل من فضلاء الصحابة رضي الله عنه، له قبيلته وقدره في قريش. وأما الثانية فحدثت لـ أبي بكر مع بلال وسلمان وصهيب وهم من الفقراء الذين ليست لهم قبائل في مكة ولا في المدينة. ولتنظر كيف تعامل أبو بكر مع هذا؟ وكيف تعامل مع هؤلاء؟ ولتنظر ما هو تعقيب رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه التصرفات؟ أولاً: كان بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما شيء فقال أبو بكر عن نفسه: وكنت أنا أظلم. يعني: أنا الذي كنت مخطأ في حق عمر رضي الله عنهم، وكل الناس تخطئ. قال: (أخطأت في حق عمر فذهبت إلى عمر رضي الله عنه أعتذر إليه من خطئي، فلم يقبل عمر العذر، فذهب أبو بكر حزيناً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! قد كان بيني وبين عمر بن الخطاب رضي الله عنه شيء، وأنا والله يا رسول الله كنت أظلم، فذهبت فاعتذرت إليه فلم يقبل عذري. فغضب الرسول صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً. ثم إن عمر أيضاً أحس بخطئه فكيف يأتي أبو بكر يعتذر إليه ولا يقبل عذره؟ فانطلق مسرعاً إلى بيت أبي بكر رضي الله عنه، فقالوا له: إن أبا بكر ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق مسرعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرسول جالس مع أصحابه وأبو بكر بجواره، فلما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم عمر، قام مغضباً في وجهه غاية الغضب، وقال: هل أنت تارك لي صاحبي يا ابن الخطاب؟ صدقني إذ كذبتموني، وأعطاني إذ منعتموني، فوالله لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن خلة الإسلام أفضل. لا يبقين في المسجد خوخة إلا سدت إلا خوخة أبي بكر؛ واستمر عليه الصلاة والسلام في لوم عمر رضي الله عنه وتأنيبه)، وأبو بكر يقول: (أنا أظلم يا رسول الله). ورد في بعض الروايات خارج الصحيح (استغفر لي يا رسول الله، وإذا لم تستغفر لي من يستغفر لي يا رسول الله). ثانياً: أبو بكر مع بلال وسلمان وصهيب وهم من الفقراء: (مر أبو سفيان على سلمان وصهيب وبلال فقال سلمان وصهيب وبلال: والله ما أخذت سيوف الله من عدو الله مأخذها عام الفتح) أي: كان ينبغي أن يقتل هذا الرجل المؤذي الذي كان يؤذي رسول الله، (فقال أبو بكر: أتقولون هذا لسيد قريش؟ ثم انطلق أبو بكر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! صدر من سلمان وبلال وصهيب كذا وكذا. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر -الذي كان ينتصر له في موقفه مع عمر لكن مع هؤلاء الضعفاء ماذا قال؟ - قال: أأغضبتهم يا أبا بكر؟ لأن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك عز وجل. فانطلق أبو بكر سريعاً إلى إخوته وقال: أغضبتكم يا إخوتاه؟ قالوا: غفر الله لك يا أخانا). إذاً: أحوال الناس تختلف، الضعيف والمسكين خاطره يكسر بكلمة، بل بنظرة، لكن الآخر الصلب يتحمل إذ هو يستطيع الدفاع عن نفسه، ولذلك كان التعامل مع الأيتام يحتاج إلى دقة ورقة، والتعامل مع الكبار البالغون، غير التعامل مع الصغار والأيتام. فلابد أن تفهم هذه الطرق في التعامل مع الناس، من الذي أمامك؟ ما هو قدر تحمله لك، هل هو كبير السن يحتاج إلى توقير؟ أو شاب مثلك يحتاج إلى أن تتعامل معه معاملة الند للند؟ أم هو أصغر منك فيحتاج إلى أن ترحمه؟ أو هو امرأة ضعيفة العقل تحتاج إلى تطييب الخاطر؟ أو هو سفيه يحتاج إلى المداراة كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لما رأى رجلاً مقبلاً فقال: (بئس أخو العشيرة)، فلما قدم ألان له صلى الله عليه وسلم القول، مع أن الرجل سيء وبذيء الأخلاق. وقد ألان له الرسول صلى الله عليه وسلم القول، ليس عن جبن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا رياء أبداً، بل دفعاً لسفهه وطيشه، في نفس الوقت الذي يقول فيه عليه الصلاة والسلام فيه: (بئس أخو العشيرة). فتراه صلى الله عليه وسلم يشتد على الأفاضل من أصحابه، كالثلاثة الذين خلفوا، جاءوا واعتذروا إلى الرسول وقالوا: (تخلفنا يا رسول الله وليس لنا عذر)، ومنهم هلال بن أمية وهو بدري -شهد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم- ومع ذلك هجرهم الرسول عليه الصلاة والسلام خمسين ليلة. فأحياناً يعتذر إليك شخص وتشدد في قبول اعتذاره، ويعتذر شخص آخر اعتذاراً واحداً وتقبل منه العذر.

فقه تربية الأولاد [1]

فقه تربية الأولاد [1] خير ما يربى عليه الأبناء كتاب ربهم عز وجل، وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، ويتحمل المسئولية في ذلك الآباء، فلو أنهم ساروا على هذا النهج، واختاروا المرأة الصالحة، واعتنوا بتربية أولادهم التربية الروحية اعتناءهم بتربيتهم الجسدية؛ لما فسدت المجتمعات، ولعاش أفراد الأسراة وفق منهج إسلامي قويم.

التربية على ضوء الكتاب والسنة

التربية على ضوء الكتاب والسنة الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: فحديثنا هو عن فقه تربية الأولاد على ضوء ما ورد في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا على ضوء ما ورد في كتب علم النفس والفلسفة، فخير الهدي -دائماً وأبداً- هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ثم إن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه الكريم: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38]، وقال سبحانه وتعالى عن نفسه: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، فالذي خلقنا وخلق أطفالنا وأولادنا وبناتنا هو الله سبحانه وتعالى؛ فتشريعه خير تشريع، وهدي نبيه خير هدي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم. فجدير بنا إذاً أن نتلمس خطى رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، ونتلمس أوامره وآدابه ونطبقها مع أبنائنا حتى يسلم لنا أبناؤنا، لذلك فإن حديثنا عن تربية الأولاد ليس عن تجربة شخصية، فالتجارب الشخصية تختلف من شخص إلى آخر، وليس عن حكاية سُطِّرت فالحكايات ما أكثرها، ولكن من خلال نصوص من كتاب ربنا، ومن سنة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، ثم من أقوال أهل العلم من سلفنا الصالح رحمهم الله الذين هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم التابعون، ثم أتباع التابعين، فهؤلاء هم خير القرون، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم).

التضرع إلى الله والدعاء بصلاح الذرية

التضرع إلى الله والدعاء بصلاح الذرية أيها الأحبة: ابتداءً فليعلم أن الهادي هو الله سبحانه وتعالى، وهذا شيء مقرر ومسلّم به، قال الله سبحانه وتعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة:13]، وقال الله سبحانه: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [يونس:100]، وقال سبحانه: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [النحل:93]، فأمر الهداية بالدرجة الأولى موكول إلى الله سبحانه وتعالى، والشقاوة أو السعادة مكتوبة على العبد وهو في بطن أمه، كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود وغيره: (إن الملك يأتي فيؤمر بأربع: بكتب أجله، ورزقه، وعمله، وشقي أو سعيد)، كل ذلك مقدر على العبد وهو في بطن أمه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الغلام الذي قتله الخضر طُبع كافراً)، فيجب أن يعلم أن المهتدي هو من هداه الله سبحانه وتعالى. ويجب علينا أن نتجه إلى ربنا سبحانه وتعالى نسأله إصلاح الذرية، كما هو حال أهل الإيمان، فهم دائماً يقولون: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74] وقرة الأعين: ما تستقر به العين فلا تنظر إلى غيره. مثال ذلك: لو أن عندك زوجة دميمة فإنك كلما رأيت امرأة حسناء اتجه نظرك إليها، بخلاف ما لو كانت زوجتك أحسن النساء ما امتد بصرك إلى غيرها، وكذلك لو كان ولدك أعقل الأولاد وأهدأ الأولاد ما امتد بصرك إلى غيره، ولذلك كان أهل الإيمان يقولون: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان:74] أي: ما تستقر به الأعين {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74]. وذكر الله سبحانه وتعالى حال هذا الرجل الذي بلغ أشده وبلغ أربعين سنة فقال: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف:15] فدعا ربه أن يصلح له ذريته. وهكذا أيضاً إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم، يقول: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم:37]، ويطلب زكريا عليه الصلاة والسلام نحواً من هذا فيقول: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم:5 - 6]، ويقول: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران:38]. فالصلاح والهدى في الأصل من الله سبحانه وتعالى. وهذا يوسف صلى الله عليه وسلم تربى في بيوت الملوك من أهل الكفر، ثم أخذ وألقي به في السجن مع طائفة من المجرمين الخمارين، والسرق واللصوص، ومع ذلك كله حفظه الله سبحانه وتعالى، حفظه وهو غلام وسيم أوتي شطر الحسن كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أوتي يوسف صلى الله عليه وسلم شطر الحسن) -أي: نصف جمال الكون- ومع ذلك حفظه الله سبحانه، فلم تمتد إليه يد عابث وتناله بشيء من السوء. وهذا الغلام صاحب قصة أصحاب الأخدود أبواه كافران، ولم يذكر عنهما الإيمان، وأرسل كي يتعلم السحر، فمن الذي هداه إلى الراهب كي يتعلم منه الإيمان ويكون من أمره ما كان؟! إنه الله سبحانه وتعالى. فجديرٌ بنا أن نتوجه بالدعاء إلى الله سبحانه وتعالى، ونبتهل إليه كي يصلح لنا الذريات، فهذا شأن أهل الإيمان، فهم دائماً يطلبون من الله سبحانه وتعالى أن يصلح لهم النية والذرية، فإن المؤمن مهما أوتي من براعة وطاعة لله وفنٍ للدعوة إلى الله فأمر الهداية ليس إليه، فهذا نوح عليه الصلاة والسلام ينادي ولده {يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} [هود:42] فيقول الولد الشقي: {سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود:43] ولم تجد دعوة نوح صلى الله عليه وسلم مع ولده. فجديرٌ بنا أن نكثر من الدعاء لصلاح الذريات، وبعد ذلك كل ما سيأتي إنما هو من باب الأسباب والمسببات.

أهمية الأخذ بالأسباب في تربية الأولاد

أهمية الأخذ بالأسباب في تربية الأولاد لقد جعل الله سبحانه وتعالى للأسباب دوراً في صلاح الأبناء، فمن سلك أسباب الخير فتحها الله له وزاده هدى، كما قال الله سبحانه وتعالى في سورة الليل: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى} [الليل:5] أي: أعطى المال وأنفقه في سبيل الله وفي أوجه الخير {وَاتَّقَى} [الليل:5] أي: اجتنب محارم الله، {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل:6 - 7] أي: سنهيئه لعمل الخير، فهو قدم خيراً ففتح الله له سائر أبواب من الخير. وفي المقابل: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} [الليل:8 - 9] فهذا الذي سلك هذه الأسباب {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:10] أي: سنوفقه ونهيئه لعمل أهل الشقاوة -والعياذ بالله- فإذا سلكت أسباب الهداية والتمستها نور الله لك بصيرتك، وفتح لك أبواباً أخر من أبواب الخير، قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69]. وإذا أمعنت النظر في كتاب الله اتضح لك هذا المفهوم وضوحاً جلياً، والله يقول في شأن نبيه موسى صلى الله عليه وسلم: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [القصص:14] فدل على أنه قدم إحساناً ثم آتاه الله الحكم والعلم، وقوله تعالى {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [القصص:14] فلما قدم إحساناً آتاه الله حكماً وآتاه الله علماً. وكذلك قال الله في شأن الخليل إبراهيم صلى الله عليه وسلم: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة:124] فطمع إبراهيم أن تكون كل ذريته أئمة، فقال: {قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124]، وفي الآية الأخرى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا} [الصافات:113] أي: إبراهيم وإسحاق {مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} [الصافات:113]. وقال تعالى في شأن بني إسرائيل: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] فلما قدموا الصبر واليقين جعل الله سبحانه وتعالى منهم هؤلاء. وقال سبحانه في شأن لوط عليه السلام وقومه الذين آمنوا به: {نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ} [القمر:35] فلزاماً أن تلتمس الأسباب المؤدية إلى الخير، فإذا التمست هذه الأسباب فتح الله لك أبواب الخير باباً تلو الباب، أما إذا التمست أسباب الشر فكذلك تُهيأ للشر وأعمال أهل الشر، قال الله سبحانه وتعالى: {ثُمَّ انصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [التوبة:127]، وقال: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف:5]، وقال: {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [الأعراف:166]، وقال: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام:44].

الأسباب المعينة على صلاح الأولاد

الأسباب المعينة على صلاح الأولاد

غرس الثقة في نفوسهم ومكافأة النبيه منهم

غرس الثقة في نفوسهم ومكافأة النبيه منهم خامساً: من الأسباب المعينة على صلاح الأولاد: غرس الثقة في نفوسهم ومكافأة النبيه منهم: فيسن أن تغرس الثقة في نفوس الأطفال، فالرسول صلى الله عليه وسلم قد سلك هذا المسلك وسلكه من بعده أصحابه رضوان الله عليهم. فعليك أن تكتشف وتختبر مدى فهم هؤلاء الأطفال الذين أمامك، وهل يفهمون أو لا يفهمون، وبعد ذلك ترتب على هذا التعامل مهم. وقد ورد في حديث معاوية بن الحكم السلمي لما لطم الجارية وجاء آسفاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني رجل أغضب كما يغضب البشر، فكانت لي جارية ترعى غنماً لي، فعدت الذئب على شاة فأخذتها فلطمتها -أي: لطم الجارية على وجهها- فأرسل إليها النبي صلى الله عليه وسلم فسألها: (أين الله؟ قالت: في السماء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اعتقها فإنها مؤمنة) فأخذ بعض أهل العلم من هذا: جواز الاختبار لاستكشاف ما عند الشخص، ثم ترتيب العمل بناءً على هذا الذي يصدر منه بعد الاستكشاف. وينبغي أن يكرم الولد النبيه ويشجع حتى يستمر في نباهته وإقباله على الخير، فـ عبد الله بن عباس رضي الله عنهما كان صغيراً ولكنه كان نبيهاً ذكياً، وقد دعا له النبي صلى الله عليه وسلم بالفقه في الدين. قال عبد الله بن عباس: دخل النبي صلى الله عليه الخلاء فأتيته بماء كي يتوضأ به، فوضعته أمام الخلاء، فخرج فقال: من وضع هذا؟ فقالوا: عبد الله بن عباس، فقال: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل) فدعا له الرسول صلى الله عليه وسلم لفهمه. وفي هذا: جواز خدمة الصغير للكبير، فـ عبد الله بن عباس وضع الوضوء لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأنس كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، حتى في أول الإسلام قال أنس: (كنت ساقي القوم يوم نزل تحريم الخمر، وكان شرابهم النبيذ وكنت أسقي أبا طلحة وأبي بن كعب فلما نزل قوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة:90] قال أبو طلحة: يا أنس! قم إلى هذه الدلال فاكسرها، أو فاهرقها). الشاهد: أنه يسن أو يشرع أن يقوم الصغار بخدمة الكبار، ويتمرنون على ذلك، بل ويتمرنون أيضاً على البيع والشراء، ونحو ذلك. وقد ورد في ذلك: أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذهب إلى بيت أسماء بنت عميس كما سبق، فرأى عبد الله بن جعفر وكان صغيراً، فقال: (اللهم بارك لـ عبد الله في صفقة يمينه) فكان عبد الله تاجراً مع أنه كان صغيراً، وكان يربح أرباحاً طائلة رضي الله عنه ببركة دعوة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. فالشاهد: أن الأطفال يستكشفون، ومن وجد منهم فيه نباهة حُمّل من التعليم ما يوازي نباهته وفهمه، ويكرم ويشجع على هذه النباهة، ولذلك كان أمير المؤمنين عمر يدخل عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما مع كبار السن من الصحابة، ويجلسه معهم في المجالس، وفيهم عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان علي بن أبي طالب وكان لا يتجاوز عمره العشرين سنة وهو يجلس مع هؤلاء الكبار من أهل الشورى، فقال بعض الصحابة لـ عمر: ما لك تدخل هذا الصبي وتجلسه معنا ولنا أبناء أكبر منه سناً؟ فقال: إنه من حيث علمتم - أي: أنه ابن عم رسول الله وقد دعا له بالفقه في الدين- ثم استدعاه يوماً فقال له أمامهم: يا ابن عباس! ما تقول في قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر:1 - 2]؟ فأما الصحابة ففسروها بالظاهر وقالوا: إذا جاء نصر الله ورأينا الناس يسلمون نحمد الله ونستغفره. فقال عمر: ما تقول أنت يا ابن عباس! في هذه الآية؟ قال: أما أنا فلا أقول مثل مقالتهم يا أمير المؤمنين، قال: إذاً فما تقول؟ قال: أقول: إن الله نعى إلى النبي أجله في هذه الآية، قال عمر: وأنا كذلك لا أعلم منها إلا الذي تعلم. وكان الأمر كذلك فقد مات الرسول بعد نزول هذه السورة بفترة وجيزة، وهي آخر سورة كاملة نزلت على رسول الله عليه الصلاة والسلام. فـ ابن عباس قاس الأمور، وعلم أن الاستغفار تختم به الأعمال؛ لأنك إذا نظرت ترى أن المجالس تختم بالاستغفار: (سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك)، والصلوات تختم بالاستغفار: (اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم). ونوح لما انتهى من رسالته ختم الرسالة بقوله بعد أن أغرق الله قومه وأهلكهم: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} [نوح:28]، فيطرد أن الاستغفار تختم به الأعمال؛ فلذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن هذه السورة نعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أجله. فكان عمر يكرم عبد الله بن عباس. وهكذا فكل من وجدت فيه نباهة ينبغي أن يكرم ويشجع حتى يواصل العطاء، فرب كلمة طيبة يتحول بسببها شخص من الفساد أو الكسل إلى الصلاح والنشاط. والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

مداعبة الأطفال بما يناسب سنهم

مداعبة الأطفال بما يناسب سنهم رابعاً: من الأسباب التي تعين على صلاح الأولاد: مداعبتهم وملاطفتهم بما يناسب سنهم: ومع التعويذ تبدأ مسألة الملاطفة مع الأطفال في صغرهم، ولنبينا صلى الله عليه وسلم هديٌ واسع في هذا الجانب، فالولد لا يتحمل التعليم لأول وهلة، إنما تمر عليه فترة يكتشف فيها، ومن ثم يعطى الجرعة المناسبة له من التعليم. قد كان النبي صلى الله عليه وسلم لطيفاً رقيقاً مع الأطفال عليه الصلاة والسلام، فقد جاءه رجلٌ من بني تميم فرآه يقبل بعض أبنائه، فقال: يا رسول الله! تقبلون أبناؤكم؟! إن لي عشرة من الولد لم أقبل أحداً منهم قط، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (وما أملك لك إن كان الله قد نزع الرحمة من قلبك) فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الأطفال، ويداعبهم عليه الصلاة والسلام. قال أنس بن مالك رضي الله عنه: كان لي أخٌ يقال له: أبو عمير، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي إليه فيقول: (يا أبا عمير! ما فعل النغير؟) كان لـ أبي عمير طائر يربطه ويلعب معه، وكلما ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى البيت ناداه: يا أبا عمير!، وكناه بهذه الكنية؛ ففيه جواز تكنية الصغير، أي: يجوز لك أن تكني ابنك وهو صغير، وهذه سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذهب إليهم النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فرآه حزيناً فقال: (يا أبا عمير! ما فعل النغير؟ فقالوا: مات النغير يا رسول الله!) فالشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمازح هذا الطفل ويداعبه؛ إذ سنه وعمره لا يتحمل إلا هذه المداعبة وهذا التلطف، وكناه النبي صلى الله عليه وسلم باسم يحبه، ولذلك يلزمك أن تختار لولدك اسماً طيباً حتى لا تسبب له ألماً بعد ذلك، والرسول صلى الله عليه وسلم كما لا يخفى عليكم غير اسم عاصية إلى جميلة، فيسن أن تختار للولد اسماً طيباً حتى يشكرك بعد ذلك ولا يتأذى من اسمه أمام الناس، ويسن أيضاً أن تعق عنه لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (يعق عن الغلام بشاتين، وعن الجارية بشاة). فالشاهد: أن الرسول كان يتلطلف مع الصبيان. قال أنس: (خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فلم يقل لشيء صنعته: لم صنعته؟ ولا لشيء تركته: لما تركته). وكان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً عليه الصلاة والسلام.

اختيار الأم الصالحة

اختيار الأم الصالحة ثانياً: من الأسباب التي تعين على صلاح الأولاد: اختيار الأم: فعلى الوالد أن يتخير أم الولد ابتداءً، وهذا مطلب شرعي لنفسك ثم لبنيك من بعدك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في بيان صفات المرأة التي تختار: (تنكح المرأة لأربع: لمالها ولجمالها ولحسبها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك) وبعض هذه الصفات لها انعكاس على الأولاد، فالمرأة الجميلة في الغالب أن أولادها يكون في وجوههم مسحة جمال، ولذلك ورد عن معاوية أنه أتى بجارية بيضاء فزوجها لرجل أسمر وقال له: (بيض بها بنيك). وكما أن الجمال ينعكس على الأولاد فالذكاء أيضاً ينعكس وكل هذا بإذن الله، والثراء أيضاً، فإذا تزوجت امرأة ثرية فثراؤها يعود على الأبناء كما هو واضح، لكن محل هذا كله إذا كانت المرأة ذات دين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فاظفر بذات الدين تربت يداك) أما إذا لم تكن ذات دين فهي كما قال تعالى: {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} [البقرة:221]، وقال: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} [البقرة:221]، فعلى الشخص أن يتخير امرأة صالحة لأبنائه تعلمهم كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أخلاق الأم وطباعها ينعكس على البنين والبنات. والرجل إذا اختار المرأة الصالحة وتزوجها فسيبدأ حياته معها بما يرضي الله ثم يكون هذا الزواج في خدمة الأطفال وهذا هو الذي يهمنا. إذا اخترتها ودخلت بها فافعل ما قال لك الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا تزوج أحدكم امرأة أو اشترى خادماً فليأخذ بناصيته وليقل: اللهم إني أسألك خيرها وخير ما جبلتها عليه، وأعوذ بك من شرها ومن شر ما جبلتها عليه) ثم إذا جاء بعد ذلك يجامعها يقول ما علمه إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: (أما إن أحدكم لو أتى أهله قال: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، ثم قدر بينهما ولد لم يضره شيطانٌ أبداً) أي: لم يضره شيطان بشرك أو بمعصية كبيرة لا يتوب منها على ما فسره بعض العلماء، أما صغار المعاصي فلزاماً أن يقع فيها العبد، كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث: (كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدركٌ ذلك لا محالة)، وغير ذلك من الأحاديث.

تعويذ الأبناء بالأدعية الشرعية

تعويذ الأبناء بالأدعية الشرعية ثالثاً: من الأسباب المعينة على صلاح الأولاد: إذا جامع الرجل أهله تعوذ من الشيطان ودعا بصلاح الذرية، كما قالت أم مريم عليها السلام، {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران:36] فتبدأ عمليات التعويذ اليومي المستمر، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يعوذ الحسن والحسين فيقول: (أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة، ومن كل عينٍ لامه)، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن يعوذهما بهذه التعويذات: (إن أباكما إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان يعوذ بها إسماعيل وإسحاق عليهما السلام). وإذا لم تكن تحفظ هذا التعويذ فعوذ بالمعوذات، فأفضل ما تعوذ به المتعوذون: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، و: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1]، و: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] فتبدأ يومياً في مرحلة تعويذ البنين والبنات، حفاظاً عليهم من سهام الأعين والحسد، وسهام إبليس ووسوسته، فكل هذه جنود لا نراها، ولكن لها تأثيرات -بإذن الله- في الصبي، ولا يخفى عليكم أن النبي صلى الله عليه وسلم زار امرأة جعفر بعد قتله فرأى نحافة الأبناء، وقال لها: (ما لي أرى أجسام بني أخي ضارعة -أي: نحيفة - قالت: يا رسول الله! تسرع إليهم العين، قال: فاسترقي لهم) أي: اطلبي لهم من يرقيهم. وفي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى على وجه جارية لـ أم سلمة سفعة، والسفعة هي التغير والسواد، فسأل عن ذلك، فقالت: إن بها النظرة يا رسول الله! قال: (فاسترقي لها) فيسن التعويذ بما ورد في سنة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهي سنن ثابتة. وأيضاً: يحفظ الأولاد في أول الليل، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا كان جنح الليل أو أمسيتم فكفوا صبيانكم واذكروا اسم الله، وأوكئوا القردة، واذكروا اسم الله، وأغلقوا الأبواب واذكروا اسم الله) الحديث، وفي رواية في مسلم (فإن للجن انتشار وخطف) فالشاهد أنه قبيل المغرب يكف الصبيان عن الخروج حتى لا يبطش بهم الجان، ونحن مسلمون نؤمن بالغيب كما قال تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة:3]، وهذا فارق ما بين أهل الإسلام وبين أهل الجحود والكفران. أيضاً: يمنع الصبيان من الخروج في هذا الوقت الذي تنتشر فيه الشياطين كما قال الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (فإذا ذهبت ساعة من العشاء فحلوهم).

استقامة الأباء وصلاح أحوالهم

استقامة الأباء وصلاح أحوالهم أولاً: من الأسباب المعينة على صلاح الأولاد: أن تستقيم أنت في نفسك وتعمل الصالحات، فلعمل الصالحات منك انعكاسٌ على أولادك، فتطييبك لمطعمك ومشربك له انعكاس على أولادك، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف:82] فصلاح الآباء اتجه أو عاد على الأبناء بالنفع، وتحمل الخضر وموسى عليهما السلام المشقة لبناء الجدار بدون أجر، قال الله سبحانه: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الكهف:82] هذا كله لصلاح الأب، وأيضاً ورد أن بعض السلف ونسب القول إلى سعيد بن المسيب أنه قال لابنه: (يا بني! لأزيدن في صلاتي من أجلك) يعني: لو كنت أصلي ركعتين فأصلي أربعاً أو ستاً من أجلك؛ لأن الله قال: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف:82] وهذا المعنى يتأيد بقوله تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء:9] فقولك السديد يبقى أثره إلى الأولاد، فإذا تكلمت كلاماً سديداً في مجلس فيه حقوق للأيتام ستضيع فهذا القول السديد يبقى لك، ويخلفك الله سبحانه وتعالى في بنيك بسبب هذا القول السديد، {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء:9] فعموم أعمال الصالحات وأعمال البر من الرجل تنعكس إيجابياً على أبنائه، فهو في نظرهم القدوة والأسوة.

فقه تربية الأولاد [2]

فقه تربية الأولاد [2] جرى السلف في تربية أبنائهم على تعليمهم معالي الأمور لا سفاسفها، وأعلى المعالي توحيد الله تعالى وعبادته منذ الصغر، فما أن يكبر الطفل ويبلغ حتى يصبح رجلاً يعتمد عليه في ميادين الجهاد. ومما يراعى في التربية أن تكون تربية نظرية بالأقوال والأحاديث والقصص، وعملية بالفعل الحسن والأخلاق الماجدة الرفيعة من كلا الأبوين.

غرس التوحيد ومحبة الله ورسوله في قلوب الأبناء

غرس التوحيد ومحبة الله ورسوله في قلوب الأبناء بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد فإن أهم ما نعلمه الأبناء هو ما بدأ به رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وما جاء في كتاب الله سبحانه وتعال؛ فيجب أن يُعرّفوا بربهم سبحانه وتعالى وبنبيهم محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وتغرس في قلوبهم محبة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

تعليم الأولاد آداب الطعام

تعليم الأولاد آداب الطعام ومما ينبغي تربية الأولاد عليه: آداب الطعام: علم ولدك التسمية عند الطعام كما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم الأطفال، تخيل أن الرسول جلس يأكل مع أصحابه فجاءت جارية كأنما تدفع ووضعت يدها في الطعام، فنزع الرسول يدها من الطعام، ورسول الله أرحم الخلق عليه الصلاة والسلام، فينزع يدها من الطعام ويمنعها من الأكل، ويأتي غلام يجري كأنما يدفع فيضع يده في الطعام، فينزع الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أرحم الخلق يده من الطعام، ويقول له: (إن الشيطان يستحل الطعام إذا لم يذكر اسم الله عليه)، وإنه أتى بهذه الجارية وبهذا الغلام كي يستحل بهم الطعام، (والذي نفسي بيده إن يده - أي: يد الشيطان- مع يديهما في يد). ويقول: (يا غلام! إذا أكلت فسم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك). فلا يأخذك الحياء بل علمهم واتق الله فيهم، فكما قال القائل: وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوده أبوه فليس من يلقنه أبوه كل يوم كتاب الله وسنة رسول الله كمن يلقنه أبوه الكفر والعربدة. يقول عكرمة: (لقد رأيتني وإن ابن عباس لموثقي على تعلم القرآن) يقول: أنا أذكر ابن عباس وهو رابطني حتى أتعلم القرآن، وكان ابن عباس قد رأى في عكرمة نباهة زائدة، فربطه حتى يتعلم كتاب الله، ربطه في وقت التعليم، حتى يحفظ كتاب الله سبحانه وتعالى، فجدير بالشخص أن يراعي أولاده.

تعليم الأولاد آداب الاستئذان

تعليم الأولاد آداب الاستئذان ومما ينبغي أن يربى عليه الأولاد: الاستئذان: علم ولدك الاستئذان كما في قوله تعالى في هذه الآيات الذي فرط الناس في العمل بها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النور:58]، فينبغي على الأب يعلم ولده الاستئذان في هذه الأوقات الثلاث، فلو أن الأب والأم في غرفة النوم قبل الفجر، أو في الظهيرة، أو من بعد صلاة العشاء فعليهما أن يعلما الأبناء الاستئذان ولا يفتحان الباب مباشرة، حتى لا ترتسم صورة في ذهن الطفل فيخرج يطبقها مع أخته أو مع أخيه، فأمر الله بالاستئذان في هذه الأوقات حتى تبقى تصورات الأطفال نظيفة وبعيدة عن التشويش والفساد. وهذا يسوقنا إلى منع الأطفال عن الأفلام التي تعرض في التلفزيونات، وقد امتلأت بالدعارة والرقص والفساد، فالطفل يملأ سمعه وبصره وفؤاده بالمناظر التي يراها من هذا التلفزيون الفاسد، فيخرج يطبقها مع أخته وجارته، وهذا من أهم الأمور التي يجب أن تراعى وهي: إبعاد الأطفال عن التلفزيونات والمسلسلات الخليعة وما ينشر فيها من الفساد، فإن هذا يهدم كثيراً مما تبنيه. فأنت تعلم الولد: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ} [الناس:1 - 3] فيضيع هذا التعليم أمام التلفاز وما يعرض فيه من الفساد، فيدمر كل ما علمته إياه. فجديرٌ بكل أب يريد أن يحافظ على أولاده أن يبعد التلفزيون من بيته جملة واحدة؛ فإن النفع الذي فيه لا يشكل أدنى نسبة بالنسبة للشر الذي فيه، فجدير بكل أب غيور وإن كانت هناك بعض الأشياء التي يراها منافع من التلفزيون؛ أن يبعد التلفزيون جملة وتفصيلاً من البيت سداً للذريعة الموصلة إلى الفساد، وهذا من أهم الأمور التي يركز عليها في تربية الأطفال، فينبغي أن يكون مشرب الأطفال مشرباً واحداً ألا وهو كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. أما إن تعددت المشارب التي يشرب منها الطفل، فالشهوات -والعياذ بالله- لها قبول عند كثير من الناس، فعندما تجد الشهوات القلب فارغاً من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإنها تتمكن منه، فجديرٌ بالشخص أن يبعد أولاده تماماً عن هذه التلفزيونات. وينبغي على الآباء أ، يعلموا أولادهم معالي الأمور، فقد كان أصحاب رسول الله يمرنون أبناءهم على معالي الأمور، بل تخيل أن الصحابي كـ ابن عمر رضي الله عنه يقول: عرضت للجهاد في أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة -يريد أن يمسك سيفاً ويبدأ في قتال الكفار وهو في هذا السن- فردني رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم عرضت عليه في العام المقبل يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. انظر ابن خمس عشرة سنة يشارك في القتال مباشرة. وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: كنت جالساً مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فسأل النبي أصحابه سؤالاً فقال: (إن من الشجر شجرة مثلها مثل المؤمن، فأخبروني ما هي؟)، فوقع الناس في شجر البوادي، ووقع في نفسي أنها النخلة، فجئت أتكلم وأقول: هي النخلة يا رسول الله! فإذا أنا أصغر القوم، فامتنعت عن الكلام، فقال الرسول: (هي النخلة)، فقلت لأبي: يا أبتي! قد وقع في نفسي أنها النخلة، فقال: لو قلتها لكان أحب إلي من حمر النعم. بمَ يفرح عمر؟ هل يفرح لأن ولده أتى بـ (100%) في الثانوية، أم يفرح لأن الولد أجاب على مسألة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟

تعليم الأولاد حسن الخلق

تعليم الأولاد حسن الخلق ومما يربى عليه الأبناء: حسنالخلق: فلا تعلم ولدك سباب أمه كما يفعل الجهلة والذين لا يعلمون، فتجد الوالد الغبي يفرح بولده الذي يسب أمه، وتفرح الأم الجاهلة بابنها الذي يسب أباه، ولا يشعران أن هذا إثم عليهما، وفيه شرٌ عليهما. علم ولدك احترام الكبير، وحقوق الكبير بينها له: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لم يوقر كبيرنا)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أراني الليلة في المنام وأتيت بسواك كي أتسوك به، فناولته لصغير فقيل لي: كبر -يعني: أعطه الأكبر-)، وجاء رجلان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب أحدهما يتكلم وكان هو الأصغر، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (كبر كبر) يعني: الكبير هو الذي يتكلم. فلزاماً أن تعلم ولدك حق الكبير، فعلمه إذا التقى بكبير أن يبدأ الكبيرَ بالسلام -الصغير يسلم على الكبير- كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يسلم الصغير على الكبير)، فالصغير هو الذي يبدأ. وعلمه خدمة الأضياف كما كان أبو بكر يعلم ولده عبد الرحمن، إذ يرسله بالأضياف كي يخدمهم ويقوم عليهم. أيضاً: أعط ولدك حقه الذي شرع له، فكان النبي صلى الله عليه وسلم جالساً ذات يوم وعن يمينه غلام، وعن يساره أشياخ، فأوتي النبي بشراب فاستأذن الغلام، في أن يسقي هؤلاء الذين هم عن يساره؛ فإنه عن اليمين وله حق في ذلك وكان عن اليسار أبو بكر وعمر وأقوام من كبار الصحابة، وعن اليمين غلام، فتخيل سيد ولد آدم يستأذن هذا الطفل الصغير، فيقول الغلام: لا يا رسول الله! لا أوثر بنصيبي منك أحداً. أي: أنا أريد أن أشرب بعدك يا رسول الله! شفتاي تأتي في موطن شفتيك يا رسول الله، ويصر الطفل فيجيبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى طلبه ويسقيه. وقد مرض غلام من اليهود كان يخدم رسول الله، فانطلق إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته فيزوره الرسول يعود غلاماً صغيراً مرض في البيت، تخيل الروح المعنوية التي ترتفع في الطفل لما يرى زميلاً لأبيه جاء يزوره، جاء صديق الأب يزور الولد الصغير في البيت وأتى للطفل بهدية صغيرة، تخيل مدى تأثير هذه الهدية على الطفل، فذهب محمد عليه الصلاة والسلام إلى بيت رجل يهودي. لماذا يطرق الرسول صلى الله عليه وسلم البيت على هذا اليهودي؟ ماذا تريد يا محمد؟ فيقول: أريد أن أزور ابنك الصغير، فيدخل الرسول صلى الله عليه وسلم يزور الولد الصغير وهو مريض فيقول له: (قل لا إله إلا الله) أي: أسلم، فينظر الولد إلى أبيه فيقول أبوه له: أطع أبا القاسم صلى الله عليه وسلم، فيقول الولد: لا إله إلا الله، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الحمد لله الذي أنقذه بي من النار). فعلم ولدك حفظ السر، وقل له: لا تنقل كل شيء تراه أو تسمعه. فهذا أنس يقول: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر فأسر إلي به وأنا صغير، فسألتني أمي - أم سليم - إلى أين تذهب؟ فقلت: ما كنت لأفشي سر رسول الله، فقالت له: إذاً لا تفشي لأحدٍ أبداً هذا السر الذي علمك إياه أو أخبرك به رسول الله صلى الله عليه وسلم. فينبغي أن تعلمه حفظ الأسرار وعدم نقل أسرار البيت إلى الخارج فكل بيت له عورات، قل له: لا تنقل كل ما تراه أو تسمعه، فهذا خطأ، وأدبه بهذا الأدب الذي كن الصحابيات يؤدبن به أبناءهن. قل له إذا رفع صوته أمام أمه أو أخته أو أخيه: {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان:19] كما قال لقمان صلى الله عليه وسلم لابنه، فلا تترك الولد يعبث بالبيت ويصيح ويجري هنا وهنا ويبطش بهذا وبذاك بل أدبه، فإذا لم يجد معه التأديب بالكلام فانتقل إلى ما هو أشد من الكلام إن احتاج الأمر إلى ذلك. وقد ورد حديثٌ في هذا الباب صححه بعض أهل العلم (علق السوط حيث يراه أهل البيت)، أي: ضع العصا في مكان حيث يراه أهل البيت من الأطفال، فهناك أطفال نظرة واحدة تكفي لزجرهم، وأطفال آخرون لا يكفي النظر، ولا يكفي الكلام لزجرهم بل يحتاج معهم إلى نوع من التأديب سواءً باليد أو بالضرب ونحو ذلك، فالله لا يحب الفساد، فلا يترك الولد يسرق ويعبث ونقول: نحتاج إلى أدلة خاصة، بل الأدلة العامة تضبط لنا هذه القضية، فمنها: قوله تعالى: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205].

تعويدهم على أعمال الخير والبر

تعويدهم على أعمال الخير والبر ومن تربية الأبناء أن تجتهد أن ترسم في ذهن ولدك مناظر البر وأعمال الخير، فخذه معك للحج أو للعمرة إذا وسع الله عليك، فقد رفعت امرأة صبياً لها وقالت: (يا رسول الله! ألهذا حج؟ قال: نعم ولك أجر) فإذا أخذت ولدك -المميز خاصة- إلى الحرم وحببته في الكعبة وفي الطواف حول الكعبة، ووقفت به على الصفا والمروى، ونزلت به وشربت من زمزم أنت وهو، وارتسمت في ذهنه هذه المناظر؛ كنت أنت مأجور؛ لأنك تعلم ولدك الخير وتملأ قلبه وسمعه وبصره وفؤاده بلبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك. وهل تستوي أنت مع من أخذ ولده إلى المصيف ورأى العراة والعرايا، أو من أخذه إلى السينما ورأى الفساد العريض، أو إلى المسارح ووجد فيها هذا الفساد المدمر؟ أو هل تستوي أنت مع من أخذ ولده إلى النادي يشجع الكابتن فلان والكابتن فلان؟ لا يستويان {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ} [السجدة:18]، {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28] {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21]، إذا سويت بين الرجل الذي يأخذ ولده ويمرنه على صلاة الفرض والنفل والتراويح، ويعوده على صلاة الجنائز في الحرم، والطواف حول البيت العتيق، ويريه مقام إبراهيم وحجر إسماعيل، ويريه الركن اليماني، ويعلمه الدعاء ورمي الجمار، بمن مرن أولاده على شرب الخمر، وأرسل ولده يشتري له السجائر، أو المخدرات فهذا ظلم عظيم. فخذ ولدك معك لأعمال البر وخذه معك إلى المساجد، وعلمه الورع. يقول الحسن بن علي وقد كان صغيراً في زمان رسول الله: (حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)، ورأى النبي صلى الله عليه وسلم تمرة في فم الحسن بن علي من تمر الصدقة فنزعها من فِيه، وقال: (كِخ كخ، أما علمت إنَّا آل محمد لا نأكل الصدقة) انظر إلى هذا الورع وهو طفل صغير غير مكلف، لكن مع ذلك فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يقره على أن يدخل في بطنه لقمة لا تحل له، فقال: (كخ كخ، أما علمت إنَّا آل محمد لا نأكل الصدقة) فانظر إلى تصرف رسول الله مع الحسن! ينزل مرة من على المنبر وهو يخطب للناس الجمعة فيحتضن الحسن ويقبله، ثم المرة الثانية يستخرج التمرة من فيه، فالمباح لا بأس بالإقبال عليه وعمله، والمحرم يجب أن يوقف عنده ولا يتمادى معه.

تعليم الأولاد الصلاة فرضها ونفلها

تعليم الأولاد الصلاة فرضها ونفلها ومما يربى عليه الأبناء بعد التوحيد: إقامة الصلاة، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة) وتعليمه الصلاة يبدأ من سن السابعة. ولكن قبل السابعة هل أعلمه الصلاة أم لا؟ المسنون قبل السابعة اصطحاب الصبيان إلى المسجد، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إني أدخل الصلاة أريد إطالتها فأسمع بكاء الصبي فأخفف من شدة وجد أمه عليه)، وقال لما أمر بالتخفيف في الصلاة: (من أمَّ الناس فليخفف؛ فإن وراءه الكبير والصغير وذا الحاجة) فالصغار كانوا يصطحبون إلى المسجد، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يحمل أمامة على كتفه وهو يصلي؛ فإذا سجد وضعها وإذا قام رفعها صلى الله عليه وسلم. بل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب خطبة فرأى الحسن والحسين مقبلين فنزل من على المنبر واحتضنهما وقال: (صدق الله إذ يقول: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:15]، رأيت هذين فلم أصبر عليهما). الشاهد: أن الشخص يشرع له أن يعلم الأولاد الصلاة وهم أبناء سبع لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (علموا أولادكم الصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع) لكن قبل السبع إن علمهم فلا يشدد عليهم في التعليم، فهذا هديه صلى الله عليه وسلم. وليعلم أن يختلفون فمنهم من يستوعب قبل السبع، ومنهم من لا يستوعب، ولكن التقعيد العام أن الأولاد يبدأ تعليمهم الصلاة وهم أبناء سبع كما قال الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فيعلمون ويمرنون على الفرض مع النفل، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يصلي في الليل واليتيم خلفه والعجوز خلفهما، واليتيم يطلق عليه يتيم؛ لأنه دون البلوغ، فيمرن الأطفال على صلاة الفرض والنفل، وإن كان فيهم كفاءة فلا مانع أبداً أن يقدموا للصلاة، فيقدم ويشجع إذا كان ذكاؤه يسمح بذلك ويتسع له، ويعلم أيضاً الصوم ويدرب عليه، وينبغي للأم أن لا تحملها شفقتهما على أن تمنع ولدها من الصيام، فإذا بكى الولد من الجوع فلا ينبغي للأم أن تأخذها العاطفة، وتطعمه وتفطره من الصيام، والربيع بنت معوذ رضي الله عنها قالت: (كنا نصوم عاشوراء ونصومه صبياننا، فإذا جاع أحدهم جعلنا له اللعبة من العهن - أي: من الصوف - حتى يأتي وقت المغرب) ليس بمجرد الجوع أو البكاء من الجوع تقدم له الإفطار، بل قالت: إذا بكى أحدهم - أي: من شدة الجوع- جعلنا له اللعبة من العهن؛ لأن كثيراً من الآباء يخاف على ولده من الصوم، ويمنعه منه، وكثير من الأمهات إذا خرج ولدها لصلاة الفجر تمنعه حتى لا يصاب بالبرد، فهؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمون أولادهم وبناتهم الصيام وعمر يقول لرجلٍ سكران: (ويحك! وصبياننا صيام)، يعني: أنت تفطر يا كبير وعندنا الأطفال الصغار يصومون. ويسن أيضاً: تعويدهم على صوم الفرض والأطباء يعرفون ما في الصيام من فوائد.

توحيد الله أول ما يربى عليه الأبناء

توحيد الله أول ما يربى عليه الأبناء أصل التربية: أن يعرف الأبناء بربهم سبحانه وتعالى وبنبيهم محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وتغرس محبة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في قلوبهم، فيعلمون الله سبحانه وتعالى له الأسماء الحسنى كلها، وأن الله يراهم في كل موقف ومقام كما قال لقمان عليه السلام لولده الوصية الجامعة التي جمعت الأصول والفروع معلماً إياه كما قال الله: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، فتحذر الولد من الشرك تحذره تحذيراً شديداً، وتخبره أن الشرك يجعل صاحبه خالداً في النار، وتبين له صور الشرك، وتعلمه أن قوله: (لولا الكلب لجاءنا اللصوص) من الشرك في الألفاظ، وتعلمه أن دعاء غير الله لا يجوز، وتعلمه أن كلام الشيعة الذين يقولون: إن السماء تمطر بإذن علي بن أبي طالب أن هذا باطل، وتعلمه المعتقد الصحيح الذي اعتقده رسول الله صلى الله عليه وسلم واعتقده أصحابه، {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]. وهذه الوصية أيضاً وصى بها يعقوب عليه السلام بنيه عند الموت فقال: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132] جمعهم عند الموت فقال لهم: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي} [البقرة:133]، فالذي يبدأ به الإنسان في تعليم، ويعلمه الأطفال؛ التوحيد؛ لأن الله قال: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65]، {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]. ثم يأتي التحول في الخطاب فيقول الله سبحانه: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ} [لقمان:14] لم يحك هذا على لسان لقمان عليه السلام، فيستفاد من هذا التحوّل في الخطاب: أن الوالد لا يطلب حقه مباشرة من الولد، فلا يقول له: من حقي عليك أن تفعل لي كذا وكذا، وإن كان هذا جائز، لكن يلمح له بطريق آخر، حتى لا يظن الولد أن في تعليم أبيه له مصلحة له، فلذلك تحول السياق وقال الله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ} [لقمان:14]، فلم تأت على لسان لقمان بل جاءت في سياق أنها من كلام الله سبحانه وتعالى، فلو كان لك حق على الولد فلا تقل له: حقي عليك كذا وكذا، وتعدد حقوقك على ولدك فيسأمك ويضجر منك، ولكن عرّض له تعريضاً وعلَّمه تعليماً. والتعليم الذي صدر من لقمان بدأ بالأصول أصلاً أصلاً ثم بدأ بالتدريج. قال: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان:14 - 15]، والملاحظ أنه ركز على {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ}، فيؤخذ من هذا التركيز: أن تعلم ولدك مصادقة أهل الصلاح، وأن يتبع سبيل من أناب ورجع إلى الله، فعلمه مصادقة الصالحين، وقل له: لا تصادق أهل الشر والفساد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك: إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير: إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحاً نتنة) {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان:15] قل له: يا بني! اختلط بأهل الصلاح والخير، فهم أصدقاء لك في الدنيا والآخرة، واتل عليه قول الله سبحانه: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67]. ثم قال في الوصية: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان:16] كل هذا تعريف بالله سبحانه وتعالى. من هو الله سبحانه وتعالى الذي تعبده؟ هو: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء:218 - 219]، هذا هو الله سبحانه وتعالى الذي تعبده. {إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان:16].

ما ينبغي على الآباء مراعاته في تربية الأبناء

ما ينبغي على الآباء مراعاته في تربية الأبناء علينا أثناء تربية الأولاد أن نعدل بين الأولاد؛ فإن عدم العدل يسبب فساداً في البيت، فلا نقول العدل بين البنين والبنات فإن هذا أصل لابد منه أيضاً، إنما نقول العدل بين الأبناء وبعضهم البعض. جاء بشير بن سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! إني نحلت ابني هذا نحلة -يعني: وهبته هبة- وجئت أشهدك يا رسول الله، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ألك ولد غيره؟ قال: نعم يا رسول الله! قال: وكل ولدك أعطيته مثل هذا؟ قال: لا يا رسول الله! قال: ارجع فإني لا أشهد على جور)، فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم، واعلموا أن عدم العدل يسبب فساداً بين الأولاد. والعدل يكون في كل شيء حتى في المحبة القلبية؛ إذا أبرزتها حدث فساد بين الأولاد، وإن كانت المحبة القلبية لا يملكها شخص لكن يحاول جاهداً أن يضبطها أمام الأولاد، ألا ترى أن إخوة يوسف قالوا: {لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ} [يوسف:8 - 9]، ما هو الحامل لهم على قتل يوسف؟ ليس كما قال بعض المفسرين: إن يوسف قص الرؤيا عليهم، الرؤيا التي رآها؛ {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف:4]، لذا فخططوا لقتله، فقد تقلد هذا القول بعض المفسرين وهو قولٌ ليس عليه دليل، إنما الدليل الصريح هو ما ذكروه {لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يوسف:8] ثم اتجه تخطيطهم للاغتيال: {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ} [يوسف:9] لا تكن في البيت يا عبد الله! سيء الأخلاق، تخال أنك إذا سببت زوجتك وابنك وابنتك فإنك ستجني عاقبة ذلك ولو بعد حين، حتى المرأة إذا سبت ابنتها فإن ابنتها سوف تتعلم هذه الأخلاق، ثم ما تلبث أن تتزوج فإذا تزوجت اتبعت مع زوجها الأسلوب الذي اتبعته أمها مع أبيها، لكن الزوج الجديد له خصال أخرى، فلا تلبث إلا يسيراً وتطلق وترجع إلى أمها البذيئة فتجني عاقبة ووبال أمرها. فلا تجعل في البيت صخباً ولا سباباً ولا إثماً فالأولاد يتعلمون منك، ويلقطون الخصال الطيبة أو السيئة منك، فليكن الأب حتى إن دبت بينه وبين زوجته مشكلة متأنياً متأدباً بآداب الإسلام مراعياً لأولاده، فلا يحطم نفسيات الأم أمام الأطفال، ولا يظهر المشاكل أمامهم، وإذا أراد أن يعاتبها فليأخذ زوجته في مكان بعيداً عن الأطفال وليعاتب بعيداً عنهم، حتى لا تدمر نفسيات الأطفال، فإذا سمع مقالات سيئة من أمهم أو أبيهم فإنهم يتعدون على ذلك. الشاهد: أن الأخلاق الطيبة في البيت من الأبوين تنعكس على الأولاد والبنات. وينبغي أن لا تفرق بين البنين والبنات في التعامل كالجهلة الذين يطعمون البنين أولاً ثم يتركون الفتات للبنات، فالله يقول: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} [النساء:11] لا تدري هل البنت أنفع لك في دنياك وأخراك، أو الولد أنفع لك في دنياك وفي أخراك؟! وبالجملة فكن ودوداً مع ابنك، واجعله يعرف قدرك، ويعرف أنك أب بأسلوبٍ طيب مهذب، واسمع إلى مشاكله أحياناً وله حدودٌ لا يرتقي فوقها، فلا تمرنه على رفع الصوت على أمه، بل اضبطه وازجره عن رفع الصوت على أمه، وكن دائماً متبعاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في هذا الباب. وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ما يقال للزوج في ليلة الزفاف

ما يقال للزوج في ليلة الزفاف ليلة الزفاف هي أول ليلة يلتقي فيها الزوجان، وقد يقع بينهما من سوء التفاهم ما يضر بالعلاقة الزوجية، فعلى الزوج أن يعالج ذلك بحكمة، وكذلك قد تتصرف الزوجة تصرفاً غير سليم يحتاج من الزوج إلى صبر، ولا يعالج الخطأ بالخطأ.

فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: فبين يدي كلمتنا نذكّر بشيء من فضل الصلاة والسلام على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: يقول النبي صلوات الله وسلامه عليه: (من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً)، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يسلم عليَّ إلا رد الله عليَّ روحي حتى أرد عليه السلام)، ويقول صلى الله عليه وسلم: (إن لله ملائكة سياحين يبلغوني من أمتي السلام)، هناك -كما لا يخفى عليكم- ملائكة موكلون برحم المرأة، وملائكة موكلون بقبض الأرواح، وملائكة وقفوا على أبواب المساجد يكتبون الأول فالأول، وملائكة وقفوا على أبوب القرى يسجلون الذين يزورون إخوانهم في الله، وملائكة وكلت بالرعد، وملائكة وكلت بالحفظ والكتابة، وملائكة وظيفتهم حمل الصلاة والسلام إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم من المصلين عليه، هذه وظيفتهم فقط، فهم يبحثون في الطرقات إن وجدوا أحداً تلفظ بالصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم حملوا ذلك إليه قائلين: فلان بن فلان يسلم ويصلي عليك يا رسول الله، فيرد النبي صلى الله عليه وسلم عليك مصلياً مسلماً، فإذا غنمت من هذا المجلس خمس صلوات على رسولك محمد، صلى الله عليك بها خمسين صلاة، وكذلك صلى وسلم عليك نبيك محمد عليه الصلاة والسلام، فينبغي أن يُحرص على الاستكثار من الصلاة والسلام على النبي محمد صلى الله عليه وسلم؛ امتثالاً لأمر الله حيث قال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، ورغبة في الأجر والثواب.

عبرة وعظة من قوله تعالى: (وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا)

عبرة وعظة من قوله تعالى: (وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثاً) موضوعنا في ليلتنا هذه إن شاء الله تعالى، كلمات حول آية من الآيات لعلنا والزوج ننتفع بها، وأنتم تعرفون أن كتاب الله كتاب مبارك كله خير، شهد الله له بذلك، فقال تعالى عن كتابه الكريم: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص:29]، وقال تعالى: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ} [الأنبياء:50] فكتاب الله كتاب مبارك، كل كلمة منه فيها نفع، يقتبس منها هدي، ويُتأدب منها بأدب، وقد قال رسولنا صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) وقال ربنا: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران:79] فتعلُمنا آية يرفعنا الله بها درجة، فضلاً عن الاستفادة في الآداب والأخلاق وغير ذلك. والآية التي تناسب المقام والزوج هي قول الله تبارك وتعالى: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم:3]. قوله تعالى: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} [التحريم:3] ما السر الذي أسره النبي صلى الله عليه وسلم إلى أزواجه؟ ابتداءً: للآية ولما قبلها من الآيات سببان من أسباب النزول كلاهما صحيح، وكما يقول علماؤنا يرحمهم الله: (قد تتعدد أسباب النزول للآية الواحدة)، فيحصل أمر، ثم يحصل أمر آخر، ثم يحصل أمر ثالث، فتنزل الآية في كل الأسباب التي حدثت، فيأتي صحابي جليل يقول: الآية نزلت في كذا، ويأتي الآخر يقول: الآية نزلت في كذا، وقد نزلت الآية فيهما جميعاً، فأحياناً تتعدد أسباب النزول للآية الواحدة. فهذه الآية والآيات التي سبقتها تعددت لها أسباب النزول وهي صحيحة، فمنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب الحلوى والعسل، فكان يدخل عند أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها، فيطيل المكث عندها فتسقيه عسلاً، فغارت عائشة وحفصة رضي الله عنهما، فتواطأتا فيما بينهم، وقالت واحدة منهما للأخرى: أيتُنا دخل عليها الرسول صلى الله عليه وسلم فلتقل له: ما هذه الريح التي أجدها منك يا رسول الله؟ هل أكلت مغافير، إني أجد منك ريح مغافير. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب دائماً أن يكون طيب الرائحة، وكان يحث على ذلك ويحذر من رديء الرائحة وخبيثها، وكان يقول: (من عُرض عليه ريحان فلا يرده فإنه طيب الريح خفيف المحمل)، وكان يقول للذي أكل ثوماً أو بصلاً: (من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزلنا وليعتزل مساجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم) فكان الرسول طيب الرائحة، يقول أنس: (ما شممت ريحاً قط أطيب من ريح رسول الله صلى الله عليه وسلم). فالشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عند زينب وقد شرب عسلاً، فلما دنا من عائشة واقترب منها قالت: ما هذه الريح التي أجدها منك يا رسول الله؟ أأكلت مغافير؟ إني أجد منك ريح مغافير يا رسول الله؟ فشق ذلك على رسول الله وقال: (لا، ولكني شربت عسلاً) فقالت عائشة رضي الله عنها: جرست نحله العرفط، يعني: أنت شربت عسلاً، والنحل الذي أخرج هذا العسل كان يرعى في شجر ليس بطيب الرائحة وهو شجر العرفط، فأخرج عسلاً ليس بطيب الرائحة فسكت الرسول عليه الصلاة والسلام. ثم ذهب إلى حفصة رضي الله عنها، فلما اقترب من حفصة قالت: يا رسول الله! ما هذه الريح التي أجدها منك؟ هل أكلت مغافير؟ إني أجد منك ريح مغافير، قال: (لا، ولكني شربت عسلاً ولن أعود، وقد حلفت فلا تخبري بذلك أحداً) فنزلت الآيات: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم:2]. الآيات. وهناك سبب نزول آخر: كما لا يخفى عليكم أن الرجل إذا كان متزوجاً باثنتين لزمه أن يقسم لكل واحدة منهما يوماً وليلة، ولكن إذا كانت عنده أمة من الإماء فلا يجب عليه أن يقسم لها، إنما يأتيها في الوقت المتيسر له من ليل أو نهار، فكانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع نسوة، وكانت عنده جارية يقال لها: مارية، فكان يقسم للتسع ولا يقسم لـ مارية؛ لأنها أمة من الإماء. فالحاصل أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على مارية ليلة، فعلمت بذلك حفصة، فقالت: أفي نوبتي وعلى فراشي؟ قال: (لن أعود ولا تخبري بذلك أحداً وقد حلفت)؛ فنزلت {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم:1] فهذان سببان من أسباب النزول. ويستفاد مما سبق: أن النساء ذوات حيل، كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (إنكُن لأنتنُ صواحب يوسف)، فالنساء ذوات حيل قد تكون في الخير أو تكون في غيره. وهذه أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها جاءها رجل من الفقراء ذات يوم فقال لها: يا أم عبد الله! إني أريد أن أبيع في ظل داركِ، قالت: إن الزبير رجلٌ غيور، وإذا جئت تبيع في ظل داري غار الزبير، فانتظر حتى يأتي الزبير فاسأله واستأذنه، فلما جاء الزبير جاء الرجل الفقير يقول: يا أم عبد الله! إني أريد أن أبيع في ظل داركِ فهل تأذنين لي؟ قالت: الدور كثيرة أما وجدت غير ظل داري فابتعد الرجل، فقال الزبير وقد أخذته الشفقة بالرجل: كيف تمنعين رجلاً فقيراً من البيع في ظل داركِ؟ قالت: تأذن له أنت؟ قال: آذن، قالت: من أجلك أذنت له أن يبيع في ظل داري. إذاً: قد تكون الحيلة في الخير وقد تكون الحيلة في غير ذلك. الشاهد: أن النبي أسر إلى بعض أزواجه حديثاً، قيل إنها حفصة، والسر هو قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تخبري بذلك أحداً) فالذي أسر بالسر هو الرسول عليه الصلاة والسلام، وأسره لفاضلة من الفضليات وأم من أمهات المؤمنين، وأكد عليها بقوله: (فلا تخبري بذلك أحداً) فأفشت زوجة رسول الله سر رسول الله، فأطلع الله النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الإخبار، وعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن زوجته أفشت السر، ونزل عليه قول ربه تعالى: {فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} [التحريم:3].

الحث على الرفق بالمرأة والتجاوز عنها

الحث على الرفق بالمرأة والتجاوز عنها من قول الله تعالى: {فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} [التحريم:3] نتعلم آداباً وأخلاقاً كريمة؛ فقوله: {عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} [التحريم:3] يقول العلماء يرحمهم الله: إن المرأة إذا أخطأت عشرة أخطاء فإن من الظلم لها أن تؤاخذها في الأخطاء العشرة، وإنما تؤاخذها في بعض الأخطاء وتعفو عن البعض الآخر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في شأن النساء: (إنهن ناقصات عقل ودين)، فإذا جئت تعامل ناقص العقل كما تعامل الكبير العاقل ظلمت ناقص العقل؛ فإذا كان هناك طفل، وجئت أُعامله معاملة الكبير وأحاسبه كما أحاسب الكبير، قال الناس عني: مجنون، ولكن هذا الطفل الصغير يُعفى له عن بعض أخطائه ويؤاخذ بالبعض الآخر. فكذلك المرأة إذا صدر منها أخطاء -لأنهن ناقصات عقل ودين- فلا تؤاخذ المرأة بكل الأخطاء التي تصدر منها، ولكن تؤاخذها في البعض وتعفو لها عن البعض، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول ما يؤيد ذلك، يقول: (إن المرأة خُلقت من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإذا ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوجاً، فاستوصوا بالنساء خيراً)، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يفرك مؤمن مؤمنة -أي: لا يبالغ في انتقاصها وازدرائها- فإن كره منها خلقاً رضي منها آخر)، ويقول عليه الصلاة والسلام: (الناس كإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة)، فالناس عموماً كالإبل المائة، إذا جئت تختار ناقة سريعة المشي، قليلة الأكل، طيبة المركب، هادئة الطبع، فقد تجد ناقة واحدة تتوافر فيها الخصال القوية والجيدة في مائة ناقة. كذلك الناس، كإبل المائة، تبحث عن رجل صالح وطيب، واصل للرحم، مقيم للصلوات، متبع للجنائز، يحضر مجالس العلم، ينكر المنكر، ويقر المعروف، تجد في المائة واحد، فإذا كان الناس كذلك، فالنساء من باب أولى، فلابد وأن تجد في المرأة عيباً، وإذا ظننت أنك لن تجد عيباً في المرأة فأنت مخطئ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا آسيا ومريم عليهما السلام). فإذا جئت تبحث عن امرأة جميلة، فقد تجد الجميلة لكن نسبها ليس بطيب، وقد تجد الجميلة ذات النسب الطيب لكنها مبذرة مسرفة، وقد تجدها مقتصدة لكنها فاشلة في عمل البيت لا تعرف الطهي، فيفسد بسببها الطعام يوماً بعد يوم، وقد تجدها جميلة وطيبة وتعرف الطهي ومقتصدة، لكن تفاجأ بأنها عقيم لا تلد، وقد تجدها ولوداً لكن سليطة اللسان، فلزاماً أن تجد خللاً في المرأة؛ لأن النساء ناقصات في الأصل، ويدل على ذلك وصف الرسول لهن بذلك، وقد قال ربنا أيضاً: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء:5] والسفهاء تفسيرها عند أكثر العلماء: النساء والصبيان، وقد قال الله تعالى أيضاً في شأن النساء: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ} [الزخرف:18] أي: ينشأ من الصغر في الحلية والزينة، فالبنت من صغرها تُلبسها أمها ثوباً جميلاً، وعقداً وحلقاً وغير ذلك. كما قال الشاعر: وما الحلي إلا زينة من نقيصة يتمم من حسن إذا الحسن قصّرا أما إذا كان الجمال موفراً فحسنكِ لم يحتج إلى أن يزوّرا المرأة أصلاً ناقصة العقل، ولن تستطيع أن تجدها كاملة أبداً، وأسوق لك أمثلة على ذلك من خير القرون، قرن النبي عليه الصلاة والسلام، فمثلاً: أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها: إن سألت عن نسبها، فهي ذات نسب، فهي ابنة عمة رسول الله عليه الصلاة والسلام، وإن سألت عن جمالها فهي في غاية الجمال، تقول عائشة: -مع أن زينب كانت ثيباً- فهي التي كانت تساميني في المنزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. من ناحية النسب فهي ذات نسب، من ناحية الجمال جميلة جداً، من ناحية الدين فقد كانت في غاية الاجتهاد في العبادة، وكانت تقوم من الليل تصلي، فإذا تعبت علقت حبلاً في السقف تربط به وسطها حتى لا تسقط وهي تصلي، إلى أن رأى النبي صلى الله عليه وسلم الحبل فقال: (ما هذا؟ قالوا: حبلٌ لـ زينب إذا قامت تصلي من الليل ففترت تعلقت به، فقال عليه الصلاة والسلام: حلوه، ليصلي أحدكم نشاطه فإذا فتر فليقعد) فهي رضي الله عنها مصلية كثيرة التطوع. كذلك إن سألت عن صدقتها رضي الله عنها فقد كانت كثيرة الإحسان والتصدق، تشتغل في بيتها شغلة فتأتي بالجلود وتدلكها تمهيداً لدباغتها، وتأخذ مقابل ذلك نقوداً لا لشيء إلا كي تتصدق بهذه الأموال، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأزواجه ذات يوم: (أسرعكن لحاقاً بي -يعني: التي ستموت من بعدي- أطولكن يداً) فكن نساء النبي يقسن الأذرع: من أطولهن ذراعاً؟ فكانت سودة بنت زمعة أطولهن ذراعاً، لكنهن فوجئن بأن التي ماتت بعد الرسول هي زينب بنت جحش، فعلمن أن المراد بطول اليد طول اليد بالصدقة، فقد كانت يدها رضي الله عنها كريمة سخية بالصدقة. إذاً: من ناحية النسب هي ذات نسب، من ناحية الجمال ذات جمال، من ناحية العبادة ذات عبادة، من ناحية الصدقة متصدقة محسنة. قبل أن يتزوجها الرسول صلى الله عليه وسلم تزوجها زيد بن حارثة رضي الله عنه، ولكنها رضي الله عنها كان في لسانها حِدة تسرع، لكنها تراجع نفسها سريعاً، وقد تصدر منها كلمات شديدة ثم بعد ذلك تعتذر عن هذه الكلمات، فكانت رضي الله عنها مع زيد بن حارثة رضي الله عنه وعنها على هذا المنوال، فيأتي زيد يشكوها للرسول صلى الله عليه وسلم فيقول: زينب تصنع وتصنع يا رسول الله، وتقول كذا، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم واعظاً له: (أمسك عليك زوجك واتق الله)، ولكن قدر الله وما شاء الله فعل، آل الأمر إلى أن طلقت من زيد بن حارثة، فقال الرسول لـ زيد لما انقضت عدتها: (اذهب فاخطبها لي) فذهب يخطبها للرسول، فقالت لـ زيد: ما أنا بصانعة شيئاً حتى أستخير ربي عز وجل -أي: لست بموافقة ولا رافضة حتى أستخير الله عز وجل- فذهبت إلى مصلاها تصلي، فزوجها الله من فوق سبع سماوات: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب:37] فدخل عليها الرسول صلى الله عليه وسلم بدون إذن منها ولا من أوليائها، فقد زوجها الله من فوق سبع سماوات، وكانت تفخر بذلك على سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وتقول: (كلكن زوجكن أهاليكن وأنا زوجني الله من فوق سبع سماوات). الشاهد من هذا معشر الإخوة: أنها رضي الله عنها مع كل ما فيها من خير وجد فيها شيء وهو حدة لسانها. تقول عائشة: ما رأيت امرأة أورع ولا أخشى لله، ولا أتقى لله، ولا أتقن للعمل الذي تتقرب به إلى الله من زينب بنت جحش، وهي التي كانت تساميني من نساء النبي صلى الله عليه وسلم في المنزلة عند رسول الله، وهي وإن كانت حادة اللسان إلا أنها كانت تراجع نفسها بعد ذلك. هذه امرأة مع ما فهيا من خير اعترتها حدة اللسان. ننتقل إلى عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، فهي عالمة، فقيهة، جميلة حسناء، صديقة بنت صديق، تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بكراً، خصال الخير مجتمعة فيها، لكن قدر الله أن تكون عقيماً لا تلد للرسول صلى الله عليه وسلم، وأيضاً فقد كانت شديدة الغيرة، أرسلت امرأة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم طعاماً للنبي في قصعة وهو عند عائشة، فقامت عائشة رضي الله عنه إلى حجر وضربت القصعة بقوة فكسرت القصعة بما فيها. فقد كانت رضي الله عنها شديدة الغيرة حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (غارت أمكم غارت أمكم). وننتقل إلى امرأة أخرى من النسوة الفضليات: إلى ذات النطاقين أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، أسماء ذات النطاقين، كانت تعلف فرس الزبير زوجها وتسوسه، وتجمع النوى وتدقه للفرس، وتخدم الزبير، وفيها خصال خير كثيرة جداً، لكنها كما تقول هي عن نفسها: (لكني كنت لا أحسن الخبيز، فكانت لي جارات صدق كنّ يخبزن لي ويهدينني الخبز).

هدي السلف في التعامل مع أخطاء الزوجة

هدي السلف في التعامل مع أخطاء الزوجة الحاصل من ذلك أيها الأخ الكريم: أنك إذا أردت أن ترى في المرأة كل خصال الخير ستفشل في الحياة معها، وتأكد من هذا، فالنساء ناقصات عقل ودين، وخصال الخير ما اجتمعت في امرأة إلا في امرأتين آسيا ومريم عليهما السلام، فإذا أخطأت زوجتك عشرة أخطاء فتجاوز لها عن خمسة وعاقبها في خمسة. قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: والله إني لا أحب أن استنصف جميع حقي على امرأتي -يعني: أنا لا أحب أن آخذ جميع حقوقي من امرأتي- لأن الله يقول: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة:228]. يعني: لابد أن تكون أنت الأفضل، أما إذا أخطأت المرأة عشرة أخطاء، وجئت تؤاخذها بالأخطاء العشرة فأنت رجل ناقص العقل، قد جعلت نفسك كالمرأة بالضبط سواءً بسواءً، ولكن أهل الفضل يتركون لمن دونهم أخطاءً يخطئون فيها، وأهل العقل الكامل يتركون للمجانين ولأصحاب أنصاف العقول شيئاً من الأخطاء يخطئون فيها؛ وإلا فلو آخذوهم بكل الأخطاء التي تصدر منهم لظلموهم. فعلى الزوج أن يراعي الزوجة ويعلم أنها ليست كالرجل، فإذا جاء يعاملها كما يعامل الرجال سيفشل، فإذا جاء يطبق المعاملات مع الرجال هي هي سواءً بسواء مع النساء سيفشل، فالرجل مع الرجل قد يتكلم بكلمة شديدة، لكن النسوة لا يتحملن ذلك. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (رفقاً بالقوارير) قد تشتد مع الرجل في الكلمة وتشتمه أحياناً، ويتحمل لأنه رجل، كما يقولون: جثته قوية يتحمل، لكن بالنسبة للمرأة فلو تتكلم بكلمة يسيرة جداً ترى الدمع يذرف من عينها، فالنساء رقيقات القلوب، والنبي صلى الله عليه وسلم أوصى بهن خيراً، لما كان الرسول في سفر وكان أنجشة حادياً لرسول الله، يغني للإبل أغاني أو يحدو بكلمات ينشط الإبل على المسير، فكان ينشط الإبل فتسرع الإبل في المسير، والنسوة فوق الإبل، فيقول الرسول: (يا أنجشة رويدك، رفقاً بالقوارير). يعني: إذا حدوت كثيراً فالإبل حينئذٍ ستمشي سريعاً، فيخشى على النساء من السقوط، (يا أنجشة رويدك يا أنجشة، رفقاً بالقوارير). وفي هذا الباب أيها الإخوة -باب المؤاخذة ببعض الشيء والعفو عن الشيء الآخر- أذكرّ بما حدث للنبي عليه الصلاة والسلام مع عائشة رضي الله تعالى عنها، وأذكر موقفين حدثا لرسولنا محمد صلى الله عليه وسلم مع عائشة رضي الله عنها. تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يحب خديجة حباً شديداً، فقد حزن النبي صلى الله عليه وسلم حزناً شديداً على فراق خديجة رضي الله تعالى عنها، وكان النبي عليه الصلاة والسلام حسن العهد لا ينكر المعروف، ولا يجحد الإحسان، فلما ماتت كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من ذكرها، وإذا ذبح ذبيحة يقول لنسائه: (أرسلوا إلى أصدقاء خديجة) وهذا من حسن العهد. وفي يوم جاءت هالة بنت خويلد، أخت خديجة تستأذن على الرسول عليه الصلاة والسلام، فارتاح النبي صلى الله عليه وسلم بقدومها، فغارت بسبب ذلك عائشة رضي الله عنها، فقالت للرسول: كل يوم تذكر خديجة، خديجة، خديجة، ما تذكر من امرأة عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين -تعني: أن أسنانها سقطت من فمها، وأنها كبيرة في السن، ولم يبق في فمها إلا حمرة الشدقين- قد أبدلك الله خيراً منها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني رزقت حبها) ولم يشدد صلى الله عليه وسلم على عائشة رضي الله عنها لما تكلمت بهذا الكلام، وإنما قال: (إني رزقت حبها). والشاهد في ذلك أنه لما كان الحامل لـ عائشة على ما قالته هو الغيرة الشديدة لم يشدد النبي صلى الله عليه وسلم في مؤاخذتها رضي الله عنها. وحصل موقف آخر من عائشة رضي الله عنها، حاصله: أن عائشة رضي الله عنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله حسبك من صفية كذا وكذا -أي: يكفيك من صفية كذا- وأشارت بيدها إلى أنها قصيرة -يعني: ما الذي عند صفية - فقال عليه الصلاة والسلام حينئذٍ: (يا عائشة! لقد تكلمتِ بكلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته) واشتد الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم على عائشة رضي الله تعالى عنها. فالشاهد: أن الزوج عليه أحياناً أن يؤاخذ، ولا يترك المجال دائماً للزوجة تتصرف كما تشاء، وعليه أحياناً أن يعفو، وله أحياناً أن يؤاخذ، على حسب ما يقتضيه المقام، فهذا هدي نبيكم محمد صلوات الله وسلامه عليه. وكان عليه الصلاة والسلام أحياناً يمازح عائشة رضي الله عنها، بل ويسابقها، وفي الوقت نفسه يقول عليه الصلاة والسلام: (رحم الله رجلاً قام من الليل يصلي فأيقظ امرأته فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل تصلي فأيقظت زوجها فإن أبى نضحت في وجهه الماء) كان صلى الله عليه وسلم أحياناً يسابقها فقد خرج مسافراً ذات يوم، فأمر الجيش بالتقدم وعائشة كانت معه فقال: (سابقيني يا عائشة فسابقته عائشة فسبقته) وكانت صغيرة، ثم لما تقدم بها العمر قال: (سابقيني يا عائشة -في واقعة مشابهة- فسبقها النبي صلى الله عليه وسلم وقال: هذه بتلك) ومع ذلك فهو صلى الله عليه وسلم لا يقصر في إيقاظها للصلاة، فإذا أراد أن يوتر أيقظها فأوترت رضي الله تعالى عنها. فرسولنا صلى الله عليه وسلم كان وسطاً في أموره وأذكر على ذلك مثالاً يتعلق بالاحتياط مع حسن الظن بالزوجة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا طال أحدكم الغيبة فلا يطرق أهله ليلاً يتخونهم يلتمس عثراتهم) يعني: إذا تأخرت في السفر فلا تأت تفاجئ الزوجة بالطرق والفتح السريع تتخونها، فقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال: (ولكن أمهلوا حتى تمتشط الشعثة وتستحد المغيبة) أي: حتى تزيل شعر عانتها للفترة التي غاب عنها زوجها. في ذات يوم رجع أبو بكر رضي الله عنه وكان قد تزوج بـ أسماء بنت عميس بعد مقتل زوجها جعفر رضي الله عنه، فوجد في البيت رجالاً، فذهب يشكوها إلى النبي فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (يا أبا بكر هل رأيت شيئاً تكرهه؟ قال: ما رأيت إلا خيراً يا رسول الله، قال عليه الصلاة والسلام -مدافعاً عن أسماء - إن الله قد برأها من ذلك) أي: برأها مما تظنه بها، ثم قام خطيباً فقال: (ألا لا يدخلن رجل على امرأة مغيبة بعد يومي هذا إلا ومعه الرجل أو الرجلان والثلاثة) فمع أنه كان حسن الظن إلا أنه أيضاً سلك سبيل الاحتياط لأمته، فقال ما قد سمعتموه، وقد قال مع ذلك أيضاً: (إياكم والدخول على النساء، فقام رجل فقال: أرأيت الحمو يا رسول الله -يعني: أخو الزوج- فقال عليه الصلاة والسلام: الحمو الموت) أي: خطره كخطر الموت، فمنع الرسول من دخول ابن العم أو ابن الخال أو قريب الزوج على الزوجة، وبين أن خطره كخطر الموت وقال: (ألا لا يخلون رجلٌ بامرأة فإن ثالثهما الشيطان). وأرجع فأقول موصياً نفسي والزوج وإخواني: إذا أخطأت الزوجة في عشرة أخطاء فلا تؤاخذها في الأخطاء العشرة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم عرف بعضه وأعرض عن بعض، بل آخذها في خمسة وأعفو لها عن خمسة، ولا تظن أيها الزوج أن المرأة كالرجل، فالله يقول: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} [آل عمران:36] فالرجل جُبل على أمور وهي جُبلت على أمور، جُبلت هي على الضعف، وأنت قواك الله، فلا تستطل ولا تبغِ عليها، قال تعالى: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء:34] أي: الله أكبر منك إن ظننت أنك قوي على زوجتك تظلمها بلا سبب ولا مبرر، فأيقن أن الله أقوى منك وأقدر عليك منك على زوجتك، فكن رحيماً رفيقاً. يقول نبيكم محمد عليه الصلاة والسلام: (خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي)، وقال في رواية: (خيركم ألطفهم بأهله)، وقال عليه الصلاة والسلام: (ما كان الرفق في شيء إلا زانه وما نزع من شيء إلا شانه)، وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد الله بأهل بيت خيراً أدخل عليهم الرفق، وإذا حرمهم الرفق فقد حرموا الخير) أو كما قال عليه الصلاة والسلام. وفقنا الله وإياكم لعمل ما يرضيه، ولحسن التعامل مع القريب والبعيد، ومع الزوجة والولد، والجار الجنب والصاحب بالجنب، وصل اللهم على نبينا محمد وآله وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

مراعاة الأحاسيس

مراعاة الأحاسيس جاءت تكاليف الشريعة وفق استطاعة المكلف، قال تعالى: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)، ومن أعظم سمات هذا الدين رفع الحرج عن المكلفين، ومراعاة قدراتهم ومشاعرهم وأحاسيسهم، وهذا دليل على أن الإسلام دين يسر وسهولة، لا دين مشقة وحرج.

مراعاة مشاعر الأحياء بالكف عن موتاهم

مراعاة مشاعر الأحياء بالكف عن موتاهم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده رسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. وبعد: فقد جاء الشرع الكريم بالرحمة والرأفة ورفع الحرج، فما جعل علينا في الدين من حرج، وراعى قدرات الخلق وإمكاناتهم وأجاز أموراً ممنوعة للضرورة، قال تعالى {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:173]، وقال تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:119]، فالشاهد من ذلك: أن قدرات الناس يجب أن تراعى، وكذلك الأحاسيس والمشاعر. ومن ذلك: مجيء عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مات أبوه عبد الله بن أُبي، وكان رأس المنافقين كما هو معلوم، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! استغفر لأبي، وألبسه قميصك!) يعني: لعله أن يُرحم بسبب ذلك، وكان هذا قبل أن ينزل قول الله تبارك وتعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة:84]، ففعل النبي صلى الله عليه وسلم ما طلبه عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول منه، فاستخرجه وألبسه قميصه، ونفث فيه من ريقه واستغفر له، ولما جاء عمر وقال: يا رسول الله! تستغفر له وقد قال كذا يوم كذا وكذا؟ فقال: (أخر عني يا ابن الخطاب! إني خُيرت فاخترت) يعني: أن الله قال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة:80]. فما دام أنه لم يكن هناك نهي وثمّ جبر لخاطر عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول وهو رجل مؤمن؛ فلا مانع من جبر الخاطر وتهدئة المشاعر، لذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أخر عني يا ابن الخطاب!) إلى أن نزل قوله تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة:84]، فانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد. ومن مراعاة الأحاسيس أيضاً: قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (لا تسبوا الأموات؛ فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا)، فسب الأموات فيه أذىً للأحياء، ولذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن سب الأموات مراعاة لأحاسيس الأحياء، والله تبارك وتعالى أعلم. اللهم! إلا إن كان هذا الميت قد سن سنة سيئة في المسلمين، فحينئذٍ يُذكر للتحذير منه، كما قال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} [القصص:8]، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار) يعني: أمعاءه، إذ هو أول من سيب السوائب، فكان يأتي إلى الناقة فيشق أذنها ويقول: هذه سائبة، أي: متروكة للآلهة لا تقرب بسوء ولا ينتفع بها ولا بلبنها، ولا بأصوافها ولا بأوبارها. فالشاهد من ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر عمرو بن لحي؛ لكونه سيب السوائب، وذكر أنه رآه يجر قصبه في النار، وقد قال الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد:1 - 2]، فالشاهد: أن لمسألة سب الأموات فقهاً، وأن الأصل عدم سب الأموات، اللهم إلا إذا دعت ضرورة لسبهم ولبيان أحوالهم؛ لكونهم سنوا في الناس سنناً سيئة، فحينئذٍ يُذكرون بمساويهم؛ حتى يحذرهم الناس، ويحذروا سننهم، والموفَّق هو الله سبحانه وتعالى. أما إذا لم تكن ثمّ حاجة إلى ذكرهم بسوء، فحينئذٍ يضرب الذكر صفحاً عنهم، قال فرعون لموسى على نبينا وعلى موسى السلام: {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى} [طه:51 - 52]، وقد قال عدد من العلماء لما سُئلوا عن الخلافات التي دارت بين الصحابيين الكريمين علي ومعاوية رضي الله عنهما، قالوا: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة:134].

مراعاة المشاعر والأحاسيس بمراعاة القدرات

مراعاة المشاعر والأحاسيس بمراعاة القدرات من مراعاة المشاعر القدرات: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إني أدخل الصلاة أريد إطالتها فأسمع بكاء الصبي فأخفف من شدة وجد أمه عليه)، فيخفف النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة؛ بسبب بكاء الصبي شفقةً عليه وعلى أمه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ معاذ بن جبل لما صلى بالناس صلاة العشاء وأطال في الصلاة إذ استفتح بالبقرة، فانفض رجل من خلف معاذ وفارقه وأتم صلاته وحده، فبلغه أن معاذاً نال منه، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكوه إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفتانٌ أنت يا معاذ!؟ أفتانٌ أنت يا معاذ!؟ أفتانٌ أنت يا معاذ!؟ من صلى بالناس فليخفف؛ فإن من ورائه الضعيف والسقيم وذا الحاجة، وإذا صلى لنفسه فليطول ما يشاء) أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.

مراعاة المشاعر والأحاسيس بدفع الشبه

مراعاة المشاعر والأحاسيس بدفع الشبه من مراعاة الأحاسيس والمشاعر أيضاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم لدفع الشكوك عن شخصين من أصحابه: (على رسلكما إنها صفية)، فقد جاءت صفية بنت حيي رضي الله تعالى عنها إلى النبي صلى الله عليه وسلم تزوره في معتكفه، فمكثت عنده ساعة، فذهب النبي صلى الله عليه وسلم يردها إلى بيتها، وكان بيتها قريباً من دار أسامة بن زيد، فرآها رجلان من الأنصار فأسرعا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (على رسلكما إنها صفية!) فقالا: سبحان الله! وشق ذلك عليهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً -أو قال: شراً- فتهلكا).

مراعاة المشاعر والأحاسيس بتجنب النجوى

مراعاة المشاعر والأحاسيس بتجنب النَّجوى من مراعاة الأحاسيس والمشاعر أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجَ اثنان دون الآخر حتى تختلطوا بالناس، من أجل أن ذلك يحزنه)، وعلى الإطناب يقول العلماء: إذا كنتم خمسة فلا يتناجَ أربعة دون الخامس، وإذا كنتم عشرة فلا يتناجَ تسعة دون العاشر، كل ذلك لدفع الشكوك عن المسلمين، ولمراعاة مشاعر المسلمين وجبر خواطرهم، لكن إن دعت ضرورة إلى التناجي حينئذٍ يُتناجى بالقدر الذي تدعو إليه الضرورة، وإلا فرب العزة يقول: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [المجادلة:10]، وقد ناجى النبي صلى الله عليه وسلم ابنته فاطمة في حضور أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، وعنده سائر أزواجه أيضاً، فخص فاطمة رضي الله تعالى عنها بسر، فسألتها عائشة رضي الله عنها عن سر النبي صلى الله عليه وسلم فلم تبح لها به، ثم لما مات صلى الله عليه سولم أباحت لها به، لدفع الشكوك عن عائشة بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم.

مراعاة المشاعر والأحاسيس بترك بعض المندوبات لتأليف القلوب

مراعاة المشاعر والأحاسيس بترك بعض المندوبات لتأليف القلوب من مراعاة المشاعر أيضاً: قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لـ عائشة: (يا عائشة! لولا أن قومكِ حديثو عهد بكفر؛ لنقضت الكعبة ولبنيتها على قواعد إبراهيم، ولكن أخشى يا عائشة! أن تنكر قلوبهم).

مراعاة المشاعر والأحاسيس بدفع الشكوك عن المسلمين

مراعاة المشاعر والأحاسيس بدفع الشكوك عن المسلمين من أبواب مراعاة المشاعر والأحاسيس: دفع الشكوك عن المسلمين، وفي ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه الخصوم ليقضي بينهما قال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده! لأقضين بينكما بكتاب الله عز وجل) وذلك كالوارد في حديث العسيف لما جاء النبي رجل فقال: يا رسول الله! إن ابني كان عسيفاً عند هذا فزنا بامرأته -أي: كان أجيراً عند هذا فزنا بامرأته- وإنهم قضوا بأن على ابني مائة شاة ووليدة، وإني سألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم مطيباً الخواطر: (والذي نفسي بيده! لأقضين بينكما بكتاب الله عز وجل). وكذا لما جاء بنو مخزوم إلى النبي عليه الصلاة والسلام يستشفعون عنده بـ أسامة بن زيد كي يتجاوز عن قطع يد السارقة، قال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) كل ذلك لدفع الظنون والشكوك عن هؤلاء القوم. فهذا باب يجب أن يُراعى، ألا وهو مراعاة الأحاسيس والمشاعر والقدرات، ودوماً الموفق من وفقه الله، وفقنا الله وإياكم لكل خير، وصلِّ اللهم على نبينا محمد وآله وسلم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

موعظة الحكيم لقمان

موعظة الحكيم لقمان لقد احتوى كتاب الله عز وجل الكثير من المواعظ والدروس والعبر، ومن هذه المواعظ: موعظة لقمان لابنه، حيث حذره فيها من الشرك بالله، وأنه ذنب عظيم، وأمره بإقامة الصلاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على ذلك، وحثه على الأخلاق العالية السامية مع الغير.

حاجة الناس إلى المواعظ

حاجة الناس إلى المواعظ إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. وبعد: إن الله سبحانه وتعالى أمر نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يذكّر وأن يعظ، فقال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} [النساء:63]، وقد امتثل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الأمر من ربه، فكان يعظ خير المواعظ، حتى إن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظةً بليغةً وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع فأوصنا) فذكر الحديث. وكان الوعظ أيضاً من شأن الأنبياء عموماً، فقد خرج نبي الله موسى عليه السلام ذات يوم إلى بني إسرائيل فوعظهم موعظة بليغة حتى ذرفت الدموع على اللحى، فكان -ولا يزال- الوعظ عملاً مأموراً به أمر الله به في كتابه، وفعله رسولنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم في سنته. وخير وعظ دوماً وعظ يستقى وتستقى مادته من كتاب ربنا ومن سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، إذ الله قال: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق:45]، وقال تعالى: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية:6].

موعظة لقمان الحكيم لابنه

موعظة لقمان الحكيم لابنه بين أيدينا موظعة لقمان الحكيم لابنه، وبين يدي الموعظة يقدم ربنا سبحانه وتعالى ثناءً على الواعظ حتى تتقبل موعظته، وتبلغ محلها من القلوب، فيقول تعالى مقدماً تلك الموعظة: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [لقمان:12]، يثني ربنا سبحانه وتعالى على الواعظ الحكيم لقمان فيقدم مقدمةً بين يدي تلك الموعظة بقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} [لقمان:12]. فيذكر ربنا أنه آتى لقمان الحكمة؛ فعلى ذلك يستعد لاستقبال ما يعظ به لقمان، فالذي أثنى عليه هو ربه تبارك وتعالى، فمن ثمّ ينبغي أن تستقبل موعظته بآذان صاغية واعية. أما عن لقمان فلم يرد له ذكرٌ في الكتاب العزيز إلا في هذا الموضع، ولم يرد له ذكرٌ في الثابت الصحيح -فيما علمت- من سنة النبي صلى الله عليه وسلم إلا في حديث ضعيف: (خير السودان ثلاثة: بلال ولقمان ومهجع مولى عمر بن الخطاب) رضي الله عنه، إلا أن الخبر لا يثبت، فعلى هذا يكتفى بتعريف لقمان من الوارد في هذه الآيات، بيد أن روايات من الموقوفات على الصحابة أو التابعين ومن الإسرائيليات أفادت مطلقةً على ذلك أن لقمان كان عبداً أسود حبشياً قصيراً ذا مشافر -أي: شفاه عظيمة- عظيم القدمين مشقق القدمين، فهذه كلها في الجملة في نظرنا صفات دمامة، إلا أن الحكمة غطت هذا كله، قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]. فهو وإن كان أفطس الأنف أسود الوجه ذا مشافر مشقق القدمين لكن الحديث يقول: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسادكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وإلى أعمالكم)، وقال صلى الله عليه وسلم: (التقوى هاهنا) -وأشار صلوات ربي وسلامه عليه إلى صدره ثلاث مرار. قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} [لقمان:12]، فنعم ما أوتي لقمان؛ إذ الله تعالى قال: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة:269]، ونبي الله قال: (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين). وكل نعمة تحتاج إلى شكرٍ يلائمها ويناسبها، فقال تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} [لقمان:12] أي: حتى تزداد عليك هذه النعم قدم لله شكراً يوازيها، وقدم لله شكراً يكافئها. فحتى تزداد علينا نعم ربنا يلزمنا أن نقدم لها شكرا، قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7]. قال تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} [لقمان:12]، عائدة شكرك فعائدة عليك، وشكرك عائدٌ أثره الجميل عليك، وإلا فالله غني عن العالمين، قال تعالى: {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [لقمان:12]، فإن الله غني عنه وعن شكره، حميدٌ للشاكرين.

حث لقمان ولده على التواضع

حث لقمان ولده على التواضع يقول لقمان لولده ناهياً عن الكبر حاثا على التواضع: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} [لقمان:18] أي: لا تكلم الناس وأنت معرضٌ عنهم بوجهك، بل كلمهم وأنت مقبل بوجهك عليهم. كما قال عليه الصلاة والسلام: (لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط)، قال: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} [لقمان:18]، بل كلمهم ببشاشة وطلاقة وجهٍِ وإقبالٍ عليهم، فهكذا يعلم لقمان ولده. قال تعالى عن لقمان: {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا} [لقمان:18] أي: لا تمش مختالاً متعالياً، {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان:18] قال تعالى عن لقمان: (( A=6003487>> وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} [لقمان:19]، والمراد: الاعتدال في المشي غير الإسراع الزائد المخل بالتوازن، وغير مشية البطيء المتمارض، وهذا وجهٌ، كما قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63]، فالمشي المتوسط مشي لا تكاد معه تسقط ويختل منك التوازن، ولا مشية المريض المتباطئ، بل التوسط مطلوب. وهناك وجهٌ آخر أن المعنى: (واقصد في مشيك)، أي: اقتصد في أعمالك فالاقتصاد والسمت الحسن جزءٌ من ستة وأربعين جزءاً من النبوة كما قال النبي عليه الصلاة والسلام. قال تعالى: {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان:19]، فليس من الأدب رفع الصوت. قال فريق من العلماء: إن الحمار يبدأ بزفيرٍ لا يبدأ بشهيق، فيكون صوته أسوأ الأصوات وأعلاها، ورفع الصوت تشبه عن التشبه بالحمير. فالوصايا بدأت بعظائم الأمور، فبدأت بالنهي عن الشرك، وانتهت بآداب وأخلاق ومعاملات، وصدق سلمان لما قالت له اليهود: يا سلمان! نرى نبيكم يعلمكم كل شيء، فهل علمكم الخراءة -أي: كيف تقضون الحاجة-؟ قال: أجل علمنا نبينا كل شيء، وعلمنا نبينا كيف نقضي حاجتنا إذا دخلنا الخلاء وذكر طرفا من آداب ذلك ومنه: (ألا نستقبل القبلة ببول أو غائط ولا تستدبر، ولا نستنجى باليمين، وعلمنا الإيتار عند الاستنجاء)، وذكر جملة الآداب رضي الله تعالى عنه. فهذا وعظٌ مستقى من كتاب ربكم، فاقرءوا كتاب الله قراءة المتدبر الذي يريد أن يعمل، لا قراءة المتصفح المتفكه بما في الكتاب من قصص وحكايات، بل اقرءوا كتاب ربكم قراءة العامل المتدبر، وقراءة قارئٌ يقرأ ليفقه ثم ليعمل، ثم لينجو أمام ربه، وليكون القرآن حجة له لا عليه، أسأله جل وعلا أن يجعل كتابه حجة لنا جميعاً لا حجة علينا.

أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال تعالى عن لقمان: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ} [لقمان:17]. الصلاة هي عمود الدين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فهي أعظم ركنٍ بعد الشهادتين. قال تعالى: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ} [لقمان:17]، أي: لا تتقاعس يا بني عن الأمر بالمعروف، بل أمر بالمعروف وانهَ عن المنكر، ولا تترك -يا بني- الفساد يستشري، وذكّر الناس بأمر الله، وحذرهم من معصيته، ولا تكن جباناً خواراً ضعيفاً، ولا تكن ساكتاً عن الحق. والأمر والنهي يستتبعان في الغالب ابتلاءات، فهنا تأتي الوصية بالصبر: (واصبر على ما أصابك). أي: يا بني! إن أمرت بمعروف أو نهيت عن منكر فابتليت -وأنت تلزم الحكمة والموعظة الحسنة- فاصبر على ما أصابك، كقوله تعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3]. فالتواصي بالحق يستتبع بلاءً، فمن ثم جاء الحض على التواصي بالصبر، فدع الجبن جانبا. فيا معشر الدعاة دعوا الجبن جانباً، ودعوا الخور جانباً، إن الطيب عند الله هو الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر والمقيم لحدود الله، أما الساكتون عن الحق فهؤلاء شياطين، والذين يرون المنكرات ويقرونها ولا تهتز لهم شعرة وحدود الله تنتهك وأوامر الله تضيع ليس لهم من الأجر نصيب. إن أمة محمد فضلت على سائر الأمم بقول الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]. ولقد حث ربنا على الأمر بالمعروف وذكّر به، قال تعالى في كتابه الكريم. {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104]. وقال تعالى: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} [هود:116]، ومعنى (أولوا بقية) أي: من صلاح، فالآمر بالمعروف والناهي عن المنكر ينجيه الله تعالى. وقال عليه الصلاة والسلام: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)، فلماذا ترضون بالدنية في دينكم وتختارون دوماً حالات أضعف الإيمان؟ ولماذا تؤثرون أضعف الإيمان في كل الحالات وقد علمتم أن الآمر الناهي ناجٍ بإذن الله، قال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف:165].

تعريف لقمان ابنه بسعة علم الله

تعريف لقمان ابنه بسعة علم الله يقول لقمان: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان:16]، فيبين لقمان لولده سعة علم الله سبحانه وتعالى وإحاطته بجميع الأمور، فيقول لولده -وهكذا ينبغي أن نعلم أولادنا، ونعرفهم بربنا-: (يا بني إنها) أي: المعمولة سواءٌ أكانت خطيئة أو حسنة: {إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ} [لقمان:16] أي: فتكن عملت في صخرة: أي: عملتها وأنت داخل صخرةٍ أحاطت بك من جميع جوانبها (أو في السموات أو في الأرض) أي: عملت في صخرة. أو في السماوات، أو في أي مكان في السماوات، أو في أي مكان في الأرض (يأت بها الله) أي: توافى بها يوم القيامة، فأي سيئةٍ عملت في قاع البحار، أو وراء أبواب قد أوصدت، وفي غرف قد أغلقت (يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ)، فهكذا يعرّف لقمان ولده بربه سبحانه، وهكذا ينبغي أن نعرف أولادنا بربهم وخالقهم، وسعة علمه وإحاطته وعظيم فصله وقضائه وقدره، وأن الأمر كله إلى الله، فهو الذي يعز ويذل، وهو الذي يرفع ويخفض، وهو الذي يوفقك -يا بني- في الامتحانات، وهو الذي يخذلك إن عصيته، فهكذا نعرف أبناءنا بربنا وخالقنا.

أول وصايا لقمان لابنه

أول وصايا لقمان لابنه بدأت استهلالات تلك الموعظة، بقول الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ} [لقمان:13] أي: واذكر أيها الذاكر، واذكر يا رسول الله، واذكر يا من تتلو كتاب الله: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، هذه أولى وصايا لقمان عليه السلام وأولى وصايا الأنبياء، وآخر وصاياهم كذلك، قال تعالى: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:133]. وفي وصيته أيضاً قال الله تعالى عنه: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132]، فبدأ لقمان في وصيته محذراً من الشرك الذي يحبط الأعمال جميعها، قائلاً: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]. قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ} [لقمان:14]، ولم يجر هذا على لسان لقمان لحكمة بليغةٍ إذ هو الذي يعظ، فلا يعظ لتعود عليه عائدة من وعظه، حتى لا يُفهم أمره على غير وجهه، فجاءت الوصية بالوالدين من غير لقمان وهو الله تعالى. قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان:14]، جاء بالتذكير بالوالدة بعد الوالدين؛ إذ هي أحق الناس بحسن الصحبة -كما قال صلى الله عليه وسلم- وقد سئل: (من أحق الناس بحسن صحابتي يا رسول الله؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال ثم من؟ قال: أمك. قال ثم من؟ قال: أبوك). والوصايا بالوالدين تكررت كثيراً في كتاب ربكم، قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23]، وقال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء:36]. وفي الحديث: (أي العمل أفضل يا رسول الله؟ قال: الصلاة على وقتها. قيل: ثم أي؟ قال: ثم بر الوالدين، قيل: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله)، فَقُدّم بر الوالدين على الجهاد معشر الكرام، وكذا في أبواب الجرائم، في الحديث: (أي الذنب أعظم؟ قيل: الشرك بالله، قال: ماذا؟ قال: ثم عقوق الوالدين. وكان متكئاً فجلس. فقال: ألا وقول الزور. ألا وقول الزور. ألا وقول الزور، فما زال يكررها حتى قال الصحابة: ليته سكت)، فبر الوالدين عملٌ يستشفع به لدفع البلايا والمصائب، وتعلمون أن الثلاثة أصحاب الغار فرّج عنهم بأعمالهم، وكان عمل أحدهم بره بوالديه، وأويس الذي كان به برص دعا الله فشفاه من البرص بسبب بره بوالدته، والنصوص في هذا متظافرة متكاثرة. قال تعالى: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} [لقمان:14] أي: ضعفاً على ضعف، قال تعالى: {وَفِصَالُهُ في عامين} [لقمان:14] أي: وفطامه في عامين، وهو آخر أمد من الرضاعة كما قال الجمهور من العلماء، فكل رضاعةٍ بعد الحولين لا تحرم على الصحيح من قول الجماهير. قال تعالى: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان:14]، فقدم شكراً -أيها المرء- لربك، ثم قدم شكراً لوالديك. ثم قال تعالى مبيناً أمراً: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15]، فطاعة الله فوق كل طاعة، ثم طاعة رسول الله عليه الصلاة والسلام من طاعة الله، وهي فوق كل طاعة كذلك، ونزلت الآية في سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه، وهي قوله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} [لقمان:15]، فقد أسلم سعد وكان من السابقين رضي الله عنه، وأبت أمه إلا الكفر، فدعته فقالت له: يا سعد: يا بنيّ: ما هذا الدين الذي اعتنقت؟ -وكان بارّاً بأمه- لتراجعن نفسك، ولترجعن عن دينك أو لأمتنعن عن الطعام وعن الشراب حتى أموت فتعيّر ويقال لك: يا قاتل أمه. فقال لها سعد: يا أمي! لن أرجع عن ديني -إن شاء الله- ما حييت، فامتنعت عن الطعام يوماً وليلة، فأصبحت وقد أجهدت، ثم واصلت الامتناع يوماً آخر وليلة، ويوماً ثالثاً وليلة، حتى كانوا يفتحون فمها بالقوة ويصبون لها الطعام والشراب، ففي بعض الروايات عند الطبراني أنه قال: والله -يا أميّ- لو أن لك مائة نفس، فخرجت نفساً نفسا ما تركت دين محمد، فكلي إن شئت أو لا تأكلي، فأكلت. وفي ذلك نزلت: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} [لقمان:15]، فلا طاعة في معصية الله، ولكن مع ذلك: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15]، ثم قال تعالى: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان:15] أي: اسلك سبيل الصالحين، اقتفِ آثار الصالحين، اعمل كعمل الصالحين، كما قال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90]، وكما قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115]، فللمؤمنين سبيلٌ ينبغي أن يُسلك. يقول تعالى: {ثم إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان:15]، أي: مرجع المطيعين وكذا مرجع العصاة، وإليّ مرجع الآباء وكذا مرجع الأبناء، (فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

حكم الاحتفال بالإسراء والمعراج

حكم الاحتفال بالإسراء والمعراج إن الإسراء والمعراج، نقول: الإسراء والمعراج حق، ولا شك في هذا ولا مراء، وقد ثبت ذلك بالكتاب وبالسنة وبالإجماع، فقد أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بورك حوله، ثم عُرج به إلى السماوات، وهنالك فرضت الصلوات، وهذا ثابت بالكتاب وبالسنة وبالإجماع، ثم إن جمهور أهل السنة على أن الإسراء كان بروح الرسول وجسده، وكان ذلك يقظة كذلك، وهذا ما عليه جمهور أهل السنة والجماعة وفقهم الله لكل خير. وقد أراه الله سبحانه آيات عجائب، وأراه الأنبياء، وكانت هذه الحادثة فتنة للناس، وفتنة لمن في قلبه مرض، أما أهل الإيمان فيعلمون أن الله على كل شيء قدير، ثم كان فيها من وجوه الإعجاز ما كان فيها، فكانت فيها جملةُ وجوه من وجوه الإعجاز. ومن هذه الوجوه: أن النبي عليه الصلاة والسلام لما كذبته قريش وسألته عن المسجد الأقصى، قالت له: تزعم أنك ذهبت إلى المسجد الأقصى وصليت بالأنبياء فيه، فصف لنا هذا المسجد؟ ولم يكن النبي قد أدركه إدراكاً كاملا، فجلّى الله له المسجد الأقصى فرآه رأي عين، فطفق يصفه لهم وصفاً دقيقاً فتعجبوا وقالوا: أما الوصف فقد صدق فيه. صلى الله عليه وسلم. فلا شك ولا امتراء أن قضية الإسراء والمعراج حق. ولكن لم يثبت سندٌ ببيان تاريخ هذه الحادثة، فهل هي في ليلة السابع والعشرين من رجب؟ أم هي في شهر ربيع؟ أم هي في ذي القعدة؟ أم هي في شعبان؟ أم في أوائل رجب؟ فلم يثبت بذلك خبرٌ عن المعصوم عليه الصلاة والسلام، ولا عن أحدٍ من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بيد أنها وقعت إجماعاً كما بينا، ثم على فرض ثبوت تاريخ هذه الليلة، لم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم احتفل بها، ولم يرد أن الصحابة من بعد رسول الله احتفلوا بها وجعلوها عيداً كما يصنع الناس الآن، ولم يرد أن التابعين احتفلوا بذلك، ولا أتباع التابعين، ولم يرد أن أصحاب المذاهب الفضلاء الأربعة احتفلوا بها، والغالب على الظن أن الذين أدخلوها هم المنسوبون كذباً على فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين يقال لهم: (الفاطميون) وهم البرابرة الذين أتوا من المغرب واستوطنوا مصر فأحدثوا فيها، وأدخلوا في الدين ما ليس منه، وأدخلوا في الدين هذه البدع والخرافات والترهات التي تجدونها في الموالد التي يُشرك بها بالله، ويسأل من غير الله المدد، فضلاً عما فيها من البدع. فمن كان مقتدياً برسوله محمد فليقتد به في سنته، قال تعالى:: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31]، أما أن تزعم محبة هذا الرسول وأنت تعصي أمره، وتزعم المحبة وأنت تشتري الحلوى وتشارك في البدع والمنكرات فليست تلك بمحبةٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وليست من اتباع السنن بحال من الأحوال.

كلمة في الانتخابات الديمقراطية

كلمة في الانتخابات الديمقراطية إن الله سبحانه أخذ العهود والمواثيق على من أوتوا علما أن يبينوه للناس ولا يكتموه، فقال الله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران:187]، ولقد قال ربنا -وهي أشد على من أوتي علماً- في كتابه {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة:63]. فنظرة إلى ما يجري حولنا من أمور الانتخابات نجد أنه فيها كلٌ يدلي بصوته، فالرجل يدلي بصوته، والمرأةٌ تدلي بصوتها، والمسلمٌ يدلي بصوته، والكافرٌ يدلي بصوته، والفاسق الفاجر يدلي بصوته، وكل هذا لا وجه له في الشريعة الغراء، فليس في الشريعة الغراء لكافر وجه في الإدلاء بصوته، وليس في الشريعة الغراء أن فاسقا فاجراً سكّيرا عربيدا يدلي بصوته، وفي الشريعة الغراء فرق بين الرجل والمرأة، ثم إذا رجعنا إلى عهد سلفنا الصالح لم نر تلك الانتخابات بهذا التوصيف، لا على عهد أبي بكر، ولا عمر ولا عثمان، ولا علي، ولا غير هؤلاء. والعلماء يقولون: تنعقد الخلافة بأحد أمور أربعة: الأمر الأول: أن يكون هناك نص من الكتاب والسنة على واحد بعينه، فهذا لا محيد عنه. ولكن هذا لم يعد متحققاً بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد تمام لدين، وكان هذا في الأمم من قبلنا؛ إذ الله تعالى قال: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ} [ص:26]، وكذلك كانت بنو إسرائيل تسوسهم أنبياؤهم. الأمر الثاني: أن تجتمع في الخليفة صفاتٌ تؤهله لذلك سماها نبينا، وبينت في كتاب ربنا سبحانه وتعالى، ثم يبايع أيضاً من قِبل أهل الحل والعقد من المسلمين. الأمر الثالث: أن يأتي إلى السلطة بالقوة، فيحكم الناس عنوةً ويقيم الشرع، فهو ما وصل إلى مقامه باستخلاف رشيد، وإنما وصل بالقوة وهو يقيم الشرع، فقال كثير من العلماء -كما نقل عنهم القرطبي: -: يسمع له ويطاع في المعروف حقناً لدماء المسلمين. الأمر الرابع الذي يتأتى به الاستخلاف -كما قال العلماء-: أن يستخلف خليفة راشد خليفة راشداً آخر، كما استخلف أبو بكر عمر رضي الله عنه. ومن الجدير بالذكر أن عمر في مرض موته لما طُعن أتاه القوم فقالوا له: استخلف يا أمير المؤمنين. قال: إن أترك -أي: إن أترك الناس بلا استخلاف- فقد ترك من هو خيرٌ مني رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرسول لم ينص صراحة على استخلاف أحد، وإنما استفاد بعض العلماء من الإشارات استخلاف أبي بكر في حديث: (مروا أبا بكر فليصلِ بالناس)، واستفاد بعضهم استخلاف علي لحديث: (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى)، والحق أنه لم يستخلف؛ لقول عمر: (إن أترك فقد ترك من هو خيرٌ مني، وإن أستخلف فقد استخلف من هو خيرٌ مني -يعني: أبا بكر -، ثم قال: لكني أترك الأمر شورى في هؤلاء الستة الذين مات الرسول وهو عنهم راض، فسمى عثمان وعلياً وطلحة والزبير وسعداً وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم، فهذه الأمور الأربعة التي ذكرها علماؤنا للوصول إلى الحكم.

من لوازم الإمارة أو الرئاسة

من لوازم الإمارة أو الرئاسة من الشروط التي وضعها العلماء في الخليفة أو الرئيس الذي ينبغي أن يكون رئيساً ويجدر بنا أن نرشحه ونبايعه أن يكون ممن يقيم دين الله، وممن يقود الناس بشريعة الله بكتاب ربهم وسنة نبيهم محمد عليه الصلاة والسلام، وقد قال الله تعالى لخليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [البقرة:124] أي: يا رب! واجعل من ذريتي أئمة، قال الله: {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124] أي: ليس لظالم عندي عهد أن يكون إماماً. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الأئمة من قريش ما أقاموا الدين)، وهذا الشرط الثاني الذي عليه جمهور أهل السنة، فالأئمة من قريش، لكن ذلك مقيد بقوله: (ما أقاموا الدين). ، فالناظر إلى عموم المرشحين يجد أن من برامجهم فصل الدين عن السياسية، وهذا منكرٌ من القول وزور، وهذا مخالفٌ لكتاب الله ولسنة نبي الله، قال تعالى:: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:85]، فأي مرشح كائنا من كان يعلن في برنامجه أنه يفصل الدين عن السياسة، لا يستحق ولا يجدر بنا أن ننتخبه إن صحت الانتخابات، وهذا دينٌ ندين ربنا سبحانه وتعالى به، ألم تسمعوا قول خالقكم: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص:26]، ألم تقرأوا قول ربكم: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]، وفي الآية الأخرى: {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45]، وفي الثالثة: {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47]، ولا أقصد الحكم بكفر شخص، فهناك كفرٌ دون كفر، كما هو مقررٌ عند أهل السنة، إلا إذا استحلوا الحكم بغير ما أنزل الله، فينتقل الأمر إلى الكفر عياذاً بالله. فمن شروط الإمام المستخلف: أن يقيم الدين، وأن يعلن عن وجهته صريحةً أنه سيقيم دين الله، أما أن يتسابق القوم المرشحون في إرضاء أهل الكفر وأتباع المذاهب الباطلة، فذلك جديرٌ أن يحملنا على هجران كل تلك الترهات. فديننا لا يقر بحزب سوى حزب الرحمن، وإننا نقر ببطلان كل هذه المبادئ المعلنة، فديننا ليس فيه اشتراكية، ولا ديمقراطية، وليس فيه حزب التكامل ولا التكافل، ولا غير ذلك، إنما ديننا فيه حزب الله، وحزبنا الوحيد حزبٌ يأتمر بأمر الله وأمر رسوله محمد عليه الصلاة والسلام، ليس لنا دين إلا ذلك، وكفانا ترهات وضلالات، فكل شخص يأتي يفرض مذاهبه ثم من يسبح بحمده. وكنا في زمن رئيس أسبق ينادى فيه بالاشتراكية، ويؤلف فيه المؤلفون، وينادي الشعراء الماجنون فيقول قائلهم: الاشتراكيون أنت إمامهم. ويسبون الرسول، ويوصف النبي صلى الله عليه وسلم بالاشتراكية، وآخر يصف النبي بالديمقراطية، عياذاً بالله من هذه الترهات). وقد ذكر العلماء من لوازم الإمارة ومن لوازم الملك والرئاسة أن يكون المرشح مُلماً بشيءٍ ما من أمر دينه، فيعرف الحلال والحرام، ويعرف أنواع القضاء، ويستدل لذلك بعضهم بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة:247] فهذه وجوه اصطفاء. فهذه بعض لوازم الإمارة والرئاسة، ومطالعها لا تنبي عن أنها تتوافق مع أحد من هؤلاء الذين يسعون لإرضاء الأمريكان. فالحمد الله الذي حفظ علينا عقولنا، ونسأل الله ألا يجعلنا من السفهاء، ونسأل الله ألا يجعلنا نماري ولا نجامل في دينه؛ لأننا سنسأل بين يدي خالقنا عن كل كلمة نتكلم بها، وعن كل شهادة ندلي بها، والله على ما أقول وكيل، والله من وراء القصد وبالقصد، عليمٌ ومحيط سبحانه وتعالى. اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبسا علينا فنضل، واجعلنا للمتقين إماماً، اللهم يا ولي الإسلام وأهله: ثبتنا على الإسلام والإيمان حتى نلقاك. اللهم: ثبتنا على الإسلام والإيمان حتى نلقاك، اللهم: ثبتنا على الإسلام والإيمان حتى نلقاك، اللهم: ولِّ علينا خيارنا واصرف عنا شرارنا، اللهم: ولِّ علينا خيارنا واصرف عنا شرارنا، اللهم: ولِّ علينا خيارنا واصرف عنا شرارانا، اللهم: خيِّر لنا واختر لنا. اللهم: خير لنا واختر لنا. اللهم: خير لنا واختر لنا ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا يا رب العالمين، ربنا: هذا زاد المقل، وهذا دعاء الداعي، فمنك الإجابة وعليك التكلان، ومنك السداد يا أرحم الراحمين.

وقفات مع سورة يوسف

وقفات مع سورة يوسف إن الله سبحانه وتعالى قد أورد القصص في كتابه الكريم للتدبر والتفكر والاستفادة، وقصة يوسف هي أحسن القصص في القرآن الكريم، وفيها عبر ودروس لمن كان له قلب، فقد عفا يوسف عن إخوته رغم ما فعلوه به، والمظلوم لابد أن ينصره الله وإن طال الأمد.

تفسير قوله تعالى: (وجاء إخوة يوسف)

تفسير قوله تعالى: (وجاء إخوة يوسف) الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: فهذه آيات من كتاب الله كريمات نتناولها بالبيان والتأويل سائلين الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا وإياكم بها. قوله تعالى: {وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} [يوسف:58]، بعد طول غياب جاء إخوة يوسف عليه الصلاة والسلام من بلاد كنعان، جاءوا في سنوات شداد حلت فيها مجاعات بالبلاد، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتمثل بذلك وهو يدعو على المشركين فيقول: (اللهم أعني عليهم بسنين كسنين يوسف). فجاء إخوة يوسف وقد ضربتهم المجاعة يلتمسون الزاد والطعام من بلاد مصر التي منّ الله عليها آنذاك بأن أصبح يوسف صلى الله عليه وسلم عزيزاً عليها يدبر أمورها بما علّمه الله سبحانه وتعالى.

علة إرجاع يوسف لبضاعة إخوته بعد دفع قيمتها

علة إرجاع يوسف لبضاعة إخوته بعد دفع قيمتها {وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [يوسف:62] أمر يوسف صلى الله عليه وسلم الفتيان أن يجعلوا البضاعة في الرحال لغرضين: الغرض الأول: أن القوم قد لا تكون عندهم أموال يأتون بها إلى مصر مرة ثانية لشراء الطعام، فإذا وجدوا البضاعة ردت إليهم، أسرعوا في المجيء. الوجه الثاني: الاستهلال بذلك عند أبيهم على كرم يوسف ونبل أخلاقه صلى الله عليه وسلم، وهذا من الحيل المشروعة، والحيل على قسمين: الأول: حيل محرمة مذمومة كتلك التي صنعها الإسرائيليون إذ اعتدوا في السبت كما حكى الله صنيعهم في قوله: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} [الأعراف:163]. والثاني: حيل مشروعة: كتلك التي ذكرها الله سبحانه في شأن نبيه أيوب عليه السلام: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} [ص:44]، ومن الحيل المشروعة كذلك: التعريض بالخطبة للمتوفى عنها زوجها وهي في عدتها؛ وذلك لقوله تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} [البقرة:235]. الشاهد: أن يوسف قال عليه السلام: {اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ} [يوسف:62] (وانقلبوا) معناه: رجعوا، ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ} [المطففين:31] لماذا؟: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [يوسف:62].

طلب يوسف من إخوته المجيء بأخيه الشقيق

طلب يوسف من إخوته المجيء بأخيه الشقيق قال تعالى: {جَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ * وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ} [يوسف:58 - 59]، يقول أهل العلم من المفسرين: إن هذا الأخ هو (بنيامين)، أما سنة النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرد فيها تسمية لهذا الأخ، إلا أن جمهور المفسرين على أن هذا الأخ هو (بنيامين). قال يوسف لإخوته: {قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ} [يوسف:59] هو شقيق يوسف صلى الله عليه وسلم، {أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ * فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلا تَقْرَبُونِ} [يوسف:59 - 60]، يقول أهل العلم في ذلك: إنه يستحب للقائم على الأمور أن يستعمل الشدة في محلها، وأن يستعمل اللين في محله كذلك، وقد جمع يوسف صلى الله عليه وسلم بين هذا وذاك في قوله: {أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ} [يوسف:59]، ثم عرج على الشدة ولوح بالتهديد في قوله: {فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلا تَقْرَبُونِ} [يوسف:60]، ونحو ذلك وارد في قول ذي القرنين إذ قال الله له: {يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا * قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا} [الكهف:86 - 88]، فاللين وإن كان أفضل لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه)، ولقول الرسول صلى الله عليه وسلم كذلك: (إذا أراد الله بأهل بيت خيراً أدخل عليهم الرفق)، لكن إن احتيج إلى الشدة اتجه إليها كذلك، وقد قال سليمان عليه السلام: {مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [النمل:20 - 21]، فأخذ من ذلك: أن اللين له محله والشدة لها محلها كذلك. قال يوسف صلى الله عليه وسلم: {أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ} [يوسف:59] أي: أنا خير من أكرم الأضياف، فإكرام الضيف خصلة يمتدح بها الشخص، وقد حث على ذلك نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حيث قال عليه الصلاة والسلام: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه)، وقال صلى الله عليه وسلم: (أيما رجل نزل بقوم فلم يقروه، كان له أن يأخذ منهم بقدر قراه)، وما زال الناس يذمون البخلاء، فيقول شاعرهم: رأيت الفضل متكئاً ينادي الخبز والسمك فزمجر حين أبصرني ونكس رأسه وبكى فلما أن حلفت له بأني صائم ضحك وأحسن من ذلك: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سيدكم يا بني عمرو بن جموح؟ قالوا: يا رسول الله! الجد بن قيس على أنّا نبخّله، فقال عليه الصلاة والسلام: وأي داء أدوأ من البخل؟) قال يوسف الصديق صلى الله عليه وسلم: {فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلا تَقْرَبُونِ * قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ} [يوسف:60 - 61] {قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ} والمراودة: هي المطالبة برفق.

تفسير قوله تعالى: (فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا)

تفسير قوله تعالى: (فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا) {فَلَمَّا رَجِعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [يوسف:63] زهنا لفتة عارضة تستفاد من قولهم: ((يَا أَبَانَا)) أنه ينبغي أن نتخاطب فيما بيننا، وأن نعلم أبناءنا اللغة التي نزل بها كتاب ربنا، فلم يقولوا: يا (بابا) منع من الكيل. إنما قالوا: ((يَا أَبَانَا)) فلزاماً علينا -إن كنا نحب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم- أن نتأسى به وبالكتاب الذي نزل عليه، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (استأذنت ربي أن أزور قبر أمي) ولم يقل: استأذنت ربي أن أزور قبر (ماما)، كما يفعله المتهوكون الحيارى المتبعون لليهود والنصارى. {قَالُواْ يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ} فهل منع الكيل منهم حتى يقولوا منع منا الكيل؟ كلا. ما منع منهم كيل، بل أخذوا حقهم ونصيبهم غير منقوص، بل وردت بضاعتهم إليهم مرة أخرى، فكيف قالوا: منع منا الكيل؟ يقول أهل العلم: إن هذا إطلاق باعتبار ما هو آت، كالوارد في قوله تعالى: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف:36] والخمر في الأصل معصور، ولكن المعنى إني أراني أعصر عنباً فيئول العنب بعد ذلك إلى خمر، وكالوارد في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء:10] أي: ستئول هذه الأموال إلى نار والعياذ بالله! فقولهم: ((مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ)) أي: سيمنع منا الكيل. وقد يطلق اللفظ باعتبار ما قد فات كما في قوله تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء:2] أي: الذين كانوا يتامى، وكما في قوله تعالى: {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} [الأعراف:120] أي: الذين كانوا سحرة، إذ لا سحر مع سجود. قال الله سبحانه: {قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ} [يوسف:64 - 65]. ((قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي)) ماذا نطلب وماذا نريد؟ ((هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا)) أي: نجلب لأهلنا الميرة، وهي الطعام {وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ} [يوسف:65] * {قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [يوسف:66] والموثق: هو العهد المؤكد باليمين {حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} ومن أقوال العلماء في تفسير قوله تعالى {إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} أي: إلا أن تهلكوا عن آخركم، ومنه قوله تعالى: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} [الكهف:42].

علة دخول إخوة يوسف من أبواب متفرقة

علة دخول إخوة يوسف من أبواب متفرقة {وَقَالَ يَا بَنِيَ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [يوسف:67] ذلك -والله أعلم- خشية العين، فإخوة يوسف كانوا أيضاً على درجة من الجمال والبهاء إذ هم من ذرية إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وإبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام قال الله في شأنهم: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ} [ص:45] أي: الأقوياء العلماء، ثم إن جدتهم أيضاً هي سارة عليها السلام ولم يكن لها مثيل في الجمال في زمانها كما ورد في الصحيح: (إذ دخلت بلاد الجبار فقالوا له: قد دخلت بلادك امرأة لم يُرَ مثلها) فلا جرم أن يأتي أبناؤها وأحفادها على هذا النحو، فيعقوب صلى الله عليه وسلم قال لأبنائه: {يَا بَنِيَ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ} قال كثير من أهل العلم: ذلك خشية العين، فالعين حق كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (العين حق، ولو كان شيء يسبق القدر لسبقته العين) وقال عليه الصلاة والسلام: (إن العين لتولج الرجل القبر، وتولج الجمل القدر) وذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أسماء بنت عميس بعد مقتل زوجها جعفر بثلاث ليالٍ، ووجدها وقد التف حولها أبناؤها وفيهم نحافة فقال لها: (مالي أرى أجسام بني أخي ضارعة؟ قالت: تسرع إليهم العين يا رسول الله، قال: فاسترقي لهم) وأيضا: رأى النبي صلى الله عليه وسلم في وجه جارية لـ أم سلمة تغير وسواد، فقال: (إن بها النظرة، فاسترقوا لها) وأيضا: كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم صحابي جليل من صحابته الكرام وهو سهل بن حنيف رضي الله عنه، وكان رجلا وسيماً أبيض، قام سهل بن حنيف يغتسل فرآه عامر بن ربيعة فقال عامر عندما رأى سهلاً ورأى بياض جلده: ما هذه الجلدة البيضاء؟! والله ما رأيت جلداً مثلها! ولا كأنها جلد بكر. فسقط سهل صريعاً في الحال، فذهب أصحابه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله! أدرك سهلاً، فقال عليه الصلاة والسلام: (من تتهمون. قالوا: نتهم عامر بن ربيعة، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: على ما يحسد أحدكم أخاه؟ هلا دعوت له بالبركة، ثم أمره أن يتوضأ وأن يغسل ركبتيه وداخل إزاره، ثم أخذ هذا الماء فصب على سهل بن حنيف، فقام كأنما نشط من عقال)، أي: كأنه كان مربوطاً بحبل وفك من هذا الحبل رضي الله تعالى عنه. وقد ورد في كتاب الله ما يثبت ذلك، قال تعالى: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} [القلم:51] فمن ثَم ولا جرم أن طلب يعقوب من أبنائه أن يدخلوا من أبواب متفرقة كان خوفاً من هذا الأمر. ووجه آخر عند المفسرين: حتى لا يكيد لهم الكائدون؛ فإذا دخل هؤلاء -وعددهم أحد عشر شخصاً- من مكان كاد لهم الكائدون.

تفسير قوله تعالى: (ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم)

تفسير قوله تعالى: (ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم) قال تعالى: {وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:68]. {مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا} بمعنى: لكن، {إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} يؤخذ من ذلك أدب من آداب الخطباء وخلق من خلق التوجيه وهو: أنك إذا بينت أن شخصاً ما عنده خلل في ذاته، فينبغي أن تعقب هذا البيان بثناء حسن على هذا الشخص ولا تضيع حقوقه، هذا إذا سلمنا أنه إنسان مخطئ، ولكن ليس هذا بخطأ من يعقوب صلى الله عليه وسلم، بل قد أثنى الله عليه بقوله: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} ولكن المقام مقام رد الأمور إلى الله سبحانه وتعالى، وإنما الذي صنعه يعقوب عليه الصلاة والسلام من باب الأخذ بالأسباب. فنقول: من أدب التخاطب إذا كنت تريد التنبيه على شيء صدر من شخص، أن تتكلم بهذا التنبيه بطيب الكلام، وبطيب الثناء ومن ذلك: قوله تعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء:78] * {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} وأثنى الله على داود أيضاً فقال الله سبحانه: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:79] فينبغي أن يثني على الشخص الآخر أيضاً.

أخذ يوسف لأخيه

أخذ يوسف لأخيه {وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [يوسف:69]. {آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ} أي: ضمه إليه {قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وفيه دليل على أن شقيق يوسف لاقى عناء وشدة أيضاً هو الآخر بعد غياب أخيه صلى الله عليه وسلم، ومن ثَم سلاّه وجبر خاطره بقوله: {فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [يوسف:69]. قال تعالى: {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف:70] السقاية: هو صواع الملك، {ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ} أي: نادى منادٍ {أَيَّتُهَا الْعِيرُ} أي: يا أصحاب العير! يا أصحاب الإبل! {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ * قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ} [يوسف:70 - 71] {قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ} أخذ من ذلك: أن المتهم إذا كان بريئاً فإنه يكون جريئاً، فهؤلاء جاءوا ولم يهربوا ولم يشردوا، وحتى العجماوات تفهم ذلك، يقول بعض العلماء: إن القطة إذا كانت بجوارك، وأنت تأكل سمكاً فألقيت إليها سمكة فإنها تأكلها بجوارك آمنة مطمئنة، لكنها إذا سرقت السمكة فإنها تأخذها وتهرب، فكأنه قذف فيها معرفة الحلال من الحرام بما أودعه الله سبحانه فيها. قال تعالى: {قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ * قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف:71 - 72]. {وَأَنَا بِهِ} يقوله المنادي {زَعِيمٌ} أي: ضمين، وأخذ من هذا حكم يتعلق باللقطة، فإذا وجد شخص لقطة في الطريق عليه -كما هو معلوم- أن يعرّفها إذا كانت من ذوات القيمة، فإن نادى منادٍ فقال: يا أيها الناس! فقد مني كذا وكذا، ولمن يأتني به كذا وكذا فلا جناح على الذي وجده أن يقبله؛ لأن الآية فيها: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} لكن ليس لمن وجدها أن يشترط ذلك، لكن إن أعطي شيئاً فله أن يقبل للآية الكريمة: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف:72]. قال الله تعالى: {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ} [يوسف:73]. {قَالُوا تَاللَّهِ} أي: والله، فأحرف القسمة ثلاثة: الواو والباء والتاء، تقول: والله، وبالله، وتالله، {لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ * قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنتُمْ كَاذِبِينَ * قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [يوسف:73 - 75] أي: من يوجد هذا الصواع في رحله يؤخذ كعبد مسترق لصاحب الصواع، وقد كان هذا في شريعة يعقوب عليه السلام، فنحن في شريعتنا شريعة محمد عليه الصلاة والسلام أن السارق تقطع يده، أما في شريعة يعقوب فكان السارق يؤخذ كعبد مسترق مقابل السرقة، بمعنى: أن يأخذه صاحب المتاع المسروق كعبد مسترق مقابل السرقة، وفي الروايات الإسرائيلية على ما سيأتي عند قوله تعالى: ((إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ)) أن عمة يوسف كانت قد أحبته في صغره حباً شديداً فطلبته من أبيه يعقوب فأبى عليها يعقوب ذلك، فدست له شيئاً أي: يوسف واتهمته به حتى تضمه وتؤيه إليها، وهذا من الإسرائيليات التي لا ينبغي أن تصدق ولا تكذب، ولكنها تفيد في بعض البيان والله تعالى أعلم. قال تعالى: {قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [يوسف:75] أي: في شريعة يعقوب، فشرائع الأنبياء تتنوع لكن أصل الدين وهو التوحيد ثابت، قال الله سبحانه: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48] لكن الأصل واحد لقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]. قال الله: {فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:76]. {قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ} لنفي التهمة، {ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} فالذي دبر هذا ويسره ليوسف هو الله، فالمعلَّم من علمه الله؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله خلق كل صانع وصنعته). {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} فليدرك كل عالم ذلك {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:76]. {قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ} [يوسف:77] قالوا وأبانوا عما في صدورهم تجاه أخيهم: {إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} يعرضون بيوسف عليه الصلاة والسلام.

ازدياد حزن يعقوب بعد فقد ابنه الآخر

ازدياد حزن يعقوب بعد فقد ابنه الآخر قال تعالى: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف:83]. قوله: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا} أي: زينته وحسنته، فالمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين. {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} صبرٌ لا تبث معه الشكوى إلا لله. قال الله تعالى: {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف:84]. قوله: {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ} أي: أعرض عنهم، {وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} فلم يذكر (بنيامين) فالمصائب يرقق بعضها بعضاً، وحب يوسف وفقده أنساه سائر أبنائه، {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} أي: ممتلئ غماً وهماً. قيل للحسن البصري رحمه الله وقد بكى على بعض أبنائه إذ مات: أتبكي يا حسن؟! قال: سبحان الله، ما أنساك ليعقوب عليه السلام إذ قال الله في شأنه: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} أي: ممتلئ هما وغماً.

كظم يوسف عليه السلام لغيظه

كظم يوسف عليه السلام لغيظه قال الله: {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ}. يقول أهل العلم: ينبغي أن يتسم المدير أو القائم أو المسئول بضبط النفس وكظم الغيظ ولا يكون طائشاً متهوراً، فيوسف عليه السلام لم ينفعل بل كان كما قال تعالى: {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ} فلنستق أخلاقنا من كتاب ربنا ومن سير أنبيائنا عليهم الصلاة والسلام كما قال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90]. قال تعالى: {قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:78] ((قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ)) فيه: جواز إطلاق لفظ (العزيز) على بعض البشر. {إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا} فتوسلوا إلى يوسف بشيخوخة أبيهم، وبكبر سن والدهم، فللكبير حق معروف عند المتقدمين والمتأخرين، وإلى هذا الأدب مع الكبار أرشدنا نبينا محمد عليه الصلاة والسلام. قال صلى الله عليه وسلم: (ليس منّا من لم يوقر كبيرنا) وقال عليه الصلاة والسلام (رأيتني الليلة أتسوك، فأتاني رجلان فدفعت السواك للأصغر منهما، فقيل لي: كبر كبر) وجاء حويصة ومحيصة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذهب أصغرهما يتكلم، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (كبر كبر) فالكبير له حق، ويجب أن يعطى حقه، فكم سجد هذا الكبير من سجدة! وكم ركع من ركعة! وكمن ابتلي فصبر! فله حق ينبغي أن يؤدى إليه، وجعل النبي عليه الصلاة والسلام من المقدمين في الإمامة عند تساوي الحفظ الأكبر سناً حيث قال: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأكبرهم سناً) هكذا للكبير حق ينبغي أن يؤدى إليه ولا يضيع. وهذا عبد الله بن عمر يعلمنا أدباً لزمه مع الكبار عندما سأل النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه ذات يوم فقال: (إن من الشجر شجرة مثلها مثل المؤمن أخبروني ما هي؟) قال عبد الله بن عمر: فوقع الناس في شجر البوادي، ووقع في نفسي أنها النخلة، فجئت أتكلم فنظرت فإذا أنا أصغر القوم فاستحييت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هي النخلة) الشاهد من ذلك: أدب ابن عمر مع كبار السن، {قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:78] فعلامات الإحسان على يوسف بادية وظاهرة، وهكذا كما قال تعالى {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح:29]. قال الله: {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ} [يوسف:79] وهكذا الأمور فلا تزر وازرة وزر أخرى وهذا مما كان في الصحف الأولى {صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى:19] {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [النجم:36 - 38] وقال تعالى: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} [الأنعام:164]. قال يوسف: {مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ} فإن فعلنا ذلك {إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ} [يوسف:79]. قال الله: {فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا} كان بعض الأعراب يعجب غاية العجب من هذا الأسلوب في كتاب الله، وذكر بعض السلف رحمهم الله أن هذا اللفظ: ((خَلَصُوا نَجِيًّا)) حمل البعض على الإسلام، انظر إلى دقة التعبير، فقد كانوا يتذوقون القرآن ويفهمونه، وعلى قدر بصيرتك وتقواك وإيمانك تفهم كتاب الله. وعرضاً أذكر أثراً -وإن لم يسعفني الوقت لتحقيقه- فقد كان ابن عباس يفهم كتاب الله، والأثر فيه: أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه كان إذا صلى الفجر دخل مجلسه ودخل معه حملة القرآن من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يدخل معهم عبد الله بن عباس، فيتدارسون القرآن ويتلوه تالٍ، ويؤله مؤول، ويفسره مفسر، فدخل ابن عباس مع أمير المؤمنين عمر ومعه رجال من الصحابة رضي الله عنهم، فبدأ التالي يتلو قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة:204] وابن عباس ينصت تمام الإنصات {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205] وابن عباس ينصت، {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة:206] وابن عباس ينصت وينتبه، ثم قرأ القارئ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة:207] فضرب ابن عباس وبشدة رجل جليسه، وصاح: (اقتتلا والله اقتتلا والله، قال عمر متعجباً: ماذا قلت يا ابن عباس؟! فاستحيا أن يتكلم، فأعاد عليه عمر: ماذا قلت يا ابن عباس؟! فاستحيا ابن عباس، فأعاد عليه عمر: ماذا قلت يا ابن عباس؟! قال: يا أمير المؤمنين! قلت: اقتتلا والله، اقتتلا والله. فقال عمر: من هما يا ابن عباس؟! قال ابن عباس: يا أمير المؤمنين! إن الله ذكر في كتابه رجلاً مجرماً أصبح والياً أو أميراً، فلما تولى {سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} يقتل هذا، ويضرب هذا، ويسمم بهائم هذا، ويحرق ثمر هذا، فقام له قوم يذكرونه ويقولون له: اتق الله، فما يزيده التذكير إلا فساداً، وتأخذه العزة بالإثم، فقام رجل مؤمن محتسب شرى نفسه ابتغاء مرضات الله لوقف زحف هذا العدو الصائل فحصلت المعركة بينهما. انظر كيف كان ابن عباس يسير مع الآيات ويفهمها رضي الله عنه. قال تعالى: {قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ * ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ} [يوسف:80 - 81]. فقوله: {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا} أي: هذا الذي رأيناه، {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [يوسف:82]. {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} أي: اسأل أهل القرية. ومن العلماء من قال: القرية على ظاهرها، فإن الأنبياء لهم ما ليس لغيرهم، إن النبي عليه الصلاة والسلام قال (إني أعرف حجراً بمكة كان يسلم عليّ إني أعرفه الآن) أخرج ذلك مسلم في صحيحه. {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} أي: واسال القرية واسأل العير. وإن المتأمل لهذه الآيات ليرى عظيم الابتلاء الذي حل بيعقوب عليه الصلاة والسلام، فتخيل إذا رجعت القوافل كلها آمنة مطمئنة، ورجعت قافلتك وأحد أبنائك فقد لسرقته، ماذا سيكون؟ فابتلاؤه صلى الله عليه وسلم شديد، إذا يرجع الناس آمنون مطمئنون وابن يعقوب عليه السلام يرجع وقد سرق وأخذ كعبد مسترق مقابل السرقة إنه لبلاء عظيم!!

تحريم اليأس والقنوط من رحمة الله

تحريم اليأس والقنوط من رحمة الله {قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * يَا بَنِيَ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:85 - 87]. فقوله: {وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ} إذ اليأس من روح الله كبيرة من الكبائر {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} لقد عدّ أهل العلم اليأس من رحمة الله من الكبائر؛ بدليل هذه الآية، وبقوله تعالى: {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:56] فينبغي ألا ييئس أحد أبداً من رحمة الله، فلا ييئس مكروب من الفرج، ولا مبتلىً في بدنه ولا في ولده من الفرج، ولا ينبغي أن تيأس امرأة عقيم من رحمة الله، فهكذا علمنا ربنا سبحانه بقوله: {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87].

مصارحة يوسف لإخوته والعفو عنهم

مصارحة يوسف لإخوته والعفو عنهم قال الله: {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} [يوسف:88] وهذه الآية تبين لنا أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرى، وأن الله يرفع المظلوم ويخفض الظالم، {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ} أي: ذل وانكسار والانكسار، {وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ} أي: قليلة لا تصلح لشيء، فنحن فقراء مسنا وأهلنا الضر، وأبونا أصابه العمى، ومسنا نحن الضر في الأبدان والقلة في الزاد. قال تعالى: {وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} هكذا يتسول الظالمون أخاهم الذي قد ظلموه {أَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} فحينئذ لا يرضى لهم يوسف أن يصلوا إلى أشد من ذلك فيقول لهم كما قد أخبره الله سبحانه وهو يلقى في غيابه الجب عندما كان يتعلق بصدر هذا فيضربه، ويأتي ويستغيث بذلك فيلطمه، يقول الله جابراً لخاطره آنذاك: {لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [يوسف:15] فهاهو هذا يتحقق فيقول يوسف: {قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ} [يوسف:89] فتكون المفاجأة ((قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ)) فيقول بأدب جم: ((قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي)) أنا يوسف لم يقل مقولة المفتخر المتباهي: أنا العزيز يوسف، ولا أنا الملك يوسف، ولا أن الرئيس يوسف، إنما بأدب نتعلمه ((أَنَا يُوسُفُ)) {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ} وكذا سليمان قال: [النمل:30] وكذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: (من محمد عبد الله ورسوله) وهكذا نتعلم الأدب من كتاب الله. قال عليه الصلاة والسلام (ثلاث أقسم بالله عليهن: وذكر: ما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه الله). {قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:90] ثم يذكر بفضل الله أي: فالفضل الذي فيه ليس من كسبي ولا من كدي إنما هو من فضل الله، {قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ * قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:90 - 92]. قال عليه السلام مقولة تعلمنا الأدب: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ} أي: لا تعيير ولا توبيخ مني أبداً عليكم بعد اليوم {يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ} وهكذا الأدب في العفو {يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} [يوسف:92 - 93] نقول نحن أهل الإسلام: إن الله على كل شيء قدير. وقد أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء ما يفيد أن النبي عليه الصلاة والسلام أوتي من جنس هذه المعجزة، فدخل أحد أحفاد أبي قتادة على عمر بن عبد العزيز رحمه الله فقال له: من أنت؟ قال: أنا ابن الذي سالت على الخد عينه فردت بكف المصطفى أجمل الرد فعادت كما كانت لأول وهلة فيا حسن ما عين ويا حسن ما رد قال الله: {وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ} [يوسف:94] أما قوله تعالى ((فَصَلَتِ)) أي: خرجت وفارقت بلاد مصر، ومنه قوله تعالى: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} [البقرة:249]. قال تعالى: {وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ} أي: تفندون قولي وتتهمونني بالتخريف، كيف وجد ريح يوسف صلى الله عليه وسلم؟ نقول نحن أهل الإسلام: إن الله على كل شي قدير، ومن جنس هذه المعجزة معجزات حدثت لنبينا محمد عليه الصلاة والسلام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أصحابه بموت النجاشي في اليوم الذي مات فيه، ولم يكن ثَم هواتف، والرسول صلى الله عليه وسلم كذلك أخبر أصحابه بمقتل الثلاثة: زيد بن حارثة وجعفر وابن رواحة في اليوم الذي قتلوا فيه، وكذلك بعض أصحاب نبينا حصلت لهم ببركة اتباعهم للنبي محمد عليه الصلاة والسلام كرامات من هذا الجنس، فإن من العلماء من حسن القصة التي فيها أن عمر رضي الله تعالى عنه كان يخطب في مسجد رسول الله عليه الصلاة والسلام، وكان قد أرسل رجلاً أميراً على سرية من السراري يقال له: سارية، فخرج سارية مع أصحابه في غزوة من الغزوات في دولة أخرى وعمر في المدينة يخطب الجمعة وسارية يبارز الأعداء ويناجزهم فإذا بـ عمر يتحول في خطبته منادياً وقائلاً: يا سارية! الجبل الجبل يا سارية! الجبل الجبل، وسارية يسمع هذه المقالة من هذا البعد البعيد، فيلتزم الجبل هو وأصحابه فيفتح الله سبحانه وتعالى عليهم وينصرهم، وأصحاب عمر في المسجد يقولون: ما الذي حدث لأمير المؤمنين؟ أين سارية؟ وكيف يتكلم عمر؟ ولكن الله على كل شيء قدير سبحانه، فجاء سارية ومن معه وأخبروا أهل المدينة أنهم سمعوا صوت أمير المؤمنين عمر وكان سبباً في نصرهم.

اعتراف إخوة يوسف بذنبهم

اعتراف إخوة يوسف بذنبهم قال الله: {قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} [يوسف:95] أي: ما زلت تخرف هكذا، {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} [يوسف:96 - 97] هكذا قال واعترف الظالم بظلمه، واعترف بخطئه وإن لم يكن ثَم اعتراف في الدنيا فثَم اعترافات يقينية في الآخرة، فيومها وحينها تبلى السرائر، فليطمئن كل مظلوم إلى نصر الله له في الدنيا ويوم يقوم الأشهاد. {قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يوسف:98] لماذا أخر الاستغفار؟ بعض العلماء يذكرون أنه أخر الاستغفار لساعة هي أرجى في الجواب كالثلث الأخير من الليل، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله ينزل إلى سماء الدنيا إذا كان الثلث الأخير من الليل، فيقول: هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من سائل فأعطيه؟ هل من داع فأجيبه؟ حتى يطلع الفجر). {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [يوسف:99] {آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ} ضمهم إليه، {وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ} من أهل العلم من أخذ من قوله {ادْخُلُوا مِصْرَ} أنه استقبلهم خارج البلاد ولم يجلس على الكرسي حتى دخلوا عليه، ولكن استقبلهم خارج البلدة مرحباً بهم، لا كما يفعل الجهلة الذين لا يعلمون إذ يتبرءون من أقوامهم إذا تقلدوا مناصب، فَثم شاب أهله ينفقون عليه كبير أموالهم حتى يتخرج ويصبح طبيباً على سبيل المثال، أو يصبح من ذوي المناصب العالية، فإذا بلغ هذا المنصب تنكر لأهله وعشيرته، فإذا جاءه أهله من البادية تنكر لهم، فيأتيه أبوه ليعالجه فيقول: ماذا تريد. يعامل أباه وكأنه رجل غريب، ويستحي من والده الفقير أمام زملائه الأطباء أو الوزراء، لكن يوسف لم يكن كذلك عليه الصلاة والسلام، بل علّمنا إكرام العشيرة، فللأقارب حق {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} [الإسراء:26] {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} [النساء:36] فذووا القربى لهم حق يجب أن نؤديه.

سجود إخوة يوسف ليوسف

سجود إخوة يوسف ليوسف إن يوسف عليه السلام لم يضع إخوته بل استقبلهم قائلاً فرحاً بقدومهم: {وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [يوسف:99] {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} ولم يقنع بهذا بل رفع أبويه على العرش على سرير الملك ولم يجلسهم أدنى منه بل رفع أبويه على العرش {وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} سجود تحية، وكان السجود جائز في شرائع من كان قبلنا ثم نسخ في شريعتنا لقوله عليه السلام: (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها) {وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} أي: قد تتحقق تأويل الرؤيا بعد عشرات السنين، فلا يلزم أن تتحقق في ذات الوقت، بل قد تتحقق بعد عشرات السنين، {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي} وكما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثاً) والأنبياء رؤياهم وحي عند كثير من أهل العلم. قال تعالى: {قَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف:100] لماذا لم يقل يوسف عليه السلام: وقد أحسن بي إذا أخرجني من غيابة الجب؟ يقول المفسرون: لأنه وعد إخوته عن قريب. فقال لهم: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ} [يوسف:92] أي: لن أعيركم ولن أوبخكم أبداً، ولن أكدر خواطركم بحال من الأحوال، فمن ثم إذا ذكر البئر سيذكرهم بالمآسي التي صنعوها في حقه، فأعرض عن ذكر البئر وما حدث له منه تماماً، بل قال: {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} فالسجن يجمع السكير والعربيد، واللص والقاتل، وأضراب هؤلاء. قال: {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} ثم حمل الشيطان الجريمة كلها، فالشيطان لها أهل، فلم يقل: من بعد أن ظلمني إخوتي، بل قال: {مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ} فكل شيء عنده بمقدار، فهو الذي يقدر، وهو الذي يعلم النوايا والخفايا {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}.

لكل شيء إذا ما تم نقصان

لكل شيء إذا ما تم نقصان لما رأى يوسف عليه السلام أن الدنيا قد اجتمعت له، وأقر الله عينه بالملك وبوالديه وإخوته وبأهله أجمعين، علم يوسف عليه السلام أن أمر الآخرة قد اقترب، فلا يكاد شيء يكتمل إلا وآذن بزواله ورحيله؛ ولذلك فإن من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من بكى لما نزل على الرسول عليه الصلاة والسلام، قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] فعلم أن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم قد اقترب، ولما نزل قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1] * {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر:2] * {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:3] فعلم ابن عباس أن أجل الرسول عليه الصلاة والسلام قد اقترب. وهكذا فلا تكاد أمور تكتمل إلا ويؤذن بزوالها، فيوسف عليه السلام رأى أن الله أقر عينيه بوالديه وبأهله أجمعين، وأقر عينيه بالملك، فلا جرم أن يؤذن بالرحيل، فطلب من ربه كما أتم النعمة عليه في الدنيا أن يتممها عليه في الآخرة، فقال مقولة الصالحين: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ}: {رَبِّ} أي: يا رب. {قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ} فما أنا فيه من الملك من فضلك يا رب {فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:101]. وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

وقفات مع فريضة الحج [1]

وقفات مع فريضة الحج [1] الحج فريضة من فرائض الله، وهو من أركان الإسلام، وقد أمر الله نبيه إبراهيم أن يؤذن في الناس بالحج، فأجابه كل من كتب الله له حج بيته الحرام، وفي الحج شعائر شرعها الله لإقامة ذكره، وتعظيمها من تقوى القلوب، وينبغي للحاج قبل سفره أن يتحلل من المظالم، وما أكثر المظالم التي قد يقع فيها المسلم وهو لا يشعر.

تفسير آيات الحج في سورة الحج

تفسير آيات الحج في سورة الحج بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. وبعد: فيقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:25 - 29]. أذن إبراهيم صلى الله عليه وسلم في الناس بالحج كما أمره الله، فأتاه الناس من كل فجٍ عميق، أتوه على كل ضامر، ورجالاً كذلك، ممتثلين أمر ربهم سبحانه وتعالى. مطلع الآيات فيها: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الحج:25] أي: ويصدون أيضاً عن المسجد الحرام، فثم سعاة إلى بيت الله يطلبون مغفرة الله ورضوانه، وثم مانعون يمنعون الناس من بيت الله، ويصرفونهم عن طاعة الله، وثم قوم رغبوا في مغفرة ربهم، فشدوا رحالهم إلى بيت الله الحرام، كي تسكب عنده العبرات، وثم آخرون وقفوا لهم بكل مرصد، يصدون الناس عن بيت الله الحرام وعن مغفرة الله. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج:25] أي: ويصدون عن المسجد الحرام كذلك، ((الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً)) [الحج:25] أي: يستوي فيه (العاكف) أي: المقيم بمكة، (والباد) أي: الخارج عن مكة، فلكل الناس حق في المسجد الحرام.

تعظيم حرمات الله

تعظيم حرمات الله قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ} [الحج:30] أي: يوقرها حق توقيرها ولا يعبث بها، بل ينزلها منازلها، ويتقن عمله فيها. {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج:30]، ومن تعظيم حرمات الله: أن تعظم حرمات الله في بيت الله الحرام، وأن تعظم حرمات الله عند الأضاحي، فلا تأخذ منها الهزيل الذي لا يجزئ، ومن تعظيم حرمات الله أن تؤدي المشاعر كما أمرك ربك، وكما علمك نبيك محمد عليه الصلاة والسلام. {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج:30] أي: قول الشرك والافتراء الكاذب. كذلك: {حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31] كما حدث رسول الله عليه الصلاة والسلام: (عن روح الكافر إذا مات، تلقتها الملائكة فصعدت بها إلى السماء، فيخرج منها أنتن ريح عُرفت على وجه الأرض، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا وتسأل: ما هذه الروح الخبيثة كانت في الجسد الخبيث؟ ما هذه الريح النتنة؟ فيقولون: روح فلان بن فلان، فتصعد بها الملائكة إلى السماء، فتستفتح لها، فلا تفتح لها أبواب السماء، ثم يأمر الله سبحانه أن تُرد هذه الروح إلى الأرض السابعة السفلى، وأن يكتب كتابها في سجين، فتخر من السماء، وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31]).

تعظيم شعائر الله

تعظيم شعائر الله قال الله: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} [الحج:32] وشعائر الله: أعلام الدين الظاهرة، فكل ظاهر من ديننا فهو شعيرة من شعائر الله، فالصلاة شعيرة، والذبح شعيرة، والطواف بالبيت شعيرة، والسعي بين الصفا والمروة شعيرة، وإشعار البدن شعيرة، وكل ما هو ظاهر في ديننا ومن أعمال ديننا فهو شعيرة من شعائر الله، فإشعار البدن وتقليدها شعيرة من الشعائر، {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ * لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ * وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا} [الحج:32 - 34] لكل أمة من الأمم جعلنا مكاناً وزماناً للتقرب فيه إلى الله، ولكل أمة جعلنا عيداً تتقرب فيه إلى الله، فالمنسك يطلق على هذا كله، على المكان، وعلى الزمان، {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا} [الحج:34] أي: عيداً ومكاناً وزماناً للعبادة تتقرب فيه إلى الله. {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج:34] فالمناسك والمواقيت جعلت لتعظيم أوامر الله، وللإكثار من ذكره تعالى، كما قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: (إنما جُعل الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمار، لإقامة ذكر الله عز وجل)، فهذه العبادات شُرعت فيما شُرعت له، وهذه الأماكن حددت فيما حددت له؛ للإكثار من ذكر الله عز وجل {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الحج:34 - 36] والبدن هنا هي: الإبل. (صواف) أي: قائمة على ثلاثة أرجل معقولة الرجل الرابعة اليسرى، وهكذا تنحر. (فإذا وجبت جنوبها) أي: سقطت جنوبها على الأرض. {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} [الحج:37].

الركوب في الحج أفضل من المشي

الركوب في الحج أفضل من المشي قال تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج:27] أخبرهم بأن الله تعالى افترض عليهم هذه الفريضة، رجالاً: أي: على أرجلهم. وهنا أورد العلماء سؤالاً: هل الحج على الرجل أفضل أم الركوب أفضل؟ فذهب أكثر أهل العلم إلى أن الحج راكباً أفضل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مع كمال قوته في الحج حج راكباً عليه الصلاة والسلام، وذلك حتى يتفرغ الحاج لعبادة ربه، للتهليل والتكبير، والدعاء، والحمد والثناء، فكان هدي رسول الله أنه حج راكباً، حتى أنه صلوات الله وسلامه عليه طاف في بعض ليالي منىً بالبيت العتيق وهو راكب على بعيره، كلما أتى الحجر أشار إليه بعصاه، فطاف صلى الله عليه وسلم راكباً، ولم يذكر أنه كان مريضاً، فأُخذ من ذلك أنه ينبغي للعبد أن يقبل على العبادة بنشاط وبجد، فإذا كانت كثرة المشي ستؤثر عليه بهذا الصدد، فحينئذٍ فليحج راكباً وهو الأفضل لفعل رسول الله عليه الصلاة والسلام ذلك، ثم إن النبي أيضاً قال في شأن رجل نذر أن يقوم ولا يقعد، ولا يستظل ولا يتكلم، قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله غني عن تعذيب هذا لنفسه). أما قول النبي عليه الصلاة والسلام: (أجركِ على قدر نصبكِ) فهذا محله إذا لم تستطع الركوب، فلم يكن ما عندك مال يؤهلك لذلك، أما وقد استطعت الركوب فالركوب أفضل ولا يُتعبد بالمشي، فلو كان التعبد بالمشي حينئذٍ مستحباً لفعله نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.

جواز البيع والشراء في الحج

جواز البيع والشراء في الحج قال الله: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج:28] أُخذ من ذلك أن الحاج يجوز له أن يبيع ويشتري ويتعاقد على الأعمال في الحج، وليس في ذلك نقص لحجته. قال تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا} [الحج:28] أخذ العلماء من ذلك: أنه يستحب الأكل من ذبيحة الأنعام، ومن ثم إذا كان باستطاعتك أن تذبح ذبيحتك بنفسك وتأكل منها فهو أولى ثم أولى، أما توكيل غيرك من الشركات التي تتصرف فيها كيف شاءت، فإنك في الغالب تحرم الأكل من ذبيحتك، وربنا يقول في كتابه الكريم: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج:28]، ومما يدل على استحباب الأكل منها: أن النبي عليه الصلاة والسلام كان مجموع الهدي الذي قدمه في الحج مائة من الإبل، نحر بيده ثلاثاً وستين ناقة، ثم أعطى علياً رضي الله عنه، فنحر ما بقي، ثم إن النبي عليه الصلاة والسلام أمر بقطعة من كل ناقة، فوضعت المائة قطعة في قدر، فأكل النبي عليه الصلاة والسلام منها، وشرب من مرقها، فدل ذلك على استحباب الأكل من لحوم الهدي والأضاحي.

عقوبة من أراد الإلحاد في الحرم

عقوبة من أراد الإلحاد في الحرم قال الله: {الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} [الحج:25]. الإلحاد: الميل، الميل حتى إلى المعصية، {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} [الحج:25] والإلحاد -كما سمعتم- الميل، والإرادة محلها القلب، فمن ثمّ قال العلماء: إن من فكر في أذىً للعباد في المسجد الحرام، وفي مكة عموماً، بل وفي عموم الحرم الذي يشمل منى بتمامها وجزءاً من مزدلفة، من فكر في أذى الناس هنالك، ومن خاض في الأعراض كذلك، وهم بذلك ونواه؛ يذقه الله من عذاب أليم، ومن العلماء من أفرط فقال: إن كنت في بلدتك -في أي قطر كنت- ورتبت لأذىً في الحرم فيلحقك نفس الوعيد وأنت في بلدك، إذا كنت تخطط لسوءٍ في الحرم، أو تبيت لمنكر في الحرم، فسيحلقك نفس الوعيد.

تطهير البيت الحرام

تطهير البيت الحرام قال الله: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} [الحج:26] أي: أعلمناه به وأرشدناه إليه، وأنزلناه فيه، {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج:26] مم يطهره إبراهيم صلى الله عليه وسلم؟ قال أهل العلم: يطهره أول ما يطهره من الأوثان التي فيه، وكذلك يُطهر كل مسجد من الأوثان التي فيه، ومن ثم جاء النهي عن اتخاذ القبور مساجد، قال نبينا محمد عليه الصلاة والسلام: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد) يحذر ما صنعوا، وقال صلوات الله وسلامه عليه: (لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها)، وقال صلى الله عليه وسلم في قوم اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد: (أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة، أولئك إذا مات فيهم العبد الصالح بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك التصاوير)، وقال عليه الصلاة والسلام: (الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام). قال تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} [الحج:26] أخذ العلماء من ذلك: فضيلة تطهير المساجد بصفة عامة، حتى من الأذى، فتبخير المساجد، وتطيبها فضيلة. كانت امرأة سوداء تقم المسجد فماتت، فقبروها ليلاً، ولم يخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فلما أصبح سألهم عنها، فقالوا: ماتت، وكرهنا أن نوقظك فدفناها ليلاً، فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قبرها فصف أصحابه وصلى عليها مرة ثانية؛ لأنها كانت تقم المسجد.

الحث على اغتنام الأيام المباركة في الطاعات

الحث على اغتنام الأيام المباركة في الطاعات فيا عباد الله! أنتم على مشارف مواسم مباركة، يتقرب فيها إلى الله بذكره بالنحر له، ويتقرب فيها إلى الله بحج بيته الحرام، وبسائر أعمال البر عموماً، فلا تفوتنكم هذه المواسم الطيبة، ولا تفرطوا فيها، فإن أيامكم مرصودة ومحدودة، ولكم آجال لن تؤخروا عنها يوماً ولن تقدموا عنها ساعة، وغداً ستنظر كل نفس ما قدمت من خير أو شر، وستقول نفس: {يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر:56]. فلا تجعل أخي عاماً ينصرم وقد غبنت فيه، فما هي إلا سنوات يسيرة وتوضع في قبر موحش مظلم، ليس لك أنيس، ولا جليس إلا عملك الصالح، فلا يفوتنك ذكر الله في هذه الأيام، ولا تبخلن بمال تنفقه في حج بيت الله الحرام، وفي التقرب إلى الله بالأضاحي، وإطعام المساكين، ولا تبخلن بمالٍ تزود به حاجاً يهدي لك عند بيت الله الحرام، وهذه سنة افتقدها الناس: ألا وهي إرسالهم الهدي، فإن لم تحج فأرسل الهدي إلى بيت الله الحرام، فإن نبينا محمداً عليه الصلاة والسلام كان يقلد الهدي وهو بالمدينة، ويرسله مع الحجيج كي ينحر عند البيت الحرام، ويتصدق به على المساكين. ومسألة: الأخذ من الشعور والأظفار في العشر الأُول من ذي الحجة: مذهب الشافعي أن ذلك على الكراهة وليس على التحريم، وبعض الشافعية يقولون: لا يمنع أصلاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرسل هديه من المدينة إلى مكة ولا يجتنب شيئاً مما يجتنبه المحرم، وستأتي هذه المسألة بتوسع إن شاء الله، فمن لم يستطع منكم الحج وعنده سعة من المال فليرسل مع أي حاج من الحجيج كي ينسك ويهدي له هنالك، فيثاب ويغفر له مع المغفور لهم، إذ من أقرب القربات أن تتقرب إلى الله بإطعام الطعام، فمن كان في سعة فلا يمتنعنَّ من ذلك، وبين الحين والآخر يذبح ذبيحة إن كان موسراً، فيرسل بها هدياً إلى المساكين في الحرم، فيشكر الله منه هذا الصنيع، ويرفعه الله به درجات. لا تغفلوا عباد الله في مثل هذه الأيام عن عمل الصالحات.

أنواع النسك في الحج

أنواع النسك في الحج ونذكر بأن الحج على ثلاثة أنساك: الإفراد، والقران، والتمتع، وفي كل ذلك لزاماً أن تحرم من الميقات، وميقاتنا أهل مصر إذا مررنا بطريق أهل الشام هو: (الجحفة)، وهي قريبة جداً من (رابغ)، أما إذا نزلنا المدينة أولاً ثم توجهنا إلى مكة، فالميقات حينئذٍ هو: (ذو الحليفة)، فإن كنت مفرداً تقول: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، لبيك حجاً، إذا كنت مفرداً تقول: لبيك حجاً، محلي حيث حبستني، وهذا الاشتراط إن خشيت على نفسك أن تنقطع، فعلى سبيل المثال تخشى أن تفقد جواز سفر، أو تخشى من مرض لا تتم معه الحج، فإذا خشيت من أي عائق فلك أن تشترط، فتقول: اللهم محلي حيث حبستني، وذلك لأنك إذا تحللت من إحرامك بعد اشتراطك لا يلزمك دم من الدماء، بل تتحلل ولا شيء عليك، أما إذا لم تشترط فكما قال تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:196]، فإذا لم تشترط وقدر أن فقد منك جواز سفرك وأنت محرم، فحينئذٍ لا يحل لك أن تتحلل من إحرامك إلا بذبيحة تذبحها. وأين تذبحها؟ من أهل العلم من يقول: تذبحها حيث أحصرت، أي: في المكان الذي انقطعت فيه؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لما صده المشركون ومنعوه من دخول الحرم، وكان عند حدود مكة، ومشارفها، ومكان يقال له الآن: (الشميسي)، وهو: بوابة مكة. في الحديبية منع الرسول هنالك وحبس من العمرة، وصده المشركون عن بيت الله الحرام، فأمر أصحابه أن يذبحوا ما معهم من الهدي عند هذا المكان، فكاد بعضهم أن يقتل بعضاً من القهر والحزن؛ لأنهم منعوا عن بيت الله الحرام. فالشاهد: أن جمهور العلماء يقولون: المحصر يذبح ذبيحته في المكان الذي أحصر فيه، ومن العلماء من يقول: إن المحصر يرسل بهديه إلى البيت العتيق، ولا يتحلل من إحرامه إلا بعد أن يتأكد أن الذبيحة قد ذبحت، واستدلوا على ذلك بقول الله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:33]، وقوله تعالى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح:25] أي: ممنوعاً، وهذا مفسر لقوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:196]، فذهب فريق من أهل العلم إلى أن المحرم إذا أحصر لا يتحلل إلا إذا أرسل هدياً وذبح عند المسجد الحرام، والجمهور على أن الذبح يكون في المكان الذي أحصرت فيه، فخشية من الوقوع في هذا الحرج فلتشترط عند إحرامك قائلاً: اللهم محلي حيث حبستني -أي: مكان تحللي في المكان الذي منعت فيه من الحج- ودليل ذلك أن ضباعة بنت الزبير أتت إلى رسول الله فقالت: (يا رسول الله! إني أريد الحج وأنا شاكية -أي: أخشى من المرض، ألا استطيع المواصلة- قال: حجي واشترطي، قالت: كيف أقول يا رسول الله؟ قال: قولي: اللهم محلي حيث حبستني)، فحينئذٍ الإفراد والقران والتمتع يجوز فيها الاشتراط في الحج، ودليله الحديث الذي سمعتم. وأصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام كانت لهم تلبيات أخرى إضافة إلى تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمنهم من كان يقول: لبيك ذا المعارج لبيك ذا الفواضل، ومنهم من يقول: لبيك حقاً حقاً تعبداً ورقاً، ومنهم من يقول: لبيك إله الحق، لكن نبينا عليه الصلاة والسلام لزم تلبيته التي سمعتم قبل، ولم ينكر على من زاد عليها، فكان عدم نكيره بمثابة السنة التقريرية لأصحابه على هذا الصنيع. وإذا كنت قارناً فينبغي أن تكون قد سقت معك الهدي فتقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك عمرة في حجة، فتدخل الحجة مع العمرة وتمضي قائلاً: لبيك اللهم لبيك، بصيغ التلبية المذكورة، فإذا وصلت إلى مكة اعتمرت، فتطوف طواف القدوم، وإن شئت -أيها القارن- أن تسعى سعيت، وإن شئت أن تؤجل السعي مع طواف الإفاضة أجلته، فالقارن والمفرد ليس عليهما إلا سعي واحد، إن قدماه أولاً مع طواف القدوم فلا مانع من ذلك، ولا يلزمهم سعي آخر، وإن أخراه فلهم ذلك، أما المتمتع فيأتي ويطوف ويسعى ثم يتحلل، ثم عليه سعي آخر مع طواف الإفاضة، فالمتمتع عليه سعيان وطوافان، أما القارن والمفرد فليس عليهما إلا سعي واحد. والسعي والطواف ورمي الجمار كل ذلك شعائر؛ جعلت لإقامة ذكر الله، لكن ثم سنن قد تغفل، فمنها: الإكثار من الدعاء على جبلي الصفا والمروة، فهذه سنة مهجورة، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يطيل الدعاء على الصفا والمروة إطالة شديدة، وكان عليه الصلاة والسلام يطيل الدعاء أيضاً كثيراً كثيراً بعد رمي الجمرة الصغرى وبعد رمي الجمرة الوسطى في أيام التشريق، فقد كان يطيل الدعاء هنالك إطالة شديدة، أما جمرة العقبة فليس بعدها دعاء.

تحلل الحاج من المظالم

تحلل الحاج من المظالم ويلزمنا جميعاً حجاجاً وغير حجاج أن نتحلل من المظالم، وهذا يلزم الحجيج بالدرجة الأولى، فيلزم الحجيج أن يتحللوا من المظالم قبل ذهابهم للحج، فإن الله سبحانه يكفر بالحج الذنوب التي في حقه، أما الذنوب التي في حق العباد فلا تغفر إلا بالتحلل منها. قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين)، وقال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [إبراهيم:42]، ويقول عليه الصلاة والسلام: (من كانت له عند أخيه مظلمة فليتحلل منه قبل أن لا يكون ديناراً ولا درهماً، إنما هي الحسنات والسيئات)، ويقول عليه الصلاة والسلام: (إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار يتقاصون مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا أُذن لهم بدخول الجنة)، فلن تدخل الجنة وأنت ملوث بالمظالم، لن تدخل الجنة وأنت حامل لظلمات، ولن تدخلها أبداً إلا إذا تطهرت من ذنوبك. فلزاماً أن تؤدي المظالم إلى أهلها قبل أن تخرج إلى حج بيت الله الحرام. قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الظلم ظلمات يوم القيامة)، والله يقول: (إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا). فلزاماً لزاماً أن تؤدي المظالم إلى أهلها، ولا تستقل شيئاً منها، وقد يكون الظلم في أمر لا تتصوره أن يكون فيه ظلم.

صور من المظالم

صور من المظالم لقد أورد العلماء أبواباً من الظلم لا تكاد تخطر لأحد منكم على بال، فمما أورده العلماء في أبواب المظالم: أن ترفع بيتك طابقاً عن البيت الذي أمامك، فمن ثم يتأذى من بجوارك، وتجرح جارك، فقيد العلماء رفع البيوت بقيود: أن يكون رفع هذه البيوت لا يجرح من حولك؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إنما جُعلت الاستئذان من أجل البصر) لا يكاد أحد منا يتصور أن العلماء يوردون في أبواب المظالم: الشرفة والغرفة المرتفعة، ولا تكاد أن تتصور أن العلماء أوردوا في كتاب المظالم حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام: (لا يمنعن جار جاره أن يغرز خشبة في جداره) أورد البخاري وهذا الحديث في كتاب المظالم، من حديث أبي هريرة وكان يحدث بالحديث وكأنه يخشى أن ينكر عليه هذا الحديث، فيقول أبو هريرة: والله وإن أبيتم لأرمين بها بين أظهركم، لأرمين بها، أي: لأرمين بالكلمات التي سمعتها من رسول الله بين أظهركم، شئتم ذلك أم أبيتم، لأن قوماً كانوا يستنكرون ذلك، إذ كيف يلزمني أن أسمح لجاري أن يغرز خشبة في جداري؟ فأورد أبو هريرة عليهم هذا الحديث. وقد أورد البخاري رحمه الله في كتاب المظالم من صحيحه حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إياكم والجلوس في الطرقات، قالوا: ما لنا بد منها يا سول الله! قال: فإن كان ولابد فأعطوا الطريق حقه، قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: كف الأذى، وغض البصر، ورد السلام) فللطريق حق في الشرع؛ ولأن الكثيرين لا يستطيعون أن يعطوا الطريق حقها سدت الذريعة، فقال عليه الصلاة والسلام: (إياكم والجلوس في الطرقات) هذا نهي منه عليه الصلاة والسلام، عن الجلوس في الطرقات. ومن العلماء من أورد في كتاب المظالم أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام التي فيها كسر أواني الخمر في الطرقات، وبعضهم علق ترجمة، فقال: هل يجوز لي أن أكسر القدور التي فيها خمر وألقي بها في الشوارع أو لا يجوز ذلك؟ أوردوا في ذلك مباحث فقهية، وحصل أخذ ورد بين العلماء في الجواز من عدمه، والقول بتحريم ذلك حجته أننا سنؤذي المارة، وفي الحديث: (اتقوا اللعانين: الذي يتبول أو يتغوط في طريق الناس أو في مجالسهم) يعني: إذا بلت في طريق الناس أو قضيت حاجتك في طريق الناس لعنك الناس، فكانت هذه من حجة المانعين، وفي إلقاء ذلك في الطرقات أذىً للمارة، والله سبحانه نهى بلفظ عام عن إيذاء المؤمنين والمؤمنات فقال: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب:58]، استدل المجيزون لذلك بأن أصحاب رسول الله لما حرمت عليهم الخمر قاموا إلى الأواني التي فيها الخمر فكسروها في الطرقات، فمن العلماء الأولين من أجاب على ذلك بقوله: إن المصلحة كانت راجحة في هذا الباب، إنما ألقوها في الطرقات للإعلان عن رفضهم للخمر، وللإعلان على أن الخمر قد حرم، ولأن الشوارع كانت متسعة، أما إذا كان المكان ضيقاً فلا يصح لك أن تؤذي المارة، والشاهد من ذلك: أن مثل هذه الأشياء اليسيرة ذكرها العلماء في كتاب المظالم. ومن منا لا يقع في مثل هذه الأمور وهو لا يشعر؟ وأوردوا أيضاً في كتاب المظالم: حديث النبي: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) وقالوا: الذي لا يكرم الضيف قد ظلم الضيف، فمن ثم قال عليه الصلاة والسلام: (أيما رجل نزل بقوم ولم يقروه بما ينبغي له، كان له أن يأخذ منهم بقدر قراه) وفي تفسير قوله تعالى: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء:148] قال فريق كبير من أهل العلم: هذا في الرجل ينزل ضيفاً على قوم فلا يقدمون له ما ينبغي له، فله حينئذٍ أن يتكلم فيهم، وأن يصفهم بالبخل، لكونه حرم حق له، ولكن عفوه أنفع له عند الله، وإن فعل فلا جناح عليه، وهذا قول قوي جداً في تفسير الآية. فلا تستغرب أن مثل هذه الأمور ذكرها العلماء، فكم من شخص ظلم الآخرين وهو لا يشعر! وكم من شخص آذى العباد وهو لا يشعر! فلا يحملنك الشيطان على الأنفة والكبر فلا تطلب من إخوانك أن يعفوا عنك بين يدي سفرك، وبين يدي مماتك، فما منا أحد يضمن نفسه أن يعيش لغد، فإن الله سبحانه قال في كتابه: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:34]. فيا معشر الإخوة! تتخففوا من الذنوب والأوزار بالأعمال الصالحة والاستغفار، وتخففوا من مظالم العباد بالتحلل ورد المظالم إلى أهلها وطلب العفو منهم. اللهم أعنا على أنفسنا، اللهم أعنا على أنفسنا، واجعلنا من المنتصرين عليها ابتغاء وجهك وابتغاء مرضاتك، اللهم مسِّكْنا بالعروة الوثقى حتى نلقاك، اللهم سلم الحجاج والمعتمرين، واكتب للجالسين بنواياهم الطيبة أجر الحاجين والمعتمرين يا رب العالمين! إنك واسع العطاء إنك كريم جواد، يا رب العالمين! اللهم يا ربنا يا سميع الدعاء انصر المستضعفين من المؤمنين في مشارق الأرض ومغاربها، وارحم أمواتنا وأموات المسلمين، وأقل عثراتنا وعثرات المسلمين، وأختم لنا بخير، واجعل مآلنا إلى خير، وأورثنا جناتك جنات النعيم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

وقفات مع فريضة الحج [2]

وقفات مع فريضة الحج [2] الحج فريضة الله على عباده لمن استطاع إليه سبيلاً، وينعقد الحج بالنية والتلبية، ولشعائر الحج معان عظيمة، إذ إنها شرعت لإقامة ذكر الله، حتى الهدي والأضاحي ما شرعت إلا لذكر الله.

الحج فريضة لله على عباده

الحج فريضة لله على عباده بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. وبعد: فوقفات مع فريضة الحج التي هي لله سبحانه وتعالى على عباده، كما قال الله في كتابه الكريم: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97]، فهذه الآية الكريمة هي التي عول عليها جمهور العلماء في إيجاب الحج، فضلاً عن سائر الأحاديث الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذه الآية الكريمة عول عليها كافة أهل العلم في إيجابهم للحج، فلله عليك حق لا بد أن تؤديه إذا استطعت إليه سبيلاً.

التلبية

التلبية فنقف وقفات مع هذه الفريضة التي هي ركن من أركان الإسلام: تنعقد هذه الفريضة بقول القائل: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، وبعد ذلك إن شئت أن تضيف إليها بعض الإضافات فلتضف، وإن شئت أن تثبت عليها فاثبت عليها ولازمها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لازمها واستمر عليها من بداية حجه إلى أن رمى جمرة العقبة الكبرى، فلم يؤثر عنه أنه فارق هذه الصيغة: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، أما أصحابه فكانوا يزيدون أحياناً، فمنهم من يقول: لبيك إله الحق!، ومنهم من يقول: لبيك حقاً حقاً تعبداً ورقاً، ومنهم من يقول: لبيك ذا الفواضل! لبيك ذا المعارج! ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على أحد منهم. إنما أنكر صلى الله عليه وسلم على قوم من أهل الشرك زادوا ما لم ينزل الله به سلطاناً، فكان أهل الشرك يقولون: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك، فكانوا إذا بلغوا إلى قولهم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، يوقفهم النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: (يا أيها الناس حسبكم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك) فيعارضونه ويعاندونه ويزيدون: إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك، فيبطلون أعمالهم بهذه الصيغة، ويوردون أنفسهم النار -عياذاً بالله- خالدين فيها مخلدين بسبب زيادتهم: إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك. فهذا هو الذي أنكره رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذاً: تنعقد فريضة الحج بالتلبية، ويبدأ الإهلال بالنية المصحوبة بقوله: لبيك اللهم لبيك، أي: إجابة لك -يا رب- بعد إجابة، وسمعاً لك وطاعة يا ربي! ثم سمعاً لك وطاعة، سمعاً لك وطاعة -يا ربي- وحدك لا شريك لك، فطاعتنا لكل شخص إنما هي منبثقة من طاعتنا لله، فطاعتنا للوالدين؛ لأن الله أمرنا بها، وطاعتنا لأولي الأمر؛ لأن الله أمرنا بها، وطاعة الزوجة لزوجها؛ لأن الله أمرها بها، قال تعالى: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء:34]. الشاهد من ذلك: أن كل طاعة تصدر منا، وكل توقير يصدر منا لأحد، فهو لأن الله سبحانه وتعالى أمرنا بذلك، فامتثلنا أمره سبحانه، وإن حدث نزاع بيننا وبين شخص فالمرد إلى الله والمرجع إليه سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء:59]، وطاعتنا لنبينا محمد عليه الصلاة والسلام إنما هي منبثقة من طاعتنا لله عز وجل، قال تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور:54]، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء:64].

معنى التلبية

معنى التلبية يحرم الحاج بقوله: لبيك اللهم لبيك أي: إجابة لك -يا رب- بعد إجابة، إذ دعانا خليلك صلى الله عليه وسلم، وإذ أذن فينا بالحج، فأتيناه رجالاً وعلى كل ضامر، أتيناه من كل فج عميق، أتينا يا ربي سامعين لك وملبين لنداء خليلك صلى الله عليه وسلم، لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، الناس غير مبتغين وجهاً غير وجهك يا ربنا! لبيك لا شريك لك، كلمة التوحيد: لبيك اللهم لبيك، سمعاً وطاعة لك -يا رب- إذ ناديتنا، ثم بعد ذلك السمع والطاعة لرسول الله إذ الله أمرنا بطاعة رسوله محمد. لبيك لا شريك لك لبيك، سمعاً وطاعة لك يا ربنا! ثم سمعاً وطاعة لنبيك إبراهيم عليه السلام، ثم سمعاً وطاعة -يا ربنا- لنبيك محمد، لا شريك لك، لا نبي يشاركك، ولا ولي يشاركك في ملكك يا ربنا! أنت وحدك لا شريك لك، لبيك لا شريك لك لبيك، فلذلك لا نقول للسيد البدوي بعد موته: لبيك يا سيد يا بدوي أبداً، ولا نقول أبداً: لبيك يا حسن ويا حسين، بعد موتهم، ولا لأي شخص كائناً من كان بعد أن مات، ولا نهل له بالحج أبداً، حتى الذين يزورون قبور الذين يزعمون أنهم أولياء لله، ويطوفون بها، عند حجهم لا يهلون لهم كما قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:67] فالذي يزور السيد البدوي ويتبرك به، في حجه لا يقول أبداً: لبيك يا سيد يا بدوي، لا يقول ذلك أبداً بحال من الأحوال، وقد ورد في حديث في إسناده كلام، أن النبي قال لوالد عمران بن حصين لما جاء يسلم: (كم تعبد من إله يا عمران؟ قال: سبعة ستة في الأرض وواحد في السماء، فقال: من الذي تعد لرغبتك ولرهبتك؟ قال: الذي أعده لرغبتي ورهبتي الذي في السماء) فمن هنا ألزمه رسول الله عليه الصلاة والسلام أن يسلم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعلم مناسك التوحيد: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك) ختمت التلبية أيضاً بلا شريك لك؛ لتأكيد التوحيد، وللتأكيد على كلمة التوحيد لأنها معقد الإسلام، وبها ينجو الشخص من الخلود في النار، وبها يحاجج لك رسولك محمد صلى الله عليه وسلم عند ربك. قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي طالب: (يا عمي! قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله عز وجل) أي: بها تنال شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وقال عليه الصلاة والسلام لما سُئل من أحق الناس وأولى الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: (من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه). فأكثروا من قولها -يا عباد الله- حتى تكون سبباً في نجاتكم يوم القيامة، وتنالون بها رفعة الدرجات، فهي أعلى شعب الإيمان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق) بين ذلك أعمال وأذكار وطاعات، وأعظم شعب الإيمان كلها قول: لا إله إلا الله، فأكثروا منها، فهي خير ما قاله النبي محمد عليه الصلاة والسلام، وخير ما قاله النبيون من قبله.

فضائل الكعبة

فضائل الكعبة بعد التلبية تشد الرحال إلى بيت الله الحرام الذي قال الله فيه: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا} [آل عمران:96] فليس هو بيت المقدس كما زعم الإسرائيليون، إنما كما قال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران:96] كي يعبدوا فيه ربهم ويتقربوا إليه، وقد سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي مسجد وضع للناس أول يا رسول الله؟ قال: (المسجد الحرام، قيل: ثم ماذا؟ قال: ثم المسجد الأقصى، قيل: كم بينهما؟ قال: أربعون سنة، وحيثما أدركتك الصلاة فصل) هكذا قال رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام. قال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا} [آل عمران:96] وجه البركة فيه: ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال: (اللهم إن إبراهيم دعا لمكة أن تبارك في مدها وفي صاعها، وأنا أدعوك للمدينة كما دعا إبراهيم لمكة: أن تبارك لنا في صاعنا وفي مدنا وفي ثمرنا، وأن تجعل لنا ضعف ما لمكة من البركة) هذا وجه من البركة. ووجه آخر: أن الصلاة في المسجد الحرام تعدل مائة ألف صلاة فيما سواه من المساجد. ووجه ثالث: أن به زمزم، وهي: (طعام طعم وشفاء سقم) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. ووجه رابع: أن من دخله كان آمناً، فمكة لا ينفر صيدها، ولا يعضد شوكها، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد، ولا يُختلى خلاها، ولا يقطع فيها الحشيش الذي ينبت على الأرض، وكل هذا من تحريم الله سبحانه وتعالى لمكة، {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران:96] به تهتدي، {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} [آل عمران:97]، أي: دلالات واضحات. ما هذه الدلالات؟ {مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران:97] فيه مقام إبراهيم، ففي هذا المقام تتذكر أئمة الهدى الذين أُمرنا بالاقتداء بهم، فلكل فريق إمام، سواءً كان كافراً أو مؤمناً، ونحن أهل الإيمان أئمتنا أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم، فعليهم نصلي ونسلم، وبهم نتأسى ونقتدي، وعلى دربهم ونهجهم ومعتقدهم نسير، قال تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:83 - 90]، هؤلاء الذين أُمرنا بالاقتداء بهم، وهم سلفنا وأئمتنا، وأكبر أئمتنا هذا الرهط الكريم المبارك، ثم خاتمتهم محمد صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء أئمتنا نصلي عليهم ونسلم، وبهم نتأسى ونقتدي صلوات الله وسلامه عليهم. فنتذكر هذا الموكب الكريم الذي سبقنا بإحسان وببر وبصلاح، وختم حياته بخير، متجهاً إلى ربه، لقد ماتوا على التوحيد الذي اصطفاه الله لهم واختارهم له، وأوصونا جميعاً به، {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132]، ونتذكر أئمتنا الذين حلوا ونزلوا بهذه المواطن الكريمة، والذين طافوا حول الكعبة، والذين سعوا بين الصفا والمروة، الذين فُجرت لهم زمزم، الذين صلوا في مسجد الخيف، فقد صلى في مسجد الخيف سبعون نبياً، نتذكر هؤلاء الأئمة، ومن ثم نقتدي بهم ونقتفي أثرهم، سائلين الله أن يجمعنا جميعاً بهم عليهم الصلاة والسلام. أما أئمة الضلال فأئمتهم: فرعون، وهامان، وقارون، وأُبي بن خلف، وأبو جهل بن هشام، وشيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة، وقوم تبع، وأصحاب الأيكة، وثمود، وعاد، وإخوان لوط، فهؤلاء هم أئمة أهل الكفر، فهم يتلاعنون فيما بينهم، أما نحن أهل الإيمان فبيننا تراحم، ونترحم على سلفنا، ونصلي على أنبياء الله ونسلم، ويستغفر لنا بعد موتنا من تبعونا بإحسان إلى يوم الدين، قال نوح عليه السلام: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} [نوح:28] وهذا من محاسن هذا الدين القيم، فمن سبقونا نصلي عليهم ونترحم، ومن يأتون بعدنا يصلون علينا ويترحمون علينا، ثم يوم القيامة نحمد الله على هذا الصنيع، نحمد الله الذي هدانا له وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا إليه، ثم نحمده لإخواننا الذين كانوا سبباً في هدايتنا. أما أهل الغواية فيوم القيامة يكفر بعضهم ببعض، ويلعن بعضهم بعضاً، ومأواهم النار وما لهم من ناصرين {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67].

عبرة وعظة من استسلام إبراهيم عليه السلام لربه

عبرة وعظة من استسلام إبراهيم عليه السلام لربه عند توجهنا إلى بيت الله الحرام نتذكر أئمتنا كيف كان استسلامهم لربهم وخالقهم سبحانه؟ وكيف كان استسلام إبراهيم عليه السلام إذ أمر أن يطرح ولده إسماعيل، وهو طفل رضيع لا يجري ولا يسعى، وأمه هاجر امرأة ضعيفة مستضعف، فيلقيهما إبراهيم عليه السلام في أرض موحشة قفر، ليس لهم فيها أنيس ولا جليس، وينصرف عنهم صلى الله عليه وسلم، فتقول هاجر: يا إبراهيم! إلى أين تذهب وتتركنا في هذا المكان؟ ولم يكن ثم بيت لله ظاهر، ولم تكن الكعبة قد بنيت، فمعالم الحرم مندثرة تماماً، فتركهم إبراهيم في جبال مكة عند ماء زمزم الآن، وليس ثم ماء، وليس ثم أنيس، ولا جليس، وتركهم إبراهيم عليه السلام على هذا النحو وعلى هذا المنوال، فنظرت هاجر المرأة الضعيفة إلى إبراهيم وهو ينصرف عنها وعن ولدها الرضيع الصغير فقالت: يا إبراهيم! إلى أين تنصرف؟ ولمن تتركنا؟ قال: أترككم لله، فقالت: آلله أمرك أن تنزلنا هذا المكان وتنصرف؟ قال: نعم، ومضى متجلداً أمامها، ثم لما اختفى عن عينيها رفع يديه إلى السماء: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم:37] فاستجاب الله دعاءه، وعطشت هاجر عطشاً شديداً هي ووليدها، فطفقت تسعى بين الصفا والمروة ذاهبة وعائدة، تبحث عن الماء ولا تجد ماءً، حتى ضرب ولدها الأرض برجله فتفجرت زمزم ينبوعاً. قال أبو هريرة: فتلك أمكم يا بني ماء السماء. وتفجر الماء المبارك ماء زمزم، فأتاها الناس إذ رأوا الطير تحوم حول الماء، وأنزلوها منزلاً كريماً، وكفاها الله وولدها شر ما أهمها، وأزال الله عنها الحزن بعد أن كادت أن تهلك، فرحمها الله، عليها سلام الله هي وولدها وزوجها. فانظر إلى امتثال إبراهيم عليه السلام لأمر الله سبحانه وتعالى، فقد ترك ولده وأم ولده ممتثلاً لأمر الله، ولتلتمس نساؤنا هدياً من هاجر إذ سألت زوجها: آلله أمرك بهذا؟ فقال: نعم. قالت: إذاً لا يضيعنا! فما ضيعها الله بعد أن أحسنت الظن بالله سبحانه. نمتثل هدياً، نمتثل استسلاماً لله، إذ يؤمر إبراهيم الشيخ الكبير بأن يذبح ولده، وقد رزقه الله إياه بعد زمن طويل، ثم يؤمر بذبح الولد، قائلاً: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102] لم يكن إسماعيل عاقاً أبداً فقد قال: (افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ)، هكذا قال إسماعيل، ففداه الله سبحانه بذبح عظيم، فلنحيي سنة الأضاحي امتثالاً لأمر نبينا واتباعاً لسنة إبراهيم عليه السلام، إذ فدى الله ولده بذبح عظيم.

مقام إبراهيم عليه السلام

مقام إبراهيم عليه السلام هذه المعالم كلها نستمدها من الذهاب إلى هذه الأماكن المباركة: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} [آل عمران:96 - 97] أي: واضحات، منها: مقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ومقام إبراهيم هو: صخرة كان إبراهيم عليه السلام يقف عليها ليبني عالي الكعبة بعد أن ارتفع البناء، فكان يقف عليها ويناوله إسماعيل الحجارة، وكان المقام ملصقاً بالكعبة، وكان فيه أثر قدم إبراهيم، وربنا على كل شيء قدير، فأثرت قدم إبراهيم في الحجر، ثم بقي هذا الأثر إلى زمن رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، وكان أبو طالب يستشهد به على نبوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم؛ إذ كانت قدم النبي محمد مماثلة تمام التماثل لقدم إبراهيم عليه السلام، فكان أبو طالب يستشهد بذلك على نبوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، قال عليه الصلاة والسلام: (ورأيت إبراهيم فإذا أشبه الناس به صاحبكم) يعني: نفسه صلى الله عليه وسلم. فلما جاء عمر أخر المقام أمتاراً عن الكعبة، وهي المسافة التي ترونها بين المقام وبين الكعبة الآن، فإذا ذهبنا إلى هذه الأماكن نصلي خلف المقام، ونتذكر نبي الله إبراهيم. أما أهل الغواية فإلى أين يذهبون؟ يذهبون إلى مقابر الفراعنة، وإلى أهرامات الكفار المتسمون بـ (خوفو وحفرع ومنقرع) هؤلاء أهل كفر وضلال وغواية، فأي ذكرى تنفع من زيارة هؤلاء الكفار الذي ماتوا على الكفر؟ وقد قال نبينا محمد عليه الصلاة والسلام في شأن قوم ثمود: (لا تدخلوا على هؤلاء القوم إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم). إن رؤية أماكن الخير تذكرنا بالخير، وإن رؤية أهل الفضل تذكرنا بالفضل، وإن رؤية أهل القرآن تذكرنا بالقرآن، أما رؤية أهل الكفر فماذا عساها أن تذكر؟ وما عسانا أن نتذكر إذا رأينا صنماً لأبي الهول أو هرماً لخوفو؟ ماذا عسانا إن اللبيب يتذكر أن هؤلاء أئمة ضلال، ماتوا على الكفر إلى غير رحمة الله، فصاروا إلى الجحيم عياذاً بالله منها.

تواضع النبي صلى الله عليه وسلم في الحج

تواضع النبي صلى الله عليه وسلم في الحج نستشغر في هذه المواطن التواضع لله، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرة، ويقول بعض أصحابه: رأيت النبي عليه الصلاة والسلام يرمي جمرة العقبة، لا ضرب ولا طرد ولا إليك إليك. أي: لا توسع له الطرق، ولا يضرب الناس ولا يطردون الناس من أجله صلى الله عليه وسلم، بل كان يمشي عليه الصلاة والسلام متواضعاً مع الماشين، لا يطرد الناس من حوله، ولا يضرب الناس من أجله، إنما يأتي وقوراً متواضعاً لله خاشعاً له، يرمي الجمرة كما يرميها الناس، منه يتعلم الناس وبه يقتدون، ويلتمسون منه التواضع، يلتمسون منه صحيح العبادة والنسك، فيمتثلون أمره، ويقتفون أثره عليه الصلاة والسلام. فنلتمس من رسولنا التواضع، وعدم الزحام، وعدم أذى العباد، فالرسول عليه الصلاة والسلام كان يطوف بالبيت، فإن استطاع أن يستلم الحجر بيده فعل ولا يزاحم، وإن لم يستطع أشار إليه بمحجنه ثم انصرف عليه الصلاة والسلام، لا يزاحم الناس ولا يؤذيهم، وعند دفعه صلى الله عليه وسلم من عرفات إلى مزدلفة كان الناس يتسارعون ويتسابقون فعلمنا صلوات الله وسلامه عليه هدياً في ذلك فقال: (أيها الناس! عليكم هدياً قاصداً، أيها الناس! السكينة السكينة -أي: الزموا السكينة- ليس البر بالإيضاع) أي: ليس البر بالإسراع وإنما الزموا السكينة، (كان يمشي بوقار وإذا وجد فجوة من الفجوات أسرع ونط) أي: قفز عليه الصلاة والسلام، فلم يكن رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام يزاحم ولا يلقي بيديه إلى التهلكة. وقف صلى الله عليه وسلم في عرفات الصخرات وقال: (وقفت ها هنا، وعرفة كلها موقف)، ووقف عند المشعر الحرام بمزدلفة وقال: (وقفت هاهنا، وجمع كلها موقف)، مر عليه الصلاة والسلام في طريقه من مزدلفة إلى منى بوادي محسر فأمر أصحابه بالإسراع وعدم التباطؤ عند هذا الوادي، فلماذا ينهى الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه عن المكث في وادي محسر، ويأمرهم بالإسراع عند المرور به؟ قال علماء السير: إن وادي محسر هو: الوادي الذي عذب عنده أبرهة الحبشي، ومنع من دخول الحرم، وهنالك أرسلت عليه طيراً أبابيل، ترميه وأصحابه بحجارة من سجيل، فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقف في هذا الوادي وهذا الوادي يقع على مشارف منى من ناحية مزدلفة. ومن ثم ينبغي ألا يمكث الحجيج في هذا الوادي الذي نهى الرسول عليه الصلاة والسلام عن المكث فيه، والإطالة فيه، فعنده أهلك أبرهة، وكان الفيل قد حبس فامتنع من دخول مكة، وكان أبرهة متجهاً إلى مكة من ناحية عرفات، فإنه قدم من اليمن ومر بالطائف، وكان يريد دخول مكة من ناحية عرفات، فامتنع الفيل عن الدخول، وكان الفيل يضرب بالحديد كي ينهض ويدخل مكة فيأبى إباءً شديداً أن يدخل مكة، وهذا من قضاء الله وتدبيره أن تمتنع هذه الدابة من دخول مكة. ولذلك لما قدم رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام يريد دخول مكة، وعلا مشارف مكة امتنعت ناقته القصواء من دخول مكة، فكان الناس يضربون ناقة الرسول صلى الله عليه وسلم التي تسمى القصواء كي تدخل مكة، والناقة لا تتحرك! فقال المسلمون: خلأت القصواء وليس ذاك لها بخلق، أي: لا ينبغي أن تمتنع القصواء من دخول مكة، فقال عليه الصلاة والسلام: (كلا والله. والله ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل) أي: حبسها الله من دخول مكة، ثم دخل عليه الصلاة والسلام مكة عليها، وأمر أن يدخل مكة من طريق معينة، وتذكر عليه الصلاة والسلام وهو داخل مكة مقولة حسان بن ثابت عندما أخرج من مكة، فقال أبياتاً من الشعر يتصبر بها: فقدت بنيتي إن لم تروها تثير النقع مطلعها كداء أي: فقدت ابنتي -يا معشر المشركين- إن لم تروا خيلنا ترجع إليكم غازية لكم، وتثير الغبار متجهة لكم من كداء، تذكر النبي صلى الله عليه وسلم مقولة حسان تلك فامتثلها ودخل من ناحية كداء فاتحاً مكة، صلوات الله وسلامه عليه. كل هذه المعاني نتذكرها ونحن داخلون إلى مكة، فهي معان ينبغي أن نتذكرها، ثم نهتدي بها، كما قال تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران:97]، نأخذ من الحج الامتثال لأمر الله، فنحن نرمي الجمرات، وما ندري لماذا نرميها؟ وما ندري لماذا نرميها بسبع؟ ورد أثر لذلك، أنه لرمي إبراهيم الشيطان، إلا أن الأثر ليس بمرفوع إلى الرسول عليه السلام، ونرمي الجمرات، ولا ندري لم نرم، ونطوف لا ندري لم نطوف سبعاً ولا نطوف تسعاً، والحكمة الامتثال لأمر الله، والامتثال لهدي رسول الله عليه الصلاة والسلام.

الحكمة من تشريع الشرائع

الحكمة من تشريع الشرائع عباد الله: التمسوا من حجكم المتثال والسمع والطاعة لله ثم لرسول الله عليه الصلاة والسلام: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور:54]، فإن الأنساك والشعائر إنما شرعت لإقامة ذكر الله، وكذلك المواسم عند أهل الإسلام إنما شرعت لإقامة ذكر الله، وكذلك الأماكن إنما فضلت لذكر الله فيها، فالأزمنة والأمكنة ما فضلت لكبير شيء؛ إلا لأن الله يذكر فيها. قال تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج:34] فالأنساك، والأعياد، والمواسم، والذبائح، والصلوات، والحج، والجهاد، والصيام؛ كل ذلك شرع لإقامة ذكر الله عز وجل، فالصلوات شرعت لإقامة ذكر الله، قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14] أي: لتذكرني فيها، وقال تعالى في بيان حكمة شرعه للجهاد: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} [الحج:40] فالجهاد إنما شرع لإقامة ذكر الله، وكذلك الذبائح والأضاحي التي نتقرب بها إلى الله، نتقرب بها لذكره، {لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:185]، ولذلك قال فريق من أهل العلم في الآية الأخيرة: إذا نذرت أن تذبح كبشاً فلا يجزئ أن تشتري مائة كيلو لحم وتتصدق بها؛ لأن ذبح الكبش فيه ذكر الله.

فضيلة عشر ذي الحجة

فضيلة عشر ذي الحجة أيها الأحبة: المواسم والأعياد شرعت لإقامة ذكر الله، وهذه العشر من ذي الحجة يوشك هلالها أن يرى الليلة أو في الغد، فهي عشرة أيام من أشرف أيام السنة كلها، بالنص من سنة رسول الله، أو قول راجح عند جمهور المفسرين في الآية، أما الآية فإن الله أقسم بها: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر:1 - 2] يقسم الله بعظائم الأمور في كتابه الكريم، {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر:1 - 2]، أما النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه العشر -يعني: العشر الأول من ذي الحجة- قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله يا رسول الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا أن يخرج أحدكم بنفسه وماله ثم لا يرجع من ذلك بشيء). هل هلال هذه العشر أو كاد أن يهل، ونسأل الله أن يهله علينا جميعاً بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، والتوفيق لما يحب ويرضى من صالح القول وصالح العمل وصالح النوايا، فهي نعمة من الله أن يبلغك مواسم تتقرب ففيها إليه، فيها تغفر الذنوب وتحط الخطايا، وهذه نعمة من الله أن يبلغك هذه العشر، ويفتح لك فيها أبواباً للطاعات، ويضاعف لك الثواب، فإذا كان ثواب التسبيحة في يوم من الأيام بحسنة أو بعشر حسنات، فثواب التسبيحة في هذه العشر أضعاف مضاعفة، وثواب التهليل أضعاف مضاعفة، وثواب التكبير كذلك، ولا يعلم قدر تضاعف للثواب في هذه الأيام إلا الله سبحانه وتعالى. فلا ينبغي أبداً أن تغبن وتبخس في هذه الأيام، ولا ينبغي أن تغفل عن الذكر فيها، فقد كان أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم في هذه الأيام يكبرون ويهللون، ويحمدون ويسبحون، فقد أخرج البخاري تعليقاً عن أبي هريرة وابن عمر أنهما كانا في هذه العشر يخرجان إلى الأسواق يكبران ويهللان ويذكران الله سبحانه وتعالى، وهذا معروف عن ابن عمر أنه كان يخرج إلى الأسواق يذكر الله ويذكر به على مدار السنة، لكنه كان يكثر الخروج في هذه الأيام، وكان يخرج في بعض أوقات السنة إلى الأسواق أحياناً لمجرد إلقاء السلام على الناس، فيغنم الحسنات، ويغنم من رد عليه السلام الحسنات. فيا عباد الله! كان سلفكم الصالح يكثرون من التحميد والتهليل، والتكبير والتمجيد، والتسبيح، وعموم الذكر في هذه الأيام، وكذلك تلاوة القرآن، فإن كان لك من كتاب الله ورداً تقرأ مثلاً جزءاً، فلتقرأ في هذه العشر جزأين، إن كان لك في يومك مائة تسبيحة فلتجعلها مائتين أو ثلاثمائة، وما تفعل من خير فلن تكفره. أدب اللسان بعض الشيء في هذه الأيام، قل: كفاك أيها اللسان لغواً، وخوضاً في القيل والقال، كفاك أيها اللسان طول العام خوضاً في الأعراض، فلتكثر أيها اللسان من ذكر الله فإنك مسئول وناطق أمام الله {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور:24]. فيا عبد الله! كفاك لغواً، وقيلاً وقال، وكفاك مزاحاً وكثرة كلام طول العام، فهذه الأيام أجمع فيها القلب والعقل والفؤاد على ذكر الله عز وجل، كفاك مزاحاً وجلوساً في الطرقات، فاغتنم هذه الأيام بما تكفر به ذنوبك وتحط به خطاياك، فهذه الأيام ستنصرم، بل ستنصرم الدنيا كلها، فلا تخرج منها وأنت مغبون، فالخاسر من خسر نفسه، والهالك من نسي نفسه، فزك نفسك: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:9 - 10] زك نفسك في هذه الأيام، زك لسانك وبصرك، ووزكِ فؤادك وخطاك فإن هذه الأيام سترد ثم ستنصرم غداً. أما الصيام في هذه العشر فلأهل العلم فيه قولان: ورد عن أمنا عائشة رضي الله عنها كما في صحيح مسلم أنها قالت: (ما صام النبي صلى الله عليه وسلم العشر قط) فاستدل به على أنه لا يسن صيام العشر، وورد حديث آخر من طريق راو يقال له هنيدة عن بضع أزواج النبي أنها قالت: (ما ترك رسول الله صيام العشر)، ومن ناحية الإسناد فحديث عائشة أصح، ومن العلماء من جمع بين الحديثين وقال: فلتصم أحياناً ولتترك أحياناً، هذا إذا سلمنا بصحة الخبرين معاً، فنقول: إن كل زوجة أخبرت بما علمت، فيكون النبي صلى الله عليه وسلم قد صام أحياناً وترك أحياناً، وهذا جمع ممكن وحسن، والله تبارك وتعالى أعلم.

الأضاحي

الأضاحي أيها الأحبة: أنتم على مشارف العشر، وقد قال الله في يوم منها وهو يوم النحر: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2]، والخطاب وإن كان موجهاً لرسولنا محمد صلى الله عليه وسلم إلا أن المسلمين أخذوا من ذلك سنة متبعة عامة، وهي سنة الأضاحي: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2] أي: وانحر لربك، فإذا كنت موسراً فأنفق في هذه السبل، والقربات فهي خير ما تنفق فيه الأموال، والله لأن تنفق مالاً في أضحية خير من أن تنفقه في بدلة وفي كرفته، ولأن تنفق مالاً في أضحية خيرٌ من أن تنفق مالاً في غير قربة، ولأن تنفق مالاً في حج خير لك من أن تنفقه في سيارة فخمة، وقد تغني عنك سيارة تقوم بالغرض، فلتؤجل شراء السيارة الفخمة، فإنفاقك في الأضاحي -إن كنت موسراً ووسع الله عليك- إحياء لسنة إبراهيم عليه السلام، وإحياء لسنة نبيك محمد عليه الصلاة والسلام. وفي هذه الأضاحي ذكر لله، {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة:185] فغيرك يهل بآلهة أخرى، فليس المراد فقط أنك تقول عند الذبح: باسم الله والله أكبر، وفي هذا ثواب بلا شك، ولكن الإهلال نفسه لله فيه أجر، ففيه إقرار بالتوحيد، وبالذبح لله وحده، فعندما تقول: باسم الله والله أكبر على الذبيحة فأنت مأجور أجراً أعظم ثم أعظم ثم أعظم من رجل يقول: باسم الله والله أكبر، في موطن آخر، وقد يقول قائل: أنا أقول: (باسم الله والله أكبر) في أي وقت فما الفضل الزائد في كوني أقول: (باسم الله والله أكبر) على الذبيحة؟ نقول: إن هذا إقرار بتوحيدك وإخلاصك لله، فإن أهل الكفر يسمون باسم اللات أو العزى أو مناة الثالثة الأخرى، والنصارى يهلون لغير الله، وكذلك عموم أهل الكفر، أما قولك عند الذبح: باسم الله والله أكبر، فهو دال على توحيدك وإخلاصك لله، فالأجر في ذلك أعظم. ثم إن الله قال: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا} [الحج:37] أي: الله ليس في حاجة إلى طعامكم ولا إلى شرابكم أبداً سبحانه، فهو الغني له ما في السماوات وما في الأرض، {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:37] هذا كلام ربنا، فإذا قست الأمور بالمقاييس المادية خبت وخسرت، فعموم الناس -إلا من رحم الله- يزنون الأمور بميزان المال والدنيا، لكن إذا وقفنا مع ربنا ومع آيات ربنا علمنا أن الميزان هو التقوى، ماذا فعل ابني آدم؟ كلاهما قرب قرباناً، فهذا تقرب إلى الله بقربان، وهذا تقرب إلى الله بقربان، لكن التقي الذي استعظم القربان، وطاب نفساً به، فأخرجه غير شحيح به، بل أخرجه متقرباً به إلى الله محباً لذلك، وُقِي شح نفسه، وأخلص لله في ذلك كله، ورجا بالقربان التقرب إلى الله كما هو مفهوم القربان؛ فتقبل منه، أما الذي قرب وهو شحيح، وذبح وهو شحيح، يمد رجلاً ويؤخر الأخرى، يمد يداً ويؤخر الأخرى، يقول: أنا أولى، زوجتي أولى، ثم قد يمتنع، فهذا الله غني عنه وعن قربانه. إذا قست الأمور بالمقاييس الشرعية تجد أن الأمم من قبلنا كان إذا غنم نبيها غنيمة يجمع كل الغنائم التي غنمها من الكفار في مكان واحد، فتنزل نار من السماء تلتهم الغنيمة كلها، فماذا يكون حال ذلك النبي حينئذٍ؟ يسعد أيما سعادة هو وأصحابه، ويفرحون أشد الفرح إذا نزلت النار وأكلت هذه الغنائم، فهذا دليل على قبولها، ومن ثم قال اليهود للرسول صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران:183] جاءت أنبياء اليهود بهذا ومع ذلك قتلتهم اليهود، فاليهود قوم بهت، وفي بعض الآثار أن اليهود قتلوا ثلاثمائة نبي في صبيحة واحدة، ثم قاموا إلى السوق آخر النهار يبيعون العدس والفول ولم يبالوا بما فعلوا!! الشاهد: أن من قبلنا كان أحدهم يفرح إذا تقرب بقربان وقبل منه، قال نبيكم محمد عليه الصلاة والسلام: (غزا نبي من الأنبياء -وفسر هذا النبي بأنه يوشع بن نون عليه السلام- فأوشكت الشمس على الغروب فقال: يا شمس! إنكِ مأمورة وأنا مأمور، أنتِ مأمورة بالغروب، وأنا مأمور أن افتح البلدة قبل غروبك، اللهم احبسها علينا، فحبست الشمس إلى أن فتح البلدة ثم قال: ائتوني بالغنائم، فأتوه بالغنائم، فجمعها في صعيد ولم تنزل النار لالتهامها وأكلها! فقال لأصحابه: أيها الناس! إن فيكم رجلاً قد غل -أي: سرق من الغنيمة- فليبايعني من كل قبيلة منكم رجل، فبايعه رجلٌ رجلٌ من كل قبيلة، فلصقت يده بيد رجل منهم، فقال: في قبيلتك الغلول، فلتبايعني قبيلتك رجلاً رجلاً، فبايعوه، فلصقت يده بيد رجل منهم فقال: عندك الغلول؟ قال: نعم يا نبي الله! فذهب وأتى برأس بقرة من ذهب كان قد أخفاها من الغنيمة، فأخذها النبي ووضعها في الغنائم، فنزلت النار والتهمتها). فالشاهد من ذلك: أننا لا ينبغي أن نقيس الأمور بمقاييس الدنيا أبداً، فالمال مال الله، وما أنفقت من شيء فالله يخلفه، {وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ:39] قد قال الله: (يا ابن آدم! أنفق أنفق عليك، يا ابن آدم أنفق أنفق عليك). فإذا كان بوسعك أن تشتري أضحية تستعظم هذه الأضحية وتسمنها ثم تتقرب بها تقرباً جميلاً إلى الله؛ فلا تبخل عن نفسك، {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} [محمد:38] ولتطعم منها الفقراء، والمحتاجين فكم من رجل لا يكاد يأكل اللحم إلا في هذه المواسم، وكم من رجل ينتظر صدقتك في مثل هذا الموسم؟! كم من رجل ينتظر اللحم الذي ما ذاقه طول العام هو وأولاده وينتظرون قطعة تسوقها إليهم؟ فلا تحرم نفسك الأجر، ولا تحرم الفقراء والمساكين الطعم، وكما تقدم فالله قال: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:37].

ما يسن لمن أراد أن يضحي

ما يسن لمن أراد أن يضحي معشر الإخوان! يسن لمن أراد أن يضحي ألا يأخذ من شعره ولا من أظفاره شيئاً إذا دخلت هذه العشر، على المذهب الصحيح من أقوال العلماء، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره شيئاً)، وهل أهل بيت الرجل يلتحقون به في هذا الحكم؟ بمعنى: إذا كنت -يا رب البيت- تريد أن تضحي فهل أهلك أيضاً يمتنعون من أخذ شيء من الشعور والأظفار في هذه العشر؟ يرى فريق من أهل العلم أنه كما أن الأضحية تجزئ عن الرجل وأهل بيته، فكذلك يلزم الرجل وأهل بيته جميعاً ألا يأخذوا منها شيئاً من باب المقابل والقياس، فقالوا: ينبغي ألا تأخذ من شعرك ولا من أظفارك شيئاً إذا كنت تريد أن تضحي، وأهل بيتك كذلك، هذا قول. والقول الآخر: أن أهل البيت يستثنون، والأول أحوط وأقرب إلى الأقيسة، والله تبارك وتعالى أعلم. وهذا الحكم استثني منه الحجيج بلا شك، إذ الرسول عليه الصلاة والسلام وصل إلى مكة الرابع من ذي الحجة، وأمر أصحابه الذين اعتمروا عمرة التمتع أن يتحللوا ويقصروا من شعورهم، فليعلم إخواننا الحجيج المتمتعين أن عمرة التمتع السنة فيها التقصير، وهذا بالنسبة لعمرة التمتع خاصة، لأنه سيأتي عليك الحلق في الحج، وحديث: (غفر الله للمحلقين ثلاثاً) هو في غير عمرة الحج. هذا، ونسأل الله سبحانه أن يلهمنا وإياكم ذكره وشكره وحسن عبادته في هذه الأيام، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أتحبون أن تجتهدوا في الدعاء؟ قولوا: اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم أهل علينا هلال ذي الحجة بأمن وإيمان، وسلامة وإسلام، وتوفيق لما تحب وترضى. اللهم ارفع الضر عن المتضررين من المسلمين، وارفع البأساء عن البائسين من المسلمين يا رب العالمين! اللهم انصر المستضعفين من عبادك المسلمين في كل البقاع، وارحم أموات المسلمين، ونور قبورهم، وافسح لهم فيها يا رب العالمين! وغنمنا حياتنا قبل الممات، وتوفنا مسلمين. وصل اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد.

تفسير سورة الفاتحة [1]

تفسير سورة الفاتحة [1] فضائل سورة الفاتحة كثيرة، منها: أنها أعظم سورة في القرآن، وقد احتوت على أنواع التوحيد الثلاثة، ولم ينزل في التوراة ولا الإنجيل مثلها، ولا تجزئ العبد صلاته إلا بقراءتها، ولها فوائد وأحكام ومعان عظيمة جعلتها هي السبع المثاني والقرآن العظيم.

مسائل تتعلق بسورة الفاتحة

مسائل تتعلق بسورة الفاتحة

تفاضل بعض السور على بعض

تفاضل بعض السور على بعض وقوله صلى الله عليه وسلم: (لأعلمنك أعظم سورة في كتاب الله) يدل على تفاضل بعض السور على بعض، أو على فضل بعض السور على بعض، وإن كان القرآن كله من عند الله سبحانه إلا أن بعضَ الآيات تفضُل بعضاً، وبعضَ السور تفضُل بعضاً. قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبُي بن كعب: (يا أبُي! أتدري أي آية في كتاب الله معك أعظم؟ قال: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] وضرب النبي صلى الله عليه وسلم بيده في صدره، وقال: ليهنك العلم أبا المنذر). فدل هذا على فضل آية الكرسي على غيرها. ودل حديث أبي سعيد بن المعلَّى على فضل سورة الفاتحة على غيرها. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه كما في صحيح مسلم: (احشدوا، فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن، فاجتمعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج فقرأ عليهم سورة الإخلاص: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، وقال: والذي نفسي بيده! إنها لتعدل ثلث القرآن). فدل هذا على تفاضل بعض السور، وعلى فضل بعض الآيات على بعض، وإن كان الكل من عند الله سبحانه وتعالى.

قراءة الفاتحة للمأموم في الصلاة الجهرية

قراءة الفاتحة للمأموم في الصلاة الجهرية هل تجب قراءة الفاتحة على المأموم في الصلاة الجهرية أم لا تجب؟ هذه المسألة من المسائل التي وردت فيها أقوالٌ لأهل العلم، حاصلها: أن جمهور أهل العلم يقولون: أن قراءة الإمام قراءةٌ لمن خلفه، واستدلوا بحديث: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة)، وهذا الحديث في كل طرقه مقال، إلا أن بعض أهل العلم يقويه بمجموع طرقه، والبعض يبقيه على حاله من الضعف، واستؤنس لهذا القول أيضاً بأن أبا بكرة رضي الله عنه قَدِم والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي، فكان راكعاً فركع خلف الصف ثم دخل في الصف، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (زادك الله حرصاً ولا تعد) قالوا: ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالإتيان بركعة جديدة. أما الإمام البخاري رحمه الله تعالى وطائفة من أهل العلم فقد روَوا أنه لا بد من قراءة الفاتحة، مستدلين بالحديث الثابت الصحيح: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب). وبحديث: (أيما رجل صلى صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج فهي خداج فهي خداج) أي: فهي ناقصة فهي ناقصة. وعلى كلٍ فللعلماء القولان المشهوران في هذا الباب، وبأيهما أخذ الشخصٌ وسعه ذلك.

نزول سورة الفاتحة

نزول سورة الفاتحة سورة الفاتحة مكية، ويدل على ذلك قوله تعالى في سورة الحجر: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعَاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر:87]، والسبع المثاني والقرآن العظيم بتفسير النبي صلى الله عليه وسلم: هي فاتحة الكتاب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فاتحة الكتاب هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته). وقوله تعالى في سورة الحجر: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر:87] وسورة الحجر مكية بالإجماع، فدل ذلك على أن سورة الفاتحة مكية أيضاً، ويؤيد القول بأنها مكية أيضاً بأن الصلاة فرضت بمكة، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب). فهذان دليلان يدلان على أن السورة مكية.

أسماء سورة الفاتحة

أسماء سورة الفاتحة لسورة الفاتحة عدة أسماء: - منها: الفاتحة. - ومنها: أم الكتاب. - ومنها: أم القرآن. - ومنها: الشافية. - ومنها: الرُّقْية. - وثَمَّ أسماء أخر لهذه السورة الكريمة.

فضائل سورة الفاتحة

فضائل سورة الفاتحة لقد ثبت في فضلها جملة من الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. منها: ما أخرجه مسلم في صحيحه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم جالساً مع أصحابه، إذ سمع نقيضاً، فقال له جبريل: يا محمد، هذا ملك نزل من السماء لم ينزل قبل اليوم، فقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي من الأنبياء قبلك: سورة الفاتحة، وخواتيم سورة البقرة). وهذا الحديث: أفاد أن ملكاً نزل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه البشارة. وقد حمل بعض أهل العلم القول بأن الملك هو الذي نزل بالفاتحة وخواتيم البقرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينزل بهما جبريل. لكن هذا القول مدفوع، فإن الملك نزل مبشراً بفضل سورة الفاتحة ولم ينزل بأصل سورة الفاتحة، وإلا فالكتاب العزيز كله نزل به الروح الأمين، كما قال الله سبحانه: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:193 - 195]. فالفاتحة شأنها شأن غيرها في هذا. - ومن فضائلها كذلك: ما أخرجه البخاري من حديث أبي سعيد بن المعلى قال: (كنت أصلي، فدعاني النبي صلى الله عليه وسلم فأقبلت على صلاتي، ثم انصرفت منها، فأقبلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لي: ما منعك أن تأتي إذ دعوتك؟ قلت: يا رسول الله! إني كنت في صلاة، قال: ألم يقل الله: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24]، ثم قال: لأعلمنك أعظم سورة في كتاب الله، ثم انصرف ولم يخبرني، فتبعته، فقلت: يا رسول الله! قلت: لتعلمنني أعظم سورة في كتاب الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فاتحة الكتاب هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته)، وهي أعظم سورة في كتاب الله. - وورد في فضلها كذلك: قول الله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي الذي أخرجه مسلم: (قسمتُ الصلاة بيني وبين عبدي قسمين، ولعبدي ما سأل: إذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] قال الله: حمدني عبدي، فإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] قال: أثنى عليَّ عبدي، فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:3] قال: مجدني عبدي، فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:6] قال الله: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل). فقوله: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي)، المراد بالصلاة هنا: الفاتحة، فأحياناً الصلاة تأتي ويراد بها معناها المعهود الذي هو افتتاحها بالتكبير، وانتهاؤها بالتسليم. وأحياناً تأتي كلمة (الصلاة) ويراد بها الدعاء، وأحياناً تأتي كلمة الصلاة ويراد بها تلاوة القرآن، كما قال الله سبحانه: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} [الإسراء:110] أي: لا تجهر بقراءتك {وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} [الإسراء:110]، وهنا أريد بالصلاة الفاتحة. أعني في قوله سبحانه في الحديث القدسي: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي قسمين). - ومما ورد في فضلها كذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب). فهذه الأدلة تدل على فضل هذه السورة الكريمة، ومن ثَمَّ افتُتِح بها كتاب الله عزَّ وجلَّ.

أحكام تتعلق بالبسملة

أحكام تتعلق بالبسملة

حكم التسمي بالرحمن

حكم التسمي بالرحمن من أهل العلم من قال: إن (الرحمن) اسم خاص بالله سبحانه، لا يشاركه فيه غيره، فثَمَّ أسماء لله سبحانه وتعالى قد تطلق على أشخاص كألقاب أو صفات، فمثلاً: - اسم (العزيز): {قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ} [يوسف:51]، وقال الله سبحانه وتعالى عن نفسه: {الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ} [الحشر:23]. - واسم (المؤمن): تَسَمَّى الله به، وسَمَّى عبادَه المؤمنين، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن من الشجر شجرة مَثَلُها مَثَلُ المؤمن). - واسم (الأعلى) قال الله سبحانه وتعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1]، وقال لموسى عليه السلام: {قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى} [طه:68]. - واسم (العظيم)، قال سبحانه: {وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ} [الواقعة:46]. لكن اسم (الرحمن) على وجه الخصوص لم يَتَسَمَّ به أحد، ولا يجوز لأحد أن يسمي نفسه بـ (الرحمن)، فهو من أسماء الله سبحانه وتعالى الذي لا يتسمى به إلا هو سبحانه وتعالى، فهو خاص في دلالته وواقع في معناه، فرحمته وسعت كل شيء في الدنيا.

معنى (الرحيم)

معنى (الرحيم) أما ((الرَّحِيْمِ)): فقد قال الله سبحانه وتعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، وهذا في وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال النبي صلوات الله وسلامه عليه: (وأهل الجنة ثلاثة: رجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومؤمن) فـ (الرحيم) أعم في المدلول أخص في المعنى، فإن (الرحيم) -كما قال تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} [الأحزاب:43]- فـ (الرحمة) خاصة بأهل الإيمان في الآخرة، وإن أطلقت في الدنيا وعمَّت، كما في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة:143].

الاختلاف في تحديد اسم الله الأعظم

الاختلاف في تحديد اسم الله الأعظم قال تعالى: {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ} من أهل العلم من قال: إن اسم الله الأعظم هو (الله) سبحانه وتعالى، وليس هناك من الكتاب ولا السنة ما يدل على ذلك صراحةً؛ لكن قول القائل: إن لفظ الجلالة (الله) أُتْبِعَت به كل الأسماء، فمثلاً: يقول الله سبحانه: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ} [الحشر:23] فكلها نسبت إلى الله. {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} [الحشر:24]. كذلك: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255]. كذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعةً وتسعين اسماً). فكلها نسبت إلى الله سبحانه؛ ولكن هذا ليس بمستند كافٍ كي يُقَرر أن اسم الله الأعظم هو (الله)، صحيح أن اسم الله سبحانه وتعالى (الله) لا يشاركه فيه غيره، ولا يُثنى ولا يُجمع، فهذه حقائق وثوابت؛ لكنها ليست كافية للقطع بأن اسم الله الأعظم هو (الله)، أما الله سبحانه وتعالى فنسبت إليه كل صفات الكمال سبحانه وتعالى على ما تقدم.

معنى البسملة

معنى البسملة {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ} أو (باسم الله) أو يطلق عليها (البَسْمَلَة)، وهي لغة مُوَلَّدَة، قال بعض أهل العلم: وهي مما اختُصَّت به لغة العرب، فتقول: (الحَمْدَلَة)، ويراد بها: (الحمد لله)، وتقول: (السَّبْحَلَة)، ويراد بها: (سبحان الله)، وتقول: (الحَسْبَلَة) ويراد بها: (حسبي الله ونعم الوكيل)، ويقولون: (الطَّبْقَلَة)، ويريدون بها: (أطال الله بقاءك)، وهكذا. فـ (باسم الله) إطلاق (البَسْمَلَة) عليها على أنها لغة مُوَلَّدَة. (باسم الله) من أهل العلم من قال: معناها: أبتدئ باسم الله، أو ابتدائي باسم الله. ثم منهم من قال: (اسم) هنا زائدة، وأوَّلَ ذلك تأويلاً، فقال: معناها: أبتدئ مستعيناً بالله، وقد استدل هذا القائل على مقولته ببيت من الشعر فيه: إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر واستنكر الطبري رحمه الله تعالى هذا التأويل، ووجه البيت الشعري بتوجيهين. وبيت الشعر مطلعه ابتداءً: تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهما وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر فقوما وقولا بالذي قد علمتما ولا تخدشا وجهاً ولا تحلقا شعر إلى أن قال: إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر فالرجل يقول لابنتيه: إذا كان ثم بكاء فلتبكياني إلى الحول، أي: إلى سنة، وبعد السنة قال: اسم السلام عليكما فقال المؤوِّل الأول: ثم السلام عليكما. أما الطبري فقال: ثم اسم السلام عليكما تحتمل احتمالين: - أي: سلام الله عليكما، فلا تبكياني، فقد أديتما الذي عليكما. - الوجه الآخر: ثم الزما ذكر الله سبحانه وتعالى بعد انقضاء الحول. الشاهد: أن معنى قوله تعالى: ((بِاسْمِ اللهِ)) أي: أبتدئ باسم الله، أو ابتدائي باسم الله.

معنى (الرحمن)

معنى (الرحمن) أما ((الرَّحْمَنِ)) فهو اسم من أسماء الله سبحانه، أثبته الله لنفسه، وأثبته له أنبياؤه عليهم الصلاة والسلام. وكان أهل الشرك يستنكرون هذا الاسم، ومن ثم قال الله سبحانه: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيَّاً مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:110]. ومما يدل على استنكارهم له -أي: استنكار أهل الشرك له-: في صلح الحديبية لما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لـ علي: (يا علي! اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، فاعترض سهيل بن عمرو على ذلك، وقال: لا تكتب الرحمن، ولا تكتب الرحيم، فإنا لا ندري ما الرحمن، ولكن اكتب: باسمك اللهم) فكان أهل الجاهلية يستنكرون هذا الاسم، ويقولون: (لا نعرف إلا رحمان اليمامة)، ويعنون بذلك مسيلمة الكذاب، ولقد وُسِم أنه كذاب -كما قال فريق من أهل العلم- لكونه لقب نفسه وسمى نفسه بهذا الاسم: الرحمن، فمع أن هناك من الكذابين الكثير، كـ العنسي صاحب صنعاء، وكـ المختار بن أبي عبيد، وغيره من الكذابين، إلا أن أكثرهم لصوقاً بالكذب هو مسيلمة الكذاب، فلا يقال له إلا: مسيلمة الكذاب، فهذا بالنسبة لاسم الرحمن. ولذلك قال بعض أهل العلم: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أحب الأسماء إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن)، وقد وردت في هذا الحديث زيادة نوزِع فيها، (وأصدقها: حارث وهمام).

حكم الجهر بالبسملة في الصلاة

حكم الجهر بالبسملة في الصلاة إذا ثبت أن البسملة آية فهل يُجْهَرُ بها في الصلاة، أم يُسَرُّ بها؟ ورد في ذلك حديث أنس رضي الله تعالى عنه في صحيحي البخاري ومسلم، وفيه: (صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يفتتحون الصلاة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]) وزاد مسلم: (لا يذكرون {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ}) فاستدل بهذا من قال: يُسَرُّ بالبسملة ولا يجهر بها. أما الذين قالوا بالجهر بها، فأجابوا على ذلك: بأن مراد أنس رضي الله عنه: (كانوا يفتتحون القراءة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2])، أي: يفتتحون القراءة بالفاتحة وليس فيه تعرُّضٌ لنفي البسملة أو إثباتها. أما قول القائل الوارد في صحيح مسلم: (لا يذكرون {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ}) فهي زيادة مدرجة زادها بعض الرواة، وليست من قول أنس، إنما زادها بعض الرواة توهماً منه أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما كان يفتتح القراءة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] أنه لا يذكر البسملة، قالوا: وقد أخطأ في هذا التوهم. واستدل القائلون بأن البسملة لا يُجْهَرُ بها: بما أخرجه الترمذي من حديث عبد الله بن مغفل عندما سأله ابنه عن الجهر بالبسملة فقال: (يا بني! بدعة)، وهذا الحديث في إسناده رجل مجهول، والظاهر أنه ضعيف كذلك. أما الذين ذهبوا إلى مشروعية الجهر بـ {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ} فمن أدلتهم: أولاً: إذا كانت آيةً فيُجْهَرُ بها كما يُجْهَرُ بسائر الآيات. ثانياً: (أن أبا هريرة رضي الله تعالى عنه صلى صلاة فكان يكبر فيها عند كل خفض ورفع، وجَهَرَ فيها بـ {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ}، ولما انصرف قال: إني أشبهكم صلاةً بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ إلا أن فريقاً من أهل العلم قال: إن وجه الشبه انصب على التكبير الذي استُنْكر على أبي هريرة، فقد صلى أبو هريرة رضي الله عنه وكان يكبر عند كل خفض ورفع، فقالوا له: (ما هذا التكبير يا أبا هريرة؟ قال: إني أشبهكم صلاةً بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم). ثالثاً: أن عموم الأعمال تُبْتَدأ وتُفْتَتح بـ (بسم الله الرحمن الرحيم)، فالطعام يُبْدأ بـ (بسم الله الرحمن الرحيم)، ودخول البيت يُبْدأ بـ (باسم الله)، وأخذ المضجع يُبْدأ بـ (باسم الله)، وكذلك إتيان الرجل أهله يُبْدأ بـ (باسم الله)، وكذلك إرسال كلبك المعلَّم للصيد ترسله بـ (باسم الله)، وكذلك الرُّقْيَة تُبْدأ بـ (باسم الله): باسم الله أَرْقيك، -ثلاثاً-، أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر -سبعاً-، وكذلك الرسائل تُسَطَّر بـ (بسم الله الرحمن الرحيم)، وبنود المصالحات تُسَطَّر وتُقَدَّم بـ (بسم الله الرحمن الرحيم)، فقالوا: يُبْدأ بها، وما دمنا نبدأ بها -وقد وجهنا حديث الإسرار بالتوجيه السابق- فعلى ذلك لا مانع من الجهر بها. والحاصل: أنك إذا جهرت أحياناً وأسررت أحياناً بها فلا غبار عليك ولا جناح، فمثلاً: إذا صليت مع قومٍ ولك قول من القولين ولهم هم القول الآخر، وتحاملوا عليك حتى تبدأ بها، فلك مستندك أيضاً. فالذي يظهر: أن الأمر في ذلك كله واسع.

الخلاف في كون البسملة آية من الفاتحة

الخلاف في كون البسملة آية من الفاتحة قال تعالى: {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ}: هل هي آية من سورة الفاتحة أم ليست بآية منها؟ أيضاً: نفس الخلاف دب بين العلماء: - فمن أهل العلم من اعتبرها آية من الفاتحة؛ مستدلاً بقول الله جل ذكره: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعَاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر:87]، وتفسير الرسول صلى الله عليه وسلم للسبع المثاني بأنها الفاتحة، قالوا: ولا تكمل سبعاً إلا إذا اعتبرنا البسملة آيةً منها. وكذلك استدلوا بأنها أثبتت في المصاحف في أول سورة الفاتحة، وفي أول كل سورة، فدل إثباتها من عهد الصحابة إلى الآن على كونها آيةً من سورة الفاتحة ومن غيرها. واستدلوا أيضاً: بأن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه، فقال: (لقد أنزلت عليَّ سورة هي أحب إليَّ من كذا وكذا، ثم قال: {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ} * {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1])، فأتى على السورة إلى آخرها. أما الذين قالوا: إنها ليست آية من الفاتحة؛ فقد استدلوا بقول الله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي قسمين ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] قال الله: حمدني عبدي)، ولم تُذْكر البسملة. واستدلوا كذلك بقول جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: (اقرأ، قال: ما أنا بقارئ، قال: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ، قال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [العلق:1 - 2])، ولم تُذْكر البسملة في مطلع هذه السورة. قالوا: فدل ذلك على أنها ليست بآية. فهذان وجهان لأهل العلم في هذا الباب، والأمر في ذلك قريب، فأيُّ القولين قلدتَ فلا جناح عليك ولا تثريب، فقد شهدت لكل رأي أدلتُه، وعمل به من السلف عددٌ لا يحصيهم إلا الله سبحانه وتعالى، وإن كان الظاهر أن الرأي القائل باعتبارها آيةً رأيٌ له قوته؛ لقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعَاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر:87] والأدلة الأُخَر ليس فيها نفيٌ صريحٌ لذلك. والله أعلم.

تفسير قوله تعالى: (الحمد لله رب العالمين)

تفسير قوله تعالى: (الحمد لله رب العالمين) قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]: (الحمد لله) كما قال العلماء: كلمة كل شاكر، وهي كلمة رضيها الله سبحانه وتعالى وقبلها من عباده، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، وأن يشرب الشربة فيحمده عليها).

ثناء الله تعالى على نفسه

ثناء الله تعالى على نفسه قال الله سبحانه وتعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]: حمد ربنا سبحانه وتعالى نفسه، وهذا الظاهر المتبادر من الآية. ومن أهل العلم من قال: إنها آية خبرية تحمل معنى الأمر، أي: قولوا: الحمد لله رب العالمين، قالوا: وهذا كما في قوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران:97] فمعناه: أمِّنوا أيها الناس مَن دَخَل الحرم. لكن أكثر أهل العلم على أن ربنا سبحانه وتعالى حمد نفسه؛ ولكن لا يجوز لنا نحن أن نحمد أنفسنا، ولا أن نزكي أنفسنا، فقد قال الله سبحانه وتعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32]، وقال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} [النساء:49]. فنحن ليس لنا أن نزكي أنفسنا، ولا أن نثني عليها إلا في موطن دعت إليه الحاجة والضرورة عند قومٍ يجحدون المعروف وينكرون الإحسان، كما قال عثمان رضي الله عنه لمن حاصره: (أناشدكم الله! ولا أناشد منكم إلا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم! هل سمعتم رسول الله يقول: مَن حفر بئر رومة فله الجنة، فحفرتُها؟ قالوا: اللهم نعم. قال: أناشدكم الله! هل سمعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من جهَّز جيش العسرة فله الجنة فجهَّزتُه؟ قالوا: اللهم نعم). فهذه مواطن يجوز للشخص لعلة من العلل أن يثني على نفسه إذا كان هناك مفهوم قد خفي على المخاطَب، كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام للأنصار: (ألم أجدكم عالةً؛ فأغناكم الله بي؟ ألم أجدكم متفرقين؛ فألفكم الله بي؟!) إلى غير ذلك. {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]: كلمة إذا قلتَها أُثِبت عليها وكُتبت لك بها صدقة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ولك بكل تحميدة صدقة)، وكذلك رضيها الله سبحانه وتعالى منك، وزادك الله سبحانه وتعالى من فضله، فهي تتضمن معاني الشكر، والله يقول: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7].

التفريق بين الحمد والشكر

التفريق بين الحمد والشكر من أهل العلم من سوى بين الحمد والشكر، فيقولون: الحمد والشكر يأتيان بمعنىً واحد. ومنهم من فرَّق، فقال: (الحمدُ لله) حمدٌ لله سبحانه على صفاته اللازمة وأفعاله المتعدية إلى خلقه. وأما الشكر: فلا يكون إلا في الأفعال المتعدية إلى الخلق، ويكون باللسان وبالجنان وبالأركان، كما قال الشاعر: أفادتكم النعماء مني ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجبا قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]: إذا قالها العبد، قال الله سبحانه وتعالى كما في الحديث القدسي: (حمدني عبدي، وإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] قال الله: أثنى علي عبدي).

تكرار الرحمن الرحيم في سورة الفاتحة

تكرار الرحمن الرحيم في سورة الفاتحة مِن أهل العلم مَن أورد هنا تساؤلاً فحواه: إن {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ} صُدِّرَت بها السورة، فلماذا كُرِّر قوله تعالى: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3]؟ فأجاب بعضهم على ذلك بما حاصلُه: أن ذلك من باب الترغيب والترهيب، فكلمة (رب العالمين) تتضمن ترهيباً وتخويفاً، فبعد هذا الترهيب والتخويف جيء بـ {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] التي تتضمن ترغيباً. وهذا سائد في كتاب الله ومنه: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ} [غافر:3]. وقال تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} [الحجر:49 - 50]. وقال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:98]. فيُمْزَج الترغيب بالترهيب في كتاب الله في عدة مواقف. وعلى هذا ينبغي للمذكِّر الذي يذكِّر الناس بربهم أن يمزج بين الترغيب فيما عند الله وبين الترهيب مما أعده الله سبحانه وتعالى للعصاة. هذا وجه ساقه بعض أهل العلم في ذلك.

معاني (الرب)

معاني (الرب) قال تعالى: ((رَبِّ الْعَالَمِينَ)) [الفاتحة:1]: (الرب) لها جملة من معانٍ: - فـ (الرب) تطلق على المالك، ومنه قولهم: رب الدار، أي: صاحب الدار ومالك الدار. - و (الرب) تطلق على المعبود، ومنه قول الشاعر: أَرَبٌّ يبول الثعلبانُ برأسه فقد خاب من بالت عليه الثعالبُ - و (رب) كذلك تطلق على المربي والمصلح. - و (رب) كذلك تطلق على السيد الذي عنده أمة أو عنده عبد، كما قال الصدِّيق يوسف عليه السلام: {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف:23]، وكما قال: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} [يوسف:50]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أن تلد الأمة ربتها). والله سبحانه وتعالى أعلم.

معاني (العالمين)

معاني (العالمين) أما ((الْعَالَمِينَ)) فتأتي وتحتمل عدة معانٍ: - فمنها: البشر، ومنه قول لوط عليه السلام: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:165] أي: من البشر. - وتأتي أحياناً كلمة (العالمين) ويراد بها: الإنس والجن، كما في قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان:1]. - وتأتي كلمة (العالمين) ويراد بها: السماء والأرض وما بينهما، كما قال فرعون لموسى: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء:23 - 24]. وعلى ذلك فيؤخذ من المعاني المعنى المناسب للسياق الذي وردت فيه الآية، وكما قدمنا فإن ضلال مَن ضل من الفرق كان بسبب إلباس كلمة معنىً غير معناها، وإن كان معناها يحتمل هذا المعنى؛ لكنها سيقت في موطن لا تتحمل إلَّا معنىً معيناً، فحملها البعض على معنىً آخر من المعاني، فضلُّوا كثيراً وأضلُّوا غيرهم وضلُّوا عن سواء السبيل. فالكلمة يكون لها عدة معانٍ، فإذا ألبستها في موطن ثوباً ومعنىً غير معناها الذي يليق بالسياق انحرفتَ وابتعدتَ، ككلمة (السيئة) وكلمة (الفسق) وكلمة (الكفر) ونحوها من الكلمات، فكلمة (الفسق) تتعدد معانيها، وكذلك (الكفر)، وكذلك (الظلم)، فإذا ألبستها في موطن معنىً غير معناها ضللتَ وما كنتَ من المهتدين، كما فعل الخوارج -مثلاً- عند قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)، وكما فعلوا عند قوله عليه الصلاة والسلام: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، وكما فعلوا كذلك عند قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اثنتان في الناس هما بهم كفر: النياحة على الميت، والطعن في الأنساب). فهذا علم يجب أن يُنْتَبَه إليه ويُتَفَطَّن له. فكلمة (السيئة) -مثلاً-: - تأتي بمعنى الكفر. - وتأتي بمعنى الكبيرة. - وتأتي بمعنى الصغيرة. وكأمثلةٍ لذلك: قوله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [يونس:27]، فالسيئات هنا بمعنى الكفر لدلالة قوله تعالى: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [يونس:27]. وتأتي بمعنى الكبيرة أحياناً، كما في قول ربنا سبحانه وتعالى في شأن قوم لوط: {وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} [هود:78]. وتأتي بمعنى الصغيرة أحياناً، كما في قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31].

مواطن الحمد

مواطن الحمد الحمدلة تقال في الابتداء وعند الانتهاء كذلك. في الابتداء: الحمد لله رب العالمين، بدئت بها السورة. وفي ختام المجلس: سبحانك اللهم وبحمدك. وعند المنام: الحمد لله الذي كفانا وآوانا. وعند الاستيقاظ: الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور. وعند الركوب: تذكر كذلك مُضَمَّنَةً في قوله تعالى: {ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} [الزخرف:13]. وفي شتى المواطن تذكر: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس:10]. وكذلك: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43].

تفسير سورة الفاتحة [2]

تفسير سورة الفاتحة [2] تضمنت سورة الفاتحة إفراد الله تعالى بالعبادة والاستعانة، فلا يعبد إلا الله، ولا يستعان إلا بالله فيما لا يقدر عليه إلا الله، وهذه العبادة الخالصة هي الصراط المستقيم الذي يسأل العبد ربه أن يوفقه ويهديه إلى سلوكه في كل ركعة، والابتعاد عن صراط المغضوب عليهم والضالين.

تفسير قوله تعالى: (مالك يوم الدين)

تفسير قوله تعالى: (مالك يوم الدين) قال تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4]: في قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] قراءتان مشهورتان: إحداهما: {مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:3]، بدون ألف. والأخرى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4]. ومن ناحية الشواهد العامة فـ: (ملك يوم الدين) تشهد لها: {مَلِكِ النَّاسِ} [الناس:2]، و {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] تشهد لها: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} [آل عمران:26]، فالقراءتان صحيحتان. أما {يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] فهو يوم الجزاء والحساب، فإن سأل سائل: كيف والله سبحانه وتعالى مالك الدنيا ومالك الآخرة، هو المالك الآن والمالك بالأمس والمالك في الغد، وهو مالك على الدوام وملك على الدوام، فكيف قيل: ملك يوم الدين؟ أجاب فريق من أهل العلم على ذلك بما حاصله: أن الدنيا قد ينازع منازع ويدعي لنفسه الملك، كهذا العتل الجبار الذي قال: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة:258]، أو كالآخر الذي قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، وقال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، لكن كل هذا ينتهي يوم القيامة، ويقول الله سبحانه وتعالى: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16]، فلا منازع آنذاك ينازع، والله سبحانه وتعالى أعلم. قال تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:4 - 5]، كما تقدم أن العبد إذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] قال الله: مجدني عبدي.

تفسير قوله تعالى: (إياك نعبد وإياك نستعين)

تفسير قوله تعالى: (إياك نعبد وإياك نستعين) قال تعالى: ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ)) [الفاتحة:5] قدم المفعول على الفاعل للاختصاص، أي: لا نعبد إلا إياك، ولا نستعين إلا بك، وكما قال أعرابي لرجل حليم عاقل جلس يسبه ويلعنه، والحليم العاقل هادئ وساكن، فقال له الأعرابي الجاهل: إياك أعني -أي: أنا أقصدك أنت بشخصك، لما وجده لا يرد- قال: وعنك أعرض. وقوله: (نَعْبُدُ) العبادة كما يقول كثير من أهل العلم: هي اسم جامع لما يحبه الله ويرضاه. وقوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] الاستعانة هي طلب العون على العبادة، فلماذا قدم العبادة على الاستعانة؟ نقول: معنى كلمة: (نستعين) أي: نطلب منك العون يا رب، فدخول السين والتاء على الفعل تعني الطلب، ومنه: (نستهديك) أي: نطلب هدايتك، (نستغفرك): نطلب مغفرتك. فمن أهل العلم من قال: إنها من باب عطف الخاص على العام؛ لبيان أهمية هذا الخاص، كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم:4]، فالملائكة عطفوا على جبريل، لكن مع الفارق، هذا عطف عام على خاص، وكما قال تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن:68]، فعطف الرمان الذي هو من الفاكهة على الفاكهة من باب عطف الخاص على العام؛ لبيان أهمية هذا الخاص. ومنه قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} [الأحزاب:7] ونوح من النبيين، {وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [الأحزاب:7]، وكما قال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ} [النساء:163]، فهذا وجه من الوجوه. قالوا: هذا من باب عطف الخاص على العام؛ لبيان أهمية هذا الخاص. والقول الآخر: أن الاصطلاحات في كتاب الله سبحانه وتعالى قد تتسع معانيها أحياناً وتضيق أحياناً، فمثلاً: اصطلاح البر والتقوى، واصطلاح الإثم والعدوان. فالبر إذا أفرد في السياق دخل في معناه التقوى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177]، فحمل البر معنى التقوى. لكن إذا جاء (البر) مع كلمة (التقوى) في سياق واحد، فالبر يحمل على أفعال الخير التي تقرب الشخص من الله، والتقوى تحمل على اتقاء المعاصي التي يرد بها الشخص النار -والعياذ بالله-، فالتقوى تحمل على الاتقاء، والبر يحمل على فعل المعروف، هذا إذا اشتركا في سياق واحد. وكذلك الإثم والعدوان، فالإثم يطلق على الآثام التي يرتكبها الشخص في حق نفسه، أما العدوان فهو التعدي على الآخرين. كما قال سبحانه وتعالى: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2]، ولكن إذا جاء الإثم مفرداً دخل في معناه العدوان. وكذلك العبادة والاستعانة، فأحياناً تأتي العبادة ويراد بها معنى أخص، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (الدعاء هو العبادة)، وأحياناً تأتي ويراد بها معنى أعم. ومن معاني كلمة (عبد) أي: خضع ودان وذل، وتأتي العبادة ومعها المحبة، فعبد الله خاضع لله، وذليل لله مع حبه لله سبحانه وتعالى: فهنا فرق بين العبادة التي تأتي للشخص عن كره، فشخص مثلاً يعبد شخصاً، أي: يخضع له ويذل له ويدين له مع كراهيته، لكن آخر يخضع لشخص ويدين له ويذل له مع محبته، فيقدم أمره فوق كل أمر، ويجعل نهيه مقدماً على كل نهي. فالعبادة تتضمن محبته سبحانه وتعالى والخضوع له والانقياد. إذاً: معنى كلمة عبد: خضع ودان وذل، فقولنا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5] أي: يا رب، نحن نخضع لك، وندين لك، ونتذلل لك، ونقوم بين يديك، ونمتثل أمرك، وننتهي عما نهيتنا عنه، ولا حول لنا عن معاصيك إلا إذا أعنتنا عليها يا رب، فقوله تعالى: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] أي: نستعين بك يا رب على عبادتك. ويتأيد هذا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا معاذ! لا تدعن دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) فهو خرج من الصلاة لكنه طلب من الله العون على الذكر والشكر وحسن العبادة. ويدخل في ذلك أيضاً قوله تعالى: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ} [هود:88]. ويدخل في هذا أيضاً قول يوسف عليه السلام: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:33]. فالشاهد: أننا أعلنا أننا نعبد الله ولا نعبد غيره، ولكن طلبنا عونه سبحانه وتعالى على عبادته، فهنا اتضح وجه الربط بين: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]. فإذا فهم الشخص هذا المعنى لم يغتر بعبادته لربه، فالذي أعانه على العبادة هو الله سبحانه وتعالى، فكما قال رسولنا: اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا. وكما قال أهل الإيمان: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43]، فإذاً كما قال العلماء: إن عبادتنا لربنا نعمة تحتاج إلى شكر منا لمن أسداها إلينا وهو الله سبحانه وتعالى. فقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] كما أسلفنا أن العبادات أحياناً تأتي ومعناها قاصر على أشياء، كما نقول مثلاً: فقه العبادات، ونعني بها فقه الصلاة وفقه الصيام وفقه الزكاة وأبواب الطهارة ونحو ذلك، وأحياناً تأتي عامة، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5].

تفسير قوله تعالى: (اهدنا الصراط المستقيم)

تفسير قوله تعالى: (اهدنا الصراط المستقيم) بعد هذا التمهيد الذي يؤخذ منه فقه للدعاء، جاء قولنا: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]. فقدمنا الدعاء الذي هو: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] بحمد الله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]. وبالثناء على الله: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3]. وبتمجيد الله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4]. وبسؤال الله العون، ثم بعد ذلك ندعو.

معنى الصراط المستقيم

معنى الصراط المستقيم وقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] فسر الصراط المستقيم بأنه: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] ففسر الصراط المستقيم بالآية التي بعدها. ومن أهل العلم من قال: إن الصراط المستقيم هو الإسلام، والمعنى كله قريب. وقد ورد: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خط خطاً مستقيماً وخط خطوطاً عن يمينه وعن يساره أو عن شماله، فقال: هذا سبيل الله مستقيماً وهذه سبل، على كل سبيل منها شيطان).

أنواع الهداية

أنواع الهداية قال تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] (اهدنا) من الهداية ومن الهدية، ومدار النعمة فيها على الإمالة، ومنه أطلق على الهدية هدية؛ لأنها تمال من مال شخص إلى مال شخص آخر، أو تمال من سقف إلى سقف آخر، ومنه: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم يتهادى بين رجلين) أي: يتمايل بين رجلين صلى الله عليه وسلم. فقوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] أي: مل بقلوبنا إلى الصراط المستقيم، ومنه قوله تعالى: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} [الأعراف:156]، أي: ملنا بقلوبنا إليك. والهداية تنقسم إلى قسمين، وكلاهما مراد هاهنا: 1 - هداية دلالة، كما قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52]. 2 - هداية توفيق، ومنها قوله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] أي: لا توفق من أحببت. فطلبنا هنا للهداية بقسميها: أن يوجهنا للخير، وأن يميل بقلوبنا إليه، ويوفقنا للعمل به. وفي الآية الكريمة رد على القدرية الذين يزعمون أن لا قدر وأن الإنسان هو الذي يختار لنفسه ما شاء! فنقول لهم: إذا كان الإنسان يختار لنفسه ما شاء، فلماذا تقولون في كل صلاة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]؟ ولماذا قال أهل الإيمان: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43]؟ ولماذا قال الرسول عليه الصلاة والسلام: اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا؟ فلنسأل الله الهداية.

من آداب الدعاء

من آداب الدعاء أخذ العلماء من الآية أدباً من آداب الدعاء، وهو: أنك إذا دعوت ربك سبحانه وتعالى فينبغي أن تقدم بين يدي الدعاء مقدمات، فلا تقل مباشرة: يا رب افعل لي وافعل لي، بل تأدب بآداب الدعاء وإن كان الأخير جائزاً أحياناً، لكن الأكمل أن تقدم آداباً من آداب الدعاء ومقدمات بين يدي الدعاء. سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعو ولم يحمد الله ولم يثنِ عليه، ولم يصل على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال: (إذا دعا أحدكم فليبدأ بحمد الله، والثناء عليه، والصلاة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم يتخير من الدعاء أعجبه إليه). كذلك في حديث الشفاعة الطويل: (عندما تدنو الشمس من رءوس الخلائق يوم القيامة، يبلغ بالناس من الهم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، فيقولون: بمن نستشفع؟ فيقولون: اذهبوا إلى آدم فإنه أبو البشر، خلقه الله بيده، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء، فيأتون إليه، فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، نفسي نفسي! اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح) الحديث. وفي نهايته تنتهي الشفاعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال النبي عليه الصلاة والسلام قبل أن يشفع: (فأخر لربي ساجداً، فيفتح الله عز وجل عليّ بأنواع المحامد والثناءات لا أحصيها الآن ثم يقال لي: يا محمد! ارفع رأسك، واشفع تشفع، وسل تعطه) فسؤاله الشفاعة جاء بعد حمد الله والثناء عليه. وكذلك في حديث الرسول عليه الصلاة والسلام في دعائه بالليل: (اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد لك ملك السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق، ووعدك الحق، وقولك حق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق، والساعة حق، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت، أو: لا إله غيرك). فقوله: (اغفر لي ما قدمت وما أخرت) جاء بعد قوله: (اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن) إلى آخر الحديث. وكذلك في صلاة الاستخارة: (إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب) ثم بعد ذلك يأتي بالدعاء -والركعات حملت حمداً وتسبيحاً وتمجيداً وتهليلاً وتكبيراً-. فإذا أردت أن تدعو ربك فاحمد الله واثنِ عليه بين يدي الدعاء، ولذلك قال العلماء: إن هناك مناسبة في قول رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام: (أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فأكثروا فيه من الدعاء فقمن -أي: جدير- أن يستجاب لكم)، حيث جاء الدعاء في السجود بعد تعظيم الرب وتمجيده وتسبيحه سبحانه وتعالى في الركوع. فعلى ذلك عليك أن تنظر إلى كتاب الله وتستخرج منه المقدمات التي تقدم بها دعاءك، وتتوسل بها إلى ربك سبحانه، كما قال زكريا عليه السلام متأدباً بآداب الدعاء: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} [مريم:3] وبدأ يظهر حاله من الانكسار لله: {قَالَ رَبِّ} [مريم:4] أي: يا رب {إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} [مريم:4] أي: ضعف عظمي، {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} [مريم:4] أي: ضعفت قوتي، ونحل جسمي، وشاب شعر رأسي، {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} [مريم:4] أي: ما أشقيتني أبداً يا رب بالرد والحرمان، فأنت كريم كلما دعوتك أجبت، وكلما سألتك أعطيت، ما تعودت منك المنع، فأنت الكريم. ثم برر أيضاً مسألته، قائلاً: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي} [مريم:5] أي: خفت من أقاربي وبني عمي ألا يقيموا الدين، فليس فيهم فيما أرى رجل من أهل الصلاح يحمل هذا الدين، ويسوس بني إسرائيل: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا} [مريم:5] وبعد هذه المقدمة كلها يقول: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم:5 - 6]. فجدير بك أن تستنبط آداب الدعاء من كتاب الله ومن سنة رسول الله، وتمهد له تمهيدات، تخرج من بيتك قائلاً: يا رب! خرجت من بيتي ألتمس فضلك ورزقك، تركت أماً عجوزاً كبيرة ووالداً شيخاً كبيراً في حاجة إلى فضلك ورزقك، فيا رب ارزقني برفق هؤلاء الضعفة. فهذه المقدمات تقربك إلى الله سبحانه، وتحيي قلبك الذي قد علاه الران، هذه المقدمات والاستهلالات بها يستجاب الدعاء بإذن الله، قال الرسول عليه الصلاة والسلام لـ سعد لما رأى لنفسه فضلاً: (ابغوني ضعفاءكم، فإنما تنصرون وترزقون بضعفائكم؟). فلتظهر حالك من الانكسار لله، كما قال موسى عليه السلام: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص:24]، وكما قال أيوب عليه السلام: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83]. فقدم مقدمات تثني بها على الله، كما قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180] ولا تمل من السؤال والدعاء، فالذي يعطي هذا وذاك هو الله سبحانه، لا يشغله كبير عن صغير، ولا جليل عن حقير.

تفسير قوله تعالى: (صراط الذين أنعمت عليهم)

تفسير قوله تعالى: (صراط الذين أنعمت عليهم) قال تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7] المنعم عليهم فسروا في سورة النساء بقوله تعالى: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69]. وقوله: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7] أي: بالهداية والتوفيق، وأنعمت عليهم بالهداية كذلك، وأنعمت عليهم بعموم نعمك. وقوله: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7] المغضوب عليهم هم اليهود، وقد قال الله سبحانه: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة:60]. قال: ((وَلا الضَّالِّينَ)) [الفاتحة:7] وهم النصارى، وقد فسر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال بعض العلماء: لماذا اختص اليهود بأنهم مغضوب عليهم والنصارى بأنهم ضلال؟ فأجيب على ذلك: أن الغضب جاء على اليهود؛ لكونهم عرفوا الحق وجحدوه، كما اتضح ذلك من مجيئهم إلى رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام برجل وامرأة منهم قد زنيا، فقال لهم الرسول عليه الصلاة والسلام: (ما تجدون حد الزنا في كتابكم؟ قالوا: نجد التحميم يا محمد -أي: نصبغ وجه هذا بالسواد ووجه هذه بالسواد- ويركبا على حمار ويطاف بهما في الأسواق، فقال لهم الرسول عليه الصلاة والسلام: أناشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى هل تجدون هذا الحد في كتابكم؟ قالوا: أما وقد ناشدتنا فإن حد الزنا في كتابنا الرجم). وفيهم نزل قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] وهم اليهود حين جحدوا حكم الله، أي: أنكروه وأظهروا خلافه وأوهموا الناس أن هذا هو حكم الله. وهنا تفهم الآية من خلال هذا المعنى، وهذا الذي اختاره الطبري رحمه الله تعالى في نهاية بحثه فيمن جحد، فاليهود أظهروا لنبينا محمد عليه الصلاة والسلام أن حد الزنا في كتابهم هو التحميم، وأخفوا عليه أن حد الزنا في كتابهم هو الرجم، فجحدوا حكم الله الذي هو الرجم وأظهروا حكماً آخر وهو التحميم. فلذلك قال الطبري إنها فيمن جحد وإن الذي حكم بغير ما أنزل الله بلا جحود ولا استحلال فيخرج من هذا الحكم، وله تفصيل سيأتي. فالشاهد: أن اليهود مغضوب عليهم؛ لأنهم يعرفون الحق ويجحدونه. وأيضاً قد يطلق عليهم أنهم ضالون كذلك، فهم مغضوب عليهم وضالون، لكنهم اختصوا بالنصيب الأكبر من الغضب، والنصارى وإن كانوا مغضوباً عليهم لكنهم اختصوا بالنصيب الأكبر من الضلال. ففسر الرسول عليه الصلاة والسلام المغضوب عليهم باليهود، والضالين بالنصارى. ومن هنا يظهر ما تقدمت الإشارة إليه في سورة النور: لماذا اختصت المرأة في الملاعنة قوله تعالى: {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور:9]؟ و A لأنها تعرف وتوقن أكثر من زوجها ما الذي حدث؟ هل كانت مفاخذة أو كان هناك إيلاج، فهي أمور تتقنها أكثر من زوجها، فإذا أقسمت فإنها تقسم على علم، والله سبحانه وتعالى أعلم. وقد جاء زيد بن عمرو بن نفيل كما في صحيح البخاري لما خرج يبحث عن دين غير دين أهل الشرك الذي يتعبد به أهل مكة، فذهب إلى اليهود، وقال: إني أريد أن أدخل في دينكم، قالوا: لن تدخل في ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله، قال: أعوذ بالله من غضب الله، والله لا أحمل من غضب الله شيئاً أبداً، أنا فررت من غضب الله، فهل عندكم شيء آخر؟ قالوا: لا، إلا أن تكون حنيفاً، قال: وما الحنيف؟ قالوا: ملة إبراهيم عليه السلام؛ فانطلق إلى النصارى، وقال: إني أريد أن أدخل في دينكم، قالوا: لن تدخل في ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله، قال: أعوذ بالله من لعنة الله، والله لا أحمل منها شيئاً أبداً، فهل هناك شيء آخر؟ قالوا: لا، إلا أن تكون حنيفاً، قال: وما الحنيف؟ قالوا: ملة إبراهيم عليه السلام، فخرج وقال: اللهم إني أشهدك أني على ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام. وقد كان يفتخر الشعراء من أحفاده، فيقولون: وجدي الذي منع الوائدات وأحيا الوئيد فلم يوأد فكان ينقذ الموءودة، ويقول لأهل الجاهلية: أعطوني إياها أنا أكفيكموها، وإذا كبرت فأردتم أن تأخذوها فخذوها.

حكم قول: (آمين)

حكم قول: (آمين) آمين كائنة بعد الفاتحة فليست من الفاتحة إجماعاً. أما معنى كلمة: آمين، فجمهور المفسرين على أن (آمين) معناها: اللهم استجب، فهي دعاء.

الرد على الشيعة في الجهر بآمين

الرد على الشيعة في الجهر بآمين أما قول الشيعة البعداء البغضاء: إن من قال: (آمين) فقد بطلت صلاته، فهذا جهل وتخريف منهم وبعد عن سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام. وسندهم في ذلك أن هذا كلام ليس من القرآن، والكلام في الصلاة يبطلها؛ هكذا قالوا وزعموا، وهو قول باطل وزعم أبطل، فإن الدعاء مشروع في الصلاة، والنبي صلى الله عليه وسلم حث على الدعاء في السجود، وهو عليه الصلاة والسلام دعا في صلاته وقال: (اللهم انصر المستضعفين من المؤمنين)، ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه)، وحث على ذلك بقوله: (إذا قال الإمام: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] فقولوا: آمين).

وقت قول المأموم: آمين

وقت قول المأموم: آمين متى يقول المأموم: آمين: هل بعد أن يقولها الإمام، أم يقولها مع الإمام؟ ففريق قال: يقولها إذا انتهى الإمام من مقولته؛ لأن الإمام إنما جعل ليؤتم به؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أمن فأمنوا) وهذا الحديث صحيح، لكن الاستدلال به ليس بصحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الرواية الأخرى: (إذا قال الإمام: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] فقولوا: آمين) فهي ثلاث موافقات كما قال العلماء: موافقة الإمام مع المأمومين مع الملائكة، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه) هذا والله أعلم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

الجهر بآمين بعد قراءة الفاتحة

الجهر بآمين بعد قراءة الفاتحة هل نجهر بها أو نسر؟ من العلماء من قال: إن الدعاء في العموم يسر به؛ لقوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف:55]، فرأى هذا الفريق أن (آمين) يسر بها. ورأى آخرون من أهل العلم: أنه يجهر بها وإن كانت دعاء؛ لأن من صور الدعاء ما يجهر به أحياناً، ومن الأدلة التي استدل بها على الجهر بآمين، قول أبي هريرة: (لا تفتني بآمين)، وصلى ابن الزبير صلاة فجهر فيها هو ومن معه بآمين حتى إن للمسجد ضجة، وقال عليه الصلاة والسلام: (ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على التأمين والسلام) فلا تحسدنا على شيء خاص وسري وإنما تحسدنا على شيء ظاهر.

§1/1