دروس للشيخ محمد حسان

محمد حسان

تارك الصلاة

تارك الصلاة إن الصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام، وقد وصفها الرسول صلى الله عليه وسلم بأنها عمود الدين، ومن أقامها فقد أقام الدين، ومن هدمها فقد هدم الدين. لذلك عرض الشيخ -حفظه الله- أدلة وجوبها، وكفر تاركها، مبيناً تعرضه للوعيد الشديد من الله عز وجل على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم. وختم حديثه بذكر عظيم فضلها وفضل المواظبين عليها.

جزاء تأخير الصلاة عن وقتها

جزاء تأخير الصلاة عن وقتها إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71] أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أحبتي في الله! تعالوا بنا لنواصل مسيرتنا المباركة في شرحنا لآيات من كتاب ربنا جل وعلا، ومع اللقاء الثلاثين مازلنا بفضل الله وحوله وصوله ومدده نطوف بحضراتكم في بستان سورة مريم، ولقد انتهينا بفضل الله جل وعلا في اللقاء الماضي من تفسير قول الحق تبارك وتعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرائيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً} [مريم:58]. أيها الأحبة! وبعد أن ذكر الله جل وعلا وتحدث عن هؤلاء الأصفياء من الأنبياء والأتقياء ممن تبعهم بإحسان، ذكر أنه تبارك وتعالى خلف من بعدهم خلف سيئ، هذا الخلف قال الله عنه: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59] مفارقة عجيبة بين هذين الفريقين، فريق إذا ما تليت عليه آيات الرحمن خر ساجداً باكياً لله جل وعلا، وفريق اتبع هواه وجرى وراء شيطانه، فاتبع الشهوات وأضاع الصلوات، ولا حول ولا قوة إلا بالله: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ} [مريم:59]. يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: [((فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ)) [مريم:59] أي أخروا الصلاة عن وقتها] وروى الإمام أبو يعلى الموصلي، وابن المنذر، وابن حبان، وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط، والحاكم والبيهقي وضعفا رفعه وصححا وقفه عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:4 - 5] أتدرون ماذا قال الحبيب صلى الله عليه وسلم؟ قال: (يا سعد! هم الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها)، ولم يقل: هم الذين يضيعون الصلاة، وهم الذين يتركون الصلاة، بل قال: هم الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها. يقول الله جل وعلا: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59] الله أكبر! هذا جزاء من ضيع مواقيت الصلاة، ولا أقول: من ترك الصلاة بالكلية، بل هذا جزاء من أخر الصلاة عن وقتها فسوف يلقى غياً، وغيٌ كما أخرج البخاري في تأريخه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: [غيٌ نهر في جهنم] والعياذ بالله. وروى الإمام ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن حبان، والطبراني في الأوسط، أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: [{فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59] قال عبد الله: الغي نهر أو وادٍ في جهنم من قيح بعيد القعر، خبيث الطعم، يقذف فيه كل من اتبع الشهوات]، {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59] لا إله إلا الله، هذا جزاء من أخر الصلاة عن وقتها.

حكم تارك الصلاة تكاسلا

حكم تارك الصلاة تكاسلاً يا عباد الله، أيها المسلمون في كل مكان! أنا لا أخاطب الحاضرين الآن بين يدي في هذا المسجد، وإنما أخاطب المسلمين، وأرسل إليهم بهذه الرسالة، وأبعث إليهم بهذا الشريط في كل مكان من أرض الله: أيها المسلمون! أيها الرجل! أيتها المرأة! أيها المسلم! أيتها المسلمة! أيها الشاب! أيتها الفتاة! يا من ضيعت الصلاة، يا من تركت الصلاة، يا من أخرت الصلاة عن أوقاتها، أعيروني القلوب والأسماع في هذا اللقاء -يا عباد الله- لنستمع اليوم إلى هذا الحكم الذي يخلع القلوب، ويزلزل الأفئدة، وتضطرب إليه الجوارح، ولكن هيهات هيهات، فقد ماتت القلوب إلا من رحم علام الغيوب جل وعلا. أعيروني القلوب والأسماع لنستمع اليوم إلى حكم تارك الصلاة، فإنه حكم يخلع القلوب ويزلزل الأفئدة، فانتبهوا معي جيداً. يقول الإمام الشوكاني رحمه الله في نيل الأوطار: لا خلاف بين المسلمين على أن من ترك الصلاة ترك جحود وإنكار فقد كفر كفراً يخرج عن الملة بإجماع المسلمين، وقال رحمه الله بعد ذلك: من كان تركه للصلاة تكاسلاً مع اعتقاده بوجوبها، وهذا حال كثير من الناس -والقول للإمام الشوكاني - وهذا هو حال كثير من الناس، فقد اختلف العلماء فيه على قولين: أما القول الأول: وهو قول مالك، والشافعي، أنهم قالوا: بأن من ترك الصلاة تكاسلاً مع اعتقاده بوجوبها لا يكفر بل يفسق، فإن تاب إلى الله جل وعلا وإلا قتل بعد ثلاثة أيام حداً بالسيف، تقطع رأسه وتضرب عنقه بالسيف بعد ثلاثة أيام، هذا الرأي الأول. وأما القول الثاني: والحق مع أصحاب القول الثاني بالدليل الصحيح من الكتاب وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول جمهور أهل العلم أنهم قالوا: من ترك الصلاة تكاسلاً وانشغالاً عنها من غير عذر شرعي، فهو كافر كافر كافر، وقد أوجب الإسلام قتله، فهو كافر، وقد دلت الأحاديث الصحيحة على كفره وعلى وجوب قتله. استمعوا معي -أيها الأحباب- لأسرد إلى حضراتكم الأدلة على ذلك، وأولاً أود أن أذكر الجميع بأني لن أتدخل بكلمة واحدة من تلقاء نفسي، وإنما سأذكر لكم الأدلة الصحيحة الصريحة من كتاب الله، ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليعلم كل مسلم، ولتعلم كل مسلمة أن من رد هذا الكلام فهو رادٌ لكلام الله، وراد لكلام محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.

الأدلة على وجوب قتل تارك الصلاة

الأدلة على وجوب قتل تارك الصلاة سأكتفي بدليلين صحيحين اثنين: الدليل الأول: حديث رواه الإمام البخاري والإمام مسلم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله). وجه الاستدلال من هذا الحديث كما يقول أستاذنا ابن القيم رحمه الله: وجه الاستدلال من هذا الحديث المبارك أنه صلى الله عليه وسلم أُمر بقتال الناس حتى ينطقوا بالشهادتين، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، وأن دماءهم وأموالهم محرمةٌ بعد نطقهم بالشهادتين وإيتاءهم للزكاة وفعلهم للصلاة. الدليل الثاني: الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: (بعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه بذهيبة -أي بقطعة صغيرة من الذهب- وهو في اليمن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسمها الرسول صلى الله عليه وسلم بين أربعة، فقال رجل من هؤلاء: اتق الله يا رسول الله -وفي رواية: إن هذه قسمة لم يرد بها وجه الله جل وعلا- فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ويلك! أولست أحق أهل الأرض أن يتقي الله؟ فقال خالد رضي الله عنه: ألا أضرب عنقه يا رسول الله، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: لا لعله أن يكون يصلي). قالٍ الإمام ابن القيم رحمه الله ووجه الاستدلال من هذا الحديث على وجوب قتل تارك الصلاة أن المانع الذي منع رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتله هو كونه يصلي. فهذان دليلان صحيحان على وجوب قتل تارك الصلاة، فتعالوا بنا إذاً لنستشهد بالأدلة الصحيحة على كفر تارك الصلاة، وقد تكلمنا عن الأدلة التي تذكر وجوب قتله، وأنا لا أتوقف عند جميع الأدلة وإلا لطال الوقت جداً، ولكنها ومضات سريعة صحيحة بإذن الله جل وعلا لتبين المراد، ونسأل الله أن يجعل في هذا الكلام النفع والبركة لكل مسلم ومسلمة على ظهر هذه الأرض، إنه ولي ذلك ومولاه.

الأدلة على كفر تارك الصلاة

الأدلة على كفر تارك الصلاة أما الأدلة -أيها الأحبة- على كفر تارك الصلاة من الكتاب والسنة، أقدمها بقول الإمام ابن حزم رحمه الله: قال الإمام ابن حزم: جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعبد الرحمن بن عوف، وأبي هريرة، وعبد الله بن مسعود، وابن عباس، وأبي بكر وعن غيرهم من الصحابة رضي الله عنهم جميعاً أنهم قالوا: [من ترك صلاة واحدة متعمداً حتى يخرج وقتها فهو كافر مرتد] يقول ابن حزم: ولا نعلم لهؤلاء الصحابة مخالفاً. من ترك صلاة واحدة متعمداً حتى يخرج وقتها، فهو كافر مرتد عن دين الله، هذه صلاة واحدة فما ظنكم بمن ترك الصلاة جملة، ما ظنكم بمن ضيع الصلاة وما صلى لله ركعة. يقولون: من ترك صلاة واحدة متعمداً حتى يخرج وقتها فهو كافر مرتد، فما ظنكم بمن ضيع الصلاة، وما ظنكم بمن جلس أمام المسلسلات الفاجرة والأفلام الداعرة مضيعاً لفرض الله جل وعلا، وما ظنكم بمن انشغل عن الصلاة بما لا يعد في الدين عذراً شرعياً.

الأدلة من القرآن على كفر تارك الصلاة

الأدلة من القرآن على كفر تارك الصلاة من ترك صلاةً واحدة متعمداً حتى يخرج وقتها فهو كافر مرتد، والأدلة على ذلك من كتاب الله ومن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرة؛ فإن كثيراً من الناس لا يأخذون إلا بأدلة الكتاب والسنة، فنقول لهم: أما الأدلة على كفر تارك الصلاة من القرآن الكريم فهي: الدليل الأول من القرآن قول الله تبارك وتعالى في سورة القلم: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:35 - 36]، ويقول جل وعلا بعدها في هذه السورة أيضاً: {وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم:43] يقول سبحانه وتعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم:42 - 43]. وجه الدلالة من هذه الآيات والكلام للإمام ابن القيم رحمه الله يقول: وجه الدلالة من الآيات: أن الله تبارك وتعالى لم يجعل المسلمين كالمجرمين، وهذا لا يليق بحكمه ولا بحكمته ولا بعدله، بل جعل الله المسلمين ضد المجرمين والمجرمين ضد المسلمين، وقال الله تبارك وتعالى وهو يحدثنا عن أحوال المجرمين في يوم القيامة، أنه يوم يكشف عن ساق يخر المسلمون الصادقون سجداً لله جل وعلا دليلاً على إيمانهم، وبرهاناً ساطعاً على صدق إسلامهم لربهم جل وعلا، ويأتي الكفار والمنافقون يريدون أن يسجدوا بين هذه الصفوف كما كان حالهم من النفاق في الدنيا، يريدون أن يسجدوا مع المسلمين كما سجد المسلمون لربهم جل وعلا، فيأبى الله جل وعلا أن يسجدوا وتبقى ظهورهم رغم أنوفهم قائمة كظهور البقر، لا يستطيعون السجود لله جل وعلا. يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: فلا يسجد إلا المسلم، ولا يستطيع السجود غير المسلم، ولو كان هؤلاء من المسلمين لأُذن لهم بالسجود كما أُذن للمسلمين، ومنهم بنص الآية من ترك الصلاة في الدنيا كما قال سبحانه: {وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم:43]. الدليل الثاني من القرآن الكريم في سورة المدثر: يقول الله تبارك وتعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ} [المدثر:38 - 40] يتساءلون عن من؟ {عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر:41 - 42] هذا كلام الله -يا عباد الله- {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} [المدثر:43 - 47] هذا قول الله جل وعلا، ووجه الدلالة من هذه الآية، والكلام للإمام ابن القيم رحمه الله: وجه الدلالة من هذه الآيات أن الله تعالى جعل المسلمين ضد المجرمين، وجعل من المجرمين السالكين في سقر بنص الآية من ترك الصلاة في الدنيا {إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:39 - 43]. الدليل الثالث من القرآن الكريم من سورة براءة -التوبة-: قول الله تبارك وتعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11] يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: ربط الله أخوتهم في الدين بإقامتهم للصلاة، فإن لم يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فلا أخوة لهم في دين الله، ولا يكونوا بذلك مع المؤمنين؛ لقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] وأكتفي بهذه الأدلة من القرآن الكريم، وفي هذا الكفاية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

الأدلة من السنة على كفر تارك الصلاة

الأدلة من السنة على كفر تارك الصلاة أما الأدلة الصحيحة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم على كفر تارك الصلاة فهي كثيرة ووفيرة، فأعيروني القلوب والأسماع يا عباد الله. أقول بداية: لا ينبغي لمسلم ولا لمسلمة إن سمع قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم أن يرد قولهما بقول عالم أو رجل أو شيخ، لا والله، لا يجوز ذلك في دين الله أبداً {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [الأحزاب:36] هذا قول الله وهذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم. الدليل الأول على كفر تارك الصلاة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رواه الإمام مسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قال: (بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة) هل تريدون حديثاً أوضح من هذا الحديث يا من ضيعتم الصلاة؟ وهل تريدون كلاماً أوضح من هذا الكلام؟ الحديث رواه مسلم وبإذن الله لا أذكر حديثاً ضعيفاً أبداً، رواه مسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة). الدليل الثاني: ما رواه الإمام أحمد في مسنده، والإمام أبو داود، والإمام النسائي، والإمام الترمذي وقال: حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم، من حديث يزيد بن حبيب الأسلمي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر). الدليل الثالث: ما رواه هبة الله الطبري، وقال الطبري: حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم من حديث ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (بين العبد وبين الكفر والإيمان الصلاة، فإذا تركها فقد أشرك). الدليل الرابع: ما رواه الإمام أحمد في مسنده، ورواه الطبراني بإسناد جيد وقال: حديث صحيح على شرط الإمام مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الصلاة يوماً فقال (من حافظ على الصلاة كانت له نوراً وبرهاناً ونجاةً يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نوراً ولا برهاناً ولا نجاةً، وكان يوم القيامة مع فرعون وقارون وهامان وأبي بن خلف) هذا كلام النبي صلى الله عليه وسلم. وذكر الإمام ابن القيم لطيفة بديعة من لطائف العلم في هذا الحديث فقال: يحشر تارك الصلاة مع هؤلاء؛ لأن تارك الصلاة يشغل عن الصلاة بشيء من هذه الأربعة، إما أن يشغله عن الصلاة ماله، أو ملكه، أو وزارته، أو تجارته، يقول: فمن شغله ماله عن الصلاة فضيعها حشر يوم القيامة مع قارون، ومن شغلته وزارته عن الصلاة فضيعها -وكثير ما هم- حشر مع وزير السوء هامان، ومن شغله ملكه عن الصلاة فضيعها -وكثير ما هم- حشر مع فرعون، ومن شغلته تجارته عن الصلاة فضيعها -وكثير ما هم- حشر مع أبي بن خلف، وهؤلاء العمالقة في الكفر والشرك في الدرك الأسفل من النار كما تعلمون جميعاً. (من حافظ على الصلاة كانت له نوراً وبرهاناً ونجاةً يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نوراً ولا برهاناً ولا نجاةً، وكان يوم القيامة مع فرعون وقارون وهامان وأبي بن خلف) في الدرك الأسفل من النار والعياذ بالله. الدليل الخامس: ما رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من ترك صلاةً مكتوبةً فقد برئت منه ذمة الله). الدليل السادس: أن ترك الصلاة -يا عباد الله- يحبط جميع الأعمال، حتى الحج -يا حجاج اسمعوا- فتارك الصلاة لا يقبل الله منه حجاً، ولا صوماً، ولا زكاة، ولا صدقة، ولا خيراً، ما الدليل؟ ما رواه الإمام أحمد في مسنده والإمام الطبراني بإسناد جيد وقال حديث صحيح الإسناد على شرط الإمام مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت فقد أفلح-وياله من فلاح- وإن فسدت خاب وخسر). يقول ابن القيم رحمه الله: ولو قبل الله تعالى لتارك الصلاة عملاً من أعمال البر والخير ما حكم عليه الرسول بأنه من الخائبين الخاسرين والعياذ بالله، هي عمود الدين بعد توحيد الله جل وعلا، وأول ما تسأل عنه، فإذا صلحت الصلاة صلح سائر الأعمال، وإن فسدت الصلاة والعياذ بالله لا تسأل عن عمل بعدها، وفسد سائر العمل والعياذ بالله. أكتفي بذلك -أيها الأحباب- من الأدلة الصحيحة الصريحة على كفر تارك الصلاة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

حكم صلاة الجماعة

حكم صلاة الجماعة وفي عجالة سريعة أذكر بحكم صلاة الجماعة، ونذكر هواة الصلاة في البيوت والمنازل بحكم صلاة الجماعة، ونقول لهم: يا من تصلون في البيوت والحجرات وتركتم هدي خير البريات، وتركتم الجمع والجماعات: اعلموا بأنكم على خطرٍ عظيم حتى وأنتم تصلون؛ لأن من العلماء من قال بوجوب صلاة الجماعة والحق والدليل معهم، فمنهم من قال بوجوبها، ومنهم من قال بأنها سنة مؤكدة، والحق والدليل مع من قال بوجوب صلاة الجماعة؛ وإليكم بعض الأدلة يا عباد الله. الدليل الأول من القرآن الكريم على وجوب صلاة الجماعة في بيوت الله جل وعلا: يقول الحق تبارك وتعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43] فلو كان المقصود إقامة الصلاة فقط ما قال الله في آخر الآية: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43] وهو الذي قال في أولها: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة:43] فلو كان الأمر يقتصر على الإقامة لقال الله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة:43] ومعلوم أنه لا توجد كلمة في القرآن الكريم كله بدون هدف وبدون معنى وبدون حكم. ولو كان المقصود إقامة الصلاة فقط لقال الله كما قال في آيات كثيرة من القرآن {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] ولكنه قال: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43]. يقول الشيخ ابن باز: وهذه الآية نص في وجوب صلاة الجماعة. الدليل الثاني: هو قول الله تبارك وتعالى وحكمه على المسلمين، حتى وهم في ساحة القتال وميدان الوغى، يوم أن تصمت الألسنة وتخطب السيوف على منابر الرقاب في مواجهة أعداء الله جل وعلا، لم يسمح الله بترك صلاة الجماعة، أسمعتم دليلاً أعظم من هذا الدليل، حتى في ميدان القتال والخوف من أعداء الله أن ينقضوا على المسلمين، لم يسمح الله جل وعلا أن يصلي المسلمون الصلاة فرادى في ميدان القتال، بل أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي بهم في الميدان جماعة، سبحان الله! فقال له ربه جل وعلا: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} [النساء:102] وقال بعدها جل وعلا: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} [النساء:102] دليل عجيب وصريح في وجوب صلاة الجماعة، حتى في وقت الخوف والقتال، ولو كان الأمر يسيراً -كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله- لأُذن لهؤلاء في ميدان القتال أن يصلوا فرادى، وأن يصلي كل واحد منهم في موقعه، ولكن الله جل وعلا أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يصلي بهم جماعة. الدليل الثالث: حديثٌ رواه الإمام مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمى، وقال: يا رسول الله! ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، وسأل الرسول صلى الله عليه وسلم أن يرخص له، أي أن يصلي في البيت فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: هل تسمع النداء، قال: نعم. قال صلى الله عليه وسلم: فأجب) أجب النداء، أجب منادي الله في بيت الله جل وعلا. الدليل الرابع: الحديث الذي رواه الإمام البخاري والإمام مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال -وهذا من حديث أبي هريرة أيضاً-: (إن أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما من الخير لأتوهما ولو حبواً، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً أن يصلي بالناس، ثم أنطلق برجال معي، معهم حزم من حطب فآتي على قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار). أسمعتم يا عباد الله! (أخالف إلى أقوام لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار) هذا حكم صلاة الجماعة. فيا من تهوون الصلاة في البيوت وتتركون هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم اعلموا أنكم على خطر عظيم، ولو متم على ذلك لمتم على غير سنة النبي صلى الله عليه وسلم كما قال عبد الله بن مسعود في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم: (إنها من سنن الهدى، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم) ثم يقول في آخر الحديث: (ولقد رأيتنا ولا يتخلف عن هذه الصلاة إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان يؤتى بالرجل يهادى بين الرجلين -أي يستند على الرجلين- حتى يقام في الصف) هذه صلاة الجماعة وهذا حكم صلاة الجماعة. فيا من ضيعتم الصلاة! اتقوا الله جل وعلا، ويا من ضيعتم الصلاة في جماعة! اتقوا الله جل وعلا، فلو متم على ذلك لمتم على غير سنة رسول الله، وعلى غير هدي ابن عبد الله صلى الله عليه وسلم. بقي لنا -أيها الأحباب- أن نذكر في عجالة سريعة بعد جلسة الاستراحة إن شاء الله جل وعلا، فضل الصلاة بصفة عامة، وأسأل الله عز وجل أن يتقبل منا وإياكم صالح الأعمال، وأن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

فضل الصلاة وعظيم أجرها

فضل الصلاة وعظيم أجرها الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه. أما بعد: فيا أيها الأحبة في الله! هذه هي الصلاة وهذه هي عظمة الصلاة، وهذا هو خطرها، وهذا هو حكمها، وهذا هو فضلها، ولقد تكلمنا عن الأدلة التي تقول بوجوب قتل تارك الصلاة، وعن الأدلة التي تقول بكفر تارك الصلاة، وبينا حكم صلاة الجماعة وبقي لنا في عجالة سريعة أن نذكر المسلمين والمسلمات في كل مكان في أرض الله جل وعلا بفضل هذه الصلاة. اعلموا -يا عباد الله- رحمني الله وإياكم بأن الصلاة هي عماد الدين، فمن تركها فقد ضيع الدين، وهو لما سواها أضيع، كما كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: [إن من ضيع الصلاة فهو لما سواها أضيع، وهي عماد الدين وأس الإسلام] أي أساسه الأول بعد توحيد الله جل وعلا، فقد بني الإسلام على خمس، وأول ركن من أركانه هو التوحيد والركن الثاني هو الصلاة -يا عباد الله- وفضلها عظيم وخطرها جسيم. وسأكتفي بهذه الأحاديث الثلاثة التي وردت في فضل الصلاة، وكلها صحيحة إن شاء الله، أما الحديث الأول رواه الإمام البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أرأيتم لو أن بباب أحدكم نهراً يغتسل منه كل يوم خمس مرات) أي: لو أن نهراً بباب أحدكم وينزل كل يوم خمس مرات إلى هذا النهر ليغتسل فيه خمس مرات (أرأيتم لو أن بباب أحدكم نهراً يغتسل فيه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيءٌ؟) أي: هل يبقى بعد ذلك على جسده من الأوساخ والقاذورات شيء (قالوا: لا يبقى من درنه شيء يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بهن الخطايا) يا لها من كرامة، ويا له من فضل عظيم (فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بهن الخطايا). وفي الحديث الذي رواه الإمام الطبراني بإسناد جيد، ورواته محتج بهم في الصحيح من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (تحترقون تحترقون، فإذا صليتم الصبح غسلتها) الله أكبر (تحترقون، تحترقون) أي بالذنوب والمعاصي والشهوات والأهواء (تحترقون تحترقون فإذا صليتم الصبح غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم الظهر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم العصر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم المغرب غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم العشاء غسلتها، ثم تنامون فلا يكتب عليكم شيء حتى تستيقظوا) يا له من فضل! وهذا من فضل الصلاة أيها الأحباب. وفي الحديث الذي رواه الإمام البخاري والإمام مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فضل صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ -أي: الفرد- بسبع وعشرين درجة). فيا عباد الله! أيها المسلم وأيتها المسلمة! الله الله في الصلاة الله الله في الصلاة! فيا تارك الصلاة لقد سمعت وعلمت قول العلماء بكفرك، فتارك الصلاة والله الذي لا إله غيره ملعون، والله لكأني بتارك الصلاة ينادي عليه ثوبه الذي يرتديه على جسده، ولو أنطقه الله لقال له بلسان الحال: يا تارك الصلاة لولا أني مسخر لك لفررت من على جسدك. والله لكأني بلقمة العيش يرفعها تارك الصلاة إلى فمه، تنادي عليه بلسان الحال وتقول له: يا تارك الصلاة يا عدو الله تأكل رزق الله وأنت مضيع لفروض الله جل وعلا. والله لكأني بالبيت الذي يؤويه وبالمنزل الذي يعيش فيه، ينادي عليه بلسان الحال إذا ما خرج كل يوم وكل صباح، يقول له: اخرج يا عدو الله، لا صحبك الله في سفرك ولا خلفك الله في أثرك، ولا ردك الله إلى أهلك، ولا إلى أولادك سالماً غانماً. يا تارك الصلاة، ويا مضيع الصلاة، اعلم بأنك على خطر عظيم، ولو مت على ذلك لمت على الكفر والعياذ بالله، فالله الله يا عباد الله، الله الله في الصلاة، فلقد كانت آخر وصيةٍ لنبيكم صلى الله عليه وسلم وهو على فراش الموت، وقد جعل يردد هذه القولة، وهذه الوصية الغالية؛ جعل يقول (الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم، الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم، الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم). هذه رسالة وهذا شريط أرسل به وأبعث به إلى كل مسلم ومسلمة على ظهر هذه الأرض في أي بلد من بلاد الله جل وعلا، وأذكر نفسي وإياكم بعظمة الصلاة وبخطورة الصلاة، وأسأل الله جل وعلا أن يبارك في هذا الشريط، وأن يجعله نافعاً لكل مسلم ومسلمة، إنه ولي ذلك ومولاه. وأسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، وباسمه الأعظم الذي إن سئل به أعطى، وإن دعي به أجاب: أن يرد المسلمين إليه رداً جميلاً، اللهم ردنا إليك رداً جميلاً، اللهم خذ بنواصينا إليك، اللهم خذ بنواصينا إليك، اللهم خذ بنواصينا إليك، اللهم لا تجعل لنا ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا أديته، ولا هماً إلا فرجته. اللهم خفف الصلاة على قلوبنا يا رب العالمين، اللهم اجعلها قرة أعين لنا يا رب العالمين، اللهم اجعلها قرة أعين لنا يا رب العالمين، اللهم رب أولادنا في ظلال الصلوات، اللهم رب أولادنا في ظلال المساجد، اللهم رب أولادنا في ظلال القرآن، اللهم اجعلنا من المحافظين على الصلوات، اللهم اجعلنا من المحافظين على الصلوات، اللهم لا تجعلنا ممن هم عن صلاتهم ساهون، اللهم اقبلنا وتقبل منا إنك أنت السميع العليم. اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم تقبل منا صالح الأعمال، ووفقنا اللهم إلى ما تحبه وترضاه، اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه. أحبتي في الله! هذا وما كان من توفيق فمن الله جل وعلا، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه، اللهم قد بلغت اللهم فاشهد، اللهم قد بلغت اللهم فاشهد، اللهم قد بلغت اللهم فاشهد!!!

الطريق إلى الله

الطريق إلى الله الطريق إلى الله طريق واحد، وهو طريق النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم، وما سواه من الطرق إنما هي طرق ضلال وغواية عن الصراط المستقيم، والناس في هذا الأمر قسمان: أولهم من ضل عن الطريق وعادى شرع الله وأهله، والآخر من اهتدى إلى الطريق وثبت عليه.

الطريق إلى الله هو طريق الرسول والصحابة

الطريق إلى الله هو طريق الرسول والصحابة الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريكٌ في الملك وما كان معه من إله، الذي لا إله إلا هو فلا خالق غيره ولا رب سواه، المستحق لجميع أنواع العبادة، ولذا قضى ألا نعبد إلا إياه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62]، عالم الغيب والشهادة الذي استوى في علمه ما أسر العبد وما أظهر، الذي يعلم ما كان وما هو كائن وما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، حمداً لك يا من اعترف بفضلك وكرمك كل حاضرٍ وباد، حمداً لك يا من اغترف من بحر جودك وكرمك كل رائح وغاد، حمداً لك يا من نطقت بوحدانيتك الكائنات. فالسماء دائماً وأبداً تقول: سبحان من رفعني بقدرته، وأمسكني بقوته، فهو ركني وعمادي! والأرض تقول: سبحان من وسع كل شيء علماً ومهد مهادي! والبحار تقول: سبحان من بمشيئته أجراني، وأسال عيون مائي لخطَّابي وورَّادي! والعارف به يقول: سبحان من دلني عليه، وجعل إليه مرجعي ومعادي! والمذنب يقول: سبحان من اطلع علي في المعصية ورآني، فلما رآني سترني وغطاني، ولما تبت إليه تاب علي وهداني. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الواحد الذي لا ضد له، والصمد الذي لا منازع له، والغني الذي لا حاجة له، جبار السماوات والأرض، لا راد لحكمه، ولا معقب لقضائه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الأنعام:103]. {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، استوى كما أخبر، وعلى الوجه الذي أراد، وبالمعنى الذي قال، استواءً منزهاً عن الحلول والانتقاص، فلا العرش يحمله، ولا الكرسي يسنده، بل العرش وحملته، والكرسي وعظمته، الكل محمول بلطف قدرته، مقهور بجلال قبضته، فالاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة؛ لأنه تبارك وتعالى كان ولا مكان، وهو على ما كان قبل خلق المكان، لم يتغير عما كان، لا يحويه زمان، ولا يحده مكان، علم ما كان، وما هو كائن، وما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]. لا إله غيره، ولا رب سواه، من توكل عليه كفاه، ومن اعتصم به نجاه، ومن فوض إليه الأمر هداه، وصدق الله إذ يقول: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر:36]. وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وعظيمنا وقائدنا ومعلمنا وقدوتنا محمداً رسول الله، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليك يا رسول الله صلاةً وسلاماً يليقان بمقامك يا أمير الأنبياء، ويا سيد المرسلين، وأشهد لك يا سيدي -ويشهد معي الموحدون- أنك أديت الأمانة، وبلغت الرسالة، ونصحت الأمة، وكشف الله بك الغمة، وعبدت الله حتى لبيت داعيه، وجاهدت في سبيل ربك حتى أجبت مناديه، وعشت طوال أيامك تمشي على شوك الأسى، وتخطو على جمر الكيد والعنت، تلتمس الطريق لهداية الضالين، وإرشاد الحائرين، حتى علمت الجاهل يا سيدي، وقومت المعوج، وأمَّنت الخائف، وطمأنت القلق، ونثرت أضواء الحق والخير والإيمان والتوحيد كما تنثر الشمس ضياءها في رابعة النهار، فصلِّ اللهم وسلم وبارك عليك يا سيدي يا رسول الله، وجزاك الله عنا وعن الإسلام خير ما جازى الله به نبياً عن أمته ورسولاً عن قومه. يا مصطفى ولأنت ساكن مهجتي روحي فداك وكل ما ملكت يدي إني وقفت لنصر دينك همتي وسعادتي ألا بغيرك اقتدي لك معجزات باهرات جمة وأجلها القرآن خير مؤيدي ما حرفت أو غيرت كلماته شلت يد الجاني وشاه المعتدي وأنا المحب ومهجتي لا تنثني عن وجدها وغرامها بمحمد قد لامني فيه الكفور ولو درى نعم الإيمان به لكان مساعدي يا رب صلِّ على الحبيب محمد واجعله شافعنا بفضلك في غدِ اللهم صل وسلم عليك يا سيدي يا رسول الله، صلاةً وسلاماً يليقان بمقامك يا أمير الأنبياء! ويا سيد المرسلين! أما بعد: فيا أيها الأحباب! أحباب الحبيب المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم! تعالوا بنا لنطوف سوياً في روضة القرآن الكريم، لنتعرف اليوم على الطريق الصحيح، فإن موضوعي اليوم مع حضراتكم بعنوان: الطريق إلى الله عز وجل، أين الطريق إلى الله عز وجل؟ خاصة وأن كثيراً من الناس اليوم قد التبست عليه الأمور واختلطت، وتشعبت به الأهواء، وكثرت من حوله الفتن، وكثرت بين يديه وأمام عينيه الفرق والجماعات، وهو في حيرة، أين هو؟ بل وأين الطريق؟ إن الطرق أمامه قد تشعبت، وإن الفرق أمامه قد اختلفت وتكاثرت وتباينت، الكل ينتصر لرأيه، والكل ينادي لمنهجه وفكره، حتى وصل الأمر إلى حد التصادم والنزاع، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. فتعالوا بنا لنضع النقط اليوم على الحروف، لنتعرف على الطريق، أين الطريق الذي يوصلنا إلى الله جل وعلا في وسط هذا الركام الهائل من الأفكار والفلسفات والمبادئ؟ يقول صاحب ظلال القرآن -حتى تتعرفوا على الحقيقة- يقول الشيخ سيد قطب رحمه الله: إن الدنيا كلها بمبادئها وأفكارها وفلسفاتها ومناهجها إن لم تكن مرتبطة بمنشئها الأول، وقدوسها الأجل الأعظم وهو الله جل وعلا، فإنما هي في ضلال وضلال، إن الطريق هاهنا واضح وبين، وإن الطريق هاهنا بين. الطريق إلى الله -أيها الأحباب- هو طريق واحد لا اعوجاج فيه ولا انحراف، لا اختلاف فيه ولا تباين. الطريق حدده النبي صلى الله عليه وسلم، وحدد مراسمه من بلغ عن ربه جل وعلا، فقال فيما ذكره الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153]، انتبهوا معي -أيها الأحباب- إلى دقة التعبير القرآني في هذه الآية: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} [الأنعام:153] لو انتبهتم معي للدقة القرآنية لوجدتم أن الله في هذه الآية قد وحد الطريق وأفرده: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي} مفرد وطريق واحد، وجمع الله السبل والطرق؛ لأن الطرق المتعددة إنما هي طرق الشيطان والأهواء والضلال، وحد الله الطريق إليه وجمع السبل؛ لأن الطريق إلى الله واحد وواضح: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً} [الأنعام:153] بالإفراد، {فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} [الأنعام:153] بالجمع؛ لأن الطرق متعددة ومتنوعة كلها بدع وأهواء وضلالات، لا صدق ولا إخلاص ولا ابتغاء لمرضاة الله عز وجل فيها، إن الطريق الذي يسلكه ويبتغي فيه القرب من الله إنما هو طريق واحد، إنما هو طريق النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين. ولقد ورد في الحديث الصحيح الذي خرجه الإمام أحمد في مسنده، والإمام النسائي في سننه، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خط خطاً بيده -رسم على الأرض خطاً مستقيماً- ثم قال: هذا صراط الله مستقيماً، وخط خطوطاً عن يمينه وعن شماله، ثم قال: وهذه سبل جلس على كل سبيل منها شيطان يدعو إليها) على كل هذه الطرق المتفرقة والمتنوعة شيطان، يدعو الشيطان إلى حزبه وفكره ومنهجه ومبادئه، وصراط الله مستقيم واضح بين. وهذا مأخوذ من قول الله جل وعلا في سورة البقرة: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:257]، لو نظرتم في هذه الآية أيضاً لوجدتم أن الله قد جمع الظلمات وأفرد النور، ((اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ))، جمع ظلام وجمع ظلمة، ظلمات البدع، والأهواء، والدنيا، والشياطين، والطواغيت في هذه الأرض؛ لأن الطاغوت له في كل عصر لغة، وله في كل عصر لسان، وله في كل عصر منهج، بل ألف ألف لسان، يتنوع ويتشكل بتشكل العصور والأزمان، والأماكن والأوقات. {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة:257] الله جمع الظلمات ووحد النور؛ لأن مصدر النور واحد هو الله نور السماوات والأرض، أو كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: [ليس عند ربكم ليل ولا نهار، نور السماوات والأرض من نور وجهه]، أو كما قال الله جل وعلا: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور:35]. إذاً: الظلمات متعددة، والطرق متنوعة، ولكن طريق النور هو طريق الحق وهو طريق واحد، هو طريق النبي صلى الله عليه وسلم، وهو طريق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، من سلك هذا الطريق فقد سلك الطريق الحق إلى الله الحق، ومن شذ عن هذا الطر

تحذير الله ورسوله للمؤمنين من الفرقة والخلاف

تحذير الله ورسوله للمؤمنين من الفرقة والخلاف يا أيها الأحباب! إن الطريق إلى الله واحد وواضح ونير، لا لبس، ولا غبش ولا غموض، ولا اعوجاج، ولا انحراف فيه، ولا التفات عنه، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم حذر من الفرقة والاختلاف والتباين، وقال في الحديث الصحيح الذي خرجه الإمام أحمد والإمام القرطبي، وصححه الألباني في صحيح الجامع، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (افترق أهل الكتاب على اثنتين وسبعين ملة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار إلا فرقة واحدة، ما أنا عليه وأصحابي) إذاً الطريق لا لبس فيه، إن الطريق واضح، فلم هذه الاختلافات والفرقة، ولم هذه الأحقاد، ولم هذا التنازع والتباين؟ أيها الأحباب! يا من صدقتم في حبكم لله! ويا من أخلصتم في دعوتكم لله جل وعلا! ويا من صدقتم في حبكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم! لا تتفرقوا ولا تختلفوا ولا تتباينوا، اجتمعوا على قلب رجل واحد، فإن أعداء الإسلام يخططون لنا وللإسلام ليل نهار، ولكننا نحن المسلمين نحن الموحدين نحن المؤمنين نحن الدعاة إلى هذا الدين اختلفنا فيما بيننا، اختلفنا على أمور فرعية لا تسمن ولا تغني من جوع وتركنا الأصول، وكلنا جميعاً موحدون ومؤمنون ومسلمون، لا إله لنا إلا الله، ولا كتاب لنا إلا كتاب الله، ولا زعيم لنا إلا ابن عبد الله صلى الله عليه وسلم، فلم هذه الأحقاد والاختلافات والنزاعات؟ سبحان الله! لا فرق بين أخ سلفي وبين أخيه من جماعة التبليغ، ولا فرق بين هذا وبين أخيه من جماعة الإخوان، ولا فرق بين هذا وبين أخيه من جماعة أنصار السنة، كلنا جميعاً نقول: لا إله إلا الله، كلنا جميعاً نقول: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا منهج لنا إلا القرآن، ولا شرع لنا إلا شرع النبي عليه الصلاة والسلام، فلم هذه الفرقة أيها الأحباب، وأعداء الإسلام والله لا ينامون ليل نهار؟ ما من لحظة إلا وهم يخططون لهذا الدين، إلا وهم يدبرون لهذا الدين، إلا وهم يخططون لتشويه صورة هذا الإسلام، وأعداء الإسلام كثيرون، وكلكم يعرف من هم أعداء الإسلام، لا يقر لهم قرار، ولا يهدأ لهم بال وصوت الله أكبر يرتفع ليل نهار في كل المساجد، فلا تختلفوا -أيها الأحباب- فإن الطريق إلى الله واضح وبيّن وكله نور!

أقسام الناس في الطريق إلى الله تعالى

أقسام الناس في الطريق إلى الله تعالى إن الناس على الطريق إلى الله قسمان: وهذا التقسيم ليس لي، وإنما هو تقسيم لأستاذنا ومعلمنا الإمام ابن القيم رحمه الله جل وعلا وأسكنه فسيح جناته، وطيب الله ثراه، وقدس الله روحه بقدر ما قدم للإسلام ولدين الإسلام وللمسلمين، ماذا يقول الإمام ابن القيم؟ انتبهوا حتى تعرفوا أين أنتم، هل أنت على الطريق أم أنت بعيد عنه، وبالرغم من ذلك فلقد زين الشيطان إليك عملك، وخدعك إبليس عليه لعائن الله، وقال لك: تمسك فإنك على الطريق، ولكن لو دققت في حقيقة أمرك، ولو فتشت في حقيقة سعيك لوجدت سعيك ممن قال الله فيهم: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف:104]، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فتحرى الدقة أيها الأخ الكريم، وانتبه معي جيداً لتتعرف أين أنت، هل أنت على طريق الله أم أنت بعيد عن الطريق؟

القسم الأول: قسم قد ضل عن طريق الله وأعلن العداء لشرعه

القسم الأول: قسم قد ضل عن طريق الله وأعلن العداء لشرعه يقول الإمام ابن القيم: الناس قسمان: قسمُ قد ضل الطريق عن الله جل وعلا، بعد وانصرف عن الطريق الحق، ضل الطريق إلى الله سبحانه وتعالى، قسم أعلن العداء لله، وأعلن الحرب على شرع الله رجالاً ونساءً، رجال يقولون: إن في شرع الله التخلف والتأخر، وإن في النقاب الرجوع إلى الوراء: ما هذا التخلف والتأخر والتنطع؟ إن النقاب تخلف، وإن الحجاب تأخر وهكذا، وامرأة أخرى صرخت على صفحات الجرائد، وعبر شاشات التلفاز والإذاعات، تقول: أتريدون أن نرجع إلى عصر الناقة والحصان؟ أتريدون منا أن نرجع إلى الوراء؟ أتريدون منا أن نرجع إلى عهد الأعراب الذين عاشوا في الصحراء؟ إننا في القرن العشرين، إننا في عصر الصاروخ والطائرة والصعود إلى القمر، فلا رجعة ولا عودة إلى الوراء، وعرت عن صدرها وذراعيها، وكشفت عن ساقيها، وكأنها تقول بلسان الحال والمقال: يا رب! غير شرعك ودينك، فإن شرعك لم يعد يتفق مع مدنية القرن العشرين. هؤلاء الناس ضلوا عن طريق الله، وأعلنوا العداء لله ولشرع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسخروا من الموحدين والمتوضئين! استهزءوا بهم في كل زمان ومكان، ووصفوهم بأنهم إرهابيون، ومتنطعون، ومتشددون، هل من تمسك بكتاب الله إرهابي؟! هل من تمسك بدين محمد صلى الله عليه وسلم متشدد ومتنطع؟ هذا الذي وضع المسك بدلاً من رائحة السيجارة والتدخين، والذي وضع المسواك في فمه بدلاً من السيجارة والعياذ بالله، هؤلاء إرهابيون، هؤلاء متنطعون، هؤلاء متشددون؟! أيها الموحدون! أيها المؤمنون! أيها المتمسكون بدين حبيبكم محمد صلى الله عليه وسلم! لا تضلوا عن الطريق، ولا يغرنكم من بعد عن الطريق، مهما كثر عددهم، فإن الحق واضح، ورسول الله كان وحده يدعو إلى الله جل وعلا، فلا تغتروا بكثرة المبتدعين، وكثرة المفتونين، واعلموا أن نبيكم وحبيبكم محمد كان وحده في الميدان يدعو إلى الله وحده، فثبته الله جل وعلا، وثبت معه المخلصون من هذه الأمة، الذين دعوا إلى الله جل وعلا، فنقلهم الله بتمسكهم بكتاب الله وسنة رسول الله من رعاة للغنم إلى قادة وسادة لجميع الأمم. فهذا الصنف الذي أعلن العداء لله، وهذا الصنف الذي ضل عن طريق الله، وأعلن الحرب على شرع الله، وأعلن العداء للمتوضئين الذين أشرقت وجوههم بأنوار الإيمان والطاعة، الذين سجدوا لله في الليل، وهؤلاء بين الخمور وبين شاشات التلفاز، وأمام أشرطة الفيديو، والمغنيات والقينات والخينات والعياذ بالله. فيا أيها المتوضئون! اثبتوا، واصبروا، واعلموا أن النصر حليفكم بإذن الله جل وعلا: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105]، إن النصر للإسلام والله، وإن النصر لدين الله، لا تخافوا على الدين أبداً، فإن الذي تولى حفظ الدين هو الله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، لا نحذركم ولا نخوفكم على الدين، وإنما الحذر علينا نحن المسلمين وأصحاب الدين من هذه الفرقة، ومن هذه الاختلافات؛ لأن الدين محفوظ بعناية الله وقدر الله سبحانه! وقد ذكرت لكم أن مدرساً تربى على الشيوعية والوجودية والإلحاد: دخل ذات يوم على تلامذته في الفصل، وأراد أن ينفث سموم هذه العقيدة العفنة في عقول هؤلاء الصغار، فوقف أمامهم وأشار إليهم وهم صغار العقول، وقال لهم: يا أولاد! هل ترون هذه السبورة! قالوا: نعم. قال: إذاً السبورة موجودة. تروني؟ قالوا: نعم. قال: إذاً أنا موجود. أترون الدرج الذي أنتم قاعدون عليه؟ قالوا: نعم. قال: إذاً الدرج موجود. أنتم ترون ربنا؟ قالوا: لا. قال: إذاً غير موجود، لا وجود لخالق، إذاً هذا الكون كله من عرشه إلى طرفه لا خالق له. سبحان الله! يا أعرابي! يا من عشت في الصحراء! يا من لم تدخل إلى جامعة من الجامعات! ويا من لم تدرس في كلية من الكليات! يا من لم ترتحل في جنبات الأرض بحثاً عن علم، أو جرياً وراء فكر، أو فلسفة زائفة، أو منهج خداع. أيها الأعرابي البسيط! بالله عليك بماذا تعرفت على الله؟ وما الدليل على وجود الله؟ قال لهم: البعرة تدل على البعير، وأثر السير يدل على المسير، وسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، أفلا يدل كل ذلك على اللطيف الخبير؟! سبحان الله! هذا الرجل المشرك الملحد الوجودي الشيوعي، يقول لهم: لا وجود للخالق، سبحان الله العظيم! وإذ بالله تبارك وتعالى الذي تكفل بحفظ دينه ينطق صبياً وطفلاً صغيراً من هؤلاء الصغار، ينطقه الله ويؤتيه الحكمة: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} [البقرة:269]، فقام تلميذٌ أراد أن يقلد أستاذه. مشى الطاووس يوماً باختيال فقلد مشيته بنوه فقال علام تختالون قالوا لقد بدأت ونحن مقلدوه وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوده أبوه فقام التلميذ مقلداً لأستاذه، ووقف أمام أستاذه ونظر إلى زملائه من التلاميذ، وقال لهم: يا أولاد: أنتم ترون عقل الأستاذ؟ قالوا: لا، قال: إذن عقله غير موجود، مجنون ابن مجنون، هذا حفظ الله لدينه، {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، عهد أخذه الله على نفسه، فلا تخافوا على هذا الدين، ولكن الخوف علينا نحن المسلمين إذا ما ضيعناه، وإذا ما فرطنا فيه، وإذا ما ألقينا كتاب الله وشرع رسول الله وراء ظهورنا، هنا يخشى علينا من الضياع والضلال: (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أومن قلة نحن يومئذٍ يا رسول الله؟ قال: كلا، ولكنكم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل -زبد لا قيمة له ولا نفع فيه- وليوشكن الله أن ينزع المهابة من قلوب عدوكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن، قيل: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت). فيا أيها الأحباب! صنفٌ قد ضل عن الطريق وأنتم تعلمونه جيداً، أعلن العداء لله، وأعلن الحرب على شرع الله، وأعلن العداء للدعاة، وصب الإيذاء والعذاب صباً على كل من دعا إلى هذا الدين، هذا الصنف تحركه الشياطين، والأهواء والشهوات، ألم تقرأ قول الله جل وعلا: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً} [مريم:83]، تدفعهم الشياطين إلى المعاصي دفعاً، وإلى الضلال دفعاً، وإلى جهنم دفعاً، نؤزهم أزاً إلى الضلال والمعاصي والهلاك، هذا هو الصنف الأول؛ بعد عن الله فبعد الله عنه، وويل لمن بعد الله عنه: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124]، هذه هي النتيجة، من أعرض عن الله أعرض الله عنه، ومن أعرض الله عنه فهو في ضلال. نعيش في هذا الضنك والضيق، نقص في الأموال والثمرات والمياه والكهرباء والاقتصاد لا رخاء اقتصادي، ولا أمن، ولا أمان، لماذا؟ لأننا أعرضنا عن الله، وأعلنا العداء على الله، والحرب على شرع الله جل وعلا، فماذا تنتظرون؟ ماذا تكون النتيجة؟ هذا الضنك والضيق والضلال والبعد، وهذه الأزمات والمشاكل والظلمات التي نعيش فيها، هذه نتيجة حتمية لكل من أعرض عن منهج الله، هذه نتيجة حتمية لكل من شذ وأعلن الحرب على شرع الله: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} [نوح:10] ما هي النتيجة؟ {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً * مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} [نوح:11 - 13] ما لكم لا تعبدون الله حق العبادة، ما لكم لا توحدون الله حق التوحيد، ما لكم لا تصطلحون مع الله، ما لكم تعلنون الحرب على شرع الله، وعلى منهج الله، وعلى كتاب الله، النقاب تخلف، وشرع الله تأخر؟ لا إله إلا الله، فهذا الصنف أيها الأحباب ضل عن الطريق، وبعد عن الله فبعد الله وأعرض عنه، فهو يعيش في حسرة، لا أمن ولا أمان ولا رخاء ولا استقرار، وإن نعمة الأمن والأمان، ونعمة الاستقرار والرضا، إنما هي نعمة عظيمة، انتبه {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]، نعمة الطمأنينة ونعمة الرضا، لا ينعم بها إلا المؤمن الذي اطمأن قلبه بذكر الله، والذي كان مع الله فكان الله معه. وكما يقول سيدنا قتادة: من كان مع الله كان الله معه، ومن يكن الله معه فمعه الفئة التي لا تغلب، ومعه الحارس الذي لا ينام، والهادي الذي لا يضل، والقوة التي لا تذل.

القسم الثاني: قسم عرف الطريق إلى الله وثبت عليه

القسم الثاني: قسم عرف الطريق إلى الله وثبت عليه الصنف الثاني: صنف عرف الطريق وثبت عليه -أسأل الله أن نكون أنا وأنتم منهم- لأن نعمة الثبات -أيها الأحباب- من أجل النعم، أسأل الله أن يثبتني وإياكم على طريق الله، وأن يتوفاني وإياكم على التوحيد الخالص. من الناس في الصنف الثاني من عرف الطريق إلى الله وثبت عليه، فهو يجاهد نفسه ويجاهد شيطانه وهواه ودنياه على أن يظل في هذا الطريق، ولكن الكل يختلف عن الآخر، كلنا يختلف في قدر عبادته، وكلنا يختلف في قدر طاعته، هذه فطر الله في خلقه، فلا تختلفوا ولا تتفرقوا ولا تتحاقدوا، واعلموا بأن فطرة الله في خلقه أن يكون هذا التباين والاختلاف، هذا سيد عمله العلم، لا يزال عاكفاً على العلم حتى يسلك من هذا الطريق إلى الله، وهذا سيد عمله الصلاة، وهذا سيد عمله تلاوة القرآن، وهذا سيد عمله قيام الليل، وهذا سيد عمله الصيام، وهذا سيد عمله إغاثة اللهفات، وتفريج الكربات وأنواع الصدقات، وهذا سيد عمله الحج والاعتمار، وهذا سيد عمله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله. إذاً: فالكل يختلف بقدر ما منَّ الله به عليه من عطاء، كلنا يتباين في مقدار القرب والبعد عن الله، وكلنا يتباين في مقدار القربات والطاعات إلى رب الأرض والسماوات، وهذه فطرة الله في خلقه، وهذه سنة الله في خلقه. ولذلك فإن الإمام ابن القيم رحمه الله يقسم هذا الصنف الثاني إلى ثلاثة أقسام، ما هي؟ قسم ظالم لنفسه، وقسم مقتصد، وقسم سابق بالخيرات بإذن الله، وذلك مأخوذ من قول الله في سورة فاطر: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر:32]. إذاً: الناس يتفاوتون في الطريق إلى الله، ظالم لنفسه، يعصي ويذنب ويرجع ويتوب، هذا هو حاله، (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون) إلا أنه لا يصر على المعصية، فهذا في رحمة الله بإذن الله. الظالم لنفسه؛ فرط كثيراً في الزاد الذي يبلغه، والمقتصد زاده يبلغه إلى الطريق بالكاد، والسابق بالخيرات زاده كثير، وربحه وفير، هؤلاء هم الأبرار والمقربون، وهذه الأصناف جميعاً بإذن الله في رحمة الله جل وعلا، وإن كان العلماء كما ذكر ابن القيم قد اختلفوا في الظالم لنفسه على فرقتين: فهناك طائفة من العلماء قالت: إن الجنة للصنفين الآخرين، للمقتصد والسابق بالخيرات، أم الظالم لنفسه فإن غلبت حسناته سيئاته فهو من أهل الجنة، وإن غلبت سيئاته حسناته فهو من أهل النار، وصنف آخر قال: بأن الظالم لنفسه من الكفار، ولكن الإمام ابن القيم رجح مع طائفة من رجحوا بأن الأصناف الثلاثة في رحمة الله بإذن الله جل وعلا؛ لأن الله تعالى قال في بداية الآية: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر:32]. إذاً: هؤلاء جميعاً الذين وضعوا أيديهم وأرجلهم على الطريق بإذن الله هم جميعاً في جنة الله وفي رحمته. ولقد ذكر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في هذه الآية ما ذكر الإمام ابن كثير أنه قال: هذه الأمة يوم القيامة أثلاث: ثلث يدخلون الجنة بغير حساب، وثلث يحاسبون حساباً يسيراً، وثلث يحبسون في المحبس يوم القيامة ثم يتجاوز الله عنهم -نسأل الله أن نكون منهم! - وذكر الإمام الطبراني عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية: (((فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ)) [فاطر:32] فقال: أما السابق بالخيرات فيدخل الجنة بغير حساب، وأما المقتصد فيحاسب حساباً يسيراً، وأما الظالم لنفسه فيدخله الله الجنة برحمته) وفي رواية أخرى للنبي صلى الله عليه وسلم في الطبراني أيضاً، قال: (وأما الظالم لنفسه فيحبسه الله ويحاسبه فيظل في كرب وضيق وهم وبلاء، ثم بعد ذلك يتجاوز الله عنه، ويدخله الجنة برحمته). وهنا أيها الأحباب أتذكر حديثاً للنبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، هذا الحديث خرجه الإمام مسلم في صحيحه، وهو مروي عن عبد الله بن مسعود، بشراكم يا أمة الحبيب! بشراكم يا من وضعتم أرجلكم على الطريق! وبشراكم يا من عرفتم طريق الله! يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن آخر رجل من أمتي يدخل الجنة، رجل يمشي على الصراط مرة ويكبو مرة، وتسفعه النار مرة) وبعدما يتخطى الصراط -فيما معنى الحديث- ويعبر الصراط، وينجيه الله من نار جهنم، يلتفت إليها وينظر إلى حرها ونارها وهو يقول: تبارك الذي نجاني منكِ، ثم يقول: الحمد لله! والله لقد أعطاني الله ما لم يعط أحداً من الأولين والآخرين، وهو آخر الناس: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185]، وهو آخر الناس، وقبله بزمان هناك من دخل بدون حساب، وهناك من دخل منذ زمن بعيد، ولكنه لما رأى النار وهول النار، يقول: الحمد لله الذي أعطاني ما لم يعط أحداً من الأولين والآخرين. وهنا حينما يعبر ويقترب من الجنة، يرفع الله له شجرة من شجر الجنة، شجرة يقول عنها النبي صلى الله عليه وسلم: (يمشي في ظلها الراكب خمسمائة سنة) شجر في الجنة غرسها الله بيديه لأوليائه، فيرفع الله له شجرة جميلة عظيمة، وهنا ينادي العبد على الله، ويقول: يا رب! فيقول الله عز وجل: ماذا تريد؟ فيقول العبد: يا رب! قربني من هذه الشجرة؛ لأستظل بظلها، وأشرب من مائها، ولقد كانت تسفعه النار، إلا أنه عنده من الأمان، يا رب! ادنني. قربني من هذه الشجرة استظل بظلها وأشرب من مائها، فيقول الله عز وجل له: عبدي! يا ابن آدم! هل إن أعطيتكها وقربتك إلى هذه الشجرة لتستظل بظلها وتشرب من مائها، هل ستسأل شيئاً من ذلك؟ يقول: لا وعزتك، وماذا أسأل؟! لقد كنت سأقع في النار، وهأنت يا رب بفضلك ورحمتك نجيتني من النار، وهأنذا سأستظل بشجرة من شجر الجنة لا أسألك شيئاً بعدها يا رب. فيقربه الله عز وجل منها، فيستظل بظلها ويشرب من مائها، وبعد ذلك يرفع الله له شجرة ثانية هي أحسن من الأولى، وبنص الحديث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وربه يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليه! وبعد فترة يقول له: يا رب! يقول له: نعم، يقول له: يا رب! قربني إلى هذه الشجرة الثانية -هذه جميلة جداً، وأحسن من الأولى بكثير- استظل بظلها وأشرب من مائها، فيقول الله: يا ابن آدم! ألم تعط العهود والمواثيق؟ يقول: شجرة اشتقت إليها، فيقربه الله عز وجل، فيستظل بظلها ويشرب من مائها. ويمكث فترة، فيرفع الله له شجرة أخرى على باب الجنة، فينظر إليها فيشتاق، فيقول: يا رب! قربني إلى هذه الشجرة، وعزتك لن أسأل شيئاً بعد ذاك، فيقول: يا ابن آدم! ما أغدرك. ألم تعط العهود والمواثيق على ألا تسأل غير الذي سألت؟ يقول: يا رب! وعزتك لن أسأل بعد ذلك شيئاً، فيقربه الله عز جل). وهنا إذا ما اقترب إلى الشجرة الثالثة، التي هي على باب الجنة، ماذا يحدث؟ يستمع إلى أصوات أهل الجنة، وينظر إلى هذا النعيم المقيم الجنة، أنتم الآن في مجلس كله نقاء وكله حنان، فأنت في سعة وصدرك يتسع، فما بالك إن منّ الله عليك بمكان في بيتك كله سرور وكله راحة، لا شيء فيه يعكر عليك صفوك، تجلس في سعادة، فما بالك إن كنت في جنة الله جل وعلا، أو كما قال الشيخ الشعراوي بارك الله فيه، يقول حينما ذهب إلى قصر من قصور الضيافة في أمريكا، واستقبل في هذا القصر العجيب، وأخذ الناس من حوله يلتفتون إلى هذا البناء والمعمار والتشييد، فأراد الشيخ أن يلفتهم إيمانياً إلى الله، فقال لهم: أيها الناس! هذا إعداد البشر للبشر، فما بالكم بإعداد رب البشر، ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. ولذلك لما وصفها علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: واعمل لدار غد رضوان خازنها والجار أحمد والرحمن بانيها قصورها ذهب والمسك طينتها والزعفران حشيش نابت فيها أنهارها لبن مصفى ومن عسل والخمر يجري ريحقاً في مجاريها والطير تجري على الأغصان عاكفة تسبح الله جهراً في مغانيها فمن أراد أن يشتري الدار في الفردوس يعمرها بركعة في ظلام الليل يحييها شجرة في الجنة على باب الجنة، يسمع أصوات أهل الجنة ونعيم أهل الجنة، فيقول: (يا رب! فيقول الله له: لبيك. ماذا تريد؟ فيقول: يا رب! أدخلني الجنة، فيقول الله عز وجل: عبدي! فيقول: نعم يا رب! فيقول الله له: ما الذي يرضيك مني؟! عبدي! ألا تحب أن أعطيك الدنيا ومثلها معها؟! وهنا يقول العبد: يا رب! أتهزأ بي وأنت رب العالمين؟! وهنا ضحك عبد الله بن مسعود، فقال عبد الله بن مسعود: لماذا لا تسألوني مم أضحك؟ فقالوا له: مم تضحك؟ قال: أضحك لأن النبي صلى الله عليه وسلم حينما حدث بهذا الحديث ضحك، فقالوا له: لم تضحك يا رسول الله؟ قال: أضحك لضحك رب العزة. لأن العبد حينما يقول: يا رب، أتهزأ بي وأنت رب العالمين، يضحك الله منه، ويقول له: لا يا عبدي! لا أهزأ بك، ولكني على ما أشاء قادر). فيا أيها الأحباب! اطمئنوا؛ فإن الظالم لنفسه والمقتصد والسابق بالخيرات بإذن الله كلهم في رحمة الله وجنة الله. إذاً: فلتعلموا أن قصدي من هذا الكلام أن الناس متفاوتون، وأن الناس مختلفون، كلٌ على حسب فهمه، وكل على حسب عقله، وكل على حسب إيمانه، وكل على حسب طاعته، وكل على حسب قربه، فلا تختلفوا، ولا تتهموا هذا ولا ذاك، ولا تتحاقدوا ولا تتنابذوا: {

الحب في الله بين عباده المؤمنين

الحب في الله بين عباده المؤمنين الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الأحباب! تعالوا بنا لنعاهد الله من اليوم، ونعاهد رسول الله من الساعة أن نتحاب في الله، وأن ننسى المسميات، وأن ننبذ الأحقاد جانباً، وأن يعانق بعضنا بعضاً، وأن نرجع إلى هذا الرباط القوي والمتين، هذا الرباط الذي ضيعناه؛ إنه رباط الحب في الله. أيها الأحباب! اتركوا الخلافات والمسميات والأفكار على اختلافها، ولكن تعالوا بنا نتحد ونتفق ونجتمع ونعتصم، نضع أيدينا جميعاً في يد كل من يدعو إلى الله جل وعلا أياً كانت جماعته، وأياً كانت طريقته بشرط أنه يدعو من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، طالما هذا هو منهجه وطريقه، فلا تختلفوا ولا تتحاقدوا ولا تتنابذوا، واجتمعوا واعتصموا، هيا بنا نجرب الحب في الله والبغض في الله، فمن أحب لله وأبغض لله، وترك لله، وأعطى لله ومنع لله، فهذا هو الذي قد استكمل الإيمان، كما قال سيد المؤمنين محمد صلى الله عليه وسلم. أيها الأحباب! اعلموا جميعاً أن الناس يختلفون، وأن الناس يتفرقون ويجتمعون، وأن الناس يتفاوتون في العقول والأذهان، ويتقاربون ويتنافرون، فلا يغرنكم الشيطان ولا يبذر بيننا بذور الفتن والأحقاد والأهواء. والله الذي لا إله غيره، لقد ورد في الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود والترمذي عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: دخل علينا أبو بكر الصديق يوماً وقد شمر عن ثيابه حتى ظهرت ركبته وهو يجري، فقال أبو بكر: (يا رسول الله! قال: ماذا تريد يا أبا بكر؟ قال: يا رسول الله! لقد كان بيني وبين أخي عمر بن الخطاب شيئاً -أي: شيئاً من الخلاف، وعدم اتحاد الرأي، وعدم الألفة في أمر من الأمور- فندمت على هذا الخلاف، وذهبت إلى عمر بن الخطاب، وسألته أن يغفر لي فأبى) لله درك يا صديق! أبو بكر الصديق يذهب لـ عمر، ويسأله أن يغفر له زلته وخطأه واختلافه معه في الرأي، يقول أبو بكر: فذهبت إليه يا رسول الله، وقلت له: يا عمر! لقد ندمت على ما بيننا، وأسألك أن تغفر لي، فأبى عمر، فحزن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: (يغفر الله لك يا أبا بكر، يغفر الله لك يا أبا بكر، يغفر الله لك يا أبا بكر) ثلاث مرات، دعاء من النبي صلى الله عليه وسلم- فندم عمر بن الخطاب وجاء مسرعاً - هذا هو الحب! لا جفاء؛ لأن المؤمن الصادق لا يحقد أبداً، ولا يبغض أخاً له في الله أبداً، ولا يغتاب أخاً له في الله أبداً، هذا هو المؤمن الصادق في إيمانه وفي حبه لله ولرسول الله صلى الله عليه وسلم- فندم عمر بن الخطاب، وذهب مسرعاً إلى أبي بكر في بيته فلم يجده، فجاء مسرعاً إلى رسول الله فوجد النبي وقد تغير وجهه ولونه، فقال: يا رسول الله! أما كنت قد ظلمت مرتين، سامحني يا رسول الله، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (ويلكم يا عمر! لقد كذبتموني فصدقني أبو بكر، وواساني بنفسه وماله، فهلا تتركوا لي صاحبي؟!). أبو بكر وعمر الصحابيان العظيمان الجليلان يختلفان، ولكن سرعان ما يعود الود، وترجع الألفة، ويرجع الحب! إن الحب في الله يزيل كل خلاف، إن الحب في الله يزيل كل بغض، إن الحب في الله يزيل كل حقد، فتعالوا بنا نجرب الحب في الله، نجرب التجمع والاعتصام والألفة والوحدة؛ لأن فيها النصر لديننا، والعز لكتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم. فيا أيها الأحباب! يقول الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} [آل عمران:103]، فأتلفوا أيها الأحباب، ولا تتخالفوا وتتفرقوا، واعملوا بأن الطريق إلى الله واضح وبين، هو الكتاب وسنة النبي صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله وسنتي). وأختم موضوعي بحديث العرباض بن سارية رضي الله عنه الذي خرجه الإمام الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، قال رضي الله عنه: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، حتى قلنا: كأنها موعظة مودع، فأوصنا يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: أوصيكم بتقوى الله، وأوصيكم بالسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد حبشي، فإنه من يعش منكم من بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً -فرق وجماعات ومسميات ومناهج وأفكار ومبادئ وطواغيت! كل يدعو لمنهجه، وكل يدعو لمبدئه، وكل يدعو لفلسفته- فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة). أسأل الله سبحانه أن ينجيني وإياكم من فتن الشيطان وأهوائه، وأن يثبتني وإياكم على طريق الرحمن، وعلى طريق النبي عليه الصلاة والسلام. اللهم استرنا ولا تفضحنا، وأكرمنا ولا تهنا، وكن لنا ولا تكن علينا. اللهم أغننا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك. اللهم لا تدع لأحد منا في هذا المقام العظيم وفي هذا الجمع الطيب ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً بيننا إلا شفيته، ولا ديناً على أحد منا في الدنيا ولا في الآخرة إلا أديته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا رب العالمين. اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا شقياً ولا محروماً، اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا سبباً لمن اهتدى، اللهم لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، اللهم ثبتنا على طريق الإيمان، اللهم ثبتنا على طريق الرحمن، اللهم ثبتنا على طريق نبيك عليه الصلاة والسلام.

الطريق إلى الدار الآخرة

الطريق إلى الدار الآخرة إن الرحلة إلى الدار الآخرة تبدأ بالموت وتنتهي إما إلى الجنة أو إلى النار؛ تلك هي الحقيقة التي تصبغ من يتذكرها بصبغة الذل والعبودية لله، فأول خطوة من خطوات الرحيل إلى الدار الآخرة القبر، وما أدراك ما القبر! فالقبر إما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار.

بداية الرحلة إلى الدار الآخرة

بداية الرحلة إلى الدار الآخرة الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيراً، وما كان معه من إله، الذي لا إله إلا هو فلا خالق غيره ولا رب سواه، المستحق لجميع أنواع العبادة، ولذا قضى ألا نعبد إلا إياه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62]. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الواحد الذي لا ند له، وهو الصمد الذي لا منازع له، وهو الغني الذي لا حاجة له، وهو القوي الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو جبار السماوات والأرض، فلا راد لحكمه، ولا معقب لقضائه وأمره، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين. فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصلِّ اللهم وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من سار على دربه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الأحبة في الله! لاشك أننا في أمس الحاجة إلى أن نتذكر الآخرة في عصر طغت فيه الماديات والشهوات، ولاشك أننا في أمس الحاجة إلى أن نتذكر هذه الحقيقة الكبرى، إنها الحقيقة التي تسربل بها طوعاً أو كرها العصاة والطائعون، بل والأنبياء والمرسلون. إنها الحقيقة التي يسقط عندها جبروت المتجبرين، وعناد الملحدين، وطغيان البغاة المتألهين إنها الحقيقة التي تعلن على مدى الزمان والمكان في أذن كل سامع، وعقل كل مفكر، أنه لا ألوهية إلا لله وحده، ولا بقاء إلا للذي تفرد بالعظمة والبقاء والجلال. إنها الحقيقة التي تصبغ الحقيقة البشرية بصبغة الذل والعبودية لقهار السماوات والأرض. إنها الحقيقة التي أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نكثر من ذكرها، فقال: (أكثروا من ذكر هادم اللذات، قيل: وما هادم اللذات يا رسول الله؟ قال: الموت) رواه ابن ماجة والترمذي والنسائي من حديث عمر رضي الله عنه. من أجل ذلك -أحبتي في الله- سوف أبدأ معكم من اليوم سلسلة أحاديث بعنوان: رحلة إلى الآخرة، ولاشك أن هذه الرحلة تبدأ بالموت، وتنتهي إما بالجنة أو النار، جعلنا الله جل وعلا وإياكم من أهل الجنة، وحرم أجسادنا ووجوهنا وإياكم على النار.

على فراش الموت

على فراش الموت أما الموت فإنه حق لا مراء ولاشك فيه، قال الله جل وعلا وهو أصدق القائلين: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:19 - 22]، {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق:19] والحق أنك تموت والله حي لا يموت. {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق:19] والحق إما أن ترى عند موتك ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب، {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق:19] والحق إما أن يكون قبرك روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران. {ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19]، ذلك ما كنت تحيد منه إلى الطبيب إذا جاءك المرض وإلى الطعام إذا أحسست بالجوع، وإلى الشراب إذا أحسست بالظمأ. ولكن؛ ثم ماذا أيها القوي الفتي، أيها الذكي العبقري، يا أيها الكبير! ويا أيها الصغير! كل باك فسيبكى، وكل ناع فسينعى، وكل مذخور سيفنى، وكل مذكور سينسى، ليس غير الله يبقى من علا فالله أعلى. أيها الإنسان أيها اللاهي الساهي! يا من غرك مالك! ويا من خدعك جاهك وسلطانك! أيها الإنسان: مهما عظمت دنياك فهي حقيرة، ومهما طالت فهي قصيرة؛ لأن الليل مهما طال لابد من طلوع الفجر، ولأن العمر مهما طال لابد من دخول القبر. أيها الإنسان! اعلم أنك راحل إلى الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6] لابد أن تلقى الله عز وجل؛ فإذا ما اقتربت ساعة الصفر وانتهى أجلك كما حدده الله جل وعلا، وأصبحت في إقبال من الآخرة وإدبار من الدنيا وصرت طريح الفراش وحولك أولادك يبكون! والأطباء من حولك يحاولون ولكن انظروا معي أيها الأحباب إليه وإلى حاله وكربه وفزعه انظروا معي إليه وقد نام على فراش الموت ولقد اصفر وجه وشحب لونه وبردت أطرافه وتجعد جلده وبدأ يحس بزمهرير قارس يزحف إلى أنامل يديه وقدميه يريد أن يحرك شفتيه بكلمة التوحيد، فيحس أن الشفة كالجبل لا يزحزح إلا لمن يسر الله عز وجل عليه. وهو في هذا الفزع والجزع يطير فؤاده، وينخلع قلبه، فإذا أفاق بين صحوات الموت -بين السكرات والكربات- نظر إلى من حوله من الأولاد والأحباب والأطباء، فرآهم مرة ولم يرهم مرة أخرى، رآهم مرة يقتربون منه، ومرة يبتعدون عنه، مرة يسمعهم ومرة لا يسمعهم، فإذا أفاق لحظة أخرى بين الصحوات من سكرات الموت وكرباته نظر إليهم نظرة ثانية؛ نظرة طويلة وكلها رحمة وشفقة، ورجاء وسؤال وكأنه يقول لهم بلسان الحال: يا أولادي! يا أحبابي! يا أصحابي! لا تتركوني وحدي، ولا تخرجوني إلى لحدي، أنا أبوكم، أنا أخوكم، أنا حبيبكم، أنا الذي بنيت القصور، وأنا الذي عمرت الدور، هل منكم من يزيد في عمري ساعة أو ساعتين؟ وهنا -أيها الأحباب- يأتيه صوت الحق من الله جل وعلا، فيقول: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:83 - 96] سبحان ربي العظيم! من منكم يزيد في عمري ساعة أو ساعتين؟ {كَلاَّ إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِي * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتْ السَّاقُ بِالسَّاقِ} [القيامة:26 - 29]، هكذا خرجت روحه إلى خالقها جل وعلا، وصار طريح الفراش لا حراك في جسمه. أيها الإنسان أين ريحك الطيب؟! أين لسانك الفصيح؟ أين حركتك الدائبة؟ ما أعجزك في هذه اللحظات! من الذي أخرسك وأسكتك؟ إنه الموت، إنها الحقيقة الكبرى التي لا يماري فيها إنسان، ولا يجادل فيها مخلوق على ظهر هذه الأرض.

غسل الميت والصلاة عليه ووضعه في القبر

غسل الميت والصلاة عليه ووضعه في القبر أيها الإنسان الغافل! يقوم أحب وأقرب الناس لديك إلى من يغسلك، وإلى من يخرجك من بيتك، وصدق من قال: وقام عني أحب الناس في عجل نحو المغسل يأتيني يغسلني فجاءني رجل منهم فجردني من الثياب وأعراني وأفردني وأودعوني على الألواح منطرحاً وصار فوقي خرير الماء ينظفني وأسكب الماء من فوقي وغسلني غسلاً ثلاثاً ونادى القوم بالكفن وحملوني على الأكتاف أربعة من الرجال وخلفي من يشيعني وأخرجوني من الدنيا فوا أسفا على رحيل بلا زادٍ يبلغني وقدموني إلى المحراب وانصرفوا خلف الإمام فصلى ثم ودعني صلوا علي صلاة لا ركوع لها ولا سجود لعل الله يرحمني وأنزلوني إلى قبري على مهل وقدموا واحداً منهم يلحدني حمله أحب وأقرب الناس إليه إلى أطباق التراب وأهالوا عليه التراب بأيديهم، وصدق الحبيب صلى الله عليه وسلم في حديثه الصحيح الذي أخرجه مسلم، من حديث أنس رضي الله عنه، قال صلى الله عليه وسلم: (يتبع الميت ثلاثة، يرجع اثنان ويبقى واحد، يرجع أهله وماله، ويبقى عمله). هكذا أيها المسكين حملك أحب وأقرب الناس لديك، وهناك في التراب وضعوك، وللحساب عرضوك، ولو ظلوا معك ما نفعوك، ولم يبق لك إلا عملك ثم رحمة الله الحي الذي لا يموت! هناك وضعوك بين أطباق التراب وضعوك في بيت الوحشة والغربة والدود والضيق وضعوك في بيت الظلمة إلا لمن وسعه وأناره الله عليه. هناك الجسم ممدود ليستأكله الدود إلى أن ينخر العود ويمسي العظم قد رم وضعوك هناك في دارك الحقيقية إلى أن يأمر الحق جل وعلا إسرافيل بالنفخ في الصور، فتخرج الأجساد من القبور حفاة عراة غرلاً للعرض على محكمة الله جل وعلا. تلكم المحكمة -أيها الأحباب- التي لا تقبل الرشوة ولا تقبل المحسوبية ولا تقبل المحاماة، ولا تقبل الاستئناف للأحكام؛ لأن قاضيها هو الواحد الديان، عنوانها: {لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [غافر:17]، عنوانها: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46]، عنوانها: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:7 - 8]، هنالك وضعوك وللحساب عرضوك، ولو ظل واحدٌ معك ما نفعك، ولو ظلوا معك جميعاً ما نفعوك!

حياة البرزخ ووصف قبض الروح

حياة البرزخ ووصف قبض الروح ثم تعالوا بنا أيها الأحباب لنلقي نظرة سريعة على حاله في هذه الدار، دار البرزخ؛ لأننا نؤمن إيماناً صادقاً أن القبر إما روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النيران؛ لأن عذاب القبر هو عذاب البرزخ: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100]، نقر بذلك بأن عذاب القبر هو عذاب البرزخ، وأن من مات وعليه حق من العذاب ناله هذا النصيب من العذاب سواء قبر أو لم يقبر، دفن أو لم يدفن، لماذا؟ لأن الله جل وعلا جعل الدور ثلاث، ألا وهي: دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار، وجعل الله لكل دارٍ أحكاماً تخصها، فجعل الله الأحكام في دار الدنيا تسري على الأبدان والأرواح تبعٌ لها، وجعل الله الأحكام في دار البرزخ تسري على الأرواح والأبدان تبع لها، وجعل الله الأحكام في دار القرار تسري على الأبدان والأرواح معاً، ذكر ذلك الإمام ابن القيم في كتاب الروح، والإمام الطحاوي في العقيدة الطحاوية، هذه هي عقيدة أهل السنة والجماعة، نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم منهم. فالإيمان بعذاب القبر ونعيمه أمر واجب، والتصديق به أمر لازم، ولقد تواترت الأخبار من نبينا المختار صلى الله عليه وسلم على ثبوت ذلك، وكفانا دليلاً على ذلك حديث البراء بن عازب رضي الله عنه الذي أخرجه أحمد في مسنده وابن ماجة في سننه والترمذي والنسائي والبيهقي، وأخرجه وصححه الحاكم وابن حبان، قال البراء في معنى ما قال؛ لأن الحديث طويل حتى لا نكون ممن كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رضي الله عنه: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار، ولما لم يلحد جلس الرسول صلى الله عليه وسلم، وجلسنا حوله وكأن على رءوسنا الطير، فرفع الرسول صلى الله عليه وسلم رأسه ونظر إلى أصحابه من حوله، وقال: يا إخواني! يا أصحابي! استعيذوا بالله من عذاب القبر، استعيذوا بالله من عذاب القبر). قالها صلى الله عليه وسلم مرتين أو ثلاثاً، وكان بيده صلى الله عليه وسلم عود ينكت به الأرض، ثم قال صلى الله عليه وسلم بعدما أمر أصحابه أن يستعيذوا بالله من عذاب القبر: (إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزلت إليه ملائكةٌ من السماء بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس). الله أكبر! العبد المؤمن له كرامة عند الله في دنياه، وعند مماته وفي أخراه، وصدق من قال: حق على الله لمن اتقاه أن يحسن الله بدايته، وأن يتولى الله رعايته، وأن يحسن الله نهايته. (إذا كان العبد المؤمن في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزلت إليه ملائكة من السماء، بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس، ومعهم كفن من الجنة، وحنوط من الجنة، فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت فيجلس عند رأسه، ويقول: يا أيتها النفس المطمئنة! اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، فتخرج روحه تسيل كما يسيل الماء من فيّ السقاء، فإذا ما أخذها لا تدعها الملائكة في يده طرفة عين، فتأخذها وتضعها في أكفان الجنة، وفي حنوط من الجنة، وتنبعث لها رائحة كأطيب نفحة مسك على وجه الأرض. ثم تصعد بها الملائكة إلى السماء، فإذا مرت بها الملائكة على سماء من السماوات، قالت الملائكة في السماوات: لمن تكون هذه الروح الطيبة؟ فتقول الملائكة التي تشيعها: إنها روح فلان بن فلان، بأطيب أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، حتى إذا ما انتهوا بها إلى السماء السابعة، قال الله جل وعلا: اكتبوا روح عبدي في عليين، ثم أعيدوها إلى الأرض، فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى. ويأتيه في قبره ملكان فيجلسانه ويسألانه، فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله. ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام. ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. فيقولان له: وما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله جل وعلا فآمنت به وصدقت. فينادي مناد: أن صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، يأتيه من روحها وطيبها). ثم يقول صلى الله عليه وسلم: (ويأتيه رجل حسن الوجه، حسن الثياب، فيقول: من أنت؟ لا يأتي وجهك هذا إلا بخير، فيقول: أبشرك فأنا عملك الصالح، وهذا يومك الذي كنت توعد، فينادي العبد على الله جل وعلا ويقول: رب أقم الساعة رب أقم الساعة حتى أرجع لأهلي ومالي. أما العبد الكافر -والعياذ بالله- إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة جاءته ملائكة سود الوجوه معهم مسوح، -ليف من النار والعياذ بالله- فيجلسون عند رأسه، فإذا جاءه ملك الموت قال: يا أيتها النفس الخبيثة! اخرجي إلى سخط من الله وغضب، فتنتزع روحه كما يُنتزع السفود من الصوف المبلول، -أي: الحديد الصلب- فلا تدعها الملائكة في يده طرفة عين، وتلفها في هذا المسوح من النار، وإذا ما أرادوا أن يصعدوا بها إلى السماء انبعثت لها رائحة كأنتن ريح جيفة على وجه الأرض، ولا تفتح لها أبواب السماء، ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم: {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف:40]، ثم ينادي الحق جل وعلا: اكتبوا روح عبدي في سجين في الأرض السفلى، فتطرح روحه أرضاً، وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم قول الله جل وعلا: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31]. وتعاد روحه إلى جسده في القبر، ويجلسه الملكان، ويقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه! لا أدري. ما دينك؟ فيقول: هاه هاه! لا أدري. ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه! لا أدري. فيقولان: لا دريت ولا تليت. ثم ينادي منادٍ: أن كذب عبدي، فأفرشوه من النار، وألبسوه من النار، وافتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه من سمومها -والعياذ بالله- ويضيق عليه قبره فتختلف أضلاعه -والعياذ بالله- ويأتيه رجل شديد سواد الوجه، نتن الرائحة، فيقول: من أنت؟ لا يأتي وجهك هذا إلا بشر، فيقول: أنا عملك السيئ، وهذا يومك الذي كنت توعد، فيقول العبد: رب لا تقم الساعة). هكذا أيها الأحباب القبر إما روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النيران، فاستعدوا للقاء الله جل وعلا، واستعدوا لهذا اليوم الموعود، الذي ستنقلون فيه من القصور إلى القبور، ومن ضياء المهود إلى ظلمة اللحود، ومن ملاعبة النساء والغلمان إلى مقاساة الهوان والديدان، ومن التنعم في الطعام والشراب إلى التمرغ في الوحل والتراب. أسأل الله جل وعلا أن يجعلني وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.

أهمية الاستعداد للقبر

أهمية الاستعداد للقبر الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من سار على دربه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الأحبة في الله! لاشك أن هذه هي أول خطوة من خطوات الرحيل إلى الآخرة: الموت والقبر، والقبر إما روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النيران، وكان عثمان رضي الله عنه إذا ما ذكر الجنة وذكر النار لا يبكي، وإذا ما ذكر القبر بكى، وحينما سئل عثمان رضي الله عنه عن ذلك، قال: [إن القبر أول منزل من منازل الآخرة، فإن وجد العبد فيه خيراً فما بعد ذلك خيراً منه، وإن وجد فيه شراً -والعياذ بالله- فما بعد ذلك أشر -والعياذ بالله- مما يلاقيه العبد في هذه الدار]. فيا أيها الأحبة في الله! هذه هي أول خطوة، فاستعدوا لهذا اللقاء، واعلموا بأن أقرب غائب ينتظر هو الموت، وصدق من قال: أيا من يدعي الفهم إلى كم يا أخا الوهم تعبي الذنب والذم وتخطي الخطأ الجم أما بان لك العيب أما أنذرك الشيب وما في نصحه ريب ولا سمعك قد صم أما نادى بك الموت أما أسمعك الصوت أما تخشى من الفوت فتحتاط وتهتم فكم تسدر في السهو وتختال من الزهو وتنصب إلى اللهو كأن الموت ما عم كأني بك تنحط إلى اللحد وتنغط وقد أسلمك الرهط إلى أضيق من سم هناك الجسم ممدود ليستأكله الدود إلى أن ينخر العود ويمسي العظم قد رم فزود نفسك الخير ودع ما يعقب الضير وهيئ مركب السير وخف من لجة اليم بذا أوصيك يا صاح وقد بحت كمن باح فطوبى لفتى راح بآداب محمد يأتم فعودوا إلى الله جل وعلا، وتوبوا إلى الله عز وجل، واستعدوا للقاء الله تبارك وتعالى، واعلموا أحبتي في الله أن الله جل وعلا يفرح بتوبة التائبين، وهو الغني عن العالمين جميعاً، ورد في الحديث الذي رواه الترمذي، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا -أي: بقرب ما يملأ الأرض من الخطايا والذنوب- ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً، لأتيتك بقرابها مغفرة). أسأل الله جل وعلا أن يغفر لي ولكم ولجميع المسلمين، اللهم اغفر ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم لا تدع لأحد منا ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا أديته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا رب العالمين. اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل اللهم فينا ولا منا ولا بيننا شقياً ولا محروماً، اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا سبباً لمن اهتدى، اللهم وفق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك، والاقتداء بشرع نبيك صلى الله عليه وسلم، وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة يا رب العالمين، وانصر اللهم المجاهدين في كل مكان، وثبت أقدامهم يا رحيم يا رحمان، وزلزل الأرض من تحت أقدام أعدائهم يا ديان، إنك ولي ذلك ومولاه. أحبتي في الله! ما كان من توفيق فمن الله جل وعلا، وما كان من خطأ أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه، {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].

حادثة الإفك

حادثة الإفك لقد أنزل الله إلينا كتابه الكريم ليعلمنا ويؤدبنا، فمن الآداب التي حثنا عليها القرآن وأرشدنا إليها: أدب التثبت في نقل الأخبار، وفي هذه المادة يتحدث الشيخ عن أهمية مبدأ التثبت، مستشهداً بما وقع في حادثة الإفك، وهدي النبي صلى الله عليه وسلم في موقف الجلاس، مبيناً ما يترتب على الخوض في مثل هذه الأمور من تقويض لدعائم المجتمع المسلم.

أهمية مبدأ التثبت والتبين في نقل الأخبار

أهمية مبدأ التثبت والتبين في نقل الأخبار إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالة في النار. أما بعد: فمع اللقاء السابع على التوالي ما زلنا مع سورة الحجرات، مع سورة التربية والأخلاق، وما زلنا نعيش مع هذه الآداب السامية العالية الرفيعة، التي يعلِّم الله جل وعلا بها عباده المؤمنين كيف يعاملون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهاهي الآيات تشير إلى حادثٍ وقع من وفد بني تميم الذي قدم على النبي صلى الله عليه وسلم في العام التاسع الذي سمي بعام الوفود، وكان من بين هذا الوفد الأقرع بن حابس الذي جاء ينادي على النبي صلى الله عليه وسلم من وراء حجرات زوجاته رضي الله عنهن جميعاً، ظل ينادي على الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يقول: يا محمد! يا محمد! اخرج إلينا. يا محمد! فلم يجبه النبي صلى الله عليه وسلم، فعاود الأقرع النداء، يا محمد! اخرج إلينا؛ فإن حمدي زين، وإن ذمي شين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ذاك الله عز وجل) فنزل قول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:4 - 5]. الحديث ذكره الإمام السيوطي في الدر المنثور، وقال: أخرجه أحمد وابن مردويه، وابن جرير، والطبراني بسندٍ صحيح، والترمذي بسندٍ حسن. إن النبي صلى الله عليه وسلم ما احتجب عن أصحابه وعن الناس إلا في أوقات يشتغل فيها بمهمات نفسه، فكان إزعاجه في هذا الوقت معه صلى الله عليه وسلم، ولكن لحياء النبي عليه الصلاة والسلام، كان لا يقول لأصحابه ذلك، ولكن الله جل وعلا لا يستحيي من الحق فنزل قول الله عز وجل ليعلم هؤلاء ومن جاء بعدهم، كيف يكون الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم. وبعد أن وضعت السورة أيها الأحباب المنهج العملي للأدب مع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، تبدأ السورة بوضع منهجٍ متكاملٍ لأسس مجتمعٍ إسلاميٍ كريم، سليم العقيدة، نقي القلب، نظيف المشاعر، مهذب الأخلاق، عف اللسان، عك السريرة، تصان فيه الحرمات، ولا تتبع فيه العورات، ويبدأ هذا المنهج التربوي والأخلاقي الذي وضعه العليم الخبير الذي يقول ربنا جل وعلا في ذلك: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] يبدأ هذا المنهج التربوي الأخلاقي بهذه القاعدة التشريعية العظيمة الكبيرة، وبتثبيت هذا المبدأ الكبير الخطير ألا وهو مبدأ التثبت والتبين للأنباء والأخبار، فيقول العزيز الغفار جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6]. الله أكبر! إنه التشريع من العليم الخبير، يا له من مبدأٍ عظيم، ويا له من مبدأٍ كبير، إنه مبدأ التثبت والتبين من الأنباء والأخبار، لا تتخذ القرارات، ولا الفرمانات إلا بعد التبين والتثبت، فأين المسلمون من هذا المبدأ العظيم الكبير، ضاع هذا المبدأ العظيم، وضاعت هذه القاعدة الكبيرة، فأصبح كل مسئولٍ في مكتبه الوثير، وتحت مكيفه الكبير، أصبح يتخذ القرار دون تبين أو تثبت، ضاعت هذه القاعدة، وضاع هذا المبدأ العظيم الجليل، وأنى لأصحاب الأموال الذين تسربلوا بالريالات والدولارات، أنى لهم أن يحسوا بالفقراء والمحرومين وذوي الحاجات، بذرة قلم تتخذ القرارات التي بها تخرب البيوت، وتبكي العيون، وتشرخ القلوب، وتأتي الآلام فوق الآلام بذرة قلم تتخذ القرارات في المكاتب دون تثبت أو تبين.

الخوض في عرض رسول الله بسبب غياب مبدأ التثبت والتبين

الخوض في عرض رسول الله بسبب غياب مبدأ التثبت والتبين أيها المسلمون يا عباد الله! يا من استقر الإيمان في قلوبكم! ينادي عليكم الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6].

أثر ضياع مبدأ التثبت على الأمة

أثر ضياع مبدأ التثبت على الأمة يوم أن ضاع هذا المبدأ، وضاعت هذه القاعدة كم من فتنة وقعت بسبب خبر ٍكاذب نقله فاسقٌ فاجر، بوذي أو يهوديٌ أو نصرانيٌ، أصبح البوذي مصدقاً، وأصبح النصراني مصدقاً وأصبح الكافر مصدقاً، أصبح كلام البوذي هو الثقة، وأصبح كلام الكافر هو المصدق في وسط المسلمين وفي مجتمعاتهم وبلادهم، وإنا لله وإنا إليه راجعون، كم من فتنةٍ وقعت بسبب خبرٍ كاذب نقله فاسقٌ فاجر؟! كم من أطفالٍ شردوا، وكم من حروبٍ اشتعلت بسبب أخبار كاذبة نقلت دون تثبتٍ أو تبينٍ أو تحرٍ، كم من بيوتٍ خربت، وكم من أرزاقٍ تسبب بعض الناس في قطعها بسبب عدم التحري، وعدم التبين والظلم البين، وإنا لله وإنا إليه راجعون. كم فرق بين الزوجين، كم فرق بين الأبناء والأحباب والوالدين والإخوة بسبب ضياع هذا المبدأ الكبير وغياب هذه القاعدة التشريعية العظيمة ألا وهي: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6] كم من الحروب التي مات فيها ملايين البشر بسبب غياب وضياع هذا المبدأ. يا عباد الله! إنه مبدأ التثبت والتبين والتحري، وإنا لله وإنا إليه راجعون، ووالله ما وقعت على ظهر الأرض فتنة في تاريخ الأمة الطويل إلا بسبب غياب هذا المبدأ وضياع هذه القاعدة الكبيرة: مبدأ التثبت والتبين؛ ولتتجسد بين عينيك يا عبد الله! خطورة هذا المبدأ العظيم فعليك أن تراجع سورة النور.

سبب حديث الإفك

سبب حديث الإفك بسبب غياب هذا المبدأ وهذه القاعدة العظيمة اتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورمي في شرفه وعرضه وأمانته، وفراشه، وزوجه عائشة رضي الله عنها بسبب مقولة كاذبة طيرها رأس النفاق عبد الله بن أُبي بن سلول عليه لعنة الله، طير المنافق هذه العبارة، وهذه القولة الآثمة، وزل في هذه الهاوية السحيقة الخطيرة بعض المسلمين، ونقلوا الخبر الأليم الفظيع وإنا لله وإنا إليه راجعون، زل بعض المسلمين في هذا الخبر والحديث رواه بطوله البخاري ومسلم: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ما خرج لأي غزوةٍ من الغزوات أقرع بين نسائه، ومن وقعت عليها القرعة أخذها النبي صلى الله عليه وسلم معه في سفره، وفي إحدى الغزوات وقعت القرعة على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وخرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم وبعد انتهاء الغزوة، وفي طريق العودة إلى المدينة المنورة، وفي الليل تخلفت أم المؤمنين رضي الله عنها لقضاء حاجتها خلف الجيش، وتأخرت رضي الله عنها لعقدها الذي انفرط من صدرها فعادت إليه لتأتي به، وهي الفتاة الصغيرة في السن، وعادت أم المؤمنين فوجدت الجيش وقد رحل، ولم ينتبه ولم يلتفت أحدٌ من الجيش إلى أنها ليست بداخل هودجها الذي كانت تتحشم فيه بعدما نزلت آية الحجاب. ورحل الجيش وذهبت أم المؤمنين فما رأت أحداً فانتظرت في مكانها وهي تعلم أنهم إذا افتقدوها سيرسلون إليها، وجلست رضي الله عنها، وهي الفتاة الصغيرة فغلبها النوم فنامت، وكان صفوان بن المعطل السلمي رضي الله عنه وأرضاه كلفه النبي صلى الله عليه وسلم أن يتأخر خلف الجيش ليأت بالمتاع الساقط لأي فردٍ من أفراد الجيش، ومر صفوان بن المعطل فرأى سواد إنسان فأقبل فرآها أم المؤمنين وكان يعرفها قبل أن تنزل آية الحجاب فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، تقول الصديقة بنت الصديق: فاستيقظت باسترجاعه. استيقظت بقولته: إنا لله وإنا إليه راجعون، فلما نظرت إليه غمرت وجهي بجلبابي: أي غطيتُ وجهي بجلبابي، تقول: والله ما كلمني كلمة ولا سمعتُ منه كلمة غير استرجاعه: أي غير قولته: إنا لله وإنا إليه راجعون، فأناخ صفوان رضي الله عنه راحلته، وأعرض فركبت أم المؤمنين رضي الله عنها وأخذها صفوان يقود لها الراحلة، إنها زوج نبيه صلى الله عليه وسلم، حتى أدرك الجيش في وقت الظهيرة، فلما رأى الهودج ورأى صفوان رأس النفاق عبد الله بن أُبي بن سلول، سأل وقال: من هذه؟ قالوا: عائشة رضي الله عنها، فقال رأس النفاق الوقح قولته العفنة الآثمة قال: والله ما نجت منه ولا نجا منها، امرأة نبيكم باتت مع رجلٍ حتى أصبحت ثم جاء يقودها. يا لها من قولةٍ عفنة آثمةٍ شريرة، وطير المنافق هذه الكلمة وهذه القولة، وتلقتها عصابة النفاق، والكذب والإثم والبغي، وطيروا هذه العبارة وهذه القولة الآثمة الشريرة، وسقط في الهاوية بعض المسلمين، الله أكبر! وماجت المدينة المطهرة المنورة بهذا الخبر شهراً كاملاً. هاهو رسول الله، رسول الله، يُرمى في عرضه، وفراشه، وأمانته، وزوجته، وفي من؟ في عائشة التي أحبها من كل قلبه، رسول الله صلى الله عليه وسلم يُرمى في طهارته وهو الطاهر الذي فاضت طهارته على العالمين، يُرمى في صيانة حرمته وهو القائم على صيانة الحرمات في أمته، يُرمى في فراشه، وشرفه، وعرضه، بل قُل: يرمى في كل شيء حينما يُرمى في عائشة رضي الله عنها التي أحبها من كل قلبه، يُرمى في قلبه، وحبه، ودينه، ورسالته، وأغلى ما يعتز به أي عربي، وفيما يعتز بها كل نبي.

حال الصديقة بنت الصديق بعد الشائعة

حال الصديقة بنت الصديق بعد الشائعة وهاهي الصديقة الطاهرة المطهرة المبرأة من السماء رضي الله عنها ترمى في فراشها وعرضها ترمى في شرفها بسبب غياب مبدأ التبين والتثبت. نعم يا عباد الله! ترمى في أمانتها وهي التي تربت في العش الطاهر النقي النظيف، وهي الزهرة التي تفتحت في بستان الوحي، وفي حقل القرآن، وعلى يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهاهو الصديق رضي الله عنه الرجل النقي النقي القلب والمشاعر يُرمى في شرفه، وعرضه، وابنته وزوج نبيه وخليله الذي أحبه من كل قلبه، وأحبه النبي من كل قلبه، نعم يُرمى الصديق رضي الله عنه، في أغلى ما يعتز به أي عربي فضلاً عن أي مسلم، ويقول الصديق قولته المشهورة، بمنتهى الحسرة والألم والمرارة، يقول: [والله ما رمينا بهذا في الجاهلية أفنرضى به في الإسلام!]. يُرمى في شرفه وها هو الصحابي الجليل الطاهر النظيف المجاهد الثقة صفوان بن المعطل السلمي رضي الله عنه يرمى في خيانة نبيه وزوجه التي أحبها من كل قلبه، والله يوم أن يرمى صفوان في ذلك يرمى في دينه كله، وإسلامه كله. بسبب ضياع هذا المبدأ ماجت المدينة بهذا الخبر الأليم، إنه التثبت والتبين يا عباد الله. شهراً كاملاً تموج المدينة بهذه المقولة الآثمة، والرسول صلى الله عليه وسلم يتألم آلاماً تنوء بحملها الجبال الراسيات، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، يتألم النبي حتى إنه ببشريته وبإنسانيته يرسل إلى أسامة حبّ رسول الله وإلى علي ليسألهما عن عائشة رضي الله عنها، إنها بشرية وإنسانية النبي صلى الله عليه وسلم، ولحكمةٍ يعلمها العليم الخبير، يمضي شهرٌ كامل لا تنزل آيةٌ واحدةٌ في هذا الأمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، شهرٌ كاملٌ يا عباد الله! والرسول صلى الله عليه وسلم يتألم وعائشة التي عرفت بالخبر مطحنها الألم ودغدغها البكاء بل وفلق البكاء كبدها، تتألم وهي تسأل أمها ببراءة الفتاة التقية النظيفة النقية، أو علمَ رسول الله بذلك؟ فتقول: بلى، أوعلم أبي ذلك؟ فتقول: بلى، أو تحدث الناس بذلك؟ فتقول أمها: بلى، وتنام عائشة رضي الله عنها يدغدغها المرض ويطحنها الألم ويعصرها الخبر الأليم، والفرية الخطيرة.

نزول براءة الصديقة رضي الله عنها

نزول براءة الصديقة رضي الله عنها عباد الله: وبعد شهرٍ كاملٍ يذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي بكر إلى عائشة التي تنام في فراشها تتلوى وتتألم وإلى جوارها الصديق، وإلى جوارها أمها، رضي الله عنهم جميعاًَ ويجلس النبي صلى الله عليه وسلم، يجلس محمدٌ الإنسان، يجلس النبي الإنسان، يجلس الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، يجلس إلى جوار عائشة رضي الله عنها، ويحمد الله عز وجل، ويثني على الله جل وعلا، ويقول: (يا عائشة! لقد بغلني عنك كذا وكذا فإن كنتِ بريئة فسيبرؤك الله عز وجل، وإن كنت ألممتِ بذنبٍ فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه وتاب إلى الله تاب الله عليه -بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم- فقالت عائشة رضي الله عنها فنظرت إلى أبيها وقالت: أجب رسول الله فيما يقول، فقال الصديق رضي الله عنه: والله ما أجد ما أقوله لرسول الله، فنظرت إلى أمها وقالت: يا أماه! أجيبي عن رسول الله فيما قال: فقالت أمها: والله يا ابنتي ما أجد ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، تقول عائشة فقلتُ: والله لا أجد لكم مثلاً إلا ما قال أبو يوسف: فصبرٌ جميل والله المستعان على ما تصفون) لك الله يا عائشة! لك الله أيتها الصديقة الطاهرة! نعم يا عائشة: فصبرٌ جميل والله المستعان على ما تصفون. قالت عائشة: [فحولتُ وجهي واضطجعت على فراشي وأنا والله أعلم أن الله مبرئي ببراءتي، ولكني ما كنتُ أظن أن الله منزلٌ في حقي قرآناً ووحياً يُتلى، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن ينزل الله جل وعلا فيّ قرآناً يُتلى]. تقول عائشة رضي الله عنها: كنتُ أرجو الله أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا في نومه يبرئني الله بها، تقول: فوالله ما خرج أحدٌ من البيت إلا ونزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن ما زلنا في البيت، نزل الوحي على النبي عليه الصلاة والسلام تقول: وسري عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، أي زال عنه أثر الوحي وهو يضحك، ويقول لـ عائشة -وكانت أول كلمةٍ قالها-: (أبشري يا عائشة فلقد برأك الله عز وجل) فقالت أمها: [قومي يا عائشة قومي واشكري واحمدي رسول الله، فقالت عائشة: لا والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله عز وجل] فابتسم النبي صلى الله عليه وسلم، وتلا على عائشة وعلى أبيها وعلى أمها براءتها التي نزلت من العليم الخبير، تلا عليها قول الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ * لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ * لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ * وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ * وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ * يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ * الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [النور:11 - 26]. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

دعوة إلى أصحاب الكراسي للتثبت

دعوة إلى أصحاب الكراسي للتثبت الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله. اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على نبينا وحبيبنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد: فيا أيها الأحباب: من أجل خطورة هذا المبدأ وخطورة هذه القاعدة، يجب على كل مسلمٍ أن يتبين وأن يتثبت قبل أن يتخذ أي قرار، وأخص بالذكر المسئولين عن المسلمين في كل مكان، يجب على كل مسلمٍ أن يتبين وأن يتثبت، ويجب عليه أن يكلف نفسه أن يسمع من المتهم قبل أن يتخذ القرار، وإلا فليست القرارات سهلةً هكذا، فسوف يعرض الجميع أمام محكمةٍ قاضيها الله، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، والله الذي لا إله غيره إن الظلم ظلمات يوم القيامة، فكم من الناس ظلم خلق الله وعباد الله، وذهب إلى فراشه فنام وغط غطيطاً ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. : (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا) {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:7 - 8]. اللهم إني قد بلغت اللهم فاشهد يا رب العالمين.

موقف الجلاس في غزوة تبوك

موقف الجلاس في غزوة تبوك وفي مقابل هذه الصورة الآثمة صورة الإفك، والظلم، والطغيان والبطش، وعدم التثبت والتحري نرى صورة مشرقةً جميلةً وضيئةً، تَعلَّموا هذه الصورة واطبعوها في قلوبكم وقلوب أبنائكم وبناتكم إنه ذلك الفتى المؤمن، إنه الفتى الذي لم يتجاوز العاشرة إلا قليلاً، إنه عمير بن سعد رضي الله عنه، ذلكم الفتى البار الذي أحب رسول الله من كل قلبه، وتمكن الإيمان في كل كيانه وتغلغل في كل جوارحه، عمير بن سعد مات أبوه وتزوجت أمه برجلٍ ثري يقال له: الجلاس بن سويد وأحب عمير الجلاس حباً شديداً، وأحب الجلاس عميراً حباً شديداً لإيمانه وصلاحه وتقواه، وفي العام التاسع في غزوة تبوك أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يتجهزوا، ويستعدوا لهذه الغزوة البعيدة، في الوقت الذي اشتد فيه الحر وأمرهم بالإنفاق. ولما كان المال في أيديهم أسرعوا بالإنفاق، ولكن سكن المال في قلوب المسلمين في هذه الأيام فمن أجل هذا المال يظلم، ويبطش ويطغى من أجل الحفاظ على كرسيه الزائل، ومنصبه الفاني الذي يدر عليه الريالات والدولارات، جاء الجميع بكل أموالهم، جاء الصديق بكل ماله، وجاء عمر بنصف ماله، وسابق المسلمون الصادقون في الإنفاق في سبيل الله، وتباطأ المنافقون الخالصون. وعاد الفتى المؤمن عمير بن سعد إلى زوج أمه الجلاس بن سويد ليقص عليه أخبار البطولة، والبذل والعطاء والإنفاق من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ليستثير همته لينفق في سبيل الله، وإذا بـ الجلاس بن سويد يقول قولةً تخرجه من الإسلام دفعةً واحدة، وتدخله في الكفر من أوسع أبوابه، يرد الجلاس بن سويد على الفتى البار المؤمن، ويقول له: [والله إن كان محمدٌ صادقاً فنحن أشر من الحمير]. وذهل الفتى، وسقط في يده، ودارت به الأرض، ونظر إلى الجلاس وقال: [والله ما كان أحدٌ على ظهر الأرض بعد رسول الله أحب إليّ منك، ولقد قلت مقالةً إن أعلنتها فضحتك، وإن أخفيتها عن رسول الله خنتُ نفسي وديني!! -إن أعلنتها فضحتك، وإن أخفيتها أهلكتُ نفسي وخنتُ نفسي وديني- وإني ذاهبٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأخبره فكن على بينةً من أمرك] وانطلق الفتى البار الصادق إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد وأخبره بما قال الجلاس بن سويد. هل اتخذ النبي قراراً؟ هل أصدر النبي فرماناً وحكماً مع أن الذي جاءه ثقة وشابٌ موثوقٌ؟ ما أصدر النبي القرار، وما اتخذ النبي الأمر، بل قال اجلس يا عمير؟ وأرسل النبي أحد أصحابه ليأتي بـ جلاس بن سويد، إنه التثبت والتبين. قال سليمان للهدهد: {سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النمل:27] نحن لا نأخذ بهذه الكلمات المعسولة، وبهذه الكلمات الحلوة، فإن كل أحدٍ يريد أن يثبت لنفسه الحق، ويريد أن يزيح عن نفسه المسئولية، ولكن هيهات هيهات، فإن الكل مسئول أمام من يعلم السر وأخفى، قال النبي عليه الصلاة والسلام: اجلس يا عمير؟ وأرسل أحد أصحابه فأتى بالـ جلاس بن سويد، فأقبل الجلاس وحيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلس بين يديه، فقال له النبي: (يا جلاس ما مقالةٌ سمعها منكَ عمير بن سعد) وذكر له النبي صلى الله عليه وسلم ما قاله عمير فقال الجلاس: [لا والله يا رسول الله ما قلتُ هذا أبداً، وإني أحلف بالله أن عميراً كذب عليك]. ونظر النبي إلى عمير بن سعد، وقد احتقن وجهه بالدم، وتساقطت الدموع على خديه وصدره مدراراً وهو يرفع رأسه إلى السماء يرفع عمير الفتى البار رأسه إلى السماء بعد هذا الموقف الحرج وهو يدعو الله جل وعلا ويقول: اللهم أنزل على نبيك بيان ما تكلمتُ به. واستجاب الله دعوة هذا الفتى، صعدت الدعوة إلى الله فاستجيبت فنزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذه ما كان يأخذه! فعلم الصحابة أن الوحي يتنزل فتعلقت الأنظار برسول الله صلى الله عليه وسلم وصمتت الألسنة، وهدأت النفوس وسكنت الجوارح، وشخصت الأبصار برسول الله صلى الله عليه وسلم والجلاس بدأ يظهر عليه الخوف وبدأ يرتعد، وبدأ يتهلل الفتى البار المؤمن عمير بن سعد رضي الله عنه، وسري عن النبي صلى الله عليه وسلم وزال عنه أثر الوحي وهو يبتسم ويتلو قول الله جل وعلا: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ} [التوبة:74] الله أكبر! وارتعد الجلاس بن سويد، وقال: صدق والله عمير يا رسول الله، وإني لمن الكاذبين، أتوب إلى الله يا رسول الله، أتوب إلى الله يا رسول الله، والتفت النبي إلى الفتى الصادق البار عمير بن سعد وهو يبتسم ومد النبي يده الشريفة إلى أذن عمير بن سعد وأمسكها برفقٍ وقال لـ عمير: (وفت أذنك ما سمعت وصدقك ربك يا عمير). الله أكبر! إنه الصدق وإنه التثبت والتبين. وبعد ذلك أيها الأحباب يُذكِّر الله الصحابة والمسلمين جميعاً بالنعمة العظيمة الكريمة ألا وهي: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحجرات:7 - 8]. اللهم ارزقنا الصدق في أقوالنا، وارزقنا الإخلاص في أعمالنا. اللهم ارزقنا لساناً ذاكراً، وقلباً شاكراً جزلاً على البلاء صابراً. اللهم ارزقنا اليقين فيك، اللهم ارزقنا التوكل عليك، اللهم ارزقنا الصبر على بابك، اللهم ارزقنا الاستعانة بك والاستغاثة بك. اللهم ارزقنا يقيناً يباشر قلوبنا، وإخلاصاً يصدق أعمالنا، وصدقاً يباشر أقوالنا يا رب العالمين. اللهم اجعلنا من الصادقين، اللهم طهر ألسنتنا من الكذب، وأعيننا من الخيانة، وأعمالنا من الشرك أنت ولي ذلك ومولاه. اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم لا تدع لأحدٍ منا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا أديته، ولا حاجةً لك فيها رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ويسرتها يا رب العالمين. اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل اللهم فينا شقياً ولا محروماً. اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا سبباً لمن اهتدى. اللهم تقبل منا واقبلنا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك التواب الرحيم، ووفق ولاة الأمر لما تحبه وترضاه أنت ولي ذلك ومولاه يا رب العالمين، هذا وأكثروا من الصلاة والسلام على نبينا وحبيبنا وسيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56]. اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. هذا وإن كان من توفيق فمن الله، وما كان من خطأ أو سهوٍ أو زللٍ أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.

إنما المؤمنون إخوة

إنما المؤمنون إخوة إن من أعظم الأسباب التي أعانت على قيام دولة الإسلام هي الأخوة الصادقة في الله عز وجل، التي جعلت من المسلمين جسداً واحداً إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر، والأخوة في الله لها حقوق ينبغي أن يعمل بها الأخوة لكي تبقى الأخوة صافية صادقة بين المتحابين في الله عز وجل، وبالإضافة إلى ما تحققه الأخوة من مكاسب دنيوية، فإن لمن حققها الأجر العظيم في الآخرة.

حقيقة الأخوة

حقيقة الأخوة إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصلِّ اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة الفضلاء، وطبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله الكريم جل وعلا الذي جمعني معكم في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار مقامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله: لما رأيت إخواني جزاهم الله خيراً قد وضعوا لمحاضرة الليلة هذا العنوان: (ماذا بعد الموت) تذكرت أنني في هذا المسجد في الزيارة الماضية أفردت محاضرة للرقائق ولأهوال القيامة، فآثرت أن أغير الموضوع في هذه اللحظات، والله أسأل أن يرزقنا وإياكم التوفيق والسداد والرشاد، لذا فإن عنوان محاضرتنا في هذه الليلة: (إنما المؤمنون إخوة). وكما تعودت دائماً حتى لا ينسحب بساط الوقت سريعاً من تحت أقدامنا، فسوف ينتظم حديثي معكم تحت هذا العنوان المهم في العناصر المحددة التالية: أولاً: حقيقة الأخوة. ثانياً: حقوق الأخوة. ثالثاً: الطريق إلى الأخوة. فأعيروني القلوب والأسماع جيداً، والله أسأل أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هدى الله وأولئك هم أولو الألباب.

انهيار بناء الأخوة بين أبناء العقيدة

انهيار بناء الأخوة بين أبناء العقيدة أولاً: حقيقة الأخوة: أحبتي في الله: لقد أصبحت الأمة الآن غثاء من النفايات البشرية، تعيش على ضفاف مجرى الحياة الإنسانية كدويلاتٍ متناثرة بل متصارعة متحاربة، تفصل بينها حدودٌ جغرافية مصطنعة، ونعرات قومية جاهلية، وترفرف على سماء الأمة رايات القومية والوطنية، وتحكم الأمة قوانين الغرب العلمانية، إلا ما رحم ربك جل وعلا. وتدور بالأمة الدوامات السياسية فلا تملك الأمة نفسها عن الدوارن، بل ولا تختار لنفسها حتى المكان الذي تريد أن تدور فيه، ذلت بعد عزة، وجهلت بعد علم، وضعفت بعد قوة، وأصبحت في ذيل القافلة بعد أن كانت الأمة بالأمس القريب جداً تقود القافلة كلها بجدارةٍ واقتدار. وأصبحت الأمة الآن تتسول على موائد الفكر العلمي والإنساني، بعد أن كانت الأمة بالأمس القريب منارةً تهدي الحيارى والتائهين ممن أحرقهم لفح الهاجرة القاتل، وأرهقهم طول المشي في التيه والظلام، بل وأصبحت الأمة الآن تتأرجح في سيرها، بل ولست مبالغاً إن قلت: ولا تعرف طريقها الذي ينبغي أن تسلكه وتسير فيه، بعد أن كانت الأمة بالأمس القريب جداً الدليل الحاذق الأرب في الدروب المتشابكة، والصحراء المهلكة التي لا يهتدي للسير فيها إلا المجربون، لقد أصبحت الأمة الآن قصعة مستباحة لأحقر وأخزى وأذل أمم الأرض، وصدق في الأمة قول الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، كما في الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود من حديث ثوبان: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أو من قلة نحن يومئذٍ يا رسول الله؟ قال: كلا. ولكنكم يومئذٍ كثير ولكن غثاء كغثاء السيل، وليوشكن الله أن ينزع المهابة من قلوب عدوكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قيل: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت). لقد طمع في الأمة الآن كما ترون جميعاً الذليل قبل العزيز، والقاصي قبل الداني، بل والضعيف قبل القوي، وتجرعت الأمة الآن كئوس الذل والهوان، آهٍ يا مسلمون! متنا قروناً والمحاق الأعمى يليه محاقُ أي شيءٍ في عالم الغاب نحن آدميون أم نعاج نساقُ نحن لحمٌ للوحش والطير منا الجثث الحمر والدم الدفاقُ وعلى المحصنات تبكي البواكي يا لعرض الإسلام كيف يراقُ قد هوينا لما هوت وأعدوا وأعدوا من الردى ترياقُ واقتلعنا الإيمان فاسودت الدنيا علينا واسودت الأعماقُ وإذا الجذر مات في باطن الأرض تموت الأغصان والأوراقُ آه يا مسلمون، سراييفوا تُباد كوسوفا تباد القدس تُباد والعالم كله خسة وخيانة ونفاق كوسوفا من دولة المجد عثمان أبوها والفاتح العملاق كوسوفا من قلب مكة بالتوحيد يعلو لواؤها الخفاق تركوها وحولها من كلاب الصرب طوقٌ من خلفه أطواق قدمتها الصلبان للصرب قرباناً وللصرب كلهم عشاق ووالله لو فعلنا بالصرب ما فعلوه لرأينا مثل الذي رآه العراق

سبب الذل الضارب جذوره في الأمة

سبب الذل الضارب جذوره في الأمة ما هذا الذل؟ ما هذا الهوان؟ الذي تتجرع الأمة الآن كئوسه ألواناً وأشكالاً، ما السبب؟ وأنا ألخص لكم سبب هذا الذل والهوان الذي تحياه الأمة الآن، يتلخص في كلماتٍ دقيقةٍ قليلة بينها ربنا جل وعلا في آياتٍ جامعة من قرآنه فقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11]. وقال سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنفال:53] وأنا أقرر لكم، بل وأسجل للتاريخ أن الأمة قد غيَّرت وبدلت: في جانب العقيدة غيرت. في جانب العبادة غيرت. في جانب التشريع غيرت. في جانب الأخلاق غيرت. حتى في الجانب النفسي غيرت. فأنت ترى العقيدة في الأمة تُذبح شر ذبحة، وأنا لا أعلم أبداً ولا أفهم من قرآنٍ، ولا سنةٍ نبوية، ولا سنة كونية ربانية، لا أفهم ألبتة أن الله عز وجل ينصر أمة ذبحت عقيدته، وخذلت دينه، كانت العقيدة بالأمس القريب إذا مُسَّ جانبها سمعت الصديق يتوعد، والفاروق يهدد، وخالد بن الوليد يزمجر، ورأت العقيدة المؤمنين الصادقين يبذلون من أجلها الغالي والنفيس. لكنك ترى الآن العقيدة تذبح شر ذبحة، وفي هذه الأمة -ولست مبالغاً حين أقول ذلك- من يثق في بعض دول الأرض وأمم الأرض أكثر من ثقته في خالق السماء والأرض، اختلت العقيدة في قلوبنا، بل لقد سمعت بأذني على شاشات التلفاز من يقول في احتفالٍ صاخبٍ كبير يقول بالحرف: إننا الليلة نحتفل بمولد سيدي السيد البدوي المهاب، الذي إن دُعي في البر والبحر أجاب، والله جل وعلا يقول: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:62] أإله مع الله يجيب المضطرين في البر والبحر؟! وقرأت قول القائل: إنه ممن يعتقدون أن للكون أقطاب وأوتاد وأبدال تدبر نظام الكون وتسيِّر شئونه، وسمعت قول القائل: هبو لي ديناً يجعل العرب أمةً وسيروا بجثماني على دين برهمِ سلام على كفرٍ يوحد بيننا وأهلاً وسهلاً بعده بجهنمِ وسمعت قول القائل: إن مصر ستظل فرعونية، ولو وقف الإسلام حجر عثرة في طريق فرعونيتنا لنحينا الإسلام جانباً لتظل مصر فرعونية. وقرأت قول القائل: لقد عزمنا على أن نأخذ كل ما عند الغربيين، حتى الالتهابات التي في رئاتهم! والنجاسات التي في أمعائهم! أي عقيدة هذه؟! وفي العبادة: انحرف كثير من أبناء الأمة عن العبادة، فترى من يصرف العبادة لغير الله، ويحلف بغير الله، ويستغيث بغير الله، ويلجأ إلى غير الله، ويطوف بغير بيت الله في مكة شرفها الله، وترى من فهم العبادة فهماً جزئياً قاصراً، فهي لا تتعدى الشعائر التعبدية من صلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ وعمرةٍ وحجٍ فحسب، ونحيت شريعة الله جل وعلا، والله تبارك وتعالى يقول: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50]. هذا هو العامل الأول من عوامل ذل الأمة، فأنا أقول: إن الإسلام عقيدة تنبثق منها شريعة تنظم كل شئون الحياة، ولا يقبل الله من قومٍ شريعتهم إلا إذا صحت عقيدتهم، فالخطوة الأولى على طريق العز هي العقيدة. وأرجو ألا تستهينوا على الإطلاق بالعقيدة، وحينما أذكر لفظة العقيدة فأنا لا أريد أن نفهم العقيدة فهماً جزئياً قاصراً، وإنما أقصد العقيدة بمفهومها الكامل الشامل الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وعلمه أصحابه الكرام. ثم ضاع العامل الثاني من عوامل العز، ألا وهو عامل الأخوة في الله. فأنا أعتقد اعتقاداً جازماً أن الأخوة في الله هي العامل الثاني الذي أقام النبي بهما للإسلام دولةً في أرض الجزيرة من فتاتٍ متناثر، فإذا هي بناءٌ شامخ لا يطاوله بناء، بماذا؟ بالعقيدة التي ظل النبي صلى الله عليه وسلم يربي عليها الصحابة في مكة ثلاثة عشر عاماً. وأرجو ألا يظن أحد أن النبي قد ترك العقيدة في مكة يوم أن هاجر إلى المدينة كلا. فإن العقيدة لا يُنتقل منها إلى غيرها، بل ينتقل معها إلى غيرها.

عبر من المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار

عبر من المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار آخا النبي صلى الله عليه وسلم بين أهل مكة من المهاجرين والأنصار في المدينة، هذا هو العامل الثاني: عقيدة ومؤاخاة، أخوة في الله، آخا بين حمزة القرشي، وسلمان الفارسي، وصهيب الرومي، ومعاذ الأنصاري، وبلال الحبشي، وأنشد الجميع الأنشودة العذبة الحلوة: أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيسٍ أو تميم ويجسد لنا عبد الرحمن بن عوف هذه المؤاخاة التي لم ولن تعرف البشرية لها مثيلاً إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، يجسد لنا عبد الرحمن هذه المؤاخاة تجسيداً بليغاً، والحديث في الصحيحين، يقول عبد الرحمن: [آخا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبين سعد بن الربيع الأنصاري، فقال لي سعد -وكان من أكثر الأنصار مالاً: يا عبد الرحمن! أنا أكثر الأنصار مالاً، وسأقسم مالي بيني وبينك شطرين، وعندي امرأتان فانظر أعجبهما إليك لأطلقها، حتى إذا انقضت عدتها تزوجتها]. أسألكم بالله أن تتدبروا في هذا الكلام، فأرجو ألا يمر على آذاننا هكذا، العربي عنده غيرة، وشهامة، ورجولة! فلو قال: سأقسم مالي بيني وبينك شطرين لكان الأمر هيناً، لكن انظر إلى الثانية وما أعجبها وأجملها: [وعندي امرأتان فانظر أعجبهما إليك لأطلقها، حتى إذا انقضت عدتها تزوجتها]. فقال عبد الرحمن بن عوف: [بارك الله لك في أهلك ومالك، ولكن أين السوق؟] فدله على سوق بني قينقاع فذهب عبد الرحمن فباع واشترى، ثم منَّ الله عليه بالربح، فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم يوماً وعليه أثر صفرة، أي عليه أثر الطيب فقال له النبي: (مهيم) أي: ما لي أشم عليك رائحة الطيب يا عبد الرحمن؟ فقال: [تزوجت امرأةً من الأنصار يا رسول الله! قال: (وما سقت لها) قال: سقت إليها مقدار نواة من ذهب] محل الشاهد ما قاله سعد بن الربيع وما قاله عبد الرحمن؟ فقد يئن الآن كثيرٌ من الإخوة ويقولون: رحم الله زمان سعد بن الربيع، أين من يعطي الآن عطاء سعد؟ وأنا أقول: وأين من يتعفف الآن عفة عبد الرحمن؟ لقد انطلق رجلٌ إلى أحد السلف وقال له: أين من ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية، فقال له: ذهبوا مع من لا يسألون الناس إلحافاً. إن سألت أين من يعطي عطاء سعد؟ سأجيبك: وأين من يتعفف عفة عبد الرحمن بن عوف؟ انظروا إلى هذه الصورة من المؤاخاة، فصدقوني لست مبالغاً إن قلت: لقد حل المهاجرون في قلوب الأنصار وعيونهم قبل أن يحلوا في بيوتهم ودورهم، واستحقوا من الله هذا الثناء الخالد: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9].

معنى الأخوة في الله وحقها

معنى الأخوة في الله وحقها إن معنى الأخوة في الله لا نظير له في جميع الشرائع الوضعية على وجه الأرض؛ لأنه لا ينبني على أواصر العرق واللون والدم والوطن، وإنما ينبني على الأواصر الإيمانية، والروابط العقدية التي لا تنفصم عراها ولا تزول، فالمؤمنون جميعاً إخوة مهما اختلفت ألوان بشرتهم، ومهما اختلفت أرضهم وديارهم وأوطانهم، يربطهم جميعاً رباط الإيمان والإسلام، كأنهم روحٌ واحد حل في أجسامٍ متفرقة، أو كأنهم أغصانٌ متشابكة انبثقوا من دوحة واحدة، هكذا ينبغي أن يكون المؤمنون. فإن وجدت إيماناً بلا أخوة صادقة فاعلم بأنه إيمانٌ ناقص، وإن وجدت أخوة بلا إيمان فاعلم أنه التقاء مصالح، وتبادل منافع، وليست أخوة إيمانية، إذ أن الأخوة ثمرة حتمية للإيمان، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]. يوم أن ضاع هذا المعنى العظيم، وأصبح المؤمن ينظر إلى أخيه الذي جاءه من بلدٍ مسلمٍ آخر نظرة الغرابة والغربة، لما ضاع المعنى الحقيقي للأخوة أصبح المسلم يرى أخاه المسلم ويرى أخته المسلمة تذبح هنا وهنالك فينظر ويهز كتفيه ويمضي وكأن الأمر لا يعنيه، وربَّما يرى على شاشات التلفاز المسلم يُذبح في الصومال، أو فلسطين، أو العراق، أو كشمير، أو طاجكستان، أو الفلبين، أو أي مكان، وهو ينظر بعينه وسرعان ما يهز كتفيه ويمضي وكأن الأمر لا يعنيه لا من بعيدٍ ولا من قريب. لماذا؟ لأن الأخوة في الله أصبحت باهته باردة لا تتعدى مجرد الكلمات، لا تتعدى مجرد لغة الشجب والاستنكار فحسب، حتى الشعور فقد مات، إلا من رحم ربك جل وعلا، صحيحٌ ربما تنسي المصائب المصائب، لكن لا ينبغي أن تفقد حتى مشاعر الأخوة تجاه إخوانك وأخواتك هنا وهنالك، لا بد أن يحمل كل واحد منا همَّ هذا الدين، وهمَّ هذه العقيد، وهمَّ هذه الأمة، إن الهموم بقدر الهمم. فمن الناس من يحمل هم الطين، ومنهم من يحمل هم الدين، ومن الناس من يحمل هموم أسرته، ومنهم من يحمل هموم أمته، ومنهم من لا هم له سوى أن يجمع المال ولو كان من الحرام، ومنهم من لا هم له سوى أن يستمتع بامرأة حسناء في الحلال أو في الحرام، ولو نظرنا إلى أحوال همومنا وهِممنا وعرضناها على هموم وهمم السلف، لبكينا دماً بدل الدمع! فها هو عبد الله بن عمر رضوان الله عليه يجتمع في بيت الله الحرام هو وعروة بن الزبير ومصعب بن الزبير وعبد الملك بن مروان فيقول لهم مصعب بن الزبير: [تمنوا فنحن في بيت الله، تمنوا على الله جل وعلا، فقالوا: ابدأ أنت يا مصعب ما دمت قد طلبت ذلك، فقال مصعب بن الزبير: أما أنا فأتمنى ولاية العراق، وأن أتزوج سكينة بنت الحسين، وعائشة بنت طلحة بن عبيد الله، فنال ما تمنى وتلك همته وهذا همه. فقال عبد الملك بن مروان: أما أنا فأتمنى الخلافة، فنال ما تمنى. فقال عروة بن الزبير: أما أنا فأتمنى أن أكون فقيهاً، وأن يحمل الناس عني حديث رسول الله، وقال عبد الله بن عمر: أما أنا فأتمنى الجنة] إن الهموم بقدر الهمم. على قدر أهل العزم تأتي العزائمُ وتأتي على قدر الكرام المكارمُ وتعظمُ في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائمُ ولله در المتنبي إذ يقول: وإذا النفوس كانت كباراً تعبت في مرادها الأجسامُ فلما ضاع المعنى الحقيقي للأخوة أصبحنا نرى المسلمين والمسلمات يُذبحون في الشرق والغرب ذبح الخراف ولا تتحرك حتى مشاعرنا، تبلدت المشاعر وبردت إلا من رحم ربك، أسأل الله أن يجعلني وإياكم ممن رحم. من أجل ذلك أقول: ينبغي أن نتعرف -أيها الأحبة- على حقوق الأخوة، وهذا هو عنصرنا الثاني بإيجازٍ شديد من عناصر المحاضرة، وإلا فإن كل عنصرٍ من هذه العناصر يحتاج إلى محاضرة مستقلة.

حقوق الأخوة

حقوق الأخوة وبداية أسجل لكم أني لا أتكلم في حقوق الأخوة من منطلق الشعور بالأهلية، لا والله! بل يتردد في أذني قول القائل: وغير تقي يأمر الناس بالتقى طبيب يداوي الناس وهو عليلُ وقد ينطلق المرء للحديث في موضوعٍ من منطلق الشعور بالمسئولية لا من منطلق الشعور بالأهلية، وهذا ما تؤصله القاعدة الأصولية: من عدم الماء تيمم بالتراب، والله أسأل أن يستر عليَّ وعليكم في الدنيا والآخر.

الحق الأول: الحب في الله والبغض في الله

الحق الأول: الحب في الله والبغض في الله لن تتذوق طعم الأخوة إلا بهذا، أصبح الولاء الآن على غير هذا الأصل، وأصبح البراء على غير هذه الغاية؛ الحب في الله والبغض في الله، ففي الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود من حديث أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان). والحب في الله شيءٌ غالٍ، وأمرٌ عظيم، ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ينادي ربنا جل وعلا يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي) لو عرفت هول الموقف؛ لاستشعرت حلاوة هذا الكلام النبوي، لو تصورت أن الشمس فوق رأسك، وأنك غارقٌ في عرقك، وأن جهنم قد جُرَّت إلى أرض المحشر، وقد أُتي بها لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملكٍ يجرونها -والحديث في صحيح مسلم - لو تصورت أن الله قد غضب في هذا اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، لاستشعرت قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ينادي الحق: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي) حديثٌ عجيب جميل، وجزاءٌ عظيم للحب في الله، بل لن تتذوق طعم الإيمان إلا بالحب في الله والبغض في الله، كما في الصحيحين من حديث أنس: (ثلاثٌ من كنَّ فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف به في النار). بل وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة -أيضاً- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن رجلاً زار أخاً له في قرية فأرصد الله له على مدرجته -أي: على طريقه- ملكاً، فقال له الملك: أين تريد؟ قال: لأزور أخاً لي في هذه القرية، فقال له الملك: هل لك عليه من نعمة تربها عليه؟ -أي: تريد زيادتها- قال: لا. غير أني أحببته في الله، فقال له الملك: فإني رسول الله إليك أن الله قد أحبك كما أحببته فيه) من أنت لتنال حب الله جل وعلا بالحب في الله والبغض في الله. بل في الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي ومالك في الموطأ بسندٍ حسن صحيح، أن أبا إدريس الخولاني رحمه الله قال: دخلت مسجد دمشق وإذا بفتى براق الثنايا، والناس من حوله يسألونه ويصدرون عن رأيه، فقلت: من هذا؟ قالوا: هذا معاذ بن جبل رضي الله عنه، يقول: فلما كان من الغد هجَّرت إلى المسجد -أي: بكرت- فرأيت معاذاً قد سبقني بالتهجير ووجدته قائماً يصلي، فانتظرت حتى قضى صلاته، ثم أتيته من قبل وجهه فسلمت عليه وقلت له: إني أحبك في الله، يقول: فأخذني بحبوة ردائي -جبذني بحبوة ردائي- وقال: آللهِ، فقال: أبو إدريس: آللهِ، قال معاذ: آلله تحبني في الله، قال أبو إدريس: آلله، قال: آلله -ثلاثاً- قال أبو إدريس: آلله، فقال له معاذ: أبشر فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (وجبت محبتي للمتحابين فيَّ، والمتجالسين فيَّ، والمتزاورين فيَّ، والمتباذلين فيَّ). ومن السنة -أخي الحبيب- إن أحببت أحد إخوانك أن تبين له حبك، فهذا مما يدعم أواصر الأخوة بينك وبين أخيك، كما في الحديث الذي رواه أبو داود بسندٍ صحيح، من حديث المقدام بن معد كرب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أحب الرجل أخاه فليخبره). وفي سنن أبي داود بسندٍ صحيح من حديث أنس أن رجلاً مر على مجلس النبي، فقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! إني أحب هذا فقال له النبي: أأعلمته، قال: لا. قال صلى الله عليه وسلم: فأعلمه، فانطلق الرجل خلف أخيه، وقال: إني أحبك في الله، قال: أحبك الله الذي أحببتني له). وامتثالاً لهذا الحديث النبوي فأنا أشهد الله أني أحبكم جميعاً في الله، وأسأل الله أن يجمعنا مع المتحابين بجلاله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وأبشر حبيبي في الله فإن المرء يحشر يوم القيامة مع من أحب. - حدد من تحب؟ ففي الصحيحين من حديث أنس أن رجلاً جاء للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا رسول الله! متى الساعة؟ قال: وماذا أعددت لها؟ قال: ما أعددت لها كثير عمل ولا صلاة غير أني أحب الله ورسوله، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: المرء مع من أحب) يقول أنس: [فما فرحنا بشيء كفرحنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (المرء مع من أحب)]. يقول عبد الله بن عمر رضوان الله عليه: [والله لو صمت النهار لا أفطر، وقمت الليل لا أرقد، وأنفقت مالي في سبيل الله، أموت يوم أموت وليس في قلبي حبٌ لأهل طاعة الله، وبغضٌ لأهل معصية الله، ما نفعني ذلك كله]. ويقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: [لو قام رجلٌ يعبد الله بين الركن والمقام سبعين سنة لحشر يوم القيامة مع من يحب] ولاء وبراء، لا يصح لك دينٌ إلا بالولاء والبراء، بالحب في الله والبغض في الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51]. قال حذيفة بن اليمان: [فليتق أحدكم أن يكون يهودياً أو نصرانياً وهو لا يدري لقوله تعالى: ((وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ))]. أتحب أعداء الحبيب وتدعي حباً له ما ذاك في الإمكان وكذا تعادي جاهداً أحبابه أين المحبة يا أخا الشيطان إن المحبة أن توافق من تحب على محبته بلا نقصان فإن ادعيت له المحبة مع خلا فك ما يحب فأنت ذو بهتان ... لو صدقت الله حين زعمته لعاديت من بالله ويحك يكفر وواليت أهل الحق سراً وجهرةً ولما تعاديهم وللكفر تنصر فما كل من قد قال ما قلتَ مسلماً ولكن بأشراطٍ هنالك تذكر مباينة الكفار في كل موطنٍ بذا جاءنا النص الصحيح المقرر وتصدع بالتوحيد بين ظهورهم وتدعوهم سراً لذلك وتجهر فهذا هو الدين الحنيفي والهدى وملة إبراهيم لو كنتَ تشعر

الحق الثاني: التورع في القول وحسن الظن بالإخوة

الحق الثاني: التورع في القول وحسن الظن بالإخوة سبحان ربي العظيم! قد لا يتورع الأخ عن أكل لحم أخيه، في الوقت الذي ترى عنده تورعاً باهتاً ربما عن أكل الحلال، إن الكلمة خطيرة يا إخوة، والله عز وجل يقول: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] من: التبعيضية، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول كما في الصحيحين عن أبي هريرة: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً فيرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً فيهوي بها في جهنم). فالكلمة خطيرة، فمن حق أخيك عليك أن تتورع عنه في القول، وأن تحسن الظن به {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12] والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث). من حقي عليك ومن حقك عليَّ أن أحسن في حقك القول، وألا آكل لحمك وأنهش عرضك بعد أن تفارقني، ربما يجلس الأخ مع أخيه في مجلسٍ واحد، وبمجرد أن يعطي الأخ لأخيه ظهره يطعنه بكلمات، والكلمة شديدة، ربما تكون الكلمة أخطر من السيف. فبالكلمة قد تهدم البيوت، وتتحطم الأسر، بل وتثار المشاكل بين الدول والأمم بكلمة، سواء كانت الكلمة مقروءة، أو مكتوبة، أو مسموعة، أو مرئية، أو مرسومة. إن ترك الألسنة تلقي التهم جزافاً دون بينةٍ أو دليل يترك المجال فسيحاً لكل من شاء أن يقول ما شاء في أي وقتٍ شاء، ثم يمضي آمناً مطمئناً، فتصبح الجماعة وتمسي وإذا أعراضها مجرحة وسمعتها ملوثة، وإذا كل فردٍ فيها متهم أو مهدد بالاتهام، وهذه حالةٌ من القلق والشك والريبة لا تطاق بحالٍ من الأحوال، ولذلك روى النسائي بسندٍ صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان -أي تذل له وتخضع- وتقول له: اتق الله فينا فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا) وفي رواية الطبراني في الأوسط بسندٍ صححه الألباني بمجموع طرقه في صحيح الجامع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الربا اثنان وسبعون باباً، أدناها مثل إتيان الرجل أمه، وإن أربا الربا استطالة الرجل في عرض أخيه). انظروا إلى خطر الكلمة، فالكلمة خطيرة أيها الأحبة، فمن حق الأخ على أخيه أن يتورع عنه في القول، فبكل أسف قد يتورع المسلم عن أكل الحلال فيسأل هذا الشيء مستورد أم محلي؟ ورعٌ جميلٌ محمود، لا أقلل من شأنه أبداً، لكن الذي أقلل من شأنه أن ترى هذا التورع في هذا الجانب، الذي ربما يكون فيه الطعام حلالاً، ولا ترى عشر معشار هذا التورع عن أكل لحم الإخوة من المسلمين والمسلمات، فمن حق الأخ على أخيه التورع في القول. وتزداد الكارثة والمأساة حينما يؤكل لحم العلماء أئمة الهدى مصابيح الدجى، والشموع التي تحترق لتضيء للأمة طريق نبيها، فقد ترى شبلاً صغيراً من أشبالنا لم يتربَّ إلا على التصنيف، لم يتربَّ على القرآن ابتداءً ولا على السنة، فخرج متأسداً متنمراً لبعض المسائل العلمية التي حفظها، فيتأسد على العلماء، وينتهك لحم وأعراض العلماء، فتسمع من يسيء إلى أئمة المسلمين في هذا الزمان، ولله در الحافظ ابن عساكر إذ يقول: "اعلم يا أخي وفقني الله وإياك لمرضاته، وجعلني الله وإياك ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته، اعلم بأن لحوم العلماء مسمومة، وأن عادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب بلاه الله قبل موته بموت القلب".

الحق الثالث: التناصح

الحق الثالث: التناصح روى مسلم في صحيحه من حديث تميم الداري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدين النصيحة -انظروا إلى هذه البلاغة النبوية- قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم). يا أخي! أنا لست ملكاً ولا نبياً، أنا بشر وكل بني آدم خطَّاء، فمن حقي عليك إن أخطأتُ أنا أن تنصحني، وأن تقترب مني وأن تبذل لي النصيحة، لا أن تظل بعيداً عني لتصدر الأحكام عليَّ بالتكفير أو التفسيق أو التبديع، وإنما ادن مني واقترب، وابذل الحق الذي عليك لي، وانصحني بشروط النصيحة وآدابها، بتواضع، بحكمة، برحمة، بأدب، بخلق. وأرجو من شبابنا وطلابنا أن يفرقوا بين مقام الدعوة ومقام الجهاد، فمقام الدعوة -أيها الأحبة- من الألف إلى الياء، ولو كانت الدعوة لأكثر أهل الأرض. مقام الدعوة: الحكمة والرحمة واللين والتواضع، هذه آداب النصيحة، قال الله عز وجل لإمام الدعاة وسيد الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] ما هي الحكمة؟ قال ابن القيم: الحكمة هي فعل ما ينبغي في الوقت الذي ينبغي على الوجه الذي ينبغي، وأركانها: العلم والحلم والأناة، وآفاتها وأضدادها ومعاول هدمها: الجهل والطيش والعجلة. بحكمة ورحمة قال الله لسيد الدعاة: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] يا أخي! انصحني برحمة، لا تكن غليظاً ولا شديداً عليَّ، أسمع أحد إخواننا ينصح مسلماً وهو بعد أن سمع الأذان، وإذا بالأخ يريد أن ينصح أخاه بالصلاة فيقول له: صلي يا حمار، فسمعت الكلمة واقتربت منه، قلت: يا أخي! إن الله لم يفرض الصلاة على الحمير، ففطن. إذاً: هذه ليست دعوة، وليست نصيحة، انصح أخاك برحمة، أشعر من تنصحه أنك رحيمٌ به حليمٌ تخشى عليه، وهذا من حقه عليك. يأتي شابٌ للنبي عليه الصلاة والسلام والحديث في مسند أحمد بسندٍ جيد، ويستأذن رسول الله -والله ما استأذنه للخروج إلى الجهاد ولا البذل ولا الخروج إلى الدعوة- وإنما جاء ليستأذن النبي في الزنا: (أتأذن لي يا رسول الله! في الزنا؟ فقال الصحابة: مه مه! فقال له: ادن -اقترب- وبلغة نبوية رحيمة، يقول له المصطفى المعلم والمربي والأسوة والقدوة: أتحبه لأمك؟ قال: لا والله يا رسول الله! جعلني الله فداك، قال: وكذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم، أتحبه لأختك؟ أتحبه لعمتك؟ أتحبه لخالتك؟ لا والله يا رسول الله! جعلني الله فداك، قال: وكذلك الناس) ومع ذلك رفع النبي يده ووضعها على صدر هذا الشاب ودعا له، الذي جاء يطلب الزنا دعا له النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (اللهم اشرح صدره، واغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه) فانطلق الشاب ولا يوجد شيءٌ على الأرض أبغض إليه من الزنا، والأدلة النبوية العملية على الرحمة كثيرة. ثم اللين: كن ليناً بمن تنصحه، هل رأيتم يا إخوة طبيباً فتح عيادته الخاصة للمرضى، حتى إذا دخل عليه مريض طرده؛ لأنه مريض؟ هو ما فتحها إلا للمرضى، فأنتم يا من منَّ الله عليكم بالسنة، والعقيدة الصافية، والفهم الراقي، أنتم أطباء لمرضى القلوب، والنفوس، ولمن انحرفوا عن الحق والمنهج، افتحوا قلوبكم وصدوركم إلى إخوانكم قبل أن تفتحوا مساجدكم وبيوتكم ومجالسكم، وابذلوا لهم النصيحة بهذه الضوابط والشروط، إن الله يأمر موسى وهارون أن يذهبا إلى فرعون: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً} [طه:43 - 44] قرأ سيدنا قتادة هذه الآية وقال: يا رب! تأمر موسى وهارون أن يقولا لفرعون الذي قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24] أن يقولا له قولاً ليناً؟ فإن كان هذا هو حلمك بفرعون الذي قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24] فكيف حلمك بعبدٍ قال: ((سبحان ربي الأعلى))؟ وأنا أقول: إن الرحمة بالكلاب تغفر الخطايا للبغايا، والحديث في صحيح مسلم، مرت بغيٌ من بغايا بني اسرائيل على كلبٍ يلهث الثرى من العطش، فعادت إلى بئر ماء فملأت خفها بالماء وقدمته للكلب فشرب، يقول النبي: (فغفر الله لها بذلك). أقول: إذا كانت الرحمة بالكلاب تغفر الخطايا للبغايا، فكيف تصنع الرحمة بمن وحد رب البرايا؟ النصيحة والتناصح، بأدب وتواضع وحكمة ورحمة ولين، إن وجدت أخاك على خطأ ادن منه واقترب، وقل له: أخي! أحبك والله في الله، قال الله كذا، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا.

الحق الرابع: التناصر

الحق الرابع: التناصر وهذا من الحقوق الكبيرة التي ضاعت من حقوق الأخوة، روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قالوا: يا رسول الله! عرفنا كيف ننصره مظلوماً، فكيف ننصره ظالماً؟ قال: أن تكفه عن الظلم فذاك نصره) إن وجدت أخاً من إخوانك مظلوماً، وكنت قادراً على نصرته انصره، وإن وجدت أخاً من إخوانك ظالماً انصره بكفه عن الظلم، ولو ضاع هذا الحق غرقت سفينة المجتمع، واستشرت المنكرات. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث في صحيح البخاري من حديث النعمان: (مثل القائم في حدود الله والواقع فيها، كمثل قومٍ استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وأصاب بعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فلو تركوهم وما أرادوا هلكوا وهلكوا جميعاً، ولو أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً). فيجب على الأخ أن يأخذ على يد أخيه، وأن ينصره إن كان ظالماً أو مظلوماً لتنجوا سفينة المجتمع، وإلا لهلكت السفينة، وهلك الصالحون مع الطالحين، فلا تظن أن الذين سينجون هم الصالحون فحسب! لا. أو أن الذي سيهلك هم الطالحون فحسب؟ لا. روى البخاري ومسلم من حديث زينب بنت جحش رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوماً فزعاً، وفي لفظ: قام من نومه يوماً من عندها فزعاً وهو يقول: (لا إله إلا الله! ويلٌ للعرب من شرٍ قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه -وحلق النبي صلى الله عليه وسلم بإصبعيه بالسبابة والإبهام- فقالت زينب: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: نعم. إذا كثر الخبث).

الحق الخامس: الستر والتغافر

الحق الخامس: الستر والتغافر روى أحمد في مسنده بسند صحيح من حديث أبي برزة الأسلمي أن الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر من آمن بلسانه ولمَّا يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في جوف رحله). أسأل الله أن يسترنا في الدنيا والآخرة. والناس صنفان، صنفٌ مشهورٌ بالصلاح وبالتقى، لكنه زل، فليس ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً، فمن حقه على إخوانه أن يستروا عليه. وصنفٌ مشهورٌ بالفسق مجاهرٌ به، فهذا لا غيبة له، إن ذكر لم يتذكر، وإن نصح لم ينتصح. الستر والتغافر وإن زل أخوك وأخطأ في حقك وأتاك فلا ينبغي أن تتعنت في حقه وأن تتفرعن عليه، وأن تقول: لا. لا أعفو عنك، ولا أقبل عذرك، إنما ينبغي أن يغفر الأخ لأخيه، فالستر والتغافر من أجل وأرقى الصفات التي تدعم أواصر الأخوة بين الإخوة في الله.

الحق السادس: الإعانة على قضاء الحوائج

الحق السادس: الإعانة على قضاء الحوائج روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من فرج عن مؤمنٍ كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربةً من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسرٍ يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة) فإن منَّ الله عليك بمنصب أو بوجاهة وأتاك أخوك لتشفع له فاشفع له، وإن طلب منك عوناً فأعنه، وإن أراد مصلحةً وكنت قادراً فيسرها له، ومن استطاع أن ينفع أخاه فلينفعه، وأرجو في المقابل إن ذهب أخٌ إلى أخيه وطلب منه مصلحة ولم يقدر الله عز وجل لهذا الأخ أن يعين أخاه فيها فينبغي أن يعذره. أتمنى أن لو قدم الأخ لأخيه طلباً للتوظيف مثلاً، أو معونةٍ مادية أو لأي مصلحة، وقال له: أخي في الله! هذه حاجتي إليك، فإن قضيتها حمدت الله وشكرتك، وإن لم تقضها حمدت الله وعذرتك، فإن الأمور كلها تجري بمقادير الله، ما أجمل هذا الفهم! وما أرقى هذا الظن!

الطريق إلى الأخوة

الطريق إلى الأخوة ما الطريق إلى الأخوة؟ الطريق الأول: العودة الصادقة إلى أخلاق هذا الدين، فأنا أقول لكم -أيها الأحبة- إننا لن نعيد الأخوة والعقيدة بالمحاضرات الرنانة، ولا بالمجلدات ولا بالأشرطة فحسب، إن المنهج النظري الإسلامي المنير العظيم، سيظل محبوساً بين المجلدات وعبر الأشرطة، ما لم يتحول هذا المنهج في حياتنا إلى منهج حياة، وإلى واقعٍ عملي. وأنا أقول: لقد استطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيم للإسلام العظيم دولةً من فتاتٍ متناثر، فإذا هي بناء شامخ لا يطاوله بناء، أقام دولةً أذلت الأكاسرة، وأهانت القياصرة، أقام دولة حولت الصحابة من رعاة للغنم إلى قادة للأمم -وتدبر معي- وذلك يوم أن نجح المصطفى صلى الله عليه وسلم في طبع عشرات الآلاف من النسخ من المنهج التربوي الإسلامي العظيم، ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يطبعها بالحبر على صحائف الأوراق، وإنما طبعها على صحائف قلوب أصحابه بمدادٍ من التقى والنور. فانطلق الصحابة ليحولوا هذا المنهج على أرض الواقع إلى منهج حياة، وواقعٍ يتألق سمواً وروعةً وعظمةً وجلالاً، وإن أعظم خدمة نقدمها اليوم لديننا -أيها الأحبة- أن نشهد للإسلام شهادة عملية على أرض الواقع، كلٌ في موطن إنتاجه وموطن عطائه، فنحن لا نريد أن تتحول الأمة كلها إلى دعاة على المنابر، وإنما نريد أن تتحول الأمة كلها إلى دعاة لدين الله كلٌ في موقع إنتاجه وعطائه، بحسب ما منَّ الله عز وجل به عليه من قدرات وطاقات. ثم السبيل الثاني أن نتحرك بين الناس، بعد أن نحول أخلاق هذا الدين في حياتنا إلى واقع أن نتحرك بين الناس لدعوتهم إلى هذا الدين العظيم، وإلى أخلاق هذا الدين العظيم. وأسأل الله العظيم الحليم الكريم جل وعلا أن يردنا إلى هذه المعاني رداً جميلاً، وأن يأخذ بنواصينا إليه، وأن يرد إلى الأمة عزها ومجدها وكرامتها، وأن يؤلف بين قلوبنا، وأن يوحد بين صفوفنا، وأن يشف صدور قوم مؤمنين، وأن يعز الإسلام والمسلمين، وأن يتقبل منا ومنكم جميعاً صالح الأعمال. وأسأله باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب، أن ينصر الإسلام والمجاهدين في كل مكان، وأن يقر أعيننا بنصرة الإسلام، وأن يجعل هذا البلد الكريم سخاءً رخاءً وجميع بلاد المسلمين، وأن يتقبل منا ومنكم جميعاً صالح الأعمال. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وجزاكم الله خيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الإسلام وسعادة البشرية

الإسلام وسعادة البشرية البشرية كلها في هذه الحياة تبحث عن السعادة، فما من أحد من الناس كافرهم ومسلمهم، ذكرهم وأنثاهم، صغيرهم وكبيرهم، إلا ويبحث عنها. فمن الناس من يبحث عنها في غنى مال، ومنهم من يبحث عنها في وجاهة ورئاسة، ومنهم من يظنها في الحياة المادية الرغدة والسفريات والنزه. والحقيقة أن السعادة هي في الإيمان والاستقامة على شرع الله، والرضا بقضاء الله تعالى.

الناس جميعا يبحثون عن السعادة

الناس جميعاً يبحثون عن السعادة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار، ثم أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء، وأيها الإخوة الأحباب الأعزاء، وطبتم جميعاً وطاب ممشاكم وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله جل وعلا الذي جمعنا وإياكم في هذا البيت المبارك على طاعته أن يجمعني وإياكم في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في الجنة إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله؛ الإسلام وسعادة البشرية، هذا هو عنوان لقائنا معكم في هذا اليوم الكريم المبارك، وحتى لا ينسحب بساط الوقت من تحت أقدامنا سريعاً، فسوف أركز الحديث معكم تحت هذا العنوان في العناصر التالية: أولاً: الناس جميعاً يبحثون عن السعادة. ثانياً: الإسلام وسعادة البشرية. ثالثاً: السعادة الحقيقية وأسبابها. فأعرني قلبك وسمعك -أيها الحبيب المبارك- وأسأل الله جل وعلا بدايةً أن يجعلني وإياكم جميعاً ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب. أيها الأحبة الكرام: الناس جميعاً يبحثون عن السعادة، غايةٌ يتفق فيها الخلق، الكافر والمؤمن، هذا وإن كان الكافر يبحث عن سعادة الدنيا فحسب؛ فإن المؤمن يبحث عن سعادة الدنيا والآخرة، لكنك لو سألت أي إنسان على ظهر هذه الأرض: لمَ فعلت كذا؟ ولمَ قلت كذا؟ ولمَ سافرت إلى البلد الفلاني؟ لأجابك على الفور بقوله: أبحث عن السعادة، سواء قالها بحروفها أم بمعناها. إن البحث عن السعادة غاية يتفق فيها الخلق جميعاً، لكن ليس كل باحث عن السعادة يدرك طريقها، فكم من أناس يريدون أن ينقبوا عن الماء وسط النيران، وعن السعادة وسط الركام، فليس كل باحث عن السعادة يدرك طريقها، فهناك من الناس من يظن أن السعادة الحقيقية في جمع المال، وبداية فأنا لا أريد البتة أن أقلل من شأن المال أبداً، إذ أني أعلم يقيناً أن المال عصب هذه الحياة، وأعلم أن أموال المسلمين في بنوك الشرق والغرب هي التي تحرك الآن -بلا منازع- دفة السياسة العالمية، فأنا لا أقلل من شأن المال، بل ما أكرم المال إذا ما حركته أيدي الصالحين والشرفاء! ما أعظمه من نعمة إذا ما عرف الإنسان الغاية من وجود هذا المال، ونظر إلى المال فعلم علم اليقين أن المال ظل زائل وعارية مسترجعة، فقال: هكذا وهكذا يبذل هذا المال لمرضاة الله عز وجل، وتذكر دائماً قول القائل: النفس تجزع أن تكون فقيرة والفقر خير من غنىً يطغيها وغنى النفوس هو الكفاف فإن أبت فجميع ما في الأرض لا يكفيها هي القناعة فالزمها تكن ملكاً لو لم تكن لك إلا راحة البدن وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير الطيب والكفن ما أخذ شيئاً معه، فما أكرم المال إذا ما عرف الإنسان الغاية من وجوده، وعلم علم اليقين أن المال ظل زائل وعارية مسترجعة، فاستغل هذه النعمة في وجوده وحياته لمرضاة الرب جل وعلا، وفي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وأبو داود والترمذي من حديث أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث أقسم عليهن، وأحدثكم حديثاً فاحفظوه، وفيه قال: إنما الدنيا لأربعة نفر -وذكر النبي صلى الله عليه وسلم أول هؤلاء- فقال: ومنهم رجل أو عبد آتاه الله مالاً فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقاً، فهذا بأفضل المنازل) أي: عند الله جل وعلا، فما أكرم المال إذا ما عرف الإنسان الغاية منه، واستغله في حياته ووجوده في طاعة الله. لكنني أقول بملء فمي أيها الخيار الكرام: ليس كل صاحب مال سعيداً، بل قد يكون المال سبباً من أسباب السعادة، وقد يكون المال سبباً من أسباب الشقاء في الدنيا والآخرة، وها هو القرآن بين أيدينا نقرؤه في الليل والنهار، لكنه يحتاج إلى تدبر وتفكر، لقد ذكر الله جل وعلا لنا مثلاً في كتابه، يبين لنا فيه أن المال ما كان ولن يكون هو السبب الأوحد للسعادة، إنها قصة رجل آتاه الله من الأموال ما عجز العصبة من أولي القوة أن يحملوا مفاتيح خزائنه، إنها قصة قارون، الذي نظر إليه قطاع عريض من الناس وقالوا على لسان رجل واحد: {إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص:79] فماذا كانت النتيجة يوم أن ذكر بفضل الله جل وعلا فما تذكر وما تدبر، وإنما قال قولة خبيثة يرددها الناس في كل زمان ومكان وإن اختلفت الألفاظ: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص:78] إنه فن الإدارة، فماذا كانت النتيجة؟ {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ} [القصص:81]. وهناك من الأحبة من يحلو له أن نذكره بمثل من الواقع المعاصر، وها هي قصة عجيبة -أيها الإخوة- لعل البعض منكم قد تابع فصولها العجيبة، ألا وهي قصة: كرستينا أونتس، ابنة الملياردير أونتس، الذي يملك المليارات والجزر والأساطيل والأموال الضخمة، ولما توفي هذا الرجل ورثت هذه البنت مع زوجة أبيها هذه التركة الضخمة، ونظر العالم كله إلى هذه الفتاة الصغيرة على أنها قد حصلت السعادة من كل أطرافها، بل ودخلت قصر السعادة من أبوابه ونوافذه، فما هي الحقيقة؟ تزوجت هذه الفتاة برجل أمريكي عاشت معه فترة قصيرة ثم طلقها أو طلقته، ثم تزوجت بعد ذلك برجل يوناني عاشت معه فترة قصيرة ثم طلقها أو طلقته، ثم تزوجت للمرة الثالثة برجل شيوعي، فتعجب الناس! كيف تلتقي قمة الرأسمالية بـ الشيوعية والنظريتان لا مجال للالتقاء بينهما البتة؟! وفي مؤتمر صحفي اقترب منها أحد الصحفيين وقال: كيف قبلت الزواج من رجل شيوعي؟ فقالت بالحرف الواحد: أبحث عن السعادة، ثم عاشت معه فترة قصيرة وطلقها أو طلقته، وتزوجت للمرة الرابعة برجل فرنسي، وفي عرس زواجها أو حفل زواجها اقتربت منها صحفية وقالت: هل أنتِ أغنى امرأة في العالم؟ فردت: نعم، أنا أغنى امرأة، ولكني أشقى امرأة. هذا هو المال ما حصل لها السعادة، فكم من أصحاب الأموال لا يشعرون بلذة السعادة، ولا يشعرون بطعمها، فليس كل صاحب مال سعيداً، فقد يكون المال سبباً من أسباب السعادة إذا اتقى الإنسان ربه وعرف الغاية من هذا المال، وأنفقه في مرضاة الكبير المتعال، وعلم يقيناً أن المال ظل زائل، وعارية مسترجعة، وقد يكون المال سبباً من أسباب الشقاء في الدنيا بل والآخرة، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهل السعادة. وهناك من الناس -أيها الخيار الكرام- من يعتقد أن السعادة الحقيقية في منصبٍ يجلس عليه أو يجلس فيه، وقد يكون المنصب سبباً من أسباب السعادة في الدنيا والآخرة، إذا نظر صاحب المنصب إلى المنصب على أنه أمانة، فاتقى فيه ربه جل وعلا، وتدبر دوماً قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي ذر يوم أن انطلق ليطلب منه المسئولية والأمانة فضرب النبي صلى الله عليه وسلم على كتف أبي ذر وقال: (يا أبا ذر! إنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها) والحديث رواه مسلم، فمن نظر إلى المنصب على أنه أمانة، وراقب الله جل وعلا بالليل والنهار، سعد بمنصبه في الدنيا بل والآخرة. ورضي الله عن عمر بن الخطاب الذي نظر إليه عثمان بن عفان يوماً من الأيام، في وقت تكاد حرارة الشمس أن تذيب الحديد والصخور والحجارة، وينظر عثمان من شرفة من شرفات بيته، فرأى رجلاً في وقتٍ شديد الحر يجري في الصحراء فقال: [من هذا الرجل الذي خرج في هذا الوقت القائظ؟! فاقترب منه فإذا به أمير المؤمنين، إنه عمر، وينادي عثمان: يا أمير المؤمنين! ما الذي أخرجك في هذا الوقت الشديد الحر؟ فقال عمر -الذي عرف قدر هذه الأمانة-: بعير من إبل الصدقة قد ندّ يا عثمان، وأخشى عليه الضياع، وأخشى أن أسأل عنه بين يدي الله يوم القيامة، فقال عثمان: فتعال إلى الظل وإلى الماء البارد، وكلف أحد عمالك بالبحث عن هذا البعير، فنظر إليه عمر الفاروق رضي الله عنه، وقال: عد إلى ظلك ومائك البارد، يا عثمان! أأنت ستحمل عني وزري أمام الله يوم القيامة، فقال عثمان قولته الخالدة: والله لقد أتعبت كل من جاء بعدك يا عمر]. إنها الأمانة أيها الأحبة! فلو نظر الإنسان إلى وظيفته وإن صغرت على أنها أمانة؛ فيسر للناس مصالحهم، وذلل العقبات، ويسر الأسباب، وفتح للناس الأبواب، وفك ضيق المعسر، واستغل هذا المنصب لمرضاة

السعادة في الإسلام الحق

السعادة في الإسلام الحق كنت في زيارة قبل أربعة أشهر لمركز من المراكز الإسلامية في لوس أنجلوس، بولاية كليفورنيا، ودخل علينا في المركز أمريكيٌ يريد أن يُسلِم لله جل وعلا، فسألناه: ما سبب إسلامك؟ وكان من المنطقي كما اعتدنا أن يقول: قرأت عن الإسلام كثيراً وكثيراً، فعلمت يقيناً أن الإسلام هو دين الحق، ولكن الرجل ذكر سبباً غريباً -أيها الأحباب الكرام- فماذا قال؟ قال: أنا رجل أملك من الأموال الكثير والكثير، وعندي من الشركات الكثير، ولكني ما ذقت طعم السعادة أبداً، يقول: ففكر أكثر من مرة في أن ينتحر، وأن يتخلص من هذه الحياة، يقول: وعندي في إحدى شركاتي موظف مسلم، ما من مرة دخلت عليه إلا ورأيت البسمة على وجهه، والسعادة في نفسه وقلبه، فتعجبت له، واقتربت منه، وقلت له: يا هذا! ما من مرة دخلت عليك إلا ورأيتك سعيداً مبتسماً، وأنا صاحب هذه الشركة ما ذقت طعم السعادة، فقال له هذا الموظف التقي النقي: لأنني مسلم، قال: وهل المسلمون يشعرون بالسعادة؟ قال له: نعم. وإن ابتلاهم الله عز وجل؛ لأن النبي قد علمنا في حديث رواه مسلم من حديث صهيب: (عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له) فقال الأمريكي: فهل لو دخلت في إسلامك الذي أنت فيه سأشعر بالسعادة؟ قال: نعم، قال: دلني على الإسلام، فجاء به إلى المركز الإسلامي ليعلن إسلامه، فاغتسل الرجل ووقف في وسط المركز، ووالله -يا إخوة- بمجرد ما نطق لسانه بالشهادتين حتى بكى بكاءً (هستيرياً) طويلاً فتركناه، فلما هدأت نفسه واستقرت جوارحه، اقتربنا منه وسألناه: لماذا بكيت هذا البكاء الطويل؟ فقال بالحرف الواحد ترجمة لقوله: أشعر الآن بسعادة في قلبي ما ذقت طعمها قبل اليوم، ألم يقل ربك: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] ألم يقل ربك: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:123 - 124] إن السعادة الحقيقية واللذة الحقيقية هي أن يردد لسانك: لا إله إلا الله، ترددها بقلب يعرف حقيقة هذه الكلمات وحقيقة الإيمان، بجوارح لا تحس باللذة ولا بالخشوع إلا في طاعة الملك الرحمن جل وعلا. أيها الأحبة الكرام: إن السعادة الحقيقية في الإسلام، والله لا سعادة إلا في الإسلام وبالإسلام، وأن تعيش للإسلام وعلى الإسلام وبالإسلام، الإسلام الذي حقق السعادة للعالم يوم أن حقق المسلمون الإسلام على أرض الواقع إلى منهج حياة، يوم أن حول المسلمون الإسلام إلى منهج حياة، حقق الإسلام السعادة لا للمسلمين الذين طبقوه، بل لليهود والنصارى الذين عاشوا في كنف الإسلام وتحت مظلة الحكم الإسلامي، اقرءوا التاريخ يا أيها الخيار الكرام. الإسلام دين الأمن والأمان، دين العدل والرحمة، هذا يهودي يقف أمام القاضي شريح إلى جوار أمير المؤمنين علي، فيقول القاضي شريح: ما القضية؟ فيقول علي بن أبي طالب: الدرع الذي مع هذا اليهودي درعي، ولم أبع ولم أهب. فيقول شريح لليهودي: ما ردك على كلام أمير المؤمنين؟ فيقول اليهودي: الدرع درعي، وليس أمير المؤمنين عندي بكاذب. فيقول القاضي لـ علي: هل من بينة يا أمير المؤمنين! فإن البينة على المدعي واليمين على من أنكر؟ فيقول علي: لا. جزاك الله خيراً يا شريح، ليس عندي من بينة. فيقضي شريح بالدرع لليهودي، وهو درع أمير المؤمنين علي، فيأخذ اليهودي الدرع وينصرف، ويفكر في هذه العظمة ويقول: ما هذا؟ أنا مع أمير المؤمنين أمام قاضي المسلمين، ويقضي القاضي بالدرع لي وهو درع أمير المؤمنين، والله إنها لأخلاق الأنبياء، ويرجع اليهودي أمام علي وأمام القاضي، ويقول: يا أمير المؤمنين! الدرع درعك سقطت من بعيرك فأخذتها، وإني الآن أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول علي: أما وقد أسلمت، فالدرع هدية مني لك. وهذا قبطي من أهل مصر يسبق ابن حاكم مصر محمد بن عمرو بن العاص، فلما سبق القبطي ولد حاكم مصر نزل محمد بن عمرو وضرب القبطي، وهو يقول: خذها وأنا ابن الأكرمين، كيف تسبقني وأنا ابن الأكرمين؟ وكان هذا القبطي يحمل -بلغة العصر- حساً سياسياً عجيباً، فانصرف إلى المدينة المنورة، إلى الأسد القابع هنالك في عرينه، إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال عمر: [ما القصة؟ فأخبره، فقال: اجلس، وكتب كتاباً لـ عمرو بن العاص يقول فيه: إن انتهيت من قراءة كتابي هذا فاركب إليَّ مع ولدك محمد والسلام]. وجاء عمرو بن العاص، ومن خلفه ولده محمد، فقال عمر: [أين القبطي؟]. قال: هأنذا يا أمير المؤمنين. فأعطى عمر القبطي الدِرة -بكسر الدال لا بضمها- وقال له: [اضرب ابن الأكرمين] فضرب القبطي ابن حاكم مصر أمام عمر، ثم قال عمر: [أدر الدرة على صلعة عمرو، فوالله ما تجرأ عليك ولده إلا لسلطان أبيه]. فقال القبطي: جزاك الله خيراً يا أمير المؤمنين، لقد ضربت من ضربني. فقال عمر بن الخطاب: [والله لو ضربت عمراً ما حلت بينك وبين ذلك] ثم التفت عمر إلى عمرو ليقول قولته الخالدة: [يا عمرو! متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً]. هذا هو الإسلام -أيها الأحبة- الذي حقق الأمان لا للمسلمين الذين طبقوه فقط، بل لليهود والنصارى الذين عاشوا في كنفه. ومن الظلم الآن أن نحكم على الإسلام من خلال واقع المسلمين، فإن الإسلام مظلوم بسبب المسلمين الذين ابتعدوا عنه كثيراً كثيراً ولا حول ولا قوة إلا بالله! أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

السعادة الحقيقية وأسبابها

السعادة الحقيقية وأسبابها الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِ وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد:

الإيمان بالله والعمل الصالح

الإيمان بالله والعمل الصالح أيها الأحبة الكرام: أما السعادة الحقيقية في الدنيا فهي أولاً: في الإيمان بالله جل وعلا والعمل الصالح، قال جل في علاه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97] الإيمان بالله عز وجل والعمل الصالح سبب من أسباب الحياة الطيبة، أي: من أسباب الحياة السعيدة، الإيمان بالله ليس كلمة تقال باللسان، ولكنه قول باللسان وتصديق بالجنان -أي: بالقلب- وعمل بالجوارح والأركان.

الاستقامة على أمر الله

الاستقامة على أمر الله ثانياً: الاستقامة على منهج الله تبارك وتعالى من أسباب السعادة: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:31 - 32].

الإيمان بالقضاء والقدر

الإيمان بالقضاء والقدر ثالثاً: من أسباب السعادة في هذه الحياة الدنيا: الإيمان بالقضاء والقدر، فالمؤمن مطمئن منشرح الصدر، يعلم أن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وما أصابه لم يكن ليخطئه، فهو مرتاح القلب منشرح الصدر على الدوام، والإيمان بالقضاء والقدر من أركان الإيمان بالله عز وجل، أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره.

الإحسان إلى الناس

الإحسان إلى الناس رابعاً: من أسباب السعادة في الدنيا: الإحسان إلى الناس: (من فرج عن مؤمن كربة من كرب الدنيا؛ فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة) فإن أحسنت إلى الناس شعرت بلذة في قلبك، وسعادة في صدرك. ومن أروع ما سمعت أني ألقيت هذه الخطبة تماماً في مصر في مدينة المنصورة، وبعد الانتهاء من الخطبة اقترب مني أستاذ جامعي عندنا، وقال لي: والله إني منذ سنتين وأنا أسافر إلى لندن لأتعالج أو لأبذل لنفسي العلاج؛ لأني أعاني من مرض في القلب، أسأل الله أن يشفي مرضانا ومرضى المسلمين. يقول: جلست في يوم من الأيام مع صاحبٍ لي إلى جوار رجل يعمل جزاراً، ونظرت فرأيت امرأة كبيرة فقيرة إلى جوار هذا الجزار الذي يبيع اللحم، تنقب عن قطعة لحم على الأرض أو على عظمة صغيرة، فشد انتباهي هذا المشهد، وناديت على المرأة وقلت لها: سبحان الله! ماذا تصنعين تبحثين عن قطع اللحم النيئ المرمي على الأرض؟ فقالت: والله إن أبنائي في شوق لقطعةٍ من اللحم، وما ذاقوا اللحم منذ ستة أشهر -تدبروا في هذه الكلمات أيها المسلمون- يقول: فبكيت، وقمت على الفور، وقلت لهذا الجزار: يا أخي! هذه المرأة ستأتيك في كل أسبوع فأعطها من اللحم ما تريد، وأنا أحاسبك على كل ما تأخذه عاماً بعام، فقالت المرأة: أحتاج إلى كيلو واحد فقط، فقال هذا الرجل: كلا. بل أعطها اثنين، فسعدت المرأة وبكت، ورفعت رأسها إلى السماء، وتضرعت بالدعاء لهذا الثري الكريم الشهم، وأخرج الرجل من حافظة نقوده مبلغاً من المال ليكفي هذه المرأة عاماً بكامله، وعادت المرأة إلى بيتها سعيدة، وسعد الأبناء بهذا اللحم الوفير. وعاد الرجل إلى بيته، دخل ووجهه يتلألأ، يشعر بشيء غريب في جسده كله، فقالت له زوجته: ما شاء الله! أراك نشيطاً، وقالت له ابنته الملتزمة: ما الذي غير وجهك يا أبي؟! فقص عليها القصة فبكت الأم وبكت البنت، وقالت البنت: أسأل الله -يا أبي! - أن يسعدك بشفاء مرضك كما أسعدت هذه المرأة الفقيرة وأولادها، يقول: بعد أيام قليلة أشعر بتحول كامل في بدني كله. يقول: وبالرغم من ذلك أصر الأحبة أن أسافر إلى لندن لأجري الجراحة. فلما ذهب إلى هنالك، ونام بين يدي طبيبه الخاص، صرخ طبيبه وقال: عند أي الأطباء في مصر قد أجريت جراحتك؟ قال: لقد تاجرت مع الله فأغناني الله وشفاني. أيها الأحبة: إن التجارة مع الله تجارة رابحة، أحسن إلى الناس لتشعر بالسعادة في قلبك وفي بيتك وبين أولادك، فمن فرج عن مؤمن من المؤمنين -وما أكثر الكرب-: (من فرج عن مؤمنٍ كربةً من كرب الدنيا، فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة). هذه أسباب السعادة في الدنيا التي ستوصلك إلى السعادة الحقيقية في الآخرة، ألا وهي في التمتع بجنة الله، والنظر إلى وجه الله جل وعلا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل أهل الجنة الجنة، قال الله: يا أهل الجنة! هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى، وقد أعطيتنا ما لم تعطِ أحداً من خلقك، فيقول الله جل وعلا: أفلا أعطيكم أفضل من ذلك؟! فيقول أهل الجنة: وأي شيء أفضل من ذلك؟! فيقول الله جل وعلا: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً) وفي صحيح مسلم من حديث صهيب: (فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى وجه الله جل وعلا). {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:105 - 108]. اللهم أسعدنا بطاعتك في الدنيا والآخرة، اللهم لا تجعل لأحدٍ ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً بيننا إلا شفيته، ولا ديناً إلا أديته، ولا هماً إلا فرجته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا طائعاً إلا ثبته، ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ويسرتها يا رب العالمين! اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا سبباً لمن اهتدى، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، وبلغنا مما يرضيك آمالنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا. اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، واشف اللهم صدور قومٍ مؤمنين برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم اجعل هذا البلد المبارك سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم لا تحرم هذا البلد من الأمن والأمان وسائر بلاد المسلمين، اللهم احفظ هذا البلد بالتوحيد للموحدين وسائر بلاد المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. أيها الأحبة الكرام: هذا وما كان من توفيق فمن الله، وما كان من خطأ أو سهوٍ أو زللٍ أو نسيان فمني ومن الشيطان والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون عليه إلى الجنة ويلقى به في جهنم، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه، وأقم الصلاة.

تفسير سورة يوسف

تفسير سورة يوسف إن القصة أسلوب من أساليب الدعوة إلى الله، ولها أثرها الكبير في نفوس الناس؛ لذلك ذكر الله في كتابه الكريم عدداً كبيراً من قصص السابقين من الأنبياء وغيرهم من الأمم الغابرة. ومن تلك القصص قصة يوسف عليه السلام، والتي تكلم عنها الشيخ في هذا الدرس؛ مبيناً الابتلاءات التي ابتلى الله بها يوسف عليه السلام، والتي تجاوزها بفضل الله عليه، وبيقينه بربه، ومن تلك الابتلاءات ما حصل له مع امرأة العزيز، فأنجاه الله تعالى من ذلك؛ لأنه التجأ إليه، وكان من المخلصين ثم بين الشيخ خطورة الخلوة بين الرجل والمرأة، ذاكراً مشهداً يبين ذلك، مع ذكر بعض صور الخلوة.

وقفات مع بعض الابتلاءات التي وقع فيها يوسف عليه السلام

وقفات مع بعض الابتلاءات التي وقع فيها يوسف عليه السلام الحمد لله رب العالمين، الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريكٌ في الملك وما كان معه من إله، الذي لا إله إلا هو فلا خالق غيره ولا رب سواه، المستحق لجميع أنواع العبادة، ولذا قضى ألا نعبد إلا إياه {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62]. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله -أيها الأحبة- وأسأل الله جل وعلا أن يتقبل مني وإياكم صالح الأعمال، وأن يجمعنا دائماً وأبداً في الدنيا على طاعته، وفي الآخرة في جنته ومستقر رحمته، إنه ولي ذلك ومولاه، وهو على كل شيءٍ قدير. أحبتي في الله: كان من المنتظر في هذه الليلة أن نواصل حديثنا عن مشاهد يوم القيامة، ولكن تلبيةً لرغبة شيخنا الحبيب أبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن المحيسني حفظه الله، فإن لقاءنا في هذه الليلة الكريمة المباركة مع سورةٍ كريمةٍ مباركة، مع سورة يوسف. وسورة يوسف سورةٌ مكيةٌ باتفاق العلماء، ونزلت على المصطفى صلى الله عليه وسلم في فترةٍ من أحرج فترات الدعوة، فلقد نزلت سورة يوسف على النبي صلى الله عليه وسلم في مكة -شرفها الله- بعد موت أبي طالب وخديجة رضي الله عنها، وأنتم تعلمون جميعاً دور أبي طالب ودور خديجة في نصرة الإسلام، والوقوف إلى جوار النبي عليه الصلاة والسلام، علماً بأن أبا طالب كان على الشرك وعلى دين قومه حينئذٍ، ومات على ذلك نزلت سورة يوسف في هذه الظروف الحرجة، والنبي صلى الله عليه وسلم يتعرض لأشد أصناف العذاب والبلاء والاضطهاد من أهل مكة، وهنا أنزل الله جل وعلا عليه سورة يوسف ليقص عليه ربه جل وعلا قصة أخٍ كريمٍ تعرض لجميع أصناف المحن والفتن والابتلاءات؛ ليثبت الله بهذه القصص قلب حبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم. وأود أن أشير إشارةً سريعةً إلى أن هناك فرقاً شاسعاً بين القَصَصِ والقِصَصْ. فإن القَصَصَ: بالفتح هو كلام الحق جل وعلا، لأن هذا هو القصص الحق. أما القِصص: فهي من نسج خيال الكتاب والأدباء، التي يختلط فيها الحق بالباطل والحلال بالحرام والفضيلة مع الرذيلة. نزلت قصة يوسف ليثبت الله بها فؤاد حبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} [الفرقان:32] ليقص ربه جل وعلا عليه قصة أخيه الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم؛ إنه يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه. ويقص الله فيها على حبيبه المصطفى صوراً من الفتن والمحن والابتلاءات التي تعرض لها يوسف على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وعدوا معي -أيها الأحباب- هذه الفتن التي تعرض لها نبيٌ من أنبياء الله جل وعلا: أولاً: محنة كيد الإخوة وحقدهم عليه. ثانياً: محنة الجب وفراق أهله وأحبابه. ثالثاً: محنة الرق وبيعه كسلعةٍ تتداول بين الأيدي بأبخس الأثمان. رابعاً: محنة الشهوة والفتنة والإغراء وكيد النسوة وعلى رأسهن امرأة العزيز. خامساً: محنة السجن بعد العيش الرغيد الرافه في قصر العزيز. سادساً: محنة الملك والرخاء والسلطان، بعد ما صار قوت الناس وخبزهم بين يديه يتحكم فيه كيف شاء. سابعاً: محنة لقائه بإخوته بعد قدرته عليهم. ومع كل هذا اجتاز يوسف عليه السلام هذه المحن كلها بقوةٍ واقتدارٍ وجدارة، وخرج يوسف منها خالصاً متجرداً بدينه وإيمانه لم يخدش قط. ومع كل هذا، ومع هذا الانتصار المدوي لا يتمنى يوسف بعد هذا إلا أن يتوفاه الله مسلماً، وأن يلحقه الله جل وعلا بالصالحين {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:101].

أدلة براءة يوسف عليه السلام

أدلة براءة يوسف عليه السلام أيها الأحبة: ولو توقفنا مع كل هذه المحن والفتن -والله- لاحتجنا إلى شهرين كاملين، نحتاج رمضانين بدون أي مبالغة، لذا فسوف أختار أشد وأقسى أنواع هذه الفتن التي تعرض لها يوسف عليه السلام لنعيش معها في هذه الليلة المباركة، وأظنكم جميعاً تشاركونني الآن أن أشد أنواع هذه المحن والفتن والابتلاءات التي تعرض لها يوسف فتنة كيد النساء، وعلى رأسهنّ فتنة امرأة العزيز، فتعالوا معي لنعيش هذه الدقائق المعدودات مع هذه الفتنة الحالكة التي يتعرض لها الشباب قديماً وحديثاً، وهي من أشد الفتن بنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما تركت فتنةً أشد على أمتي من النساء، وإن فتنة بني إسرائيل كانت في النساء) فأعيروني القلوب والأسماع، وكذلك أدعو الله أن يكنّ أخواتنا كذلك، ونسأل الله بهذه اللحظات وبهذه الكلمات أن يأجرنا إنه ولي ذلك ومولاه. قبل أن نبدأ الحديث عن فتنة يوسف، تعالوا بنا لأسوق لحضراتكم الأدلة الناصعة على براءة يوسف عليه السلام.

أن يوسف من المخلصين فلا سلطان للشيطان عليه

أن يوسف من المخلَصين فلا سلطان للشيطان عليه الدليل الأول: تعلمون أن إبليس عليه لعنة الله أقسم بعزة الله جل وعلا أنه سيبذل كل ما يملك لإغواء بني آدم وإضلالهم عن طريق ربهم جل وعلا، إلا أن الشيطان قد استثنى صنفاً من بني آدم ثبت أنه عاجزٌ عن إغوائه وإضلاله، فقال إبليس: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص:82 - 83]. المخلَصين: بفتح اللام، وهذه الصفة هي التي شهد الله جل وعلا بها ليوسف عليه السلام، فحينما شهد الله ليوسف بأنه من عباده المخلَصين، وإبليس قد استثنى المخلَصين من الإغواء والإضلال؛ دل ذلك على أن إبليس ما كان له سلطانٌ على يوسف عليه السلام، قال ربنا جل وعلا: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24] والشيطان قال: لا أقدر على المخلصين. هذا هو الدليل الأول.

شهادة شاهد من أهل امرأة العزيز

شهادة شاهد من أهل امرأة العزيز الدليل الثاني: شهادة شاهدٍ من أهل امرأة العزيز {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ} [يوسف:26]، وجاء باحتمال صدقها أولاً لتكون الحجة عليها بعد ذلك أقوى وأبلغ {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ} [يوسف:26] لأنها تمنعه وتحول بينها وبينه فحتماً سيمزق القميص من القبل: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف:26 - 27] لأنه حينئذٍ سيجري بين يديها، وهي أمام ضعفها البشري وشهوتها العارمة الجامحة ستضطر إلى أن تجذبه من قميصه من الخلف، فيتمزق القميص بين يديها، فالتفت إلى القميص من الأمام وإذا به سليم معافى، لم يمسسه سوء، ثم وجد أن القميص مزق من الخلف {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} [يوسف:27 - 29] {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} [يوسف:29] استر هذا الأمر، لا تتحدث به ولا تتكلم، وأنتِ استغفري لذنبكِ إنكِ كنت من الخاطئين، هكذا فقط!

شهادة امرأة العزيز على نفسها

شهادة امرأة العزيز على نفسها الدليل الثالث على براءة يوسف: شهادة امرأة العزيز على نفسها! ماذا قالت؟ {قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ * وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [يوسف:51 - 53].

فتنة امرأة العزيز وكيد النساء

فتنة امرأة العزيز وكيد النساء وتبدأ القصة -أيها الأحبة- بقول الله جل وعلا: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} [يوسف:23] اسمعوا إلى أول كلمة نطق بها شابٌ في عنفوان شبابه، وفي عنفوان مراهقته وفتوته وشهوته، أول كلمةٍ نطق بها هذا التقي النقي: {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف:23] أي إنه سيدي العزيز الذي تقبلني وأكرمني وأحسن معاملتي وتربيتي، وذلك يوم أن قال لامرأته أول الأمر: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} [يوسف:21] وأكرم العزيز مثواه وأكرم تربيته، فقال يوسف هذا الكريم الذي قدر هذا الكرم: {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف:23].

وجود المؤهلات والمغريات للوقوع بها

وجود المؤهلات والمغريات للوقوع بها ولكن المرأة بعد المراودة المكشوفة، وبعد هذه الألفاظ العارية عن كل ذرة حياء، وهي امرأة العزيز! صاحبة الجاه والجمال! صاحبة المال والسلطان! وهو عبدها وخادمها الذي يخدمها في البيت! ومع ذلك مالت إليه وهو خادمها، وهذا يؤكد لنا حقيقةً سنخلص إليها؛ ألا وهي خطورة الخلوة بين الرجل والمرأة مهما كان تقى المرأة ومهما كان إيمان الرجل، إن الميل الفطري بين الرجل والمرأة ميلٌ عميقٌ في تكوين النفس البشرية، لا ينفك عنها ألبتة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. لا يمكن على الإطلاق أن يخلو رجل بامرأة إلا وتتجلى دوافع النفس البشرية وفطرتها حتماً لا محالة في ذلك، أما هؤلاء الذين يكذبون على أنفسهم ويضللون أبناء أمتهم، ويقولون بالدعوة إلى الاختلاط بين الجنسين، بحجة أن الرجل إذا اختلط بالمرأة خف عنده الكلف الجنسي، ونظر إلى الأمر بعد ذلك على أنه أمرٌ عادي!! ويأبى الله إلا أن يظهر الحق ويزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً، والواقع يؤكد صدق ذلك، وإن كنا لسنا في حاجةٍ إلى واقعٍ ليؤكد كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن رسول الله لا يقول إلا عن ربه. مراودة مكشوفة: {وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} [يوسف:23] وفي بعض القراءات: (هِئْتُ لَكَ) هيأت المرأة نفسها وزينت نفسها وتجملت وتعطرت، وأعدت الفراش، ونادت عبدها وخادمها، وقد أغلقت الأبواب باباً تلو الباب، ولا يوجد في هذا البيت إلا هي وهو {وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ} [يوسف:23] وبعد هذه المراودة المكشوفة تصر المرأة على شهوتها التي وصلت إلى عنفوانها، وقد تناست الأخلاق والدين والقيم والإيمان والأعراض، المرأة حينما تضعف أمام شهوتها تنسى كل شيء، إلا من رحم الله جل وعلا {وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف:23]. {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} [يوسف:24] أي: إلى هذا العمل، همَّ فِعْلٍ، وهذا هو رأي جمهور المفسرين، وهمَّ بها هم نفسٍ، فهو بشر، وإن أعظم مرحلةٍ وفترةٍ تتجلى فيها عظمة يوسف عليه السلام أن يدعى إلى هذا الأمر وأن يذكر بالله جل وعلا، فيتذكر فيعرض عن الفاحشة، إنها له وليست عليه: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف:24] لسنا في حاجةٍ إلى أن نلهث وراء الإسرائيليات والأساطير التي ذكرت في هذه السورة بصفةٍ خاصة، لا يهمنا أن نتعرف على طبيعة هذا البرهان، المهم أن نعرف أن الله جل وعلا ذكره فتذكر، تذكر جلال الله، وتذكر نبوة والده يعقوب، وأنه من بيت نبوة، ابن طاهرٍ نقيٍ عفيف.

عفة يوسف عليه السلام

عفة يوسف عليه السلام (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ * وَاسْتَبَقَا الْبَابَ} [يوسف:24 - 25] انظروا إلى هذه الآية {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ} [يوسف:25] جرى يوسف من بين يديها وجرت المرأة خلفه، وفي الآية الأولى قال: {وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ} [يوسف:23] وفي هذه الآية يقول: {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ} [يوسف:25] وهذا دليل على أن يوسف قد قصد الباب الذي يستطيع أن يخلص منه وأن ينجو منه، ولكن المرأة أمام ضعفها وضعف شهوتها ما تركته، وإنما جرت خلفه وأمسكته من قميصه من الدبر؛ ليلتفت إليها وهي في كامل زينتها وأنوثتها وجمالها وطيبها وعطرها، إلا أن الله جل وعلا قد منَّ على يوسف حينما رأى يوسف ورأت المرأة سيدها -أي العزيز - وشاهداً معه، وبرَّأ الشاهد يوسف عليه السلام، بعد كيد المرأة المتقن المصحوب بالحب والحرص على يوسف. {قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يوسف:25] لا تريد له الموت، وإنما تريد أن يبقى يوسف أمام عينها لا يموت، ففي السجن قد تستطيع أن تصل إليه وأن تراه {إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يوسف:25] أما الموت فلا، ولا تستحي المرأة بعد ذلك أن تعلن هذا الأمر علانيةً بتبجحٍ عجيبٍ ووعيدٍ غريب، أمام المجتمع النسوي الذي اجتمع في بيت امرأة العزيز، متعجباً كيف لامرأة العزيز وهي من هي في الشرف والحسب والنسب والجمال والمال والسلطان، أن تنظر إلى خادمها وعبدها وفتاها الذي هو في بيتها؟! وأعدت المرأة لهن المتكأ كما تعلمون، وجملت وزينت يوسف عليه السلام، وأمرته أن يخرج عليهن {وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف:31] وهذا يدلنا على قدر الجمال الذي منَّ الله جل وعلا به على يوسف، ما هذا بشراً! إن هذا إلا ملكٌ كريم! وهنا أعلنت المرأة عن رغبتها بمنتهى الصراحة ومنتهى العلانية فقالت: {وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلِيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ} [يوسف:32].

لجوء يوسف عليه السلام إلى ربه جل وعلا

لجوء يوسف عليه السلام إلى ربه جل وعلا اعترف يوسف بضعف بشريته، ما نظر إلى عصمة الله له، ما استعلى ولا تعالى وإنما عرف ضعفه وعجزه البشري فلجأ إلى الله جل وعلا يطلب منه العصمة ويطلب منه المدد، فقال: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف:33] انظروا الدعوة لم تعد ليوسف فردية من امرأة العزيز وإنما أصبحت الدعوة جماعية، رغبة ملحة جماعية من جميع النسوة اللاتي حضرن ورأينَ يوسف عليه السلام {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [يوسف:33 - 34] الذي يسمع ويعلم صدق نيته، وصدق تضرعه ولجوئه إلى الله جل وعلا، ليعصمه من هذه الفتنة الصماء البكماء العمياء.

تحريم الشارع الخلوة بين الرجل والمرأة

تحريم الشارع الخلوة بين الرجل والمرأة وهنا -أيها الأحباب- أقول لكم: هذه هي خطورة الخلوة بين الرجل والمرأة، فوالله ما خلا رجلٌ بامرأةٍ قط إلا كان الشيطان ثالثهما في هذه الخلوة، يجمل المرأة للرجل ويزين الرجل للمرأة، فترى المرأة الرجل الأجنبي جميلاً ولو كان قبيحاً، ويرى الرجل المرأة الأجنبية جميلةً ولو كانت ذميمة، ولذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم وحرم الخلوة بين الرجل والمرأة أياً كان هذا الرجل وأياً كانت هذه المرأة، فقال في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عباس: (لا يخلون رجلٌ بامرأة إلا ومعها ذو محرم). أيها الحبيب! هذا تحذيرٌ لك بينٌ من رسول الله، الذي لا ينطق عن الهوى: (لا يخلون رجلٌ بامرأة إلا ومعها ذو محرم) لماذا يا رسول الله؟ لأنها لو خلت بهذا الرجل بغير محرم فحتماً سيشاركهما الشيطان في هذه الخلوة، كما ورد في الحديث الذي رواه أحمد والحاكم والترمذي بسندٍ حسنٍ صحيح من حديث عامر بن ربيعة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما خلا رجلٌ بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان). حتى ورد في صحيح البخاري ومسلم من حديث ابن عباس: أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوماً وقال: (يا رسول الله! إن امرأتي خرجت حاجة -خرجت للطاعة لحج بيت الله الحرام- وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا؟ -أتدرون ماذا قال له الحبيب صلى الله عليه وسلم؟ - قال: ارجع -اترك الجهاد واترك الغزوة وارجع- فحج مع امرأتك) وحذر النبي صلى الله عليه وسلم تحذيراً صريحاً واضحاً بيناً من الدخول على المرأة الأجنبية في غياب زوجها أو أحد محارمها، حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك فقال كما روى البخاري ومسلم من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم والدخول على النساء؟! فقال رجلٌ من الأنصار: يا رسول الله! أفرأيت الحمو؟ فقال صلى الله عليه وسلم: الحمو الموت) وزاد مسلم في روايته: قال الليث: (الحمو أخو الزوجِ أو أقارب الزوج). يدخل على زوجة أخيه في غياب الزوج! هذا كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ حتى لا نتهم بالتطرف، ويقال: كيف لا يدخل أخي على زوجتي في غيبتي! لا يدخل، ولست أَدرى بالمرأة وطبيعتها من خالقها جل وعلا، ولا ممن لا ينطق عن الهوى. ووالله ما وقعت المصائب التي تعمي الأعين وتصم الآذان وتخلع القلوب إلا يوم أن أعرضنا عن منهج الله، وعن شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم، الرسول يحذرك ألا يدخل أخوك على زوجتك في غيبتك: (الحمو الموت) لأنه يدخل على مرأى ومسمعٍ من الناس، من هذا؟ إنه عم الأولاد، إنه أخو الزوج فليدخل في أي وقتٍ شاء، بدون أدنى حرج، وبدون قيود وشروط، لماذا؟ دخل لينظر إلى أبناء أخيه، هذا واردٌ لا شك فيه، ولا ننكره، أما أن يدخل في غياب الزوج، ولو كان الزوج أخاه، فلا يجوز ألبتة، ولو خلا أخو الزوج بزوجة أخيه فإنما هي خلوةٌ محرمةٌ في دين الله جل وعلا، والزوج آثم والمرأة آثمة، حتى ولو لم تقع المصيبة والفاحشة. واعلموا أن الشيطان له خطوات، لذا لم يحذرنا الله جل وعلا من الشيطان دفعةً واحدة، وإنما قال: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة:208] انتبهوا أيها الأخيار! ولا تتبعوا خطوات الشيطان، الشيطان له خطوةٌ تلو خطوة، لن يأتي من أول الأمر ليزين زوجة الأخ لأخيه، أو أقارب الزوجة أو غير ذلك، وإنما هي خطوات.

مشهد يبين خطورة خلوة الرجل بزوجة أخيه

مشهد يبين خطورة خلوة الرجل بزوجة أخيه ولعلي أذكركم بما طالعتنا به الجرائد ومنكم من قرأ هذا الخبر: طالعنا الجرائد يومياً وهذا كثير، وهذه ثمرة حنظلٍ مرة؛ لبعد الناس عن منهج الله ومخالفتهم لمنهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، تطالعنا الجرائد كل يومٍ بمآسي يشيب لها الولدان، ومن بين هذه المآسي: أن رجلاً ترك زوجته وسافر، وترك لها في البيت كل ألوان الفساد؛ من تلفاز وفيديو وتركها وانصرف، والمرأة مرأة! ودخل أخو الزوج لينظر أحوال أولاد أخيه، وهذا لا عيب فيه، أما في غياب الزوج فكل العيب فيه، ودخل الرجل وكانت المرأة قد أعدت لبناتها غرفةً خاصة، وفي هذه الغرفة وضع التلفاز مع الفيديو، ومرت الأيام وتابع الشيطان خطواته، ولعب الشيطان على حبائله، وذات مرة وقعت هؤلاء البنات أمام فتنة شريطٍ جنسي، وأخذن الشريط، وفي غيبةٍ من مراقبة الأم دخلت البنات غرفتهن ووضعن الشريط وشاهدنه المرةً تلو المرة، وفي ليلةٍ من الليالي وضعت البنات شريط الفيديو الجنسي القذر، ونسينه وخرجن إلى مدرستهن، وفي هذا اليوم عاد عمهن لينظر ما أمرهن، ودخل الرجل إلى بيت أخيه في غياب أخيه، فاستقبلته الزوجة وفتحت له الدار إنها عادة، ولا حرج في ذلك، والأمر عادي، ولا تضيقوا علينا -أيها المشايخ- لا تكونوا متطرفين، إن الأمر ليس فيه شيءٌ أكثر من أن ينظر الرجل إلى أحوال أولاد أخيه ويخرج، نحن لا ننكر هذا إطلاقاً، ولكن الشيطان له خطوات، وربما وقع هذا وربما حفظ الله هذا. ودخل الرجل إلى غرفة بنات أخيه وجلس، وبدلاً من أن يجلس هكذا فارغاً امتدت يده ليقضي الوقت حتى ترجع البنات، وفتح الفيديو على هذا الشريط الجنسي القذر، ولم يعد الرجل قادراً على أن يغلق، فوالله إنها لمشاهد تحول النُسّاك العُبّاد إلى فساقٍ فجار إلا من رحم الله جل وعلا، وامتدت يد الرجل وفتح الجهاز، وشخص بصره وسمطت أنفاسه أمام مشهدٍ مرعب، وجلس الرجل ضعيفاً مستسلماً، وكانت زوجة أخيه تعد له كوباً من الشاي وهي لا تعلم عن الأمر شيئاً، ودخلت فشد نظرها هذا المشهد المرعب لأول مرة، ووقفت المرأة شاخصةً ببصرها إلى هذا، وأمام شهوتها العارمة الجامحة تضعف المرأة أمام هذا المشهد، ويضعف أخو زوجها، ويقوم الرجل أمام ضعف المرأة ويزني بزوجة أخيه. الأدهى من ذلك أن الأمر بعد ذلك أصبح معتاداً، وكان الرجل يذهب إلى زوجة أخيه مراراً وتكراراً ليقضي معها الفاحشة والعياذ بالله! إنها ثمرة حنظلٍ مرة؛ لأننا أعرضنا عن منهج الله، وأعرضنا عن شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن الذي يحذرنا هو خالق البشر: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]. فالله الله في نسائكم أيها الأخيار! الله الله في حرماتكم أيها الأطهار! فإن الذي يحذرنا من الخلوة هو من لا ينطق عن الهوى، وهاهي امرأة العزيز وهي من هي! وها هو يوسف وهو من هو! تعرضهم الخلوة إلى الوقوع في الفاحشة لولا ستر الله جل وعلا، وفضل الله ورحمته جل وعلا بيوسف عليه السلام.

صور الخلوة المحرمة

صور الخلوة المحرمة أيها الأحبة: وقبل أن أُنهي أود أن أحذر وأن أذكر ببعض صور الخلوة المحرمة منها: أولاً: خلوة الرجل بخادمته في البيت. ثانياً: خلوة المرأة بخادمها في البيت. ثالثاً: خلوة الخطيب بمخطوبته، بحجة أن الرجل قد خطب المرأة، لا يصح أن يخلو الخطيب بمخطوبته، ينظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينهما، فإذا ما أعجبته وأعجبها يفصل بينهما ولا يجلسان في خلوةٍ أبداً حتى يعقد عليها لتصبح زوجته. ومن صور الخلوة المحرمة: خلوة السائق بالمرأة في السيارة، ولا يعلم طبيعة الحديث الذي يدور بينهما إلا من يعلم السر وأخفى. ومن صور الخلوة المحرمة: أن يخلو الطبيب بالمريضة بدون محرم، هذه خلوةٌ محرمةٌ شرعاً، لا يجوز لك أن تدع زوجتك أو ابنتك أو أختك أو أمك عند الطبيب بدون محرم، وإنما يجب عليك أن تدخل معها حتى لا تقع الخلوة المحرمة. هذه بعض صور الخلوة المحرمة -أيها الأحباب- وأختم بهذا المشهد الذي أسوقه للأخوات الفضليات المسلمات القانتات الحافظات.

إن أكرمكم عند الله أتقاكم

إن أكرمكم عند الله أتقاكم للتقوى منزلة عظيمة، ولذلك فقد أمر الله بها الأولين والآخرين، وأمر بها الأنبياء والمرسلين، وهي الميزان الحقيقي الذي يخفض ويرفع في الإسلام، فمن استكمل شروطها، وأدى أركانها، كان حقاً على الله أن يسعده في الدنيا والآخرة. وأما التفاخر بالأحساب، والتعاظم بالأنساب فإن ذلك من عبية الجاهلية، لا يرفع الإسلام لذلك راية، ولا يحقق لمن قام به غاية.

جميع الناس مأمورون بالتقوى

جميع الناس مأمورون بالتقوى بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أما بعد: فمع اللقاء الحادي عشر، وما زلنا نعيش في رحاب سورة الحجرات، وما زلنا نعيش مع هذه القواعد التشريعية العظيمة، التي وضعها العليم الخبير جل وعلا؛ لصيانة المجتمع الإسلامي من: التمزق، والتشتت، والتفكك، والضغائن، والأحقاد. ونحن اليوم على موعد مع قاعدة تشريعية جديدة، نبني من خلالها المجتمع المسلم، نحن اليوم مع مبدأ كريم، ألا وهو: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، فبعد هذه النداءات المتكررة في سورة الحجرات للمؤمنين، يأتي النداء العام للإنسانية كلها، على اختلاف أجناسها وألوانها وألسنتها، يأتي هذا النداء بهذا المطلع المهيب. (يا أيها الناس) يا أيها المختلطون أجناساً وألواناً وألسنة! يا أيها المتفرقون شعوباً وقبائل! يا أيها الناس من لدن آدم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها! يا أيها الناس! إن أصلكم واحد فلا تختلفوا، ولا تفتخروا على بعضكم بعضاً، ولا يتعال بعضكم على بعض، إن ربكم واحد، وإن أصلكم واحد، وهو: آدم عليه السلام. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13]، ولقد ذكر الإمام ابن الجوزي في زاد المسير، في سبب نزول هذه الآية: أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة أمر بلال رضي الله عنه أن يصعد على ظهر الكعبة ويؤذن، فلما صعد بلال رضي الله عنه ليرفع الأذان على ظهر الكعبة، في البلد الذي طرد منه النبي صلى الله عليه وسلم، وشاء الله جل وعلا أن يعود إليه رسوله عليه الصلاة والسلام؛ لينشر فيه أنوار التوحيد والإيمان. فقام بلال رضي الله عنه ليرفع الأذان على ظهر الكعبة، فقال الحارث بن هشام: أما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذناً؟! فنزل قول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى} [الحجرات:13]. وله شاهد عند الإمام السيوطي في الدر المنثور، وعزى هذا الحديث إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن أبي مليكة: (أما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذناً)، فنزلت هذه الآية؛ لتربي القلوب، وتهذب الضمائر والأخلاق، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13].

التقوى ميزان التفاضل في الإسلام

التقوى ميزان التفاضل في الإسلام لا مجال في الإسلام لهذه الرايات الزائفة، ولا مجال في الإسلام لهذه العصبيات الجاهلية العفنة المنتنة، لا مجال في الإسلام لعصبية العرق، ولا لعصبية الأرض، ولا لعصبية الوطن، ولا لعصبية الجنس، ولا لعصبية اللون، ولا لعصبية اللغة، وهذا الأساس كان القرآن قد وضعه قاعدة لبناء المجتمع الإسلامي من قبل مئات السنين، قبل أن تتغنى الدول الديمقراطية بهذا المبدأ، {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]. إن كل هذه الرايات لا مجال لها أن ترفرف في سماء الإسلام، كل هذه الموازين إلى زوال، وكل هذه القيم إلى فناء، إن الميزان الحقيقي الذي يخفض ويرفع، إنما هو ميزان التقوى، (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)، والحديث رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، هذا هو الميزان، وهذا هو المقياس الذي يخفض ويرفع، عند رب الناس جل وعلا. وفي الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم فتح مكة، فقال: يا أيها الناس! إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية، وتعاظمها بآبائها، فالناس رجلان: بر تقي كريم على الله. وفاجر شقي هين على الله. ثم قال صلى الله عليه وسلم: إنكم لآدم، وإن الله خلق آدم من تراب، ثم تلى النبي صلى الله عليه وسلم قول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13]). فلا فخر بالأنساب، ولا فخر بالجاه، ولا فخر بالسلطان، وهذا الحديث رواه الإمام الترمذي بسند حسن من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ورواه أيضاً الإمام الترمذي من حديث عبد الله بن عمر وقال: حديث غريب. وفي الحديث الآخر عن جابر بن عبد الله أنه قال: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوسط أيام التشريق، فقال: أيها الناس! أيها الناس! ألا إن ربكم واحد، ألا إن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأسود على أحمر، ولا لأحمر على أسود، إلا بالتقوى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13])، والحديث رواه الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح. لا ميزان في الإسلام إلا للتقوى، ولا لواء يرفع في دين الله إلا لواء التقوى، {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، وهذا اللواء الذي رفعه محمد صلى الله عليه وسلم ساوى بين بلال الحبشي، وصهيب الرومي، وسلمان الفارسي، وحمزة القرشي، ومعاذ الأنصاري، فلا تفاضل إلا بالتقوى، ولذلك فخر وتفاخر بهذا النسب سلمان الفارسي رضي الله عنه فقال: أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم فلقد رفع الإسلام سلمان فارس ولقد وضع الكفر الشريف أبا لهب.

انقطاع العلائق والأنساب يوم القيامة

انقطاع العلائق والأنساب يوم القيامة وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان يوم القيامة، أمر الله منادياً يقول هذا المنادي: إني قد جعلت لكم نسباً، وجعلت أكرمكم أتقاكم، فأبيتم إلا أن تقولوا: فلان بن فلان خير من فلان بن فلان، فاليوم أضع نسبكم، وأرفع نسبي، أين المتقون؟) والحديث رواه البيهقي، ورواه الإمام ابن المنذر، والحاكم وصححه، نقلاً عن الإمام السيوطي في الدر المنثور. قلت: وله شاهد من حديث أبي هريرة الطويل في فضل العلم الذي رواه مسلم وأبو داود والترمذي وابن حبان وصححه، والحاكم في المستدرك وقال: صحيح على شرط الشيخين: البخاري ومسلم، وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم (من أبطأ به عمله، لم يسرع به نسبه). وصدق الله جل وعلا إذ يقول: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ} [المؤمنون:101]، ينقطع كل نسب إلا نسب التقوى، {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون:101 - 104]، إلى آخر الآيات. نعم، إن الميزان الحقيقي الذي يرفع ويخفض هو: ميزان التقوى، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى} [الحجرات:13].

أصناف الخلق

أصناف الخلق قال علماؤنا: لقد خلق الله الخلق على أربعة أصناف: خلق الله عز وجل آدم من غير أب ومن غير أم. وخلق الله حواء من أب دون أم. وخلق الله عيسى من أم دون أب. وخلق الله سائر الناس من الأب ومن الأم. وهذا دليل على كمال قدرة الله جل وعلا، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى} [الحجرات:13]، ورحم الله من قال: الناس من جهة الأصل أكفاء أبوهم آدم والأم حواء نفس كنفس وأرواح مشابهة وأعظم خلقت فيهم وأعضاء وإن يكن لهم من أصلهم حسب يفاخرون به فالطين والماء ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم على الهدى لمن استهدى أجلاء فقدر كل امرئ ما كان يحسنه والجاهلون لأهل العلم أعداء ففز بعلم تعش حياً به أبداً الناس موتى وأهل العلم أحياء {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13]، وهكذا تذوب جميع الفوارق، وتسقط جميع هذه الرايات المنتنة، التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: (دعوها فإنها منتنة) هذه العصبيات الجاهلية الممقوتة، التي نجح أعداء ديننا في بذرها في قلوب كثير من المسلمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، لا راية في الإسلام إلا للتقوى، ولا ميزان في الإسلام يخفض ويرفع إلا للتقوى، {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]. ولما سئل النبي صلى الله عليه وسلم -كما ورد في الحديث الذي رواه البخاري -: (يا رسول الله! أي الناس أكرم؟ قال: أكرمهم عند الله أتقاهم) إلى آخر الحديث.

تعريف التقوى وأركانها

تعريف التقوى وأركانها فما هي التقوى؟! الجواب على هذا السؤال يحتاج إلى وقت طويل جداً، ولكنني سأوجز الجواب عن هذا السؤال الهام؛ لأني قد أفردت خطبة كاملة قبل ذلك للحديث عن التقوى، وهذا من باب: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55]؛ فما هي التقوى أيها الأحباب؟ التقوى هي: وصية الله جل وعلا لجميع خلقه، ووصية النبي صلى الله عليه وسلم لجميع أمته، وهي الوصية التي ما زال يتوارثها سلفنا الصالح رضوان الله عليهم جميعاً، وقد عرفها أحد السلف فقال -نقلاً عن الحافظ بن رجب في جامع العلوم والحكم- التقوى: هي أن تعمل بنور من الله، في طاعة الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نور من الله، تخاف عقاب الله. وفي الحديث الذي أخرجه الحاكم وصححه من حديث عبد الله بن مسعود مرفوعاً وموقوفاً -وقال الحافظ بن رجب في كتاب جامع العلوم والحكم: الموقوف أصح- أنه قال في قول الله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران:102]، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر. إذاً: فأركان التقوى هي: أن يطاع فلا يعصى. وأن يذكر فلا ينسى. وأن يشكر فلا يكفر.

أول أركان التقوى: طاعة بلا معصية

أول أركان التقوى: طاعة بلا معصية الركن الأول: طاعة بلا معصية، والمعصية سبب لسخط الله جل وعلا في الدنيا والآخرة، ولها آثار خطيرة على العبد -عافانا الله وإياكم منها- ذكرها وأسهب في تفصيلها الإمام ابن القيم في كتابه القيم الداء والدواء، أو بعنوان آخر: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، حتى لا يلتبس الأمر على بعض الإخوة. إن للمعصية آثاراً خطيرة، وهي سبب لسخط الله جل وعلا في الدنيا والآخرة، والمعصية لها ظلمة في القلب، وأذكر نفسي وإخواني من طلبة العلم، بأن المعصية سبب رئيس من أسباب حرمان العلم، قال الشافعي: شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي وأوصاني بأن العلم نور ونور الله لا يهداه عاصي ومن آثارها الخطيرة: أن صاحب المعصية يحس للمعصية بظلمة وبوحشة في قلبه، لا يعلمها إلا الله، كما قال الحسن رحمه الله: أبى الله إلا أن يذل من عصاه، ورحم الله ابن عباس حينما قال: إن للحسنة ضياء في الوجه، ونوراً في القلب، وقوة في البدن، وسعة في الرزق، ومحبة في قلوب الخلق، وإن للمعصية سوداً في الوجه، وظلمة في القلب، وضيقاً في الرزق، ووهناً في البدن، وبغضاً في قلوب الخلق. خل الذنوب صغيرها وكبيرها ذلك التقوى واصنع كماش على أرض الشوك يحذر ما يرى لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى إياك أن تحتقر معصية، فإن المؤمن ينظر إلى معصيته، على أنها كبيرة من الكبائر، ولو كانت من الصغائر، ولكن المنافق ينظر إلى عظم المعصية، كأنها ذبابة وقعت على أنفه فذبها عنه فطارت، لا تنظر إلى صغر المعصية، ولكن انظر إلى من عصيت! إن خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل: عليَّ رقيب فعليك أن تطيع الله جل وعلا، وأن تراقب الله في سرك وعلنك، ولقد أمسك أعرابي بأعرابية في الصحراء، وأراد أن يفعل بها الفاحشة، فقالت له الأعرابية: هل نام الناس في الخيام؟ فذهب الأعرابي فرحاً مسروراً بمعصية زائلة وبلذة فانية، وبمعصية تعرضه لسخط الله جل وعلا، وعاد إليها -وقد تملكه السرور- وهو يقول: أبشري لقد نام الناس جميعاً، ولا ترانا إلا الكواكب، فقالت له هذه المرأة النقية: وأين مكوكبها؟! {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:7]، لا تنظر إلى صغر المعصية ولكن انظر إلى من عصيت، وإن خلوت بنفسك فلابد أن تعلم أن الله جل وعلا يسمع ويرى: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى * قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى * قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:43 - 46] {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19]. إن خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت، ولكن قل: عليَّ رقيب

ثاني أركان التقوى: أن يذكر فلا ينسى

ثاني أركان التقوى: أن يذكر فلا ينسى الركن الثاني: (أن يذكر فلا ينسى)، والله إنه لشرف أن تذكر الله فيذكرك مولاك: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152]، والله لو ذكرت عند ملك من ملوك الأرض، أو عند حاكم من حكام الأرض، وذكرت بالخير لسعدت بذلك سعادة غامرة، فكيف إذا قيل لك: لقد ذكرك ملك الملوك، وجبار السماوات والأرض؟! {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [البقرة:152]، وفي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ، ذكرته في ملأ خير منهم) أي: ذكرت في الملأ الأعلى يا عبد الله! ذكر الله حصن حصين، يتحصن به الذاكر من شياطين الإنس والجن، إن مثل الذاكر لله جل وعلا، كمثل: رجل خرج العدو في أثره سراعاً، فأتى إلى حصن حصين، فاحتمى بهذا الحصن من عدوه، كذلك الذاكر لله جل وعلا، يحتمي بذكر الرحمن من الشيطان. فلا تغفل عن ذكر الله، وليكن لسانك دائماً رطباً بذكر الله، وإن ذكرت الله جل وعلا فأنت في كنفه ورعايته، والحديث عن الذكر طويل، إلا أن أفضل الذكر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم هو: (لا إله إلا الله) كلمة التوحيد والإيمان، (أفضل الذكر لا إله إلا الله).

ثالث أركان التقوى: أن يشكر فلا يكفر

ثالث أركان التقوى: أن يشكر فلا يكفر الركن الثالث: (وأن يشكر فلا يكفر)، وكم من نعم لله جل وعلا علينا وهي بحاجة إلى شكر، ولابد أن نفرق بين معنى الشكر والحمد، فإن معنى الشكر أعم من معنى الحمد: فإن الحمد يقترن باللسان والقلب، ولكن الشكر لابد له من أركان، لابد له من شكر القلب، وشكر اللسان، وشكر الجوارح والأركان، كما قال صاحب فتح المجيد رحمه الله: إن الشكر أعم من الحمد قال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} [سبأ:13]. ولقد وعد الله بالزيادة على الشكر: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7]. والشكر -كما قال الإمام ابن القيم - هو: الحافظ وهو الجالب: هو الحافظ للنعم، وهو الجالب للنعم، أو لفضل الله جل وعلا: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7]، والشكر لابد أن يكون بالقلب واللسان والأركان، فإن منّ الله عليك بنعمة المال وأردت أن تشكر الكبير المتعال، فشكرك لا يكون بالثناء فقط، وإنما يكون بالثناء على الله والإنفاق في سبيل الله. وإن منّ الله عليك بنعمة الصحة، فلا ينبغي أن تقتصر على أن تحمد الله فقط، بل ينبغي أن تستغل هذه النعمة في طاعة الله جل وعلا، لذا فإن الشكر يدور على ثلاثة أركان: الركن الأول: هو الاعتراف بنعمة الله جل وعلا. والركن الثاني: هو الثناء على الله جل وعلا. والركن الثالث: هو أن تستغل نعم الله في طاعة الله عز وجل. فلا تستغل نعم الله في معصية الله؛ لأن الذي من عليك بالنعم قادر على أن يسلب منك هذه النعم، ولا شك أن أفضل نعمة أمتن الله بها علينا هي نعمة التوحيد. ومما زادني شرفاً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا نعمة، لو ظللنا الليل والنهار نشكر الكبير المتعال عليها ما وفيناه حقها أبداً، وفي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)، أما أنت فلقد أمتن الله عليك بالتوحيد، من غير إرادة منك، ومن غير حول منك ولا قوة، وذلك فضل الله جل وعلا يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. فهذه هي أركان التقوى بإيجاز شديد، {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]. فالتقوى: أن يطاع الله فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر.

تعريف الإمام علي رضي الله عنه للتقوى

تعريف الإمام علي رضي الله عنه للتقوى وقال الإمام علي رضي الله عنه: التقوى هي: العمل بالتنزيل، والخوف من الجليل، والرضا بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل. (العمل بالتنزيل) سل نفسك: أين أنت من أوامر الله جل وعلا؟ وأين أنت من نهي الله جل وعلا؟ وأين أنت من حدود الله جل وعلا؟ هل نفذت أوامر الله؟ وهل انتهيت عن نواهي الله؟ وهل وقفت عند حدود الله جل علا؟ إن الله لم ينزل القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى الأمة من بعده لتحلى به الجدران، أو لتحلى به الصدور، أو ليقرأ على القبور، أو ليوضع في البراويز الذهبية والفضية، أو في علب القطيفة؛ ليهدى في المناسبات الرسمية وغيرها. {طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه:1 - 2]، يقول صاحب ظلال القرآن: يا محمد! ما أنزل الله عليك هذا القرآن لتشقى به، أو لتشقى بتكاليفه، أو لتشقى به أمتك من بعدك، ولكن ما أنزلنا عليك هذا القرآن إلا لتقيم به أمة، وإلا لتنشئ به دولة، وإلا لتربي به العقول والقلوب والضمائر والأخلاق، هذه مهمة القرآن. ويوم إن هجرت الأمة القرآن أذلها الله جل وعلا، ولا عزة للأمة إلا إذا عادت إلى مصدر عزها، ألا وهو قرآن ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم. اعرض نفسك على كتاب الله جل وعلا، لترى أين أنت من الأوامر والنواهي والحدود؟ وهذه من بنود التقوى. (والرضا بالقليل) أن تحمد الله جل وعلا على ما امتن به عليك، فإن من حرم القناعة لن يملأ عينه إلا التراب. النفس تجزع أن تكون فقيرة والفقر خير من غنى يطغيها وغنى النفوس هو الكفاف فإن أبيت فجميع ما في الأرض لا يكفيها هي القناعة فالزمها تكن ملكاً لو لم تكن لك إلا راحة البدن وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير القطن والكفن (والخوف من الجليل) أن تراقب الله جل وعلا في سرك وعلنك، وأن تخشى الله تبارك وتعالى. (والاستعداد ليوم الرحيل) لا تنشغل بهذه الفانية عن دارك الباقية، والله لست بمخلد في هذه الأرض. أيا عبد كم يراك الله عاصياً حريصاً على الدنيا وللموت ناسيا أنسيت لقاء الله واللحد والثرى؟ ويوماً عبوساً تشيب فيه النواصيا لو أن المرء لم يلبس ثياباً من التقى تجرد عرياناً ولو كان كاسيا ولو أن الدنيا تدوم لأهلها لكان رسول الله حياً وباقيا ولكنها تفنى ويفنى نعيمها وتبقى الذنوب والمعاصي كما هيا استعد ليوم ستعرض فيه على محكمة قاضيها الله، لا تقبل الرشوة، ولا تقبل المحسوبية، ولا تقبل المحاماة، ولا تقبل الاستئناف للأحكام، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46]. الاستعداد ليوم الرحيل، ليوم ستنام فيه على فراش الموت، ولا تستطيع قوة على ظهر الأرض أن تحول بينك وبين أمر الله جل وعلا. حتى ولو اجتمع إليك أطباء الدنيا فلن يستطيعوا أن يحولوا بينك وبين قدر الله عز وجل، {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19]، والحق: أنك تموت، والله حي لا يموت، والحق: أن ترى عند موتك ملائكة الرحمة، أو ملائكة العذاب، والحق أن يكون قبرك روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النيران. {ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19]، أي: ذلك ما كنت منه تهرب وتفر وتجري، تحيد إلى الطبيب إذا جاءك المرض، وتحيد إلى الطعام إذا أحسست بالجوع، وتحيد إلى الشراب إذا أحسست بالظمأ، ثم ماذا أيها القوي الفتي؟! أيها الذكي العبقري! يا أيها الكبير! ويا أيها الصغير! {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19]، وصدق من قال: كل باك فسيبكى، وكل ناع فسينعى، وكل مذكور سينسى، وكل مذخور سيفنى، ليس غير الله يبقى، من على فالله أعلى. (العمل بالتنزيل، والخوف من الجليل، والرضا بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل) هذه بعض اللمحات في التقوى، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من المتقين، إنه ولي ذلك ومولاه. وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

لا تزكوا أنفسكم إن الله أعلم بمن اتقى

لا تزكوا أنفسكم إن الله أعلم بمن اتقى الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا وحبيبنا محمد، وعلى آله وصحبه. هكذا يقول الحق جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:13]، لا من أجل أن يفخر بعضكم على بعض، ولا من أجل أن يتعالى بعضكم على بعض. {لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13]، عليم بكم، خبير بأموركم، فهو الذي يعلم التقي من الشقي، وهو الذي يعلم الصالح من الطالح، {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32]. أسأل الله جل وعلا أن يرزقني وإياكم لساناً ذاكراً، وقلباً شاكراً، وجسداً على البلاء صابراً، وأن يجعلنا وإياكم من المتقين، اللهم اجعلنا من المتقين، اللهم اجعلنا من المتقين، اللهم اجعلنا من المتقين، اللهم لا تحرمنا التقوى يا أرحم الراحمين، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم لا تدع لأحد منا ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا أديته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا حاجة هي لك رضا، ولنا فيها صلاح، إلا قضيتها ويسرتها يا رب العالمين. اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل اللهم فينا ولا منا ولا بيننا ولا حولنا شقياً ولا محروماً، اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا وحبيبنا محمد وعلى آله وصحبه.

فضل الدعاء

فضل الدعاء الإنسان في حاجة دائمة إلى أن يستلهم الرحمات ويقرع أبواب السماوات، ويناجي المولى لينال عظيم الأجر وحسن الثواب، ويرفع أكف الضراعة إلى الله في وسط أمواج الفتن الدهماء؛ لينجو من الشهوات والأمراض والهوى، ويتصل بالملك الأعلى. وفي هذه الرسالة يتحدث الشيخ عن فضل الدعاء وآدابه وشروطه.

أهمية اللجوء إلى الله في حياة المسلم

أهمية اللجوء إلى الله في حياة المسلم الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك وما كان معه من إله، الذي لا إله إلا هو، فلا خالق غيره ولا رب سواه، المستحق لجميع أنواع العبادة، ولذا قضى ألا نعبد إلا إياه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62]. أحمدك يا رب وأستعينك وأستغفرك وأستهديك، لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، جل ثناؤك، وعظم جاهك، ولا إله غيرك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الأول وهو الآخر وهو الظاهر وهو الباطن وهو بكل شيء عليم، هو الأول فلا شيء قبله، وهو الآخر فلا شيء بعده، وهو الظاهر فلا شيء فوقه، وهو الباطن فلا شيء دونه، وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الرسالة، وبلغ الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين؛ فاللهم اجزه عنا خير ما جازيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته. اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فمرحباً بكم أحبتي في الله، ومع اللقاء الثالث من لقاءات هذا الشهر الكريم المبارك، ولقد كان لقاؤنا الأول في هذا الشهر العظيم عن فضل الصوم، وكان لقاؤنا الماضي عن فضل القرآن، ولقاؤنا اليوم عن (فضل الدعاء). أحبتي في الله: إن الإنسان يعيش في عصر طغت فيه الماديات والشهوات، وكثرت فيه الفتن والشبهات، وكثرت فيه المطامع والرغبات، وكثرت فيه الأهواء والنزوات، واشتدت فيه الفتن والضوائق والكربات، وأصبح الإنسان المكروب في كل هذه الفتن في أمس الحاجة إلى حبل يربطه بخالقه جل وعلا، وفي أمس الحاجة إلى صلة تسكب في قلبه الأمن والإيمان، والراحة والسكينة، والهدوء والاطمئنان، وأصبح في أمس الحاجة إلى أن يتوقف طويلاً طويلاً ليلتقط أنفاسه؛ ليترك كل هذه الفتن وكل هذه الأهواء، وكل هذا العالم الذي يتخبط ويتلاطم في الصراعات والخلافات ليقف لحظة بين يدي الله جل وعلا، يرفع إليه أكف الضراعة مبتهلاً متذللاً متضرعاً، فيخشع قلبه، ويقشعر جلده، وتبكي وتدمع عينه، وبعدها يحس براحة لا يمكن على الإطلاق أن تعبر عنها كل الكلمات التي وردت في قواميس اللغة، ذلكم هو الدعاء. إنها الصلة التي تربط العبد الفقير العاجز بربه القوي الغني، إن الإنسان بحاجة إلى أن يتوقف ليرفع أكف الضراعة إلى الله جل وعلا، ورحم الله من قال: لبست ثوب الرجا والناس قد رقدوا وبتُّ أشكو إلى مولاي ما أجد وقلت يا أملي في كل نائبة ومن عليه لكشف الضر أعتمد أشكو إليك أموراً أنت تعلمها مالي إلى حملها صبر ولا جلد وقد مددت يدي بالذل مبتهلاً إليك يا خير من مدت إليه يد فلا تردنها يا رب خائبة فبحر جودك يروي كل من يرد إن الإنسان في حاجة إلى الدعاء، في حاجة إلى أن يقف على أبواب الرحمات، في حاجة إلى أن يحس بعجزه وفقره، وأن يعلم أنه لا ملجأ ولا ملاذ في هذا الكون من الله إلا إلى لله جل وعلا، وأن يلجأ إلى الله وهو يعلم عجزه، أي: ويعلم الإنسان عجزه وفقره وضعفه، وإذا لجأ إلى الله فإنما يلجأ إلى القوي الغني العزيز الحكيم. إن موضوع الدعاء موضوع كريم، ونظراً لأن هذا الموضوع طويل طويل فسوف أركز الحديث مع حضراتكم في عدة عناصر: أولاً: فضل الدعاء من القرآن والسنة. ثانياً: شروط لابد منها لقبول الدعاء، وانتبهوا أيها الأحبة؛ لأننا نرى كثيراً من الناس يشتكي ويقول: بأنني قد دعوت الله كثيراً كثيراً ولم يستجب الله جل وعلا لي، فما هي الأسباب؟ فانتبهوا معي يرحمنا الله جل وعلا وإياكم. ثالثاً: آداب الدعاء. رابعاً: من هم الذين يستجاب دعاؤهم. خامساً: من هم الذين يتقبل الله جل وعلا منهم الدعاء.

فضل الدعاء من القرآن والسنة

فضل الدعاء من القرآن والسنة والله لو لم يكن في فضل الدعاء من القرآن إلا آية سورة البقرة لكفى بها فضلاً ورحمة، ألا وهي قول الله جل وعلا: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186] إن هذه الآية -أيها الأحبة- آية عجيبة تسكب في قلب المؤمن اليقين والثقة، ويعيش منها المؤمن في جناب رضا الله عنه، وفي ود مؤنس، وفي حالة من الأمن والأمان، والسكينة والهدوء والاطمئنان. وفي هذه الآية لفتة عجيبة ينبغي أن ننتبه وأن نلتفت إليها: أولاً: ما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن سؤال إلا وكان الجواب من الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله جل وعلا: قل يا محمد كذا وكذا قال الله: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:189] {وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة:219] {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [البقرة:217] {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً} [البقرة:222] {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال:1] {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب:63] إلا في هذه الآية، فلم يقل ربنا جل وعلا لنبيه صلى الله عليه وسلم: وإذا سألك عبادي عني فقل، لا والله، وإنما تولى الله جل وعلا بذاته العلية الإجابة على عباده، فقال سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:186] ولم يقل: قل: يا محمد إني قريب، لماذا؟ حتى لا تكون هناك واسطة بين العبد وبين الله جل وعلا، ولو كانت هذه الواسطة هي رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا واسطة بين العبد وبين الله، ادع الله جل وعلا في أي وقت شئت، ارفع أكف الضراعة إلى الله، لا تسأل نبياً ولا تسأل ولياً، وإنما سل الله الواحد القهار، ارفع أكف الضراعة إليه في أي وقت شئت، بل وفي أي مكان شئت، لترى الله جل وعلا سميعاً بصيراً مجيب الدعاء. : {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:186] لا سؤال إلا منه، ولا طلب إلا منه، ولا رجاء إلا فيه، ولا توكل إلا عليه، ولا تفويض إلا إليه، ولا استعانة إلا به، ولا استغاثة إلا به، ولا ذبح إلا له، ولا نذر إلا له، ولا حلف إلا به، ولا طواف إلا ببيته جل وعلا، فلتكن عقيدتك وليكن توحيدك وإيمانك، أن ترفع إلى الله أكف الضراعة، بقولك: اللهم إني أبرأ من الثقة إلا بك، ومن الأمل إلا فيك، ومن التسليم إلا لك، ومن التفويض إلا إليك، ومن التوكل إلا عليك، ومن الصبر إلا على بابك، ومن الذل إلا في طاعتك، ومن الرجاء إلا لما في يديك الكريمتين، ومن الرهبة إلا لجلالك العظيم: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله). الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب : (من لم يسأل الله يغضب عليه) والحديث رواه الترمذي وغيره، وهو حديث حسن، وحسنه شيخنا الألباني في صحيح الجامع. الله أكبر! الله يريد منك أن تتذلل إليه، وأن تعلن عجزك وفقرك وحاجتك، وأن تلجأ إلى الله الغني القوي العزيز الحكيم؛ لأن: (الدعاء هو العبادة) والحديث صحيح صححه شيخنا الألباني في صحيح الجامع من حديث النعمان بن بشير أنه صلى الله عليه وسلم قال: (الدعاء هو العبادة) لأن الدعاء تذلل إلى الله، تضرع إلى الله، أن تلقي بحاجتك عند الله جل وعلا، وأن تسأل الله حاجتك: (الدعاء هو العبادة) بل: (ليس شيء أكرم على الله من الدعاء) أسمعتم يا عباد الله؟! والحديث رواه أحمد ورواه الإمام البخاري في الأدب المفرد، وهو حديث صحيح. الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب لأنه الفقير وإن كان غنياً؛ العاجز وإن كان في عرف الناس قوياً: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [فاطر:15 - 17]. أيها الإنسان! ما غناك إلى جوار غنى الله؟ ما قوتك إلى جوار قوة الله؟ ما عزك إلى جوار عز العزيز الحكيم؟ ما سلطانك وما ملكك إلى جوار ملك الملوك جل وعلا؟ أيها الإنسان! اعلم بأنك الفقير إلى الله: {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} [الانفطار:6 - 7] ذلكم هو الدعاء (إن الدعاء هو العبادة) (ليس شيء أكرم على الله من الدعاء). واسمعوا معي إلى هذا الحديث الذي يسكب الود والأمن والطمأنينة في قلوب المؤمنين سكباً، يقول النبي صلى الله عليه وسلم والحديث رواه أحمد وأبو داود، وحسنه شيخنا الألباني في صحيح الجامع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله حيي كريم، يستحي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردهما صفراً خائبتين) الله يستحي منك وأنت لا تستحي من الله؟! لا إله إلا الله! فارفع أكف الضراعة إلى الله جل وعلا، وقل لربك وخالقك ورازقك: بك أستجير ومن يجير سواكا فأجر ضعيفاً يحتمي بحماكا إني ضعيف أستعين على قوى ذنبي ومعصيتي ببعض قواكا أذنبت يا ربي وآذتني ذنوب ما لها من غافر إلاكا دنياي غرتني وعفوك غرني ما حيلتي في هذه أو ذاكا رباه قلب تائب ناجاكا حاشاك ترفض تائباً حاشاكا فليرض عني الناس أو فليسخطوا أنا لم أعد أسعى لغير رضاكا الجأ إلى الله جل وعلا، واعلم بأن الله سميع قريب يجيب الدعاء، يسمع دبيب النملة السوداء، تحت الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء، قال تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة:1] تقول أمنا عائشة رضي الله عنها: [والله لقد كنت في جانب الغرفة فما سمعت حوار المجادلة، وسمعه الله من فوق سبع سماوات] نعم إنه السميع القريب المجيب: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة:1] {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه:43] خطاب الله إلى موسى وهارون: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى * قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى * قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:43 - 46]. الله جل وعلا يسمع، الله جل وعلا يرى، الله جل وعلا يجيب، هذه صفات من صفات الله فلا تعطلوها، ولا تكيفوها ولا تمثلوها، ولا تقولوا بأن الله يسمع بكيفية كذا، ويرى بكيفية كذا، فكل ما دار ببالك -يا عبد الله- فالله بخلاف ذلك: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] لا تدركه العقول، ولا تكيفه الأذهان: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:103] جل عن الشبيه والمثيل والنظير، لا ند له ولا كفء له، ولا ولد له، ولا والد له، ولا مثيل له ولا شبيه: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4] جل ربنا تبارك وتعالى عن المثيل وعن الشبيه وعن النظير. ادع الله عز وجل، والجأ إلى الله جل علا، واعلم أن الله سميع بصير قريب مجيب الدعاء. وأختم هذا العنصر الأول في فضل الدعاء بهذا الحديث العظيم الجليل الكريم الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، يقول: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فجعل الناس يرفعون أصواتهم بالتكبير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم -المعلم والمربي والإمام والقدوة بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام- أيها الناس! أربعوا على أنفسكم، إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إنما تدعون سميعاً بصيراً، والذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته-: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16]- يقول أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: وأنا خلفه صلى الله عليه وسلم، أقول في نفسي: لا حول ولا قوة إلا بالله، فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: يا عبد الله بن قيس! ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ قلت: بلى يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: لا حول ولا قوة إلا بالله) وفي الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود وصححه شيخنا الألباني في صحيح ا

شروط لابد منها لقبول الدعاء

شروط لابد منها لقبول الدعاء ثانياً: من عناصر هذا اللقاء: شروط لابد منها لقبول الدعاء: وانتبهوا إلى هذا العنصر الهام؛ لأنه -كما ذكرت آنفاً- يشتكي كثير من الناس ويقول: دعوت الله ودعوت الله فلم يستجب لي، فما هي الشروط التي لابد منها لقبول الدعاء؟

الإخلاص

الإخلاص أولاً: إخلاص النية وإخلاص الدعاء لله جل وعلا، كما قال سبحانه: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر:14] الإخلاص سر القبول وهو: تصفية العمل بصالح النية عن جميع شوائب الشرك، والله تعالى لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً صواباً، والخالص هو: ما ابتغي به وجه الله، والصواب هو: ما كان موافقاً لشرع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن لا تنس الآخرة، ولا يشغلك جمع المال عن حقوق الكبير المتعال، هذا هو المراد المقصود.

إطابة المطعم

إطابة المطعم ثانياً: أيها الأحبة الكرام! أكل الحلال، أن تأكل من الحلال، وأن تشرب من الحلال، وأن تلبس من الحلال، وأن تتغذى من الحلال، واحذر تمرة تأكلها من الحرام، الرسول صلى الله عليه وسلم في ليلة من الليالي نظرته عائشة رضي الله عنها قلقاً متقلباً في فراشه، فسألته عليه الصلاة والسلام، أتدرون ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: (وجدت تمرة على فراشي فأكلتها، وأخشى أن تكون من تمر الصدقة) فإلى من ملئوا بطونهم بالحرام، اتقوا الله جل وعلا، واعلموا أن الله لا يقبل الدعاء ممن غذي بالحرام، وأكل من الحرام، وشرب من الحرام، ولبس من الحرام. وفي الحديث الجامع الذي رواه أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، ولقد أمر الله المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً} [المؤمنون:51] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:172] ثم ذكر صلى الله عليه وسلم الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب! يا رب! ومأكله حرام، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك) هذا كلام النبي صلى الله عليه وسلم. كيف تأكل الحرام وتدعو ويستجيب الله؟! كيف تلبس الحرام وتدعو ويستجيب الله؟! كيف تشرب الحرام وتدعو ويستجيب الله؟! كيف تتغذى بالحرام وتدعو ويستجيب الله؟! فأنى يستجاب لذلك؟! وذكر الإمام عبد الله بن أحمد بن حنبل رضي الله عنهما في كتاب الزهد لأبيه: أن بني إسرائيل قد أصابهم بلاء، فخرجوا إلى الصعيد يسألون الله جل وعلا، فأوحى الله إلى نبيهم وقال: قل لهم: الآن خرجتم إلى الصعيد بأبدان نجسة -نجستها المعاصي والذنوب- ورفعتم إلي أكفاً قد سفكتم بها الدماء، وملأتم بيوتكم من الحرام، الآن وقد اشتد غضبي عليكم، فلن تزدادوا مني إلا بعداً.

اليقين والثقة بالله تعالى

اليقين والثقة بالله تعالى أما الشرط الثالث من شروط قبول إجابة الدعاء: أن يكون الداعي على يقين وثقة بالله جل وعلا، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أحمد والترمذي وغيرهما وحسنه شيخنا الألباني أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يقبل دعاءً من قلبٍ غافل لاهٍ) يا له من دواء، وكم استمعت إلى شكاوى كثير من المسلمين، يشتكون من طول الدعاء وما ذاك إلا لأن قلوبهم لاهية؛ لأن قلوبهم قد انشغلت وهامت في كل وادٍ، ما تحرك قلبه وما خشع قلبه، وما اقشعر جلده، وما دمعت عينه، وما أحس باللذة في مناجاته لله جل وعلا، فلو استمع إلى خمس دعوات أو عشر دعوات لأحس بالملل والضجر والطول، لماذا؟ لأنه والله لو طهرت قلوبنا ما شبعنا من مناجاة ربنا جل وعلا، كيف وأنت تناجي القوي العزيز الكريم: (والله لا يقبل دعاء من قلب غافل لاه). وأخيراً أيها الأحبة! نقلاً عن الإمام القرطبي في الجامع لأحكام القرآن الكريم، قال: مر إبراهيم بن أدهم بسوق البصرة يوماً فالتف الناس حوله، وقالوا: يا أبا إسحاق! يرحمك الله، مالنا ندعو الله فلا يستجاب لنا؟ فقال إبراهيم: لأنكم أمتم قلوبكم بعشرة أشياء: عرفتم الله فلم تؤدوا حقوقه، وزعمتم حب رسوله ولم تعملوا بسنته، وقرأتم القرآن ولم تعملوا به، وأكلتم نِعَم الله ولم تؤدوا شكرها، وقلتم: بأن الشيطان لكم عدو ولم تخالفوه، وقلتم: بأن الجنة حق ولم تعملوا لها، وقلتم بأن النار حق ولم تهربوا منها، وقلتم بأن الموت حق ولم تستعدوا له، ودفنتم موتاكم ولم تعتبروا بهم، وانتبهتم من نومكم فانشغلتم بعيوب الناس ونسيتم عيوبكم. إنا لله وإنا إليه راجعون! أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

آداب الدعاء

آداب الدعاء الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلى الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك وزد عليه وعلى آله وصحبه. أما بعد فيا أيها الأحبة! ثالثاً: آداب الدعاء، فالدعاء له آداب كثيرة، وسوف ألخصها تلخيصاً لضيق الوقت:

تحري أوقات الإجابة

تحري أوقات الإجابة أولاً: يجب على الداعي أن يتحرى الأوقات والأحوال الشريفة التي يستجيب الله تعالى فيها الدعاء، وهي بحمد الله وفضله كثيرة في هذه الأمة الميمونة المباركة: أولاً: من الشهور، شهر رمضان، وفي الحديث الذي رواه الترمذي وحسنه وأحمد وغيرهما، وحسنه الحافظ ابن حجر من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة لا ترد دعوتهم -وأولهم- الصائم حين يفطر) لك دعوة مستجابة أيها الصائم، فلا تنس نفسك بهذه الدعوة المقبولة إن شاء الله جل وعلا. ومن الأيام يوم عرفة: (إن أكرم الدعاء يوم عرفة وهو دعاء مستجاب) كما ورد في حديث الترمذي وحسنه، وكذلك يوم الجمعة، فإن النصوص قد تواترت على أن في الجمعة ساعة إذا سأل العبد ربه حاجة استجاب الله جل وعلا وأعطاه إياها. كذلك من أوقات القبول ومن الأوقات التي يستجاب فيها الدعاء، ليلة الجمعة كيوم الجمعة أيضاً. ومن الأوقات التي يستجاب فيها الدعاء من الساعات: ساعات الثلث الأخير من الليل، ولقد ورد الحديث في البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ينزل الله تعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا) نزولاً يليق بكماله وجلاله، فكل ما دار ببالك فالله خلاف ذلك، فلا تقل: ينزل بكيفية كذا، أو كيف يتنزل الله جل وعلا؟ كما قرأنا في كتب لعلماء كبار أنهم يقولون: إن صفة النزول هي: تنزل رحمة الله جل وعلا، لماذا؟ هل أنت أعلم بالله من الله؟ هل أنت أعلم بالله من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ الرسول يقول: ينزل الله، ولكن صفة النزول إذا ما اقترنت بالله فإنها لا تشبه صفات المخلوق أبداً: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] (ينزل الله تعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يمضي ثلث الليل الأول، ويقول: أنا الملك، أنا الملك، من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له، حتى يضيء الفجر). فهيا أيها الحبيب قم في أوقات القبول، وفي أوقات الإجابة. أيضاً من الساعات التي يستجاب فيها: الدعاء بين الأذان والإقامة، والحديث رواه الترمذي وأحمد وصححه ابن خزيمة وابن حبان من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (الدعاء بين الأذان والإقامة لا يرد -وفي رواية الترمذي - قالوا: فماذا نقول يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: سلوا الله العافية في الدنيا والآخرة) أي: ادعوا الله جل وعلا بهذه الدعوة الجامعة: (اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة). وأيضاً من الساعات التي يستجاب فيها الدعاء وأنت ساجد بين يدي الرب جل وعلا، لقول النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث رواه مسلم: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا من الدعاء) وهكذا أيها الأحباب!

الخشوع والتذلل بين يدي الله

الخشوع والتذلل بين يدي الله ثانياً: من آداب الدعاء أن يكون الداعي خاشعاً متضرعاً مبتهلاً متذللاً إلى الله جل وعلا، فلقد ورد في الحديث الذي رواه البخاري من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه حتى رأيت بياض إبطيه).

عدم التعجل في الإجابة

عدم التعجل في الإجابة ثالثاً: من آداب الدعاء المهمة جداً: عدم التعجل، ورد في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يستجاب لأحدكم ما لم يعجل) وكثير منا يعجل، وفي رواية مسلم: (قيل: وما الاستعجال يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: يقول: قد دعوت وقد دعوت فلم يستجب لي، فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء) فليس من الأدب مع الله أن تتعجل على الله، بل من آداب الدعاء ألا تتعجل.

عدم الدعاء بإثم أو قطيعة رحم

عدم الدعاء بإثم أو قطيعة رحم رابعاً: من آداب الدعاء المهمة أيها الأحباب: ألا تدعوا بإثم أو بقطيعة رحم على أحد من الناس، وألا تدعو على أولادك، وكثير من الناس قد وقع في هذا المرض، يدعو على أمواله، وإذا غاظته زوجته دعا عليها، وإذا غاظه ولده دعا عليه، ويستجيب الله جل وعلا، وحينئذٍ يضع يده مرة أخرى على رأسه ويقول: يا رب يا رب! وهو سبب هذا البلاء، ورد في الحديث الذي رواه أبو داود بسند صحيح، أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا تدعوا على أنفسكم، ولا على أولادكم، ولا على أموالكم، فتصادفوا من الله ساعة نيل فيها عطاء فيستجيب لكم) هذا بإيجاز عن آداب الدعاء.

من هم الذين يستجاب لدعائهم؟

من هم الذين يستجاب لدعائهم؟ أما العنصر الأخير من عناصر هذا اللقاء هو: من هم الذين يستجيب الله جل وعلا لهم الدعاء؟ أولاً: الصائم. ثانياً: الإمام العادل. ثالثاً: المظلوم. والحديث كما ذكرته أنفاً رواه الترمذي وأحمد وغيرهما، وحسنه الحافظ ابن حجر من حديث أبي هريرة قال: (ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حين يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم؛ يرفعها الله فوق الغمام، وتفتح لها أبواب السماء، ويقول ربنا لهذه الدعوة: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين) واعلموا بأن الله تعالى لا يرد دعوة المظلوم ولو كانت من كافر، لا تقولوا بأن هذا كافر لا حرمة له، نعم. لا حرمة له؛ لأنه كافر نجس، ولكن لا تظلمه، ولا تأكل عليه حقه، ولا تأخذ منه حقه، أعطه حقه كاملاً موفوراً غير منقوص ولا تظلمه، فلو دعا عليك وهو كافر لاستجاب الله دعوته، وكفره على نفسه، وفجوره على نفسه، أما دعوة المظلوم فيرفعها الله فوق الغمام، ويقول لها: (وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين) وكانت وصية النبي صلى الله عليه وسلم لـ معاذ وهو ذاهب إلى اليمن: (واتق دعوة المظلوم -وكم من الناس لا يهتم بها، ولا يأبه لها- فإنه ليس بينها وبين الله حجاب). لا تظلمن إذا ما كنت مقتدراً فالظلم ترجع عقباه إلى الندم تنام عيناك والمظلوم منتبه يدعو عليك وعين الله لم تنم اعلم بأن الله يمهلك ولا ينساك ولا يغفل عنك، فإن كنت ظالماً لأحد من عباد الله ولأحد من خلق الله كافراً كان أو مسلماً، فرد إليه المظلمة قبل أن يأتي يوم لا درهم فيه ولا دينار، ولا مناصب ولا كراسي ولا وزارات، ويؤخذ من حسناتك -يا عبد الله- فتعطى لمن ظلمت، حتى إذا ما فنيت حسناتك أُخذ من سيئات من ظلمتهم في الدنيا فطرحت عليك، فطرح صاحب المظالم على وجهه في النار، وهذا هو المفلس، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! أيضاً ممن يستجيب الله لهم الدعاء: دعوة الأخ لأخيه بظهر الغيب، والحديث رواه مسلم: (ما من مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا قال الملك: ولك بمثل -وفي رواية أبي داود - إلا وقالت الملائكة: آمين ولك بمثل) فلا تنسنا أخي الحبيب بدعوة منك في ظهر الغيب، واعلم بأن الله جل وعلا سيستجيب منك هذه الدعوة وسيعطيك مثلها بموعود النبي صلى الله عليه وسلم. أيضاً دعوة المسافر -أيها الأحباب- فدعوة المسافر لا ترد، ودعوة الوالد على ولده لا ترد، هذا بإيجاز شديد.

تفريج الهم والغم

تفريج الهم والغم وأختم بعنصر أخير ربما نسيته في أول اللقاء وأنا أعدد العناصر ألا وهو: تفريج الهم والغم، ولقد تعمدت ذلك لكثرة الهموم والغموم والكربات، لتحفظوه أحبتي في الله، وأسأل الله جل وعلا أن يفرج عني وعنكم الهم والغم والكرب؛ إنه ولي ذلك ومولاه. وهذا الدعاء ورد في الحديث الذي رواه أحمد في مسنده، وأبو يعلى والبزار والإمام الطبراني، وصححه الإمام ابن القيم في بدائع الفوائد، وصححه شيخنا الألباني في سلسة الأحاديث الصحيحة من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ما أصاب أحداً قط هم ولا حزن، فقال: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن الكريم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب غمي وهمي، قال النبي صلى الله عليه وسلم: من قال هذه الدعوات أذهب الله همه وغمه، وأبدله مكانه فرحاً، قيل: يا رسول الله! أفلا نتعلمهن؟ فقال صلى الله عليه وسلم: بل ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن). أسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، اللهم تقبل منا الدعاء يا رب العالمين، اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن بطن لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها، اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن بطن لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها، اللهم اجعلنا من المقبولين، اللهم اجعلنا من المقبولين، اللهم تقبل منا دعاءنا، وتقبل منا صيامنا وقيامنا. اللهم قيض لأمة التوحيد أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، أنت ولي ذلك ومولاه. اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا وحبيبنا محمد وعلى آله وصحبه. هذا وما كان من توفيق فمن الله، وما كان من خطأ أو سهو أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.

العقل البشري ومنهج الله

العقل البشري ومنهج الله تحدث الشيخ عن تساؤل مهم وهو: هل يمكن للبشرية الاستغناء عن منهج الله مهما بلغت من تقدم علمي وتقني؟ ثم وضح أن البشر لما انحرفوا عن منهج الحق؛ وقعوا في ضحالة ومهانة وتردٍ في جوانب متعددة أمنية، وأخلاقية، واقتصادية، وأنه لا نجاة لهم إلا بالتمسك بالدين الإسلامي الدين الحق. وقد بين عجز العقل البشري عن التوصل إلى منهج كامل شامل، ذاكراً نتيجة الإعراض عن الدين الحق.

مصادمة العقل البشري لمنهج الله

مصادمة العقل البشري لمنهج الله إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة، وزكى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور، وطبتم جميعاً أيها الأطهار الأخيار الكرام وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله جل وعلا أن يجزيكم على هذا الجهد، وهذه المشقة، وهذا الصبر تحت حرارة هذه الشمس؛ أن يجزيكم خير الجزاء بمنه وكرمه وفضله، إنه ولي ذلك وولي العطاء، أسأل الله تبارك وتعالى أن يجمعني وإياكم في الدنيا دائماً وأبداً على طاعته، وفي الآخرة مع سيد الدعاة وإمام النبيين في جنته ومستقر رحمته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! هل أصبحت البشرية اليوم قادرة على أن تقود نفسها بعيدة عن منهج الله؟ هل أصبحت البشرية اليوم قادرة على أن تعيش بعيداً عن منهج الله؟ أقول: سؤال يقفز إلى أذهان الكثيرين في قرننا العشرين، في وقت بلغت فيه البشرية هذا المبلغ من التقدم العلمي والمادي المذهل، فغاصت بعيداً في أعماق البحار، وانطلقت بعيداً في أجواء الفضاء، وفجرت الذرة، بل وحولت البشرية من خلال هذه التقنية الحديثة في عالم المواصلات والاتصالات، حولت العالم كله إلى قرية صغيرة، ما يحدث هنا يسمع ويرى هنالك في نفس اللحظة.

دعوة شيطانية للتمرد على منهج الله

دعوة شيطانية للتمرد على منهج الله مع هذا التقدم العلمي والمادي الذي يأخذ العقول والألباب، نفخ كثير من شياطين الإنس في عقول كثيرٍ من البشر دعوة التمرد على منهج الله جل وعلا بحجة واهية سخيفة ألا وهي: أن في الانقياد لمنهج الله حجر على هذا العقل البشري المارد العملاق الذي استطاع أن يصل إلى ما وصل إليه في هذا القرن العشرين، إن هذا العقل الذي فجر الذرة، وغاص في أعماق البحار، وانطلق بعيداً في أجواء الفضاء، واخترع القنبلة النووية، وصنع الصاروخ والطائرة، بل ووصل إلى سطح القمر، إن هذا العقل ينبغي أن ينطلق ليقنن لنفسه وليشرع لنفسه، كما اختار لنفسه هذه التقنية العلمية في جانب الدنيا؛ لأن الانقياد لمنهج الله حجر على هذا العقل المارد العملاق، الذي وصل إلى ما وصل إليه. دعوة متبجحة جريئة، بدأ يؤجج نارها ويشعل فتيلها كثير من العلمانيين لا في مصر وحدها، بل في كل أنحاء الدنيا، بحجة ما وصل إليه العقل البشري من تقنية وتقدم علمي مذهل. أيها الأحباب الكرام! نحن المسلمين لا ننكر ما وصلت إليه البشرية من تقدم علمي، ولكننا على يقين جازم أيضاً أن الحياة البشرية لا تقف عند هذا الجانب المادي فحسب، ولا يمكن على الإطلاق لطائرٍ جبار عملاق أن يحلق في أجواء الفضاء بجناح واحد، ولو نجح في ذلك لفترة ولو طالت فإنه حتماً ساقط منكسر؛ لأن الحياة ليست كلها مادة، ولا تقف الحياة عند هذا الجانب المادي فحسب، ومن أراد يا شباب الصحوة أن يتعرف على هذه الحقيقة الكبرى فليراجع إحصائيات الجريمة بكل أشكالها وصورها وألوانها في هذا العالم المتحضر -زعموا- ليرى ما هي الحقيقة لهذا العقل البشري حينما تحدى نور الوحي الإلهي، وحينما تحدى منهج الله رب العالمين.

ضحالة العقل البشري حال استغنائه عن الله

ضحالة العقل البشري حال استغنائه عن الله انظر إلى هذا العقل الجبار، وإلى هذا العقل العملاق الذي وصل في الجانب المادي إلى ما وصل إليه، انظر إليه في الجانب الآخر؛ في الجانب العقدي والإيماني والروحي والديني، الذي لا بد فيه وحتماً لهذا العقل أن ينقاد إلى منهج الله، وأن يذعن إلى منهج أنبياء الله ورسله، انظر معي أيها الحبيب لتتعرف على حقائق وضحالة هذا العقل البشري. فهذا هو العقل الروسي العفن الذي وصل إلى ما وصل إليه في جانب الدنيا، شعاره الذي يعلنه في الجانب الآخر العقدي شعاره الذي يعلنه ويتغنى به، أنه يقول: أنه يؤمن بثلاثة ويكفر بثلاثة: يؤمن بـ ماركس ولينين واستالين، ويكفر بالله وبالدين وبالملكية الخاصة. وهذا هو العقل الأمريكي الجبار الذي وصل إلى ما وصل إليه في الجانب المادي ما زال إلى يومنا هذا يدافع عن العنصرية اللونية البغيضة، وما أحداث لوس أنجلوس منا ببعيد، وهذا هو العقل الأمريكي الجبار لا زال يدافع إلى يومنا هذا عن زواج الرجل بالرجل، وهذا هو العقل الأمريكي الجبار الذي يتغنى بـ الديمقراطية وحرية المعتقدات لا زال يكيل بمكيالين، ويبارك هذه الإبادة الوحشية، وهذه التصفية الجسدية لكل من وحد الله في أرض الله جل وعلا. وهذا هو العقل اليوناني يدافع عن الدعارة، وهذا هو العقل الروماني يدافع عن مصارعة الثيران، وهذا هو العقل الهندي يدافع عن إحراق الزوجة مع زوجها، بل وهذا هو العقل الهندي في قرن الذرة والفلك والفضاء والقمر والتقنية يدافع إلى يومنا هذا عن عبادة البقرة، وجاء زعيمهم الكبير غاندي ليقول بملء فمه وبأعلى صوته: إنني حينما أرى البقرة لا أجدني أرى حيواناً؛ لأنني أعبد البقرة، وسأظل أدافع عن عبادة البقرة أمام العالم أجمع. ومضى عابد البقر يقول: إن هناك ملايين الهنود الذين يتجهون بالعبادة والإجلال للبقرة -يقول غاندي - وإنني لأجد نفسي واحداً من هؤلاء الملايين. هذا في قرن الذرة والعلم الحديث أيها الأحباب، بل وفي الهند ذاتها تقام المعابد الفخمة، وتقدم إليها القرابين والنذور، ولكن يا ترى لأي آلهة تقدم هذه القرابين، ولأي آلهة تقدم هذه النذور؟!! ستضحكون بملء أفواهكم إذا علمتم أن هذه الآلهة هي الفئران. وهذا هو العقل العربي في جاهليته الأولى يدافع عن عبادة الأصنام، ويدافع عن وأد البنات، وهذا هو العقل العربي في جاهليته المعاصرة حينما تحدى منهج الله، وانفك عن نور الله جل وعلا، هاهو يدافع عن الكفر والإلحاد والزندقة باسم القومية تارة، والبعثية تارة أخرى، وحرية الفكر تارة ثالثة، فيقول الأول: هبوا لي ديناً يجعل العُرْب أمة وسيروا بجثماني على دين برهم سلام على كفر يوحد بيننا وأهلاً وسهلاً بعده بجهنم يدافعون عن الكفر باسم القومية والعروبة. ويقول آخر: آمنت بـ البعث رباً لا شريك له وبالعروبة ديناً ما له ثاني ويقول ثالث بحجة حرية الفكر، بل هي حرية الكفر ورب الكعبة، يقول: إن تطبيق الشريعة الإسلامية في مصر ردة حضارية بكل المقاييس. هذا هو العقل يا سادة! الذي فجر الذرة في الجانب المادي، يفجر الكفر والإلحاد والزندقة في الجانب العقدي. هذا هو العقل البشري يا سادة! الذي غاص بعيداً في أجواء الفضاء، وفي أعماق البحار، يغوص بعيداً في أعماق الكفر والزندقة والأوحال. هذا هو العقل البشري حينما ينفك عن نور الوحي الإلهي، ويتحدى منهج الله، وينطلق ليقنن لنفسه وليشرع.

عجز العقل البشري عن وضع المنهج السوي

عجز العقل البشري عن وضع المنهج السوي ولا يمكن على الإطلاق أيها الأحباب مهما بلغ العقل البشري أن يضع منهجاً يتصف بهذه الصفات: بالتكامل والشمول، والتوازن والاعتدال، وبالتميز والمفاصلة؛ لأن الإنسان محكوم من ناحية الزمان والمكان، إن وضع منهجاً فقد يصلح هذا المنهج لزمان ولا يصلح لآخر، وقد يصلح هذا المنهج لمكان ولا يصلح لآخر، وقد يصلح هذا المنهج لطائفة من الناس ولا يصلح لآخرين. وهكذا أيها الأحبة! أما منهج الله الذي خلق الإنسان، ويعلم من خلق وهو اللطيف الخبير، هو الذي يعلم ما يصلح خلقه وما يفسدهم، ومن ثمَّ جاء منهج الله جل وعلا متصفاً بهذه الصفات: بالتكامل والشمول، بالتوازن والاعتدال، بالتميز والمفاصلة؛ لأنه منهج الله خالق الإنسان الذي يقول جل وعلا: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14].

نور الوحي لا يطمس نور العقل

نور الوحي لا يطمس نور العقل إن نور الوحي الإلهي لا يطمس نور العقل البشري أبداً، حتى لا نتهم بأننا ضيقو الأفق، كلا. إننا نحترم العقل، ونقدر العلم، بل ونتباهى ونتغنى به، ولكننا لعلى يقين جازم أن نور الوحي لا يطمس نور العقل، بل يباركه ويقويه ويزكيه، شريطة أن يسجد العقل مع الكون كله لله رب العالمين، شريطة أن ينطلق العقل البشري في هذا الكون ليتقرب من خالقه جل وعلا، وليعلم علم اليقين إن ما وصل إليه في هذا الكون من اختراعات واكتشافات إنما أودعها الله في الكون منذ آلاف السنين، وما اكتشفها العقل البشري إلا يوم أن قدر الله له أن يكتشف، وإلا يوم قدر الله له أن يخترع، وحينئذٍ وجب على هذا العقل البشري أن يتعرف على الله، وأن يزداد قرباً من الله، وأن يقف أمام قول الله: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53].

منهج الله في إرسال الرسل

منهج الله في إرسال الرسل أيها الأحبة الكرام! ولما كان الله هو الذي خلق البشرية، ويعلم ضعف الإنسان وفقره وعجزه وجهله، والشهوات التي تحكمه، والشبهات التي تضغطه؛ اقتضت حكمته ورحمته جل وعلا أن يرسل إلى البشرية الأنبياء والمرسلين مبشرين ومنذرين، ليبينوا لهم منهج الله جل وعلا الذي يضمن لهم السعادة في الدنيا والآخرة، لذا جاء كل نبي ورسول بمنهج واحد، بعقيدة واحدة، بدين واحد، لم يأت نبي بدين يخالف دين النبي الذي سبقه أبداً، ما جاء نوح إلا بنفس الدين الذي جاء به محمد، ما جاء عيسى إلا بنفس الدين الذي جاء به محمد، ما جاء إبراهيم إلا بذات المنهج الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. ما جاء نوح إلا بالإسلام، قال الله حكاية عن نوح في سورة يونس: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:72]، وما جاء إبراهيم إلا بالإسلام، قال الله حكاية عنه في سورة البقرة: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:127 - 128]. وما جاء يعقوب إلا بالإسلام، قال الله حكاية عنه في سورة البقرة: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:133]. وما جاء لوط إلا بالإسلام، قال الله حكاية عنه في سورة الذاريات: {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ * فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:31 - 36]. وما جاء موسى إلا بالإسلام، قال الله حكاية عنه في سورة يونس: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [يونس:84]. وما جاء عيسى إلا بالإسلام، قال الله حكاية عنه في سورة آل عمران: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:52]. وما جاء سليمان إلا بالإسلام: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل:30 - 31]. وما دخلت بلقيس يوم أن أسلمت إلا في الإسلام، قال الله جل وعلا حكاية عنها: {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل:44]. بل والإسلام دين الجن المؤمن: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً * وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً} [الجن:14 - 15]. بل وجاء لبنة تمامهم ومسك ختامهم وإمامهم صلى الله عليه وسلم، جاء بالإسلام، وخاطبه ربه جل وعلا بقوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3]، فالإسلام منهج الله للبشرية كلها، لتسعد به في الدنيا والآخرة. انتبه أيها الحبيب! إن من كفر بنبي واحد من هذه الكوكبة ومن هذا الموكب الكريم فقد كفر بهم جميعاً، ولذا انتبه إلى القرآن، وعش مع آياته، وقس كلماته، ما كذب قوم نوح إلا نوحاً عليه السلام، وبالرغم من ذلك قال الله جل وعلا: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:105]. وما كذب قوم لوط إلا لوطاً عليه السلام، وبالرغم من ذلك قال الله جل وعلا: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:160]. وما كذبت عاد إلا هوداً عليه السلام، وبالرغم من ذلك قال الله جل وعلا: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:123]. وما كذبت ثمود إلا صالحاً عليه السلام، وبالرغم من ذلك قال الله جل وعلا: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:141]. وهكذا أيها الأحبة! فمن كفر بواحد منهم، فقد كفر بنبيه ابتداء، وبإخوانه من الأنبياء انتهاء، ولذا أثنى الله على حبيبه المصطفى وعلى الموحدين معه بصفة الإيمان برسول الله وبجميع إخوانه من رسل الله، فقال جل وعلا: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285].

نتيجة الإعراض عن منهج الله

نتيجة الإعراض عن منهج الله أيها الأحباب الكرام! أعود للسؤال الأول الذي طرحت، وهو: هل أصبحت البشرية قادرة على أن تعيش بعيدة عن منهج الله؟ و A كلا. هل قبلت البشرية هذا المنهج الذي أهداه الله لها؛ لتعيش سعيدة في الدنيا والآخرة؟ والجواب: لا. لم تقبل هذا المنهج. فما هي النتيجة؟ الجواب: النتيجة في إيجاز شديد حتى لا أشق على الأحباب في الشمس بخارج المسجد، أقول: النتيجة أننا نرى العالم اليوم محروماً من الأمن والأمان، والرخاء والاستقرار، والطمأنينة النفسية والسعادة القلبية وانشراح الصدر. لماذا؟ لأن البشرية قد أعرضت عن منهج الله، وأخذت تقنن للعالم بصفة عامة، والإسلامي منه بصفة خاصة، إلا من رحم الله جل وعلا. أسأل الله أن يجعلني وإياك ممن رحم، أخذت الأمة تلهث وراء الشرق الملحد تارة، ووراء الغرب الكافر تارة أخرى؛ لتقنن لنفسها منهجاً في الدماء والأعراض والأموال والتشريعات بعيداً عن منهج رب الأرض والسماوات، فسامها الله ذلاً، وأذلها لمن كتب الله عليهم الذل والذلة من إخوان القردة والخنازير، وأنا أسأل عن عمدٍ متكرر، وأقول: هل هناك أذل ممن أذله الله للأذل؟ والجواب: لا ورب الكعبة.

الحرمان من الأمن والأمان

الحرمان من الأمن والأمان أيها الأحباب الكرام: النتيجة لإعراض البشرية عن منهج الله هي: أن العالم محروم من الأمن والأمان، هذا بالرغم من وجود كثرة من الوسائل الأمنية المذهلة التي اخترعها العلم الحديث في هذه الأيام، وبالرغم من التخطيط الهائل المبني على الوسائل العلمية والنفسية لمحاربة الجريمة بكل أشكالها وصورها، وبالرغم من هذه الاختراعات التي يولد منها كل يوم الجديد والجديد، بالرغم من هذا كله، أقول: أولاً إن العالم محروم من الأمن والأمان، وبدون ذرة مبالغة: ما من يوم إلا وتسفك فيه دماء، وتتمزق هنا وهنالك أشلاء، ويعيش الملايين في الدنيا في حالة ذعر ورعب وخوف، بل وينتظرون الموت في كل لحظة، ونسأل الله ألا يحرم مصر من الأمن والأمان، وإننا قد لا نشعر بهذا، ولا نتألم له، ولا نحس إلا بمجرد أن نردد كلمات باردة باهتة على الألسنة، أما القلوب والجوارح فإنها لا تشعر بهذا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. إن كثيراً من الناس اليوم من المسلمين يعيشون في حالة ذعر ورعب، وينتظرون الموت في كل لحظة، بل واسودت الدنيا عليهم، على الرغم من كثرة الأضواء من حولهم، بل وضاقت الدنيا عليهم على الرغم من هذا الفضاء الموحش؛ لأنهم قد طردوا من ديارهم وأموالهم وأوطانهم، وتركوا كل شيء وذهبوا يعيشون في الغابات وحول المستنقعات يبحثون عن لقمة الخبز في صناديق القمامة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والخبراء والمفكرون يجتمعون، والمفكرون يبحثون عن الأسباب، والخبراء يضعون الحلول ثم لا أسباب ولا حلول. إن العالم محروم من الأمن والأمان، بل تحولت الوسائل الأمنية التي اخترعها العالم اليوم إلى وسائل ذعر ورعب وإبادة للجنس البشري ولا حول ولا قوة إلا بالله. فورب الكعبة يا أحبابي أقول: أصبحنا الآن نرى أن الإنسان يفعل بأخيه الإنسان ما تستحي الوحوش أن تفعله في عالم الغابات.

الحرمان من الرخاء الاقتصادي

الحرمان من الرخاء الاقتصادي إن العالم اليوم محروم من الرخاء الاقتصادي، على الرغم من كثرة الأموال والبنوك واتساع الأسواق، وبالرغم من ذلك فإننا نرى الملايين يبحثون عن لقمة الخبز بل ويبذلون ماء وجوههم للحصول على الملبس، وقد يضحون بأرواحهم للحصول على مسكن يعيشون فيه، ومنهم من يعيش تحت الكباري، ومنهم من يعيش بين القبور، ومنهم من لا يجد مكاناً تحت دوي هذه القنابل، وأصوات هذه المفرقعات، ولا حول ولا قوة إلا بالله رب الأرض والسماوات، هذا لأن العالم قد شذ وتحدى منهج الله الذي ما أنزله للبشرية إلا لتسعد به في الدنيا والآخرة.

الحرمان من طمأنينة النفس

الحرمان من طمأنينة النفس إن العالم اليوم أيضاً محروم من طمأنينة النفس، وانشراح الصدر، وراحة البال. لماذا؟ لأن النفس البشرية يا أحبابي إن حرمت من انشراح الصدر، وطمأنينة النفس، وهدوء البال، واستقرار الضمير، لا تستلذ بعيشٍ ولو كان رخياً، ولا تهنأ بثوب ولو كان فاخراً، ولا بمركب ولو كان فارهاً؛ لأن الأصل هو انشراح الصدر، فإننا نرى كثيراً ممن منّ الله عليهم بالمال وبالمناصب وبالكراسي يعيشون في حالة رعب وضيق وعدم توازن. لماذا؟ يقول الحسن: [إنهم وإن طقطقت بهم بالبغال، وهملجت البراذين، فإن ذل المعصية في وجوههم، يأبى الله إلا أن يذل من عصاه] أما قرأت قول الله: {فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه:123 - 127] ليست السعادة في الكراسي والمناصب، ولا السعادة في الأموال، ولكن السعادة كل السعادة في انشراح الصدر، وطمأنينة القلب، واستقرار الضمير، وهدوء البال، لذا امتن الله على رسوله بهذه النعمة الكبيرة في قوله: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1]. النفس تجزع أن تكون فقيرة والفقر خير من غنىً يطغيها وغنى النفوس هو الكفاف فإن أبت فجميع ما في الأرض لا يكفيها هي القناعة فالزمها تكن ملكا لو لم تكن لك إلا راحة البدن وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير القطن والكفن أقول: السؤال الأخير أيها الأحباب هو: هل حقق منهج الله الذي نتغنى به الآن في فترة من الفترات الأمن والأمان، والرخاء والاستقرار، وانشراح الصدر وسعادة القلب وطمأنينة البال؟ والجواب بملء فمي: نعم. والتفصيل بعد جلسة الاستراحة. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

لا سعادة إلا بالإسلام

لا سعادة إلا بالإسلام الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام! أقول: إن الله جل وعلا هو الذي خلق الإنسان، وهو الذي شرع له المنهج الذي يسعده في الدنيا والآخرة، ولكن أبى الإنسان بجهله وضعفه وعجزه وفقره أن يحيد عن منهج الله إلا من رحم ربك جل وعلا، فأعرض عن هذا المنهج الرباني في جوانب كثيرة، ومن ثمَّ عاشت البشرية في هذا الضنك والشقاء، ولا يزال العالم يعيش في هذا الضنك وهذا الشقاء -العالم بصفة عامة والإسلامي منه بصفة خاصة- ولن تعود البشرية إلى رشدها وسعادتها إلا إذا عادت مرة أخرى إلى منهج الله جل وعلا، ولن تتخلص من لفح الهاجرة القاتل الذي يصفع وجهها كل يوم إلا إذا عادت مرة أخرى وولت وجهها إلى الله ومنهج الله، وانقادت لشريعة الحبيب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

شهادة التاريخ للإسلام بأنه منهج حياة

شهادة التاريخ للإسلام بأنه منهج حياة نحن لا نقول ذلك من باب العاطفة، وإنما نقول ذلك من باب الحق؛ لأن منهج الله هو منهج الحق، واقرءوا التاريخ لتتعرفوا على أن منهج الله جل وعلا قد حقق الأمن والأمان، لا للمسلمين الذين حققوا منهج الله، بل لليهود والنصارى الذين عاشوا تحت ظلال منهج الله. اقرءوا التاريخ: هاهو علي يقف إلى جوار يهودي بعدما سرق اليهودي درع علي، ويقاضي علي اليهوديَّ أمام قاضي المسلمين، -انظر معي- يقف أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أمام خصمه، أمام قاض من قضاة المسلمين في ساحة القضاء، ويكني شريح القاضي رحمه الله، أي: ينادي عليه بكنيته ويقول: يا أبا الحسن! وينادي على اليهودي باسمه مجرداً دون تكنيه، فغضب علي، ونظر إلى شريح وقال: إما أن تكني الخصمين معاً، وإما أن تدع تكنيتهما معاً. ! ارفعوا رءوسكم إلى كواكب الجوزاء في عنان السماء، وبينوا للعالم كله إسلامكم. والله لقد جاء دورك أيها المسلم العملاق الحنون، فقم وضم العالم كله إلى صدرك، وأسمعه خفقات قلبك الذي وحد الله جل وعلا، قم أيها العملاق الحنون، ودثر العالم كله ببردتك ذات العبق المحمدي، واسق الدنيا كأس الفطرة لتحيا بعد ممات، ولتروى بعد ظمأ، ولتهدى بعد ضلال، قم فوالله لقد جاء دورك، قم بالحكمة والرحمة والموعظة الحسنة، وتذكر دائماً أمر الله لحبيبه: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران:159]. فإن الشدة تفسد ولا تصلح، وإن العنف يهدم ولا يبني، فتحركوا بسلاح من الخلق العذب، والحكمة البالغة، والموعظة الحسنة؛ لتحولوا القلوب والأعمال والسلوك، بل ولتحولوا البشرية كلها بمنهج ودين الله كما أراد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وقف علي إلى جوار اليهودي أمام القاضي، فقال شريح لـ علي رضي الله عنه: ما قضيتك؟ فقال علي: الدرع درعي ولم أبع ولم أهب. سرق اليهودي درع علي، فنظر شريح إلى اليهودي وقال: ما تقول في كلام علي؟ فقال اليهودي بخبث ودهاء معهودين: الدرع درعي وليس أمير المؤمنين عندي بكاذب. فنظر شريح بعظمة لـ علي وقال: هل معك من بينه؟ يقول لمن؟ لأمير المؤمنين، لخليفة المسلمين، لحاكم الدولة، والله ما غضب علي، ولا أمر باعتقاله وبسجنه، وقال: تطلب مني أنا البينة والدليل، أما تستحي؟! كلا. لأنهم ينطلقون من قواعد ثابتة، من كتاب الله ومن سنة حبيبهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. نظر علي بمنتهى الغبطة والسعادة إلى قاضيه المسلم العادل إلى شريح رضي الله عنه وأرضاه، وقال: صدقت يا شريح ليس معي من بينة. فقضى شريح بالدرع لليهودي. وانطلق أمير المؤمنين رضي الله عنه، وخرج اليهودي ليكلم نفسه، وقال: ما هذا؟! أقف أنا وأمير المؤمنين في ساحة قضاء واحدة، ويحكم القاضي بالدرع لي وهو درعه؛ لأنه لم يقدم البينة، والله إن هذه أخلاق أنبياء، فيرجع اليهودي ليقف أمام علي وأمام شريح، ليقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، وينظر علي لليهودي ويقول: أما وقد أسلمت فالدرع مني هدية لك.

عدالة يشهد لها التاريخ

عدالة يشهد لها التاريخ واقرءوا التاريخ. وتعالوا بنا لنطير على جناح السرعة إلى سمرقند التي فتحها الإسلام وهي الآن ترضخ تحت نيران الحكم الشيوعي ولا حول ولا قوة إلا بالله. سمرقند فتحها المسلمون والأبطال والموحدون لله جل وعلا، وأرسل حاكم سمرقند رسالة إلى قاضي قضاة المسلمين: بأن الفتح الإسلامي لـ سمرقند فتح باطل. لم؟ قال: لأنكم ما التزمتم بالإسلام، يعلمون حقيقة هذا الدين ورب الكعبة، قال: ما دعوتمونا للإسلام، فإن أبينا فالجزية، فإن أبينا فالقتال، وإنما نابزتمونا بالقتال دون دعوة ودون جزية. فماذا فعل القاضي؟ أرسل القاضي رسالة إلى أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه، وأخبره بأن الفتح الإسلامي لـ سمرقند لا يجوز بحال، وأمره أن يأمر القائد في سمرقند بسحب الجيوش فوراً، وما تردد عمر، فأرسل عمر رسالة إلى قائد الجيوش في مدينة سمرقند، وأمره أن يسحب الجيش فوراً، وما أن وصل الأمر من عمر بن عبد العزيز إلى قائد الجيوش إلا وأصدر الأوامر إلى الجند بالانسحاب من سمرقند، فما كان من هؤلاء الناس إلا أن خرجوا عن بكرة أبيهم أمام هؤلاء الأطهار وأعلن الجميع على قلب رجل واحد: نشهد أن لا إله إلا الله ونشهد أن محمداً رسول الله. الإسلام دين الأمن والأمان، فلماذا يخشى العلمانيون من الإسلام؟ ولماذا يخشى المرجفون من الإسلام؟ ولماذا يخشى المنافقون من الإسلام؟ أفسحوا الطريق للعلماء ليعلموا الشباب حقيقة الإسلام لتروا الأمن والأمان، والرخاء والاستقرار، وانشراح الصدر، وطمأنينة القلب، وراحة البال. وحقق الإسلام الرخاء الاقتصادي؛ لأنه وضع نظاماً لو طبق ما وجدنا فقيراً، أما قرأتم التاريخ ووجدتم أنه قد مر على الناس يومٌ أرسل فيه الخليفة منادياً لينادي: من كان عليه دين فسداد دينه من بيت المال، من أراد الحج ولم تبلغه النفقة فحجه من بيت مال المسلمين، من أراد من الشباب أن يتزوج ولم يستطع الباءة فزواجه من بيت مال المسلمين، أين هذا؟ هذا وقع. اقرءوا التاريخ أيها الأحباب؛ لتعلموا أن الأمة يوم أن حققت منهج الله رزقها الله من بين أيديها ومن تحت أرجلها: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف:96]. ولقد قرأت في مسند أحمد أنهم وجدوا حبة قمح بمقدار نواة التمرة في خزائن بني أمية في غلافها، وقد كتب عليها: هذا كان ينبت في الأرض في زمن العدل، فنزع العدل، ووقع الظلم، ورفع دين الله، وبدلت شريعة الله، فماذا تنتظرون؟!

سنة ربانية لا تتغير

سنة ربانية لا تتغير و Q قد يسألني أحد الشباب ويقول: فماذا تقول في هذه الأموال التي أغدقت على هؤلاء الكفار والمرجفين والمنافقين؟ أقول: لا بد أن نعي سُنَّةً ربانية لله جل وعلا، ألا وهي: سنة الفتح، يفتح الله على هؤلاء: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} [الأنعام:44]. إنها سنة ربانية ثابتة لا تتبدل ولا تتغير، إذا رأيت الرجل في نعمة من الله وهو على معصية الله؛ فاعلم بأنه استدراج له من الله جل وعلا. وقد حقق منهج الله لأتباعه وأبنائه انشراح الصدر، وطمأنينة القلب، وراحة الضمير، وسعادة البال، وهذه نعم لا يحظى بها إلا المؤمنون، قال الحبيب صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث صهيب: (عجباً لأمر المؤمن! إن أمره كله له خير، وليس ذلك إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له). أيها الأحباب الكرام! لا بد أن نعود إلى منهج الله جل وعلا، وابدأ بنفسك ابتداءً أيها الحبيب الكريم، فأنت على ثغرة، فإياك أن يؤتى الإسلام من قبلك، واتق الله، وكن جندياً مخلصاً لدين الله ولمنهج الله. أقول ورب الكعبة: إن أعظم خدمة نقدمها اليوم للإسلام هي: أن نشهد للإسلام شهادة عملية وواقعية وأخلاقية وسلوكية، اقطعوا الطريق على المزورين الذين يشيرون إلينا بأصابع الاتهام، بينوا لهم الإسلام في رحمته وعظمته وأخلاقه وعطائه وصدقه وأمانته، بينوا الإسلام للعالم كله وللدنيا كلها بصورته المشرقة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وحولها الرعيل الأول إلى منهج حياة، وإلى واقع يتحرك في دنيا الناس. أيها الشاب الحبيب! تحرك لدين الله، ولدعوة الله، افهم الإسلام بكماله وشموله حتى لا تفتن وتنحرف عن المنهج الحق والطريق السوي، واسمع للعلماء المتحققين، واسع وابذل وقتك ودمك ومالك وولدك وأهلك لتتعلم هذا الدين، وتحرك لتأخذ العلم عن أهله المتحققين به، فإن العلم سبب من أسباب الهداية، وسبب عظيم من أسباب عدم الانحراف عن جادة الطريق، أما إذا ذهب هذا ليأخذ علمه عن الصحافة، أو عن هؤلاء الذين لم يتحلوا بالعلم الشرعي، فإنه حتماً سيضل وسينحرف عن الطريق وعن جادة الصواب، فاجلسوا بين يدي أهل العلم المتحققين به، وخذوا علومكم الشرعية عن هؤلاء العلماء، فإن الأمر دين فانظروا عمن تأخذون دينكم، وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يترك عالماً اتخذ الناس رؤساء جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا). لا أريد أن أطيل أكثر من هذا. أسأل الله جل وعلا أن يأجر الإخوة الجالسين تحت حرارة هذه الشمس بأن يقينا الله وإياهم حر جهنم، اللهم حرم وجوهنا على النار، اللهم حرم أجسادنا على النار، اللهم أدخلنا الجنة مع الأبرار. اللهم لا تدع لأحدٍ منا في هذا الجمع الكريم المبارك ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا أديته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا طائعاً إلا ثبته، ولا حاجة هي لك رضىً ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ويسرتها يا رب العالمين. اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل اللهم فينا ولا منا ولا بيننا شقياً ولا محروماً. اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى. اللهم أنت غياثنا فبك نغوث، اللهم أنت ملاذنا فبك نلوذ، اللهم أنت عياذنا فبك نعوذ، يا منقذ الغرقى، يا منجي الهلكى، يا سامع كل نجوى، يا عظيم الإحسان، يا دائم المعروف، يا ذا الجلال والإكرام، يا ودود، يا ذا العرش المجيد، يا فعال لما يريد، يا ذا البطش الشديد، يا من ملأ نوره أركان عرشه، يا مغيث المستغيثين، ويا مجيب المضطرين، ويا مفرج كرب المكروبين، ويا كاشف هم المهمومين، اللهم فرج كربنا، اللهم اكشف همنا، اللهم أزل غمنا، اللهم ارحم ضعفنا، اللهم اجبر كسرنا، اللهم بين يديك ذل قلوبنا. اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم أعلِ بفضلك كلمة الحق والدين، اللهم احمل المسلمين الحفاة، اللهم اكس المسلمين العراة، اللهم أطعم المسلمين الجياع. اللهم انصر المجاهدين في كل مكان، اللهم فك سجن المسجونين، وأسر المأسورين، اللهم اهدِ شبابنا يا رب العالمين، اللهم احفظ شبابنا، اللهم أصلح شبابنا، اللهم احفظ نساءنا، اللهم استر أخواتنا، اللهم بارك في بناتنا. {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74] اللهم اجعلنا للمتقين إماماً. اللهم لا تتخل عنا يوم تخلى عنا المعين، اللهم كن لنا ناصراً يوم قل الناصر، اللهم كن للمسلمين ناصراً يوم قل الناصر، يا غياث المستغيثين! هتكت أعراض أخواتنا، وسفكت دماؤنا، وسلبت أرضنا، فاللهم مكن لأمة حبيبك المصطفى، اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا، اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، اللهم اقبلنا وتقبل منا، وتب علينا وارحمنا إنك أنت التواب الرحيم. اللهم لا تحرم مصرنا من الأمن والأمان، اللهم اجعل مصر سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين، اللهم ارفع عن مصر الغلاء والفتن والبلاء، اللهم اجعل مصر مسلمة لك بقدرتك يا أرحم الراحمين، اللهم استرنا ولا تفضحنا، وأكرمنا ولا تهنا، وكن لنا ولا تكن علينا. اللهم اشرح صدورنا بالإسلام، واملأ قلوبنا بالإيمان، اللهم ارزقنا الصدق في أقوالنا، والإخلاص في أعمالنا، واليقين في أحوالنا. اللهم جنبنا الرياء والنفاق، اللهم وطهر قلوبنا من النفاق، اللهم اجمع صفنا، اللهم اجمع شملنا، اللهم ألف بين قلوبنا، اللهم وحد كلمتنا، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم وفق جميع إخواننا الطلاب، اللهم ذلل لإخواننا الطلاب الصعاب، اللهم يسر لهم الأسباب، اللهم فتّح لهم الأبواب، اللهم ذكرهم ما نسوا، اللهم علمهم ما جهلوا، اللهم اربط على قلوبهم، اللهم سدد أقلامهم، اللهم ذلل لهم الصعب، اللهم لا تفجع والديهم يا أرحم الراحمين. أحبتي في الله! أكثروا من الصلاة والسلام على حبيبنا محمد كما أمرنا الله جل وعلا بذلك في قوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على نبينا وحبينا محمد، وعلى آله وصبحه وسلم. هذا وما كان من توفيق فمن الله، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.

فصبر جميل

فصبر جميل الصبر الجميل هو ترفع على الألم، الذي يضرب أعماق المؤمن، واستعلاء على الفتن، التي تعصف بالقلوب، وتزلزل الأفئدة، وثبات على محن الدعوة، وثقة كاملة في وعد الله جل وعلا، بالنصر الذي يأتي كسنة ثابتة من سنن الله، تلك عقبى الذين اتقوا، وعقبى الكافرين النار.

الصبر زاد الدعاة

الصبر زاد الدعاة الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً، ولم يكن له شريك في الملك، وما كان معه من إله، الذي لا إله إلا هو، فلا خالق غيره ولا رب سواه، المستحق لجميع أنواع العبادة؛ ولذا قضى ألا نعبد إلا إياه {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62]. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الواحد الذي لا ضد له، وهو الصمد الذي لا منازع له، وهو الغني الذي لا حاجة له، وهو القوي الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو جبار السماوات والأرض فلا راد لحكمه ولا معقب لقضائه وأمره. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في سبيل الله حتى أجاب مناديه، وعاش طوال أيامه ولياليه يمشي على شوك الأسى، ويخطو على جمر الكيد، يوضح الطريق لهداية الضالين وإرشاد الحائرين، حتى علَّم الجاهل، وقوم المعوج، وأمَّن الخائف، وطمأن القلق، ونشر أضواء الحق والخير والتوحيد والإيمان، كما تنشر الشمس ضياءها في رابعة النهار، فاللهم اجزه عنا خير ما جازيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين، أما بعد:

أنواع الفتن

أنواع الفتن فمع اللقاء الحادي عشر من خواطر الدعوة إلى الله عز وجل، ولا زال حديثنا بفضل الله جل وعلا عن الزاد الذي لابد لكل داعية يسلك طريق الدعوة الطويل من تحصيله والتزود به، ولا زال حديثنا بفضل الله جل وعلا عن الصبر، وزاد اليوم: صبر جميل صبر جميل. أحبتي في الله! ليس الإيمان كلمة تقال باللسان فحسب، ولكن الإيمان حقيقة ذات تكاليف، وأمانة ذات أعباء، وجهاد مرير يحتاج إلى صبر جميل، ولا يكفي أن يقول الناس: آمنا حتى يتعرضوا للفتن، ويثبتوا عليها، ويخرجوا منها خالصة عناصرهم صافية قلوبهم {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2]، فالفتنة أصل ثابت وسنة جارية في ميزان الله جل وعلا {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:3]، فكما تفتن النار الذهب لتخلص بينه وبين العناصر الشائبة والرخيصة العالقة به، كذلك تفعل الفتن في النفوس البشرية، {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:3]، لماذا؟ لأن هناك نموذجاً من الناس يعلن كلمة الإيمان في وقت الرخاء، يحسبها هينة الحمل، خفيفة المئونة، فإذا ما تعرض لفتنة من الفتن حتى ولو كانت هذه الفتنة هينة لينة استقبلها بهلع وجزع وفزع، واختلت في نفسه القيم، وطاشت بين يديه الموازين، وتزلزلت في قلبه العقيدة، كما قال ربنا جل وعلا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:10]، إنه نموذج متكرر من البشر في كل حين وفي كل جيل، إنه نموذج يزن العقيدة والدعوة بميزان الربح والخسارة، يظن العقيدة والدعوة صفقة يتاجر بها في أسواق التجارة {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11]، هذا الصنف أيها الأخيار الكرام لا يصلح أن يكون صاحب دعوة، ولا حامل رسالة، ولا أميناً على منهج؛ لذا لو كان طريق الدعوة إلى الله جل وعلا هيناً ليناً مفروشاً بالزهور والورود والرياحين لسهل على كل إنسان أن يكون صاحب دعوة، وأن يكون حامل رسالة، وأن يكون مؤتمناً على منهج، وما اختلطت حينئذ دعوات الحق بدعوات الباطل الزائفة الكاذبة؛ لذا فلابد على طول طريق الدعوة إلى الله عز وجل من الفتن التي تعصف بالقلوب، وتزلزل الأفئدة، لماذا؟ ليغربل الله ويمحص القائمين عليها ويفرز الزائفين عنها، ولتبرز دعوات الحق من بين دعاوى الباطل الكاذبة الزائفة: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:3]، فمن ثبت بعد هذه الفتن المزلزلة على طريق الدعوة الطويل فهو بحق وجدارة صاحب الأهلية لحمل راية الدعوة إلى الله عز وجل؛ ليسير بها بين الأشواك والصخور. إنها فتن قاسية، إنها فتن مزلزلة، فهناك فتنة الظلم والبطش والطغيان من أهل الباطل والجبروت التي تصب صباً على رأس الداعية إلى الله جل وعلا، إن سلك طريق نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد تُصب على رأسه الفتن صباً، ويُصب عليه البلاء والاضطهاد صباً، وتزداد الفتنة حين لا يرى من يسانده ومن يقف إلى جواره من البشر، وتزداد الفتنة إذا لم يجد من القوة والمنعة والحماية ما يدفع به عن نفسه الأذى والبطش والظلم والجبروت والطغيان. وهناك فتنة الأهل والأولاد الصغار الذين يخشى عليهم الداعية أن يصيبهم الأذى والفتنة بسببه، وقد يهتفون به، وينادون عليه، ويصرخون في وجهه باسم الحب باسم القرابة باسم الرحم أن يسالم أو يستسلم للبطش والظلم والطغيان، وقد تزداد الفتنة أذىً وبلاءً على رأس الداعية المؤمن إذا وقع الأذى على أهله وأولاده أمام عينيه وبين يديه، وهو لا يملك لهم شيئاً، ولا يستطيع أن يرد عنهم من الأذى شيئاً. وهناك فتنة إقبال الدنيا على الظالمين، على المبطلين، على المهرجين، على الساقطين والراقصين، فتنة إقبال الدنيا عليهم، ورؤية الناس لهم مرموقين ناجحين: تهتف لهم الدنيا، وتصفق لهم الجماهير المخدوعة، وتصاغ لهم الأمجاد، وتحطم في طرقهم العوائق، وتذلل لهم الصعاب، وتيسر لهم الأسباب، وتفتح لهم الأبواب؛ والداعية المؤمن والمؤمن التقي النقي مهمل منكر، لا يحس به أحد، ولا يكرم من أحد، ولا يحتفي به أحد، بل ولا يحس بقيمة الحق الذي معه إلا القليلون من أمثاله الذين لا يملكون من أمر الحياة شيئاً. وهناك فتنة الشهوات والشبهات التي تعصف بقلوب كثير من الناس، وتحيد بهم عن طريق الحق وعن الصراط المستقيم، وقد يحس الداعية أحياناً بشيء من اليأس والملل والفتور والقنوط، ويظن أن هذه القلوب لا يمكن أبداً أن تأتي وأن تسجد لعلام الغيوب جل وعلا. وهناك فتنة أخرى خطيرة، نراها بارزة في هذه الأيام، تعصف بقلوب كثير من المسلمين، بل وتعصف بقلوب بعض الدعاة أحياناً ألا وهي أننا نرى أمماً ودولاً غارقة في الكفر والشرك، ومع ذلك نراها تقدر الإنسان كإنسان، نراها تقدر عقله وتحترم فكره وتنمي مواهبه وتزكي قدراته، بل وتفتح ذراعيها لكل المبدعين والموهوبين في شتى المجالات، حتى ولو كانوا من غير بني جنسها؛ في الوقت الذي يرى المؤمن نفسه في كثير من بلدان المسلمين مهضوماً، يحتقر فكره، ويزدرى عقله، ويمتهن رأيه، ويشار إليه بأصابع الإرهاب وأصابع التطرف والأصولية، ويسجن عقله، بل ويسجن بدنه. إنها فتن قاسية فتن خطيرة، ويزداد الهم والغم والبلاء على كل سالك لهذا الطريق إذا طال أمد الفتنة، وأبطأ نصر الله جل وعلا، حينئذ تكون الفتنة أشد، ويكون الابتلاء أقسى وأعنف، ولا يثبت على طريق الدعوة إلى الله إلا من ثبته الله جل وعلا، وأمده الله بخير زاد، وأمده الله بأقوى ضياء وأعظم زاد للبلاء، ألا وهو الصبر الجميل، لابد تجاه كل هذه الفتن من الصبر الجميل، فما هو الصبر الجميل؟ هل الصبر الجميل هو الذي تصاحبه الشكوى؟! هل الصبر الجميل هو الذي يصاحبه الأنين والألم؟! هل الصبر الجميل هو الذي تصاحبه الشهوة الخفية -وإن لم تترجم على اللسان- ويقول حينها الداعية: هأنذا يا ربي قد دعوت فلم يستجب لي؟! كلا، إنما الصبر الجميل هو ترفع على الألم، واستعلاء على الفتن، وثبات على محن الدعوة، وثقة كاملة في وعد الله جل وعلا، واطمئنان مطلق في حكمة الله ورحمة الله وقدرة الله ووعد الله عز وجل.

تعريف الصبر وأقسامه

تعريف الصبر وأقسامه حد الصبر الإمام ابن القيم حداً جامعاً في كتابه القيم (عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين) فقال: الصبر: هو حبس النفس عن الجزع، وحبس اللسان عن التشكي، وحسب الجوارح عن المعاصي. وقسمه إلى ثلاثة أقسام، وهي: صبر على الطاعة أو صبر على المأمور، وصبر عن المعصية أو صبر عن المحظور، وصبر على البلاء والمصائب أو صبر على المقدور، صبر على الطاعة وصبر عن المعصية وصبر على المصائب والفتن والبلايا، ولابد لكل داعية إلى الله جل وعلا يسلك طريق الدعوة الشاق الطويل من التزود بأنواع الصبر الثلاثة، لابد أن يتزود بالصبر على طاعة الله، ولابد أن يتزود بالصبر عن معصية الله، ولابد أن يتزود بالصبر على جميع الفتن والبلايا والمصائب التي ستكال على رأسه كيلاً؛ لمجرد أنه سلك طريق لا إله إلا الله: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} [المطففين:29 - 30]، إرهابيون أصوليون متطرفون متعنتون متشددون سطحيون ساذجون: {وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ} [المطففين:30 - 32]، لا إله إلا الله! هذا وعد الله جل وعلا وشهادة الله سبحانه.

أحاديث في الصبر

أحاديث في الصبر روى البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أعطي أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر)، الصبر أعظم عطاء؛ لذا قال: (والصبر ضياء) في الحديث الذي رواه مسلم من حديث الحارث الأشعري الطويل، (والصبر ضياء) أعظم ضياء وأعظم زاد للبلاء هو الصبر، وفي الحديث الذي رواه الترمذي بسند حسن أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن عظم البلاء مع عظم الجزاء، وإن الله تعالى إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط). وهذا هو الصحابي الجليل الذي تعرض للفتن والأذى، حتى كاد -يوم أن عصفت الفتنة بقلبه- أن يفقد الصبر، إنه خباب بن الأرت رضي الله عنه، يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد اشتد الأذى وزادت الفتن على رءوسهم في مكة في أول أمر الدعوة، فيأتي خباب بن الأرت إلى النبي عليه الصلاة والسلام ليشتكي إليه الحال، وليرفع إليه الشكوى، فيقول خباب -والحديث رواه البخاري -: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا: يا رسول الله! ألا تدعو الله لنا؟ ألا تستنصر الله لنا؟ فقعد النبي عليه الصلاة والسلام وقد احمر وجهه، وقال: والله لقد كان يؤتى بالرجل من قبلكم فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع في مفرق رأسه فيشق نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه ولحمه، فما يصده ذلك عن دينه، والذي نفس محمد بيده! ليتمن الله هذا الأمر-أي: هذا الدين- حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون). لقد أوذي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أشد الأذى فهذا بلال يؤخذ تحت حرارة الشمس المحرقة في أرض الجزيرة في مكة، على تلك الرمال المتأججة الملتهبة، فيرمى على ظهره، وتوضع الحجارة القوية الكبيرة على صدره، لماذا؟ لأنه قال: لا إله إلا الله، إنها الجريمة القديمة الحديثة إنها شنشنة أهل الباطل القديمة الحديثة؛ لأنه قال: ربي الله، ولكن بلالاً الذي تمكن الإيمان من قلبه جعله يستعذب العذاب في سبيل الله جل وعلا، وما برح بلال وما زال بلال على هذه الأنشودة العذبة الحلوة التي ما زالت ترن في أذن الزمان بعد هذه القرون الطويلة، وهو يرددها في وجه الباطل بقوة وثقة واطمئنان: أحد أحد، يعلن وحدانيته لله، ويعلن إيمانه بالله جل وعلا، ولو مزقوا جسده تمزيقاً وقطعوه إرباً إرباً، فليأخذوا الجسد وليمزقوه فالروح متعلقة بالله جل وعلا، واللسان لا يفتأ يذكر الله جل جلاله تحت سياط هذا العذاب، هذه والفتن. وتعلمون ماذا فعل بآل ياسر بـ سمية، وبـ صهيب وبغيرهم حتى قالوا: (ألا تستنصر الله لنا؟) ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم يطمئنهم بأن الحق وإن طال البلاء ظاهر ظاهر. وهذا ابن مسعود رضي الله عنه -والحديث في البخاري ومسلم - يقول: (والله لكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم طرده قومه فأدموه، ونزف الدم على وجهه، وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)، لقد فتن النبي صلى الله عليه وسلم وأوذي، لقد ابتلي النبي عليه الصلاة والسلام ووضع التراب على رأسه، ونزف الدم الشريف من جسده الطاهر ولكنه صبر؛ لأن الله أمره بالصبر: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف:35]، فاستجاب لأمر الله، وصبر لوعد الله جل وعلا، إنه البلاء، إنها الفتن -أيها الأحباب- ولابد من الصبر، لابد من الصبر على كل هذه الفتن، وعلى كل هذه الابتلاءات، ورحم الله من قال: يا صاحب الهم إن الهم منفرج أبشر بخير فإن الفارج الله وإذا بليت فثق بالله وارض به إن الذي يكشف البلوى هو الله الله يحدث بعد العسر ميسرة لا تجزعن فإن الصانع الله والله مالك غير الله من أحد فحسبك الله في كل لك الله أسال الله جل وعلا أن يرزقنا وإياكم صبراً جميلاً، وأن يجمل طريق دعوتنا وإياكم بالصبر، إنه ولي ذلك ومولاه، وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

كثرة الأمر بالصبر في القرآن

كثرة الأمر بالصبر في القرآن أيها الأحباب! لابد من التزود بزاد الصبر الجميل على طول الطريق؛ لوعورته ومشقته، ومن ثم يأتي الأمر من الله جل وعلا لمن نذر نفسه، وتجردت روحه لهذه الدعوة، وانطلق يوم أن قال الله له: {قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:2]، فقام وأنذر ولم يجلس طرفة عين حتى أتاه اليقين، دعا إلى الله جل وعلا بثبات وقوة وثقة واطمئنان وصدق وإخلاص، يأتيه الأمر من الله جل وعلا بعد كل هذا أن يتزود بالزاد الذي تزود به من قبل إخوانه من الأنبياء والمرسلين، فيقول ربنا جل وعلا: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35]، ويقول له جل وعلا: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} [المزمل:10]، ويقول له جل وعلا: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:48]، {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} [القلم:48]، ويقول له جل وعلا: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل:127]، ويأتي الأمر للأمة من بعده صلى الله عليه وسلم للتزود بهذا الزاد العظيم الجليل الكريم فيقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200]، ويقول جل وعلا: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45]، بل ويبشر الله الصابرين بثلاث بشارات هي والله خير من الدنيا وما فيها، فيقول سبحانه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ} [البقرة:155]، هذا هو الطريق يوضح لنا من البداية: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة:155]، من هم الصابرون؟ {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:155 - 156]، (إنا لله): كلنا لله، بعقولنا وأموالنا وأولادنا وجوارحنا، {قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:156 - 157]، الله أكبر! ويبالغ الله في إكرام وتكريم الصابرين حتى في الجنة؛ بإدخال الملائكة عليهم لمصافحتهم والسلام عليهم وتهنئتهم بكرامة الله لهم، فيقول سبحانه: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ} [الرعد:23 - 24] بماذا؟ {بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:24]، ولم لا والذي يعلم جزاء الصابرين إنما هو رب العالمين! {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10]، وتتجلى صورة التكريم للصابرين بمعية الله جل وعلا لهم فيقول سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153]، وبالجملة ذكر الإمام أحمد رحمه الله تعالى أن الله جل وعلا ذكر الصبر في تسعين موضعاً في القرآن الكريم، وهذا إن دل فإنما يدل على عظيم شرفه وكبير مكانته عند الله جل وعلا.

النصر مع الصبر

النصر مع الصبر الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين، أما بعد: أيها الأحبة! وإن كان الله جل وعلا قد جعل الابتلاء والفتن لأهل الإيمان سنة ثابتة سارية فاطمئنوا، واعلموا يقيناً أن النصر في نهاية الطريق سنة ثابتة سارية، وأن أخذ الله جل وعلا للظالمين والمجرمين سنة ثابتة سارية، قال الله: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} [الأنعام:34]، لابد من النصر في نهاية الطريق، في الوقت الذي يشاء ربنا، إن الله لا يعجل لعجلة أحد، إن الله لا يعجل لعجلة أهل الابتلاء من الدعاة والصادقين، كلا، بل يأتي النصر في الوقت الذي يشاء ربنا، وبالقدر الذي يشاء ربنا جل وعلا، فعلينا أن نتأدب مع الله، وأن نصبر على بلاء الله، وعلى الفتن وعلى العقوبات والأذى، ونمضي ونحن نضع رءوسنا في الأرض انكساراً وذلاً لله جل وعلا، ولندع نتيجة الأمر ونهايته لمن بيده الأمر كله: {قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عمران:154]، أما أن نتململ ونقول: لقد دعونا فلم يستجب لنا! أو أن نقول: نحن ندعو إلى الله فلماذا نؤذى؟! فهذا من سوء الأدب مع الله جل وعلا، وإنما ينبغي أن ننطلق وأن ندع النتائج إلى الله جل جلاله: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105]. كن -أخي الحبيب- على يقين مطلق بكلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لك أن الله جل وعلا في النهاية لابد وحتماً أن يأخذ المجرمين والظالمين، أين فرعون؟! أين فرعون الذي قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]؟! أين فرعون الذي قال: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51] فأجراها الله من فوقه! أين هو؟ أين قارون الذي {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78]، {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ} [القصص:81]!! أين النمرود بن كنعان الذي قال للخليل: أنا أحيي وأميت؟! أين هو؟! قتله الله وأهلكه بذبابة! أين عاد؟! أين ثمود أين الظالمون وأين التابعون لهم في الغي بل أين فرعون وهامان أين من دوخوا الدنيا بسطوتهم وذكرهم في الورى ظلماً وطغيان هل أبقى الموت ذا عز لعزته أو هل نجا منه ذو السلطان إنسان لا والذي خلق الأكوان من عدم الكل يفنى فلا إنس ولا جان {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:6 - 14] {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} [البروج:4 - 11] استمع أيها الحبيب! {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ} [البروج:12 - 19] لا يصدقون ولا يؤمنون {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ * بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج:19 - 22]. أين الظالمون في كل زمان؟! أين الظالمون في كل مكان؟! {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102]. أما أنت أيها الداعية المظلوم! أما أنت أيها المؤمن المظلوم! يا من ابتليت في مالك! يا من ابتليت في عرضك! يا من ابتليت في شرفك! يا من ابتليت في زوجتك وأولادك! لا تجزع ولا تفزع ولا تحزن واصبر، فوالله إن وعد الله حق. أيها المظلوم صبراً لا تهن إن عين الله يقظى لا تنام نم قرير العين واهنأ خاطراً فعدل الله دائم بين الأنام وإن أمهل الله يوماً ظالماً فإن أخذه شديد ذو انتقام أسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرزقني وإياكم صبراً جميلاً، وأن يثبتني وإياكم على البلاء والفتن التي تصب على رءوسنا في هذه الأيام صباً، إنه ولي ذلك ومولاه، وهو على كل شيء قدير. أحبتي في الله! بهذا نكون قد أنهينا بفضل الله جل وعلا الزاد الذي لابد من تحصيله للدعاة على طريق الدعوة الشاق الطويل، ورأيت بفضل الله سبحانه وتوفيقه أن أوضح لكم وأن ألخص ما ذكرناه في اللقاءات العشرة الماضية، بصورة عملية متجسدة متحركة حية للدعوة إلى الله عز وجل، وأظنكم جميعاً ستتفقون معي على أن هذه الصورة الكاملة المشرقة التي لابد أن نتأسى بها وأن نقتدي بها هي دعوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لذا فلقاؤنا -إن قدر الله لنا البقاء واللقاء في المجلس المقبل سيكون بعنوان مع أعظم داعية عرفته الدنيا؛ لتبقى لنا جمعة واحدة في سلسلة خواطر الدعوة، وبعد ذلك سوف تكون الخطبة بعنوان: بشرى وأمل. اسأل الله جل وعلا أن يبشر قلوبنا وقلوبكم بنصرة دينه، اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام، اللهم أقر أعيننا بعز المسلمين، اللهم أقر أعيننا بعز المسلمين، اللهم أعل بفضلك كلمة الحق والدين، اللهم أذل الشرك والمشركين والكفرة والملحدين برحمتك يا رب العالمين! اللهم ارزقنا الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد برحمتك يا رب العالمين! اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم لا تدع لأحد منا ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا أديته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا طائعاً إلا ثبته، ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ويسرتها يا رب العالمين! أحبتي في الله! أكثروا من الصلاة والسلام على نبينا وحبيبنا محمد، كما أمركم الله جل وعلا بذلك في قوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، هذا وما كان من توفيق فمن الله، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.

وقفات مع آية الكرسي

وقفات مع آية الكرسي في هذه المادة يقف الشيخ في محراب أعظم آية في القرآن الكريم، ذاكراً فضلها والحقائق الواردة فيها، مع بيان لكل جملة في الآية، مسترشداً بهديها وما تضمنته من الأسماء، مذكراً بعقيدة أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات.

فضل آية الكرسي

فضل آية الكرسي الحمد لله رب العالمين، الحمد لله لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك وما كان معه من إله، الحمد لله الذي لا إله إلا هو فلا خالق غيره ولا رب سواه، المستحق لجميع أنواع العبادة؛ ولذا قضى ألا نعبد إلا إياه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62]. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الواحد الذي لا ضد له، وهو الصمد الذي لا منازع له، وهو الغني الذي لا حاجة له، وهو القوي الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو جبار السموات والأرض فلا راد لحكمه، ولا معقب لقضائه وأمره، وأشهد أن نبينا وحبيبنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصلِّ اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة، وزكى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور، وأسأل الله جل وعلا أن يتقبل مني وإياكم صالح الأعمال، وأن يجمعني وإياكم في الدنيا دائماً وأبداً على طاعته، وفي الآخرة مع سيد الدعاة وإمام النبيين في جنته ومستقر رحمته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! إننا اليوم على موعد مع أعظم آية في القرآن الكريم كله، إنها سيدة آي القرآن، إنها آية تتكون من خمسين كلمة، ومن عشر جمل، تكرر فيها اسم الله جل وعلا ثماني عشرة مرة ما بين مضمر وظاهر، اشتملت على معظم قواعد التوحيد والصفات لرب الأرض والسماوات، إننا اليوم مع موعد مع آية الكرسي. والدليل على أن آية الكرسي أعظم آية في القرآن الكريم كله ما رواه الإمام مسلم من حديث أُبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا المنذر -يخاطب النبي أُبي بن كعب - أيُّ آية من كتاب الله معك أعظم؟ فقال أُبي بن كعب: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] يقول أُبي: فضرب النبي صلى الله عليه وسلم في صدري وقال: ليهنك العلم -أي: هنيئاً لك العلم- أبا المنذر). إننا اليوم على موعدٍ مع سيدة آي القرآن الكريم كله، وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آتٍ يحثو من الطعام فأخذته، وقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: دعني فإني محتاج وعليَّ عيالٌ وبي حاجةٌ شديدة، يقول أبو هريرة: فرحمته فخليت سبيله، فلما أصبحت سألني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ما فعل أسيرك البارحة يا أبا هريرة؟ فقلت: يا رسول الله! اشتكى حاجة وعيالاً وفقراً فرحمته وخليت سبيله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما إنه قد كذبك وسيعود، يقول أبو هريرة: فعرفت أنه سيعود لكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما جاء يحثو من الطعام أخذته، وقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاشتكى إلى أبي هريرة ما شكاه المرة الأولى، قال: دعني فإني محتاج وعليَّ عيال وبي حاجة شديدة، يقول أبو هريرة: فرحمته وخليت سبيله، فلما أصبحت قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما فعل أسيرك البارحة يا أبا هريرة؟ فقال: يا رسول الله! اشتكى إليَّ عيالاً وحاجةً وفقراً فرحمته وخليت سبيله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما إنه قد كذبك وسيعود، يقول: فعرفت أنه سيعود فرفضته الثالثة، فجاء يحثو من الطعام فأخذته، وقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها، قال أبو هريرة: ما هن؟ فقال له: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255] إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي فإنه لا يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربنك شيطانٌ حتى تصبح، يقول فلما أصبحت سألني رسول الله صلى الله عليه وسلم: وقال: ما فعل أسيرك البارحة يا أبا هريرة؟ فقال أبو هريرة: زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما هن؟ فقال أبو هريرة: قال لي: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي فإنه لا يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربنك شيطانٌ حتى تصبح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما إنه قد صدقك وهو كذوب، ألا تعرف من تخاطب منذ ثلاثٍ يا أبا هريرة؟ قال أبو هريرة: لا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ذاك شيطان). أيها الأحبة! هذا فضل آية الكرسي كما ورد في الصحيح.

وقفات في محراب آية الكرسي

وقفات في محراب آية الكرسي فتعالوا بنا نقف بسرعة في محراب هذه الآية الجليلة العظيمة الكريمة التي تبدأ بهذه الحقيقة الكبرى، وبهذه الحقيقة الأولى في هذا الوجود: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [البقرة:255] الله أكبر! إن هذه الحياة البشرية كلها لتجد فاكهة القيمة مبتورة الهدف، معدومة النفع، إن لم تكن هذه الحياة مرتبطة بمنشئها الأول، وقدوسها الأجل الأعظم جل وعلا.

وقفة مع قوله تعالى: (الله لا إله إلا هو)

وقفة مع قوله تعالى: (الله لا إله إلا هو) {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [البقرة:255] إنها الحقيقة الأولى في هذا الوجود التي يشهد بها وعليها الكون كله، من عرشه إلى فرشه، ومن سمائه إلى أرضه، قال الله جل وعلا: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة:164]. إنها آيات توحد الله جل وعلا، وتنطق بوحدانية الله جل وعلا ففي كل شيء له آية تدل على أنه هو الواحد {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ * لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ * سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ * وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:33 - 40]. وقال الله عز وجل: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [النمل:60] استفهام استنكاري {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} [النمل:60]. وبعد توحيد الربوبية الذي أقر به المشرك الأول، ينتقل الحق جل وعلا من توحيد الربوبية إلى توحيد الألوهية الذي لا بد منه، بل والذي لا ينفع توحيد الربوبية بدونه: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ * أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ * أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل:60 - 65]. الله ربي لا أريد سواه هل في الوجود حقيقة إلاه الشمس والبدر من أنوار حكمته والبر والبحر فيض من عطاياه الطير سبحه والوحش مجده والموج كبره والحوت ناجاه والنمل تحت الصخور الصمِّ قدسه والنحل يهتف حمداً في خلاياه والناس يعصونه جهراً فيسترهم والعبد ينسى وربي ليس ينساه ... سل الواحة الخضراء والماء جاريا وهذي الصحاري والجبال الرواسيا سل الروض مزداناً سل الزهر والندى سل الليل والأصداح والطير شاديا وسل هذه الأنسام والأرض والسما وسل كل شيء تسمع التوحيد لله ساريا ولو جن هذا الليل وامتد سرمدا فمن غير ربي يرجع الصبح ثانيا أإله مع الله، لا رب غيره ولا معبود سواه. {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [البقرة:255] إنها الحقيقة الأولى في هذا الوجود التي يشهد بها وعليها الكون كله من عرشه إلى فرشه، ومن سمائه إلى أرضه، ورحم الله الإمام أحمد يوم أن أمسك البيضة بين يديه يوماً وقال: هاهنا حصنٌ حصين أملس، ليس له باب وليس له منفذ، ظاهره كالفضة البيضاء، وباطنه كالذهب الإبريز، فبينما هو كذلك إذ انصدع جداره، وخرج منه حيوان سميع بصير، ذو شكل حسن وصوت مليح. في كل شيء له آية تدل على أنه الواحد يا أعرابي! يا من تربيت في مدرسة الفطرة، ما الدليل على وجود الله؟ قال: البعرة تدل على البعير، وأثر السير يدل على المسير، سماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، أفلا يدل ذلك كله على اللطيف الخبير؟ ومن أروع ما قاله المفكر والفيلسوف سيسل هامان قال: إن الإنسان إذا ما اكتشف قانوناً في هذا الكون يصرخ هذا القانون قائلاً: إن الله هو خالقي، وليس الإنسان إلا مكتشفا: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53]. أيها الأحبة! إن الإقرار بأن الله جل وعلا هو الخالق، وهو الرازق، وهو المدبر، وهو المحيي، وهو المميت، يجب على من أقر لله بذلك أن يصرف العبادة بركنيها من كمال الحب والذل إليه، وبشرطيها من إخلاص واتباع إليه، أما أن نقر لله بالخلق والرزق والأمر والتصريف والتدبير، وأن نصرف العبادة لأحدٍ مع الله، أو لأحدٍ من دون الله فهذا شرك بالله جل وعلا، ومن ثم إذا وجهنا العبادة لله جل وعلا وجب علينا أن نستمد تشريعنا من الله جل وعلا وحده، فليس من حق هيئة، أو سلطة، أو مجلس نيابي، أو برلماني، أو دولة أن تشرع للبشر من دون الله جل وعلا: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [يوسف:39 - 40] لا لهيئة، ولا لدولة، ولا لمجلسٍ شعبي، ولا لمجلسٍ شوروي، ولا لبرلمان، ولا لأحدٍ على ظهر هذه الأرض أن يشرع للخلق من دون الله جل وعلا: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور:51]. أما المنافقون فهم الذين -والعياذ بالله- يعرضون عن حكم الله، ويعرضون عن شرع الله، ويعرضون عن منهج الله، ويعرضون عن سنة الحبيب رسول الله صلى الله عليه وسلم. إن أول حق لله علينا أن نوحده توحيداً شاملاً، توحيداً كاملاً، أن نقر له بتوحيد الربوبية، بل وبتوحيد الألوهية، بل وبتوحيد الأسماء والصفات، بل وبتوحيد الحاكمية، فإن من أعظم مفاهيم كلمة التوحيد أن يكون الحكم لله جل وعلا لا لأحد سواه: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:40]. فإذا أقر المسلم لله بالخلق والرزق لا يجوز له ألبتة أن يذهب حراً طليقاً ليختار لنفسه من المناهج والقوانين والأوضاع التي هي من صنع البشر، بل من صنع المهازيل من البشر من الشيوعيين، والعلمانيين، والديمقراطيين، والزنادقة، والفجرة، والفسقة الذين تتحكم فيهم الأهواء والشبهات والشهوات، وأن يترك شرع الله وشرع رسول الله صلى الله عليه وسلم. {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [البقرة:255] أن نقر لله بالتوحيد، وهذا هو أول حق لله علينا، كما في الصحيحين من حديث معاذ بن جبل قال: (كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم يوماً على حمار، فقال لي رسول الله: يا معاذ! أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً). أيها الحبيب! هذا هو حق الله عليك، أن تعبد الله جل وعلا، وأن توحد الله جل وعلا، وأن تصرف العبادة بركنيها وبشرطيها لله جل وعلا؛ لأن الذي خلق، والذي رزق، والذي أبدع هو الذي يستحق أن يعبد: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4] لا نظير له، ولا شبيه له، ولا كفء له، ولا ند له، ولا مثيل له: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11]. {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] الحي الذي لا يموت {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88] {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27]. إذا ما أمر الل

وقفة مع قوله: (الحي القيوم)

وقفة مع قوله: (الحي القيوم) {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] الذي يحتاج إليه غيره ولا يحتاج هو إلى غيره، القيوم: الذي تفتقر إليه جميع المخلوقات ولا يفتقر هو إلى خلقه بل هو الغني عن الخلق، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [فاطر:15 - 17]،. (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وأنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وأنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً) لا تنفعه الطاعة ولا تضره المعصية.

وقفة مع قوله تعالى: (لا تأخذه سنة ولا نوم)

وقفة مع قوله تعالى: (لا تأخذه سنة ولا نوم) {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] ورد في صحيح مسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات، فقال: إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل النهار قبل عمل الليل، وعمل الليل قبل عمل النهار، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه).

وقفة مع قوله تعالى: (له ما في السموات وما في الأرض)

وقفة مع قوله تعالى: (له ما في السموات وما في الأرض) {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [البقرة:255] فالملك ملكه، والجميع تحت قهره وتحت عبوديته. {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [البقرة:255] السماوات ملكه، والأرض ملكه، بل وما في السموات وما في الأرض ملك لله جل وعلا يقول الله تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم:93 - 95].

وقفة مع قوله تعالى: (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه)

وقفة مع قوله تعالى: (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] لا يجوز لمخلوق ألبتة أن يشفع يوم القيامة إلا بعد إذن الله، وبعد رضا الله جل وعلا يقول الله تعالى: {إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم:26] لا بد أن نتعلق بالله، ولا بد أن نصحح عقيدتنا في الله، ولا بد أن نعلم أن الأمر كله بيد الله.

وقفة مع قوله تعالى: (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم)

وقفة مع قوله تعالى: (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم) {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [البقرة:255] إنه العلم المحيط الشامل الكامل يقول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7] معهم أينما كانوا بعلمه، بقدرته، بإرادته، بإحاطته، بقهره، لا تقل: معهم بذاته، فلا تقع فيما وقع فيه أهل الحلول والاتحاد، حيث جعلوا ذات الله جل وعلا قد حل في كل شيء، وقالوا كلاماً يعف اللسان عن ذكره على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم {هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7] معهم بعلمه، وبسمعه، وببصره، ما من جبل على ظهر هذه الأرض إلا وهو يعلم ما في وعره، ولا بحرٍ على سطح هذه الأرض إلا ويدري الله ما في قعره: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [فاطر:11]. وهاهي المرأة الأعرابية تعلمنا هذا الدرس العجيب العظيم، يوم أن ذهب إليها الأعرابي في الصحراء ليراودها عن نفسها، فقالت له لتعلمه: هلا ذهبت واطمأننت هل نام الجميع، فعاد هذا الأعرابي فرحاً بلذةٍ فانية لمعصية يظل ذلها دائماً، قال لها: أبشري فلقد نام الناس جميعاً، ولا يرانا إلا الكواكب، فنظرت إليه هذه الأعرابية قائلة: وأين مكوكبها؟ {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [المجادلة:7] يوم تتطاير الصحف، وتنشر السجلات، وينادى عليك باسمك، وتعطى هذه الصحيفة، تلك الصحيفة التي لا تغادر بليةً كتمتها، ولا مخبأة أسررتها، فكم من معصية قد كنت نسيتها ذكرك الله إياها، وكم من مصيبة قد كنت أخفيتها أظهرها الله لك وأبداها، فيا حسرة قلبك وقتها على ما فرطت في دنياك من طاعة مولاك. تذكر وقوفك يوم العرض عريانا مستوحشاً قلق الأحشاء حيرانا والنار تلهب من غيظ ومن حنق على العصاة ورب العرش غضبانا اقرأ كتابك يا عبدي مهلٍ فهل ترى فيه حرفاً غير ما كانا فلما قرأت ولم تنكر قراءته وأقررت إقرار من عرف الأشياء عرفانا نادى الجليل خذوه يا ملائكتي وامضوا بعبد عصى للنار عطشانا المشركون غداً في النار يلتهبوا والمؤمنون بدار الخلد سكانا أسأل الله جل وعلا أن يختم لي ولكم بخاتمة التوحيد. وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

وقفة مع قوله تعالى: (ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء)

وقفة مع قوله تعالى: (ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِ وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الأحبة! يقول الحق جل وعلا: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة:255] لا يطلع أحد على علمٍ إلا بعد أن يعلمه الله إياه: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة:255] كما قال الخضر عليه السلام لموسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام: أنا على علم من علم الله علمنيه، وأنت على علمٍ من علم الله علمكه الله جل وعلا. وفي النهاية فإن علم الخلق جميعاً إلى جوار علم الله كما قال الله عزوجل: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقمان:27] في النهاية: أرسل الله للخضر وموسى عصفوراً فنقر هذا العصفور قطرة من ماء البحر، فقال الخضر لموسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام: إن علمي وعلمك في علم الله جل وعلا بمقدار ما أخذ هذا العصفور من ماء البحر.

وقفة مع قوله تعالى: (وسع كرسيه السماوات والأرض)

وقفة مع قوله تعالى: (وسع كرسيه السماوات والأرض) {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255] لا يصعب عليه شيء، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، فهو الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض، وهو الذي يمسك السماء أن تزول، وهو الذي يمسك الأرض أن تزول: {وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255].

مذهب أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات

مذهب أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات ومذهبنا واعتقادنا في كل هذه الصفات التي وردت في هذه الآية ما عليه جمهور سلف الأمة رضوان الله عليهم، أننا نؤمن بجميع هذه الصفات، ونمرها صريحة كما جاءت في القرآن من غير تحريف لألفاظها، ومن غير تحريف لمعانيها، ومن غير تعطيل، ومن غير تكييف، ومن غير تمثيل، فكل ما دار ببالك -أيها الحبيب- فالله بخلاف ذلك: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] لا تدركه العقول، ولا تكيفه الأذهان: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:103] هذا هو مذهب سلف الأمة في هذه الصفات، فنؤمن بأن لله جل وعلا أسماء الجلال، وصفات الكمال من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل. أسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلنا وإياكم ممن يقفون عند القرآن، وممن يحولوا القرآن في حياتهم إلى واقع. اللهم رد الأمة إلى القرآن رداً جميلاً، اللهم رد الأمة إلى القرآن رداً جميلاً، اللهم رد الأمة إلى القرآن رداً جميلاً، اللهم هيئ لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، أنت ولي ذلك والقادر عليه. اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم لا تدع لأحد منا ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا أديته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا رب العالمين. اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل اللهم فينا ولا منا شقياً ولا محروماً. اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا سبباً لمن اهتدى، اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا سبباً لمن اهتدى. اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، وأعلِ بفضلك كلمة الحق والدين، اللهم احمل المسلمين الحفاة، واكسُ المسلمين العراة، وأطعم المسلمين الجياع، برحمتك يا أرحم الراحمين. أحبتي في الله! أكثروا من الصلاة والسلام على نبينا وحبيبنا محمد، فلقد أمرنا الله جل وعلا بذلك في محكم تنزيله فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. هذا وما كان من توفيق فمن الله، وما كان من خطأ أو سهوٍ أو زللٍ أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.

التبرج والسفور

التبرج والسفور خلق الله الخلق لعبادته، ولإعمار الأرض. وحتى يبقى الاستخلاف ويدوم الإعمار خلق الله البشر على جنسين: ذكور وإناث، وجعل ميل كل منهما للآخر فطرة، ثم هذب هذه الفطرة بالزواج، فجوز وحبب ميل الرجل لامرأته والعكس، وحرم ميل الرجل لأجنبية والعكس، وحرم كذلك المقدمات التي تؤدي لمثل هذا الميل المحرم من تبرج وسفور واختلاط وغير ذلك، وقد منع كل ذلك حتى تكون حياة المجتمع المسلم طاهرة نقية.

تحريم التبرج وفرض الحجاب وأسباب ذلك

تحريم التبرج وفرض الحجاب وأسباب ذلك إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فمع الدرس الرابع من دروس سورة الستر والعفاف في سورة النور، وما زلنا بفضل الله جل وعلا نتحدث عن جريمة الزنا وعن الضمانات الوقائية التي وضعها الإسلام حماية لأفراد المجتمع الإسلامي من الوقوع في هذه الكبيرة الخطيرة، وقلنا: إن هذه الضمانات تتلخص فيما يلي: أولاً: تحريم النظر إلى المحرمات. ثانياً: تحريم التبرج وفرض الحجاب على المرأة المسلمة. ثالثاً: تحريم الخلوة بالمرأة الأجنبية، ومنع الاختلاط المستهتر. رابعاً: تحريم الغناء باعتباره بريد الزنا. خامساً: الحض على الزواج لمن استطاع إليه سبيلاً، والحض على الصوم لمن لم يستطع الزواج، والحض على عدم المغالاة في المهور تيسيراً لتكاليف الزواج. ولقد تكلمنا في اللقاء الماضي -بفضل الله جل وعلا- عن أول ضمان من هذه الضمانات الوقائية، ألا وهو تحريم النظر إلى ما حرم الله جل وعلا، وبينا ما يتعلق بهذا الباب من أحكام فقهية، نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب. أيها الأحبة! نحن اليوم على موعد مع الضمان الثاني من هذه الضمانات الوقائية التي جعلها الإسلام سياجاً واقياً وحامياً لأفراده من الوقوع في هذه الفاحشة الكبرى، ألا وهو: تحريم التبرج وفرض الحجاب على المرأة المسلمة. أيها الأحبة! إن الإسلام يهدف إلى إقامة مجتمع طاهر ونظيف؛ لا تهاج فيه الشهوات في كل لحظة، ولا تستثار فيه دوافع اللحم والدم في كل حين؛ لأن عمليات الاستثارة المستمرة لهذه الغرائز الهاجعة والشهوات الكامنة تنتهي إلى سعار شهواني لا يرتوي ولا ينطفئ، فالحركة المثيرة، والزينة المتبرجة، واللحن العاري، والرائحة المؤثرة، والمشية المتكسرة، والقولة اللينة المترققة كلها لا تصنع إلا أن تثير هذه الشهوات الهاجعة والغرائز الكامنة كلها تتكاتف لتصب في هذا المستنقع الآسن وفي هذه النار المشتعلة المتأججة المحرقة، ألا وهي نار الشهوات والفتن التي توصلها كل هذه الأشياء إلى قلوب الشباب والرجال وأصحاب القلوب المريضة! نسأل الله أن يحفظنا وإياكم.

ميل الرجال إلى النساء ميل فطري

ميل الرجال إلى النساء ميل فطري المرأة -أيها الأحباب- بينها وبين الرجل ميلٌ فطري، ميلٌ عميقٌ في التكوين الحيوي والنفسي؛ لأن الله جل وعلا قد أناط بهذا المني امتداد الحياة على ظهر هذه الأرض، لذا فإن عملية الجذب بين الرجل والمرأة عملية مستمرة لا تنتهي ولا تنقطع أبداً، وكذب من ادعى بأن مسألة الاختلاط بين الجنسين تزيل هذا الوباء والبلاء. إن مسألة الميل الفطري بين الرجل والمرأة مسألة عميقة في تكوين النفس البشرية، جعلها الله كذلك ليضمن بها امتداد الحياة البشرية على ظهر هذه الأرض، والمرأة بطبيعتها جبلت بالجبلة وفطرت بالطبيعة على الأنوثة وحب الجمال وحب الزينة، والإسلام لم يعاكسها في هذه الفطرة التي فطرت عليها، ولم يتنكر الإسلام لهذا الخُلق الذي جبلت المرأة عليه أبداً، ولكن الإسلام لما طلب من المرأة أن تتزين حدد الإسلام لمن تكون هذه الزينة، ولمّا حرم الإسلام الزينة على المرأة حدد الإسلام من تحرم عليه هذه الزينة، فوضع الإسلام شروطاً وقيوداً وحدوداً. فإذا تفلتت المرأة من هذه القيود والشروط وتعدت هذه الحدود؛ أصبحت ناراً محرقة متأججة لا تبقي ولا تذر، وخرجت سافرة متبرجة متعطرة لترسل سهام الفتنة والشهوة في قلوب الشباب والرجال! وحينئذٍ يصبح المجتمع جحيماً لا يطاق، وتحل فيه الفوضى، فلا راحة ولا هدوء ولا استقرار ولا أمان ولا فضيلة ولا خلق بل خطر كبير وشر مستطير، هذا إن تفلتت المرأة من حدود الله جل وعلا وتجاوزت القيود التي وضعها لها الإسلام، وخرجت متبرجة متعطرة متزينة تعاند الله جل وعلا، وهي تقول بلسان الحال: يا رب، غيِّر شرعك وبدل دينك؛ فإن الحجاب لم يعد يساير مدنية القرن العشرين، وخرجت كالعروس المزخرفة إلى الشوارع والطرقات، وقد أخذت زخرفها وتزينت وهي تقول بلسان الحال: ألا تنظرون إلى هذا الجمال هل من راغب في القرب والوصال هذا هو لسان حال المتبرجة التي تفلتت من حدود الله جل وعلا، وعاندت شرع ربها المعبود عز وجل.

تبرج المرأة من أعظم أسباب السقوط في المجتمع الإسلامي

تبرج المرأة من أعظم أسباب السقوط في المجتمع الإسلامي أيها الأحبة: لقد علِم أعداء ديننا أن المرأة من أعظم أسباب القوة في المجتمع الإسلامي، وعلِموا أنها من أخطر وسائل الهدم والتدمير في المجتمع الإسلامي فراحوا يخططون ويدبرون لمسخ هذه الأمة، ولقلب هوية هذه الأمة، ولتدمير أخلاق هذه الأمة التي بها وصلت إلى ما وصلت إليه فأذل كسرى وأهين قيصر يوم أن فشلوا في احتلال أرضنا احتلالاً عسكرياً بالجيوش، وقالها لويس التاسع يوم أن أسر في دار ابن لقمان بـ المنصورة بـ القاهرة قالها صريحة واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار، قال: إنه لم يعد من الممكن السيطرة على بلاد المسلمين بالجيوش العسكرية، فلا بد -الآن- من البحث عن سبيل جديد لغزو المسلمين، وكان الغزو الفكري أخطر بكثير من الغزو العسكري. وبالتالي -أيها الأحباب- لم يسحب أعداء الدين جيوشهم من أرضنا وبلادنا إلا بعد أن اطمأنوا أنهم خلّفوا وراءهم في بلادنا جيشاً أميناً على كل أهدافهم، وأطلقوا على هذا الجيش الأمين الذي أخذ عنوة ليحج إلى قبلته وكعبته في الشرق الملحد تارة، وفي الغرب الملحد تارة أخرى، وعاد هؤلاء الذين أطلق عليهم أعداء ديننا أضخم الألقاب والأوصاف كالمحررين والمفكرين والمطورين، عاد هؤلاء بعد أن شربوا من هذا المستنقع الآسن العفن، عادوا لينفثوا سموم فكرهم النتن في عقول المسلمين والمسلمات، وأخذوا يطلقون هذه السهام المسمومة والرماح القاتلة تحت هذه الألقاب والشعارات البراقة التي خدعت كثيراً من المسلمين والمسلمات، ألا وهي: حرية المرأة، مساواة المرأة بالرجل، تحرير المرأة. وهل كانت المسلمة أمة يا دعاة السفور، والفسق والانحلال؟! هل كانت المسلمة أمة حتى تحرروها؟! لا والله: إن الإسلام هو أول من أنصف المرأة -يا عباد الله- بعد أن كانت قبل الإسلام من سقط المتاع؛ تشترى في الأسواق وتباع، بل ويتاجر بها في أسواق الدعارة والعهر والفجور، فقد كان الوالد يقدم ابنته ويقدم زوجته في بيت من البيوت ويرفع عليه الراية الحمراء ليقتضي وليتقاضى الدراهم العفنة من وراء هذا العمل وهذه المعصية، والدعارة الماجنة! كانت المرأة تشترى وتباع، ويتاجر بها في أسواق الشهوات والنزوات، وكانت تقتل وهي حية خوف الفقر والعار: {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:8 - 9] فجاء الإسلام ليعلي مكانة المرأة وليرفع من شأنها وليضعها في مكانتها التي تليق بها كإنسانة عظيمة بيدها عظمة هذا المجتمع. إن الإسلام هو الذي جعل النساء شقائق الرجال. إن الإسلام هو الذي جعل بر الأمهات مقدماً على بر الآباء. إن الإسلام هو الذي جعل الجنة تحت أقدام الأمهات.

عودة المرأة المسلمة إلى الله من ركائز الصحوة الإسلامية

عودة المرأة المسلمة إلى الله من ركائز الصحوة الإسلامية يا بنت الإسلام، يا أصل العز، والشرف، والحياء. يا بنت خالد، والفاتح، وصلاح الدين، ومحمد بن مسلمة أين العز والشرف، وأين السؤدد والمجد، وأين الحياء والكبرياء. لقد عز على هؤلاء أن تكوني فوق كرسي مملكتك، فجاءوك على حين غرة، وعلى حين غفلة من أبنائك البررة، فأنزلوك من على عرشك، وأخرجوك من حصنك المنيع، ولكن الحمد لله، أننا رأينا المرأة المسلمة من جديد، ترفع بيمينها كتاب الله جل وعلا، وبشمالها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد لبست الحجاب ورددت الأنشودة العذبة الحلوة لله جل وعلا، سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا، اغفر لنا ما سلف من الزينة والتبرج والعري، غفرانك ربنا وإليك المصير. والله إننا نرى من ركائز هذه الصحوة الإسلامية عودة المرأة المسلمة إلى الله جل وعلا، فمرحباً مرحباً بك، مرحباً بك يا أماه، مرحباً بك يا أختاه، مرحباً بك يا بنتاه، مرحباً بك أيتها الكريمة الفاضلة، تحت ظلال شرع الله، وفي كنف دين ابن عبد الله صلى الله عليه وسلم. مرحباً بك تحت شجرة الحياء، مرحباً بك تحت ظلال الحياء، تعالي إلى الله، أقبلي إليه وعودي إليه، واعلمي يا أختاه، أن المؤمنة التقية النقية الطاهرة، هي التي تسلم وجهها لله جل وعلا، وتذعن لأمر الله تبارك وتعالى. أمرها الله بالحجاب فتقول: سمعاً وطاعة. أمرها الله بعدم الخروج متعطرة فقالت: سمعاً وطاعة. أمرها الله بعدم الخروج متبرجة فقالت: سمعاً وطاعة. أمرها الله بأي شيء تسلم وتذعن لأمره، وهي طائعة محبة مختارة، كملت عبوديتها لله جل وعلا تقول: سمعاً وطاعة لله جل وعلا ولرسول الله صلى الله عليه وسلم. أما المتبرجة والسافرة، التي نزعت برقع الحياء عن وجهها، وخرجت سافرة متبرجة عارية، متعطرة متطيبة، على مرأى ومسمع من زوجها، وأبيها، وأخيها، إنا لله وإنا إليه راجعون. أين الغيرة والشرف والحياء والرجولة والكرم والمروءة؟ أين الرجولة يا من ترى ابنتك الجامعية تخرج إلى الجامعة سافرة متبرجة، متطيبة عارية؟! أين رجولتك، أين مروءتك، أين دينك، أين إسلامك، أين الشهامة وأين الرجولة؟! زوجتك تخرج سافرة متطيبة على مرأى ومسمع منك يا عبد الله، اتق الله اتق الله أيها الرجل، اتق الله أيها الزوج، اتق الله أيها الأخ.

تكريم الإسلام للمرأة

تكريم الإسلام للمرأة إن الإسلام هو الذي كرم المرأة كبيرة، بل وكرمها وقدرها صغيرة، فاسمعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واستمعن أيتها المسلمات الفاضلات في كل مكان على أرض الله جل وعلا، استمعن إلى هذه الأحاديث الفاضلة العظيمة لتعلمي أيتها الأخت الفاضلة أن الإسلام كرمك وعظمك وشرفك ورفعك من هذا المستنقع الآسن، إلى قمة المجد والسؤدد. يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم ليرد على دعاة الإباحية والتحرر والسفور الذين تباكوا على المرأة المسلمة التي ظلمت في ظل الإسلام والتي هضم حقها في ظله، وضاعت حقوقها في ظله فاستمعن أيتها المسلمات، واسمعوا يا دعاة الفسق والسفور والانحلال، ماذا قال الإسلام عن المرأة وفي أي الأماكن بوأها، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في جزء من الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه يقول: (استوصوا بالنساء خيراً). وفي الحديث الذي رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا يفرك مؤمن مؤمنة)، أي: لا يبغض مؤمن مؤمنة إن كانت زوجته (لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقاً رضي منها آخر). وفي الحديث الذي رواه الترمذي وقال: حديث صحيح، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وخياركم خياركم لنسائهم). وفي الحديث الذي رواه ابن عساكر، وصححه الإمام السيوطي في الجامع أنه صلى الله عليه وسلم قال: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي، وما أكرم النساء إلا كريم، ولا أهانهن إلا لئيم). ولم يكتف الإسلام بتقدير المرأة كبيرة، وإنما قدرها وأجلها واحترمها وهي صغيرة، فاسمعوا إلى رسول الإسلام والسلام صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الذي رواه مسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: (من عال جاريتين -من رزقه الله بابنتين اثنتين ورباهما تربية طيبة- حتى تبلغا، جاء يوم القيامة أنا وهو كهاتين، وقرن بأصبعيه بين السبابة والوسطى) أسمعتم -يا عباد الله- هذه مكانة البنت في الإسلام! هذه مكانة المرأة في دين ابن عبد الله صلى الله عليه وسلم، ووضحت رواية الترمذي ذلك فقال: (وقرن بين أصبعية السبابة والوسطى) وفي رواية أبي داود قال عليه الصلاة والسلام: (من عال ثلاث بنات فأدبهن وزوجهن وأحسن إليهن، فله الجنة). وفي رواية البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (دخلت علي امرأة ومعها ابنتان لها، فسألتني فلم تجد عندي شيئاً غير تمرة واحدة فأعطيتها إياها) ولا ينبغي أن نمر على هذا سريعاً، وإنما ينبغي أن نقول: إن هذا بيت من بيوت المصطفى صلى الله عليه وسلم لا يوجد فيه إلا تمرة واحدة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} [الزلزلة:7] والتمرة فيها ذرات خير كثيرة، إن تُصدق بها ابتغاء وجه الله جل وعلا! فتصدقت بالتمرة عليها، تقول أمنا السيدة عائشة رضي الله عنها: (فقسمتها المرأة بين ابنتيها -إنه قلب وحنان الأم وينبوع الحنان والرحمة- ولم تأكل منها شيئاً! ثم قامت وخرجت والبنتان) تقول عائشة: (فدخل عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم فحدثته حديثها فقال عليه الصلاة والسلام: من ابتلي من البنات بشيء فأحسن إليهن، كن له ستراً من النار). أسمعتم يا دعاة الانحلال؟! أسمعتم يا دعاة التبرج والسفور؟! أسمعتم يا أدعياء الذل والباطل؟! هل استمعتن أيتها المسلمات؟! هل استمعتم يا عباد الله؟! هل هناك مكانة أعظم من هذه المكانة للمرأة المسلمة في دين الله جل وعلا؟

هدف الإسلام من فرض الحجاب

هدف الإسلام من فرض الحجاب والله الذي لا إله غيره ما حرم الإسلام عليك التبرج يا أمة الله، وما فرض عليك الإسلام الحجاب يا أمة الله، إلا لصيانتك، وحمايتك، وحفظك من عبث العابثين، ومجون الماجنين حتى لا تتطلع إليك النظرات الزانية، وحتى لا تدنس بدنك هذه النظرات الخائنة، والله ما أراد الإسلام لكِ إلا العفة والستر والحياء جعلك الإسلام في شرعه كالدرة المصونة التي تحيط بها الصدفة، حتى لا تمتد إليها اليد العابثة الآثمة، نعم. جعلك الإسلام كالدرة المصونة وكاللؤلؤ المكنون. وأنا أسألك أيتها الأخت الفاضلة المسلمة! بالله عليك لو كان معك لؤلؤة نادرة، أو ماسة غالية جميلة، بالله عليك هل ستلقين بها في الطرقات والشوارع، أم ستحفظينها في مكان أمين مناسب، والله لو أن أنساناً رمى لؤلؤة غالية نادرة في الطرقات لاتهمه الناس بالجنون، وأنتِ كذلك؛ أنتِ درتنا المصونة أنتِ لؤلؤتنا المكنونة! يا أمة الله! أيتها الأم الفاضلة والأخت الكريمة! أيتها الغالية الحبيبة! والزوجة الكريمة! أنتِ لؤلؤتنا المكنونة، أنتِ درتنا المصونة، أنتِ أنتِ أنتِ، أنتِ من أنتِ؟ أنتِ أمي أنتِ زوجتي أنتِ أختي أنتِ ابنتي أنتِ كل شيء أنتِ العز والعظمة، أنتِ الفخر والمجد والشرف لما رأى أعداء ديننا أن المسلمة تربعت على عرش حيائها تهز المهد بيمينها، وتزلزل عروش الكفر بشمالها عز عليهم ذلك، وعز عليهم أن تجود المسلمة من جديد على أمتها بالعلماء العاملين، والمجاهدين الصادقين! وصار همهم أن تصير المسلمة عقيماً لا تلد خشية أن تنجب خالد بن الوليد، وصلاح الدين، وابن تيمية وغير هؤلاء، عز عليهم ذلك والله! فراحوا يدبرون لكِ المؤامرات في الليل والنهار للزج بكِ في هذا المستنقع الآسن؛ مستنقع الرذيلة والعار أنت لؤلؤتنا المكنونة، ودرتنا المصونة.

عودة الحجاب من ركائز الصحوة الإسلامية

عودة الحجاب من ركائز الصحوة الإسلامية يا بنت الإسلام، يا أصل العز، والشرف والحياء! يا بنت خالد، والفاتح، وصلاح الدين، ومحمد بن مسلمة! أين العز والشرف؟ وأين السؤدد والمجد؟ وأين الحياء والكبرياء؟ لقد عز على هؤلاء أن تكوني فوق كرسي مملكتك، فجاءوك على حين غرة، وعلى حين غفلة من أبنائك البررة، فأنزلوك من على عرشك، وأخرجوك من حصنك المنيع، ولكن الحمد لله أننا رأينا المرأة المسلمة من جديد ترفع بيمينها كتاب الله جل وعلا، وبشمالها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد لبست الحجاب ورددت الأنشودة العذبة الحلوة لله جل وعلا، سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا، اغفر لنا ما سلف من الزينة والتبرج والعري، غفرانك ربنا وإليك المصير. والله إننا نرى من ركائز هذه الصحوة الإسلامية عودة المرأة المسلمة إلى الله جل وعلا، فمرحباً مرحباً بك، مرحباً بك يا أماه، مرحباً بك يا أختاه، مرحباً بك يا بنتاه، مرحباً بك أيتها الكريمة الفاضلة، تحت ظلال شرع الله، وفي كنف دين ابن عبد الله صلى الله عليه وسلم. مرحباً بك تحت شجرة الحياء، مرحباً بك تحت ظلال الحياء تعالي إلى الله، أقبلي إليه وعودي إليه، واعلمي يا أختاه أن المؤمنة التقية النقية الطاهرة هي التي تسلم وجهها لله جل وعلا، وتذعن لأمر الله تبارك وتعالى. أمرها الله بالحجاب فقالت: سمعاً وطاعة. وأمرها الله بعدم الخروج متعطرة فقالت: سمعاً وطاعة. وأمرها الله بعدم الخروج متبرجة فقالت: سمعاً وطاعة. أمرها الله بأي شيء فسلمت وأذعنت لأمره وهي طائعة محبة مختارة! فكملت عبوديتها لله جل وعلا لما قالت: سمعاً وطاعة لله جل وعلا ولرسول الله صلى الله عليه وسلم. أما المتبرجة السافرة؛ التي نزعت برقع الحياء عن وجهها، وخرجت سافرة متبرجة عارية، متعطرة متطيبة، على مرأى ومسمع من زوجها وأبيها وأخيها إنا لله وإنا إليه راجعون!! أين الغيرة والشرف والحياء والرجولة والكرم والمروءة؟! أين الرجولة يا من ترى ابنتك الجامعية تخرج إلى الجامعة سافرة متبرجة، متطيبة عارية؟! أين رجولتك؟ أين مروءتك؟ أين دينك؟ أين إسلامك؟ أين الشهامة وأين الرجولة؟! زوجتك تخرج سافرة متطيبة على مرأى ومسمع منك يا عبد الله! اتق الله اتق الله أيها الرجل، اتق الله أيها الزوج، اتق الله أيها الأخ! اتقوا الله يا عباد الله!

حقيقة التبرج ومظاهره

حقيقة التبرج ومظاهره إن المتبرجة تخرج بلسان الحال الذي يقول: ألا تنظرون إلى هذه الزينة، وهذا الجمال، وهذا اللحم. والله إن الشريفة لا تقبل هذا أبداً -دعك من الدين في هذا- فضلاً عن المتدينة التي استسلمت لأمر الله جل وعلا؛ لا تقبل أبداً أن تخرج وقد كشفت عن لحمها، وأظهرت مفاتنها ومحاسنها، وتطيبت وتعطرت وتزركشت وتزخرفت وتبهرجت، وخرجت لتنفث السموم، ولترسل السهام المسمومة في قلوب الشباب والرجال المساكين! خرجت على هذا الحال الذي لا يرضي الرحمن ويُرضي الشيطان خرجت متبرجة! فأمة الله! ما هو التبرج الذي حرمه الإسلام عليك؟ وما هي مظاهره؟ لأن كثيراً من الناس وكثيراً من الأخوات يعتقدن أن التبرج هو أن تظهر المرأة شيئاً من محاسنها فقط؟ التبرج لغة: هو التكشف والظهور، أو هو إظهار الزينة وإبراز المرأة لمحاسنها، وقال الإمام الزمخشري: هو تكلف إظهار ما يجب إخفاؤه، وأما مظاهره فهي: أولاً: الإغراق في حب الزينة وإظهارها عمداً. ثانياً: الإغراق في تضييق الثياب وترقيقها وتقصيرها. ثالثاً: الخضوع بالقول. رابعاً: التعطر والتطيب لغير الزوج. هذه بعض مظاهر التبرج، فأعيروني القلوب والأسماع.

الإغراق في حب الزينة وإظهارها عمدا

الإغراق في حب الزينة وإظهارها عمداً أول مظهر من مظاهر التبرج: الإغراق في حب الزينة وإظهارها عمداً، والإسلام يريد من المرأة أن تغرق في حب الزينة وتظهرها عمداً لكن لزوجها لا بد؛ فالمرأة جبلت على حب الزينة والتطيب والجمال، ولا مانع أبداً بشرط أن يكون ذلك للزوج؛ تعطري وتطيبي وتجملي وتزيني بل إن الإسلام يوجب عليك ذلك، وإن كثيراً من الأزواج ما هجروا البيوت إلا بسبب تضييع هذا الأمر؛ تضييع المرأة في ثيابها وزينتها وإقرار حقها فيهرب الزوج من البيت! الإسلام يأمركِ بذلك للزوج، وقديماً نصحت المرأة العاقلة والأم البليغة أمامة بنت الحارث ابنتها أم إياس بنت عوف الشيباني في ليلة زفافها، وكان من بين هذه النصيحة الطويلة التي ربما تعرضنا لها في مسألة الزواج إن شاء الله جل وعلا، قالت لها الأم: ولا تقع عينه منك على قبيح، ولا يشم منك إلا أطيب ريح فالإسلام يأمركِ أن تتزيني وتتجملي وتتطيبي وتتعطري لزوجك في بيتك، وبالمقابل يحرم عليك الإسلام أن تتزيني وتتجملي لغير الزوج، ووالله أقسم بالله العلي العظيم، إن الوجه من أعظم محاسن المرأة، فهو محط الجمال وينبوع الخطر ومكمن الفتنة، فالله جل وعلا يحرم على المرأة أن تضرب الأرض برجلها حتى لا يفتتن الرجل بسماع صوت خلاخيلها في قدمها، فبالله عليكم أيها الناس بالله عليكن أيتها المسلمات أفيدونا وأجبننا يا أصحاب الإنصاف، بالله عليكم أي الفتنتين أعظم: أن يسمع الرجل إلى صوت خلخال في قدم امرأة لا يدري أشرهاء هي أم حسناء، أم أن ينظر إلى وجه سافر جميل امتلأ شباباً ونظرة وحيوية وجمالاً وتجميلاً بالأصباغ والمساحيق؟! أي فتنةٍ أعظم: فتنة القدم أم فتنة الوجه؟ لا إله إلا الله! قليلاً من الإنصاف يا عباد الله، قليلاً من الإنصاف لنصل إلى الحقيقة الواضحة كوضوح الشمس في رابعة النهار، أي الفتنتين أعظم: سماع صوت خلخال في قدم المرأة أو النظر في وجه سافر جميل امتلأ بالشباب والنظرة والحيوية والجمال؟ بل والتزيين بالأصباغ والمكياج والمساحيق؟ أي الفتنتين أعظم؟ وأنا لا آتي بشيء من عند نفسي حتى لا نتهم بالتطرف في ذلك الأمر. فلتجيبوا أيها المنصفون ولتجبن أيتها المنصفات الإسلام لم يحرم عليك الزينة لزوجك وإنما حرم عليك أن تظهري هذه الزينة لغير المحارم، سبحان الله العظيم! ورد في صحيح البخاري أن السيدة عائشة رضي الله عنه قالت: (لو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء بعده لمنعهن المساجد كما منع نساء بني إسرائيل). لا إله إلا الله! ماذا أحدث النساء في عصر عائشة؟! ماذا أحدث النساء في عصر الطهر والعفاف؟! ماذا أحدث النساء في خير القرون بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! السيدة عائشة تقول على نساء زمانها ذلك! فبالله عليكم ماذا تقول السيدة عائشة رضي الله عنها لو رأت نساءنا في هذه الأيام وأحوالهن إنا لله وإنا إليه راجعون! والفقهاء الذين قالوا: إن الوجه ليس بعورة يشترطون عدم الفتنة، يقولون بالإجماع: يحرم على المرأة أن تكشف وجهها إن خشيت الفتنة، وهل أمنت الفتنة في زماننا هذا يا عباد الله؟ أجيبوا يا أهل الإنصاف، وأجبن يا ذوات الإنصاف، يقول الفقهاء الذين قالوا بجواز كشف الوجه: يحرم على المرأة أن تكشف عن وجهها إذا خشيت الفتنة. وهل أمنت الفتنة في زمان قل فيه الورع والإيمان والتقوى، والمروءة، بل والشهامة والنخوة والرجولة؟ هذا الزمان وإن كنا لا نعيب زماننا كما قال أبو الطيب: نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا أرى ثياباً تصان على أناس وأخلاق تداس فلا تصان يقولون الزمان به فساد وهم فسدوا وما فسد الزمان

الإغراق في تضييق الثياب وترقيقها وتقصيرها

الإغراق في تضييق الثياب وترقيقها وتقصيرها المظهر الثاني من مظاهر التبرج الذي حرمه الشرع على المرأة المسلمة: الإغراق في تضييق الثياب وترقيقها وتقصيرها، حتى إننا نرى المرأة وقد خرجت بثياب ضيقة لاصقة في جسدها، حتى أبرزت في الجسد كل فتنة مخبوءة لا حول ولا قوة إلا بالله! ودائماً الممنوع مرغوب. إن التي خرجت بهذه الثياب الضيقة، والعباءة التي لفتها على بدنها لفاً؛ فأظهرت كل فتنة مخبوءة في هذا الجسد عاصية لله جل وعلا، واسمعوا إلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي رواه مسلم وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: يصف النبي صلى الله عليه وسلم أحوال هؤلاء النسوة وصفاً دقيقاً عجيباً، وهذا الحديث من معجزات النبي الخالدة، يقول صلى الله عليه وسلم: (صنفان من أهل النار: قوم معهم سياط كأذناب البقر، يضربون بها الناس -في السجون والمعتقلات- ونساء كاسيات عاريات) من أهل النار بشهادة نبينا المختار ما لم تتب هذه المرأة إلى العزيز الغفار، قال صلى الله عليه وسلم: (ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات، رءوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا) كاسيات عاريات، قال الإمام النووي: تغطي شيئاً من بدنها وتظهر شيئاً آخر، فهن كاسيات عاريات، وأنا أقول: كاسيات عاريات: إما أن تلبس ثياباً رقيقة فتظهر ما تحت هذه الثياب من مفاتن البدن. كاسيات عاريات: أي أن تلبس ثياباً ضيقة خاصة بعد أن رأينا هذه البنطلونات التي تتبعت فيه المرأة المسلمة فعل الكافرات العاهرات الماجنات، وخرجت بهذا البنطلون الضيق على مرأى ومسمع من زوجها؛ من نظر إليها يظنها عارية. كاسيات عاريات: أظهرت كل موضع للفتنة وكل مكان مخبوء للشهوة، (كاسيات عاريات مميلات مائلات) مائلات عن شرع الله جل وعلا. مميلات في مشيتهن: يتكسرن في المشية ويتغنجن في القول، مميلات لقلوب الشباب والرجال، رءوسهن كأسنمة البخت المائلة فارغة تارهة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها لتوجد من مسيرة كذا وكذا. ومن الأمور التي يجب أن ننبه عليها أيضاً: هذا الحجاب اليهودي المزعوم، الذي زعموه بأنه هو الحجاب الشرعي؛ تلبسه المرأة وتخرج كعروس مزخرفة مبهرجة، تلبس طرحة على رأسها وقد وضعت شريطاً ذهبياً أو فضياً على رأسها، وضيقت الثياب ووضعت حزاماً حول خصرها، ولبست حذاءً طويلاً يشبه لون الثياب ولون الطرحة إلى آخره، وخرجت متعطرة متطيبة في أجمل الأشكال وأبهى الحلل والألوان وتظن المسكينة المخدوعة المخادعة أنها محجبة، أعوذ بالله وحاشا لله أن يكون هذا هو الحجاب الشرعي الذي أراده الله جل وعلا، وقد بينا ذلك بفضل الله بالتفصيل في كتابنا (تبرج الحجاب) نسأل الله جل وعلا أن يقبله وأن يتقبل منا وإياكم صالح الأعمال.

الخضوع بالقول

الخضوع بالقول المظهر الثالث من مظاهر التبرج الذي حرمه الله جل وعلا وحرمه النبي صلى الله عليه وسلم: الخضوع بالقول، والله تبارك وتعالى يأمر أشرف نساء الدنيا وأطهر نساء العالمين، اللواتي ترعرعن في بيت النبوة وشربن من نهر الوحي وسمعن القرآن غضاً طرياً من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول الله تعالى: {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32] ولم يقف الأمر عند الخضوع بالقول كلا، وإنما يتدخل الأمر الإلهي ليحدد موضوع الحوار بين الرجل والمرأة: {وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} [الأحزاب:32]. الأمر لمن، وفي أي عهد وعصر؟ الأمر لأطهر نساء العالمين وفي عهد الصفوة المختارة، والنبوة الكريمة يأمرهن الله جل وعلا إن تكلمن مع الأجانب ومع غير المحارم ألا يرققن القول، وألا تلين المرأة القول، لماذا؟ لأن أصحاب القلوب المريضة في كل زمان ومكان تجاه كل امرأة ولو كانت زوج النبي صلى الله عليه وسلم. وهناك بعض المتطورين والمتشددين والمفكرين قالوا: إن هذا الأمر خاص بزوجات النبي صلى الله عليه وسلم أعوذ بالله! أطهر نساء العالمين وأشرفهن يأمرهن الله جل وعلا بعدم الخضوع في القول، ويحدد لهن مسار الحياط: {وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} [الأحزاب:32]؛ لأن موضوع الحوار ربما يكون أكثر تأثيراً من طريقة الحوار وأسلوب الحوار، فلا يجوز أبداً أن يكون بين المرأة والرجل الأجنبي هدر ولا هزل ولا مزاح ولا نظرة خائنة ولا حركة مؤثرة ولا ينبغي أن تتكلم معه في موضوعات يعف الرجل الحيي أن يتحدث فيها في المكاتب وغيرها من المصالح، واليوم تتكلم المرأة مع الرجل الأجنبي في أدق ما خص أمور المرأة ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! يأمر الله أطهر النساء بعدم الخضوع في القول وأن يقلن قولاً معروفاً، ولكن هذا الأمر بعيد عمن يتغنجن في قولهن ويتكسرن في مشيتهن، ويجمعن كل فتن الأنوثة، ويطلقنها قنابل محرقة في قلوب الشباب والرجال إنا لله وإنا إليه راجعون! هكذا تقلب الحقائق حتى صارت البدعة سنة، والمنكر معروفاً، والحلال حراماً إلا من رحم الله جل وعلا. نكمل المظهر الرابع من مظاهر التبرج بعد جلسة الاستراحة وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.

التعطر والتطيب لغير الزوج

التعطر والتطيب لغير الزوج الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الأحبة! أما المظهر الرابع والأخير من مظاهر التبرج: هو ألا تتعطر المرأة لغير زوجها. الإسلام لا يحرم الطيب على المرأة، بل إن الإسلام يريد المرأة دائماً متطيبة ومتعطرة ومتزينة ومتجملة لزوجها، ويحرم عليها أن تمس الطيب إذا خرجت من بيتها، لماذا؟ لأن الطيب من ألطف وسائل المخابرة بين الشاب والمرأة، وكم من شاب تقي لله جل وعلا مشى في الشوارع والطرقات وقد أطرق بصره للأرض؛ لا يريد أن ينظر يمنة ولا يسرة، فمرت به امرأة متطيبة قد وضعت أرقى العطور وبمجرد مرورها عليه انتشرت رائحة العطر في كل مكان، فسكنت قلبه، فظل يغالب شيطانه ويغالب هواه، إما أن يقع في المعصية ويدنس نظره بالزنا والنظر إليها، وإما أن ينصره الله جل وعلا على هذه الفتنة العارمة، ويظل في طاعته وفي إطراق بصره لله جل وعلا! لماذا هذه الفتن؟ ولماذا هذه السهام المسمومة؟ ولماذا هذه الشهوات؟ ورد في الحديث الذي رواه الإمام الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيما امرأة استعطرت -وضعت العطر والطيب- ثم خرجت فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية، وكل عين زانية) أي: كل عين تنظر إليها بشهوة لتستمتع بها فهي زانية، وفي الحديث الصحيح: (إن العينين زناهما النظر) هذا كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى. وفي الحديث الذي رواه مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا خرجت إحداكن إلى المسجد فلا تقربن طيباً) فإذا خرجت المرأة إلى المسجد فلا تمس الطيب، قال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله: يحرم على المرأة أن تمس الطيب إذا خرجت إلى مسجد، قلت: فكيف يكون حالها إذا خرجت إلى الأسواق والشوارع والطرقات، إن الطيب في حقها أشد حرمة. هذه بعض مظاهر التبرج -يا عباد الله- فيا أيها الأب الغيور الكريم! ويا أيها الأخ الحبيب الرحيم! ويا أيتها الأم الكريمة! ويا أيتها الأخت المسلمة الفاضلة! اتقوا الله جل وعلا، وعودوا إلى الله عز وجل، واعلم -أيها الأب- الذي فرط في تربية بناته على شرع الله ودين رسول الله صلى الله عليه وسلم أنك موقوف بين يدي الله ومسئول عن بناتك أمام محكمة قاضيها الله جل وعلا. وأنتِ -أيتها الأم- التي حاربتِ الحجاب وحاربت النقاب وقلت لابنتك: لا وألف لا، لا تلبسي الحجاب ولا ترتدي النقاب إلا بعد الزواج، اعلمي أن الزوج الذي جاء على معصية الله وعلى هذا الجمال الزائل واللحم العاري -لن يصون ابنتك أبداً؛ لأن رجلاً ذهب إلى الحسن وقال: إن لي ابنة، تُرى لمن أزوجها؟ قال: زوجها لمن يتقي الله؛ فإن أحبها أكرمها، وإن أبغضها لم يظلمها. وأنت -أيتها المسلمة- اتقي الله جل وعلا وعودي إليه، واعلمي أن هذا الجمال إلى زوال، وأن هذا البدن إلى دود وتراب، وأنك ستعرضين على العزيز التواب جل وعلا ليسألك عن هذه الأمانة التي امتن بها عليك، فماذا سيكون جوابك بين يدي الملك الجبار؟! فاتقوا الله جميعاً يا عباد الله! وعودوا إلى الله، واعلموا أنكم مسئولون عن بناتكم وزوجاتكم بين يدي الله جل وعلا. وأختم بكلام ربنا جل وعلا في سورة التحريم: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم:6 - 8]. نكمل إن شاء الله جل وعلا فرضية الحجاب في الأسبوع المقبل إن قدر الله لنا البقاء واللقاء، وأسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب. اللهم احفظ نساءنا يا رب العالمين، اللهم بارك في شباب المسلمين، وأصلح نساء المسلمين، واجعلهم قرة عين لنا في الدنيا والآخرة يا رب العالمين {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74]. اللهم اجعلنا من التوابين واجعلنا من المتطهرين، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا. اللهم قيظ لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر؛ أنت ولي ذلك ومولاه. اللهم وفق ولاة الأمر لما تحبه وترضاه، هذا وأكثروا من الصلاة والسلام على نبينا محمد: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِ وسلم وزد وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، هذا وما كان من توفيق فمن الله، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه، وأقم الصلاة.

هذه قدوتك

هذه قدوتك كثير من نساء المسلمين اليوم -وللأسف الشديد- يعرفن عن الموضة والجديد الشيء الكثير، ويعرفن من الفنانات والمغنيات ما لا يحصى من العدد! ولو سألت إحداهن عن أمهات المؤمنين، ومربيات الجيل، والأبطال المجاهدين؛ لعجزت إحداهن أن تذكر امرأة واحدة، وها هي امرأة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم تعتبر قدوة في العفة والطهارة، قدوة في الكرم والسخاء، قدوة في الصبر والثبات، قدوة في الوقوف إلى جنب الزوج في الأزمات، قدوة في الحب والفداء وحسن العشرة للزوج، إنها خديجة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، وأم أولاده رضي الله عنها وأرضاها.

من فضائل خديجة رضي الله عنها

من فضائل خديجة رضي الله عنها الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكن الله أيتها الأخوات الفاضلات! وأسأل الله جل وعلا أن يتقبل منا ومنكن جميعاً صالح الأعمال. ومحاضرتنا في هذا الوقت الكريم المبارك بعنوان: هذه قدوتك. أقدم لأختي المسلمة قدوة طيبة ومثلاً أعلى، في وقت قل فيه القدوة، وندر فيه المثل، أقدم هذه القدوة لأصل العز والشرف والحياء لصانعة الأجيال لمربية الرجال ومخرجة الأبطال لمن تربعت طيلة القرون الماضية على عرش حيائها تهز المهد بيمينها، وتزلزل عروش الكفر بشمالها. نقدم هذه القدوة الطيبة والمثل الأعلى لأختنا المسلمة للقلعة الشامخة أمام طوفان الباطل والكذب لدرتنا المصونة، ولؤلؤتنا المكنونة، نقدم لها هذه القدوة الطيبة؛ لأننا نشهد الآن حرباً هوجاء لشل حركة المرأة المسلمة، وللزج بها في مواقع الفتنة ومستنقع الرذيلة، لتقويض صرح المجتمع الإسلامي، تنفيذاً لهذه المقولة الخبيثة لأعداء الدين، والتي تقول: كأس وغانية يفعلان في تحطيم الأمة المسلمة ما لا يمكن أن يفعله ألف مدفع. فصار همُّ الأعداء أن تصبح المرأة المسلمة عقيماً لا تلد، خشية أن تجود على أمتها من جديد بالعلماء العاملين والمجاهدين الصادقين، ولكن يأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون. فهاهي الصحوة الكريمة يمدها كل يوم فتيات في عمر الورود، زانهن حجاب أصاب أعداء الإسلام بالذهول والشرود، أسأل الله أن يثبتهن على الحق. فتعالي معي أيتها الأخت الكريمة! لنقضي هذه الدقائق المعدودات مع هذه القدوة الطيبة، والمثل الأعلى في عالم النساء، مع رمز الوفاء، وسكن سيد الأنبياء، مع الطاهرة في الجاهلية والإسلام، مع أول صديقة من المؤمنات، مع أول زوجات المصطفى عليه الصلاة والسلام، مع أول من صلى على ظهر الأرض مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أول من أنجبت الولد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أول من بشرت بالجنة، مع أول من استمعت إلى القرآن بعد رسول الله، مع أول من نزل إليها جبريل عليه السلام ليبلغها من ربها السلام، مع نهر الرحمة، وينبوع الحنان، مع أصل العز وقلعة الإيمان، إنك الآن أيتها الأخت الفاضلة على موعد مع قدوتك الطيبة أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله عنها وأرضاها.

خديجة ممن كمل من النساء

خديجة ممن كمل من النساء أيتها الأخوات! والله إن الكلمات لتتوارى خجلاً وحياء أمام هذه القلعة الشامخة، والزوجة الوفية المخلصة، التي بذلت مالها وقلبها وعقلها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فآمنت به حين كفر الناس، وصدقته حين كذبه الناس، وواسته بمالها حين حرمه الناس، فاستحقت هذه الزوجة التقية النقية أعظم الثناء من رسول الله صلى الله عليه وسلم. ففي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي موسى الأشعري أنه صلى الله عليه وسلم قال: (كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام). وفي الصحيحين كذلك من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد). والراجح من أقوال أهل العلم أن معنى (خير نسائها) أي: خير نساء زمانها، فـ مريم خير نساء زمانها، وخديجة رضي الله عنها خير نساء زمانها.

الله سبحانه وتعالى يقرأ على خديجة السلام

الله سبحانه وتعالى يقرأ على خديجة السلام أيتها الأخت الفاضلة: لم تبلغ خديجة رضي الله عنها هذه المكانة عند الله وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بإيمانها الصادق، فأنا أقول: قد بلغت هذه المنزلة عند رسول الله، بل وعند الله جل وعلا، ولك أن تتخيلي امرأة تقية نقية يرسل ربنا جل وعلا جبريل ليبلغها منه سبحانه وتعالى السلام. ففي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أتى جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! هذه خديجة قد أتت ومعها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتت فأقرئها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب). تصوري أيتها الأخت الكريمة! أن خديجة رضي الله عنها قد بلغت هذه المكانة، فأنزل الله جبريل عليه السلام بهذه البشرى وبهذا السلام من ملك الملوك وجبار السماوات والأرض. وفي رواية النسائي أن خديجة رضي الله عنها لما قال لها النبي صلى الله عليه وسلم ذلك: إن الله يقرئك السلام وجبريل يقول: بلغها من ربها السلام ومني، فسيدتنا خديجة الفقيهة العالمة، لم تقل: وعلى الله السلام، وإنما قالت: إن الله هو السلام ومنه السلام، وعلى جبريل السلام، وعليك يا رسول الله السلام ورحمة الله وبركاته).

مكانة خديجة من قلب النبي صلى الله عليه وسلم

مكانة خديجة من قلب النبي صلى الله عليه وسلم انظري أيتها الأخت الكريمة الفاضلة! ولذا بلغت خديجة مكانة عالية في قلب النبي صلى الله عليه وسلم، حتى غارت عائشة رضي الله عنها من خديجة غيرة شديدة، مع أن عائشة لم تدرك خديجة قط، فلقد توفيت خديجة رضوان الله عليها قبل أن يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة. ومع ذلك ففي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (ما غرت على أحد من نساء النبي ما غرت على خديجة، وما رأيتها قط، ولكن كان النبي يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة، ثم يبعثها في صدائق خديجة -أي: في صويحبات خديجة - وربما قلت له: كأن لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة، فيقول صلى الله عليه وسلم: إنها كانت وكانت، وكان لي منها الولد، ويظل النبي عليه الصلاة والسلام يعدد مناقب خديجة رضي الله عنها).

حياة خديجة رضي الله عنها ونشأتها

حياة خديجة رضي الله عنها ونشأتها أيتها الأخت المسلمة! أسألك الآن: ماذا تعرفين عن خديجة؟ هذه أمك أم المؤمنين، وهذه قدوتك، فأنا أسألك الآن وأجيبي بصدق، ماذا تعرفين عن خديجة؟! والجواب إن صدقنا سيكون مؤلماً للغاية، لأننا انصرفنا في هذا الزمان عن هذه القدوات الطيبة والمثل العليا، فانتبهي معي أيتها الأخت الفاضلة لأعرف لك أمك خديجة رضي الله عنها في لمحات سريعة:

زواجها قبل رسول الله ولقبها قبل الإسلام بالطاهرة

زواجها قبل رسول الله ولقبها قبل الإسلام بالطاهرة فلقد نشأت خديجة رضي الله عنها في مكة المكرمة، في مكانة وشرف ومال، فتزوجت بـ عتيق بن عائذ المخزومي فمات عنها، فتزوجت أبا هالة بن زرارة التميمي وأنجبت منه هند بن أبي هالة رضي الله عنه، ثم مات عنها زوجها، فأعرضت عن الزواج بعد ذلك، وتقدم لخطبتها كثير من أشراف قريش؛ لشرفها ونسبها وخلقها، فلقد كانت تسمى في الجاهلية قبل الإسلام بالطاهرة.

زواج خديجة بالنبي صلى الله عليه وسلم

زواج خديجة بالنبي صلى الله عليه وسلم ولكنها لما سمعت بأخلاق النبي عليه الصلاة والسلام أرسلت إليه ليتاجر لها في مالها، فرأت أمانته وصدقه وعفته، فرغبت في الزواج منه عليه الصلاة والسلام. واتفقت الروايات كلها على أن خديجة رضي الله عنها هي التي خطبت النبي صلى الله عليه وسلم لتتشرف بالزواج منه، وذهب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بيت خديجة في صحبة عمه حمزة وأبي طالب الذي قام خطيباً في قوم خديجة، وكان مما قاله أبو طالب: الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل، وجعلنا حضنة بيته، وسواس حرمه، وجعل لنا بيتاً محجوباً، وحرماً آمناً، ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبد الله لا يوزن به رجل من قريش شرفاً ونبلاً وفضلاً إلا رجح به محمد، ومحمد من قد عرفتم، وله في خديجة رغبة، ولها فيه مثل ذلك، وما أحببتم من الصداق فعليه. فقال عمها عمرو بن أسد موافقاً على هذا العرض الكريم: هو الفحل لا يقدح أنفه. أي: هو الكفء الكريم الذي لا يرد. والجمهور من العلماء يقولون: إن خديجة رضي الله عنها كانت في الأربعين من عمرها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في الخامسة والعشرين من عمره، وكان زواجاً سعيداً ميموناً مباركاً، ضربت فيه خديجة أروع المثل في الوفاء والبر والصلاح، والإيثار والكرم.

أولاد النبي صلى الله عليه وسلم من خديجة

أولاد النبي صلى الله عليه وسلم من خديجة وأكمل الله السعادة، فولدت له خديجة: القاسم ثم زينب ثم رقية ثم أم كلثوم ثم فاطمة؛ عليهم جميعاً سلام الله وصلواته. وامتلأ البيت بالحب والرحمة والحنان، ودبت في جنباته حياة جديدة مزينة بأسمى العواطف وأنبل المشاعر، عواطف الأبوة الرحيمة من رسول الله، ومشاعر الأمومة الكريمة من خديجة، وضم هذا البيت المبارك إلى جانب أولادها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولدها من زوجها السابق هند بن أبي هالة، وكذلك ضم هذا البيت علياً بن أبي طالب رضي الله عنه، وزيد بن حارثة وأم أيمن، وهي حاضنة النبي عليه الصلاة والسلام، هذا هو بيت خديجة.

وقوف خديجة إلى جانب النبي صلى الله عليه وسلم عند بعثته

وقوف خديجة إلى جانب النبي صلى الله عليه وسلم عند بعثته ومرت الأعوام تلو الأعوام على أكرم زوجين، ولما اقترب النبي عليه الصلاة والسلام من الأربعين من عمره الشريف بدأت إرهاصات النبوة تلوح في أفق حياته، فكان أول ما بدئ به من الوحي الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى النبي صلى الله عليه وسلم رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح كما في صحيح البخاري. وحبب إليه في هذه المرحلة الخلاء، فخلا بنفسه واعتزل الناس، فكان يخرج إلى غار حراء يتعبد فيه الليالي ذوات العدد، وتزوده الزوجة الوفية المخلصة بما يحتاج إليه من طعام وشراب، فما سفهت رأيه، وما احتقرت عمله، فهو الذي كان يترك الدار والأولاد وينطلق بعيداً عن مكة بأصنامها ليتعبد لله جل وعلا في هذه الخلوة في غار حراء. وكانت خديجة تقطع هذه المسافة على قدميها لتقدم له الطعام والشراب بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم. ومرت الشهور الستة للرؤيا الصادقة، وجاء شهر رمضان، وخلا النبي في غار حراء، وفي ليلة كريمة مباركة خيم على الكون هدوء خاشع، ثناه جبريل عليه السلام يقف أمام الغار، ويضم النبي المختار ضمة شديدة ويقول له: اقرأ. والرسول يقول: ما أنا بقارئ، قال: (فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة، ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)) [العلق:1 - 5]، فرجع النبي عليه الصلاة والسلام بهذه الآيات الكريمات يرجف فؤاده، فدخل على خديجة -رمز الوفاء وسكن سيد الأنبياء- وهو يرتعد ويضطرب ويقول: زملوني زملوني! فزملته حتى ذهب عنه الروع). فسيدتنا خديجة رضي الله عنها ما صرخت في وجهه وما قالت: ما الخبر؟ وإنما هدأت من روعه فلما استيقظ واستراح وذهب عنه الروع، قالت له: ما الخبر؟ فقال لها: (لقد خشيت على نفسي وأخبرها بما كان، فقالت الزوجة الصابرة الوفية الذكية: كلا! والله لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل -أي: تساعد العاجز الضعيف- وتكسب المعدوم -أي: تعطي المحروم- وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق)، وهاهي الزوجة العاقلة التي تذكر زوجها بفضائله ومناقبه إذا وقع في وقت عسرة أو أزمة أو في شدة، فلا تصرخ في وجهه ولا تعنفه ولا توبخه إذا رأته في أزمة أو ضيق. ولم تكتف خديجة بهذا، بل ذهبت برسول الله إلى ابن عمها ورقة بن نوفل وكان قد تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، وكان شيخاً كبيراً قد فقد بصره، فقالت له خديجة: (يا ابن عم! اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: ماذا ترى يا ابن أخي؟ فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بما رأى، فقال له ورقة: هذا هو الناموس الذي نزل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعاً -أي: شاباً صغيراً- ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك، فقال المصطفى: أومخرجي هم؟ قال: نعم، لم يأتِ رجل بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً، ثم لم ينشب أن توفي ورقة، وفتر الوحي، أي: انقطع)، والحديث رواه البخاري. ثم بعد ذلك نزل على رسول الله قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:1 - 4]، وبهذا بعث النبي عليه الصلاة والسلام. وفي ميدان السبق الإيماني كانت الطاهرة الفائزة بالدرجة العليا، برتبة صديقة المؤمنات الأولى، لم يتقدمها رجل ولا امرأة كما قال جمهور أهل العلم، ومن يومها قامت بدور جديد في تثبيت وتبشير رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومؤازرته ومعاونته في تبليغ الدعوة إلى الله، والصبر على عناد المشركين، وقدمت لرسول الله مالها وعقلها وفكرها ونفسها ووقتها، بل وجعلت من دارها حصن أمن وهدوء واستقرار، بل ومن دارها سطع نور الإسلام، ومنها أضاء على الدنيا كلها. وازداد أهل مكة عداء وإيذاء للنبي عليه الصلاة والسلام، وتمادت قريش في طغيانها، وقاطعت بني هاشم مقاطعة اقتصادية كاملة مدة ثلاث سنوات، ودخلت الحصار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجته الصابرة الطاهرة، التي راحت تبذل مالها كله، ووقفت تشد أزره، وتشاركه في تحمل الأذى بنفس راضية صابرة محتسبة، حتى انتهى هذا الحصار الظالم وقد ازداد حب النبي صلى الله عليه وسلم لها، وازداد النبي صلى الله عليه وسلم تقديراً لمواقفها. وهكذا تعلمنا خديجة درساً آخر من دروس الوفاء والصبر -أيتها الأخت المسلمة المؤمنة- فإن وقع الزوج في شدة وضيق فالزوجة الصابرة هي التي تقف إلى جوار زوجها، هي التي ترفع عنه الكرب بكلمة حانية طيبة، ولا تفرط في بيته، وسرعان ما تهرول إلى بيت أبويها حتى يرجع إلى الزوج خيره وماله، ويسترد عافيته! فهذا ليس من الوفاء، بل يجب على الزوجة أن تصبر مع زوجها في السراء والضراء على الخير والشر، لتعاونه وتؤازره إذا مر بضيق أو بأزمة من الأزمات! صبرت خديجة رضي الله عنها راضية مطمئنة، وخرجت من هذا الحصار مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقد ازداد النبي صلى الله عليه وسلم حباً لها وتعلقاً بها.

وفاة خديجة رضي الله عنها

وفاة خديجة رضي الله عنها ثم ما لبثت خديجة بعد هذا الحصار أن لبت نداء الله تبارك وتعالى راضية مرضية، مبشرة من سيد النبيين بجنات ونهر بمقعد صدق عند مليك مقتدر. وبكى النبي صلى الله عليه وسلم وآله وسلم عليها كثيراً، وحزن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليها حزناً شديداً، ونزل النبي بنفسه إلى قبرها، وأدخلها بيديه إلى القبر لعشر خلون من رمضان، وهي في الخامسة والستين من عمرها الكريم المبارك. ثم تزوج النبي صلى الله عليه وسلم بعدها، ولكنها لم تفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقد ظلت ذكراها العطرة في قلبه إلى آخر أيام حياته، وظل النبي صلى الله عليه وسلم وفياً لها أشد الوفاء، ولم لا وهي نبع الوفاء، وسيدة النساء، حتى غارت منها عائشة بعد موتها من كثرة ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لها، فقال لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوماً: (لقد رزقت حبها).

دعوة للنساء إلى الاقتداء بالصالحات والتخلي عن دعايات التغريب

دعوة للنساء إلى الاقتداء بالصالحات والتخلي عن دعايات التغريب أيتها الأخت الفاضلة! هذه قدوتك، هذا أعظم مثال أقدمه لك الآن، وهذه أكرم قدوة للزوجة الوفية المخلصة وقد آن لكن -أيتها الأخوات المسلمات- بعد سنوات التيه والتغريب والشرود آن لكل مسلمة على ظهر الأرض أن ترنو ببصرها إلى هذه المثل العليا، والقدوات الطيبة الصالحة؛ لتشق المرأة المسلمة من جديد طريق المجد والعزة والكرامة، ولتنجب لأمتها العلماء العاملين والمجاهدين الصادقين. وبعد هذه الكلمات المختصرة أنصحك أيتها الأخت المسلمة بأن تفرغي قليلاً من وقتك لقراءة القرآن، وللوقوف على حديث النبي عليه الصلاة والسلام، وأن تجلسي مع زوجك وأولادك على مجلس يقرأ فيه القرآن، ويذكر فيه حديث النبي عليه الصلاة والسلام، فإن أعظم خطوة عملية على الطريق أن تفهمي الإسلام بشموله وكماله، وأن تخصصي وقتاً لك لتتدبري فيه سير الطاهرات العفيفات، سير أمهات المؤمنين، وسير الصحابيات الجليلات، وسير التابعيات المخلصات من هذه الأمة على مدار تاريخها الطويل. يجب عليك أيتها المسلمة أن تتعلمي شيئاً من العلم الشرعي، أن تتعلمي الحلال والحرام، والحق والباطل، والسنة والبدعة؛ لتتفرغي بعد ذلك لتربية الأبناء تربية طيبة على كتاب الله، وعلى سنة رسول الله، فإنني أعتقد اعتقاداً جازماً أنك في البيت تمثلين العمود الفقري، بل وتمثلين الركيزة الأولى لبناء الأسرة المسلمة التي نعتقد أنها هي اللبنة الأولى في بناء صرح مجتمع إسلامي ننشده جميعاً، فلقد ضحكوا علينا يوم أن قالوا: إن المرأة تمثل نصف المجتمع. نحن نقول: كلا، بل إن المرأة هي المجتمع كله، نعم هي نصف المجتمع، ولكنها تقدم للمجتمع نصفه الآخر، فهي الأم، وهي الزوجة، وهي البنت، وهي الأخت، وهي الخالة، وهي العمة، وهي التي تنجب بعد ذلك الرجال الأطهار، والقادة الفاتحين الأبطال. فأنت مجتمع بأسره أيتها الأخت الفاضلة! فاعتزي بهذا الإسلام، وارفعي رأسك بهذا الدين، ولا تستمعي إلى هؤلاء الكذابين الذين يدعونك في الليل والنهار للتحرر والحرية، وللتفلت من ضوابط الشرع وقواعده المعلومة المرعية. زعموا أنهم يريدون أن يرفعوا عنك الظلم، ولا والله! بل ما جاء الإسلام إلا ليرفع قدرك، وليعلي شأنك، وما أمرك بالحجاب إلا ليصون كرامتك، فأنت درتنا المصونة، ولؤلؤتنا المكنونة، وأنا لا أعلم عاقلاً على ظهر الأرض أهديت إليه درة غالية ثمينة فراح ليلقيها في الشوارع والطرقات، وإنما يبحث عن أعظم وأطهر وآمن مكان ليحفظ فيه هذه الدرة المصونة، وهذه اللؤلؤة المكنونة. وهاأنت يا أختاه درتنا المصونة، ولؤلؤتنا المكنونة، فاعتزي بهذا الدين، واسمعي له وأطيعي، واعلمي بأنه لا يريد لك إلا الفلاح والنجاة، والفوز في الدنيا والآخرة، فهيا خرجي لنا العلماء العاملين، والأبطال المجاهدين الفاتحين، والدعاة العاملين الصادقين. والله أسأل أن يسترك في الدنيا والآخرة، وأن يمن عليك بالسعادة في الدنيا والآخرة، وأن يبارك لك في زوجك وولدك، إنه ولي ذلك ومولاه، وأن ييسر لك الزوج الصالح إن كنت لم تتزوجي بعد، والله أسأل أن يتقبل مني ومنكن صالح الأعمال، وجزاكن الله خيراً، والسلام عليكن ورحمة الله وبركاته.

خير الزاد

خير الزاد إن أهم سفر يسافره الإنسان هو السفر إلى الدار الآخرة، وهذا السفر طويل لابد له من زاد، وخير ما تزود به المسلم في سفره هذا تقوى الله عز وجل في جميع أموره.

خير الزاد التقوى

خير الزاد التقوى بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جمعياً أيها الإخوة الكرام! وأسأل الله جل وعلا أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال. أيها الأحبة! إن الإنسان في هذه الحياة الدنيا يحتاج إلى زاد؛ فقبل أن تسافر إلى أي بلد غريب عليك أن تبحث عن الوسائل التي تعينك في هذا السفر، فتسأل عن العنوان، وتأخذ معك ما يعينك من الملابس والأموال والطعام والشراب. فلابد أن تعلم أيها الحبيب الكريم! أنك في هذه الحياة الدنيا مسافر، ويجب عليك أن تعد الزاد لهذا السفر؛ لأن الدنيا وإن طالت فهي قصيرة، وإن عظُمت فهي حقيرة، وليلك مهما طال لابد من طلوع فجره، وعمرك مهما طال لابد من دخول القبر، فلابد أن تبحث عن الزاد لهذا السفر؛ فإن السفر طويل، وإن السفر بعيد، وإن العقبة كئود، فكما تبحث عن زاد هذه الدنيا فيجب عليك أن تبحث عن زاد الآخرة؛ لأنك هنا في بوتقة اختبار، وفي دار ابتلاء، وفي مزرعة للآخرة. فابحث من الآن عن هذا الزاد الذي يوصلك إلى رب العباد جل وعلا. ما هو هذا الزاد؟ قال الله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197]. وقد يسألني أحد الأحبة: أسمع كثيراً عن التقوى، لكن ما هي التقوى؟ والتقوى أيها الأخيار الكرام! أصلها: أن يجعل العبد بينه وبين الله تبارك وتعالى وقاية يتقي بها سخط الله وعذابه. وهذه التقوى عرَّفها أئمتنا فقال ابن مسعود: (التقوى هي أن يُطاع الله فلا يُعصَى، وأن يُذكَر فلا يُنسَى، وأن يُشكَر فلا يُكفَر). وعرَّفها طلق بن حبيب فقال: (التقوى هي: أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نور من الله، تخاف عقاب الله). وعرَّفها أبو هريرة رضي الله عنه حينما جاءه سائل فقال: (يا أبا هريرة! ما هي التقوى؟ فقال: هل مشيتَ على طريق فيه شوك؟ قال: نعم. قال: فماذا صنعتَ؟ قال: كنتُ إذا رأيت الشوك اتقيته. قال: ذاك التقوى). فأخذ ابن المعتز هذا الجواب البديع وقال: خلِّ الذنوب صغيرها وكبيرها فهو التقى واصنع كماشٍ فوق أر ض الشوك يحذر ما يرى لا تحقرن صغيرةً إن الجبال من الحصى

أركان التقوى

أركان التقوى فالتقوى أيها الحبيب! لها أركان، أقف مع هذه الأركان بإيجاز: وسنأخذها من تعريف عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

الركن الأول: أن يطاع الله فلا يعصى

الركن الأول: أن يطاع الله فلا يعصى أول أركانها: أن يُطاع فلا يُعصَى: قد تقول لي: يا أخي، لستُ ملَكاً مقرَّباً، ولستُ نبياً مرسلاً معصوماً من الخطأ، فقد انتهى زمن العصمة بموت المعصوم صلى الله عليه وسلم، وإنما أنا بشر أخطئ وأصيب وأزل، وتنتابني حالات كثيرة من الفتور، وربما من المعاصي، بل وربما أقع في كبيرة من كبائر الذنوب، وأنت تقول الآن بأن أول أركان التقوى هو: أن أطيع الله جل وعلا، وألا أقع في معصيته! فأقول لك: أبشر! فلقد ذكر الله المتقين في القرآن، وذكر من صفاتهم أنهم ربما يقعون في الفاحشة! فإذا قلت: ما دليلك؟ فأقول: تدبر معي قول الله سبحانه: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133] مَن هم يا رب؟ وما صفاتهم؟ قال: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:134 - 135]. إذاً: التقي قد يزل؛ ولكن الفارق بينه وبين الشقي: أن الشقي إن زلَّ فذُكِّر بالله لا يتذكر، وإن زلَّ فوُعِظ لا يتعظ، وإن زلَّ فذُكِّر بالآخرة استعلى واستكبر واستأنف وكان في غفلة قاتلة، بل وربما استهزأ بالذي يذكره بالله جل وعلا. أما التقي النقي فهو الذي إن زلت قدمه في بئر معصية أو في حفرة ذنب من الذنوب، ولطخت المعاصي ثيابه التقية النقية البيضاء سرعان ما يجذب ثيابه من أشواك المعاصي، ويطهرها بدموع التوبة والندم، ويتذكر عظمة الله وهيبة الله وجلال الله، ويمتلئ قلبه بالحب لله، والخوف من الله، فسرعان ما يتوب إلى الله ويعود إلى الله جل وعلا، والله يريد منك الذل والعبودبة والانكسار له، والله غني عنك، إذ لا تنفعه الطاعة ولا تضره المعصية، قال تعالى في الحديث القدسي الذي رواه مسلم من حديث أبي ذر عن الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: أنه جل وعلا قال: (يا عبادي! لو أن أولَكم وآخرَكم وإنسَكم وجنَّكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولَكم وآخرَكم وإنسَكم وجنَّكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه). فالتقي هو الذي إن ظلم نفسه تذكر الله جل وعلا، فأناب وتاب وثاب وعاد، وهو يعلم يقيناً أن الله جل وعلا سيفرح بتوبته وهو الغني عن العالمين، الذي لا تنفعه الطاعة ولا تضره المعصية. فإن زلت قدمك أيها الحبيب! وأردت أن تحقق التقوى فجدد بعد المعصية توبة، وأحدث بعد المعصية حسنة، وتذكر دوماً وصية الحبيب النبي لـ معاذ بن جبل رضي الله عنه، والوصية رواها الترمذي بسند حسن، قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (يا معاذ! اتقِ الله حيثما كنت، وأتبع السيئةَ الحسنةَ تمحها، وخالق الناس بخلق حسن) أي: أحدِث بعد السيئة حسنةً تمحُ الحسنةُ السيئةَ. أوَلم تقرأ في كتاب الله في صفات عباد الرحمن: {إلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلَاً صَالِحَاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:70]؟! فأول شروط التقوى: أن تتوب إن زلت قدمك، وربما يكون الشاب عزباً، ويتعرض لفتن قد تعصف بقلبه في فترة من الفترات، أو في وقت من الأوقات، فإن زلت قدمك أيها الشاب! فتُب، وإن زلت قدمك مرة ثانية فتُب، وإن زلت قدمك للمرة الألف فتُب، المهم أنك في كل مرة ترجع فيها إلى الله بصدق، والجأ إليه أن يحفظك من الوقوع في الذنب والزلة مرة أخرى، فإن زلت قدمك لضعفك ولبشريتك فما عليك إلا أن تتوب إلى الله، وكن على يقين بأن الله لا يمل حتى تملوا.

الركن الثاني: أن يذكر فلا ينسى

الركن الثاني: أن يذكر فلا ينسى الركن الثاني: وأن يُذكَر فلا يُنسَى: أيها الأخ الحبيب! تستطيع أن تكون ذاكراً لله وأنت في جنديتك وأنت في حراستك وأنت في خدمتك، فإن صححت النية فأنت في طاعة وفي عبادة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله)، فما المانع وأنت في خدمتك أن تذكر الله جل وعلا، وأن تصحح النية، وأن تكرر على قلبك وذهنك وسمعك ما حفظت من كتاب الله، وأن تحمل كتاب الله في جيبك دائماً؟! فإن استشكل عليك شيء فتحت كتاب الله سبحانه وأنت في موطنك الذي أنت فيه، وما المانع أن تكون ذاكراً لله بأي صيغة من صيغ الذكر؟! بل إن ذهبت إلى بيتك لتعاشر زوجتك ولتقضي شهوةً ركَّبها الله فيك فإن صححت النية وأنت في معاشرتك لزوجتك فأنت في طاعة لله جل وعلا؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وفي بضع أحدكم صدقة). المهم أن تصحح النية، وأن تُقبل بنية أن تعف نفسك عن الحرام، وأن تعف امرأتك عن الحرام، وأن يرزقك الله ذرية، فتقول: يا رب! هذا نذرته لك، كما قالت أم مريم: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرَاً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [آل عمران:35]. فمَن مِنا يا إخوة جاء على ولد من أولاده وقال: هذا وقف لله تبارك وتعالى؟! وهل يصح أن يكون وقفاً لله؟! A نعم، فأنا أربي هذا الولد على كتاب وعلى سنة رسول الله، وأؤهل هذا الولد ليكون في يوم من الأيام داعيةً إلى دين الله جل وعلا. هذا هو الذكر، ولا تظن أن الذكر هو أن تقف بعد كل صلاة مع أذكار الصلاة، أو أذكار الصباح والمساء فقط، بل انظر إلى الذكر بشموله وكماله، وعليك أن تكون ذاكراً لله على كل أحيانك وأحوالك. وأنا أقول لك: الذاكر لله حي وإن حُبست منه الأعضاء، والغافل عن ذكر الله ميت وإن تحرك بين الأحياء! وأكررها: الذاكر لله حي وإن حُبست منه الأعضاء، فلو حبسه المرض في فراش المرض فشُلت قدمه أو يده وكان قلبه شاكراً ولسانه ذاكراً فهذا هو الحي، وهذه هي الحياة الحقيقية، أما إن رأيت بطلاً منَّ الله عليه بالعافية والصحة، ومع ذلك فهو مدمن للمعصية، وعاكف على معصية الله، وعلى التحدي لشرع الله وأمر الله جل وعلا، فهذا ورب الكعبة قد مات قلبه في صدره، فإن الحياة الحقيقية هي حياة القلوب. جاء رجل إلى سفيان الثوري فقال: يا سفيان! لقد ابتُليت بمرض البُعد عن الله، فصف لي دواءً. فقال سفيان: (عليك بعروق الإخلاص، وورق الصبر، وعصير التواضع، ضع هذا كله في إناء التقوى، وصب عليه ماء الخشية، وأوقد عليه نار الحزن، وصفِّه بمصفاة المراقبة، وتناوله بكف الصدق، واشربه من كأس الاستغفار، وتمضمض بالورع، وابعد عن الحرص والطمع، تشف من مرضك بإذن الله). وهذا الدواء يحتاج إلى سنوات في تطبيقة: إخلاص وورع وصبر، هذه هي التقوى الحقيقية، والإنسان لا يستطيع أبداً أن يعيش دون أن يأكل أو يشرب، كذلك الروح قد تموت في القلب، وفي النفس، وفي البدن، وصاحبها لا يدري؛ لأن للروح دواءً، ولأن للروح غذاءً، ولأن للروح علاجاً، ولا يعلم دواء وعلاج وغذاء هذه الروح إلا خالقها، يقول تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إلا قَلِيلَاً} [الإسراء:85]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري: (مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه كمثل الحي والميت) ألم أقل لك: إن الذاكر لله حي وإن حُبست منه الأعضاء، وإن الغافل عن ذكر الله ميت وإن تحرك بين الأحياء؟!

الركن الثالث: أن يشكر فلا يكفر

الركن الثالث: أن يشكر فلا يكفر الركن الثالث: أن يُشكَر فلا يُكفَر. كم لله علينا من نعمة أيها الشباب؟! قال عز وجل {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:34]، وبكل أسف يظن كثير منا أن النعمة هي الدينار، ويقول: إن رزقني الله ديناراً فأنا في نعمة، وإن ضُيِّق علي في الدينار فلم يُنعم الله جل وعلا علي بأي نعمة، وهذه نظرة قاصرة ضيقة أيها الأخيار! بل إن لله نعماً لا تُعد ولا تحصى، ووالله لو لم يكن لله عليك من نعمة إلا أن جعلك موحداً، وأرسل إليك محمداً، لكفى بها نعمة، فإياك ألا تعرف قدرها وفضلها، فإن غيرك لا يعرف له رباً! ولا يعرف غايته التي وُجد من أجلها! ألم تسمع قول المتسكع الذي يقول: جئت لا أعلم من أين ولكني أتيتُ ولقد أبصرتُ قدامي طريقاً فمشيتُ وسأمضي في طريقي شئت هذا أم أبيتُ كيف جئتُ؟! كيف أبصرتُ طريقي؟! لستُ أدري! ويظل يقطع الطريق كالسائمة، ولا يعرف له رباً، ولا يعرف لحياته معنىً، ولا يعرف له غاية، وقد قال الله في هذا الصنف: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179]. فاشكر الله على نعمه، فإنها نعمٌ كثيرة. وقد دُعيتُ مرةً لإلقاء محاضرة عندنا في مصر في المعالي، وطلب الإخوة القائمون على أمر المسجد أن نجمع تبرعات لنشتري ملابس لمستشفى الأمراض العقلية، فاشترينا الملابس وذهبنا إلى إخواننا وأخواتنا في مستشفى الأمراض العقلية، وقدَّر الله أن يكون العنبر الأول للنساء، وإذا بامرأةٍ مكتملة الخلق جميلة، لكنها فقدت العقل، فأتت المرأة على موزع الملابس وإذا بها تأخذ الغترة وتجذب اللحية! فصَدَمَنا جميعاً مشهدٌ كاد أن يخلع قلوبنا! وهو أن فتاة في الثانية والعشرين من عمرها كانت تدرس في كلية الطب ولكنها فقدت عقلها! ففجأة تجردت من كل ثيابها! فأصبحت كما ولدتها أمها! فخرجنا وبكينا والله! وكأننا لم نبكِ من قبل، وقلت لإخواني من المشايخ يومها: والله يا إخوة! إنني ما عرفتُ نعمة العقل إلا في هذه اللحظة. فهل فكرتَ في نعمة العقل؟! هذه نعمة ربما أنك ما فكرت فيها، فأنت تجلس على الطعام: اليد تمتد، والأصابع تمسك الطعام وترفعه إلى الفم، والمقاطع تقطِّع، والأنياب تمزِّق، والضروس تطحن، واللسان يظل يسهِّل، واللعاب يفرز، والمريء ينزِّل إلى المعدة، والمعدة تشتغل، والبنكرياس والأمعاء الدقيقة والأمعاء الغليظة تعمل، ثم يتحول إلى دم، والقلب يشتغل، وأذين وبطين وصمام! فمن الذي يوزع لنا الدم على هذا البدن؟! المخ يرسل إشارات إرسال واستقبال وأنت نائم في غفلة! ألم تفكر في فضل الله عليك؟! انظر إلى السماء وارتفاعها، وإلى الأرض واتساعها، وإلى الجبال وأثقالها, وإلى الأفلاك ودورانها، وإلى البحار وأمواجها، وإلى كل ما هو متحرك، وإلى كل ما هو ساكن! فوالله إن الكل يقر بكمال الله، ويعترف بالتوحيد لله، ولا يغفل عن شكر وذكر مولاه إلا مَن كفر من الإنس والجن، ولا حول ولا قوة إلا بالله! قال عز وجل: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34]. وقال الشاعر: النفس تجزع أن تكون فقيرةً والفقر خير من غنىً يطغيها وغنى النفوس هو الكفاف فإن أبت فجميع ما في الأرض لا يكفيها * * * وقال الآخر: هي القناعة فالزمها تكن ملكاً لو لم تكن لك إلا راحة البدنِ وانظر لمن ملَك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير الطيب والكفنِ

فضل التقوى

فضل التقوى أيها الأحبة! فضل التقوى عظيم، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجَاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3]، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرَاً} [الطلاق:4]. والمتقون عند الله جل وعلا في جنات النعيم، كما قال تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [ق:31]، وقال جل وعلا: {وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:35]. أسأل الله جل وعلا أن يجعنا وإياكم من المتقين، وأن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال. وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

الأسئلة

الأسئلة

قصيدة وعظية في أهوال القيامة

قصيدة وعظية في أهوال القيامة Q نريد منك يا شيخ! القصيدة الوعظية الإيمانية: (مَثِّل لنفسك أيها المغرور)! A إن شاء الله أعطيكم إياها؛ لأن المقام مناسب في هذا الوقت، ونسأل الله يتقبل منا ومنكم. هذه الأبيات هي أبيات رقيقة؛ لأنها تذكر الناس بحقيقة الآخرة، وبما يحدث في ذاك اليوم الرهيب الذي يكاد يخلع القلوب، يقول الشاعر: مَثِّل لنفسك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمور إذ كورت شمس النهار وأدنيت حتى على رأس العباد تسير وإذا النجوم تساقطت وتناثرت وتبدلت بعد الضياء كُدور وإذا الجبال تخلعت بأصولها فرأيتها مثل السحاب تسير وإذا الجليل طوى السما بيمينه طيَّ السجل كتابَه المنشور وإذا الصحائف نُشِّرت وتطايرت وتهتكت للعالمين ستور وإذا الجنين بأمه متعلقٌ يخشى القصاص وقلبه مذعور هذا بلا ذنب يخاف جنايةً كيف المُصِرُّ على الذنوب دهور وإذا الجحيم تسعَّرت نيرانها ولها على أهل الذنوب زفير وإذا الجنان تزخرفت وتطيبت لفتىً على طول البلاء صبور أسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهل الجنة، وأن يحرم وجوهنا وإياكم على النار.

الرفق في الدعوة ووجوب المحافظة على الصلاة

الرفق في الدعوة ووجوب المحافظة على الصلاة Q لنا زملاء في العمل لا يصلون، علماً بأننا نأمرهم بذلك، ونحن نأكل ونشرب معهم، فما الحكم؟ A أيها الأحبة الكرام! أود أن تفرقوا بين مقامين: بين مقام الدعوة، ومقام الجهاد. فمقام الدعوة هو: اللين والحكمة والرحمة، فما دمت في دعوة لأخيك فيجب عليك أن تكون ليناً حكيماً رحيماً، وعليك أن تفتح صدرك له، وإذا ما ذكرته فذكِّره بتواضع، ولا تذكره ولسان حالك يقول: أنا المتبع وأنت المبتدع، وأنا التقي وأنت الشقي، وأنا الطائع وأنت الفاسق، والله يا أخي! لن يسمع لك ولن يسمع منك، وسيدخل الشيطان إلى قلبه ليرد الحق على لسانك، فلا تكن عوناً للشيطان على أخيك، بل ادعه بحكمة ورحمة وأدب وتواضع وابتسامة جميلة، وذكِّر أخاك بالله جل وعلا، ذكِّره مرةً ومرتين وأكثر، فإن الله تبارك وتعالى يقول لنبيه: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132]. والله يا إخوة! لو فتحنا القلوب بهذه المفاتيح التي وضعها لنا ربنا ونبينا صلى الله عليه وسلم لرأينا الخير الكثير، والعجب العُجاب! جلست مع نائب رئيس جامعة كاليفورينيا في أميركا، فكان الرجل يقسم بالله أنه كان إذا رأى أحداً مثلي: بالغترة واللحية والثوب، يقسم لي بالله أنه كان يبحث عن مكان ليختفي فيه! ويقول: أنا أظن أنك آخذٌ رشاشاً! وكأنه يقول: أنا أخاف؛ لأن الصورة التي عندي أن هذا المنظر إرهاب بكل المقاييس! فالصورة عنده مشوهة؛ ولذا فأنا أقول: إن أعظم خدمة نقدمها الآن للدين هي أن نصحح هذه الصورة عن الإسلام والمسلمين، وعن الملتزمين بصفة خاصة، ولن يكون ذلك إلا بالخلق والأدب والتواضع، والنبي عليه الصلاة والسلام دخل عليه رجل، فأول ما التفت إليه إذا بالرجل يرتعد، فقال له: (هون عليك؛ فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش، كانت تأكل القديد في مكة) انظر إلى الأخلاق العالية! وانظر أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة! ولاحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو كفاراً. قد تجد الرجل وحد الله وقال: (لا إله إلا الله)، وصلى مرةً وتكاسل مرةً، فهذا يحتاج منك إلى أن تذكره بالله جل وعلا بالحكمة والرحمة والموعظة الحسنة الرقراقة، وتدعوه ما بين ترغيب وترهيب، بحسب الأرض التي تبذر فيها البذر، ومراعاة حال التربة أمرٌ من فقه الدعوة. فأسأل الله أن يهدي إخواننا إلى الحق. وأذكر إخواننا الذين يضيعون الصلاة بأنهم على خطر عظيم، فلقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (بين المرء وبين الكفر ترك الصلاة)، وهذا ليس من كلامنا أبداً، وإنما هو من كلام الصادق الحبيب، فقد رواه مسلم؛ حتى لا نُتَّهم بالتطرف أو بالتشدد، ويقول صلى الله عليه وسلم: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر)، ويقول صلى الله عليه وسلم: (إن أثقل الصلاة على المنافقين صلاة الفجر وصلاة العشاء)، وفي صحيح مسلم من حديث ابن مسعود أنه رضي الله عنه كان يقول: (ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها -أي: عن صلاة الجماعة- إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان يؤتى بالرجل يهادى به بين الرجلين حتى يقام في الصف). فلا تترك هدي نبيك صلى الله عليه وآله وسلم، واحرص على هذا. وأنا أقول لك: لو دعاك قائدك في المعسكر وقال: الجندي الفلاني، أو الضابط الفلاني يأتي المكتب في الساعة الفلانية، أتحداك أن تتأخر! فإن دعاك الملك جل وعلا فكيف تتأخر؟! وخذ مثالاً آخر: إذا كنت شاباً وخطبت فتاةً، فقد تذهب إليها وتجلس معها ساعات، بل لو تركك أهلها لجلست معها الليل كله! ثم إنك تجلس أربع ساعات وخمس ساعات، ثم تقول: الساعة جرت والله! والوقت جرى! فهذه خمس ساعات وأنت مستأنس، وأما عند الصلاة فكما قال الشاعر: تأتي للصلاة في فتور كأنك قد دُعيت إلى البلاء وإن أديتها جاءت بنقص لما قد كان من شرك الرياء وإن تخلو عن الإشراك فيها تدبر للأمور بالارتقاء ويا ليت التدبر في مباح ولكن في المشقة والشقاء وإن كنت المصلي بين خلقه أطلت ركوعها بالانحناء وتعجل خوف تأخير لشغل كأن الشغل أولى من لقاه وإن كنت المجالس يوماً أنثى قطعت الوقت من غير اكتفاء أيا عبد لا يساوي الله معك أنثى تناجيه بحب أو صفاء فأقبل على الله فإن الصلاة كفارة وصلة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات، أيبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا، يا رسول الله! قال: فذلك مَثَل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا)، وفي الحديث الذي رواه بعض أصحاب السنن وحسنه الشيخ الألباني في (صحيح الترغيب والترهيب) أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (تحترقون تحترقون -أي: بالذنوب والمعاصي- فإذا صليتم الصبح غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم الظهر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم العصر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صلتم المغرب غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم العشاء غسلتها، ثم تنامون فلا يكتب عليكم شيء حتى تستيقظوا) فانظر إلى فضل الصلاة! أسأل الله أن يوفقنا وإياكم للمحافظة عليها؛ إنه وليس ذلك ومولاه.

أهمية ذكر الله عند الجماع

أهمية ذكر الله عند الجماع Q هناك حديث يقول: (من أتى أهله وقال: اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، ورزق من هذا الجماع ولداً لم يضره شيطان) هل معنى هذا أن الشيطان لا يأتي ذلك المولود؟ A الحديث حديث صحيح، ومعنى ذلك: أنك لو استعذت بالله جل وعلا من الشيطان حفظ الله تبارك وتعالى هذه النطفة، وحفظ الله جل وعلا بعد ذلك هذه الذرية، كما قال الله تعالى على لسان أم مريم: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران:36]، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بهذا، لكن ليس معنى ذلك أن هذا المولود الذي سمى والده أثناء الجماع إن خرج لا يأتيه الشيطان، كلا، وإنما يأتيه الشيطان ويوسوس له؛ فالشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، ولكن شتان بين نطفة ذُكر اسم الله عليها واستُعيذ بالله من الشيطان حين إلقائها في الرحم، وبين نطفة أخرى ما خرجت إلا -والعياذ بالله- وقد باركها الشيطان! فأسأل الله تبارك وتعالى أن يجنبنا وإياكم مكائده، وأن يحفظنا وإياكم منه، إنه على كل شيء قدير. والله أعلم. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين.

الخوف والرجاء

الخوف والرجاء الخوف والرجاء بالنسبة للمؤمن الحق منهج حياة، فتراه جامعاً بينهما مدة حياته، مغلباً الخوف حال صحته وعافيته، ومغلباً الرجاء حال مرضه وسقمه، فالخوف يحمله على الطاعة، وترك المعصية، والرجاء يحمله على التوبة من الذنب، وإحسان الظن بالرب سبحانه، وهذا هو دأب المؤمنين الصالحين.

فضل الخوف والرجاء وأهميتهما

فضل الخوف والرجاء وأهميتهما إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة الفضلاء! وطبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله الكريم جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته، ودار مقامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! إننا نعيش عصراً طغت فيه الماديات والشهوات، وانحرف فيه كثير من الناس عن منهج رب الأرض والسماوات، وقست فيه القلوب، وتراكمت فيه الذنوب على الذنوب، وقل فيه الخوف من علام الغيوب، فأردت أن أذكر نفسي وإخواني في هذا اليوم الطيب المبارك بكلمات تجمع بين الخوف والرجاء، عسى أن تدمع العيون، وتخشع القلوب، فتعود النفوس إلى الله جل وعلا. الخوف والرجاء جناحان يطير بهما المقربون إلى كل مقام محمود، ومطيتان كريمتان يقطع بهما السالكون إلى طريق الآخرة كل عقبة كئود، فلا يقود إلى قرب الرحمن، وروض الجنان، والنجاة من النيران، إلا أجنحة الخوف والرجاء.

ثمرات الخوف من الله

ثمرات الخوف من الله قال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى: من خاف الله دله الخوف على كل خير، وكل قلب ليس فيه خوف الله، فهو قلب خراب. وقال الحسن البصري حينما قيل له: يا أبا سعيد! إننا نجالس أقواماً يخوفوننا من الله جل وعلا، حتى تكاد قلوبنا أن تطير من شدة الخوف، فقال الحسن رحمه الله: والله إنك إن تخالط أقواماً يخوفونك في الدنيا حتى يدركك الأمن في الآخرة، خير من أن تصحب أقواماً يؤمنونك في الدنيا حتى يدركك الخوف في الآخرة. نعم إخوتي الكرام! ففي الحديث الصحيح الذي رواه البيهقي في شعبه، وابن حبان في صحيحه، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى في الحديث القدسي: وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين وأمنين)، تدبر هذا الكلام أيها الحبيب! يقول ربك عز وجل في الحديث القدسي: (وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين وأمنين، فإذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة، وإذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة). والخوف الحقيقي هو الذي يحول بين العبد وبين معصية الله، ويدفع العبد دفعاً إلى طاعة سيده ومولاه، فليس الخائف من يبكي ويمسح عينيه ثم ينطلق ليرتكب المعاصي والذنوب، ولكن الخائف من يترك ما يخاف أن يعاقبه الله عليه، لذا فقد جعل الله الخوف منه سبحانه ثمرة حتمية لازمة للإيمان به جل وعلا، فقال عز وجل: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175]، فالخوف من الله ثمرة حتمية للإيمان، بل وبين ربنا جل وعلا أنه لن يتأثر بالموعظة إلا من يخشاه، قال سبحانه: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} [الأعلى:10]، بل وبين ربنا جل وعلا أنه لن يعتبر بمصارع الظالمين، ولن يتأثر بأخذ الله للمجرمين إلا من خاف عذاب الآخرة، قال سبحانه: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:102 - 108] أي: غير منقطع ولا منته. إن أهل الخوف من الله جل وعلا هم أهل الجنان، وهم أهل القرب من الرحيم الرحمن، لذا فإن الله تعالى قد جمع لأهل الخوف والخشية أعلى مقامات أهل الجنان من الرحمة والعلم والهدى والمغفرة والرضوان، قال تعالى: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} [الأعراف:154]، وقال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [الملك:12]، وقال تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:31 - 35]. وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان رجل يسرف على نفسه ممن كان قبلكم -أي: يسرف على نفسه بالمعاصي والذنوب- فلما حضرته الوفاة قال لأولاده: يا أولادي! إذا مت فحرقوني، حتى إذا صرت فحماً فاسحقوني، فإذا كان يوم ريح عاصف فاذروني -وفي لفظ في الصحيح: فاذروا نصفي في البر ونصفي في البحر- ثم قال: فلأن قدر علي ربي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً من العالمين، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: فأمر الله البحر فجمع ما فيه، وأمر الله البر فجمع ما فيه، ثم قال لهذا العبد: (كن) فكان، فإذا هو رجل قائم بين يديه، فقال الله له: ما حملك على أن صنعت ما صنعت؟ فقال العبد: مخافتك يا رب! أو خشيتك يا رب! فغفر الله له بذلك). إنه الخوف، وإنها ثمرة الخشية من الله، وهذه هي مكانة الخائفين عند الله جل وعلا.

أنواع الخوف ودرجاته ومراتبه

أنواع الخوف ودرجاته ومراتبه والخوف درجات وأنواع، منه:

الخوف من مكر الله عز وجل

الخوف من مكر الله عز وجل الخوف من مكر الله: قال تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99]، لا تأمن مكر الله أخي في الله! فإن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف شاء، كما في صحيح مسلم، من حديث عبد الله بن عمرو، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن عز وجل، كقلب واحد يصرفه حيث شاء ثم قال صلى الله عليه وسلم: اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك). فالقلوب تتقلب، فأنت الآن على حال وبعد لحظات ربما يتحول قلبك إلى حال آخر، فلا تأمن على الإطلاق كيف يكون حال قلبك وأنت على فراش الموت، يقول الله: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99]، فالخوف من مكر الله مزق قلوب الصادقين، وقطع قلوب المؤمنين العارفين العالمين. ففي الصحيحين من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فوالذي نفسي بيده إن أحدكم ليعمل الزمان الطويل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل الزمان الطويل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها). وفي رواية سهل بن سعد الساعدي في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة)، وفي لفظ البخاري: (فإنما الأعمال بالخواتيم). إخوتي الكرام! إن العبرة بالخواتيم، والخواتيم ميراث السوابق، بمعنى: أن الخواتيم نتيجة عادلة لما سبق في حياتك من أعمال الخير أو الشر. قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: لقد أجرى الله الكريم عادته بكرمه أن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه. إن عشت على الطاعة فيقتضي عدل الله جل وعلا أن تموت على طاعة، وأن تبعث على ذات الطاعة، وإن عشت على المعاصي فيقتضي عدل الله إن لم تتب إليه منها وتعترف له بفقرك وجرمك أن تموت على ذات المعصية، وأن تبعث يوم القيامة على ذات المعصية، فالعبرة بالخواتيم، والخواتيم ميراث السوابق. فهذا مؤذن يؤذن لله أربعين سنة لا يبتغي الأجر إلا من الله، وقبل الموت مرض مرضاً أقعده في الفراش، وعجز أن يخرج إلى بيت الله ليرفع الأذان، وقبل الموت بساعات بكى وقال: يا رب! أؤذن أربعين سنة لا أبتغي الأجر إلا منك وحدك، وأحرم من هذه النعمة قبل الموت!! اللهم يسر لي الأذان، فلما سمع الأذان خارج بيته قال لأولاده: يا أولادي! وضئوني فوضئوه، قال: أريد أن أصدع بالأذان وأن أخرج إلى المسجد، فلما أراد أن يخرج عجز عن الخروج إلى بيت الله جل وعلا فقال: أوقفوني فأوقفوه على فراشه، واتجه إلى القبلة ورفع صوته بالأذان إلى أن وصل إلى آخر كلمات الأذان، فقال: (الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله)، وخر على فراشه ساقطاً، فأسرع إليه أولاده فإذا روحه قد خرجت مع قوله: (لا إله إلا الله). لقد أجرى الله الكريم عادته بكرمه أن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه. وهؤلاء مجموعة من الشباب في السعودية اصطادوا ثلاث فتيات، وخرجوا بهن إلى مكان بعيد عن أعين الناس، ولكن الله جل وعلا يسمع ويرى، فقال أحدهم: نريد الطعام والشراب لنقضي ليلة حمراء ممتعة، فقال أحدهم: أنا آتيكم بالطعام والشراب بعد لحظات، وخرج وانصرف وعليه جنابة الزنا والعياذ بالله! ولا حول ولا قوة إلا بالله، وفي الطريق انقلبت به سيارته، ولما تأخر عن رفقائه قال أحدهم للآخر: لماذا تأخر فلان؟ أنا أذهب لأنظر ماذا صنع؟ وعلى الطريق رأى سيارة تحترق وتشتعل فيها النيران، فلما دنا منها عرف أنها سيارة صديقه، فوجد صديقه في السيارة يعجز عن الخروج منها، والنار تأكله وهو يقول: ماذا أقول له؟ ماذا أقول له؟ ماذا أقول له؟ فاقترب منه وسحبه والنار تشتعل فيه وقال له: من هذا الذي تتكلم عنه؟ فقال له: ماذا أقول لربي؟ ماذا أقول لربي غداً؟ فأنت سل نفسك أيها المسلم! وقل: ماذا سأقول لربي غداً؟ إن أتاك اليوم ملك الموت هل أنت راض عما أنت فيه من طاعة؟! عباد الله! إن أقرب غائب ننتظره جميعاً هو الموت، والموت لا يترك غنياً ولا فقيراً، ولا يترك شيخاً ولا صغيراً، ولا يترك رجلاً ولا امرأة. دع عنك ما قد فات في زمن الصبا واذكر ذنوبك وابكها يا مذنب لم ينسه الملكان حين نسيته بل أثبتاه وأنت لاه تلعب والروح منك وديعة أودعتها ستردها بالرغم منك وتسلب وغرور دنياك التي تسعى لها دار حقيقتها متاع يذهب الليل فاعلم والنهار كلاهما أنفاسنا فيها تعد وتحسب {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99]، وكلما ازددت معرفة بالله كلما ازددت خوفاً من الله وخشية له، فها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أنا أعلمكم بالله، وأشدكم له خشية).

نماذج وصور من حياة الخائفين

نماذج وصور من حياة الخائفين روى الإمام أحمد في مسنده بسند حسن، من حديث أبي ذر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني أرى مالا ترون، أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته، ساجد لله عز وجل، ثم قال: والله لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيراً ولضحكتم قليلاً، ولما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الطرقات تجأرون إلى الله جل وعلا). وفي الصحيحين من حديث أنس قال: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة بليغة ما سمعت مثلها قط، وكان مما قال: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً. يقول أنس: فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم ولهم خنين). أي: لهم بكاء بصوت خافت. ومن أعجب ما قرأت في هذا: ما رواه البخاري وأحمد وغيرهما: لما مات عثمان بن مظعون وهو من سادة المهاجرين، ومن أولياء الله المتقين، وممن شهد بدراً، وأول من لقب بالسلف الصالح، وأول من دفن بالبقيع. لما مات عثمان بن مظعون رضي الله عنه دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقبله بين عينيه، وبكى رسول الله حتى سالت دموعه على خد عثمان بن مظعون. ولما مات قالت امرأة من الأنصار يقال لها: أم العلاء قالت: رحمة الله عليك أبا السائب رحمة الله على عثمان بن مظعون، رحمة الله عليك أبا السائب شهادتي لك أن الله قد أكرمك، فسمعها النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها: وما يدريك أن الله قد أكرمه؟! قالت: والله لا أدري بأبي أنت وأمي يا رسول الله! فمن؟ أي: فمن هذا الذي سيكرمه الله إن لم يكرم عثمان بن مظعون؟! (بأبي أنت وأمي يا رسول الله والله لا أدري فمن؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما هو فقد جاءه اليقين وإني والله لأرجو له الخير، ثم قال المصطفى: والله لا أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي). ولم لا يخاف خاتم الأنبياء وقد خاف من قبله الملائكة من رب الأرض والسماء؟ قال الله عز وجل: {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ} [الرعد:13]، ولم لا يخاف بعد الملائكة وبعد الأنبياء المؤمنون الصالحون العارفون العالمون برب العالمين؟! هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ينام على فراش الموت فيدخل عليه ابن عباس، والحديث في صحيح البخاري، فيقول ابن عباس: (أبشر ببشرى الله لك يا أمير المؤمنين! لقد صحبت رسول الله فأحسنت صحبته، ثم توفي رسول الله وهو عنك راض، ثم صحبت خليفة رسول الله فأحسنت صحبته، ثم توفي أبو بكر وهو عنك راض، ثم صحبت أصحاب رسول الله فأحسنت صحبتهم، ولئن مت اليوم فوالله إنهم عنك لراضون، فقال عمر: ذلك منٌّ منَّ الله به عليّ، ثم قال -وتدبر ما قاله عمر -: والله لو أن لي طلاع الأرض ذهباً لافتديت به اليوم من عذاب الله قبل أن أراه). انظروا يا إخوة! لتقفوا على حال قسوة قلوبنا، إننا نسمع كلاماً -ورب الكعبة- يذيب الصخور، ويفتت الرمال، ولكنك تنظر إلى كثير من القلوب وكأن أصحابها ما سمعوا شيئاً عن علام الغيوب، وعن الحبيب صلى الله عليه وسلم لماذا؟ لأن قلوبنا مريضة إلا من رحم ربك جل وعلا، لم تعد الموعظة تؤثر، ولم يعد القرآن يهز القلب، ولم يعد كلام النبي عليه الصلاة والسلام يحرك الوجدان، وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على أن القلوب في صدورنا إما مريضة وإما ميتة. قال ابن مسعود: (اطلب قلبك في ثلاثة مواطن: في مجالس العلم، وعند سماع القرآن، وفي أوقات الخلوة، فإن لم تجد قلبك في هذه المواطن فسل الله أن يمن عليك بقلب؛ فإنه لا قلب لك). اللهم اشف قلوبنا وأحيها يا رب العالمين! أيها الأحبة! لقد قست القلوب وتراكمت الذنوب على الذنوب، وبَعُدَ القوم من علام الغيوب، وتجرأنا على الله وتجاوزنا شرع رسول الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله. هذا عمر بن عبد العزيز تدخل عليه امرأته فاطمة بنت عبد الملك فتراه قابضاً على لحيته يبكي، فتقول له: ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟! فيقول لها: يا فاطمة! لقد وليت من أمر هذه الأمة وفكرت في الفقير الجائع، والمريض الضائع، واليتيم المكسور، والمضروب المقهور، والأرملة، والمسكين، وفي ذي العيال الكثير، وفي غيرهم وأشباههم في أقطار البلاد وأطراف الأرض، وعلمت أن خصمي دونهم هو محمد صلى الله عليه وسلم، فخشيت أن لا تثبت لي حجة بين يدي الله جل وعلا. وهذا سفيان الثوري ينام على فراش الموت فيدخل عليه حماد بن سلمة فيقول له حماد: أبشر يا أبا عبد الله! إنك مقبل على من كنت ترجوه وهو أرحم الراحمين، فقال له سفيان: أسألك بالله يا حماد! أتظن أن مثلي ينجو من النار؟! وهذا الشافعي لما نام على فراش الموت دخل عليه المزني فقال له المزني: كيف أصبحت يا إمام؟! فقال الشافعي: أصبحت من الدنيا راحلاً، وللإخوان مفارقاً، ولكأس المنية شارباً، ولعملي ملاقياً، وعلى الله وارداً، فلا أدري أتصير روحي إلى الجنة فأهنيها، أم إلى النار فأعزيها؟ ثم أنشد الشافعي قائلاً: ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي جعلت الرجا مني لعفوك سلما تعاظمني ذنبي فلما قرنته بعفوك ربي كان عفوك أعظما وكان مالك بن دينار يقوم الليل يبكي للعزيز الغفار، وهو قابض على لحيته ويقول: يا رب! يا رب! لقد علمت ساكن الجنة من ساكن النار، ففي أي الدارين منزل مالك بن دينار؟!

الخوف من عذاب الله في الآخرة

الخوف من عذاب الله في الآخرة أيها الأحباب! ثم يأتي بعد ذلك: الخوف من عذاب الله في الآخرة، ومن منا يقوى على نار الدنيا؟ والله لا يقوى واحد منا على نار قليلة من نار الدنيا. عباد الله! هل تعلمون أن هذه النار التي إذا اشتعلت في بئر من آبار بترول، أو دمرت مصنعاً من المصانع، أو أحرقت مزرعة من المزارع، أو أبادت مدينة من المدن، ما هذه النار إلا جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم؟! (ناركم هذه التي توقدون هي جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم، قالوا: يا رسول الله! والله إن كانت لكافية، قال: ولكنها فضلت على نار الدنيا بتسعة وستين جزءاً كلها مثل حرها). ففي الصحيحين من حديث النعمان، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أهون أهل النار عذاباً لرجل توضع في أخمص قدميه جمرتان من نار، فيغلي منهما دماغه، ما يرى أن أحداً أشد منه عذاباً، وإنه لأهون أهل النار عذاباً). الخوف من عذاب الله في الآخرة مزق قلوب الصادقين العارفين، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (تحاجت الجنة والنار فقالت النار: يا رب! أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين، وقالت الجنة: يا رب! مالي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم، فقال الله عز وجل للنار: يا نار! أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي، وقال للجنة: يا جنة! أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي). فهيا أيها الأحبة الكرام! هيا إلى الجنة، هيا إلى العمل من أجل الفوز بالجنة، فإن الجنة -ورب الكعبة- فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. أيها الأحباب! وبعدما رهبت هأنذا أرغب، وبعدما خوفت هأنذا أذكر بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي تفتح لمثلي أبواب الرجاء في التوبة والأوبة إلى رب الأرض والسماء، وأرجئ الحديث عن الرجاء إلى ما بعد جلسة الاستراحة، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

الرجاء ثمرته وحقيقته ومعناه

الرجاء ثمرته وحقيقته ومعناه الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام! كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون، وإن الله عز وجل فتح أبواب الرجاء لكل مذنب مقصر عاص ليرجع إليه؛ وليعترف بذنبه وجرمه، وهذا هو الفهم الصحيح لأحاديث الرجاء، فالرجاء مع العمل، والرجاء مع الخوف لا ينفصمان ولا ينقطعان أبداً، فالمؤمن يخشى الله ويمتثل الأمر ويجتنب النهي، ويقف عند الحد، لكنه بشر فليس ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً، فربما يضعف فتزل قدمه في بؤرة المعصية، وحينئذ إن جذبت أشواك الذنوب ثيابه يقال له: اجذب ثيابك واغسلها بدموع التوبة، واعلم إن عدت إلى الله بأن الله يفتح لك أبواب الرجاء على مصراعيها. هذا هو الفهم الدقيق لأحاديث وآيات الرجاء. قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: إن قوماً ألهتهم أماني المغفرة، حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم، وقالوا: نحن نحسن الظن بالله وكذبوا، لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل. فالمؤمن الذي يحسن الظن بالله يعمل، إن أمره الله ورسوله ائتمر، وإن نهاه الله ورسوله انتهى، وإن حد له الله ورسوله حداً وقف عند حدود الله ورسوله، ثم بعد ذلك إن وقع في معصية وضعف وزلت قدمه يذكر بأحاديث الرجاء بعد آيات الرجاء، فيجد الباب مفتوحاً، وإلا فأين يذهب الفقير إلا إلى الغني؟ وأين يذهب العاصي إلا إلى الغفور؟ وأين يذهب الضعيف إلا إلى القوي؟ عبد الله! اعترف بذنبك وتقصيرك وجرمك، وعد إلى الله جل وعلا وأنت على يقين مطلق بأن الله تبارك وتعالى سيفرح بتوبتك وهو الغني عنك، ويفتح لك أبواب التوبة وأبواب الرجاء على مصراعيها، ولا تسوف فإن الموت يأتي بغتة. يا نفس قد أزف الرحيل وأظلك الخطب الجليل فتأهبي يا نفس لا يلعب بك الأمل الطويل فلتنزلن بمنزل ينسى الخليل به الخليل وليركبن عليك فيـ ـه من الثرى حمل ثقيل قرن الفناء بنا جميعاً فما يبقى العزيز ولا الذليل فلا تسوف وُعد إلى الله وتدبر هذا النداء الندي الرخي: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]. وتدبر قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: (والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون، فيغفر الله لهم). وتدبر قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (ينزل الله تعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا -نزولاً يليق بكماله وجلاله- ثم يقول ربنا: أنا الملك أنا الملك من ذا الذي يدعوني فأستجيب له؟ من ذا الذي يسألني فأعطيه؟ من ذا الذي يستغفرني فأغفر له؟ فلايزال كذلك حتى يضيء الفجر). بل وفي صحيح مسلم من حديث أبي موسى، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها). وفي صحيح مسلم وسنن الترمذي واللفظ له من حديث أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى في الحديث القدسي: يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة). وأختم بهذا الحديث الذي رواه البخاري ومسلم، من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأة في السبي تبحث عن ولدها، فلما وجدته ألزقته ببطنها فأرضعته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: أترون هذه الأم طارحة ولدها في النار؟ قالوا: لا يا رسول الله! فقال عليه الصلاة والسلام: لله أرحم بعباده من رحمة هذه الأم بولدها)، لذا قال أحد أهل العلم: اللهم إنك تعلم أن أمي هي أرحم الناس بي، وأنا أعلم أنك أرحم بي من أمي، وأمي لا ترضى لي الهلاك والعذاب، أفترضاه لي أنت وأنت أرحم الراحمين!! فيا أيها اللاهي! ويا أيها الساهي! يا من ضيعت الصلاة! يا من أكلت الربا! يا من شربت الخمر! يا من عاقرت الزنا! هيا لا تقنط ولا تيئس، وعُدْ إلى الله مهما كان ذنبك، ومهما كانت كبيرتك، عد إلى الله جل وعلا، واعلم بأن الله سيفرح بتوبتك وهو الغني عنك، الذي لا تنفعه الطاعة ولا تضره المعصية.

شروط التوبة

شروط التوبة عباد الله! اعلموا أن للتوبة شروطاً وأركاناً: أولها: الإقلاع عن المعاصي والذنوب. ثانيها: الندم، فالندم هو ركن التوبة الأعظم. ثالثها: الإكثار من العمل الصالح، والمداومة عليه، وأن نلزم طريق الجنة حتى نلقى الله جل وعلا. اللهم لا تدع لأحد منا في هذا المقام ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا ميتاً لنا إلا رحمته، ولا هماً إلا فرجته، ولا غماً إلا أزلته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا طائعاً إلا زدته وثبته، ولا حاجة هي لك رضاً ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا رب العالمين! اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا شقياً ولا محروماً، اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى. اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم اشف صدور قوم مؤمنين بنصرة الإسلام وعز الموحدين، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، اللهم ارزقنا جميعاً قبل الموت توبة، وعند الموت شهادة، وبعد الموت جنة ونعيماً ورضواناً. اللهم أصلح أولادنا، اللهم أصلح أولادنا، اللهم رب لنا أولادنا، اللهم استر نساءنا وبناتنا، اللهم استر نساءنا وبناتنا، ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً، اللهم اجعل هذا البلد سخاءً رخاءً وجميع بلاد المؤمنين، اللهم اجعل هذا البلد سخاءً رخاءً وجميع بلاد المسلمين، اللهم ارفع عن هذا البلد الفتن ما ظهر منها وما بطن وجميع بلاد المسلمين. اللهم ارفع عن هذا البلد الفتن ما ظهر منها وما بطن وجميع بلاد المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين! أحبتي الكرام! هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون عليه إلى الجنة ويلقى به في جهنم، ثم أعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.

أقسام التوحيد

أقسام التوحيد حديث جبريل في بيان مراتب الدين من أجل الأحاديث الجامعة لعقائد التوحيد والإيمان، بل هو مشتمل على ما يجب على المسلم اعتقاده والعمل به، ففيه بيان أركان الإسلام، وأركان الإيمان، ومنزلة الإحسان؛ ولذا اهتم أهل العلم بهذا الحديث كثيراً.

شرح حديث جبريل في مراتب الدين

شرح حديث جبريل في مراتب الدين بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الأول فلا شيء قبله، وهو الآخر فلا شيء بعده، وهو الظاهر فلا شيء فوقه، وهو الباطن فلا شيء دونه، وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، بلغ الرسالة، وأدّى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وصحبه، وعلى كل من اقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فمرحباً بكم أيها الأحبة! ومع اللقاء الثالث على التوالي، وما زلنا نطوف في بستان هذا الحديث الطيب المبارك، في شرح حديث جبريل عليه السلام، والحديث رواه مسلم وغيره من أصحاب المسانيد وأصحاب السنن، وقلنا: إن مسلماً رحمة الله عليه قد قدم لهذا الحديث بمقدمة هامة، ولقد آليت على نفسي أن أقدم بهذه المقدمة مع متن الحديث في كل لقاء؛ حتى يتيسر على الجميع حفظه إن شاء الله عز وجل.

نص الحديث

نص الحديث عن يحيى بن يعمر رحمه الله قال: (كان أول من قال بالقدر في البصرة معبد الجهني) أي: كان أول من قال بنفي القدر، وأن الأمر لا تقدير فيه لله عز وجل، قال: (فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لسألناه عما يقول هؤلاء في القدر، يقول يحيى بن يعمر: فوفق لنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما داخلاً المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي، أنا عن يمينه وصاحبي عن شماله، وكنت ظننت أنّ صاحبي سيكل لي الكلام؛ لأني كنت أصفق لساناً منه، فقلت: أبا عبد الرحمن -لـ عبد الله بن عمر - لقد ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن، ويتقفرون العلم -أي: يبحثون عن غوامضه وخوافيه- ويقولون: إنه لا قدر، وإن الأمر أنف) أي: إن علم الله حادث، وإن الله لا يعلم الأشياء والأحداث إلا بعد أن تقع. لقد ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن، ويتقفرون العلم، ويزعمون ألا قدر، وأن الأمر أنف، فقال عبد الله بن عمر: (إذا لقيت أولئك، فأخبرهم أني منهم براء، وأنهم براء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه في سبيل الله، ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر). ثم قال: حدثني أبي عمر بن الخطاب قال: (بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحدٌ، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلًا، قال: صدقت! قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه. قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: صدقت. قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. قال: فأخبرني عن الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل، قال: فأخبرني عن أماراتها؟ قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان. قال: ثم انطلق فلبثت ملياً، ثم قال لي: يا عمر! أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم). ولقد انتهينا بفضل الله جل وعلا في اللقاءات الماضية من الترجمة لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولـ عبد الله بن عمر رضي الله عنه، وبيّنا في لقاء مستقل بعض الآداب التي ينبغي أن يكون عليها طالب العلم، وأوضحنا في اللقاء الماضي بعض الآداب أو ما ينبغي أن يتحلى به المعلم أو العالم.

علاقة الإسلام بالإيمان

علاقة الإسلام بالإيمان كان لقاؤنا الماضي يدور حول بعض الآداب التي ينبغي أن يتحلى بها المعلم أو العالم، فتعالوا بنا أيها الأحبة في هذه الليلة المباركة، وفي هذا اللقاء الطيب، لنتعرض إلى أول سؤال سأله هذا السائل لرسول الله صلى الله عليه وسلم. جلس هذا السائل بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام وقال له: (يا محمد! أخبرني عن الإسلام). والإسلام لغة: هو الانقياد والإذعان، أما معناه من الناحية الشرعية إذا أطلق فله حالتان: الحالة الأولى: إذا أطلق اسم الإسلام دون أن يقترن بالإيمان، فهو في هذه الحالة يراد به الدين كله، من الأقوال والاعتقادات والأفعال والأعمال، لقول الله جل وعلا: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]، ولقول الله جل وعلا: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85]. فإذا جاءت كلمة الإسلام دون أن تقترن بكلمة الإيمان، فحينئذ يراد بالإسلام: الدين كله. أما إذا ذكرت كلمة الإسلام مقترنة بكلمة الإيمان، فيراد بالإسلام: الأقوال والأعمال الظاهرة، ويراد بالإيمان: الأعمال الباطنة، لقول الله جل وعلا: {قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14]، فإذا أطلق الإسلام مع الإيمان فإن الإسلام يراد به: أقوال وأعمال الظاهر، ويراد بالإيمان: أعمال الباطن. ويقول الإمام الخطابي رحمه الله: معنى ذلك: أن كل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمناً. فالإسلام والإيمان إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، أي: إذا اجتمعت كلمة الإسلام مع كلمة الإيمان افترقا فأصبح الإسلام له معنى، والإيمان له معنى آخر. ومعنى: (إذا افترقا اجتمعا) أي: إذا أطلقت كلمة الإسلام فحينئذٍ يراد بها الإسلام والإيمان، وإذا أطلقت كلمة الإيمان فحينئذٍ يراد بها الإسلام والإيمان. فالسائل يقول: (أخبرني عن الإسلام؟) فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت). فلنتعرض إلى أول ركن من أركان هذا الإسلام العظيم، وهو: شهادة أن لا إله إلا الله. قال: (الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله)، و (لا إله إلا الله) هي كلمة التوحيد والإخلاص، ولقد قسمنا التوحيد قبل ذلك إلى ثلاثة أقسام، فأعيروني القلوب والأسماع لنجمل ما وضحناه من أقسام التوحيد الثلاثة، ألا وهي: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات.

توحيد الربوبية

توحيد الربوبية توحيد الربوبية: هو إفراد الله جل وعلا بالخلق والأمر، فلا خالق إلا الله، ولا رازق إلا الله، ولا محيي إلا الله، ولا مدبر إلا الله، ولا مميت إلا الله، فالله وحده هو الخالق وما عداه مخلوق، والله وحده هو الرب وما عداه مربوب، والله وحده هو الرازق وما عداه مرزوق: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54]. والأدلة على هذا القسم من أقسام التوحيد كثيرة جداً.

الدليل النقلي على توحيد الربوبية

الدليل النقلي على توحيد الربوبية أولاً: الأدلة النقلية، القرآن كله من أوله إلى آخره يبين هذا القسم من أقسام التوحيد، وأكتفي بهذا الدليل من سورة النمل، يقول الله جل وعلا: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ * أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ * أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [النمل:60 - 64] أإله مع الله؟! لا رب غيره ولا معبود سواه. والأدلة النقلية في هذا الباب كثيرة، بل إن القرآن من أوله إلى آخره يتحدث عن هذا النوع، وصدق من قال: سل الواحة الخضراء والماء جاريا وهذه الصحاري والجبال الرواسيا سل الروض مزداناً سل الزهر والندى سل الليل والأصداح والطير شاديا وسل هذه الأنسام والأرض والسما وسل كل شيء تسمع التوحيد ساريا ولو أن هذا الليل وامتد سرمداً فمن غير ربي يرجع الصبح ثانياً أإله مع الله؟! الله ربي لا إله سواه هل في الوجود حقيقة إلا هو الشمس والبدر من أنوار قدرته والبرق والبحر فيض من عطاياه الطير سبحه والوحش مجده والموج كبره والحوت ناداه والنمل تحت الصخور الصم قدسه والنحل يهتف حمداً في خلاياه والناس يعصونه جهراً فيسترهم والعبد ينسى وربي ليس ينساه أإله مع الله؟ قل للطبيب تخطفته يد الردى يا شافي الأمراض من أرداك قل للمريض نجا وعوفي بعدما عجزت فنون الطب من عافاك قل للصحيح يموت لا من علة من بالمنايا يا صحيح دهاك قل للبصير وكان يحذر حفرة فهوى بها من ذا الذي أهواك بل سائل الأعمى خطا وسط الزحام بلا اصطدام مَنْ يقود خطاك قل للجنين يعيش معزولاً بلا راع ومرعى ما الذي يرعاك قل للوليد بكى وأجهش بالبكاء لدى الولادة ما الذي أبكاك وإذا ترى الثعبان ينفث سمه فاسأله من ذا بالسموم حشاك واسأله كيف تعيش يا ثعبان أو تحيا وهذا السم يملأ فاك واسأل بطون النحل كيف تقاطرت شهداً وقل للشهد من حلاك بل سائل اللبن المصفى كان بين دم وفرث ما الذي صفاك هل هناك مصنع على ظهر الأرض يقدر على ذلك؟! إنها قدرة الذي يقول للشيء: كن فيكون، إنها عظمة وإرادة لا يعجزها شيء في الأرض ولا في السماء. والأدلة النقلية في هذا الباب كثيرة جداً، ولكنني أريد أن أنهي الحديث عن أقسام التوحيد الثلاثة بإذن الله جل وعلا.

الدليل العقلي على توحيد الربوبية

الدليل العقلي على توحيد الربوبية الأدلة العقلية على توحيد الربوبية كثيرة، وسأكتفي بقولين أحدهما للأعرابي الذي استشهد على وجود الله جل وعلا بكلمات عجيبة! وهو أعرابي بسيط لم يلتحق بجامعة من الجامعات، ولا بكلية من الكليات، ولكنه تخرج في جامعة الفطرة، وتربى في أحضان الطبيعة: بين سمائها وجبالها، وإبلها وحيواناتها، فسئل: ما الدليل على وجود الله؟ قال: سبحان الله! البعرة تدل على البعير، وأثر القدم يدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، أفلا يدل ذلك كله على اللطيف الخبير؟!! واستشهد الإمام أحمد إمام أهل السنة والجماعة بالبيضة، فأمسك البيضة يوماً فقال: هذا حصن حصين أملس، ليس له باب ولا منفذ، ظاهره كالفضة البيضاء، وباطنه كالذهب الإبريز، فبينما هو كذلك إذ انصدع جداره، وخرج منه حيوان سميع بصير! إنها قدرة الله جل وعلا. والأدلة العقلية كثيرة في هذا الباب. فتوحيد الربوبية إذاً: هو الإقرار لله جل وعلا بالخلق والأمر، فلا خالق إلا الله، ولا رب إلا الله، ولا رازق إلا الله، ولا محيي إلا الله، ولا مميت إلا الله. هذا ومن أقر بذلك كله وكفر بتوحيد الألوهية فهو مشرك؛ لأن المشركين قد أقروا لله جل وعلا بتوحيد الربوبية، وأقروا بأن الله هو الخالق وما عداه مخلوق، وبأن الله هو الرازق وما عداه مرزوق، وبأن الله هو الرب وما عداه مربوب، ولكن لما دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى توحيد الألوهية -أي: إلى إفراد الله جل وعلا بالعبادة- قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5]، فأنكروا توحيد الألوهية، فحكم الله عليهم بالشرك برغم إقرارهم بتوحيد الربوبية لله جل علا.

توحيد الألوهية وشروط كلمة التوحيد

توحيد الألوهية وشروط كلمة التوحيد توحيد الألوهية هو: إفراد الله جل وعلا وحده بالعبادة. والعبادة كما عرفها شيخ الإسلام ابن تيمية: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة. وهي كما عرفها ابن القيم رحمه الله: كمال الحب مع كمال الذل. وفي الجملة: فتوحيد الألوهية هو تحقيق معنى لا إله إلا الله، وهي كلمة التوحيد والإخلاص. هذه الكلمة من أجلها خلق الله السماوات والأرض، ومن أجلها خلق الله الجنة النار، ومن أجلها أنزل الله الكتب، وأرسل الله الرسل، وبهذه الكلمة تكون الشقاوة والسعادة، فريق في الجنة وفريق في السعير. هذه الكلمة ورد في حقها أحاديث كثيرة، وأكتفي بذكر حديث واحد، وهو ما رواه الإمام البخاري ومسلم من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، وأن النار حق؛ أدخله الله الجنة من أي أبوابها الثمانية شاء)، وفي رواية: (أدخله الله الجنة على ما كان من العمل).

تقصير بعض المسلمين في فهم كلمة التوحيد

تقصير بعض المسلمين في فهم كلمة التوحيد كلمة التوحيد ليست كلمة ترددها الألسنة، وتنكرها القلوب والأعمال، إن كلمة التوحيد واقع وسلوك، إن كلمة التوحيد دين كامل وشامل، فكم من المسلمين يردد كلمة التوحيد وهو لا يفهم لها معنى، ولا يعرف لها مدلولاً، ولا يعرف لها مقتضى! ولقد نجح أعداء ديننا نجاحاً باهراً في تجهيل المسلمين بحقيقة لا إله إلا الله، فجعلوا كلمة التوحيد في جانب والمسلمين بفهمهم لها في جانب آخر، حتى صار المسلمون في واد، وصار الإسلام وحقيقة التوحيد كما أرادها الله، وكما جاء بها ابن عبد الله في واد آخر. نجحوا في أن يفرغوا لا إله إلا الله من محتواها كله، ومن مضمونها كله، ومن معناها كله، حتى صار المقتضى والمعنى والمفهوم منها في جهة، وصار المسلمون في فهمهم لها في جهة أخرى، ولا حول ولا قوة إلا بالله! فلا إله إلا الله لا تنفع إلا من قالها بلسانه، وصدقها بقلبه، وطبقها بأعماله، والإيمان قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالجوارح والأركان؛ هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة. فلابد أن تقولها بلسانك، وأن تصدقها بقلبك، وأن تترجم ذلك بأعمالك وجوارحك، إذا وقر الإيمان في القلب انعكس على جوارح العبد، فتحركت الجوارح بطاعة الله عز وجل، فائتمرت بأمر الله، وانتهت بنهي الله، ووقفت عند حدود الله جل وعلا. إذاً: ليس كل من قال: (لا إله إلا الله) دخل الجنة، فلهذه الكلمة شروط لا ينتفع قائلها إلا بها، وهذه الشروط -بإيجاز شديد- هي التي جمعها صاحب المعارج بقوله: العلم واليقين والقبول والانقياد فادر ما أقول والصدق والإخلاص والمحبه وفقك الله لما أحبه

الشرط الأول: العلم

الشرط الأول: العلم أول شرط هو: العلم، والعلم معناه: أن يكون قائلها على علم بمعناها ومقتضاها ومدلولاتها، وعلى علم بما تحمله هذه الكلمة من نفي وإثبات، وولاء وبراء، فكلمة التوحيد نفي للآلهة وللطواغيت وللأنداد وللأرباب، فهي نفي لجميع الآلهة غير الله، وإثبات للألوهية لله جل وعلا وحده. وهي إثبات العبادة لله وحده: فلا عبادة إلا لله، ولا خوف إلا من الله، ولا إذعان إلا لله، ولا انقياد إلا لله، ولا استسلام إلا لله، ولا تفويض إلا إليه، ولا رجاء إلا فيه، ولا طلب إلا منه، ولا استعانة إلا به، ولا استغاثة إلا به، ولا نذر إلا له، ولا ذبح إلا له، ولا حلف إلا به. تكون عقيدتك قولاً وعملاً: اللهم إني أبرأ من الثقة إلا بك، وأبرأ من الأمل إلا فيك، وأبرأ من التسليم إلا لك، وأبرأ من التفويض إلا إليك، وأبرأ من التوكل إلا عليك، وأبرأ من الصبر إلا على بابك، وأبرأ من الذل إلا في طاعتك، وأبرأ من الرجاء إلا لما في يديك الكريمتين، وأبرأ من الرهبة إلا لجلالك العظيم. هذا ما ينبغي أن تكون عليه عقيدتك أيها الموحد لله جل وعلا. إذاً: شرط العلم: أن تكون على علم بمعناها، نفياً وإثباتاً، فهي تنفي جميع الآلهة والأرباب والأنداد والطواغيت، وتثبت الألوهية لله وحده، والعبودية والعبادة لله وحده. وهي ولاء وبراء: ولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، وبراء من كل ما تبرأ الله منه. فالعلم: أن تكون على علم بمعناها نفياً وإثباتاً: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} [محمد:19]، وفي الحديث الصحيح من حديث عثمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة).

الشرط الثاني: اليقين

الشرط الثاني: اليقين الشرط الثاني: اليقين، واليقين هو الإيمان كله، كما ورد في الأثر الصحيح الذي ذكره الإمام البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (اليقين هو الإيمان كله). واليقين هو: أن يكون من قال: لا إله إلا الله على يقين جازم بمعناها ومدلولها، وذلك أن يقولها القائل بلسانه، وأن يصدقها بقلبه، وأن يطبقها بأعماله وجوارحه. وفي الحديث الصحيح الذي رواه الإمام البخاري من حديث أبي هريرة، وهو طويل، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى نعلين لـ أبي هريرة رضي الله عنه وقال له: (يا أبا هريرة! اذهب بنعلي هاتين، فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه؛ فبشره بالجنة). ومعنى اليقين: أن يكون قائلها على يقين بمعناها، فلا يقولها بلسانه ويكذبها بقلبه وأعماله. هذا هو الشرط الثاني بإيجاز.

الشرط الثالث: القبول

الشرط الثالث: القبول الشرط الثالث: القبول، والقبول معناه: أن نقبل كل ما جاءت به لا إله إلا الله، بأن نقبل أوامرها، وأن نقبل نواهيها، وأن نقف عند حدودها، ولا نقل كما قالت اليهود: نؤمن ببعض ونكفر ببعض! فلقد توعد الله من قال ذلك بقوله: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:85]. فالقبول معناه: أن ننقاد لـ (لا إله إلا الله) فإذا أمرنا نمتثل، وإذا نهينا ننتهي؛ لأن من المسلمين من نَحَّى شرع الله عز وجل وهو يقول: (لا إله إلا الله)! ومن المسلمين من يشرب الخمر، أو يتعامل بالربا وهو يقول: لا إله إلا الله! أو زوجته سافرة وبناته سافرات وهو يقول: (لا إله إلا الله)! وإذا ما سألته، يقول: هذا شيء وذلك شيء آخر! {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:85]. وهذا هو ما نجح فيه أعداؤنا، نجحوا في أن يجعلوا كتاب الله جل وعلا لا يتعدى قارئ يتغنى بالقرآن، ومن حوله بعض المسلمين يستمعون وهم لا يفهمون، فأصبح القرآن في أمة القرآن لا يتعدى أن يكون كتاباً محفوظاً في علبة، أو لا يتعدى أن يكون آية في برواز ذهبي أو فضي، أو لا يتعدى أن يكون بعض الآيات التي تقرأ على الحضور أو تلقى على الصدور. نجحوا في ذلك، وفرغوا لا إله إلا الله من محتواها ومضمونها، ويوم أن حرف الجسر الحقيقي الذي يضمن لهذه الأمة البقاء والسيادة والرياسة ضاعت الأمة وسقطت من القمة إلى الحضيض والخزي والذل والهوان. فالقبول: قبول لها بأوامرها ونواهيها وحدودها، والإسلام نظام شامل كامل متكامل، لا ينبغي أن يسجن الإسلام في بيوت الله جل وعلا، وإذا ما خرج المسلمون من المساجد تركوا الإسلام في بيوت الله عز وجل، أما أن يحكم التجارة فلا! أو الاقتصاد فلا! أو الاجتماع فلا! والتعليم والإعلام إلخ، هذا هو فعل اليهود الذين أخذوا ما شاءوا وتركوا ما أرادوا، والله جل وعلا يحذر ويقول: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:85]. هذا -بإيجاز- هو الشرط الثالث من شروط لا إله إلا الله. الإيمان كل لا يتجزأ، نقبل لا إله إلا الله بدءاً من الحاكمية، فلا حكم إلا لله، ولا شرع إلا لشرع الله، ولا سلطان إلا لله، وحتى إماطة الأذى عن الطريق كما في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (الإيمان بضع وستون شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)، فالقبول ينبغي أن يكون قبولاً كاملاً لكل ما جاءت به لا إله إلا الله من أوامر ونواه، ومن حدود ومقتضيات.

الشرط الرابع: الانقياد والإذعان

الشرط الرابع: الانقياد والإذعان الشرط الرابع من شروط (لا إله إلا الله) التي لا ينتفع قائلها إلا بها: الانقياد: والانقياد هو: الاستسلام والإذعان والتسليم لأمر الله عز وجل، وهذا الانقياد له شروط: أول شرط من شروط الانقياد: هو قبول شرع الله ورفض شرع ما سواه، من قوانين ديمقراطية علمانية شيوعية بعثية إلى آخره. الشرط الثاني من شروط الانقياد هو: لا دين إلا ما شرعه الله في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، فالحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله عز وجل، ولا يحق لأي سلطان، ولا لأي هيئة، ولا لأي جماعة، ولا لأي مجلس، ولا لأي سلطة: أن تشرع للناس من دون الله عز وجل، بل إن الحلال ما أحله الله والحرام ما حرم الله عز وجل. الشرط الثالث من شروط الانقياد هو: نفي النسك عن غير الله عز وجل، أي: نفي العبادة عن غير الله، وتوجيهها لله جل وعلا وحده، كما قال الله سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163]. فتوجه العبادة كاملة بركنيها من كمال الحب وكمال الذل إلى الله جل وعلا. فلا عبادة إلا لله، مع الكفر بجميع الطواغيت، والإيمان بالله وحده: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} [البقرة:256]؛ قدم الله الكفر بالطاغوت على الإيمان به؛ لأنه لابد من التخلية قبل التحلية: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:256]. هذا بإيجاز الشرط الرابع.

الشرط الخامس: الصدق

الشرط الخامس: الصدق الشرط الخامس من شروط (لا إله إلا الله) الذي لا ينتفع قائلها إلا بها هو: الصدق، والصدق شرط رئيسي من شروط لا إله إلا الله، فمن قالها بلسانه وكذبها بقلبه فهو منافق؛ لقول الله عز وجل: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:1] قالوا: نشهد أنه لا إله إلا الله وأنك رسول الله، ولكنهم قالوها بألسنتهم، وكذبوها بقلوبهم والعياذ بالله. فإن من الناس من يقول: لا إله إلا الله بلسانه -وما أكثر هؤلاء! - ويكذبها بقلبه، مع أنه يقولها بلسانه، بل ويجري اللسان فيها كالسهم، وترتلها الألسنة كدخان في الهواء، ثم تلوكها الألسنة، لكن لم يكن لقولها معنى، ولم يعد لها مقتضى، وإنما قالتها الألسنة، وكذبتها القلوب والعياذ بالله؛ فهذا هو عمل أهل النفاق! فالصدق شرط رئيسي؛ ولذلك ورد في الحديث الذي رواه الإمام البخاري من حديث معاذ رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صدقاً من قلبه حرمه الله على النار). وفي قصة ضمام بن ثعلبة الذي رواها الإمام مسلم، أنه جاء يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أركان الإسلام، وقال: (والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن ولا أنقص منهن! وانصرف، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أفلح إن صدق)، وفي رواية: (لئن صدق ليدخلن الجنة). فالصدق: أن تقولها بلسانك، وأن تصدقها بقلبك، هذا بإيجاز شرط الصدق.

الشرط السادس: الإخلاص

الشرط السادس: الإخلاص الشرط السادس من شروط لا إله إلا الله: الإخلاص، والصدق والإخلاص متلازمان، لا ينفع أحدهما بدون الآخر، فمن قالها بلسانه وكذبها بقلبه فهو منافق، ومن قالها بلسانه ولم يخلص فيها لله جل وعلا فهو مشرك. والشرك درجات: فهناك شرك أكبر، وهو الكفر بالله، وهو الذي لا يغفر: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، وهناك الشرك الأصغر وهو الرياء، وهناك الشرك الخفي. فالصدق والإخلاص متلازمان لا ينفع أحدهما بدون الآخر، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري أن أبا هريرة سأل النبي عليه الصلاة والسلام وقال: (يا رسول الله! من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه!). والإخلاص هو تصفية العمل بصالح النية من جميع شوائب الشرك، قال أحد السلف: (من شاهد في إخلاصه الإخلاص فقد احتاج إخلاصه إلى إخلاص). هذا بإيجاز شرط الإخلاص.

الشرط السابع: المحبة

الشرط السابع: المحبة الشرط السابع من شروط لا إله إلا الله هو: شرط المحبة. والمحبة ركن التوحيد، وبكمالها يكمل التوحيد، وبنقصها ينقص التوحيد، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: إن شجرة المحبة لو غرست في القلب، وسقيت بماء الإخلاص، وغذيت بمتابعة سيد الناس؛ أثمرت كل أنواع الثمار، وآتت أكلها كل حين بإذن ربها، فهي شجرة أصلها في قرار القلب، وفرعها يتصل بسدرة المنتهى. والمحبة ركن التوحيد، فبكمالها يكمل التوحيد، وبنقصها ينقص التوحيد، ولقد ادعى ناس المحبة، فابتلاهم الله بآية المحبة: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ} [آل عمران:31]. إذاً: للمحبة شروط وهي: أولاً: أن تقبل ما جاء به الله عز وجل وإن خالف هواك، وأن تبغض ما أبغضه الله وإن مال إليه هواك، فهذا أول شرط، قال الحبيب صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟! قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى). والشرط الثاني: هو محبة النبي صلى الله عليه وسلم، بأن تكون محبتك لرسول الله أكثر من محبتك لمالك وولدك ونفسك التي بين جنبيك. ولقد ادعى كثير من المسلمين المحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن المحبة واقع وسلوك واقتفاء لأثر الحبيب صلى الله عليه وسلم. هذه الشروط الثقال قيدت بها كلمة التوحيد والإخلاص، فمن أتى بكلمة التوحيد بهذه الشروط فهو من أهل الجنة، أما إن قالها بلسانه وكذبها بقلبه وأنكرها بأعماله وسلوكه، فبإجماع أهل العلم أنها لا تنفعه لا إله إلا الله، وإن نفعته في الدنيا فلن تنفعه في الآخرة؛ لأن المنافقين قالوها فانتفعوا بها في الدنيا، ولن ينتفعوا بها في الآخرة، فإنهم في الدنيا عصموا بها دماءهم وأموالهم، وتزوجوا من المسلمات، وحضروا مع النبي صلى الله عليه وسلم الجمعات والجماعات، بل وشاركوه في الغزوات، واقتسموا معه الغنائم، ولكنها لن تنفعهم يوم القيامة؛ لأن الله جل وعلا قال: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ} [النساء:145]. إذا تقاضى الناس في أرض المحشر، وعمهم الظلام، قام أهل التوحيد بأنوار لا إله إلا الله، نورهم يضيء لهم الطريق، فيتحرك الركب النوراني بقيادة محمد صلى الله عليه وسلم كما قال الله جل وعلا: {يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم:8]؛ يوم أن يتحرك هذا الركب النوراني بقيادة محمد عليه الصلاة والسلام، يقوم أهل النفاق يريدون أن يتحركوا مع هذا الركب، فيجدون أنفسهم في ظلمة، فينادون المؤمنين: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13]. فمن قالها بلسانه وكذبها بقلبه فهو منافق، ومن قالها بلسانه وأشرك فيها مع الله عز وجل فقد أشرك، فالصدق والإخلاص متلازمان. فهذه هي بعض الشروط الثقال التي قيدت بها كلمة التوحيد، ولا ينتفع قائلها إلا بهذه الشروط، نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم ممن انتفع بها في الدنيا والآخرة. هذا بإيجاز توحيد الألوهية.

قواعد في توحيد الأسماء والصفات

قواعد في توحيد الأسماء والصفات القسم الثالث من أقسام التوحيد: توحيد الأسماء والصفات: وهذا هو الباب الذي ضلت فيه أفهام، وزلت فيه أقدام، نسأل الله جل وعلا أن يرزقنا وإياكم الفهم والاستدلال. نجمل هذا التوحيد في عدة قواعد، وأسميناها قبل ذلك في لقاء مستقل: القواعد الواضحات لفهم الأسماء والصفات.

القاعدة الأولى

القاعدة الأولى القاعدة الأولى: أن أسماء الله الحسنى وصفاته العلا هي التي أثبتها الله لذاته، وأثبتها له عبده ورسوله وأعرف الناس به محمد صلى الله عليه وسلم، وآمن بها جميع المؤمنين، وهي أسماء وصفات كمال وجلال.

القاعدة الثانية

القاعدة الثانية القاعدة الثانية: أن أسماء الله جل وعلا لا تنحصر بالتسعة والتسعين اسماً التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث الذي رواه البخاري من حديث أبي هريرة: (إن لله تسعة وتسعين اسماً، مائة إلا واحداً، وهو وتر يحب الوتر، من أحصاها دخل الجنة). أقول: إن الأسماء لا تنحصر بهذا العدد، والدليل حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه أحمد في مسنده، وصححه الإمام ابن القيم في بدائع الفوائد، وصححه الإمام ابن حبان والحاكم من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أصاب أحد قط هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض فيَّ حكمك، عدل فيَّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك -إذاً: فهناك من أسماء الكمال وصفات الجلال لا يعلمها إلا الكبير المتعال- أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور بصري، وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي، إلا أذهب الله حزنه وهمه، وأبدله مكانه فرحاً، فقيل: يا رسول الله! أفلا نتعلمها؟ قل: بل ينبغي لكل من سمعها أن يتعلمها)، هذه هي القاعدة الثانية.

القاعدة الثالثة

القاعدة الثالثة القاعدة الثالثة من القواعد الواضحات لفهم مبحث الأسماء والصفات هي: أن أسماء الله جل وعلا حق على حقيقة الذات، مطابقة وتضمناً والتزاماً، فاسم الله جل وعلا (الرحمن) حق على حقيقة ذات الله عز وجل، فلو قلت: الرحمن، لكنت على يقين أنه هو الله: {قُلْ ادْعُوا اللَّهَ أَوْ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:110]، فاسم الرحمن حق على حقيقة الذات مطابقة، وفي نفس الوقت يشتمل على صفة الرحمة تضمناً، وفي نفس الوقت يشتمل على جميع صفات الكمال والجلال التزاماً. فأسماء الكمال حق على حقيقة الذات، مطابقة وتضمناً والتزاماً.

القاعدة الرابعة

القاعدة الرابعة القاعدة الرابعة: هناك أسماء لا ينبغي أن تطلق إلا مقترنة مع بعضها البعض، وإذا جاءت هذه الأسماء وأفردت أوهم ذلك نقصاً في حق الله تعالى الله عن ذلك! فمن هذه الأسماء: المعطي المانع، الخافض الرافع، الضار النافع، المعز المذل، القابض الباسط، فهذه الأسماء لا ينبغي أن يشتق منها اسم واحد ليطلق على الله جل وعلا، فلا ينبغي أن يقال: بأن من أسماء الله المذل، الخافض، الضار، المانع، هذا لا يصح، وإنما ينبغي أن تطلق هذه الأسماء مع بعضها البعض؛ لأن الشرع ما ذكرها إلا كذلك، فلو قلت: إن من أسماء الله: الضار، المضل، الخافض، المانع؛ لأوهم ذلك نقصاً في حق الله، تعالى الله عن ذلك! أيضاً: هناك أفعال ذكرها الله تعالى ووصف بها نفسه من باب: الجزاء من جنس العمل كقوله تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [الأنفال:30]، وكقوله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة:67]، وكقوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142]، فلا يجوز على الإطلاق أن نقول: إن من أسماء الله: الماكر المخادع، الناسي، وإن بعض الجهال قد اشتق من هذه الأفعال أسماء للكبير المتعال! ولكن هذه الأفعال التي وصف الله بها نفسه لا يجوز أن يشتق منها إطلاقاً بعض الأسماء لله عز وجل.

القاعدة الخامسة

القاعدة الخامسة القاعدة الخامسة ذكرها الإمام الشنقيطي رحمة الله عليه في مبحثه القيم مبحث الأسماء والصفات، قال: إن هذا المبحث الخطير يتركز على ثلاث أسس، من جاء بها ومات عليها مات على المعتقد الصحيح الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، هذه الأسس هي: الأساس الأول: تنزيه الله عز وجل وعدم تشبيهه بشيء من المخلوقات، وهذا الأصل مأخوذ من قوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، ومأخوذ من قوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:4]، ومأخوذ من قوله تعالى: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} [النحل:74]. الأساس الثاني: أن نؤمن بما وصف الله به نفسه، وبما وصفه به عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم. أو بعبارة أخرى قالها الشافعي: أن نؤمن بالله، وبما جاء عن الله، على مراد الله، وأن نؤمن برسول الله، وبما جاء عن رسول الله، على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم. الأساس الثالث: قطع الطمع عن إدراك كيفية ذات الله عز وجل، فلا يعلم ذات الله إلا الله: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه:110]، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11].

خلاصة مذهب أهل السنة في الأسماء والصفات

خلاصة مذهب أهل السنة في الأسماء والصفات القاعدة السادسة من قواعد الأسماء والصفات: هي تلخيص لمذهب أهل السنة والجماعة في هذا الباب من أبواب التوحيد:

الإيمان بأسماء الله وصفاته من غير تحريف ولا تعطيل ولا تشبيه

الإيمان بأسماء الله وصفاته من غير تحريف ولا تعطيل ولا تشبيه أولاً: نؤمن بآيات الأسماء والصفات، وبأحاديث الأسماء والصفات، كما جاءت، ونمرها صريحة من غير تحريف لألفاظها، ومن غير تحريف لمعانيها، ومن غير تعطيل، ومن غير تكييف، ومن غير تمثيل. وسأكتفي بمثال واحد، ألا وهو قول الله جل وعلا: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]. قال أهل التعطيل وأهل النفي للصفات، وعلى رأسهم جهم بن صفوان -عليه من الله ما يستحقه- قال: لو كان الأمر بيدي لحككتها من المصحف وجعلتها: (الرحمن على العرش استولى)! وذلك ليعطل صفة الاستواء. وهذا فعل أسلافه اليهود، قال الله جل وعلا لهم: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ} [البقرة:58] أي: قولوا: اللهم احطط عنا الخطايا والذنوب؛ {نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} [البقرة:58]، فأبوا إلا أن يحرفوا ويبدلوا، فبدلاً من أن يدخلوا سجداً اعترافاً بفضل الله جل وعلا، وشكراً لله عز وجل، دخلوا يزحفون على أستاههم، أي: على مقاعدهم، وهم يسخرون بقول الله: (حِطَّةٌ) ويقولون: حنطة، فزادوا النون كما زاد جهم اللام في (استوى) فقال: استولى! قال: لو كان الأمر بيدي لحككتها من المصحف وجعلتها: (الرحمن على العرش استولى)! ليلغي صفة الاستواء، ولكن أهل السنة والجماعة يقولون: استوى كما أخبر، وعلى الوجه الذي أراد، وبالمعنى الذي قال، استواء منزهاً عن الحلول والانتقال، فلا العرش يحمله، ولا الكرسي يسنده، بل العرش وحملته، والكرسي وعظمته، الكل محمول بقدرته، مقهور بجلال قبضته. فالاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، ونحن نؤمن بأسماء الكمال وصفات الجلال، ونمرها صريحة. يقول الله جل وعلا: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [الفجر:22]، فلا ينبغي أن نأول، وأن نتحذلق ونقول: المعنى: وجاءت قدرة ربك. الله يقول: (وَجَاءَ رَبُّكَ) هل أنت أعرف بالله من الله؟! هل أنت أعرف بالله من رسول الله؟! هو يقول: (وَجَاءَ رَبُّكَ) فنؤمن أنه يجيء مجيئاً يليق بكماله وجلاله، فكل ما دار ببالك فالله بخلاف ذلك: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11].

خطورة الإلحاد في الأسماء والصفات

خطورة الإلحاد في الأسماء والصفات لقد حذر الله تبارك وتعالى من القول بغير علم في مبحث الأسماء والصفات، فقال في سورة الأعراف: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف:180]. يقول صاحب معارج القبول: الإلحاد في الأسماء ينقسم إلى ثلاثة أقسام: إلحاد المشركين، وهو الذي قال عنه ابن عباس رضي الله عنهما: (وذروا الذين يلحدون في أسمائه) أي: يشركون في أسمائه، فسموا اللات من الإله، وسموا العزى من العزيز. القسم الثاني: إلحاد المشبهين، الذين شبهوا الله عز وجل في أسمائه وصفاته بالمخلوقين. القسم الثالث: إلحاد النفاة الذين نفوا أسماء الله جل وعلا وصفاته. وهؤلاء ينقسمون إلى قسمين: قسم أثبت لله جل وعلا الأسماء الحسنى، ونفى عن هذه الأسماء ما تضمنته من صفات. القسم الثاني: قسم أنكر الأسماء والصفات، فكفر بالله عز وجل. هذا بإيجاز معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله)؛ فإن قدر الله جل وعلا لنا اللقاء والبقاء، فسوف يكون حديثنا في اللقاء المقبل عن الشق الثاني لشهادة التوحيد. أسأل الله جل وعلا أن يتوفانا وإياكم على التوحيد، وأن يجنبنا الشرك، وأن يختم لي ولكم بخاتمة الإيمان، إنه ولي ذلك ومولاه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

صبر أيوب

صبر أيوب يبتلى الناس على قدر إيمانهم، فأكثرهم بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل. وإن من توفيق الله لأهل البلاء أن يوفقهم للصبر على البلاء وعدم التسخط، فإن التسخط على القضاء لا يرفع البلاء ولا يجبر المصيبة، وإنما يذهب الأجر ويجلب الوزر. أما الصبر على المصيبة فإنه يجبر الكسر ويجلب الأجر. وإن من أروع من سطر الصبر في التاريخ نبي الله أيوب عليه السلام، حتى إن الصبر لا يذكر -غالباً- إلا معه، فهو قدوة وأسوة في الصبر عليه السلام. وما زال الصابرون يسطرون أروع الأمثلة على مر الزمان، وحتى في زماننا الحاضر، وذلك لأن أمر المؤمن كله له خير، فإن أصابته ضراء صبر، وإن أصابته سراء شكر.

نبي الله أيوب عليه السلام نموذج للصبر

نبي الله أيوب عليه السلام نموذج للصبر بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدَّى الأمانة، وبلَّغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، اللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء! وأيها الإخوة الأحباب الأعزاء! وطبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم جل وعلا الذي جمعني وإياكم في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته، أن يجمعني وإياكم في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! (رسالة إلى أصحاب الأَسِرَّة البيضاء) هذا هو عنوان لقائنا مع حضراتكم في هذا اليوم الكريم المبارك، وسوف ينتظم حديثنا مع حضراتكم تحت هذا العنوان في العناصر التالية: أولاً: صبر أيوب. ثانياً: قصة مثيرة لامرأة صابرة بالمنصورة. ثالثاً: رسالة إلى أصحاب الأَسِرَّة البيضاء. وأخيراً: رسالة إلى أهل العافية من البلاء. فأعيروني القلوب والأسماع، والله أسأل أن يرزقنا وإياكم الإخلاص والصدق في القول والعمل، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أولاً: صبر أيوب. أحبتي في الله! إن الله جل وعلا قد جعل الصبر جواداً لا يكبو، وجنداً لا يهزم، وحصناً لا يهدم، وبين أن الصابرين في معيته، ويا لها من كرامة، فقال جل وعلا: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:46]، وبين فضل الصابرين وكرمهم فقال سبحانه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155 - 157] , بل وجعل الله الإمامة في الدين منوطة بالصبر مع اليقين، فقال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24]، بل وبين الله سبحانه كرامة الصابرين في الجنة بدخول الملائكة للسلام عليهم وتهنئتهم فقال جل وعلا: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:23 - 24]، وبين جل وعلا بالجملة: أن أجر الصبر لا حدود له ولا منتهى، فقال سبحانه: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10].

تعريف الصبر وأقسامه

تعريف الصبر وأقسامه الصبر لغة: المنع والحبس. والصبر شرعاً: حبس النفس عن الجزع، وحبس اللسان عن التشكي، وحبس الجوارح عن المعاصي. وهو ينقسم إلى ثلاثة أقسام: صبر على المأمور، أي: صبر على الطاعة، وصبر عن المحظور، أي: صبر عن المعصية، وصبر على المقدور، أي: على ما قدره الله عليك من المصائب والمحن والبلايا. والصبر الجميل: هو الذي يبتغي به العبد وجه الله الجليل, لا تحرجاً من أجل ألا يقول الناس: جزع، ولا أملاً في أن يقول الناس: صَبَر، وإنما يصبر ويبتغي بصبره وجه الله جل وعلا، يصبر واثقاً بالله، مطمئناً بقضاء الله وقدر الله، مستعلياً على الألم، مترفعاً عن الشكوى.

أنواع الشكوى

أنواع الشكوى والتحقيق أن الشكوى نوعان: شكوى إلى الله، وشكوى من الله, أعاذنا الله وإياكم من الأخيرة. فالشكوى إلى الله لا تنافي الصبر، فلقد مدح الله نبيه يعقوب، وأثبت له الصبر في قرآنه فقال حكاية عنه: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18] ومع ذلك فقد رفع يعقوب شكواه إلى مولاه، فقال: {إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف:86] وأثنى الله على عبده أيوب فقال جل وعلا: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:44] ومع ذلك فقد رفع نبي الله أيوب شكواه إلى الله كما قال الله جل في علاه: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83] فالشكوى إلى الله لا تنافي الصبر. أما الشكوى من الله -أعاذنا الله وإياكم منها- فهي شكوى للمخلوق من الخالق. فإذا شكوت إلى ابن آدم إنما تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم! وإذا ذكر الصبر ذكر نبي الله أيوب، على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فلقد ابتلى الله أيوب بماله وولده وبدنه: فقد المال كله! مات جميع أبنائه جملة واحدة! ابتلاه الله في جسده بمرض أقعده في الأرض وألزمه الفراش؛ فصبر، وامتلأ قلبه بالحب لله والرضا عن الله، ولم يسلم من بدنه البتة إلا قلبه ولسانه! أما قلبه: فقد امتلأ بالحب لله والرضا عن الله، وأما لسانه: فلم يفتر عن ذكر الله جل وعلا، وهذه والله هي الحياة، ففي الصحيحين من حديث أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه كمثل الحي والميت)، فالذاكر لله حي وإن ماتت فيه الأعضاء، والقاعد عن ذكر الله ميت وإن تحرك بين الأحياء، لم يبق إلا لسانه وقلبه، أما القلب: فقد امتلأ بالحب لله والرضا عن الله، وأما اللسان: فلم يفتر عن ذكر مولاه، وفزعت زوجته الصابرة الوفية حينما قالت له: ادع الله أن يفرج كربك، فقال نبي الله أيوب: لقد عشت سبعين سنة وأنا صحيح، ولله عليَّ أن أصبر له سبعين سنة وأنا سقيم، ففزعت زوجته!

دعا أيوب ربه فاستجاب الله دعاءه

دعا أيوب ربه فاستجاب الله دعاءه واختلفت الأقوال في المدة التي مكثها نبي الله في البلاء، وأصح ما ورد من هذه الأقوال ما رواه الإمام الطبري، وابن حبان وابن أبي حاتم والبزار والحاكم في مستدركه وصححه على شرط الشيخين، وقال الهيثمي في المجمع: ورجال البزار رجال الصحيح. من حديث أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (إن نبي الله أيوب مكث في بلائه ثماني عشرة سنة)، فرفضه القريب والبعيد، إلا رجلين من خواص أصحابه كانا يغدوان عليه ويروحان، فقال أحدهما للآخر في يوم من الأيام: والله إن أيوب قد أذنب ذنباً ما أذنبه أحد من العالمين، فقال له صاحبه: وما ذاك؟ قال: مرض ثماني عشرة سنة ولم يرحمه الله! إلى آخر الحديث، قال أهل التفسير: فلما سمع أيوب بذلك خشي الفتنة، فلجأ إلى الله تعالى بهذا الدعاء الحنون، الذي سجله الله في قرآنه فقال جل وعلا: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83] فأجاب الله دعاءه: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء:84] ما الذي جرى؟ ما الذي حدث؟ هل انتقل أيوب إلى إحدى المستشفيات الخاصة في الخارج أو في الداخل؟ كلا، إذاً: ما الذي حدث؟ أمر الله جل وعلا نبيه أيوب أن يضرب الأرض من تحت قدميه، فضرب أيوب المريض المسكين الأرض ضربة هينة بقدمه, ففجر الله له عيناً من الماء، وإذ بأيوب يسمع النداء من الملك: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص:42] أمر الله أيوب أن يشرب فشرب أيوب من الماء فشفاه الله من جميع أمراضه الباطنة، وأمره أن يغتسل فاغتسل، فشفاه الله من جميع أمراضه الظاهرة، وصدق الله إذ يقول: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام:17]. أيها المبتلى! كن عن همومك معرضاً ودع الأمور إلى القضا وانعم بطول سلامة تسليك عما قد مضى فلربما اتسع المضيق وربما ضاق الفضا الله يفعل ما يشاء فلا تكن متعرضا وقال آخر: قل للطبيب تخطفته يد الردى يا شافي الأمراض من أرداكا قل للمريض نجا وعوفي بعدما عجزت فنون الطب من عافاكا قل للصحيح يموت لا من علة من بالمنايا يا صحيح دهاكا بل سائل الأعمى خطا وسط الزحام بلا اصطدام من يقود خطاكا وسل البصير وكان يحذر حفرة فهوى بها من ذا الذي أهواكا وسل الجنين يعيش معزولا بلا راع ومرعى من الذي يرعاكا وإذ ترى الثعبان ينفث سمه فاسأله من ذا بالسموم حشاكا واسأله كيف تعيش يا ثعبان أو تحيا وهذا السم يملأ فاكا واسأل بطون النحل كيف تقاطرت شهداً وقل للشهد من حلاكا بل سائل اللبن المصفى كان بين دم وفرث من الذي صفاكا {قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عمران:154] , {أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:60] , {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص:42] فاغتسل نبي الله وشرب، فشفاه الله عز وجل وعافاه، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة (أمطر الله عز وجل عليه بعدما عافاه جراداً من ذهب، فقام نبي الله أيوب ليأخذ الجراد الذهبي من ربه العلي ليضعه في ثوبه، فنادى عليه ربه جل وعلا وقال: يا أيوب أما تشبع؟! فقال أيوب: ومن يشبع من رحمتك يا رب!)، وهكذا نجى الله أيوب ورفع الله عنه البلاء، بعد هذه السنوات الطوال من الصبر الصادق. وأود قبل أن أنهي الحديث عن هذا العنصر أن أحذر من لا يجيدون السباحة في البحور الهائجة، ومن لا يجيدون النزال عند اقتحام الخطوب والأهوال، من أمثال هؤلاء الذين انساقوا وراء إسرائيليات خطيرة شحنت بها قصة أيوب، في كتب التفسير وكتب السير، فانساقوا ليرددوا هذا الكذب العريض، وأن الله قد ابتلى نبيه أيوب بالدود! وكانت كلما سقطت دودة من جسده انحنى عليها وردها إلى جسده مرة أخرى! وانبعثت منه رائحة كريهة نتنة! اشمأز الناس منها وانصرف الناس عنه! هذا كذب عريض، وكذب حقير خطير، يمتهن العقول السليمة والطباع الكريمة، التي تعلم يقيناً أن الله جل وعلا قد نزه أنبياءه ورسله عن مثل هذا. فاعلم أيها المسلم! أن الله جل وعلا ما ابتلى نبيه أيوب بمثل هذه القاذورات، وإنما ابتلاه بمرض ألزمه الفراش وأقعده في الأرض، وفي هذا كفاية، لكن أين الصبر وأين الصابرون؟! أيها الحبيب الكريم! لا أريد أن أطيل في هذا العنصر، قال الله جل وعلا: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الأَلْبَابِ} [ص:42 - 43].

صبر امرأة في زماننا المعاصر

صبر امرأة في زماننا المعاصر ثانياً: قصة مثيرة لامرأة صابرة بالمنصورة: وهي التي دفعتني لاختيار هذا الموضوع في هذه الجمعة، ولولا أنني وقفت على هذه القصة بنفسي, ورأيت هذه المرأة المسلمة الصابرة بعيني، لظننت أن قصتها ضرب من الخيال! امرأة من أمة الحبيب المصطفى تجسد لنا في قرننا العشرين صبر نبي الله أيوب! الحمد لله أن رأينا من أمة الحبيب من يحاكي صبر الأنبياء. هذه المرأة تبدأ قصتها بميلادها في قرية بمركز المنصورة، وفي الثامنة عشرة تتزوج، وبعد سنتين تنجب طفلها الوحيد، الذي توفي في الرابعة من عمره، فتصبر وتحتسب، وفي عام سبعة وستين يهاجمها المرض، فتحس بآلام حادة في بطنها، فتنقل على الفور إلى المستشفى الجامعي بالمنصورة، ويشخص الأطباء المتخصصون الحالة بأنها امتداد في الأمعاء الدقيقة، ويقرر الأطباء للمريضة المسلمة الصابرة جراحة عاجلة؛ لاستئصال جزء من الأمعاء، وبعد الجراحة لم تشعر المرأة بتحسن، وبعد ستة أشهر قرر الأطباء جراحة ثانية؛ لاستئصال جزء آخر من الأمعاء! وبعد ستة أشهر قرر الأطباء جراحة ثالثة؛ لاستئصال جزء جديد من الأمعاء! وفي هذه المرة اكتشف الأطباء أن المرأة مصابة بمرض خطير مشهور ألا وهو مرض الدرن المعروف عالمياً، وهنا قرر الأطباء عدم التدخل الجراحي، واكتفى الأطباء بالعقاقير والحقن وتركوا أمرها لله جل وعلا، صبرت المرأة واستسلمت لقضاء الله جل وعلا، ونامت على سريرها الأبيض في آخر غرفة في القسم الرابع عشر باطني بمستشفى المنصورة، مستسلمة لقضاء الله وقدر الله جل وعلا، لا يفتر لسانها عن ذكر الله سبحانه وتعالى، ثم هاجمها المرض هجوماً عنيفاً بعد ذلك، فانتقل هذا المرض الخطير إلى الأمعاء الدقيقة كلها، ثم انتقل المرض بعد ذلك إلى كليتها اليمنى، ففشلت الكلية اليمنى تماماً، ثم انتقل المرض بعد ذلك إلى الرحم، فأصيب الرحم بهذا المرض، ثم انتقل المرض بعد ذلك إلى العظام، فنخر المرض العظام نخراً، وأصبحت العظام هشة متآكلة، ثم فقدت عينها اليسرى، فلم تعد ترى بعينها اليسرى تماماً، انظروا إلى هذه المراحل من مراحل الابتلاء! ومع كل مرحلة، إذا ما علمت من الطبيب المسلم ما ابتلاها الله به، تبتسم وتنظر إلى السماء، وتقول: الحمد لله! الحمد لله! جبل من جبال الصبر! منذ عام سبعة وستين لم تفارق سريرها في المستشفى الجامعي! وطلقها زوجها بعد ست سنوات من المرض، ومات ولدها الوحيد واحتسبته عند الله جل وعلا! انظروا إلى هذه المفاجأة العجيبة، انظروا إلى هذه المفاجأة الغريبة، ففي عام خمسة وثمانين وقبل موسم الحج سمعت شريطاً لأحد المحاضرين يتحدث منه عن الحج، فقررت قراراً عجيباً! قررت أن تحج بيت الله الحرام! ما هذا؟! وقالت للطبيب المختص: أريد أن أحج بيت الله! فابتسم وقال: كيف ذلك؟! قالت: لقد عزمت وتوكلت على الله، فهددها الأطباء بأنها لو فارقت سريرها ستعرض حياتها للخطر في التو واللحظة، فقالت بكل ثقة ويقين: أريد أن ألقى الله وأنا على طاعة الله، فقررت أن تلقى الله على طاعة، فباعت ما تملك من الأرض، وقررت حج بيت الله الحرام، واقترب منها طبيب تقي نقي، فحثها على ذلك، وسأل الله عز وجل لها الثبات، ولما تقرر السفر, وجيء بالسيارة التي ستحملها إلى الطائرة في القاهرة، وتقدم الأطباء لنزع الخراطيم من هذا الجسد النحيل الضئيل، فهي امرأة ما تعيش إلا بهذه الخراطيم، استغفر الله! بل لا تعيش إلا بأمر الملك رب العالمين. فالخرطوم الأول: وظيفته توصيل المحاليل الغذائية؛ لأن المرأة لا تأكل منذ عام سبعة وستين، بل تعيش عبر هذه المحاليل الغذائية وعبر هذه الخراطيم! والخرطوم الثاني: للبول -أعزكم الله- عن طريق القسطرة. والخرطوم الثالث: لأكياس الدماء التي يوصلونها إلى هذا البدن الضئيل. والخرطوم الرابع: لإخراج الفضلات من الأمعاء الدقيقة عن طريق الأنف. ووقف الأطباء ينتظرون لها الموت مع أول دقيقة ينزع فيها أول خرطوم، فنزعت الخراطيم، والمرأة تتحدث وتبتسم، وهي سعيدة أنها ذاهبة لحج بيت الله الحرام! وحملت في السيارة، ثم إلى الطيارة، وحملت في جميع مناسك الحج، وأدت فريضة الله جل وعلا بإعجاز الملك الذي يقول للشيء كن فيكون، وهي تحكي هذه القصة وتتعجب وتقول: ما أكلت شيئاً إلا عن طريق الفيتامينات، وعن طريق الأدوية، بل عن طريق فضل رب الأرض والسماوات جل وعلا. وهي تحكي صورة الرحلة وتشكر الله الذي أعانها في هذه الحالة أن رأت بيته، وزارت ربها في بيته جل وعلا، وانطلقت إلى المدينة لزيارة المسجد النبوي، ثم للسلام على الحبيب النبي -صلى الله عليه وسلم- وعادت مرة أخرى إلى سريرها، ونامت في فراشها على سريرها الأبيض، وطلبتني لزيارتها لأول مرة، فذهبت لأزورها مع بعض الأحبة، ووالله يا إخوة! ذهبت لأذكرها بالله فذكرتني هي بالله جل وعلا، وخرجت من عندها وقد احتقرت نفسي واحتقرت شأني، واحتقرت عملي لله جل وعلا! امرأة عجيبة لا يفتر لسانها عن ذكر الله، ولا يفتر لسانها عن الحمد والثناء على الله جل وعلا، وقبل الموت بأربعة أيام -وقد ماتت يوم الأربعاء الماضي، العاشر من شهر إبريل لعام ستة وتسعين- وطلبتني لزيارتها مرة أخيرة، فذهبت إليها مع بعض أحبابنا، ودخلت عليها وجلست إلى جوارها، وهي تبتسم في وجهي، وتقول: أين أنت؟! فأعتذر لها عن تأخري عنها، فقلت لها: كيف حالك؟ فقالت: الحمد لله، تحمد الله على هذه الحالة. أما غرفتها فقد قسمت الغرفة بستارة إلى قسمين: فجعلت نصفها مسجداً لله جل وعلا، وجعلت النصف الآخر لسريرها، ووضعت إلى جنبها صندوقاً لجمع التبرعات، فمن أراد أن يتبرع لفقراء المرضى ممن يعجزون عن شراء الدواء فعل ذلك، ووضعت إلى جوارها مكتبة صغيرة للأشرطة مع التسجيل، فإذا ما دخل عليها طبيب أو ممرضة، أعارته شريطاً لمحاضر من المحاضرين! تدعو إلى الله وهي في هذه الحالة! إنها الحياة، هذه والله هي الحياة، فكم من أناس يتحدون الله بعافيته، كم من أناس يتحدون الله بنعمه، وهي التي سلب منها كل شيء, لا تغفل عن الدعوة إلى الله جل وعلا! تدعو إلى الله بالأشرطة، تدعو إلى الله بالصدقة، تدعو إلى الله بالإصلاح بين الأطباء وبين الطبيبات، تدعو إلى الله بالإصلاح بين المرضى، استثمرت حياتها كلها في طاعة الله جل وعلا، فلسانها ذاكر، وقلبها شاكر، وجسدها على البلاء صابر! ذهبت إليها قبل الموت بأربعة أيام، وجلست إلى جوارها، فقلت: كيف حالك؟ قالت: الحمد لله، فأثنيت عليها خيراً، فردت عليَّ وقالت: والله يا شيخ! أنا خائفة. قلت: لماذا؟ قالت: أخشى أن لا يتقبل الله مني صبري طيلة هذه السنوات! ولكن ادع الله لي أن يرزقني حسن الخاتمة. قلت: أبشري! لقد أجرى الله الكريم عادته بكرمه: أن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه، وصدق الله إذ يقول: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:30 - 32] ما أرخصها من حياة إن عشت لشهواتك ونزواتك! ما أرخصها من حياة يا من لا تعيش إلا من أجل متاع الدنيا الحقير! ما أرخصها من حياة يا من تعيش من أجل كرسيك الزائل ومنصبك الفارغ! وما أغلاها من حياة يا من بذلت وقتك كله لطاعة الله! ما أغلاها من حياة يا من استخدمت كل نعمة من نعم الله في مرضاته جل وعلا.

رسالة إلى أصحاب الأسرة البيضاء

رسالة إلى أصحاب الأَسِرّة البيضاء وأوجه رسالة إلى أصحاب الأَسِرّة البيضاء، وهذا هو عنصرنا الثالث من عناصر هذا اللقاء. أيها المسلمون المعتلون الصابرون! اصبروا وأبشروا، إن صبركم على البلاء لا يعلم جزاءه إلا رب الأرض والسماء، قال جل وعلا: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10] وقد وعدك الله أيها المبتلى الصابر بأن يصلي عليك، وبأن يرحمك، وبأن يهديك، فقال سبحانه: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:155 - 156] انظروا إلى الجزاء: {أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:157] فضل الله جل وعلا عليك عظيم أيها المبتلى الصابر! يا من حبسك المرض على السرير الأبيض! يا من حبسك البلاء في أي موطن من أرض الله جل وعلا! أياً كان هذا البلاء، اصبروا وأبشروا، واعلموا أن الحياة الحقيقية هي حياة القلوب، واعلموا أن الحياة الحقيقية هي: أن لا يغفل لسانكم عن ذكر علام الغيوب، وإن حبست فيكم الأعضاء والأبدان والقدمان واليدان. وأبشروا بموعود الله وبموعود رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ففي الحديث الذي رواه مسلم من حديث أبي يحيى صهيب الرومي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له). وأبشروا أيها المبتلون الصابرون! بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري وغيره قال: (ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب، ولا هم ولا حزن، ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه)، وفي الحديث الآخر: (ولا يزال البلاء بالعبد حتى يمشي على الأرض وما له خطيئة, وقد ابتلي المصطفى بالحمى، وانتفض جسد الحبيب من شدة حرارتها، ودخل عليه ابن مسعود -والحديث في الصحيحين- وقال ابن مسعود: (إني أراك توعك وعكاً شديداً يا رسول الله! فقال المصطفى: أجل يا عبد الله إني لأوعك كما يوعك الرجلان منكم) , فقال ابن مسعود: ذلك بأن لك لأجرين يا رسول الله؟ قال: (أجل، فما من مسلم يصيبه أذى، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من سيئاته، كما تحط الشجرة ورقها) , المرض يحط عنك الخطايا أيها المسلم المبتلى الصابر! أيها المبتلى الصابر أبشر بحديث رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- الذي رواه أحمد والترمذي وهو حديث حسن صحيح، من حديث مصعب بن سعد بن مالك عن أبيه قال: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلباً زيد في البلاء، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه) , فالبلاء رحمة، إن صبرت عليه يكفر الله به عنك الخطايا أيها المبتلى المسلم الصابر! وأذكركم يا أصحاب الأسِرَّة البيضاء بهذا الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يتمنين أحدكم الموت لضر وقع به، فإن كان لا بد فاعلاً فليقل: اللهم أحييني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي). وأختم لكم هذه الرسالة أيها المسلمون الصابرون! بهذه الكلمات الدقيقة لـ شداد بن أوس -رضي الله عنه- إذ يقول: (أيها الناس لا تتهموا الله في قضائه، فإنه لا يظلم أحداً، فإذا أنزل الله بك خيراً تحبه فاحمد الله على العافية، وإذا أنزل بك شيئاً تكرهه فاصبر واحتسب، فإن الله عنده حسن الثواب). أسأل الله جل وعلا أن يغفر لهذه المرأة المسلمة، وأن يتقبلها عنده في الشهداء، إذ إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر: أن من مات من المسلمين ببطنه فهو شهيد عند الله جل وعلا، والحديث في الصحيحين من حديث أبي هريرة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما تعدون الشهداء فيكم؟) , قالوا: من قتل في سبيل الله فهو شهيد، فقال المصطفى: (والله إن شهداء أمتي إذاً لقليل! من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات بالطاعون فهو شهيد، ومن مات في بطن فهو شهيد) , وفي الحديث الصحيح: (ومن مات في غرق فهو شهيد) , وفي حديث صحيح: (ومن ماتت بجُمع -أي: ماتت المرأة وهي تضع ولدها، أو ماتت وهو في بطنها- فهي شهيدة) , هذا فضل الله جل وعلا، فأسأل الله أن يتقبلها عنده في الشهداء، وأسأل الله لجميع إخواننا وأخواتنا من أصحاب الأسِرَّة البيضاء، ممن ابتلاهم الله جلا وعلا بالأمراض والبلاء، أن يجعل شفاءهم سهلاً ميسوراً، اللهم اشف مرضانا ومرضى المسلمين، اللهم اجعل شفاءهم سهلاً ميسوراً يا أرحم الراحمين! اللهم أبدلهم لحماً خيراً من لحمهم، ودماً خيراً من دمهم، وأنزل عليهم رحمة عاجلةً من عندك يا أرحم الراحمين! أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

رسالة إلى أهل العافية من البلاء

رسالة إلى أهل العافية من البلاء الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وكل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فأختم هذا اللقاء برسالة أوجهها إلى أهل العافية من البلاء, أذكر نفسي وإياكم جميعاً، وأقول: اسجدوا لله شكراً على العافية بعد الإسلام، فإن الصحة تاج يتلألأ على رءوس الأصحاء لا يراه ولا يعرف قدره إلا المرضى! يا مَن مَنَّ الله عليك بالعافية بعد الإسلام! اسجد لربك شكراً على هذه النعمة، واعلم بأن نعم الله عليك بالعافية بعد الإيمان لا تعد ولا تحصى {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:34] يا من تستغل العافية -وهي نعمة من نعم الله- في معصيته أما تستحي! أما تستحي بعد سماع هذا الموضوع! يا من استخدمت بصرك لتتبع العورات والحرام أما تستحي! تذكر من فقد بصره! يا من استخدمت سمعك في سماع الحرام أما تستحي! تذكر من فقد سمعه! يا من استخدمت يدك للبطش والظلم أما تستحي! تذكر من فقد يده! يا من استخدمت قدمك للسعي في معصية الله أما تستحي! تذكر من ألزمه المرض الفراش! يا من استخدمت منصبك وكرسيك الذي جلست عليه لظلم العباد، وللتسفيه والتحقير لخلق الله أما تستحي! تذكر ضعفك وفقرك وعجزك، فأنت مسكين وضعيف، ولولا أن الله -عز وجل- قد أطلق البدن للزمت الأرض وللزمت الفراش، فإياك أن يغرك مركزك، إياك أن يغرك منصبك، إياك أن يغرك جاهك ووجاهتك، فأنت ضعيف أيها المسكين! تحمل البصاق في فمك، وتحمل المخاط في أنفك، وتحمل العرق تحت إبطيك، وتحمل البول في مثانتك، وتحمل النجاسة في بطنك، وتمسح عن نفسك النجاسة بيدك كل يوم مرة أو مرتين! {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار:6] تذكر ضعفك يا من غرك جاهك! اعلم بأن الله عز وجل قادر على أن يسلبه منك، واعلم بأن كرسيك إلى زوال، وأن منصبك إلى فناء، إذ لو دام الكرسي الذي جلست عليه لأحد ما وصل إليك! فاعلم بأن الدنيا كلها إلى زوال، وبأن المناصب كلها إلى فناء. أين الظالمون وأين التابعون لهم في الغي بل أين فرعون وهامان أين من دوَّخوا الدنيا بسطوتهم وذكرهم في الورى ظلم وطغيان هل أبقى الموت ذا عز لعزته أو هل نجى منه في السلطان إنسان لا والذي خلق الأكوان من عدم الكل يفنى فلا إنس ولا جان وصدق الله إذ يقول: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27] تذكروا هذا يا أهل العافية. وهناك من الناس من يظن أن الرزق هو المال، وينسى نعمة العافية، ونعمة الصحة، ونعمة الإسلام قبل ذلك. النفس تجزع أن تكون فقيرة والفقر خير من غنى يطغيها وغنى النفوس هو الكفاف فإن أبت فجميع ما في الأرض لا يكفيها هي القناعة فالزمها تكن ملكا لو لم تكن لك إلا راحة البدن وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير الطيب والكفن وقيل: دع الحرص على الدنيا وفي العيش فلا تطمع ولا تجمع من الحرام فلا تدري لمن تجمع فإن الرزق مقسوم وسوء الظن لا ينفع فقير كل من يطمع غني كل من يقنع واعلم بأن الشكر يدور على ثلاثة أركان: الاعتراف بالنعمة باطناً، والتحدث بالنعمة ظاهراً، واستغلال النعمة في طاعة الله جل وعلا، فالحمد باللسان والجنان، أما الشكر فباللسان والجنان والجوارح والأركان، قال الرحيم الرحمان: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً} [سبأ:13] وفي الصحيحين من حديث عائشة: قام النبي صلى الله عليه وسلم حتى تفطرت قدماه، فقيل له: ألم يغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فقال المصطفى: (أفلا أكون عبداً شكوراً) , فالشكر يدور على اللسان، وعلى الجنان، يعني: على القلب، وعلى الجوارح والأركان، فإن منَّ الله عليك بالعافية فاشكر الله عليها، والشكر لا يكون إلا باستغلالها في كل ما يرضيه، إن منَّ الله عليك بالأولاد فاشكر الله على هذه النعمة، ولا يكون الشكر إلا بتربية الأولاد على كتاب الله، وسنة الحبيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن من الله عليك بالزوجة فاشكر الله على هذه النعمة، واتق الله فيها وربِّها على كتاب الله، وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن منَّ الله عليك بمنصب أو كرسي فاشكر الله على هذه النعمة، وسخر الكرسي والمنصب في تفريج هموم الناس وكربات الناس، إن من الله عليك بالأموال فاشكر الله على هذه النعمة، واعلم بأن الشكر لا يكون إلا بالبذل والعطاء والإنفاق، وهكذا إن منَّ الله عليك بالعلم فاعلم بأن الشكر لا يكون إلا بالتعليم والتحرك هنا وهناك للدعوة إلى الله جل وعلا. الشكر يدور على اللسان والجنان والأركان، فاشكروا الله يا أهل العافية! واسألوا الله أن يثبتها وأن يديمها عليكم، وأن يعيننا وإياكم على شكرها، وأن يعيننا وإياكم على استغلالها فيما يرضيه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

الدعاء للمرضى وزيارتهم واجب على أهل العافية

الدعاء للمرضى وزيارتهم واجب على أهل العافية ومن رسالتي لأهل العافية: لا تبخلوا على إخوانكم المرضى بالزيارة والدعاء، فحق المرضى علينا: الزيارة، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس) , واسمع إلى هذا الحديث الجميل الذي رواه مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله تعالى يوم القيامة: عبدي! مرضت فلم تعدني! فيقول العبد: يا رب! كيف أعودك وأنت رب العالمين؟! فيقول الله جل وعلا: لقد مرض عبدي فلان، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟! يا ابن آدم! استطعمتك فلم تطعمني! فيقول العبد: يا رب! كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟! فيقول الله عز وجل: لقد استطعمك عبدي فلان، أما علمت بأنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟! يا ابن آدم! استسقيتك فلم تسقني؟! فيقول: يا رب! كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟! فيقول الله جل وعلا: لقد استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما علمت أنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي؟!) , فمن حق المرضى علينا -نحن أهل العافية- أن نزورهم، وأن ندخل عليهم السعادة والبسمة والسرور، وأن ننفس لهم في الأجل، وأن نكثر لهم من الدعاء. وأخيراً: أيها الأحبة الكرام! جددوا التوبة والأوبة، وتذكروا أن الحياة الدنيا دار ممر، وأن الآخرة هي دار المقر، فخذوا من ممركم لمقركم، ولا تفضحوا أسفاركم عند من يعلم أسراركم، {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31] أقبلوا إلى الله، وعودوا إلى الله. أيها الشباب! يا من استخدمتم نعمة العافية في معصية الله! أيها الرجال! أيها الشيبان! أيتها المسلمات! فلنعد جميعاً إلى الله سبحانه، ونحن على ثقة في رحمة الله، ونحن على يقين بكرم الله وعفو الله، قال جل في علاه: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]. اسأل الله أن يقينا وإياكم حرَّ جهنم، وأن يجعل هذه الدقائق في موازين حسناتنا جميعاً يوم نلقاه، {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89]. اللهم اشف مرضانا ومرضى المسلمين، اللهم اشف مرضانا ومرضى المسلمين، اللهم اجعل شفاءهم سهلاً ميسوراً يا رب العالمين، اللهم أنزل عليهم رحمة من عندك، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، وأعل بفضلك كلمة الحق والدين، اللهم لا تدع لأحد منا ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا طائعاً إلا ثبته، ولا حاجة هي لك رضاً ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ويسرتها يا أرحم الراحمين! اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا شقياً ولا محروماً، اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى، اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى، اللهم استرنا ولا تفضحنا، وأكرمنا ولا تهنَّا، وكن لنا ولا تكن علينا، اللهم عليك باليهود وأتباعهم يا رب العالمين! اللهم جمِّد الدماء في عروق اليهود يا قوي يا عزيز! اللهم كما أفزع اليهود إخواننا في لبنان فاملأ قلوبهم وبيوتهم رعباً وفزعاً يا قوي يا عزيز! اللهم إنا نشكوا إليك خيانة الخائنين، وإجرام المجرمين، وتكاسل الزعماء والقادة، اللهم عليك باليهود وأتباع اليهود، اللهم عليك باليهود وأتباع اليهود، اللهم شتت شملهم، اللهم مزِّق صفهم، اللهم املأ بيوتهم وقلوبهم رعباً وفزعاً يا رب العالمين! اللهم ثبت إخواننا اللبنانيين، وإخواننا المسلمين المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الاستقامة على الطاعة بعد رمضان

الاستقامة على الطاعة بعد رمضان الاستقامة على الطاعة نعمة عظيمة جزاؤها الجنة، ولما كان الإنسان لا يدري متى يأتيه الموت، وجب عليه أن يستمر على الطاعة طوال عمره، حتى يكون مستعداً للقاء الله في أي لحظة، وكثير من الناس يستقيم على الطاعة في رمضان، ثم يترك بعد رمضان، وكأنه يعبد رمضان ولا يعبد الله، أو كأن رب رمضان غير رب الشهور الأخرى، وهذه غفلة عظيمة يجب على كل مسلم أن يتداركها ويصلح حاله مع الله.

توديع لرمضان

توديع لرمضان الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد لك ملك السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق، ووعدك الحق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمنا، وبك آمنا، وإليك خاصمنا، وعليك توكلنا، وبك خاصمنا، وإليك حاكمنا، فاغفر اللهم لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله لنا إلا أنت! وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أول بلا ابتداء، وآخر بلا انتهاء، {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد:3] هو الأول الذي لا شيء قبله، وهو الآخر الذي لا شيء بعده، وهو الظاهر فلا شيء فوقه، وهو الباطن فلا شيء دونه، وهو على كل شيء قدير، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير. إلهي وسيدي ومولاي!! لبست ثوب الرجا والناس قد رقدوا وبت أشكو إلى مولاي ما أجد فقلت يا أملي في كل نائبة ومن عليه لكشف الضر أعتمد أشكو إليك أموراً أنت تعلمها ما لي على حملها صبر ولا جلد وقد مددت يدي بالذل مبتهلاً إليك يا خير من مدت إليه يد فلا تردنها يا رب خائبة فبحر جودك يروي كل من يرد وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين؛ أما بعد: فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة، وزكى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور، وأسأل الله جل وعلا أن يتقبل منا وإياكم صيامنا وقيامنا وصالح أعمالنا، وأن يجعلنا وإياكم من المقبولين ومن عتقائه من النار في رمضان، إنه ولي ذلك ومولاه، وهو على كل شيء قدير. أحبتي في الله: وهكذا قد انتهى رمضان، ومضى شهر الصيام والقيام والقرآن، وودعنا شهر البر والجود والإحسان، وقد ربح فيه من ربح، وخسر فيه من خسر، وقبل فيه من قبل، وطرد فيه من طرد، فيا ليت شعري من المقبول منا في رمضان فنهنيه، ويا ليت شعري من المطرود منا في رمضان فنعزيه! فيا عين جودي بالدموع على فراق ليال ذات أنوار على ليال لشهر الصوم ما جعلت إلا لتمحيص آثام وأوزار ما كان أحسننا والجمع مشتمل منا المصلي ومنا القانت القاري فابكوا ليالٍ قد مضت واغتنموا ما قد بقى من فضل أعمار

الحث على الاستقامة بعد رمضان

الحث على الاستقامة بعد رمضان أيها الأحبة في الله: لقد رأينا المساجد معطرة في رمضان بأنفاس الصائمين، وشهدنا المساجد عامرة في رمضان بصفوف المصلين، وسمعنا للمساجد في رمضان دوياً بكتاب رب العالمين، وأسعد قلوبنا في رمضان تسابق أهل البر والجود من المحسنين، ولكن مما يؤلم القلب ويحزن النفس ويدمي العين، أن نرى المساجد بعد رمضان مباشرة خالية خاوية تشتكي حالها إلى الله جل وعلا، وأن نعرض إعراضاً عن كثير من الطاعات والعبادات التي افترضها علينا رب الأرض والسماوات، وكأن الناس في رمضان يصلون لرب، ويقرءون القرآن لرب، ويعتكفون في المساجد لرب، ويتسابقون في أصناف البر والجود لرب، فإذا ما انتهى شهر رمضان وجاءت الشهور الأخرى كأن لهذه الشهور ربّاً غير رب رمضان والعياذ بالله. إن رب رمضان هو رب بقية الشهور: (يا أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌّ لا يموت)، نرى المساجد بعد رمضان خالية تشتكي حالها إلى الله جل وعلا! أين المصلون أين الصائمون أين القائمون والتالون لكتاب رب العالمين أين المحسنون وأين المنفقون بعد رمضان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وإنا لله وإنا إليه راجعون؟

من عاش على شيء مات عليه

من عاش على شيء مات عليه أيها الحبيب! استقم على الطاعة فإنك لا تدري متى سيأتيك ملك الموت: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46]. لقد أجرى الله الكريم عادته بكرمه أن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه، وفي صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله أنه صلى الله عليه وسلم قال: (يبعث كل عبد على ما مات عليه). فيا من عشت على الطاعة، ويا من عشت على التوحيد، اعلم بأنك ستموت على الطاعة والتوحيد، وستبعث يوم القيامة على الطاعة والتوحيد، وقد ورد في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أنه صلى الله عليه وسلم قال: (فوالله الذي لا إله غيره! إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون يبنه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها). وفي صحيح البخاري من حديث سهل بن سعد أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الأعمال بالخواتيم)، فلا تغرنك الطاعة يا عبد الله، فبادر إلى الطاعة والاستقامة عليها، لأنك لا تدري متى سيأتيك ملك الموت، واعلم أن كل عبد يبعث على ما مات عليه، ووالله لقد مزق الخوف من سوء الخاتمة قلوب الصادقين من الموحدين، فقد كان سلفنا الصالح يخافون من سوء الخاتمة، حتى قال أحدهم: أخاف أن يسلب مني الإيمان وأنا على فراش الموت: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46]. وكان مالك بن دينار يقوم في الليل البهيم الأسود، ويقبض على لحيته ويبكي، ثم ينظر إلى السماء ويقول: يا رب! لقد علمت ساكن الجنة من ساكن النار، ففي أي الدارين منزل مالك بن دينار.

الاستقامة أصل السعادة

الاستقامة أصل السعادة أخي! (قل: آمنت بالله ثم استقم) قل ربي الله ثم استقم ولا تضيع الصلوات، ولا تترك القراءة في كتاب رب الأرض والسماوات، ولا تنتقل عن الاستغفار والذكر والعبادة والطاعات. عباد الله: إن الاستقامة على الطاعة أصل السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة، يقول الحافظ ابن رجب الحنبلي في كتابه القيم (جامع العلوم والحكم): وأصل الاستقامة استقامة القلب على توحيد الله جل وعلا، فإذا استقام القلب على توحيد الله استقامت الجوارح كلها على الطاعة، لأن القلب هو الملك، ولأن الأعضاء والجوارح هي جنوده ورعاياه، فإذا صلح هذا الملك صلحت الجنود والرعايا، كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث النعمان بن بشير: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب). فأصل الصلاح هو القلب، ومحط الاستقامة هو القلب، فإذا استقام القلب استقامت الجوارح، وإذا طهر القلب وأشرق فيه مصباح التوحيد استقامت الجوارح كلها على طاعة العزيز الحميد، وإذا كان القلب في أغلفة تلو الأغلفة كفر بربه، وكفرت الجوارح بربها والعياذ بالله، وإذا نكس القلب عرف ثم أنكر، وأبصر ثم عمي نافقت الجوارح الناس، وتناست رب الناس الذي يعلم السر وأخفى.

الأعمال بالخواتيم

الأعمال بالخواتيم أيها المسلمون! إن الاستقامة على الطاعة أمر ضروري: (قل آمنت بالله ثم استقم) فيا من أطعت الله في رمضان، إياك أن تحيد عن طاعة الله في غير رمضان، فإن الاستقامة على الطاعة أصل السعادة في الدنيا والآخرة! يا من صمت نهار رمضان، وقمت الليل وعشت مع القرآن، وتسابقت في أوجه البر والخير والجود والإحسان، وستنفصل عن الطاعة بعد رمضان؛ هل ضمنت متى سيأتيك ملك الموت؟ هل سيأتيك ملك الموت على طاعة أم سيأتيك على معصية؟ أخي: لا يغرنك العمل، فإن العبرة بالخواتيم، ووالله إن أشد الخوف من سوء الخاتمة الذي أفزع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي فطر قلبه على توحيد الله ولانت جوارحه وانقادت لطاعة الله، فكان يكثر في دعائه من قول: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)، فقالت له أم سلمة -والحديث في مسند الإمام أحمد بسند حسن-: (يا رسول الله! أو إن القلوب لتتقلب؟ قال: ما من قلب من قلوب بني آدم إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن، إن شاء الله أقامه وإن شاء الله أزاغه). وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو أنه صلى الله عليه سلم قال: (إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن عز وجل، كقلب واحد يصرفه الله حيث يشاء، ثم قال صلى الله عليه وسلم: اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك)، فهذا دعاء من فطر قلبه على توحيد الله دعاء من لانت وانقادت جوارحه في الليل والنهار لطاعة الله، بل ووالله لقد كانت عيناه تنام ولا ينام قلبه عن ذكر خالقه جل وعلا، يقوم يدعو الله ويناجيه ويقول: (اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك).

رب رمضان هو رب الشهور كلها

رب رمضان هو رب الشهور كلها إن رب رمضان هو رب شوال، وهو رب الشهور كلها، فينبغي أن نطيعه في كل لحظة وفي كل أوان وفي كل زمان، لأن من أعظم القربات والطاعات إلى الله جل وعلا: المداومة على الأعمال والطاعات وإن قلَّت، كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل). فيا من جعلت لنفسك ورداً يومياً وليلياً مع كتاب الله! ويا من جعلت لنفسك ساعة يومية مع الاستغفار والذكر والصلاة والسلام على رسول الله! ويا من جعلت لنفسك تسابقاً في أوجه البر والخير والطاعات في رمضان! ويا من حرصت كل الحرص على أن تؤدي الصلاة في بيوت الرحيم الرحمن؛ اعلم أن من أحب القربات إلى الله أن تداوم على هذه الطاعات وأن تستمر على هذه الأعمال، فإن أحب الأعمال إلى الله جل وعلا أدومها وإن قل، ومن ثم لما جاء الصحابي الجليل سفيان بن عبد الله رضي الله عنه يسأل النبي صلى الله عليه وسلم سؤالاً جامعاً في أمر دينه، فقدم له الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم هذه الوصية الغالية التي ينبغي أن نضعها اليوم في قلوبنا، وأن نغمض عليها أجفاننا، وأن نحولها إلى واقع عملي متحرك مضبوط. قال له سفيان: (يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك؟)، فلخص له الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم أمر السعادة في الدنيا والآخرة في كلمتين اثنتين، فأعيروني القلوب والأسماع، فهي وصية رسول الله لنا لنسعد في الدنيا والآخرة: (يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك؟ فقال له المصطفى صلى الله عليه وسلم: قل آمنت بالله ثم استقم)، وهذا لفظ مسلم، ولفظ الترمذي بسند حسن صحيح: (قال سفيان: يا رسول الله! حدثني بأمر أعتصم به، فقال صلى الله عليه وسلم: قل ربي الله ثم استقم، قال سفيان: فما أخوف ما تخاف علي يا رسول الله؟ قال: فأخذ رسول الله بلسان نفسه ثم قال صلى الله عليه وسلم: أخوف ما أخاف عليك هذا).

أقسام القلوب

أقسام القلوب القلوب تنقسم إلى أربعة أقسام، كما قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه وأرضاه، والحديث رواه الإمام أحمد في مسنده والإمام الطبراني في معجمه الصغير، وأبو نعيم في الحلية، إلا أن من علمائنا الكبار من ضعف هذا الحديث كالإمام الذهبي والإمام الهيثمي، ومدار تضعيفهم لهذا الحديث على الليث بن أبي سليم وهو متكلم فيه، إلا أن حديثه لا يرد كما قال الإمام أحمد، لذا فإن الحديث حسن إن شاء الله تعالى، يقول حذيفة: القلوب أربعة: قلب أجرد فيه سراج يزهر، فذلك قلب المؤمن، -نسأل الله أن يجعلنا إياكم من هؤلاء- وقلب أغلف، فذلك قلب الكافر، وقلب منكوس عرف ثم أنكر وأبصر ثم عمي، فذلك قلب المنافق، وقلب تمده مادتان: مادة إيمان ومادة نفاق، وهو لما غلب عليه منهما، فتارة تراه في وسط القلوب المؤمنة، وتارة تراه في وسط القلوب المنافقة، وهذا يخشى عليه والعياذ بالله، أنه لا يدري متى سيأتيه ملك الموت، هل سيأتيه وقلبه في جانب أهل الإيمان، أم سيأتيه وقلبه في جانب أهل النفاق. القلب الأول: هو القلب الذي أشرق فيه مصباح التوحيد، وأنار فيه مصباح الإيمان، وذلك هو القلب السليم الذي سلم من الشرك وسلم من الشك، وسلم من الغل والحقد، وسلم من الحسد، وسلم من الشهوات والشبهات، فانقادت له الجوارح بالطاعة لرب الأرض والسموات، ذلك القلب صاحبه في جنة في الدنيا، وفي جنة في البرزخ، وفي جنة في الآخرة، وذلكم هو القلب الذي ينفع صاحبه يوم القيامة: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89].

شروط سلامة القلب

شروط سلامة القلب إن القلب لا يسلم إلا بشروط خمسة، تعرف عليها اليوم لتتعرف على سلامة قلبك، وأين يقع قلبك بين هذه القلوب الأربعة. يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: ولا يسلم القلب حتى يسلم من خمسة أشياء. تلك هي أركان سلامة القلب، وتلك هي شروط صحته وطهارته ونقائه واستقامته، لتستقيم الجوارح بعده على طاعة الله جل وعلا: يقول: لا يسلم القلب حتى يسلم من شرك يناقض التوحيد، ومن بدعة تناقض السنة، ومن غفلة تناقض الذكرى، ومن شهوة تناقض الأمر، ومن هوى يناقض الإخلاص. تلك هي شروط سلامة القلب، وتلك هي أركان صحة القلب.

سلامة القلب من الشهوة

سلامة القلب من الشهوة عبد الله! ولا يسلم القلب حتى يسلم من شهوة تناقض الأمر: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به)، هذا قول المصطفى صلى الله عليه وسلم، مصداقاً لقول الله جل وعلا: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65].

سلامة القلب من الهوى

سلامة القلب من الهوى أما الشرط الخامس من شروط سلامة القلب فهو: ولا يسلم القلب حتى يسلم من هوى يناقض الإخلاص، فإن الهوى قد يدمر القلوب، ويبعثر الأعمال، والله جل وعلا لا يقبل الأعمال إلا إذا كانت خالصة، وفي الصحيحين من حديث أسامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه، فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع إليه أهل النار ويقولون: ما لك يا فلان، ألم تك تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه) ذلكم هو الهوى، نسأل الله جل وعلا أن يرزقنا وإياكم الإخلاص في القول والعمل، وأن يتقبل منا وإياكم صالح الأعمال. وهكذا أيها الأحبة! لا يستقيم القلب إلا إذا استقام على التوحيد، ولا تستقيم الجوارح على الطاعة إلا إذا استقام القلب على توحيد الله جل وعلا، وحتماً لا تستقيم الجوارح على طاعة الله إلا بعد استقامة القلب (قل آمنت بالله ثم استقم). أخي الحبيب! أذكر نفسي وإياك بالاستقامة على طاعة الله جل وعلا بعد رمضان، حتى يأتينا ملك الموت ونحن على الطاعة، فإن الله تعالى قد أجرى عادته بكرمه أن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. أسأل الله جل وعلا أن يتوفاني وإياكم على التوحيد والإيمان، إنه ولي ذلك ومولاه، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

سلامة القلب من البدعة

سلامة القلب من البدعة عباد الله! لا يسلم القلب حتى يسلم من شرك يناقض التوحيد، ومن بدعة تناقض السنة، واعلم يا عبد الله أن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً صواباً، والخالص هو ما ابتغي به وجه الله، والصواب هو ما كان موافقاً لشرع رسول الله صلى الله عليه وسلم، {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110] {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5] فلا بد من إخلاص العمل لله، ولو أخلصت عملك وعبادتك وصلاتك وزكاتك وصيامك وحجك وإنفاقك وصدقتك، وأنت غير متبع للحبيب صلى الله عليه وسلم فأنت مبتدع، وعملك مردود على رأسك، وفي صحيح البخاري ومسلم من حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد). أحذر نفسي وإياك من الابتداع فـ: كل خير في اتباع من سلف وكل شر في ابتداع من خلف

سلامة القلب من الغفلة

سلامة القلب من الغفلة أخي الحبيب! لا يسلم القلب حتى يسلم من غفلة تناقض الذكر وهذا هو الشرط الثالث من شروط سلامة القلب، وفي الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه كمثل الحي والميت)، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى في الحديث القدسي الجليل: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً، وإن تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة)، فلا يسلم القلب حتى يسلم من غفلة تناقض الذكر.

سلامة القلب من الشرك

سلامة القلب من الشرك لا يسلم القلب حتى يسلم من شرك يناقض التوحيد، لأن أظلم الظلم وأقبح القبح وأجهل الجهل في هذه الدنيا هو الشرك، وما عصي الله جل وعلا على ظهر هذه الأرض بذنب أعظم وأقبح من الشرك والعياذ بالله! والرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الذي رواه مسلم: (من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار)، {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]. وفي الحديث الذي رواه مسلم والترمذي من حديث أنس وهذا لفظ الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى في الحديث القدسي الجليل: يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً، لأتيتك بقرابها مغفرة). إن أعظم ذنب يرتكب على ظهر الأرض هو الشرك بالله، ووالله ما أخر الله النصر عن الأمة إلا لأن من أبناء الأمة من لا يزال متلبساً بالشرك والعياذ بالله، فمن الأمة من يعتقد اليوم أن للكون أقطاباً وأوتاداً وأبداناً تسير الأمر وتصرف شئون الكون، والله جل وعلا يقول: {قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عمران:154]. ومن أبناء الأمة من يذبح لغير الله ومنهم من ينذر لغير الله ويطوف بقبور الأنبياء والأولياء، والله أمر أن يكون الطواف لبيته جل وعلا. ومن الأمة من يستغيث بغير الله، ومنهم من يستعين بغير الله، ومنهم من يسأل غير الله، ومنهم من يحلف بغير الله، ومنهم من يحكم في الأمة غير شرع الله، وغير هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووالله لن تأتي النصرة إلا إذا صححت الأمة توحيدها، وأخلصت إيمانها، وصفت عقيدتها لربها جل وعلا: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]. إن حق الله على الأمة وعلى الناس جميعاً أن يعبدوه وحده، وأن يخلصوا له العبادة وحده، قال معاذ بن جبل، والحديث في الصحيحين: (كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم يوماً على حمار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا معاذ! أتدري ما حق الله على العباد؟ قال معاذ: الله ورسوله أعلم، فقال الحبيب صلى الله عليه وسلم: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً،)، {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163]، فلا تصرف العبادة بركنيها من كمال حب وكمال ذل، وبشرطيها من إخلاص واتباع؛ إلا لله جل وعلا. (حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، ثم قال: أتدري ما حق العباد على الله؟ قال معاذ: الله ورسوله أعلم، فقال صلى الله عليه وسلم: وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً، قال معاذ: أفلا أبشر الناس يا رسول الله؟ قال: لا تبشرهم فيتكلوا). وفي الصحيحين من حديث عبادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً رسول الله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق وأن النار حق؛ أدخله الله الجنة على ما كان من العمل)، وفي رواية عتبان بن مالك: (فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله جل وعلا). وكلمة التوحيد ليست كلمة ترددها الألسنة فحسب، فإن مما يؤلم النفوس ويفزع القلوب أن نردد كلمة التوحيد في الليل والنهار، ونحن لا نقف عند أوامرها ونواهيها ولا عند حدودها، ونعتقد أن كلمة التوحيد كلمة تقال باللسان وتلوكها الألسنة في الليل والنهار، دخاناً يطير في الهواء لا قيمة له، ووالله لقد ردد المنافقون كلمة التوحيد في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما نفعتهم في الآخرة، وإن كانت نفعتهم كلمة التوحيد في الدنيا: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:1]. فلابد أن نحول كلمة التوحيد إلى واقع عملي، وإلى مجتمع متحرك منظور، لأن الفكر الإرجائي قد دمر الأمة تدميراً، (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة)، ولكن ليست كلمة باللسان بدون واقع، وبدون عمل وانقياد وامتثال لأمرها، ونواهيها، وبدون وقوف عند حدودها، كلا، فإن هذه الأحاديث المطلقة على هذه الشاكلة قد وردت أحاديث كثيرة تقيدها، والقاعدة الأصولية تقول: (يحمل المطلق على المقيد)، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول كما ذكرت آنفاً في رواية عتبان في الصحيحين: (فمن قال لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله)، (من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه) (من قال لا إلا الله صدقاً من قلبه) (من قال لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه). فكلمة التوحيد ليست كلمة تقال باللسان، وإنما الإيمان قول باللسان، وتصديق بالجنان، وعمل بالجوارح والأركان، ورحم الله الحسن حيث يقول: ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن الإيمان ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال، فمن قال خيراً وعمل خيراً قبل منه، ومن قال خيراً وعمل شراً لم يقبل منه.

جزاء الاستقامة على الطاعة

جزاء الاستقامة على الطاعة الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فيأيها الأحبة: أختم اللقاء بسؤال خطير وهام، ألا وهو: ما جزاء الاستقامة على الطاعة؟ ما جزاء من يطيع الله جل وعلا ويستقيم على طاعة الله عز وجل؟ لقد جاء بيان الجزاء في جواب بين جلي من الله العلي الأعلى جل وعلا، حيث يقول سبحانه بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [فصلت:30] هل قالوها كلمة تلوكها الألسنة دخاناً في الهواء؟ كلا، {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30] ما جزاؤهم؟ {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:30 - 32]. يا له من فضل، ويا لها والله من بشارة لا تقوم لها الدنيا بما فيها: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ} [فصلت:30] وفي وقت تنزل الملائكة على أهل الاستقامة قولان: القول الأول قاله مجاهد والسدي وزيد بن أسلم: أن الملائكة تتنزل على أهل الاستقامة على فراش الموت. الله أكبر! في وقت السكرة وقت الكربات وقت الأهوال وقت الفزع وقت الضيق، وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده وابن ماجة في سننه بسند صحيح من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تحضر الملائكة -أي عند الموت- فإذا كان الرجل صالحاً قالت الملائكة: اخرجي أيتها النفس الطيبة، اخرجي حميدة، وأبشري بروح وريحان، ورب راض عنك غير غضبان، فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج) تُبشَّر من الملائكة وأنت على فراش الموت، يا من أطعت الله واستقمت على طاعة الله. أما الوقت الثاني الذي تتنزل فيه الملائكة على أهل الاستقامة، وقاله ابن عباس وابن أبي حاتم وغيرهما، قال: تتنزل الملائكة على أهل الاستقامة عند الخروج من القبور يوم البعث والنشور. تتنزل لهم بهذه البشارة في يوم الأهوال يوم الفزع يوم الكرب يوم الفضائح والعياذ بالله، يخرج أهل الاستقامة من القبور فتتنزل عليهم ملائكة العزيز الغفور بهذه البشارة: {أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا} [فصلت:30 - 32] أي: ضيافة وإنعاماً وإكراماً وإحساناً، من رب غفور لكم رحيم بكم، غفر لكم الذنوب وستر لكم العيوب ولطف بكم اليوم في يوم الأهوال والكروب. {نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:32]. هذا هو جزاء الاستقامة أيها الأحباب. أسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يحفظ قلوبنا وإياكم بطاعته، وأن يصرف قلوبنا وإياكم على طاعته. اللهم مصرف القلوب والأبصار صرف قلوبنا إلى طاعتك، اللهم يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلوبنا على دينك، اللهم إنا نعوذ بك من السلب بعد العطاء، اللهم إنا نعوذ بك من السلب بعد العطاء، اللهم إنا نعوذ بك من السلب بعد العطاء، اللهم إنا نعوذ بك من العجز والكسل، ومن الجبن والبخل، ومن غلبة الدين وقهر الرجال. اللهم إنا عبيدك بنو عبيدك، نقر لك بذنوبنا، ونعترف لك بجرمنا، ونعترف لك بضعفنا وعجزنا، فاللهم اغفر ذنبنا، واستر عيبنا، واجبر كسرنا، واختم بالصالحات أعمالنا، ولا تجعل الحياة هي همنا، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، وبلغنا مما يرضيك آمالنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر. اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا.

وجاءت سكرة الموت بالحق

وجاءت سكرة الموت بالحق ذكر الشيخ حفظه الله الحقيقة الكبرى الغائبة عن أذهان الكثير من الناس وهي الموت، ذاكراً سكراته وحال المحتضر، ومذكراً العاصي بالموت ولقاء الله تعالى.

الحقيقة الكبرى

الحقيقة الكبرى الحمد لله رب العالمين، الذي لم يتخذ ولداً، ولم يكن له شريك في الملك، وما كان معه من إله، الذي لا إله إلا هو، فلا خالق غيره ولا رب سواه، المستحق لجميع أنواع العبادة، لذا قضى ألا نعبد إلا إياه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62] هو الواحد الذي لا ضد له، وهو الصمد الذي لا منازع له، وهو الغني الذي لا حاجة له، وهو القوي الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو جبار السماوات والأرض فلا راد لحكمه ولا معقب لقضائه وأمره. وأشهد أن حبيبنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، اللهم اجزه عنا خير ما جازيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصلِّ اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: حياكم الله جميعاً، وطبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله جل وعلا أن ينضر وجوهكم، وأن يزكي نفوسكم، وأن يشرح صدوركم، وأن يجمعني وإياكم في الدنيا دائماً وأبداً على طاعته، وفي الآخرة مع خير الدعاة وإمام النبيين وسيد المرسلين في جنته ومستقر رحمته، إنه ولي ذلك ومولاه، وهو على كل شيء قدير. أحبائي يا ملء الفؤاد تحية تجوز إليكم كل سدٍ وعائق لقد شدني والله شوق إليكم مكلل بالحب والدعاء المشفق وأرقني في المظلمات عليكم تكالب أعداء سعوا بالبوائق أردتم رضا الرحمن قلباً وقالباً وما طلبوا إلا حقير المآزق فسدد الله على درب الحق خطاكم وجنبكم فيه خفي المزالق أيها الأحبة في الله! تلبية لرغبة الكثيرين من أحبابي وإخواني، فإننا الليلة على موعدٍ مع محاضرة أخيرة في الرقائق، والحق أقول: إننا نعيش عصراً طغت فيه الماديات والشهوات، وغفل كثير من الناس عن طاعة رب الأرض والسماوات، لذا فإني أرى مع الإخوة الذين ألحوا عليَّ في أن يكون لقاؤنا الليلة في الرقائق أرى معهم بأن القلوب تصدأ، وبأن هذه القلوب تحتاج من آن لآخر إلى من يذكرها بعلام الغيوب، فتعالوا بنا الليلة لنعيش مع كلام الحق مع قول الصدق مع أصل العز والشرف مع نبع الكرامة والهدى مع القرآن الكريم، مع القرآن الذي ضيعته الأمة فضاعت، مع القرآن الذي هجرته الأمة فأذلها الله لليهود إخوان القردة والخنازير، مع القرآن الذي ظنت الأمة أنه ما أنزل إلا ليكتب على الجدران أو ليوضع في علب القطيفة الضخمة الفخمة لتهدى لسادة القوم وعلية الناس في المناسبات الرسمية والوطنية وغيرها. تعالوا لنعيش الليلة مع آيات من القرآن الذي قال الله عز وجل فيه: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً * وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [الإسراء:9 - 10] وإننا سنعيش الليلة مع هذه الآيات التي استمعنا إليها في صلاة المغرب من سورة ق، فأعيروني القلوب والأسماع أيها الأخيار. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:19 - 22] وجاءت سكرة الموت بالحق والحق أنك تموت والله حي لا يموت، وجاءت سكرة الموت بالحق والحق أن ترى عند موتك ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب، وجاءت سكرة الموت بالحق والحق أن يكون قبرك روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران. {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] ذلك ما كنت منه تفر، ذلك ما كنت منه تهرب، ذلك ما كنت منه تجري، تحيد إلى الطبيب إذا جاءك المرض، وتحيد إلى الطعام إذا أحسست بالجوع، وتحيد إلى الشراب إذا أحسست بالظمأ، ولكن أيها القوي الفتي! أيها الذكي العبقري! يا أيها الوزير! ويا أيها الأمير! ويا أيها الكبير! ويا أيها الصغير! اعلم! كل باكٍ فسيبكى كل ناعٍ فسينعى كل مخلوق سيفنى كل مذكور سينسى ليس غير الله يبقى من علا فالله أعلى {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق:19] إنها الحقيقة الكبرى التي تعلن على مدى الزمان والمكان في أذن كل سامع، وعقل كل مفكر، ورأس كل طاغوت، أن البقاء لله الحي الذي لا يموت، إنها الحقيقة الكبرى التي تصبغ الحياة البشرية كلها بصبغة الذل والعبودية لقهار السماوات والأرض، إنها الحقيقة الكبرى التي تسربل بها العصاة والطائعون بل والأنبياء والمرسلون طوعاً أو كرهاً، إنها الحقيقة التي أمرنا حبيبنا ونبينا وقدوتنا وقرة أعيننا محمد صلى الله عليه وسلم أن نذكرها ولا ننساها كما في الحديث الذي رواه الترمذي بسندٍ حسن من حديث فاروق الأمة عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أكثروا من ذكر هاذم اللذات -وفي لفظ- أكثروا من ذكر هاذم اللذات، قيل: وما هاذم اللذات يا رسول الله؟ قال: الموت) إنه الموت.

أيها العاصي تذكر الموت

أيها العاصي تذكر الموت أيها الأحباب! يا من عشت للدنيا! يا من عشت للكرسي الزائل! يا من عشت للمنصب الفاني! يا من ظننت أن كرسيك لا يزول! ويا من ظننت أن منصبك لا يفنى! أين الحبيب رسول الله؟ أين سيد الخلق؟ أين حبيب الحق؟ أين من قال له ربه: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء:34]؟ أيا عبد كم يراك الله عاصيا حريصا على الدنيا وللموت ناسيا أنسيت لقاء الله واللحد والثرى ويوماً عبوساً تشيب فيه النواصيا إذا المرء لم يلبس ثياباً من التقى تجرد عرياناً ولو كان كاسيا ولو كانت الدنيا تدوم لأهلها لكان رسول الله حياً وباقيا ولكنها تفنى ويفنى نعيمها وتبقى الذنوب والمعاصي كما هيا كم ستعيش؟ إن عمرك في حساب الزمن لحظات وما هي النتيجة؟ وما هي النهاية؟ يا أيها الإنسان! يا أيها الكبير! ويا أيها الصغير! {يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6] {كَلاَّ إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِي * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتْ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:26 - 30]. ويفتح سجلك يا مسكين! ويفتح ملفك يا غافل! وإذا به: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة:31 - 32] سمع الأذان وسمع النداء يقول: حي على الصلاة، حي على الفلاح وهو مازال جالساً في المقهى على معصية لله جل وعلا لم يجب نداء الحق جل جلاله. وتأتي للصلاة على فتورٍ كأنك قد دعيت إلى البلاء وإن أديتها جاءت بنقصٍ لما قد كان من شرك الرياء وإن تخلو عن الإشراك فيها تدبر للإمور بالارتقاء ويا ليت التدبر في مباح ولكن في المشقة والشقاء وإن كنت المصلي بين خلق أطلت ركوعها بالانحناء وتعجل خوف تأخير لشغلٍ كأن الشغل أولى باللقاء وإن كان المجالس فيه أنثى قطعت الوقت من غير اكتفاء ألا يساوي الله معك أنثى تناجيه بحب أو صفاء يا غافلاً لاهياً! يا ساهياً يا من نسيت حقيقة الدنيا ونسيت الآخرة! يا من تركت الصلاة! يا من ضيعت حقوق الله! يا من عذبت الموحدين لله! يا من بارزت رسول الله بالمعصية! يا من عق أباه! يا من عق أمه! يا من قطع رحمه! يا من ضيع حقوق الله! دع عنك ما قد فات في زمن الصبا واذكر ذنوبك وابكها يا مذنب لم ينسها الملكان حين نسيتهم بل أثبتاه وأنت لاهٍ تلعب والروح منك وديعة أودعتها فتردها بالرغم منك وتسلب وغرور دنياك التي تسعى لها دار حقيقتها متاع يذهب الليل فاعلم والنهار كلاهما أنفاسنا فيهما تعد وتحسب

(كلا إذا بلغت التراقي)

(كلا إذا بلغت التراقي) {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} [القيامة:26] أي: إذا بلغت الروح الترقوة والحلقوم {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [القيامة:27] من الذي سيرقيه؟ من الذي سيبذل له الرقية؟ من الذي سيبذل له العلاج؟ وهو من هو؟ هو الملك، هو الحاكم، هو الوزير، هو الأمير، صاحب الجاه، صاحب المنصب، صاحب السلطان، يقول هو ومن حوله: أحضروا الأطباء أحضروا الطائرة الخاصة لتنقله على الفور إلى أكبر المستشفيات وأكبر الأطباء. ولكن إذا اقتربت ساعة الصفر وانتهى الأجل، لا تستطيع قوة على ظهر الأرض ولا يستطيع أهل الأرض ولو تحولوا جميعاً إلى أطباء أن يحولوا بينك وبين ما أراد رب الأرض والسماء: {وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:78]. انظر إليه والأطباء من حول رأسه، وقد حانت ساعة الصفر فاصفر وجهه، وشحب لونه، وبردت أطرافه، وتجعد جلده، وبدأ يحس بزمهرير قارس، يزحف إلى أنامل يديه وقدميه، يحاول جاهداً أن يحرك شفتيه بكلمة التوحيد، فيحس أن الشفة كالجبل لا يريد أن يتزحزح إلا لمن يسر الله له النطق بكلمة التوحيد، فينظر وهو بين السكرات والكربات إلى الأطباء من حول رأسه، وينظر إلى زوجته وأولاده إلى أحبابه إلى إخوانه نظرة استعطاف، نظرة رجاء، نظرة أمل، نظرة تمنٍ، وهو يقول لهم بلسان الحال بل وبلسان المقال: يا أحبابي! يا أولادي! أنا أخوكم، أنا أبوكم، أنا حبيبكم، أنا الذي بنيت القصور، وأنا الذي عمرت الدور، وأنا الذي نميت التجارة، فمن منكم يزيد في عمري ساعة أو ساعتين؟ وهنا يعلو صوت الحق: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:83 - 96]. سبحانك! يا من أذللت بالموت رقاب الجبابرة! سبحانك! يا من أذللت بالموت رقاب الأكاسرة! سبحانك! يا من أذللت بالموت رقاب القياصرة! فنقلتهم بالموت من القصور إلى القبور، ومن رغد المهود إلى ظلمة اللحود، ومن ملاعبة الجواري والغلمان إلى مقاساة الهوام والديدان، ومن التنعم في الطعام والشراب إلى التمرغ في الوحل والتراب، سبحانك: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:96]. {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [القيامة:27] من يرقيه؟ من يبذل له الرقية؟ من يقدم له العلاج؟ من يحول بينه وبين الموت؟ لا أحد. {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [القيامة:27] تفسير آخر: من يرتقي بروحه بعدما فارقت جسده إلى الله جل وعلا، {مَنْ رَاقٍ} [القيامة:27] من الذي سيرتقي بها من الملائكة {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:28 - 30].

مرارة الرحيل

مرارة الرحيل سفري بعيد وزادي لن يبلغني وقوتي ضعفت والموت يطلبني ولي بقايا ذنوب لست أعلمها الله يعلمها في السر والعلن أنا الذي أغلق الأبواب مجتهداً على المعاصي وعين الله تنظرني ما أحلم الله عني حيث أمهلني وقد تماديت في ذنبي ويسترني كأنني بين تلك الأهل منطرحاً على الفراش وأيديهم تقلبني وقد أتوا بطبيب كي يعالجني ولم أر الطب هذا اليوم ينفعني واشتد نزعي وصار الموت يجذبها من كل عرق بلا رفق ولا هون وقام من كان أحب الناس في عجل نحو المغسل يأتيني يغسلني فجاءني رجل منهم فجردني من الثياب وأعراني وأفردني وأودعوني على الألواح منطرحاً وصار فوقي خرير الماء ينظفني وأسكب الماء من فوقي وغسلني غسلاً ثلاثاً ونادى القوم بالكفن وحملوني على الأكتاف أربعةٌ من الرجال وخلفي من يشيعني وقدموني إلى المحراب وانصرفوا خلف الإمام فصلى ثم ودعني صلوا عليَّ صلاة لا ركوع لها ولا سجود لعل الله يرحمني وأنزلوني إلى قبري على مهل وقدموا واحداً منهم يلحدني فكشف الثوب عن وجهي لينظرني فأسكب الدمع من عينيه أغرقني وقال هلوا عليه الترب واغتنموا حسن الثواب من الرحمن ذي المنن تقاسم الأهل مالي بعدما انصرفوا وصار وزري على ظهري فأثقلني يا نفس كفي عن العصيان واغتنمي حسن الثواب من الرحمن ذي المنن أيا من يدعي الفهم إلى كم يا أخا الوهم تعب الذنب والذم وتخطي الخطأ الجم أما بان لك العيب أما أنذرك الشيب وما في نصحه ريب ولا سمعك قد صم أما نادى بك الموت ما أسمعك الصوت أما تخشى من الفوت فتحتاط وتهتم فكم تَسدَرُ في السهو وتختال من الزهو وتنصب إلى اللهو كأن الموت ما عم كأني بك تنحط إلى اللحد وتنغط وقد أسلمك الرهط إلى أضيق من سم هناك الجسم ممدود ليستأكله الدود إلى أن ينخر العود ويمسي العظم قد رم فزود نفسك الخير ودع ما يعقب الضير وهيئ مركب السير وخف من لجة اليم لذا أوصيك يا صاح وقد بحت كمن باح فطوبى لفتىً راح بآداب محمد يأتم

ماذا بعد الموت؟

ماذا بعد الموت؟ {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] فالموت حق -أيها الأحبة- وليت الأمر يتوقف عند الموت لاسترحنا كثيراً ولكن بعد الموت بعث، وبعد البعث حساب، وفي الحساب سؤال، والسؤال بين يدي ملك الملوك وجبار السماوات والأرض، إن الموت حقيقة لا تنكر. ورحم الله الفضيل بن عياض إذ لقيه رجل فسأله الفضيل عن عمره. فقال الرجل: عمري ستون سنة. قال الفضيل: إذاً أنت منذ ستين سنة تسير إلى الله يوشك أن تصل. فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون! قال الفضيل: هل عرفت معناها؟ قال: نعم. عرفت أني لله عبد وأني إلى الله راجع. فقال الفضيل: يا أخي إن من عرف أنه لله عبد وأنه إلى الله راجع عرف أنه موقوف بين يديه، ومن عرف أنه موقوف عرف أنه مسئول، ومن عرف أنه مسئول فليعد للسؤال جواباً. فبكى الرجل وقال: يا فضيل وما الحيلة؟ قال الفضيل: يسيرة. قال: ما هي يرحمك الله؟ قال: أن تتق الله فيما بقى يغفر الله لك ما قد مضى وما قد بقى. ورضي الله عن هارون الرشيد الذي يوم أن نام على فراش موته قال: أريد أن أرى قبري الذي سأدفن فيه، وحملوا هارون إلى قبره - هارون الذي كان يخاطب السحابة في كبد السماء ويقول لها: أيتها السحابة! في أي مكان شئت فأمطري، فسوف يحمل إليَّ خراجك هاهنا إن شاء الله- حمل ليرى قبره ونظر هارون إلى قبره وبكى ثم التفت إلى أحبابه من حوله وقال: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28 - 29] أين المال؟ أين الدولارات؟ أين السيارات؟ أين العمارات؟ أين الأراضي؟ أين السلطان؟ أين الجاه؟ أين الوزارة؟ أين الإمارة؟ أين الجند؟ أين الحرس؟ أين الكرسي الزائل؟ أين المنصب الفاني؟ {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28 - 29] وبكى هارون وارتفع صوته ونظر إلى السماء وقال: يا من لا يزول ملكه! ارحم من قد زال ملكه {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16] أين الفراعنة؟ أين الأكاسرة؟ أين القياصرة؟ أين الظالمون؟ أين الطواغيت؟ أين الظالمون وأين التابعون لهم في الغي؟ بل أين فرعون وهامان؟ أين من دوخوا الدنيا بسطوتهم وذكرهم في الورى ظلم وطغيان هل غادر الموت ذا عز لعزته أو هل نجى منه بالسلطان سلطان لا والذي خلق الأكوان من عدم الكل يفنى فلا أنس ولا جان يا نفس قد أزف الرحيل وأظلك الخطب الجليل فتأهبي يا نفس لا يلعب بك الأمل الطويل فلتنزلن بمنزلٍ ينسى الخليل به الخليل وليركبن عليك فيه من الثرى ثقل ثقيل قرن الفناء بنا جميعاً فما يبقى العزيز ولا الذليل من الباقي؟ إنه الحي الذي لا يموت: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27]، {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88].

يوم العرض على الله

يوم العرض على الله فيا أيها الحبيب! يا أيها الكريم! هل ذكرت نفسك بهذه الحقيقة؟ هل تذكرت الموت؟ هل أعددت ليومٍ سترحل فيه عن هذه الدنيا؟ من منا كتب وصيته ووضعها تحت رأسه في كل ليلة؟ يا من شغلك طول الأمل! أنسيت يوماً سترحل فيه عن دنياك لتقف بين يدي مولاك. وليس الموت هو نهاية المطاف، ولكنني -كما ذكرت- سنبعث لنسأل بين يدي ملك الملوك وجبار السماوات والأرض، سنعرض على هذه المحكمة الكبرى التي قال الله عز وجل عنها: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:7 - 8] فينادى عليك باسمك واسم أبيك أين فلان بن فلان؟ {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ} [ق:20] إنه يوم القيامة، يوم الحسرة والندامة، يوم الصيحة، يوم الحاقة، يوم القارعة، يوم الآزفة، إنه يوم {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2] إنه يوم الوعيد يوم يؤتى بملكين: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق:21]، قال الحافظ ابن كثير قال عثمان في خطبته: سائق يسوق العبد إلى الله، وشهيد يشهد على أعمال العبد بين يدي مولاه، ستساق إلى الله جل وعلا، وسينادى عليك يا مسكين ليكلمك ملك الملوك بغير ترجمان. تفكر الليلة لو عدت إلى بلدك ووجدت شرطياً يقدم لك رسالة ويقول: إنك مطلوب غداً للوقوف أمام قاضٍ من قضاة الدنيا، الفقراء الضعفاء الأذلاء لن تذوق عينك النوم الليلة، ستفكر! فهل فكرت في موقف ستسأل فيه من ملك الملوك وجبار السماوات والأرض؟ مثل وقوفك يوم الحشر عرياناً أين الإمارة والسلطان؟ أين الجاه؟ أين الكراسي؟ أين الجند؟ مثل وقوفك يوم الحشر عريانا مستوحشاً قلق الأحشاء حيرانا والنار تلهب من غيظ ومن حنقٍ على العصاة ورب العرش غضبانا اقرأ كتابك يا عبدي على مهل فهل ترى فيه حرفاً غير ما كان لما قرأت ولم تنكر قراءته أقررت إقرار من عرف الأشياء عرفانا نادى الجليل خذوه يا ملائكتي وامضوا بعبدٍ عصى للنار عطشانا المشركون غداً في النار يلتهبوا والموحدون بدار الخلد سكانا وفي الصحيحين من حديث عدي بن حاتم: (ما منكم من أحد إلا وسيكلمه ربه يوم القيامة ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه -عن يمينه- فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه -عن شماله- فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]. اتقوا النار فإن حرها شديد، وقعرها بعيد، ومقامعها من حديد: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} [الحج:19 - 21]. اللهم حرم جلودنا عن النار، ووجوهنا على النار، وأبصارنا على النار، اللهم إنا ضعاف لا نقوى عليها فنجنا، اللهم أدخلنا الجنة مع الأبرار، برحمة منك يا عزيز يا غفار! (اتقوا النار ولو بشق تمرة) ستسأل بين يدي الله أنت بشحمك ولحمك، سيكلمك الله ليس بينك وبينه ترجمان، انظر أيها المؤمن واسجد لربك شكراً أنك من أتباع الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم. ومما زادني فخرً وتيها وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا اسجد لربك شكراً يا من وحدت الله، اسمع ماذا قال إمام الموحدين وقدوة المحققين وسيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال: (يدنى المؤمن من ربه يوم القيامة -سوف يقربك الله جل جلاله منه- حتى يضع رب العزة عليه كنفه) والكنف لغة لا تأويلاً للصفة هو الستر والرحمة، ونحن لسنا ممن يؤول صفات الحق جل وعلا، وإنما نؤمن بأسماء الجلال وصفات الكمال من غير تحريف لألفاظها ولا لمعانيها، ومن غير تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل؛ لأن الله جل وعلا جلَّ عن الشبيه والنظير والمثيل، لا ند له، ولا كفء له، ولا شبيه له، ولا مثيل له، ولا نظير له، ولا والد له ولا ولد {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] (يُدنى المؤمن من ربه يوم القيامة حتى يضع رب العزة عليه كنفه، ويقرره بذنوبه يقول له ربه جل وعلا: لقد عملت كذا وكذا في يوم كذا وكذا فيقول المؤمن: رب أعرف رب أعرف -لا ينكر يقولها مرتين- فيقول الله جل وعلا: ولكني سترتها عليك في الدنيا وأغفرها لك اليوم). أسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن ينادى عليهم بهذا النداء العذب الحلو: (ولكني سترتها عليك في الدنيا وأغفرها لك اليوم) من الذي يقال له هذا؟ الموحد المؤمن، أسأل الله أن يجعلني وإياكم من أهل الإيمان، وأن يختم لي ولكم عند الموت بالتوحيد، اللهم ارزقنا قبل الموت توبة، وعند الموت شهادة، اللهم استرنا فوق الأرض، واسترنا تحت الأرض، واسترنا يوم العرض، برحمتك يا أرحم الراحمين! ينادى عليك لتسأل بين يدي الله تعالى أين فلان بن فلان؟ مَن أنا؟! هذا هو اسمي! أقبل، أقبل للعرض على الله جل وعلا، فتجد نفسك واقفاً بين يدي الحق فتعطى صحيفتك هذه الصحيفة التي لا تغادر بلية كتمتها، ولا مصيبة ومعصية أسررتها، فكم من معصية قد كنت أخفيتها أظهرها الله لك وأبداها، وكم من مصيبة قد كنت أخفيتها ذكرك الله إياها، فيا حسرة قلبك وقتها على ما فرطت في دنياك من طاعة مولاك، إن كنت من المؤمنين أعطاك الله كتابك باليمين وأنارت أعضاؤك وأشرق وجهك وانطلق النور من بين يديك وعن يمينك كما قال الله جل وعلا: {يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم:8]. أما أهل النفاق أهل الظلمات فينادون أهل الأنوار: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13]. {يُنَادُونَهُمْ} [الحديد:14] يا أهل الأنوار! يا أهل التوحيد! {أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} [الحديد:14]؟ ألم نحضر معكم الجُمَع والجماعات {أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [الحديد:14] ينطلق وكتابه بيمينه بعدما سعد سعادة لن يشقى من بعدها أبداً، ينطلق في أرض المحشر إلى إخوانه وأحبابه وأقرانه ومن هم على شاكلته والنور يشرق من وجهه وأعضائه كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: [منهم من يكون نوره كالجبل، ومنهم من يكون نوره كالنخلة، ومنهم من يكون نوره كالرجل القائم، ومنهم من يكون نوره على إبهامه، يتقد مرة وينطفئ مرة] والأثر ذكره الإمام السيوطي في الدر المنثور وتعقبه الإمام الذهبي فقال: بل هو صحيح على شرط البخاري ينطلق والنور يشرق من وجهه وأعضائه وكتابه بيمينه، والله لقد سعد سعادة لن يشقى بعدها أبداً، فينطلق إلى إخوانه وأحبابه من الموحدين في أرض المحشر، ويقول لهم: شاركوني السعادة، شاركوني الفرحة، شاركوني البهجة، اقرءوا معي كتابي، انظروا هذا كتابي بيميني، اقرءوا هذا توحيدي، وهذه صلاتي، وهذا صيامي، وهذا حجي، وهذا بري، وهذه صدقتي، وهذه دعوتي، وهذا عملي، اقرءوا معي {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ} [الحاقة:19 - 33].

دعوة لمحاسبة النفس

دعوة لمحاسبة النفس لا إله إلا الله!! هل أعددت لهذا اليوم جواباً أيها الحبيب؟ أيها الحبيب: أقبل على الله، تعال إلى فلاح الدنيا والآخرة. أيها الشاب! أيها الوالد الكريم! أيها الابن الحبيب! أيها الأخ الفاضل! أيتها الأخت الفاضلة! هيا جميعاً لنتب إلى الله جل وعلا في هذه الليلة الكريمة المباركة التي دمعت فيها العيون، وخشعت فيها القلوب لعلام الغيوب، تعالوا بنا لنجدد التوبة والأوبة والعودة، ولنكن على يقين جازم بأن الله جل وعلا لا يرد ولا يغلق باب التوبة في وجه أحد طرقه من ليل أو نهار: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]. يا من أسرفت على نفسك بالمعاصي! أقبل إلى الله جل وعلا ولا يغرنك الشيطان عن الله، واعلم بأن الله كريم، واعلم بأن الله رحيم، واعلم بأن الله سيغفر لك أي ذنب إذا كنت موحداً لله جل وعلا، وفي صحيح مسلم وسنن الترمذي من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى في الحديث القدسي الجليل: يا بن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ما كان منك ولا أبالي، يا بن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا بن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة). وأختم بقول الله عز وجل: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:31 - 35]، هل عرفت المزيد أيها الحبيب؟ إن نعيم الجنة ليس في لبنها، ولا خمرها، ولا قصورها، ولا ذهبها، ولا حريرها، ولا حورها، ولكن نعيم الجنة في رؤية وجه ربها، وهذا هو المزيد {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:35] {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]. أسأل الله جل وعلا أن يمتعني وإياكم بالجنة، وبالنظر إلى وجهه الكريم، وأن يرزقني وإياكم الإخلاص في القول والعمل. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

فتح مكة

فتح مكة إن من أسباب النصر حسن التخطيط، واستغلال مستجدات الأحداث، ولقد تمثل ذلك جلياً في صلح الحديبية التي انعقد بين المسلمين وقريش، فكان فتحاً مبيناً، ومقدمة لفتح مكة، حيث لم تلبث قريش أن نقضت هذا الصلح، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتجهز للسير إلى مكة، وكان ذلك في سرية تامة؛ حتى لا يعلم أهل مكة أنه يريدهم، فخرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان، وتم فتح مكة هذا ما تحدث عنه الشيخ؛ مبيناً كيف أعز الله جنده وهزم الأحزاب وحده، ونصر عبده في هذا اليوم العظيم.

خطورة تجهيل الأمة المسلمة بتاريخها

خطورة تجهيل الأمة المسلمة بتاريخها الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك وما كان معه من إله، الذي لا إله إلا هو فلا خالق غيره ولا رب سواه، المستحق لجميع أنواع العبادة ولذا قضى ألا نعبد إلا إياه {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلَّغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصلِّ اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة، وزكى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور العامرة بالإيمان إن شاء الله جل وعلا، وأسأل الله سبحانه أن يتقبل مني ومنكم صيامنا وقيامنا وصالح أعمالنا، وأن يجمعني وإياكم في الدنيا دائماً وأبداً على طاعته، وفي الآخرة مع سيد النبيين في جنته ومستقر رحمته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله: إننا اليوم على موعد مع يوم كريم من أيام شهر رمضان، إنه يوم أعز الله فيه دينه، ونصر فيه عبده، وأعز فيه جنده، واستنقذ فيه بيته الحرام، وبلده الأمين من أيدي الكفار والمشركين، إنه يوم الفتح الأعظم الذي استبشر به أهل السماء، وضربت أطناب عزه على مناكب الجوزاء، ودخل الناس به في دين الله أفواجاً، وأشرق به نور الأرض ضياءً وابتهاجاً، وتحطمت فيه الأصنام ونكست رءوسها في ذل شديد، وتهللت الكعبة فرحاً بشروق يوم التوحيد، إنه يوم الفتح الأعظم، إنه يوم فتح مكة في العاشر من رمضان في السنة الثامنة من هجرة المصطفى عليه الصلاة والسلام. تعالوا بنا -أحبتي في الله- لنعيش هذه الدقائق المعدودات مع هذا اليوم الكريم المبارك، وأنا أعلم يقيناً أن كثيراً من المسلمين لا يعلمون عن هذا اليوم إلا القليل القليل القليل، لماذا؟ لأن أعداء ديننا قد بذلوا كل ما يملكون، ليقطعوا الصلة بين المسلمين وبين تاريخهم المجيد المشرق، وذلك بتشويه حقائق التاريخ من ناحية، وبالحيلولة بين أبناء الأمة وأجيالها وبين حقائق التاريخ من ناحية أخرى، فنشأ جيل في فترة الاستغراب الطويلة الماضية، نشأ جيل لا يعرف عن إسلاميته ولا عن تاريخ فتوحاته ولا بطولاته وأمجاده شيئاً، في الوقت الذي يعرف فيه الكثير والكثير عن تاريخ الغرب، فقد تجد كثيراً من المسلمين يعرفون الكثير والكثير عن الثورة الفرنسية، أو عن الثورة البلشفية، ولا يعرفون إلا القليل عن غزوات خير البرية صلى الله عليه وسلم. فقد ترى الشاب في هذه الأيام قد يعرف نابليون، وقد يعرف إستالين، وقد يعرف غيرهم وغيرهم، وهو لا يعرف شيئاً عن صلاح الدين، ولا عن محمد بن مسلمة، ولا عن خالد بن الوليد، ولا عن عمرو بن العاص، ولا عن غيرهم من هؤلاء الأطهار الأبرار الأخيار، فتعالوا بنا -أحبتي في الله- لنعيش مع هذا اليوم، وإني لأرى أنه من الواجب علينا أن نعاود من جديد دراسة تاريخنا الإسلامي، وأن نقف عند حقائقه؛ لأن التاريخ قد شُوه وحُرف وبُدل، وأن نعلم أولادنا حقيقة وعظمة تاريخنا، وعظمة وبطولات أبطالنا ورجالنا وأطهارنا؛ لينشأ الجيل على سير هؤلاء الأطهار الأبرار، بدل أن يغذى على سير أولئك الأوباش والأنجاس.

نقض قريش لصلح الحديبية

نقض قريش لصلح الحديبية ما هي المقدمات لهذا النصر المبين؟ لقد كان من شروط صلح الحديبية أن من دخل في عقد قريش وعهدهم دخل، ومن أحب أن يدخل في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده دخل، فدخلت قبيلة بني بكر في عهد قريش وعقدهم، ودخلت قبيلة خزاعة في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده، ولما طالت الهدنة بين الفريقين استغلت قبيلة بني بكر هذه الهدنة، وأرادت أن تنتقم وأن تثأر من قبيلة خزاعة لتحصل لها ثأراً قديماً بينها وبينها، فهاجمت قبيلة بني بكر قبيلة خزاعة على ماء لهم يسمى: الوتير، وأعملوا فيهم السيوف، وغدروا بهم، وقتلوا منهم عدداً كبيراً. ولما لم تكن قبيلة خزاعة مستعدة لقتال ولا لحرب، فرت إلى البيت الحرام، ومن المعلوم عندهم أنه من دخل المسجد الحرام رفع عنه السيف، حتى ولو كان قاتلاً لأب الذي يحمل السيف وهو يريد أن يقتله، وبالرغم من ذلك لم تراعِ قريش حرمةً للبيت، ولم تراعِ قبيلة بني بكر حرمة للبيت كذلك، بل وأمدت قريش قبيلة بني بكر بالسلاح، ومنهم من قاتل في صفوف بني بكر مستخفياً بالليل. ولما جاءت قبيلة بني بكر بقيادة رئيسهم نوفل بن معاوية الديلي، وأرادوا أن يقتحموا المسجد الحرام على خزاعة، قال له بعض العقلاء من قبيلته: يا نوفل! إنهم دخلوا المسجد الحرام، إلهك إلهك يا نوفل! فقال هذا الرجل قولة خبيثة، قال: لا إله له اليوم، ثم قال لقبيلته بني بكر: فلعمري يا بني بكر إنكم لتسرقون في الحرم، أفلا تأخذون فيه ثأركم؟! ودخلوا عليهم الحرم وقاتلوهم فيه، وهنا انطلق عمرو بن سالم الخزاعي -رئيس قبيلة خزاعة- انطلق إلى المدينة المنورة مسرعاً، إلى محمد صلى الله عليه وسلم، حتى دخل المسجد على رسول الله فرأى النبي جالساً بين أصحابه، فوقف عمرو بن سالم الخزاعي على رأس النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يارب إني ناشد محمدا حلف أبينا وأبيه الأتلدا إن قريشاً أخلفوك الموعدا ونقضوا ميثاقك المؤكدا قد بيتونا بالوتير هجدا وقتلونا ركعاً وسجدا فانصر هداك الله نصراً أبدا وادع عباد الله يأتوا مددا فيهم رسول الله قد تجردا أبيض مثل البدر يسمو صعدا يا لها من بلاغة عجيبة! فقال له النبي: (نصرت يا عمرو بن سالم) وإن كان الحديث قد رواه ابن إسحاق في السير بغير سند إلا أن الطبري قد وصله بإسناد ضعيف.

اعتراف قريش بالخطأ وإرسال أبي سفيان إلى المدينة

اعتراف قريش بالخطأ وإرسال أبي سفيان إلى المدينة وأدركت قريش خطأها، نقضت العهد وخفرت الذمة، فلما أدركت الخطأ بعد فوات الأوان، أرسلت أبا سفيان بن حرب -سيد الحرب وقائد الميدان- إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، أرسلته ليعيد للعقد الذي أهدرت كرامته، ليعيد إليه قوته وحرمته، وليعتذر لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما بدر من قريش، إلا أن الأوان قد فات وانتهى، فذهب أبو سفيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكلمه فلم يرد عليه النبي شيئاً، فترك أبو سفيان الحبيب صلى الله عليه وسلم وذهب إلى أبي بكر ليشفع له عند رسول الله، فقال الصديق: والله ما أنا بفاعل، فترك أبو سفيان أبا بكر وذهب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليشفع له عند رسول الله، فقال عمر: أنا أشفع لكم عند رسول الله! والله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به. فترك أبو سفيان عمر وذهب إلى علي فقال: يا علي! أنت أكثر الناس صلة بي ورحماً لي، فاشفع لي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال علي: ويحك يا أبا سفيان! والله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عزم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه، ارجع. فرجع أبو سفيان يجر أذيال الخيبة والفشل، وعلم يقيناً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عزم على أمر وسوف يباغتهم في مكة في أي لحظة من لحظات الليل أو النهار، وقيد الرعب أم القرى، وعلمت مكة أنها قد أخطأت خطأً كبيراً في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الرسول يأمر بالاستعداد لفتح مكة في سرية تامة

الرسول يأمر بالاستعداد لفتح مكة في سرية تامة وهنا أمر النبي الناس بالجهاز، وبإعداد العدة للجهاد في سبيل الله وللخروج للغزو، إلا أنه لم يخبر أحداً أين سيكون المسير اليوم، حتى أن الصديق دخل على عائشة رضي الله عنها، فرآها تعد الجهاز لرسول الله، فقال لها: أي بنية! هل أمركن رسول الله بتجهيزه؟ قالت: نعم، فقال الصديق: فإلى أين ترينه يريد، قالت: والله ما أدري. ولما تجمع الناس واستنفر الرسول الناس جميعاً والمسلمين خارج حدود المدينة المنورة، وتجمع في المدينة عشرة آلاف رجل موحد لله جل وعلا عشرة آلاف موحد بقيادة من؟! بقيادة سيد القادة وإمام الهدى محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وهنا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم القوم أنه سائر إلى مكة شرفها الله، وأمرهم أمراً جازماً أن يكتموا الخبر وأن ينطلقوا في سِرِّية تامة، وبالفعل -أيها الأحباب- انطلق المسلمون ينفذون أوامر النبي صلى الله عليه وسلم بمنتهى الدقة، حتى أنه قد ورد في حديث ضعيف أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الله، وقال: (اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها).

قصة حاطب ورسالته إلى مكة

قصة حاطب ورسالته إلى مكة إلا أنه قد وقع حادث عجيب غريب، من صحابي جليل، ممن لهم السبق في جهاد الكفار والمشركين، إنه حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه ماذا فعل حاطب؟ اسمعوا أيها الأحباب! لتعلموا أن الرجل الكبير قد يقع وقد يمر عليه وقت يصغر فيه، وقد يهلك لولا فضل الله ورحمته، حاطب بن أبي بلتعة صحابي جليل ممن شهدوا بدراً، وقع في خطأ كبير متأولاً، كما قال الحافظ ابن حجر ما هو خطؤه؟ أمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس أن يكتموا الخبر، وأن يخرجوا في سرية تامة، ليدخل مكة بدون أدنى قتال، لا يريد أن يسفك دماً في بلد الله الحرام، إلا أن حاطباً رضي الله عنه وغفر الله له، قد تطوع بإرسال كتاب إلى قريش يخبرهم فيه بخروج رسول الله إليهم، إلا أن من يسمع ويرى دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء، من لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، أخبر رسوله بكتاب حاطب، واستدعى النبي على الفور علياً والزبير والمقداد وأخبرهم بخبر كتاب حاطب بن أبي بلتعة، بل وحدد لهم النبي المرأة التي أعطاها حاطب الكتاب لتوصله إلى قريش، نظير مكافأة لها على توصيله، وحدد لهم النبي مكانها على الطريق إلى مكة شرفها الله. والحديث رواه البخاري ومسلم من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (بعثني رسول الله أنا والزبير والمقداد -أي: المقداد بن الأسود - وقال لنا: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ -اسم المكان الذي سيجدون فيه المرأة- فإن بها ضعينة -والضعينة هي المرأة في الهودج- معها كتاب فخذوه منها، يقول علي: فانطلقنا تعادى بنا خيلنا -أي: تسابق خيلنا الرياح- حتى وصلنا وأتينا روضة خاخ، فإذا نحن بالضعينة، فقلنا لها: أخرجي الكتاب! قالت: ما معي من كتاب! وفي رواية غير رواية الصحيحين: أنهم فتشوا الهودج فلم يجدوا فيه شيئاً، فقال علي: والله ما كذب رسول الله، والله لتخرجن الكتاب أو لنجردنك من الثياب، فلما رأت المرأة منهم الجد قالت له: أعرض. يا سبحان الله! فأعرض علي رضي الله عنه، فحلت المرأة قرون رأسها -أي: ضفائر رأسها- فأخرجت من رأسها كتاب حاطب رضي الله عنه، فدفعته إلى علي بن أبي طالب، فانطلقوا مسرعين حتى أتوا به رسول الله في المدينة، ففتحه فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى بعض الناس في قريش، يخبرهم فيه ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وخروجه إليهم. فاستدعى النبي حاطباً رضي الله عنه وقال: ما هذا يا حاطب؟ قال: لا تعجل عليَّ يا رسول الله! فوالله ما فعلت ذلك كفراً ولا ارتداداً عن ديني ولا رضاً بالكفر بعد الإيمان، ولكني ما فعلت ذلك إلا لأنني أردت أن أقدم لي يداً في مكة يحمون بها قرابتي بعد ذلك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما إنه قد صدقكم. فقال عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: إنه شهد بدراً، وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فإني قد غفرت لكم. وفي رواية: فذرفت عينا عمر رضي الله عنه وقال: الله ورسوله أعلم). وهكذا -أيها الأحباب- غفر لـ حاطب ماضيه المشرف في قتال المشركين والمنافقين، بل وأمر النبي الناس ألا يذكروا حاطباً إلا بما فيه من خير، وهنا تتجلى وتتألق عظمة ورحمة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، فإنه ما كان قط عوناً للشيطان على أصحابه، بل والله ما جاء إلا عوناً لهم على الهدى والتقى والجنة. وهكذا أخذ الله العيون والأخبار؛ فلم يصل خبر إلى قريش، وبدأ الجيش الزاحف يتحرك من المدينة بقيادة المصطفى صلى الله عليه وسلم.

من لطيف ما حدث للنبي صلى الله عليه وسلم في طريق مكة

من لطيف ما حدث للنبي صلى الله عليه وسلم في طريق مكة ومن الطرائف العجيبة واللطائف الجميلة التي حدثت للنبي في طريقه ما يلي: لقي النبي في الطريق إلى مكة عمه وابن عمه وابن عمته مسلمين لله جل وعلا، لقيه في الطريق عمه العباس بأهله وعياله مهاجراً مسلماً لله جل وعلا، ففرح النبي بعمه العباس فرحاً شديداً، ولقيه ابن عمه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم، وهو يختلف عن أبي سفيان صخر بن حرب زعيم قريش وقائدهم في غزوة أحد والخندق؛ حتى لا يحدث لبس كما سنرى بعد ذلك لقيه ابن عمه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم، ولقيه ابن عمته عبد الله بن أبي أمية، فأعرض عنهما النبي عليه الصلاة والسلام لشدة ما لقي منهما من الأذى، ومرير ولاذع الهجاء في مكة المكرمة. فقالت أم سلمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! لا يكن ابن عمك وابن عمتك أشقى الناس بك. إلا أن النبي قد أعرض عنهما صلى الله عليه وسلم، فذهب أبو سفيان بن الحارث إلى علي بن أبي طالب واستشاره ماذا يفعل؟ والله ما جاء إلا مسلماً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض عنه أتدرون ماذا قال علي الذكي العبقري؟ قال له: يا أبا سفيان! اذهب إلى رسول الله من قبل وجهه، من بين يديه، وقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف: {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف:91] فإن رسول الله لا يقبل أن يكون أحد أحسن منه قولاً، وأخذ أبو سفيان النصيحة الغالية من علي رضي الله عنه، وانطلق مسرعاً إلى رسول الله بين يديه من قبل وجهه، وقال: تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين، فنظر إليه النبي قائلاً: (لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين) والحديث رواه ابن جرير الطبري، ورواه الحاكم في المستدرك وقال: صحيح على شرط الشيخين، وأقره الإمام الذهبي، إلا أن الحديث حسن.

وصول النبي صلى الله عليه وسلم إلى مشارف مكة

وصول النبي صلى الله عليه وسلم إلى مشارف مكة ووصل النبي صلى الله عليه وسلم بجيشه الجرار إلى مشارف مكة في وقت العشاء -اسمعوا إلى التكتيك العسكري، اسمعوا إلى هذه الخطط التي كان أول من وضعها أعظم قائد عرفته ميادين القتال محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم- فلما وصل النبي إلى مشارف مكة أعاد تنظيم صفوف الجيش، وأمر الجيش أن يوقدوا النيران؛ فأشعلت عشرة آلاف نار على مشارف مكة، ونظم النبي الصفوف مرة أخرى، فأمر خالد بن الوليد أن يدخل إلى مكة من الجنوب، وأمر الأنصار بقيادة سعد بن عبادة أن يدخلوا مكة من جهة الغرب، وأمر المهاجرين بقيادة أبي عبيدة بن الجراح أن يدخلوا مكة من جهة الشمال، وحدد لهم ملتقى عند جبل هند قبل أن يدخلوا المسجد الحرام؛ لتلتقي الجيوش جميعاً مرة أخرى ليترأس القيادة من جديد سيد القادة محمد صلى الله عليه وسلم.

خروج العباس إلى حدود مكة وإسلام أبي سفيان

خروج العباس إلى حدود مكة وإسلام أبي سفيان وخرج العباس يركب بغلة النبي البيضاء، وذهب إلى مشارف وحدود مكة لعله يجد حطاباً أو يجد رجلاً يذهب إلى قريش ليخرجوا يستأمنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يدخل عليهم مكة عنوة. يقول العباس عم الحبيب صلى الله عليه وسلم: فسمعت -والله- صوت أبي سفيان وبديل بن ورقاء يتراجعان ويتكلمان وهذا أبو سفيان بن حرب سيد مكة وزعيمهم في أحد والخندق، وهو يختلف عن أبي سفيان بن الحارث الذي ذكرت آنفاً. يقول العباس: سمعت أبا سفيان وبديل بن ورقاء يتراجعان، يقول أبو سفيان: والله ما رأيت نيراناً ولا عسكراً قط مثل هذه أبداً. فيرد عليه صاحبه بديل بن ورقاء ويقول له: إنها قبيلة خزاعة التي اعتدينا عليها قبل ذلك، إنها خزاعة حمشتها الحرب. فيقول أبو سفيان الذكي العبقري: لا والله إن خزاعة أذل وأقل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها. إنه رجل حرب ورجل ميدان. يقول العباس: فعرفت صوت أبي سفيان فقلت: أبا سفيان. فعرف أبو سفيان صوت العباس فقال: أبا الفضل. فقال العباس: نعم. فقال: مالك بأبي أنت وأمي. فقال له العباس: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجيش، واصباح قريش والله! فقال أبو سفيان: فما العمل فداك أبي وأمي؟! قال: والله لو أدركك رسول الله ليضربن عنقك، فاركب معي لأستأمن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فركب أبو سفيان بغلة رسول الله خلف العباس وباختصار حتى لا أطيل أسلم أبو سفيان في اليوم التالي، ولكن العباس يعرف نفسية أبي سفيان، فقال: يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئاً. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (نعم. من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل بيته وأغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن) والحديث صحيح، وفي رواية مسلم: (ومن ألقى سلاحه فهو آمن).

مرور الجيش على أبي سفيان ورجوعه إلى قومه

مرور الجيش على أبي سفيان ورجوعه إلى قومه إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم دبر خطة نفسية بارعة لقائد قريش أبي سفيان، فلما انطلق العباس قال له النبي: (يا عباس، اجعل أبا سفيان في مضيق الوادي حتى يرى جند الله وهي تمر عليه) ففعل العباس ما أُمر به، وجعل أبا سفيان في مضيق الوادي، وجعلت القبائل براياتها تمر عليهما، كلما مرت قبيلة برايتها سأل أبو سفيان العباس، حتى مر عليه النبي صلى الله عليه وسلم في قبيلته وفي كتيبته الخضراء من المهاجرين والأنصار، وقد غطتهم الدروع لا يرى منهم إلا الأعين، فسأل أبو سفيان وقال: من هؤلاء يا عباس؟ فقال العباس: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء من المهاجرين والأنصار. فوقع الرعب في قلب أبي سفيان وقال: والله ما لهؤلاء اليوم قبل ولا طاقة. فقال له العباس: نعم. فقال أبو سفيان: يا عباس، والله لقد أصبح اليوم ملك ابن أخيك عظيماً. قال: إنها النبوة يا أبا سفيان. فقال أبو سفيان: نعم. فقال العباس: النجاة النجاة إلى قومك. فانطلق أبو سفيان يسابق الريح إلى قومه، وإذا بأهل مكة يرون الجيش الزاحف يقترب رويداً رويداً، وتجمع الفرسان من الشباب والأبطال ينتظرون الأوامر من قادتهم وسادتهم، وإذ بهم يرون قائد القتال وسيد الميدان أبا سفيان يرجع بوجه آخر، فيصرخ فيهم أبو سفيان -وقد نجحت خطة النبي صلى الله عليه وسلم النفسية نجاحاً باهراً- فقال: يا معشر قريش! والله لقد جاءكم محمد بما لا قبل لكم به ولا طاقة، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن. فوثبت إليه زوجته هند بنت عتبة آكلة اللحم والكبد، وأمسكت بشارب زوجها وصرخت في قومها وقالت: اقتلوا الحميت الدسم الأحمش الساقين، قبحت يا أبا سفيان من طليعة قوم اليوم. فنظر إليها ولم يلتفت إلى سبابها، فإن الساعة ليست ساعة مراجعة، وقال: لا تغرنكم هذه من أنفسكم، والله لقد جاءكم محمد بما لا قبل لكم به ولا طاقة، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن. قالوا: قاتلك الله يا أبا سفيان! وما تغني عنا دارك يا رجل؟ قال -وتذكر ما أخبر به النبي-: ومن دخل بيته وأغلق عليه داره فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن، وفي رواية مسلم: ومن ألقى السلاح فهو آمن.

جيش الفتح بقيادة المصطفى يدخل مكة

جيش الفتح بقيادة المصطفى يدخل مكة وانطلق الناس، وخلت مكة من كل أحد إلا في البيوت، وفي بيت الله الحرام، وخلت الشوارع والطرقات، وتقدم الجيش الزاحف بقيادة المصطفى صلى الله عليه وسلم حتى دخل النبي مكة، ولما اقترب النبي من المسجد الحرام أحنى رأسه تواضعاً وتخشعاً وشكراً وذلاً لله جل وعلا، ولقد مر بذاكرته شريط طويل من الأحداث إنه اليوم يدخل مكة فاتحاً يتذكر يوم أن وضع التراب على رأسه هنا بالأمس القريب، وتذكر يوم أن خنق وكاد أن يموت بين أيديهم بالأمس القريب، وتذكر أصحابه الذين حنت لهم رمال مكة وصخورها لما لاقوا من العذاب الشديد، وتذكر أصحابه الذين بذلوا دماءهم وأرواحهم وقد حرموا اليوم من هذا المشهد الجديد، وتذكر أصحابه وهم يخرجون إلى الحبشة في هجرة متكررة، وتذكر نفسه وهو يخرج إلى الطائف ويرجع وقد أدميت قدماه، وتذكر يوم أن خرج إلى المدينة مهاجراً فاراً بدينه، وتذكر يوم أن كان وحده في مكة يقول: لا إله إلا الله، ها هو اليوم يدخل مكة بعشرة آلاف يقولون: لا إله إلا الله. أي كرامة هذه التي يتوج بها الحبيب في هذا الصباح الميمون؟! أي نعمة هذه التي يمتن الله بها على الحبيب في هذا الصباح الكريم المبارك؟ ويدخل الحبيب المسجد وفي يده قوس، يدخل في وسط كوكبة من المهاجرين والأنصار، يحيطون به كما تحيط الكواكب بالقمر في ليلة البدر، ويدخل الحبيب وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً، وبيد النبي قوس يطعن به هذه الأصنام؛ فتخر الأصنام على وجوهها بين يديه، وهو يتلو قول الله جل وعلا: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء:81] والحديث رواه البخاري وغيره. واستدعى النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن طلحة، فأخذ منه مفتاح الكعبة، ففتح النبي ودخل الكعبة من داخلها، فوجد صوراً، ووجد من بين هذه الصور صورة لإبراهيم وإسماعيل وهما يستقسمان بالأزلام، فقال: (قاتلهم الله! والله ما استقسما بالأزلام قط) والحديث رواه البخاري ومسلم فأمر النبي فمحيت الصور، وكسر النبي الأصنام بيده داخل الكعبة، وأغلق عليه باب الكعبة، وعلى أسامة وبلال، وصلى لله بداخل البيت.

النبي صلى الله عليه وسلم يصدر العفو العام عن قريش

النبي صلى الله عليه وسلم يصدر العفو العام عن قريش وفتح الباب مرة أخرى وخرج فوجد قريشاً قد ملأت بيت الله الحرام، ينتظرون ماذا يفعل فيهم اليوم إمام الرحمة وينبوع الحنان صلى الله عليه وسلم. فخرج إليهم النبي عليه الصلاة والسلام، ونظر إليهم وقد وجمت الأبصار وشخصت، وصمتت الأنفاس، ونظروا إلى الحبيب صلى الله عليه وسلم، فقال الحبيب: (لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، يا معشر قريش! إن الله تعالى قد أذهب عنكم عبِّية الجاهلية وتعاظمها بآبائها، كلكم لآدم وآدم من تراب {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13] ثم قال: يا معشر قريش! ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم، فقال الحبيب: لا تثريب عليكم اليوم، اذهبوا فأنتم الطلقاء). والحديث أخرجه ابن إسحاق وأبو داود وابن ماجة والنسائي والدارقطني، وفي سنده علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف، ولكن حديثه حسن بالشواهد، ويشهد للحديث حديث أبي هريرة في مسند الإمام أحمد، فالحديث حسن بشواهده إن شاء الله تعالى. هذه هي رحمة الحبيب صلى الله عليه وسلم اليوم، كما قال سعد بن عبادة حينما مر عليه أبو سفيان، قال: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل فيه الحرمة، اليوم أذل الله فيه قريشاً. فلما بلغ ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا. اليوم يوم تعظم فيه الكعبة، اليوم يوم أعز الله فيه قريشاً). صلى الله وسلم وبارك على إمام الهدى ونهر الرحمة وينبوع الحنان، وأسأل الله جل وعلا أن يجزيه عنا خير ما جزى نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

بعض ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم الثاني

بعض ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم الثاني الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنه واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الأحبة: وهكذا أعز الله دينه، ونصر عبده، واستنقذ بيته الحرام وبلده الأمين من أيدي الكفار والمشركين. وفي اليوم التالي وقف صلى الله عليه وسلم خطيباً في قريش، فحمد الله وأثنى عليه ومجده بما هو أهله، ثم قال: (يا معشر الناس! إن مكة حرمها الله يوم خلق السماوات والأرض، فهي حرام بحرمة الله لها إلى يوم القيامة، ولا يحل لامرئ أن يسفك فيها دماً، فإن ترخص أحد بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقولوا: إن الله قد أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما حلت لي ساعة من نهار، وإن حرمتها تعود اليوم كحرمتها بالأمس، ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب) والحديث رواه البخاري ومسلم. ودعا النبي بعد ذلك على الصفا فوقف بعض الأنصار الأطهار الأبرار الأخيار وحزنوا، ودب الرعب والخوف في قلوبهم في يوم الفرح، لماذا؟ لقد خاف الأنصار أن يبقى النبي في مكة ولا يرجع معهم مرة أخرى إلى المدينة، ولما أنهى النبي الدعاء ورآهم يتهامسون، نزل وقال: ماذا تقولون؟ قالوا: لا شيء يا رسول الله! قال: ماذا تقولون؟ قالوا: لا شيء يا رسول الله! فما زال النبي بهم حتى أخبروه. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (معاذ الله! بل المحيا محياكم، والممات مماتكم أيها الأنصار) والحديث رواه مسلم وغيره.

بلال يؤذن للصلاة على ظهر الكعبة

بلال يؤذن للصلاة على ظهر الكعبة أيها الأحباب: ولما حان أول وقت للصلاة أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً أن يرتقي على ظهر الكعبة، ذلكم العبد الأسود الذي كان يعذب على رمال مكة، ويحمل صخورها ملتهبة على صدره بالأمس القريب، هاهو اليوم يرتقي على ظهر الكعبة، وتشخص إليه الأبصار، وتنقطع الأنفاس، وتنحدر الدمعات كحبات اللؤلؤ على وجوه الموحدين، وتبكي الكعبة فرحاً لشروق شمس التوحيد الجديدة، ويخشع الجو ويصمد المكان ما هذا؟ هل هذا حلم؟! رسول الله مع عشرة آلاف موحد في مكة، سيروي الموحدون اليوم ظمأهم من ماء زمزم، سيمتع الموحدون اليوم نظرهم بالنظر إلى بيت الله هل هذا حلم؟ كلا! إنها الحقيقة تتألق كتألق الشمس في رابعة النهار. ويقطع هذه المشاعر المتداخلة صوت ندي رخيم عذب جميل، إنه صوت الحق، صوت بلال بن رباح رضي الله عنه وأرضاه، وهو يرفع صوته بكلمة التوحيد، وبالتكبير لله جل وعلا الله أكبر الله أكبر! الله أكبر الله أكبر! أشهد أن لا إله إلا الله نعم. فلقد سقطت اليوم كل الآلهة المزعومة المكذوبة، ذهبت وكانت بالأمس القريب تعبد من دون الله، تحطمت اليوم على يد نبي التوحيد صلى الله عليه وسلم، نسأل الله أن يحطم الطواغيت والأصنام على أيدي أبناء الموحدين، إنه ولي ذلك ومولاه. ولكن تحطمت الأصنام ونكست رءوس هذه الآلهة المكذوبة على يد من؟ من الإمام؟ من القائد؟ من الطليعة الخيرة؟ من الهادي إلى الحق؟ يجيب بلال: أشهد أن محمداً رسول الله، صلى الله وسلم وبارك عليه، ونسأل الله جل وعلا أن يجزيه عنا خير ما جزى نبياً عن أمته، وأن يجزي عنا أصحابه الأخيار الأطهار الأبرار الذين أوصلوا إلينا الإسلام على جماجمهم، وعلى أرواحهم وعلى دمائهم وأشلائهم، فنسأل الله أن يقيض للأمة اليوم من يعيد للإسلام مجده، ومن يعيد للإسلام عزه، ومن يعيد للإسلام رايته خفاقة عالية، كما تركها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خفاقة عالية. وأكتفي بهذا القدر من أحداث فتح مكة، وأسأل الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم أهلاً لنصرة الإسلام وعز المسلمين، إنه ولي ذلك ومولاه، وهو على كل شيء قدير. اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأعلِ بفضلك كلمة الحق والدين، اللهم قيض لأمة التوحيد أمر رشد، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، أنت ولي ذلك والقادر عليه. اللهم اجعل جمعنا هذا في هذا اليوم الكريم المبارك جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل اللهم فينا شقياً ولا محروماً، اللهم لا تدع لأحد منا في هذا الجمع الطيب ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً بيننا إلا شفيته، ولا ديناً على أحد منا إلا أديته، ولا هماً إلا فرجته، ولا طائعاً إلا ثبتَّه، ولا عاصياً إلا هديته، ولا حاجة هي لك رضىً ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ويسرتها يا رب العالمين، اللهم تقبل منا صيامنا وقيامنا وصالح أعمالنا، اللهم تقبل منا الصيام والقيام وصالح الأعمال، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا.

الهمز واللمز وسوء الظن والغيبة

الهمز واللمز وسوء الظن والغيبة إن أي مجتمع لا يسلم من الآفات التي قد تكون سبباً في كثير من الفوضى والنزاعات والتفرق في المجتمع، ولذلك اهتم الإسلام بعلاج هذه الآفات، وذلك بذكرها والتحذير منها وتشديد العقوبة على فاعلها؛ حتى يعيش المجتمع الإسلامي في أمن وأمان وألفة واطمئنان.

آفات المجتمعات

آفات المجتمعات إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: ما زلنا نطوف بحضراتكم في رحاب سورة الحجرات، سورة التربية والأخلاق، وما زلنا نعيش مع هذه القواعد التشريعية العظيمة التي وضعها العليم الخبير جل وعلا؛ لصيانة المجتمع الإسلامي من التمزق والتشتت والتفكك والضغائن والأحقاد. وما زلنا في رحاب هذه القاعدة العظيمة العريضة الكبيرة، ألا وهي: تعظيم حرمات المسلمين في المجتمع الإسلامي، وقلنا: بأنه لن تعظم حرمات المسلمين في المجتمع الإسلامي إلا إذا طهر المجتمع من ستة أمراض أو آفات، هذه الأمراض وتلك الآفات هي: 1/ السخرية. 2/ اللمز. 3/ التنابز بالألقاب. 4/ سوء الظن. 5/ التجسس. 6/ الغيبة. ولقد تحدثنا في اللقاء الماضي بفضل من الله جل وعلا عن الآفة الأولى بالتفصيل ألا وهي: السخرية.

اللمز

اللمز أما اللمز فهو: عيب الغير باليد واللسان والعين والإشارة الخفية وغير ذلك. والهمز: لا يكون إلا باللسان فقط لقول الله تعالى: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم:10 - 11] فاللمز: يكون باليد وبالعين وباللسان وبالإشارة أما الهمز فلا يكون إلا باللسان فقط. واللمز -أيها الأحباب- آفة ومرض، وسبب من أسباب انتشار الحقد والضغائن في القلوب بين المسلمين، فمن حق المسلم على المسلم ألا يسخر من أخيه بيده، أو لسانه، أو عينه، أو حتى بالإشارة الخفية. ولذلك يلفت الله القلوب النقية، والعقول الذكية في هذا النهي فيقول: {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} [الحجرات:11] لأن المؤمنين جميعاً كالجسد الواحد، إن اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، أي: إن المؤمن إذا لمز أخاه فكأنما لمز نفسه؛ لأن المؤمنين جميعاً نفس واحدة، قال الله تعالى: {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} [الحجرات:11].

التنابز بالألقاب

التنابز بالألقاب والتنابز بالألقاب معناه: أن يسمي المسلم أخاه بالأسماء والألقاب والكنى التي لا يحبها، والتي يكرهها وتؤذيه، فمن أدب المؤمن ألا يسمي أخاه إلا بالاسم الذي يحبه، وألا يلقبه إلا باللقب الذي يتمناه، وألا يكنيه إلا بالكنية التي يرتاح إليها قلبه. ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قد لقب أبا بكر بـ الصديق، ولقب عمر بـ الفاروق، ولقب عثمان بـ ذي النورين، ولقب حمزة بـ أسد الله، ولقب خالداً بـ سيف الله وهكذا. فلا يجوز لمسلم أن ينادي أخاه المسلم إلا بالاسم الذي يحبه، وباللقب الذي يريده، وبالكنية التي يحبها ويطمئن قلبه إليها، ((وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ)) [الحجرات:11]. وبعد ذلك -أيها الأحباب- يقول ربنا جل وعلا: {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ} [الحجرات:11] أي: إن خروج المسلم من طاعة الله إلى معصيته فسوق، وبئس الاسم أن يسمى الرجل فاسقاً بعد الإيمان، لذا قال الله جل وعلا: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ} [الحجرات:11] أي: ومن لم يتب من هذه الآفات والأمراض التي نهى الله عنها فإنما هو ظالم لنفسه لوقوعه فيما نهى الله عنه، {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات:11] وبهذا تكتمل الآية الأولى. يقول الله ربنا جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات:11].

سوء الظن

سوء الظن تأتي الآية الأخرى لتضع ولتقيم سياجاً آخر في هذا المجتمع الإسلامي النظيف النقي، الذي يقيمه الإسلام بهدي القرآن، فيقول ربنا جل وعلا في الآية التي تليها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [الحجرات:12] إنه النداء المحبب إلى القلوب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} أصغ السمع، وافتح القلب، فإن النداء من اللطيف العليم الخبير جل وعلا، إنما هو خير ستؤمر به أو شر ستنهى عنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:12]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ} [الحجرات:12] هكذا أيها الأحباب! يطهر القرآن الضمائر من الهواجس والظنون والشكوك والريب، لماذا؟ {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12] وهكذا يدع القرآن القلوب نقية نظيفة طاهرة هادئة صافية، لا يعكر صفوها قلق أو غم أو شك، لذلك حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الظنون القبيحة والسيئة، فقال في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث). الظن السيئ لا يجوز بأهل الخير والفضل، كما قال الإمام القرطبي في الجامع لأحكام القرآن قال: (ولقد أجمع كثير من العلماء على أن الظن السيئ لا يجوز بأهل الخير)، أو على حد تعبير الإمام القرطبي: أكثر العلماء على أنه لا يجوز الظن القبيح بأهل الخير، ولا حرج بالظن السيئ بأهل السوء وأهل الفساد، أي: لمن جهر بمعصيته وفسقه بين الناس. وقال بعض السلف: الظن الذي نهى الله جل وعلا عنه هو: أن تظن بأهل الخير من المؤمنين شراً وسوءاً. ولذلك -أيها الأحباب- أغتنم هذا الدرس لأذكر نفسي وإياكم بهذا المرض الذي استشرى في مجتمعنا في هذه الأيام، ألا وهو الظن السيئ بكثير من علمائنا ودعاتنا، ووالله يجب على كل مسلم ألا يظن بعلماء ودعاة الأمة إلا خيراً، فإن لحوم العلماء والدعاة مسمومة، فلقد أباح كثير من الناس لنفسه في هذه الأيام الخوض في لحوم العلماء والدعاة، وظن المسكين أنه أعلم بالأمور وأفقه بها من العلماء والدعاة، لا. أغلق على نفسك هذا الباب، ولا تظن أنك أعلم بالأمور من علماء الأمة ودعاتها، فينبغي أن تظن بعلمائك خيراً، وأن تظن بدعاة الأمة خيراً؛ لأنهم ورثة الأنبياء، وهم أخشى الناس لله جل وعلا: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11] فإياك إياك أن تظن بالعلماء سوءاً. بل ينبغي أن تدعو الليل والنهار لعلمائك، اللهم بارك في علمائنا وثبتنا وإياهم على الحق، وارزقنا وإياهم حسن الخاتمة أنت ولي ذلك ومولاه. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ} [الحجرات:12] وفي الحديث -أيها الأحباب- الذي ذكرته آنفاً (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث) درس مهم جداً، الله جل وعلا نهى عن كثير الظن؛ لأن بعض الظن إثم، خشية أن تقع في هذا القليل.

التجسس

التجسس يقول ربنا جل وعلا: {وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات:12] يا له من مبدأ عظيم! ويا له من مبدأ خطير وضعه الإسلام قبل أن تتغنى الدول المتحضرة بذلك كله الإسلام وضع هذا المنهج من مئات السنين: {وَلا تَجَسَّسُوا}. إن للمسلمين في المجتمع الإسلامي حرياتهم وحرماتهم وكراماتهم التي لا يجوز بصورة من الصور أن تنتهك، ولا يجوز بحال من الأحوال أن يعتدى عليها؛ لأن التجسس -أيها الأحباب- هو الحركة العملية التالية للظن، فإذا ظن المؤمن بأخيه شراً تاقت نفسه وتشوقت إلى أن يتجسس على حاله. والتجسس هو: انتهاك لحرمات المسلمين والآخرين، ويأتي القرآن الكريم ليشدد في النكير على هذا المرض الخبيث اللئيم {وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات:12] إن للمسلمين حرياتهم إن للمسلمين كراماتهم إن للمسلمين عوراتهم ولا يجوز بحال من الأحوال أن نتخطى هذه الستور والحدود لنصل إلى ما لا يظهر لنا، بل أظهروا لنا أحسن أعمالكم والله أعلم بالسرائر، نحن لا نحكم على القلوب، ولا نشق عن البطون، وإنما يجب على كل مسلم أن يحكم على أخيه بما ظهر له من قوله وفعله. وفي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: (بعث علي بن أبي طالب بذهيبة -أي: بقطعة صغيرة من الذهب- وهو في اليمن إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقسمها النبي صلى الله عليه وسلم بين أربعة، فقال رجل منهم -وكأنه لم تعجبه قسمة رسول الله صلى الله عليه وسلم-: اتق الله يا رسول الله! فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ويلك أولست أحق أهل الأرض أن يتقي الله؟! ثم ولى الرجل، فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: يا رسول الله! ألا أضرب عنقه؟ قال: لا. لعله أن يكون يصلي، فقال خالد بن الوليد: فكم من مصلٍ يقول بلسانه ما ليس في قلبه -أتدرون ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم؟ - قال عليه الصلاة والسلام: إني لم أؤمر أن أنقب قلوب الناس ولا أن أشق بطونهم). نحن لنا الظاهر، لا نتجسس، ولا نعطي لأنفسنا الحق أن نبحث عما وراء الستور والحدود: (إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس، ولا أشق بطونهم). وفي الحديث الذي رواه الإمام أبو داود في سننه ورواه الإمام أحمد في مسنده وصححه شيخنا الألباني في صحيح الجامع من حديث أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال واسمعوا إلى هذا البيان الذي يخلع القلوب من الصدور، قال صلى الله عليه وسلم: (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه! لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته) اللهم سلمنا وإياكم، وهذا هو محل الشاهد في الحديث أيها الأحباب: (ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من تتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته) وفي رواية أخرى: (يفضحه الله في جوف بيته) في قعر داره يفضحه الله جل وعلا. الذي يتجسس على إخوانه ويتتبع عوراتهم فإن الله جل وعلا آجلاً أو عاجلاً إن لم يرجع ولم يتب إلى الله تبارك وتعالى سيفضحه في قعر داره وجوف بيته: {وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات:12].

الغيبة

الغيبة وبعد ذلك -أيها الأحباب- فإني لا أريد أن أتوقف طويلاً مع هذه الآفات، لنقف طويلاً بعض الشيء مع هذه الآفة الكبرى، ومع هذا المرض السرطاني الخطير المدمر الذي استشرى في مجتمعات المسلمين، والله إنه مرض خطير وقع فيه كثير من الأخيار والأطهار، وقلَّ من وقع فيه وعوفي منه، ووقع فيه من وقع من العلماء والدعاة وطلبة العلم فضلاً عن عامة الناس، ووالله لا نبرئ أنفسنا منه والله لا نبرئ أنفسنا منه. إنه مرض خطير وقعنا فيه بعمد أو بغير عمد، بقصد أو بغير قصد، ألا وهو الغيبة، الغيبة فاكهة المجالس أيها الناس، الغيبة ذلكم المرض السرطاني المدمر الذي استشرى واستفحل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. أتدرون ما الغيبة؟ سأل النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه هذا السؤال، والحديث رواه مسلم من حديث أبي هريرة قال لهم الرسول عليه الصلاة والسلام: (أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال صلى الله عليه وسلم: ذكرك أخاك بما يكره، قيل: يا رسول الله! أفرأيت إن كان في أخي ما أقول، فقال صلى الله عليه وسلم: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته). لا إله إلا الله، غفرانك ربنا، غفرانك ربنا، كم زلت الألسنة، وكم كثر الكلام، وكم وقعنا في الغيبة، الغيبة: ذكرك أخاك بما يكره: (قيل: يا رسول الله! أفرأيت إن كان في أخي ما أقول، فقال صلى الله عليه وسلم: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته) والبهتان إثم ومعصية عظيمة ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. في الحديث الذي رواه أبو داود في السنن، ورواه البيهقي، ورواه الحافظ أبو يعلى، وقال الحافظ ابن كثير إسناده صحيح، أن ماعز بن مالك رضي الله عنه وقع في معصية الزنا، وذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليقول: (يا رسول الله! طهرني، يا رسول الله! طهرني) لأنهم كانوا يراقبون الله جل وعلا، من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ما قبضت عليه هيئة، ولا دولة، وإنما كان يراقب الله جل وعلا، لم يراقب القانون الوضعي الأعلى، وإنما راقب الحي الذي لا يموت. فلما وقع في الزنا ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بقدميه مختاراً طائعاً، فقال: [يا رسول الله! طهرني أقم عليَّ الحد]. فرده النبي صلى الله عليه وسلم مرة ومرة ومرة، فلما عاد ماعز رضي الله عنه، وأكد للنبي صلى الله عليه وسلم كبيرته وجريمته أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقام عليه الحد، ورجم ماعز بن مالك رضي الله عنه وأرضاه. وسمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلين يقول أحدهما للآخر: (ألم تر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تدعه نفسه حتى رجم رجم الكلب؟!) هكذا وقع في مجتمع الصحابة، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم كلامهما فسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى مر على جيفة حمار -أعزكم الله- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (أين فلان وفلان؟ فأقبلا إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فقال لهما: انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار، قالا: يغفر الله لك يا رسول الله! هل يؤكل هذا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أكلكما آنفاً من لحم أخيكما أشد من أكلكما من جيفة هذا الحمار) وقال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده إنه الآن في أنهار الجنة ينغمس فيها). لا إله إلا الله! كم لوثت أفواهنا بأكل لحوم إخواننا، وكم لوثت أسناننا بتمزيق أعراض إخواننا. وفي الحديث الذي رواه أبو داود وأحمد وصححه الألباني في صحيح الجامع، أن عائشة رضي الله عنها قالت: (قلت: يا رسول الله! حسبك من صفية كذا وكذا -تعني أنها قصيرة- فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال لها: يا عائشة! لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته) ما قالت إلا هذه الكلمة: (يا رسول الله! حسبك من صفية كذا وكذا -تعني أنها قصيرة- فغضب النبي صلى الله عليه وسلم) ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (لمزجته) أي: لغيرت لونه، وطعمه، ورائحته. في الحديث الذي رواه أبو داود، وأحمد في مسنده، والترمذي، وصححه شيخنا الألباني في صحيح الجامع، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مررت لما عرج بي) انتبهوا أيها الناس لتعلموا صورة المغتابين عند رب العالمين جل وعلا، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (مررت حين عرج بي -أي: ليلة الإسراء والمعراج- على قوم لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: من هؤلاء يا جبريل؟ فقال عليه السلام: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم) ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! لهم أظفار من نحاس يخمشون ويمزقون بها وجوههم وصدورهم، من هؤلاء يا جبريل أصحاب المشهد المروع؟ قال: (هؤلاء الذي يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم) ما من يوم يمر إلا ويأكلون حتى يشبعون، كم وقع في هذا المرض من الأخيار والأبرار والأطهار، إنها الكلمة إنه اللسان الذي قال عنه النبي عليه الصلاة والسلام في حديث معاذ بن جبل الطويل، الذي رواه الترمذي بسند حسن صحيح، أنه عليه الصلاة والسلام قال لـ معاذ في آخر الحديث: (يا معاذ! أفلا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قلت: بلى يا سول الله! قال صلى الله عليه وسلم: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل. ثم قال صلى الله عليه وسلم: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا رسول الله! فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بلسانه وقال: كف عليك هذا -احذر هذا الثعبان- كف عليك هذا! كف عليك هذا! فقال معاذ بن جبل: وإنا لموآخذون بما نتكلم به يا رسول الله؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم -أو قال: على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم). وهل أوقع الناس في الهاوية إلا هذا اللسان، يجلس الإنسان في المجلس فيريد أن يظهر للناس عبقريته، وخفة دمه، ولباقته، وذكائه، فيضحك الناس على أحد إخوانه، وربما كان ذلك على أحد العلماء أو الدعاة وإنا لله وإنا إليه راجعون: (وإنا لموآخذون بما نتكلم به يا رسول الله؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم -أو قال: على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم). وفي رواية الإمام البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد ليتكلم بالكلمة -كلمة واحدة- من رضوان الله لا يلقي لها بالاً فيرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً فيهوي بها في نار جهنم) كلمة!! وفي رواية أصحاب السنن بسند صحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً فيهوي بها في نار جهنم سبعين خريفاً) كلمة!! أيها الأحباب: ذكر الحافظ ابن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحكم قال: روى مالك عن زيد بن أسلم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه دخل على الصديق رضي الله عنه، فرآه قد شذب لسانه -أي: أخرج لسانه خارج فيه- فقال عمر بن الخطاب: [مه مه، غفر الله لك يا أبا بكر ماذا تصنع؟ فقال الصديق رضي الله عنه لـ عمر: هذا الذي أوردني الموارد]. الصديق أبو بكر رضي الله عنه يخرج لسانه ويقول: [هذا الذي أوردني الموارد] صديق الأمة -أيها الأحباب- إيه والله، أبو بكر يقول على لسانه الذاكر، الشاكر، النقي، العفيف، الطاهر: [هذا الذي أوردني الموارد] لا إله إلا الله [هذا الذي أوردني الموارد]. وأخذ ابن عباس حبر الأمة، وترجمان القرآن -نقلاً عن الحافظ ابن رجب - أخذ لسانه يوماً وهو يخاطبه ويقول له: [اسكت تغنم، واسكت عن سوء تسلم، وإلا فاعلم أنك ستندم] ابن عباس حبر الأمة، وترجمان القرآن رضي الله عنه. وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: [والله الذي لا إله إلا هو لا يوجد في هذا الكون شيء أحق بطول حبس من لسان] لا يستحق شيء أن يسجن في هذا الكون إلا هذا اللسان، هكذا يقول ابن مسعود عن نفسه أيها الأحباب. وفي الحديث رواه أبو داود وأحمد وصححه شيخنا الألباني: (ما من يوم تصبح الأعضاء إلا وهي تخاطب اللسان، تقول له: اتق الله فينا فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، إن اعوججت اعوججنا). فالله الله يا عباد في ألسنتنا، والله لا نبرئ أنفسنا من هذه الآفات، ولا من هذه الأمراض، الله الله في ألسنتنا، الله الله في أقوالنا، الله الله في أعمالنا. يقول ربنا جل وعلا: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:12]. أسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى، وصفاته الع

الحالات التي تجوز فيها الغيبة

الحالات التي تجوز فيها الغيبة الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الأحباب: وتحرياً للأمانة، وحتى تكتمل الفائدة -إن شاء الله تعالى- فما هي الحالات التي يجوز فيها الغيبة؟ ذكر الإمام النووي في شرح مسلم في كتاب البر والصلة أسباباً وأغراضاً شرعية تجوز فيها الغيبة، ولا إثم في ذلك، وقال الإمام النووي: تجوز الغيبة لأسباب شرعية وعدّد هذه الأسباب وقال: أولاً: التظلم: أي يجوز للمتظلم أن يقول: فعل بي فلان كذا وكذا وكذا، لمن يتظلم إليه، هذه واحدة. ثانياً: يجوز في حالة الاستعانة بتغيير المنكر، بأن يذهب مسلم غيور على دينه إلى أولي الأمر، أو إلى من يتوسم فيهم القدرة على أن يغيروا المنكر، فيذهب إليهم ويقول: لقد فعل فلان كذا وكذا فازجره عن ذلك، هذا أيضاً مباح، وهذا الكلام للإمام النووي رحمه الله، وهذا كلام كثير من أهل العلم غير الإمام النووي. ثالثاً: الاستفتاء: بمعنى: أن يذهب المستفتي إلى المفتي فيقول: لقد ظلمني أبي أو أخي أو فلان بكذا وكذا، فما الذي أفعله لرد هذا الظلم عن نفسي، فهذه حالة ثالثة تباح فيها أن يذكر الإنسان عيوب إخوانه الذين ظلموه، ويستدل الإمام النووي على ذلك بحديث فاطمة بنت قيس -والحديث رواه مسلم - أنها ذهبت تستشير النبي صلى الله عليه وسلم فيمن تقدموا لخطبتها فقالت: (يا رسول الله! خطبني معاوية وأبو جهم؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أما أبو جهم فرجل لا يضع عصاه عن عاتقه -أي: كثير الضرب للنساء- وأما معاوية فصعلوك لا مال له) هذه أيضاً جائزة ولا إثم في ذلك. أيضاً من هذا العنصر الثالث تجريح المجروحين من علماء الحديث، كأن يقال: فلان سيئ الحفظ، أو فلان كذوب، وذلك لصيانة أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه أيضاً من الغيبة المباحة التي لا بأس بها. رابعاً: تحذير المسلمين من الوقوع في أي شر، كأن يقال: فلان مبتدع، أو فلان كذا أو كذا، فهذا أيضاً جائز لا إثم فيه. خامساً: تجوز غيبة الفاسق الذي جهر بفسقه، وقد بوب الإمام البخاري باباً في الصحيح بعنوان: باب ما يجوز من اغتياب أهل الفساد والرِّيَب، وقال الحافظ ابن حجر: ويستنبط من حديث عائشة رضي الله عنها وفيه (أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي: ائذنوا له بئس أخو العشيرة هو، فلما دخل الرجل ألان النبي له الكلام، فقالت عائشة: يا رسول الله! قلت ما قلت ثم ألنت له الكلام؟ فقال عليه الصلاة والسلام: يا عائشة! إن شر الناس من يدعه الناس اتقاء فحشه). قال الحافظ ابن حجر: ويستنبط من هذا أنه لا غيبة لمن جهر بالفسق والفساد والمعصية. سادساً: التعريف، يعني: إن قيل: إن فلان الأصلع، أو الأعمش، أو الأعرج، أو القصير؛ ولكن بشرط ألا يكون ذلك من باب التحقير والتنقص، فإن كان ذلك من باب التحقير والتنقص فإنما هي غيبة محرمة لا تجوز شرعاً، أما إن قيل ذلك على وجه التعريف وليس على وجه التنقص فلا إثم ولا حرج في ذلك. أسأل الله جل وعلا أن يحمينا وإياكم من الوقوع في المعاصي والزلل، اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها، اللهم ارزقنا لساناً ذاكراً، وقلباً شاكراً، وجسداً على البلاء صابراً، اللهم طهر ألسنتنا من الغيبة، وأعيننا من الخيانة، وأعمالنا من الرياء، وقلوبنا من النفاق، أنت ولي ذلك والقادر عليه. اللهم اغفر لنا في هذا اليوم المبارك ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم لا تدع لأحد منا في هذا اليوم المبارك ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا أديته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا طائعاً إلا ثبته، ولا حاجة هي لك رضىً ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ويسرتها يا رب العالمين. اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل اللهم فينا ولا منا ولا بيننا شقياً ولا محروماً، اللهم وفق ولاة الأمر لما تحبه وترضاه. هذا وأكثروا من الصلاة والسلام على نبينا وحبيبنا محمد {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صل وسلم وزد وبارك على آله نبينا وحبيبنا محمد وعلى صحبه وسلم. هذا: وما كان من توفيق فمن الله، وما كان من خطأ أو سهو أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.

إخلاف الوعد

إخلاف الوعد إخلاف الوعد خصلة ذميمة من خصال المنافقين، حذر منها الشارع الحكيم أيما تحذير، كما أن صدق الوعد خلق كريم حث عليه الإسلام، وحرص النبي صلى الله عليه وسلم على غرسه في نفوس أصحابه، حتى إننا نجد أنهم ترجموا هذا الخلق إلى منهج عملي تمثلوه في واقعهم.

تعريف النفاق وأقسامه

تعريف النفاق وأقسامه إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الأحبة! مازال حديثنا عن النفاق والمنافقين، وقلنا بأن النفاق لغة: من جنس الخداع والمكر وإظهار الخير وإبطان الشر، وقلنا بأن النفاق شرعاً ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: هو نفاق الاعتقاد، وهو: أن يظهر الإنسان الإسلام ويبطن الكفر، وصاحبه مخلد في الدرك الأسفل من النار عياذاً بالله. وأما القسم الثاني من أقسام النفاق هو: النفاق الأصغر -وهو نفاق العمل- وهو: أن يظهر الإنسان على نية صالحة وهو يبطن خلاف ذلك. ولقد حدد النبي صلى الله عليه وسلم أصول النفاق العملي في خمس خصال بمجموع روايتي أبي هريرة وعبد الله بن عمرو، والروايتان أخرجهما الإمام البخاري والإمام مسلم وغيرهما. أما الرواية الأولى: فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان). وأما الرواية الثانية: فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر). وتحدثنا في اللقاء الماضي بتوفيق الله جل وعلا عن خصلة من خصال النفاق العملي، ألا وهي الكذب في الحديث. ونحن اليوم على موعد مع الخصلة الثانية، من خصال النفاق العملي ألا وهي قوله صلى الله عليه وسلم: (وإذا وعد أخلف).

اعتزاز الجاهلي بوفاء الوعد

اعتزاز الجاهلي بوفاء الوعد أحبتي في الله! إن صدق الوعد خصلة كريمة من خصال الإيمان، وخلق عظيم من أخلاق الإسلام، بل وشيمة كريمة من شيم الرجال حتى في الجاهلية قبل الإسلام، كان العرب قديماً في الجاهلية يعتزون بصدق الوعد، وينقمون نقمة شديدة على من يخلفه، ومن أجمل ما قرأت في هذا: أن النعمان بن المنذر -وكان ملكاً على الحيرة قبل الإسلام- كان له يومان: يوم بؤس ويوم نعيم، فإذا لقيه أحد في يوم بؤسه قتله وأرداه، وإذا لقيه أحد في يوم نعيمه قربه وأعطاه وحباه. وفي يوم من أيام بؤسه لقيه رجل من قبيلة طيء، فعلم الطائي أنه مقتول لا محالة بعد ما علم أن هذا اليوم للنعمان بن المنذر هو يوم بؤسه، فاقترب الطائي من النعمان بن المنذر وقال: حيا الله الملك، حيا الله الملك، لقد خرجت وتركت أولادي على شفا تلف من الجوع، وقد خرجت اليوم مبكراً أبحث لهم عن رزق، ففتح الله عليَّ بصيد هذا الأرنب، فإن رأى الملك أن يأذن لي في إتيانهم والرجوع إليهم لأطعمهم ولأوصي بهم، وله عليَّ وعد وعهد أن أرجع إليه مرة أخرى في الموعد الذي يحدده حتى أضع يدي في يده، فرق له النعمان بن المنذر وقال له: لن أسمح لك بالرجوع إليهم إلا إذا ضمنك رجل منا، فضمنه رجل ممن مع الملك وهذا الرجل يقال له: شريك بن عمرو بن شراحيل، ضمن شريك هذا الرجل الطائي، وقال له: أنا أضمنه، قال: إن لم يرجع قتلناك مكانه، قال: افعل. فانصرف هذا الرجل الطائي فأطعم أولاده وأوصى بهم، وفي الوقت المحدد عاد فوقف بين يدي النعمان بن المنذر، فوقف النعمان منبهراً بهذا الخلق، ومبجلاً لهذا الصدق، ومكبراً لهذه الأخلاق، فنظر النعمان إلى هذا الرجل الطائي، وقال: أيها الرجل! لقد صدقت في وعدك حتى لم تترك للصدق بعد ذلك سبيلاً، ونظر النعمان إلى شريك بن عمرو الذي جاد بحياته ضامناً لهذا الرجل وقال: أما أنت يا شريك بن عمرو فقد جدت وأكرمت حتى لم تدع للجود سبيلا، ثم قال النعمان: والله لا أكون ألأم الثلاثة، فكافأ الطائي وأطلقه، ورفع يوم بؤسه، فأنشد الرجل الطائي بين يديه قائلاً: ولقد دعتني للخلاف عشيرتي أي: دعتني قبيلتي وعشيرتي لأن أخلف وعدك أيها الملك. ولقد دعتني للخلاف عشيرتي فأبيت عند تجهم الأقوال إني امرؤ مني الوفاء سجية وفعال كل مهذب مفضال أيها الأحبة في الله! هذه شيم الرجال، وأخلاق الرجال، حتى في الجاهلية قبل الإسلام، فما ظنكم بدين ركنه وعماده هو الأخلاق، ما جاء الإسلام إلا ليعلي وليشيد بنيان الأخلاق، قال كارل ماركس زعيم الشيوعية والوجودية الملحدة: إن الأخلاق كنز لا معنى له، ويرد عليه سيد الأخلاق الذي جاء ليعلم الدنيا الأخلاق محمد صلى الله عليه وسلم ويقول: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق). ما ظنكم بدين عماده وبنيانه هو الخلق الذي جاء محمد صلى الله عليه وسلم ليشيد بنيانه وليضع لبناته لبنة فوق لبنة، ولبنة بعد لبنة.

مكانة الوفاء بالوعد في الإسلام

مكانة الوفاء بالوعد في الإسلام إن الإسلام جاء ليعلي وليشيد إشادة كريمة بهذا الخلق -بصدق الوعد- وليشن حملة ضارية على نقيضها ألا وهي إخلاف الوعد. ولذلك أيها الأحباب! اسمعوا إلى الله جل وعلا، وهو يثني بهذه الصفة الكريمة، وبهذه الخصلة الحميدة على نبي من أنبيائه، فيخاطب ربنا نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً} [مريم:54]. أحبتي في الله! نلحظ في هذه الآية ملحظاً جميلاً، ألا وهو أن الله جل جلاله قدم صدق الوعد على الرسالة والنبوة وهو يثني على إسماعيل عليه السلام، وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على أن هذا الخلق الكريم الغالي إنما هو بمثابة المقدمة الضرورية للرسالة والنبوة {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً} [مريم:54]. وجعل الإسلام نقيض هذه الصفة من صفات المنافقين كما ذكرت آنفاً من قوله صلى الله عليه وسلم: (وإذا وعد أخلف). أيها الأحبة في الله! والله الذي لا إله غيره ما أحوجنا نحن المسلمين هذه الأيام إلى هذه الخصلة الغالية الكريمة، وإلى هذا الخلق العظيم الجليل إلى صدق الوعد، بل لا أكون مغالياً إن قلت: إن العالم بأسره بُحكّامه ومحكوميه في أمسِّ الحاجة في هذه الأيام إلى هذه الصفة وتلك الخصلة.

الغرب والوعود الزائفة

الغرب والوعود الزائفة إن أزمة العالم اليوم هي أزمة الثقة في الوعود والتصريحات والأقوال، نعم. أيها الكرام! وعد بليل يخلف بنهار، ووعد بنهار يكذّب بليل، وتصريح هنا يناقض تصريحاً هناك، وتصريح هناك يكذب تصريحاً هنا وهكذا دواليك. شأنهم في ذلك كما ذكرت في اللقاء الماضي كشأن جحا الذي صنع ساقيته على النهر؛ لتأخذ الماء من النهر وترد الماء إلى نفس النهر مرة أخرى، فلما عجب الناس من صنيع جحا وقالوا: عجباً لك يا جحا! تأخذ الماء من النهر بساقيتك لترد ساقيتك نفس الماء إلى النهر مرة أخرى، فقال جحا: يكفيني نعيرها. ونحن لا نسمع إلا تصريحات ووعوداً ولكنها مكذوبة وملفقة، ودجل في دجل، وكذب في كذب، فكم من مرة سمعنا الزعيم الصربي النصراني الحقود يصرح هنا وهناك، ويطير من هنا وهناك، ليعلن على مرأى ومسمع من الدنيا بأنه سيوقف هذه الإبادة البشرية الكاملة للجنس المسلم في جمهورية البوسنة والهرسك. ولكن ما زالت المسرحية الهزلية الإبادية، مازالت على خشبة المسرح العالمي كله، مازالت إلى يومنا هذا تمارس، والأضواء العالمية كلها تسلط عليها، وما زال المجاهدون من جميع أنحاء العالم قابعون في مقاعدهم أمام أعضاء الفرقة الصربية المسرحية الإبادية الكبرى، مازال المشاهدون في مقاعدهم يشاهدون وينظرون ويتابعون أحداث المسرحية باهتمام بالغ، ومنهم من يصفق بشدة وبحدة وبقوة لأعضاء فرقة الإبادة الصربية الكبرى، ومنهم من يزكي ويبارك هذه التصفية العنصرية، ومنهم من جلس يبكي ويمسح عينيه وخديه التي بللت بالدموع، ولكنه مازال قابعاً في مقعده، مصراً على أن يجلس، وعلى أن ينظر صامتاً ساكتاً؛ ليتابع آخر فصول هذه المسرحية الهزلية الإبادية الكبرى. وما زال عالمنا الغريب، وما زال عالمنا العجيب يتابع عن كثب، ولا يجيد عالمنا إلا لغة الاستنكار، والشجب، والكلمات والبيانات والإعلانات في الصحف هنا وهناك، وفي وسائل الإعلام من هنا ومن هناك، هذا هو عالمنا، العالم الذي مزقته العصبية المذهبية، عالمنا الذي مزقته العصبية العنصرية، عالمنا الذي مزقته العصبية اللادينية، عالمنا الذي مزقته العصبية الشيوعية والنصرانية الحاقدة التي انطلقت في العالم بأسره، وقد أعماها الحقد، وقد أعماها العنصر والمذهب واللون، أعماها حتى انطلقت لتسوم البشرية حرباً بعد حرب، وبلاء بعد بلاء، وشقاء بعد شقاء، لتسوم البشرية الضنك والشقاء والهوان والذل، حرباً في الحرب، وحرباً في السلم، هذه هي العنصرية المذهبية الجديدة، وهذه هي العنصرية اللونية الجديدة، وهذه هي عنصرية العالم المتحضر، هذه هي عنصرية العالم المتطور، الذي يتغنى كل يوم بحرية الاعتقاد، وبـ الديمقراطية، وبالدعوة إلى السلام. ما زالت فصول المسرحية قائمة على الرغم من كثرة الوعود، وعلى الرغم من هذا الكم الهائل من التصريحات الكاذبة، ومن الإعلانات الملونة التي تنيم الناس، وتنيم المسلمين، لتتم آخر فصول هذه المسرحية بإبادة الجنس المسلم من جمهورية البوسنة والهرسك المسلمة. ما أحوجنا إلى صدق الوعد، ما أحوج العالم بأسره إلى صدق الوعد حكاماً ومحكومين، إنه المسخ الذي يصيب الروح البشرية في عصر الظلام والانتكاس، إنه المسخ الذي يصيب الحياة البشرية في عصر قيادة العالم الأوروبي المتحضر، في عصر قيادة الرجل الغربي، وما هنالك من بلسم يمس هذه الروح البشرية فيشفيها، وما هنالك من شعاع يضيء خوافيها ودروبها، ولن تعود هذه البشرية، ولن تفيء إلى الحق إلا إذا عاد الإسلام من جديد؛ ليقود ركب البشرية مرة أخرى ليحيل اختراعاتها وعلومها واكتشافاتها إلى أدوات رحمة وسلام، لا إلى أدوات حرب وانتقام، حولتها إلى أدوات حرب لأنها تملك صناعة الحرب، لأنها تملك القنبلة والصاروخ والمدفع ولا تملك ذرة من ذرات الحب، ولا طاقة من طاقات الصدق، ولا دليلاً من أدلة العدالة، على مرأى ومسمع من الدنيا، وعد بنهار يخلف بليل، ووعد بليل يخلف بنهار، وتصريح هنا يكذب هناك، وتصريح هناك ينقض هنا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، أين الشهامة؟ أين المروءة؟ أين الرجولة؟ لذا أيها الأحباب! لابد أن نرفع رءوسنا خفاقة عالية بأخلاق إسلامنا، هذا الإسلام الذي لابد له مرة أخرى أن يعود من جديد، ليتحمل قيادة البشرية، وليقود قافلة البشرية إلى بر التوحيد والإيمان والأمان، ولن يعود الإسلام هكذا كما تتنزل الأمطار من السماء، وإنما إذا أردنا أن يعود الإسلام فكل منا على ثغرة من الثغور لعودته، لابد أن نعود نحن أولاً إلى الإسلام، لابد أن نعود إلى مصدر عزنا وشرفنا وبقائنا، وكرامتنا وقيادتنا، إنه الإسلام الذي حول رعاة الغنم في أرض الجزيرة في الماضي القريب إلى قادة وسادة لجميع الأمم، إنه الإسلام الذي قال عنه فاروق هذه الأمة: [لقد كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العز في غيره أذلنا الله]. لابد من العودة إلى أخلاق الإسلام جملة وتفصيلاً، لابد من العودة إلى الإسلام بدأً من الحاكمية لله فلا يحكم إلا كتاب الله وشرع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن نلفظ شرع البشر من ملاحدة وزنادقة وعلمانيين وشيوعيين وديمقراطيين واشتراكيين وغيرهم من هذا الصنف الخبيث لنعود إلى شرع الله وحده: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:40]. ولابد من العودة إلى أخلاق الإسلام جملةً وتفصيلاً بدأً من الحاكمية -كما قلت- وحتى إماطة الأذى عن الطريق (الإيمان بضع وسبعون شعبة) نعم لابد من العودة إلى جميع هذه الشعب، لابد من العودة إلى كتاب الله لنقيمه حكماً حكماً، ونهياً نهياً، وحداً حداً، وكلمةً كلمةً، بل وحرفاً حرفاً {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65]. والعودة إلى هذه الأخلاق ليست أمراً مستحيلاً، وليست من المثل العليا في دولة أفلاطون المثالية، لا. فإن الإسلام هو دولة مثالية، إن الإسلام هو دولة الأخلاق، إن الإسلام هو دولة العقيدة والسلوك والعمل.

الأنصار والوفاء بالوعد

الأنصار والوفاء بالوعد إن الإسلام عقيدة وشريعة، إن الإسلام معاملة وسلوك وواقع، إن الإسلام منهج حياة، ولذلك لما ربى النبي صلى الله عليه وسلم الرعيل الأول على أخلاق الإسلام ضربوا للتاريخ كله أروع المثل على صدق الوعد وعلى الوفاء بالعهد، واستطاعوا أن يضربوا لنا المثل في أن الإسلام ما أنزل إلا ليحول إلى واقع حياة، وإلى منهج عملي، وإلى سلوك واقعي تطبيقي. تعالوا بنا لنطير على جناح السرعة إلى هذا الاجتماع المبارك، حيث جلس الأنصار الذين شرح الله صدورهم للإسلام على يد داعية الإسلام الأول مصعب بن عمير رضي الله عنه، جلس ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان ينتظرون النبي صلى الله عليه وسلم ليعقدوا معه بيعة العقبة الثانية. ولنترك أحد قادة الأنصار يحدثنا عن هذا الاجتماع التاريخي الكبير الذي حول وجه التاريخ في صراع الوثنية ضد الإسلام، لنترك كعب بن مالك الأنصاري رضي الله عنه يحدثنا والحديث بطوله رواه الإمام البيهقي، ورواه ابن إسحاق بإسناد صحيح، ورواه الإمام أحمد من حديث جابر بن عبد الله والحديث رواه ابن حبان أيضاً في صحيحه، والحاكم في المستدرك وقال: صحيح على شرط الشيخين من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما. ماذا يقول كعب، يقول: (اجتمعنا في الشعب عند العقبة، وقد واعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هناك، فجلسنا ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء رسول الله ومعه عمه العباس بن عبد المطلب، وكان ما زال على دين قومه -أي: والعباس مازال على دين الشرك ولكنه جاء لينظر في أمر ابن أخيه- يقول كعب بن مالك: فكان أول متكلمٍ هو العباس، فقال العباس بن عبد المطلب: يا معشر الخزرج! إن محمداً منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، فإنه في عز من قومه، ومنعة في بلده، إلا أنه أبى إلا الانحياز لكم، واللحوق بكم، فإن أنتم أنجزتم له ما دعوتموه إليه فأنتم وذلك، وإن أنتم رأيتم أنفسكم أنكم خاذلوه وأنكم مسلموه فدعوه من الآن فإنه في عز من قومه ومنعة في بلده، يقول كعب بن مالك: فقلنا للعباس: قد سمعنا ما قلت يا عباس، فتكلم أنت يا رسول الله، فخذ لنفسك ولربك ما أحببت، يقول كعب: فتكلم الرسول صلى الله عليه وسلم فقرأ القرآن ودعا إلى الله جل وعلا، وبايعنا على أن نمنعه مما نمنع منه أبناءنا ونسائنا، ووعدنا الجنة) وفي رواية جابر بن عبد الله التي أشرت إليها آنفاً قال الأنصار: (علام نبايعك يا رسول الله؟ قال: على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن تقوموا لله لا تأخذكم في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني إذا أتيت إليكم، وأن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم ونساءكم وأبناءكم). نرجع إلى كعب بن مالك، يقول كعب: (فأقبل إليه البراء بن معرور رضي الله عنه وأخذ بيد الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: والذي بعثك بالحق نبياً يا رسول الله! لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا فبايعنا يا رسول الله، فوالله إنا لأهل الحروب وإنا لأهل الحلقة، ولسوف ترى منا ما تقر به عينك، فبايعنا يا رسول الله) وفي رواية جابر بن عبد الله، يقول: (فقاطع البراء بن معرور وهو يتكلم أبو الهيثم بن التيهان رضي الله عنه فقال أبو الهيثم: يا رسول الله! إن بيننا وبين الرجال -أي: بيننا وبين اليهود- حبالاً وإنا قاطعوها، فإن نحن فعلنا ذلك وأظهرك الله أترجع إلى قومك وتدعنا؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم مبتسماً: بل الدم الدم، والهدم الهدم، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم، أنا منكم وأنتم مني) وفي رواية جابر: (قام أسعد بن زرارة رضي الله عنه ليبين للأنصار خطورة هذه البيعة وخطورة هذا العهد، فلما نظر إليهم قال له الأنصار: أمط عنا يدك يا أسعد، فوالله لا ندع هذه البيعة ولا نستقيلها، يقول جابر: فقمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نبايعه رجلاً رجلاً ويعدنا على ذلك الجنة). وتمضي الأيام، وهاهي الأيام تمر، تجر خلفها الشهور، وتسحب معها السنين، ويأتي أول اختبار على صدق هذا الوعد والعهد والبيعة للأنصار في غزوة بدر الكبرى، يرى النبي صلى الله عليه وسلم أن الأمر ولا محالة فيه قتال، فيشير النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه ويقول: (أشيروا علي أيها الناس، فيتكلم أبو بكر رضي الله عنه الصادق الكريم، فيحسن الصديق رضي الله عنه القول فيدعو له النبي صلى الله عليه وسلم بخير، ويتكلم فاروق الأمة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ويحسن عمر الخطاب والكلام فيدعو له النبي صلى الله عليه وسلم بخير، ويتكلم المقداد رضي الله عنه فيقول: يا رسول الله! امض لما أراك الله، فوالله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن نقول لك: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، والله يا رسول الله، لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك دونه حتى تبلغه). ولكن المتكلمين أبو بكر وعمر والمقداد كانوا من المهاجرين، والرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن يستمع إلى رأي الأنصار لأن رحى الحرب ستدور على كواهلهم وسواعدهم، فهم الكثرة الكاثرة في جيش النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ملتفتاً إلى الأنصار: أشيروا علي أيها الناس، وفطن إلى ذلك قائد الأنصار وحامل لوائهم، سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه، فقال سعد: (والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل يا سعد - أتدرون ماذا قال سعد الأنصاري؟ - قال سعد: يا رسول الله، لقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا، فامض يا رسول الله حيث شئت، والله لا يتخلف عنك منا رجل واحد، والله لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنا لصبرٌ في الحرب، صدقٌ عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله يا رسول الله) فسر النبي صلى الله عليه وسلم. هؤلاء هم الرجال، هؤلاء هم الأبطال، هؤلاء هم أهل الصدق والوفاء الذين بيضوا وجه الحنيفية، وسطروا للتاريخ كله أن هؤلاء هم تلامذة محمد بن عبد الله الذين رباهم النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الأخلاق فتحولوا من رعاة الغنم إلى سادة وقادة لجميع الأمم، إنه صدق الوعد. ما أحوجنا إلى أن نقف أمام هذا الدرس العظيم الكريم لنأخذ منه الدروس والعظات والعبر. أسأل الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.

حكم إخلاف الوعد

حكم إخلاف الوعد الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد: فيا أيها الأحبة! انتبهوا معي إلى هذا الجانب الفقهي من موضوعنا اليوم، فلقد لخص الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه القيم جامع العلوم والحكم أحكام إخلاف الوعد، فقال: وإخلاف الوعد ينقسم إلى قسمين: الحالة الأولى: أن يعد الإنسان وفي نيته ألا يفي بالوعد -وهو شر الخلف- يقول الحافظ فإن وعد وقال: إن شاء الله، وفي نيته أن يخلف الوعد فقد وقع في الخلف والكذب، إن قال: إن شاء الله أفعل كذا، وفي نيته ألا يفعل فقد وقع في الخلف والكذب. أما الحالة الثانية: أن يعد وفي نيته أن يفي بوعده، ولكن يطرأ عليه طارئ بحال، فيخلف وعده من غير عذر له في الخلف، وهذا أيضاً من إخلاف الوعد. الحالة الثالثة: وأنا أضيف إلى هاتين الحالتين حالة من عند نفسي، لأننا كثيراً ما نقع فيها ألا وهي: أن يعد الإنسان وفي نيته أن يفي بوعده إلا أنه ينسى -وهذا كثيراً ما يقع- وإن شاء الله تعالى من وقع في هذه الحالة فلا إثم عليه للأدلة الصريحة الصحيحة في ذلك ومنها: ما رواه الإمام مسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (لما نزل قوله تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286] قال الله جل وعلا: قد فعلت) ولما رواه ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) والحديث رواه ابن ماجة في سننه، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في المستدرك وقال: صحيح على شرط الشيخين ورواته محتج بهم كلهم في الصحيحين إلا أن الإمام أحمد رحمه الله قد أنكر هذا الحديث إنكاراً كبيراً. أيها الأحبة في الله! اصدقوا إذا وعدتم، واصدقوا إذا عاهدتم، وأسأل الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم ممن يتحلى بهذا الخلق، بل وبكل أخلاق الإسلام، إنه ولي ذلك ومولاه. اللهم ارزقنا لساناً ذاكراً، وقلباً شاكراً، وجسداً على البلاء صابراً، اللهم ارزقنا الإخلاص في أقوالنا، والإخلاص في أعمالنا، والإخلاص في أحوالنا، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم حلنا بأخلاق القرآن، اللهم حلنا بأخلاق الإسلام، اللهم حلنا بأخلاق الإسلام أنت ولي ذلك والقادر عليه يا رب العالمين. اللهم أعد الأمة إلى الإسلام وردها إليه رداً جميلاً، اللهم رد الأمة إلى الإسلام رداً جميلا، اللهم خذ بنواصينا إليك، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأعل بفضلك كلمتي الحق والدين. اللهم عليك بالصرب النصارى يا رب العالمين، اللهم مزق شملهم، اللهم شتت صفهم، اللهم زلزل الأرض من تحت أقدامهم، اللهم أرنا فيهم يوماً كيوم عادٍ وثمود أنت ولي ذلك والقادر عليه، اللهم أطعم المسلمين الجياع، اللهم احمل المسلمين الحفاة، اللهم اكسُ المسلمين العراة، اللهم كن لنا ولا تكن علينا يا رب العالمين، وإن أردت بالناس فتنة فاقبضنا إليك غير خزايا ولا مفتونين برحمتك يا أرحم الراحمين. أحبتي في الله! {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على نبينا وحبيبنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. هذا وما كان من توفيق فمن الله تعالى وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو زللٍ أو نسيان فمني ومن الشيطان والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله من أن أذكركم به وأنساه، وأقم الصلاة.

الثبات حتى الممات

الثبات حتى الممات إنما الأعمال بالخواتيم، فمن ختم له بخير فقد أفلح ونجح، ومن ختم له بشر فقد خاب وخسر والعياذ بالله، فعلى كل مسلم أن يخاف من سوء الخاتمة، وأن يسأل الله عز وجل الثبات على الدين حتى الممات، وعليه أن يحرص على العمل بأسباب الثبات؛ عسى الله أن يوفقه لذلك.

لا يشترط في الواعظ عدم الخطأ

لا يشترط في الواعظ عدم الخطأ بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء! وأيها الإخوة الأحباب الأعزاء! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله جل وعلا الذي جمعنا وإياكم في هذا البيت المبارك على طاعته أن يجمعنا وإياكم في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! (الثبات حتى الممات) هذا هو عنوان محاضرتنا هذه, ونظراً لطول هذا الموضوع فسوف أركز الحديث تحت هذا العنوان في العناصر التالية: أولاً: مقدمة موجزة. ثانياً: أهمية الموضوع. ثالثاً: مواطن الثبات. رابعاً: الناس صنفان. وأخيراً: وسائل الثبات. فأعرني قلبك وسمعك، وأسأل الله جل وعلا أن يثبتنا على الحق حتى نلقاه؛ إنه ولي ذلك ومولاه. أولاً: مقدمة موجزة: أيها الأحبة! كان من المفترض ألا يتكلم عن الثبات حتى الممات إلا من توافرت لديه الأهلية علماً وعملاً، ولست -والله- منهم، ولكنني أقول دوماً: قد ينطلق المرء للحديث لا من منطلق شعوره بالأهلية وإنما من منطلق شعوره بالمسئولية، وهذا ما تؤصله وتقرره القاعدة الأصولية: (من عدم الماء تيمم بالتراب) ويكاد يرن في أذني وأنا أتحدث عن موضوع الثبات قول القائل: وغير تقي يأمر الناس بالتقى طبيب يداوي الناس والطبيب عليل فالله أسأل أن يجعل سرنا أحسن من علانيتنا، وأن يسترنا في الدنيا والآخرة، وأضرع إلى الله عز وجل مع القائل: إلهي لا تعذبني فإني مقر بالذي قد كان مني فكم من زلة لي في البرايا وأنت علي ذو فضل ومنِّ يظن الناس بي خيراً وإني لشر الناس إن لم تعف عني

أسباب طرح موضوع الثبات

أسباب طرح موضوع الثبات ثانياً: أهمية موضوع الثبات: إن موضوع الثبات حتى الممات من الموضوعات الهامة التي يجب أن تطرح لا في المناسبات وإنما في كل الأوقات، فإنه الغاية والهدف أن تلقى الله على طاعة، أن تلقى الله على التوحيد الخالص، وعلى العبودية الكاملة، وتزداد أهمية طرح الموضوع من وجهة نظري لسببين: السبب الأول: كثرة الفتن في هذا الزمان، فلو أسميت هذا الزمان الآن بزمان الفتنة أو بزمان الفتن ما بالغت وما تجاوزت الحد؛ فلقد كثرت الفتن، روى مسلم رحمه الله من حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً) سل نفسك: لماذا؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يبيع دينه بعرض من الدنيا) يبيع الدين بعرض من الدنيا؛ والدنيا زائلة، يبيع الغالي بالرخيص، فلقد كثرت الفتن في هذا الزمان بصورة مدمرة مزلزلة، وحتى لا أطيل ولأعرج على بقية عناصر الموضوع -إن شاء الله جل وعلا- أقول: بالجملة فإن الفتنة تنقسم إلى قسمين: فتنة الشهوات، وفتنة الشبهات، أما فتنة الشهوات فلقد عصفت الآن بكثير من القلوب، وعبد كثير من الناس هذه الدنيا، وأصبحت الدنيا الغاية التي من أجلها يبذلون، ومن أجلها يعملون، ومن أجلها يخططون، ومن أجلها يفكرون، بل ومن أجلها يوالون ويعادون، فالأكثر لا هم له إلا الدنيا، ولا يبذل الوقت والجهد والعرق إلا من أجل هذه الدنيا. ووالله -يا إخوة- ما خشي النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الأمة من الفقر أبداً، بل خاف النبي على هذه الأمة من الدنيا، كما روى البخاري ومسلم من حديث عمرو بن عوف الأنصاري رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (والله! ما الفقر أخشى عليكم) وتدبروا هذا الحديث! فرسول الله لا يخشى على أمته من الفقر، (والله ما الفقر أخشى عليكم) إذاً: ما الذي تخشاه على الأمة؟ يقول المصطفى: (ولكني أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم) فكم من الناس الآن من لا يعيش إلا من أجل شهواته!! وفتنة الشبهات التي مزقت الأمة الواحدة إلى جماعات شتىً، وإلى فرق، وإلى أهواء، ثبت في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة -وفي لفظ: على ثلاث وسبعين ملة- كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؟! قال: ما أنا عليه وأصحابي) فالفتن كثيرة، فهناك فتنة الأموال، وهناك فتنة الإعلام، وهناك فتنة هوان الأمة وذلها، وهناك فتنة الابتلاءات التي تصب على رءوس الموحدين هنا وهنالك في كل مكان، فالفتن كثيرة، وهي تعصف بقلوب الموحدين في هذه الأيام، حتى شعر المسلم الحقيقي بالغربة في هذا الزمان، كما في الحديث الذي رواه مسلم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء) وفي غير رواية مسلم: (قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟! قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس) وفي لفظ قال: (الذين يصلحون ما أفسده الناس) وفي لفظ قال: (الذين يحيون سنتي، ويعلمونها الناس)، وفي لفظ قال: (الذين يفرون بدينهم من الفتن)، فالغريب الآن هو: الذي يفر بدينه من الفتن، بل إن الذي يصبر على الدين، ويعيش الآن للدين، ويتحرك بهمِّ هذا الدين، ويفكر في أمر هذه الدعوة؛ كالقابض على الجمر بيديه، جاء في سنن الترمذي -والحديث حسن بشواهده- من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يأتي زمان على الناس الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر) إن الذي يريد الآن أن يتمسك بدين الله، ويريد أن يصبر على هذه الفتن والأهواء التي تعصف بقلبه؛ كأنه يقبض على الجمر بيديه، ولكثرة هذه الفتن وجب أن يُطرق موضوع الثبات، وأن يدندن العلماء والدعاة حوله، وأن يبينوا للأمة وسائل الثبات وسط هذا البحر الخضم من الفتن والأهواء، نسأل الله أن يحفظنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن. السبب الثاني من أسباب أهمية موضوع الثبات: أن موضوع وأمر الثبات على الدين أمر متعلق بالقلب، وما سمي القلب قلباً إلا لكثرة تقلبه، نسأل الله أن يثبت قلوبنا على التوحيد، فانتبه لدعاء من فطره الله على التوحيد، وانتبه لدعاء من لينت مفاصله وجوارحه على طاعة العزيز الحميد، ألا وهو المصطفى صلى الله عليه وسلم، فقد كان يكثر في دعائه من قوله: (يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك، فقالت أم سلمة: يا رسول الله! أو إن القلوب لتتقلب؟! فقال المصطفى: يا أم سلمة! ما من قلب من قلوب بني آدم إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن جل وعلا، إن شاء الله أقامه، وإن شاء الله أزاغه) والحديث رواه أحمد في مسنده، وهو حديث صحيح، وله شاهد في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد، إن شاء الله أقامه، وإن شاء الله أزاغه، ثم قال: اللهم يا مصرف القلوب والأبصار! صرف قلوبنا على طاعتك). أيها الأحبة! لقد صور النبي صلى الله عليه وسلم عرض الفتن على القلوب بصورة بليغة دقيقة، فقد روى مسلم من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً) وكيفية صناعة الحصير في الماضي هي: أنه كان يجلس الصانع فيضع العود بعد العود بعد العود، فيصنع بذلك الحصيرة الكبيرة المعروفة، (تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تعود القلوب على قلبين: قلب أسود مرباداً كالكوز مجخياً، لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً، إلا ما أشرب من هواه، وقلب أبيض لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض) فتعرض فتنة صغيرة فيتشرب القلب الأسود هذه الفتنة، فتنكت هذه الفتنة في القلب نكتة سوداء، ثم تعرض عليه فتنة أخرى فيتقبلها ويتشرف لها؛ فتتوسع بقعة السواد في القلب، وهكذا حتى يعلو الران القلوب، ولا حول ولا قوة إلا بالله، كما قال عز وجل: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:14 - 15]. فأمر الثبات أمر خطير؛ لأنه متعلق بالقلب، وما سمي القلب قلباً إلا لكثرة تقلبه، فأنت الآن قلبك على حال، وأنت إذا كنت في بيئة الطاعة فقلبك يزداد فيه الإيمان، ومحال أن يكون جلوسك في بيئة الطاعة كجلوسك أمام فيلم من الأفلام الداعرة أو مسلسل من المسلسلات الفاجرة؛ والإيمان يزيد وينقص، وهذا أصل من أصول أهل السنة والجماعة، يزيد الإيمان بالطاعات، وينقص الإيمان بالمعاصي والزلات، فعرض قلبك لبيئة الطاعة ليقوى الإيمان في قلبك، واصرف قلبك وعينك وجوارحك عن بيئة المعصية حتى لا يعلو الران قلبك وأنت لا تدري، أسأل الله أن يطهر قلوبنا بالإيمان.

ذكر بعض المواضع التي يجب الثبات فيها

ذكر بعض المواضع التي يجب الثبات فيها ثالثاً: مواطن الثبات. في عجالة سريعة أقول: إن المواطن التي يحتاج فيها المسلم إلى الثبات كثيرة، وأهمها الثبات على الدين وعلى المنهج، والثبات في الفتن، والثبات في الجهاد، والثبات عند الممات. أما الثبات على المنهج فواجب على كل مسلم أن يثبت على منهج الله، ومن فضل الله ورحمته بنا أن الله جعل منهجه ميسراً لكل مسلم، فما عليك إلا أن تخطو على طريق الله، وما عليك إلا أن تفتح باب المسجد، وأن تدخل إلى بيت الله، وأن تتضرع إلى الله، وأن تطرح قلبك بين يدي الله، واترك بعد ذلك التسديد والمدد والتوفيق لمن بيده القلوب جل وعلا، فالمنهج ميسر، وتدبر معي قول الله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] الله أكبر! وقوله عز وجل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7] {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، وكما في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه؛ فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم) الشاهد من الحديث قوله: (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم) فمنهج الله ميسر، ما عليك إلا أن تخطو على الطريق، وستجد المدد والتوفيق والتسديد من الله جل وعلا. فيجب عليك أن تثبت عند هذه الفتن الكثيرة التي ذكرت، وهذا بتعرفك على وسائل الثبات التي سأذكرها، وحرصك على أن تحولها في حياتك إلى واقع. ويجب عليك أن تثبت في الجهاد، والجهاد مراحل ودرجات، أسأل الله أن يرفع علم الجهاد، وأن يقمع أهل الزيغ وأهل الفساد، ووالله ما ذلت الأمة إلا يوم أن تركت ذروة سنام الإسلام، وفي الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود وأحمد وغيرهما أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا تبايعتم بالعينة -والعينة نوع من أنواع البيوع الربوية- ورضيتم بالزرع، وتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد في سبيل الله؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم)، لقد تثاقلت البطون والقلوب إلى الأرض وإلى الوحل والطين، ونسيت الأمة هذه الرسالة المباركة التي أرسل الله بها أمثال الإمام المجاهد العلم عبد الله بن المبارك لأخيه التقي النقي عابد الحرمين الفضيل بن عياض، أرسل له بهذه الرسالة من ميدان البطولة والشرف من ساحة الوغى، من الميدان التي تصمت فيه الألسنة الطويلة، وتخطب فيه السيوف والرماح على منابر الرقاب، يقول عبد الله بن المبارك لأخيه الفضيل بن عياض: يا عابد الحرمين! لو أبصرتنا لعلمت أنك في العبادة تلعب من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب ريح العبير لكم ونحن عبيرنا رهج السنابك والغبار الأطيب من كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الكريهة تتعب ولقد أتانا من مقال نبينا قول صحيح صادق لا يكذب لا يستوي غبار خيل الله في أنف امرئ ودخان نار تلهب هذا كتاب الله ينطق بيننا ليس الشهيد بميت لا يكذب فلا بد أن يعد الإنسان نفسه ليثبت إن منَّ الله عز وجل برفع علم الجهاد؛ والجهاد ماضٍ وباقٍ إلى يوم القيامة، ومن كذّب ذلك وأنكره فقد كذب الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم. ومن أعظم مواطن الثبات: الثبات عند الممات، اللهم ثبتنا عند الموت، فالثبات عند الممات هو الغاية، بل أنت مأمور به كما قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] فأنت مأمور أن تموت على الإسلام، فمن الذي يثبته الله على فراش الموت؟ ومن الذي يضله الله عن التوحيد على فراش الموت؟ سؤال ينبغي أن نفكر فيه بقلوب واعية، والجواب لك على هذين السؤالين من الله: يقول جل وعلا: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27]. إذاً: الذي يثبته الله على فراش الموت هو المؤمن، ويضل الله على فراش الموت الظالمين، فيخون الظالم لسانه، ويعجز اللسان أن يردد (لا إله إلا الله) في وقت يكون الإنسان في أمس الحاجة إلى أن يعي قلبه حقيقة التوحيد، وأن يترجم لسانه حقيقة الإيمان، وهنا ينقسم الناس إلى صنفين وهذا هو عنصرنا الرابع بإيجاز شديد.

أصناف الناس عند الموت

أصناف الناس عند الموت الناس صنفان: صنف إذا نام على فراش الموت تهلل وجهه، وتهللت أساريره، وترى الابتسامة العريضة تعلو وجهه وشفتيه، وترى لسانه وكلامه يردد: (لا إله إلا الله)؛ لأنه عاش على لا إله إلا الله، وبذل وقته للتوحيد، وحول التوحيد في حياته إلى واقع، فحق على الله -حق أخذه الله على ذاته؛ إذ ليس لأحد حق على الله- لمن اتقاه أن يحسن الله بدايته، وأن يحسن الله نهايته، وأن يتولى الله رعايته، واسمع إلى الحافظ ابن كثير إذ يقول: (لقد أجرى الله الكريم عادته بكرمه أن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه) الله أكبر! إن عشت على الطاعة مت على الطاعة، وإن عشت على المعصية -أعاذني الله وإياك- مت على المعصية، وبعثت على المعصية، روى مسلم من حديث جابر بن عبد الله أنه صلى الله عليه وسلم قال: (يبعث كل عبد على ما مات عليه) فإن مت على الطاعة بعثت على الطاعة، وإن عشت على التوحيد مت على التوحيد، وبعثت تحت راية إمام الموحدين وسيد المحققين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.

مواقف وأحوال بعض العصاة عند الموت

مواقف وأحوال بعض العصاة عند الموت هذا صنف خبيث آخر -نسأل الله الستر والسلامة والعافية- إذا نام على فراش الموت خانه لسانه، وخانه قلبه، ويضله الله عن قولة التوحيد، وعن قولة الإيمان، يذكر الإمام ابن القيم في أحد كتبه: أن رجلاً مرت عليه امرأة فقالت له: أين الطريق إلى حمام منجاب؟ فنظر هذا الرجل إلى المرأة وإلى جمالها، فوقعت في قلبه، فأشار إلى باب داره، وقال: هذا هو حمام منجاب، فدخلت المرأة الدار، ولما علمت أنها وقعت في فخ المعصية، أرادت أن تزين المعصية له حتى تهرب، ثم انصرفت إلى حال سبيلها بعدما قالت: ائتني بكذا وكذا، فخرج الرجل ليأتيها بالطعام والشراب، ولما عاد كانت المرأة قد خرجت وهربت، فلم يجدها، فخرج ليبحث عنها في الشوارع والطرقات وهو يقول: يا رب قائلة يوماًَ وقد تعبت أين الطريق إلى حمام منجاب؟ ولما نام على فراش الموت ذهبوا ليلقنوه. (لا إله إلا الله) فكان يرد عليهم قوله: يا رب قائلة يوماً وقد تعبت أين الطريق إلى حمام منجاب؟ وختم له بهذه الكلمات. والعياذ بالله! وهذا رجل في المنصورة يخبرني عنه أخ ثقة: أنه كان جاراً له؛ يقول: ما من مرة دخلت البيت إلا وأسمع الغناء الفاحش في دار هذا الرجل، فذكرته مراراً وتكراراً فأبى، فكبر سنه وهو لم يصل لله جل وعلا. يقول: فسمعت أنه يحتضر، فصعدت إليه؛ لأنه كان يسكن في البيت الذي يعلوني، فرأيت الرجل في فراش الموت يحتضر، ولا زال شريط الغناء يغني! فقلت لأبنائه: اتقوا الله؛ أبوكم يحتضر، وملك الموت بيننا، والملائكة الكرام حولنا، وأنتم تضعون الغناء، ضعوا القرآن الكريم لعل الله أن ييسر عليه، وأن يهون عليه السكرات والكربات، يقسم بالله العظيم إن أبناءه سكتوا، واقترب من جهاز الكاست ليخرج شريط الغناء، يقول: أقسم بالله لقد كشف الرجل الغطاء عن وجهه وقال لي: دع الغناء؛ فإنه ينعش قلبي!!! لقد أجرى الله الكريم عادته بكرمه أن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه.

مواقف في ثبات بعض الصالحين المتأخرين عند الموت

مواقف في ثبات بعض الصالحين المتأخرين عند الموت أيها الأحبة! قد يقول قائل من آبائنا وأحبابنا: هؤلاء هم أصحاب النبي، وهؤلاء هم السلف، فأين نحن من هؤلاء؟! فنقول: يا إخوة! ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء؛ والله ذو الفضل العظيم، كما قال تعالى: {ثلة من الأولين * وثلة من الآخرين} [الواقعة:39 - 40] وقال: {ثلة من الأولين * وقليل من الآخرين} [الواقعة:13 - 14]. هذا شاب أمريكي يختم له وهو ساجد يصلي لله عز وجل. وأخبرني بعض الإخوة عن داعية من إخواننا في الإسكندرية، وقف يتكلم عن مؤتمر السكان الذي عقد في القاهرة، وهو يتلمض ويتغيظ قلبه، ويكاد قلبه أن يتمزق وأن يتقطع، فيصاب بانفجار في المخ؛ فيموت وهو على منبر رسول الله! انظروا إلى الخواتيم؛ فالخواتيم ميراث السوابق. وهذه أخت فاضلة ترجع مع زوجها بعد العمرة، وتركب الباخرة التي سمعتم عن حكايتها، وأوشكت الباخرة على الغرق، فقال هذا الزوج لزوجته: هيا اخرجي لنصعد فوق السطح؛ لأن المركب يغرق، فقالت: انتظر حتى ألبس ثيابي ونقابي فقال: هذا وقت نقاب؟! أهذا وقت ثياب؟! اخرجي فالناس أوشكوا على الغرق، فقالت: والله! لن أخرج إلا بكامل ثيابي، حتى إن قدر الله عليّ الموت ألقى الله وأنا على طاعة، ولبست ثيابها والمركب يغرق، وصعدت إلى السطح، فلما علمت أنها إلى الهلاك سائرة تعلقت بزوجها وقالت: أستحلفك بالله، هل أنت راضٍ عني؟ فبكى، فقالت: أريد أن أسمعها منك، قال: والله! ما رأيت منك إلا الخير، قالت: أريد أن أسمعها منك، فنظر إليها وبكى، وقال: أشهد الله أني راضٍ عنك، فتعلقت به وقالت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، يقول: والله! ما رأيتها بعد هذه الكلمات، وأسأل الله أن يجمعني بها في جنة رب الأرض والسماوات. إنها الخواتيم! وهذا مؤذن يؤذن عشرين سنة ابتغاء مرضات الله عز وجل، وقبل الموت مرض مرضاً شديداً أعجزه أن يخرج للصلاة، وأعجزة أن يخرج إلى بيت الله جل وعلا، وفي اليوم الموعود بكى، ورفع أكف الضراعة إلى الله وقال: يا رب! أؤذن عشرين عاماً، وأحرم من الأذان في آخر عمري! فنادى على أولاده وقال: وضئوني، فوضئوه، فقال: هل حان وقت صلاة الظهر؟ قالوا: نعم، فقام على سريره في بيته واتجه إلى القبلة ورفع الأذان كاملاً إلى أن وصل إلى قوله: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، ثم خر على سريره، وقد فاضت روحه إلى الله، ولسانه يردد: لا إله إلا الله! لقد أجرى الله الكريم عادته بكرمه أن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه.

مواقف في ثبات بعض السلف الصالحين عند الموت

مواقف في ثبات بعض السلف الصالحين عند الموت تدبروا هذا الصنف المبارك الذي عاش في الدنيا لدين الله، ولتوحيد الله؛ فمات على التوحيد، فهذا صديق الأمة الأكبر رضوان الله عليه أبو بكر، فقد جاء أنه لما نام على فراش الموت، وحشرجت روحه؛ دخلت عليه الصديقة بنت الصديق عائشة رضوان الله عليها، وأنشدت بيتاً من الشعر فقالت: لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر فكشف الصديق الغطاء عن وجهه، وهو على فراش الموت بثبات عجيب، ونظر لـ عائشة وقال: يا ابنتي! لا تقولي هذا، وإنما قولي: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19]. ولما نام فاروق الأمة عمر على فراش الموت دخل عليه الصحب الكرام، ومن بينهم ابن عباس، فقال له: أبشر ببشرى الله لك يا أمير المؤمنين! لقد مصّر الله بك الأمصار، ونشر الله بك العدل، وصحبت رسول الله، فأحسنت صحبته، ثم توفي رسول الله وهو عنك راضٍ، وصحبت أبا بكر، فأحسنت صحبته، ثم توفي أبو بكر وهو عنك راضٍ, وصحبت أصحاب رسول الله فأحسنت صحبتهم، ولئن مت اليوم فإنهم عنك راضون، ثم شهادة في سبيل الله، فأبشر ببشرى الله لك يا أمير المؤمنين! فبكى عمر وقال: والله! يا ابن عباس! لوددت أن أخرج من الدنيا كفافاً لا لي ولا علي، والله! لو أن لي ملء الأرض ذهباً لافتديت به اليوم من عذاب الله قبل أن أراه! عمر فاروق الأمة يقول: لو أن لي ملء الأرض لافتديت به اليوم من عذاب الله قبل أن أراه. انظروا إلى هذا الثبات العجيب أيها الخيار الكرام! ومن بين هؤلاء الناس يخرج شاب يلبس ثوباً طويلاً- والحديث في صحيح البخاري - فينظر عمر، ودماؤه تنزف، والأمة تصرخ وتبكي على فراق فاروقها الملهم، وينظر عمر وهو على فراش الموت إلى هذا الشاب وهو يلبس ثوباً يجره على الأرض، فيقول الفاروق الأمير: ردوا علي هذا، ويرجع إليه الشاب، فيقول له عمر: يا ابن أخي! ارفع ثوبك؛ فإنه أنقى لثوبك، وأتقى لربك وفي لفظ البخاري: (فإنه أبقى لثوبك، وأتقى لربك. الله أكبر! على فراش الموت يأمر بالمعروف، على فراش الموت ينهى عن المنكر! ما قال: هذه قشرة من قشور الدين، لا، والله! وما قال: هذه جزئية من جزئيات الدين، لا، والله! لأن الدين لا ينقسم إلى قشور ولباب، وإنما الذي جاء بالكل هو الذي جاء بالجزء، وهو النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا أتفق معك -أيها الحبيب المبارك يا من تنادي بفقه الأولويات في الدعوة إلى الله- أنا معك على طول الخط، فلابد من فقه الأولويات، لكن شتان شتان بين فقه الأولويات، والسخرية والتحقير للفرعيات والجزئيات، فلا تحقر فرعاً، ولا تحاول أن تزيحه، نعم؛ ابدأ بالأهم فالمهم، لكن لا تحقر جزئية، ولا تقل: هذه من قشور الدين؛ فإن الدين كل لا يتجزأ، ولا ينقسم إلى قشور ولباب. والشاهد هو: ثبات عمر رضوان الله عليه. وهذا عثمان رضوان الله عليه؛ روى الطبري بسند صحيح أن عثمان بن عفان لما حوصر من الأوغاد المجرمين، ومنعوا عنه الماء، ووالله! لو صبروا عليه قليلاً لمات عثمان عطشاً، وهو الذي لا زال ماء بئره الذي اشتراه بخالص ماله يفيض على المسلمين في كل أنحاء مدينة رسول الله. عثمان رضوان الله عليه في هذه الليلة التي قتل فيها ينام بعدما صلى ما شاء الله له أن يصلي، وقرأ من القرآن ما شاء الله له أن يقرأ؛ فيأتيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في نومه ويقول له الحبيب: أفطر عندنا غداً يا عثمان! فيصبح عثمان ويفتح باب داره، ويفتح القرآن بين يديه؛ لأنه علم أن الأجل قد انتهى، وأنه مقتول، ودخل عليه المجرمون الثوار؛ فدخل عليه الغافقي المجرم فضربه بحديدة في يده، وضرب المصحف برجله! فاستدار المصحف دورة كاملة، واستقر مرة أخرى في حجر عثمان؛ لتسيل عليه دماء عثمان، فتخالط دماء عثمان آيات القرآن كما خالطت آيات القرآن دماء عثمان رضي الله عنه، ويقتل عثمان وهو يقرأ القران، يا لهذه الخاتمة! وهذا علي يطعن هو الآخر ويعود إلى فراشه ويقول: أدخلوا عليّ أبنائي، فأدخلوا عليه أبناءه، فبذل لهم وصية طويلة -كلما قرأتها تعجبت! - وقال: انصرفوا عني، وظل يقول: (لا إله إلا الله، لا إله إلا الله) حتى فاضت روحه وهو يرددها، رضي الله عنه وأرضاه. وهذا عمر بن عبد العزيز رضوان الله عليه ينام على فراش الموت ويدخل عليه ابن عمه ويقول له: يا أمير المؤمنين! لقد تركت أولادك فقراء، ألا توصي لأبنائك بشيء؟! فيقول عمر بن عبد العزيز: (وهل أملك شيئاً من المال لأوصي لأبنائي به أم تريد أن أوصي لهم بأموال المسلمين؟! والله! ما أنا بفاعل، أدخلوا أبنائي عليّ، فأدخلوهم عليه، وهو على فراش الموت، فنظر إليهم وبكى، وقال: أي بنيّ! إن أباكم قد خير بين أمرين: بين أن يترككم فقراء ويدخل الجنة أوأن يترككم أغنياء من أموال المسلمين ويدخل النار، ولقد اختار أبوكم الجنة إن شاء الله، وأنتم عندي أحد رجلين: إما أن تكونوا صالحين فالله يتولى الصالحين، وإما أن تكونوا غير ذلك فلا أدع لكم ما تستعينون به على معصية الله؛ وأسأل عنه أنا بين يدي الله، اخرجوا عني، فخرجوا عنه، وهو يردد قول الله: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83]، وفاضت روحه إلى رب العالمين، وهو يردد هذه الآية من كلام أحكم الحاكمين.

وسائل الثبات على دين الله عز وجل

وسائل الثبات على دين الله عز وجل أيها الأحبة! ما هي الوسائل التي تعينك على الثبات على دين الله، حتى تلقى الله عز وجل على دينه وطاعته، أسأل الله أن يوفقني وإياكم لذلك، فإنما الأعمال بالخواتيم، أسأل الله أن يحسن خاتمتنا:

من وسائل الثبات الاستعانة بالله عز وجل

من وسائل الثبات الاستعانة بالله عز وجل أول وسيلة من وسائل الثبات حتى الممات: أن تستعين برب الأرض والسماوات؛ فمن أعانه الله فهو المعان، ومن خذله الله فهو المخذول، فاستعن بالملك أن يثبت قلبك، وأن يسدد رميتك، وأن يثبت قدمك على الطريق، ذكر الإمام ابن الجوزي أن شيخاً من الشيوخ قال لطالب علم عنده: يا بني! ماذا أنت صانع لو مررت على غنم فنبحك كلبها؟ فقال التلميذ: ادفع الكلب ما استطعت، قال: فماذا تصنع إن نبحك الثانية؟ قال: أدفع الكلب ما استطعت، قال: فإن نبحك الثالثة؟ قال: أدفع الكلب ما استطعت، فقال الشيخ لتلميذه: يا بني! ذاك أمر يطول، ولكن استعن بصاحب الغنم يكف عنك كلبها، وكذا استعن بالله يكف عنك كيد الشيطان. فمن توكل عليه كفاه، ومن اعتصم به نجاه، ومن استعان به هداه، فأول سبيل أن تطرح قلبك بمنتهى الذل والفقر لله عز وجل، واعترف له بضعفك وبعجزك، واعترف له بفقرك، وقم في الليل، ففي الليل أنس المحبين، وروضة المشتاقين، وإن لله عباداً يراعون الظلال بالنهار كما يراعي الراعي غنمه، ويحنون إلى غروب الشمس كما تحن الطير إلى أوكارها، حتى إذا ما جنّ عليهم الليل، واختلط الظلام، وبسطت الفرش، وخلا كل حبيب لحبيبه، نصبوا إلى الله أقدامهم، وافترشوا إلى الله جباههم، وناجوا ربهم بقرآنه، وطلبوا إحسانه وإنعامه؛ فإن أول ما يمنح الله عز وجل هؤلاء أن يقذف من نوره جل وعلا في قلوبهم، فقم في الليل، وإذا خلا الأحباب بالأحبة فقم أنت وتضرع إلى الله ليثبتك ويسددك، واطلب العون والمدد منه جل وعلا.

من وسائل الثبات ذكر الجنة والنار

من وسائل الثبات ذكر الجنة والنار وأخيراً: ذكر الجنة والنار، فأكثر من ذكر الجنة، وأكثر من التدبر في أحوال النار وأهل النار؛ فإن كثرة التذكر والتدبر للجنة والنار يدفعك للطاعة، ويعينك على أن تثبت على الطاعة، فهذه الدنيا قصيرة، ومهما عظمت فهي حقيرة، ومهما طالت فهي قصيرة، فكم ستعيش؟! ستعيش أياماً قليلة جداً، فبالمقارنة إلى الزمن ستعيش أياماً قليلة، فتذكر دار القرار، وتذكر النار، واعلم أنك هنا في مزرعة، وفي بوتقة ابتلاء واختبار، فاغرس هنا ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم، وتذكر الجنة، وذكر نفسك وقل لها: يا نفس قد أزف الرحيل وأضلك الخطب الجليل فتأهبي يا نفس لا يلعب بك الأمل الطويل فلتنزلن بمنزل ينسى الخليل به الخليل وليركبن عليك فيه من الثرى ثقل ثقيل قرن الفناء بنا جميعاً فما يبقى العزيز ولا الذليل وذكرها بقول الآخر: أيا عبد كم يراك الله عاصياً حريصاً على الدنيا وللموت ناسيا أنسيت لقاء الله واللحد والثرى ويوماً عبوساً تشيب فيه النواصيا لو أن المرء لم يلبس ثياباً من التقى تجرد عرياناً ولو كان كاسيا ولو أن الدنيا تدوم لأهلها لكان رسول الله حياً وباقيا ولكنها تفنى ويفنى نعيمها وتبقى الذنوب والمعاصي كما هيا أسأل الله جل وعلا أن يثبتنا على الحق، اللهم ثبتنا على الإيمان، اللهم ثبتنا على الإيمان، اللهم إن أردت بالناس فتنة فاقبضنا إليك غير خزايا ولا مفتونين، ولا مفرطين ولا مضيعين، ولا مغيرين ولا مبدلين، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم استرنا ولا تفضحنا، وأكرمنا ولا تهنا، وكن لنا ولا تكن علينا. اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، وبلغنا مما يرضيك آمالنا. اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها! اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا. اللهم برحمتك لا تدع لأحد منا ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا أديته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ميتاً لنا إلا رحمته، ولا طائعاً إلا ثبته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ويسرتها يا رب العالمين! اللهم اجعل جمعنا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروماً، اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى! اللهم اجعل هذه البلاد سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، واجعل هذه البلاد أمناً وأماناً وسائر بلاد المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين! أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وما كان من توفيق فمن الله، وما كان من خطأ أو سهو أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء, وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.

من وسائل الثبات مجالسة الصالحين

من وسائل الثبات مجالسة الصالحين خامساً: مجالسة الصالحين وصحبتهم كما ذكرت، فاحرص على صحبة الصالحين في الدنيا، وبعد موتهم بقراءة شعرهم، والاطلاع على أخبارهم، يقول الإمام ابن القيم: كنا إذا ضاقت صدورنا ذهبنا إلى شيخ الإسلام ابن تيمية، فإذا رأيناه وسمعنا كلامه؛ انطلقنا وقد شرح الله صدورنا. وفي سنن ابن ماجة بسند حسن من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من الناس ناساً مفاتيح للخير، مغاليق للشر) فاحرص على هذه المفاتيح التي تفتح قلبك وأذنك وسمعك وبصرك على الخير.

من وسائل الثبات قراءة القرآن والعمل به

من وسائل الثبات قراءة القرآن والعمل به ثانياً: من أعظم وسائل الثبات قراءة القرآن الكريم والعمل به، قال تعالى: {وَقَاْلوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان:32] فالترتيل للقرآن من أعظم وسائل الثبات. أيها الحبيب المبارك! إن عجزت عن أن تقرأ أنت بنفسك فاسمع القرآن، وإن عجزت عن ذلك كله فاجلس إلى رجل واطلب منه أن يقرأ عليك القرآن، فكما يفكر الواحد منا في أن يدخل لبيته كل وسائل الترفيه، وكل وسائل السعادة؛ فليفكر في أن يمنح لرجل من أهل القرآن راتباً نظير حبسه لوقته، لا نظير تعليم القرآن، وليقل له: تعال علمني القرآن، وعلمني قصار السور، وأسمعني القرآن، قال تعالى {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء:66] فاقرأ القرآن، وتدبره واجتهد على قدر استطاعتك أن تعمل به.

من وسائل الثبات مداومة ذكر الله عز وجل

من وسائل الثبات مداومة ذكر الله عز وجل ثالثاً: ذكر الله، فلا يفتر لسانك عن ذكر الملك، ولقد ضرب النبي لنا مثل الذاكر ومثل الغافل في حديث عجيب رواه البخاري ومسلم من حديث أبي موسى الأشعري قال: قال صلى الله عليه وسلم: (مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه كمثل الحي والميت) فالذاكر حي، والغافل عن الذكر ميت ولو كان يعيش بين الأحياء، فأكثر من ذكر الله، يقول الله جل وعلا في الحديث القدسي الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة عن رسول الله عن رب العزة عز وجل: (أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني) فهل تريد شيئاً أعظم من أن يكون الله معك؟! وإذا كان الله معك فمن يكيدك؟ ومن ضدك؟ (أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني؛ فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة).

من وسائل الثبات المحافظة على الصلاة في جماعة

من وسائل الثبات المحافظة على الصلاة في جماعة رابعاً: المحافظة على الصلوات في جماعة، فاحرص على أن تهرول إلى بيوت الله، فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية، وإخوانك هم الذين يأخذون بيديك إلى الطاعة، ويذكرونك بالله، والنظر في وجوه الصالحين ورؤيتهم تذكرك بطاعة رب العالمين، كما قال سيد المرسلين: (مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إن لم تشتر منه ستشم الطيب منه، ونافخ الكير إن لم يحرق كيره ثيابك ستشم منه رائحة خبيثة) وصلاة الجماعة من أعظم وسائل الثبات على الدين، فقد روى أحمد وبعض أصحاب السنن وحسنه الألباني في (صحيح الترغيب والترهيب) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تحترقون تحترقون، حتى إذا صليتم الصبح غسلتها) الله أكبر! كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: (أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يا رسول الله! قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا)، قال في الحديث السابق: (تحترقون تحترقون حتى إذا صليتم الصبح غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم الظهر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون-أي: بالذنوب والمعاصي- فإذا صليتم العصر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم المغرب غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم العشاء غسلتها، ثم تنامون فلا يكتب عليكم شيء حتى تستيقظوا) فاحرص على الخير وعلى الطاعة، وقل: آمنت بالله ثم استقم، واستقم على طريق الخير، وعلى طريق الطاعة، وعليك بالمحافظة على الصلوات.

الترغيب في الزواج

الترغيب في الزواج الزواج حصن للمرء من الوقوع في معصية الله تعالى، وقد حث الله عليه، وجعله النبي صلى الله عليه وسلم من سنته، ونهى عن التبتل والانقطاع، كما أن الزواج يحقق رغبة الفطرة، ويشبع الميل البشري مع الحفاظ على العفاف والطهر.

أهمية الزواج

أهمية الزواج الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك وما كان معه من إله، الذي لا إله إلا هو، فلا خالق غيره ولا رب سواه، المستحق لجميع أنواع العبادة، ولذا قضى ألا نعبد إلا إياه، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62]. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الأول فلا شيء قبله، وهو الآخر فلا شيء بعده، وهو الظاهر فلا شيء فوقه، وهو الباطن فلا شيء دونه، وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فمرحباً بكم أحبتي في الله عز وجل، وبعد وقفة طويلة توقفناها مع آلام أمتنا وجراحاتها، وكان لا بد من هذه الوقفة تألماً لآلام المسلمين، وتبصرة للمسلمين بما يدبر لهم في الليل والنهار، وتذكرة للمسلمين بواجبهم تجاه إخوانهم الذين يذبحون ذبح الخراف هنا وهناك، على مرأى ومسمع من الدنيا، وكان لا بد من هذه الوقفة تأدباً بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى). وبعد هذه الوقفة الطويلة نسأل الله جل وعلا أن يشفي جراحات الأمة، وأن يردها إلى إسلامها رداً جميلاً، وأن يقر أعيننا وإياكم بنصرة الإسلام وعز المسلمين، إنه ولي ذلك ومولاه وهو على كل شيء قدير؛ بعد هذه الوقفة الطويلة تعالوا بنا أحبتي في الله لندخل مرة أخرى إلى رحاب سورة الستر والعفاف، إلى رحاب سورة النور، فنحن اليوم على موعد مع الدرس السابع من دروس هذه السورة المباركة، وما زال حديثنا بتوفيق الله جل وعلا عن الضمانات الوقائية التي وضعها الإسلام سياجاً واقياً لأفراده رجالاً ونساءً من الوقوع في الفاحشة والعياذ بالله. إن الإسلام منهج حياة متكامل شامل، لا يقوم أصلاً ولا يقوم أساساً على العقوبة، إنما يقوم على توفير أسباب الحياة النظيفة، ثم يعاقب بعد ذلك من ترك هذه الأسباب الطاهرة النظيفة، وذهب ليتمرغ في الوحل والطين طائعاً مختاراً غير مضطر. ومن بين هذه الضمانات الوقائية التي تحدثنا عنها، والتي وضعها الإسلام سياجاً واقياً لأفراده من التردي والانحلال والوقوع في الفاحشة: أولاً: تحريم النظر إلى المحرمات. ثانياً: تحريم التبرج وفرض الحجاب. ثالثا: تحريم الخلوة بالمرأة الأجنبية والاختلاط بها. رابعاً: الحض على الزواج لمن استطاع إليه سبيلاً، والحض على الصوم لمن لا يستطيع الزواج، والحض على عدم المغالاة في المهور. ونحن اليوم بفضل الله جل وعلا على موعد مع الضمان الرابع الذي يعد من وجهة نظري من أعظم الضمانات الوقائية التي وضعها الإسلام حماية وتأميناً للعلاقة بين الرجل والمرأة؛ لأن الميل الفطري بين الرجل والمرأة ميل عميق في التكوين البشري؛ لأن الله تعالى قد أناط به امتداد الحياة على ظهر الأرض، لذا فهو ميل دائم لا ينقطع ولا ينتهي، ومن أجل ذلك شرع الإسلام الزواج وحث عليه، وجعل الله الزواج من سنن المرسلين، وجعله الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم من سنته، وقال: (من رغب عن سنتي فليس مني).

الزواج راحة للقلب واستقرار للحياة

الزواج راحة للقلب واستقرار للحياة امتن الله علينا بنعمة الزواج فقال سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21] أيها الحبيب! أيتها الأخت الكريمة الفاضلة! هل سمعتم هذا الأسلوب الرقيق العذب اللطيف الذي يمتن علينا به القرآن عند حديثه عن الزواج إنه من أعظم النعم التي امتن الله بها على الرجال والنساء على حد سواء، إنها صلة السكن للنفس والقلب، إنها صلة الراحة للجسد والقلب، إنها صلة الاستقرار للمعاش وللحياة: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا) لماذا؟ سكن راحة قلب وراحة نفس راحة بال وراحة ضمير استقرار حياة، واستقرار معاش، وشتان بين علاقة بين رجل وامرأة في الحلال، وبين علاقة بين رجل وامرأة في الحرام. انظروا إلى رجل يعاشر زوجته في عش الزوجية، وبينما هو في هذه العبادة وهذه الطاعة -إن صحت النية فإن الله جل وعلا يأجره على ذلك- بينما هو على هذا الحال يطرق ويقرع عليه بابه، فما الذي يحدث، وما الذي يصير؟ يقوم بمنتهى الأمن والأمان والطمأنينة ليغتسل أو ليرتدي ثيابه، ثم يذهب ليرى من يطرق عليه بابه! وانظر إلى رجل مع امرأة في علاقة محرمة (الزنا) والعياذ بالله، في مكان أياً كان، ثم يطرق عليه الباب أو يسمع صوتاً هامساً في الشارع، أو يسمع حركة بخارج الدار، مستحيل أن يتم هذا اللقاء، وأن يستمر هذا الوضع، بل تراه قائماً مضطراً خائفاً وجلاً، وهذا هو الفرق بين العلاقة في الحلال كما أرادها الله، وكما شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين علاقة حرمها الإسلام وحرمها رسول الله عليه الصلاة والسلام. (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا) اسمعوا مني هذه الكلمات واحفظوها، أقول: العلاقة الزوجية إن خلت من المودة والمحبة والرحمة أصبحت كالجسد الميت، إن لم يدفن فاح عفنه ونتنه، ودفنه هو الطلاق الذي أثار عليه المستشرقون شبهاً طوالاً عراضاً، وهي رحمة من أعظم رحمات الله جل وعلا. لا بد للحياة الزوجية أن تبنى على الحب وعلى المودة وعلى الرحمة، على الحب الذي دنس واستغل ووضع في غير موضعه! وأصبح يعبر عن الحب بأقبح العلاقات الجنسية القذرة التي أصبح يعلمها لأبنائنا وفتياتنا الإعلام العميل للشيوعية والعلمانية وغيرهما. إن العلاقة الزوجية لا بد أن تبنى على المحبة، ولا بد أن تبنى على الرحمة، ولا بد أن تبنى على المودة.

النهي عن التبتل والرهبانية

النهي عن التبتل والرهبانية أمر الإسلام بالزواج، وحث النبي صلى الله عليه وسلم عليه، ونهى عن التبتل والرهبانية، وجعل هذا الزواج بهذه الأصول وتلك الضوابط من سنته، ففي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته -أي عن عبادة رسول الله- فلما أخبروا عنها كأنهم تقالوها -أي: كأنهم تقالوا عبادة النبي عليه الصلاة والسلام- فقالوا: وأين نحن من رسول الله وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟! فقال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبداً، وقال آخر: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم قال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا -وفي رواية الإمام مسلم: فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قام وقال: ما بال أقوام يقولون كذا وكذا). صاحب الأخلاق عليه الصلاة والسلام يقول: (أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟) أي: هل أنتم الذين قلتم: أنا أصلي الليل أبداً، وأنا أصوم النهار أبداً، وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج؟ قال: (أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني!). النبي عليه الصلاة والسلام حث الشباب المسلم على أن يغض بصره، وعلى أن يحصن فرجه بهذه النعمة العظيمة نعمة الزواج، وحث غير القادر على الصيام، فإنه خير سياج وخير وقاية وأعظم ضمان، ففي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) أي: وقاية من الوقوع في الفاحشة والمعصية، إذا ما راقب الله جل وعلا، واتقى الله عز وجل، وعلم أن الله يعلم سره ونجواه: إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب وصدق الله جل وعلا إذ يقول: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7] أي: معهم بعلمه، معهم بقدرته، معهم بإحاطته، معهم بإرادته جل وعلا، ولا تجعلوا معية الله في الأماكن معية الذات حتى لا تقعوا فيما وقع فيه أهل الحلول والاتحاد وأهل التشبيه تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]،0 {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:103] إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19]. (فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ) أي: فمن لم يستطع باءة الزواج ومئونة الزواج (فعليه بالصوم فإنه له وجاء).

الحض على عدم المغالاة في المهور

الحض على عدم المغالاة في المهور حض الإسلام -تيسيراً للزواج- على عدم المغالاة في المهور، وإن المشكلة الآن أضحت ضخمة كبيرة بصورة لا ينبغي أن نغمض عنها أعيننا، وأحمل الآباء والأمهات مسئولية جريمة هذه الكثرة الكاثرة من شباب الأمة الذي لا يستطيع الزواج، وهذه الكثرة الكاثرة من فتيات الأمة اللائي فاتهن ركب الزواج، أحمل هذه الجريمة برمتها الآباء والأمهات، إلى الآباء الذين وقفوا وقفة تعنت وتشدد أمام مغالاتهم في المهور، وأمام إسرافهم في النفقات والتكاليف، وكأنهم يريدون لعش الزوجية أن يتحول في أول أيامه إلى معرض تعرض فيه أرقى وأحدث ما تنتجه المصانع الإيطالية والأمريكية من أثاث! ما هذا يا عباد الله! اتقوا الله أيها الآباء! واتقين الله أيتها الأمهات! اتقوا الله في شباب الأمة الذي فتح عليه باب شر مستطير، وباب فتنة خطير كبير، إن الشاب في هذه الأيام يقضي زهرة عمره وأحلى أيام شبابه في الجمع لتكاليف الزواج، وإذا ما من الله عليه بجمع القليل ليحصن نفسه ويعف فرجه، يكون قد تجاوز الخامسة والثلاثين من عمره، فإنا لله وإنا إليه راجعون! وارجعوا إلى الإحصائيات فاقرءوها لتبكوا دماً بدل الدمع على حال شباب أمتنا، وعلى حال فتياتنا اللائي يصرخن بالليل والنهار، ويقضين الليل يشتكين إلى الله ظلم العادات القبيحة التي حالت بينهن وبين ما تتمناه كل فتاة، وتسعد به كل أنثى. والله الذي لا إله غيره لو وصلت المرأة إلى أرقى الدرجات، وبلغ أبوها من الغنى ما بلغ فلن يغني عنها شيئاً، إن الفتاة لا تريد الغنى ولا تريد الجاه عند أبيها، بقدر ما تريد زوجاً تقياً نقياً يصون عرضها، ويحصن فرجها، ويستر عورتها، ويتقي الله فيها. فاتقوا الله أيها الآباء! وارحموا شباب الأمة المساكين، ارحموا عجز الشاب، وارحموا ضعفه، وارحموا فقره. وإن من الله عليك بالمال ورأيت شاباً تقياً نقياً فما الذي يحول بينك وبين أن تذهب إليه لتعرض عليه ابنتك، أو أنك أكثر حياء من أمير المؤمنين عمر؟! ذهب عمر يعرض ابنته حفصة رضي الله عنها على عمالقة الصحابة وأتقيائهم رضي الله عنهم! إذا منّ الله عليك بالمال ورأيت شاباً صالحاً، فاذهب إليه، ولا تستحي، اذهب إليه وقل له: يا بني! هل لك في فتاة تتقي الله؟ هل لك في فتاة تحافظ على فرض الله؟ هل لك في فتاة تصون عرضك وتصون شرفك؟ اعرض عليه ابنتك، ولا تستحي أيها الأب الكريم فأنت لست مخلداً، إنما الذي سيبقى لابنتك هو زوجها.

المعتبر في الزوج الخلق والدين لا المال والجاه

المعتبر في الزوج الخلق والدين لا المال والجاه روى الإمام الترمذي وابن ماجة والحاكم في المستدرك وصححه، وصححه أيضاً الإمام السيوطي في الجامع الصغير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض)، والله لقد وقعت الفتنة ووقع الفساد العريض، يوم أن وقف الأب أمام المتقدم لابنته يقول: ما ثمنك؟ ما قيمتك؟ ولم يقل: من أنت؟ ما دينك؟ ما حالك مع القرآن؟ ما حالك مع الصلاة؟ ما حالك مع الله؟ أصبحت هذه الأسئلة لا وجود لها، بل يتقدم الشاب فيسأله عن عرض الدنيا الزائل، وعن حطام الدنيا الفاني، أصبح لا يسأل عن الدين، ووالله إن من تقدم بماله لفتاتك أيها الأب، ولابنتك أيتها الأم، والله الذي لا إله غيره -وأقسم بالله غير حانث- إنه سيعامل ابنتك كما ينظر إلى الريال والدولار، وإذا ما قضى منها نهمته، وشهوته ستتحول عنده إلى سلعة، لا تختلف شيئاً عن أي قطعة أثاث اشتراها بماله، وربما امتن عليها بغناه في يوم من الأيام قال رجل: (يا حسن! إن لي ابنة، فلمن أزوجها؟ قال: زوج ابنتك لمن يتقي الله، فإن أحبها أكرمها، وإن أبغضها لم يظلمها). أيها الآباء أيها الأخيار أيها الأحباب! هذه نصحية شاب من أبنائكم، ونصيحة ابن من أبنائكم: إذا جاءك من ترضى عن خلقه ودينه فقدم إليه ابنتك، واعرض عليه ابنتك، ولا تستحي أن يقال: إن فلاناً قد باع ابنته لفلان، هذا كلام العادات القبيحة الجاهلة، ورحم الله الإمام ابن القيم حيث قال: ما عادى الرسل إلا العادات. إي والله، ما عادى الرسل إلا العادات، أي: ما وقف حجر عثرة في طريق الرسل إلا العادات، إنا وجدنا آباءنا كذلك يفعلون، هذه تنظر لابنة فلان فتقول: ابنة فلان قدم لها من المهر كذا وكذا، وقدم لها من الأثاث كذا وكذا، وأنا لا أقل عنها في شيء، وهذا ينظر إلى فلان، وهذه الأم تنظر إلى ابنة فلانة، ما هذا يا عباد الله؟! ووقف الشاب المسكين تائهاً حائراً بين هذه التيارات القبيحة من العادات، ووقفت البنت مسكينة حائرة تشكي أمرها إلى الله، وتشكي حالها إلى الله، ووالله لولا حياء فتياتنا، ولولا حياء أخواتنا، ولولا حياء بناتنا؛ لصرخن في وجوهنا في الليل والنهار، وقلن لنا: ارحموا عجزنا، وارحموا ضعفنا، واستروا عوراتنا، ماذا تصنع البنت إلى أبيها، ماذا تصنع البنت إلى أمها؟! هل تريد لابنتك أن تقضي عمرها في بيتك أم تريد لابنتك أن تقضي عمرها في فراشك؟! والله ما لهذا خلقت، وما لهذا وجدت، بل ما وجدت إلا لتكون في بيت زوجها، وإلا لتكون في عش الزوجية؛ لتباهي الأمم ولتباهي الدنيا بنسلها الذي تربيه على كتاب الله وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أيسر النساء مهرا أعظمهن بركة

أيسر النساء مهراً أعظمهن بركة روىالإمام أحمد في مسنده، وفي إسناد هذا الحديث عيسى بن ميمون قال عنه الإمام البخاري: منكر الحديث، وبقية رجال الإسناد ثقات، وروى الحديث من طريق آخر الإمام ابن حبان، وقال: حديثه حسن، من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أعظم النكاح بركة أيسرهن مئونة) خفف ولا تسرف (يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا)، وهذا الحديث رواه البخاري ومسلم. فيسروا على عباد الله، ارحموا شباب الأمة يرحمكم الله، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، ارحموا الشباب والفتيات، يسروا لهم أمر الزواج، وخففوا عليهم عبء الزواج، أما تعلمون أن رسولكم صلى الله عليه وسلم قد زوج رجلاً بما معه من القرآن، بوب الإمام البخاري باباً في كتاب النكاح في صحيحه بعنوان: باب التزويج بالقرآن وبغير صداق، انظروا إلى فقه البخاري، ورحم الله من قال: فقه البخاري في تراجمه، يترجم الباب بهذا العنوان: باب التزويج على القرآن وبغير صداق، وروى في هذا الباب حديث سهل بن سعد رضي الله عنه قال: (جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إني وهبت نفسي لك) امرأة وهبت نفسها لرسول الله، وهذا أمر خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم وحده دون غيره من سائر الأمة، قال: (فقامت المرأة قياماً طويلاً، فقال رجل: يا رسول الله! زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: هل معك شيء تصدقها؟) أي: تقدمه لها صداقاً، (قال: لا، ليس معي إلا إزاري) سبحان الله! (فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لو أعطيتها إزارك جلست لا إزار لك، التمس شيئاً) أي: ابحث عن شيء آخر تقدمه لها. (فذهب الرجل فلم يجد شيئاً، فرجع إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فقال له النبي: التمس ولو خاتماً من حديد، فقال الرجل: لم أجد شيئاً) لم يجد حتى خاتماً من حديد يقدمه صداقاً لهذه المرأة إذا تزوجها. فقال له النبي عليه الصلاة والسلام (هل معك شيء من القرآن؟ قال: نعم. معي سورة كذا وكذا، سور يسميها)، أتدرون ماذا قال له رسول الله عليه الصلاة والسلام؟! قال: (قد زوجتكها بما معك من القرآن). هذا هو إسلامنا، هذا هو ديننا، إنه التخفيف، إن المرأة ليس لها في هذا الوجود إلا أن تجلس وأن تعيش مع زوج يتقي الله ويعينها على طاعة الله، ويأخذ بيدها وتأخذ بيده إلى مرضاة الله جل وعلا، لا أن تجلس مع أبيها، ولا أن تجلس مع أمها، إذا ما بلغت سن زواجها وسن إحصانها وسن إعفافها.

قصة ابن المسيب في تزويج ابنته

قصة ابن المسيب في تزويج ابنته ولا ينبغي أن ننسى هذا المشهد المهيب، هذا المشهد الكريم، وأزفه إلى الآباء والأمهات، إنه مشهد زواج بنت سيد التابعين سعيد بن المسيب، عاصر كثيراً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يعترف معظم علماء الحديث بمراسيل أحد أكثر من اعترافهم بمراسيل سعيد بن المسيب، كما قال أحمد وغيره. سعيد بن المسيب كانت له فتاة، أتدرون من خطبها لابنه، خطبها أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان، لولده الوليد، أي نسب وأي شرف! أمير المؤمنين يخطب فتاة لولده، إنها زيجة يحرص عليها كل الناس، ولكن من ملأ الإيمان قلبه، وملأ التقى جوانحه، يريد أن يقدم ابنته لرجل صالح تقي نقي يراقب الله فيها، ويتقي الله فيها، ولو كان فقيراً لا يملك من حطام الدنيا شيئاً، ورفض سعيد بن المسيب أن يزوج ابنته للوليد بن عبد الملك بن مروان، وغضب عليه عبد الملك بن مروان بسبب ذلك، فلما أبى سعيد بن المسيب جلده مائة سوط. ارجعوا إلى سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي في المجلد الرابع تحت عنوان: تزويجه ابنته، ضربه مائة سوط في يوم بارد، وأبى سعيد بن المسيب أن يقدم فلذة كبده وثمرة فؤاده للوليد بن عبد الملك بن مروان، وقدمها لطالب علم في حلقته فقير متواضع، إلا أنه وجد فيه التقى، ووجد فيه الصلاح والفلاح، قدمها لـ كثير بن أبي وداعة رحمه الله، والقصة أوردها الإمام أبو نعيم في الحلية، وأوردها الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية، وأوردها ابن خلكان في وفيات الأعيان، وأوردها الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء من طريق أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، وعلى الرغم من أن كثيراً من علماء الجرح والتعديل قد ضعف أحمد هذا إلا أن الإمام مسلماً رحمه الله تعالى قد احتج به على ضعفه، وقد وثقه غير واحد كـ ابن أبي حاتم وغيره. يقول كثير بن أبي وداعة: كنت ممن يجلس في مجلس سعيد بن المسيب ففقدني أياماً، فسألني: أين كنت؟ فقلت: لقد توفيت أهلي، أي: ماتت زوجته وكان متزوجاً، فما قال: لن أزوجها لرجل قد تزوج قبل ذلك. قال: أين كنت؟ قال: لقد توفيت أهلي فانشغلت بها، أي: ماتت زوجتي فانشغلت بها، فقال سعيد: هلا أخبرتنا فشهدناها معك، ثم قال سعيد بن المسيب: هل استحدثت امرأة أخرى، أي: هل تزوجت غيرها؟ فقال له كثير بن أبي وداعة: يرحمك الله يا أبا محمد! ومن يزوجني ولا أملك من الدنيا إلا درهماً أو درهمين! وفي رواية: إلا درهمين أو ثلاثة! فقال له سعيد: أنا أزوجك، قال: أوتفعل؟ قال: نعم، يقول: فقام سعيد فحمد الله عز وجل وأثنى عليه وصلى على رسول الله، وزوجني ابنته على درهمين! يقول كثير: فانطلقت إلى بيتي وأنا لا أعلم ماذا أصنع من الفرح، ثم صليت المغرب وعدت إلى داري وكنت صائماً، وقدمت العشاء وكان خبزاً وزيتاً، وبينما أنا جالس أفكر فيمن أستدين منه، وإذا ببابي يقرع، فقلت: من؟ قال: سعيد! يقول: ففكرت في كل أحد اسمه سعيد إلا سعيد بن المسيب، فإنه منذ أربعين سنة لم ير إلا بين مسجده وبيته، ففتحت الباب، فإذا به سعيد بن المسيب فقلت: أبا محمد! وظننت أنه قد فكر في شيء آخر وغير رأيه، فقلت: يا أبا محمد هلا أرسلت إلي فآتيك؟ فقال سعيد بن المسيب: لا، أنت أحق أن تؤتى، ثم قال سعيد: يا كثير، لقد فكرت في أمرك: رجل عزب وقد زوجتك، فكرهت أن تبيت الليلة وحدك، وإذا بابنته واقفة في طوله من خلفه، فأخذها بيده ودفعها إلى دار كثير بن أبي وداعة، فأغلق الباب وانصرف، يقول كثير: فسقطت المرأة من الحياء! كن على حياء! يقول: فخشيت أن ترى الخبز والزيت، فجعلته وراء الشعلة -أي: وراء الضوء حتى لا تفتن لأول مرة بعيشته- وصعدت إلى سطح منزلي فناديت على جيراني، فجاءت زوجة من نساء الجيران فدخلت إليها لتؤنسها، ولما علمت أمي بذلك جاءتني وقالت: وجهك من وجهي حرام يا كثير إن مسستها قبل ثلاثة أيام، يقول كثير بن أبي وداعة: فتركتها ثلاثة أيام حتى جهزوها وأعدوها، فدخلت عليها فإذا هي من أجمل النساء، ومن أعلمهن ومن أحفظهن لكتاب الله، وأعلمهن بسنة رسول الله، وأعرفهن بحق الزوج، فغبت معها ولم أخرج إلى مجلس سعيد بن المسيب شهراً كاملاً، وبعد شهر خرجت إلى سعيد، فلما انفض المجلس اقترب مني وقال: كيف حال هذا الإنسان؟ قلت: بخير حال، بحال يسر الصديق ويسيء العدو، فقال لي سعيد: خذ عشرين ألف درهم لتستعين بها على حياتك! بالله عليكم بأي شيء نعلق! وماذا نقول، رحم الله من قال: رغيف خبز واحد تأكله في زاوية وكوز ماء بارد تشربه من صافية وغرفة نظيفة نفسك فيها هانية وزوجة مطيعة عينك عنها راضية وطفلة جميلة محفوفة بالعافية اختارك الله لها حتى تكون داعية خير من الدنيا وما فيها وهي لعمري كافية ما هذا! إنه الإسلام يا عباد الله! هذا هو ديننا: (يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا) اللهم إني قد بلغت، اللهم فاشهد يا رب العالمين. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.

قصة شريح مع زوجه

قصة شريح مع زوجه الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد: وأخيراً أيتها الأخت الفاضلة الكريمة! أزف إليك هذه القدوة، أزف إليك هذه القدوة بعدما حدثنا الآباء، وتحدثنا مع أمهاتنا الفضليات الكريمات، أزف إليك هذه القدوة يا بنت الإسلام يا أصل العز! ويا أصل الشرف! يا من أغظت أعداء الإسلام بحجابك وتمسكك بدينك والتزامك، يا درتنا المصونة! ويا لؤلؤتنا المكنونة! أزف إليك هذه القدوة لتتحدثين بها بين يدي أبيك وأمام أمك إذا ما تقدم إليك الرجل الصالح، تكلمي وتحدثي، فخلقك العزم، وبلسانك الحلم, ولا تستحي أن تعرضي قضيتك بين يدي أبيك وبين يدي أمك. هذه القدوة يزفها إلينا التاريخ، إنها زوج شريح القاضي، الذي ولاه عمر بن الخطاب قضاء الكوفة فمكث فيه ستين سنة، وضرب بعدله المثل، له ترجمة طويلة في سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي في المجلد الرابع. يمر عليه الشعبي يوماً، والشعبي هو أعلم التابعين كما قال زيد عن مكحول: أعلم التابعين الشعبي. يقول: التقى شريح بـ الشعبي فقال الشعبي لـ شريح: كيف حالك يا شريح؟ قال بخير حال، قال: كيف حال أهلك؟ أي كيف حال زوجك؟ فقال شريح: والله يا شعبي! منذ عشرين سنة لم أر من زوجي ما يغضبني قط، قال الشعبي: سبحان الله! وكيف ذلك؟! قال شريح: يا شعبي منذ أول ليلة دخلت فيها على زوجتي رأيت بها جمالاً نادراً وحسناً باهراً فقلت: أصلي ركعتين شكراً لله! يعترف لله بالفضل، ما قال: أقوم لأبحث عن كأس خمر، أو عن شريط قذر نجس، أو عن فيلم أقضي الليلة معه، لا، بل قال: أقوم أصلي ركعتين شكراً لله عز وجل. يقول شريح: فلما صليت وسلمت رأيت زوجتي تصلي بصلاتي وتسلم بسلامي أي: أنها دخلت معه في الصلاة لله جل وعلا، فلما انتهينا، وانفض الأهل والأحباب، مددت يدي نحوها، فقالت: على رسلك يا أبا أمية! اسمعوا ماذا تقول هذه المرأة، وماذا تقول هذه الزوجة في ليلة بنائها: على رسلك يا أبا أمية، ثم قالت: أحمد الله وأستعينه وأستغفره، وأصلي وأسلم على رسول الله، وبعد: أبا أمية! إني امرأة غريبة عنك، لا علم لي بأخلاقك، فبين لي ما تحب فآتيه، وما تكرهه فأتركه. أبا أمية! لقد كان لك من نساء قومك من هي كفؤ لك، ولقد كان لي من رجال قومي من هو كفؤ لي، أما وقد قضى الله أمراً كان مفعولاً فاصنع ما أمرك الله به: {فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229]، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولك. الله أكبر! يقول شريح: فأحوجتني والله إلى الخطبة في ذلك يا شعبي، فجلست وقلت: أحمد الله وأستعينه وأستغفره وأصلي وأسلم على رسول الله وبعد: فإنك قلت كلاماً إن ثبت عليه يكن حظك، وإن تدعيه يكن حجة عليك. أما إني أحب كذا وكذا، وأكره كذا وكذا. قالت: فما تحب من زيارة أهلي؟ قال: ما أحب أن يملني أصهاري، قالت: فمن تحب من جيرانك أن يدخل دارك، قال: بنو فلان قوم صالحون، وبنو فلان قوم سوء، وما رأيت من حسنة فانشريها، وما رأيت من سيئة فاستريها. يقول شريح: فبت معها بأنعم ليلة، ومكثت عشرين سنة، والله لم أعتب عليها في حياتي إلا مرة واحدة، وأشهد الله أني كنت لها ظالماً! قلت: يا لها من عيشة هانية، يا لها من عيشة هانية راضية، وهكذا تكون المرأة الصالحة التي تراقب الله جل وعلا في زوجها، وتتقي الله تبارك وتعالى في بعلها، هذا هو الزواج، وهذا نداء للآباء ونداء للأمهات ونداء للفتيات ونداء للشباب. أسأل الله جل وعلا أن يحصن فروجنا، وأن يحصن فروج شباب أمتنا، وفتياتنا وبناتنا، إنه ولي ذلك ومولاه، اللهم حصن فروجنا، اللهم حصن فروجنا، اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء، اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء، اللهم يسر لشباب الأمة زواجاً يعفوا به أنفسهم، ويسر لفتيات الأمة زواجاً يعففن به أنفسهن، أنت ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

فضل الصيام

فضل الصيام شهر رمضان شهر عظيم مبارك، اصطفاه الله تعالى من بين شهور السنة؛ لأداء فريضة عظيمة فيه، وركن من أركان الإسلام، وهو: الصيام. وهو موسم فيه بركات إلهية كثيرة، تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق أبواب النار، وتصفد الشياطين، وتكثر فيه أبواب الخير.

(وربك يخلق ما يشاء ويختار)

(وربك يخلق ما يشاء ويختار) إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين، أما بعد: فمرحباً بكم أحبتي في الله، لقد كان من المنتظر أن يكون لقاؤنا في هذا اليوم المبارك هو الدرس السادس من دروس سورة الستر والعفاف سورة النور، ولكن اسمحوا لي -أيها الأحبة- أن نتوقف عن مواصلة دروس سورة النور لنحيي ضيفاً كريماً قد حل بنا ونزل علينا، إنه ضيف كريم يحل بنا وتحل معه البركات، إنه ضيف عظيم ينزل علينا وتنزل معه الرحمات، إنه ضيف مبارك تخشع فيه القلوب، وتصفو فيه النفوس، وتلين فيه الجلود، وتخشع فيه الجوارح، إنه شهر رمضان، إنه شهر الصيام، إنه شهر القرآن، إنه شهر القيام، إنه شهر الإحسان، إنه شهر العتق من النيران لمن تاب وأناب إلى الرحيم الرحمن جل وعلا. تعالوا بنا -أيها الأحبة- لنعيش بعض الوقت مع هذا الشهر العظيم المبارك، ومع هذا الضيف العزيز الخفيف الذي سرعان ما يحل بنا، وسرعان ما يولي من بين أيدينا وظهورنا، فلقد كنا نقول منذ يومين أو ثلاثة: غداً رمضان، وسوف نقول بعد وقت قليل: لقد انتهى رمضان، وها هي أيام الخير، وها هي أيام البركات والرحمات تولي سريعةً من بين أيدينا وأظهرنا، فالله الله في هذه الأيام، الله الله في شهر القرآن، الله الله في شهر الصيام، الله الله في شهر الإحسان. يا عباد الله! يا أبناء هذه الأمة الميمونة المباركة! يا من اختصكم الله جل وعلا بهذا الشهر العظيم المبارك واختصكم فيه بليلة هي خير من ألف شهر، وصدق الله جل وعلا إذ يقول: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:68]، والاختيار هنا بمعنى الاصطفاء والاجتباء كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى. إن الله جل وعلا هو الذي يخلق وهو الذي يفضل ما يشاء، ويختار من بين خلقه ويصطفي ما يشاء؛ فلقد خلق الله جل وعلا السموات سبعاً واختار العليا منها، فاختصها بالقرب من عرشه جل وعلا. وخلق الله الجنان واختار منها جنة الفردوس، فجعل عرشه سقفاً لها، ويا لها من كرامة! وخلق الله الملائكة واصطفى من الملائكة جبريل وإسرافيل وميكائيل، فجبريل هو صاحب الوحي الذي به حياة القلوب والأرواح، وإسرافيل صاحب الصور الذي إذا نفخ فيه أحيت نفخته جميع الأموات بإذن رب الأرض والسماوات، وميكائيل هو صاحب القطر الذي به حياة كل شيء {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء:30]. وخلق الله جل وعلا البشر، واصطفى من البشر الأنبياء، واصطفى من الأنبياء الرسل، واصطفى من الرسل أولي العزم الخمسة، واصطفى من أولي العزم الخمسة الخليلين الكريمين: إبراهيم ومحمداً صلى الله عليهما وسلم، واختار محمداً صلى الله عليه وسلم ففضله على جميع الأنبياء والمرسلين، فجعله إمام الأتقياء، وجعله إمام الأنبياء، وجعله سيد المرسلين، ورفعه الله جل وعلا على جميع الخلائق، وزكاه في كل شيء، فرفع له ذكره، ووضع عنه وزره، وشرح الله صدره. زكاه في عقله فقال: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم:2]. وزكاه في بصره فقال: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17]. وزكاه في فؤاده فقال: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11]. وزكاه في صدره فقال: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1]. وزكاه في ذكره فقال: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:4]. ووضع عنه وزره فقال: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ} [الشرح:2]. وزكاه في علمه فقال: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:5]. وزكاه في صدقه فقال: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3]. وزكاه كله فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم. وخلق الله جل وعلا الأمم، وعددهم كما ورد في الحديث: (خلق الله سبعين أمة)، واختار من بين هذا العدد الضخم الكبير أعظم الأمم وأفضل الأمم وخير الأمم، وهي هذه الأمة، أمة النبي صلى الله عليه وسلم، فضلها الله على جميع الأمم، وكرمها الله على جميع الأمم، وخاطبها بقوله جل وعلا: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]. وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد بسند حسن ورواه الحاكم في المستدرك وصححه وأقره الذهبي من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أنتم موفون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله عز وجل). وجعل الله هذه الأمة الأخيرة هي الأمة الوسط، أي: هي الأمة العدل، وهي الأمة الشاهدة على جميع الأمم، فقال ربنا جل وعلا: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143]، جعل الله هذه الأمة الأخيرة هي الأمة الشاهدة على جميع الأمم السابقة، وفي الحديث الذي رواه البخاري وأحمد والترمذي من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (يدعى نوح يوم القيامة فيقال له: هل بلغت قومك؟ والله جل وعلا أعلم، فيقول نوح عليه السلام: نعم بلغت قومي، فيدعى قومه فيقال لهم: هل بلغكم هذا؟ فيقولون: لا ما أتانا من نذير، وما أتانا من أحد، فيقول الله جل وعلا لنوح: من يشهد لك يا نوح أنك بلغت قومك؟ فيقول نوح عليه السلام: يشهد لي محمد صلى الله عليه وسلم وأمته). هل رأيتم نوحاً؟ هل عاصرتم نوحاً عليه السلام؟ لا والله ما رأيناه ولا عاصرناه، إذاً ما الذي سيجعلنا نشهد لنوح عليه السلام أنه بلغ قومه وأنذر قومه، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (فتدعون فتشهدون لنوح أنه بلغ قومه، وذلك قوله تعالى: ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا)) [البقرة:143]، ثم قال عليه الصلاة والسلام: الوسط: العدل)، ويقول صلى الله عليه وسلم: (ثم أشهد عليكم). وفي رواية الإمام أحمد (يقال لهذه الأمة -المباركة الميمونة- ما الذي جعلكم تشهدون لنوح؟ فتقول الأمة: أتانا رسولنا وأخبرنا أن الرسل قد بلغوا قومهم فصدقناه وآمنا به). نزل القرآن على قلب نبينا صلى الله عليه وسلم فقرأنا فيه قول الله جل وعلا: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [نوح:1]، إلى آخر السورة التي سماها الله جل وعلا في قرآننا باسم نبي الله نوح، تشهد هذه الأمة المباركة لنوح عليه السلام أنه بلغ قومه وأنذر قومه. هكذا أيها الأحباب! {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [القصص:68]، إنه فضل الله جل وعلا {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21]، فأنتم خير أمة، وأنتم أكرم أمة على الله جل وعلا، وفضل الله عليكم عظيم، وصدق -والله- من قال: ومما زادني فخراً وتيها وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا يا أمة القرآن! يا أمة الإسلام! يا أمة التوحيد! يا أمة الإيمان! يا أمة الإحسان! يا أمة التصديق! يا أمة الشهادة! أنتم خير أمة أخرجت للناس: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]، بماذا ولماذا؟ بهذه الشروط وتلك القيود: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]، فوالله إن اختلت هذه الشروط اختلت النتيجة، وضاعت الخيرية عنكم، فإنكم إن لم تأمروا بالمعروف، وتنهوا عن المنكر، وتؤمنوا بالله جل وعلا؛ فلستم بخير أمة أخرجت للناس.

فضل شهر رمضان

فضل شهر رمضان يا أبناء هذه الأمة الميمونة المباركة! إن نعم الله علينا لا تعد ولا تحصى، ومن أعظم هذه النعم هذا الضيف الكريم الذي حل بنا، من أعظم النعم التي امتن الله جل وعلا بها عليكم يا أمة الإسلام والتوحيد شهر رمضان، شهر القرآن والصيام والقيام والإحسان، قال ربنا جل وعلا: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة:185]، إنها نعمة عظيمة يا عباد الله! إنه فضل كبير عليكم، إنه فصل الخيرات والرحمات، إنه موسم البركات والنفحات، ألا فتعرضوا لرحمة الله جل وعلا، ألا فتعرضوا لنفحات الله جل وعلا في الطاعة: بالصيام والقيام وقراءة القرآن والإحسان. إنه موسم الطاعات إنه موسم الرحمات إنه موسم البركات، أما سمعتم إلى كلام سيد البريات صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الطبراني ورواته ثقات من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أقبل شهر رمضان يقول بأبي هو وأمي: (أتاكم رمضان شهر بركة يغشاكم الله فيه فينزل الرحمة، ويحط الخطايا، ويستجيب فيه الدعاء، ويباهي بكم ملائكته، وينظر فيه إلى تنافسكم في الخير، فأروا الله من أنفسكم خيراً، فإن الشقي من حرم فيه رحمة الله عز وجل). يباهي بكم ملائكته فيقول: انظروا إلى عبادي انظروا إلى الصائمين في النهار انظروا إلى من أقاموا الليل ركعاً سجداً بين يدي الله جل وعلا انظروا إلى من قضوا الليل مع قرآن الله وكتابه، وهذه علامات من علامات الحب لله تبارك وتعالى؛ لأن الليل كما قال أستاذنا ابن القيم: إن الليل أنس المحبين، وروضة المشتاقين، ومدرسة الصالحين، من هذه المدرسة تخرّج العارفون بالله جل وعلا، وتخرج الصادقون مع الله جل وعلا، إن عباد الله الصالحين ينتظرون هذا الليل يرعونه بالنهار كما يرعي الراعي غنمه، ويحنون إلى غروب الشمس كما تحن الطير إلى أوكارها، حتى إذا ما جنهم الليل، واختلط الظلام، وبسطت الفرش، وخلا كل حبيب بحبيبه؛ قام عباد الله الصالحون فنصبوا إلى الله أقدامهم، وافترشوا جباههم، وناجوا ربهم جل وعلا طيلة الليل بقرآنه، وتضرعوا إليه تبارك وتعالى، وطلبوا منه تكرمه وإنعامه وإحسانه، هذه علامات عباد الله الصالحين، (ويباهي بكم ملائكته وينظر فيه إلى تنافسكم في الخير)، هذا ذاكر لله، وهذا صائم لله ذاكر صابر، وهذا صائم لله ذاكر شاكر، وهذا متصدق محسن، وهذا قارئ للقرآن، وهذا مستغفر لله جل وعلا، وهذا متصدق على الفقراء والمساكين، وهذا يمر بين الجائعين من الفقراء ليحسن إليهم. قال: (فأروا الله من أنفسكم خيراً، فإن الشقي من حرم فيه رحمة الله عز وجل)، ولهذا الحديث المبارك شاهد صحيح من حديث أبي هريرة رواه الإمام أحمد في مسنده والإمام الترمذي والإمام النسائي، وصححه شيخنا الألباني في صحيح الجامع، وهو: (أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أقبل رمضان يقول: أتاكم شهر رمضان، شهر مبارك فرض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه مردة الشياطين، وفيه ليلة هي خير من ألف شهر). وروى ابن حبان والحاكم وابن ماجة والبيهقي وحسنه شيخنا الألباني في صحيح الجامع من حديث أبي هريرة أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم قال في حديث: (وينادي مناد كل ليلة -أي: من ليالي رمضان- يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر). اسمع -أيها الحبيب- لتسجد لربك شكراً أنك من أمة النبي صلى الله عليه وسلم، يقول صلى الله عليه وسلم: (ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة)، اللهم اجعلنا من عتقائك من النار في هذا الشهر الكريم. وفي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه). وفي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه). وفي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أيضاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه). وفي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي، وأنا أجزي به. والصوم جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم. والذي نفس محمد بيده! لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وللصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه). وفي الحديث الذي رواه أحمد في مسنده بسند حسن والحاكم في المستدرك وصححه وأقره الذهبي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة -اسمع أيها الحبيب! ماذا يقول الصيام وماذا يقول القرآن- يقول الصيام: أي ربي! منعته الطعام والشراب والشهوة -أي: من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، الطعام بين يديه وامتنع عنه طاعة لله، زوجته بين يديه وامتنع عنها امتثالاً لأمر الله، والشراب بين يديه وهجره طمعاً في رحمة الله جل وعلا- فشفعني فيه، ويقول القرآن: أي ربي! منعته النوم بالليل فشفعني فيه)، يا عبد الله! هل أنت من هؤلاء؟! أيها الحبيب الكريم! يا من هجرت النوم في الليل طاعة لله جل وعلا، وجلست مع كتاب الله تبارك وتعالى؛ هل أنت من هؤلاء أم أنت ممن سهر الليل مع المسلسلات الفاجرة، والأفلام الداعرة والعياذ بالله؟ أسأل الله أن يحفظني وإياكم من المعاصي، وأن يعزني وإياكم بطاعته، وأن يشرفني وإياكم بالعمل لدينه إنه ولي ذلك ومولاه. أتدرون ماذا قال حبيبكم ورسولكم المصطفى صلى الله عليه وسلم؟ قال عليه الصلاة والسلام: (فيشفعان)، أي: فيشفع الصيام فيك أيها الصائم، ويشفع القرآن فيك أيها القارئ، يا لها من كرامة، ويا له من فضل، ويا لها من عظمة، ويا لها من رحمات! هذه بعض الأحاديث الصحيحة أيها الأحباب التي أخبرنا بها النبي صلى الله عليه وسلم في فضل الصيام، والأحاديث كثيرة طويلة، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37].

الحث على اغتنام رمضان فيما يقرب من الله

الحث على اغتنام رمضان فيما يقرب من الله الله الله -أيها الأحباب- في هذه الجائزة، وفي هذه المنحة، وفي هذه الصفقة! فوالله الذي لا إله غيره لو قيل لك يا عبد الله: إن هناك صفقة تجارية تستطيع لو دخلت فيها أن تربح ألف ريال، والله لن تتخلى عنها ولن تتركها، فما قولك بصفقة تعرض عليك فتربح فيها جنة عرضها السماوات والأرض؟ جنة عرضها السماوات والأرض بالصيام والقيام، فيغفر الله لك أيها الصائم القائم (من صام وقام -كما ذكرت آنفاً- غفر له ما تقدم من ذنبه)، صفقة عظيمة يا عباد الله، ورحمة كريمة من الله جل وعلا. فهيا أيها الحبيب! هيا أيها المسلم! هيا أيها المكرم من الله جل وعلا! أقبل، تعالَ تعالَ إلى الله، عد إلى الله، ارجع إليه، استغفر الله جل وعلا، وامش بين يديه، وقف على بابه ذليلاً خاشعاً طالباً منه العفو والرحمة والغفران، ولا تيئس ولا تقنط مهما ارتكبت من الذنوب والمعاصي، ومهما وقعت في الكبائر، عد إلى الله جل وعلا، واعلم بأن عفو الله أعظم من كبائرك، وأعظم من ذنوبك، وأعظم من معاصيك. الله جل وعلا -وهو ملك الملوك، وجبار السماوات والأرض- يتنزل كل ليلة إلى السماء الدنيا، كما ورد في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، يتنزل الله تنزلاً يليق بكماله وجلاله، فلا تعطلوا صفة النزول، ولا تكيفوها، ولا تؤولوها، إنما نؤمن بصفة النزول كما أخبر بذلك نبينا ورسولنا صلى الله عليه وسلم، ونقول: يتنزل تنزلاً يليق بكماله وجلاله، فكل ما دار ببالك فالله بخلاف ذلك {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، لا تدركه العقول ولا تكيفه الأفهام، فاقطع الطمع عن إدراك ذات الله جل وعلا، لا نعطل ولا نكيف ولا نؤول ولا نشبه، ولكن نردد مع الإمام الشافعي قوله: نؤمن بالله، وبما جاء عن الله، على مراد الله، ونؤمن برسول الله، وبما جاء عن رسول الله، على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عليه الصلاى والسلام: (ينزل الله تعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يمضي ثلث الليل الأول ويقول: أنا الملك أنا الملك، من ذا الذي يدعوني فأستجيب له؟ من ذا الذي يسألني فأعطيه؟ من ذا الذي يستغفرني فأغفر له؟ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر). قم يا عبد الله، قم يا حبيبي في هذا الليل وكن من الساجدين بين يدي الله جل وعلا، كن من الراكعين، كن من القائمين، كن من الذاكرين والمستغفرين في الأسحار. (من ذا الذي يسألني فأعطيه؟ من ذا الذي يستغفرني فأغفر له؟) الله جل وعلا يناديك فهل أنت ممن سيقول لربه: هأنذا يا ربي بين يديك أسألك العفو والمغفرة، أسألك أن تغفر لي ما قد سلف من الذنوب والعصيان، وكن على يقين بأن الله جل وعلا سيستجيب منك الدعاء، وكن على يقين بأن الله جل وعلا غفور رحيم، {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]. أما علمت أيها الحبيب أنك إذا عدت إلى الله جل وعلا سيفرح الله تبارك وتعالى بتوبتك وأوبتك وعودتك، وهو الغني عنا فلا تنفعه الطاعة، ولا تضره المعصية ففي حديث أبي ذر الطويل الذي رواه مسلم، أنه صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله عز وجل: يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً. يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً). وصدق الله جل وعلا إذ يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [فاطر:15 - 17]، أنت الفقير إلى الله، والله هو الغني، لو عدت إليه -وهو الغني عنك- لفرح الله بك، ولا تعطل أيضاً صفة الفرح لله جل وعلا؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو أعرف الناس بربه، ورد في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الله أفرح بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه راحلته وعليها طعامه وشرابه فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها وقد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذ به يرى راحلته قائمة عنده وعليها طعامه وشرابه -فأراد أن يعبر عن شكره لله جل وعلا- فقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح)، هذه الفرحة أنست الرجل نفسه؛ فجعلته يقول هذه المقولة، فالله جل وعلا يفرح بك إذا تبت إليه وعدت إليه أشد من فرح هذا العبد بعودة أسباب الحياة إليه مرة أخرى، إنه فضل الله جل وعلا. وفي الحديث الذي رواه مسلم وأحمد من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل). فهيا أيها اللاهي أيها الساهي أيها الغافل عد إلى الله جل وعلا، وذكر نفسك بأن الدنيا مهما طالت فهي قصيرة، ومهما عظمت فهي حقيرة؛ وأن الليل مهما طال لابد من طلوع الفجر؛ وأن العمر مهما طال لابد من دخول القبر، دنياك مهما طالت لابد وحتماً أن تلقى الله جل وعلا، وذكر نفسك بقول من قال: يا نفس قد أزف الرحيل وأظلك الخطب الجليل فتأهبي يا نفس لا يلعب بك الأمل الطويل فلتنزلن بمنزل ينسى الخليل به الخليل وليركبن عليك من الثرى ثقل ثقيل قرن الفناء بنا فما يبقى العزيز ولا الذليل وذكرها بقول القائل: دع عنك ما قد فات في زمن الصبا واذكر ذنوبك وابكها يا مذنب لم ينسه الملكان حين نسيته بل أثبتاه وأنت لاه تلعب والروح منك وديعة أودعتها ستردها بالرغم منك وتسلب وغرور دنياك التي تسعى لها دار حقيقتها متاع يذهب الليل فاعلم والنهار كلاهما أنفاسنا فيها تعد وتحسب اسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يتقبل منا وإياكم الصيام والقيام، وأن يجعلنا وإياكم من المقبولين، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

التحذير من التفريط في رمضان

التحذير من التفريط في رمضان الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين، أما بعد: فيا أيها الأحباب! لا تضيعوا رمضان، ولا تنشغلوا في رمضان بما لا ينفعكم عند الله جل وعلا في الآخرة في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، احذروا هذه الملاهي والشواغل التي تشغل العباد عن رب العباد جل وعلا! احذروا المسلسلات! احذروا الأفلام! احذروا التلفزيون! احذروا كل هذه الأمور التي ستشغلكم عن العزيز الغفور جل وعلا! وأقبلوا على الله تبارك وتعالى، أقبلوا على القرآن، اقرءوا القرآن وتدبروا معانيه، وقفوا بين يدي أوامره ونواهيه وحدوده، أقبلوا على الذكر، أقبلوا على الاستغفار، جددوا التوبة للعزيز الغفار، واعلموا بأنها فرصة، ووالله لا يضمن واحد منا أن يعيش إلى رمضان القادم، فلا تضيع هذه الفرصة من بين يديك، واعلم أن رمضان سيولي سريعاً سريعاً، وبعد أيام قلائل سنقول بملء أفواهنا وبحسرة مؤلمة: لقد انقضى رمضان، ربح فيه من ربح، وخسر فيه من خسر. نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم من الرابحين ومن الفائزين، اللهم تقبل منا الصيام والقيام يا رب العالمين، اللهم كما بلغتنا رمضان فبارك لنا فيه، اللهم كما بلغتنا رمضان فبارك لنا فيه، اللهم كما بلغتنا رمضان فبارك لنا فيه. اللهم اجعلنا ممن صام وقام ورضيت عنه يا رب العالمين، ولا تجعلنا ممن صام وقام ولم يرضك يا أرحم الراحمين. اللهم تقبل صيامنا وقيامنا واجعلنا من الفائزين. اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. اللهم عافنا واعف عنا واغفر لنا وارحمنا واقبلنا وتقبل منا إنك أنت التواب الرحيم. اللهم إنا عبيدك بنو عبيدك بنو إمائك نواصينا بيدك، ماض فينا حكمك، عدل فينا قضاؤك، نسألك اللهم بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك؛ أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور أبصارنا، وشفاء صدورنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا وغمومنا، أنت ولي ذلك والقادر عليه. اللهم اجعلنا ممن أقام حروف القرآن وحدوده يا رب العالمين، ولا تجعلنا ممن أقام حروفه وضيع حدوده يا أرحم الراحمين. اللهم قيض لأمة التوحيد أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، أنت ولي ذلك ومولاه. هذا وأكثروا من الصلاة والسلام على نبينا وحبيبنا محمد كما أمركم الله جل وعلا بذلك في قوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا وحبيبنا محمد، وعلى آله وصحبه. هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه!

أهوال وعذاب القبر

أهوال وعذاب القبر إذا مات ابن آدم انتقل إلى المرحلة الأولى من مراحل الآخرة، ألا وهي مرحلة القبر وأهواله، فيأتيه ملكان ويسألانه ثلاثة أسئلة، وهي: من ربك؟ ومن نبيك؟ وما دينك؟ فمن عمل بطاعة الله ثبته الله بالجواب على هذه الأسئلة، ومن كان على غير ذلك فإنه ينعقد لسانه، ويتلعثم كلامه، ويكون من الهالكين والعياذ بالله!

الامتحان في القبر

الامتحان في القبر بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الواحد الذي لا ضد له، وهو الصمد الذي لا منازع له، وهو الغني الذي لا حاجة له، وهو القوي الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو جبار السماوات والأرض، فلا راد لحكمه، ولا معقب لقضائه وأمره. وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وعظيمنا وقائدنا ومعلمنا وقدوتنا وقرة أعيننا محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، عرضت عليه الدنيا بأموالها وزخارفها وسلطانها وذهبها وحريرها وملكها، كما قال الشاعر: عرضت له الدنيا فأعرض زاهداً يبغي من الأخرى المكان الأرفعا ما جر أثواب الحرير ولا مشى بالتاج من فوق الجبين مرصعا وهو الذي لبس السعادة حلة فضفاضة لبس القميص مرقعا وهو الذي لو شاء نالت كفه كل الذي فوق البسيطة أجمعا صلى عليك الله يا علم الهدى، ما هبت النسائم، وما ناحت على الأيك الحمائم. أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام! مرحباً بكم، وشكر الله عز وجل لكم، وأسأل الله تبارك وتعالى أن يتقبل مني ومنكم جميعاً صالح الأعمال، وأن يكتب لنا بهذه الخطوات الدرجات، وأن يرفع لنا بها الأجر، إنه سبحانه وتعالى كريم جواد حليم. نتحدث إن شاء الله هذه الليلة عن ثلاثة أسئلة، من أجاب على هذه الأسئلة دخل الجنة، ومن لم يجب عن هذه الأسئلة -وإن كان من العلماء- دخل النار وبئس القرار!! تعالوا بنا لنتعلم سوياً هذه الأسئلة والإجابة عليها؛ لنفوز بإذن الله جل وعلا بالجنة. أولاً: انظر أين تسأل هذه الأسئلة؟ ومن الذي سيسألك؟ وأين ستكون لجنة الامتحان؟ ومن الممتحن؟ ومن الذي سوف يقدر النتيجة؟ يا ترى! هل ستجيب بامتياز مع مرتبة الشرف، أم سوف تجيب بدرجة جيد جداً، أم سوف تجيب بدرجة جيد، أم سوف تجيب بدرجة مقبول؟!

لجنة الامتحان

لجنة الامتحان أولاً: لجنة الامتحان، اللجنة التي سوف تمتحن فيها: هي القبر. ومن سيمتحنك؟ يمتحنك في القبر الملكان: منكر ونكير. ورقة الأسئلة فيها ثلاثة أسئلة: السؤال الأول: من ربك؟ السؤال الثاني: من نبيك؟ السؤال الثالث: ما دينك؟ ماذا سيقول المؤمن؟ ربي الله حقاً، ومحمد نبيي صدقاً، وديني الإسلام، الجواب سهل جداً في هذا الوقت، كلنا أجبنا، الكل قال: ربي الله، ورسولي محمد صلى الله عليه وسلم، وديني الإسلام، ولكن الأمر هناك ليس سهلاً كما تتخيلون! وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان. فاللجنة صعبة جداً، وجو اللجنة مرعب؛ لأنه مكان ضيق ومظلم، ولكنه ضيق على من ضيقه الله عليه، وواسع على من وسعه الله عليه، ومظلم على من أظلمه الله عليه، ومضيء لمن نوره الله عليه. وكي تحس برعب لجنة الامتحان تلك، أطفئ النور في البيت، أو ادخل غرفتك وأطفئ نور البيت كله، وعتم غرفتك تماماً، واترك أولادك في الخارج، أو كن في مكان لوحدك في البيت، ونم على سريرك، وليس على الأرض، وتذكر القبر. والله العظيم سوف تحس أن الأمر صعب جداً، سوف تحس أن الأمر شديد، كان أحد الصالحين إذا أراد أن يذكر نفسه بالقبر، وبالآخرة، وذلك إذا وجد أن الدنيا قد سيطرت عليه: يسمع الأذان فلا يجيب ويقول لك: لا، أنا واقف في المحل حقي، والعمل عبادة!! أي عبادة هذه التي منعتك عن السجود والركوع لمن أنعم عليك؟! المؤذن يقول له: حي على الصلاة، وهو جالس يلعب دمنة في الخارج!! المؤذن يقول له: حي على الصلاة، وهو يقول: لا، إلى أن تنتهي المباراة! المؤذن يقول له: حي على الصلاة، وهو يقول: لا، العمل ورزق العيال أولى، إنا لله وإنا إليه راجعون!! تذكر حالك عندما تكون واقفاً على طابور الجمعية، أو على طابور الخبز ثلاث ساعات؛ من أجل أن تحصل على خمسة أرغفة، أتستكثر العشر الدقائق على الله؟! هذا عجيب!! مضيع الوقت كله للدنيا، وعند العشر الدقائق التي هي زمن الصلاة يقول: العمل عبادة، نحن نطلب رزق العيال، من أين آتي لأولادي بالأكل؟! إنا لله وإنا إليه راجعون!! كان أحد الصالحين إذا سيطرت عليه الدنيا قليلاً، وأحب أن يذكر نفسه بالآخرة، حفر لنفسه قبراً في وسط الصالة، بدلاً من أن يضع طاولة السفرة، التي تعمل لنا مشاكل في كل يوم! تجيء الزوجة، وتقول: لو ما كانت طاولة السفرة بثمانية كراسي ما كان هناك زواج. فجاء الرجل الصالح هذا إلى مكان طاولة السفرة، وحفر قبراً وغطاه بخشب، وعندما تسيطر الدنيا على قلبه قليلاً، ينزل إلى القبر، فيغلق القبر على نفسه بهذه الخشبة، ويظل يصرخ ويبكي ويصيح وينادي ويقول: {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99 - 100]، حتى إذا ما انقطعت أنفاسه، وغرق في عرقه، دفع الخشبة برجله، وخرج إلى النور والهواء، وبكى وأكثر من البكاء، وقال لنفسه: ها أنتِ يا نفس! قد عدتِ وخرجت، فاعملي بما قلتِ، ثم يقول: والله إني لخائف أن تنزلي هذا القبر يوماً، وتنادين: رب ارجعون، فلا يستجاب لكِ! إذاً: لجنة الامتحان صعبة جداً، تخيل لو أن شخصاً أتى إليك وقال: أنت مطلوب غداً للمحكمة! أتحداك إن تنام تلك الليلة!! لن تنام أبداً! وسوف تسهر طوال الليل وأنت تفكر، وتقول: ماذا عملت؟ ماذا سيسألني؟ ماذا سأقول له؟! وهذا كله مع أنك سوف تعرض على محكمة سوف يحاسبك فيها إنسان!! فكيف سيكون حالك إذا ما عرضت على محكمة أحكم الحاكمين؟! هذه المحكمة التي لا تقبل الرشوة، ولا المحسوبية، ولا تقبل المحاماة، ولا تقبل الاستئناف للأحكام؛ لأن قاضيها هو الواحد الديان، عنوانها: لا ظلم اليوم، إن الله سريع الحساب، وصدق من قال. مثل وقوفك يوم العرض عرياناً مستوحشاً قلق الأحشاء حيرانا والنار تزفر من غيظ ومن حنق على العصاة ورب العرش غضبانا اقرأ كتابك يا عبدي على مهل فهل ترى فيه حرفاً غير ما كانا فلما قرأت ولم تنكر قراءته إقرار من عرف الأشياء عرفانا نادى الجليل خذوه يا ملائكتي وامضوا بعبد عصى للنار عطشانا المشركون غداً في النار يلتهبوا والموحدون بدار الخلد سكانا فهذه هي المحكمة وهذه لجنة الامتحان، إنه جو مرعب! ومكان صعب. القبر الذي ينادي عليك كل يوم: يا ابن آدم! وأنت في غفلة، القبر الذي ينادي عليك كل لحظة: يا ابن آدم! وأنت في سهو ونسيان. يقول لك: يا ابن آدم! تمشي في جماعة على ظهري، وسوف تقع وحيداً في بطني. يا ابن آدم! تسرح وتمرح وتجري على ظهري، وسوف تبكي في بطني. يا ابن آدم! تأكل أموال اليتامى على ظهري، وسوف يأكلك الدود في بطني. إذا ما ذهبت إلى هذا القبر وأنت محمول على الأعناق يا غافل! يا ساهي! يا عاصي! يا تارك الصلاة! يا تارك الصيام! يا من قضيت عمرك أمام المسلسلات والأفلام! اعلم أن الذي سيحملك إلى القبر أولادك وأحبابك، وهم الذين سيضعونك ويهلون على رأسك التراب، وأنت في غفلة يا مسكين! وأنت في سهو لا تتذكر هذا المشهد، ولا تفكر في هذا اللقاء، وإذا ما ذهبت إلى هناك رجع مالك للورثة، ورجعت زوجتك لتتزوج، ورجع أولادك ليتنعموا بالأموال، أما أنت فقد وضعت في التراب، وهنا ينادى عليك بلسان الحال: عبدي! رجعوا وتركوك! وفي التراب وضعوك! وللحساب عرضوك! ولو جلسوا معك ما نفعوك! ولم يبق لك إلا أنا، وأنا الحي الذي لا يموت! والله العظيم! لن ينفعك أحد، لا ابنك سوف ينفعك، ولا أمك سوف تنفعك، ولا زوجتك سوف تنفعك، لن ينفعك إلا عملك، يا من تلهث ولا هم لك إلا جمع المال! لن ينفعك مالك إلا إذا أخذته من الحلال، وأنفقته فيما يرضي الكبير المتعال.

أهوال القبور

أهوال القبور إذاً: لجنة الامتحان صعبة جداً، هذا هو جو اللجنة، القبر الذي قال عنه أحد الناس حينما قال: أيا من يدعي الفهم. فإن كثيراً من الناس يدعون الفهم، وهم لا يفهمون شيئاً؛ لأن اعتقادهم أن الفهم الحقيقي هو: كيف يحسب التجارة؟ وكيف يحسب الأموال؟ وكيف يعد الدولارات، وكيف يعد الريالات؟! أيا من يدعي الفهم إلى كم يا أخا الوهم تعبي الذنب والذم وتخطي الخطأ الجم أما بان لك العيب أما أنذرك الشيب وما في نصحه ريب ولا سمعك قد صم أما نادى بك الموت أما أسمعك الصوت أما تخشى من الفوت فتحتاط وتهتم فكم تسدر في السهو وتختال من الزهو وتنفض إلى اللهو كأن الموت ما عم كأني بك تنحط إلى اللحد وتنغط وقد أسلمك الرهط إلى أضيق من سم هناك الجسم ممدود ليستأكله الدود إلى أن ينخر العود ويمسي العظم قد رم فزود نفسك الخير ودع ما يعقب الضير وهيئ مركب السير وخف من لجة اليم بذا أوصيك يا صاح وقد بحت كمن باح فطوبى لفتى راح بآداب محمد يأتم صلى الله عليه وسلم، وصدق الله جل وعلا إذ يقول: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ * فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى * أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة:26 - 40]، بلى قادر! بلى قادر! إذاًَ: القبر لجنة صعبة جداً، والأمر ليس سهلاً كما تتخيلون.

يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت

يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت وقد تسأل شخصاً: من ربك؟ من نبيك؟ وما دينك؟ سيقول لك: ربي الله، ومحمد نبيي، وديني الإسلام، لكن الأمر ليس سهلاً هكذا! كم من العلماء الذين ملئوا المساجد بعلمهم ربما سئلوا هذه الأسئلة ولم يستطيعوا الجواب! وكم من أمي لا يستطيع أن يقرأ، ولا يعرف أن يكتب سيجيب بطلاقة وفصاحة لسان، لماذا؟! لأن الذي سيجيب في هذه اللحظات ليس هذا اللسان الذي تعود على الكذب، والذي تعود على الرياء، والذي تعود على النفاق، والذي تعود على الغيبة، والذي تعود على النميمة، وإنما الذي سيجيب في هذه اللحظات هو عملك، استمع إلى قول الله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} [إبراهيم:27]، ما هو القول الثابت؟ هو: لا إله إلا الله محمد رسول الله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:27]، والقبر أول منزل من منازل الآخرة، {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27].

منكر ونكير وما كلفا به من أسئلة

منكر ونكير وما كلفا به من أسئلة القبر: إما روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النيران، القبر إما أن يضيق على العبد فتختلف أضلاعه، وإما أن يتسع فيراه كالفضاء، فلجنة الامتحان صعبة جداً، والكلام في اللجنة طويل وهذا فيه كفاية، وننتقل إلى الأسئلة الثلاثة. وماذا عن الملكين اللذين سيوجهان الأسئلة؟ إنهما منكر ونكير، وهما ملكان من ملائكة الله عز وجل، وكل ملك من الملائكة له وظيفة من يوم أن خلق إلى يوم أن تقوم الساعة، فجبريل موكل بالوحي إلى الأنبياء، وميكائيل موكل بتقسيم الأرزاق بين العباد، وإسرافيل موكل بالنفخ في الصور، وعزرائيل موكل بقبض الأرواح، وهكذا كل ملك له وظيفة، ورقيب وعتيد يسجلان عليك الحسنات والسيئات. ومنكر ونكير مكلفان بأسئلة القبر، وهناك ملائكة ساجدة، وهناك ملائكة قائمة، وهناك ملائكة راكعة، الكل في عبادة ربه وفي ذكر مولاه، حتى إذا ما نفخ إسرافيل في الصور قام الجميع قائلاً: سبحانك! ربنا ما عبدناك حق عبادتك!! فمنكر ونكير هما المسئولان عن السؤال في القبر، إنه منظر عجيب ومنظر رهيب!! لأول مرة سوف ترى ملكاً.

السؤال الأول: من ربك

السؤال الأول: من ربك السؤال الأول: سوف يقولان لك: من ربك؟ انتبه! فإن الذي يوفق للجواب هو المؤمن الصادق، أما المنافق والدجال ونحوهم فإنهم لا يوفقون إلى الإجابة، وأما نفاقهم ودجلهم فإنه ينتهي بخروجهم من الدنيا، ولا مجال لفعله في القبر، وبعض الناس إذا نصح قال: أنا قلبي مثل اللبن (أبيض)، وهو لا يصلي! فهذا قلبه أسود من ظلام المعصية؛ لأنه لو كان في قلبه ذرة من إيمان، لركع وسجد للواحد الديان. وربما رأيت مسلماً فتح الله عليه من الرزق وهو لا يصلي، وما شاء الله! صحة طيبة! ومع ذلك لا يصلي، وبعد ذلك تقول له: يا أيها الرجل! لماذا لا تصلي؟! فيقول لك: ربك رب رءوف! وتراه لا يزكي، فتسأله: لماذا لا تزكي؟! فيقول لك: والله أنا عندي عيال يأكلون الحجارة! وتراه ذا مال ومع ذلك فإنه لا يحج! فسبحان الله العظيم! المسلم هو الذي يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله باللسان، ويصدق ذلك بالجنان وتنطلق بذلك الجوارح والأركان؛ لأن الإيمان عند أهل السنة: قول باللسان، وتصديق بالجنان وعمل بالجوارح والأركان. وكثير من الناس في هذا الزمان يقول: والله! أنا أحب النبي صلى الله عليه وسلم. وهل هناك مسلم لا يحب النبي؟! لكن المحبة لها دلائل وبراهين، فقد يزعم بعضهم ويقول: أنا محب للنبي وهو لا يصلي! (محب للنبي) وهو مبتدع! (محب للنبي) وهو لا يزكي! (محب للنبي) ووهو بعيد عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم! بالله عليكم: هل هذا محب أم كذاب؟! إذاً: الكذب سهل جداً، يقول لك: أنا أحب النبي. لكن أين سلوكك؟! وأين محبتك العملية لرسول الله عليه الصلاة والسلام؟! من أجل هذا أذكر إخواننا هنا بأنه كان هناك تلميذ صغير يتعلم عند أستاذ، وسمع التلميذ الصغير أن أستاذه يرى النبي صلى الله عليه وسلم في الرؤيا، فجاء التلميذ، وقال له: يا أستاذ! أنا أريد أن أرى النبي صلى الله عليه وسلم، قال له: يا بني! النبي صلى الله عليه وسلم لا أحد يراه إلا إذا كان محباً له وصادقاً معه ومنفذاً لسنته، فلا يزور النبي إلا أحبابه صلى الله عليه وسلم، لماذا؟ لأن من الناس من يذهبون لزيارة النبي، ومن الناس من يأتي النبي لزيارته! ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من رآني في المنام فقد رآني حقاً؛ فإن الشيطان لا يتمثل بي). إذاً: السؤال الأول في القبر: سوف يقال لك: من ربك؟ والذي سوف يجيب هنا هو المؤمن الصادق، الذي قالها بحق وصدق في الدنيا: ربي الله، لم يسأل إلا الله، ولم يستعذ إلا بالله، ولم يتوكل إلا على الله، ولم يلجأ إلا إلى الله، ولم يفوض الأمر إلا إلى الله، إذا سأل سأل الله، وإذا استعان استعان بالله! المؤمن الذي كانت حياته كلها لله عز وجل: صلى لله، وترك لله، وأعطى لله، ومنع لله، وأبغض لله، وراقب الله جل وعلا في سره وعلنه، هذا الذي يستطيع أن يجيب إذا ما سئل عن ربه، فيقول: ربي الله الذي آمنت به في الدنيا، ربي الله الذي راقبته في الدنيا، ربي الله الذي امتثلت لأوامره وشرعه وحدوده. أما الرجل الكاذب الذي لم يصل، ولم يصم، ولم يزك، ولم يحج! وإنما هو مسلم بالبطاقة الشخصية! فإذا أدخل القبر فوالله لن ينطق بالصواب؛ لأن الله عز وجل قال: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27]، يثبت الله الذين آمنوا. إذاً: المؤمن هو الذي يستطيع أن يجيب عن السؤال، والأمر ليس سهلاً مثلما تتخيلون؛ لأن الذي سوف ينطق هو إيمانك، والذي سوف ينطق هو عملك، والذي سوف ينطق هي صلاتك، والذي سوف ينطق هو قيام ليلك وقرآنك وبرك بوالديك، وإنفاقك على الفقراء واليتامى، وإحسانك للجيران، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: -والثلاث عمل عمله في الدنيا- صدقة جارية، أو ولد صالح يدعو له، أو علم ينتفع الناس به) فينتفع بذلك في قبره. إذاً: الذي يجيب عن السؤال هو الذي آمن بالله حقاً في الدنيا، ولذلك فإن سيدنا حارثة -وهو صحابي جليل من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم- قال عندما سأله النبي صلى الله عليه وسلم: (يا حارثة! كيف أصبحت -يعني: كيف حالك وماذا أنت عامل هذا اليوم؟ - قال له: أصبحت مؤمناً حقاً، والحمد لله، يا رسول الله! قال له: انتظر يا حارثة! إن لكل قول حقيقة، فما حقيقة قولك، وما حقيقة إيمانك؟ فقال حارثة: حقيقة إيماني يا رسول الله! أني قد عزفت نفسي عن الدنيا) فاعلم أن الدنيا مهما طالت فهي قصيرة، ومهما عظمت فهي حقيرة؛ لأن الليل مهما طال لابد من طلوع الفجر؛ ولأن العمر مهما طال لابد من دخول القبر، وأن الدنيا دار ممر، وأن الآخرة دار مقر، فخذوا من ممركم لمقركم، ولا تفضحوا أستاركم عند من يعلم أسراركم!! (عزفت نفسي عن الدنيا) علم أن الدنيا قنطرة، أو شجرة استظل بظلها ثم تركها ورحل، علم أن الدنيا جيفة شاة ميتة، كما في حديث الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على شاة ماتت وأصبحت جيفة، فقال لأصحابه: (أترون هذه الشاة هينة على أهلها؟ قالوا: نعم، يا رسول الله! ومن هوانها ألقوها، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: والله للدنيا أهون عند الله من هذه الشاة على أهلها، ولو أن الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء). الدنيا حقيرة جداً، ونحن نتكالب ونتهافت عليها، والولد يقتل أباه من أجل الدنيا، والبنت تسب أمها من أجل الدنيا. وكل هذا من أجل الأموال والكراسي والمناصب. المحاكم ممتلئة بالبلايا، لماذا؟! بسبب الطمع والجشع، وكلهم ناسٍ أنه سيترك الدنيا حافياً عارياً، وصدق من قال: النفس تجزع أن تكون فقيرة والفقر خير من غنىً يطغيها وغنى النفوس هو الكفاف فإن أبت فجميع ما في الأرض لا يكفيها هي القناعة فالزمها تكن ملكاً ولو لم تكن لك إلا راحة البدن وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير القطن والكفن هل أخذ معه فداناً من الأرض؟! هل أخذ معه بقرة؟! هل أخذ معه مالاً؟! لا، أبداً. قال الشاعر: دع الحرص على الدنيا وفي العيش فلا تطمع ولا تجمع من المال فلا تدري لمن تجمع فإن الرزق مقسوم وسوء الظن لا ينفع فقير كل من يطمع غني كل من يقنع إي والله! وأحكي لكم قصة ظريفة: هذا سيدنا عيسى عليه السلام مشى مع صاحب له، وبعد ذلك وقف عيسى عليه السلام يصلي، ودخل صاحبه القرية؛ ليأتي بطعام فأتى بثلاثة أرغفة، فلما وقف عيسى عليه السلام يصلي جاع الرجل فأكل رغيفاً، ولما أنهى عيسى الصلاة قال له: أين الرغيف الثالث؟ قال: والله ما كانا إلا رغيفين، يكذب على نبي! قال له: يا رجل! قال: إنما هما اثنان. قال له: خيراً! ومر عيسى على ظباء ترعى -يعني: غزلان- فنادى نبي الله عيسى على ظبي من هذه الظباء وذبحه وشواه؛ لكي يأكلوا فوضع الظبي مشوياً، وقبل أن يمد الرجل يده سأل عيسى ربه أن يحيي له هذا الظبي فأحياه الله؛ لأن عيسى كان يحيي الموتى بإذن الله عز وجل، كما قال الله عز وجل: {وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران:49]. وساعة رؤية الرجل للظبي الذي كان سيأكله مشوياً، فرآه حياً أمامه! سبحان الله! قال له عيسى: بحق الذي أراك هذه المعجزة من صاحب الرغيف؟ قال له: والله ما كانا إلا رغيفين! قال له: خيراً. فأخذه بيده ومشوا، فمر نبي الله عيسى على نهر، فأخذه عيسى من يده يجره؛ ليعبر به على سطح الماء، فتأخر الرجل، فقال له: هيا، فعبر به نبي الله عيسى على سطح الماء حتى الشاطئ الآخر. فقال الرجل: سبحان الله! يمشي على الماء! فقال له: بحق الذي أراك هذه المعجزة من صاحب الرغيف الثالث؟ فقال له: والله ما كانا إلا رغيفين! قال له: خيراً، فمر به نبي الله عيسى على أرض صحراء فيها رمال، فجمع عيسى ثلاثة أكوام من الرمل متساوية، وسأل عيسى ربه أن يصير له هذه الأكوام الترابية إلى ذهب! وأنتم تعرفون أن الذهب يذهب العقول. قال الشاعر: رأيت الناس قد ذهبوا إلى من عنده ذهب ومن لا عنده ذهب فعنه الناس قد ذهبوا رأيت الناس قد مالوا إلى من عنده مال ومن لا عنده مال فعنه الناس قد مالوا رأيت الناس منفضة إلى من عنده فضة ومن لا عنده فضه فعنه الناس منفضة فحول الله تعالى الأكوام الترابية إلى ذهب، فقال له سيدنا عيسى: الكوم الأول من الذهب لي أنا، والكوم الثاني لك، والكوم الثالث لمن أكل الرغيف، فقال الرجل: أنا الذي أكلت الرغيف، فقال له نبي الله عيسى: كلها لك، ولكن هذا فراق بيني وبينك. وانظر كيف كانت النهاية! قعد الرجل بجانب الثلاثة الأكوام وهو يقول: سوف أبني وأشتري عشرة فدادين، وسوف أعمل مزرعة ماشية! فمر عليه ثلاثة من قطاع الطرق، فلما رأوا الثلاثة الأكوام من الذهب ذهبت عقولهم فقتلوه. ثم قال أحدهم: فليذهب أحدنا بسرعة ويحضر لنا طعاماً كي نأكل، ثم نهرب، فذهب رجل منهم ليحضر لهم طعاماً، -إنها فتنة المال!! إن الولد يقتل أباه من أجل المال، لكن: هل سيبقي هذا على صاحبيه؟! إنا لله وإنا إليه راجعون! - فقال لنفسه: لماذا لا تصنع سماً في الطعام، فتقضي على صاحبيك، وتأخذ الثلاثة الأكوام لوحدك، دون أن يعلم أحد بالخبر؟! وفي نفس اللحظة صاحباه الآخران يقولان: بدلاً من أن نقسم الأكوام، لم لا نقتله ونقسم الثلاثة على اثنين؟! فجاء صاحبهما بالطعام المسموم، وأثناء وصوله انقضا عليه فقتلاه، وجلسا يأكلان الطعام فماتا!! فعاد عيسى عليه السلام إلى المكان، فوجد أكوام الذهب في مكانها، ووجد صاحبه وإلى جواره ثلاثة من الرجال؛ فبكى نبي الله عيسى وقال: هكذا تفعل الدنيا بأهلها! الذي سيجيب عن السؤال هو من كان مؤمناً في الدنيا، وتذكر قول سيدنا حارثة، عندما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما حقيقة إيمانك يا حارثة؟ قال له: عزفت نفسي عن الدنيا، فأظمأ

السؤال الثاني: من نبيك

السؤال الثاني: من نبيك ثم يجيء السؤال الثاني: من نبيك؟ المؤمن الصادق الذي التزم بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، والذي التزم بشرع النبي صلى الله عليه وسلم، والذي طبق هدي النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي سيقول: نبيي محمد صلى الله عليه وسلم.

السؤال الثالث: ما دينك

السؤال الثالث: ما دينك المؤمن الذي أحب الإسلام، وعاش للإسلام، والتزم بتعاليم الإسلام وعمل لإسلامه، وافتخر بإسلامه، وأعلى إسلامه في كل مكان هو الذي سيقول: ديني الإسلام. إذاً: من هو الذي يقدر على الإجابة عن هذه الأسئلة الثلاثة؟ لاشك أنه المؤمن الذي صدق في إيمانه في الدنيا، أما المنافق والكاذب والمضيع للفروض والمضيع للسنة فلن يستطيع أن يجيب عن الأسئلة أبداً؛ لقول الله عز وجل: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27].

حديث قبض الروح

حديث قبض الروح نرجع إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي شمل كل هذه المعاني، وهو حديث رواه البراء بن عازب وخرجه الطبراني والترمذي وغيرهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مع الأنصار في جنازة -شخص مات، وذهبوا ليدفنوه- فجلس النبي صلى الله عليه وسلم على شفير القبر -يعني: على حافة القبر- وكان مع النبي عليه الصلاة والسلام عود وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم ينكت الأرض بهذا العود -يعني: يضرب بالعصا- وبكى صلى الله عليه وسلم، ثم قال لإخوانه بعدما نظر إليهم: يا إخواني! لمثل هذا فأعدوا -أي: لمثل القبر- لمثل هذا فأعدوا، لمثل هذا فأعدوا، ثم قال عليه الصلاة والسلام: إن العبد إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال على الآخرة) أي: العبد الصالح المؤمن التقي النقي إذا مات أو كان على فراش الموت، وبدأت علاقته وصلته تنقطع مع الحياة الدنيا، وتتصل بالآخرة، (تأتيه ملائكة، وبيدهم حنوط من الجنة) هذا للمؤمن، والحنوط: طيب من الجنة (ويجلسون عند رأسه) يهيئونه، كي يأتي الدكتور الكبير الذي سوف يجري العملية الجراحية، وهو ملك الموت، هناك أطباء يهيئون المريض، الذي هو الميت، وهم الملائكة.

حال المؤمن عند قبض روحه

حال المؤمن عند قبض روحه إن المؤمن الذي ينام على فراش الموت يرى أموراً عظيمة، وكثيراً ما نسمع من الناس: أن فلاناً ابتسم وهو في سكرات الموت، وأن فلاناً والعياذ بالله أسود وجهه وهو في سكرات الموت! نريد أن نفهم ما هو سبب ذلك؟! عندما يكون المؤمن على فراش الموت، فإنه يرى الملائكة، ولا يراهم أحد غيره، ولذلك فإن الإنس والجن لا يرون شيئاً من ذلك، يرى ملائكة تقترب من بعيد، ويرى أنها ملائكة بيض الوجوه، طيبي الرائحة، معهم حنوط من الجنة، فيعلم أن هذه ملائكة الرحمات، فيبتسم. أتدرون لماذا يبتسم؟ لأنه في اللحظة هذه وهو على فراش الموت يرى مكانه في الجنة. يرى ملائكة من بعيد تقترب معهم حنوط من الجنة، رائحتهم زكية طيبة، ويجلسون عند رأسه -يحرسون المكان كله- وبعد ذلك يأتي ملك الموت، ويجلس ملك الموت عند رأس عبد الله المؤمن، حتى إذا ما انتهى الأجل المحدد من قبل الله عز وجل، ينادي ملك الموت على روح المؤمن، ويقول: (يا أيتها الروح الطيبة! اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، ورب راض عنك غير غضبان). يقول الحبيب المحبوب صلى الله عليه وسلم: (فتخرج روحه سهلة سلسة، كما يسيل الماء من فم السقاء) يعني: القربة، انظر عندما تملأ قربة بالماء، ثم تصب منها ماءً، كيف ترى نزول الماء؟! ستجده ينزل بسلاسة، كذلك روح المؤمن تخرج سهلة سلسة جميلة. فلا تدعها الملائكة مع ملك الموت طرفة عين، فيأخذون الروح، ويلفونها في حنوط من حنوط الجنة، وفي طيب من طيب الجنة، وهنا تصعد الملائكة بالروح الطيبة إلى الله، فيجيء ملائكة السماء الأولى، ويقولون: يا الله! لمن تكون هذه الروح الطيبة؟! ومن صاحبها؟! فتقول الملائكة التي تشيع الروح: إنها روح فلان بن فلان، بأطيب أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا. وتعبر الملائكة سماء بعد سماء، حتى تنتهي الملائكة بالروح إلى خالق الروح، وهنا يقول الله جل وعلا لملائكته: يا ملائكتي! اكتبوا روح عبدي في عليين، {وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين:19 - 21]. اكتبوه في عليين، ثم أعيدوها إلى الأرض، فمنها خلقناهم، وفيها نعيدهم، ومنها نخرجهم تارة أخرى، فتعاد إلى القبر حتى تسأل، وإذا ما دخل هذا العبد القبر استقبله القبر وتكلم معه، وقال له: مرحباً بك وأهلاً!! لقد كنا في شوق إليك، ونحن في انتظارك يا ولي الله! جميع المخلوقات تسعد بالمؤمن في الحياة وبعد الممات. وإذا دخل القبر وجد في استقباله في القبر رجلاً، هذا كلام النبي عليه الصلاة والسلام وهذا نص الحديث: (وجد في استقباله في القبر رجلاً شديد بياض الوجه، طيب الرائحة، فيقول له: مرحباً بك، فيقول: من أنت، فوجهك وجه لا يأتي إلا بخير؟) يقول له الميت: من أنت يا صاحب الوجه الأنور! لا يأتي وجهك هذا إلا بخير؟! من أنت؟! فيقول له: (أبشر واسعد بأسعد يوم مر عليك منذ أن ولدتك أمك، ألا تعلم من أنا؟! أنا عملك الصالح، وهذا يومك الذي كنت توعد به) أنا صلاتك، أنا قيامك بالليل، أنا قرآنك، أنا ذكرك، أنا استغفارك، أنا حجك، أنا زكاتك، أنا صدقتك، أنا بر الوالدين، أنا الإحسان لليتامى، أنا الإحسان للفقراء، أنا الإحسان للجيران، أنا عملك الصالح، وهذا يومك الذي كنت توعد به. ثم يقول له: سيأتيك الآن ملكان من عند ربك وسيسألانك من ربك؟ ومن نبيك؟ وما دينك؟ فقل لهما: ربي الله حقاً، ومحمد نبيي صدقاً، وديني الإسلام. فيأتي منكر ونكير ويقولان له: من ربك؟ ومن نبيك؟ وما دينك؟ فيقول: ربي الله حقاً، ومحمد نبيي صدقاً، وديني الإسلام، فينادي منادٍ من قبل الواحد الديان، ويقول: إن صدق عبدي، فافتحوا له باباً إلى الجنة، وافرشوه فراشاً من الجنة، ووسعوا له في قبره، فيفسح له في قبره مد البصر، (القبر إما روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النيران). وعندما يرى العبد هذا النعيم، ينادي على الله وهو في القبر، ويقول: يا رب! فيقول له: لبيك يا عبدي. فيقول: رب أقم الساعة رب أقم الساعة، فيقال له: ولم؟ فيقول: حتى أري أهلي منزلتي عندك في الجنة. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أكل مال اليتيم

أكل مال اليتيم تكلم الشيخ حفظه الله عن عظيمة من العظائم، وكبيرة من الكبائر وهي: أكل مال اليتيم، ثم حدد تعريف اليتيم وبيّن منزلة اليتيم في القرآن والسنة، كما تطرق إلى عاقبة من يأكل مال اليتيم ظلماً وعدواناً، وما هو الجزاء والعقاب الذي ينتظره، ثم أوضح الشيخ أمراً ربما يستغرب منه البعض، وهو أن الطفل قد يعاني من مرارة اليتم رغم وجود والديه، كما عرج الشيخ إلى أمر في غاية الأهمية، وهو كيف يؤمن الوالد مستقبل ولده بعد موته.

أولا: من هو اليتيم؟

أولاً: من هو اليتيم؟ نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة، وزكى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور، وأسأل الله جل وعلا أن يتقبل مني وإياكم صالح الأعمال، وأن يجمعني وإياكم في الدنيا دائماً وأبداً على طاعته، وفي الآخرة مع سيد الدعاة وإمام النبيين في جنته ومستقر رحمته، إنه ولي ذلك ومولاه وهو على كل شيء قدير. أحبتي في الله! هذا هو لقاؤنا السادس مع السبع الموبقات التي حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه الذي رواه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات. قالوا: يا رسول الله! وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات). ونحن اليوم على موعدٍ مع الكبيرة الخامسة في هذا الحديث، ألا وهي قوله صلى الله عليه وسلم: (وأكل مال اليتيم) ويا لها والله من كبيرة! قد وقع فيها معظم أولياء اليتامى نسأل الله السلامة والعافية. ونظراًَ لخطورة هذا الموضوع وطوله أيها الخيار الكرام، فسوف ينتظم حديثي معكم في العناصر التالية: أولاً: من هو اليتيم؟ ثانياً: مكانة اليتيم في القرآن والسنة. ثالثاً: عاقبة آكل مال اليتيم. رابعاً: يتم رغم وجود الوالدين! وأخيراً: كيف تؤمِّن مستقبل ولدك بعد موتك؟ فأعيروني القلوب والأسماع -أيها الأحبة الكرام- فإن هذا الموضوع من الأهمية والخطورة بمكان. أولاً: من هو اليتيم؟ قال ابن منظور في لسان العرب: اليتيم في الناس من فقد أباه، واليتيم في الحيوانات والطيور من فقد أمه، قلت: وهذه لطيفة لغوية دقيقة لها مغزى قل من ينتبه إليها، قال ابن منظور: وأصل اليتم في اللغة هو الغفلة، وبه سمي اليتيم يتيماً، أي: لأنه يتغافل عن بره بعد موت أبيه، وقال: وأصل اليتم في اللغة أيضاً هو: الانفراد، يقال: درة يتيمة، أي فريدة، ويقال: بيت يتيم، أي: بيت منفرد أو وحيد.

ثانيا: مكانة اليتيم في القرآن والسنة

ثانياً: مكانة اليتيم في القرآن والسنة لقد أولى القرآن الكريم عناية فائقة بأمر اليتيم وشأن اليتيم، اهتم القرآن بتربية اليتيم وبأمره من الناحية النفسية ومن الناحية المادية على السواء مراعاة لظروف اليتيم النفسية بعد فقد أبيه، فقد يحس بشيء من الذل أو القهر أو الانكسار، وراعى القرآن هذه الحالة النفسية مراعاة دقيقة؛ لأن الذي يشرع هو الذي خلق {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14].

مكانة اليتيم في القرآن

مكانة اليتيم في القرآن ستعجبون -أيها الأحباب الكرام- إذا علمتم أن اهتمام القرآن بأمر اليتيم كان منذ الفترة الأولى لتنزل الوحي على قلب الحبيب المصطفى الذي نشأ يتيماً، فكان يتمه تشريفاً لكل يتيم. منذ الفترة الأولى اهتم القرآن بأمر اليتيم، بل امتن الله جل وعلا بذلك على حبيبه المصطفى الذي ولد يتيماً ونشأ يتيماً، فكان يتمه كما ذكرت تشريفاً وتكريماً لكل مسلم يتيم، قال الله تعالى ممتناً على حبيبه: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} [الضحى:6 - 8] أي: لقد كنت يتيماً يا محمد -بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم- فآواك الله وأيدك وأحاطك بعنايته ورعايته وحفظه وفضله، وكنت فقيراً فأغنى الله نفسك بالقناعة والرضا، ثم أفاض عليك بعد ذلك بالمال الوفير الحلال الطيب، وكنت شارداً تائهاً تبحث عن الحق في شعاب مكة وربوعها، في بيئة جاحدة، وبين نفوس شاردة، وفي هاجرة قاتلة محرقة، فهداك الله جل وعلا للحق، وطمأن قلبك، وشرح صدرك، ورفع ذكرك، ووضع وزرك، ومنَّ الله جل وعلا عليك بكل هذه الأفضال والنعم، ومن ثمَّ جاء هذا التوجيه الرباني الكريم: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:9 - 11]. بل تعجبون إذا علمتم أن الله جل وعلا قد أمر بالإحسان إلى اليتيم، ولم يكن هذا الأمر خاصاً بأمة الحبيب فحسب، بل لقد أمر الله بذلك الأمم من قبل أمة النبي صلى الله عليه وسلم، بل لقد أخذ الله هذا الأمر ميثاقاً جامعاً من بين المواثيق الجامعة التي أخذها على بني إسرائيل، فقال جل وتعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} [البقرة:83]. ومن هذا المنطلق الكريم بالاهتمام بأمر اليتيم، أمر الله جل وعلا ولي اليتيم والوصي على ماله بالمحافظة على هذا المال محافظة تامةً كاملة. وأمر الله ولي اليتيم بعدم تبديد أمواله، أو تبديلها بالخبيث من الأموال، أو المتاجرة بها فيما حرم الله جل وعلا، وأمر الله جل وعلا ولي اليتيم أيضاً بألا يسرف بالإنفاق من أموال اليتامى، وبألا يسرع في تبديدها قبل أن يكبر أصحابها اليتامى ليأخذوا حقهم. وأمر الله ولي اليتيم أيضاً بأنه إذا ما أحس النضج والرشد عند هؤلاء اليتامى، ورأى أنهم أصبحوا قادرين على تصريف شئونهم، وتدبير أحوالهم، والمحافظة على أموالهم، أمره الله أن يسارع برد لهذه الأموال كاملة وافرة غير منقوصة. وإن كان هذا الولي غنياً فليستعفف عن الأكل من أموال اليتامى، وإن كان فقيراً فله أن يأكل من هذه الأموال مع اليتامى بالمعروف من غير سرفٍ ولا تبذير، وفي أضيق نطاق، وأقل الحدود. ثم أمر الله وصي اليتيم بعد ذلك إذا ما كبر اليتامى أن يدفع إليهم أموالهم، وأن يُشهد على ذلك تبرئة للذمة، ودرأً للشبهة. وإليكم هذه الآيات الكريمة التي تؤكد هذه المعاني التي ذكرتها آنفاً، يقول الله جل وعلا: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} [الإسراء:34]. وقال الله عز وجل في سورة النساء: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء:2] أمر للوجوب؛ إذ لم تأت قرينة تصرف هذه الأوامر من الوجوب إلى الندب {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً} [النساء:2] أي: إثماً وذنباً عظيماً، وقال عز وجل في سورة النساء أيضاً: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} [النساء:6] قالت الشافعية والمالكية: إن الأمر بالإشهاد للوجوب أيضاً إلا أن الحنفية قالوا: إنه للندب وليس للوجوب، ولكن ظاهر الآيات يدل على أن الأمر بالإشهاد عند دفع المال للوجوب كذلك {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} [النساء:6]. ويا لها والله من خاتمة جليلة تفزع القلوب الحية! ألا وهي قوله تعالى: {وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} [النساء:6] فهو الحسيب والرقيب والشهيد على أحوالكم وأقوالكم وأعمالكم، هو الذي يعلم منكم السر وأخفى، وهو الذي سيحاسبكم على ما قدمتم وما أخرتم في يوم لا ينفع فيه لا مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، وصدق الله إذ يقول: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47]. وتأتي هذه الآية الجليلة -أيها الأحباب- التي تقرن أمر الإحسان إلى اليتيم بأمر عبادة الله وحده لا شريك له، ويا لها من مكانةٍ عظيمة لليتامى! قال الله جل وعلا: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} [النساء:36] إنه تكريم وتشريف أن يقرن الأمر بالإحسان إلى اليتامى بالأمر بعبادة الله جل وعلا وحده لا شريك له. ومع أن كل هذه الآيات تشمل أمر اليتيم واليتيمة -أي: الذكر والأنثى- إلا أن ربنا جل وتعالى قد خص اليتيمة بآيتين للتأكيد على حقها، ولزيادة التوضيح والبيان؛ فقال ربنا جل وعلا في سورة النساء: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3] وقال عز وجل: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} [النساء:127]. ورد في صحيح مسلم أن عروة بن الزبير سأل خالته عائشة رضي الله عنها عن الآية الأولى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} [النساء:3] قالت: [يا بن أخي: هي اليتيمة في حجر وليها، فيرغب وليها في جمالها ومالها، ويريد أن ينتقص صداقها، فنهوا عن نكاحهن إلا أن يقسطوا إليهن في صداقهن، وأُمروا بنكاح سواهن مثنى وثلاث ورباع] أي: أن الله جل وعلا يأمر ولي اليتيمة إن رغب في الزواج منها فقد أوجب الله عليه أن يكمل لها الصداق، وأن لا ينتقص حقاً من حقوقها، قال عروة: [قالت عائشة: إلا أن الناس قد استفتوا رسول الله بعد ذلك فأنزل الله جل وعلا: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} [النساء:127]] هذه هي مكانة اليتيم واليتيمة -أيها الأحبة- في القرآن، والآيات كثيرة جداً لا أستطيع أن أقف معها كلها، وأكتفي بهذا القدر لأعرج على مكانة اليتيم في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

مكانة اليتيم في السنة

مكانة اليتيم في السنة لقد كرم النبي صلى الله عليه وسلم الذي نشأ يتيماً اليتامى على الأرض من المسلمين تكريماً عجيباً، ووالله لو لم يأت في السنة إلا هذا الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة لكفى، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين) أسمعت يا عبد الله؟ يقول حبيبك رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين، وأشار النبي بالسبابة والوسطى) الله أكبر! أي فضلٍ وأي شرف، ولفظ رواية مسلم: قال صلى الله عليه وسلم: (كافل اليتيم له أو لغيره -أي إذا كان اليتيم من قرابته أو كان اليتيم أجنبياً عنه لا يعرفه- معي في الجنة كهاتين، وأشار بالسبابة والوسطى) أي فضل وأي شرف لمن يكفل اليتيم أن يكون مرافقاً في الجنة للنبي صلى الله عليه وسلم. نقل الحافظ ابن حجر في الفتح مقولة عن ابن بطال إذ يقول: حق على كل من سمع بهذا الحديث أن يعمل به ليكون رفيق النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة فهي أفضل منزلة في الآخرة. من منا لا يريد أن يرافق الحبيب في الجنة؟ بل لقد ورد في الحديث الذي رواه أبو يعلى وقال الحافظ ابن حجر في كتاب الأدب معلقاً على هذا الحديث الذي استشهد به: وإسناده لا بأس به من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا أول من يفتح باب الجنة، فأرى امرأة تبادرني -أي تسرع خلفي لتدخل معي إلى الجنة- فأقول لها: مالكِ؟ من أنتِ؟ فتقول المرأة: أنا امرأة قعدت على أيتام لي) امرأة جلست تربي أيتامها بعد موت زوجها تسارع رسول الله صلى الله عليه وسلم لتدخل معه الجنة، قال الحافظ ابن حجر: وقد يشتمل هذا الحديث على الأمرين، أي: على أمر السرعة والمنزلة معاً، تسرع لتكون مع رسول الله ولتكون في منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة، يقول لها الرسول صلى الله عليه وسلم: (مالكِ؟ من أنتِ؟ فتقول: أنا امرأة قعدت على أيتام لي) جلست على أيتام لها لتربيهم تربية طيبة بالحلال الطيب، بعيداً عن أجواء المعصية العفنة عياذاً بالله جل وعلا. بل وفي الحديث الذي رواه النسائي بسندٍ جيد من حديث أبي شريح خويلد بن عمرو الخزاعي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (اللهم إني أحرج -والحرج هو: الإثم الشديد والذنب العظيم- اللهم إني أحرج على حق الضعيفين اليتيم والمرأة). وأختم بهذا الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الساعي على الأرملة والمسكين -والأرملة هي التي مات زوجها وترك لها أولاده- كالمجاهد في سبيل الله، وكالذي يصوم النهار ويقوم الليل). أسمعت يا عبد الله إلى هذا الفيض وإلى هذه النعم؟! (الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، وكالذي يصوم النهار ويقوم الليل) أي فضلٍ هذا؟! والله الذي لا إله غيره إن من تخلى عن هذا الفضل لمحروم في الدنيا والآخرة. الساعي على من مات عنها زوجها وترك لها أفراخها الصغار أجره عند العزيز الغفار كأجر المجاهد في سبيل الله الذي حمل نفسه وروحه على أسنة السيوف والرماح وطلب الشهادة من الله جل وعلا، أو كالذي يتعب نفسه ويصوم النهار ويقوم الليل لله العزيز الغفار جل وعلا.

ثالثا: عاقبة آكل مال اليتيم

ثالثاً: عاقبة آكل مال اليتيم إذا كان هذا هو قدر اليتيم عند الله وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد جاء القرآن يحذر وينذر بصورة تحذير رهيب وإنذار شديد لمن يتطاول ويتجرأ على أكل مال اليتامى ظلماً بغير حق، فلقد قال الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [النساء:10] الله أكبر! أي رعبٍ هذا؟! أي إنذار شديد هذا؟! والله إنه إنذار يخلع القلوب الحية، وينذر من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً} [النساء:10] فكم من أموالٍ لليتامى قد أكلت ظلماً، بل ومن الذي سلم إلا من سلمه الله جل وعلا، ووالله إن شربة ماء من أموال اليتامى بغير حق إنما هي نار تغلي في البطون، وإن لقمة خبز من أموال اليتامى بغير حق إنما هي نار تتأجج في البطون {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [النساء:10]. ولما نزلت هذه الآيات نزلت على قلوبٍ حية، نزلت على قلوبٍ تستمع إلى القرآن لتنطلق على الفور لتحول القرآن إلى وقع وإلى منهج حياة، كان حالهم عجيباً وعجباً، ليس كحالنا اليوم، فإننا نستمع إلى أوامر الله أمراً أمراً، وإلى نواهي الله نهياً نهياً، وإلى حدود الله حداً حداً، ولا يستجيب إلا من رحم ربك، وينطلق البعض أو الأكثرون وكأنهم لم يسمعوا شيئاً، كأن الله لم يأمر، وكأن الله لم ينهَ، وكأن الله لم يحد حداً، واجب على الناس أن لا يتعدوا حدود الله جل وعلا، لما نزلت هذه الآيات في مجتمع الصحابة الذي رباه من رباه الله ليربي به الدنيا صلى الله عليه وسلم، لما نزلت هذه الآيات فزع الصحابة فزعاً شديداً، وتزلزلت قلوبهم زلزلة عظيمة، وذهب كل صحابي في بيته يتيم ففصل ماله عن مال اليتيم كله، وشرابه عن شراب اليتيم كله، حتى أن الأكل كان يوضع بين يدي اليتيم -كما قال ابن عباس - فيأكل اليتيم فإذا ما تبقى شيء من الطعام لا تمتد إليه الأيدي مطلقاً حتى يفضل هذا الطعام، فإن أكله اليتيم مرة ثانية وإلا خرب وفسد، وشق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاشتكوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الله جل وعلا الذي لا يغيب ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، الذي يربيهم بمنهجه وقرآنه أنزل قوله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لاعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة:220] وقد ظن بعض المفسرين أن هذه الآية الأولى منسوخة بآية البقرة وهذا وهم وخطأ، فإن آية البقرة آية محكمة لم تنسخ ولكن هذا من باب التخفيف عن هؤلاء الخيار الكرام الذين وقعوا في مثل هذا الحرج الشديد. {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة:220] يعلم من الذي يفسد أموال اليتامى، ويعلم من الذي يريد أن يصلح أموالهم وأن ينميها ويربيها لهم {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لاعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة:220] وهكذا -أيها الأحبة- يأتي هذا الوعيد الشديد من الله تبارك وتعالى لآكل مال اليتيم.

رابعا: يتم رغم وجود الوالدين!!!

رابعاً: يتمٌ رغم وجود الوالدين!!! أما العنصر الرابع فهو عنصرٌ قد يراه بعض الإخوة غريباً ألا وهو: يتمٌ رغم وجود الوالدين! كيف يكون ذلك؟ ألم أقل في أول الخطبة بأن ابن منظور قال في لسان العرب: بأن اليتم في اللغة أصله الانفراد، فإذا عاش الطفل منفرداً فريداً وحيداً أحس باليتم وبالغربة؛ فهو بين والد قد انشغل بتجارته وأمواله ولم يعط لولده قليلاً من الوقت، وبين أم قد انشغلت عن ولدها بالعمل تارة، أو بالضرب في الأسواق تارة أخرى، أو بالجري وراء أحدث الموضات مرة ثالثة، وتركت ولدها ووليدها ونعمة ربها التي يريدها كثير من النساء غيرها، تركت هذه النعمة في أحضان المربية، أو في أحضان الخادمة، أو في أحضان المدارس، ووالله قد يُترك هذا الطفل بين أحضان مدارس أهل الكفر، هذه المدارس التي تركز على الظاهر لإبهار الكثير من المسلمين بتعليم اللغات، وأشهد الله على منبر رسول الله لقد دخل عليَّ أحد الإخوة الكرام وهو يبكي فقال لي: أدركني وقل لي ما الحل؟ قلت: ما الذي جرى ما الذي حدث؟ قال: دخلت زوجتي على ولدي في غرفته الخاصة، فوجدت الولد يصلي كصلاة النصارى ويقول: بسم الأب والابن والروح القدس وهو مسلم، قلت: سبحان الله! وأين رأى الولد هذه الصلاة؟ هل يدخل ولدك الكنائس؟ قال: لا. قلت: عجيب، فما الذي جعله يصلي هكذا؟ فقال: إن ولدي في مدرسة تسمى بـ (الفرنسسكان) قلت: سبحان الله! وهل يريد من زرع الشوك أن يجني الورود، محال لمن زرع الشوك أن يجني إلا الجراح، ولدك على مائدة اللئام، وتريد أن يتربى على التوحيد والإسلام!! إنه وهم، ولدك يربى على موائد اللئام وتريد أن يعود إليك موحداً وعلى علم بتوحيده وبدين الإسلام!! هذا مستحيل! الولد جوهرة غالية، ونعمة كبيرة، ودرة صافية تقبل كل شيء ينقش عليها، فإن ربي على الإسلام وعلى الخير خرج عضواً صالحاً لنفسه ولمجتمعه وسعد في الدنيا والآخرة، وإن نقشت على هذه الدرة الشر أشربت الشر، وقبلت الشر وخرج عضواً فاسداً في مجتمعه، وشقي في الدنيا والآخرة والوزر والذنب على رأس والديه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]. فقد ينشأ الطفل بين والديه إلا أنه يحس باليتم، وبالوحشة، وبالغربة، لا يجد أباً يجلس إليه، ولا يجد أماً تأخذه في أحضانها لترضعه حنانها ورحمتها، كلا. ورحم الله من قال: ليس اليتيم من انتهى أبواه من هم الحياة وخلفاه ذليلا إن اليتيم هو الذي ترى له أماً تخلت أو أباً مشغولا

خامسا: كيف تؤمن مستقبل ولدك بعد موتك؟

خامساً: كيف تؤمِّن مستقبل ولدك بعد موتك؟ وأخيراً: أيها الأحبة! يبقى لنا هذا العنصر الأخير في هيئة سؤال ألا وهو: كيف تؤمِّن مستقبل ولدك بعد موتك؟ و A مباشرة من الله جل وعلا: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} [النساء:9] جوابٌ محكمٌ من الذي خلق، ويعلم ما خلق ومن خلق {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} [النساء:9] يقول سيد التابعين لولده: [إني سأكثر من الطاعات براً بك] براً بولده {وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ} [الكهف:80] وفي الآية الأخرى: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً} [الكهف:82] طاعة الوالد، وتقوى الوالد لا تضيع أبداً لا في حياته ولا بعد مماته، كيف لا وقد دخل مسلمة بن عبد الملك ابن عم عمر بن عبد العزيز عليه وهو على فراش الموت، فقال له: [يا أمير المؤمنين! ألا توصي لأولادك بشيء؟ فهم كثير وقد أفقرتهم ولم تترك لهم شيئاً] فقال عمر بن عبد العزيز: [أتريد مني أن أوصي لهم بما ليس لي، وهل أملك شيئاً لأوصي لهم به؟ أم تريد أن أوصي لهم بحقٍ لغيرهم، فوالله لا أفعل، فإنهم أحد رجلين: إما أن يكونوا صالحين والله يتولى الصالحين، وإما أن يكونوا غير صالحين فوالله لا أترك لهم ما يستعينون به على معصية الله عز وجل، أدخلوا أولادي عليَّ! فأدخلوا أولاده عليه كالفراخ الصغيرة، وهو على فراش الموت، فودعهم عمر بهذه الكلمات التي تذيب الحجارة، وتفتت الصخور، نظر عمر إلى أولاده وقال: يا بني! إن أباكم قد خير بين أمرين: بين أن تستغنوا ويدخل النار، وبين أن تفتقروا ويدخل الجنة، وقد اختار أبوكم الجنة، انصرفوا فأنتم وديعة عند الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين]. {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} [النساء:9] وأحب ألا يفهم كلامي فهماً خاطئاً، ويقال: بأن الشيخ يدعو إلى الدروشة، ويريد أن ينقطع الآباء إلى العبادة وينشغلوا عن الدخول في الأسباب لتوفير المال الحلال الطيب لورثتهم، كلا. فإن الأمر بالتقوى لا يعارض ألبتة الدخول في الأسباب، فإن الدخول في الأسباب كما قال الشاطبي في الموافقات: أمر واجب شرعاً. يجب علي وعليك أن ندخل في الأسباب، فلا مانع أن تدبر المال الحلال الطيب لولدك، ولا مانع من أن تسعى ومن أن تكدح، شريطة أن لا تضيع حق الله أو حق ولد من أولادك، فإن كثيراً من الناس قد يظن أن الكدح والسعي على الأولاد لا حرج فيه أن يضيع الصلوات، وإذا ما قلت له يرد عليك ويقول: أليس العمل عبادة؟ أنا في عبادة، فلماذا أترك هذه العبادة لآتي للصلاة، فنقول لمن هذا حاله: لا حرج أن تسعى على رزقك من الحلال لتيسر لأولادك السعة والرخاء في الدنيا وبعد موتك، شريطة ألا يشغلك هذا الكدح عن حق الله جل وعلا أو عن حقوق أولادك، فإننا نرى كثيراً ونقرأ كثيراً عن آباء قد تركوا أولادهم وانصرفوا عنهم، واهتموا بأن يدبروا لهم الطعام والشراب فقط، وظنوا أن الأمر متوقف عند المال، وعند الطعام والشراب، ثم عاد هذا الرجل وهذا الوالد المسكين بعد فترة ليرى ولده -عياذاً بالله وحفظنا الله وإياكم- مدمناً للمخدرات، أو مدمناً للهروين، أو شارباً للخمر، أو زانياً أو مسك في بيت من بيوت الدعارة؛ لأن الوالد المسكين قد ظن أن كل ما عليه تجاه ولده أن يدبر له الطعام والشراب فقط. وهذا خطأ كبير أحذر نفسي وأحبابي منه، فإن الولد في حاجة إلى أبيه، لا إلى مال أبيه فقط، فإن وفرت له المال ويسرت له السعة والرخاء مع كل ما تملك من فكر ورحمة، وعطاء وحنان وبذل ونصح وإرشاد، وتربية على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو الخير بل هو قمة الخير، بل وجزاك الله عن ذلك كل الخير، والأصل في ذلك حديث مسلم (أن الرسول صلى الله عليه وسلم دخل على سعد بن أبي وقاص وهو مريض فقال سعد: يا رسول الله! هل أتصدق بنصف مالي؟ قال الرسول: لا، ثم قال: بالثلث والثلث كثير، وقال عليه الصلاة والسلام: إنك إن تذر ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تذرهم عالة يتكففون الناس) أي: يسألون الناس. أسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلني وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم حصن فروجنا، وطهر أموالنا، وارزقنا الإخلاص والصدق في أقوالنا وأعمالنا أنت ولي ذلك ومولاه. اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، واعل بفضلك كلمتي الحق والدين، اللهم اقبلنا وتقبل منا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. اللهم لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا أديته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا طائعاً إلا ثبته، ولا حاجة لك فيها رضى ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ويسرتها يا رب العالمين. أحبتي في الله! أكثروا من الصلاة والسلام على حبيبنا رسول الله كما أمرنا بذلك ربنا جل وعلا فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على حبيبنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. هذا وما كان من توفيقٍ فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو سهوٍ أو زللٍ أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه، وأقم الصلاة.

المستقبل لهذا الدين

المستقبل لهذا الدين تعيش الأمة في حاضرها الكثير من المآسي والنكبات؛ فقد رزحت تحت ظلام الفجور والفسوق والعصيان والذل والهوان، وذلك بسبب مخالفتها لمنهج ربها سبحانه وتعالى، لكن مع ذلك تلوح في الأفق القريب بشارات النصر والعزة لهذا الدين وأهله وعلو رايته من جديد، تزرع التفاؤل وتنزع القنوط واليأس، بشارات حقة ذكرت في الكتاب والسنة أبان عنها شيخنا الفاضل في خطبته، مذيلاً ذلك بذكر أسباب النصر التي كتبها الله على أهل نصرته.

واقع الأمة بين ماضيها وحاضرها

واقع الأمة بين ماضيها وحاضرها إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أحبتي في الله! لقد تحدثنا في اللقاء الماضي عن واقع الأمة المسلمة في واقعنا المعاصر وعن حالها في واقعنا الحاضر، وبينا أن الأمة التي ذكرها الله جل وعلا في القرآن تختلف كثيراً عن أمة القرآن التي نراها في مثل هذه الأيام، وقلنا: إن الأمة التي ذكرها الله جل وعلا في القرآن وصفها الله بالخيرية، وعلل الله خيريتها؛ بأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتؤمن بالله جل وعلا، ولكن أمة القرآن الآن ضيعت هذا المنهج الرباني، فضاعت بين الأمم، وسقطت من القمة السامقة إلى قمة الحضيض. وقلنا: إن الله جل وعلا قد وصف الأمة في القرآن بالوسطية والاعتدال، ولكن الأمة في الواقع المعاصر تركت هذا المنهج الوسط، وأبت إلا أن تسلك طريق المغضوب عليهم والضالين من اليهود والنصارى، جنحت الأمة لليمين مرة ولليسار مرة، وللشرق مرة، وللغرب مرة، وتركت طريق الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ولما فعلت الأمة ذلك أذلها الله لمن كتب الله عليهم الذلة والهوان، ولا يوجد على الإطلاق أذل ممن أذله الله للأذل. وقلنا: إن الله وصف الأمة في القرآن بالوحدة ودعاها إلى ذلك، ولكن الأمة قد أبت إلا أن تمزق شملها وتشتت صفها، وينفرط عقدها ولا حول ولا قوة إلا بالله، ويوم أن وصلت الأمة إلى هذا الحال من التشتت والتمزق والتفرق والضياع، طمع فيها الضعيف قبل القوي، والذليل قبل العزيز، والفقير قبل الغني ولا حول ولا وقوة إلا بالله العلي العظيم. وقلنا: إنه مما يزيد اليأس والقنوط عند كثيرٍ من المسلمين أنه حتى لو نظر إلى أمة القرآن من مضمون الركب المادي الحضاري -كما يقولون- لوجد أمة القرآن تأتي خلف الركب إن لم تكن وراء الراكب البعيد، فطاقات أمة القرآن معطلة، عُطلت طاقاتنا العقلية، وعُطلت طاقاتنا العددية، وعُطلت طاقاتنا العلمية، وعُطلت طاقاتنا العملية، وعُطلت طاقاتنا الثقافية، فأثقل شيءٍ عندنا هو العمل، وأحب شيء إلينا هو الكسل، وأقل الثروات قيمة عند الأمة هو الإنسان. وقلنا: إنه مما يزيد اليأس والقنوط عند كثيرٍ من المسلمين أنه في الوقت الذي يرى فيه أمة القرآن على هذا الحال من التمزق والتشتت، والخزي والضياع، يرى أمماً أخرى قد وصلت إلى أرقى درجات التقدم المادي، بصورة لا يكاد يصدقها عقل، ومما يزيد اليأس أيضاً عند كثيرٍ من المسلمين أنه يرى جميع الأمم على اختلاف مشاربها، وعلى اختلاف أيدولوجياتها، وعلى اختلاف نظرياتها، لا تتفق على شيءٍ قدر اتفاقها على الكيد للإسلام والمسلمين، ولكن بالرغم من كل ذلك ومن أكثر من ذلك فإننا على يقين كما أننا على يقين أن الشمس تشرق في كبد السماء، لتنير أرجاء المعمورة، إننا على يقين -وينبغي أن تكونوا على يقين أيها المسلمون في كل مكان- إننا على يقين جازم على الرغم من كل هذه الحروب بأن المستقبل لهذا الدين رغم كيد الكائدين.

بشارات النصر لدين الإسلام

بشارات النصر لدين الإسلام إن المستقبل لهذا الدين بإذن الله جل وعلا؛ لأنني أرى في هذه الأيام بالذات، وتحت رحى هذه الفتنة الطاحنة، أرى كثيراً من القلوب قد اجتاحتها موجة عارمة من القنوط واليأس على أنه لا يمكن أبداً أن يكون هناك عودة للمسلمين، وأن يكون هناك نصرة لدين الله عز وجل، ولكن أبشروا أيها المسلمون، واعلموا علم اليقين بأن النصر لدين محمد صلى الله عليه وسلم، وبأن المستقبل لهذا الدين رغم كيد الكائدين. وتعالوا معي لأزف إليكم هذه البشائر التي تبشر بنصر دين الله جل وعلا، على الرغم من كل هذه المحاولات التي تدبر وتخطط في الليل والنهار، من الكيد للإسلام والمسلمين أقول: بالرغم من ذلك أبشروا بنصرة الله، أبشروا بوعد الله، ووعد الله قائم، ووعد الله صدق، ووعد الله حق، ووعد الله لا يُخلف أبداً: {إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران:9].

وعد الله بنصرة دينه وغلبته وإظهاره على الدين كله

وعد الله بنصرة دينه وغلبته وإظهاره على الدين كله البشارة الأولى من هذه البشارات: هي وعد الله جل وعلا بنصرة دينه وغلبته وإظهاره على الدين كله، استمع إلى الله جل وعلا وهو يقول في سورة الصف سبحانه وتعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:8 - 9] يا لها من بشارة عظيمة {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} [الصف:8]، وهل يضر السماء نبح الكلاب؟!! سقطت ذبابة حقيرة على نخلة عملاقة، فكادت الذبابة أن تطير، فقالت لهذه النخلة العملاقة: تماسكي أيتها النخلة فإني راحلة عنك، فقالت لها النخلة العملاقة: انصرفي أيتها الذبابة الحقيرة، وهل أحسست بك حينما سقطت عليَّ لأستعد لك وأنت راحلة عني؟!! {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:8] لا تطفئ نور الله جعل وعلا جميع الأفواه ولو اجتمعت {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:8]. {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:9] ويا لها من شهادة، الله يشهد لدين محمد بأنه الهدى ودين الحق، ويا لها من شهادة، وهي كلمة الفصل التي ليس بعدها زيادة: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [الصف:9] وقد تحقق وعد الله، لا تظنوا أن هذا كلاماً لم يتحقق، تحقق وعد الله مرة في حياة حبيبه ورسوله صلى الله عليه وسلم، أتم الله لهم النعمة، وأكمل الله عليهم الدين، وأظهر الله دينه على كل الأديان، فالدين الإسلامي في ذاته كبير لا يقف أمامه أي دين، وفي واقعه أظهره الله جل وعلا في حياة رسوله وعلى يد الرعيل الأول الذي حمل راية الإسلام خفاقة عالية، وهم يحملون أرواحهم على أسنة السيوف والرماح، ويحرصون على الموت كحرصهم على الحياة، فدانت لهم معظم المعمورة على مدى قرن من الزمان أو يزيد أظهر الله دينه. ولقد أظهر الله دينه مرة، ووعد الله جل وعلا قائم إن قام المسلمون بمنهج الله جل وعلا، وعد الله مذكور لكل فئة من أهل الإيمان، ترفع راية الإسلام خفاقة عالية، وتطلب النصرة من الله جل وعلا، وعد الله قائم لا يتبدل ولا يتخلف ولا يتغير {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:9].

الخسار والبوار لأموال الكفار الصادة عن سبيل الله

الخسار والبوار لأموال الكفار الصادة عن سبيل الله إليكم البشارة الثانية في سورة الأنفال، وهذه البشارة بالذات لها وقع عجيب على قلوب أهل الإيمان، ولها وقع لذيذ على قلوب أهل الثقة بالله جل وعلا، واستمعوا إلى هذه البشارة الطيبة أيها المسلمون، وأبشروا بها في كل مكان على ظهر هذه الأرض، يقول الله جل علا: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36]. يا لها من بشارة! {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ} [الأنفال:36] لماذا؟ {لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال:36] فدعهم ينفقون الأموال والمليارات والدولارات: {فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال:36]. يا لها من بشارة عظيمة! {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنفال:36] إن أعداء هذا الدين لا يتورعون في الليل والنهار على أن يبذلوا كل ما يملكون من محاولات لتنحية هذا الإسلام، فهم على يقين مطلق -يا عباد الله- أن هذا الإسلام هو المارد العملاق، الذي إن هب من مرقده أباد مدنية الشرق الملحدة، وحضارة الغرب الكافرة، هم يقولون ذلك في كتبهم، ويسجلون ذلك، هم الذين قالوا: لا يمكن أبداً أن ننتصر على هذا الإسلام بقوة عدد، أو بقوة عتاد، لا يمكن على الإطلاق أن ننتصر بعد اليوم على المسلمين بقوة السلاح، وبقوة العتاد؛ لأن الاستعمار بالسلاح، والاستعمار بالأبدان والجنود يثير الحماس في قلوب المسلمين، ويثير الحمية في قلوبهم فيثورون على المستعمر، لذا فاطمئنوا جيداً أنه لا يمكن على الإطلاق أن تكون في واقعنا المعاصر صورة من صور الاستعمار المادي، أن تأتي قوة أو دولة وتستعمر دولة أخرى، هذا لا يمكن على الإطلاق، ولكن هناك صور أخرى من الاستعمار أقسى وأمر كأس خمر وغانية يفعلان في تحطيم الأمة المسلمة ما لا يمكن أن يفعله ألف مدفع، وقد فعلوا ذلك تماماً وأكملوا المؤامرة والمخطط، هذا هو تدبيرهم لا يتورعون أبداً من إنفاق ما يملكون من الأموال للصد عن سبيل الله، ولتنحية هذا الإسلام العظيم. انتبهوا معي أيها المسلمون فكم أُنفق من أموال على تنصير المسلمين، وكم أُنفق من أموال على تدعيم الاقتصاد الربوي اليهودي الكافر، حتى لا تقوم للاقتصاد الإسلامي قائمة، كم أنفق من أموال على أندية الوتاري في جميع أنحاء العالم الإسلامي وغيره، كم أنفق من أموال على أندية الماسونية في جميع أنحاء العالم، كم أنفق من أموال على حرب دامت سنوات طويلة للقضاء على الموحدين الأفغان وعلى المسلمين الأفغان، كم أنفق من أموال لإشاعة الرذيلة وتحطيم الأخلاق بين صفوف المسلمين عن طريق الأفلام الداعرة، والمسلسلات الفاجرة، كم أنفق من أموال؟! ولكن ما الذي حدث؟ إن هذه الأموال التي أُنفقت بالمقارنة إلى ما وصلوا إليه من نتائج أمر يزلزل قلوب أهل الكفر ويشرح صدور أهل الإيمان، لقول الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال:36] وتتم حسرتهم الكبرى يوم يحشرون إلى جهنم {وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36] يالها والله من بشارة: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال:36] لا بد من غلبة الحق، ولا بد من أن يظهره الله جل وعلا، {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة:33]. قالها أحدهم: إن الإسلام سيكون دين أوروبا في القريب أو البعيد، وسوف نرى في خطبة اليوم أن هناك صرخات مدوية، وصرخات وصرخات مرعبة، لا أقول من أبناء المسلمين، وإنما أقول من أبناء الشرق والغرب، هذه الصرخات تنذر بسوء مصير البشرية. إن أمام هذه الحضارة المادية التي ما تركت شيئاً إلا واخترعته لإبادة هذا الإنسان صرخات تنذر بسوء مصير البشر على ظهر المعمورة، وها نحن نسمع في كل يوم، ما نشرة إلا ونسمع، وما من جريدة إلا ونقرأ مصير مرعب للبشر في كل أنحاء الأرض لما اخترعته هذه الحضارة المادية المرعبة، ومن قرأ كتب هؤلاء العلماء أو المفكرين والأدباء من الشرق والغرب فزع والله، صرخات مرعبة {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36].

استخلاف الله للمؤمنين في الأرض

استخلاف الله للمؤمنين في الأرض أما البشارة الثالثة يا عباد الله يا أهل التوحيد ويا أهل الإيمان والإسلام البشارة الثالثة من سورة النور، يقول الله جل وعلا: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [النور:55] إيمان وعمل صالح، هذا هو الشرط، فما هو جواب هذا الشرط أيها الأحباب؟ {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} [النور:55] وعد الله قائم: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [النور:55] فأين أهل الإيمان، وأين أهل العمل الصالح؟ إن وجد أهل الإيمان ووجد أهل العمل الصالح فأبشروا بوعد الله جل وعلا، فما هو هذا الوعد؟ {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} [النور:55] تحقق وعد الله أم لم يتحقق؟ تحقق والله مرة في عهد الحبيب صلى الله عليه وسلم، وفي عهد الرعيل الأول الذين حملوا راية الإسلام خفاقة بمنتهى العزة والرفعة، حملوه وانطلقوا في ربوع الأرض بعزة أهل الإيمان، وثقة أهل الإسلام، بأيديهم اليمنى كتاب الله ودين الله جل وعلا، وبالأخرى سيف ورمح، يدعون إلى دين الله عز وجل، وليفرضوا دين الله على وجه كل من أبى، وعلى كل من وقف ليصد الناس عن الدخول في دين الله عز وجل. انطلق بعزة أهل الإيمان وقالها ربعي لـ رستم: [نحن قوم ابتعثنا الله] لماذا؟ ابتعثنا الله لبناء العمارات، وركوب أفخم السيارات، وأكل ما لذ وطاب من الطعام والشراب، وقضاء الأوقات أمام المسلسلات الفاجرة والأفلام الداعرة، وقضاء الأوقات أمام المباريات وصرخات وقتالات، وحروب على هذا الهراء؟! لا. [نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة] يوم أن فهموا ذلك وانطلقوا بهذا الفهم دانت لهم أرجاء المعمورة، حتى وصلت حدود الدولة الإسلامية إلى أقصى المشرق والمغرب، وأُذل كسرى وأُهين قيصر، تحقق وعد الله جعل وعلا {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ} [النور:55] وسيظل الحال هكذا إن هم عبدوني وحدي ولم يشركوا بي شيئاً.

بلوغ هذا الدين ما بلغ الليل والنهار

بلوغ هذا الدين ما بلغ الليل والنهار أما البشارة الرابعة: فهي من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا فالآيات التي تتحدث وتبشر بنصرة دين الله كثيرة جداً ولله الحمد والمنة. أحبتي في الله! أعيروني القلوب والأسماع، واستمعوا إلى هذا الحديث المبارك الذي يدخل الأمل والسرور والطمأنينة إلى قلب كل موحد بالله جل وعلا، الحديث رواه أحمد ورواه الإمام الطبراني وقال الطبراني: رجاله رجال الصحيح، وصححه الحاكم وقال: صحيح الإسناد على شرط الشيخين، وصححه الألباني على شرط مسلم، من حديث تميم الداري رضي الله عنه، أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ليبلغن هذا الأمر -أي الدين أو الإسلام- ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر) أسمعتم بشارة أعظم وأغلى من هذه البشارة؟! (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر -حتى بيوت الشعر والصوف- إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام وذلاً يذل الله به الكفر). ويؤيد هذا الحديث حديث خباب بن الأرت الذي رواه البخاري، أن خباباً رضي الله عنه قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة وقد اشتد علينا إيذاء أهل قريش، أو إيذاء أهل مكة، فذهبت إليه وقلت: يا رسول الله! ألا تدعو الله لنا؟ ألا تستنصر الله لنا؟ فقعد النبي صلى الله عليه وسلم وهو محمرٌ وجهه وقال: لقد كان من قبلكم يمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه ولحمه فلا يصرفه ذلك عن دين الله، ويؤتى الرجل فيوضع المنشار في مفرق رأسه فيشق نصفين ما يصرفه ذلك عن دين الله، والله -أو والذي نفسي بيده! - ليتمن الله هذا الأمر -أي هذا الدين- حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون) وعد الله قائم أيها المسلمون. وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد وقال صاحب مجمع الزوائد: رجاله ثقات، وصححه الإمام العراقي صاحب تخريج الإحياء من حديث حذيفة رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً أو عضوضاً، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرياً، فتكون فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة) وعد الله قائم (ثم تكون خلافة على منهاج النبوة) إن شاء الله جل وعلا. وفي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقاتل المسلمون اليهود) لا بد وحتماً من ذلك، وعد الله قائم، لا اتفاقيات، ولا معاهدات، ولا بنود، وعد الله قائم، ولن يخلف الله وعده، ولن يخلف الله عهده: (يقاتل المسلمون اليهود فينتصرون عليهم، حتى يقول الحجر والشجر) ينطق الله الحجر والشجر، يا لها من معجزة، ويا لها من كرامة! حتى ينطق الحجر والشجر ويقول الحجر والشجر: (يا مسلم يا عبد الله! تعال إن ورائي يهودي تعال فاقتله) ينطق الحجر وينطق الشجر إلا نوعاً واحداً من الأشجار، ألا وهو شجر الغرقد، وتعجبون أن اليهود الآن يقومون بحملة رهيبة واسعة لزراعة معظم الأراضي من شجر الغرقد؛ لأنهم على يقين بقول محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وأنا أعلنها صريحة والله وأقول: بأنه لا يمكن للمسلمين على الإطلاق أن ينتصروا في يوم من الأيام على اليهود بسلاح أو بعتاد؛ لأن اليهود أهل عقيدة، ولن يغلبوا إلا بالعقيدة، بعقيدة التوحيد، وعقيدة الإسلام، ينطق الله الحجر والشجر حتى يقول الحجر والشجر: يا مسلم يا عبد الله! خلفي يهودي تعال فاقتله، إلا شجر الغرقد، والآن حملة رهيبة لزراعة هذا الشجر؛ لأنهم يثقون بقول محمد صلى الله عليه وسلم، ربما لا أكون مبالغاً إذا قلت: بأنهم يثقون بمحمد أكثر من ثقة بعض المسلمين بقول رسول الله. يا لها من بشائر، والأحاديث في هذا الباب أيضاً كثيرة -أيها الأحباب- فهذه بشائر أخرى.

إفلاس جميع الأنظمة البشرية

إفلاس جميع الأنظمة البشرية خامساً: من بين البشائر المختلفة التي تبشر بنصرة دين الله جل وعلا: إفلاس جميع الأنظمة البشرية، وها نحن نسمع الآن الصرخات المدوية التي تعلن بسوء مصير هذه البشرية أمام هذا التقدم المادي الذي ما ترك شيئاً إلا واخترعه لإبادة هؤلاء البشر، صرخات من هنا ومن هناك، تنادي على منقذ، ولا شك أن المنقذ هو الإسلام، لماذا؟ أولاً: لأن الإسلام هو دين الفطرة، وهو دين البشرية جمعاء الذي ارتضاه الله جل وعلا لجميع البشر ديناً. ثانياً: ما نراه من صحوة إسلامية عارمة في كل جميع أنحاء العالم الإسلامي، وما نراه من عودة صادقة من المسلمين إلى الله جل وعلا، وإلى دين الله عز وجل، وإذا أردت أن تتحقق من ذلك، فبنظرة عابرة على أي مسجد من مساجد المسلمين لترى كتائب الشباب المسلم وقد عمرت بيوت الله جل وعلا، منذ ثلاثين سنة فقط أتحدى أن يقول لي أحد الناس: إنه كان يرى هذه الجموع المؤمنة من كتائب الشباب المسلم في أي بيت من بيوت الله عز وجل، حتى ولو في بيت الله الحرام، أو في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه بشارة تطمئن وتشرح الصدور، وهذا من فضل الله جل وعلا. وبدأ المسلمون يعودن إلى دين الله عز وجل، ويعلمون أنهم خدعوا طيلة السنوات الماضية، ربما خدعهم أبناء المسلمين ممن فُرقوا في مدارس الاستعمار، ومدارس أعداء الدين، الذين لقبوا بأنصاف المحررين والمجددين والمطورين، وعادوا إلينا لينفثوا سموم فكرهم وعقيدتهم التي تربوا عليها في مدارس الاستعمار، لقد فَهِم المسلمون ذلك والحمد لله، وذلك بفضل الله جل وعلا، ثم بفضل العلماء المخلصين والدعاة الصادقين، فَهِم المسلمون ما يخطط لهم، وما يراد بهم، وهذا من فضل الله جل وعلا. وبشارة ثالثة: أننا نرى والحمد لله غير المسلمين يدخلون في الإسلام على الرغم من أن الدعوة التي تبذل لدعوة هؤلاء لا تذكر، ولكنه دين الفطرة، فمعنا الفطرة -أيها الأحباب- معنا رصيد فطرة الإنسان، ومعنا رصيد فطرة الكون، ومعنا دين الحق الذي لأجله قامت السماوات والأرض، وأنزل الله لأجله الكتب، وأرسل الله لأجله الرسل، وقبل كل ذلك وبعد كل ذلك معنا الله، ويا لها من معية: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21].

الإسلام قادم بوعد الله أولا وبأنصاره ثانيا

الإسلام قادم بوعد الله أولاً وبأنصاره ثانياً فيا عباد الله ويأيها المسلمون! الموضوع طويل جداً، ولكنني أريد أن أضع النقاط على الحروف وأقول: مهما كانت الحروب التي تُكاد للإسلام وتدبر للمسلمين فإن وعد الله قائم، وإن المستقبل لهذا الدين، رغم كيد الكائدين، والإسلام ما دخل معركة إلا وانتصر فيها بإذن الله جل وعلا وهو أعزل من السلاح بالمقارنة إلى ما يوجد عند غيره من سلاح ومن عتاد، الإسلام هو الذي قهر التتار، الإسلام هو الذي كافح الصليبين، الإسلام هو الذي كافح الاستعمار البريطاني في السودان، الإسلام هو الذي كافح الاستعمار البريطاني في مصر، الإسلام هو الذين كافح الاستعمار الفرنسي في الجزائر وهو أعزل من سلاحه، إلا من قوة الحق التي أودعها الله فيه، فمعه الحق، ومعه رصيد فطرة الإنسان، ورصيد فطرة الكون، فمن كان الله معه فمن يكون ضده، ومن يكون عليه؟ {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21]. فوعد الله جل وعلا قائم يا عباد الله، وعد الله لا يخلف {إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران:9] ولكن هل يتنزل النصر كما يتنزل المطر من السماء؟ أتظنون ذلك؟ أبداً الأمر يحتاج إلى كفاح، ويحتاج إلى جهاد، ويحتاج إلى رجال، ويحتاج إلى أطهار، ويحتاج إلى أبرار، ويحتاج إلى أهل صدق، ويحتاج إلى أهل رجولة، يحملون الإسلام من جديد، يرتفعون إلى مستوى هذا الدين الذي ما أنزله الله إلا ليقود البشرية جمعاء، نريد رجالاً يرتفعون إلى هذا المستوى العالي، إلى مستوى هذا الدين الذي ما أراده الله إلا ليقود البشرية جمعاء، النصر لا يتنزل كنزول المطر، ولكن النصر يتنزل بأسباب أودعها الله في كونه، فإن أخذنا بهذه الأسباب جاءنا نصر مسبب الأسباب جل وعلا، وإن تخلينا عن هذه الأسباب فلا نصرة لنا ولو كان قائدنا ومعنا في المعركة هو محمد صلى الله عليه وسلم، لو كان قائدنا في المعركة رسول الله وتخلينا عن أسباب النصر والنصرة ما جاءنا النصر من الله جل وعلا، ذلك وعد الله أيضاً وسنن الله الثابتة، وسنن الله القائمة، يوم أن تخلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد واختلت بعض أسباب النصر، كانت النتيجة كما تعلمون جميعاً، فالله جل وعلا أودع الكون أسباباً ونواميساً وقوانيناً لا بد أن نرتفع إلى مستواها، ولا بد أن نأخذ بها حتى يأتينا نصر الله جل وعلا.

أسباب نصر الله لهذا الدين وأهله

أسباب نصر الله لهذا الدين وأهله بعض الناس يشتكون ويقولون: نسمع كلاماً يحمس القلوب، ويزلزل الأفئدة، ولكننا نخرج وما علم كل واحد منا دوره، فما دوري أنا وأنا على ثغرة من ثغرات الإسلام؟ هذا هو المطلوب، انتبه يا عبد الله، انتبه أيها المسلم! يا من شرفك الله بالإسلام، انتبه أيها المسلم في كل مكان، اعلم علم اليقين أنك على ثغرة من ثغرات الإسلام، في متجرك، في مصنعك، في مدرستك، في جامعتك، في عملك، في مسجدك، أنت على ثغرة، لا نريد أن يتحول الناس جميعاً إلى دعاة يدعون لدين الله جل وعلا في المساجد ويتركون المزارع والمتاجر والمصانع، لا نريد ذلك، أنت جندي للإسلام في موقعك، أينما كنت فأنت جندي لدين الله جل وعلا. وسوف أضع بعض النقاط العملية التي هي من السهولة واليسر على كل مسلم غيور على دين الله أن ينطلق من الآن ومن اليوم لنصرة دين الله جل وعلا، وعلى ألا يؤتى الإسلام من قبله، حتى لا يكون خائناً للأمانة التي أمَّنه الله عز وجل عليها.

العودة إلى هذا الدين والكفر بقوانين البشر وأنظمتهم

العودة إلى هذا الدين والكفر بقوانين البشر وأنظمتهم أولاً: يجب على المسلمين وفوراً -وأنت واحد منهم- أن يعودوا إلى الإسلام، وأن يكفروا -وأنت واحد منهم- بجميع قوانين البشر، من ديمقراطية وعلمانية وشيوعية وبعثية إلى آخر هذه القوانين الكافرة التي نحت شرع الله عز وجل، وأعلت شرع البشر على شرع الله جل وعلا، يجب على جميع المسلمين -وأنت واحد منهم- ألا تذعن لهذا القانون على قدر ما استطعت {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]. والله أعجب لهذه العبارة التي قالها يوماً جمال الدين الأفغاني للهنود يوم أن احتلهم الإنجليز: لو أن ملايينكم طنت في آذان الإنجليز لخرقتم آذانهم، فهل صرخ كل مسلم في وجه حاكمه الذي رفض شرع الله وحكم فيه شرع البشر، هل صرخ كل مسلم في وجهه وقال: لا، إلا لشرع الله جل وعلا. ولكننا نسمع لا أقول المسلمين، بل العلماء يقولون: نعم للرجل الذي يحكم فينا شرع الله، أي شرع يا عباد الله؟ شرع الله جل وعلا، كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، هل صرخت أيها المسلم في وجه حاكمك بقدر ما تملك، وبقدر ما تستطيع، لو صرخ الجميع فوصل الصوت صوتاً واحداً والله لطبق فينا شرع الله جل وعلا، ولكنه الجبن، فأنت مسئول بقدر ما تملك وبقدر ما تستطيع في موقع مسئوليتك وفي موقع عملك أن تربي الناس، وأن تربي نفسك، وأن تربي أولادك، وأن تربي بيتك على أن الذي يحكمنا قانون كافر، على أن الذي يحكمنا قانون من وضع البشر، وغاب عنا قانون الله جل وعلا وشرعه، ولا يمكن أبداً أن تكون لنا عزة وريادة وسيادة وكرامة إلا إذا كفرنا بقوانين البشر، وحكمنا فينا قوانين رب البشر جل وعلا؛ لأن بعض الناس يقولون: إذا أردنا مدنية وحضارة فلا بد أن ننحي شرع الله ونعلي شرع العبيد؛ لأنه أثبت أنه أجدى من شرع العزيز الحميد.

إعداد الكوادر المسلمة في كل موقع ومكان

إعداد الكوادر المسلمة في كل موقع ومكان ثانياً: إعداد الكوادر المسلمة في كل مكان، وفي كل موقع، أقول: لا نريد كل المسلمين دعاة في المساجد، بل أنت من الآن في متجرك، في مصنعك، في جامعتك، في مدرستك، في كل مكان مسئول، فهيا فكر من الآن واجتهد وقل: كيف أنفع الإسلام وأخطط للإسلام وأنا في هذا الموقع؟ أضرب لحضراتكم مثالاً: الاقتصاد، رجال الاقتصاد لماذا لا يجلسون من الآن ويخططون ويدبرون ويضعون المنهج للقضاء على الاقتصاد الربوي، أو على الأقل لرفعة الاقتصاد الإسلامي، لماذا لا تفكر أيها الاقتصادي في ذلك، أيها الدكتور في الجامعة، يا من درست الاقتصاد، ويا من درست التجارة، أنت داعية إلى الله، أنت جندي من جنود الله، لماذا لا تشغل بالك، لماذا لا تنام الليل وأنت تحمل هم هذا الدين تفكر كيف أستغل دراستي لنصرة دين الله عز وجل. أيها العامل في موقعك! لماذا لا تفكر في هم الدين وتقول: كيف أبتكر وأنا واقف على آلة، كيف أطور هذه الآلة لنصرة دين الله عز وجل؟ أيها المدرس! لماذا لا تفكر: كيف أنتشل عقول هؤلاء الأطفال، أو عقول هؤلاء الطلبة من الباطل إلى الحق لنصرة دين الله عز وجل؟ إعداد الكوادر في كل مكان، وفي كل اتجاه، نريد المهندس المسلم، والطبيب المسلم، والاقتصادي المسلم، والدبلوماسي المسلم، والوزير المسلم، والحاكم المسلم، نريد حاكماً كـ عمر بن الخطاب، أو كـ عمر بن عبد العزيز، ونريد قائداً كـ خالد بن الوليد، ونريد قاضياً كـ شريح القاضي، ونريد دبلوماسياً يعبر عن الإسلام كـ جعفر بن أبي طالب، يوم أن وقف أمام النجاشي يتحدث عن الإسلام، نريد الكوادر المسلمة في كل مكان، وإلا لو طُبق الإسلام الآن في بلد من بلاد المسلمين ولا توجد مثل هذه الكوادر أتظنون أنه سيأتي الخير؟ لا والله، والله ما يكون في ذلك خير أبداً؛ لأنها ستكون كارثة، ستكون صدمة، سيحكم على الإسلام من خلال هذه الكوادر الفاشلة، فنريد إعداد الكوادر المسلمة من الآن، فكر واجتهد.

استثمار أموال المسلمين في بلادهم

استثمار أموال المسلمين في بلادهم ثالثاً: على جميع رجال المال في العالم الإسلامي -وهم كثرة ولله الحمد والمنة- أن يتقوا الله في دين الله، وأن يتقوا الله في الأموال التي وهبهم الله جل وعلا، بدلاً من أن يستثمروها في بلاد الكفر، يستثمروها في بلاد المسلمين، وها نحن نرى مساحات شاسعة من الأراضي الصالحة للزارعة في السودان ومصر وغيرها، ونريد أموالاً طائلة، فينبغي أن تستثمر هذه الأرض؛ لاكتفاء المسلمين ذاتياً من الطعام والشراب، وينبغي أن تستغل هذه الأموال؛ لأن أموال المسلمين في خارج بلاد المسلمين يتحكم فيها هؤلاء لتسيير دفة العالم الاقتصادي كله، ومن بينهم أهل هذا المال وأصحابه، فلماذا لا تكون لنا القيادة، ولماذا لا تكون لنا الريادة؟ أنتم أصحاب الأموال التي تسير هذه البنوك، هي أموالكم يا مسلمون ويا عباد الله، لماذا لا ننتبه، لماذا لا نسترد هذه الأموال ونستغلها لصالح الإسلام، ولصالح المسلمين؟ وهبنا الله المال، ووهبنا الله الأرض، ووهبنا الذهب الأسود، ووهبنا الله الغنى، ووهبنا الله مساحة يحسدنا العالم كله عليها، ووهبنا الله موقعاً فريداً يحسدنا العالم كله عليه، لماذا لا نتقي الله جل وعلا في مقدراتنا التي وهبها الله جل وعلا إلينا، اللهم إني قد بلغت، اللهم فاشهد يا رب العالمين.

تربية الأمة على العقيدة الصحيحة

تربية الأمة على العقيدة الصحيحة رابعاً: علينا أن نبدأ من الآن ونحن مسئولون عن ذلك، أيها المسلم في كل مكان أنت مسئول عن دين الله جل وعلا، هيا فلنبدأ من الآن بخطوة البدء التي بدأ بها محمد صلى الله عليه وسلم، خطوة البدء هذه أن نتربى على العقيدة الصحيحة، وأن نحول لا إله إلا الله إلى منهج حياة، إلى واقع عملي في حياة الأمة، أنت لا تملك النتائج، خذ بالأسباب، والنتائج موكولة إلى مسبب الأسباب جل وعلا، لن يسألنا الله: لماذا لم تنتصروا؟ ولكنه سيسألنا: لماذا لم تعملوا {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105]، اللهم إني قد بلغت، اللهم فاشهد يا رب العالمين، اللهم إني قد بلغت، اللهم فاشهد يا رب العالمين، اللهم إني قد بلغت اللهم فاشهد يارب العالمين. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكن ولكم فاستغفروه.

مسئولية الإسلام مسئولية الجميع

مسئولية الإسلام مسئولية الجميع الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. هذه مسئوليتكم أيها المسلمون، وهذا هو دور كل واحد منكم، ولا ينبغي أن يدعي واحد منا أنه لا دور له ولا مسئولية يتحملها، بل كل منا مسئول أمام الله عز وجل، فاتق الله على قدر استطاعتك: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، والله جل وعلا سيجعل في هذا الجهد ولو كان ضئيلاً الخير بإذن الله عز وجل، ووعد الله قائم ينتظر العصبة المؤمنة التي تقوم وتعلو لمستوى هذا الدين الذي ما أنزله الله جل وعلا إلا ليقود. وأكتفي بهذا القدر خارج موضوعنا الذي كنا نتحدث فيه وهو تفسيرنا لسورة مريم، وأعدكم أن نعود من الأسبوع المقبل إن قدر الله لنا اللقاء والبقاء؛ لتفسير آيات سورة مريم. أسأل الله جل وعلا أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال، وأن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب، ولنضرع إلى الله جل وعلا بقلوب صادقة، وبقلوب خالصة، وبدعوات مخلصة أن يوفق الله جل وعلا الإسلام والمسلمين. اللهم انصر الإسلام والمسلمين، اللهم انصر الإسلام والمسلمين، وأعل بفضلك كلمة الحق والدين، اللهم عجِّل بالقائد الرباني يا رب العالمين، اللهم قيض لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، اللهم أطفئ نار هذه الحرب والفتنة يا أرحم الراحمين، اللهم اجعلها بداية خير للإسلام والمسلمين. اللهم ارحم البلاد والعباد، اللهم ارحم البلاد والعباد، الله ارحم البلاد والعباد، اللهم ارحم البلاد والعباد، اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم لا تدع لأحدنا ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا أديته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا يسرتها وقضيتها يا رب العالمين. أحبتي في الله! هذا وأكثروا من الصلاة والسلام على حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم، فإن الله وملائكته يصلون عليه، فأمركم بالصلاة عليه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. هذا وما كان من توفيق فمن الله جل وعلا، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون عليه إلى الجنة ويقذف به في النار، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.

مداخل الشيطان

مداخل الشيطان خلق الله آدم عليه السلام وأمر الملائكة أن تسجد له، وحينها حسده إبليس على تلك المكانة؛ فأبى أن يسجد، فطرده الله من رحمته، فأبى إلا أن يدخل النار معه أكبر قدر ممكن من بني آدم، وذلك بدعوتهم إلى سبيله، وقد اتبع الشيطان في سبيل ذلك طرقاً شتى لا تخطر بعقل بني آدم، وجعل لذلك مداخل يدخل منها لينال مأربه منهم. ولقد قيض الله للأمة من يبين لها هذه المداخل، وطرق تجنبها، كما جعل الله لعباده الصالحين حروزاً وتعاويذ يلوذون ويعوذون بها من الشيطان ومداخله.

طواغيت عبدوا من دون الله

طواغيت عُبدوا من دون الله الحمد لله الذي لم يكن له شريكٌ في الملك وما كان معه من إله، الذي لا إله إلا هو فلا خالق غيره ولا رب سواه، المستحق لجميع أنواع العبادة، ولذا قضى ألا نعبد إلا إياه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62]. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الواحد الذي لا ضد له، وهو الصمد الذي لا منازع له، وهو الغني الذي لا حاجة له، وهو القوي الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو جبار السماوات والأرض فلا راد لحكمه ولا معقب لقضائه وأمره، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وعظيمنا وقائدنا ومعلمنا وقدوتنا وقرة أعيننا محمد رسول الله، اللهم صلِّ وسلم، وبارك عليك يا سيدي يا رسول الله، صلاةً وسلاماً يليقان بمقامك يا أمير الأنبياء وسيد المرسلين، وأشهد لك يا سيدي ويشهد معي الموحدون أنك قد أديت الأمانة، وبلغت الرسالة، ونصحت الأمة، وكشف الله بك الغمة، وعبدت ربك حتى لبيت داعيه، وجاهدت في سبيل ربك حتى أجبت مناديه، وعشت طوال أيامك ولياليك تمشي على شوك الأسى وتخطو على جمر الكيد والعنت، تلتمس الطريق لهداية الضالين وإرشاد الحائرين، حتى علمت الجاهل يا سيدي! وقومت المعوج! وأمنت الخائف! وطمأنت القلق! ونشرت أضواء الحق والخير والإيمان والتوحيد، كما تنشر الشمس ضياءها في رابعة النهار، فصلى الله وسلم وبارك عليك يا رسول الله، وجزاك الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته ورسولاً عن قومه. أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام! تعالوا بنا لنواصل مسيرتنا المباركة في شرحنا لآيات من كتاب ربنا جل وعلا، ومع اللقاء السادس والثلاثين على التوالي ومازلنا بفضل الله وحوله وطوله ومدده نطوف مع حضراتكم في بستان سورة مريم، وانتهينا في اللقاء الماضي من تفسير قول الحق جل وعلا: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} [مريم:81 - 82] وقلنا في اللقاء الماضي: بأنها صورة من صور الشرك المتكررة وآلهة من آلهة العصر المتغيرة؛ لأن الطاغوت: هو كل شيء عبد في الأرض من دون الله جل وعلا، وللطاغوت في كل عصر لغة وصورة وأسلوب ولسان، إنها صورة من صور الشرك المتعددة والمتغيرة التي تتطور وتتغير بتغير الزمان والمكان، فقلنا: بأنه ربما تكون صورة الطاغوت والإله التي تعبد في الأرض من دون الله جل وعلا متمثلة في فرد من الأفراد، تصاغ له الأمجاد، وتهتف له الدنيا، وتصفق له الجماهير المخدوعة، كأديب من أدباء أولاد الحارات والبارات، أو كواحد من مدمني المخدرات من الممثلين والممثلات، أو المطربين والمطربات، أو الراقصين والراقصات، الأحياء منهم والأموات. ربما تكون صورة الطاغوت الذي عبده الناس في الأرض من دون الله جل وعلا متمثلةً في صورة من هذه الصور، ولا تظنوا أن العبادة تقتصر على الركوع والسجود كما يفهمها كثير من الناس، ولكن العبادة كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: هي كمال الحب مع كمال الذل. وإن هؤلاء الذين ضربت لهم المثل يقدم لهم كثير من الناس من الولاء والحب والذل وفروض الطاعة ما لم يقدموا نصفه لله جل وعلا. وربما تتمثل صورة الطاغوت الذي عبده الناس في الأرض من دون الله جل وعلا في المال، الذي عبده كثير من الناس وظنوه إلهاً قادراً يقول للشيء: كن؛ فيكون، فقدم كثير من الناس للمال كل ما يملكون من وقت وجهد وقوةٍ حتى وإن كان ذلك على حساب دينهم وقربهم من ربهم جل وعلا. وربما تكون صورة الطاغوت متمثلةً في قبر من القبور أو ضريح من الأضرحة يذهب الناس ويهرعون إليه، ويقولون بلسان الحال والمقال: (إذا ما تعثرت الأمور فعليكم بأصحاب القبور). فيذهب الناس إلى هذه القبور ويطلبون من أصحابها ما لا ينبغي أن يطلب إلا من العزيز الغفور. وهكذا تتعدد صور الشرك والطواغيت التي عبدت في عصرنا من دون الله جل وعلا، بتعدد الأزمان، وتطور الأشكال، واختلاف عقول الناس وفكرهم: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} [مريم:81 - 82].

لا سلطان للشياطين على أهل التوحيد والإخلاص

لا سلطان للشياطين على أهل التوحيد والإخلاص أيها الأحبة الكرام: جدير بهؤلاء الذين اتخذوا آلهةً من دون الله جل وعلا يطلب عندها العزة والرفعة والنصرة والغلبة والتأييد والتمكين، جديرٌ بهؤلاء أن يكونوا أولياءً وإخواناً للشياطين، وأن يكونوا أتباعاً وأولياءً للشياطين، وذلك هو ما أخبرنا به رب العالمين في الآيات التي نحن بصدد تفسيرها في هذا اللقاء المبارك، فيخبرنا ربنا جل وعلا عن هؤلاء ويقول: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّا * فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً} [مريم:83 - 84]. أسأل الله تبارك وتعالى أن يبارك في وقتنا حتى أنتهي من شرح هاتين الآيتين الموجزتين: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً * فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً} [مريم:83 - 84] والخطاب هنا لحبيبنا صلى الله عليه وسلم يقول له ربنا: يا محمد! {َألَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً} [مريم:83] أي: تغريهم الشياطين إغراءً، وتزعجهم إزعاجاً، وتغويهم إغواءً إلى المعاصي والشهوات والشبهات. {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً} [مريم:83] والأز في اللغة: هو التحريك والتهييج، ولذا يقال لغليان الماء في القدر: أزيز، كما ورد في الحديث الذي أخرجه النسائي والترمذي وصححه ابن خزيمة وابن حبان: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء) فالأز: هو التحريك والتهييج؛ لأن الماء يتحرك في القدر عند الغليان، أي: إن الشياطين تأز أهل الشرك والضلال على المعاصي أزاً، وتهيجهم إلى المعاصي تهييجاً، وتحركهم إلى المعاصي تحريكاً، كما تحرك النار الماء في القدر أثناء غليانه وفورانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّا * فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً} [مريم:83 - 84]. هكذا -أيها الأحباب- لا سلطان للشياطين إلا على هؤلاء الذين عبدوا مع الله آلهة أخرى؛ لأنه لا سلطان للشياطين على أهل التوحيد والإخلاص، ليس معنى ذلك: أن الشياطين لا يغوون أهل الإيمان ولا يوسوسون لأهل التوحيد والإخلاص، لا. ليس هذا هو المقصود، وإنما سلطان الإغواء والإغراء والإضلال للشيطان على أوليائه وأتباعه وأحبابه وأشياعه كما أخبر بذلك ربنا جل وعلا فقال الله سبحانه: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل:98 - 100] أي: وهم بالله جل وعلا مشركون، فليس معنى ما قلت: إنه لا سلطان أو أن الشيطان لا يوسوس لأهل الإيمان والتوحيد، كلا، بل إن الشيطان في صراع معكم يا أهل التوحيد والإيمان! وأهل التوحيد في صراع مع الشيطان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فهو الذي توعد أهل الإيمان عليه لعنة الله فقال: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:16 - 17] إنه وعيد من الشيطان لنا: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف:16]. إن الشيطان لا يقعد على طريق الخمارات والبارات؛ لأن هؤلاء الذين يذهبون إلى هناك إنما هم أتباعه وأشياعه وجنده، إن الشيطان لا يقعد إلا على طريق الحق والإيمان والمساجد والإسلام والإيمان: {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف:16] لا يترك الشيطان طريقاً ولا سبيلاً يقرب العبد من مولاه إلا وقعد هناك كما ورد في الحديث الصحيح الذي أخرجه الإمام أحمد في المسند من حديث صبرة بن أبي الفاكه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه كلها -أي: إن الشيطان قعد لابن آدم في جميع السبل والطرق- قعد الشيطان له على طريق الإسلام، فقال له: أتسلم وتذر دين آبائك وأجدادك؟ فعصاه ابن آدم فأسلم، فقعد له على طريق الهجرة فقال له: أتهاجر وتذر أرضك وسماءك؟! فعصاه ابن آدم فهاجر، فقعد له على طريق الجهاد فقال له: أتجاهد في سبيل الله بنفسك ومالك فتقتل فتنكح المرأة ويقسم المال؟! فعصاه ابن آدم فجاهد، فقال صلى الله عليه وسلم: فمن فعل ذلك فمات كان حقاً على الله أن يدخله الجنة) فمن عصى الشيطان فأسلم فهاجر فجاهد ثم ختم الله له بالشهادة كان حقاً على الله أن يدخله الجنة. هكذا -أيها الأحباب- ما ترك الشيطان طريقاً أو سبيلاً إلا وقعد عليه لابن آدم ليصده عن سبيل الله وليبعده عن طاعة الله جل وعلا، وكما يقول أستاذنا الإمام ابن القيم عليه رحمة الله: إن الإنسان لا يسلك من السبل إلا أربع اتجاهات: إما أن يمشي الإنسان عن يمينه، وإما أن يمشي عن شماله، وإما أن يمشي الإنسان بين يديه، أو من خلفه -عن أيمانهم وعن شمائلهم ومن بين الأيدي ومن الخلف، هذه اتجاهات أربع لا يمشي الإنسان إلا فيها- يقول الإمام: هذه هي السبل التي يسلكها الإنسان، فإن سلك الإنسان سبيلاً من هذه السبل وكانت نيته طاعة الله جل وعلا وجد الشيطان هناك بالمرصاد ليصده عن طاعة الله تبارك وتعالى ليقطع الشيطان عليه الطريق، أما إن سلكها لمعصية الله جل وعلا وجد الشيطان هناك خادماًَ له وحاملاً ومعيناً له على معصية الله تبارك وتعالى، ثم قال الإمام ابن القيم: حتى لو نزل الإنسان إلى أسفل لوجد الشيطان هناك معيناً له على معصية الله وحائلاً بينه وبين طاعة الله جل وعلا، ما ترك الشيطان طريقاً ولا اتجاهاً إلا وهو لأهل الإيمان بالمرصاد، يصدهم عن طاعة الله جل وعلا ويغريهم بمعصية الله تبارك وتعالى. أو كما قال سيدنا قتادة عليه رحمة الله قال: يا ابن آدم! ما ترك الشيطان اتجاهاً إلا وقف لك فيه بالمرصاد، إلا اتجاهاً واحداً لم يستطع الشيطان أن يأتيك من خلال هذا الاتجاه، أتدرون ما هو؟ لم يترك الشيطان للإنسان طريقا ولا اتجاهاً إلا وأتى الإنسان منه إلا من فوقه، فإنه لم يستطع أن يحول بينه وبين رحمة الله عز وجل، جاءك الشيطان عن يمينك وشمالك ومن بين يديك ومن خلفك، حتى لو نزلت وادياً أو هبطت مكاناً جاءك الشيطان هناك، إلا من فوقك لم يستطع الشيطان أن يأتيك؛ لأنه لم يفلح أن يحول بينك وبين رحمة الله عز وجل. هكذا -أيها الأحباب- لم يترك الشيطان سبيلاً ولا طريقاً إلا وقعد فيه لأهل الإيمان والتوحيد، ولكن أهل الإيمان متمسكون ومتحصنون بحصن التوحيد، ومتمسكون بسنة محرر العبيد صلى الله عليه وسلم، فعصمهم الله من شره ونجاهم الله من كيده وحفظهم الله من إغوائه ووساوسه وإغرائه. وجاء في الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج من عندها ليلةً وكانت ليلتها، فدبت الغيرة في صدر عائشة، فعاد الرسول صلى الله عليه وسلم إليها ليسألها عن سبب غيرتها، فقالت له: ومالي لا يغار مثلي على مثلك يا رسول الله؟! فقال لها صلى الله عليه وسلم: أوَقد جاءك شيطانك يا عائشة؟ فقالت: أوَ معي شيطان يا رسول الله؟ قال لها: نعم، ومع كل إنسان شيطان، فقالت: حتى معك يا رسول الله؟ قال: حتى معي يا عائشة! إلا أن ربي عز وجل أعانني عليه فأسلم) وفي رواية للإمام مسلم أيضاً: (إلا أن ربي عز وجل أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير)، أما الرواية التي رواها البخاري ومسلم من حديث صفية بنت حيي زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: (كان الرسول صلى الله عليه وسلم معتكفاً فأتيت إلى المسجد لأزور رسول الله ليلاً، فحدثت النبي صلى الله عليه وسلم ثم قمت لأذهب إلى داري قالت: فقام معي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقلبني -أي: ليوصلني إلى الدار- فمر رجلان من الأنصار فلما رأيا رسول الله أسرعا فنادى عليهما الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: على رسلكما -انتظرا- إنها صفية زوجي فقالا: سبحان الله يا رسول الله!! -أي: هل سنشك فيك يا رسول الله! - فقال لهما الرسول صلى الله عليه وسلم: إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم في العروق، فخشيت أن يقذف في قلبيكما شراً). ومن أجمل التعليقات على هذا الحديث ما علق به الإمام الشافعي عليه رحمة الله حيث قال: ما قال لهما الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك خوفاً على نفسه، كلا والله، ولكن الرسول ما قال لهم ذلك إلا من خوف الرسول عليهما؛ لأنه لو تسرب الشك إلى قلبيها لكفرا بالله عز وجل، من أجل ذلك نادى عليهما الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: (على رسلكما إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم في العروق فخشيت أن يقذف في قلبيكما شيئاً). هكذا مع كل إنسان شيطان ويجري منك مجرى الدم؛ إذاً لا بد أن ننتبه إلى هذا العدو اللدود الذي حذرنا الله جل وعلا منه وحذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانتبهوا معي إلى هذا العنصر الثاني من عناصر موضوعنا وهو من أخطر عناصر الموضوع، فإن للشيطان مدا

مداخل الشيطان

مداخل الشيطان

من مداخل الشيطان: الشرك بالله

من مداخل الشيطان: الشرك بالله اعلموا أن للشيطان مداخل خطيرة، وأول مدخل منها: هو مدخل الشرك بالله -والعياذ بالله- أول باب، بل إن غاية أماني الشيطان أن يجعل العبد يشرك بالرحيم الرحمن تبارك وتعالى، وإذا ما أشرك العبد بالله تبرأ الشيطان منه كما أخبر بذلك ربنا جل وعلا فقال: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر:16]. وانتبهوا معي جيداً أيها الموحدون، لقد ذكر الإمام ابن جرير وابن كثير والبغوي وابن الجوزي وابن القيم في تفسير هذه الآية من سورة الحشر قصةً رهيبة، إنها قصة عابد من عباد بني إسرائيل يقال له: برصيصا، هذا العابد كان من أعبد عباد زمانه، وكان هناك في بلدته ثلاثة من الإخوة، وكانت لهم أخت وكانت بكراً، فلما خرج عليهم الغزو وخرجوا للقتال، قالوا: لا نأمن أن نضع أو نترك أختنا إلا عند عابد بني إسرائيل، وذهبوا بأختهم إلى هذا العابد الذي يسمى برصيصا، وألحوا عليه أنه تظل أختهم معه فرفض وأبى في بادئ الأمر -هكذا إنها مداخل الشيطان- فظلوا عليه بإلحاحهم حتى قبل هذا العابد ذلك، وقال: ولكن لا تجعلوها معي، اجعلوا لها خلوةً إلى جوار خلوتي وصومعةً إلى جوار صومعتي، فصنعوا لها ما أراد العابد، وانصرفوا إلى حال سبيلهم، وجاء الشيطان إلى هذا العابد ليلعب معه لعبته القذرة. انتبهوا جيداً يا شباب الإسلام! انتبهوا إلى مداخل الشيطان يقول لك: حفاظاً على الدعوة وحفاظاً على الإسلام احلق لحيتك، فإنك لو حلقتها استطعت أن تتحرك بين الناس بدعوتك وما وقف أمامك أحد وما عارضك أحد، يذهب إلى المرأة ويقول لها: لا تلبسي الحجاب حتى تتزوجين، وتساعدها الأم على ذلك، وهكذا يذهب إلى صاحب الكرسي والمنصب ويقول له: اعلم أنك بعد قليل راحل سوف تترك هذا الكرسي، وسوف تترك هذا المنصب فهيا اسرق سرقةً وانهب نهباً وانهش نهشاً حتى تستطيع أن تعيش بعد ذلك وهكذا، انتبهوا إلى مداخل إبليس. ذهب إليه الشيطان يمنيه في الأجر ويعظم له الثواب ويقول له: ما ضرك لو أنك قدمت إليها الطعام إلى باب صومعتها وانتظرها حتى تخرج؛ لأنه ربما مر سبع أو غير ذلك فأكل الطعام. فقال: لا شيء في ذلك، فأخذ الطعام هذا العابد ووقف على باب صومعتها مرةً لم ينظر وأخرى كذلك وثالثة أيضاً ورابعة نظر إليها. فذهب إليه الشيطان بعد ذلك وقال: ما ضرك لو أنك قدمت الطعام إلى داخل صومعتها أتخشى على نفسك وأنت التقي العابد الورع؟! فأخذ العابد الطعام وذهب إليها في صومعتها. وذلك يستمر فترات طويلة جداً لا أقول: إنه يحتاج معه أو يتطلب ذلك من الشيطان وقت قصير، إن الشيطان يصبر على فريسته خاصة وإن كانت قوية الإيمان، فدخل العابد معها إلى صومعتها وخرج. فقال له بعد ذلك: ما ضرك لو أنك جلست معها فإنها مكثت فترة طويلة لا تسمع ولا تكلم أحداً، فهيا اجلس معها كلمها في الدين والقرآن والحديث لا تكلمها في أمر من أمور الدنيا، ما ضرك في ذلك؟! فجلس معها وكلمها، وبعد ذلك ذهب إليه الشيطان وقال: ما ضرك لو أكلتما معاً، فأكل معها فمست يده يدها، بعد ذلك جاءه الشيطان فأوقعها في قلبه وزينها له، فقبلها -إنها المداخل والسبل والطرق زينها له فقبلها- ثم بعد ذلك والكل يعلم ما بعد ذلك، زنا بها -والعياذ بالله- فظهر الحمل ووضعت ولدها من الزنا، فجاءه الشيطان بعد ذلك وقال: لقد افتضح أمرك، أتترك ولدك من الزنا، فما الذي ستقوله لإخوتها حينما يحضرون، فقال: ماذا أصنع؟ قال: اقتل ولدها حالاً، فقتل ولدها، وبعد فترةٍ ذهب إليه وقال: أتظن أنها لن تخبر عنك ولن تحدث بما صنعت بها وبولدها، قال: إذاً ماذا أصنع؟ قال: اقتلها، فقتلها -زنا بها وقتل ولدها وقتلها- وعاد إخوتها، فترك الشيطان العابد وذهب إلى إخوتها وقال لهم: اعلموا أن العابد زنا بأختكم وقتل ولدها وقتلها، فذهب الثلاثة إلى هذا العابد وقالوا: افتح لنا قبرها فوجدوا أختهم قد قتلت وقد زني بها وذبحت، وهذا ولدها إلى جوارها، فجروه على وجهه وصلبوه على خشبة، وترك الشيطان الإخوة وذهب إلى برصيصا مرةً أخرى قال له: يا هذا ألا تعلم من أنا؟ أنا الشيطان، أنا الذي أوقعت الفتنة في قلبك، وجعلتك تزني بها، ثم جعلتك تقتل ولدها، ثم تقتلها، وأنا الذي أستطيع أن أخلصك مما أنت فيه، قال: خلصني، قال: لا. إلا بشروط، قال: ما هي شروطك؟ أن تكفر بربك وتسجد لي من دون الله، فقال له العابد الغبي: لو سجدت لك وكفرت بربي -جل وعلا- تخلصني مما أنا فيه؟ قال: نعم أخلصك -يمنيه ويوعده- فكفر العابد بربه وسجد للشيطان، فنظر إليه الشيطان وهو يولي هارباً وينادي ويقول: {إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر:16]. هكذا أيها الأحباب! إنها مداخل الشيطان ومصائبه يزين إليك المعصية على أنها طاعة، يزين إليك الشبهات والشهوات فيجعلك تقول في الدين بالهوى كما سنرى بعد ذلك، يزين إليك الشبهة على أنها حق واضح وضوح الشمس في ضحاها، إن أول باب يدخل الشيطان إلى العبد منه باب الشرك بالله -والعياذ بالله- فإذا عجز الشيطان عن أن يغوي العبد ويضله عن الطريق، دخل إليه من المدخل الثاني وهو مدخل البدعة.

من مداخل الشيطان: البدعة

من مداخل الشيطان: البدعة يا إلهي! إن الباب الذي يلي باب الشرك بالله باب البدع، فلا تستهينوا بأمر البدع، فإن البدع أحب إلى الشيطان من الفسوق والمعاصي، إن البدعة خطرها عظيم، وضررها جسيم. فيا أصحاب البدع! يا من تحبون البدع! يا أصحاب الخطط الخمسية والسنوية والشهرية! يا من تخططون لأمور الدنيا ولا تبحثون عن أمر الدين! يا من تبحثون عن أعمالكم إذا ما كانت منتسبة أو متصلة بالدين! ابحثوا عنها، هل أنتم متبعون فيها لشرع النبي صلى الله عليه وسلم، أم أنتم موافقون لهوى الشيطان وشرعه؟ إن البدع أحب إلى الشيطان من الفسوق والمعاصي، لماذا؟ لأن المبتدع مكذب بالقرآن، والبدعة: هي كل شيء مستحدث في الدين، حتى لا يقول البعض متهشماً وساخراً من إخواني الذين كلمونا عن السنن والبدع، قالوا: إذا كان الأمر كذلك فمنبر الرسول لم يكن فيه مروحة، هكذا سخر بعض الناس واستهزأ بعض المسلمين بالسنن، وظنوا أن أمرها هين، أقول: أن البدعة أمر مستحدث في الدين، لم يقل الرسول لنا: لا تركبوا الطائرات ولا السيارات، كلا، وإنما قال الله جل وعلا: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن:33] قال العلماء: إنه سلطان العلم، لا معنى لمن قال: بأن معنى البدعة هو: أن نقف لا نخترع ولا نبتكر، ليس هذا هو المقصود، وليست هذه هي البدعة، إنما البدعة أمرٌ مستحدث في الدين؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ما مات إلا بعد أن بين لنا هذا الدين ووضحه لنا، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فإن البدعة أمر مستحدث في الدين لم يكن على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة رضي الله عنهم. إذاً: فالمبتدع الذي يأتي بجديد من عند نفسه أو من عند شياطين إنسه وجنه نقول: قال الله قال رسول الله، فيرد علينا أهل البدع ويقولون: قال فلان عالم الأزهر، إنا لله وإنا إليه راجعون! أقول: قال الله قال رسول الله وأنت تقول: قال فلان عالم الأزهر، والله الذي لا إله غيره، لا قول بعد قول الله ولا قول بعد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، مهما طالت عمامته، والله ولو كانت عمامته بحجم صحن هذا المسجد لا قول له بعد قول الله ولا فتوى له مع فتوى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورحمة الله على الإمام ابن القيم حيث قال: إن قلت قال الله قال رسوله همزوك همز المنكر المتغالي أو قلت قد قال الصحابة والألى تبع لهم في القول والأعمال أو قلت قال الشافعي وأحمد وأبو حنيفة والإمام العالي صدوا عن وحي الإله ودينه واحتالوا على حرام الله بالإحلال يا أمة لعبت بدين نبيها كتلاعب الصبيان في الأوحال حاشا رسول الله يحكم بالهوى والجهل تلك حكومة الضلال يا أصحاب البدع! يا من تغنون وترقصون للبدع! يا من تبكون وتندبون! يا من تصرخون! يا من تفزعون! اعلموا علم اليقين أن الله جل وعلا لا يقبل التوبة من صاحب بدعةٍ حتى يترك بدعته ويدعها، إن البدعة أحبُ إلى الشيطان من المعصية، وإنها الباب الذي يلي باب الشرك بالله والعياذ بالله! فيا من تهونون البدع! اتقوا الله جل وعلا. يا من تشنون الحروب والفتن وتعلنون العداوات على أهل وأصحاب السنن! إني أعجب لحالكم أنتم أهل الباطل تصرون على باطلكم! لماذا هذا الإصرار على البدع؟! لم هذا الإصرار على الباطل؟! يا صاحب البدعة اعلم أنك متهم لرسول الله بالنقص! يا صاحب البدعة اعلم أنك مكذب بقول الله جل وعلا: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3]! يا صاحب البدعة أنت متهم للرسول صلى الله عليه وسلم؛ لا تظنوا أننا أحرص على الدين من رسول الله، لا تظنوا أننا أحب للدين من صحابة رسول الله، كلا والله وألف كلا، فما لم يكن ديناً على عهد الرسول والصحابة فلن يكون ديناً في هذا الزمان، وفي هذه الأيام التي تجرأنا وتبجحنا فيها على شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فاعلموا علم اليقين وأُشهد الله جل وعلا أني قد بلغت، اللهم فاشهد يا رب العالمين! أُشهد الله جل وعلا أني قد حذرت من البدع، وإن البدعة أحب إلى الشيطان من المعصية، بل إنها الباب الذي يلي باب الشرك بالله، إذا عجز الشيطان عن أن يشرك العبد بالله دخل إليه من الباب التالي مباشرةً إنه باب البدع.

من مداخل الشيطان: الكبائر والصغائر

من مداخل الشيطان: الكبائر والصغائر إن وجد الشيطان العبد متمسكاً بالسنة ومغالياً لأهل البدع والزيغ والضلال دخل إليه من الباب الثالث وهو باب الكبائر والعياذ بالله! فإن عجز الشيطان عن العبد أن يوقعه في كبيرة من الكبائر دخل إليه من الباب الذي وقع فيه كثير منا -وأسأل الله أن يحفظنا- باب صغائر الذنوب، يقول له: هذه ليست مهمة, هذه صغيرة، وهكذا، ماذا تعني اللحية! ماذا يعني كذا، ماذا يعني كذا، يبدأ الشيطان يدخل على القلب فيضيع العبد السنن أو يستهين العبد بصغائر الذنوب، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا اجتمعت صغائر الذنوب على العبد أهلكته) من أراد منكم أن يشعل ناراً هل يأتي بكوم رهيب من الحطب في المرة الأولى؟ كلا، وإنما يأتي بحزمة إلى جوار حزمة إلى جوار حزمة حتى يجتمع عنده كوم رهيب من الحطب، كذلك صغائر الذنوب ذنب صغير فذنب صغير، استهانة بالسنة، ثم استهانة بالنوافل، استهانة بصغائر الذنوب، حتى يجتمع كل ذلك على القلب فيتكون على القلب الران، فتحجبه عن رحمة الواحد الديان: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:14 - 15]. فإذا عجز الشيطان عن ذلك، زين له بعد ذلك ترك النوافل وفضائل الأعمال. هكذا الشيطان معك في كل طريق واقف لك بالمرصاد إذا ما كان طريقك في طاعةٍ، صدك عن هذه الطاعة وزين لك المعصية.

كيفية التحرز من الشيطان

كيفية التحرز من الشيطان أيها الأحباب! لقد حذرنا الله من الشيطان وطمأننا بأن كيد هذا الشيطان كان ضعيفاً على من تمسكوا بتوحيدهم لله، وتحصنوا بحصن التوحيد، وبسنة محرر العبيد صلى الله عليه وسلم، فمن لجأ إلى الله كان حقاً على الله أن يحفظه من الشيطان وشره، ومن تمسك بسنة رسول الله كان حقاً على الله أن يحفظه من الشيطان وشركه، من أجل ذلك -على سبيل المثال لا على وجه الإجمال- علمنا الرسول صلى الله عليه وسلم كيف نحترز من هذا العدو اللدود، فانتبهوا معي إلى هذه الحروز بإيجاز شديد: علمنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن نحترز بالآتي، وأقول: على سبيل المثال لا على وجه الإجمال ما ورد في مسند الإمام أحمد من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن الشيطان قال لربنا: (وعزتك وجلالك لأضلنهم ما دامت أرواحهم في أبدانهم، فقال له ربنا: وعزتي وجلالي لأغفرن لهم ماداموا يستغفرونني). الحرز الأول: الاستغفار. الحرز الثاني: الاستعاذة، لقول الله جل وعلا: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [الأعراف:200]. الحرز الثالث: المعوذات وسورة الإخلاص: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] والفلق والناس، فما تعوذ بأفضل من ذلك أحد، كما ورد في صحيح مسلم والحديث مروي عن عقبة بن عامر رضي الله عنه. الحرز الرابع: قراءة آية الكرسي لقوله صلى الله عليه وسلم: (فما قرأ إنسان آية الكرسي إلا وما زال عليه حافظ ولا يقربنه شيطان حتى يصبح) والحديث في البخاري مروي عن أبي هريرة. الحرز الخامس: ذكر الله، فما تحصن عبدٌ بحصن أقوى من تحصنه بذكر مولاه جل وعلا، فاذكروا الله تعالى أيها الأحباب، إذا ما أحسستم أن الشيطان يريد أن يلتهم قلوبكم، فاذكروا الله تبارك وتعالى لقول الله جل وعلا: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً} [الإسراء:45] ولقوله جل وعلا: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [الأعراف:200] ولقوله جل وعلا: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل:98 - 100]. الحرز السادس: قراءة أواخر سورة البقرة: (من قرأ الآيتين الأخريين من سورة البقرة كفتاه من ليلته) أي: كفتاه من كل شر وإثم. الحرز السابع: الحرص على الوضوء، فإن الوضوء سلاح المؤمن. الحرز الثامن: كثرة الصلاة. الحرز التاسع: كثرة الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهكذا أقول على سبيل المثال لا على وجه الإجمال: هكذا أيها الأحباب! {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [النساء:76] لمن تمسك بالله واعتصم به وتمسك بسنة رسول الله، حق على الله لمن اتقاه أن يستره فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض، حق على الله لمن اتقاه أن يتولى رعايته، وأن يحسن بدايته وأن يحسن نهايته. فيا أيها المسلمون: تحصنوا بالله جل وعلا والجأوا إليه، وتمسكوا بشرع رسوله، ينجيكم من الشيطان وشره وشركه ووساوسه. أما من شذ عن صراط الله المستقيم، وعن طريق الرحمن الرحيم وجد هناك على كل سبيل وطريق الشياطين تغويه إغواءً، وتؤزه أزاً وتغريه إغراءً: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً} [مريم:83]. أسأل الله سبحانه أن ينجينا وإياكم من وساوس الشياطين ومن إغوائهم. وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

وقفة أخيرة: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا

وقفة أخيرة: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد: أيها الأحباب! يقول سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً * فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ} [مريم:83 - 84] لا يضيق صدرك بهم يا رسول الله، ولا تستعجل لهم العذاب {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} [الزخرف:83] واستمعوا معي إلى هذه الآية التي تحتاج منا إلى خطبة كاملة قال الله سبحانه: {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً} [مريم:84] انظروا إلى هذه الدقة البالغة والحساب المحسوب الدقيق {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً} [مريم:84] إن الأعمال محسوبة عليهم، بل إن الأنفاس عليهم كما قال ابن عباس عليه رضوان الله، إنما نعد عليهم ذنوبهم، وويل لمن يعد الله عليه ذنوبه، فإن الواحد منا إذا أحس بأن رئيسه في العمل في هذه الأرض يتابع عمله ويتتبع أخطاءه يعيش في قلق وحسبان، فما بالكم بالواحد الديان. يا من تراقبون رؤساءكم في الأعمال! يا من تخافون من مديريكم في الأعمال وتنسون رب السماوات والأرض! لا تراقبونه في قولٍ ولا في عمل، أحللتم لأنفسكم الغيبة والنميمة والمعاصي، خفتم الناس ولم تخافوا الله، هبتم الناس ولم تهابوا الله. يا من تسوفون في التوبة! وترجئونها اعلموا أن الأنفاس معدودة: {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً} [مريم:84] إن الأنفاس معدودة ومحسوبة، وفجأة سترون أنفسكم بين يدي الله جل وعلا الذي عد وحسب عليكم كل شيء: {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً} [مريم:84]. يا من أكلتم الرشاوي والحرام! يا من ضيعتم الصلاة! يا رواد الفجر في رمضان! أين أنتم؟! أين أنتم يا من ملأتم المساجد في رمضان؟! يا من كنتم تعبدون رمضان! أما رمضان فقد مضى فرب رمضان حي لا يموت، فهل أنتم من عباد رمضان؟ أين أنتم من عبادة الحي الذي لا يموت؟ أين رواد الفجر في رمضان؟ أين رواد المساجد في رمضان؟ أين من كانوا يحرصون على الصلاة في رمضان؟ أين هم؟ أيها المغرور! يا من جئت لتحارب اللحى! يا من لا تجرؤ أن تناقش وزيراً أو أميراً، وجئت لتناقش أمر الله ولتحتج على أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم! هل تجرؤ على أن تناقش وزيراً أو تناقش أميراً لتقول له: لم أصنع ذلك؟ ولماذا أفعل ذلك؟ جئت لتحتج على أمر الله ولتناقش أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. أيها المغرور! يا من غرك منصبك! ويا من خدعك الكرسي الذي جلست عليه! اتق الله جل وعلا، لو أن الكرسي دام لغيرك ما وصل إليك، والله الذي لا إله غيره! لن نتوانى ولن نتورع عن أن نقف بالمرصاد لكل من يحارب دين الله ولكل من يعتدي على شرع رسول الله مهما كانت النتائج؛ لأن رزقنا وأرواحنا بيد الله، لأن الضار والنافع هو الله، فحذار من حرب الله جل وعلا، احذروا من حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً} [مريم:84] إن الأنفاس معدودة ومحسوبة، وفجأة سترى نفسك بين يدي الله جل وعلا. واستمعوا معي بقلوبكم أيها الأحباب الأطهار الموحدون، استمعوا إلى حياتكم لخصها لنا سيدنا زين العابدين علي بن الحسين بن علي رضي الله عنهم جميعاً، لخص لنا سيدنا علي الحياة تلخيصاً بارعاً مرعباً مذهلاً، حيث قال عليه رضوان الله ورحمة الله عز وجل، وأسأل الله تبارك وتعال أن يجزيه عن هذا الكلام خير الجزاء، فإنها بلاغةٌ لا تتوفر لأصحاب رسائل الدكتوراة والماجستير، ولا لأصحاب أدب الحارات والبارات، ماذا قال سيدنا علي عليه رضوان الله ورحمة الله عز وجل قال: أنا الذي أغلق الأبواب مجتهداً على المعاصي وعين الله تنظرني تمر ساعات أيامي بلا ندم ولا بكاء ولا خوف ولا حزنِ ولي بقايا ذنوب لست أعلمها الله يعلمها في السر والعلنِ ما أحلم الله عني حيث أمهلني وقد تماديت في ذنبي ويسترني كأنني بين تلك الأهل منطرحاً على الفراش وأيديهم تقلبني وقد أتوا بطبيب كي يعالجني ولم أر الطبيب هذا اليوم ينفعني واشتد نزعي وصار الموت يجذبها من كل عرق بلا رفق ولا هون كأنني وحولي من ينوح ومن يبكي علي وينعاني ويندبني وقام من كان أحب الناس في عجل نحو المغسل يأتيني يغسلني فجاءني رجل منهم فجردني من الثياب وأعراني وأفردني وأودعوني على الألواح منطرحاً وصار فوقي خرير الماء ينظفني وأسكب الماء من فوقي وغسلني غسلاً ثلاثاً ونادى القوم بالكفن فحملوني على الأكتاف أربعةٌ من الرجال وخلفي من يشيعني وقدموني إلى المحراب وانصرفوا خلف الإمام فصلى ثم ودعني صلوا عليَّ صلاة لا ركوع لها ولا سجود لعل الله يرحمني وأخرجوني من الدنيا فوا أسفا على رحيلٍ بلا زاد يبلغني وأنزلوني إلى قبري على مهلٍ وقدموا واحداً منهم يلحدني وكشف الثوب عن وجهي لينظرني فأسكب الدمع من عينيه أغرقني وقال هلوا عليه الترب واغتنموا حسن الثواب من الرحمن ذي المنن من منكر ونكير ما أقول لهم قد هالني أمرهم جداً فأفزعني وأقعداني وجدا في مسائلتي مالي سواك إلهي من يخلصني تقاسم الأهل مالي بعدما انصرفوا وصار وزري على ظهري فأثقلني فلا تغرنك الدنيا وزينتها وانظر إلى فعلها في الأهل والوطنِ يا نفس كفي عن العصيان واكتسبي فعلاً جميلاً لعل الله يرحمني يا نفس ويحك توبي واعملي حسناً عسى تجازين بعد الموت بالحسن وامنن عليَّ بعفو منك يا أملي فإنك الواحد الرحمن ذو المنن أيها اللاهي! أيها الساهي! أيها الغافل! إلى متى تبعد عن طريق ربك؟! إلى متى تحارب مولاك؟! إلى متى تتجرأ على شرع رسولك ومصطفاك؟! دع عنك ما قد فات في زمن الصبا واذكر ذنوبك وابكها يا مذنب لم ينسه الملكان حين نسيته بل أثبتوه وأنت لاهٍ تلعب والروح منك وديعةٌ أُودعتها ستردها بالرغم منك وتسلب وغرور دنياك التي تسعى لها دار حقيقتها متاع يذهب فالليل فاعلم والنهار كلاهما أنفاسنا فيها تعد وتحسب اللهم لا تخزنا يوم العرض عليك، اللهم أحسن وقوفنا بين يديك، اللهم اختم لنا بالتوحيد والإيمان.

الإسلام كل لا يتجزأ

الإسلام كل لا يتجزأ سعى أعداء الإسلام إلى خلخلة الدين الإسلامي من الداخل، بعد أن يئسوا من زعزعته من الخارج. فجاءوا بمبادئ هدامة، ظاهرها الرحمة، وباطنها العذاب والخراب، ومما جاءوا به: الدعوة إلى حرية الفكر، وتحرير المرأة. وقد استطاعوا أن يمرروا هذه الأفكار المبهرجة، والشعارات الزائفة إلى بعض ضعاف الإيمان وقاصري التفكير، وهذا يدعونا إلى أن نرسخ العقيدة الإسلامية في قلوبنا وقلوب الشباب، وأن نعلم يقيناً أن الإسلام كل لا يتجزأ.

حقيقة الإسلام

حقيقة الإسلام السلام عليكم ورحمة الله. أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً، ولم يكن له شريك في الملك، وما كان معه من إله، الذي لا إله إلا هو، فلا خالق غيره ولا رب سواه، المستحق لجميع أنواع العبادة، ولذا قضى ألا نعبد إلا إياه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [لقمان:30]. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الواحد الذي لا ضد له، وهو الصمد الذي لا منازع له، وهو الغني الذي لا حاجة له، وهو القوي الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو جبار السماوات والأرض فلا راد لحكمه ولا معقب لقضائه وأمره، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، أدى الرسالة، وبلغ الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وعرض الله جل وعلا عليه الدنيا بأسرها فأعرض عنها زاهداً: عرضت عليه الدنيا فأعرض زاهداً يبغي من الأخرى المكان الأرفعا ما جر أثواب الحرير ولا مشى بالتاج من فوق الجبين مرصعا وهو الذي لبس السعادة حلة فضفاضة لبس القميص مرقعا وهو الذي لو شاء نالت كفه كل الذي فوق البسيطة أجمعا يا مصطفى لأنت ساكن مهجتي روحي فداك وكل ما ملكت يدي إني وقفت لنصر دينك همتي وسعادتي ألا بغيرك أقتدي لك معجزات باهرات جمة وأجلها القرآن خير مؤيد ما حرفت أو غيرت كلماته شلت يد الجاني وشاه المعتدي وأنا المحب ومهجتي لا تنثني عن وجدها وغرامها بمحمد قد لامني فيه الكفور ولو درى نعم الإيمان به لكان مساعدي يا رب صل على الحبيب محمد واجعله شافعنا بفضلك في غد أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام! مرحباً بكم في هذا اللقاء الطيب المبارك، نضر الله وجوهكم، وزكى الله نفوسكم، وشرح الله صدوركم، وثبت الله خطاكم، وتقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال، وعفا الله عني وعنكم، وغفر الله لنا ولكم، إنه ولي ذلك ومولاه، وشكر الله لأخي وحبيبي في الله الشيخ بدوي، وجزاه الله خيراً على هذه الدعوة المباركة، حتى نلتقي بهذه الوجوه المشرقة بفيض الإيمان، أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجمعنا بكم مع رسولنا في الجنة. وأبدأ من حيث انتهى إخواننا الذين سبقوني بالحديث، وسوف ألتقط الخيط من أخي وحبيبي الشيخ عمر لأكمل الحديث الذي بناه وبدأه مع حضراتكم. وسوف يكون حديثنا عن هذه الكلمة الموجزة التي علق عليها أستاذنا الشيخ بدوي، ألا وهي: الإسلام كل لا يتجزأ، ويشهد الله أني كنت قد أعددت موضوعاً آخر، ولكن إن كان هذا هو قدر الله، فأسأل الله أن يجعل ما سأقوله موفقاً مسدداً. الإسلام كل لا يتجزأ، ما أحلى هذه العبارة، وما أجدر أن يتوقف المسلمون عند أركانها ومبادئها ومعانيها، لذا فإني سوف أضبط الحديث حتى لا ينسي كلامي بعضه بعضاً. أولاً: فلتعلموا جميعاً أيها الأحباب! أن هذا الإسلام كل لا يتجزأ، والإسلام بهذا المعنى يحارب حرباً لا هوادة فيها، فأعداء الإسلام يخططون للكيد بالإسلام ليل نهار، أعداء الإسلام يريدون للمسلمين أن يصلوا، وأن يحجوا بيت الله الحرام، وأن يصوموا رمضان، ولا يقفون عثرة في طريق المسلمين من دفع الزكاة، كلا، بل يشجعون ذلك، وربما كانوا كرماء! فيفتحون في إذاعة القرآن الكريم برنامجاً خاصاً لترتيل القرآن ليل نهار، وهذا كله لا يحرك لأعدائه إلى ساكناً، لا يحركهم ويقلقهم إلا عندما ننادي بأن الإسلام كل لا يتجزأ.

خطة الأعداء في خلخلة الدين الإسلامي

خطة الأعداء في خلخلة الدين الإسلامي اعلموا -أيها الأحباب- أن أعداء ديننا يعلمون علم اليقين أن هذا الإسلام هو الخطر الماثل أمام الشرق الملحد والغرب الكافر، ويعلمون أن هذا الإسلام هو المارد العملاق، الذي إن هب من مرقده أباد مدنية الشرق الملحدة وحضارة الغرب الكافرة، من أجل ذلك لم يتوان الشرق الملحد أو الغرب الكافر، على أن يتفقا ويتحدا -على الرغم من اختلاف أيديلوجياتهم، واختلاف سياستهم، إلا أنه لا ضرر أن يتفق الشرق الملحد والغرب الكافر- على ضرب هذا الإسلام، ووصلوا في نهاية الأمر إلى حقيقة خطيرة، أتدرون ما هي؟ سجل هذه الحقيقة القائد المهزوم لويس التاسع -حينما أسره المسلمون في مدينة المنصورة- في وثائقه السرية وقال: إنه لا سبيل بعد اليوم إلى غزو المسلمين عن طريق الحرب أو القوة، ولابد من البحث عن سبيل وأسلوب جديد!! فما هي الخطوات واللبنات التي وضعها واتفق عليها الشرق الملحد والغرب الكافر على توهين هذا الإسلام في قلوب المسلمين وفي بيوت المسلمين:

الدعوة إلى حرية الفكر

الدعوة إلى حرية الفكر أولاً: دعا أعداء ديننا في أول الأمر إلى حرية الفكر، وقالوا بأن هذا هو الباب الذي سيفتح الطريق على مصراعيه إلى النظريات المضلة والأفكار الهدامة، فنادوا أول ما نادوا إلى تطوير الأزهر، وإن شئتم فقولوا: إلى تدمير الأزهر! قالوا بأن الإسلام دين جامد، دين لا حرية فيه ولا تطور فيه، ولا رقي، إنما هو دين نزل على الأعراب والبدو في أرض الجزيرة، وقد انتهت مهمته، فلم يعد لهذا الإسلام وجود، ولا بد ألا يكون له وجود، وعليه؛ فلا بد إذاً من الانفتاح على الشرق أو على الغرب. دعوا إلى تطوير الفكر، ونجح في ذلك أعداء ديننا نجاحاً باهراً، وجاء النجاح على أيدي أصحاب الولاء وأصحاب المحبة للشرق والغرب، الذين دعاهم الاستعمار ليحجوا إلى كعبتهم وإلى قبلتهم في الشرق الملحد أو الغرب الكافر، فاستجابوا لدعوته، وعاد هؤلاء الذين مسخهم الاستعمار وزينهم ورفعهم، ليغلغلوا في عقول وقلوب الشباب تلك المعاني السامة. ومن هؤلاء من يسمى بعميد الأدب العربي -وأنا أسميه بوائد الأدب العربي- الذي ذهب إلى فرنسا، ثم عاد ليحارب الإسلام بمنتهى البجاحة، طه حسين، محرر الجيل! الذي دمر الجيل والأجيال التي تلته، الذي دعا أول ما دعا إلى الاختلاط السافر بين الجنسين، الرجل ابن الصعيد، الذي ذهب إلى باريس بإيماء وباستدعاء من أعداء هذا الإسلام، لأن الخطر الحقيقي أن يحارب الإسلام على أيدي أبنائه من المسلمين، فهذه قمة الخطورة! هذا الذي ذهب إلى هناك وزينه الاستعمار تزييناً، ونفخه نفخاً، هو ابن الصعيد -مع أن أبناء الصعيد تجري الغيرة في عروقهم، وتسري الشهامة والرجولة في قلوبهم، ولكن هذا قد دمر كل هذه المبادئ- عاد وقد تشرب أفكار الاستعمار، وأراد أن يغذي الشباب بها كما عاد رفاعة الطهطاوي ليكتب في كتابه الأسود (تخليص الإبريز في تلخيص باريز)، عاد ليقول بالحرف الواحد: إن الرقص على الطريقة الأوروبية -وأنتم تعلمون كيفية الرقص على الطريقة الأوروبية، فإن أبا الشياطين الذي يسمى بالتلفزيون قد علم الصغير قبل الكبير ما هو الرقص على الطريقة الأوروبية- ليس داعياً من دواعي الفساد، وإن الاختلاط بين الجنسين ليس داعياً من دواعي الفسق والانحلال! ومن هؤلاء: نجيب محفوظ، صاحب رواية: أولاد حارتنا هذا الذي غضب الكثير له حينما تكلمنا عليه، فقالوا: من أنتم لتتكلموا على هؤلاء العمالقة؟! قلنا لهم: نحن -والحمد لله- مسلمون موحدون، وهؤلاء والحمد لله يأبى الله -كما قال الإمام ابن القيم عليه رحمة الله- إلا أن يظهر النفاق على صفحات وجوههم، وفي زلات أقلامهم، ولا يمكن أن يجتمع النفاق والإيمان في قلب واحد، فإما إيمان أو نفاق. وغير هؤلاء ممن زينهم الاستعمار ورفع شأنهم، فصفقت لهم الجماهير المخدوعة، والجماهير المضللة، وعاد هؤلاء ليغلغلوا في عقول الشباب بخاصة وفي عقول المسلمين بعامة، أن الفكر الأوروبي طود شامخ ولا سبيل إلى نهضة المسلمين وإلى رقيهم وإلى حضارتهم إلا إذا ضيع المسلمون إسلامهم، وعادوا ليعتنقوا هذا الفكر الأوروبي. فنجحوا أولاً في تحرير الفكر.

الدعوة إلى تحرير المرأة

الدعوة إلى تحرير المرأة ثانياً: نادوا بعد ذلك إلى القشة التي قصمت ظهر البعير، أتدرون ما هي؟ نادوا إلى تحرير المرأة، ونجح أعداء ديننا في ذلك نجاحاً باهراً، حتى أخرجوا المرأة المسلمة -ولا حول ولا قوة إلا بالله- من خدر حيائها المهيب، ومن خدر حيائها المصون الكريم، حتى نجحوا في أن تخرج المرأة المسلمة سافرة متبرجة عارية تتحدى الله جل وعلا، وتقول بلسان الحال والمقال: يا رب غير شرعك وبدل دينك! فإنه لم يعد يتفق مع حضارة القرن العشرين. عز على أعداء ديننا -عليهم لعنات الله المتوالية- أن تجود المرأة المسلمة على أمتها في هذا الزمان بعمر كـ عمر بن الخطاب، أو بخالد كـ خالد بن الوليد، أو بعمر كـ عمر بن عبد العزيز، أو بصلاح كـ صلاح الدين، وهي التي ظلت طيلة القرون الماضية تهز المهد بيمينها، وتزلزل عروش الكفر بشمالها. ولكنهم نجحوا في أن تخرج المسلمة سافرة مبتذلة عارية، نجحوا في أن يغلغلوا في عقلها أن الإسلام دين الجمود، ولا بد من محاكاة الشرق الملحد والغرب الكافر، لا بد من التطور، لا بد من المدنية، لا بد من التحرر، ونجح أعداء ديننا في ذلك نجاحاً باهراً، وكاد جنونهم أن يدمر الأخضر واليابس يوم أن رأوا صحوتنا المسلمة الراشدة، هذه الصحوة التي هزت الشرق الملحد والغرب الكافر، فلم يهدأ لهم بال، بل ولن يقر لهم قرار إلا إن ينجحوا في أن يضربوا هذه الصحوة من بين صفوفها، عن طريق المسلمين الذين ينتسبون ظلماً وزوراً إلى هذا الإسلام العظيم، وهذا هو ما نحذر منه.

أهمية العقيدة في تقويم سلوك المسلم

أهمية العقيدة في تقويم سلوك المسلم وها نحن نضع الخطوات العملية لكي يكون الإسلام كلاً لا يتجزأ: ولابد أن نفهم هذه الحقيقة فهماً جيداً؛ لأن كثيراً من المسلمين ينتسب إلى الإسلام بشهادات الميلاد والبطاقات العائلية والشخصية، وهو بعيد كل البعد عن تعاليم وقيم الإسلام، بالله عليكم قولوا لي: ما معنى أن يكون المسلم مسلماً وهو يغش الميزان! وصار الكيلو جرام يساوي تسعمائة وخمسين جراماً فقط، سبحان الله! وإذا ذهبت لتاجر وقلت له: أعطني متراً من القماش، أعطاك (950سم)، فالمتر أيضاً صار تسعمائة وخمسين سنتيمتر!! ما معنى أن يكون المسلم مسلماً وهو لا يصلي، ما معنى أن يكون المسلم مسلماً وهو لا يزكي، ما معنى أن يكون المسلم مسلماً وزوجته سافرة عارية متبرجة، ما معنى أن يكون المسلم مسلماً وهو يغتاب الناس ويمشي بين الناس بالنميمة، ما معنى أن يكون المسلم مسلماً وهو عاق لوالديه، وهو يؤذي الجيران، هل هذا الإسلام الذي تريدون؟ كلا والله! إذاً: لا بد أن نعلم علم اليقين أن العقيدة هي الأساس، وإن صلحت العقيدة صلح البناء كله، وإن فسدت العقيدة فسد البناء كله، من أجل ذلك فإني أنادي على إخواني من الدعاة أن يبدءوا أولاً في هذا العصر وفي هذه الأيام بما بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم في بناء العقيدة، لماذا؟ لأنني أرى كثيراً من الدعاة يركز على جوانب فرعية -كما قال أخي الشيخ عمر - وينسى الأساس، وبالله عليكم: هل يقول عاقل: إنه من الممكن أن نقيم هذا السقف بدون هذا الأساس وهذه الأعمدة؟! يا إخواننا! نريد أن نقف وقفة هامة عند هذه الحقيقة، ألا وهي أن الرسول صلى الله عليه وسلم ظل يدعو إلى العقيدة في مكة ثلاثة عشر عاماً كاملة، وهو الرسول المؤيد بمدد السماء ووحي السماء ظل النبي ثلاثة عشر عاماً كاملة يربي الناس على العقيدة، وعلى معنى لا إله إلا الله، بأوامرها ونواهيها، ومقتضياتها وحدودها، لماذا؟ لأنه لو رسخت العقيدة في القلوب، واطمأنت لها النفوس، وانقادت لها الجوارح، لصلح الأمر؛ لأن الإيمان ليس كلمة تقال باللسان، ولكن الإيمان قول باللسان وتصديق بالجنان وعمل بالجوارح والأركان. لو رسخت معاني لا إله إلا الله في القلوب لأصبح الإنسان بعد ذلك مهيئاً لأن يقيم كل نظام الإسلام، بكل جزئياته وتصوراته، لأجل ذلك ظل النبي يربي الصحابة ثلاث عشرة سنة على العقيدة. وبعد هذا لما هاجر النبي إلى المدينة ونزلت آيات التشريع وآيات المعاملات، قال الله جل وعلا: الخمر حرام، فقالوا: سمعنا وأطعنا، انتهينا ربنا، وقال: الربا حرام، فقالوا: سمعنا وأطعنا، انتهينا يا ربنا، لماذا؟ لأن العقيدة بنيت، لأن القلب أصبح على أتم الاستعداد للتلقي عن الله، ورسخ فيه معنى الإيمان ومعنى التوحيد، فأصبح هؤلاء العمالقة الصحابة في غاية الاستعداد لتلقي النظام الإسلامي كله، بكل فروعه وتصوراته وجزئياته، نهى الله فانتهوا، وأمر الله فأتمروا، وحد الله حدوداً فوقفوا جميعاً عند حدود الله.

الفرق بين المراقبة الدينية والمراقبة القانونية

الفرق بين المراقبة الدينية والمراقبة القانونية أي حكومة من الحكومات الوضعية، لو أرادت أن تنهى عن جريمة من الجرائم، كجريمة الاغتصاب، أو جريمة شرب الخمور، أو جريمة الربا، واستخدمت إعلامها وبطشها وظلمها وجبروتها وقوتها ودعاياتها وكل ما تملك، فإنها لن تستطيع أن تقضي على هذه الجريمة إلا على الظاهر منها فقط، بينما المجتمع بأسره يعج بهذه الجريمة حيث لا تراه عين القانون الباصرة. ولنضرب مثالاً نوضح به ما قلنا: لو أنك جندي في الجيش، ووقفت في طابور الصباح، ووقف أمامك ضابط برتبة مقدم أو عقيد أو عميد، وظل يصدر أوامر وتعليمات: انتبه، قف، لا يتلفت أحد، لا يجلس أحد، لا يتحرك لا لا وظل يصدر الأوامر والتعليمات، بالله عليكم! بمجرد أن يولي للناس ظهره سيحصل؟ A أن البعض سيقعد، والبعض الآخر سيصلح المنديل، وهكذا تكثر الحركة والفوضى. ولننظر إلى المقابل الجميل المشرق، لو أن الإمام وقف أمام هذا الجمع الطيب، وأقام المؤذن الصلاة، ووقف الإمام ونظر إلينا بوجهه وقال: اعتدلوا، استقيموا، وأعطانا الإمام ظهره، فهل يجلس منا أحد؟ لا. لأننا نراقب الله أصلاً، نراقب الله بقلوبنا، ونعلم أن الله لا يغفل ولا ينام هذا هو الفرق بين أن نراقب قانون السماء وقانون الأرض، هذا هو الفرق بين مراقبة القانون السماوي والقانون الوضعي البشري، لا تظنوا أن قانون العبيد كقانون العزيز الحميد، لا والله. يا إخواني! إننا ننادي على الدعاة -وعليكم أولاً- أن يبدءوا ببناء العقيدة، لأن العقيدة هي الأساس، ابدءوا ببناء العقيدة وإن ادعى المسلمون بأنهم مسلمون؛ لأننا مسلمون ببطاقاتنا الشخصية فقط. لأن الإسلام قول باللسان، وتصديق بالجنان، وعمل بالجوارح والأركان.

التحيل على الربا والمحرمات

التحيل على الربا والمحرمات ثالثاً: لا بد -أيها الأحباب- أن نعلم أنه لن يفرج الله همنا، ولن يكشف الله غمنا، ولن تحل أزماتنا، ولن تفرج كروبنا، ولن تعود إلينا عزتنا، ولن يعود إلينا مجدنا، ولن تعود إلينا كرامتنا إلا بالصلح مع الله، إننا نحارب الله ليل نهار بالربا الذي حرمه الله وحرمه الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال في الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري ومسلم وأحمد والنسائي وأبو داود وغيرهم، (درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد عند الله من ست وثلاثين زينة)، وقال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:278 - 279] والله الذي لا إله غيره لقد أعلن الله الحرب علينا، هل تنتظرون أزمات أفظع وأجشع مما نعيش فيه! أزمات اقتصادية، وأزمات خلقية، وأزمات في المواصلات، وأزمات في رغيف الخبز، في كل شيء، فماذا تنتظرون يا سادة؟ نقول لهم: الربا حرام، ولكنهم يحتالون عليه ليحلوه لأنفسهم، رحمة الله عليك يا ابن القيم حين قلت: إن قلت: قال الله قال رسوله همزوك همز المنكر المتغالي إن قلت لهم: القرآن يقول: إن الله حرم علينا لحم الخنزير، قالوا: نعم هذا صحيح، ولكن القرآن حرم الخنازير التي كانت في أرض الجزيرة، لأنها كانت خنازير هزيلة، أما خنازير اليوم فهي سمينة جداً، وليست محرمة!! نقول لهم: الخمر حرام، يقولون: نعم، الخمر التي حرمها ربنا في القرآن حرام، لكننا لا نشرب الخمر، وإنما نشرب شمبانية، ونشرب بيره. تقول: يا إخواننا! الربا حرام، قالوا: نعم، الربا حرام حرمه ربنا، لكن هذا الذي نأكله اسمه فوائد البنوك، اسمه شهادات الادخار، اسمه شهادات الاستثمار وفيها (أ، ب، ج)، وقالوا: بأن (أ، ب) حرام، و " ج " حلال، وفي الحقيقة كلها حرام حتى مجموعة (ج)، وهي نوع من أنواع المقامرة، والمقامرة محرمة شرعاً في الإسلام، كأن يأخذ مالك وماله ومالي، ثم يضعها على ما يسمى باليانصيب -اليانصيب الشهري، أو النصف شهري، أو السنوي أو النصف سنوي- فالذي يقع السهم على ماله هو الذي يربح كل المال وهذا هو ما يسمى في الإسلام بالمقامرة، والمقامرة محرمة شرعاً. إن قلت قال الله قال رسوله همزوك همز المنكر المتغالي أو قلت قال الصحابة والأولى تبع لهم في القول والأعمال أو قلت قال الشافعي وأحمد وأبو حنيفة والإمام العالي صدوا عن وحي الإله ودينه واحتالوا على حرام الله بالإحلال يا أمة لعبت بدين نبيها كتلاعب الصبيان في الأوحال حاشا رسول الله يحكم بالهوى والجهل تلك حكومة الضلال إذاً إخواني: لا بد وأن نعلم أنه لا عز لنا ولا كرامة إلا إذا اصطلحنا مع الله، وعدنا إلى هذا الإسلام من منطلق: أنه كل لا يتجزأ، الإسلام دين ودولة، وعقيدة وشريعة، ودنيا وآخرة: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [البقرة:85]. وأقول بصدق: أخزانا الله في الحياة الدنيا، على يد أبناء القردة والخنازير، على يد دولة لا تتجاوز الخمسة مليون، وضعت أنوف المسلمين في التراب، وداست على رءوسهم بالأحذية، كتب ربنا عليهم الذلة لكنهم أذلونا، وقد سمعت عبارة من أستاذ لي والله كاد قلبي أن ينخلع لسماعها، قال لي: لقد أذلنا الله في هذه الأيام لمن كتب الله عليه الذلة والمسكنة، فهل رأيت -يا بني- أذل ممن أذله الله للأذل! هل رأيتم أذل ممن أذله الله للأذل؟ لا والله، لا ذلة بعد هذه الذلة، ولا هوان بعد هذا الهوان، تركنا كتاب الله جل وعلا وفيه دواؤنا، وفيه هدايتنا ونجاحنا وفلاحنا، وصرنا نلهث وراء الشرق الملحد ووراء الغرب الكافر، وأبينا إلا أن نتبع خطاهم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلناه وراءهم، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم. هذا القرآن الذي جعله الله عزنا، وجعله الله فلاحنا، وجعله الله في قيادتنا، ولكننا أبينا إلا أن نضيع القرآن، أبينا إلا أن نكون كما قال الرسول: {يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30]، هذا القرآن الذي أنزله الله على الرسول لسعادة أمته، بل لسعادة البشرية في الدنيا والآخرة، هذا القرآن، إنه النعمة الباقية، إنه العصمة الواقية، إنه الحجة البالغة، إنه الدلالة الدامغة، والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو ولا يعلى عليه، ما أنزله الله على الحبيب ليشقى به أبداً، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم {طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى * تَنزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلى * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} [طه:5 - 6]. ما أنزل الله عليك القرآن -يا محمد- لتشقى به حين تواجه به الناس، كلا، ما أنزل الله عليك القرآن إلا لتقيم به أمة، وإلا لتنظم به مجتمعاً، وإلا لتربي به العقول والقلوب والضمائر والأخلاق، ما أنزل الله القرآن ليعلق على الجدران، أو ليحلي النساء بالقرآن صدورهن، أو ليقرأ المسلمون القرآن على القبور، كلا، بل: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} [يس:70]؛ هذا القرآن تلك هي وظيفته، وهذه هي مهمته. يوم أن جعلت أمة محمد صلى الله عليه وسلم القرآن قائداً، حوَّلهم من رعاة للغنم إلى سادة وقادة لجميع الأمم، ولكننا ضيعنا القرآن فضيعنا الله، ضيعنا القرآن فأذلنا الله، ضيعنا القرآن فأشقانا الله، ضيعنا القرآن فأبعدنا الله عن رحمته. ولا بد أن نعلم أن العودة إلى هذا القرآن ليست اختياراً ولا تطوعاً، كلا، {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65]، {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36]. إذاً: لا بد أن نعلم أن هذه البشرية من صنع الله، ولن تفتح مغاليق فطرتها إلا بمفاتيح من صنع الله، ولن تعالج أمراضها إلا بالدواء الذي سوف يقدم لها من يد الله عز وجل. لا بد أن نعود إلى مصدر عزنا، وإلى مصدر كرامتنا، وإلى مصدر رفعتنا.

طغيان المادة على قلوب المسلمين

طغيان المادة على قلوب المسلمين النقطة الرابعة والأخيرة: أن طغيان المادة قد طغى على قلوب كثير من المسلمين في هذه الأيام، فطغيان المادة وشهواتها أنست المسلم ربه وآخرته. وأنا أذكركم وأذكر نفسي -أيها الأحباب- بأنه لا بد من أن نفكر في يوم سوف نعرض فيه أمام الله جل وعلا، ولابد أن يسأل كل واحد منا نفسه: هل ما أقدمه لإسلامي، وما أقدمه لديني يليق بكمال الله وجلال الله وعظمة هذا الدين؟ سل نفسك أيها الشاب: ما هي الغاية والهدف الذي من أجله جعلك الله في هذه الأرض؟ لقد نسينا الهدف، وظن كثير منا أن هدفه أن يخرج في الصباح الباكر للعمل، وربما ضيع صلاة الفجر، وقضى الوقت في العمل، وعاد بعد ذلك ليتناول وجبة الغداء، وبعدها ينام، ثم يقوم ليجلس أمام المسلسلات أو أمام المباريات، ثم ينام إلى الصباح. وهكذا دواليك، وكأنه ثور معلق في ساقيه، وعندما تقول له: لماذا لا تصلي؟ يقول لك: الإيمان في القلب! والله لو في قلبه ذرة من الإيمان ما ضيع أركان الواحد الديان، وآخر يقول لك: والله! إن قلبي مثل اللبن، وما دام قلبي نظيف فلا داعي للصلاة، وإذا فتح الله عليه وهدى قلبه، وعقد العزم على الصلاة، أتاه الشيطان بصورة أحد أصحابه، فيقول له: إلى أين؟ يقول: إلى الصلاة، فانتظرني وأنا سأخطف العشاء وآتيك. جاء رجل للإمام أبي حنيفة عليه رحمة الله، وقال له: يا إمام! لقد ضاع مني مالي! فقال له الإمام: الجأ إلى الله، انو أن تصلي الليل كله لله عز وجل، فظن الرجل أن هذه وصفة، فقال: والله بسيطة! وذهب الرجل فتوضأ، ونوى أن يقيم الليل كله، لكن بنية أن يتذكر المال، وفي أول ركعتين جاءه إبليس، وقال له: لا تتعب نفسك! فالمال في المكان الفلاني. صلى وصام لأمر كان يطلبه فلما انقضى الأمر لا صلى ولا صام أخذ المال ونام، وغدى في الفجر إلى الإمام لكي يبشره، فبكى الإمام عليه رحمة الله، وقال: والله لقد كنت على يقين أن الشيطان لن يدعك تقيم الليل لله عز وجل. {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم:22]، {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر:16] إنا لله وإنا إليه راجعون! إذاً: لا بد أن تعلم وأن تتذكر -أخي الحبيب- هذه الحقيقة، وهي أن الشيطان عدو مبين للإنسان، حريص على أن يسلخه من دينه، وكثير من المسلمين قد ضيع أركان الدين، فضيع الصلاة، وضيع الزكاة، فلابد من الانتباه والعمل بما يوجبه الله. والله أعلم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.

قذف المحصنات

قذف المحصنات لقد حفظ الله عز وجل أعراض المسلمين وصانها؛ فأنزل حدوداً، وشرع شرائع تردع صاحب النفس الخبيثة التي تريد الفتنة، وتتتبع العورات، ومن ذلك: أن على من قذف المسلمين بالزنا أن يأتي بأربعة شهداء أو يجلد ثمانين جلدة؛ فأعراض المسلمين غالية، وأنسابهم شريفة؛ فليس لأي أحد أن يرميها أو يتهمها بسوء، إلا أن يأتي ببرهان واضح وضوح الشمس في رابعة النهار.

معنى قذف المحصنات

معنى قذف المحصنات إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله: اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة، طبتم جميعاً، وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله جل وعلا أن يتقبل منا صالح الأعمال، وأن يجمعني وإياكم في الدنيا دائماً وأبداً على طاعته، وفي الآخرة مع سيد الدعاة وإمام النبيين في جنته، ومستقر رحمته؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! هذا هو لقاؤنا الأخير مع السبع الموبقات، التي حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي روه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله! وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات). ونحن في هذا اللقاء على موعد مع الكبيرة السابعة، ألا وهي: قوله صلى الله عليه وسلم: (وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) وسوف ينتظم حديثي عن هذا الموضوع في العناصر التالية: أولاً: المعنى اللغوي. ثانياً: شروط القذف، وبم يثبت؟ ثالثاً: حكم القذف، وعقوبته في الدنيا والآخرة. رابعاً: نموذج من القذف البشع. وأخيراً: صورة مشرقة. فأعيروني القلوب والأسماع؛ فإن هذا اللقاء من الأهمية بمكان، أسأل الله جل وعلا أن يسدد قلبي وقلوبكم وقولي وقولكم، إنه ولي ذلك ومولاه. أولاً: المعنى اللغوي. القذف كما جاء في لسان العرب لـ ابن منظور: هو الرمي والسب، والمعنى هنا: رمي المرأة بالزنا أو ما في معناه. أما المحصنات جمع محصنة، والمحصنة: هي المرأة المتزوجة، والمحصنة والمحصنة بالكسر كذلك هي المرأة العفيفة الشريفة البعيدة عن الريبة والشك، والغافلات هن البريئات الطوايا، المطمئنات النفس، اللاتي لم يفعلن شيئاً يحذرنه ويخفن منه، هذا هو المعنى اللغوي لكلماتنا التي نحن بصدد شرحها اليوم بإيجاز شديد.

شروط إقامة حد القذف وبما يثبت

شروط إقامة حد القذف وبما يثبت ما هي شروط القذف؟ وبمَ يثبت؟ لا يصبح القذف جريمة تستحق الجلد إلا بشروط، منها ما يجب توافره في القاذف، ومنها ما يجب توافره في المقذوف، ومنها ما يجب توافره في الشيء المقذوف به.

الشروط التي يجب توافرها في المقذوف

الشروط التي يجب توافرها في المقذوف ثانياً: الشروط التي يجب توافرها في المقذوف: أولاً: العقل. ثانياً: البلوغ، أي: أن يكون المقذوف أيضاً بالغاً، قال الإمام مالك: فإذا قذف إنسان صبية صغيرة لم تصل إلى حد البلوغ، لكنها تُشتهى، فإنه يجب أن يقام على قاذفها الحد؛ لأن هذا القذف قد يسيء إلى أهلها وأسرتها، وقد يفسد عليها مستقبلها. لكن جمهور أهل العلم قالوا: إن قاذف الصبية التي لم تصل إلى حد البلوغ لا يقام عليه حد القذف، وإنما يعزر، ويترك التعزير لولي الأمر أو للقاضي. ثالثاً: أن يكون مسلماً. رابعاً: أن يكون ذا عفة، أي: أن يعرف هذا الرجل بالعفة، وبالبراءة والبعد عن هذه الفاحشة التي رمي بها. خامساً: الحرية، أي: أن يكون المقذوف حراً لا عبداً، وقذف الحر للعبد محرم أيضاً، روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة، وهذا لفظ البخاري في كتاب الحدود أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من قذف مملوكه وهو بريء مما قال جلد يوم القيامة، إلا أن يكون كما قال) هذه هي الشروط التي يجب أن تتوافر في المقذوف.

الشروط التي يجب توافرها في االقذف نفسه

الشروط التي يجب توافرها في االقذف نفسه ثالثاً: الشروط التي يجب أن تتوافر في القذف نفسه هي: التصريح بالزنا، أو التعريض الظاهر الذي يفهم منه بدون التصريح بالقذف، والتعريض الظاهر، مثل أن يقول رجل لرجل آخر: أنا لست ولد زنا، أو: إن أمي ما زنت بي، فهذا تعريض ظاهر بأنه يتهم من يحدثه بأنه كذلك، فالتصريح أو التعريض الظاهر من الشروط التي يجب أن تتوافر في القذف نفسه.

ما يثبت به حد القذف

ما يثبت به حد القذف بمَ يثبت حد القذف؟! يثبت حد القذف بأمرين، أو بأحدهما: الأمر الأول: إقرار القاذف على نفسه. والأمر الثاني: شهادة الشهود على أن القاذف قد قذف فلاناً من الناس.

الشروط التي يجب توافرها في القاذف

الشروط التي يجب توافرها في القاذف أولاً: الشروط التي يجب توافرها في القاذف هي: العقل، والبلوغ، والاختيار، أي: أن يكون القاذف عاقلاً بالغاً مختاراً غير مكره، وهذه الشروط هي أصول التكليف باتفاق، فإن القاذف إذا كان مجنوناً أو صغيراً أو مكرهاً لا يقام عليه الحد باتفاق أهل العلم؛ وذلك للحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد في مسنده وأبو داود في السنن والترمذي في جامعه والحاكم في المستدرك، وصحح الحديث شيخنا الألباني في صحيح الجامع من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم -وفي لفظ: وعن الصبي حتى يشب- وعن المجنون حتى يفيق) وفي لفظ: (وعن المعتوه حتى يعقل) ولقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام الطبراني من حديث ثوبان، وصحح الحديث شيخنا الألباني في صحيح الجامع أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه) هذه هي الشروط التي يجب توافرها في القاذف؛ ليقام عليه حد القذف، أي: ليجلد ثمانين جلدة، وهي: أن يكون عاقلاً بالغاً مختاراً لا مكرهاً.

حكم القذف وعقوبته في الدنيا والآخرة

حكم القذف وعقوبته في الدنيا والآخرة ثالثاً: حكم القذف، وعقوبته في الدنيا والآخرة. أيها الأحبة الكرام! إن الإسلام منهج حياة متكامل؛ لا يقوم أساساً على العقوبة، ولكنه يقوم على توفير أسباب الحياة النظيفة، والضمانات الوقائية الأمينة، ثم يعاقب بعد ذلك من يدع الأخذ بهذه الأسباب الميسرة، والضمانات المأمونة؛ ليتمرغ في أوحال المعصية طائعاً مختاراً غير مضطر، ومن ثمَّ يشدد الإسلام في عقوبة القذف هذا التشديد، ويتوعد على القذف بأشد الوعيد؛ لأن ترك الألسنة تلقي التهم جزافاً بدون بينة أو دليل يترك المجال فسيحاً لكل من شاء أن يتهم من شاء، في أي وقت شاء، بتلك التهمة الفظيعة النكراء، ويمضي هذا القاذف آمناً في الجماعة، مطمئناً لا ينكد عيشه، ولا تكدر حياته ولا نفسيته، وإذا بالمجتمعات تصبح وتمسي وأعراضها مجرحة، وسمعتها ملوثة، وكل فرد فيها شاك في أصله، أو شاك في زوجه، أو شاك في بيته، بل وكل بيت فيها مهدد بالانهيار، وهذه حالة من الشك والقلق والريبة لا يمكن أن تطاق بحال من الأحوال، ومن ثمَّ شدد الإسلام هذا التشديد الرهيب على جريمة القذف، وعلى عقوبة القذف، وأوجب على القاذف ثلاثة أحكام. أولاً: أن يجلد القاذف ثمانين جلدة، إنها عقوبة تقرب من عقوبة الزنا، للزاني البكر ثمانين جلدة، وعقوبة الزنا كما تعلمون لغير المحصن أن يجلد مائة جلدة، أولاً الأحكام التي أوجبها الله على القاذف أن يجلد ثمانين جلدة. ثانياً: أن ترد شهادته أبداً. ثالثاً: أن يصبح فاسقاً، أي: ليس بعدل لا عند الله ولا عند الناس، وهذه الشروط متفق عليها بين الفقهاء ما لم يتب القاذف إلى رب الأرض والسماء، ولقد نصت على هذه الأحكام آية محكمة من سورة النور، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:4] ثم يأتي هذا الاستثناء الندي من الرحيم الكريم: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:5]. هذه هي الأحكام التي تترتب على القاذف في هذه الحياة الدنيا.

عقوبة القذف في الآخرة

عقوبة القذف في الآخرة تقدم بإيجاز الكلام عن حكم القذف وعقوبته في الدنيا، أما عقوبة القذف في الآخرة فوالله إنها لقاسية، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [النور:23 - 25].

وجوب الجلد أو اللعان لمن قذف امرأته

وجوب الجلد أو اللعان لمن قذف امرأته أخرج الإمام أحمد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو داود وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لما نزلت آية سورة النور -أي: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ)) [النور:4] إلى آخر الآية قال سعد بن عبادة: أهكذا أنزلت يا رسول الله؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا معشر الأنصار! أما تسمعون ما يقول سيدكم؟ فقال الأنصار: لا تلمه -يا رسول الله- فإنه رجل غيور، والله! ما تزوج امرأة قط إلا بكراً، وما طلق امرأة قط فاجترأ أحد منا على أن يتزوجها من شدة غيرته، فلا تلمه يا رسول الله! فقال سعد بن عبادة: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! والله! إني لأعلم أنها لحق، وأنها من عند الله تعالى، لكني تعجبت! فإذا رأيت لكاعاً -أي امرأته- قد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه، ولا أحركه حتى أنطلق لآتي بأربعة شهداء! والله! ما آتي بهم إلا وقد قضى حاجته يا رسول الله!) وفي لفظ البخاري ومسلم أن سعد بن عبادة رضي الله عنه قال: (والله! لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الحبيب: أتعجبون من غيرة سعد؟! والله! لأنا أغير من سعد، والله أغير مني، ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن) فالله يغار، وصفة الغيرة لا ينبغي أن تؤول أو تعطل أو تكيف أو تمثل، فالله جل وعلا يغار، (ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن. فما لبث ذلك المجتمع الطاهر الكريم إلا يسيراً حتى ابتلي بما خافه سعد بن عبادة، ففي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم وأحمد وغيرهم بألفاظ مختلفة من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: فوالله! لم يلبثوا إلا يسيراً حتى جاء هلال بن أمية - وهذا من الثلاثة الذين تخلفوا، وتاب الله عليهم- من أرضه عشاءً، فدخل على أهله، فوجد رجلاً يفعل الفاحشة بأهله، فرأى بعينيه، وسمع بأذنيه، فلم يهيجه، فلما أصبح غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إني جئت أهلي عشاءً فرأيت بعيني وسمعت بأذني، واتهم هلال زوجته، وقذفها بالزنا عند رسول الله برجل يقال له: شريك بن سحماء هكذا قذف هلال امرأته بالزنا، فما العمل؟ وما الحل؟ كره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء به هلال بن أمية، واشتد عليه ذلك، واجتمعت عليه الأنصار وقالوا: لقد ابتلينا بما قاله سعد بن عبادة، والرسول صلى الله عليه وسلم قال لـ هلال بن أمية: يا هلال! البينة أو حد في ظهرك؟ فقال هلال بن أمية: يا رسول الله! إذا رأى أحدنا رجلاً على امرأته ينطلق يلتمس البينة؟! والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: البينة أو حد في ظهرك؟ وإذا بـ هلال يقول: يا رسول الله! والذي بعثك بالحق! إني لصادق، ولينزلن الله ما يبرئ به ظهري من الحد. يا إلهي! أي ثقة هذه؟! وأي يقين بالله هذا؟! يقول الرجل: (ولينزلن الله ما يبرئ به ظهري من الحد) يقول ابن عباس: والله! لقد أراد رسول الله أن يقيم الحد على هلال بن أمية، وبينما هو كذلك إذ أنزل الله الوحي على رسوله صلى الله عليه وسلم، وكان إذا نزل عليه الوحي عرف الصحابة ذلك، فأمسكوا عنه، فلما فرغ الوحي سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أول ما فعل: أن التفت إلى هلال بن أمية وقال: أبشر يا! هلال! أبشر يا هلال! فلقد جعل الله لك فرجاً ومخرجاً، فقال هلال بن أمية: والله! لقد كنت أرجو ذلك من ربي عز وجل). فنزلت على الحبيب آيات اللعان لتبت الأمر في هذه القضية الخطيرة، وتلا الحبيب صلى الله عليه وسلم قول الله جل وعلا: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ * وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ} [النور:6 - 10] ثم قال الحبيب: (أرسلوا إليها، فجاءت امرأة هلال بن أمية، فتلا النبي عليهما الآيات، وذكرهما بالله عز وجل، وأخبرهما أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، ثم قال هلال: والله! إني لصادق يا رسول الله! فقالت المرأة: إنه لكاذب، فقال النبي: لاعنوا بينهما، فقيل لـ هلال بن أمية: اشهد بالله، فشهد هلال أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، أي: صادق فيما قذف به امرأته من الزنا، ولما كانت الخامسة قيل له: يا هلال اتق الله! فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة؛ وإن هذه هي الموجبة التي توجب عليك العذاب، فقال هلال: والله! لا يعذبني الله عليها، كما لم يجلدني عليها، وإني لصادق، فشهد في الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم قيل للمرأة: اشهدي بالله أربع شهادات أنه من الكاذبين، فشهدت المرأة أربع شهادات إنه لمن الكاذبين، فلما كانت الخامسة قيل لها: اتقي الله! فإن هذه هي الموجبة التي توجب عليك العذاب، وإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فتلكأت المرأة ساعة، وهمت بالاعتراف، ثم قالت: والله! لا أفضح قومي، فشهدت على نفسها في الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين). وهنا فرق النبي بينهما، وقضى بالولد لها، ونهى عن أن ينسب الولد لأب، وأسقط النسب عن هلال بن أمية، وحذر من أن يرمى ولدها، فمن رماه أقيم عليه حد القذف، ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: (انظر! فإن جاءت به -أي: بولدها- أكحل العينين، سابغ الإليتين، خدلج الساقين، فهو لـ شريك بن سحماء، فلما وضعت المرأة ولدها كان بمثل ما وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الحبيب: والله! لولا ما قضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن). اللعان بمثابة البينة للزوج الذي رأى زوجته على الفاحشة -والعياذ بالله- ولم يستطع أن يأتي بالشهود، فله أن يلاعنها ويترتب على اللعان الأحكام التالية: أولاً: أن يفرق بينه وبين امرأته. ثانياً: أن تحرم المرأة عليه تحريماً أبدياً. ثالثاً: أن يسقط عنه النسب؛ فلا ينسب الولد إليه. رابعاً: أن يسقط عنه حد القذف، فلا يقام عليه حد القذف، ولا يجلد. الخامسة: أن ترجم المرأة إذا لم تلاعن، فإذا لاعنت هي الأخرى لا يترتب على لعانها إلا حكم واحد، ألا وهو أن يسقط عنها حد الرجم.

نموذج من القذف البشع

نموذج من القذف البشع العنصر الرابع: بإيجاز شديد: نموذج من القذف البشع، وانتبهوا جيداً أيها الأحباب الكرام! إنه نموذج من القذف البشع لأشرف وأطهر وأكرم بيت على ظهر هذه الأرض، لبيت الحبيب المصطفى، لبيت رسول الله، قذف الرسول واتهم في عرضه وشرفه في عائشة التي أحبها من كل قلبه، ولنترك الحديث لـ عائشة رضي الله عنها لتحدثنا عن هذا النموذج الوقح، وعن هذه الفتنة المزلزلة القاسية المدمرة، والحديث رواه البخاري ومسلم وغيرهما، تقول عائشة رضي الله عنها: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج إلى سفر أقرع بين نسائه -أي: ضرب يبن نسائه قرعة- فأيتهن وقعت القرعة عليها خرجت مع رسول الله، فأقرع رسول الله بيننا في إحدى غزواته -وهي: غزوة بني المصطلق- فوقع سهمي، فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت آية الحجاب قد نزلت، وكنت أحمل في هودجي وأنزل فيه -والهودج: هو المحمل على ظهر البعير تركب فيه المرأة ليسترها، أي: يحملون الهودج وهي بداخله، يضعونه وينزلونه- فلما انتهى رسول الله من الغزو وقفل -أي: عاد- ودنونا من المدينة آذن رسول الله ليلة بالرحيل، فانطلقت لقضاء حاجتي بعيداً عن الجيش، فلما قضت حاجتها وفرغت من شأنها عادت إلى رحلها، فالتمست صدرها فلم تجد عقدها، فعادت مرة أخرى لتبحث عن عقدها، وأخرها طلب العقد، وكان الجيش قد رحل، فلما عادت لم تجد في منزل الجيش من داع ولا مجيب، تقول عائشة: فمكثت في منزلي، وظننت أن القوم سيفقدونني، ويرجعون إلي، فبينما أنا كذلك غلبتني عيناي فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي رضي الله عنه خلف الجيش، فرأى سواد إنسان نائم، فأقبل عليها وعرفها؛ تقول: فعرفني؛ لأنه كان يراني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه -أي: استيقظت من نومي على قوله: إنا لله وإنا إليه راجعون- فخمرت وجهي بجلبابي -أي: غطيت وجهي بجلبابي- ووالله! ما كلمني كلمة، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه، فأناخ راحلته فركبتها، وانطلق بي يقود الراحلة، حتى أتينا الجيش وقد نزل في نحر الظهيرة -أي: في وسط شدة الحر- فهلك في شأني من هلك، وكان الذي تولى كبره عبد الله بن أبي بن سلول) وفي بعض الروايات: (نظر رأس النفاق الوقح فقال: من هذه؟! لأنها جاءت بغير هودج، جاءت على ظهر بعير صفوان بن المعطل رضي الله عنه، فقالوا: إنها عائشة رضي الله عنها، فقال الخبيث: زوج نبيكم تبيت مع رجل، ويأتي بها في الصباح يقودها! والله! ما نجت منه، ولا نجا منها!) قولة عفنة خبيثة شريرة، وطير المنافق هذه المقولة وهذا القذف الخطير الكبير، وتلقفتها ألسنة المشركين والمنافقين، وما أكثرهم في كل زمان ومكان! الذين يريدون النيل من القادة الأطهار الأشراف الأخيار، ويريدون النيل من الإسلام ذاته متمثلاً في أطهر مثل، وأعظم قدوة، في محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهلك بعض المسلمين، وزلوا وسقطوا في هذا، وماجت المدينة الطاهرة شهراً كاملاً بقولة أهل الإفك؛ بهذا القذف المرير الرهيب الخطير، ولحكمة يعلمها الله عز وجل لم تنزل آية واحدة على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله يتألم، ويطحن قلبه الألم، ويعصر كبده هذا الخبر الفظيع المؤلم، رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهم في عرضه! ويتهم في شرفه! ويتهم في طهارته! وهو الطاهر الذي فاقت طهارته على جميع العالمين، ويتهم في صيانة حرمته! وهو القائم على صيانة الحرمات في أمته، وفيمن؟! في عائشة التي أحبها من كل قلبه، وها هي الصديقة الطاهرة العفيفة الحصان الرزان رضوان الله عليها تتهم في أعز وأغلى ما تعتز به كل فتاة شريفة، في عرضها وفي شرفها، تتهم عائشة زوج الحبيب رسول الله في عرضها وشرفها، وهي الزهرة التي ترعرعت في بستان الإسلام، وسقيت بمداد الوحي على يد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وها هو صديق الأمة الأكبر الرجل الكريم الشهم أبو بكر الذي احتل ذروة سنام الصديقية بلا منازع، يحطم قلبه الألم، وتهدهد هذه الإشاعة كبده، وتكاد أن تفتته، رضي الله عنه وأرضاه، ويحدث ويعبر عن هذا الألم الذي يكاد يعصر قلبه، ويحطم فؤاده وهو يقول: (والله! ما رضينا بهذا في الجاهلية أفنرضى به في الإسلام؟!) وها هو الصحابي الجليل صفوان بن المعطل يتهم في دينه وعرضه، ويتهم في شرفه، ويتهم بخيانة حبيبه ورسوله ونبيه صلى الله عليه وسلم، رحماك رحماك يا ألله! أي ابتلاء هذا؟! وأي فتنة هذه؟! والله لا تقوى الجبال الراسيات على تحمل هذه المصيبة الكبيرة والفتنة المدمرة، قال عز وجل {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2 - 3] لكِ الله يا عائشة! فما حالها؟! وكيف يكون شأنها؟! وهي الغافلة التي لا تعلم عن الأمر شيئاً، بل ولم تسمع عن الأمر شيئاً، تقول عائشة: (فلما عدنا إلى المدينة مرضت شهراً كاملاً، وأنا لم أعلم شيئاً، ولم أسمع من حديث الإفك شيئاً، ولم أستنكر من رسول الله إلا أنه لم يكن يلاطفني بمثل ما كان يلاطفني به إذا اشتكيت، حتى خرجت يوماً لقضاء حاجتي، فالتقيت بأم مسطح، فأخبرتني بخبر أهل الإفك، فقلت: أوقد قال الناس ذلك؟! قالت: بلى، أما سمعت؟!) فعادت عائشة رضي الله عنها الغافلة المحصنة المؤمنة البريئة الطوية التي لا تنتبه لشيء؛ لأنها ما ألمت بشيء تحذر منه أو تخاف منه، عادت إلى بيتها فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستأذنته أن تذهب إلى بيت أبويها لتتيقن من الخبر، فأذن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، تقول: (فذهبت إلى بيت أبوي، فسألت أمي، فقالت لها أمها: يا بنية! لا تلتفتي إلى هذا، فقلت: سبحان الله! أوقد قال الناس هذا حقاً؟! فبكيت تلك الليلة، وما اكتحلت عيني بنوم، حتى إن أبوي يزعمان أن البكاء فالق كبدي، تقول: ورسول الله يدخل يسلم ولا يقول إلا كلمة واحدة: كيف تيكم؟! ثم ينصرف، تقول: فاستأذنت عليّ ذات يوم امرأة من الأنصار، فأذنت لها، وأنا أبكي، فجلست إلى جواري تبكي، وأبواي جالسان عند رأسي، فدخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلس إلى جوار عائشة وتشهد وحمد الله عز وجل ثم قال: يا عائشة! لقد بلغني عنك كذا وكذا؛ فإن كنت بريئة فسيبرئك الله عز وجل، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله؛ وتوبي إليه، فإن العبد إذا أذنب فاعترف بذنبه فتاب إلى الله تاب الله عليه) يا ألله! يقول هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، تقول عائشة: (فلما سمعت مقالة رسول الله قلص دمعي -جف الدمع في عيني، ونظرت إلى أبيها، وهي لا تعرف بماذا تجيب؟! وماذا تقول؟! - وقالت لأبيها: أجب عني رسول الله، فقال الصديق رضي الله عنه: والله! ما أعلم ماذا أقول لرسول الله، فالتفتت المسكينة إلى أمها فقالت: أجيبي عني رسول الله، فقالت الأم التي حطمها الألم: والله! ما أعلم ماذا أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، تقول المسكينة الحصان الرزان: والله! ما أعلم لكم مثلاً إلا كما قال أبو يوسف: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18] تقول عائشة: فاضطجعت في فراشي وأعطيت لهم ظهري، ووالله! إني لأعلم أني لبريئة، وأن الله مبرئي ببراءة، ولكني ما كنت أظن أن الله سينزل في حقي وحياً يتلى، فلشأني في نفسي كان أحقر من هذا، تقول: والله! ما غادر رسول الله موضعه وما برح المكان منا أحد وإذ برسول الله ينزل عليه الوحي، وكان إذا تنزل عليه الوحي عرف منه ذلك، حتى أخذته الرحضاء، وتنزلت منه مثل حبات الجمان -أي: كحبات اللؤلؤ- في اليوم الشديد البرودة، فلما سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلت عليه براءة عائشة من السماء ممن يسمع ويرى ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، التفت رسول الله إلى عائشة رضي الله عنها وهو يضحك، وقال لها: أبشري يا عائشة! لقد برأك الله عز وجل، فقالت أمها: قومي يا عائشة فاحمدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت عائشة: لا والله! والله! لا أحمده ولا أحمد إلا الله عز وجل الذي أنزل براءتي) يا لها من ثقة ويقين عجيبين! وتلا الحبيب صلى الله عليه وسلم قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:11] إلى آخر الآيات في سورة النور. وهكذا أيها الأحبة! نرى نموذجاً بشعاً مرعباً من نماذج القذف، وهذه هي خطورته، ومن ثمَّ شدد الإسلام هذا التشديد على هذه الجريمة البشعة التي تفسح المجال لكل أحد أن يقول ما شاء في أي وقت شاء، وأن يتهم من شاء بتلك التهمة النكراء. وأخيراً: في مقابل هذه الصورة القاتمة تبقى لنا صورة وضيئة مشرقة، نعيش معها بعد جلسة الاستراحة. وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

صورة مشرقة

صورة مشرقة الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الأحبة! في مقابل هذه الصورة القاتمة تعالوا بنا لنعيش قليلاً جداً مع هذه الصورة المشرقة، إنها صورة فتى ملأ الإيمان قلبه، وملأ عليه قلبه حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنه الفتى الصغير الذي لم يتجاوز العاشرة من عمره، عمير بن سعد رضي الله عنه وأرضاه، عمير بن سعد مات أبوه فتزوجت أمه برجل ثري غني يقال له: الجلاس بن سويد، ولما كان في السنة التاسعة من الهجرة دعا رسول الله المسلمين أن ينفقوا، وأن يبذلوا لغزوة تبوك، فتسابق المسلمون في الإنفاق، وعاد الفتى الصغير عمير بن سعد ليقص على زوج أمه الجلاس بن سويد ما كان من أخبار المؤمنين الصادقين، وما كان من تخلف المنافقين والمرجفين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الجلاس بن سويد كلمة خبيثة خطيرة، قال: يا عمير! إن كان محمد صادقاً فيما يقول فنحن شر من الحمير، وهنا حلقت عين الفتى المؤمن في وجه هذا الرجل، وقال له: والله! ما كان أحد على ظهر الأرض أحب إلي بعد رسول الله منك، أما وقد قلت هذه المقالة فلقد قلت مقالة إن قلتها فضحتك، وإن أخفيتها أهلكت نفسي وديني، فكن على حذر من أمرك؛ فإني مخبر رسول الله بما قلت، وانطلق الفتى الصادق الذي وعى ما سمع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقص عليه ما كان من الجلاس بن سويد، فأجلسه النبي عنده، وأرسل النبي رجلاً ليأتيه بـ الجلاس، للتثبت والتبين قبل الحكم، وجاء الجلاس، فأنكر ما قاله الفتى المؤمن، وقال: والله! يا رسول الله! ما قلت، وإن عميراً قد كذب علي، ولماذا أقول هذا؟! إلى آخر هذه الافتراءات والاتهمات القديمة الحديثة التي يأبى الله إلا أن يظهرها على صفحات وجوه المنافقين وألسنتهم، وفي مداد أقلامهم العفنة. ونظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا الفتى المؤمن وقد احتقن وجهه بالدم واحمر، وانهمرت الدموع على خده وعلى وجنيته، وارتعد وخاف، ماذا يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ووالله! لم يلبثوا إلا يسيراً حتى نزل على رسول الله الوحي في مجلسه هذا، ونزل عليه الوحي الذي يبرئ هذا الفتى الذي رفع أكف الضراعة إلى الله وقال: اللهم أنزل على رسول الله تصديق ما قلت، ونزل قول الله جل وعلا: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ} [التوبة:74] فصرخ الجلاس بن سويد وقال: صدق عمير يا رسول الله! وأتوب إلى الله يا رسول الله! وهكذا التفت النبي إلى هذا الفتى الصادق الذي بللت وجهه مرة أخرى دموع الفرح بعد دموع الحزن والألم، ومد الحبيب يده إلى أذن عمير بن سعد ففركها بيسر ولين وقال له: (لقد وفّت أذنك ما سمعت، وبرأك ربك يا عمير)!. إنها صورة مشرقة تعمدت أن أختم بها في مقابل تلك الصورة القاتمة للقذف البشع. أسأل الله جل وعلا أن يتقبل مني وإياكم صالح الأعمال، اللهم ارزقنا الصدق في أقوالنا، والإخلاص في أعمالنا وأحوالنا، اللهم اغفر لنا ذنوبنا، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم استرنا ولا تفضحنا، اللهم استرنا ولا تفضحنا، اللهم استرنا ولا تفضحنا، اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم استر نساءنا، اللهم استر نساءنا، اللهم استر نساءنا، اللهم استر نساءنا. اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. اللهم اقبلنا وتقبل منا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، وأعل بفضلك كلمة الحق والدين، اللهم قيض لأمة التوحيد أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، اللهم اجعل بلاد الحرمين أمناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم اجعل بلاد الحرمين أمناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم اجعل بلاد الحرمين سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين. اللهم وفق حكامنا وعلماءنا إلى كل ما فيه رضاك يا رب العالمين! أحبتي في الله! أكثروا من الصلاة والسلام على رسول الله كما أمرنا الله جل وعلا بذلك فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56] اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا وحبيبنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله! أن أذكركم به وأنساه.

أفغانستان جراح وآمال

أفغانستان جراح وآمال لقد أبرز الجهاد الأفغاني ضد روسيا حقائق عظيمة، ومصالح عديدة، ظهرت وتجسدت جلية في واقع الأمة الإسلامية، ومن ذلك: أنه انكسر في قلوب المسلمين رهبة الدول العظمى، وتبين لهم تحقق قوله سبحانه: (ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز).

جراح المسلمين في أفغانستان

جراح المسلمين في أفغانستان الحمد لله ذي الملك والملكوت، الحمد لله ذي العزة والجبروت، الحمد لله الذي بنصره وبتمام قدرته وكمال عظمته أنهى على أرض أفغانستان آمال الروس القياصرة، الحمد لله الذي أذل بالموت رقاب الروس الجبابرة، فنقلهم بالموت من القصور في الكرملن إلى القبور في أرضه وتحت طيات التراب، نقلهم من القصور إلى القبور، ومن ضياء المهود إلى ظلمة اللحود، ومن ملاعبة النساء والبغايا والغلمان إلى مقاساة الهوام والديدان، ومن التنعم بالطعام والشراب إلى التمرغ في العذاب والوحل والتراب. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القوي العزيز، الفعال لما يشاء إذا شاء كيف يشاء في الوقت الذي يشاء، {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:26] لا راد لحكمه، ولا معقب لأمره، ولا مانع ولا حائل لنصره جل وعلا، {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:17 - 18] سبحانه وتعالى جل عن الشبيه وعن المثيل والنظير، لا كفء له ولا ند له، ولا شبيه له ولا مثيل له: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4]. (إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل النهار قبل عمل الليل، وعمل الليل قبل عمل النهار، حجابه النور أو النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه). وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وقف في ميدان الوغى وساحة الشرف في ميادين الرجولة والبطولة يوم خرست الألسنة، ونطقت السيوف، وخطبت الرماح على منابر الرقاب، وقف ابن عبد الله صلى الله عليه وسلم يقول بأبي هو وأمي: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب). اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، فهو الذي علم الأمة الكرامة والشهامة، والرجولة، ويوم أن غابت الأمة عن تعاليمه أذلها الله جل وعلا! اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، وسار على طريقه، واتبع سنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام! لقد كان من المنتظر أن يكون لقاؤنا اليوم هو اللقاء السابع من دروس سورة النور، ولكن يجب علينا أن نكون على مستوى أحداث أمتنا المكلومة المجروحة، فآثرت أن نطير سوياً على جناح السرعة لأمر الله جل وعلا إلى أرض أفغانستان الطاهرة إلى جبال أفغانستان وروابيها التي رويت بدماء الأبرار الأطهار إلى أرض المليون شهيد التي روت بدمائهم جبالها وصحاريها لإعلاء كلمة الله جل وعلا. أيها الأحباب! لقاؤنا اليوم بعنوان: أفغانستان جراح وآمال. بأي الجراح أبدأ؟ وعن أي الجراح سأتكلم؟ عن جراح المليون شهيد أم عن جراح المرأة التي غاب عنها زوجها أم عن جراح الأم التي كلم قلبها بموت شهيدها أم عن جراح الطفل الذي رأى أمه تقتل وتذبح ذبح الخراف أمام عينيه وبين يديه فراح يلتقم ثديها وقد فارقت الحياة، عن أي الجراح سأتكلم؟ هل سأتكلم عن جراح أفغانستان أم سأتكلم عن جراح أمة المسلمين التي تعتبر أفغانستان جزءاً مشلولاً من هذا الجسد الكبير الذي نزف وطال نزيفه، ومرض وغاب مرضه، وخدر وغاب تخديره ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم؟! عن أي الجراح سأتكلم؟ هل أتكلم عن جراح المسلمين في يوغوسلافيا على أيدي الصرب الفجرة الكفرة الذين انقضوا على المسلمين والمسلمات بالسلاح الأبيض، يقطعون أثدية النساء، ويذبحون الرجال على مرأى ومسمع من الدنيا؟ أين مجلس الأمن؟ وأين هيئة الأمم؟ هل هذا حرام على المسلمين حلال للفجرة الكفرة؟! لا حول ولا قوة إلا بالله. لا إله إلا الله! المسلمون يذبحون ذبح الخراف على كل بقعة من أرض الله جل وعلا، في يوغسلافيا في كشمير في الفلبين، حتى في كثير من الدول العربية المسلمة -إنا لله وإنا إليه راجعون- امتلأت السجون والمعتقلات، ولا حول ولا قوة إلا برب الأرض والسماوات. ما الذي جرى وما الذي حدث؟ أيها الأحباب! عم البلاء، واشتد الابتلاء، واشتد سواد الليل، وهذه بشائر النصر بإذن الله، فإن أشد ساعات الليل سواداً هي الساعة التي يليها ضوء الفجر، وفجر الإسلام قادم لا محالة، {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:8] {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33]، ووالله لن تستطيع جميع الأفواه ولو اجتمعت على أن تطفئ نور الله جل وعلا فهل يضر السماء نبح الكلاب؟! سقطت ذبابة حقيرة على نخلة تمر عملاقة، وهمت الذبابة بالانصراف، فقالت الذبابة الحقيرة للنخلة العملاقة: أيتها النخلة! تماسكي فإني راحلة عنك، فقالت لها النخلة العملاقة: انصرفي أيتها الذبابة الحقيرة، وهل أحسست بك حينما سقطت علي لأستعد لك وأنت راحلة عني؟! إن جميع الأفواه لن تستطيع إطفاء نور الله ولو اجتمعت: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:8].

الجهاد الأفغاني ميلاد جديد لهذه الأمة

الجهاد الأفغاني ميلاد جديد لهذه الأمة أيها الأحباب! لقد كان الجهاد الأفغاني ميلاداً جديداً لهذه الأمة التي نامت وغطت في نومها لقد كان الجهاد الأفغاني ميلاداً جديداً لهذه الأمة التي مرضت وطال مرضها لقد كان الجهاد الأفغاني ميلاداً جديداً لهذه الأمة التي مسخت وخدرت وغاب تخديرها. لقد كان صمود المجاهدين الأفغان ثلاثة عشر عاماً أمام هؤلاء الروس شرفاً تاريخياً ضخماً لا شك في ذلك، ولقد كان انهزام الدب الروسي الأحمر الغبي الوقح أمام هؤلاء الأطهار الأبرار حدثاً تاريخياً ضخماً، أضخم وأعظم من سابقه، ولكن -بالله عليكم- هل عرف المسلمون على ظهر الأرض حقيقة هذا الجهاد؟ لا إلا من رحم الله جل وعلا. كم من المسلمين لا يعرفون عن القضية الأفغانية شيئاً! كم من المسلمين لا يعرف قادة المجاهدين ولا يعرف عنهم شيئاً، في الوقت الذي لا يهدأ للإعلام بال ولا يقر له قرار على أتفه الأسباب، وأحقر الأخطار والمعلومات والأنباء، فيضج الإعلام كله على سباح أو لاعب كرة أو فاسق أو فاسقة، أو داعر أو داعرة، ويصك آذان المؤمنين الصادقين في الليل والنهار بأخبار الفاسقين والفاسقات، والساقطين والساقطات، والداعرين والداعرات، وكأن أحداث أفغانستان على كوكب آخر، وكأنها لا تعني المسلمين في شيء من الأشياء. ما هذا التساهل؟! ما هذا التجاهل لمن يقولون: لا إله إلا الله؟! لماذا كل هذا؟! هل وصل غياب المسلمين عن دينهم وعن واقعهم إلى هذا الحد؟! أسأل الله جل وعلا أن يبارك في لقاءاتنا هذه حتى تصل إلى المجاهدين في أرض أفغانستان، وقد وعدت بذلك إن شاء الله جل وعلا، لعل الله سبحانه وتعالى أن يجعل فيها الشفاء، ونسأل الله أن يرزقنا الإخلاص، وأن يفتح بيننا وبين قومنا بالحق وهو خير الفاتحين.

عشق الجهاد في سبيل الله

عشق الجهاد في سبيل الله أيها الأحباب! هؤلاء عشقوا الجهاد بكل قلوبهم، شيوخاً ورجالاً وشباباً ونساءً وأطفالاً، اسمعوا معي: فتاة أفغانية جميلة عشقت الجهاد وأحبته، يتقدم لخطبتها شاب أفغاني مترف غني موسر متنعم، لبس أنعم الثياب وترك الجهاد، وترك إخوانه على قمم الجبال بين القنابل والصواريخ المحرمة دولياً التي استعملها الدب الروسي الوقح لحرب أفغانستان، ولقتل رجالها وشيوخها ونسائها، ولإفساد أرضها وزرعها. يتقدم إليها هذا الشاب، ويجتمع أهل الأسرتين، وإذا بهم يفاجئون مفاجأة عجيبة، ما هي؟ تخرج هذه الفتاة المؤمنة بكامل حجابها، بنقابها وبغطاء وجهها، تخرج لتصفع الجميع صفعة قوية مؤلمة بهذه العبارة التي يشع من بين ثناياها حب الجهاد في سبيل الله، خرجت لتقول: لقد عاهدت الله ألا أتزوج إلا رجلاً بعضه في جنة الله، قد كسرت ذراعه أو كسرت ساقه في ميدان الجهاد في ميدان الشرف والبطولة والرجولة. وهذا طفل صغير عشق الجهاد وأحبه وهو في الثالثة من عمره، يأتي قائد روسي بمجموعة من الدبابات ليقتحم قرية من القرى، ويقتل أهل بيت بكامله، وينجي الله طفلاً من هذا البيت، فيرى أمه قد ماتت، ويرى أباه قد مات، ويرى إخوانه قد ماتوا، وينجي الله هذا الطفل صاحب الثلاث سنوات. أتدرون ماذا صنع هذا الطفل؟ خرج الطفل لا يهاب الموت، وكأنه لا يعرف شيئاً عن الموت، خرج هذا الطفل لينظر إلى هذا الدب الوقح الذي قتل أمه وأباه وإخوانه، ودمر وهدم بيته وعاد مرة أخرى إلى البيت، وأحضر علبة من الكبريت، وأقبل على أول دبابة ليحرقها بهذا الكبريت! ما هذا؟! من الذي علمه ورباه وأودع في قلبه حب الجهاد وحب الانتقام من الكفرة الفجرة؟! إنه الله جل وعلا: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30] {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17]. عباد الله! هذا بإيجاز الحقيقة الأولى، وأسأل الله جل وعلا أن يتقبل منا وإياكم صالح الأعمال، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.

كسر الجهاد الأفغاني لحاجز الخوف والرهبة من القوى العظمى

كسر الجهاد الأفغاني لحاجز الخوف والرهبة من القوى العظمى الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصابرين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إمام المجاهدين، وقائد الغر المحجلين والغر الميامين، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد: فيا أيها الأحبة في الله! إن من الحقائق الضخمة التي أبرزها الجهاد الأفغاني: كسر حاجز الخوف والرهبة مما يسمى بالقوى العظمى، فقد كسر حاجز الخوف والرهبة من هاتين الدولتين المسميتين بالقوى العظمى، كسر الجهاد الأفغاني أنف الدب الروسي ووضعه في التراب، ووضع عليه أقدم النعال، لماذا؟ ليتعلم الناس -ويا ليت المسلمين يتعلمون- أن القوي العظيم هو الله جل جلاله. والله إن هذه القوى من أحقر وأضعف وأهون الخلق على الله، والله جل وعلا وحده هو القوي العزيز، {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرعد:11] أين قوة هؤلاء إلى قوة الله؟! عباد الله! أنسيتم زلزال أرمينيا في أرض الروس؟ في سبع ثوان معدودات جعل الله عاليها سافلها، ودمرها على أهلها، بزلزال! {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31]. إن كل هذه القوى العظمى، وكل هذه الدول العظمى التي تعلقت بها قلوب المسلمين، وتوسدت إليها، ووثقت بها، ولجأت إليها وتوكلت عليها أكثر من توكلها على الله لا تساوي عند الله جناح بعوضة. (يا أيها الناس) نداء عام لكل الناس في كل زمان وكل مكان {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الحج:73] من أفراد من طواغيت من أمم من مجالس من هيئات من طرق دبلوماسية وغيرها. {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:73 - 74]، إن الله وحده هو القوي! ماذا فعل النمرود بن كنعان؟ ماذا فعل فرعون؟ ماذا فعل أبرهة؟ ماذا فعل أصحاب الأخدود؟ إن الله هو القوي العزيز، لا راد لحكمه، ولا معقب لأمره، ولا مانع لقضائه، ولا حائل بينه وبين نصره جل وعلا، هو الضار النافع، الخافض الرافع، المعطي المانع، المعز المذل، فلا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، ولا خافض لمن رفع، ولا رافع لمن خفض، ولا ضار لمن نفع، ولا نافع لمن ضر، ولا معز لمن أذل، ولا مذل لمن أعز، فمن نصره الله فهو المنصور، ومن خذله الله فهو المخذول، {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرعد:11] سبحانه وتعالى. لقد كسر الجهاد الأفغاني هذا الحاجز وهذه الرهبة، في القلوب الحية، وإلا فإن أصحاب القلوب الميتة ما زالوا كُثراً ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ولا عزة إلا بالله، ولا نصر إلا من عند الله: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47] فينبغي أن يتبرأ المسلمون من كل حول طول إلا من حول الله وطوله، وأن يعودوا إلى الله، وأن يعلنوا الصلح مع الله، وأن يقولوا لله جل وعلا: اللهم إنا نبرأ من الثقة إلا بك، ومن الأمل إلا فيك، ومن التسليم إلا لك، ومن التفويض إلا إليك، ومن التوكل إلا عليك، ومن الصبر إلا على بابك، ومن الذل إلا في طاعتك، ومن الرجاء إلا لما في يديك الكريمتين، ومن الرهبة إلا لجلالك العظيم!

الجهاد الأفغاني نموذج لإحياء روح الجهاد في سبيل الله

الجهاد الأفغاني نموذج لإحياء روح الجهاد في سبيل الله أيها الأحباب! لقد أبرز الجهاد الأفغاني مجموعة من الحقائق الضخمة الكبيرة التي كانت في واقع هذه الأمة أفكاراً باهتة باردة لا تتعدى الكتب والصحف، فحولها الجهاد الأفغاني إلى واقع إلى حياة إلى منهج، ومن أعظم هذه الحقائق التي جسدها وأحياها الجهاد الأفغاني: روح الجهاد في سبيل الله. ماذا يعرف المسلمون اليوم عن الجهاد في سبيل الله الذي أصبحت الدعوة إليه تقابل بشيء من التعجب، بل لا أكون مبالغاً إن قلت: بل أصبحت الدعوة إليه تقابل بشيء من الإنكار الشديد؟ لقد حرص أعداء هذه الأمة على أن يحولوا بينه وبين هذه الأمة، وعلى أن يضعوا في طريقه العقبات والحواجز والسدود. وعلى ألا يربى جيل المسلمين على مائدة الجهاد، خشية أن يخرج من جديد خالد بن الوليد أو صلاح الدين أو مسلمة بن عبد الملك. أمر الله جل وعلا بالجهاد بعد الإيمان بالله في آية واحدة، فقال سبحانه وتعالى: (يا أيها الذين آمنوا) هل قرع النداء قلبك؟، هل قرع النداء سمعك يا من آمنت بالله جل وعلا؟! {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ} [الصف:10] ما نوع هذه التجارة وما ربحها؟ وما راتبها؟ عباد الله! أستحلفكم بالله لو نودي علينا بتجارة نربح فيها الدولار والريال، هل سنتقاعس؟ لا والله. ما هي التجارة، وما هي نوعية هذه الصفقة التي يعرضها علينا ربنا جل وعلا، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف:10]. تجارة تنجينا من عذاب أليم؟! ما هي يا رب؟ {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الصف:11] تجاهدون في سبيل الله لا في سبيل القوميات، ولا الوطنيات، ولا الأرض، ولا كل هذه النعرات الجاهلية، بل لتكون كلمة الله هي العليا، لرفع راية لا إله إلا الله، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الصف:11]. أيها الأحباب! إن الجهاد ذروة سنام الإسلام، كما في حديث معاذ الذي رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، أنه صلى الله عليه وسلم قال لـ معاذ: (ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قال: بلى يا رسول الله -بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم- قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد). أيها الإخوة! إن مفهوم الجهاد في سبيل الله جل وعلا، لتكون كلمة الله هي العليا! الجهاد بدأ يتضاءل في حس المسلمين يوماً بعد يوم، حتى حولت الدعوة إلى الجهاد إلى كثير من الدعوات الفاجرة الباهتة كالدعوة إلى القومية إلى الوطنية إلى الديمقراطية إلى هيئة الأمم إلى مجلس الأمن إلى الطرق الدبلوماسية إلى المحافل الدولية، وهم يعلمون أن هذا كله يصرف المسلمين عن الحقيقة والوظيفة التي من أجلها أوجدهم الله، وأخرجهم الله جل وعلا، الوظيفة التي جسدها ربعي بن عامر رضي الله عنه رضي الله عنه أمام رستم قائد الفرس يوم أن قال له: من أنتم؟ وما الذي جاء بكم إلى أرضنا وبلادنا؟ فقال ربعي الذي اعتز بإسلامه وبدينه وعرف وظيفته وغايته التي من أجلها ابتعثه الله، فقال: (نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة)، هذه هي الوظيفة التي من أجلها أخرجت هذه الأمة، قال الله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] لماذا؟ {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]. وقال الله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104]، وقال جل شأنه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143] هذه هي وظيفة الأمة، ولن تنتصر الأمة بالشعارات البراقة، والدعوات بالدبلوماسية، ما فالجهاد هو الدواء الوحيد، هو العلاج الناجح الذي سيعيد للأمة مجدها، وسيضمد جراحها، وسيعيد للأمة ذاتها وكرامتها وهويتها التي مسخت منذ زمن طويل. إنه الجهاد في سبيل الله وحده، لا في سبيل الطاغوت، ولا في سبيل الأرض، ولا في سبيل النعرات الجاهلية الفاجرة، بل الجهاد في سبيل الله جل وعلا. وإن الكفار ليعلمون علم اليقين أن الإسلام هو المارد العملاق الذي بدأ يتململ من جديد، ولو هب من مرقده لأباد مدنية الشرق الملحدة الفاجرة، وحضارة الغرب الكافرة.

ويمكرون ويمكر الله

ويمكرون ويمكر الله عباد الله! لقد سمعنا أن أمريكا مدت المجاهدين بالسلاح وبالمعونات وغيرها، فهل أمدتهم لسواد عيونهم؟ هل أمدتهم لحبها لهم؟ لا والله، ومن فهم ذلك فهو بعيد كل البعد عن واقع الأمة وحياتها، وعن المخططات التي تدبر للأمة في الليل والنهار، وما مدت أمريكا المجاهدين بالسلاح أو بغيره إلا لسببين اثنين: السبب الأول: هو إطالة مدة القتال لإجهاض روسيا التي هي في هذا الوقت القوة الوحيدة المجابهة لقوة هؤلاء الغربيين، فأرادت هذه القوة الغربية، إجهاض روسيا من الناحية العسكرية، ومن الناحية الاقتصادية، وهذا ما أقر به الكافر قبل المسلم من المحللين وغيرهم، والحرب الأفغانية هي السبب الرئيسي لإجهاض روسيا من الناحية الاقتصادية. السبب الآخر: لتطول مدة الحرب، فيقتل أكبر عدد من المجاهدين, وبذلك تكون أمريكا قد ضربت عصفورين بحجر واحد: إجهاض الروس، وقتل أكبر عدد من المجاهدين لطول زمن الحرب، وهذا هو ما صرحت عليه أمريكا نفسها، حيث أعلن مسئول كبير -نقلاً عن جريدة الشرق الأوسط- فقال: لقد فوجئنا بانتصار الأفغان، وصدق الله إذا يقول: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] هذا كلام الله جل وعلا كلام العليم الخبير {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] يودون أن نكون معهم على الكفر والإلحاد حتى نكون سواء في بحر الزندقة والكفر والعياذ بالله! ولكن يأبى الله جل وعلا إلا أن يتم نوره، وأن يظهر نوره، قال الله: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:182]، وقال: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]، وقال: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21]، وقال: {فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36] هذه حقيقة كبيرة جسدها الجهاد الأفغاني جسدها هؤلاء الذين عشقوا الجهاد في سبيل الله، وعشقوا الكرامة والسيادة والعزة والأنفة، ما وضعوا أنوفهم في التراب إلا لله جل وعلا، وعظمته وجلاله. ما هي قوة هؤلاء إلى قوة الدب الروسي الظالم الغاشم؟! نصرهم الله جل وعلا بأقل العدد، وأقل العتاد والعدد؛ لأنهم رفعوا أكف الضراعة إلى الله، واصطلحوا مع الله، ورفعوا لا إله إلا الله، ولا عيب أبداً أن يكون في الصف من اختلت عقيدته، ومن فسد دينه، ومن ابتدع، وهذه موجودة في كل بقعة من بقاع الأرض، وفي كل بلد من بلاد المسلمين، وهذا لا يمنع أن نحكم على هؤلاء بأنهم رفعوا راية لا إله إلا الله، وجاهدوا لإعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى، فكان النصر من الله وإن طالت مدته لغربلة الصف، ولتمحيص القلوب، ورأب هذا الصدع، ولإلغاء هذه الخلافات التي تدب من حين لآخر بفعل شياطين الإنس والجن، ولكن {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21].

الحث على الجهاد في سبيل الله

الحث على الجهاد في سبيل الله أيها الأحباب! لنا -إن شاء الله جل وعلا- عودة إلى أفغانستان جراح وآمال، وبإذن الله جل وعلا -إن قدر الله لنا البقاء، وإن قدر الله لنا اللقاء- سوف نعيش مع بعض أمجاد المسلمين مع حطين مع اليرموك، مع بعض تلك الأمجاد التي تناساها كثير من المسلمين، وأعتذر لكم أنني سأتوقف طويلاً عن دروس سورة النور، لنكون على مستوى أحداث أمتنا، ورحم الله جل وعلا من قال: يا قوم إن الأمر جد قد مضى زمن المزاح سموا الحقائق باسمها فالقوم أمرهم صراح سقط القناع عن الوجوه وفعلهم بالسر باح أرأيت لبناناً وما يجري به في كل ساح أرأيت شاتلا وصبرا والبراجن والطواح لم يخجلوا من ذبح شيخ لو مشى في الريح طاح أو كصبية كالزهر لم ينبت لها ريش الجناح ذبحوا الصبي وأمه وفتاتها ذات الوشاح عبثوا بأجساد الضحا يا انتشاء وانشراح وعدوا على الأعراض يخشوا قصاصاً أو جناح ما ثم معتصم يغيـ ث من استغاث به وصاح أرأيت كيف يكاد للـ إسلام في وضح الصباح أرأيت أقصانا وما هدم العدو وما استباح أرأيت أرض الأنبياء ما تعاني من جراح أرأيت كيف غدا اليهو د وكيف أحسنا الصياح غصبوا فلسطيناً وقا لوا ما لنا عنها براح لم يعبئوا بقرار أمن دانهم أو باقتراح عادت جيوشهم تهـ دد بالخراب والاجتياح لولا صلابة فتية غر بدينهم شحاح في أرض أفغان العريـ قة في البطولة والكفاح غنموا السلاح من العد ووقاتلوه بذا السلاح بسيوف سياف وحكمـ تيار أبطال للكفاح قد بيضوا وجه الحنيـ فة ليس ذلك بامتداح يا أمة الإسلام هبوا واعملوا فالوقت راح الكفر جمع شمله فلم والتفرق والصراخ فتجمعوا وتجهزوا بالمستطاع وبالمتاح يا ألف مليون وأيـ ن هم إذا دعت الجراح لا بد من صنع الرجا ل ومثله صنع السلاح لا يصنع الأبطال إلا في مساجدنا الفساح في روضة القرآن في ظل الأحاديث الصحاح من لم يعش لله عا ش وما استراح ولا أراح لا يستوي في منطق الـ إيمان سكران وصاح شعب بغير عقيدة ورق تذريه الرياح من خان حي على الصلا ة يخون حي على الكفاح يا إخوتي صبراً فالليل كاد يسفر عن صباح والليل إن تشتد ظلمـ ته نقول الفجر لاح والفجر إن يبزغ فلا نوم وحي على الفلاح يا ألله! يا ألله! يا ألله! يا أحد يا فرد يا صمد، يا من لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، لا إله لنا سواك فندعوه، ولا رب لنا غيرك فنرجوه، يا منقذ الغرقى، ويا منجي الهلكى، ويا سامع كل نجوى، يا سامع الدعوات، ويا سامع الأصوات، ويا عالماً بما هو آت، ويا عالم الخفيات؛ انصر المجاهدين الأفغان، اللهم انصر المجاهدين الأفغان، اللهم اربط على قلوبهم، اللهم اربط على قلوبهم، اللهم اربط على قلوبهم. اللهم نجهم من الخلاف والفرقة! اللهم نجهم من الخلاف والفرقة! اللهم نجهم من الخلاف والفرقة! اللهم نجهم من شياطين الإنس والجن يا رب العالمين! اللهم أقر أعيننا بنصرك الذي وعدتنا! اللهم أقر أعيننا بنصرك الذي وعدتنا! اللهم أقر أعيننا بنصرك الذي وعدتنا! اللهم طمئن قلوبنا، واشرح صدورنا بنصرك يا رب العالمين! اللهم إنا قد دعوناك ومنك الإجابة، اللهم إنا قد دعوناك كما أمرتنا فاستجب لنا كما وعدتنا برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم انصر المسلمين في كل مكان، وردهم إلى الإسلام رداً جميلاً، أنت ولي ذلك ومولاه! اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. هذا وما كان من توفيق فمن الله، وما كان من خطأ أو سهو أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.

قلوب الصالحين

قلوب الصالحين صلاح القلوب واستقامتها على منهج الله من أهم الأمور التي غفل عنها الناس اليوم، فكان ذلك سبباً في شقائهم وبعدهم عن الله؛ ومن أراد صلاح قلبه واستقامته فليتعرف على صفات قلوب الصالحين حتى يكون منهم، وليعزم على إصلاح قلبه ونيته، وسيجد أثر ذلك في حياته كلها.

أهمية صلاح القلوب

أهمية صلاح القلوب إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده رسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة الطيبة، وزكى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور، وطبتم وطاب ممشاكم أيها الإخوة والأخوات، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله الكريم جل وعلا الذي جمعني بكم في هذا البيت المبارك على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة في جنته ودار مقامته، إنه ولي ذلك ومولاه. أحبتي في الله: "قلوب الصالحين"، هذا هو عنوان محاضرتنا مع حضراتكم في هذه الليلة الكريمة الطيبة، وكعادتي حتى لا ينسحب بساط الوقت سريعاً من تحت أقدامنا، فسوف ينتظم حديثي مع حضراتكم في هذا الموضوع الجليل الرقراق في العناصر المحددة التالية: أولاً: أهمية الموضوع وخطورته. ثانياً: صفات قلوب الصالحين. وأخيراً: كيف نحقق صلاح القلوب. فأعيروني القلوب والأسماع، والله أسأل أن يرزقنا وإياكم الصلاح والتقى والعفاف والغنى، وأن يتقبل منا ومنكم جميعاً صالح الأعمال. أولاً: أهمية الموضوع وخطورته. أيها الأحبة: الأحداث متلاحقة، والفتن كقطع الليل المظلم، يرقق بعضها بعضاً، والأمة كلها الآن قد تسربلت بسربال من الدماء والأشلاء، وأخشى ما أخشاه أن ينسى كل مسلم منا نفسه وسط هذه الأحداث المتلاحقة، وألا يفتش في حاله مع ربه تبارك وتعالى، مع أنها الخطوة العملية الأولى على طريق النصر والتمكين، لذا أرى أنه من الواجب على العلماء وطلبة العلم ألا يملوا من طرح هذه الموضوعات التي تجدد الإيمان في القلوب. وأنا أدين الله تبارك وتعالى بأنه لا مخرج لهذه الأمة من هذه الأزمة الطاحنة إلا بقلوب سليمة تعرف ربها جل وعلا، إذ إن الأمة الآن لا ينقصها المال، ولا ينقصها السلاح، ولا تنقصها العقول والأدمغة التي تفكر وتخطط وتبدع، ولا ينقصها الاقتصاد، ولا ينقصها المناخ، بل ولا ينقصها الموقع الاستراتيجي، لكن ينقصها أن تعرف ربها جل وعلا، وأن تجدد الإيمان به والثقة فيه، والتوكل عليه سبحانه وتعالى. فأنا أكرر وأقول: الإسلام عقيدة تنبثق منها شريعة تنظم كل شئون الحياة، ولا يقبل الله من قوم شريعتهم إلا إذا صحت عقيدتهم، لذا فإننا إن طرحنا الليلة موضوع القلوب فما أبعدنا النجعة، وما انحرفنا وانجرفنا وانصرفنا عن واقع الأمة النازف أبداً!

صلاح القلوب غاية الأنبياء والمرسلين

صلاح القلوب غاية الأنبياء والمرسلين ثالثاً: الموضوع مهم لأن الصلاح أمر جليل، فقد يتصور كثير من المسلمين والمسلمات أن صلاح القلب أمر هين، ويقولون: فلان صالح وفلان صلاح مع أن الصلاح أيها الأفاضل أمنية الأنبياء والمرسلين، إي والله إن الصلاح أمنية الأنبياء والمرسلين. فالصلاح لغة: مصدر صلح يصلح صلاحاً، وهو ضد الفساد. والصلاح شرعاً واصطلاحاً: سلوك سبيل الهدى. فالعبد الصالح هو المستقيم على طاعة الله، القائم بما عليه من حقوق لله جل وعلا وحقوق لخلق الله تبارك وتعالى، تدبروا معي هذا الدعاء الودود المشرق للكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، يتضرع إلى الله جل وعلا ويقول: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:101] يوسف الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يرجو ربه جل وعلا أن يلحقه بالصالحين. وهذا إمام الموحدين، وقدوة المحققين، وأسوة سيد المرسلين خليل الله إبراهيم؛ يتضرع إلى الله جل وعلا بهذا الدعاء: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [الشعراء:83] فالصلاح أيها الأفاضل أمنية وغاية الأنبياء والمرسلين، لذا فلا تتصور أن صلاح القلب أمر يسير، بل والله يحتاج إلى جهد شاق، ودرب طويل، فهاهو سائل يذهب يوماً إلي سفيان الثوري ليقول له: يا سفيان! لقد ابتليت بمرض في قلبي فصف لي دواءً، فقال سفيان: عليك بعروق الإخلاص، وورق الصبر، وعصير التواضع، ضع هذا كله في إناء التقوى، وصب عليه ماء الخشية، وأوقد عليه نار الحزن على المعصية، وصفه بمصفاة المراقبة، وتناوله بكف الصدق، واشربه من كأس الاستغفار، وتمضمض بالورع، وابتعد عن الحرص والطمع؛ تشف من مرضك بإذن الله. هذا منهج لصلاح القلوب، فلا تتصور أن تطبيق هذا المنهج أمر يسير، بل يحتاج إلى صدق مع الله سبحانه وتعالى كما سأبين في المحور الثالث بإذن الله جل وعلا.

الفتن تؤثر في القلوب

الفتن تؤثر في القلوب ثانياً: الموضوع مهم لكثرة الفتن، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا). والفتن تنقسم إلى قسمين: فتن الشهوات، وفتن الشبهات، وأنا لا أعلم زماناً أيها الأفاضل قد انتشرت فيه فتن الشهوات والشبهات كهذا الزمان. أما فتن الشهوات ففيها قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث عمرو بن عوف الأنصاري، وفيه قال: (والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها؛ فتهلككم كما أهلكتهم). أما فتن الشبهات فكما في الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم بألفاظ متقاربة من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، أنه صلى الله عليه وسلم قال: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة -وفي لفظ: على ثلاث وسبعين ملة- كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي). فإذا انحرفنا عن ديننا غرقنا في بحور الشهوات، وإذا انحرفنا عن الفهم الصحيح لديننا سقطنا في شباك الشبهات، والأمر يحتاج إلى إيمان وعلم، وإلى جلوس بين أيدي الربانيين من العلماء، لا سيما ونحن نعيش زمان الفتن كما ذكرت.

كثرة تقلب القلب

كثرة تقلب القلب إننا في أمس الحاجة في هذه الظروف الحالكة إلى أن يفتش كل مسلم ومسلمة في حال قلبه، وفي حاله مع ربه تبارك وتعالى، فالموضوع جليل وخطير، وذلك للأسباب التالية: أولاً: الموضوع متعلق بالقلب، وما سمي القلب قلباً إلا لكثرة تقلبه، فقلبك الآن على حال، وإن خرجت وجلست أمام التلفاز يتغير حال قلبك حتماً عن حاله الذي أنت عليه الآن، لذا كان حبيب القلوب محمد صلى الله عليه وسلم يتضرع إلى الله عز وجل بهذا الدعاء (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) وفي مسند أحمد بسند حسن، قالت أم سلمة: (يا رسول الله! أوإن القلوب لتتقلب؟ قال: ما من قلب من قلوب بني آدم إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد، إن شاء الله أزاغه، وإن شاء الله أقامه) رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ. وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد. ثم قال: اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك). والقلوب أربعة، كما في الحديث الذي رواه أحمد في مسنده من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، وهو يصح موقوفاً على حذيفة، ويضعف مرفوعاً، ومدار تضعيف علمائنا لهذا السند على الليث بن أبي سليم، والليث متكلم فيه، وإن كان لا يرد كما قال إمام أهل السنة أحمد بن حنبل، لكن الراجح أنه يصح موقوفاً على حذيفة رضي الله عنه، قال: (القلوب أربعة: قلب أجرد فيه سراج يزهر، فذلك قلب المؤمن، وقلب أغلف فذلك قلب الكافر، وقلب منكوس عرف ثم أنكر وأبصر ثم عمي، فذلك قلب المنافق، وقلب تمده مادتان مادة إيمان ومادة نفاق، وهو لما غلب عليه منهما)، أي: فإن غلبت مواد الإيمان على قلبك مال إلى الإيمان، وإن غلبت مواد النفاق على قلبك مال إلى النفاق، أسأل الله أن يملأ قلوبنا وإياكم بالإيمان، وأن يجنبنا وإياكم النفاق، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

صفات قلوب الصالحين

صفات قلوب الصالحين ثانيا: صفات قلوب الصالحين؛ وهذا هو المحور الرئيسي في المحاضرة! قلوب الصالحين أيها الأفاضل قلوب مَنَّ الله جل وعلا عليها بصفات جليلة، ووالله الذي لا إله غيره إني لأشعر الآن بخجل شديد وأنا أشرع في الحديث عن قلوب الصالحين، أنه كان من الواجب ألا يتحدث عن صفات قلوب الصالحين إلا من توافرت لديه الأهلية علماً وعملاً، أو من رزقه الله جل وعلا صلاحاً، ولكنني والله لا أتحدث اليوم مع حضراتكم عن صفات قلوب الصالحين من منطلق شعوري بالأهلية، وإنما من منطلق الشعور بالمسئولية، وهذا ما تؤصله وتقرره القاعدة الفقهية: من عدم الماء تيمم بالتراب، ويتردد في أذني قول القائل: وغير تقيٍّ يأمر الناس بالتقى طبيب يداوي الناس وهو عليل إلهي لا تعذبني فإني مقر بالذي قد كان مني فكم من زلة لي في البرايا وأنت علي ذو فضل ومَنًّ يظن الناس بي خيراً وإني لشر الناس إن لم تعف عني

قلوب الصالحين مخلصة لله

قلوب الصالحين مخلصة لله أيها الأحبة: قلوب الصالحين قلوب متجردة لا تعمل إلا لله تبارك وتعالى، ولا تبتغي الأجر إلا من الله عز وجل، لا تعمل من أجل جماعة، ولا تعمل من أجل زعامة، ولا تعمل من أجل صدارة، وما أحوج الأمة الآن إلى هذا التجرد! وما أحوج العاملين للإسلام إلى هذا التجرد. لا يهمنا من يرفع الراية من المسلمين، من الصالحين، المهم أن ترفع الراية، ولا يهمنا من يقول قولة الحق من المسلمين، المهم أن تقال قولة الحق، وهاهو سيف الله المسلول خالد بن الوليد يعلم الأمة الآن هذا الدرس الكريم، حينما يعزله عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن قيادة الجبهة العامة في بلاد الشام، ويولي عمر من جديد أبا عبيدة بن الجراح أمين الأمة وكان قد ولى الصديق خالد بن الوليد، وأرسل رسالة إلى قائد الجيوش العامة في الشام أبي عبيدة وقال أبو بكر بعد أن حمد الله وأثنى عليه: من أبي بكر إلى أبي عبيدة بن الجراح! سلام الله عليك وبعد: فإني قد وليت خالد بن الوليد قيادة الجبهة في بلاد الشام، فاسمع له وأطع، ووالله ما وليته القيادة العامة إلا لأني أظن أن له فطنة في الحرب ليست لك، وأنت عندي يا أبا عبيدة خير منه. وأرسل الصديق الأمر إلى خالد، فأرسل خالد بن الوليد رسالة إلى أبي عبيدة: من خالد بن الوليد إلى أبي عبيدة بن الجراح، سلام الله عليك وبعد: فإني قد تلقيت أمر خليفة رسول الله يأمرني بالسير إلى بلاد الشام والقيام بأمرها والتولي لجندها، ووالله ما طلبت ذلك وما أردته، وأنت في موطنك الذي أنت فيه يا أبا عبيدة، أنت سيدنا وسيد المسلمين، لا نستغني عن رأيك ولا عن مشورتك، أراد الله بنا وبك خيراً والسلام. فيتنازل أبو عبيدة بن الجراح عن القيادة لـ خالد؛ ليصبح أبو عبيدة جندياً مطيعاً بعد أن كان بالأمس القريب قائداً مطاعاً، ويعزل عمر خالد بن الوليد ويولي أبا عبيدة، فيتنازل خالد بن الوليد لـ أبي عبيدة عن القيادة ليتحول هو الآخر وليصبح جندياً مطيعاً بعد أن كان بالأمس القريب قائداً مطاعاً. ما أحوجنا إلى هذا التجرد في هذه الأزمة الطاحنة، فلتقدم الأمة الأبناء، ليقف كل واحد في مكانه الذي يناسبه، ليبدع فيه بقدراته وإمكانياته التي آتاه الله سبحانه وتعالى، وفي صحيح البخاري أنه صلى الله عليه وسلم قال: (طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، وإن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع). ما أحوجنا إلى هذا التجرد! إلى هذا الإخلاص! واعلم بأن كل قولة وحركة لا تبتغي بها وجه الله جل وعلا لا قبول لها عند الله، قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5]، وقال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]، وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: أنا أغنى الأغنياء عن الشرك، فمن عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه).

قلوب الصالحين رحيمة

قلوب الصالحين رحيمة وقلوب الصالحين أيضاً أيها الأحبة قلوب رحيمة كبيرة، لا تعرف الغلظة ولا القسوة، ولا تعرف سبل الانتقام، كلا، بل هي قلوب امتلأت بالحب لكل مسلم على وجه الأرض، وإن وجد صالح من هؤلاء الصالحين أخاً من إخوانه على معصية أو على تقصير اقترب منه برحمة حانية، وبكلمة رقيقة رقراقة، فذكره بالله تبارك وتعالى. أيها الأفاضل! إن الناس في حاجة إلى قلب كبير رحيم، يتسع لضعفهم ولجهلهم ولبعدهم؛ حتى يسمعهم عن ربنا ونبينا. إن الصالحين لا يعرفون الانتقام، ولا يعرفون القسوة، ويتذكرون دوماً قول الله لنبيه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران:159]، ويذكرون قول الله لنبيه {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125]. وما أحلى وأرق هذا المشهد، فهاهو رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى أعرابياً يترك الصحراء المترامية الأطراف، ليدخل إلى مسجده فيبول على مقربة من النبي عليه الصلاة والسلام، وبكل أدب ورحمة وتواضع يريد الصحابة أن ينقضوا عليه، فيقول صاحب الخلق الرحمة المهداة: (لا تزرموه، دعوه يكمل بولته)، وذلك في المسجد إلى جواره؟ نعم. فينتهي الأعرابي من تبوله، وينادي عليه النبي برحمة ليقول له: (إن المساجد لا تصلح لشيء من هذا، إنما جعلت للصلاة، ولذكر الله، ولقراءة القرآن)، ويأمر النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً فأتى بدلو من الماء فصبه عليه، وطهر المكان وأنهى المشكلة تماماً برحمة متناهية، وبأدب عال، وبخلق عظيم. كلنا يحفظ الحديث، لكننا وبكل أسف إلى الآن لم نحول هذا الحديث وغيره في حياتنا إلى واقع عملي، وإلى منهج حياة، بل ربما إذا رأى أحدنا أخاً من إخوانه على تقصير أو على معصية، وأراد أن يكلمه، يكلمه ولسان حاله يقول: أنا التقي وأنت الشقي! أنا المتبع وأنت المبتدع! أنا الطائع وأنت العاصي! أنا على الحق وأنت على الضلال! لا يا أخي، {كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا} [النساء:94] قال تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17] الله الله في الرحمة بعباد الله! تحركوا أيها الأفاضل، يا شباب الأمة، قد يكون الحق معنا، وهنا (قد) للتحقيق، كقوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة:1]. أقول: قد يكون الحق معنا، أسألكم بالله أن تتدبروا هذه الكلمات، قد يكون الحق معنا، ولكننا لا نحسن أن نشهد لهذا الحق على أرض الواقع بأخلاقنا وسلوكنا، ولا نحسن أن نشهد لهذا الحق عرضاً وبلاغاً ودعوة لأهل الأرض بالحكمة البالغة والرحمة المتناهية، والكلمة الرقيقة الرقراقة. وقد يكون الباطل مع غيرنا لكنه يحسن أن يلبس الباطل ثوب الحق، ويحسن أن يصل بباطله إلى حيث أن ينبغي أن يصل الحق، وحينئذ ينزوي حقنا ويضعف كأنه مغلوب، وينتفخ باطلهم وينتفش كأنه غالب، وهنا يتألم أهل الحق لحقهم الذي ضعف وانزوى، وللباطل الذي انتفخ وانتفش، فنعبر عن ألمنا للحق بصورتين: إما أن نعبر عن ألمنا بصورة سلبية ساكنة فنزداد هزيمة نفسية على هزيمتنا، وعزلة عن المجتمع والعالم، وإما أن نعبر عن ألمنا بصورة صاخبة منفعلة متشنجة دموية، انفلتت من القواعد الشرعية القرآنية والنبوية، وهنا نخسر الحق للمرة الثالثة وللمرة الألف، لأن أهل الأرض سيزدادون بغضاً للحق الذي معنا، وإصراراً على الباطل الذي معهم. فلنشهد لهذا الحق على أرض الواقع بالأقوال والقلوب والأخلاق والأعمال، ولنشهد لهذا الحق ببلاغه لأهل الأرض بالحكمة البالغة والرحمة، بالكلمة الرقراقة، قال الله لنبيين كريمين موسى وهارون: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:43 - 44]، فإن خان الكافرون فنحن لا نخون ديننا أبداً، وإن حاد الكافرون عن هذه المواثيق المكذوبة المزعومة فنحن لا نحيد أبداً عن منهج ربنا ومنهج نبينا صلى الله عليه وسلم، ولا يضغط علينا الواقع النازف بدمائه وأشلائه ليخرجنا عن أمر الله وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قلوب الصالحين خاشعة

قلوب الصالحين خاشعة رابعاً: قلوب الصالحين قلوب وجلة خاشعة، اللهم ارزق قلوبنا الخشوع وعيوننا الدموع. قلوب الصالحين قلوب وجلة خائفة خاشعة: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60] قالت عائشة رضوان الله عليها: (يا رسول الله! أهو الرجل يزني ويسرق ويشرب الخمر؟ قال: لا يا ابنة الصديق، ولكنه الرجل يصلي ويصوم ويتصدق ويخشى ألا يتقبل الله منه)، فالصالح وجل يخشى من مكر الله، ويخشى من سوء الخاتمة، وتراه خاشعاً دائماً بين يدي ربه جل وعلا. وأصل الخشوع قيام القلب بين يدي الرب بالذل والخضوع، روى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بقوله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد:16] إلا أربع سنين)، استبطأ الله جل وعلا قلوب هؤلاء، فأنزل هذه الآية بعد أربع سنوات من إسلامهم: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقّ} [الحديد:16]! أما آن لقلوبنا أن تخشع؟! أما آن لقلوبنا أن تخشع لذكر الله؟! أما آن لقلوبنا أن تخشع لمناهي الله؟! أما آن لقلوبنا أن تقف عند حدود الله؟! أما آن لعيوننا أن تبكي من خشية الله جل وعلا؟ فوالله والله ما خلا قلب من الخوف والخشية إلا وقاده الشيطان إلى كل فتنة وهوى، وما ملئ قلب بالخوف من الله جل وعلا إلا ودله الخوف على كل خير في الدنيا والآخرة، نعم، قيل للحسن البصري: يا أبا سعيد! إننا نجالس أقواماً يخوفوننا بالله جل وعلا حتى تكاد قلوبنا أن تطير من شدة الخوف، فقال الحسن: يا أخي! والله إنك إن تخالط أقواماً يخوفونك في الدنيا حتى يدركك الأمن في الآخرة خير من أن تخالط أقواماً يؤمنونك في الدنيا حتى يدركك الخوف في الآخرة. فالخوف من الله جل وعلا سمة رئيسية من سمات الصالحين، لا يتخلون عنها أبداً فوق أي أرض وتحت أي سماء أبداً، فالصالح مراقب لربه، فإن خلا بنفسه يقول لنفسه: الله يسمعني، الله يراني! إن أغلق على نفسه حجرته، وأمسك بيده بماوس كنترول ليبحث عن أي شيء مخالف لأمر الله ورسوله، فليتذكر ربه سبحانه وتعالى، ويهتف في قلبه هاتف الخوف من الله جل وعلا: الله يسمعك! الله يراك! ألم تعلم أن الله سبحانه وتعالى مطلع على سرك ونجواك؟! قال جل وعلا: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7] جل وعلا، فهو معهم بسمعه معهم ببصره معهم بإرادته تبارك وتعالى وعلمه: إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفي عليه يغيب فالصالح صاحب قلب وجل خائف يخشى الله تبارك وتعالى مع صلاحه، مع صدقه، مع إخلاصه، مع عمله لله تبارك وتعالى، مع امتثاله للأمر، مع اجتنابه للنهي، مع توبته إن زلت قدمه في بؤرة معصية، ومع ذلك فهو يخشى الله جل وعلا. أيها الأحبة: هاهو نبينا صلى الله عليه وسلم -والحديث رواه البخاري وغيره- لما مات عثمان بن مظعون رضي الله عنه -وعثمان بن مظعون أول من لقب بالسلف الصالح، وأول من دفن بالبقيع، وممن شهدوا بدراً، والرسول يقول: (لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم-)؛ ثبت في رواية ضعف سندها بعض أهل العلم: أنه لما مات قبّله النبي صلى الله عليه وسلم بين عينيه وبكى، وسالت دموع النبي على خدي عثمان رضي الله عنه. هذا الرجل المبارك لما مات قالت امرأة من الأنصار يقال لها أم العلاء: (رحمة الله عليك أبا السائب) تقصد عثمان بن مظعون، ثم قالت أم العلاء: (شهادتي عليك أن الله أكرمك، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: وما يدريك أن الله أكرمه؟! قالت: سبحان الله فمن؟!) تعني: فمن هذا الذي يكرمه الله إن لم يكرم الله عثمان بن مظعون؟ (فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما هو فقد جاءه الحق وقد جاءه اليقين، ووالله إني لأرجو له الخير، ثم قال -بأبي هو وأمي-: والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي ولا بكم). وهاهو عمر فاروق الأمة الأواب الذي شهد له النبي صلى الله عليه وسلم شهادة لم تتردد في أذن التاريخ بعدها أبداً حين قال: (إيه يا ابن الخطاب! والذي نفسي بيده لو رآك الشيطان سالكاً فجاً لتركه لك، وسلك فجاً غير فجك)، والحديث في الصحيحين، وعندما ينام على فراش الموت وجرحه يتفجر دماً، ويدخل عليه ابن عباس رضي الله عنهما فيقول: (أبشر ببشرى الله لك يا أمير المؤمنين! فلقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسنت صحبته، ثم توفي رسول الله وهو عنك راض، وصحبت أبا بكر فأحسنت صحبته، ثم توفي أبو بكر وهو عنك راض، وصحبت أصحاب رسول الله فأحسنت صحبتهم، ولئن توفيت اليوم فوالله إنهم عنك لراضون، ثم شهادة في سبيل الله، فبكى عمر وقال: والله إن المغرور من غررتموه! والله إني لأرجو أن أترك الدنيا لا لي ولا علي، ثم بكى وقال: والله لو أن لي طلاع الأرض -أي ملء الأرض- ذهباً لافتديت به اليوم من عذاب الله قبل أن أراه) وهذا معاذ بن جبل مقدام العلماء، وإمام الحكماء، سيد من سادات الصالحين الأتقياء، السمح السري، السهل السخي، حبيب الحبيب النبي، لما ابتلي بالطاعون في بلاد الشام، ونام على فراش الموت، قال لأصحابه: انظروا هل أصبح الصباح؟ فنظر أحدهم وقال: لا. لما يصبح الصباح بعد! فسكن معاذ، ثم قال مرة أخرى: انظروا هل أصبح الصباح؟ قالوا: لا بعد! فسأل في الثالثة: هل أصبح الصباح؟ قالوا: لا بعد! فبكى معاذ بن جبل وقال: أعوذ بالله من ليلة صباحها إلى النار، ثم رفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم إني كنت أخافك وأنا اليوم أرجوك، اللهم إنك تعلم أنني ما أحببت الدنيا لجري الأنهار ولا لغرس الأشجار، وإنما لمكابدة الساعات، وظمأ الهواجر، ومكابدة الساعات، ومزاحمة العلماء في مجالس الذكر)، ثم فاضت روحه إلى الله جل وعلا. وهذا سفيان الثوري ينام على فراش الموت، فيدخل عليه حماد بن سلمة فيرى سفيان يبكي بكاءً شديداً وهو إمام الزهد والعلم والورع، فيقول رجل في مجلسه: يا إمام! أتخشى ذنوبك؟! فيأخذ سفيان عوداً صغيراً من الأرض ويقول: لا والله لذنوبي أهون عندي من هذا، ثم بكى سفيان الثوري وقال: ولكني والله أخشى أن يسلب إيماني قبل الموت. وهذا الشافعي الإمام العلم، ينام على فراش الموت، فيدخل عليه المزني فيقول: كيف حالك يا إمام؟ فيقول الشافعي: أصبحت من الدنيا راحلاً، وللإخوان مفارقاً، ولربي ملاقياً، ولا أدري أتصير روحي إلى الجنة فأهنيها، أم إلى النار فأعزيها. هؤلاء هم الصالحون مع صلاحهم يخشون الله، قلوب وجلة، قلوب خاشعة خاضعة لا تغتر بعلم، ولا تغتر بعمل، ولا تغتر بتعبد، ولا تغتر بمكان أو بمكانة أو بجاه.

قلوب الصالحين تقية

قلوب الصالحين تقية ثالثاً: قلوب الصالحين قلوب تقية، فأصل التقوى أيها الأفاضل أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه ويحذره وقاية، هذا هو التأصيل اللغوي للتقوى، فالتقوى مصدر مأخوذ من: اتقى يتقي وقاية، والوقاية: أن تجعل بينك وبين ما تخافه وتحذره وقاية. وأصل التقوى في الاصطلاح أن يجعل العبد بينه وبين غضب الله وسخطه وعذابه وقاية، هذه الوقاية هي فعل الطاعات واجتناب المعاصي، وقد أصلنا لغة واصطلاحاً أن الصلاح سلوك سبيل الهدى، والعبد الصالح هو المستقيم على طاعة الله، القائم بما عليه من حقوق لله جل وعلا وحقوق لخلق الله، فقلوب الصالحين قلوب تقية نقية. التقوى ليست كلمة ولا محاضرة، ولكنها منهج متكامل، بل ستعجب أيها الحبيب إذا علمت أن التقوى هي الغاية من العبادة التي خلق الله من أجلها الخلق كله، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] وبين ربنا أن الغاية من العبادة هي التقوى، فقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21]؛ لذا كانت التقوى وصية الله للأولين والآخرين من خلقه، قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131]. وكانت التقوى وصية النبي صلى الله عليه وسلم لجميع أمته، كما في سنن الترمذي بسند صحيح من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه وفيه قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة، وجلت منها القلوب؛ وذرفت منها العيون، فقلنا: كأنها موعظة مودع! فأوصنا يا رسول الله! فقال: أوصيكم بتقوى الله عز وجل) الحديث. وكانت التقوى وصية السلف لبعضهم البعض، أوصى بها الصديق عمر، فقال: (اتق الله يا عمر)، وأوصى بها عمر ولده عبد الله قال: (يا بني! أوصيك بتقوى الله، فإنه من اتقاه وقاه، ومن أقرضه جزاه، ومن شكره زاده)، وأوصى بها عمر بن عبد العزيز أحد إخوانه فقال: أوصيك بتقوى الله التي لا يقبل غيرها، ولا يرحم إلا أهلها، ولا يثيب إلا عليها، فإن العاملين بها قليل، وإن الواعظين بها كثير، جعلنا الله وإياكم من المتقين، وأسأل الله أن يجعلنا من الواعظين العاملين بها، إنه على كل شيء قدير. وأوصى بها ابن السماك أحد إخوانه فقال: أوصيك بتقوى الله الذي هو نجيك في فريضتك، ورقيبك في علانيتك، فاجعل الله من بالك على كل حالك، في ليلك ونهارك، وخف الله بقدر قربه منك، وقدرته عليك، واعلم أنك بسلطانه، واعلم أنك لا تخرج من سلطانه إلى سلطان غيره، ولا من ملكه إلى ملك غيره، فليعظم منه حذرك وليكثر منه وجلك، والسلام. فقلوب الصالحين قلوب تقية، استقامت على الإيمان، واستقامت على الطاعة، واستقامت على السنة، وهذا هو سبيل الصالحين ودربهم، أسأل الله أن يجعلنا من الأتقياء الأنقياء، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

سلامة قلوب الصالحين من الأمراض

سلامة قلوب الصالحين من الأمراض قلوب الصالحين رزقها الله تبارك وتعالى صفات جليلة عظيمة كريمة، وأعظم هذه الصفات أيها الأفاضل أنهم أصحاب قلوب سليمة، ففتش أيها الصالح في سلامة قلبك، فوالله لا نجاة لك في الدنيا والآخرة إلا بقلب سليم، قال تعالى: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89] ما القلب السليم؟ قال ابن القيم رحمه الله: لا يسلم القلب حتى يسلم من خمسة أشياء: حتى يسلم من شرك يناقض التوحيد، ومن بدعة تناقض السنة، ومن غفلة تناقض الذكر، ومن شهوة تناقض الأمر، ومن هوى يناقض الإخلاص. فقلوب الصالحين قلوب سليمة، سلمت من الشرك، سلمت من الشك، سلمت من الغل، سلمت من الحقد، سلمت من الحسد، سلمت من البدع، سلمت من الغفلة، سلمت من الشهوة، سلمت من الهوى، ففتش عن هذه الصفات في قلبك أيها الحبيب، وفتشي يا أختاه عن هذه الصفات؛ لنعلم لماذا تأخر النصر؛ ولنعلم لماذا هزمت الأمة، فالله تبارك وتعالى لا يجامل أحداً من خلقه مهما ادعى هذا المخلوق لنفسه من مقومات المجاملة والمحاباة. لقد غضب المسلمون يوم هزموا في أحد وقالوا: كيف نهزم وعدونا هم المشركون! كيف نهزم وقائدنا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم! وكان الجواب أيها الأحبة في قول الله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165]. فتش في نفسك! فتش في قلبك! فتش في عملك! فتش في حالك! والله ما هزمت الأمة إلا يوم أن انحرفت عن منهج الله، والله ما هزمت الأمة إلا يوم انحرفت عن عقيدة التوحيد بشمولها وكمالها وصفائها وجلائها، إلا يوم أن سلكت درباً بعيداً عن درب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال جل وعلا: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الأنفال:53] وقال جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]. فسلامة القلب أيها الأفاضل هي الخطوة العملية الأولى على الطريق، والله لن تنصر الأمة أبداً بمظاهرات، ولا بحرق أعلام أو ماكتات، ولا بنشاط صحفية ساخنة، ولا بمؤتمرات هنا أو هناك، وإنما ستنصر الأمة إن جددت إيمانها بالله، وإن صححت معتقدها في الله، وإن سارت من جديد على درب سيدنا رسول الله، ورددت مع السابقين الصادقين الأولين قولتهم الخالدة: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285]. واسمحوا لي أن أقول: إن عقيدة التوحيد أيها الأفاضل قد ذبحت اليوم في الأمة شر ذبحة، وعقيدة التوحيد هي الخطوة العملية الأولى على طريق النصر، ولا ينبغي أن نترك التوحيد في أي مرحلة من مراحل البناء، لأن التوحيد لا ينتقل منه إلى غيره، بل ينتقل معه إلى غيره في كل خطوة على الطريق، وفي كل مرحلة من مراحل البناء والإعداد والتعمير. فقلوب الصالحين قلوب سليمة، ولا أريد أن أطيل في كل صفة، وإلا فوالله لو أطلت النفس مع كل صفة لاحتجت إلى محاضرة كاملة، نسأل الله جل وعلا أن نكون منهم بمنه وكرمه.

ذوق القلوب الصالحة لطعم الإيمان

ذوق القلوب الصالحة لطعم الإيمان ثانياً: قلوب الصالحين قلوب ذاقت طعم الإيمان، قال جل وعلا: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97]،والحياة الطيبة أيها الصالحون أيها الصادقون! أيها المؤمنون! هي حياة الإيمان: ولست أرى السعادة جمع مال ولكن التقي هو السعيد هذه هي الحياة الحقيقية، حياة القلوب، حياة الأرواح، ولا يذوق طعم الإيمان ولا يحيا هذه الحياة الكريمة الطيبة إلا من خرج من ضيق الجهل إلى فضاء العلم، ومن سجن الهوى إلى ساحة الهدى، ومن نجاسة النفس إلى طهارة القدس، فالإيمان ليس كلمة ترددها الألسنة دخاناً في الهواء، كلا كلا! ولكن الإيمان الذي ينقل الأمة الآن بإذن الله من حالة الذل والهوان التي تحياها إلى حال العز والكرامة التي يجب أن تكون فيها، هذا الإيمان قول باللسان، وتصديق بالجنان، وعمل بالجوارح والأركان! هذا الإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي والزلات، هذا الإيمان هو حصن الأمان لهذه الأمة! هذا الإيمان هو سفينة نوح التي يجب على الأمة الآن أن تركبها وسط هذه الرياح الهوجاء، والفتن المتلاطمة! هذا الإيمان هو الذي حول الصحابة من رعاة للإبل والغنم إلى سادة وقادة للدول والأمم! هذا الإيمان هو الذي انتزع حنظلة من بين أحضان عروسه لينال شرف الشهادة في سبيل الله! هذا الإيمان هو الذي جعل طلحة يدافع بين يدي رسول الله ويلتفت إليه ويقول: نحري دون نحرك يا رسول الله، هذا الإيمان هو الذي جعل خبيب بن عدي حين اقترب منه أبو سفيان وقد وضع على خشبة الصلب في التنعيم وقال له أبو سفيان: يا خبيب! أيسرك أن يكون محمد في موضعك الذي أنت فيه الآن لنضرب عنقه، وأنت في أهلك معافى؟! قال خبيب: لا والله، ما يسرني أن تصيب رسول الله صلى الله عليه وسلم في موضعه الذي هو فيه الآن شوكة تؤذيه وأنا في أهلي معافى، فقال أبو سفيان قولته الخالدة: والله ما رأيت أحداً يحب أحداً كما رأيت أصحاب محمد يحبون محمداً! هذا الإيمان أيها الأفاضل هو صمام الأمان لهذه الأمة، وهو حصن الأمان، وهو المحرك الحقيقي لها، ولذا إن رأيت أن النصر قد تأخر فاعلم أن القاعدة المؤمنة ما توفرت بعد بنص القرآن، قال جل جلاله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55] وقال جل وعلا: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8] وقال جل وعلا: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]. فلا بد أن نحقق الإيمان الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وله أركانه، له طعمه، له حلاوته، له نوره؛ ففي صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن جبريل سأل نبينا الجليل: (ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره). والإيمان له طعم، ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً)، والإيمان له حلاوة كما في الصحيحين من حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار). وهذا الإيمان له نور، ففي الحديث الذي رواه أبو نعيم والديلمي بسند حسن من حديث علي أن الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من القلوب قلب إلا وله سحابة كسحابة القمر، فبينا القمر مضيء إذ علته سحابة فأظلم، فإذا جلت عنه أضاء)، فكما أن السحابة تحجب نور القمر عن الأرض، كذلك تحجب سحب المعاصي نور الإيمان في القلب، فإذا انقشعت سحابة السماء عاد نور القمر إلى أهل الأرض، وإذا انقشعت سحابة المعاصي عن القلوب بالتوبة إلى علام الغيوب، عاد الإيمان في القلب إلى إشراقه ونوره مرة أخرى. وقد ذكرت عن حذيفة في تقسيمه للقلوب قوله: (قلب أجرد فيه سراج يزهر فذلك قلب المؤمن) فقلوب الصالحين قلوب ذاقت طعم الإيمان، أسأل الله جل وعلا أن يذيقنا وإياكم حلاوة الإيمان، وأن يملأ قلوبنا وإياكم بنور الإيمان، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

كيف نحقق صلاح القلوب

كيف نحقق صلاح القلوب

المواظبة على مجالس الذكر والعلم

المواظبة على مجالس الذكر والعلم وأخيراً: المواظبة على مجالس الذكر والعلم: ففي هذه المجالس يزداد إيمانك، وتزداد معرفتك بربك، وتزداد معرفتك بنبيك صلى الله عليه وسلم، واعلم بأنه لا يشقى جليس لهؤلاء الصالحين السعداء الذين حضروا مجلس العلم ليسمعوا عن الله وعن رسول الله، والحديث بطوله في الصحيحين وفي آخره: يسأل الله عز وجل الملائكة عن عباده في مجلس العلم، وأخيراً يقول ملك: يا رب! إن فيهم فلاناً لم يأت لمجلس العلم، إنما جاء لحاجة، أي: من حوائج الدنيا، فيقول الله عز وجل: هم القوم لا يشقى جليسهم. فاحرص على مجلس علم تتعرف فيه على أصول دينك، وعلى أركان إيمانك، وعلى ربك ونبيك صلى الله عليه وسلم، لا سيما ونحن نعيش زمان الفتن، فمن الواجب على كل مسلم أن يراجع العلماء، وأن يجلس بين أيديهم قبل أن يتكلم وقبل أن يخطو على الطريق خطوة، والله تبارك وتعالى أسأل أن يرزقنا وإياكم الصلاح، وأن يجعلنا من الصالحين. اللهم ارزقنا الصلاح واجعلنا من الصالحين، اللهم ارزقنا الصلاح واجعلنا من الصالحين، اللهم لا تدع لأحد منا في هذا الجمع الكريم المبارك ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا ميتاً لنا إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا طائعاً بيننا إلا زدته وثبته، ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا رب العالمين! اللهم اجعل يا سيدي جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا شقياً، ولا محروماً. اللهم أنج المسلمين المستضعفين في كل مكان، اللهم أنج المسلمين المستضعفين في فلسطين، اللهم أنج المسلمين المستضعفين في العراق، اللهم أنج المسلمين المستضعفين في الشيشان، اللهم أنج المسلمين المستضعفين في أفغانستان، اللهم إنهم حفاة فاحملهم، عراة فاكسهم، جوعى فأطعمهم، اللهم لا تخذلهم بذنوبنا وذنوبهم، اللهم لا تخذلهم بذنوبنا وذنوبهم. اللهم إني أسأل أن تجعل دولة قطر أمنا أماناً سخاءً رخاءً، اللهم لا تحرم هذا البلد من نعمة الأمن والأمان وجميع بلاد المسلمين، اللهم لا تحرم هذا البلد من نعمة الأمن والأمان وجميع بلاد المسلمين، اللهم استر نساءنا واحفظ بناتنا، واهد أولادنا وأصلح شبابنا، ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً. هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو نسيان فمني ومن الشيطان، وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون عليه إلى الجنة ويرمى به في جهنم، ثم أعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. والسلام عليكم ورحمة الله.

الاجتهاد في الطاعات

الاجتهاد في الطاعات ثالثاً: الاجتهاد في الطاعات من أعظم السبل لتحقيق الصلاح: فمن ذلك المحافظة على الصلوات الخمس في جماعة، المحافظة على الورد اليومي للقرآن، المحافظة على أذكار الصباح والمساء، المحافظة على الدعوة إلى الله بحكمة بالغة، المحافظة على الأمر بالمعروف بمعروف، والنهي عن المنكر بغير منكر، المحافظة على الإحسان للفقراء والمساكين، الحرص على زيارة المرضى، الحرص على زيارة المقابر، الحرص على الإحسان لكل من يريد الإحسان، اجتهد في الطاعات ولا تنس أن تقوم بالليل لله عز وجل ركعات، فالليل أنس المحبين، وروضة المشتاقين. وإن لله عباداً يراعون الظلال بالنهار كما يراعي الراعي غنمه، ويحنون إلى غروب الشمس كما تحن الطير إلى أوكارها، حتى إذا ما جنهم الليل، واختلط الظلام، وبسطت الفرش، وخلا كل حبيب بحبيبه، قاموا فنصبوا إلى الله أقدامهم، وافترشوا على الأرض جباههم، وناجوا ربهم بقرآنه، وطلبوا إحسانه وإنعامه، يقسم ابن القيم ويقول: والله إن أول ما يمنحهم ربهم أن يقذف من نوره في قلوبهم، وقال صلى الله عليه وسلم: (عليكم بقيام الليل؛ فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقربة إلى ربكم، ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم).

مصاحبة الصالحين

مصاحبة الصالحين رابعاً: مصاحبة الصالحين: أكثر من صحبة الصالحين، الأموات منهم والأحياء، اصحب الأموات من الصالحين بمطالعة سيرهم، والوقوف على أخبارهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي)، ويقول كما في الصحيحين: (مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير). أيها الشاب الحبيب! أيها الوالد الكريم! أيتها الأخت الفاضلة! خذوا القرار بقوة ورجولة، واصحبوا الأخيار والصالحين، فإن صحبتهم تذكر بالله جل وعلا، وتذكر بالآخرة، وتحول بين العبد وبين المعصية، فشتان بين من يذكرك بالله وبين من يذكرك بالشيطان! شتان بين من يأخذ بيدك إلى طريق رسول الله وبين من يأخذ بيدك إلى طريق الشيطان! اصحب الصالحين من الأموات بمطالعة سيرهم، قال إمام الجرح والتعديل علي بن المديني رحمه الله تعالى: لقد أعز الله الدين يوم الردة بـ أبي بكر، وأعز الله الدين يوم المحنة بـ أحمد بن حنبل الصالحون فضلهم عظيم والله على هذه الأمة، اصحبهم لتسير على دربهم. واصحب الصالحين من الأحياء ممن تتوسم فيهم الصلاح، وسترى أن هذا فتح الله عليه في القرآن، وهذا فتح الله عليه في طلب العلم، وهذا فتح الله عليه في الإنفاق، وهذا فتح الله عليه في الخلق، فاضرب مع كل هؤلاء بسهم، وسل الله جل وعلا أن يحشرك مع الصالحين.

صدق الاستعانة بالله

صدق الاستعانة بالله أولاً: صدق الاستعانة بالله جل وعلا، فالله تبارك وتعالى هو الذي يحول القلوب، وهو الذي يملك القلوب، قال سبحانه: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [المدثر:31] وقال سبحانه: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56] وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69]، فأمر القلوب وأمر الهدى بيد الله، فسل الله جل وعلا أن يهدي قلبك، وأن يرزقك الصلاح، وأن يرزقك الإيمان، وأن يرزقك الاستقامة على طريق الله، وعلى طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

مراقبة آفات النفس

مراقبة آفات النفس ثانياً: مراقبة آفات النفس، والعمل مع رؤية الفضل والنعم: راقب آفات نفسك، قبل أن تتكلم وبعد أن تتكلم، قبل أن تعمل وبعد أن تعمل، وقل لها: لماذا أتكلم؟ لماذا أصمت؟ لماذا أدخل؟ لماذا أخرج؟ لماذا أقوم؟ لماذا أغضب؟ لماذا أفرح؟ لماذا أوالي؟ لماذا أعادي؟ لماذا أعطي؟ لماذا أمنع؟ سل نفسك، فتش عن آفات النفس، فالنفس أمارة وهي عدو خطير بين جوانبنا لا نفطن إليه، ولن نتمكن ورب الكعبة من رفع السيف أبداً إلا إذا تمكنا من الانتصار على هذه النفس الأمارة بالسوء: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [يوسف:53]. فانظر إلى عيبك وآفات نفسك لتنظر في الوقت ذاته إلى فضل الله عليك، ونعم الله عليك، مع ما أنت فيه من عيب ونقص وتقصير، لتعلم أن كل نعمة وفضل إنما هي محض فضل الله عليك، ولو عاملك الله تبارك وتعالى بما أنت عليه من عيب وتقصير ما من الله عليك بهذه النعم وهذا الفضل، فانظر إلى عيب النفس، وانظر في الوقت ذاته إلى فضل الله عليك، ونعم الله عليك، وستر الله عليك، لتجدد التوبة بعد كل معصية، ولتعمل صالحاً يرضي الله سبحانه وتعالى.

النبي القدوة

النبي القدوة لقد جعل الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة لنا، فأدبه الله تعالى وأحسن تأديبه، حتى كان من العظمة والقدوة بالمحل الأعلى، وقد حول تعاليم الإسلام إلى منهج عملي، وتعامل مع الخلق مؤمنين وكفاراً، كباراً وصغاراً وفق ذلك المنهج، فإذا أراد المسلمون أن تعود لهم الكرامة والعزة، فعليهم باتباع نهجه والاقتداء بسلوكه الكريم عليه الصلاة والسلام.

عظمة الرسول صلى الله عليه وسلم

عظمة الرسول صلى الله عليه وسلم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة فكشف الله به الغمة. فاللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحيا الله هذه الوجوه المشرقة الطيبة، وزكى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور، وطبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة في جنته ودار مقامته، إنه ولي ذلك ومولاه.

أمة محمد أولى الأمم اعتزازا بماضيها

أمة محمد أولى الأمم اعتزازاً بماضيها أحبتي في الله! النبي القدوة صلى الله عليه وسلم، هذا هو عنوان محاضرتنا مع حضراتكم في هذه الليلة الطيبة، ودعونا ندع اللقاء مفتوحاً دون تقييد أو تحديد؛ لأن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث جميل رقيق رقراق طويل لا حد لمنتهاه. أيها الأحبة! إذا كان الوقوف على الماضي لمجرد البكاء والنحيب والعويل فهذا شأن الفارغين العاطلين، وازدراء الماضي بكل ما فيه من خير ونور شأن الحاقدين الجاهلين، ولقد حاول أعداء الأمة بكل سبيل أن يضعوا بين الأمة وبين هذا الماضي المجيد المشرق الوضيء الطاهر الحواجز والموانع والسدود، حتى لا تستمد الأمة من هذا الماضي نوراً يضيء لها الطريق، ودماء زكية لتتدفق في عروق مستقبلها وأجيالها، مع أن كل أمم الأرض تفخر بماضيها وتفخر برجالها، وتفخر بأبنائها، وأولى أمم الأرض بهذا الاعتزاز والفخار بجدارة واقتدار، بل وبشهادة العزيز الغفار هي أمة نبينا المختار، قال جل وعلا: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]، فلا ينبغي أبداً -مع هذا الواقع النازف- أن نجرد الأمة من خيريتها، ولا ينبغي أبداً -مع حالة الضعف التي تعتري الأمة الآن- أن نسلب الأمة مكانتها التي أرادها لها ربها تبارك وتعالى، فشتان بين الإيمان والكفر! وشتان بين الطاعة والمعصية، قال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:35 - 36]، وقال تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ} [السجدة:18]، قال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28]. أين الثرى من الثريا؟ وأين الأرض من كواكب الجوزاء؟ وأين الحق من الباطل؟ وأين الليل من النهار؟ لا يلتقيان أبداً. هذه الأمة هي أولى أمم الأرض بالاعتزاز والفخار، فلقد أنجبت الأمة على طول تاريخها رجالاً سيظل التاريخ يقف أمام سِيرَهِمْ وقفة إعزاز وإجلال وإكبار، وعلى رأس هذه الأمة قدوتنا الأعظم وأسوتنا ومعلمنا ونبينا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم، فهو الطاهر الذي فاضت طهارته على العالمين، وهو الأسوة والقدوة والمثل الأعلى، وما أحوج الأمة الآن إلى هذه القدوة وإلى هذا المثل الأعلى لاسيما ونحن نعيش زماناً قَلَّتْ فيه القدوة من ناحية وقدم فيه كثير من التافهين ليكونوا القدوة من ناحية أخرى.

النبي صلى الله عليه وسلم يحول الإسلام إلى منهج عملي

النبي صلى الله عليه وسلم يحول الإسلام إلى منهج عملي إن الأسوة والقدوة لهذه الأمة هو محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وقد يكون من اليسير جداً -أيها الأحباب! - أن نضع منهجاً نظرياً في التربية، لكن هذا المنهج سيظل حبراً على الورق، وسيظل حبيس الأشرطة والمجلدات ما لم يتحول هذا المنهج في حياتنا إلى منهج حياة وإلى واقع عملي. لقد استطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يحول هذا المنهج التربوي الإسلامي إلى منهج حياة، وذلك يوم أن نجح في طبع عشرات الآلاف من النسخ من هذا المنهج، لكنه صلى الله عليه وسلم لم يطبعها بالحبر على صحائف الأوراق، وإنما طبعها على صحائف قلوب أصحابه بمداد من التقى والهدى والنور، فانطلق هذا الجيل المبارك؛ ليُحَوِّلَ مع هذه القدوة الطيبة والمثل الأعلى؛ هذا المنهج الذي رآه هذا الجيل منهجاً في دنيا الناس يتحرك، فصدقوا أن هذا المنهج ما أنزله الله إلا للتطبيق، إذ لو شاء الله لأنزل بهذا المنهج ملكاً، ولقال الناس ساعتها: هذا ملك من الملائكة، لكن شاء الله وقدر أن يحول الناس هذا المنهج الرباني في دنياهم إلى منهج حياة وإلى واقع عملي. شاء الله وقدر أن يرسل الأسوة الحسنة والقدوة الطيبة والمثل الأعلى محمداً صلى الله عليه وسلم؛ ليحول هذا المنهج الرباني في دنيا الناس إلى منهج عملي، لذا قالت عائشة رضي الله عنها حين سئلت عن خلقه صلى الله عليه وسلم: (كان خلقه القرآن)، وقد قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21]. فالأسوة الحسنة والقدوة الطيبة والمصطفى والمجتبى من بين العالمين هو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي شرح الله له صدره، ورفع الله له قدره، وأعلى الله له ذكره، وطهره ورفعه وكرّمه على جميع العالمين، وزكّاه جل وعلا في كل شيء. زكاه في عقله، فقال سبحانه: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم:2]. زكاه في بصره فقال سبحانه: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17]. زكاه في فؤاده فقال سبحانه: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11]. زكاه في صدره فقال سبحانه: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1]. زكاه في ذكره، فقال سبحانه: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:4]. زكاه في طهره، فقال سبحانه: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ} [الشرح:2]. زكاه في علمه، فقال سبحانه: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:5]. زكاه في صدقه، فقال سبحانه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3]. زكاه في حلمه، فقال سبحانه: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]. وزكاه كله، فقال سبحانه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]. أغر عليه للنبوة خاتم من الله من نور يلوح ويشهد وضم الإله اسم النبي إلى اسمه إذا قال في الخمس المؤذن أشهد وشق له من اسمه ليجله فذو العرش محمود وهذا محمد

رسول الله قدوة في شتى مجالات الحياة

رسول الله قدوة في شتى مجالات الحياة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عجيبة من عجائب الكون، وآية من آيات الله، ومعجزة من معجزات الله في هذه الأرض -وتدبروا معي هذا التأصيل الذي لابد منه- فهو رسول يتلقى الوحي من السماء ليربط الأرض بالسماء بأعظم رباط وأشرف صلة، وهو رجل سياسة، يقيم للإسلام دولة من فتات متناثر، وسط صحراء تموج بالكفر موجاً، فإذا هي بناء شامخ لا يطاوله بناء في فترة لا تساوي في حساب الزمن شيئاً على الإطلاق، وهو رجل حرب يضع الخطط ويقود الجيوش بنفسه، بل إذا حمي الوَطِيْسُ واشتدت المعارك وفر الأبطال والشجعان، وقف على ظهر دابته لينادي على الجمع بأعلى صوته ويقول: (أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب) وهو رب أسرة كبيرة تحتاج إلى كثير من النفقات من نفقات الوقت والفكر والتربية والشعور، فضلاً عن النفقات المادية، فيقوم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الدور على أعلى وأثم وجه شهدته الأرض وعرفه التاريخ. فهو صلى الله عليه وسلم رجل إنساني من طراز فريد كأنه ما خلق في الأرض إلا ليمسح دموع البائسين، وليضمد جراح المجروحين، وليذهب آلام البائسين المتألمين. وهو رجل عبادة قام بين يدي الله حتى تورمت قدماه، فلما قيل له: أولم يغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال قولته الجميلة: (أفلا أكون عبداً شكوراً). هو رجل دعوة أخذت عرقه ووقته وفكره وروحه، قال له ربه: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:1 - 2]، فقام ولم يذق طعم الراحة حتى لقي ربه جل وعلا، فرسول الله صلى الله عليه وسلم ما تعلقت به قلوب أصحابه إلا لأنه قدوة، ما أمرهم بأمر إلا وكان أول المنفذين له، وما نهاهم عن نهي إلا وكان أول المنتهين عنه، وما حد لهم حداً إلا وكان أول الوقافين عند هذا الحد.

حاجة الناس إلى القدوة

حاجة الناس إلى القدوة أيها الأحباب! الناس بحاجة إلى قدوة وليسوا بحاجة إلى منظرين ينظرون تنظيراً بارداً، باهتاً لا علاقة له بالصدق ولا بالواقع. لما رأى الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم يحول هذا المنهج الرباني والنبوي في حياتهم إلى منهج عملي تعلقت به القلوب، فالقلوب تتعلق بالجمال كأمر فطري جبلي، فكيف بمن جمع الله له الجمال والكمال خَلقاً وخُلقاً؟

افتقاد الناس للقدوة الحسنة

افتقاد الناس للقدوة الحسنة أيها الأحباب! إن مشكلتنا الآن أن كثيراً من أبنائنا وإخواننا قد افتقدوا القدوة في كل ميادين الحياة في الجانب الدعوي وإن كنا نرى المنظرين ونسمع المتحدثين في البيوت فقد افتقدت كثير من البيوت القدوة في كثير من مناحي الحياة، فنحن نحتاج الآن إلى قدوة تشهد لهذا الإسلام بخلقها وسلوكها وقولها وعملها لا إلى منظر سلبي بارد لا يمت تنظيره إلى واقعه أو إلى قوله أو فعله وخلقه بأدنى صلة. مشى الطاوس يوماً باختيال فقلده شكل مشيته بنوه فقال: علام تختالون قالوا بدأت به ونحن مقلدوه وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوده أبوه أنا لا أريد أن أطوف بحضراتكم في بستان النبي الماتع، فهذا الأمر يحتاج إلى سنوات ورب الكعبة، ولكنني فقط أردت بهذا العنوان وسط هذه الفتن الهائجة والأمواج المتلاطمة أن أقف بحضراتكم في هذا البستان الماتع وقفة متأنية في كيفية تعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الناس؛ لأننا قد افتقدنا الآن فن التعامل مع الخلق، وقد قلت لحضراتكم بالأمس: قد يكون الحق معنا -و (قد) هنا للتحقيق- لكننا لا نحسن أن نشهد لهذا الحق على أرض الواقع، ولا نحسن أن نشهد لهذا الحق عرضاً للناس على منهج النبي صلى الله عليه وسلم بالحكمة البالغة والموعظة الحسنة، وقد يكون الباطل مع غيرنا، لكنه يحسن أن يلبس الباطل ثوب الحق، ويحسن أن يوصل بالباطل إلى حيث ينبغي أن يصل الحق، وحينئذ ينزوي حقنا ويضعف -كما هو الواقع- وكأنه مغلوب، وينتفخ الباطل وينتفش كأنه غالب، وهنا نتألم لحقنا الذي ضعف وانزوى، وللباطل الذي انتفخ وانتفش، فنعبر عن هذا الألم بصورتين لا ثالث لهما: إما أن نعبر عن ألمنا تعبيراً ساكناً صامتاً سلبياً، فنزداد هزيمة نفسية على هزيمتنا وانعزالاً عن المجتمع والعالم، وإما أن نعبر عن ألمنا هذا تعبيراً صاخباً متشنجاً منفعلاً دموياً انفلت من القواعد الشرعية القرآنية والنبوية، وهنا تكثر الأخطاء وتكثر التجاوزات، وحينئذ نخسر الحق للمرة الثالثة بل للمرة الألف؛ لأن أهل الأرض في الأرض سيزدادون بغضاً للحق الذي معنا، وإصراراً على الباطل الذي معهم، فنخسر الحق الذي من أجله خلق الله السموات والأرض والجنة والنار، ومن أجله أرسل جميع الأنبياء والمرسلين.

تعامل النبي القدوة مع الخلق

تعامل النبي القدوة مع الخلق إن رسول الله هو أسوتنا وقدوتنا، فلننظر أيها الأفاضل! كيف كان يتعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع الخلق؟ وهذا ما أود أن أركز الحديث فيه مع أحبابنا وإخواننا جميعاً. لماذا نجح أهل الباطل في جذب قلوب الجماهير إلى باطلهم، مع أنهم لا يملكون على الإطلاق حجة تقنع عقلاً ولا قلباً، ومع ذلك استطاعوا أن يجذبوا جماهير المسلمين -فضلاً عن أهل الأرض- إلى الباطل الذي معهم؟! انظر كيف يدعو غير المسلِم المسلَم، أو غير المسلم وكيف يخاطبه ويحاوره؟ لماذا نخسر قضيتنا مع أنها قضية مضمونة؟! لماذا صار الإسلام في قفص اتهام؟ بكل أسف لا يوجد إلى الآن مجموعة من المدافعين الصادقين المخلصين الذين يدافعون عن هذا، ولا أقول: يدافعون بل يبينون الحق بالحق وبقوة الإيمان، بل نقف أمام كل تهمة يتهم بها ديننا وقفة الضعيف المهزوم المخذول، الذي يود أن لو وضع أنفه ورأسه في الرمال وكأنه لا يملك حجة ليبلغها لأهل الأرض، بل صارت ردودنا سلبية مهزومة، ونسينا قول الله جل وعلا: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29]. إن مكمن الخطر إلى الآن أننا لم نشهد لهذا الإسلام على أرض الواقع بأخلاقنا وسلوكنا، ولم نبلغ هذا الحق لأهل الأرض كما بلغه أسوتنا وقدوتنا صلى الله عليه وسلم، فإنه ما جهة إلا وخاطبها: خاطب الملوك خاطب الرؤساء خاطب العشائر والقبائل، ما ترك مجلساً من مجالس الكفار إلا وغشيهم في أنديتهم؛ ليبلغهم دين الله بأدب جم بحكمة بالغة بموعظة حسنة بكلمة رقيقة رقراقة، ولو تتبعت منهج رسول الله في البلاغ والدعوة إلى الله لرأيت العجب العجاب حتى مع أكفر أهل الأرض.

تعامله صلى الله عليه وسلم مع ثمامة سيد اليمامة

تعامله صلى الله عليه وسلم مع ثمامة سيد اليمامة أيها الأحبة! تدبروا هذه الرواية كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلاً قبل نجد، فجاءت برجل يقال له: ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة، وربط الصحابة ثمامة في سارية من سواري المسجد النبوي -أي: في عمود- ودخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد فوجد ثمامة بن أثال مربوطاً في السارية، فاقترب النبي صلى الله عليه وسلم منه)، فإذا به يرى ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة، ثمامة الذي أعلن الحرب بضراوة على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى دينه. (فاقترب النبي صلى الله عليه وسلم منه وقال: ماذا عندك يا ثمامة؟! فقال ثمامة: عندي خير يا محمد! إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط من المال ما شئت). قول واضح صريح قوي: (إن تقتل تقتل ذا دم) يعني: إن قتلتني فاعلم بأن دمي لن يضيع هدراً ولن تفرط قبيلتي في هذا الدم. (وإن تنعم تنعم على شاكر)، أي: إن أحسنت إلي وأطلقت سراحي فلن أنسى لك هذا الجميل والمعروف ما حييت، فأنا رجل أصيل لا أنسى إحسان من أحسن إلي. (وإن كنت تريد المال فسل تعط من المال) أي: أما إن كنت تريد المال والفدية فسل تعط من المال ما شئت. (فتركه النبي صلى الله عليه وسلم)، وفي غير رواية الصحيحين: (أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة أن يحسنوا إلى ثمامة). (ثم دخل عليه في اليوم الثاني واقترب منه وقال: ماذا عندك يا ثمامة؟! فقال: عندي ما قلت لك يا محمد! إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فتركه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم دخل عليه في اليوم الثالث، فقال: ماذا عندك يا ثمامة؟! قال عندي ما قلت لك يا محمد! إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أطلقوا ثمامة) أي: لا نريد مالاً ولا جزاءً ولا شكوراً. ولاحظ -أخي- أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أبقاه في المسجد، ولم يأمر بإخراجه، فدل هذا على جواز أن يدخل المشرك المسجد ما لم يدخله بقصد الإهانة والإساءة، وقصد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبقى ثمامة في المسجد ليستمع ثمامة القرآن غضاً طرياً من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليرى النبي صلى الله عليه وسلم كيف يربي الصحابة، وليرى كيف يتعامل الصحابة مع رسول الله، فالمسجد مدرسة تعلم فيها ثمامة في ثلاثة أيام عظمة هذا الدين. أيها الأحباب! منذ متى ونحن ندخل المساجد؟ منذ كم سنة؟ فهل تعلمنا هذا الدين كما ينبغي في بيوت الله وكما علم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثمامة في ثلاثة أيام عظمة وجلال هذا الدين؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أطلقوا ثمامة، فانطلق ثمامة إلى حائط فاغتسل) أولم أقل لك إنه تعلم في المسجد؟ ثم عاد إلى المسجد النبوي ووقف بين يدي رسول الله وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله. اسمع أيها الحبيب اللبيب! إلى قول ثمامة؟ (يا رسول الله! والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فأصبح وجهك الآن أحب الوجوه كلها إلي، والله ما كان على الأرض دين أبغض إلي من دينك فأصبح دينك أحب الدين كله إلي، والله ما كان على الأرض بلد أبغض إلي من بلدك فأصبح بلدك الآن أحب البلاد كلها إلي، ثم قال: يا رسول الله! لقد أخذتني خيلك وأنا أريد العمرة، فبماذا تأمرني؟ فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أمره بإتمام العمرة). قال الحافظ ابن حجر: (فبشره) أي: بالجنة، أو بمغفرة الذنوب، أو بقبول التوبة، وأمره بأن يتم عمرته. أيها الحبيب! انطلق ثمامة إلى مكة شرفها الله فجهر بالتلبية -كما في غير رواية الصحيحين- وهو القائل: ومنا الذي لبى بمكة محرماً برغم أبي سفيان في الأشهر الحرم فلما رفع صوته بالتلبية قام المشركون إليه: من هذا الذي يرفع صوته بالتلبية بين أظهرنا؟ فقاموا إليه وضربوه ضرباً شديداً حتى أنقذه أبو سفيان من بين أيديهم وقال: إنه ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة وأنتم تحتاجون إلى الحنطة من هذه البلاد، فتركوه، فلما سمع ذلك جلس ثمامة، وقال: والله لا تصل إليكم بعد اليوم حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله. خلع رداء الشرك على عتبة الإيمان فوظف كل طاقاته لخدمة دينه، وهذا هو حقيقة الانتماء لهذا الدين. منذ متى قد شرح الله صدورنا لهذا الدين؛ لكن ماذا فعلنا؟ ماذا بذلنا؟ ماذا قدمنا؟ أنت تخطط لمستقبل أولادك ولتجارتك ما لا تخطط عُشر معشاره لدين الله جل وعلا. أيها الأحباب! لو خططنا لهذا الدين عشر ما نخططه لأولادنا وبيوتنا ومستقبل تجاراتنا لغيَّر الله هذا الحال، لكنك قد لا تتذكر العمل لدينك إلا في محاضرة كهذه، أو إذا استمعت شريطاً لرجل من أهل العلم الصادقين، يحترق قلبك حينئذ أنك تنتمي إلى دين يجب عليك أن تضحي من أجله وأن تبذل له أغلى ما تملك. لكن ثمامة رضي الله عنه وظف طاقاته وإمكانياته وعقله وفكره وماله ومكانته لدين الله تبارك وتعالى، وكان ثمامة أول من فرض حصاراً اقتصادياً على الشرك وأهله في مكة، حتى أكلت قريش (العلهز) وهو وبر الإبل مع الجلد، يضعونه على النار ويأكلونه من شدة الجوع، حتى ذهب أبو سفيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ يناشده الله والرحم أن يرسل إلى ثمامة ليخلي بينهم وبين الميرة، فرد عليه معدن الكرم وصاحب الخلق والأسوة الطيبة ورحمة الله للعالمين، وأرسل إلى ثمامة أن خل بينهم وبين الميرة. والشاهد أيها الأفاضل: انظروا كيف حول خلق النبي صلى الله عليه وسلم وأدبه ورحمته وتواضعه البغض في قلب ثمامة إلى حب مشرق وود. انظروا كيف حول خلق النبي صلى الله عليه وسلم البغض في قلب ثمامة إلى حب مشرق وود! انظروا كيف حول الرفق واللين قلبه! وهذه الأمثلة والأحاديث نحفظها، لكنني لا أدري هل نظن هذه الأحاديث ليست لنا؟ ولسنا مكلفين بأن نحولها في حياتنا جميعاً إلى منهج حياة، وإلى واقع عملي؟

تعامله صلى الله عليه وسلم مع شاب جاء يستأذنه في الزنا

تعامله صلى الله عليه وسلم مع شاب جاء يستأذنه في الزنا أيها الأحبة: لقد روى الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح: أن شاباً -تغلي الشهوة في عروقه- جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوماً وقال: يا رسول الله! أتأذن لي في الزنا؟ -يستأذن رسول الله في الزنا- فقال الصحابة: مه! مه! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ادن -أي: اقترب، لم يقل: اطردوه، أخرجوه، أخرجوا هذا النجس الفاسد الفاسق، لا- ويقترب الشاب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسأله النبي صلى الله عليه وسلم برفق وحب وحنان وخلق: أتحبه لأمك؟ فيقول: لا والله يا رسول الله! جعلني الله فداك، فيقول: أتحبه لأختك؟ قال: لا والله يا رسول الله! جعلني الله فداك، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: أتحبه لابنتك؟ أتحبه لخالتك؟ أتحبه لعمتك؟ والشاب يقول: لا والله جعلني الله فداك، فيقول: وكذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم وبناتهم، وأخواتهم، وعماتهم وخالاتهم، ومع كل ذلك يرفع النبي صلى الله عليه وسلم يده المباركة الشريفة ليضعها على صدر هذا الغلام ويدعو الله عز وجل له ويقول: (اللهم اشرح صدره! واغفر ذنبه! وحصن فرجه)، فيخرج الشاب من عند رسول الله ولا يوجد على الأرض شيء أبغض إليه من الزنا. والله يا إخوة! لقد رأت عيني وسمعت أذني، رأيت أخوين من إخواننا العاديين البسطاء في طريقهم إلى مسجد كهذا، وأمام مكان الوضوء وقفا يتحدثان ويبدو أن أحدهما كان على سفر لأنهما تعانقا، وقفا فتحدثا حتى شرع المؤذن في إقامة الصلاة، وإذ بأحد الإخوة يمر عليهما وأراد أن يأمرهما بالتعجيل إلى الصلاة، فنظر إليهما وقال: (صل يا حمار أنت وهوه)، فاقتربت من الأخ وقلت: لا يا أخي! لن يصلوا يا أخي! قال: كيف يا شيخ! قلت: يا أخي! متى فرض الله الصلاة على الحمير؟ الحمير لا تصلي! هل هذه طريقة بلاغ طريقة دعوة طريقة تعامل مع الخلق؟ إننا لا نتعامل أيها الإخوة مع ملائكة بررة، ولا مع شياطين مردة، ولا مع أحجار صَلدةٍ، بل نتعامل مع نفوس بشرية فيها الإقبال والإحجام فيها الحلال والحرام فيها الخير والشر فيها الطاعة والمعصية فيها الفجور والتقوى فيها الهدى والضلال، فلابد أن نكون على بصيرة بمفاتيح هذه النفوس البشرية؛ لنتغلغل إلى أعماق أعماقها، هذا إن كنا قد صدقنا الله بالفعل في أننا نريد أن ننقل الناس من البدعة إلى السنة، ومن الشرك إلى التوحيد، ومن الباطل إلى الحق، ومن الشر إلى الخير، ومن الضلال إلى الهدى، أما إن كنا نعمل من أجل أنفسنا ومن أجل الهوى فذاك شأن آخر، لكن إن كنت تريد بالفعل أن تنقل الناس من الباطل إلى الحق، فبحق، ولن تنقلهم أبداً إلا بحق، قال جل وعلا لنبينا صلى الله عليه وسلم: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]. قال ابن القيم رحمه الله: ولا يكون الرجل من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم حقاً حتى يدعو إلى ما دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم على بصيرة.

تعامله صلى الله عليه وسلم مع الأطفال

تعامله صلى الله عليه وسلم مع الأطفال أيها الإخوة! إننا قد نتألم غاية الألم إن رأينا طفلاً من أطفالنا يجري في المسجد أو يبكي أو يلعب، وربما يُنهر هذا الطفل نهراً ويطرد، وربما يفعل ذلك بعض إخواننا من أئمة المساجد وطلبة العلم، ونعجب من هذا غاية العجب! إن لم نفتح قلوبنا قبل أبواب مساجدنا لأطفالنا وأولادنا؛ ليتعلموا في بيوت الله عن الله ورسوله، فمتى وأين سيتعلم أولاد المسلمين؟ والله لقد نزل النبي صلى الله عليه وسلم من على المنبر حين رأى الحسن يتهادى. نعم. رأى طفلاً صغيراً خرج من بيوته صلى الله عليه وسلم يتهادى، وكان على المنبر فنزل وترك الخطبة، وحمل الحسن وارتقى به المنبر وأجلسه على يمينه على المنبر. بالله ماذا لو صنع إمامٌ هذا الصنيع الآن، ووضعه عن يمينه؟ ثم أخذ النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى الحسن مرة وإلى الناس مرة، ثم قال: (إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين) -يا ألله! - وهذا قبل الفتنة بسنوات؛ لكن الشاهد أن ننظر كيف نزل النبي صلى الله عليه وسلم من على منبره، وحمل الحسن وهو طفل صغير، وأجلسه عن يمينه على المنبر؟ بل لقد روى مسلم من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: (صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الغداة، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيته فاستقبله الولدان، فجعل النبي عليه الصلاة والسلام يمسح على خدي أحدهم واحداً واحداً) هل فعلنا ذلك مع أولادنا؟ يقول جابر رضي الله عنه الذي لم ينس هذا: (ومسح النبي صلى الله عليه وسلم على خدي، فوجدت ليده برداً وريحاً كأنما أخرجهما من جُونةِ عَطَّار) صلى الله عليه وسلم.

واجبنا في تعليم أطفالنا القدوة

واجبنا في تعليم أطفالنا القدوة أيها الإخوة! لا أنسى ذلك الرجل الحبيب العاقل حين كنت أعمل خطيباً لبيت من بيوت الله في مدينة القصيم، وجاء هذا الوالد الكريم وقال لي: يا شيخ محمد ولدي يحبك، قلت: الحمد لله، قال: وسآتي به لأول مرة لصلاة الجمعة في الجمعة المقبلة إن شاء الله، قلت: أهلاً وسهلاً به. قال: ولكنني أحضرت هذه الهدية لتضعها في منبرك، فإذا أنهيت الخطبة سآتي به؛ لتسلم عليه، فأرجو منك أن تصافحه، وأن تقبله، وأن تدعو الله له، وأن تعطيه هذه الهدية ليزداد حباً لك ولبيت الله جل وعلا. فَهم راقٍ انظر كيف يخطط الوالد لولده؟! كيف يغرس الوالد هذا الحب في قلب ولده بأسلوب يتناسب مع طفل. وهذه المواقف -أيها الأحباب- لا ينساها أطفالنا أبداً، فكافئ ولدك بمكافأة؛ لأنه حفظ جزءاً من كتاب الله، فإنه لا ينسى أبداً هذه المكافأة، بل سيظل يحتفظ بها وهو في غاية السعادة. اغرس في قلب ولدك حب العقيدة، فهذا خلق أسوتنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن عباس: (كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم يوماً على حمار، فقال صلى الله عليه وسلم: يا غلام! احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف). روى مسلم في صحيحه قال: حدثنا أبو خيثمة زهير بن حرب عن كهمس عن وكيع عن عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر قال: (كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني -يعني كان أول من قال بنفي القدر في البصرة معبد الجهني - قال: فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر؟ قالا: فوقف لنا عبد الله بن عمر داخلاً المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، وظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي، فقلت: أبا عبد الرحمن -ينادي ابن عمر - إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن ويتقفرون العلم -أي يبحثون عن غوامض العلم وخوافيه ودقائق مسائله- ويزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف -أي: لا يعلم الله الأشياء إلا بعد وقوعها وحدوثها- فقال عبد الله بن عمر: إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني، فوالذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر، ثم قال: حدثني أبي عمر بن الخطاب قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد) وساق الحديث بطوله. والشاهد: قول عبد الله بن عمر: (حدثني أبي عمر عن رسول الله)، فهل قال ولدك: حدثني أبي عن فلان الصحابي عن رسول الله؟ هل جلست مع ولدك أيها الأخ الحبيب الفاضل؟! أولسنا نحفظ هذه الأحاديث يا إخوة؟! أولسنا نعرف هذا المنهج التربوي؟ أولسنا نقف على هذا الخلق العظيم في معاملة النبي صلى الله عليه وسلم للخلق؟

تعامل الرسول القدوة مع الكفار

تعامل الرسول القدوة مع الكفار أيها الإخوة! لقد علم النبي صلى الله عليه وسلم الدنيا الشرف في معاملته مع الأعداء، فقد روى مسلم من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: (ما منعني أن أشهد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن المشركين قد أخذونا وقالوا: أتريدون محمداً؟ قال حذيفة: فقلت: لا. قال حذيفة: فأخذ المشركون علينا عهد الله وميثاقه أن ننصرف إلى المدينة وألا نشهد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما قال المشركون وبما قلت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: انصرفا -يعني: لا تشهدا معنا المعركة- نفي للمشركين بعهدهم ونستعين الله عليهم)، هذا هو النبي محمد صلى الله عليه وسلم. أيها الأحباب! وأختم بهذا الموقف الرقيق، لأنني لو جلست إلى الفجر ما انتهيت؛ لأننا نتحدث عن منهج تربوي كامل، أختم بهذا المشهد الوضيء، ففي سنن النسائي وأبي داود بسند صحيح: أن عثمان بن عفان رضي الله عنه أتى يوم فتح مكة بـ عبد الله بن سعد بن أبي السرح ليبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أهدر دمه، وأمر الصحابة أن يقتلوه في أي مكان وجدوه ولو كان معلقاً بأستار الكعبة. فجاء به عثمان بن عفان فنظر النبي صلى الله عليه وسلم فوجد عثمان وعبد الله بن سعد أمام عينيه وبين يديه، وإذا بـ عثمان يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: بايعه يا رسول الله! فغض النبي صلى الله عليه وسلم الطرف عن عبد الله بن سعد وسكت ولم يرفع النبي صلى الله عليه وسلم يده، فقال عثمان ثانية: بايعه يا رسول الله! فلم يمد النبي صلى الله عليه وسلم يده، فقال عثمان ثالثة: بايعه يا رسول الله! وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستحيي من عثمان؛ لأن عثمان رجل تستحي منه الملائكة، فقال عثمان في الثالثة: بايعه يا رسول الله! فمد النبي صلى الله عليه وسلم يده فبايع عبد الله بن سعد ثم انصرف والنبي صلى الله عليه وسلم غاضب حزين، فالتفت النبي إلى أصحابه وقال: (أوما كان فيكم رجل رشيد يراني قد كففت يدي عن بيعته؛ فيقوم إليه ليقتله، فقال الصحابة: هلا أومأت إلينا بعينك يا رسول الله! فرد النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ما ينبغي لنبي أن تكون له خائنة أعين)، يعلمنا الصدق حتى في النظرة، لا في القول والفعل والاعتقاد فحسب، بل حتى في النظرة.

حاجتنا إلى الرجوع إلى المنهج النبوي والاقتداء بصاحبه عليه الصلاة والسلام

حاجتنا إلى الرجوع إلى المنهج النبوي والاقتداء بصاحبه عليه الصلاة والسلام أيها الأفاضل! ما أحوجنا أن نرجع من جديد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لنسير على دربه، فوالله لا سعادة لنا ولا نجاة في الدنيا والآخرة إلا إذا عدنا من جديد إليه وسرنا على نفس الدرب الذي سار عليه، ورددنا مع السابقين الأولين الصادقين قولتهم الخالدة: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285]. فلنفرق بين مقامي الدعوة والجهاد، فمقام الجهاد يحتاج إلى رجولة وغلظة، أما مقام الدعوة فيحتاج إلى رقة وحكمة وتواضع ولين: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125]، {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159]. أما في مقام الجهاد فقال ربنا: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التحريم:9]، فالخلط بين مقامي الدعوة والجهاد يوقعنا في حرج بالغ، فلنتحرك الآن بصدق وبهمة عالية وبإخلاص وبرجولة: ولم أر في عيوب الناس عيباً كنقص القادرين على التمام أنت تقدر أن تفعل أي شيء فتحرك لدين الله مر بالمعروف بمعروف، وانه عن المنكر بغير منكر، واحمل هم هذا الدين، واشهد لدين الله في موقعك الذي أنت فيه، في موقع إنتاجك وموطن عطائك، فهذه أعظم خدمة نقدمها اليوم لدين الله، فلسنا أقل من هؤلاء الذين أبدعوا في الشرق والغرب، بل يجب على هذه الأمة أن تبدع في كل مناحي الحياة بعد أن تحقق إيمانها بالله وإيمانها برسول الله صلى الله عليه وسلم. أسأل الله جل وعلا أن يردنا إلى الحق رداً جميلاً، اللهم ردنا إليك رداً جميلاً، اللهم ردنا إليك رداً جميلاً! اللهم وكما آمنا بنبيك ولم نره فلا تفرق بيننا وبينه حتى تدخلنا مدخله، اللهم وأوردنا حوضه الأصفى، اللهم اسقنا منه شربة هنيئة مريئة لا نظمأ بعدها أبداً يا رب العالمين! اللهم لا تدع لأحد منا في هذه الليلة الكريمة المرجوة ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته، اللهم اشف صدور قوم مؤمنين بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم أنج المسلمين المستضعفين في فلسطين، وأنج المسلمين المستضعفين في العراق، وأنج المسلمين المستضعفين في الشيشان، وأنج المسلمين المستضعفين في أفغانستان وفي كل مكان. اللهم اجعل دولة قطر أمناً أماناً سخاءً رخاءً، وجميع بلاد المسلمين! اللهم لا تحرم هذا البلد من نعمة الأمن والأمان وجميع بلاد المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين! هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو نسيان فمني ومن الشيطان، وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون عليه إلى الجنة ويرمى به في جهنم، ثم أعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

أثر الذنوب على الأمة

أثر الذنوب على الأمة للذنوب آثار عظيمة على الأمم، فما نزل بلاء ولا كرب ولا شدة إلا بذنب، والذنوب هي سبب هلاك الأمم السالفة، وهي سبب حلول النقم وزوال النعم، وهي سبب في تسلط أعداء الإسلام على الأمة، والواجب علينا هو المبادرة بالتوبة حتى يرفع الله عز وجل ما بنا، والله عز وجل يفرح بتوبة عبده، إذ هو أرحم بالعبد من نفسه.

ركاب سفينة واحدة

ركاب سفينة واحدة الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته. وصل اللهم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة والأخوات! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله الكريم جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة في جنته ودار مقامته؛ إنه ولي ذلك ومولاه. أحبتي في الله! أثر الذنوب على الأمة، هذا هو موضوع محاضرتنا هذه، وسوف ينتظم حديثي في هذا الموضوع المهم في العناصر التالية: أولاً: ركّاب سفينة واحدة. ثانياً: خطر الذنوب والمعاصي. ثالثاً: ما المخرج؟ وأخيراً: متى سنتوب؟ فأعيروني القلوب والأسماع، والله أسأل أن يغفر لنا الذنوب، وأن يستر علينا العيوب، وأن يتقبل منا جميعاً صالح الأعمال. أولاً: ركّاب سفينة واحدة: إن الطالحين والصالحين ركاب سفينة واحدة، فإن هلك الطالحون لطلاحهم فسيهلك معهم الصالحون، وإن غرق المفسدون فسيغرق معهم الصالحون، والله تبارك وتعالى يقول: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25]، فلا يتوهمن متوهم -ولو كان صالحاً- أنه سينجو إن نزلت العقوبة الجماعية، نسأل الله أن يرفع عن الأمة البلاء. ففي صحيح البخاري وغيره من حديث النعمان بن بشير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وأصاب بعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً حتى لا نؤذي من فوقنا، فلو تركوهم وما أرادوا لهلكوا وهلكوا جميعاً، ولو أخذوا على أيديهم لنجوا جميعاً). فكثير من المسلمين الآن يتصور أنه ما دام قد حقق الصلاح وامتثل الأمر واجتنب النهي فقد نجا، وينظر إلى المنكرات وإلى الذنوب والمعاصي التي خيمت سحبها القاتمة المظلمة الكثيفة على سماء الأمة ثم يهز كتفيه ويمضي، وكأن الأمر لا يعنيه ما دام يأكل ملء فمه، وينام ملء عينه، وظن المسكين أنه قد نجا، بل وربما يستدل على نجاته بقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105]. وقديماً خشي صديق الأمة رضي الله عنه هذه السلبية القاتلة، وهذا الفهم المغلوط المقلوب للآية، فارتقى المنبر؛ فحمد الله وأثنى عليه، وقال: (أيها الناس! إنكم تقرءون هذه الآية وتضعونها في غير موضعها، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه أوشك الله أن يعمهم بعقاب من عنده) وفي لفظ: (إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه يوشك الله أن يعمهم بعقاب من عنده، ثم يدعونه فلا يستجاب لهم)، رواه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم بسند صحيح. وفي الصحيحين أيضاً من حديث أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوماً فزعاً، وفي لفظ في الصحيح: قام النبي صلى الله عليه وسلم من نومه عندها يوماً فزعاً، وهو يقول: لا إله إلا الله؛ ويل للعرب من شر قد اقترب! فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلق النبي صلى الله عليه وسلم بإصبعيه السبابة والإبهام، فقالت أم المؤمنين زينب رضي الله عنها: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم؛ إذا كثر الخبث). والله الذي لا إله إلا هو لقد كثر الخبث، فلا ينبغي أبداً أيها الأفاضل أن تخيم على سمائنا سلبية قاتلة. لقد صار كثير من الناس لا يعنيه أمر هذا الدين ما دام آمناً في سربه معافى في بدنه، رزقه الله قوت عمره لا قوت يومه، بل صرنا الآن إلا من رحم ربي ننظر إلى أكفان إخواننا التي تحمل على الأكتاف كل ساعة في أرض فلسطين وكأن الأمر لا يعنينا، حتى المشاعر قتلت في القلوب، وحتى الهم صرنا نبخل به، بل ربما لا يتذكر كثير من الناس الآن الواجب الذي عليه لله جل وعلا إلا إذا ذُكر في محاضرة، أو إلا إذا سمع شريطاً عابراً، فقد يسأل حينئذٍ هذا العالم أو هذا الداعية: ما الذي يجب علي أن أفعله؟ إنه أمر عجب! وكأن المسلم الصادق ما زال ينتظر أن يحدد له عالم ما يجب عليه أن يفعله، صحيح أن هذه ظاهرة صحية لا أقلل من شأنها، بل أحيي كل من يسأل، لكن الذي يدمي القلب -وهذا هو الذي يؤلمني، وهذا هو الشاهد- أن ينتظر المسلم حتى يرزقه الله عز وجل عالماً ليسأله بعد ذلك عما يجب عليه أن يبذله ويقدمه لدين الله، بل من المسلمين الآن من يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون! ضاع الدين! لا حول ولا قوة إلا بالله! دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله! بل ومنهم من يقول: دع ما لله لقيصر! وامش إلى جوار الحائط، ورب أولادك، فالفتن كثيرة، والحوائط لها آذان، انتبه لنفسك، لا تنشغل بأمر الدين، ابتعد عن المساجد، ابتعد عن المتطرفين من الملتزمين أصحاب اللحى! لقد أسمعت لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تنادي ولو ناراً نفخت بها أضاءت ولكن أنت تنفخ في رماد إلى آخر هذه الكلمات التي تشل حركة وفكر من يريد أن يخطو على طريق الدين خطوات منضبطة بضوابط الشرع، فالمهزوم نفساً مشلول الفكر والحركة، وربما يُنظِّر لها بالآية الجليلة التي ذكرت، مع أن الفهم للآية مغلوط ومقلوب. فنحن جميعاً -أيها الأحبة- نركب سفينة واحدة، وعلينا جميعاً أن نعي هذه الحقيقة، ولا أريد أن أطيل مع كل محور من محاور هذا اللقاء المهم.

خطر الذنوب والمعاصي على الفرد والمجتمع

خطر الذنوب والمعاصي على الفرد والمجتمع ثانياً: خطر الذنوب والمعاصي: الذنوب إن انتشرت واستشرت ربما يعم العذاب والعقاب، ويهلك الصالحون مع الطالحين، ثم يبعث بعد ذلك كل واحد على نيته، كما في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها، لكن سيهلك الجميع. فما الذي أخرج آدم من الجنة؟ وما الذي أهلك قوم نوح؟ وما الذي أهلك قوم إبراهيم؟ وما الذي أهلك قوم عاد؟ وما الذي أهلك ثمود؟ وما الذي أهلك قوم لوط؟ وما الذي أهلك فرعون وجنده؟ وما الذي أهلك الظالمين في كل زمان ومكان؟ الجواب في كلمة واحدة: إنها المعصية، إنها الذنوب على تفاوتها، ابتداءً بالشرك وانتهاءً بأقل ذنب أو معصية ترتكب في حق الله جل وعلا، قال سبحانه وتعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]، وقال سبحانه: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر:45]، والآيات في هذا الباب كثيرة، فلا ينزل أي بلاء إلا بذنب، ولا يرفع أي بلاء إلا بتوبة. وتدبروا هذا الحديث الذي رواه البيهقي في السنن، والحاكم في المستدرك بسند صحيح، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر المهاجرين! خصال خمس إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشت فيهم الأوجاع والأسقام التي لم تكن في أسلافهم)، وأنا أقسم بالله أن الفاحشة قد أعلنت، بل إن من المسلمين الآن من يقضي الليل كله لمشاهدة الفاحشة، لقد دخلت صور الفاحشة غرف النوم، وقام كثير من المسلمين الليل بطوله لا بين يدي الله جل وعلا، بل لمشاهدة الأفلام الفاضحة الداعرة. ثم والله! لقد كنت مع الشيخ محمد صفوت نور الدين -أسأل الله أن يرحمه رحمة واسعة- في أمريكا، وكنا نمشي سوياً بعد صلاة العصر قبيل المغرب إلى مركز إسلامي، فوالله الذي لا إله غيره! لقد رأينا بأعيننا شاباً يزني بفتاة على الطريق، فقلت: سبحان الله! صدق المصطفى الذي لا ينطق عن الهوى. وحين كنت في ألمانيا في زيارتي الأخيرة دخلت فتاة ألمانية لتعلن إسلامها، وأنا في كل مرة أحب أن أتعرف على سبب إسلام كل من دخل علينا في إحدى هذه المراكز ليعلن إسلامه، فقلت: يا أختاه! أود أن أتعرف على سبب دخولك في الإسلام، فقصت هذه الفتاة الألمانية التي لم تبلغ الخامسة والعشرين من عمرها قصة عجيبة، قالت: كنت في سفر في هولندا، فرأيت حلقة كبيرة من الناس، وسمعت صراخاً وتصفيقاً إلى غير ذلك، تقول: اقتربت فنظرت وسط هذه الحلقة، فوجدت -والعياذ بالله- رجلاً يزني بامرأة، والناس تصفق له! إنه مشهد بهيمي قذر، وهؤلاء ما زالوا إلى يومنا هذا يعزفون على وتر التقديس والتمجيد للحرية والديمقراطية المشئومة المزعومة، ويدَّعون أنهم أصحاب حضارة، وهي حضارة عفنة نتنة تعفنت روحها، ويفعل فيها الإنسان بالإنسان ما تخجل الوحوش الضارية أن تفعله ببعضها البعض في عالم الغابات. تقول: فاتصلت على صديقة لي ألمانية مسلمة وقلت لها: هل يمكن أن يزنى رجل بامرأة في الإسلام وتقبل أن يراها الناس؟ قالت: أعوذ بالله! بل يحرم على الرجل أن يجامع امرأته أمام أولاده. إنه جواب يسير جميل من امرأة ألمانية لا تحسن أن تتكلم بالدليل، ولكن كلامها منضبط، فهذه الفتاة الأولى تقول: فدخل حب الإسلام قلبي، وعلمت أنه دين العفة. هذه قيمة ربما لا تخطر لنا على بال، نعم؛ إنه دين العفاف، إنه دين الطهارة، إنه دين النقاء، إنه دين حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90]. قال صلى الله عليه وسلم: (لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشت فيهم الأوجاع والأسقام التي لم تكن في أسلافهم)، فقد ظهر الإيدز، وهو مرض نقص المناعة، ظهر بصورة بشعة مروعة، وظهر السيلان، وظهرت الكلاميديا، وكلها أمراض تتعلق بهذا التجاوز الواضح لحدود الله جل وعلا، بل ينفق الشرق والغرب الآن مليارات ضخمة لمحاصرة هذا المرض، لكنهم إلى الآن ما استطاعوا، مع أن النبي الصادق قد حدد المخرج من هذه الأمراض الفتاكة منذ أربعة عشر قرناً، حين دل الأمة على الطهارة، وحرم عليها الزنا. قال صلى الله عليه وسلم: (لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشت فيهم الأوجاع والأسقام التي لم تكن في أسلافهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين، وشدة المؤنة، وجور السلطان). لقد وقع تطفيف المكيال والميزان من كثير من الناس، فوقعوا في الضنك والضيق وجور السلاطين، (ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدواً فأخذ بعض ما في أيديهم)، صلى الله على من لا ينطق عن الهوى، لقد ضاعت الأندلس، والقدس الآن في أيدي اليهود، وكذلك العراق، والشيشان، واحتلت الأرض، وأخذ الأعداء بعض ما في أيدينا، بل تحولت الأمة إلى قصعة مستباحة لأقذر وأنجس وأسفل أمم الأرض، وصدق فيها قول الصادق كما في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وأبو داود من حديث ثوبان: (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها). فهل تذكر القصعة؟ وهل تذكر طبق الطعام الذي تقدمه كل صباح لمجموعة من الطيور أو الدواجن في بيتك؟ وهل تتصور وتتذكر هذا المشهد وأنت تقدم الطبق بعد ليل طويل، وترى الطيور تتقاذف وتتطاير من أجل أن يصيب كل طائر حظه من هذه القصعة؟ إنه تشيبه نبوي بليغ لما عليه الأمة الآن: (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أومن قلة نحن يومئذٍ يا رسول الله؟ قال: كلا، ولكنكم يومئذٍ كثير -مليار وثلث-، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، وليوشكن الله أن ينزع المهابة من قلوب عدوكم، ويقذف في قلوبكم الوهن، قيل: وما الوهن يا رسول الله؟! قال: حب الدنيا وكراهية الموت). وفي مسند أحمد وسنن أبي داود بسند صحيح من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا تبايعتم بالعينة -والعينة نوع من أنواع البيوع الربوية المحرمة- ورضيتم بالرزع، وتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد في سبيل الله، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم). قال صلى الله عليه وسلم: (وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل بأسهم بينهم) آه! لقد استبدلت الأمة بالعبير بعراً، وبالثريا ثرى، وبالرحيق المختوم حريقاً محرقاً مدمراً، والله جل وعلا يقول: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65]. قال ابن القيم في كلام نفيس قلما تقف عليه لغيره: تحكيم رسول الله في كل أمر إسلام، وعدم وجود الحرج في الصدر من حكمه مقام إيمان، والرضا بحكمه مقام إحسان. قال الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [الأحزاب:36]، وقال جل وعلا: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِيهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ} [النور:51 - 52]، وقال في شأن المنافقين: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} [النساء:60 - 61] فشعار المؤمن: حب الله ورسوله، والسمع بلا تردد، والطاعة بلا انحراف والتواء، وشعار المنافق: السمع والإعراض، والسمع والصد عن دين الله جل وعلا. إن قلت قال الله قال رسوله همزوك همز المنكر المتغالي أو قلت قال الصحابة والألى تبع لهم في القول والأعمال أو قلت قال الشافعي وأحمد وأبو حنيفة والإمام الغالي صدوك عن وحي الإله ودينه واحتالوا على حرام الله بالإحلال يا أمة لعبت بدين نبيها كتلاعب الصبيان بالأوحال حاشا رسول الله يحكم بالهوى والزور تلك حكومة الضلال قال جل وعلا: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص:26]. هذا هو خطر الذنوب، فوالله ما وقعنا في هذا الذل والمهانة إلا بسبب الذنوب.

الذنوب سبب الهزيمة

الذنوب سبب الهزيمة يا إخوة! لقد هُزم المسلمون في أحد وقائد الميدان رسول الله، فكيف يهزم المسلمون وقائدهم المصطفى وعدوهم المشركون؟! وكيف يهزمون وهم الصحابة؟! أسئلة كثيرة، بل قالوا ذلك، ورد الله جل وعلا عليهم بهذه الآية المحكمة: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} [آل عمران:165] يعني: يوم بدر {قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا} [آل عمران:165] أي: كيف نهزم؟ فاسمع إلى الجواب من الله، قال جل وعلا: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165]. ونحن دائماً نعلق الأخطاء على مشاجب خارجية، ونقول: الأعداء العلماء الحكام، ولا يفكر واحد منا أبداً في أن يفتش عن خطئه الشخصي، بل أنا أنظر إلى القذاة في عينك وأنسى العود في عيني، وأنت تنظر إلى القذاة في عيني وتنسى العود في عينك، وأنا لا أقلل من خطر العداءات الخارجية على الأمة، وإنما أود أن نعلم علم اليقين أن هذه الأعذار والتبريرات التي نبررها لهزائمنا المتلاحقة المتتالية، ولأخطائنا المتتابعة، إنما هي أعذار واهية، وتبريرات لا قدم لها ولا ساق. قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الأنفال:53] والأمة قد غيرت. وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11] والأمة قد غيرت، ففي جانب العقيدة غيرت، وفي جانب العبادة غيرت، وفي جانب التشريع غيرت، وفي جانب الأخلاق غيرت، وفي جانب المعاملات والسلوك غيرت، وفي الجانب التربوي غيرت، وفي الجانب النفسي تغيرت، وفي الجانب الإعلامي غيرت، وفي الجانب الفكري غيرت، وفي كل الجوانب غيرت. إن الله سنناً ربانية في الكون لا تتغير ولا تتبدل ولا تجامل تلك السنن أحداً من الخلق بحال، فمهما ادعى الإنسان لنفسه من مقومات المحاباة فالنعم تزول بالذنوب والمعاصي. روى أبو نعيم في الحلية وغيره بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن روح القدس نفث في روعي أن نفساً لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملن أحدكم استبطاء الرزق أن يطلبه بمعصية الله؛ فإن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته). وقد يسألني كثير من الشباب، ويقول: فما ردك إذاً على هؤلاء الكافرين الذين وقعوا في أبشع المعاصي والذنوب والشرك، ومع ذلك نرى أن الله قد مكن لهم، وقد وسع عليهم أرزاقهم؟ والجواب يسير، ولن أخرج الجواب من كيسي ولا من عند نفسي، إنما هو قول ربنا وقول نبينا، ونحن بفضل الله عز وجل لا نتكلم كلمة إلا بدليل من كتاب الله أو بحديث من أحاديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتدبر قول النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا رأيت الله يعطي العبد ما يحب وهو مقيم على معاصيه، فاعلم بأنه استدراج له من الله عز وجل، وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم قول الله تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:44 - 45])، والحديث رواه أحمد في مسنده وغيره بسند صحيح من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه. إذاً: القضية محسومة بنص القرآن: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ) كان A { فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:45 - 46].

الذنوب والمعاصي سبب هلاك الأمم

الذنوب والمعاصي سبب هلاك الأمم ثم انظر -يا أخي- إلى الأمم السابقة الظالمة الجائرة المذنبة العاصية ماذا صنع الله بها؛ لأننا دائماً ننسى، فماذا صنع الله بعاد الأولى؟ قال تعالى: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة:6 - 7]، والله جل وعلا يسأل حبيبه فيقول: {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} [الحاقة:8] أي: هل تروا لهؤلاء الظالمين الأولين من باقية؟ قال الله جل وعلا: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت:15] وهذه هي الكلمة الثانية التي ترددها عاد، {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت:15] أم لا زال عندك شك فيه؟ والله إن كثيراً من المسلمين عندهم شك في هذه المسألة إلا من رحم ربك، فبالمقارنة إلى قوة الملك تضعف كل القوى، بل تزول، فلنملأ قلوبنا بالثقة به سبحانه. والله إن ما يعنيني في كل محاضرة هو أن تملأ القلوب بالثقة بالله بإجلال الله بعظمة الله بقدرة الله بهيبة الله بالتعرف على أسمائه الحسنى وصفاته العلا بالتعرف على اسم القوي القهار الجبار القدير العليم الخبير الحكيم، فاملأ قلبك بمعاني هذه الأسماء؛ لتعلم أن كل قوى الأرض ليست شيئاً يذكر أمام قوة رب السماء والأرض، قال عز وجل: {قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:26].

كل الأمور بيد الله عز وجل

كل الأمور بيد الله عز وجل اعلم أخي! أنه لا تسود دولة ولا تزول دولة ولا يسود حاكم ولا يزول حاكم إلا بأمر من بيده الملك، فهل تتصور أن قاذفة أو صاروخاً أو قنبلة أو طائرة تسقط على شبر من الأرض بعيداً عن سمع وبصر الملك؟ A لا، قال عز وجل: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59] فلا يوجد جبل في الأرض إلا ويعلم الله ما في وعره، وما من بحر ولا نهر على سطح الأرض إلا ويدري الله ما في قعره، ولا تحمل أنثى ولا تضع على وجه الأرض إلا بعلمه. جاء حبر من أحبار اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا محمد! إنا نجد مكتوباً عندنا في التوراة: أن الله يجعل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والماء والثرى على إصبع، والشجر على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع، ثم يهزهن ويقول: أنا الملك، فضحك النبي حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحق، وقرأ النبي قول الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر:67])، فهذه هي مشكلتنا، وهذه هي المصيبة، أي: أننا كما قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67] جل جلاله. قال تعالى: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [فصلت:15] انظر إلى الجواب وانظر إلى النتيجة: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ * وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [فصلت:16 - 18] اللهم اجعلنا من المؤمنين المتقين؛ لنكون أهلاً لنجاتك يا أرحم الراحمين!

وجوب الثقة بالله جل وعلا

وجوب الثقة بالله جل وعلا فلا ينبغي أن تهتز ثقتك أيها المسلم في ربك، أو أن يضعف إيمانك بربك سبحانه وتعالى، ثم تدبر قول الله جل وعلا: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِي * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ} [الفجر:6 - 13] انظر إلى فاء الترتيب والتعقيب التي تضمد الجراح {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:13 - 14]. والله! إننا لفي انتظار خوض العذاب من الملك لهذه الأمم الكافرة الجائرة التي قالت: من أشد منا قوة؟ والتي تنتهك الأعراض، وتدنس المقدسات والأرض. ثم تدبر -يا أخي- قول ربك: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:1 - 5]. ثم في عصرنا: أين الاتحاد السوفيتي؟! يقول المفكر الشهير اشبنجلر: إن للحضارات دورات فلكية، فهي تغرب هنا لتشرق هنالك، وإن حضارة أوشكت على الشروق في أروع صورة، ألا وهي حضارة الإسلام، فهو الدين الوحيد في الأرض الذي يملك أقوى قوة روحانية نقية. وأجمل من قوله قول ربي: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] فالأيام دول، فلا ينبغي أن ينظر الناظر إلى قوة دولة ظالمة غاشمة متكبرة متجبرة على أنها هي النهاية لهذا التاريخ ولهذا الكون، فالله جل وعلا أخذ الأمم التي انحرفت عن منهجه سبحانه جميعاً، أخذهم الله عز وجل بذنوبهم ومعاصيهم وإعراضهم عن الله تبارك وتعالى.

المخرج من حال الأمة الراهن بالأمر بالمعروف وتغيير المنكر

المخرج من حال الأمة الراهن بالأمر بالمعروف وتغيير المنكر ثالثاً: ما المخرج؟ المخرج أنه لا يكفي صلاحك أبداً، بل يجب أن تكون صالحاً مصلحاً، ولا ينبغي أن تنظر إلى المنكرات وتهز كتفيك وتمضي وكأن الأمر لا يعنيك. أيها الأفاضل: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في هذا الدين، وهو وظيفة الأنبياء والمرسلين، ولو طوي بساطه وأهمل علمه وعمله لتعطلت النبوة، واضمحلت الديانة، وفشت الضلالة، وعمت الجهالة، وخربت البلاد، وهلك العباد، ولم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد، فهو شرط من شروط خيرية أمة النبي محمد، كما قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]، فلا ينبغي أن ترى المنكر دون أن تغيره.

ضوابط تغيير المنكر

ضوابط تغيير المنكر لكن اعلم يا أخي أن تغيير المنكر له ضوابط، فحماسك وحدك لا يكفي، وإخلاصك وحدك لا يكفي، بل لابد أن يكون حماسك وإخلاصك منضبطين بضوابط الشرع؛ حتى لا تفسد من حيث تريد الإصلاح، وحتى لا تضر من حيث تريد النفع، ففي صحيح مسلم من حديث أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)، فالتغيير باليد له ضوابطه، فمر بالمعروف بمعروف، وانه عن المنكر بغير منكر، وقد اتفق علماء الأمة على ذلك. قال ابن القيم لله دره: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر ليحصل من المعروف ما يحبه الله ورسوله -وتدبروا أيها الشباب! - فإن كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر من المنكر فهو أمر بمنكر، وسعي في معصية الله ورسوله، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها. قد يرد علي شاب من شبابنا المتحمس المخلص ويقول: هذه المرحلة كانت مرحلة استضعاف. لكن تدبر أيها الحبيب اللبيب! يقول ابن القيم: ولما فتح الله عليه مكة وصارت دار إسلام وعزم على هدم البيت الحرام ورده على قواعد إبراهيم، لم يفعل النبي ذلك مع قدرته على فعل ذلك؛ لأن قريشاً كانت حديثة عهد بكفر وقريبة عهد بإسلام. وهذا تفصيل في غاية الأهمية. فالتغيير إذاً له ضوابط.

التغيير بالكلمة الطيبة

التغيير بالكلمة الطيبة ثم إن لم تستطع أن تغير هذا المنكر بيدك فبلسانك، بكلمة حلوة رقيقة عذبة. جرب يا أخي! إذا رأيت منكراً أن تأمر بالمعروف بمعروف، وأن تنهى عن المنكر بغير منكر، فوالله الذي لا إله غيره لتجدن ثمرة ما خطرت لك على بال. وفي إحدى الزيارات لألمانيا عرفني الإخوة هناك برجل ألماني من الدعاة، وقالوا: هذا الرجل كان يعمل ملاكماً، وأخذ بطولات في الملاكمة، ودعي هذا الرجل ليكرم في بلاد الحرمين في الرياض، يقول لي: وكان من بين الحضور أخت مسلمة تقدمت إلي بحجابها، وقدمت لي هدية، هذه الهدية عبارة عن ترجمة معاني القرآن الكريم باللغة الألمانية، دفعت له الهدية وخرجت، يقول: ومضى عشرون عاماً على هذه الهدية لم أفتحها، ولم أعرفها، قال: وبعد عشرين سنة جلست أرتب وأعيد كتبي في مكتبتي الخاصة، فوقعت يدي على هذا الكتاب، وتعجبت! وتذكرت السنوات الخالية، قال: وجلست على كرسي المكتب بسرعة ملفتة، وفتحت هذا الكتاب، وقدر الله أن أفتح على ترجمة سورة الإخلاص: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] فقرأت السورة، يقول: فارتعد جسدي، وبكت عيني، ثم عدت إلى الكتاب من أوله، فقرأت تفسير سورة الفاتحة، قال: فبكيت وخرجت مباشرة إلى المركز الإسلامي، وقلت لهم: ماذا تصنعون إن أردتم أن تدخلوا هذا الدين؟ قالوا: اغتسل، فاغتسل، قالوا: انطق الشهادتين، فنطق الشهادتين. هذا الرجل العجيب الذي دخل الإسلام للتو ما مكث إلا أياماً تعرف فيها على نزر يسير، ثم أخذ المطويات والكتب والمنشورات وأخذ منضدة، وخرج إلى ميدان عام من الميادين العامة في ألمانيا ووقف، وكان الشباب والفتيات إذا رأوا هذا الرجل وهو معروف نزلوا ليوقع لهم على الأوتجراف، فيدعوهم إلى الإسلام، ويمنحهم المطويات والمنشورات والكتب الصغيرة، يقسم الإخوة لي بالله أنه أسلم على يديه في عام واحد أكثر من مائتي رجل وامرأة، وكل هؤلاء في ميزان الأخت الفاضلة التي أهدته هذه الترجمة. فيا أخي: غير أنت، ودع النتائج إلى الله، قل كلمة جميلة، إن لم تستطع أن تقولها بلسانك فقلها بلسان عالم مخلص أو داعية صادق؛ بشريط أو بكتاب أو بكتيب أو بمطوية أو برسالة أو بهدية أو بكلمة جميلة، فما عليك إلا أن تزرع، ودع الثمرة لله {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم:24 - 25] فشجر الناس منه ما يثمر في الشتاء، ومنه ما يثمر في الصيف، ومنه ما يثمر في الربيع أو الخريف، أما الشجرة الطيبة التي ضربها الله في القرآن مثلاً للكلمة الطيبة فهي لا تتأثر بصيف ولا بشتاء، ولا بربيع أو خريف، بل لا تحطمها المعاول، ولا تعصف بها الرياح الهوجاء والأعاصير الشديدة، لأنها متغلغلة في قلب الصخور، وامتدت إلى عنان السماء، إنها الكلمة الطيبة التي تتخطى الحواجز والعقبات والسدود يقيناً، فما عليك إلا أن تخرج هذه الكلمة الطيبة بأدب على منهج رسول الله، ودع النتائج بعد ذلك لله تعالى. قال الشاعر: بين الجوانح في الأعماق سكناها فكيف تنسى ومن في الناس ينساها الأذن سامعة والروح خاشعة والعين دامعة والقلب يهواها ولم لا؛ وهي كلمة الله جل وعلا؟ ولم لا وهي كلمة الصادق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنت لا تقول إلا قال الله قال رسوله صلى الله عليه وسلم، فغير بلسانك، وقل كلمة جميلة رقيقة رقراقة مهذبة مؤدبة، فنحن لا نتعامل مع ملائكة بررة، ولا مع شياطين مردة، ولا مع أحجار صلبة، إنما نتعامل مع نفوس بشرية فيها الإقبال والإحجام، وفيها الطاعة والمعصية، وفيها الخير والشر، وفيها للحلال والحرام، وفيها الفجور والتقوى، وفيها الهدى والضلال، فلنكن على بصيرة بمفاتيح هذه الأنفس، والمفاتيح هي: الرحمة، والحكمة، والرقة، والأدب، والتواضع، فإن امتثلت هذا المنهج سبرت أغوار النفس، وتغلغلت إلى أعماقها، وبلَّغت من تريد ما تريد من قول الله ومن قول رسول الله.

شروط تغيير المنكر بالقلب

شروط تغيير المنكر بالقلب فإن لم تستطع إنكار المنكر لا بيدك ولا بلسانك فبقلبك، لكن اعلم أن إنكار المنكر في القلب له شرطان: الأول: أن يرى الله من قلبك بغض هذا المنكر الذي لا تستطيع تغييره، أما أن يجلس الرجل -مثلاً- أمام فلم من الأفلام وتعرض في هذا الفلم لقطات راقصة عارية، ثم يجلس المسلم ليشاهد ويحملق بعينيه، ثم يقول وهو يحملق: أستغفر الله، أستغفر الله، فهذا كذاب في استغفاره، فهو لم يغير بيده ولا بلسانه ولا حتى بقلبه، ولا عذر له. والله لا عذر لواحد منا، لأنك إن لم تستطع أن تغير بيدك فغير بلسانك، فإن لم تستطع أن تغير بلسانك فغير بقلبك، ولا عذر لك البتة إن لم تغير هذا المنكر بقلبك، وذلك بأن يرى الله في قلبك بغضك لهذا المنكر. الثاني: أن تزول أنت عن مكان المنكر الذي عجزت عن إزالته بيدك وبلسانك إن استطعت، ولابد من هذا القيد من باب الأمانة: (إن استطعت)، بمعنى: قد تكون في باص وأنت على سفر، ويعرض عليك فلم لا تريد أن تنظر إليه، ولا تستطيع أن تغادر الباص، فما عليك إلا أن تغض الطرف، وما عليك إلا أن يرى الله من قلبك بغضك لهذا المنكر، ثم انشغل أنت بصورة من صور الطاعة لله جل وعلا، كالذكر أو التسبيح أو الاستغفار أو الصلاة على النبي المختار صلى الله عليه وسلم، فهذه ضوابط لابد منها أيها الأفاضل! وليتحرك كل واحد منا على قدر استطاعته، كما قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، وقال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة:286]، وقال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا} [الطلاق:7].

وجوب تعجيل التوبة

وجوب تعجيل التوبة وأخيراً: متى سنتوب؟ وا أسفاه إن دعينا إلى التوبة وما أجبنا بعدما تعرفنا على خطر الذنوب والمعاصي! وا أسفاه إن دعينا إلى التوبة وما أجبنا! وا حسرتاه إن دعينا إلى الأوبة وما أنبنا! يا نادماً على ذنوبك أين أثر ندمك؟ آه! أين أثر ندمك؟ أين بكاؤك على زلة قدمك؟ أين بكاؤك على جرأتك على المعاصي والذنوب؟ أين حياؤك من علام الغيوب؟ قال الشاعر: إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفي عليه يغيب لقي الفضيل بن عياض رجلاً، فقال له الفضيل: يا أخي! كم عمرك؟ قال: ستون سنة، قال الفضيل: إذاً: أنت منذ ستين سنة تسير إلى الله، يوشك أن تصل، فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون. قال الفضيل: يا أخي! هل تعرف معناها؟ قال: نعم، أني لله عبد، وأني إليه راجع، قال الفضيل: يا أخي! فمن عرف أنه لله عبد وأنه إليه راجع، فليعلم أنه موقوف بين يديه، ومن عرف أنه موقوف بين يديه فليعرف أنه مسئول، ومن عرف أنه مسئول بين يديه فليعد للسؤال جواباً، فبكى الرجل وقال: يا فضيل! وما الحيلة؟ قال الفضيل: يسيرة، قال: ما هي يرحمك الله؟ قال الفضيل: اتق الله فيما بقي من عمرك يغفر الله لك ما قد مضى وما قد بقي من عمرك. قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]. قال الشاعر: أيا من يدعي الفهم إلى كم يا أخا الوهم تعب الذنب بالذنب وتحطي الخطأ الجم أما نادى بك الموت أما أسمعك الصوت أما تخشى من الفوت فتحتاط وتهتم فكم تسير في السهو وتختال من الزهو وتنفض إلى اللهو كأن الموت ما عم كأني بك تنحط إلى اللحد وتنغط وقد أسلمك الرهط إلى أضيق من سم هناك الجسم ممدود ليستأكله الدود إلى أن ينخر العود ويمسي العظم قد رم فزود نفسك الخير ودع ما يعقب الضير وهيئ مركب السير وخف من لجة اليم بذا أوصيك يا صاح وقد بحت كمن باح فطوبى لفتى راح بآداب محمد يأتم وصدق ربي إذ يقول: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:26 - 30] يفتح سجلك، ويفتح ملفك، ويفتح كتابك، فإذا به: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة:31 - 32].

فرح الله بتوبة عبده

فرح الله بتوبة عبده فهيا جدد التوبة والأوبة، واعلم بأن الله سيفرح بتوبتك مهما عظم ذنبك، وهو الغني عنك، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحتله بأرض فلاة، فانفلتت منه راحلته، وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع بظلها، فبينما هو كذلك إذ به يرى راحلته قائمة عند رأسه، عليها طعامه وشرابه، فأراد أن يعبر عن فرحته العارمة فقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح). ففرح الله بتوبتك إليه أعظم من فرحة هذا العبد بأوبة راحلته إليه، فلمَ التسويف؟! لم التسويف؟! فما من ليلة تمر علينا إلا وربنا جل جلاله يتنزل إلى السماء الدنيا تنزلاً يليق بكماله وجلاله؛ لأنه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، يتنزل كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يمضي ثلث الليل الأول، فيقول: أنا الملك أنا الملك! من ذا الذي يدعوني فأستجيب له؟ من ذا الذي يسألني فأعطيه؟ من الذي يستغفرني فأغفر له؟ فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر. وفي صحيح مسلم: أنه صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم) وأختم بهذا الحديث الرقراق الذي رواه البخاري من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه صلى الله عليه وسلم رأى امرأة في السبي تبحث عن ولدها، فلما وجدته ألزقته ببطنها فأرضعته، فلما نظر النبي إلى هذا المشهد الرقراق الحاني التفت إلى الصحابة وقال: (أترون هذه الأم طارحة ولدها في النار؟ قالوا: لا يا رسول الله! فقال: لله أرحم بعباده من هذه الأم بولدها)، فتدبر هذا البيان النبوي البليغ، ولذا قال أحد الصالحين: اللهم إنك تعلم أن أمي هي أرحم الناس بي، وأنا أعلم يا سيدي أنك أرحم بي من أمي، وأمي لا ترضى لي العذاب، أفترضاه لي وأنت أرحم الراحمين؟!

شروط التوبة

شروط التوبة الندم ركن التوبة الأعظم، والبعد عن المعاصي والذنوب شرطها الثاني، والعمل الصالح والمداومة عليه، والانتقال من طاعة إلى طاعة، ومن خير إلى خير شرطها الثالث، قال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم:8]. اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم لا تفضحنا بخفي ما اطلعت عليه من أسرارنا، ولا بقبيح ما تجرأنا به عليك في خلواتنا. اللهم لا تفضحنا بخفي ما اطلعت عليه من أسرارنا، ولا بقبيح ما تجرأنا به عليك في خلواتنا. اللهم اغفر لنا الذنوب التي تنزل النقم، اللهم اغفر لنا الذنوب التي تهتك العصم، اللهم اغفر لنا الذنوب التي تنزل البلاء، اللهم اغفر لنا الذنوب التي تنزل البلاء، اللهم اغفر لنا الذنوب التي تنزل البلاء. اللهم ردنا إليك رداً جميلاً، اللهم خذ بنواصينا إليك أخذ الكرام عليك. اللهم أبرم لأمة التوحيد أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر. اللهم إنا نعترف لك -يا سيدي- بضعفنا فارحم ضعفنا، ونعترف لك -يا سيدي- بذنوبنا فاغفر ذنوبنا، ونعترف لك -يا سيدي- بعيوبنا فاستر عيوبنا. اللهم اغفر ذنوبنا، واستر عيبنا، وفرج كربنا، واكشف همنا، وأزل همنا، وتول أمرنا، وفك أسرنا، واختم بالصالحات أعمالنا، اللهم اختم بالصالحات أعمالنا، اللهم اختم لنا بالصالحات. اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، وبلغنا مما يرضيك آمالنا، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا. اللهم استر نساءنا، واحفظ بناتنا، واهد شبابنا، وأصلح أولادنا. ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، واجعلنا للمتقين إماماً. اللهم اشف صدور قوم مؤمنين بنصر الإسلام وعز الموحدين، اللهم أنج المسلمين المستضعفين في كل مكان، اللهم أنج المسلمين المستضعفين في كل مكان، اللهم أنج المسلمين المستضعفين في كل مكان. اللهم لا تردنا من هذا المكان المبارك إلا بذنب مغفور، وسعي مشكور، وتجارة لن تبور، يا من إليه يلجأ الخائفون، وعليه يتوكل المتوكلون، ولعظيم فضله تبسط الأيدي ويسأل السائلون. يا من اسمه دواء، وذكره شفاء، ارحم من رأس ماله الرجاء، وسلاحه البكاء، اللهم ارحم من رأس ماله الرجاء، وسلاحه البكاء، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم استرنا ولا تفضحنا، وأكرمنا ولا تهنا، وكن لنا ولا تكن علينا. اللهم اجعل دولة قطر أمناً وأماناً سخاءً رخاءً وجميع بلاد المسلمين، اللهم لا تحرم هذا البلد من نعمة الأمن والأمان، اللهم لا تحرم هذا البلد من نعمة الأمن والأمان، اللهم لا تحرم هذا البلد من نعمة والأمن والأمان وجميع بلاد المسلمين. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. والحمد لله رب العالمين.

الجهاد سلعة ثمنها الجنة

الجهاد سلعة ثمنها الجنة إن الناظر إلى حال الأمة الإسلامية اليوم يجد أنها تعيش في واقع مؤسف مرير، واقع الذل والمهانة واقع الخزي والعار واقع تسلط الأعداء واقع تشريد الأطفال وترميل النساء ووالله إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن على الأمة المكلومة المحزونة، فبالأمس القريب كنا نقود العالم واليوم نقاد بالأمس نغزوا واليوم نغزى بالأمس كنا منارات هدى للحيارى والتائهين، واليوم نتسكع على موائد الفكر الغربي إنها الرزية التي ما بعدها رزية، والذل الذي ليس بعده ذل، ولا مخرج لنا ولا نجاة من هذا الواقع المؤلم إلا بالعودة إلى دين الله والجهاد في سبيله.

إنها الجنة

إنها الجنة بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71] أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، وبعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء وأيها الإخوة الأحباب الأعزاء، وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم جل وعلا الذي جمعنا وإياكم في هذا البيت المبارك على طاعته أن يجمعنا وإياكم في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله: سلعة ثمنها الجنة، هذا هو عنوان لقائنا مع حضراتكم في هذا اليوم الأغر المبارك، وكعادتنا فسوف ينتظم حديثنا مع حضراتكم تحت هذا العنوان في العناصر التالية: أولاً: واقع مرير. ثانياً: شرف الجهاد وفضله. ثالثاً: صورة مشرقة. رابعاً: التولي كبيرة. وأخيراً: لا عز إلا بالجهاد. فأعيروني القلوب والأسماع، فإن هذا الموضوع في هذه الآونة الحرجة من الأهمية بمكان، والله أسأل أن يرزقنا الصواب والسداد والتوفيق، وأن يجعل أقوالنا وأعمالنا خالصة لوجهه؛ إنه ولي ذلك ومولاه، وهو على كل شيء قدير.

واقع مرير في حياة الأمة

واقع مرير في حياة الأمة أيها الأحبة: لن أطيل الحديث في تشخيص الواقع المرير الذي تحياه الأمة في هذه الأيام، فإن هذا الواقع معروف للصغير قبل الكبير، ومعروف للقاصي قبل الداني، فوالله إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن وإنا لما حل بالأمة لمحزونون. أيها الأحباب! إن الناظر إلى أمة الإسلام سيبكي دماً بدل الدمع إن كان ممن يتحرق قلبه على أحوال أمته الجريحة المسكينة، فإن الأمة قد ذلت بعد عزة، وضعفت بعد قوة، وجهلت بعد علم، وأصبحت في ذيل القافلة الإنسانية بعد أن كانت تقود القافلة كلها بالأمس القريب بجدارة واقتدار. أصبحت الأمة اليوم تتأرجح في سيرها، بل ولا تعرف طريقها الذي يجب عليها أن تسلكه وأن تسير فيه بعد أن كانت الأمة بالأمس القريب الدليل الحاذق الأرب للدروب المتشابكة في الصحراء المهلكة التي لا يهتدي للسير فيها إلا الأدلاء الأذكياء المجربون، وأصبحت الأمة الآن تتقوت على موائد الفكر الغربي بعد أن كانت الأمة بالأمس القريب منارة تهدي الحيارى والتائهين والضالين الذين أحرقهم لفح الهاجرة القاتل، وأرهقهم طول المشي في التيه والظلام. إن كان الله جل وعلا قد وصف الأمة في القرآن بالوسطية والوسطية هي الاعتدال بتفسير النبي صلى الله عليه وسلم فإننا نرى الأمة الآن قد تركت منهج الوسطية وجنحت إلى الشرق الملحد تارة وإلى الغرب الكافر تارة أخرى. وإذا كان الله جل وعلا قد وصف الأمة في القرآن بالخيرية فقد علل الله خيريتها بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والإيمان بالله جل وعلا، ولكنك ترى الأمة الآن -إلا من رحم ربك جل وعلا من أبنائها- لا تأمر بالمنكر ولا تنهى عن المعروف، بل ويشرك بالله جل وعلا على مرأى ومسمع ولا حول ولا قوة إلا بالله. وإذا كان الله عز وجل قد وصف الأمة في القرآن بالوحدة إلا أنك ترى الأمة الآن قد تمزق شملها، وتشتت صفها، وتقسمت إلى دول بل إلى دويلات، بل وتفككت الدويلات هي الأخرى إلى أجزاء، بل وتقسمت الأجزاء من الدويلات إلى أجزاء، ووضع الاستعمار بين هذه الدويلات والجزئيات مسماراً عفناً نتناً ألا وهو مسمار الحدود، يطرق عليه الأعداء بعنف وقوة من آن لآخر لتشتعل نار الفتن بين هذه الدويلات الصغيرة التي لا تحرك ساكناً، ولم يعد يلتفت إليها الشرق الملحد أو الغرب الكافر. لقد تحولت الأمة الآن إلى قصعة مستباحة من أذل وأخس وأحقر أمم الأرض، أصبحت الأمة الآن قصعة مستباحة لإخوان القردة والخنازير للصرب المجرمين للملحدين الشيوعيين لعباد البقر الأنجاس. لقد أذل الله الأمة الآن لمن كتب الله عليهم الذل والذلة والمهانة! وأنا أتساءل دوماً وكثيراً وأقول: هل رأيتم أذل ممن أذله الله للأذل؟ لا والله، ولا أريد أن أفصل في تشخيص الداء فإنه معلوم، والسؤال الآن: ما الذي أوصل الأمة إلى هذا الحال وإلى هذا الواقع المرير؟ والجواب -أيها الأحبة- في آية واحدة محكمة من كتاب الله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]. والله لقد غيرت الأمة وبدلت بدلت في جانب العقيدة في جانب العبادة في جانب التشريع، بل تجرأت وتحدت ربها جل وعلا، ونحت شريعة نبيها، وحكمت في الأعراض والأموال والفروج القوانين الوضعية والمناهج الأرضية من صنع المهازيل من البشر من الملحدين والشيوعيين والديمقراطيين والعلمانيين والساقطين بل والتافهين، ممن قال عنهم المصطفى في حديثه الصحيح الذي رواه أحمد وغيره: (يأتي على الناس سنوات خداعات، يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن ويخون فيها الأمين وينطق فيها الرويبضة، قيل: ومن الرويبضة يا رسول الله؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة) ووالله لقد تكلم التافهون لا في أمر العوام بل في أمر دين الله جل وعلا وشريعة النبي عليه الصلاة والسلام. أيها الأحبة: لقد غيرت الأمة وبدلت في كل جانب من الجوانب إلا من رحم ربك جل وعلا، وما هذا الواقع المرير الذي أراه إلا عدلاً من الله جل وعلا إذ إن الله لا يحابي أحداً من الخلق بحال مهما ادعى لنفسه من مقومات المحاباة. أيها الأحبة! لقد شخص النبي صلى الله عليه وسلم الداء في كلمات بسيطة، وحدد لهذا الداء الدواء، فلم يترك النبي صلى الله عليه وسلم الداء والدواء لأي داعية من الدعاة ليحدده على حسب نظرته أو على حسب هواه، بل حدد الداء في حديثه الصحيح الذي رواه أبو داود من حديث ثوبان رضي الله عنه: (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: كلا، ولكنكم يومئذ كثير، ولكن غثاء كغثاء السيل، وليوشكن الله أن ينزع المهابة من قلوب عدوكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قيل: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت) هذا هو الداء. ولقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم الداء في حديث آخر رواه أحمد وأبو داود من حديث ابن عمر وصححه الألباني وغيره، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا تبايعتم بالعينة) والعينة نوع من أنواع البيوع الربوية المحرمة ولا مجال للتفصيل في هذا البيع الآن. قال: (إذا تبايعتم بالعينة، ورضيتم بالزرع، وتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد في سبيل الله سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم). يوم أن حرفت الأمة الإيمان بالله ونخر الفكر الغربي في جسد الأمة، وشوهت العقيدة الصافية، ودنس صفاؤها وعكر نقاؤها، وانحرفت الأمة عن المعتقد الصحيح، وعن حقيقة الإيمان التي قال عنها علماؤنا: قول باللسان، وتصديق بالجنان، وعمل بالجوارح والأركان، وانطلقت الأمة لتستغيث بغير الله، ولتستعين بالشرق الملحد والغرب الكافر، ولتذبح لغير الله، ولتقدم النذور لغير الله، ولتسأل الأموات من دون الله، بل ولتنحي شريعة الله جل وعلا، ووقعت في شرك مظلم معتم إلا من رحم ربك جل وعلا، وتركت بعد ذلك الجهاد في سبيل الله، وأخلدت إلى الوحل والطين، وعاش المسئولون في هذه الأمة يعبدون العروش والكروش والقروش، وبذلوا كل ما يملكون حتى العقيدة من أجل الحفاظ على هذا الكرسي الزائل والمنصب الفاني، ومن أجل إرضاء السادة والكبراء الذين أجلسوهم على هذه الكراسي، ولعبوا بهم من وراء الكواليس كلعبة العرائس أو الدمى على مسرح يتلهى به الساقطون والسذج والرعاع. أيها الإخوة! لما أخلدت الأمة إلى الأرض وتركت الجهاد في سبيل الله سلط الله عليها إخوان القردة والخنازير، والصرب الكفرة المجرمين، والشيوعيين الملحدين، وعبدة البقر والفئران المجرمين في كشمير، وهأنتم ترون الصورة بهذا الواقع المرير، وبهذا الظلام، نسأل الله جل وعلا أن يسعد قلوبنا وإياكم بنصرة الإسلام وعز المسلمين، و {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]. أيها المسلمون! واقع مرير، ولا خروج من هذا الواقع المرير الذي تحياه الأمة الآن إلا إذا رفعت الأمة من جديد راية ذروة سنام الإسلام، راية الجهاد في سبيل الله، والله لقد تمنيت من كل قلبي أن لو أسمعت هذا الموضوع وهذه الخطبة لكل مسئول في هذه الأمة، لا أقول لمسئولينا في مصرنا -أسأل الله أن يحفظها- وإنما تمنيت أن لو أسمعت هذا لكل مسئولي هذه الأمة الذين يتعرضون الآن للذل والمهانة من قبل أعداء الله جل وعلا، ولو فطنوا إلى أن الشباب الذين أعلنت عليهم الحرب اليوم هم القوة الرادعة لأعداء الله جل وعلا لاحتضنوا هؤلاء الشباب، ولوضعوهم في القلوب، وأطبقوا عليهم العيون، فإنه إذا جد الجد وحمي الوطيس فهم أسوده. أيها الأخيار! ها نحن نرى اليهود يتلاعبون بالأمة كلها، بل وبالعالم كله، وما أخبار المفاعل النووي في (ديمونة) من أحد ببعيد. وها نحن نسمع الآن وزير خارجيتنا يصرح بتصريحات جريئة بل وخطيرة، ولو علم الحكام قوة هؤلاء الشباب الذين يتشوقون للجهاد في سبيل الله لوضعوا هؤلاء الشباب في القلوب ولفتحوا الباب على مصراعيه لشباب توضأ لله جل وعلا، وقام الليل يتضرع إلى الله أن يرفع الله علم الجهاد، ليقوم هؤلاء ليسدوا بصدورهم فوهات مدافع أعداء الله جل وعلا. أيها الأحبة! لا عز لهذه الأمة إلا بالجهاد، وأنا أعلم علم اليقين أن الحديث عن الجهاد أصبح جريمة، ويقابل بتعسف شديد وباستنكار، بل وأصبح الحديث عن الجهاد تهمة يؤخذ عليها بالنواصي والأقدام، لكن تمنيت أن لو فهم الحكام حقيقة الجهاد الذي أنادي به الآن، فأنا ما قصدت به التطرف؛ لأن إعلامنا العميل قد شوه الصورة فهو متخبط في قلب الحقائق وتشويه الصور، فقد شوه الإعلام صورة الجهاد، وطمس الصورة المشرقة للجهاد، وخلط بينما يسميه بالإرهاب والتطرف. إلى آخر مسمياتهم، بل وخلط الإعلام بين هذه الصورة وبين الصورة المشرقة للجهاد في سبيل الله ضد أعداء الله من الكافرين والمنافقين. أيها الأحباب! لا بد أن يعي الحكام حقيقة الجهاد حتى لا يصبح الجهاد بعبعاً يخشونه الحكام في كل بلد من بلاد المسلمين، يخشون من مجرد سيرته أو من مجرد الحديث عنه، لأن القائمين على الإعلام قد قلبوا الحقائق وشوهوا الصور.

شرف الجهاد وفضله

شرف الجهاد وفضله أيها الأحبة! عنصرنا الثاني من عناصر هذا اللقاء: شرف الجهاد وفضله. أحبتي! لقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالدعوة إليه، ونادى عليه بقوله: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:1 - 2] فقام النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقعد ولم ينم حتى لقي ربه جل وعلا، ثم خاطبه بعد هذه المرحلة السرية، بأن يجهر بالدعوة، والسرية والجهرية في الدعوة قائمة إلى يومنا هذا بحسب ما تقتضيه مصلحة الدعوة، وانطلق عليه الصلاة والسلام يدعو الناس إلى الله سراً في الظلام وتحت السراديب لماذا؟ لأن للأصنام جيوشاً من الغضب، ولأن عباد الأصنام ينحر بعضهم بعضاً من أجل ناقة، فما ظنك بما سيفعلونه من أجل آلهتهم التي يذبحون لها آلاف النياق؟! وبعد ثلاث سنوات أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يجهر بالدعوة بقوله: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر:94] فقام الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ليجهر بدعوة الله على رءوس المشركين بمكة، فصدع بأمر الله ودعا إلى الله الصغير والكبير، والذكر والأنثى، والحر والعبد، والأحمر والأسود، فأرغت قريش وأرعدت وأزبدت، ودقت طبول الحرب وأوعدت، وازداد الإيذاء واشتد البلاء، وأصاب هذا البلاء صاحب الدعوة، وابتلي المصطفى صلى الله عليه وسلم، ووضع التراب على رأسه! يا شباب الصحوة! وضع التراب على رأس الحبيب محمد! ووضعت النجاسة على رأسه، وتقدم إليه مجرم ليخنق أنفاسه. وابتلي أصحاب الحبيب وأنتم تعلمون ماذا فُعل بـ بلال وماذا فعل بـ عمار وماذا فعل بأم ياسر وماذا فعل بـ خباب وبغيرهم، وعندها أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالهجرة إلى بلاد الحبشة مرتين. لماذا الهجرة إلى الحبشة؟ لأن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد، ولما كثرت جراحات أصحاب النبي صلى الله من أثر التعذيب الذي لاقوه على أيدي المشركين والمجرمين في مكة؛ هاجروا إلى الحبشة، ومع ذلك، لم يأذن الله لنبيه صلى الله عليه وسلم في القتال. يا شباب الإسلام! ليس من الحكمة مطلقاً أن تقاتل فئة قليلة أمة طاغية عاتية جندت كل طاقاتها وإمكانياتها للصد عن سبيل الله ولمحاربة دين الله، بل وليس من فقه الدعوة ولا من الدين، إنما قد لا ينسحب هذا الحكم على بعض الأفراد، فإن الذي ندين الله به أنه على طول خط الدعوة رأينا من الأفراد من يبذل روحه لدين الله جل وعلا ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، لكنني أتكلم في الجملة وبالمجموع، فليس من الحكمة أن تواجه. وهأنذا أكرر للمرة الثالثة: ليس من الحكمة أن تواجه فئة في صورة ضعيفة لا يملكون فيها شيئاً أمة طاغية جندت كل الطاقات والإمكانيات للصد عن سبيل الله جل وعلا، وإنما في هذه الحالة تتحرك كما تحرك النبي صلى الله عليه وسلم في مرحلة استضعاف، وهأنذا أقول بملء فمي: نحن نعيش الآن مرحلة استضعاف، بل ومرحلة ذل. يا إخوة! يا من تحرككم الحماسة والعاطفة فقط اعلموا أننا الآن ندفع الجزية، ولا بد من فقه مراحل الجهاد، ولا بد من النظر إلى الأمر نظرة كاملة، إذ إن العاطفة وحدها لا تكفي، وإذ إن الحماس وحده لا يكفي، وأنا أقول ذلك ووالله لا أبتغي به إلا وجه الله، فإن الحركة الإسلامية الآن في أمس الحاجة إلى هداة ودعاة مخلصين لا يجاملون الحركة على حساب منهج الله جل وعلا، إذ لا بد من فهم النصوص العامة والخاصة للربط بينها وبين المناطات الخاصة والعامة ربطاً صحيحاً حتى لا نضع النصوص في غير موضعها، أو نستشهد بالأدلة في غير محلها. أيها الأحبة الكرام: في هذه المرحلة من الاستضعاف لم يأذن الله لنبيه ولا لأصحابه بالقتال، بل أمر الله عز وجل نبيه بقوله: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} [الطور:48] {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:89] تحرك أنت للدعوة جيش الأمة كلها للدعوة لدين الله! أيها الأحبة: جيشوا الأمة كلها للدعوة لدين الله جل وعلا: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:89]. وبعد مرحلة الجهر بالدعوة اشتد البلاء والإيذاء، وبلغ الإيذاء ذروته بتدبير مؤامرة حقيرة لاغتيال صاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم، فأمر الله نبيه بالهجرة من مكة إلى المدينة، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة بالهجرة من مكة إلى المدينة، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أسس للإسلام دولة بكل ما تحمله معنى كلمة دولة: قائد جيش رجال قوة أرض، وهنا بل وهنا فقط أذن الله للنبي والمسلمين معه بالقتال ولم يفرض القتال عليهم، بل أذن لهم في صد العدوان لتأمين الدعوة، فقال جل وعلا: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج:39 - 40] ألم أقل لكم هذه هي الجريمة القديمة الحديثة: أن تقول: لا إله إلا الله: {إلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:40 - 41] أذن الله بصد العدوان بالقتال لتأمين الدعوة وحماية النفس، ولم يفرض الله القتال على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وفي السنة الثانية من الهجرة -وهذه هي المرحلة الرابعة من مراحل التشريع الجهادي- أمر الله النبي والمؤمنين معه بالقتال، وفرض الله القتال عليهم بقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216] وهنا أصبح القتال فرضاً على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه والمؤمنين من بعده إلى أن يرث الله الأرض من عليها، ولا تصدقوا الكذابين والأفاكين والمجرمين الذين أرادوا أن يميتوا الجهاد، فإن الجهاد ما مات ولم يمت ولن يموت بإذن الله، وأسأل الله جل وعلا أن يسعدنا وإياكم برفع علم الجهاد؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه. ولقد بين الله شرف الجهاد بعد ذلك، وحث الله المؤمنين على الجهاد فقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ} [الصف:10] هأنذا الآن لو قلت لحضراتكم: أيها الناس هل أدلكم على تجارة يربح فيها صاحب الألف ألفين هل أدلكم على تجارة يربح فيها صاحب المليون مليونين، لحلقت الأعين وأنصتت الآذان. نعم. فهذه تجارة مربحة، ولقلتم بصوت واحد: أين دلنا!! هأنذا أدلكم على تجارة أغلى من ذلك وأربح من ذلك، يقول الحق جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} [الصف:10 - 13] اللهم عجل بالفتح يا رب العالمين!: {نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الصف:13] هل تصدقون الله رب العالمين؟! انتبهوا يا شباب الصحوة! فقد أمر الله بالإيمان قبل الجهاد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا} [الصف:10] فأثبت لهم عقد الإيمان ابتداءً، ثم قال: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [الصف:10 - 11]. يا إخوة: والله الذي لا إله غيره لن نرى للإسلام دولة، ولن نرى حاكمية تطبق الشريعة إلا إذا حققنا الإيمان ابتداءً، وربينا الناس على عقيدة التوحيد بصفائها وشمولها وكمالها. يا إخوة! الإسلام لبنة أساسه العقيدة، فالإسلام عقيدة تنبثق منها شريعة تنظم كل شئون الحياة، ولا يقبل الله من قوم شريعتهم إلا إذا صحت عقيدتهم، فمحال والله أن نرى ما نحلم به إلا بمثل ما بدأ به المصطفى، وقد بدأ بالتربية بالعقيدة. لا تتعجب أيها الشاب، ولا تقل لي: أنت تريد منا الآن أن نبدأ بالتربية على العقيدة من جديد، والأمة تضرب بالنعال؟! أقول لك بملئ فمي وأعلى صوتي: لن تجني ثمرة على الإطلاق ولو عشت ألف سنة إلا إذا ربيت من جديد على العقيدة بصفائها وشمولها، وأنت لست مسئولاً عن النتيجة، والله لن يسألك عن النتيجة، إنما سيسألك عن العمل: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105] لن يسألني الله عن نتيجة الدعوة، ولا عن نتيجة العمل، وما علي الآن إلا أن أدعو، سواءً اهتدى الناس أم لم يهتدوا، فليس هذا من شأني، بل ولا من شأن غيري، إنما هو من شأن العزيز الحميد. لقد خاطب الله إمام الدعاة وسيد النبيين بقوله: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:272] {إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ} [الرعد:7] {يَا أَيُّهَا ا

صور مشرقة من حياة الصحابة الكرام في ميادين الجهاد

صور مشرقة من حياة الصحابة الكرام في ميادين الجهاد عباد الله! إن شرف الجهاد عظيم, وإن فضل الجهاد كبير، ولما علم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بذلوا أرواحهم لله جل وعلا، وإن عنصرنا الثالث: صور مشرقة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:

أنس بن النضر

أنس بن النضر فهذا أنس بن النضر -وحديثه في الصحيحين- في غزوة أحد يسمع الخبر: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتسري الفتنة والفاجعة بين الجنود كسريان النار في الهشيم، حتى وضع بعض الصحابة السلاح وأرادوا الرجوع إلى المدينة، وقالوا: ماذا نصنع بالحياة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمر عليهم أنس بن النضر فأخبروه بذلك فصرخ فيهم وقال: قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم التفت فرأى سعد بن معاذ فقال له: يا سعد! إني لأجد ريح الجنة، وترك أنس بن النضر سعد بن معاذ وانطلق في صفوف القتال ليقاتل محتسباً مقبلاً غير مدبر، فمن الله عليه بالشهادة، فما عرفته إلا أخته ببنانه، وبه بضع وثمانون جرحاً ما بين ضربة بسيف ورمية بسهم وطعنة برمح.

عمير بن الحمام

عمير بن الحمام وهذا عمير بن الحمام يقف إلى جوار النبي صلى الله عليه وسلم على أرض المعركة في بدر ليرفع النبي هذا التبليغ الكبير: (أيها الناس قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض)، الله أكبر! فسمع عمير بن الحمام، هذا الشاب العملاق، سمع هذا النداء من القائد الأعلى بأبي هو وأمي حيث أفاد: (قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض، فقال عمير: بخ بخ! جنة عرضها السماوات والأرض، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم عميراً، فقال: يا عمير ما حملك على أن تقول بخ بخ؟ قال: لا والله يا رسول الله إلا أني رجوت أن أكون من أهلها، فقال المصطفى: أنت من أهلها). يا إلهي! هكذا يبشر على الفور بالجنة وهو لا زال على تراب الدنيا، والمبشر له هو المصطفى الصادق المصدوق، يقول له: (أنت من أهلها) فاطمأن عمير، وأخرج تمرات معه ليأكلها ليتقوى بها على القتال، وما أخرج تلك الكلمات إلا ليرفع بها معنوياته، فما أتوا له براقصة داعرة لترفع معنويات الجيش، بل سمع هذه الكلمات فارتفعت معنوياته كلمات الطهر والصدق، وأخرج التمرات ليأكلها ليتقوى على القتال، فأكل تمرة أو أكثر، ثم تفكر في كلام المصطفى وفي حقيقة الأمر، وقال: جنة عرضها السماوات والأرض! كأن ما بيني وبين الجنة إلا أن ألقي بهذه التمرات وأن أنقض في الصفوف لأقاتل فأقتل لأدخل الجنة، والله لئن حييت حتى آكل هذه التمرات إنها إذاً لحياة طويلة!. أيها الاحباب! تمنيت أن لو سمع ذلك عباد العروش والقروش والكروش يعتقد أن الحياة لأكل بعض التمرات طويلة!

حنظلة بن أبي عامر

حنظلة بن أبي عامر وهذا شاب آخر في أول أيام عرسه، في ليلة أنس وعرس، يسمع النداء: يا خيل الله اركبي، حي على الجهاد، حي على الجهاد، فينزع نفسه من بين أحضان عروسه، أو إن شئت فقل: ينزعه الإيمان من بين أحضان عروسه وينطلق مسرعاً على الفور لينال شرف الصف الأول خلف رسول الله، وتنتهي المعركة، ويرفع التقرير للحبيب محمد، يا رسول الله إننا نرى أثر ماء على أرضنا، ونزل النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه فرأى أثر الماء على حنظلة، فقال النبي: اسألوا زوجته، اسألوا أهله، فرفعت زوجة حنظلة هذا التقرير العجيب وقالت: إن حنظلة لما سمع المنادي يقول: يا خيل الله اركبي! حي على الجهاد! حي على الجهاد! كان جنباً فلم يمهله الوقت ليرفع عن نفسه الجنابة، فانطلق لينال شرف الصف الأول خلف الحبيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسقط شهيداً في ميدان القتال، فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قال: (إن الله جل وعلا قد أرسل ملائكة من السماء بماء من الجنة لتغسل حنظلة، ولترفع عنه الجنابة، ليلقى الله جل وعلا وهو طاهر). إنهم الأبطال! إنهم الرجال الذين عرفوا حقيقة الدنيا!! اللهم إنا نشهدك أننا نحب الجهاد في سبيلك، اللهم إنا نشهدك أنا نتمنى الجهاد في سبيلك، اللهم إنا نشهدك أن لو نادى المنادي الآن: يا خيل الله اركبي حي على الجهاد لرأيت من هذا الشباب ومن هؤلاء الشيبان من هو كـ حنظلة، ومن هو كـ عمير بن الحمام، ومن هو على شاكلة خالد. اللهم إنا نشهدك أن من شباب الأمة الآن من يتمنى أن لو سد فوهات المدافع بصدره لتكون كلمتك هي العليا!! اللهم ارفع علم الجهاد، واقمع أهل الزيغ والفساد برحمتك يا أرحم الراحمين!

عظم التولي يوم الزحف

عظم التولي يوم الزحف عباد الله! لقد حرم الله جل وعلا التولي من ساحة الجهاد، بل وجعله كبيرة من الكبائر، فقال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:45]، وقال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال:15 - 16] يبوء بغضب الله ومأواه جهنم؛ لأنه فر من ساحة الشرف والبطولة. يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعب من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب ريح العبير لكم ونحن عبيرنا رهج السنابك والغبار الأطيب من كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعب ولقد أتانا من مقال نبينا قول صحيح صادق لا يكذب لا يستوي غبار خيل الله في أنف امرئ ودخان نار تلهب هذا كتاب الله ينطق بيننا ليس الشهيد بميت لا يكذب من علم هذه الحقيقة بذل نفسه وهو يعلم أنه سيفوز بإحدى الحسنين: الشهادة أو النصر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال:15 - 16] وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن التولي كبيرة، كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة: (اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات). أسأل الله أن يجعلني من: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:18] وأرجئ الحديث عن العنصر الأخير إلى ما بعد جلسة الاستراحة، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

لا عزة إلا بالجهاد

لا عزة إلا بالجهاد الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الأحبة: لا عزة إلا بالجهاد، وأعلم يقيناً أنكم تعلمون ذلك، وتمنيت أن لو أسمع من لا يعلم ذلك، فأسأل الله أن يبارك بهذه الكلمة وأن يوصلها كيف شاء. أيها المسئولون أيها الحكام؛ ها أنتم تصرحون الآن على ألسنة وزرائكم أن اليهود يتحدون العالم كله، وهأنتم توقعون على نزع السلاح النووي من منطقة القارة الأفريقية وتنادون بنزع السلاح النووي من إسرائيل، بل وحدد بمنتهى الصراحة وزير خارجيتنا وأعلن أنه لن يسمح على الإطلاق بأن تمتلك إسرائيل السلاح النووي، ويحذر من المواجهة المسلحة في المنطقة مرة أخرى، وأنتم تعرفون ما لا نعرفه نحن، فلماذا لا تفتحون صفحة جديدة مع الشباب المسلم؟ والله الذي لا إله غيره إذا جد الجد لن يفر من الميدان إلا من ترفعونهم اليوم على الرءوس وفوق الأعناق. هل تتوقعون أن يحمل السلاح ضد اليهود وأذناب اليهود وأعداء الأمة الممثلون الساقطون الهابطون؟ هل تتوقعون أن يدافع عن الأرض والعرض والعقيدة المطربون والمطربات، واللاعبون واللاعبات؟ لا والله، فلن يدفع العدو الذي يصول الآن ويجول إلا هذا الشباب الطاهر الذي توضأ لله جل وعلا، وقام بالليل يبكي، وكاد قلبه أن يحترق وهو يرى الأمة من حوله مبعثرة، والدماء من حوله تنزف والأشلاء من حوله تتمزق، ومع ذلك فإن الطواغيت قد وضعوا في وجهه العقبات والعراقيل والسدود، بل واتهموه بأبشع التهم إن اشتاق إلى الجهاد في سبيل الله، يخرج لينصر إخوانه في أفغانستان فيتهم بالتطرف والإرهاب يذهبون إلى البوسنة فيشار إليهم بأصابع الاتهام هؤلاء تدربوا على السلاح! لماذا لا نستغل مثل هذه الطاقات في محاربة أعداء الله؟! {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60]. نحن لا ننادي بأعمال الفوضى مطلقاً داخل البلاد، فإننا لا نوافق على ذلك على الإطلاق، بل إنني أقول لهؤلاء: والله إننا أحرص على أمن مصر منكم، وأحرص على مصر منكم، فلماذا يتهم هؤلاء على طول الخط؟! لماذا يشار إليهم بأصابع الاتهام في كل المناسبات بل وبدون مناسبات؟ لماذا لا تفتح لهم الصفوف؟ لماذا لا يستمع إلى رأيهم؟ ما توجههم، ما هي أمنيتهم، ما هي هويتهم؟ هويتهم تحكيم الشريعة. هل هذا إرهاب؟! هل من ينادي بأن يحكم قرآن الله، وأن تحكم شريعة رسول الله إرهابي متطرف؟! قالوا تطرف جيلنا لما سما قدراً وأعطى للطهارة موثقا ورموه بالإرهاب لما أبى الخنا ومضى على درب الكرامة والسخا أوكان إرهاباً جهاد نبينا أم كان حقاً بالكتاب مصدقا أتطرف إيماننا بالله في عصر تطرف بالهوى وتزندقا إن التطرف أن نذم محمداً والمقتدين به نمدح عفلقا إن التطرف أن نبادل كافر حباً ونمنحه الولاء محققا إن التطرف وصمة في وجه من جعل البوسنة جمراً محرقا شتان بين النهر يعذب ماؤه والبحر بالملح الأجاج تفتقا ما هو التطرف؟ ما هو الإرهاب؟ لماذا لا تفتح الصفوف لشباب الإسلام ليعدوا لمثل هذا اليوم؟ ووالله إنه لقادم، إنه لوعد الله ووعد الصادق رسول الله الذي لا ينطق عن الهوى. هذا نداء إلى حكامنا ومسئولينا: إننا لا نريد على الإطلاق فتناً أبداً، ولا نريد على الإطلاق أن تخدش لبنة في جدار من جدران مصر أبداً، إننا نواجه ذلك على طول الخط، إذ إننا نعلم يقيناً أن الدعوة إلى الله لن تثمر إلا في جو هادئ آمن مطمئن. أيها الأحبة! إن المرحلة التي نحياها الآن تحتاج من كل فرد منا، ومن كل رجل، ومن كل شاب، ومن كل طفل، ومن كل أخت، ومن كل فتاة. تحتاج من أن نربي أنفسنا على الأقل -وذلك أضعف الإيمان- تربية إيمانية صحيحة بشمولها وكمالها، لا نريد علماً فقط، ولا أريد أن يقعد الإخوة لطلب العلم الشرعي فقط، وإنما أريد أن نحول هذا العلم في حياتنا إلى واقع، وأن نجيش الأمة كلها دعوياً لدين الله جل وعلا؛ لنكون القاعدة الصلبة التي تحمل دين الله وتنطلق بدين الله لتنادي على الجميع بتحقيق دين الله، وحينئذ يفرح المؤمنون بنصر الله! والله أسأل أن يقر أعيننا وإياكم بنصرة الإسلام وعز الموحدين! اللهم ارفع علم الجهاد، اللهم ارفع علم الجهاد، اللهم ارفع علم الجهاد، اللهم اقمع أهل الزيغ والفساد، اللهم اقمع هل الزيغ والفساد، اللهم أقر أعيينا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم اشف صدور قوم مؤمنين، اللهم اشف صدور قوم مؤمنين، اللهم اشف صدور قوم مؤمنين! اللهم إنا نشكو إليك خيانة الخائنين، وإشراك المنافقين، وضعف الموحدين، اللهم إنا نشكو إليك إجرام المجرمين، وخيانة المنافقين، وضعف الموحدين! اللهم ارحم ضعفنا، اللهم ارحم ضعفنا، اللهم ارحم ضعفنا! اللهم اجبر كسرنا، اللهم اغفر ذنوبنا، اللهم استر عيوبنا، اللهم آمن روعاتنا، اللهم تول أمرنا! اللهم فك أسرنا، اللهم واختم بالباقيات الصالحات أعمالنا، اللهم إن أردت بالناس فتنة فاقبضنا إليك غير خزايا ولا مفتونين ولا قانطين ولا مضيعين ولا مغيرين ولا مبدلين، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم انصر المجاهدين في كل مكان، اللهم انصر المجاهدين في كل مكان، اللهم قيض لأمة التوحيد أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، أنت ولي ذلك ومولاه! اللهم قيض للأمة قائداً ربانياً يحكم الأمة بكتابك وبسنة رسولك صلى الله عليه وسلم، لينصر دينك لتنصره والأمة يا رب العالمين! اللهم احمل المسلمين الحفاة، واكس المسلمين العراة، وأطعم المسلمين الجياع، اللهم ارزقنا الشهادة في سبيلك، اللهم ارزقنا الشهادة في سبيلك، اللهم وإن كان الطواغيت قد منعونا من الجهاد فإنا نشهدك أننا نحدث أنفسنا بالصبر والجهاد في سبيلك! اللهم واختم لنا بالشهادة ولا تحرمنا الزيادة، اللهم وأدخلنا الجنة ولا تحرمنا الزيادة! اللهم احفظ شباب الأمة! اللهم أصلح حكامنا، اللهم اهد حكامنا، اللهم اهد حكامنا، اللهم ردهم إليك رداً جميلاً! اللهم ردهم إلى القرآن رداً جميلاً، اللهم ردهم إلى السنة رداً جميلاً، اللهم ردهم إلى الحق رداً جميلاً، اللهم ارزق علماءنا الصدق والإخلاص، اللهم جنب علماءنا الرياء والنفاق، اللهم جنب علماءنا الرياء والنفاق، اللهم ارزق علماءنا الصدق والإخلاص، واجمع كلمتهم يا رب العالمين! اللهم اجمع شمل الأمة، اللهم وحد صفها، اللهم لا تمزق شملها، اللهم اجمع كلمتها يا رب العالمين، اللهم استرنا ولا تفضحنا وأكرمنا ولا تهنا وكن لنا ولا تكن علينا! اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك! اللهم أكرمنا ولا تهنا وكن لنا ولا تكن علينا! اللهم من أرادنا والإسلام بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا والإسلام بسوء فأشغله بنفسه ودمره كما دمرت عاداً وثمود، حسبنا الله ونعم الوكيل من كل ظالم يمكر بنا! اللهم إنا نعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا، اللهم إنا نعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا، اللهم إنا نعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا! اللهم فك أسر إخواننا المأسورين، اللهم فك أسر شيوخنا المسجونين، اللهم فك أسر شيوخنا المسجونين، اللهم فك أسر دعاتنا المأسورين، اللهم فك أسر دعاتنا المأسورين، اللهم اربط على قلوبهم يا أرحم الراحمين، اللهم رب أولادهم يا رب العالمين، اللهم رب أولادهم يا رب العالمين، اللهم رب أولادهم يا رب العالمين، اللهم احفظنا وإياهم بحفظك، واكلأنا وإياهم بعنايتك ورعايتك! اللهم اجعل مصر واحة للأمن والأمان، اللهم اجعل بلدنا مصر واحة للأمن والأمان! اللهم اجعل مصر سخاءً رخاءً وسائر بلاد الإسلام! اللهم ارفع عن مصر الغلاء والوباء والبلاء والفتن ما ظهر منها وما بطن يا رب العالمين! أيها الأحبة الكرام! هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان والله ورسوله منه برآء، وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون عليه إلى الجنة ويلقى بي في جهنم. والحمد لله رب العالمين.

خطورة الكلمة

خطورة الكلمة للكلمة أثر عظيم في الخير أو الشر، فبالكلمة يرضى الله عز وجل عن العبد، حتى تبلغه من ذي العرش رضواناً وبها يسخط الله عز وجل عليه، فيتهاوى بها في دركات النار، فيجب على المسلم أن يحذر من لسانه، وألا يتكلم إلا بما يعود عليه بالنفع في الدنيا والآخرة.

تأكيد الإسلام على خطورة الكلمة

تأكيد الإسلام على خطورة الكلمة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين {الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدَاً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} [الإسراء:111] {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} [المؤمنون:91]، الحمد لله الذي لا إله إلا هو، فلا خالق غيره، ولا رب سواه، المستحق لجميع أنواع العبادة؛ ولذا قضى إلا نعبد إلا إياه {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [لقمان:30]. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدَّى الأمانة، وبلَّغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، اللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته وإمامته، وصلِّ اللهم وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة التي طال شوقي إليها، وزكَّى الله هذه الأنفس التي انصهرنا معها في بوتقة الحب في الله، وشرح الله هذه الصدور التي جمعنا وإياها كتاب الله. أحبائي يا ملء الفؤاد تحيةً تجوز إليكم كل سفحٍ وعائقِ لقد شدني شوق إليكم مكلل بالحب والتقدير والدعاء المشفقِ وأرَّقني في المُظلِمات عليكمُ تكالب أعداء سعوا بالبوائقِ أردتم رضا الرحمن قلباً وقالباً وما أرادوا إلا حقير المآزقِ فسدد الله على درب الحق خطاكمُ وجنبكم فيه خفي المزالقِ مرحباً بأحبابي! مرحباً بأصحابي أوسمة السنة والشرف! طبتم جميعاً، وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً. واسمحوا لي أن أخص بالتحية صانعة الأجيال، ومربية الرجال، التي تربعت طيلة القرون الماضية على عرش حيائها، تهز المهد بيمينها، وتزلزل عروش الكفر بشمالها، فمرحباً مرحباً بكِ -يا صاحبة النقاب- عهد غربة الإسلام الثانية! يا درةً حُفظت في الأمس غاليةً واليوم يبغونها للهو واللعب يا قرةً قد أرادوا جَعْلها أمَداً غريبة العقل غريبة النسب هل يستوي مَن رسولُ الله قائدُه دوماً وآخرُ هاديه أبو لهب وأين مَن كانت الزهراء أسوتُها ممن تخطت خطى حمالة الحطب فلا تبالي يا صاحبة النقاب! لا تبالي يا أختاه! فلا تبالي بما يُلقون من شُبَهٍِ وعندك الشرع إن تدعيه يستجب سليه مَن أنا لمننسبي من أهلي للغرب أم أنا للإسلام والعرب لمن ولائي لمن حبي لمن عملي لله أم لدعاة الإثم والكذب وما مكاني في دنيا تموج بنا في موضع الرأس أم في موضع الذنب هما سبيلان يا أختاه فاكسبي خيراً أو اكتسبي سبيل ربك والقرآن منهجه نور من الله لم يُحجَب ولم يغِب فاستمسكي بعرى الإيمان واعتزي وصابري واصبري لله واحتسبي حياكِ الله يا صاحبة النقاب! وحياكم الله يا أصحاب أوسمة السنة والشرف! يا أصحاب اللحى! أسأل الله جل وعلا أن يجمعني وإياكم في الدنيا دائماً وأبداً على طاعته، وفي الآخرة مع سيد الدعاة وإمام النبيين في جنته ومستقر رحمته؛ إنه ولي ذلك ومولاه، {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة:120]. (خطورة الكلمة) هذا هو عنوان محاضرتنا، فأعيروني القلوب والأسماع؛ فإن هذا الموضوع في هذه الأيام بالذات من الأهمية بمكان، لا سيما ونحن نشهد الآن حرب الكلمة بكل أشكالها وصورها، مقروءة ومسموعة ومرئية، بل ومرسومة. أيها الأحبة! إن ترك الألسنة تُلقي التهم جُزافاً بدون بينة أو دليل يترك المجال فسيحاً لكل من شاء أن يقول ما شاء في أي وقت شاء، ثم يمضي آمناً مطمئناً ليصبح نجماً تلفزيونياً بارعاً تصور صوره، وتترجم كلماته! وبعدها تصبح الجماعة وتمسي وأعراضها مجرَّحة، وسمعتها ملوثة، وإذا كل فرد فيها متهم أو مهدد بالاتهام، وهذه حالة من القلق والشك والريبة لا تطاق. ومن ثم أكد الإسلام على خطورة الكلمة، فبكلمة -أيها المسلم الحبيب- تدخل دين الله، وبكلمة تخرج من دين الله، وبكلمة تنال رضوان الله، وبكلمة تنال سخط الله، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة واللفظ للبخاري أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يُلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم).

طعن المنافقين في الصالحين

طعن المنافقين في الصالحين هناك من يجيد الكلمة، ويجيد التمثيل، بل ربما يجيد العبرة؛ ليقال له على شاشات الشيطان الأكبر الموسوم بالتلفاز: إنك رجل عاطفي رقيق! ولا ينبئك عن هذا الصنف الخبيث مثل خبير، يقول جل وعلا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق اللَّهَ} [البقرة:204 - 206] فاتق الله، ولا تحارب الله ورسوله! اتق الله ولا تصد عن سبيل الله! فاتق الله ولا تقل: تحت النقاب دعارة! فإن أول من لبست النقاب هن زوجات النبي الطاهرات، اتق الله! ولا تحارب الله ورسوله بحجة أنك تحارب الإرهاب، وأنك تريد أن تقضي على التطرف! فما هو الإرهاب؟ وما هو التطرف؟ قالوا تطرف جيلنا لما سما قدراً وأعطى للطهارة موثقا ورمَوه بالإرهاب حين أبى الخنا ومضى على درب الكرامة وارتقى أوَكان إرهاباً جهادُ نبينا أم كان حقاً بالكتاب مُصَدَّقا أتَطَرُّفٌ إيماننا بالله في عصر تطرف في الهوى وتزندقا؟! إن التطرف أن نذم محمداً والمقتدين به وأن نمدح عفلقا إن التطرف أن نرى من قومنا مَن صانَعَ الكفر اللئيم وأطرقا إن التطرف أن نبادل كافراً حباً ونمنحه الولاء محققا إن التطرف وصمة في وجه مَن حوَّلوا البوسنة رماداً محرقا شتان بين النهر يعذُب ماؤه والبحر في الملح الأجاج تمزقا! اتق الله ولا تعمِّم الأحكام! واتق الله ولا تشوِّه الصورة بكاملها! واتق الله ولا تلطِّخ السمعة بأسرها! اتق الله ولا تجرِّح الكرامة كلها! هل أصبح الدعاة إلى الله والإسلاميون مِن خلفِهم بلا استثناء وبدون تفرقة هم المِشْجَب الذي تُعَلَّق عليه كل الأخطاء؛ من ظلم سياسي، وفساد اجتماعي، وتدهور أخلاقي، وفساد إعلامي وعلمي؟! هل أصبح هؤلاء سر تأخر الأمة، وسبب أزمتها، وسبب تأخرها عن ركب الأمم المتقدمة؟! سبحان ربي العظيم! سبحان رب العظيم! اتق الله -يا عبد الله- ولا تحارب الله ورسوله! اتق الله ولا تضع الحديد والنار أمام دين الله جل وعلا، وأمام المتمسكين بسنة الحبيب رسول الله! اتق الله واعلم بأنك ستُعرض بين يدي الله جل وعلا! ولا تظنن أنك ستقف بين يدي محكمة عسكرية مزوِّرة أو محكمة مدنية تقبل الرشوة، وإنما ستُعرض وستقف بين يدي ملك الملوك جل وعلا. فتذكر يا من تعبد الكرسي الزائل! ويا من تعبد المنصب الفاني! ويا من تعبد القلم السيال في النفاق! اتق الله واعلم أنك ستقف غداً بين يدي الله جل وعلا! فتذكر يا مسكين! وإياك وأن تغتر! تذكر وقوفك يوم العرض بين يدي الله عز وجل، فأين الجاه؟! وأين الوجاهة؟! وأين المال؟! وأين السلطان؟! وأين الجريدة؟! وأين الصحف؟! وأين الإعلام؟! وأين الوزارة؟! وأين الإمارة؟! وأين كل شيء؟! لقد ضاع كل شيء! قال سبحانه عن الظالم أنه يقول: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28 - 29]. تذكر وقوفك يوم العرض عرياناً مستوحشاً قلق الأحشاء حيرانا والنار تلهب من غيظٍ ومن حنقٍ على العصاة ورب العرش غضبانا اقرأ كتابك يا عبدي على مهل فهل ترى فيه حرفاً غير ما كانا اقرأ كتابك يا من حاربت الله! اقرأ كتابك يا من حاربت الأطهار! اقرأ كتابك يا من حاربت الأشراف! اقرأ كتابك يا من اتهمت الصالحات! اقرأ كتابك يا من اتهمت القانتات! فلما قرأتَ ولم تنكر قراءته وأقررتَ إقرار مَن عرف الأشياء عرفانا نادى الجليل خذوه يا ملائكتي وامضوا بعبدٍ عصى للنار عطشانا المشركون غداً في النار يلتهبوا والموحدون بدار الخلد سكانا فتذكر -يا علماني! يا من حاربت الله ورسوله! - أن أمام عينيك وبين يديك باب التوبة وباب الأمل، فإن باب التوبة لا يُغلَق أمام أحد البتة ما دام قد جاء تائباً إلى الله، منيباً إلى مولاه، فاحترم قلمك، واحترم فكرك، واحترم عقلك، واحترم صحيفتك، واحترم مجلتك، واحترم قُرّاءك، واكتب ما يرضي الله وما يرضي رسول الله، وإن كانت لا هذه ولا تلك فاكتب الذي يرضي العقل الحر الأبي، والقلم المنصف الهادئ. أهذا ما تريدونه؟! وهل هذا حوار أم إشعال للنار؟! قرأتُ على صفحات صفراء الدمن بالحرف الواحد لأحد هؤلاء المرجفين يقول: بعض الملتحين الجدد تذكرك أشكالهم بالصحابة، وبعضهم يذكرونك بكفار قريش!! وقال آخر: أحذركم من الذي يواظب على الصلوات الخمس، وهو يغتسل من جنابة الزنا في حمام المسجد!! هل هذا حوار أم إشعال للنار؟! وهل هذا فكر أم سب وقذف؟! نحن نريد المناقشة، ونريد الحوار الهادئ الذي تنادون به، ونريد العقل والمنطق، فإن أمن البلد لا يهم طائفة من الناس بعينها، إنما يهم كل مسلم ومسلمة؛ لأننا على يقين أنه كلما كان الأمن مستتباً والأمر مستقراً أثمرت الدعوة إلى الله جل وعلا، ولا تظنوا أن البلد يقتصر على طائفة دون طائفة، كلا! والله! قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة:206] أي: إن لم يتب إلى الله، وإن لم يرجع إلى الله جل وعلا.

تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من خطر اللسان

تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من خطر اللسان أوصى النبي صلى الله عليه وآله وسلم معاذ بن جبل بوصيته الخالدة التي رواها الإمام الترمذي بسند حسن صحيح وفيها: أنه قال لـ معاذ: (ألا أخبرك برأس الأمر، وعموده، وذروة سنامه؟ قال: بلى يا رسول الله! قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله. ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قال: بلى يا رسول الله! فأخذ رسولُ الله بلسانه، ثم قال: كُفَّ عليك هذا. فقال معاذ: أوَإنا مؤاخذون بما تتكلم به ألسنتنا؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكُبُّ الناسَ في النار على وجوههم -أو قال: على مناخرهم- إلا حصائدُ ألسنتهم؟!). فبكلمة تُشْعَل نار الفتن والحروب! وبكلمة خُرِّبت البيوت، وتألمت القلوب، وبكت العيون! بكلمة سُطِّرت في تقريرٍ أسود مِن رجل لا يتقي الله ولا يعبد إلا كرسياً زائلاً ولا يعبد إلا منصباً فانياً خُرِّبت البيوت، وجُرِّحت القلوب، وبكت العيون، وتألمت النفوس! وبكلمة فُرِّق بين زوجين، وبكلمة فُرِّق بين الأخ وأخيه، وبين الوالد وولده، وبين الولد ووالده! كل ذلك بسبب كلمة أيها الأحباب. إن الكلمة أمرها خطير في دين الله، إن أمانة الكلمة -يا من حَمَّلك الله أمانة الكلمة- أمر عظيم. يا أيها المسئول! ويا من حَمَّلك الله أمانة الإعلام! ويا من منَّ الله عليك بقلم تكتب به! اتق الله! ويا من حَمَّلك والله أمانة التربية! اتق الله! واعلم أنك مسئول بين يدي الله عن هذه الأمانة العظيمة، وأنك مسئول عن كل كلمة سطرها قلمك، وستُسأل هل أردت رضوان الله ورضوان رسول الله أم أردت الدنيا وزينتها ولا حول ولا قوة إلا بالله؟ فاتق الله واعلم أن كل كلمة تتلفظ بها قد سُطِّرت عليك في كتاب عند ربي {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى} [طه:52]. يقول الله جل وعلا: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:16 - 18]. وقال جل وعلا: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابَاً يَلْقَاهُ مَنشُورَاً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبَاً} [الإسراء:13 - 14]. وقال جل وعلا: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولَاً} [الإسراء:36]. فستُسأل بين يدي الله عن كل كلمة. وإنَّ أخطر ما ينبغي أن أحذر منه أن هؤلاء المرجفين والمنافقين الذين أعلنوا الحرب الضروس على الإسلام والمسلمين، وهم يملكون أحدث أبواق الدعاية؛ إن أخطر ما أحذر منه أن بعض الطيبين قد رددوا هذه الكلمات الخطيرة التي لو مزجت -والله- بماء البحار لمزجتها! فلا ينبغي لهم أن يرددوا هذه الكلمات التي نطق بها أهل الإرجاف.

ترويج المنافقين لحادثة الإفك

ترويج المنافقين لحادثة الإفك إذا أردتَ -أيها الحبيب- أن تتعرف على خطورة الكلمة بحق فاعلم أنه بسبب كلمات قليلة كاذبة طيَّرها رأس النفاق، وتلقفتها أبواق الدعاية، بثت هذه الكلمات لتنال من عرض أطهر قائد، وأشرف مُرَبٍّ عَرَفَته الدنيا، لتنال من عرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم!! وهل اتهم الحبيب في عرضه؟! A نعم، بسبب كلمات خبيثة طيَّرها منافق، وتلقفتها أبواق الدعاية وعصابات الإرجاف والنفاق، تطايرت هذه الكلمات لتنال من أشرف وأطهر عرض، ألا وهو عرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ففي الصحيحين من حديث عائشة قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد أن يخرج في سفر أقرع بين نسائه، فأيتهن وقع سهمها خرجت معه)، وفي غزوة بني المصطلق ضرب النبي القرعة بين نسائه فوقع السهم على عائشة رضي الله عنها وأرضاها، فخرجت عائشة مع الحبيب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. تقول عائشة: (وكنت أُحْمَل في هودجي، وأُنْزَل فيه، وكان هذا بعد نزول آية الحجاب). والهودج هو: محملٌ أو رحلٌ يوضع على ظهر البعير لتركب فيه المرأة؛ ليكون ستراً لها، فكانت عائشة بعد نزول الحجاب تركب في هذا الهودج، ويُنْزَل هذا الهودج وهي فيه. فلما انتهى رسول الله من غزوِه وقَفَل -أي: عاد-، وقرب من المدينة، وقف الجيش في مكان، وأرادت هذه الزهرة التي نشأت في بستان الحياء أن تقضي حاجتها، فانطلقت عائشة بعيداً عن أعين الجيش لقضاء حاجتها، فلما عادت إلى هودجها ومكانها التمست صدرها فلم تجد عقدها، فعادت لتبحث عن عقدها في موضع قضاء شأنها، فأخرها البحث، فعادت مرة أخرى فلم تجد بموضع الجيش من داعٍ ولا مجيب! فجلست عائشة رضي الله عنها في موضعها، فغلبتها عينها فنامت، وهي تعتقد أن القوم إذا فقدوها سيرجعون إليها مرةً أخرى، وكان من وراء الجيش صفوان بن المعطل السلمي رضوان الله عليه، فاقترب صفوان فرأى سواد إنسان نائم، فعرفها فقال: (إنا لله وإنا إليه راجعون)؛ عائشة وقد كان يراها قبل نزول آية الحجاب. تقول عائشة: (فاستيقظتُ من نومي على استرجاعه -أي: على قوله: إنا لله وإنا إليه راجعون- فأناخ راحلته فركبتُها، ووالله! ما سمعت منه كلمةً غير استرجاعه، ثم انطلق يقود بي الراحلة، فأدركنا الجيش وقد نزلوا موغلين في نحر الظهيرة -أي: في وقت شدة الحر- فهلك في شأني مَن هلك، وكان الذي تولى كبره عبد الله بن أبي ابن سلول. وفي بعض الروايات في غير الصحيحين: قال المنافق الخبيث: من هذه؟ قالوا: عائشة. قال: ومن هذا؟ قالوا: صفوان. فقال الخبيث المجرم -وما أكثرهم اليوم-: زوج نبيكم تبيت مع رجل حتى الصباح، ثم جاء يقودها؟! والله! ما نجت منه، وما نجا منها! فقال قولة عفنة خبيثة شريرة، وتلقفت هذه الكلمات أبواق الدعاية وعصابات الإرجاف والنفاق، وانطلق المنافقون والمرجفون يرددون هذه الكلمات؛ لتنال من عرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. رُحماك رحماك يا ألله! رسول الله يُتَّهم في عرضه وهو الطاهر الذي فاضت طهارته على العالمين؟! رسول الله يُتَّهم في صيانة حرمته وهو القائم على صيانة الحرمات في أمته؟! فيا أيها الدعاة! ويا أيها الشباب! هذا رسولكم يُبتلى هذا رسولكم يُمتحن هذا رسولكم تُصَب الابتلاءات على رأسه يُتَّهم في عرضه يُتَّهم في شرفه يوضع التراب على رأسه يوضع سلى الجزور على ظهره، وبالرغم من ذلك ما قال: يا رب! دعوتُ الناس فلم يستجب لي أحد! وما قال: يا رب! لِمَ تحكم الطواغيت وتمكنهم من رقابنا؟! ولِمَ تحكم الطواغيت وتمكنهم من ظهور الموحدين؟! فإن هذه نغمة أراها تتردد الآن على ألسنة بعض أحبابنا من شبابنا المتحمس الذي اشتد عليه الإيذاء، وكثرت عليه الفتن والمحن، وهذا سوء أدب مع الله يا أخيار! لأن الله جل وعلا يقول عن نفسه: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] ورب الكعبة! إنه ليس أحد أغير على الحق وأهله من الله جل وعلا، فلا تتعجلوا النتائج، ولا تسيئوا الأدب مع ربكم جل وعلا، واعلموا أن الحال كما قال عز وجل: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2]، فليس الإيمان كلمة تقال باللسان فحسب، ولكن الإيمان حقيقة ذات تكاليف، وأمانة عظيمة ذات أعباء، قال عز وجل: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:3]، وقال عز وجل: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:214] وليس مثلهم {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ} [البقرة:214] مَن القائل؟ {الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214]. فرسول الله ابتُلي واتُّهم في عرضه وفي شرفه؛ وهو القائم على صيانة الحرمات في أمته!! وهاهي عائشة رضوان الله عليها تلكم الزهرة التي تفتحت في حقل الإسلام، وسُقيت بمداد الوحي على يد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ تُرمى في أشرف وأعز ما تعتز به كل فتاة شريفة تُرمى في عرضها تُرمى في شرفها، والمرأة تُتَّهم في كل شيء إذا اتهمت في عرضها وشرفها. وهذا هو صديق الأمة الأكبر، ذلكم الرجل الرقيق الوديع الحليم الذي بذل ماله وروحه، بل وبذل أولاده لدين الله؛ يُتَّهم بهذا الاتهام الخطير المريب، وفيمن يتهم؟! يتهم في عائشة في زوج رسوله ونبيه ومصطفاه! وهذا هو صفوان بن المعطل يُتَّهم في عقيدته وفي دينه يوم أن يُرمى بخيانة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم! إنه الابتلاء أيها الأحباب! وأنا لا أريد أن أتوقف مع لفظ الحديث بطوله، وإنما أريد أن أتوقف مع محل الشاهد فقط: تقول عائشة رضوان الله عليها: (فلما عدنا إلى المدينة مرضت شهراً كاملاً، وأنا لا أعلم شيئاً عن قول أهل الإفك، إلا أنه يريبني أني لا أرى من رسول الله اللطف الذي كنتُ أرى حينما أشتكي، بل كان يدخل رسول الله عليّ ويقول: (كيف تيكم؟! ثم ينصرف) فخرجت ذات يوم لقضاء حاجتها مع أم مسطح، فأخبرتها بقول أهل الإفك، فازدادت مرضاً على مرضها، فعاد إليها الرسول يوماً فقالت: أتأذن لي -يا رسول الله- أن أذهب إلى أبَوَي؟ تقول: وأنا أريد أن أتحقق الخبر من قبلهما، فأذن لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم). الشاهد -أيها الأحباب- أن رسول الله ذهب يوماً لزيارة عائشة، فسلم وجلس إلى جوارها، وكانت امرأةٌ من الأنصار قد جلست إلى جوارها تبكي لبكائها، فتشهد النبي صلى الله عليه وسلم، وحمد الله وأثنى عليه، ثم نظر إلى عائشة وقال: (يا عائشة! إنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنتِ بريئة فسيبرئك الله عزَّ وجل، وإن كنتِ قد ألممتِ بذنبٍ فاستغفري الله، وتوبي إليه، فإن العبد إذا أذنب واعترف بذنبه وتاب إلى الله تاب الله عليه). لا إله إلا الله! كلمات تهدهد الحجارة، وتفتت الكبد! عائشة تسمع هذا من رسولها ومن حبيبها وزوجها صلى الله عليه وآله وسلم! فلما سمعت عائشة هذه الكلمات جف الدمع في مقلتيها، ونظرت إلى أبيها صديق الأمة الأكبر وهي تريد أن يرد أبوها عنها هذا الاتهام، وهذه الكلمات المزلزلة فقالت: (يا أبت! أجب عني رسول الله، فنظر إليها الصديق -الذي هدهد الألم قلبه، وعصر الإفك فؤاده- نظر إليها نظرة استعطاف وهو يقول: (والله! يا ابنتي! ما أجد ما أقوله لرسول الله) فنظرت البنت المسكينة إلى أمها وقالت: (يا أماه! أجيبي عني رسول الله) فقالت الأم المسكينة -التي عصر الألم كبدها وفؤادها-: (والله! يا بنيتي! ما أجد ما أقول لرسول الله) فبكت عائشة رضي الله عنها، وقالت: والله! ما أجد لي ولكم مثلاً إلا كما قال أبو يوسف: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18]) فصبر جميل يا صويحبات النقاب! والله المستعان على ما يصف المرجفون! فصبر جميل يا أصحاب أوسمة السنة والشرف! والله المستعان على ما يصف المنافقون! تقول عائشة: ({فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18]، واضطجعت في فراشها وهي تقول: والله! إني لَبريئة، وإن الله مبرئي ببراءة؛ ولكني ما ظننتُ أن يُنزل الله في شأني وحياً يُتلى، فلَشأني في نفسي كان أحقر من أن يُنزل الله فيَّ قرآناً يُتلى؛ ولكني كنتُ أرجو أن يرى رسول الله رؤيا في نومه يبرِّئني الله فيها، فوالله! ما رام رسول الله مجلسه؛ وإذا بالوحي يتنزَّل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان الوحي إذا نزل عليه عرف الناس منه ذلك من شدة ما يتنزَّل عليه، وصمتت الألسنة، وتوقفت الكلمات، وتعلقت الأبصار برسول الله، وانتهى الوحي، وسُرِّي عن الحبيب، فسُرِّي عنه وهو يضحك، فالتفت إلى عائشة وهو يقول: (يا عائشة! أبشري، فلقد برأك الله من فوق سبع سماوات) فقامت أمها في فرح وسعادة وسرور وقالت لابنتها: (قومي يا عائشة! -أي: قومي إلى رسول الله- فاحمدي، واشكري رسول الله) فقالت عائشة: (لا، والله! لا أقوم إلى رسول الله، ولا أحمد رسول الله، بل لا أحمد إلا الله عزَّ وجل الذي أنزل براءتي من فوق سبع سماوات) وتلا النبي صلى الله عليه وآله

فضل الكلمة الطيبة

فضل الكلمة الطيبة في مقابل الكلمة الخطيرة الشريرة هناك الكلمة الطيبة هناك الكلمة المنيرة هناك الكلمة الصالحة التي تخدم دين الله، والتي ترد وتذب عن عرض الطيبين والطيبات، فلِمَ لا تكون -أيها الحبيب- من أصحاب هذه الكلمة الطيبة؟ أيها المسلم! أيها المسئول في الإعلام! أيها الصحفي! أيها السائق للسيارة! أيها المسلم في مصنعه! أيها المسلم في متجره! أيها المسلم في بقالته! أيها المسلم في الشارع أيتها المسلمة في كل مكان! لِمَ لا تكونون من أصحاب الكلمة الطيبة التي تدافع عن دين الله، وتدعو إليه، وتنافح عن أعراض الطيبين والطيبات؟ لماذا لا نتاجر بهذه الكلمة الطيبة مع رب الأرض والسماوات؟ إن الكلمة الطيبة صدقة، يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالصدق! فإن الصدق يهدي إلى البر؛ وإن البر يهدي إلى الجنة؛ وإن الرجل ليصدُق ويتحرَّى الصدق حتى يُكتَب عند الله صِدِّيقاً، وإياكم والكذب! فإن الكذب يهدي إلى الفجور؛ وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب ويتحرَّى الكذب حتى يُكتَب عند الله كذاباً) والحديث رواه الشيخان من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه. الكلمة الطيبة ضرب الله لها مثلاً في قرآنه بالشجرة الطيبة فقال: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلَاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم:24 - 25]. أيها الأحباب! إن من شجر الناس ما يثمر في الصيف، ومن شجر الناس ما يثمر في الشتاء؛ ولكن الشجرة الطيبة التي ضربها الله في القرآن مثلاً للكلمة الطيبة شجرة لا تتأثر بالمناخ؛ فلا تتأثر بشتاء أو بصيف، وإنما تؤتي ثمارَها وأُكُلَها كل حين بإذن ربها، فهي شجرة مباركة عميقة الجذور، تتغلغل في أعماق التربة وقلب الصخور، إنها شجرة قائمة باسقة مثمرة؛ لا تزعزعها الأعاصير، ولا تعصف بها الرياح، ولا تحطمها معاول الهدم والبطش والظلم والطغيان، ذلك هو مَثَل الكلمة الطيبة، تلك الكلمة التي لا تمنعها الحواجز، ولا تحجبها السدود، ولا تصدها العوائق والعقبات.

أثر الكلمة الطيبة في إسلام الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه

أثر الكلمة الطيبة في إسلام الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه أيها الحبيب الكريم! هذا هو الطفيل بن عمرو الدوسي سيد قبيلة دوس رضي الله عنه وأرضاه، يأتي إلى مكة -شرفها الله- ورحى الصراع دائرة على أشُدها بين المشركين وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان المشركون والصناديد يحولون بين الناس وبين دعوة الحق، فذهبوا إلى الطفيل وحذروه، وقالوا له: إياك وأن تستمع إلى كلمة من محمد بن عبد الله؛ فإن كلامه كالسحر يفرق بين الابن وأبيه، وبين الأخ وأخيه، وبين الزوج وزوجه، فنحذرك على مكانتك وشرفك وسيادتك في قومك، فاحذر أن تسمع كلمة واحدة من محمد بن عبد الله، وظلوا يحذرون الطفيل، حتى عزم على ألا يستمع إلى كلمة واحدة من رسول الله، فلما أراد أن يذهب إلى البيت الحرام ملأ أذنيه قطناً؛ لكي لا تصل كلمةٌ إلى الأذن؛ لكن هيهات هيهات! فإن الكلمة الطيبة لا تحجبها السدود، ولا تمنعها الحواجز، ولا تصدها العقبات والعراقيل، يقول الطفيل: (فذهبت إلى الكعبة، فرأيتني قريباً من محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأبى الله إلا أن يُسمعني بعض ما يقول محمد) سبحان الله! أيها الحبيب! لك أن تتخيل القرآن الذي قال الله فيه: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعَاً مُتَصَدِّعَاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر:21] ولك أن تتخيل إذا قرأ هذا القرآنَ رسولُ الله، والله لقد خشي المشركون على أنفسهم من سماعه كما قال عز وجل عنهم: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26] هذه وصيتهم لبعضهم البعض؛ لأنهم خافوا على أنفسهم من سماع القرآن؛ لأن القرآن يصفع الكِبر في قلوبهم وعقولهم، ويخاطب أعماق فطرتهم، ويمس الوجدان، ويحرك القلب الحي السليم، بل قد تعجبون أنه دخل النبي صلى الله عليه وسلم يوماً في السنة الخامسة من البعثة في مكة إلى بيت الله الحرام، وقام النبي يصلي ويقرأ القرآن على أسماع المشركين، فصمتت الألسنة، وانتبهت وتيقظت الأسماع، وتعلقت الأبصار، وأنصتوا لقراءة رسول الله، قرأ النبي صلى الله عليه وسلم على أسماعهم سورة النجم، وفي أواخر السورة قرأ النبي صلى الله عليه وسلم قوارع تطير لها القلوب، قرأ قوله تعالى: {أَزِفَتِ الآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ * أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ * فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم:57 - 62]، وخر النبي ساجداً لله، وخر المشركون من خلفه سجّداً لله، والحديث رواه البخاري في كتاب التفسير وعنون له بعنوان طيب، ورحم الله من قال: (فقه البخاري في تراجمه) نعم؛ لقد فقه الإمام رحمه الله هذا الحديث، فعنون له بقوله: (باب: سجود المسلمين مع المشركين). وروى الحديث مختصراً من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (سجد رسول الله بسورة النجم -قرأ السجدة وسجد- فسجد المشركون والمسلمون، والجن والإنس). أيها الحبيب! أبى الله إلا أن يُسمع الطفيل كلاماً من كلام الحق، فقال لنفسه: ثكلتك أمك يا طفيل! إنك رجل لبيب شاعر، فلماذا لا تسمع من هذا الرجل؟! فسمع الطفيل رسول الله، ثم قال: (اعرض عليَّ أمرك. فعرض النبي عليه الإسلامَ، فقال الطفيل: امدد يدك لأبايعك: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله) كلمة الحق لا تمنعها السدود، أوصلها الله جل وعلا إليه.

قصة عمير بن سعد مع الجلاس بن سويد

قصة عمير بن سعد مع الجلاس بن سويد لنتعلم هذا الدرس العجيب الغريب الكبير من صبي ما جاوز العاشرة من عمره إلا قليلاً؛ لكن هذا الصبي عرف أمانة الكلمة، وعرف خطورة الكلمة في آن واحد، إنه عمير بن سعد رضي الله عنه وأرضاه، ذلكم الفتى الذي توفي أبوه فتزوجت أمه برجل ثري يقال له: الجلاس بن سويد، وفي السنة التاسعة أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يبذلوا وأن ينفقوا لإعداد الجيش، فانطلق المسلمون يصورون أروع صور البذل والإنفاق والعطاء، حتى بكى الكثير؛ لأنه لم يجد ما ينفقه لدين الله وفي سبيل الله جل وعلا، وعاد الفتى الصغير ليقص على أسماع الجلاس ما رأى وما سمع، فقال الجلاس كلمة خطيرة تخرجه من الإسلام من أوسع أبوابه، وتدخله الكفر من أوسع الأبواب، قال الجلاس لـ عمير: إن كان محمد صادقاً فيما يدعيه فنحن -والله! - أشر من الحمير! فاحتقن الدم في وجه هذا الفتى البار الذي وزن الكلمة بفهم دقيق ووعي عميق، وهو الذي لم يتجاوز العاشرة من عمره إلا قليلاً، ونظر إلى الجلاس بن سويد وقال: (يا جلاس! والله! ما كان أحد على ظهر الأرض أحب إليَّ بعد رسول الله منك، ولقد قلتَ الآن كلمة إن قلتُها فضحتُك، وإن أخفيتُها خنتُ أمانتي، وأهلكتُ نفسي وديني، فكن على بينة من أمرك، فإني عازم على أن أمضي إلى رسول الله لأخبره بما سمعتُ)، وانطلق الفتى المؤمن البار إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليقص عليه ما سمع من الجلاس بن سويد؛ ولكن رسول الله لم يتعجل؛ لأنه هو الذي نزل عليه قول ربه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمَاً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6]، فأجلس النبي صلى الله عليه وسلم عمير بن سعد، وأرسل إلى الجلاس بن سويد، فجاء الجلاس، فحيا رسولَ الله وجلس، فقال له النبي: (ما هذه المقالة التي بلغتنا عنك؟ وأخبره بما قال عمير) فقال: كذب، -والله- يا رسول الله! والله! ما قلتُ هذا، والله! لقد كذب علي عمير، والتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمير فرأى الدم قد احتقن في وجهه مرةً أخرى، وانهالت الدموع مدراراً على تلك الوجنتين الرقيقتين، فرفع الفتى رأسه إلى السماء ليناجي ربه جل وعلا وقال: (اللهم أنزل على نبيك بيان ما تكلمتُ به) أيُّ يقين؟! وأيُّ ثقة؟! ويستجيب الله جل وعلا له؛ فإن الله يسمع ويرى، يستجيب الله دعوة هذا الفتى البار دعوة هذا الفتى الصادق، فينزل الوحي على رسول الله، وتصمت الكلمات، وتحبس الأنفاس، وتتعلق الأبصار برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وسُرِّي عن النبي عليه الصلاة والسلام وهو يتلو قول الله جل وعلا: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ} [التوبة:74]؛ فيصرخ الجلاس وهو يستمع إلى هذه الآية الكريمة ويقول: صدق عمير يا رسول الله! وكذبتُ أنا، ويلتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمير بن سعد ليفرك أذنيه برقة ولطف وحنان ويقول له: (وفَّتْ أذنُك ما سمعت، وصدَّقك ربُّك يا عمير!). إنها أمانة الكلمة، والقصة -أيها الأحباب- أوردها الإمام السيوطي في (الدر المنثور) وعزاها إلى ابن أبي حاتم وابن المنذر وابن مردويه وغيرهم.

الجهاد بالكلمة

الجهاد بالكلمة أيها الحبيب الكريم! هذه هي خطورة الكلمة، وهذه هي الكلمة الشريرة، وهذه هي الكلمة الطيبة المنيرة، فتحرك بالكلمة الطيبة من الآن إلى الدعوة إلى الله، وإلى دين الله جل وعلا. أيها الشباب! إن أهل الباطل الآن قد تحركوا بكل ما يملكون بباطلهم، وما زال أهل الحق متفرقين متناحرين متطاحنين. فيا شباب الصحوة! ويا أيها الإخوة الأحباب الكرام! انبذوا الفُرقة، وانبذوا العصبية البغيضة للجماعات وللشيوخ وللمناهج، اعرفوا الحق تعرفوا أهله، فإن الحق لا يُعرف بالرجال، ولكن الرجال هم الذين يُعرفون بالحق. فهيا أيها الأحباب! إليكم هذه النصائح من أخ يحبكم جميعاً في الله، ويشهد الله على ذلك، أقول: هذه هي خطورة الكلمة الآن في هذا الظرف الحرج، إن الحرب الآن حربٌ كلامية؛ مقروءة، ومسموعة، ومرئية، ومرسومة، فواجب على أهل الحق بعدما تحرك أهل الباطل لباطلهم أن يتحركوا جميعاً لدين الله جل وعلا، فماذا تنتظرون أيها الأحباب؟! ومتى سنتحرك جميعاً لدين الله؟! ومتى سنتحرك للدعوة إلى الله؟! إنني أعلم يقيناً أن هناك الكثير من أحبابنا وإخواننا قد يكونون أكثر منا علماً، وأكثر إخلاصاً، وأكثر فضلاً، وأعظم دعوة، ولكنهم ما زالوا متقوقعين داخل مكاتبهم بحجة طلب العلم! يا حبيبي في الله! إن طلب العلم لا ينتهي حتى تلقى الله، وتذكر قول أحمد: (مع المحبرة إلى المقبرة) إن طلب العلم لا ينتهي، بل لا يزال الأمر الإلهي من الله لسيد الدعاة وإمام النبيين قائماً إلى يوم القيامة، وذلك في قوله جل وعلا: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمَاً} [طه:114]، فاطلب العلم واقرأ وتعلم؛ لكن إياك وأن تتقوقع بحجة الطلب وتغفل عن الدعوة إلى الله، وعن التحرك لدين الله جل وعلا، فأنت مأمور بذلك، بل لقد قال علماؤنا: إن الدعوة إلى الله الآن فرض عين على كل مسلم ومسلمة، كل بحسب قدرته واستطاعته؛ لأننا نعيش زماناً نشط فيه أهل الباطل لباطلهم، وتحرك أهل الإرجاف لإرجافهم: والله! لقد التقيت بالشيخ أحمد ديدات في الرياض، فأخبرني خبراً يؤلم كل مسلم ومسلمة، فاستمعوا وانظروا كيف يتحرك أهل الباطل لباطلهم، ولا زال أهل الحق بهذه الفُرقة، بل وبهذا البرود وبهذا التكاسل من منطلق فهمٍ مقلوبٍ مغلوطٍ لآية في كتاب الله، وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105] فنقول: لا يا أخي! سيضرك ضلالهم، وإنما لا يضرك ضلالهم إن تحركت إليهم ودعوتهم بدعوة الله، وأقمت عليهم حجة الله بالحكمة البالغة والموعظة الحسنة، فحينئذٍ تكون قد أعذرت إلى الله جل وعلا، أما أن تجلس متقوقعاً لتقول: دع المُلك للمالك! ودع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله! فإننا لن نغير الكون، ولن نبدل الأمر، إلى آخر هذه الكلمات المريرة المؤلمة، بل أنت مأمور الآن أن تتحرك بالدعوة بقدر ما منَّ الله عليك به من سلاح الخلق العذب، والحكمة البالغة، والموعظة الحسنة، وضع نصب عينيك هذين الأمرين الجليلين من الله لسيد الدعاة: الأول: قوله تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظَّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159]. الثاني: قوله عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125]. أيها الأحبة في الله! لقد أبلغني الشيخ ديدات أنه ذهب إلى جنوب إفريقيا فوجد المنصِّرين الموسومين بـ (المبشِّرين) يتحركون هنالك في أدغال الغابات وبين المستنقعات للدعوة لدينهم بأسلوب ذكي، فتأتي الفتاة الجميلة المثقفة لتلتقي بمجموعة من الأطفال الصغار أو الصبيان لتلعب معهم فقط بغير دعوة وبدون توجيه، فإذا ما عضَّ الجوع بطونهم قدمت إليهم الحلوى وهي تقول: هذه حلوى الرب يسوع! وفي اليوم التالي تلتقي مع نفس المجموعة لتلعب معهم فإذا ما عضَّ الجوع بطونهم قدمت إليهم خبزاً عفناً وهي تقول: هذا خبز محمد! فأهل الباطل يتحركون، وأهل الحق ما زالوا متفرقين، فتحرَّك أيها الحبيب! بقدر ما تملك، وعلى قدر استطاعتك، تحرك لدين الله وادع الناس بالكلمة الطيبة.

واجب أهل الحق تجاه الدعوة إلى الله عز وجل

واجب أهل الحق تجاه الدعوة إلى الله عز وجل أيها المسلم! سأحدد لك الآن الخطة والمنهج، عليك الآتي: أولاً: افهم الإسلام فهماً شاملاً كاملاً بفهم دقيق، ووعي عميق. ثم بعد أن تفهم الإسلام بشموله وكماله حول هذا الإسلام في حياتك أنت إلى واقع متحرك، ومجتمع مرئي ومسموع ومقروء، فإذا ما جاذبتك أشواك الطريق وزللت في معصية فإياك -أيها الشاب- وأن تتحرج من الدعوة إلى الله، ومن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر بحجة أنك تزل في المعاصي! ومَن مِن الناس من لا يزل؟! ومَن مِن البشر ما زل؟! فأنت لست ملَكاً مقرَّباً، ولست نبياً مرسلاً، ولست رسولاً معصوماً، بل أنت بشر تطيع وتعصي، فإن أطعت الله فاحمد الله واستقم، وإن زلت قدمك وجاذبتك أشواك الطريق وعصيت فأتبع هذه المعصية بالحسنة، كما روي في الحديث: (يا معاذ! اتق الله حيثما كنتَ، وأتبِع السيئةَ الحسنةَ تمحها) نجد كثيراً من الشباب لا يدعو، وإذا قلت له: لماذا لا تتحرك؟! يقول: لأني من أهل الذنوب والمعاصي، وهذه تجعلني متحرجاً في الدعوة إلى الله وإلى دين الله. يا أخي الحبيب! مَن مِن البشر لم يخطئ؟! ومَن مِن البشر لم يزل؟! لكن إن زللت فتُب وعُد وارجع إلى الله، وإياك وأن تتمادى في هذه الذنوب وفي هذه المعاصي؛ فإنها تمحق بركة العلم، وبركة الرزق، وبركة الخير والطاعة، بل وتمحق بركة كل شيء. فافهم الإسلام بشموله وكماله، وحول هذا الإسلام في حياتك إلى واقع، ومما قاله أبو الحسن الندوي: إن أعظم خدمة نقدمها الآن للإسلام هي أن نشهد للإسلام شهادة عملية كما شهدنا له من قبل شهادة قولية. فإن فهمتَ الإسلام فحوِّل الإسلام في حياتك إلى واقع، ونحن نريد الآن أن يتحول المسلمون جميعاً إلى دعاة، لا إلى دعاة على المنابر، وإنما إلى دعاة إلى دين الله في جميع مواقع الإنتاج ومواطن العطاء، فنريد المسلم الذي يعلن للدنيا بأسرها إسلامه وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم. ثم بعد ذلك تحرك لتعريف الناس بحقيقة الإسلام، واعمل رأياً عاماً مضاداً لهذا الرأي العام الذي يُشَن في الليل والنهار على الإسلام والمسلمين. فتحركوا لإيجاد رأي عام مضاد بالكلمة الطيبة والحكمة البالغة والموعظة الحسنة.

البشارة بانتشار الصحوة الإسلامية في كل مكان

البشارة بانتشار الصحوة الإسلامية في كل مكان وأختم بهذه البشارة التي أسكبها في قلوب الإخوة والأخوات جميعاً فأقول: لا يخافن أحدٌ على الإسلام، بل خَفْ على نفسك أنت؛ لأن الإسلام دين الله، ومَن مِن الخلق يقوى على حرب الله؟! لا أحد، فالإسلام دين الله، ودين الله ظاهر منصور بنا أو بغيرنا، أسأل الله ألا يستبدل بنا غيرنا. أيها الحبيب! أبشرك أن الصحوة الإسلامية العالمية الآن تَنَزَّلت في كل بقاع الدنيا كتَنَزُّل حبات الندى على الزهرة الظمأى والأرض العطشى، أو كنسمات ربيع باردة عطَّرَتْها وطيَّبَتْها أنفاسُ الزهور. وأبشركم وأشهد الله أني حضرتُ عدة مؤتمرات في قلب قلعة الكفر -أمريكا- فرأيت الصحوة هناك أنشط بكثير مما رأيت في بلاد المسلمين، ففي أمريكا حضر مؤتمراً ما يزيد على ستة آلاف موحد وموحدة، واحتلوا قاعة أكبر فندق في مدينة (دترويت)، وصدح المؤذن بكلمة التوحيد والتكبير لله جل وعلا في قلب قلعة الكفر. وقد احتفلت وزارة الدفاع -البنتاجون- في شهر ديسمبر في العام المنصرم احتفالاً رسمياً بتنصيب أول إمام للجيش الأمريكي؛ ليصلي بالمسلمين الموحدين في الجيش الأمريكي الصلوات في أوقات الدوام الرسمي. والتقينا بأخت أمريكية مسلمة تسمى: كيليرا محمد، هذه الأخت منَّ الله عليها بالمال، فأنفقت مالها كله لدين الكبير المتعالي، فأنشأت في أمريكا خمسين مدرسة إسلامية. وفي ولاية (فرجينيا) أنشأت الأخت نفسُها كليةً تُسمى بـ (كلية المعلمين) لتخرِّج المدرسين والمدرسات الذين يدرسون في هذه المدارس. فهذا وعْدُ مَن؟ إنه وعد الله! الله أكبر! إنه وعد الله جل وعلا، قال الشاعر: صبحٌ تنفس بالضياء وأشرقا والصحوة الكبرى تهز البيرقا وشبيبة الإسلام هذا فيلقٌ في ساحة الأمجاد يتبع فيلقا وقواسم الإيمان تتخذ المدى درباً وتصنع للمحيط الزورقا وما أمر هذه الصحوةِ الكبرى سوى وعدٍ من الله الجليل تحققا هي نخلة طاب الثرى فنما لها جذع قوي في التراب وأعذقا هي في رياض قلوبنا زيتونة في جذعها غصن الكرامة أورقا فجرٌ تدفق مَن سيحبس نوره أرني يداً سدت علينا المَشرقا أيها الأحبة! يقول الله جل وعلا: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:8 - 9]. وأختم بهذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده والحاكم في المستدرك -وصححه على شرط الشيخين، وتعقَّبه الإمامُ الذهبي فقال: بل هو صحيح على شرط الإمام البخاري - من حديث تميم الداري أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ليبلغنَّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعزِّ عزيز أو بذلِّ ذليل، عزَّاً يعزُّ الله به الإسلام، وذلَّاً يذل الله به الكفر). أسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن ينصر الإسلام والمسلمين، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين يا رب العالمين! وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين.

ميلاد المسيح

ميلاد المسيح انقسم أهل الكتاب قبل الإسلام في عيسى بن مريم وأمه عليهما السلام إلى طرفين، كلاهما ضل السبيل، وفارق الحجة والدليل، فاليهود زعموا أنه ابن زنا وأنه مفتر كاذب، والنصارى زعموا أنه ابن الله، وأنه ثالث ثلاثة، وعبدوه مع الله جل وعلا! فجاء الإسلام بالحق في قضية عيسى عليه السلام، وكذب كلتا الطائفتين، وبين أن عيسى هو عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وبرأ مريم عليها السلام، وبين أن ولادتها عيسى من غير أب كانت معجزة، ومثله عند الله كمثل آدم عليه السلام.

عيسى بن مريم والميلاد المعجز

عيسى بن مريم والميلاد المعجز الحمد لله القائل: {إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [آل عمران:45]، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأحبابه وأتباعه وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين، أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء، وأيها الإخوة الأحباب الكرام الأعزاء، وطبتم جميعاً وطاب ممشاكم وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم الكريم جل وعلا الذي جمعني وإياكم في هذا الجمع المبارك على طاعته، أن يجمعني وإياكم في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! عيسى بن مريم والميلاد المعجز، خواطر مسلم يغار لعقيدة التوحيد التي تذبح الآن شر ذبحة، في زمان انتفخ فيه الباطل وانتفش كأنه غالب، وضعف فيه الحق وانزوى كأنه مغلوب، أقدم هذه الخواطر في هذه الأيام على وجه الخصوص التي اعتاد فيها العالم الغربي -بل والعالم الإسلام الهزيل المهزوم- على ما يسمونه باحتفالات أعياد الميلاد، وأنا أرى أنه من الواجب على العلماء والدعاة ألا يكونوا بموضوعاتهم وخطبهم في واد وأحوال العالم بصفة عامة وأحوال الأمة بصفة خاصة في واد آخر، من هذا المنطلق أحببت في هذه المناسبة أن أقدم لحضراتكم هذا الموضوع عن (ميلاد المسيح) وسيتم تناوله إن شاء الله من خلال العناصر التالية: أولاً: عيسى بن مريم والميلاد المعجز. ثانياً: بل رفعه الله إليه. ثالثاً: نزوله من السماء إلى الأرض بين يدي الساعة. فأعرني قلبك وسمعك، والله أسأل أن يجعلني وإياكم ممن وحد الله جل وعلا حق التوحيد، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

براءة عيسى عليه السلام مما ينسب إليه المبطلون

براءة عيسى عليه السلام مما ينسب إليه المبطلون وجميل بنا أن نختم هذا العنصر الآن الذي أطلنا فيه الحديث -لتثبيت المعتقد الصافي في القلوب- بهذا الحوار الرباني الكريم، وإن شئت فقل: بهذه البراءة العظيمة من العلي الأعلى لنبي الله عيسى، اقرأ معي وتدبر في آخر سورة المائدة: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة:117 - 118]، قال الله جل وعلا: {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [المائدة:119].

معجزة عيسى عليه السلام في حديثه لقومه وهو في المهد

معجزة عيسى عليه السلام في حديثه لقومه وهو في المهد {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ} [مريم:27] فقابلها القوم بهذه التهم التي نزلت كالسياط: يا مريم ما هذا؟ {لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ} [مريم:27 - 28]، في العبادة (يَا أُخْتَ هَارُونَ) في الزهد والورع، (يَا أُخْتَ هَارُونَ) في التقى والتبتل والتضرع، ما هذا؟! لقد جئت شيئاً عظيماً منكراً، ما هذه الجرأة؟! ما هذه البجاحة؟! تحملين من الزنا، وتحملين الولد لتقابلينا به مرة أخرى بهذه الجرأة والسفور، (لقد جئت شيئاً فرياً)؛ كيف سمحت لنفسك بهذه الجريمة الشنعاء؟! {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم:28]. فلما انقطع منها المقال أشارت إليه فأنطقه الله في الحال {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا * ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [مريم:29 - 36]. أعباد المسيح لنا سؤال نريد جوابه ممن وعاه إذا مات الإله بصنع قوم أماتوه فهل هذا إله ويا عجباً لقبر ضم رباً وأعجب منه بطن قد حواه أقام هناك تسعاً من شهور لدى الظلمات من حيض غذاه وشق الفرج مولود صغيراً ضعيفاً فاغراً للثدي فاه ويأكل ثم يشرب ثم يأتي بلازم ذاك هل هذا إله ويقول القائل: فلو كان رباً كان يمنع نفسه فلا خير في رب نأته المطالب برئت من الأصنام في الأرض كلها وآمنت بالله الذي هو غالب {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي} [مريم:30 - 32] ليست بغياً، ليست زانية، بل هي أمي {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ} [مريم:32 - 33]، فهل هناك إله يولد؟! (وَيَوْمَ أَمُوتُ) فهل هناك إله يموت؟! {وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا * ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ} [مريم:33 - 34]، قال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59]، بل إن خلق آدم أعجز من خلق عيسى؛ لأن عيسى خلق من أم، أما آدم فخلق من غير أب ومن غير أم، فخلق آدم أعجز: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).

حوار مريم بنت عمران مع يوسف النجار

حوار مريم بنت عمران مع يوسف النجار وبدأت بوادر الحمل تظهر على بطن مريم، فالتفت إليها يوسف النجار الذي يخدم معها بيت المقدس، واتهم اليهود مريم بالزنا مع يوسف، قال لها: يا مريم، إني سائلك عن شيء وأرجو أن لا تعجلي علي! فقالت له مريم: سل عما شئت يا يوسف وقل قولاً جميلاً، فقال لها يوسف معرضاً في القول: يا مريم هل يكون زرع بغير بذر؟! وهل يكون شجر بغير غيث أو مطر؟! وهل يكون ولد بغير أب؟! فقالت مريم: (نعم يا يوسف)، قال: كيف يا مريم؟! قالت: يا يوسف ألم تعلم أن الله خلق الزرع يوم خلقه من غير بذر، وخلق الشجر يوم خلقه من غير غيث أو مطر، وخلق آدم يوم خلقه من غير أب ومن غير أم؟ قال: أعلم أن الله على كل شيء قدير.

مريم بنت عمران وحديث ابنها إليها وهو في المهد

مريم بنت عمران وحديث ابنها إليها وهو في المهد حملت مريم بعيسى {فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ} [مريم:22 - 23]، ففاجأها المخاض الذي يهد الأركان للأنثى، وأنا أرجو أن تتصور أنثى بمفردها تضع لأول مرة ليس معها من الناس أحد، وإلا فكفى أن معها الملك. {فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم:22 - 23]، أي: ألجأها المخاض إلى جذع النخلة، فتمسكت بهذا الجذع وهي تتألم، وفي وسط هذه الآلام التي تهد أركان الأنثى هدًّا، من مخاض وميلاد وليس معها أحد من الناس، وهي تتألم وتبكي، وفي وسط هذه الحالة النفسية المتراكبة: {قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} [مريم:23]. لك الله يا مريم! لك الله أيتها العذراء الطاهرة! {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} [مريم:23] وهنا تفاجأ للمرة الثالثة بهذه المفاجئة الندية الرخية الرقيقة الرقراقة، إنها تسمع صوتاً، تسمع الحجة البالغة، تسمع الكلمات النيرة، يا إلهي، ما هذا؟! إنه المولود الذي نزل من أحشائها، إنه المولود يتكلم!! أنطقه الله الملك الذي هو على كل شيء قدير، ينادي على أمه بهذا النداء الحنون العذب الرقيق: يا أماه {أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} [مريم:24]، أي: انظري إلى هذه العين التي قدرها الله لك الآن، وانظري إلى هذه النخلة التي كانت شابة قد أنبت الله فيها الثمرة لك، فهزي بهذا الجذع، خذي بالأسباب وافعلي أي شيء: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} [مريم:25 - 26]. يا الله يا الله يا الله! إنها الحجة البالغة، المولود ما زال في لفائفه، قدرة الملك، عظمة الملك، قوة الملك، إرادة الملك جل وعلا!! لقنها الغلام الحجة البالغة فاطمأنت نفسها، واستراح قلبها، وسكن فؤادها، وحملت رضيعها وطفلها في صدرها، بل إن شئت فقل: في حنايا قلبها.

القدرة الإلهية لا تحدها حدود

القدرة الإلهية لا تحدها حدود أيها الشباب! أيها الأحباب! إن من يكلف عقله أن يصل إلى حدود قدرة الله جل وعلا كمن يكلف نملة أن تنقل جبلاً من مكان إلى آخر، أو كمن يكلف بعيراً ضخماً أن ينفذ من سم الخياط، وهذا مستحيل! إن قدرة الله لا تحدها حدود، {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ} [مريم:21] وإذا قال ربك فلا حدود لقدرة الملك جل وعلا، لأن أمر الله بين الكاف والنون، يقول للشيء إذا أراده كن فيكون، ما أحوجنا إلى أن نتعبد لله الآن باسم القدير، باسم القوي، باسم الملك! لأن الأمة قد ضعف يقينها، وضعفت عقيدتها، وتخلخل اليقين في قلبها، فيجب علينا أن نتعبد من جديد لله باسم القدير. إن قدرة الله وقوة الله لا تحدها حدود، فيد من التي خلقت السماء بغير عمد ترونها؟! يد من التي خلقت الأرض وثبتتها بالجبال، وزينتها بالأشجار، وشقت فيها البحار والأنهار؟! يد من التي امتدت إلى حبة القمح فغلفتها بهذه الأغلفة، وجعلت في نهاية كل حبة شوكة طويلة؛ لأنه قد قدر أن تكون حبة القمح غذاء لك أيها الإنسان؟! يد من التي امتدت إلى كوز الذرة فأخرجت هذه الحبات اللؤلؤية بهذا الجمال والإتقان والإبداع؟! يد من التي امتدت إلى رأسك أيها الإنسان فجعلت ماء العين مالحا، وماء الأنف حامضاً، وماء الأذن مرّاً، وماء الفم حلواً وعذباً؟! مع أن أصل هذه المياه واحد، وهو رأسك أيها الإنسان؟! يد من التي نجت الخليل إبراهيم من النيران؟! يد من التي حفظت يوسف من غيابات الجب؟! يد من التي نجت يونس في بطن الحوت؟! يد من التي نجت الحبيب المصطفى ليلة الهجرة! {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر:22 - 24]. قل للطبيب تخطفته يد الردى من يا طبيب بطبه من أرداك قل للمريض نجا وعوفي بعدما عجزت فنون الطب من عافاك قل للصحيح يموت لا من علة من المنايا يا صحيح دهاك قل للبصير وكان يحذر حفرة فهوى بها من ذا الذي أهواك بل سائل الأعمى خطا وسط الزحا م بلا اصطدام من يقود خطاك وسل الجنين يعيش معزولاً بلا راع ومرعى ما الذي يرعاك وسل الوليد بكى وأجهش بالبكاء لدى الولادة ما الذي أبكاك وإذا ترى الثعبان ينفث سمه فاسأله من ذا بالسموم حشاك واسأله كيف تعيش يا ثعبان أو تحيا وهذا السم يملأ فاك واسأل بطون النحل كيف تقاطرت شهداً وقل للشهد من حلاك بل سائل اللبن المصفى كان بين دم وفرث ما الذي صفاك {كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} [مريم:21] هو على قدرة الله هين، فقدرة الله لا تحدها حدود، {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} [مريم:21]. قال تعالى: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم:12]، لا تسأل عن كيفية الحمل، والعلم الحديث الآن يبين لنا صوراً عجيبة، فهم يستطيعون بالحيوان المنوي للزوج وبويضة المرأة أن يجمعوهما، فإذا شاء الله عز وجل تخصبت فكان الولد، سبحان الله!، لا تسأل عن كيفية الحمل وأنت على يقين أن الله إذا أراد شيئاً كان. نفخ جبريل عليه السلام في درعها، والدرع هو أعلى الثوب، فحملت مريم عليها السلام، والراجح من أقوال المفسرين: أن مريم حملت بعيسى حملاً عادياً تسعة أشهر، وإن كنا لا نشك أن الله كان قادراً ولا زال سبحانه على أن تحمل مريم بعيسى وأن تضعه في لحظة واحدة، لكن الراجح من أقوال المحققين من أهل التفسير: أنها حملت به حملاً عادياً تسعة أشهر.

مريم بنت عمران العذراء البتول

مريم بنت عمران العذراء البتول أولاً: عيسى بن مريم والميلاد المعجز. أيها الأحبة الكرام! لأول مرة في تاريخ البشرية الطويل ينسب نبي إلى أمه، إنه عيسى بن مريم عليه السلام، وأمه مريم لها مكانة لم تنلها أنثى في الوجود كله، إنها العذراء التقية النقية التي اصطفاها الله من بين نساء العالمين؛ ليودعها هذا السر الكبير في أعظم ميلاد وأيسر حمل، إنها المرأة التي قد كملت بشهادة المصطفى، ففي الصحيحين من حديث أبي موسى أنه صلى الله عليه وسلم قال: (كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران، وآسيا امرأة فرعون، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام)، ليعلم الجميع أن مريم عليها السلام ما كرمت في منهج على ظهر الأرض، بل وفي كتاب من الكتب، بقدر ما كرمت في كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، فمن هي مريم؟ إنها مريم بنت عمران، أمها: حنى بنت فاخود، كانت عقيمة لا تلد، فسألت الله عز وجل أن يهبها الولد فاستجاب الله لها، وتحرك الحمل في بطنها بعدما كانت عقيمة، فلما تحرك الحمل، أرادت أن تفي بنذرها لله جل وعلا فقالت: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} [آل عمران:35 - 36] أي: الطاهرة {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا} [آل عمران:36 - 37]. اختلفوا في بيت المقدس من الذي سيكفل مريم عليها السلام، فقالوا: اضربوا القرعة فيما بينكم، فعلى أي واحد منا وقعت القرعة فليكفل مريم عليها السلام، قالوا: فليأخذ كل واحد منا قلمه ولنخرج جميعاً إلى شاطئ النهر، ولنلقي الأقلام كلها في شاطئ النهر، فأي قلم جرى مع التيار لا يكفل صاحب هذا القلم مريم، أما القلم الذي يسير في عكس اتجاه التيار فهو الذي سيكفل صاحبه مريم عليها السلام. فرأوا قلماً يسير في عكس التيار، فلما أخرجوه وجدوا أنه قلم نبي الله زكريا، فتكفلها زكريا، وتولى تربيتها ورعايتها. ففي بيت المقدس في كفالة نبي ترعرعت هذه الزهرة الطيبة في بستان الورع والزهد والتقى، نشئت مريم عليها السلام، حتى وصلت إلى مكانة قريبة من الله، ونادتها الملائكة يوماً وهي تتعبد لله: بهذه البشارة: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران:42 - 43] مكانة عظيمة، بل لقد وصلت إلى مكانة من القرب أنه دخل عليها نبي الله زكريا فوجد عندها فاكهةً في غير زمانها وأوانها {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:37] درجة من اليقين، فما أحوج الأمة الآن إلى اليقين في الرزق ذو القوة المتين.

مريم بنت عمران ومفاجأة الملك

مريم بنت عمران ومفاجأة الملك وفي يوم من الأيام خلت مريم بنت عمران بنفسها لقضاء شأن من شئون الأنثى الخاصة، وفجأة! تفاجأ بمفاجئة عنيفة تهز فؤادها هزّاً، يا الله ما هذا؟! إنه بشر سوي في خلوة مريم العذراء الطاهرة البتول، ولك أن تتصور امرأة ترعرعت في بستان الحياء تقضي شأناً من شئونها الخاصة، فتفاجأ برجل سوي يقتحم عليها خلوتها -وأرجو أن لا تختلط الصور في ذهنك، في أن تقارن هذه العذراء بنساء هذا الزمان إلا من رحم ربك؛ لتكون المقارنة عادلة منصفة- يهتز فؤادها، إنه بشر سوي، وسرعان ما لجأت إلى الله العلي فقالت: {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا} [مريم:18] أي: إن كنت ممن يتقي الله ويخشى الله عز وجل. وقالت: (إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ) لتستجلب الرحمة في قلبه، فتفاجأ البتول الطاهرة بمفاجئة أعلى، حينما يرد عليها هذا البشر السوي ليقول لها: لا تخافي ولا تحزني {إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا} [مريم:19]، قالت مريم التي تعلم سبيلاً واحداً للإنجاب والذرية، وهو أن يلتقي الرجل بزوجه {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} [مريم:20]، أي: لم أتزوج ولم أعرف سبيل الزنا أو سبيل البغاء، وهنا يأتي الرد الحاسم القاطع على لسان هذا الملك الكريم: {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} [مريم:21].

بل رفعه الله إليه

بل رفعه الله إليه ثانياً: بل رفعه الله إليه، لقد زعم اليهود عليهم لعائن الله المتتالية أنهم قتلوا عيسى عبد الله ورسوله!! وزعم النصارى بجهل فاضح أنه صلب ودفن، وفي اليوم الثالث خرج من قبره ثم صعد إلى السماء وجلس عن يمين الرب أبيه، وهو مستعد للمجيء تارة أخرى للقضاء بين الأحياء والأموات. {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف:5]؛ فكذب الله هؤلاء وهؤلاء، فقال سبحانه: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء:157 - 158]، آيات صريحة: (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ)، والأخرى: (وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا) والثالثة: (بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ)، رفع نبي الله عيسى إلى السماء لحكمة عظيمة، ألا وهي أن الله جل وعلا قد قدر أن نزوله من السماء بعد ذلك من علامات الساعة الكبرى!

كيفية رفعه عليه السلام

كيفية رفعه عليه السلام ولكن كيف رفع؟ انطلق اليهود وهم يبحثون عن نبي الله عيسى ليقتلوه، فألقى الله عز وجل شبه عيسى على يهوذا الأسخريوطي الذي دل اليهود على مكان نبي الله عيسى، فهذا قول. القول الثاني: ورد في حديث رواه ابن أبي حاتم والنسائي من حديث ابن عباس موقوفاً عليه بسند صححه الحافظ ابن كثير في تفسيره لسورة النساء، قال: (لما أراد الله عز وجل أن يرفع عيسى إلى السماء، خرج عيسى يوماً على أصحابه وهم يجلسون في البيت، وفي البيت اثنا عشر رجلاً من الحواريين، فقال لهم نبي الله عيسى: إن منكم من يكفر بي بعد أن آمن بي، ثم قال: أيكم يقبل أن يلقى عليه شبهي ليقتل مكاني ليكون معي في درجتي في الجنة، فقام شاب من أحدثهم سناً قال: أنا يا نبي الله! فقال له عيسى: اجلس -كأنه أشفق عليه لصغر سنه- فجلس الشاب. ثم قال عيسى قولته مرة ثانية: أيكم يقبل أن يلقى عليه شبهي ليقتل مكاني ليكون معي في درجتي في الجنة، فقام نفس الشاب، فقال له نبي الله عيسى: اجلس، فردد عيسى المقولة للمرة الثالثة، فقام نفس الشاب، فقال له عيسى: هو أنت. يقول ابن عباس: فجاء الطلب، أي: من اليهود ليأخذوا نبي الله عيسى، فألقى الله شبهه على هذا الشاب، وألقى على عيسى سنة من النوم ثم رفعه إليه، فأخذ اليهود هذا الشاب الذي ألقي عليه الشبه، فقتلوه وصلبوه {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [النساء:157] قال ابن عباس: فانقسم الناس فيه إلى ثلاث فرق: الفرقة الأولى قالت: كان فينا الله، أي: في الأرض -عياذاً بالله- ثم صعد إلى السماء، وهؤلاء هم اليعقوبية. وقالت الفرقة الثانية: كان فينا ابن الله ثم رفعه أبوه إلى السماء، وهذه هي النسطورية. ثم قالت الفرقة الثالثة: كان فينا عبد الله ورسوله، ثم رفعه الله إليه، ثم ينزله إلى الأرض إذا شاء، وهؤلاء هم الموحدون المسلمون. يقول ابن عباس: (فقامت الفرقتان الأولى والثانية على الثالثة فقتلوا أهلها، فظل الإسلام صامتاً حتى بعث الله نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم). فجاء الحبيب المحبوب فبين لنا كيف أن الله عز وجل قد ألقى الشبه على فلان أو فلان، وكيف أن الله عز وجل قد رفع عيسى إليه، بل وصرح القرآن بذلك، قال الله تعالى: {قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [آل عمران:55] تدبر معي قول الله: (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) فهذه دارت حولها الإشكالات، والوفاة في الآية كما قال جمهور المحققين من أهل التفسير: الوفاة في الآية بمعنى النوم، والدليل على ذلك قول الله: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} [الأنعام:60] فسمى الله النوم في الليل وفاة. وكما في كلام الحبيب المحبوب محمد صلى الله عليه وسلم، كان إذا استيقظ من نومه قال: (الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور)، فالنوم وفاة صغرى، والموت وفاة كبرى، فألقى الله على عيسى سنة من النوم، ثم رفعه إليه للحكمة الجليلة التي ذكرت، ولحكم قد لا نعلمها، يعلمها الملك جل جلاله. أيها الأحبة الكرام: وشاء الله سبحانه أن يكون نزول عيسى عليه السلام علامة كبرى من علامات الساعة وهذا ما سوف نتعرف عليه بعد جلسة الاستراحة، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

نزول عيسى عليه السلام من السماء إلى الأرض بين يدي الساعة

نزول عيسى عليه السلام من السماء إلى الأرض بين يدي الساعة الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام! ثالثاً: نزول عيسى من السماء إلى الأرض بين يدي الساعة، فنحن الآن ننتظر نزول نبي الله عيسى، وقد بيّن القرآن والسنة الصحيحة ذلك، فمثل هذه الأمور الغيبية لا يجوز البتة لأحد أن يتكلم فيها إلا بصريح القرآن أو صحيح السنة، فأنا لم آت بكلمة واحدة من عندي أبداً، بل من القرآن والسنة الصحيحة وأقوال المفسرين المعتبرين من أهل العلم، يقول الله تعالى في سورة الزخرف وهو يخاطب حبيبه المصطفى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف:57] إلى قوله: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} [الزخرف:61]، وفي قراءة ابن عباس: (وإنه لعَلَم للساعة) أي: علامة وأمارة على قرب الساعة، فنزول عيسى عليه السلام من علامات الساعة الكبرى.

عيسى بن مريم وأقوام يأجوج ومأجوج

عيسى بن مريم وأقوام يأجوج ومأجوج وفي حديث النواس يقول صلى الله عليه وسلم: (فبينما هو كذلك إذ أتى عيسى قوماً قد عصمهم الله من الدجال، فيمسح عيسى على وجوههم، ويبشرهم بدرجاتهم في الجنة، فبينما هم كذلك إذ أوحى الله إلى نبيه عيسى أني قد بعثت عباداً لي لا يدان لأحد بقتالهم) -أي: لا قدرة لأحد ولا طاقة بقتالهم- فيبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون، ثم يقول الله لنبيه عيسى: (فاحرز عبادي إلى الطور) اجمع عبادي من المؤمنين إلى جبل الطور (فيحصر نبي الله عيسى وأصحابه) من المؤمنين الموحدين من أمة محمد- فيخرج يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون، فيمرون على بحيرة طبرية فيشرب أوائل يأجوج ومأجوج البحيرة بكاملها، فإذا ما جاء أواخرهم قالوا: كان بهذه البحيرة مرة ماء) أين ذهب الماء؟ وهم لا يعلمون ولا يدرون أن أوائل يأجوج ومأجوج هم الذي جففوا البحيرة تجفيفاً. يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله) أي: يتضرعون إلى الله بالدعاء أن يهلك يأجوج ومأجوج- إذ إن الله قد أخبره أنه لا يدان لأحد بقتالهم، فيتضرع إلى الله أن يهلك يأجوج ومأجوج (فيستجيب الله عز وجل فيرسل عليهم النغف) والنغف: هو الدود الصغير، وأرجو أن لا تمر هذه الكلمة على الأذهان مروراً سريعاً، يأجوج ومأجوج الذين يجففون بحيرة، والذين يتجرءون بوقاحة حينما يقولون: لقد قهرنا أهل الأرض فهيا بنا لنقاتل أهل السماء، فيصوبون نشابهم أي: السهام إلى السماء، فيريد الله أن يبتليهم وأن يفتنهم، فتنزل السهام إليهم مرة أخرى وقد لطخت بالدماء، فيقول المجرمون الفجرة: لقد قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء، هؤلاء الفجرة يهلكهم الملك بالدود، فأين الظالمون؟ وأين التابعون لهم في الغي؟ بل أين فرعون وهامان؟ أين من دوخوا الدنيا بسطوتهم وذكرهم في الورى ظلم وطغيان هل خلَّد الموت ذا عز لعزته أو هل نجى منه بالسلطان إنسان لا والذي خلق الأكوان من عدم الكل يفنى فلا إنس ولا جان {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88] فيرسل الله عليهم النغف، وهو الدود الصغير: (فيصبحون؟ فرسى أي: قتلى كموت نفس واحدة) وهم يغطون وجه الأرض، ومع ذلك يصبحون قتلى كموت نفس واحدة (فتمتلأ الأرض بزهمهم) أي: بشحمهم ونتنهم، يقول المصطفى: (ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه، فلا يجدون شبراً من الأرض وإلا وقد ملأه زهمهم ونتنهم، فيرغب نبي الله عيسى مرة ثانية وأصحابه إلى الله جل وعلا -أي: يتضرعون إليه بالدعاء- أن يطهر الأرض من هذا النجس والنتن، فيستجيب الله جل وعلا لهم، فيرسل طيراً كأعناق البخت -أي: كرقاب الإبل- فتأخذ يأجوج ومأجوج فتطرحهم حيث شاء الله، ثم يرسل الله مطراً لا يكن منه بيت ولا وبر، فيغسل هذا المطر الأرض، حتى تصبح الأرض كالزَّلقة، أو كالزُّلقة، أو كالزُّلفة، أو كالزَّلفة) والروايات كلها صحيحة، أي: تصبح الأرض كالمرآة في صفائها ونقائها. يقول المصطفى: (ثم يقال للأرض: انبتي ثمرتك وردي بركتك، فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحاً طيبة فتأخذ الناس تحت آباطهم فتقبض روح كل مؤمن، وروح كل مسلم، ويبقى شرار الناس يتهارجون فيها تهارج الحمر -أي: الحمير- وعليهم تقوم الساعة)، ثم يعيش الناس في هذه السعادة والرخاء مع نبي الله عيسى الذي يحكمهم بشريعة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، ثم يموت ويصلي عليه الموحدون من أمة سيد النبيين. أسأل الله جل وعلا أن يجمعنا بنبي الله عيسى، وأن يجمعنا بإمام الأنبياء محمد وبإخوانه من النبيين والمرسلين في جنات النعيم، إنه ولي ذلك والقادر عليه. اللهم ارزقنا التوحيد الصحيح يا رب العالمين، اللهم ثبت التوحيد بشموله في قلوبنا، اللهم ثبت العقيدة التي ترضيك في قلوبنا، اللهم توفنا على التوحيد والإيمان، اللهم كما خلقتنا موحدين فثبتنا على التوحيد وتوفنا على التوحيد واحشرنا في زمرة الموحدين تحت لواء سيد النبيين، مع أخيه عيسى الكريم، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم استرنا ولا تفضحنا، وأكرمنا ولا تهنا، وكن لنا ولا تكن علينا، اللهم أغننا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عن من سواك. اللهم كن لنا ولا تكن علينا، اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل تدبيره في تدميره يا رب العالمين، أنت ولي ذلك والقادر عليه. اللهم استرنا ولا تفضحنا، وأكرمنا ولا تهنا، وكل لنا ولا تكن علينا، اللهم إن أردت بالناس فتنة فاقبضنا إليك غير خزايا ولا مفتونين، ولا مفرطين ولا مضيعين، ولا مغيرين ولا مبدلين، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم احمل المسلمين الحفاة واكس المسلمين العراة، وأطعم المسلمين الجياع برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم اجعل مصر واحة للأمن والأمان، اللهم لا تحرم بلدنا مصر من الأمن والأمان، اللهم لا تحرم مصر من الأمن والأمان وسائر بلاد المسلمين. اللهم اجعل مصر سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين، اللهم ارفع عن مصر الغلاء والوباء والبلاء وسائر بلاد المسلمين، اللهم لا تحرم مصر من التوحيد والموحدين برحمتك يا أرحم الراحمين. هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

مكان نزوله عليه السلام وقتله للدجال

مكان نزوله عليه السلام وقتله للدجال يتجه نبي الله عيسى مباشرة إلى بيت المقدس، فلقد حدد النبي موطن نزوله، قال كما في رواية النواس في صحيح مسلم: (فينزل نبي الله عيسى عند المنارة البيضاء شرقي دمشق) هذا كلام الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، حتى المكان الذي سينزل فيه حدده: ينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق فيتجه إلى بيت المقدس، فيدرك نبي الله عيسى المسلمين وهم يصلون صلاة الصبح -وفي رواية: وهم يعدون الصفوف لقتال الدجال- فإذا رأى إمام المسلمين نبي الله عيسى تقهقر ليخلي المكان لنبي الله ليصلي النبي بالأمة، فيدفع عيسى في كتف إمامنا نحن المسلمين ويقول له: تقدم صل أنت فلك الصلاة أقيمت. وفي رواية أخرى في صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله يقول: (إمامكم منكم؛ تكرمة الله لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فيتقدم إمام المسلمين ليصلي خلفه مأموماً نبي الله عيسى)، انظر إلى كرامة الأمة، نبي الله عيسى يصلي خلف إمام من أئمة المسلمين، وهناك بعض الروايات التي ذكرت: أن هذا الإمام هو المهدي عليه السلام، (فإذا ما أنهى صلاة الصبح أمرهم أن يفتحوا باب بيت المقدس، فيرى الدجال خلفه سبعون ألف يهودي بالسيوف، فإذا نظر نبي الله عيسى إلى الدجال ذاب الدجال كما يذوب الملح في الماء، فيقوم حينئذ نبي الله عيسى حتى يدركه عند باب لُدٍّ فيقتله) و (لُدٌ) مدينة معروفة الآن بفلسطين.

نزول عيسى حاكما بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم

نزول عيسى حاكما بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم وفي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (والذي نفسي بيده، ليوشكن أن ينزل فيكم عيسى بن مريم حكماً مقسطاً، فيُكسَر الصليب أو فيكسِر الصليب -واللغتان صحيحتان-، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد). تدبر كلام الصادق: (ليوشكن أن ينزل فيكم عيسى بن مريم حكماً مقسطاً)، أي: عادلاً، وأول ما يفعله أنه يكسر الصليب المقدس، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية فلا يقبلها من أحد، فإما الإسلام وإما القتال. ويفيض المال، وتحل البركات حتى قال المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الضياء المقدسي وصححه الألباني من حديث أبي هريرة قال المصطفى: (طوبى لعيش بعد المسيح، طوبى لعيش بعد المسيح، تؤمر الأرض أن تخرج بركتها وأن تخرج زرعها، حتى أنك لو زرعت أو بذرت زرعك على الصفا -أي على الحجر- لنبت)، فالبركات تتنزل إلى الأرض، بل ترعى الذئاب مع الغنم، والأسود مع الإبل، والنمار مع البقر، كما قال الصادق صلى الله عليه وسلم، ويمسك الصبي الحية فلا تؤذيه، يعيش الناس حالة من الأمن والاستقرار والأمان، بصورة لا يستطيع بليغ أن يعبر عنها على الإطلاق.

صفة عيسى عليه السلام عند نزوله

صفة عيسى عليه السلام عند نزوله روى مسلم من حديث حذيفة بن أسيد الغفاري قال: (اطلع علينا النبي صلى الله عليه وسلم يوماً ونحن نتذاكر فقال: ما تذاكرون؟ فقالوا: نذكر الساعة يا رسول الله! فقال الصادق: إنها لن تقوم حتى ترون قبلها عشر آيات وهي: الدخان، والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ويأجوج ومأجوج، ونزول عيسى ابن مريم، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم، ونزول عيسى بن مريم) آية وعلامة من علامات الساعة الكبرى. بل لقد حدد الصادق المصدوق شكله ووجهه وهو ينزل من السماء، والحديث رواه ابن ماجة وابن حبان في صحيحه، وصححه الحاكم على شرط الشيخين وأقره الذهبي من حديث أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس بيني وبين عيسى نبي، وإنه نازل فيكم، فإذا رأيتموه تعرفونه، إنه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض، ينزل بين مهرودتين أو بين ممصرتين -وفي رواية النواس بن سمعان -: ينزل بين مهرودتين) أي: ثوبين مصبوغين، ورواية النواس في صحيح مسلم (ينزل عيسى بين مهرودتين) أي: ثوبين مصبوغين مائلين إلى الصفرة الخفيفة كما قال النووي وغيره، (واضعاً كفيه على أجنحة ملكين، إذا طأطأ قطر رأسه، وإذا رفع تحدر منه جمان كحبات اللؤلؤ).

أيها العاصي تب إلى ربك

أيها العاصي تب إلى ربك خلقنا الله في هذه الدنيا لعبادته، وسوق النفس إلى ما فيه رضاه وطاعته، إلا أن النفس الأمارة بالسوء لا تفتأ تأمر الإنسان بالمعصية والبطالة، فمن نهاها عن الهوى أفلح، ومن أتبع نفسه هواها خسر الخسران العظيم، فطوبى لمن تاب، ولقي وهو راضٍ عنه العزيز الوهاب.

المعصية سبب لكل شقاء وبلاء

المعصية سبب لكل شقاء وبلاء إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة، وزكى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور، وطبتم جميعاً أيها الآباء الفضلاء! وأيها الإخوة الأعزاء! وطاب ممشاكم وتبوأتم من الجنة منزلاً. وأسأل الله جل وعلا الذي جمعنا وإياكم في الدنيا على طاعته أن يجمعنا وإياكم في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. تب إلى الله أيها العاصي! هذا هو عنوان لقائنا مع حضراتكم في هذا اليوم الكريم المبارك، ونظراً لطول هذا الموضوع فسوف أركز الحديث مع حضراتكم في العناصر التالية: أولاً: المعصية سبب لكل شقاء وبلاء. ثانياً: انتبه فإن الموت يأتي بغتة. ثالثاً: باب التوبة مفتوح. رابعاً: قصة تائب. فأعرني قلبك وسمعك أيها الحبيب! وأسأل الله جل وعلا أن يرزقنا وإياكم التوبة النصوح، وأن يجعلنا وإياكم جميعاً ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:18]. أولاً: المعصية سبب لكل شقاء وبلاء: إي ورب الكعبة! فما الذي أخرج الأبوين الكريمين من الجنة، من دار اللذة والسرور والنعيم إلى دار الأحزان والمصائب والآلام؟! وما الذي أخرج إبليس وطرده من رحمة الله عز وجل؟! وما الذي أغرق فرعون وجنوده؟! وما الذي دمر قوم عاد؟! وما الذي دمر قوم ثمود؟! وما الذي دمر قوم لوط؟! وما الذي دمر قوم صالح؟! وما الذي دمر قوم شعيب؟! وما الذي دمر وخسف بـ قارون الأرض؟! وما الذي شتت بني إسرائيل في الأرض والتيه والضلال أربعين سنة، وجعل منهم القردة والخنازير؟! وما الذي أذل العالم كله اليوم، فحرم من الأمن والأمان، على الرغم من كثرة وسائله الأمنية، بل وعلى الرغم من كثرة الاختراعات التي شاء الله جل وعلا أن تحول هي ذاتها إلى وسائل للرعب وللموت واستعباد الجنس البشري؟! وما الذي حول العالم كله اليوم إلى غابة وحوش؟! فإننا نرى الإنسان اليوم يفعل بأخيه الإنسان ما تخجل الوحوش أن تفعله في عالم الغابات، وإننا نرى العالم كله اليوم قد حرم من الأمن والاستقرار وهدوء البال وراحة الضمير والاستقرار النفسي، ورأينا الكثير والكثير من أبناء العالم ينتحر بشكل جماعي! إن العالم قد حرم من الأمن والأمان، نرى الواحد منهم قد أحاط نفسه بقوات تلو قوات، وبالرغم من ذلك نراه قد حرم من نعمة الأمن والأمان! إن العالم اليوم أيها الأحبة! محروم من نعمة الأمن، محروم من نعمة الرخاء الاقتصادي، بل محروم من نعمة الاستقرار النفسي وهدوء البال وانشراح الصدر وراحة الضمير. وما الذي أذل أمة المصطفى صلى الله عليه وسلم لأذل أمم الأرض وأخس وأحقر أمم الأرض؟! والجواب على كل هذه الأسئلة في آية واحدة محكمة من كتاب الله عز وجل، أقرأ معي -أيها الكريم- قول الله سبحانه: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه:123 - 127]. ولكن للأسف ربما يغتر كثير من الناس بما يراه من نعم الله جل وعلا على بعض خلقه وبعض عباده، بل وبعض دول الغرب، إذا نظر الإنسان إلى هؤلاء الذين تسري عليهم النعم بالليل والنهار ربما اغتر بهذه النعمة، ونسي هذا المغرور قول العزيز الغفور جل وعلا: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:44 - 45].

سنن الله الكونية لا تتبدل ولا تتغير

سنن الله الكونية لا تتبدل ولا تتغير لله سنن كونية في الكون لا تتبدل ولا تتغير أبداً، {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام:44]، الله أكبر! كان من المفترض أن يقول الله عز وجل تبعاً لهذه المقدمة في هذه الآية: فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب العذاب من كل جهة، ومن كل مكان، ولكن انظر إلى قول الله: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:44 - 45]. فكم من مبتلى بنعم الله عليه وهو لا يدري! وكم من مغرور بستر الله عليه وهو لا يدري! وكم من مفتون بثناء الناس عليه وهو لا يدري! فإذا كنت في نعمة فارعها فإن الذنوب تزيل النعم وصنها بطاعة الله فإن الإله سريع النقم إن للطاعة نوراً في الوجه، ونوراً في القلب، وقوة في البدن، وسعة في الرزق، ومحبة في قلوب الخلق؛ وإن للمعصية سواداً في الوجه، وظلمة في القلب، ووهناً في البدن، وضيقاً في الرزق، وبغضاً في قلوب الخلق.

الخمس الخصال الموجبة للبلاء

الخمس الخصال الموجبة للبلاء اسمع لحبيبك المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم كما في الحديث الصحيح الذي رواه ابن ماجة في سننه والحاكم في المستدرك والبزار والبيهقي، وصحح الحديث الشيخ الألباني في صحيح الجامع من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (يا معشر المهاجرين! خصال خمس إن ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشت فيهم الأوجاع والأسقام التي لم تكن في أسلافهم) ما سمعنا أبداً من قبل بمرض نقص المناعة الذي يسمى (الإيدز)، ما سمعنا عنه، وما عرفناه، ولو فتشت ونقبت في الدراسات والأبحاث لعلمت أن الشواذ من أهل الزنا، وممن يفعلون فعل قوم لوط، هم الذين يصابون بهذا المرض الخطير، وآخر الإحصائيات أن من تسعين إلى اثنين وتسعين بالمائة من الشواذ جنسياً هم الذين يصابون بهذا المرض الخطير، مرض نقص المناعة الذي يعرف الآن بالإيدز، بل لقد بلغ عدد المصابين بهذا المرض من هؤلاء الشواذ في قلعة الكفر أمريكا ما يزيد عن عشرين مليوناً! إنه وعد الله، ووعد الصادق الذي لا ينطق عن الهوى: (لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشت فيهم الأوجاع والأسقام التي لم تكن في أسلافهم، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين، وشدة المئونة، وجور السلطان)، والله لقد وقع الأمر، نقصت الأمة المكيال والميزان فشدد الله عليها، نرى الأمة الآن تعيش في ضنك، لا يمكن بأي حال أن يعبر أهل اللغة عن هذا الضنك إلا بقول الله: {مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه:124]، إنه الضنك في الأرزاق الضنك في الصدور الضنك في النفس الضنك في الأخلاق الضنك في كل شيء. (ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين، وشدة المئونة، وجور السلطان، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا) الله أكبر! (لولا البهائم لم يمطروا) ومن الإسرائيليات التي لا تصدق ولا تكذب: (إن سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام خرج مع بني إسرائيل يوماً من الأيام ليصلي بهم صلاة الاستسقاء؛ لينزل الله المطر، ومر سليمان على وادي النمل، فرأى نملة قد رفعت قوائمها تناجي ربها جل وعلا وتقول: يا رب نحن قوم من خلقك، فلا تهلكنا بذنوب بني آدم! فاستجاب الله وأنزل الله المطر! فالتفت سليمان الذي استمع إليها إلى بني إسرائيل قائلاً: يا بني إسرائيل توبوا إلى الله واستغفروه، فوالله إن الله قد أتى بفرجه لكم استجابة منه لدعاء نملة)، الله أكبر! والله لولا البهائم لخسف الله بنا، وصب الله علينا العذاب صباً. (ولم يمنعوا زكاة أموالهم) من الذي يؤدي زكاة ماله في غاية الحب لله والرضا عن تشريع الله؟! بل إننا نرى الأغنياء الآن يتحايلون من أجل أن يمنعوا زكاة أموالهم، ومن أجل أن يمنعوا حقوق الفقراء التي أوجبها الله عز وجل عليهم في أموالهم. (ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط عليهم عدواً من غيرهم فيأخذ بعض ما كان في أيديهم) وهذا واقع مر، فلقد سلط الله علينا أخس أمم الأرض، وأحقر أمم الأرض، وأذل أمم الأرض، فقد طمع في الأمة الذليل قبل العزيز، والضعيف قبل القوي، والقاصي قبل الداني، وأصبحت الأمة اليوم قصعة مستباحة لكل أمم الأرض، بل ولعباد البقر من أذل وأحقر أمم الأرض، بل لإخوان القردة والخنازير من أذناب يهود الذين يضربون الأمة على أم رأسها بالنعال في الليل والنهار، لماذا؟ لأن الأمة قد نقضت عهد الله ونقضت عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كما قال الحبيب في الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود من حديث ثوبان: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: كلا، ولكنكم يومئذ كثير، ولكن غثاء كغثاء السيل! وليوشكن الله أن ينزع المهابة من قلوب عدوكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قيل: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت). واسمع إلى الخصلة الخامسة أيها الحبيب: (وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل الله بأسهم بينهم شديد) ووالله لقد نحّى الأئمة كتاب الله، بل وسخروا من كتاب الله، بل واستهزءوا بكتاب الله، بل ومن أبناء الأمة من قال بالحرف الواحد: إن الشريعة اليوم لم تعد تتفق مع روح هذا العصر! وإذا أرادت الأمة الحضارة والرقي فيجب عليها أن تنحي شريعة الله! فإنها ما جعلت إلا للمساجد، ويجب عليها أن تنطلق لتأخذ بقوانين الشرق الملحد، وبقوانين الغرب الكافر. وبهذا خابت الأمة وخسرت، ورضي الله عن فاروقها الملهم إذ يقول: (لقد كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العز في غيره أذلنا الله) وورب الكعبة! لقد ابتغت الأمة العز في غير الإسلام؛ فأذلها الله ذلاً لا يستطيع أهل البلاغة والبيان أن يصفوه على الإطلاق. إنها المعصية أيها الأحبة! إنه شؤم المعاصي، إنها آثار المعاصي، إنه حصاد المعاصي المر، فالمعصية سبب لكل شقاء، وسبب لكل بلاء.

موعظة إبراهيم بن أدهم

موعظة إبراهيم بن أدهم اسمع أيها الحبيب! هذه الأجوبة البديعة من أحد علماء السلف لأحد العصاة المذنبين، أذكر بها نفسي وإياكم، فما من أحد على ظهر الأرض إلا وقد عصى الله، ما من أحد على ظهر الأرض إلا وقد ذاق مرارة المعصية وذاق حلاوة الطاعة، أذكر نفسي وإياك أيها الحبيب! فلقد جاء رجل أسرف على نفسه إلى إبراهيم بن أدهم، وإبراهيم بن أدهم هو الثقة بإطلاق، وليس كما يظن بعض طلاب العلم، بل هو ثقة بإطلاق كما قال علماء الجرح والتعديل، راجع ترجمته في تهذيب التهذيب لـ ابن حجر، وناهيك بقولة إمام الجرح والتعديل الإمام العلم يحيى بن معين إذ يقول في حق إبراهيم رحم الله الجميع: عدل ثقة، وأهل الحديث يعلمون معنى كلمة ثقة، لاسيما إذا كانت هذه الكلمة من إمامهم الإمام العلم يحيى بن معين. فقد ذهب إليه رجل وقال: يا إبراهيم! لقد أسرفت على نفسي بالمعاصي والذنوب، فماذا أصنع؟ أريد أن أتوب إلى الله عز وجل، فماذا أصنع؟ وكلنا والله نريد التوبة، كلنا والله نريد الإنابة؛ لأنه والله ما من عبد قد ارتكب معصية -وكان يحمل قلباً سليماً حياً- إلا وأحس أن الأرض بما رحبت قد ضاقت عليه، وأن أنفاسه تختنق، وأن صدره يضيق فيكون كخرم إبرة، إنها الفطرة السوية السليمة، وإن كنت على غير ذلك ففتش عن قلب؛ لأنه ربما تكون لا تحمل قلباً ولا حول ولا قوة إلا بالله! وأنا لا أقصد القلب الذي يتكون من الأذين والبطين، وإنما أقصد القلب الذي قال عنه الحبيب المصطفى كما في الصحيحين من حديث النعمان: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب). ماذا قال إبراهيم بن أدهم لهذا السائل؟ قال له: يا هذا! عليك بخمس خصال لتكون من أهل التوبة، ولتترك المعاصي. قال: هاتها يرحمك الله. قال إبراهيم: أما الأولى: إذا أردت أن تعصي الله فلا تأكل من رزق الله! أيها العاصي! أذكر بهذا نفسي والله، فأنا أولكم، إذا أردت أن تعصي الله فلا تأكل من رزق الله! قال الرجل: سبحان الله! وهل الأرزاق كلها إلا من الله يا إبراهيم؟! فقال له: فهل يجدر بك أن تأكل رزقه وتعصيه؟! دع عنك ما قد فات في زمن الصبا واذكر ذنوبك وابكها يا مذنب لم ينسه الملكان حين نسيته بل أثبتاه وأنت لاه تلعب والروح منك وديعة أودعتها ستردها بالرغم منك وتسلب وغرور دنياك التي تسعى لها دار حقيقتها متاع يذهب الليل فاعلم والنهار كلاهما أنفاسنا فيها تعد وتحسب إذا أردت أن تعصي الله فلا تأكل من رزق الله! قال: كيف ذلك والأرزاق كلها لله؟ {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6]، {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:58]، لا تأكل رزق الله إذا أردت أن تعصي الله، قال: كيف ذلك والأرزاق كلها بيد الله؟! قال: وهل يجدر بك أن تأكل رزقه وتعصيه؟! قال: لا، هات الثانية. قال إبراهيم: أما الثانية: إن أردت أن تعصي الله فابحث عن أرض ليست لله فاعصه هناك؟! ابحث عن مكان ليس ملكاً لله، فكيف تجرؤ على أن تعصي الله في ملكه؟! كيف تجرؤ على أن تدخل بيت ملك من ملوك الأرض أو بيت حاكم من حكام الدنيا وأنت ستعصيه في هذا البيت؟! والله لن تجرؤ على معصيته، وأتحداك أن تجرؤ، بل أتحداك أن تفعل ذلك في بيت رئيس مجلس الإدارة، أو في بيت مدير عام، أو في بيت مدير إدارة، أو في بيت رئيس قسم، أو في مكتب مسئول صغير، أتحداك أن تعصيه في مكتبه! فإن أردت أن تعصي الله عز وجل ففتش عن أرض ليست ملكاً لله فاعص الله هنالك! فقال الرجل: يا إبراهيم! الأرض كلها لله، {إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ} [الأعراف:128]، فكيف تقول لي هذا؟! فقال إبراهيم: فهل يجدر بك أن تعصي الله في ملك الله؟! فكر -يا أخي- هل يجدر بك أن تعصي الله في ملك الله جل وعلا؟! قال الرجل: هات الثالثة يرحمك الله. قال: أما الثالثة: إذا أردت أن تعصي الله جل وعلا فابحث عن مكان أمين لا يراك الله فيه! أمسك أعرابي أعرابية في الصحراء، وأراد أن يفعل بها المعصية، فقالت له هذه المعلمة المربية التي أرادت أن تربيه على مراقبة الله: اذهب وانظر هل يرانا أحد؟ هل نام الناس؟ هل اطمأن الجميع وهجع الجميع في خيامه؟ فانطلق الرجل وعاد إليها فرحاً مسروراً بلذة سيجني ثمارها المرة بعد حين! قال: أبشري لا يرانا أحد، نام الجميع ولا يرانا إلا الكواكب، فقالت له: وأين مكوكبها؟! أين الله؟! إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما يخفى عليه يغيب {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7]، معهم أينما كانوا بسمعه، معهم أينما كانوا ببصره، معهم أينما كانوا بعلمه، فإذا أردت أن تعصي الله ففتش عن مكان أمين لا يراك فيه الله عز وجل! أراد أستاذ فطن ذكي أن يربي تلاميذه على المراقبة لله، فدفع لكل تلميذ طائراً وقال: لينطلق كل تلميذ ليذبح طائره في مكان لا يراه فيه أحد، فجاء كل تلميذ بطائره بعدما ذبحه، ودخل على الأستاذ تلميذ نجيب بطائره ولم يذبحه، قال: ما الذي جعلك تأتي بطائرك من غير ذبح؟ قال: يا أستاذي! لقد أمرتنا أن نفتش عن مكان لا يرانا فيه أحد، وما من مكان أذهب إليه إلا والله يراني فيه، فعدت به هكذا. إنها المراقبة لله، إن أردت أن تعصي الله ففتش عن مكان أمين لا يراك الله فيه، فقال الرجل: كيف يا إبراهيم والله عز وجل يقول: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19]؟! فقال إبراهيم: فهل يجدر بك أن تعصي الله وأنت على يقين أن الله يراك؟! قال: يرحمك الله هات الرابعة. قال: أما الرابعة: إذا أردت أن تعصي الله، وجاءك ملك الموت فقل له: أخر قبض روحي حتى أتوب إلى الله! قال: كيف ذلك والله جل وعلا يقول: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34]؟! قال: أنت تعلم ذلك، وكيف تريد النجاة؟! تعلم أن الموت يأتي بغتة، وتعلم أن ملك الموت لا ينتظر أحداً، ولا يترك شاباً ولا شيبة، ولا رجالاً ولا نساءً ولا صغاراً ولا كباراً. أين الظالمون وأين التابعون لهم في الغي بل أين فرعون وهامان أين من دوخوا الدنيا بسطوتهم وذكرهم في الورى ظلم وطغيان هل أبقى الموت ذا عز لعزته أو هل نجى منه بالسلطان إنسان لا والذي خلق الأكوان من عدم الكل يفنى فلا إنس ولا جان إذا جاءك ملك الموت -أيها العاصي، أيها المسرف على نفسك بالذنوب- فلا تستجب! قل: لا. لن أستجيب لك يا ملك الموت! أو قل: انظرني إلى أجل معدود، لماذا؟ لأعود إلى الله، ولأتوب إلى الله، ولأرجع إلى الله، كلا {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا} [المؤمنون:99 - 100]، إنها كلمة حقيرة لا وزن لها عند الله، لا يستجيبها الله، لقد أمهلك الله، لقد أنزل الله إليك الكتب، وأرسل الله إليك الرسل، وبعث الله إليك العلماء والدعاة فسخرت منهم، واستهزأت بهم، وصددت عن سبيل الله، ووقفت حجر عثرة في دعوة الله، وفي طريق الدعاة إلى الله. واليوم لما عاينت الحقائق ورأيت الحق الذي لا خفاء فيه تقول: (رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي) هو لا يدري إن كان سيعمل أو لا يعمل، وإنما يقول: (لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا) فعلم الله كذبه، وعلم الله نفاقه، فقال جل وعلا: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100]. قال: هات الخامسة يا إبراهيم! قال: أما الخامسة: إذا أردت أن تعصي الله، فإذا جاءتك زبانية جهنم ليسوقوك إلى العذاب فلا تذهب معهم! فبكى الرجل وانطلق وهو يصرخ ويقول: أستغفر الله وأتوب إليه، أستغفر الله وأتوب إليه، اللهم اغفر لنا وراحمنا يا أرحم الراحمين.

اغتنم لحظات عمرك فالموت يأتي بغتة

اغتنم لحظات عمرك فالموت يأتي بغتة أيها الأحبة الكرام! أيها الإخوة الكرام! كم من أحبابنا وإخواننا اليوم يتمرغ في نعم الله، ويعيش في نعيم الله وهو مع ذلك مصر على معصية الله، لماذا؟ يقول: أنا لازلت شاباً! إن شاء الله تعالى إن كبر سني سأتوب إلى الله، ولن أترك المساجد أبداً! فنقول: إن الموت لا يترك صغيراً ولا كبيراً، والله لا يضمن أحد أن يعيش إلى الغد، قال عبد الله بن عمر: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء). إن الموت هو الحق أيها الأحبة! ذكر نفسك بهذه الحقيقة التي سماها الله في القرآن بالحق، قال سبحانه: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق:19]، والحق أنك تموت، والله حي لا يموت، والحق أن ترى عند موتك ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب، والحق أن يكون قبرك روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران. {ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19]، أي: ذلك ما كنت منه تهرب. تحيد إلى الطبيب إذا جاءك المرض خوفاً من الموت، وتحيد إلى الطعام إذا أحسست بالجوع خوفاً من الموت، وتحيد إلى الشراب إذا أحسست بالظمأ خوفاً من الموت، ولكن ثم ماذا؟! أيها القوي الفتي! يا أيها الحاكم! يا أيها الكبير! يا أيها الصغير! يا أيها الفقير! كل باك فسيبكى، وكل ناع فسينعى، وكل مدخور سيفنى، وكل مذكور سينسى، ليس غير الله يبقى، من على فالله أعلى. انظر إليه: هو من هو؟! هو صاحب الجاه والسلطان، والأموال، والوزارة، والملك، نام على فراش الموت! الأطباء من حول رأسه، كل يبذل له الرقية، كل يبذل له العلاج، ولكنهم يريدون شيئاً، وملك الملوك قد أراد شيئاً آخر، {وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:78]، {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27]. انظر إليه لقد اصفر وجهه، وشحب لونه، وبردت أطرافه، وتجعد جلده، وبدأ يحس بزمهرير قارس يزحف إلى يديه وقدميه، يحاول جاهداً أن يحرك شفتيه بكلمة التوحيد، فيحس أن الشفة كالجبل لا تريد أن تتزحزح إلا لمن يسر الله له النطق بلا إله إلا الله، فينظر في لحظة صحوه بين السكرات والكربات، ينظر إلى أهله، وإلى الأطباء من فوق رأسه، وإلى إخوانه، وإلى أحبابه، ويقول بلسان الحال، بل وبلسان المقال: يا أحبابي! يا إخواني! لا تتركوني وحدي، ولا تفردوني في لحدي، افدوني بأعماركم، أنا صاحب الجاه، أنا صاحب السلطان، أنا الذي بنيت لكم القصور، أنا الذي عمرت لكم الدور، أنا الذي نميت التجارة، فمن منكم يزيد في عمري ساعة أو ساعتين؟ وهنا يعلو صوت الحق: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:83 - 96]. سبحانك يا من أذللت بالموت رقاب الجبابرة! سبحانك يا من أنهيت بالموت آمال القياصرة! سبحانك يا من نقلت بالموت الأكاسرة والأكابرة والأباطرة من القصور إلى القبور! ومن ضياء المهود إلى ظلمة اللحود! ومن ملاعبة النساء والجواري والغلمان إلى مقاساة الهوان والديدان! ومن التنعم بألوان الطعام والشراب إلى التمرغ في ألوان الوحل والتراب!

مواعظ شعرية

مواعظ شعرية سفري بعيد وزادي لن يبلغني وقوتي ضعفت والموت يطلبني ولي بقايا ذنوب لست أعلمها الله يعلمها في السر والعلني أنا الذي أغلق الأبواب مجتهداً على المعاصي وعين الله تنظرني ما أحلم الله عني حيث أمهلني وقد تماديت في ذنبي ويسترني كأنني بين تلك الأهل منطرحاً على الفراش وأيديهم تقلبني وقد أتوا بطبيب كي يعالجني ولم أر الطب اليوم ينفعني واشتد نزعي وصار الموت يجذبها من كل عرق بلا رفق ولا هون كأنني وحولي من ينوح ومن يبكي علي وينعاني ويندبني وقام من كان احب الناس في عجل نحو المغسل يأتيني يغسلني فجاءني رجل منهم فجردني من الثياب وأعراني وأفردني وأودعوني على الألواح منطرحاً وصار فوقي خرير الماء ينظفني وأسكب الماء من فوقي وغسلني غسلاً ثلاثاً ونادى القوم بالكفن وحملوني على الأكتاف أربعة من الرجال وخلفي من يشيعني وقدموني إلى المحراب وانصرفوا خلف الإمام فصلى ثم ودعني صلوا علي صلاة لا ركوع لها ولا سجود لعل الله يرحمني وأنزلوني إلى قبري على مهل وقدموا واحداً منهم يلحدني فكشف الثوب عن وجهي لينظرني فأسكب الدمع من عينيه أغرقني وقال هلوا عليه الترب واغتنموا حسن الثواب من الرحمن بالمنن وأخرجوني من الدنيا فوا أسفاه على رحيل بلا زاد يبلغني يا نفس كفي عن العصيان واغتنمي حسن الثواب من الرحمن بالمنن وقال آخر: يا نفس قد أزف الرحيل وأظلك الخطب الجليل فتأهبي يا نفس لا يلعب بك الأمل الطويل فلتنزلن بمنزل ينسى الخليل به الخليل وليركبن عليك فيه من الثرى ثقل ثقيل قرن الفناء بنا جميعاً فما يبقى العزيز ولا الذليل أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

باب التوبة مفتوح

باب التوبة مفتوح الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه ومن والاه. أما بعد: فيا أيها الأحبة في الله! ثالثاً: باب التوبة مفتوح. هيا يا من رق قلبك، وخشعت جوارحك، ودمعت عينك، تب إلى الله، وعاهد ربك من الآن على التوبة، على ترك المعاصي، على ترك الذنوب، على السير على طريق الحبيب المحبوب محمد صلى الله عليه وسلم، فإن الدنيا -والله- مهما طالت فهي قصيرة، ومهما عظمت فهي حقيرة. هيا تب إلى الله، واعلم بأن الله -وهو الغني عن العالمين- سيفرح بتوبتك، سيفرح بأوبتك، سيفرح بعودتك، اسمع لربك وهو ينادي عليك: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]. واسمع إلى الله وهو ينادي عليك في الحديث القدسي الذي رواه مسلم والترمذي واللفظ للترمذي من حديث أنس: (يا بن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا بن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا بن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة). ووالله ما من يوم يمر، وما من ليلة تمر، إلا وربك يتنزل إلى السماء الدنيا تنزلاً يليق بكماله وجلاله كما في صحيح مسلم من حديث أبي موسى الأشعري: (يتنزل ربك ويقول: أنا الملك، من ذا الذي يدعوني فأستجيب له؟ من ذا الذي يسألني فأعطيه؟ من ذا الذي يستغفرني فأغفر له؟ فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر). فعد إليه، ليجدك ربك ساجداً بين يديه، متضرعاً متذللاً على أعتابه، لتناجيه ولترفع إليه أكف الضراعة، فإن الله عز وجل يفرح بأوبتك، ويفرح بتوبتك، وهو الغني عن العالمين، لا تنفعه الطاعة، ولا تضره المعصية، (إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها) وذلك في يوم القيامة، فتب إلى الله.

قصة تائب

قصة تائب أقص عليكم قصة تائب؛ لأن كثيراً من الناس الآن يحول الشيطان بينه وبين التوبة بحجة أنه قد أسرف على نفسه بالمعاصي والذنوب، ويقول لنفسه: كيف تعود إلى الله وقد أسرفت على نفسك بالمعاصي؟! كيف ترجع؟! كيف تتوب؟! وهل يقبل الله منك التوبة؟! نعم يا أخي! الله يقبل منك التوبة إن صحت توبتك، وحققت لها الشروط، فأقلعت عن الذنب، وندمت على ما فعلت، واستغفرت الله، وأكثرت من العمل الصالح، قال الله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، فعد إليه وأنت على يقين بأن الله سيغفر لك ما دمت قد حققت شروط التوبة النصوح. إنها قصة شاب من السعودية ما ترك كبيرة من الكبائر إلا وارتكبها، ما من ليلة تمر عليه إلا وهو يترنح بين كئوس الخمر، وأحضان الزواني، ولما رآه أهله هكذا قالوا: نزوجه لعل الله عز وجل أن يمن عليه بالهداية والتوبة، وأن يستقيم على طريق الطاعة، فزوجوه، واختاروا له فتاة جميلة على دين، ولكنه لازال منغمساً في شهواته ونزواته والعياذ بالله، ما من ليلة إلا ويترك زوجته ليذهب ويبحث عن أخرى والعياذ بالله! وظل على هذا الحال إلى أن رزقه الله عز وجل من هذه الزوجة بفتاة صغيرة جميلة، وكبرت هذه الفتاة حتى بلغت الرابعة من عمرها، وكانت تسأل عن أبيها: أين أبي في الليل؟! أين هو؟! وأمها تعلم، ولكنها تخفي عنها الجواب، وفي ليلة من الليالي عاد هذا الشاب بشريط جنسي داعر، ودخل فاطمأن، نظر إلى زوجته فرآها نائمة، ونظر إلى ابنته فرآها نائمة، فدخل إلى غرفته المجاورة بعدما اطمأن إلى أن البيت كله قد هجع ونام، وأدخل هذا الشريط القذر، الذي ابتليت به كثير من بيوت المسلمين في هذه الأيام ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وأدخل الشريط في هذا الجهاز الخطير، في جهاز الفيديو، وجلس أمام هذا الشريط بعدما فعل وشرب ولا حول ولا قوة إلا بالله. واستيقظت الفتاة الصغيرة من نومها، فرأت نوراً في الغرفة إلى جوار غرفة أمها، فتسللت من الفراش كتسلل القطا، ودخلت على أبيها الذي فوجئ بها أمامه، وإذ بهذه الفتاة يلقي الله على لسانها كلمة عجيبة، نظرت إلى أبيها الذي أذهلته المفاجأة، ونظرت إلى التلفاز فرأت مشهداً مروعاً، بكت ثم قالت لأبيها: يا أبتي! أتريد أن تدخلنا جميعاً النار معك؟! وكأن هذه الكلمة كانت بمثابة النور الذي بدد هذا الظلام في هذا القلب المظلم، وقعت الكلمة على وتر حساس، {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34]. إن الهداية بيد الله، وإن الفضل بيد الله؛ لذا أذكر أحبابي الشباب من أهل الطاعة والسنة والالتزام، إياك أن تحتقر عاصياً، وإياك أن تسب أحداً؛ لأنك لا تعلم بأي شيء سيختم لك، وبأي شيء سيختم له، فإن الأمر لله، {إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [آل عمران:73]، أسأل الله أن يختم لي ولكم بخاتمة التوحيد. وقعت هذه الكلمة على قلب الرجل كالماء البارد، أو كحبات الندى على زهرة ظمأى، تفتح القلب، فقام واحتضنها وقبلها بين عينيها، وقال لها: والله لقد آن! والله لقد آن! وسمع المؤذن يؤذن لصلاة الفجر فخرج إلى المسجد المجاور، وشاء الله عز وجل أن يتلو الإمام في صلاة الفجر: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53]، وبكى هذا التائب بكاءً طويلاً، وبكّر بعد الشروق إلى عمله، فعجب إخوانه في العمل لماذا جاء اليوم مبكراً؟! فأخبرهم بقصته، فقال له رئيسه: فلتعد اليوم إلى بيتك، فإني أرى الإرهاق ظاهراً عليك، فعاد الرجل إلى بيته -أيها الأحبة- فسمع بكاءً وعوياً وصراخاً، فلما دخل قال: ما الخبر؟! قالوا: لقد ماتت ابنتك! الله أكبر! لقد ماتت ابنتك، فبكى الرجل بكاءً طويلاً، وأصر على أن يحتضنها في صدره، وأن ينطلق بها ليضعها في قبرها في مثواها الأخير، قالوا: لا تفعل. قال: أريد أن أودع النور الذي أخرجني من الظلمات إلى النور! وكانت هي التوبة، عاد إلى الله، ووالله إنه الآن ممن يتحرك لدعوة الله ولدين الله عز وجل. أيها الأحبة الكرام! توبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون! واعلموا بأن الله تواب رحيم، واعلموا أن الله غفور كريم. اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم لا تدع لأحد منا في هذا الجمع المبارك ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا أديته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا طائعاً إلا ثبته، ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ويسرتها يا رب العالمين! اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا شقياً ولا محروماً. اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى، اللهم اجعل مصر واحة من الأمن والأمان، اللهم لا تحرم مصر من الأمن والأمان، اللهم لا تحرم مصر من التوحيد والموحدين، الله اجعل مصر سخاءً رخاءً وسائر بلاد الإسلام، اللهم رد الأمة إليك رداً جميلاً برحمتك يا أرحم الراحمين! أيها الأحبة! هذا وما كان من توفيق فمن الله، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الوفاء بالعهد

الوفاء بالعهد الوفاء بالعهد وصدق الوعد من صفات الأنبياء والصالحين، ولهذا مدح الله عز وجل من كان كذلك، وأمر بهما، وجعل نقض العهد وإخلاف الوعد من صفات المنافقين التي يجب الحذر منها!

صدق الوعد خصلة كريمة من خصال الأنبياء عليهم السلام

صدق الوعد خصلة كريمة من خصال الأنبياء عليهم السلام بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: أحبتي في الله! مع اللقاء التاسع والعشرين وما زلنا بحول الله وطوله ومدده نطوف في بستان سورة مريم، ومع قول الحق تبارك وتعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم:54 - 55]. نحن في هذا الدرس على موعد مع نبي ورسول كريم من رسل الله جل وعلا، مع إسماعيل عليه السلام، وإسماعيل هو والد العرب جمعياً، اصطفاه الله عز وجل من ولد إبراهيم، كما ثبت في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل). ولقد أثنى الله جل وعلا على إسماعيل بصدق الوعد، فقال: {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} [مريم:54]. وصدق الوعد أيها الأحباب! خصلة كريمة من خصال الإيمان، وخلق عظيم من أخلاق الإسلام، عز وجوده وندر في هذه الأيام، فكم من وعود معسولة! وكم من عهود مسموعة ومرئية ومنقولة! ولكن أين الوفاء بالعهد؟! وأين صدق الوعد والوعود؟! فإن كثيراً من الناس في هذه الأيام يشبه حاله تماماً بما حكوه عن جحا وساقيته، فلقد زعموا أن جحا صنع ساقية تأخذ الماء من النهر وترد نفس الماء إلى نفس النهر؛ فعجب الناس لـ جحا وقالوا له: عجباً لك يا جحا! ما الذي دعاك إلى ذلك؟! ما الفائدة من ساقية تأخذ الماء من النهر وترد نفس الماء إلى نفس النهر؟! فقال جحا: يكفيني نعيرها، ولا حول ولا قوة إلا بالله. فكم من الناس من يتكلم؟ وكم من المسئولين من يَعِد؟ وكم من المسئولين من يتعهد لله وللناس؟ ولكن أين صدق الوعود؟! وأين الوفاء بالعهود؟! لذا أثنى الله جل وعلا على إسماعيل بصدق الوعد؛ لخطورة هذه الخصلة وهذا الخلق فقال: {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} [مريم:54]. قال أئمة التفسير: إن الله جل وعلا أثنى بهذا على إسماعيل؛ لأنه ما من عهد عاهد به ربه إلا وصدق في عهده ووعده لربه جل وعلا، فهو الذي وعد الخليل صلى الله عليه وسلم أن يجده صابراً إذا ما جاء لينفذ فيه أمر الله بالذبح، كما قال الله عز وجل عنه: {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102]، والدليل على أنه وفى بوعده قول ربه جل وعلا: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات:103]، عاهد ربه فوفى بعهده ووعده لله عز وجل، لذا أثنى الله عليه بقوله: {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} [مريم:54]. وصدق الوعد أيها الأحبة! مدح الله جل وعلا به المتقين الصادقين، كما في آية البر الجامعة التي في سورة البقرة، يقول الحق تبارك وتعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177]. والشاهد في قوله: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} [البقرة:177] وهذه صفة من صفات المتقين الصادقين، ولذا قال: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177]. وكفى أن نعلم بأن إخلاف الوعد وعدم الوفاء بالعهد من خصال المنافقين عياذاً بالله! فمن أخلف وعده وغدر بعهده فقد اتصف بصفة من صفات المنافقين، والعياذ بالله!

أنواع النفاق وعلاماته

أنواع النفاق وعلاماته جاء في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً). فانتبهوا يا عباد الله! واحذروا من هذه الخصال، وتعرف أيها الأخ على نفسك أين أنت؟ وهل أنت من المؤمنين الصادقين، أم أنت -والعياذ بالله- من المنافقين؟ فقد تكون فيك خصلة من خصال النفاق وأنت لا تدري، فإن النفاق هو الداء العضال الذي قد يقع الرجل فيه وهو لا يشعر. النوع الأول: النفاق الأكبر، وصاحبه مخلد في الدرك الأسفل من النار، وهو: أن يظهر الإسلام ويبطن الكفر، والعياذ بالله! النوع الثاني: نفاق العمل، وهو: أن يظهر الإنسان علانية خيرة -نسأل الله لنا ولكم العفو والعافية- وأن يبطن الشر والسوء، والعياذ بالله! فالنفاق هو الداء العضال الذي قد يمتلئ منه الرجل وهو لا يدري ولا يشعر، فانتبهوا يا عبد الله! لتتعرف على حالك أين أنت من كتاب الله جل وعلا؟ وهل أنت من المؤمنين الصادقين المتقين؟ أو أنك -والعياذ بالله- من أهل النفاق؟ وانتبه! لقول النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه واحدة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب)، فهل أنت من الصادقين في القول، أم أنت غير ذلك والعياذ بالله؟ هذه الأربع: (إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر)، هذه هي صفات وخصال أهل النفاق: إذا حدث فهو كاذب، وإذا عاهد فهو من الغادرين، وإذا خاصم فهو من الفاجرين، وإذا اؤتمن لم يؤد الأمانة. وفي الرواية التي جاءت عن أبي هريرة رضي الله عنه والتي رواها البخاري ومسلم: أنه صلى الله عليه وسلم قال: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)، وفي رواية لـ مسلم: (إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم)، أي: فهو منافق. إذا اختلت ثقة الإنسان في وعود وعهود إخوانه من المسلمين اختل الكيان، وتخلخل بناء الأمة، وضاع فيها الأمن والأمان، فكم من المسلمين من يحدث وهو كاذب؟ وكم من المسلمين من يعد وهو خائن؟ وكم من المسلمين من يعاهد وهو غادر؟ كم أعطى من الوعود والعهود وبعدها غدر بأصحابها؟ وكم من وعود معسولة؟ وكم من عهود مسموعة ومرئية ومنقولة؟ ولكن أين صدق الوعد؟ وأين الوفاء بالعهد؟ لقد ضاعت هذه الخصلة وضاع هذا الخلق بين المسلمين إلا من رحم الله جل وعلا. فرواية أبي هريرة: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)، ورواية عبد الله بن عمرو بن العاص أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر) والعياذ بالله! والروايتان في الصحيح.

خوف السلف من النفاق

خوف السلف من النفاق والله لقد مزق الخوف من النفاق قلوب السابقين الأولين، وهم من هم في الصدق والوفاء! مزق الخوف من النفاق قلوبهم، فهذا فاروق الأمة عمر بن الخطاب الذي قال في حقه المصطفى صلى الله عليه وسلم: (لقد أجرى الله الحق على لسان عمر وقلبه)، انظر إلى هذه الشهادة التي شهدها الرسول صلى الله عليه وسلم لـ عمر! فهو الذي وصفه القرآن من فوق سبع سموات، ونزل القرآن من عند الله موافقاً لرأي عمر في أكثر من موضع، ويوم أن قام النبي صلى الله عليه وسلم ليصلي على رأس النفاق عبد الله بن أبي ابن سلول جذبه عمر بن الخطاب بثوبه، وقال: لا تصل عليه يا رسول الله! أنسيت ما صنع؟! لقد صنع كذا في يوم كذا، وكذا في يوم كذا، وجاذب عمر ثوب الرسول صلى الله عليه وسلم فجذب رسول الله ثوبه وقال: (دعني يا عمر! فلقد خيرني الله جل وعلا بين أن أستغفر لهم أو لا أستغفر لهم) ثم صلى الرسول صلى الله عليه وسلم على رأس النفاق، وينزل القرآن على الحبيب صلى الله عليه وسلم موافقاً لرأي عمر رضي الله عنه، وهو قول الله جل وعلا: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة:84]، فنزل القرآن موافقاً لرأي عمر، ويوم أن قال عمر برأيه في أسرى بدر نزل القرآن موافقاً أيضاً لرأي عمر. ويوم أن نظر عمر إلى المنافقين وهم ينظرون إلى نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم غضب وأخذته الغيرة، وقال لرسول الله: (احجب نساءك يا رسول الله! فإن المنافقين ينظرون إليهن) فنزلت آيات الحجاب، وحجب الرسول نساءه، وكم من الآيات والمواقف التي نزل فيها القرآن موافقاً لرأي عمر رضي الله عنه؟ فـ عمر هو الفاروق الذي فرق الله به بين الحق والباطل، وعمر هو الذي يقول في حقه رسول الله: (لو كان نبياً بعدي لكان عمر). ويوم أن سمع عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر حذيفة بن اليمان -وهو أمين سر رسول الله صلى الله عليه وسلم- بأسماء المنافقين ذهب إلى حذيفة رضي الله عنه ويقول له: (نشدتك الله يا حذيفة! هل سماني لك رسول الله في أسماء المنافقين؟). عمر بن الخطاب يخشى ويخاف على نفسه النفاق، فقال: (نشدتك الله يا حذيفة! هل سماني لك رسول الله في المنافقين؟ فيرد عليه حذيفة ويقول: لا، ولا أزكي بعدك أحداً) عمر مزق الخوف من النفاق قلبه وقلوب السابقين الصادقين، حتى أساءوا الظن بأنفسهم، وخشوا أن يكونوا من المنافقين، والعياذ بالله! ولقد ثبت في صحيح مسلم من حديث حنظلة الأسيدي رضي الله عنه أنه مر عليه الصديق يوماً فوجده يبكي، فسأله الصديق: لماذا تبكي يا حنظلة؟ فرد عليه حنظلة بقوله: نافق حنظلة يا أبا بكر! فقال: ومم ذاك؟ قال حنظلة: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فيذكرنا بالجنة والنار كأنهما رأي العين، حتى إذا ما عدنا إلى بيوتنا عافسنا الأزواج والصبية فنسينا كثيراً -أي: إذا عدنا إلى البيوت وتركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نسينا كثيراً من الخشوع والخضوع والبكاء والذل لله جل وعلا- فنظر الصديق رضي الله عنه إلى حنظلة وقال: وأنا أجد مثل ذلك. فانطلقا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل الحبيب حنظلة: وقال: (ما يبكيك يا حنظلة؟!)، فقال حنظلة: نافق حنظلة يا رسول الله! فسأله النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ما ذكره لـ أبي بكر فقال الحبيب عليه الصلاة والسلام: (لو تدومون على الحالة التي تكونون بها عندي لصافحتكم الملائكة في مجالسكم وعلى الطرقات، ولكن ساعة وساعة)، أي: لو تدومون على هذا الحال من الخشوع والخضوع والذل والانكسار للكبير المتعال لأصبحتم كالملائكة، وبمعنى أدق: لصافحتكم الملائكة في مجالسكم، وفي الطرقات، ولكن ساعة وساعة.

معنى حديث: (ساعة وساعة)

معنى حديث: (ساعة وساعة) وهنا وقفة؛ لأن كثيراً من المسلمين يأخذون هذه القولة في هذا الحديث المبارك ويقولون: ساعة وساعة، بمعنى: ساعة لشهواتك وملذاتك ومعاصيك، وساعة لربك جل وعلا، فإذا ما ذهبت إليه لتذكره بالله ولتأمره بالمعروف ولتنهاه عن المنكر قال لك: يا أخي! ساعة وساعة، فلا تشدد علينا، وإذا ما قلت له: صل، وإذا ما قلت له: زك، وإذا ما قلت له: لا تسبل الثوب، وإذا ما قلت له: لا تحلق اللحية، نظر إليك وقال: يا أخي! لا تشدد علينا؛ فإن الأمر يسير، ألم يقل رسول الله: (ساعة وساعة)؟! ومثل هذه الفتاوى جاهزة ومعدة. وإذا ما قلت له: اتق الله! قال لك: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، وإذا ما قلت له: اتق الله! ولا تشرب الخمر، قال لك: ليست خمراً، ولكنها مشروبات روحية! وإذا ما قلت له: اتق الله ولا تأكل الخنزير لأنه حرام، قال لك: الخنزير المحرم هو الخنزير الذي كان في أرض الجزيرة يوم أن نزل القرآن؛ وكان خنزيراً هزيلاً، أما خنازير اليوم -وما أكثرها! - فهي تربى في المصحات، ويشرف عليها الأطباء، فلمَ لا نأكلها؟!! وأصبح الحال كما قال الشاعر: إن قلت قال الله قال رسوله همزوك همز المنكر المتغالي أو قلت قد قال الصحابة والأولو تبع لهم في القول والأعمال أو قلت قال الشافعي وأحمد وأبو حنيفة والإمام العالي صدوك عن وحي الإله ودينه واحتالوا على حرام الله بالإحلال يا أمة لعبت بدين نبيها كتلاعب الصبيان في الأوحال حاشا رسول الله يحكم بالهوى والجهل تلك حكومة الضلال وإنما المراد بقوله: (ساعة وساعة)، أي: ساعة لمعاشك، وساعة لمعادك، فلا مانع من أن تداعب زوجك وولدك، ولا مانع من أن تمكث مع أولادك ومع زوجتك أو زوجاتك ساعة لتخفف عليهم، أو أن تمكث في الأرض أو تسيح في الأرض لتحصل رزقك من الحلال، وبعدها تتفرغ لعبادة الله جل وعلا، فساعة لدنياك، وساعة لأخراك، ساعة لمعاشك وساعة لمعادك، أما أن تجلس أمام المسلسلات الفاجرة والأفلام الداعرة وأنت تقول: قال رسول الله: (ساعة وساعة)، فهذا فهم مقلوب، ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم أبداً.

مواقف ضرب فيها السلف أروع الأمثلة في صدق الوعد

مواقف ضرب فيها السلف أروع الأمثلة في صدق الوعد فصدق الوعد خصلة كريمة وصفة حميدة من صفات الإيمان، وخلق عظيم من أخلاق الإسلام، ولا أنسى وأنا أتحدث في هذا المقام عن صدق الوعود وعن الوفاء بالعهود أن أذكِّر بخيرة الرجال الأبطال، الذين رباهم سيد الناس محمد صلى الله عليه وسلم فضربوا للبشرية إلى يوم القيامة أروع الأمثلة في صدق الوعد والوفاء بالعهد، فهؤلاء الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم عاهدوا الرسول صلى الله عليه وسلم وبايعوه على الصدق فصدقوا، وعاهدوه على نصرته فنصروه. وأضرب مثالين اثنين في ذلك:

صدق سعد بن الربيع مع الله ورسوله

صدق سعد بن الربيع مع الله ورسوله المثال الأول: ما ذكره ابن سعد في (الطبقات) وابن إسحاق في (السيرة) وابن عبد البر في (الاستيعاب) والإمام مالك وابن حجر في (الإصابة) وغير هؤلاء: أن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد: (انطلق يا زيد! إلى سعد بن الربيع -وهو الأنصاري الخزرجي رضي الله عنه- فانظر أهو في الأحياء أم في الأموات؟ وأقرئه مني السلام، قال زيد بن ثابت: فانطلقت فوجدت سعدا في آخر رمق من الحياة، فاقتربت منه وقلت له: يا سعد! لقد أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنظر أفي الأحياء أنت أم في الأموات؟ وأن أقرئك منه السلام، فنظر سعد وقال: بل أنا في الأموات يا زيد! وأبلغ رسول الله مني السلام، وقل له: يقول لك: سعد بن الربيع: جزاك الله عنا خير ما جزى الله نبياً عن أمته ورسولاً عن رسالته، ثم قال سعد: يا زيد! وأبلغ القوم مني السلام، وقل لهم: يقول لكم سعد بن الربيع: لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى رسول الله مكروه وفيكم عين تطرف). أي رجال هؤلاء؟! وأي عظمة هذه؟! يموت سعد وهو يقول: (بلغ رسول الله مني السلامة، وقل له: جزاك الله عنا خير ما جزى الله نبياً عن أمته ورسولاً عن رسالته، وبلغ القوم مني السلام يا زيد! وقل لهم: لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى رسول الله مكروه وفيكم عين تطرف!

صدق عبد الله بن عبد الله بن أبي مع الله ورسوله

صدق عبد الله بن عبد الله بن أبي مع الله ورسوله المثال الثاني: ما رواه ابن جرير بسنده عن ابن زياد: أن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول وقال له الرسول: (يا عبد الله! أسمعت ما قاله أبوك؟ فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! وما قال أبي؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: إنه قال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل!)، فنظر عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول وقال للرسول صلى الله عليه وسلم: (كذب والله أبي يا رسول الله! فأنت الأعز وهو الأذل، ثم قال للحبيب عليه الصلاة والسلام: يا رسول الله! والله لقد أتيت المدينة ولا يوجد بها من هو أبر بأبيه مني، أما وقد قال ما قال فلتسمعن ما يسرك يا رسول الله!). وصدق مع الحبيب صلى الله عليه وسلم، فخرج عبد الله رضي الله عنه ووقف على باب المدينة، وجاء رأس النفاق أبوه عبد الله بن أبي ابن سلول فوقف أمامه ابنه وولده وقال له: إلى أين؟ فقال أبوه: إلى داري، فنظر إليه ابنه عبد الله وقال: (والله لا يأويك ظلها، ولا تبيتن الليلة فيها إلا بأمر من الله ورسوله!). إنها العظمة! وأي كلمات نستطيع أن نعبر بها عن هؤلاء العمالقة الأطهار الأبرار الذين رباهم النبي صلى الله عليه وسلم؟! فيصرخ أبوه عبد الله: يا للخزرج! يا للخزرج! ابني يمنعني داري! فما الذي حدث؟ وما هذا الذي تحول؟ لقد تحولت العقول والقلوب يوم أن استقر الإيمان فيها، ويوم أن تمكنت العقيدة منها، تغيرت العقول كلية، وتغيرت القلوب كلية، إنها اللمسة الخفيفة التي تحول القلوب العادية المظلمة الكافرة إلى قلوب سكن فيها حب الله وحب رسوله صلى الله عليه وسلم، فتنظر بعدها إلى الدنيا على أنها حطام وظل زائل، وعارية مسترجعة، لا قيمة لها ولا وزن بجوار حب الله وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنها العقيدة التي تحول القلوب، إنه الإيمان الذي يخرج الأطهار والأبرار. فلما قال له ابنه: (والله لا يأويك ظلها، ولا تبيتن الليلة فيها إلا بأمر من الله ومن رسوله) صرخ عبد الله بن أبي ابن سلول قائلاً: يا للخزرج! ابني -وهو من أبر الناس بأبيه، وقد شهد الأنصار كلهم ببره- يمنعني بيتي! فما الذي حدث؟! وما الذي فعله محمد صلى الله عليه وسلم في هذه العقول والقلوب؟! إنه الإيمان والعقيدة إنها (لا إله إلا الله) بمعناها ومقتضاها، ويذهب الناس إلى عبد الله ويقولون له: يا عبد الله! هذا أبوك فكيف تمنعه؟! فيقول: والله لا يأويه ظلها، ولا يبيتن الليلة فيها إلا بأمر من الله ومن رسوله، ليعلم من الأعز ومن الأذل؟! فذهب الناس إلى من زكاه ربه في كل شيء. إلى من زكاه ربه في عقله فقال: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم:2]. وزكاه في علمه فقال: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:5]. وزكاه في صدقه فقال: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3]. وزكاه في فؤاده فقال: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11]. وزكاه في بصره فقال: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17]. وزكاه في صدره فقال: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1]. وزكاه في ذكره فقال: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:4]. وزكاه كله فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]. ذهب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله! عبد الله يمنع أباه أن يدخل بيته ومنزله! فيرد صاحب الخلق الكريم ويقول لهم: (اذهبوا إلى عبد الله وأخبروه وقولوا له: يقول لك رسول الله: ائذن له أن يدخل بيته)، وهو الذي قال ما قال! إنه الحلم والعفو عند المقدرة والغضب، بأبي هو وأمي، فيأذن عبد الله -بعد أن أتاه الأمر من رسول الله- لأبيه أن يدخل إلى بيته، وهو يقول له: أما وقد جاء الأمر من رسول الله فلتدخل إلى بيتك، لتعلم من الأعز ومن الأذل؟!

ثناء الله عز وجل على نبيه إسماعيل عليه السلام بصدق الوعد

ثناء الله عز وجل على نبيه إسماعيل عليه السلام بصدق الوعد إنه صدق الوعد والوفاء بالعهد، ولو ظللنا نتحدث عن سيرهم وعن قصصهم لوجدنا وسمعنا عجباً! لذا أيها الأحباب! فإن الله أثنى على إسماعيل بصدق الوعد قبل الرسالة والنبوة، وينبغي أن نتوقف عند هذا، يقول عز وجل: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} [مريم:54]، وبعدها يقول: {وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} [مريم:54]. إذاً: فصدق الوعد أمر خطير، ومقدمة هامة وضرورية لكل نبي ورسول؛ لأن من صفات الأنبياء والمرسلين صدق الوعد والوفاء بالعهد، وهذه صفات أهل الإيمان، {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} [مريم:54]، وجمع الله لإسماعيل بين الرسالة والنبوة، والرسالة أشمل من النبوة، فإن كل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً، فشرف الله إسماعيل؛ وجمع له بين النبوة والرسالة فقال: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} [مريم:54]، وانظروا إلى ما يثني الله جل وعلا به على إسماعيل بعد الرسالة والنبوة فيقول: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم:55]. فكان يأمر أهله أن يصلوا، وكان يأمر أهله أن يزكوا، فكان يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، قال الحسن في قوله تعالى: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ} [مريم:55] أي: قومه؛ لأن النبي بمنزلة الأب لأبنائه، فكان يأمر قومه بالصلاة والزكاة {وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم:55] فأنت مأمور يا عبد الله! أن تأمر أهلك بالصلاة والزكاة، وأن تأمرهم بالمعروف، وأن تنهاهم عن المنكر.

قوا أنفسكم وأهليكم النار فإنهم أمانة في أعناكم

قوا أنفسكم وأهليكم النار فإنهم أمانة في أعناكم فيا من صلى لله وترك بناته في الجامعات كاسيات عاريات! اتق الله واستح من الله، يا من تصلي لله جل وعلا وزوجتك سافرة. اتق الله عز وجل! واعلم أنهن سيتعلقن برقبتك يوم القيامة، وسيقلن لله جل وعلا: يا رب! ما أمرنا بالمعروف، يا رب! ما نهانا عن المنكر، يا رب! دخل علينا في الليل فوجدنا أمام المسلسلات الفاجرة والأفلام الداعرة فجلس معنا، يا رب! وجدنا لا نصلي فلم يأمرنا، يا رب! وجدنا لا نتقي الله فلم يأمرنا، يا رب! وجدنا كاسيات عاريات فقال: إن البنات إذا بلغن إلى سن معينة فلا ينبغي فيه أن يؤمرن وأن ينهين! فاتق الله واستح من الله يا عبد الله! أما قرأت قول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]؟! فبالله عليكم كم من الناس من يصلي وزوجته سافرة؟! وكم من الناس من يصلي وبناته كاسيات عاريات؟! أما تستحي من الله؟! يا من تدخل في الليل فترى بناتك أمام أشرطة الفيديو الداعرة، اتق الله فإنهن سيتعلقن برقبتك أمام الله في يوم قال عز وجل عنه: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، ورد في سنن البيهقي وغيره أن الحبيب صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآيات من سورة التحريم وقال: (اتقوا النار! اتقوا النار! اتقوا النار! فلقد أوقد عليها ألف عام حتى احمرت، وألف عام حتى ابيضت، وألف عام حتى اسودت فهي سوداء مظلمة)، وكان عبد الله بن عمر يقول: (اتقوا النار! فإن حرها شديد، وإن قعرها بعيد، وإن مقامعها حديد). اؤمر أهلك بالصلاة اؤمر أهلك بالزكاة اؤمر بناتك بالحجاب؛ لأنك مسئول عنهن، فمرهن بالحجاب ولا تدعهن يخرجن كاشفات وسافرات وعاريات، اؤمر أهلك بالمعروف وانههم عن المنكر، كما قال الله عن إسماعيل: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم:55] أي: زاكياً قد رضي الله عنه لأعماله وخصاله، فكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضياً. أسأل الله جل وعلا أن يجعلني وإياكم ممن قال فيهم: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:18]. وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.

ثناء الله على نبيه إدريس عليه السلام بصدق الوعد

ثناء الله على نبيه إدريس عليه السلام بصدق الوعد الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد: فيا أيها الأحبة! هذا هو قول الله تبارك وتعالى عن نبيه ورسوله إسماعيل: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم:54 - 55]. وبعد أن حدثنا الله جل وعلا عن نبيه إسماعيل حدثنا عن نبيه إدريس عليهما الصلاة والسلام، ففي عجالة سريعة أقول: إن نبي الله إدريس -الذي قال الله في حقه: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم:56 - 57]- هو من أجداد نوح عليه السلام، ولقد زعم بعض المؤرخين أنه بعد نوح، ورد هذا الزعم الحافظ ابن كثير وغيره من المؤرخين الثقات، وقال: إن إدريس من أجداد نوح عليهم جميعاً الصلاة والسلام، وهو أول من خط بالقلم، وهو أول من لبس المخيط. ورفعه الله مكاناً علياً، فقد ثبت في صحيح مسلم من حديث مالك بن صعصعة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لما عرج بي إلى السماء أتيت على نبي الله إدريس في السماء الرابعة)، فقوله تعالى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم:57] أي: في السماء الرابعة، وقد التقى الرسول صلى الله عليه وسلم في السماء الأولى بآدم عليه السلام، والتقى في السماء الثانية بيحيى وعيسى عليهما السلام، والتقى في السماء الثالثة بيوسف عليه السلام، والتقى في السماء الرابعة بإدريس عليه السلام، والتقى في السماء الخامسة بهارون عليه السلام، والتقى في السماء السادسة بموسى عليه السلام، والتقى في السماء السابعة بإبراهيم عليه السلام. والحقيقة أيها الأحبة! أن من يطلع على كتب السير والتفاسير يجد من الأساطير والخرافات التي نسجت حول رفع إدريس ما تنوء بحمله الجبال! ولكن أقول: لم يرد في كيفية رفع إدريس خبر صحيح عن الصادق المصدوق محمد صلى الله عليه وسلم، ولذا فسأكتفي بما ورد عن إدريس في القرآن الكريم وهو قول الله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم:56 - 57]، فلا ينبغي أن نلهث وراء هذه الخرافات والأساطير، فما سكت الله عنه وجب أن نسكت عنه، ولو علم الله في ذلك خيراً لذكره لنا، ولو علم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك خيراً لذكره لنا. إذاً: إدريس نبي من أنبياء الله جل وعلا، وصفه الله بالصديقية، وتقدم معنى كلمة (صديقاً) عند الكلام على خليل الله إبراهيم. فإدريس نبي من أنبياء الله، رفعه الله مكاناً علياً، وحدد الرسول صلى الله عليه وسلم هذه المكانة العالية بأنه في السماء الرابعة وكفى. وبعد الحديث عن هذه الكوكبة المشرقة، وعن هذا الركب المضيء من الأنبياء والمرسلين، الذي بدأناه برسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بالخليل ثم بموسى ثم بإسماعيل وبإدريس، يثني الله تبارك وتعالى عليهم جميعاً بقوله: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم:58]. فكانوا إذا تليت عليهم آيات الرحمن اقشعرت الجلود، وارتعدت الأفئدة، ولم تسعفهم الكلمات أن يعبروا عن خوفهم وإجلالهم لربهم جل وعلا، فخروا سجداً وهم يبكون من هيبة الله وعظمته عز وجل.

أحكام سجود التلاوة

أحكام سجود التلاوة وهذا السجود ما يسمى عندنا بـ (سجود التلاوة)، وأوجز القول فيه فأقول: إن سجود التلاوة سنة عند أهل العلم، وسجود التلاوة يوجد في خمسة عشر موضعاً في القرآن الكريم، ويرى جماهير أهل العلم أنه سنة، بمعنى: أن من مرت عليه آية من آيات السجود في القرآن الكريم فمن السنة أن يسجد. واختلف العلماء: هل يشترط لسجود التلاوة أن يكون الساجد متوضئاً؟ فالجمهور على أنه من الأفضل أن يكون الساجد متوضئاً، وقد ورد في صحيح البخاري أن عبد الله بن عمر كان يسجد على غير وضوء. إذاً: فمن سجد وهو متوضئ فهذا هو الأولى والأفضل، ومن مرت عليه آية سجدة وسجد وهو على غير وضوء فقد سبقه في ذلك من هو أفضل منه، ولا إثم عليه. فإذا ما مرت عليك آية فيها سجدة فالأفضل أن تكبر وتسجد. ولا تسليم في سجود التلاوة، ولا تشهد له، وإنما تكبر تكبيرة وتسجد، ثم تدعو الله عز وجل في سجودك. وقد ورد في فضل هذا السجود ما رواه مسلم وأحمد من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سجد ابن آدم -إذا مرت عليه آية السجدة فسجد- ولى الشيطان وهو يقول: يا ويلاه أمر ابن آدم بالسجود فأطاع فله الجنة، وأمرت بالسجود فعصيت فلي النار). وأما الدعاء في سجود التلاوة فأصح حديث فيه هو حديث عائشة الذي رواه الحاكم وصححه الترمذي وابن السني أنها رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في سجود التلاوة: (سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره بحوله وقوته)، زاد الحاكم: (فتبارك الله أحسن الخالقين)، هذا هو الدعاء الذي يقال في سجود التلاوة، فتسبح الله الأعلى كما تسبحه في صلاتك (سبحان ربي الأعلى) كما قال صحاب (المغني) وغيره، ثم تقول: سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره بحوله وقوته فتبارك الله أحسن الخالقين، وهذه الزيادة جاءت عند الحاكم فقط. وللترمذي وابن ماجة وغيرهما من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجوده -أي: في سجود التلاوة-: (اللهم حط بها عني وزراً، واكتب لي بها عندك أجراً، واجعلها لي عندك ذخراً، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود عليه السلام). هذا مجمل ما يقال في سجود التلاوة. يقول الحق تبارك وتعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم:58]. وورد في صحيح البخاري أن عمر رضي الله عنه قرأ يوماً في خطبة الجمعة على المنبر سورة النحل، فلما وصل إلى السجدة نزل من على المنبر فسجد وسجد الناس معه، وفي الجمعة الأخرى وقف على المنبر وقرأ نفس الآيات ولم ينزل ولم يسجد، ثم قال: (أيها الناس! إنا لم نؤمر بالسجود، فمن فعله فحسن، ومن لم يفعله فلا إثم عليه) في رواية أخرى قال: إلا من شاء. إذاً: هو سنة، ويستحب للمسلم أن يسجده، فإن كان متوضئاً فهو الأولى، وإن كان على غير وضوء وسجد سجود التلاوة فلا إثم عليه، والله تعالى أعلم. وأسأل الله جل وعلا أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال. اللهم يا معلم داود علمنا، اللهم يا معلم داود علمنا، ويا مفهم سليمان فهمنا. اللهم لا تدع لأحد منا ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا أديته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا يسرتها يا رب العالمين! والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

سوء الخاتمة

سوء الخاتمة الغاية من خلق العباد وإيجادهم في هذه الدنيا هي عبادة الله جل وعلا، ولا يستشعر ذلك إلا من عرف الحقيقة الحتمية التي لا مفر منها، ألا وهي: الموت والقدوم على الله سبحانه وتعالى، والسؤال عن الميثاق والعهد الذي أخذه الله على ابن آدم، وهو: ألا يشرك به شيئاً، كما أن من أكثر من ذكر الموت، واستحضر القدوم على الله كان هذا سبباً في حسن خاتمته.

الغاية من خلق العباد

الغاية من خلق العباد الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً، ولم يكن له شريك في الملك، وما كان معه من إله، الذي لا إله إلا هو؛ فلا خالق غيره، ولا رب سواه، المستحق لجميع أنواع العبادة؛ ولذا قضى ألا نعبد إلا إياه فقال: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62]، أحمدك -يا ربي- وأستعينك، وأستغفرك، وأستهديك؛ لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، جل ثناؤك، وعظم جاهك، ولا إله غيرك. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لك، هو الظاهر فلا شيء فوقه، وهو الباطن فلا شيء دونه، وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الرسالة، وبلغ الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته. اللهم كما آمنا به ولم نره فلا تفرق بيننا وبينه حتى تدخلنا مدخله. اللهم كما آمنا به ولم نره فلا تفرق بيننا وبينه حتى تدخلنا مدخله. اللهم كما آمنا به ولم نره فلا تفرق بيننا وبينه حتى تدخلنا مدخله. اللهم احشرنا تحت لوائه، اللهم احشرنا تحت لوائه، اللهم أحينا على سنته. اللهم أحينا على سنته، اللهم أحينا على سنته. اللهم توفنا على ملته، اللهم توفنا على ملته. اللهم اسقنا بيده الشريفة شربة هنيئة مريئة لا نظمأ بعدها أبداً. اللهم عافنا واعف عنا، واغفر لنا وارحمنا، اللهم عافنا واعف عنا، واغفر لنا وارحمنا. اللهم استرنا فوق الأرض، وتحت الأرض، ويوم العرض، اللهم استرنا فوق الأرض، وتحت الأرض، ويوم العرض. اللهم ارزقنا قبل الموت توبة، وعند الموت شهادة، وبعد الموت جنة ونعيماً ورضواناً، اللهم ارزقنا قبل الموت توبة، وعند الموت شهادة، وبعد الموت جنة ونعيماً ورضواناً؛ إنك ولي ذلك ومولاه، وأنت على كل شيء قدير. أما بعد: فيا أيها الأحبة في الله! مرحباً بكم في لقاء جديد من لقاءات الإيمان، في ضيافة الحق جل وعلا، وعلى مائدة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنضر الله هذه الوجوه، وزكى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور، وتقبل الله مني وإياكم صالح الأعمال، وغفر الله لي ولكم. ثم أما بعد: فإن لقاءنا هذا هو مع موضوع هام، إنه موضوع الخوف من سوء الخاتمة، أسأل الله أن يحسن ختامي وختامكم. اعلموا -أيها الإخوة في الله- أن الله جل وعلا خلق الإنسان ولم يتركه سدىً وهملاً، بل إن الله جل وعلا قد خلق هذا الإنسان، وحد له القوانين، وشرع له التشريعات، ووضع له الحدود التي تكفل سعادته في الدنيا والآخرة، فإن أطاع الإنسان أوامر مولاه؛ فأتمر بأوامره، وانتهى بنواهيه، ووقف عند حدوده جل وعلا؛ ضمن الله عز وجل له السعادة في دنياه، والنجاة والفوز في أخراه، وإن شذ هذا الإنسان عن أوامر الله جل وعلا، وعن نواهي الله عز وجل، ولم يقف عند حدوده؛ خاب -والله- وخسر في الدنيا والآخرة؛ فإن الله سبحانه وتعالى لم يخلق الخلق سدىً وهملاً، قال صاحب (معارج القبول) عليه رحمة الله: اعلم بأن الله جل وعلا لم يخلق الخلق سدىً وهملاً بل خلق الخلق ليعبدوه وبالإلهية يفردوه فالله جل وعلا خلقك، وأنزل إليك الكتب، وأرسل إليك الرسل، فأمرك ونهاك، وحد لك حدوداً لا ينبغي أن تتجاوزها أو تتعداها، ثم بين لك المصير، وحدد لك الجزاء؛ حتى لا تأتي يوم القيامة وتقول: يا رب! لم يبلغني رسولك، ولم أقرأ كتابك، بل أقام الله جل وعلا عليك الحجة في هذه الحياة، فأنزل عليك الكتب، وأرسل إليك الأنبياء والمرسلين، وأبقى لك بعد الأنبياء والمرسلين ورثة الأنبياء وورثة المرسلين، ألا وهم العلماء الذين -دوماً وأبداً- يذكرونك بأوامر الله، ويحذرونك من نواهي الله، ويذكرونك بأن تكون وقافاً عند حدود الله جل وعلا؛ ضماناً لسعادتك وفلاحك ونجاحك في الدنيا والآخرة. وحق على الله -أيها الأحبة في الله- لمن اتقاه أن يحسن بدايته، وأن يتولى رعايته، وأن يحسن نهايته، والتقوى كما عرفها علي رضوان الله عليه: هي العمل بالتنزيل، والخوف من الجليل، والرضا بالقليل والاستعداد ليوم الرحيل، وهذا وعد من الله جل وعلا للمتقين أن يحسن بدايتهم، وأن يتولى في الحياة رعايتهم، وأن يحسن نهايتهم بالفلاح والنجاح والتوحيد والإيمان. وقد بين الله جل وعلا لك أن المصير: إما جنة -نسأل الله أن يجعلنا من أهلها- وإما نار {عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]. إذاً: أنت أيها الإنسان مخلوق لله جل وعلا، ومؤتمر بأوامر الله، وملتزم بقوانين الله جل وعلا، فطالما أنك مخلوق لله فأنت عبد لمولاك، ولا ينبغي للعبد أن يتصرف في ملك سيده إلا بإذن وتصريح منه، فيقف عند أوامره، وينتهي بنواهيه، ويمتثل بحدوده جل وعلا، فإذا التزمت بالأوامر والنواهي والحدود حدد الله جل وعلا لك المصير، وإن كانت الأخرى فإن الأمر واضح، يقول الله جل وعلا: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:7 - 10]. وقال في سورة النازعات: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40 - 41]، وقبل ذلك يقول الله جل وعلا: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:37 - 39].

الحقيقة الحتمية التي لا مفر منها

الحقيقة الحتمية التي لا مفر منها الله سبحانه وتعالى حدد لنا الطريق، وأخبرنا بحقيقة يغفل عنها الناس في وسط طغيان الشهوات والماديات، وهذه الحقيقة حقيقة تسربل بها طوعاً وكرهاً البغاة، والمتألهون، والظالمون، والمتكبرون، والمتجبرون، بل والأنبياء والمرسلون، إنها الحقيقة الكبرى، إنها قضية كلية من قضايا الكون الكلية، ألا وهي حقيقة الموت. إن الموت -أيها الأحبة في الله- لا بد أن نذكره دوماً وألا ننساه؛ لأن من ذكر الموت عجل التوبة، والتزم بالقناعة والرضا، وعلم حقيقة هذه الحياة، فقد طغت الماديات والشهوات على قلوب كثير من الناس، لما ذكر الله جل وعلا الموت في القرآن ذكره بلفظة الحق؛ لأنه حق لا مراء فيه، وصدق لا كذب فيه، ولا باطل معه، يقول الله جل وعلا: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:19 - 22]، انتبهوا إلى دقة هذه الكلمات! (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ)، والحق أنك تموت، والله حي لا يموت. (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ)، والحق أن ترى عند موتك ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب. (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ)، والحق أن يكون قبرك روضةً من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران. (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ)، (تحيد) أي: تهرب وتفر وتجري! تحيد إلى الطعام إذا أحسست بالجوع، وتحيد إلى الشراب إذا أحسست بالظمأ، وتحيد إلى الطبيب إذا أحسست بالمرض، ثم ماذا بعد كل هذا؟ يا أيها القوي الفتي! يا أيها الذكي! يا أيها العبقري! يا أيها الأمير! يا أيها الحاكم والوزير! بل ويا أيها الوضيع! بل ويا أيها الحقير! استمعوا جميعاً (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) فوالله الذي لا إله غيره! إن كل باك سيبكى! أنت اليوم تبكي على إخوانك وخلانك وأحبابك الذين يموتون، وغداً سوف يُبكى عليك أيها المسكين! كل باك سيبكى، وكل موجود سيفنى، وكل مذكور سينسى، ليس غير الله يبقى، من علا فالله أعلى. إنها حقيقة مرة والله الذي لا إله غيره وكثير من المسلمين غفل عنها، ولا تظن أن ذكرى الموت هو أن نقول: إننا كنا الليلة أو اليوم نشيع جنازة فلان أو فلانة، كلا! بل إن ذكرى الموت -أيها الأحبة في الله- هو أن نستعد دوماً وأبداً لهذا اللقاء، في معجم الطبراني: (أن رجلاً من الأنصار قال: يا رسول الله! من أكيس الناس وأعزم الناس؟ -أي: من أرجح الناس عقلاً، وأكثر الناس فطنة وذكاءً؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أكثرهم ذكراً للموت) ولم يكتف الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه العبارة أيها الأحباب! بل قال: (أكثرهم ذكراً للموت، وأكثرهم استعداداً للموت). يا أيها الأخ الكريم! اعلم علم اليقين أنه لابد أن تلقى الله رب العالمين، قال عز وجل: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى * إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} [العلق:6 - 8]. وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6]. وقال عز وجل: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:26 - 30]. أي: إلى ربك يومئذ المرجع والمآل والعودة. فيا أيها الإنسان! لا تظن أنك قد خلقت سدىً، ولا تظن أنك قد خلقت لتدور في اليمين وفي الشمال برغباتك وشهواتك وأهوائك ونزواتك، فافعل ما شئت في هذه الحياة، وابعد عن أوامر ربك ما شئت؛ لأنه لابد أنك ستقف يوماً بين يدي الله جل وعلا، لتسأل عما قدمت، وعما أخرت، وعما أسررت، وعما أعلنت، قال عز وجل: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة:1 - 4]، قرأ الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم هذه الآية يوماً فقال لأصحابه: (أتدرون ما قوله: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة:4]؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: يوم تشهد الأرض على كل من كان على ظهرها)، فسوف تشهد عليك هذه الأرض، وتخبر بكل شيء؛ بكل ما كان، وبكل ما جرى، وبكل ما حدث. ويقول الله جل وعلا في سورة يس: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ * وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ * وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ} [يس:65 - 68]، فتشهد عليك جوارحك، وتشهد عليك هذه الأرض التي تعيش عليها، والتي عصيت الله جل وعلا على ظهرها، ولم تعجل بالتوبة إلى الله عز وجل بعد هذه المعصية. فيا أيها الأخ الكريم! اعلم أنك ما خلقت سدىً وهملاً، بل إنه لابد لك من لقاء بين يدي الله جل وعلا، ولكن هذه الحياة وهذه الفترة التي ستحياها بين وقت ميلادك ووقت مماتك هي فترة عصيبة ورهيبة. فلابد أن تسجد لله شكراً أنك من الموحدين لله جل وعلا، والله الذي لا إله غيره! ليس الأمر باختيارك ولا بإرادتك أنت، وإنما الأمر بتوفيق الله جل وعلا كما قال عز وجل: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21]، فلا تظن أنك مسلم لله جل وعلا بفضلك واختيارك ورغبتك، بل إنك بعثت في أسرة مسلمة، ونشأت على الإسلام، جاء في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) أي: من عاش في أسرة يهودية شب يهودياً والعياذ بالله! ومن عاش في أسرة نصرانية شب نصرانياً والعياذ بالله! ومن عاش في أسرة مجوسية شب مجوسياً والعياذ بالله! أما إن رأيت نفسك في أسرة تعلن التوحيد لله جل وعلا، وتنتسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوالله! يا إخواني! إنها نعمة لو شكرنا الله جل وعلا عليها الليل والنهار ما وفيناه حق هذه النعمة؛ لأنه فضل الله أولاً وآخراً، وابتداءً وانتهاءً، فهو الذي اختارنا موحدين، وهو اختارنا مسلمين، وهو الذي ثبتنا على سنة رب العالمين، فعليكم أن تسجدوا لله شكراً على هذه النعمة، وصدق من قال: ومما زادني فخراً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا فالحمد لله الذي جعلنا مسلمين.

الميثاق الذي أخذه الله على بني آدم

الميثاق الذي أخذه الله على بني آدم الله جل وعلا خلق الناس جميعاً وفطرتهم على توحيده وعبادته كما قال عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ} [الأعراف:172]، وانظروا إلى دقة الكلمات القرآنية! يقول صاحب (معارج القبول) في تعليقه على هذه الآية: لم يقل الله جل وعلا: وإذ أخذ ربك من آدم، وإنما قال: من بني ولم يقل ربنا: من ظهره، بل قال: (مِنْ ظُهُورِهِمْ)، ولم يقل: ذريته، بل قال: (ذُرِّيَّتَهُمْ) {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف:172]. جمع الله الأرواح في عالم يسمى بعالم الذر، وأشهد الله الأرواح على أن له الوحدانية والجلال والكمال، فشهدت كل نسمة وكل روح ستدب على ظهر الأرض إلى أن يرثها الله جل وعلا لله بالوحدانية والكمال، خلقها الله واستنطقها فنطقت، وقال لها: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) أي: ألست بربكم الذي خلقكم؟ ألست بربكم الذي يرزقكم؟ ألست بربكم الذي يرعاكم ويتولاكم؟ ألست بربكم الذي يوفقكم لما فيه الخير؟ ألست بربكم الذي خلق السماوات والأرض؟ ألست بربكم الذي رفع السماء بغير عمد وبسط الأرض؟ ألست بربكم الذي أنزل إليكم الكتب؟ ألست بربكم الذي بعث إليكم الرسل؟ فشهد الجميع لله بالكمال والجلال وقالوا: (بَلَى شَهِدْنَا) أي: شهدنا لله بالوحدانية، وشهدنا لله بالكمال والجلال، فذكرهم الله جل وعلا بهذا الميثاق الأول الذي نسيه كثير من المسلمين، ذكرهم الله وهو يعلم من خلق: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، فهو الذي يعلم ما كان، وما قد كان، وما هو كائن، وما سيكون، قال جل وعلا: {أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف:172]، فالحمد لله الذي جعلنا مسلمين، وأنطقنا بالتوحيد والكمال في عالم الذر، ثم خلقنا الله جل وعلا وأنشأنا في بيت مسلم يدعو الله ويوحده عز وجل، فهذا فضل الله أولاً وآخراً، وابتداءً وانتهاءً. ولكن لا تظن أن الأمر يقف عند هذا الحد، فكم من مسلم نشأ في بيت مسلم، وشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ولكن الله جل وعلا قد ختم له بالكفر، والعياذ بالله! فكم من كافر وكم من عاصٍ وكم من مذنب عاش طوال حياته على المعصية، وعاش طوال حياته على الفسق والفجور، ولكن الله جل وعلا بفضل منه ورحمة ختم له عند موته بـ (لا إله إلا الله) فكان من أهل الجنان! فيا أيها المغرور يا أيها المخدوع بعلمه! يا أيها المخدوع بطاعته! يا أيها المخدوع بصلاته! يا أيها المخدوع بعدد حججه! يا أيها المخدوع بالطاعات! انتبه واحذر! فوالله الذي لا إله غيره! إن الخوف من سوء الخاتمة مزق قلوب الأنبياء والمرسلين، ومزق قلوب الأتقياء والعارفين، فلا تظنوا أن الأمر يسير أو هين، فكم من مسلم شهد لله بالوحدانية ولكنه مات على غير الإسلام وخرج من الدنيا على غير الإيمان! وكم من مسلم عاش طوال حياته على فسق وضلال وختم الله جل وعلا له بالتوحيد والإيمان، فنطق عند موته بـ (لا إله إلا الله) فكان من أهل الجنان!

الأعمال بالخواتيم

الأعمال بالخواتيم فالتوفيق بيد الله ابتداءً وانتهاءً، وأولاً وآخراً، فنسأل الله جل وعلا أن يجعلنا ممن يتوفاهم على التوحيد والإيمان. استمع إلى كلام حبيبك ومصطفاك -والحديث في مسند الإمام أحمد - وانتبهوا يا إخواني! إلى دقة هذا الكلام، فوالله! إن هذا الموضوع في غاية الخطورة، واعلموا أن الذي يتكلم به هو المصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر في دعائه أن يقول: اللهم يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك، فقالت أم سلمة: يا رسول الله! أو إن القلوب لتتقلب؟! فقال لها: يا أم سلمة! والذي نفسي بيده! ما من مخلوق الله من بني آدم إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الرحمن، إن شاء الله أقامه، وإن شاء الله أزاغه)، وفي رواية أخرى: (إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء)، وهذا حديث في غاية الخطورة، ووالله! لو أننا نحمل بين طيات جوارحنا إيماناً يلاصق قلوبنا مباشرة وحقيقة، وقرأنا هذا الحديث أو استمعنا إليه؛ لتمزقت القلوب، وارتعدت الجوارح والأفئدة، فالذي يدعو بذلك هو رسول الله، فماذا أقول أنا؟! وماذا تقول أنت؟! الحبيب رسول الله يقول: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)، وهو المصطفى والمجتبى والمختار، وهو الذي كرمه الله جل وعلا على جميع المخلوقات، بل وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، وهو الذي رباه الله على عينه، وهو الذي قال له ربه: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:3]، وهو الذي قال له ربه: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:48]، وهو الذي قال له ربه: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67]، ومع هذا: (يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك)، فارتعدت أم سلمة فقالت: (يا رسول الله! أو إن القلوب لتتقلب؟! أي: أن قلبي على الإسلام، وعلى هذا الدين، وعلى هذا الإيمان، فهل من الممكن أن يتقلب عن هذا الإسلام؟! فقال لها: (يا أم سلمة! والذي نفسي بيده! ما من مخلوق من بني آدم إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الرحمن، إن شاء الله أقامه، وإن شاء الله أزاغه) أو (بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها الله جل وعلا كيف يشاء). أيها الأحبة في الله! إن القلوب بيد الله جل وعلا، وإن القلوب لتتقلب، وإن الأمر جد خطير، ويحتاج إلى عمل طويل، وإلى جهاد مرير، يقول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم -والحديث في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه-: (إن الرجل ليعمل الزمان الطويل بعمل أهل النار، ثم يختم الله جل وعلا له عمله، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة؛ وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة الزمان الطويل، ثم يختم الله جل وعلا له عمله، فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار)، وفي رواية أخرى: (فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة، فيدخل الجنة؛ ويسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار، فيدخل النار)، وروى الإمام البخاري عليه رحمة الله هذا الحديث وزاد في آخره: (إنما الأعمال بالخواتيم). جاء في سنن الإمام الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر أن الكفل كان من بني إسرائيل، وكان يسرف على نفسه بالمعاصي، وجاءته امرأة تطلب منه المال، فراودها عن نفسها فأبت، وذكرته بالله جل وعلا، فأصر، ولما جلس منها كما يجلس الرجل من زوجه ارتعدت، واصفرت، واضطربت جوارحها، فقال لها: ممن تخافين؟ قالت: أخاف الله رب العالمين، فأرخى عليها ثيابها، وعاهد الله من وقته ألا يعصي ربه طرفة عين، وقدر الله جل وعلا أن مات الكفل في تلك الليلة، ولا يعرف الناس عنه إلا الفسق والضلال، واستيقظ الناس، وذهبوا إلى دار الكفل فرأوا عجباً، رأوا كتابة على باب داره بخط عجيب غريب: لقد غفر الله للكفل جميع ذنوبه! لأنه أخلص التوبة لله جل وعلا. ويشهد لمعنى هذا الحديث البخاري ومسلم عن أبي هريرة في قصة الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً، وبعدما يأسه العابد من التوبة قتله وأتم به المائة، وبعد ذلك تاب إلى الله جل وعلا على يد عالم، وقبل الله منه التوبة، كما أخبر الحبيب صلى الله عليه وسلم، ويوم أن خرج من قريته مات، فاختلفت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأرسل الله إلى الملائكة ملكاً ليحكم بينهم، وقال لهم: (قيسوا المسافة، فإلى أيتهما هو أقرب فهو من أهلها، فقاسوا المسافة، فوجدوه قريباً بشبر من القرية التي كان يقصدها للعبادة فيها)، وفي بعض الروايات يقول الحبيب: (قال الله جل وعلا: يا رياح! احمليه، ويا أرض! قربيه)، وهو الذي عاش طيلة حياته على المعصية، بل على كبيرة من الكبائر وهي جريمة القتل، وهذا الكفل عاش على الفسق والمعاصي، وهكذا كم من الناس الذين لا يعلمهم إلا خالقهم جل وعلا عاشوا على مزاولة المعاصي، وقبل أن يلقى أحدهم الله بأيام أو بساعات تاب إلى رب الأرض والسماوات؛ فقبل الله منه التوبة، وغفر له الذنوب، وستر الله عليه العيوب، وختم له بالتوحيد فقال: لا إله إلا الله، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من كان آخر كلامه: لا إله إلا الله دخل الجنة)، واعلموا بأن الأمر ليس يسيراً، فلا تظنوا أن النطق بهذه الشهادة عند الاحتضار أمر هين، كلا! والله! فإن اللسان في هذا الوقت لا ينطق ولا يتكلم، بل الذي سيتكلم هو عملك، فكم من العلماء الذين ملئوا الدنيا بعلمهم، وارتفعوا على الناس بكراسيهم ومناصبهم، وكم من العلماء الذين ملئوا المساجد بالدروس والمحاضرات -أسال الله العفو والعافية- فإذا جاءته لحظة الموت، وجاء من حوله ليلقنوه الشهادة، ربما ما استطاع لسانه أن ينطق بـ (لا إله إلا الله)؛ لأنه لا ينطق في هذه اللحظات إلا الأعمال الصالحات، واقرأ قول الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30]، فلابد من الاستقامة على هذه الكلمة، لابد من الاستقامة على طريق الإيمان: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ} [فصلت:30]، فالإنسان حين ينام على فراش الموت تأتيه الشياطين من كل مكان تريد أن تضله، وتريد أن تخرجه على غير الإيمان، فشيطان على يمينه، وشيطان على شماله، وشيطان عند رأسه، وشيطان عند قدميه، وشيطان يقول له: مت يهودياً؛ فإنه خير الأديان، وشيطان يقول له: مت نصرانياً؛ فإنه خير الأديان، وهكذا فإن كان من المؤمنين الصادقين المخلصين فيقول الله جل وعلا في حقهم: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} [إبراهيم:27]، يتنزل عليه التثبيت والثبات {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} [إبراهيم:27]، وما هو القول الثابت؟ يقول ابن عباس: إن القول الثابت هو: لا إله إلا الله، فيتنزل عليه الثبات من رب الأرض والسماوات: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27]، وهكذا فإن المؤمنين الصادقين تتنزل عليهم ملائكة التثبيت والثبات، كما قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ} [فصلت:30]، فتبشرهم الملائكة وتقول لهم: {أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:30 - 32]. إمام أهل السنة والجماعة الإمام أحمد لما نام على فراش الموت أتاه ولده عبد الله ليلقنه الشهادة، ويذكره بـ (لا إله إلا الله)، ولكن الإمام كان لا يتكلم إلا بكلمة واحدة، ولا يصرخ إلا بها، ولا ينطق إلا بها، كان يقول: لا، لا، لا ولما أفاق الإمام من سكرات الموت وكرباته وهوله، سأله ولده وهو يبكي: يا أبت! أقول لك: قل: لا إله إلا الله وأنت تقول لي: لا، لا؟ فرد الإمام وقال: يا بني! أنا لا أتحدث معك، أتاني شيطانان، جلس أحدهما عن يميني، والآخر عن يساري يقول لي الأول: يا أحمد! لقد فتنا في دنياك ولو فتنا اليوم ما أدركناك بعد اليوم، يا أحمد! مت يهودياً؛ فإنه خير الأديان، والآخر يقول: يا أحمد! مت نصرانياً؛ فإنه خير الأديان، وأنا أقول: لا، لا، بل على دين محمد صلى الله عليه وسلم، على (لا إله إلا الله) على كلمة التوحيد والإخلاص، أتدرون من هذا الذي ذهبت إليه الشياطين لتضله؟ إنه إمام أهل السنة والجماعة، إنه الإمام أحمد! فماذا يكون ظني بك وظنك بي؟! وكيف حالك وحالي؟! نسأل الله العفو والعافية؛ فالشياطين لا تتركنا في الدنيا ولا عند الموت، بل تريد أن يختم لك بالسوء والعياذ بالله! فتقول لك: مت على دين اليهودية، مت على دين النصرانية، هذا وأنت في هذه السكرات والظلمات، فالموت في حد ذاته كربة، والموت في حد ذاته فتنة، بل إن الله سماه مصيبة كما في سورة المائدة.

مصيبة الموت وما اشتملت عليه من الدواهي

مصيبة الموت وما اشتملت عليه من الدواهي انتبه معي أيها الشاب! انتبهوا معي أيها المسلمون! ما ظنك وما حالك لو قطع عرق من عروقك؟ لا شك أنك تتألم ألماً شديداً، وتتألم ألماً فظيعاً، وإحساسك بألمه هو من خلال وجود الروح فيك؛ لأنك لا تتألم إذا خرجت الروح منك، سئل الشافعي عليه رحمة الله وقيل له: يا إمام! هل الروح هي التي تحمل الجسد أم أن الجسد هو الذي يحمل الروح؟ فقال: بل إن الروح هي التي تحمل الجسد، بدليل أن الروح إذا فارقت الجسد؛ وقع الجسد جثة هامدة لا قيمة له، فأنت لا تتألم إلا لوجود الروح فيك، فإذا قطع عرق منك تتألم لوجود الروح فيك، فما ظنك إذا كان الذي ينزع منك هو الروح كله؟! الذي تنزع الروح من جسده يحس بسكرة عجيبة، وكربة شديدة، إنها سكرات الموت، فإن لكل عضو من أعضائك ولكل جارحة من جوارحك سكرة بعد سكرة، وكرباً بعد كرب، وضيقاً بعد ضيق، وهولاً بعد هول، قال عز وجل: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا} [النازعات:1] وهم الملائكة {وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا} [النازعات:2]، إنها سكرات وكربات وأهوال! كرب بعد كرب لكل عضو ولكل جارحة، فينام الإنسان على فراش الموت وقد بردت أطرافه، وارتعدت فرائصه، واضطربت جوارحه، وتجعد وجهه، وبرد كل عضو منه بعد الآخر، أنفاسه في صدره تعلو وتهبط، اجتمع الناس من حوله، وأحضروا له الأطباء، وأحضروا له الخبراء، ووضعوا له التحاليل، ووضعوا له الأدوية، وجهزوا له كل شيء؛ لأنه صاحب المنصب، وصاحب الجاه، وصاحب السلطان، وصاحب الأموال، وصاحب القوة، وصاحب الوزارات، ولكن الله جل وعلا قدر عليه الموت، ولا راد لقدره ولا راد لمشيئته، قال عز وجل: {وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:78].

سكرات الموت

سكرات الموت مصيبة الموت في حد ذاتها تشتمل على ثلاث دواهي: الداهية الأولى: سكرات الموت، وسكرات الموت أمر شديد، وأمر فظيع؛ لأن لكل عضو سكرة، ولكل عضو ألم وتألم، فينام الإنسان على فراش الموت وقد اصفر وجهه، وارتعدت جوارحه، واصفر لونه، وبردت أعضاؤه، ينام على فراش الموت فيسلم كل عضو الروح إلى العضو الذي يليه، وتراه قد بردت منه الأطراف، وارتعدت الجوارح، واضطربت الفرائص، واصفر اللون، وتجعد الوجه، واجتمع الأطباء من حوله، وأحضروا له الخبراء والأطباء، وأحضروا له العلماء والأدوية؛ لأنه صاحب الوزارات، وصاحب الأموال والأرصدة، وصاحب العمارات والسيارات، وصاحب المنصب والكرسي، أحضروا له الأطباء من حوله، فهذا يصنع كذا وذاك يفعل كذا من أجل أن يطيلوا في حياته، وأن يطيلوا في عمره! فإذا أفاق من سكرات الموت نظر إلى من حوله، وهو في هذا الكرب والهول؛ نظر إلى زوجه إلى أولاده إلى أحفاده وقال لهم: يا أولادي! لا تتركوني وحدي! ولا تفردوني في لحدي! من منكم يزيد في عمري ساعة أو ساعتين؟! أنا أبوكم، وأنا أخوكم، وأنا حبيبكم! أنا الذي بنيت القصور، أنا الذي عمرت الدور، أنا الذي نميت التجارة، أنا الذي جمعت ومنعت، ولكن هيهات، قال عز وجل: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:99 - 100]، كلا! إنها كلمة لا يجيبها الله؛ لأنها كلمة حقيرة خرجت من حقير على الله، كان في دنياه يعاند شرع الله، ويحارب الدعاة، ويتحدى الله جل وعلا، وكانت زوجته تخرج سافرة عارية ولا يمنعها، ولم يصل لله صلاة، ولم يركع لله ركعة، ولم يسجد لله سجدة، ولم يتق الله جل وعلا، ولم يراقبه: (كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا)، كلمة حقيرة لا يسمعها الله، ولا جواب لها عند الله جل وعلا، (وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ). سكرات الموت شديدة، تألم منها رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، ففي صحيح البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (لما اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم النزع كان عنده ركوة فيها ماء، فكان كلما اشتد به النزع وضع يده في الإناء، ثم مسح بالماء على جبهته- أي: على الرشح الذي يخرج من جبينه- ثم يقول: إن للموت لسكرات! اللهم هون علي سكرات الموت)، فهذا رسولنا صلى الله عليه وسلم يقول: (إن للموت لسكرات! إن للموت لسكرات! اللهم هون عليَّ سكرات الموت)، وذكر الإمام المحاسبي عليه رحمة الله أن الله جل وعلا قال لإبراهيم الخليل: (يا إبراهيم! كيف وجدت الموت يا إبراهيم؟ فقال الخليل: وجدت الموت يا رب! كسفود -أي: كقطعة حديد صلبة- بين صوف مبلول، فنزعت فانتزع معها كل شيء، فقال الله: أما إنا قد هونا عليك، أما إنا قد هونا عليك). وذكر المحاسبي عليه رحمة الله أيضاً: (أن الله قال لموسى: يا موسى! كيف وجدت الموت؟ فقال موسى: يا رب! وجدت الموت كعصفور وضع على مقلاة، فلا هو يطير فينجو، ولا يموت فيستريح)، هذه هي سكرات الموت. يوم أن نزلت سكرات الموت بـ هارون الرشيد وأفاق من سكراته وكرباته، نادى على من حوله وقال لهم: أريد أن تحملوني لأرى قبري الذي سأدفن فيه بعيني، فحملوا هارون الذي أعطاه الله ملكاً عظيماً، كان يخرج فيرى السحابة في السماء فيقول لها: أيتها السحابة! في أي مكان شئت فأمطري، فوالله لسوف يأتيني خراجك إن شاء الله، أي: أن أي مكان أنزلت أمطارك ومياهك، سوف يخرج هذا الماء الزرع، ويأتيني خراج هذا الزرع من أي البقاع، انظروا إلى عظمة ملكه! فـ هارون لما احتضر قال: احملوني لأرى قبري بعيني، فحملوا هارون إلى قبره فنظر إلى حفرته وبكى، وظل يبكي حتى أبكى من حوله، ثم رفع رأسه إلى الله جل وعلا وقال: يا رب! يا من لا يزول ملكه! ارحم من قد زال ملكه، يا ألله! يا من لا يزول ملكه! ارحم من قد زال ملكه.

رؤية ملك الموت

رؤية ملك الموت الداهية الثانية من الدواهي الثلاث التي تتعلق بالموت، والتي تجعل الإنسان غير الصادق يختم له بسوء الخاتمة: رؤية ملك الموت، وهذا أمر مرعب وأمر عجيب! فلقد روى الإمام أبو نعيم في (حلية الأولياء) بسند ضعيف عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (رؤية ملك الموت أشد من ألف ضربة بسيف)، ترى شيئاً عجيباً لأول مرة؛ لأنك سترى ملك الموت رأي العين، وتعاين كل شيء، بل سترى مكانك في الجنة والنار، كما في حديث البراء بن عازب الطويل الذي خرجه الإمام النسائي والإمام أحمد والإمام الترمذي والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين.

الحذر من سوء الخاتمة

الحذر من سوء الخاتمة وبعد ذلك فإن أعظم هذه الدواهي الثلاث هي داهية سوء الخاتمة، والعياذ بالله! وأقول: إن الأمر بيد الله، ويحتاج إلى إيمان صادق، وعمل مخلص، وسوء الخاتمة أمر خطير يحتاج إلى أمور، ونسأل الله جل وعلا أن يختم لنا بحسن الخاتمة؛ فكم من مسلم ختم له بغير الإيمان، قرأت في كتاب (التذكرة) للإمام القرطبي: أن امرأة مرت على رجل وسألته قائلة: يا هذا! أين حمام منجاب؟ وحمام منجاب مكان يغتسل فيه النساء، فلما نظر إليها هذا الرجل وقعت في قلبه فافتتن بها؛ فأشار إلى باب داره وقال: هذا هو حمام منجاب، فدخلت المرأة إلى هذا البيت، ولما علمت أنها وقعت في الفخ أرادت أن تزينها له حتى تهرب، فقالت: هلا أحضرت كذا وكذا؟! فخرج هائماً على وجهه، فهربت، فعاد إلى بيته ليبحث عنها فلم يجدها، فخرج إلى الشوارع والطرقات هائماً يقول: يا ربُّ قائلة يوماً وقد تعبت أين الطريق إلى حمام منجاب وظل الرجل يهذي بهذا الكلام حتى عاش طيلة حياته يقول هذه، ولما حضرته الوفاة وذهبوا يلقنوه (لا إله إلا الله) وكلما قالوا له: قل لا إله إلا الله كان يرد على الحاضرين ويقول: يا ربُّ قائلة يوماً وقد تعبت أين الطريق إلى حمام منجاب وختم له بسوء الخاتمة، والعياذ بالله! وذكر القرطبي أيضاً أن مؤذناً كان يؤذن في مصر، وصعد ذات يوم على سطح المسجد ليرفع الأذان، فوقعت عينه على امرأة في بيت رجل نصراني، فوقعت في قلبه، وافتتن بها، فنزل إلى دارها وقال: أريدك لنفسي، فقالت: أنت مسلم وأنا نصرانية، فإن أردتني فلتخرج من دينك ولتتنصر. قال: لا مانع من أن أتنصر من أجلك، فخرج الرجل من الإسلام وتنصر، والعياذ بالله! ثم صعد على سطح هذه الدار لبعض شئونه فسقط ميتاً، فلم يفز بدنيا ولا بآخرة. وذكر أيضاً الإمام القرطبي في (التذكرة): أن أحد الناس كان يعمل تاجراً، ولما حضرته الوفاة جعلوا يلقنوه (لا إله إلا الله)، فكان يكرر الأرقام الحسابية فيقول: عشرة إحدى عشر اثنا عشر! يا عبد الله! قل: لا إله إلا الله، وهو يكرر الأرقام الحسابية والعياذ بالله! ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! وختم له بسوء الخاتمة، نسأل الله العفو والعافية. فما العمل إن كان الأمر والقلوب بيد الله؟! إن دواهي الموت الثلاث تجعل الثابت حيراناً، فما العمل لينجينا الله جل وعلا من الخاتمة السيئة والعياذ بالله؟! يقول الإمام ابن كثير عليه رحمة الله في تفسيره لقول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. (لقد أجرى الله الكريم عادته بكرمه أن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه). إنها قمة العدل وقمة الرحمة. ويقول الإمام ابن رجب الحنبلي عليه رحمة الله: (ما علم على الإطلاق أن رجلاً ختم له بسوء الخاتمة وقد استقام ظاهره مع باطنه، ولا يختم بسوء الخاتمة -والعياذ بالله! - إلا لمن اختلف باطنه مع ظاهره)، فمن اختلف باطنه مع ظاهره فهو الذي يختم له بسوء الخاتمة. فالأمر -أيها الإخوان- يحتاج إلى صدق في العمل، وإلى اجتهاد في الطاعة، وإلى متابعة للجماعة، وإلى التزام بسنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الإيمان قول وعمل، ليس الإيمان بالتمني، ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل، وإن قوماً ألهتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم، وقالوا: نحن نحسن الظن بالله، وكذبوا لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل. إذاً: الأمر يحتاج إلى استقامة في الظاهر، واستقامة في الباطن، فمن استقام ظاهره مع باطنه ختم له بخاتمة طيبة إن شاء الله جل وعلا، فلقد أجرى الله الكريم عادته بكرمه أن من عاش على شيء مات عليه، فإن عشت على الطاعة مت على الطاعة، وإن عشت على التوحيد طيلة حياتك واستقمت عليه توفاك الله عليه، وإن عشت للمباريات والمسلسلات والأفلام والمعاصي والشهوات مت على ذلك، وبعثت على ذلك، فالأمر جد خطير. فمن رحمة الله وعدله وكرمه أن من استقام على طريق الإيمان، واستقام على طريق الطاعة، واستقام على طريق التوحيد، واستقام على طريق السنة؛ ختم الله جل وعلا له بالإيمان، وختم الله جل وعلا له بالتوحيد، فثبته الله جل وعلا عند الموت. يقول ابن رجب الحنبلي: (يقال للملك إذا ما ذهب ليقبض روح العبد: شم رأسه، فيقول: أجد في رأسه القرآن، فيقال للملك: شم بطنه، فيقول: أجد في بطنه رائحة الصيام، فيقال: شم قدميه، فيقول: أشم في قدميه رائحة القيام، فيقال: عبد حفظ نفسه فحفظه مولاه). احفظ الله يحفظك؛ فحق على الله لمن اتقاه أن يحسن الله بدايته، وأن يتولى الله رعايته، وأن يحسن الله نهايته. إذاً: الأمر بيد الله جل وعلا، والأمر يحتاج إلى إيمان واستقامة، وإلى صدق ومجاهدة، وإلى إخلاص ويقين، وإلى عمل وجد، وإلى اجتهاد وطاعة، فإنك إذا أردت أن تحصل على درجة الماجستير أو على درجة الدكتوراة لا تنام كثيراً، بل تواصل الليل بالنهار من أجل الحصول على شهادة ربما حرص أحد على أن يأخذها وهي تبعده عن الله جل وعلا، وقد يكون فيها تجرؤ بعد ذلك على الله، وتحدٍ لشرع الله، فهذا دكتور عظيم يقول: لماذا لا نخطئ البخاري؟ إن البخاري رجل فلماذا لا نخطئ البخاري؟! وهو الذي ظل يجمع صحيحه، وقضى في حله وترحاله ستة عشر عاماً كاملة، ثم يقول هذا: لماذا لا نخطئ البخاري؟ وهو الذي أجمع جلة أهل العلم على صحة كتابه إلى الحد الذي قالوا فيه: إنه أصح الكتب بعد القرآن الكريم، ثم يأتي عالم في عرف العلماء يحمل الدكتوراة ليتحدى الله جل وعلا بعد ذلك، ويتجرأ على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فيا أيها الأحباب! إن الأمر جد خطير، ولكنني لا أقنط أحداً؛ فإن الأمر في غاية البساطة، قال ابن رجب: (من استقام ظاهره مع باطنه ختم له بالإيمان، ومن ناقض ظاهره باطنه ختم له بسوء الخاتمة). فهيا استقيموا على طريق التوحيد، وتتبعوا سنة محرر العبيد صلى الله عليه وسلم، واجتهدوا في الطاعة والعبادة، واعلموا أن الله جل وعلا يقبل التوبة عن عباده، ويغفر الذنوب، ويكفر السيئات، قال عز وجل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]. فلا تيئسوا ولا تقنطوا، وتوبوا إلى الله جميعاً -أيها المؤمنون- لعلكم تفلحون، واعلموا أن الله سبحانه غفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى لله جل وعلا. فهيا أيها الأحباب! بادروا بالتوبة ولا تسوفوا، فإن الموت يأتي بغتة. أسأل الله جل وعلا أن يختم لنا بحسن الخاتمة، وأن يختم لنا بالتوحيد والإيمان، وأن يخرجنا من هذه الدنيا على خير، وأن يحشرنا في زمرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأن يمتعنا بالنظر إلى وجهه يوم نلقاه. وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. والحمد لله رب العالمين.

عندما ترعى الذئاب الغنم

عندما ترعى الذئاب الغنم لله سبحانه وتعالى في هذا الكون سنن لا تتبدل ولا تتغير، ومن هذه السنن النصر المبين للمؤمنين، والناظر إلى حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يجد خير دليل وشاهد على ذلك. وينبغي أن نعلم أنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، ولن يتغير حال الأمة إلا إذا غير كل فرد مسلم ما في نفسه من حب الدنيا، والحياة الذليلة، وتاق إلى القتال في سبيل الله بعزة وإباء!

الغرب وحضارة الذئاب

الغرب وحضارة الذئاب بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء! وأيها الإخوة الأحباب الكرام الأعزاء! وطبتم جميعاً وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم الحليم الكريم جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار مقامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! (عندما ترعى الذئاب الغنم) هذا هو عنوان لقائنا مع حضراتكم في هذا اليوم الكريم المبارك، وكعادتنا حتى لا ينسحب بساط الوقت من بين أيدينا سريعاً، فسوف أركز الحديث مع حضراتكم تحت هذا العنوان في العناصر التالية: أولاً: الغرب وحضارة الذئاب. ثانياً: حتى تتبع ملتهم. ثالثاً: هذا هو طريق النجاة. وأخيراً: ولا تهنوا ولا تحزنوا. والله أسأل أن يقر أعيننا وإياكم بنصرة الإسلام وعز الموحدين، وأن يشفي صدور قوم مؤمنين، وأن يرفع الهم والغم والكرب عن أمة سيد النبيين، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أولاً: الغرب وحضارة الذئاب: أحبتي في الله! لقد ابتليت الأمة الإسلامية بنكبات وأزمات كثيرة على طول تاريخها، مروراً بأزمة الردة الحادة والهجمات التترية الغاشمة، والحروب الصليبية الطاحنة، وزوال ظل الخلافة الراشدة المسلمة، وضياع القدس الشريف وانتهاءً بأزمة العراق المخزية. كانت الأمة في الماضي مع كل هذه الأزمات تمتلك مقومات النصر، من إمام صالح، وثقة في الله، واعتزاز بهذا الإسلام العظيم، ولكن الأمة في واقعنا المعاصر مع هذه الأزمات فقدت جل مقومات النصر، إذ إن الأمة قد انحرفت انحرافاً مروعاً عن منهج رب العالمين، وعن طريق سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، انحرفت الأمة في الجانب العقدي والتعبدي والتشريعي والأخلاقي والفكري، بل وحتى في الجانب الروحي ولا حول ولا قوة إلا بالرب العلي! انحرفت انحرافاً مزرياً في جميع مجالات الحياة؛ فحق عليها قول الصادق الذي لا ينطق عن الهوى كما في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وأبو داود من حديث ثوبان (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أو من قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟! قال: كلا، وإنكم يومئذ كثير ولكن غثاء كغثاء السيل، وليوشكن الله أن ينزع المهابة من قلوب عدوكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قيل: وما الوهن يا رسول الله؟! قال: حب الدنيا، وكراهية الموت). لقد أصبحت الأمة الآن قصعة مستباحة لأرذل ولأذل وأحقر أمم الأرض؛ لأن الأمة قد تحولت إلى غثاء من النفايات البشرية تعيش على ضفاف مجرى الحياة الإنسانية كدويلات متناثرة، بل متصارعة، بل متحاربة، تفصل بين الأمة حدود جغرافية مصطنعة، ونعرات قومية جاهلية منتنة، وترفرف على سماء الأمة رايات القومية والوطنية، وتحكم الأمة قوانين الغرب العلمانية، وتدور بالأمة الدوامات السياسية، فلا تملك الأمة نفسها عن الدوران، بل ولا تختار لنفسها حتى المكان الذي تدور فيه. ذلت الأمة بعد عزة، وضعفت الأمة بعد قوة، وإن ما رأيناه في الأيام الماضية -ولم تنته فصول هذه المسرحية بعد- من تهديد أمريكي صارخ لا للعراق فحسب، بل للأمة كلها، وإن ما نراه من هذا الواقع المر الأليم ليؤكد حالة الذل والهوان التي تحياها أمتنا في هذه الأيام. أيها الأحبة! إن ما يجري لأمتنا يقع وفق سنن ربانية لا تتبدل ولا تتغير، ولا تحابي أحداً من الخلق بحال مهما ادعى لنفسه من مقومات المحاباة، ولن تعود الأمة إلى مكانتها الطبيعية إلا وفق هذه السنن التي لا يجزي معها تعجل الأذكياء، ولا وهم الأصفياء، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]، ما هذا الواقع وهذا التهديد، بل وهذه الجيوش الرابضة الآن في أرض الإسلام في أرض الخليج العربي المسلم من حاملات الطائرات، وما هذه الأعداد الهائلة من الأفراد إلا تأكيداً صريحاً على حضارة الغرب المادية الوحشية البربرية. إنها حضارة الذئاب رغم الدجل الإعلامي والعهر السياسي، ورغم أنف العجوز الشمطاء اليهودية مادلن أولبريت التي تصرخ هنا وهناك بما يسمونه احترام الشرعية الدولية، ولا تصدقوا من يقول: إنها سياسة الكيل بمكيالين، لا. إنه مكيال واحد، إنه مكيال العداء لمحمد بن عبد الله وللإسلام في كل زمان ومكان، إنه كلام ربنا وكلام الصادق نبينا الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم. أيها المسلمون! ينبغي أن نفيق من هذا النوم العميق، وأن نستيقظ من هذا السبات الذي طال، فإن حضارة الغرب هي حضارة الذئاب والأفاعي هي حضارة الثعالب هي الحضارة الوحشية البربرية الظالمة هي الحضارة السوداء، وإن شعار هذه الحضارة بلا نزاع: البقاء للأقوى، كما هو مشاهد في هذا العالم اليوم على الرغم من وجود مجلس الأمن، وهيئة الأمم، وعلى الرغم من وجود حلف الأطلسي إلى آخر هذه الأحلاف والهيئات، التي ما جعلت أصلاً إلا لتضمن البقاء للنظام العالمي الكبير الذي يتحكم في بنوده وأصوله وفروعه يهود الأمريكان. إنه عالم الغرب الذي يمتطي الآن جواد الحضارة ويسوم البشرية سوء العذاب، فلقد ذاقت البشرية في عهد الرجل الغربي ما تستحي الوحوش الضارية في عالم الغابات أن تفعله ببعضها البعض. ولم العجب؟ أليست الحضارة الأمريكية الظالمة هي الحضارة التي ألقت القنابل النووية المذيبة على هيروشيما ونجازاكي؟! أنسيتم أن الأمريكان هم الذين دمروا بالقنابل النووية هيروشيما ونجازاكي؟ أليست هي الحضارة الغاشمة التي أبادت شعب الهنود الحمر عن بكرة أبيه؟! إذاً: لا عجب إذا رأينا الحضارة الغربية المادية الآن تريد أن تمحو من على وجه الأرض شعب العراق، ولو استطاعت الحضارة الغربية المادية أن تمحو من على وجه الأرض الشعوب الإسلامية لفعلت ذلك من أجل سواد عيون اليهود، وصدق ربي إذ يقول: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]. قالوا لنا الغرب قلت صناعة وسياحة ومظاهر تغرينا لكنه خاو من الإيمان لا يرعى ضعيفاً أو يسر حزينا أين أطفال العراق الذين يموتون بعشرات الآلاف والإعلام الأمريكي بل والغربي يظهر الجنازات للأطفال بالعشرات بل بالمئات؟! أين من يرقصون على مسرح الحريات؟! أين من يتغنون بحقوق الإنسان؟! أين من يتغنون بحقوق الحيوان؟! أين هم من أطفال صغار لا يجدون طعاماً ولا شراباً ولا دواءً؟ ويزداد الهم حينما نرى بعض المسلمين لا يتعاطفون مع صدام المجرم إلا لأنه وقف ضد الأمريكان، وهذا فهم عقيم سقيم، فلم يعد ولاء هذه الأمة لله ولا لرسوله صلى الله عليه وسلم، فوالله لو وجدت أمريكا في عملائها أفضل من صدام ما أبقته على كرسي الحكم يوماً واحداً، إنه الدجاجة التي تبيض كل يوم لأمريكا بيضة من الذهب الخالص: قالوا لنا الغرب قلت صناعة وسياحة ومظاهر تغرينا لكنه خاو من الإيمان لا يرعى ضعيفاً أو يسر حزيناً الغرب مقبرة المبادئ لم يزل يرمي بسهم المغريات الدينا الغرب مقبرة العدالة كلما رفعت يد أبدى لها السكينا الغرب يحمل خنجراً ورصاصة فعلامَ يحمل قومنا الزيتونا كفر وإسلام فأنى يلتقي هذا بذلك أيها اللاهونا أنا لا ألوم الغرب في تخطيطه لكن ألوم المسلم المفتونا وألوم أمتنا التي رحلت على درب الخضوع ترافق التنينا وألوم فينا نخوة لم تنتفض إلا لتضربنا على أيدينا يا مجلس الأمن المخيف إلى متى تبقى لتجار الحروب رهينا إلى متى ترضى بسلب حقوقنا منا وتطلبنا ولا تعطينا لعبت بك الدول الكبار فصرت في ميدانهن اللاعب الميمونا يا مجلساً غدا في جسم عالمنا مرضاً خفياً يشبه الطاعونا شكراً لقد أبرزت وجه حضارة غربية لبس القناع سنينا شكراً لقد نبهت غافل قومنا وجعلت شك الواهمين يقينا يا مجلس الأمن انتظر إسلامنا سيريك ميزان الهدى ويرينا إن كنت في شك فسل فرعون عن غرق وسل عن خده قارونا {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:14]، إنها حضارة الذئاب! أما آن للعلمانيين أن يحترموا أنفسهم وعقولهم؟! أما آن للمسلمين أن يفيقوا وأن يستبينوا سبيل المؤمنين من سبيل المجرمين؟ أيها الأحبة: لابد أن يوحد الآن الصف المسلم، فنحن في أمس الحاجة إلى هذا التوحد؛ لينصر المسلمون دينهم بكل سبيل؛ وليقفوا على الصف الذي يستبين فيه الرجل العادي سبيل المؤمنين من سبيل المجرمين.

حتى تتبع ملتهم

حتى تتبع ملتهم العنصر الثاني من عناصر المحاضرة هو: حتى تتبع ملتهم. وبكل أسف القرآن يقرأ، ولكن القرآن في وادٍ وهي في واد آخر. ولم العجب وقد ضيعت الأمة القرآن، ونحته عن حياتها وهجرته وحكمت قوانين الغرب؟! وصدق على الأمة قول الصادق الذي لا ينطق عن الهوى كما في الصحيحين من حديث أبي سعيد (لتتبعن سنن من كان قبلكم، شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم، قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟! قال: فمن). هجرت الأمة القرآن، وحكمت في الأعراض والأموال والدماء قوانين الغرب {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30] ولا حول ولا قوة إلا بالله! القرآن يتلى وربنا جل وعلا يقول لحبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [البقرة:120]، و (لن) هنا هي لن المستقبلية أي: إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. فهل تصدقون الملك القدير؟! هل تصدق الأمة ربها الذي يقول لنبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]؟!

خطر موالاة اليهود والنصارى

خطر موالاة اليهود والنصارى من أجل سواد عيون (النتن ياهو) تفعل أمريكا الآن ما تفعل، فإن اللوبي الصهيوني في أمريكا يخنق أنفاسها -شرذمة من اليهود- لتتحكم في مصير العالم بأسره. لماذا؟ لا لقوة اليهود، لا والله؛ فإن الله يقول: {تحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر:14]، وإنما لهزيمة نفسية طحنت الأمة طحناً، فالأمة ليست ضعيفة ولا فقيرة وليست قليلة، بل الأمة غنية وأموال الأمة في بنوك الغرب تدير دفة السياسة العالمية بأسرها، فالأمة ليست فقيرة لا في الأموال ولا الأعداد الهائلة ولا في المناخ، فإن العالم كله يحسد الأمة الإسلامية على مناخها وعلى وسطيتها في المكان، وأنتم تعلمون أن الله قد حبا هذه الأمة مما يسمى بالبترول ما تستطيع الأمة أن تتحكم به في سياسة العالم بأسره، لو أنها عرفت ربها، واحترمت نفسها وأذعنت واستسلمت لنبيها صلى الله عليه وسلم، ولكن أبى الله إلا أن يذل من عصاه، وأبى الله إلا أن يعز من أطاعه واتقاه، والأمة قد عصت ربها، وانحرفت عن طريق نبيها صلى الله عليه وآله وسلم، فأذلها الله وأهانها. إن الله جل وعلا يخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم ويخاطب المؤمنين جميعاً من بعد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51]، قال حذيفة بن اليمان: (فليحذر أحدكم أن يكون يهودياً أو نصرانياً وهو لا يدري، لقول الله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51]). تدبر أخي الحبيب قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51]، العجوز الشمطاء أولبريت يهودية ووزير الدفاع يهودي واليهود بعضهم أولياء بعض للنصارى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51]، ليس هذا قولي حتى لا أتهم بالتطرف ولا بالإرهاب، إنما هو كلام ربنا جل وعلا: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51]، قال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ} [البقرة:109]. استمعوا وتدبروا كلام ربنا! {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:109]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران:118]. يا لها ورب الكعبة من آيات، لا أقول تجسد ظاهر القول، بل توضح باطن القول، يجليها لنا العليم الخبير بمن خلق! {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران:118]. أيها المسلم: أتحب أعداء الحبيب وتدعي حباً له ما ذاك في الإمكان وكذا تعادي جاهداً أحبابه أين المحبة يا أخا الشيطان إن المحبة أن توافق من تحب على محبته بلا نقصان فإن ادعيت له المحبة مع خلا فك ما يحب فأنت ذو بهتان عبد الله! لو صدقت الله فيما زعمته لعاديت من بالله ويحك يكفر وواليت أهل الحق سراً وجهرة ولما تعاديهم وللكفر تنصر فما كل من قد قال ما قلت مسلم ولكن بأشراط هنالك تذكر مباينة الكفار في كل موطن بذا جاءنا النص الصحيح المقرر وتصدع بالتوحيد بين ظهورهم وتدعوهم سراً لذاك وتجهر هذا هو الدين الحنيفي والهدى وملة إبراهيم لو كنت تشعر أخي المؤمن! إنأوثق عرى الإيمان الحب في الله، والبغض في الله، ومن أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان. من أحب لله لا من أجل وطنية، ولا من أجل قومية، فقد استكمل الإيمان. أسأل الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم من المؤمنين الصادقين الذين ينصرون دينه وسنة نبيه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

طريق النجاة

طريق النجاة أيها الأحبة الكرام! طريق النجاة من هنا فلا ينبغي أن نشخص الداء بحسرة ومرارة وألم دون أن نحدد الدواء، ودون أن نبين طريق النجاة. أيها المسلمون! إن طريق النجاة في كلمة واحدة، وليس معنى ذلك أن نرددها بالألسنة فحسب، وإنما لترددها الأمة باللسان، ولتصدقها بالجنان، ولتحولها إلى واقع عملي بالجوارح والأركان. إن هذه الكلمة هي الإسلام، فمستحيل أن ينصر الله أمة خذلت دينه وخذلت نبيه! إن الأمة الآن تتغنى في مولد النبي صلى الله عليه وسلم بأخلاق النبي وهي أمة لا تستحي إلا من رحم ربك العلي، فإنها في الوقت الذي تتغنى فيه بمولد النبي وأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم تراها قد نحت شريعة النبي، وحكّمت قانون الغرب العلماني، والله جل وعلا يقول: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} [النساء:65]، و (لا) هي لا النافية كما قال علماء اللغة {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]. أيها الأحباب! لقد كانت الأمة في أول الأمر -بالمقارنة إلى ما تحياه الأمة الآن- ضعيفة من الناحية المادية، قليلة من الناحية العددية، فقيرة من الناحية المالية، لكنها كانت غنية بالإيمان، قوية بالله فماذا كانت النتيجة؟ كلكم يعلم النتيجة. قلة في أرض الجزيرة وسط صحراء تموج بالكفر موجاً، وسط إمبراطورية الفرس وإمبراطورية الروم استطاعت هذه القلة المؤمنة بقيادة المصطفى صلى الله عليه وسلم أن تقيم للإسلام دولة من فتات متناثر، فإذا هي بناء شامخ لا يطاوله بناء، في فترة لا تساوي في حساب الزمن شيئاً على الإطلاق مع قلة العدد مع الفقر المادي المرهق مع الضعف الجسدي، ولكنهم كانوا أعزة بالرب العلي: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139]، قالوا كلمة وحولوها إلى واقع عملي وإلى منهج حياة، فأذلوا كسرى وأهانوا قيصر. ولله در ربعي بن عامر رضي الله عنه عندما وقف يوماً أمام رستم، فعلمه وعلمنا كيف تكون العزة بالإسلام! لقد دخل ربعي بن عامر في موقعة القادسية على قائد الجيوش الكسروية رستم الذي قال عنه كسرى: (لأرمين المسلمين بقائدي الذي ادخرته ليوم الكريهة)، وولى كسرى رستم قيادة الجيوش الكسروية، وكانت الكرة للمسلمين بأمر الله، وأراد رستم أن يفاوض سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، فأرسل إليه: أن أرسل إلينا رسولاً لنفاوضه، فأرسل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ربعي بن عامر رضي الله عنه، فانطلق ربعي على فرس قصيرة، يلبس ثياباً متواضعة ممزقة، وفي يده رمحه وعلى بدنه ترسه ودرعه، فأرادوا أن يمنعوه من الدخول وهو على ظهر فرسه على سيدهم رستم، فقال ربعي بلغة الواثق في الله المطمئن لدين الله العزيز بالإيمان: أنا لم آتاكم، وإنما جئتكم حين دعوتموني، فإن تركتموني هكذا وإلا عدت، فقال رستم: ائذنوا له، فدخل ربعي وهو يتكئ برمحه بعز واستعلاء بالإيمان، فصرخ في وجهه رستم، وقال: من أنتم؟ ولماذا جئتم؟ فقال ربعي ليعلم رستم ويعلمنا من بعده ما هي الغاية التي من أجلها ابتعثنا، ولأجلها وجدنا، قال ربعي: نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، فمن قبل منا قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن حال بيننا وبين دعوة الناس إلى دين الله قاتلناه حتى نفضي إلى موعود الله. قال رستم: وما موعود الله؟ قال ربعي: الجنة لمن مات في سبيل الله، والنصر لمن بقي منا على ذلك. فقال رستم: لقد سمعت مقالتك، فهل لكم أن تؤخرونا لننظر في أمرنا ولتنظروا في أمركم؟! فقال ربعي بعزة وإيمان عجيبين: لقد سن لنا رسولنا صلى الله عليه وسلم أن لا نؤخر الأعداء عند اللقاء أكثر من ثلاث ليال، فانظر في أمرك وأمرهم، واختر لنفسك واحدة من ثلاث. فقال رستم: وما هي؟ قال ربعي: أما الأولى فالإسلام، ونقبل ونرجع عنك. قال رستم: وما الثانية؟ قال ربعي: الجزية. الجزية التي تدفعها الأمة الآن رغم أنفها، فإن الفاتورة الأمريكية تسدد من دول الإسلام ولا حول ولا قوة إلا بالله. قال رستم: وما الثالثة؟ قال ربعي: القتال في اليوم الرابع! أي: بعد ثلاثة أيام، ثم قال ربعي: ولن نبدأك بقتال فيما دون الثلاثة إلا إن بدأتنا أنت بقتال، أنا كفيل بذلك عن أصحابي. فقال رستم: أقائدهم أنت؟ أي: هل أنت القائد؟ هل أنت سعد بن أبي وقاص؟ فقال ربعي: لا، ولكن المسلمين كالجسد الواحد، يجير أدناهم على أعلاهم. انظروا إلى عز الأسلاف انظروا إلى استعلاء الإيمان في قلوبهم انظروا إلى اعتزازهم بربهم ودينهم، ونصرتهم بكل ما يملكون لنبيهم صلى الله عليه وسلم. لقد وقف المغيرة بن شعبة يظلل على رأس النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية، فجاء عروة بن مسعود الثقفي ليفاوض النبي صلى الله عليه وسلم كرسول من قبل قريش، وامتدت يد عروة بن مسعود ليداعب شعرات كريمات طاهرات طيبات من لحية الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، فضرب المغيرة بن شعبة على ظهر يد عروة مع أنه ابن أخيه وصرخ في وجه عروة وقال له: أخر يدك عن لحية النبي قبل أن لا تصل إليك يدك. انظروا إلى نصرة هؤلاء لدين الله ولدين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم! أيها الأحباب! والله إن الإسلام لن ينصر بالخطب الرنانة، ووالله لو وقفنا على المنابر نخطب سنوات وسنوات فلن ينتصر الإسلام إلا إذا تحولت هذه الخطب في واقع الأمة إلى منهج حياة يتألق سمواً وعظمةً وجلالة. منذ متى والعلماء يخطبون ولكن الأمة لا تغير من واقعها المرير شيئاً؟ أيها الأحباب! إننا نرى انفصاماً واضحاً بين منهجنا وواقعنا، فالخطب الرنانة المؤثرة لن تغير من الواقع شيئاً إلا إذا غيرت الأمة الواقع بتحويلها لهذا الكلام الرباني والنبوي إلى منهج عملي في دنيا الناس: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ * إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:2 - 4]. إن طريق الإسلام هو طريق محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153]. إن طريق النجاة أن تمتثل الأمة أمر ربها وأمر نبيها، وأن تجتنب الأمة نهي ربها ونهي نبيها، وأن تقف الأمة عند حدود ربها وحدود نبيها، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:1 - 2]. قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36]. قال تعالى في وصف المؤمنين الصادقين: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور:51 - 52]. وقال تعالى في المنافقين المجرمين الذين يقولون بألسنتهم سمعنا وأطعنا ولكنهم في الواقع يقولون: وعصينا، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء:60 - 61]. طريق الفلاح بين واضح جلي لكل من كان في قلبه تقىً لله، وما علينا إلا أن نرجع إلى الله وإلى قرآنه وسنة نبيه، فالعودة إلى القرآن والسنة ليست نافلة ولا تطوعاً ولا اختياراً، بل إننا أمام شرط الإسلام وحد الإيمان: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، أسأل الله جل وعلا أن يرد الأمة إل

لا تهنوا ولا تحزنوا

لا تهنوا ولا تحزنوا الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام! لست أبداً ممن يدندنون على التيئيس والتقنيط، بل أنا ممن يدندن دوماً على تبشير الأمة بالقضاء على هذه الهزيمة النفسية التي تسيطر الآن على كثير من قلوب آبائنا وشبابنا وإخواننا، وهذا هو عنصرنا الأخير (ولا تهنوا ولا تحزنوا)، قال تعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139]. أيها الأحباب! نحن في حاجة إلى أن نحقق الإيمان فحسب، فلو حققنا الإيمان لنصرنا الله جل وعلا وإن كنا قلة، وإن كنا فقراء، وإن كنا ضعفاء، قال جل في علاه: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]، وقال جل وعلا: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ} [الحج:40]، وقال جل وعلا: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55]. إننا نحتاج إلى أن نحول الإيمان إلى واقع عملي، وإلى منهج حياة. فهيا أيها الأحبة! أبدأ بنفسي وتبدأ أنت أيها الوالد الفاضل بنفسك، وتبدأ أيها الأخ العزيز الحبيب بنفسك، وأنت أيتها الأخت الكريمة فلتبدئي بنفسك، ولا ينبغي أن نعلق أخطاءنا على غيرنا، قال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165]، فلتبدأ الأمة كلها بنفسها، وكما ذكرت: أنا لا أخاطب هذا الجمع الكريم بين يدي فحسب، وإنما أخاطب ملايين الأمة عبر شريط الكاست، فإن الشريط ولله الحمد يسري في أرجاء الأرض، وقد أخبرني أخ حبيب وأقسم لي بالله وقال: يا أخي! أنا أحبك في الله، قلت: أحبك الله الذي أحببتني فيه، قلت: من أين أنت يا أخي؟ قال: من فلسطين، قلت: وتعيش هنالك، قال: نعم، ثم قال: والله ما عرفناك إلا من شريط الكاست في تل أبيب؛ لذا فأنا أخاطب الأمة كلها عبر شريط الكاست، أن يبدأ كل مسلم بنفسه من الآن، ولا ينبغي أن نعلق الأخطاء على غيرنا، لا على الحكام، ولا على العلماء، ولا على إسرائيل، ولا على الأمريكان ولا على فلان، ولا علان، وإنما فليعلق كل إنسان منا الخطأ على نفسه وليبدأ بالتصحيح. (ابدأ بنفسك) هذا ما أملكه وما سأسأل عنه أنا بين يدي الله: ماذا قدمت؟ ماذا فعلت؟ ماذا بذلت؟ لن يسألني ربي سبحانه: ماذا قدم غيرك؟ ماذا فعل غيرك؟ وإنما سيسألني ماذا قدمت أنا، وماذا علمت أنا لدين الله: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105]. أيها الأحبة الكرام! فلنبدأ بأنفسنا وعلى كل مسلم أن يحقق الإيمان ويحوله في بيته وواقعه ووظيفته إلى منهج حياة، فالإيمان قول باللسان، وتصديق بالجنان -أي: بالقلب- وعمل بالجوارح والأركان. نريد لبيوتنا أن تستنير بنور الإيمان نريد لبيوتنا أن تتذوق حلاوة وطعم الإيمان نريد أن تتعرف كراسي الوظائف على المؤمنين الصادقين نريد لكل مواقع الإنتاج ومواطن العطاء، وأماكن المسئولية أن تتذوق حلاوة الإيمان على أيدي المؤمنين الصادقين. شتان بين مسئول مؤمن يراقب الله ولا يراقب رئيسه في العمل، وبين مسئول لا يعرف للإيمان حقيقة ولا طعماً، فالأول سيتقي الله في جماهير الأمة ممن يتعاملون معه، والآخر يعبد كرسيه الذي جلس عليه ولا شيء غيره. شتان بين موطن يشع بالإيمان وموطن خال من الإيمان، فنريد أن نحول الإسلام في واقعنا وحياتنا إلى منهج حياة، وأنا أكرر هذه الكلمات دوماً؛ لأن القول إن خالف العمل بذرت بذور النفاق في القلوب، كما قال علام الغيوب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2 - 3]، وقال سبحانه: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44]، أسأل الله أن يرزقنا العلم والعمل، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أيها الأحبة الكرام! نحتاج إيماناً لينصرنا الله، وأرجو أن يعلم شبابنا جيداً أن النصرة من الله ما تأخرت عن الأمة إلا لأنه لا توجد في الأرض الآن العصبة المؤمنة التي تستحق نصر الله، {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]، وهذه سنة ربانية؛ فإن العاقل يعلم يقيناً أن العصبة المؤمنة التي تستحق النصر ما وجدت إلى الآن، إنما هم أفراد قلائل جداً في هذه الأمة، فنحتاج من هؤلاء الأفراد أن ينتشروا ويمتدوا امتداداً وأفقياً بين أهل الإسلام، لتزداد القاعدة، ورأسياً في غير أهل الإسلام؛ لتزداد القاعدة المؤمنة التي تستحق نصر الله جل وعلا، ومع ذلك يا إخوة فأنا لا أخشى على الإسلام، وإنما كل كلامي على المسلمين، فإن الإسلام قد وعد الله بظهوره على الدين كله رغم أنف الأمريكان، ورغم أنف اليهود، ورغم أنف المشركين والمنافقين والمجرمين، فقد وعد بنصرة دين محمد على الدين كله، وهو الملك الذي يقول للشيء: (كن) فيكون. هل تصدقون الملك جل وعلا وهو يقول: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:32 - 33]؟! لقد قرأت حديثاً في صحيح مسلم من حديث ثوبان يملأ القلب أملاً، وهو من كلام الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها). هل تصدقون النبي صلى الله عليه وسلم؟ أيها الأحبة: الحديث في أعلى درجات الصحة، فقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم مشارق الأرض ومغاربها، ولم لا وهو الذي رأى في الدنيا الجنة والنار؟! إي والله، لقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي صلاة الاستسقاء الجنة ورأى النار. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها)، وفي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد والحاكم في المستدرك وصححه على شرط الشيخين، وأقره الذهبي، وتعقب الحاكم والذهبي والألباني فقال: بل هو صحيح على شرط مسلم من حديث تميم الداري، أن الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليبلغن هذا الأمر -أي: هذا الدين- ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام وذلاً يذل الله به الكفر)، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36] {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139]. اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز المؤمنين، اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز المؤمنين، اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز المؤمنين! اللهم اشف صدور قوم مؤمنين بنصرة الإسلام وعز الموحدين بقدرتك وعظمتك يا رب العالمين! اللهم انصر دينك وكتابك وعبادك المؤمنين، اللهم انصر دينك وكتابك وعبادك المؤمنين، اللهم انصر دينك وكتابك وعبادك المؤمنين، اللهم احفظ أهلنا في العراق، اللهم احفظ أولادنا في العراق، اللهم احفظ نساءنا في العراق، اللهم احفظ المسلمين في كل مكان من شر الأشرار، وكيد الفجار، برحمتك يا عزيز يا غفار! اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل الطاعة، ويذل فيه أهل المعصية، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، أنت ولي ذلك ومولاه! اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، وأعل بفضلك كلمة الحق والدين، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، وأعل بفضلك كلمة الحق والدين! اللهم ارفع علم الجهاد اللهم ارفع علم الجهاد اللهم ارفع علم الجهاد اللهم ارفع علم الجهاد اللهم ارفع علم الجهاد اللهم ارفع علم الجهاد اللهم اقمع أهل الزيغ والفساد! اللهم ارزقنا الشهادة في سبيلك، اللهم ارزقنا الشهادة في سبيلك، اللهم ارزقنا الشهادة في سبيلك، اللهم ارزقنا الشهادة في سبيلك برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم اشف صدور قوم موحدين، واشف صدور قوم مؤمنين برحمتك يا رب العالمين! اللهم اجعل بلدنا مصر واحة للأمن والأمان، وجميع بلاد المسلمين! اللهم اجعل مصر سخاءً رخاءًَ وجميع بلاد المسلمين! اللهم ارفع عن مصر الغلاء، اللهم ارفع عن مصر الغلاء، اللهم ارفع عن مصر البلاء، اللهم ارفع عن مصر الفتن ما ظهر منها وما بطن، وجميع بلاد المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين!

قدر النبي عند الله

قدر النبي عند الله كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم على خُلق عظيم، بتزكية الله تعالى له، وبالواقع الذي عاشه مع الناس كلهم، المسلمين منهم والكافرين، فالواجب هو الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في كل أخلاقه ومعاملته، والناظر إلى حال أبناء الإسلام في هذا الزمان يرى أنهم قد جهلوا قدر نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم، وتركوا شرعه وراءهم، وجعلوا سيرته قصة يتغنى بها في المحافل والذكريات، وجانبوا سنته بإقامة الموالد المشتملة على البدع والشهوات، وادعوا محبته في الوقت الذي يقصرون فيه في جانب دينهم، ولا يغارون على ما يجري للمسلمين والمسلمات في كثير من بقاع الدنيا.

خلق النبي صلى الله عليه وسلم

خلق النبي صلى الله عليه وسلم الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة، وزكى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور، وطبتم جميعاً أيها الآباء الفضلاء وأيها الإخوة الأعزاء، وطاب ممشاكم وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله جل وعلا الذي جمعنا وإياكم في هذا البيت المبارك على طاعته أن يجمعنا وإياكم في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله: "أمة لا تعرف قدر نبيها" هذا هو عنوان لقائنا مع حضراتكم في هذا اليوم الكريم المبارك، ونظراً لأن الحديث في هذا الموضوع ذو شجون، فسوف أُركِّز الحديث مع حضراتكم تحت هذا العنوان في العناصر التالية: أولاً: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]. ثانياً: القرآن يربي ويعلم. ثالثاً: الواقع خير شاهد. وأخيراً: هذا هو الحب أيها المحب. فأعرني قلبك وسمعك أيها الحبيب! سائلاً المولى جل وعلا أن يجعلني وإياكم جميعاً ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب.

كان خلقه القرآن

كان خلقه القرآن أيها الأحبة: والله الذي لا إله غيره، لو ظللت الدهر كله أتحدث عن أخلاق رسول الله ما استطعت، ولكن لخصت عائشة الصديقة الحصان الرزان هذا الخلق العظيم في كلمات محددة فقالت: (كان خلقه القرآن)، فقد كان رسول الله قرآناً متحركاً بين الناس. لقد جمع الله في شخص الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم أشخاصاً متعددين كثيرين في آن واحد، انتبه معي أيها الحبيب: فهو رسول من عند الله يتلقى الوحي من السماء ليربط السماء بالأرض بأعظم رباط وأشرف صلة، وهو رجل سياسة من طراز فريد، يقيم أمة ودولة من فتات متناثر، فإذا هي بناء شامخ لا يطاوله بناء، تذل الأكاسرة وتهين القياصرة وتغير مجرى التاريخ في فترة لا تساوي في حساب الزمن شيئاً، وهو رجل حرب من طراز أوحد، يقود الجيوش، ويخطط للمعارك، ويتخذ غرفة للعمليات عن بُعد من أرض المعركة. وهذا لم يعلمه التاريخ إلا في قرننا الحالي، وقد فعله رسول الله في غزوة بدر، اتخذ غرفة للعمليات ليخطط فيها للمعركة وللحرب، وقام ليختار القادة، وليختار قائد الميمنة وقائد الميسرة، بل ولما افتضت الجموع في حنين قام الحبيب المصطفى رافعاً سيفه في ساحة الوغى، وميدان البطولة والشرف، ذلكم الميدان الذي تصمت فيه الألسنة الطويلة، وتخطب فيه السيوف والرماح على منابر الرقاب، وقف الحبيب المصطفى ليعلن بأعلى صوته قائلاً: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب). وهو أب وزوج، ورب أسرة كبيرة تحتاج إلى كثير من نفقات الفكر، نفقات الشعور، نفقات التربية، نفقات النصح، فضلاً عن نفقات المال، فيقوم الحبيب المصطفى بهذا الدور على أعلى نسق شهدته الأرض وعرفه التاريخ. وهو إنساني من طراز فريد، كأنه ما خلق إلا ليزيل الدموع، كأنه ما خلق إلا ليمسح الآلام عن القلوب، يمنح الناس وقته وفكره وعقله وماله ونصحه وروحه وشعوره، كأنه ما خلق إلا ليسعد الناس في الدنيا قبل الآخرة، وهو قبل كل ذلك وبعد كل ذلك فهو قائم على أشرف وأعظم دعوة شهدتها الأرض، أخذت الدعوة عقله وفكره وروحه بل ودمه، فيقوم المصطفى بهذه الأدوار كلها كأنه ما خلق إلا لكل دور من هذه الأدوار ليقوم به على أعلى نسق وأكمل صورة. فمبلغ العلم فيه أنه بشر وأنه خير خلق الله كلهم

قصة الأنصار بعد قسمة غنائم حنين

قصة الأنصار بعد قسمة غنائم حنين روى الإمام أحمد وابن إسحاق بسند صحيح من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: (لما قسم النبي صلى الله عليه وسلم الغنائم يوم حنين: أعطى لقومه من قريش ولسائر العرب، ولم يعط الأنصار من الغنائم شيئاً، فغضب الأنصار من رسول الله، ووجد الأنصار في أنفسهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى قال قائلهم: والله لقد لقي رسول الله قومه -أي: لقي رسول الله قومه فأعطاهم ونسينا- فلما سمع سعد بن عبادة الأنصاري هذه العبارة انطلق إلى الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وقال: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي! لقد وجد الأنصار عليك في أنفسهم. فقال المصطفى: فيم يا سعد؟ فقال سعد: لأنك قسمت الغنائم وأعطيت قومك من قريش وأعطيت سائر العرب ولم تعط الأنصار من الغنائم شيئاً. فقال صاحب الخلق: اجمع لي الأنصار يا سعد. فجمع سعد بن عبادة الأنصار رضوان الله عليهم، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم على الأنصار، وقام المصطفى صلى الله عليه وسلم في الأنصار خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا معشر الأنصار! ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله، وعالة -أي: فقراء- فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟ فسكت الأنصار، فالتفت إليهم نبينا الحبيب المختار وقال: ألا تجيبون يا معشر الأنصار؟ فقالوا: وبماذا نجيب؟ المن لله ولرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال الحبيب المصطفى: والله لو شئتم لقلتم فصدقتم: جئتنا طريداً فآويناك، وعائلاً -أي: فقيراً- فواسيناك، ومخذولاً فنصرناك، وجئتنا خائفاً فأمناك، فقال الأنصار: المن لله ولرسوله، فقال المصطفى: يا معشر الأنصار! لقد وجدتم في أنفسكم عليّ في لعاعة -أي: في شيء تافه- من أمر الدنيا تألفت بها قلوباً دخلت الإسلام حديثاً، ووكلتكم أنتم إلى ما من الله عز وجل به عليكم من الإسلام، يا معشر الأنصار! أما ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون أنتم برسول الله إلى رحالكم؟! يا معشر الأنصار! والله لو سلك الناس شعباً وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار، والله لولا الهجرة لكنت رجلاً من الأنصار، فاللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار. فبكى الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم حتى اخضلت لحاهم، وقالوا على لسان رجل واحد لصاحب الأخلاق السامية: رضينا بالله رباً، وبرسول الله قسماً ومغنماً). هل نستطيع في لغة البشر أن نعبر عن هذه الأخلاق من رسول الله يوم أن قال لهم. (لولا الهجرة لكنت من الأنصار) ويوم أن كرمهم بهذا التكريم؟! لا ورب الكعبة، فلتردد معي -يا أيها المسلم- هذه الشهادة الزكية التي زكاه بها ربه وخالقه {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]. قال الشاعر: فمبلغ العلم فيه أنه بشر وأنه خير خلق الله كلهم وقال آخر: أغر عليه للنبوة خاتم من نور يلوح ويشهد وضم الإله اسم النبي إلى اسمه إذا قال في الخمس المؤذن أشهد وشق له من اسمه ليجله فذو العرش محمود وهذا محمد

قصة عمير بن وهب

قصة عمير بن وهب روى ابن إسحاق بسند صحيح أن عمير بن وهب أسر ولده وهب بن عمير في غزوة بدر، فجلس عمير بن وهب مع صفوان بن أمية إلى جوار الكعبة وهما على الكفر والشرك، فتذكرا يوم بدر، فقال عمير بن وهب لـ صفوان بن أمية: والله لولا دين علي وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي لركبت إلى محمد لأقتله. فقال صفوان بن أمية لـ عمير بن وهب: دينك علي، وعيالك عيالي أواسيهم بمالي، ولا أمنع شيئاً عنهم، واركب إلى محمد فاقتله. يقول عمير بن وهب: فقلت لـ صفوان: فاكتم خبري وخبرك ولا تخبر بذلك أحداً. فقال صفوان بن أمية: أفعل ذلك. وانطلق عمير بن وهب فشحذ سيفه، وأغرقه في السم، وركب إلى المدينة؛ ليقتل الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، ولما أناخ راحلته على باب المسجد النبوي نظر إليه الفاروق الملهم عمر، فقال عمر: هذا عدو الله عمير بن وهب، والله ما جاء إلا لشر وسوء، فانطلق عمر إلى عمير ولببه من ثيابه خنقه خنقاً شديداً وجره إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى أوقفه بين يدي رسول الله. فقال الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم صاحب الخلق: (ادن يا عمير! فاقترب عمير من رسول الله، فقال له الحبيب صلى الله عليه وسلم: ما الذي جاء بك؟ قال: ابني أسير عندكم، جئت لتحسنوا إلي في فدائي، فقال الحبيب: اصدقني يا عمير ما الذي جاء بك؟ قال: ما جئت إلا لهذا. فقال المصطفى: فما بال السيف في عنقك؟ فقال عمير بن وهب: قبحها الله من سيوف، وهل أغنت عنا شيئاً يوم بدر؟! فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: اصدقني يا عمير ما الذي جاء بك؟ قال: والله ما جئت إلا لهذا. فقال الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: بل جلست أنت وصفوان بن أمية في حجر الكعبة وقلت لـ صفوان: والله لولا دين عليّ وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي لركبت إلى محمد لأقتله، فقال لك صفوان: دينك عليّ، وعيالك عيالي، أواسيهم بمالي ولا أمنع شيئاً عنهم، واركب إلى محمد، فاقتله فقلت له: اكتم خبري وخبرك قال: أفعل، فشحذت سيفك وأغرقته في السم، وركبت إلى المدينة لتقتلني، والله حائل بينك وبين ذلك). فقال عمير بن وهب: أشهد أنك رسول الله، والله ما علم بهذا الخبر أحد غيري وغير صفوان، ولقد علمت الآن أن الذي أخبرك بهذا هو الله عز وجل، فأحمد الله الذي ساقني إلى هذا المساق، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله. فماذا قال صاحب الخلق الذي عرف منذ اللحظات الأولى أن عميراً ما جاء إلا ليقتله في عقر داره؟ قال صاحب الخلق لأصحابه: (فقهوا أخاكم في دينه، وأقرئوه القرآن، وأطلقوا له ولده) هل توجد لغة للبشر أستطيع بها أن أعبر عن هذه الأخلاق السامية؟ لا ورب الكعبة، فلندع المشهد يتألق سمواً وروعة وجلالاً، ولتردد معي أيها المحب هذه الشهادة العظيمة التي شهد بها ربه جل وعلا {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].

قصة زيد بن سعنة

قصة زيد بن سعنة أولاً: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]. روى الطبراني عن عبد الله بن سلام بسند رجاله ثقات أن زيد بن سعنة وهو الحبر الكبير من أحبار اليهود قال: (ما من شيء من علامات النبوة إلا وقد عرفته في وجه محمد حين نظرت إليه إلا اثنتين: الأولى: يسبق حلمه جهله، والثانية: لا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً. يقول زيد بن سعنة: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً من الحجرات مع علي بن أبي طالب، وإذ برجل من الأعراب يقبل على النبي ويقول: يا رسول الله! إن قومي في قرية بني فلان دخلوا في الإسلام، ولكنهم دخلوا في الإسلام طمعاً، فلقد أخبرتهم أنهم إن دخلوا في الإسلام أتاهم رزقهم رغداً، وقد نزلت بهم اليوم شدة وقحط؛ فأخشى أن يخرجوا من الإسلام طمعاً كما دخلوا في الإسلام طمعا، فإن رأيت أن ترسل إليهم بشيء تغيثهم به فعلت يا رسول الله! فالتفت الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم صاحب الخلق العظيم إلى علي بن أبي طالب وسأله: هل عندنا شيء من المال؟ فقال علي بن أبي طالب: لا والله يا رسول الله لقد نفد المال كله. يقول زيد بن سعنة: فدنوت من محمد صلى الله عليه وسلم وقلت له: يا محمد! هل تبيعني تمراً معلوماً في حائط بني فلان -أي: في بستان بني فلان- إلى أجل معلوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم، لكن لا تسم حائط بني فلان، أبيعك تمراً معلوماً إلى أجل معلوم، لكن لا تسم حائط بني فلان، يقول زيد بن سعنة: فوافقت النبي على ذلك، وأعطيت النبي ثمانين مثقالاً من الذهب، فأخذها النبي كلها وأعطاها لهذا الأعرابي وقال: اذهب إلى قومك فأغثهم بهذا المال، فانطلق الأعرابي بالمال كله. يقول زيد بن سعنة: ولم يمض غير قليل من الوقت، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر وعمر وعثمان ونفر من أصحابه صلوا على جنازة لصاحب لهم، وأتى النبي عليه الصلاة والسلام إلى جدار ليجلس في ظله. فاقترب منه زيد بن سعنة ونظر إليه بوجه غليظ، وأخذ بمجامع قميصه وردائه، وهز الحبر اليهودي رسول الله هزاً عنيفاً وهو يقول له: أد ما عليك من حق ومن دين يا محمد، فوالله ما علمتكم يا بني عبد المطلب إلا قوم مطلٌ في سداد الحقوق وأداء الديون، فالتفت إليه عمر وعينه تدور، وقال له: يا عدو الله! أتقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما أسمع، وتفعل برسول الله ما أرى؟! والذي نفسي بيده لولا أني أخشى فوته وغضبه لضربت رأسك بسيفي هذا، يقول زيد بن سعنة: وأنا أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإذ بالنبي ينظر إلي في سكون وهدوء، ثم التفت المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى عمر بن الخطاب وقال له: يا عمر، لقد كنت أنا وهو في حاجة إلى غير ذلك، يا عمر لقد كان من الواجب عليك أن تأمرني بحسن الأداء، وأن تأمره بحسن الطلب). فوقف زيد بن سعنة مبهوتاً مفزوعاً أمام هذه الأخلاق السامية، وأمام هذه الروح الوضيئة العالية من الحبيب المصطفى بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، أتدرون ماذا قال صاحب الأخلاق العظيمة؟ التفت الحبيب إلى عمر رضي الله عنه وقال: يا عمر! خذه وأعطه حقه، وزده عشرين صاعاً من تمر جزاء ما روعته، يقول زيد بن سعنة: فأخذني عمر بن الخطاب وأعطاني حقي وزادني عشرين صاعاً من تمر فقلت له: ما هذه الزيادة يا عمر؟ فقال له: أمرني رسول الله أن أزيدكها جزاء ما روعتك، فالتفت الحبر اليهودي إلى عمر وقال: يا عمر، ألا تعرفني؟ قال: لا. قال: أنا زيد بن سعنة. قال عمر: حبر اليهود؟ قال: نعم، فالتفت إليه عمر وقال: فما الذي حملك على أن تقول لرسول الله ما قلت، وعلى أن تفعل برسول الله ما فعلت؟! فقال زيد بن سعنة: والله يا ابن الخطاب ما من شيء من علامات النبوة إلا وقد عرفته في وجه رسول الله حين نظرت إليه، ولكنني لم أختبر فيه خصلتين من خصال هذه النبوة، فقال له عمر: وما هما؟ قال حبر اليهود: الأولى: يسبق حلمه غضبه، والثانية: لا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً، أما وقد عرفتهما اليوم في رسول الله فأشهدك يا عمر أني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم). أيها الأحبة: ماذا أقول أمام هذه الأخلاق؟ وبأي لغة أعلق؟! أنا أسأل الآن وأقول: هل توجد لغة أستطيع بها أن أعبر عن هذه الأخلاق السامية؟ لا ورب الكعبة! فلندع المشهد يتألق روعة وسمواً وجلالة، ولتردد معي أيها المحب للحبيب المصطفى هذه الشهادة العظيمة من خالقه جل وعلا: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].

حكم الاحتفال بمولد النبي عليه الصلاة والسلام

حكم الاحتفال بمولد النبي عليه الصلاة والسلام قال الله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21]، فأقول: هل بعث الله رسوله المصطفى لتكون سيرته قصة تتلى في يوم المولد من أيام شهر ربيع؟ ما أرخصه من حب! ما أرخصه من اتباع! ما أرخصه من تقدير! أمة والله لا تعرف قدر نبيها، هل بعث الله رسوله لتكون سيرته قصة تتلى بصوت رخيم جميل أنيق والناس من حول صاحب الصوت يصطرخون؟ ويخرج الناس بعد سماعهم لسيرة المصطفى وكأن لسان حالهم يقول: كان يا ما كان أيام زمان على عهد النبي عليه الصلاة والسلام، كأنها قصة أبي زيد الهلالي! وكأننا ما كلفنا أن نحول هذه السيرة في حياتنا إلى واقع عملي، وإلى منهج حياة! تحكى الآن سيرة النبي عليه الصلاة والسلام على أنها قصة، لم يعد الناس ينظرون إلى هذه السيرة ليحولوا معانيها في حياتهم إلى واقع عملي، إلى مشهد يتحرك ويرى ويسمع في عالم الدنيا وفي عالم الناس. والله ما أرسل الله نبيه لتكون سيرته ماضياً بل وحاول أعداء الأمة أن يحولوا بين الأمة وبين رسولها، حرصوا أن يحولوا بين الأمة وبين سيرة النبي العظيم الخاتم؛ لتظل سيرة النبي في حياة الأمة قصة تتلى، وحكاية جميلة ترددها الألسنة، وقصائد وكلمات منمقة، يحتفل بها علية القوم وسادة الناس، تحتفل الأمة برسول الله عبر قصيدة أو عبر أبيات شعرية، أو عبر خطبة رنانة، أو عبر ندوة رنانة، أو عبر ليلة ماجنة، ليلة يؤتى فيها براقص يسمونه مداحاً، يقف هذا الراقص بين جموع تصرخ، ويتحرك مجموعة من الناس لجمع التبرعات، لماذا تجمع التبرعات؟! يقولون: لمولد رسول الله، أي مولد هذا الذي تجمع له التبرعات؟ يجمع في هذه الليلة ألف، يجمع في هذه الليلة ألفان، يجمع في هذه الليلة ثلاثة آلاف، أليس في بلدنا فقراء هم في أمس الحاجة إلى هذا المال؟! اتقوا الله يا أيها الناس! اتقوا الله يا عباد الله! والله إنه الكذب، والله إنه الدجل، ينفق في ليلة من هذه الليالي -بحجة أننا نحتفل برسول الله- هذه الآلاف من الجنيهات، وينفقها أناس لا يصلون وأنتم تعلمون، رجل لا يصلي لله ويدعي أنه يحتفل برسول الله، ما هذا الكذب؟! ما هذا الهراء؟! أيها المسلمون اتقوا الله، وأذكركم بهذه النصيحة الخالصة لوجه الله، لا أسألكم عليها مالاً، ولا أسألكم عليها أجراً، وليقل الناس ما قالوا؛ فإني أبتغي رضا رب الناس جل وعلا، إن ما تفعلونه بدعة منكرة لا أصل لها ولا وجود لها. يا من تمسكون الطبل والمزمار؛ لتغنوا للنبي المختار، أنتم على بدعة، والله ما فعل ذلك أبو بكر، والله ما فعل ذلك عمر، والله ما فعل ذلك عثمان، والله ما فعل ذلك علي! إن الاحتفال برسول الله لا يتمثل في هذه الليالي الماجنة التي يختلط فيها الشباب بالفتيات، والرجال بالنساء، ويترك فيها الناس صلاة العصر، حيث يمرون على المسجد أثناء الزفة فلا يصلون لماذا؟ أرفعت عنهم التكاليف لأنهم يحتفون برسول الله؟ ما شاء الله! إنا لله وإنا إليه راجعون، قضوا هذه الليلة مع هذا الراقص، والله الذي لا إله غيره ربما ما صلى واحد منهم الفجر لله، هل هذا هو الحب؟! أيها المسلمون! سيسألني الآن أب طيب من آبائنا ويقول: لماذا لا تمنع الدولة هذه الموالد؟ و A إنها ثلة منتفعة، وأذكرك بتحقيق صحفي لا أقول: نشرته جريدة المعارضة، وإنما نشرته جريدة الجمهورية، وهذا التحقيق ينبئنا عن أموال صناديق النذور في قبور الأولياء، ففي مسجد السيد البدوي في كل ثلاثة أشهر يفتح صندوق النذور، ويكون نصيب خادم دورة المياه في كل ثلاثة أشهر أكثر من تسعة آلاف جنيه! فما ظنك بمن هو أعلى؟! وتأتي أنت يا صاحب اللحية لتقول: حرام تقطع رقبتي، تحرمني من هذه الآلاف، إنها ثلة منتفعة، والله لا أصل لها في قرآن ولا أصل لها في سنة، أما أن يأتي رجل لا يصلي ويدعي أنه يحتفل برسول الله، فهذا منكر عظيم. أيها المسلمون! من دفع جنيهاً واحداً لهذه الموالد فهو عاصٍ لله عز وجل، وقد وقع في البدعة، وقد ارتكب إثماً ومعصية، يقول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: (من نذر لغير الله فقد أشرك)، أنت مسئول عن مالك، كل جنيه تدفعه ورب الكعبة ستسأل عنه، الله عز وجل سيسألك عن هذه الأموال، يقول المصطفى: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: -وذكر النبي منها- ويسأل عن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه). ستقول: يا رب! أنفقته في المولد! أي مولد؟ رجال ونساء، تضييع للصلوات، فقراء في أمس الحاجة إلى هذه الأموال، الله الله عباد الله، اللهم إني قد بلغت، اللهم فاشهد. أيها الشباب! يا من تتحرك دماء الحماس في عروقكم، وظيفتنا البلاغ والبيان، ليست وظيفتنا أن نلزم الناس، وأن نجبر الناس، وأن نقهر الناس، وظيفتنا البلاغ، وظيفتنا البيان، ما علينا إلا أن نبلغ، ما علينا إلا أن نبين، ما علينا إلا أن نوضح الحق بالدليل من القرآن والسنة، قال الله لنبيه: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِر} [الرعد:7]، {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} [الشورى:48]، {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:272]، فوظيفتنا أن نبلغ، وأن نحذر، وأن ننذر، ولنترك النتائج بعد ذلك لمن بيده القلوب، أسأل الله أن يرد الأمة إليه رداً جميلاً، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

القرآن يربي ويعلم

القرآن يربي ويعلم أيها الأحبة: إذا كانت مكانة رسول الله في قلوبنا أن نحتفل له في ليلة بقصيدة أو بندوة أو بمحاضرة، فما أرخصها من مكانة وما أرخصه من حب؛ لذا لا يعلم قدر رسول الله إلا الله، أنزل الله عليه القرآن ليربي ويعلم أصحابه، وليعلم المسلمين من بعدهم كيف يعاملون رسول الله، وكيف يوقرون رسول الله، وهذا هو عنصرنا الثاني من عناصر اللقاء: "القرآن يعلم". قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [الحجرات:1 - 3]. هذا القرآن يؤدبنا ويعلمنا كيف نعامل النبي صلى الله عليه وسلم، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات:1] قال ابن عباس: أي: لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة. وقال مجاهد: أي: لا تفتاتوا على رسول الله حتى يقضي الله على لسان رسوله. وقال الضحاك: أي: لا تقضوا شيئاً من شرائع دينكم دون الله ورسوله. قال القرطبي: (لا تقدموا بين يدي الله ورسوله أي: لا تقدموا قولاً ولا فعلاً على قول الله وعلى قول وفعل رسول الله؛ فإن من قدم قوله وفعله على قول وفعل رسول الله فإنما قدمه على الله؛ لأن رسول الله إنما يأمر بما أمر به الله عز وجل). قال الإمام الشنقيطي: (لا تقدموا بين يدي الله ورسوله)، ويدخل في ذلك دخولاً أولياً تشريع ما لم يأذن به الله، وتحريم ما لم يحرمه، وتحليل ما لم يحلله؛ إذ لا حلال إلا ما أحله الله على لسان رسوله، ولا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله، ولا دين إلا ما شرعه الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، هذا هو الهدف الذي ينبغي أن تكون عليه الأمة مع رسول الله، أي: لا تقدم قولة ولا فعلة على قول وفعل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. والسؤال الآن يا إخوة: هل امتثلت الأمة أمر الله فتأدبت مع رسول الله؟ هل امتثلت الأمة أمر الله فلم تقدم قولها ولا حكمها ولا فعلها على قول وفعل وحكم رسول الله؟ والجواب بملء الفم: لا، والواقع خير شاهد، وهذا هو عنصرنا الثالث من عناصر اللقاء، أرجئ الحديث عنه إلى ما بعد جلسة الاستراحة، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

الواقع خير شاهد على خيانة الأمة ومجانبة السنة

الواقع خير شاهد على خيانة الأمة ومجانبة السنة الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام! هل امتثلت الأمة أمر الله فتأدبت مع رسول الله، فوقرت النبي، وأجلت النبي، وعظمت النبي، فامتثلت أمره، واجتنبت نهيه، ووقفت عند حدوده، واتبعت سيره وطريقه صلى الله عليه وسلم؟ والجواب بملء الفم: لا، والواقع خير شاهد على جوابي، وهذا هو العنصر الثالث من عناصر اللقاء. إن واقع الأمة خير شاهد على أن الأمة لم تمتثل أمر الله وأمر رسوله، أمة تدعي أنها تحتفل برسول الله في شهر ربيع في الوقت الذي نحت فيه شريعته، وسخرت فيه من سنته! هل هذا حب؟ هل هذا احتفال؟ أمة يتغنى أبناؤها ابتداءً من علية القوم وسادة الناس في شهر ربيع على شاشات التلفاز بالندوات والمحاضرات والموالد، وتدعي أنها تحب رسول الله، وتحتفل برسول الله، وتكرم رسول الله، في الوقت الذي نحت سنته، وعطلت شريعته، أين السنة؟ أين شريعة رسول الله؟ هل تعلمون أن الأمة الآن قد حكمت في الأموال والأعراض والدماء والفروج القوانين الوضعية الفاجرة الجائرة، وعطلت شريعة النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم؟ الله عز وجل يقول في قرآنه: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2]، فعرض قانون الله على مجلس الشعب، فماذا قال مجلس الشعب الموقر؟ قال مجلس الشعب الموقر: لا، هذا قانون لا نأخذ به ولن نعمل به، لماذا؟ قالوا: لأنه قانون وحشي، لأنه قانون فيه تعسف وظلم. فما قانونكم الذي تريدون أن تحكموه في الأعراض؟ قالوا: إن تم الزنا بين الرجل والمرأة بالتراضي خفف الحكم، وإن تدخل زوج الزانية وتنازل عن القضية فلا يجوز للقاضي أن يدخل في القضية حكماً، وتصبح المتهمة بريئة، ويصبح المتهم بريئاً من الفور وعلى الحال! هذا قانونهم؛ وذاك هو قرآننا وتشريعنا. هذا مثال واحد أضربه لحضراتكم؛ لنبين لكم أن الأمة قد نحت الشريعة قد عطلت كتاب الله قد عطلت سنة رسول الله وحكمت قانون نابليون وقانون البيت الأبيض، وقانون البيت الأحمر، وقانون البيت الأسود، واستبدلت بالعبير بعراً، وبالثريا ثرى، وبالرحيق المختوم حريقاً محرقاً مدمراً. أين الأمة من دماء تسفك، وأشلاء تمزق، وأعراض تنتهك، ومقدسات تدنس وهي تغني لرسول الله؟!!

غفلة الأمة عن جراحها ومصائبها

غفلة الأمة عن جراحها ومصائبها أمة لا تستحي حين يرقص القادة والعلماء والكبار بحب رسول الله في الوقت الذي تسفك فيه الدماء، وتمزق فيه الأشلاء، وتنتهك فيه الأعراض، وتدنس فيه المقدسات، والأمة لا زالت تغني، ومازالت ترقص بحبها للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهو الذي قال كما في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير: (مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى). المسلمة في البوسنة تصرخ والمسلمون في بلاد المسلمين يأكلون عروسة المولد! المسلمة في البوسنة ينتهك عرضها ولا زال الكبار يرقصون ويغنون بحب رسول الله، أين أنتم من رسول الله؟! أين أنتم من محبته صلى الله عليه وسلم؟! المسلمة منذ أربع سنوات تصرخ في البوسنة، وأخيراً قالت: أيها المسلمون! إن عجزتم عن مدنا بالسلاح فأمدونا بحبوب منع الحمل؛ حتى لا تعظم المصيبة، أين المسلمون الراقصون؟! أين المسلمون الذين يتغنون في الليل والنهار؟! يا مسلمون إن عجزتم عن مدنا بالسلاح لندافع عن شرفنا وعقيدتنا، فأمدونا بحبوب منع الحمل؛ حتى لا تعظم المصيبة. بل قهر الصرب قلب المسلمة، وحطموا فؤادها يوم أن أخذوا طفلها من صدرها، ووضعوا طفلها أمام عينيها على النار؛ ليشوى الطفل أمام أمه، ثم أكرهت الأم تحت تهديد الرصاص أن تأكل من لحم ولدها المشوي، وبعد ذلك ينتهك عرضها، ثم تضرب بالرصاص لتقتل!! أين المسلمون الذين يغنون ويرقصون بحب رسول الله؟!! المسلمة في البوسنة تصرخ وتقول: أنا لا أريد طعامكم وشرابكم فدمي هنا يا مسلمون يراق عرضي يدنس أين شيمتكم أما فيكم أبيٌ قلبه خفاق أختاه أمتنا التي تدعونها صارت على درب الخضوع تساق أودت بها قومية مشئومة وسرى بها نحو الضياع رفاق إن كنت تنتظرينها فسينتهي نفق ويأتي بعده أنفاق مدي إلى الرحمن كف تضرع فلسوف يرفع شأنك الخلاق لا تيأسي فأمام قدرة ربنا تتضاءل الأنساب والأعراق يا من احتضنت طفلك في صدرك، وضحكت ملء فمك، وأكلت ملء بطنك، وعشت للكراسي الزائلة وللمناصب الفانية، لقد أُخذ الطفل من أحضان أمه على أرض البوسنة. والله الذي لا إله غيره لقد رأيت بعيني على شاشات التلفاز في إحدى الزيارات لأمريكا منظراً يخلع القلب، رأيت امرأة صومالية خرجت في ظل هذه الحرب الطاحنة وخرج معها أبناؤها، وفي صحراء مقفرة نفد الطعام ونفد الشراب، فسقطت الأم من الإعياء وهي تحمل رضيعها، وتحمل طفلاً آخر على ظهرها، وأطفالها يجرون ثيابها من خلفها، كانت تمشي هذه الأم في الصحراء، ثم انتهى الطعام وانتهى الشراب وسقطت الأم تحت حرارة محرقة في صحراء مقفرة، ونامت وطال نومها، قبض الله روحها وماتت، وانطلق الأطفال يبحثون عن طعام يبحثون عن شراب، فلما لم يجد الأطفال طعاماً ولا شراباً انطلقوا يفتشون عن ثدي الأم، فالتقم الأطفال الثدي، فلما جف الثدي ولم يعد يعطي لبناً انطلق الأطفال يبحثون عن شيء آخر فلم يجدوا، فوالله لقد انقضوا على لحم أمهم ليأكلوه!! هذه صورة في الصومال على مرأى ومسمع المسلمين، وفي البوسنة أيضاً ينتزع الطفل من أمه ليباع أمام أمه، طفل يباع أمام أمه، أين المسلمون الذين يغنون ويرقصون لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟! أطفالنا ناموا على أحلامهم وعلى لهيب القاذفات أفاقوا أطفالنا بيعوا وأوروبا التي تشري ففيها راجت الأسواق أين النظام العالمي أما له أثر ألم تنعق به الأبواق أين السلام العالمي لقد بدا كذب السلام وزاغت الأحداق يا مجلس الخوف الذي في ظله كسر الأمان وضيع الميثاق أوما يحركك الذي يجري لنا أوما يثيرك جرحنا الدفاق يعفى عن الصرب الذين تجبروا وطغوا ويفرد بالعقاب عراق وحشية يقف الخيال أمامها متضائلاً وتمجها الأذواق أين الذين يرقصون ويغنون بحب رسول الله من هذه المآسي المروعة، في البوسنة، وفي الصومال، وفي الشيشان، وفي طاجكستان، وفي تركستان، وفي كشمير، وفي الفلبين، وفي كل مكان؟ ففي كل بلد على الإسلام جائرة ينهد من هولها رضوى وثهلان ذبح وصلب وتقتيل لإخوتنا كما أعدت لتشفى الحقد نيران يستصرخون ذوي الإيمان عاطفة فلم يغثهم ليوم الروع أعوان هل هذه غيرة أم هذه ضعةٌ للكفر ذكر وللإسلام نسيان الواقع خير شاهد على كذب الأمة، وعلى أن الأمة قد خانت الله والرسول، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27]، والواقع خير شاهد على أن الأمة قد خانت ربها، وخانت نبيها، يوم أن تخلت عن الأمانة وعن السيادة وعن القيادة بتركها لأصل عزها، ونبع شرفها، بتركها للكتاب والسنة، وصار المجتمع الغربي يقود البشرية كلها على حين غفلة من أمة القيادة. وأخيراً هذا هو الحب أيها المحب، وأكتفي الآن بهذا القدر، لأرجئ الحديث عن هذا العنصر بعد الصلاة إن شاء الله تعالى لمن أراد أن يسعدنا ويشرفنا بالجلوس نظراً لهذه الإطالة. أسأل الله عز وجل أن يرد الأمة إليه رداً جميلاً، اللهم رد الأمة إليك رداً جميلاً، اللهم رد الأمة إليك رداً جميلاً! اللهم أنت غياثنا فبك نستغيث، وأنت عياذنا فبك نعوذ، وأنت ملاذنا فبك نلوذ، لا إله لنا سواك فندعوه، ولا رب لنا غيرك فنرجوه، يا منقذ الغرقى، ويا منجي الهلكى، ويا سامع كل نجوى، يا عظيم الإحسان، ويادائم المعروف، اللهم ارفع مقتك وغضبك عن أمة حبيبك محمد، اللهم ارفع مقتك وغضبك عن أمة حبيبك محمد، اللهم ارفع مقتك وغضبك عن أمة حبيبك محمد، اللهم انصر المجاهدين في كل مكان، اللهم احمل المسلمين الحفاة، واكس المسلمين العراة، وأطعم المسلمين الجياع، اللهم احمل المسلمين الحفاة، واكس المسلمين العراة، وأطعم المسلمين الجياع برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم شتت شمل الصرب، اللهم سلط الصرب على الكروات، وسلط الكروات على الصرب، وأخرج المسلمين البوسنيين من بينهم سالمين غانمين برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم إن الكل قد تخلوا عنهم فلا تتخل عنهم بذنوبهم، اللهم كن لهم ناصراً يوم قل الناصر، وكن لهم معيناً يوم انعدم المعين برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم لا تدع لأحد منا ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا أديته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا طائعاً إلا ثبته، ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ويسرتها يا أرحم الراحمين! اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروما، اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى، اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا سبباً لمن اهتدى، اللهم ارزقنا الصدق في أقوالنا والإخلاص في أعمالنا، واليقين في عقيدتنا، اللهم لا تدع للشيطان حظاً ولا نصيباً في أفعالنا برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم إنا نسألك أن تجعل مصر واحة للأمن والأمان، اللهم اجعل مصر واحة للأمن والأمان، وسائر بلاد الإسلام، اللهم ارفع عن مصر الغلاء والوباء والبلاء برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم لا تحرم مصر من التوحيد والموحدين، اللهم لا تحرم مصر من التوحيد والموحدين، اللهم ارفع غضبك ومقتك عنا يا أرحم الراحمين. هذا، وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه، وأقم الصلاة.

الحب الصادق للنبي صلى الله عليه وسلم

الحب الصادق للنبي صلى الله عليه وسلم العنصر الأخير من عناصر هذا اللقاء هذا هو الحب أيها المحب، وأسأل الله أن يرزقنا وإياكم الحب الصادق لرسول الله صلى الله عليه وسلم. قد لا أكون مبالغاً إن قلت: إنني لا أعلم شعباً -والله تعالى أعلم- يحب رسول الله كشعب مصر، لكنني أقول: ينبغي أن يضبط هذا الحب، ففرق كبير بين حب مبني على الابتداع، وحب مبني على الاتباع. فالحب الصادق هو الحب الذي يبنى على اتباع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، المحب للنبي عليه الصلاة والسلام لا يتكلم إلا بمثل كلام النبي، بمعنى: لا تتكلم ولا تفعل إلا إذا علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمرك أن تقول هذا أو أن تفعل هذا، يعني: يرفع النبي رجله اليمين فتحط رجلك اليمين على أثر رجله، يرفع النبي رجله الشمال فتضع رجلك الشمال مكانها، تمشي وراء خطاه، وإن شاء الله في نهاية الطريق ستجد الحبيب المصطفى ينتظرك على الحوض؛ لتسقى بيده الشريفة شربة هنيئة مريئة لن تظمأ بعدها أبداً؛ حتى تستمتع بالنظر إلى وجه الله في جنة الله مع رسول الله.

المحب الصادق يحافظ على الصلاة

المحب الصادق يحافظ على الصلاة هل المحب الصادق يضيع الصلاة؟ أين هو من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر) وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة). سبحان الله! أين من يدعون الحب والمؤذن يقول: حي على الصلاة، والناس قاعدون على (المصاطب) أو على (القهاوي) والمحلات والبقالات فاتحة، ألست أنت تحب النبي؟ نعم أنا قلبي ملآن بحب النبي. إذاً: لماذا لم تقم لتصلي؟ هذا النبي يقول لك: إذا سمعت المؤذن يؤذن فأجب. كان هناك رجل أعمى اسمه عبد الله ابن أم مكتوم، لكنه يستأذن النبي في صلاة واحدة، وهي صلاة الفجر التي ضيعها المسلمون في هذا الزمان حتى سقطت من الحسابات، ففي هذا الزمن لو سألت مسلماً: كم صلاة عليك؟ لقال أربع!! صلاة الفجر سقطت من زمان، فتش عن المساجد في صلاة الفجر، ابحث عن أي مسجد في صلاة الفجر، أين المسلمون المحبون؟ نائمون، قضى أول الليل مع المسلسل، وثنى بالفلم، كيف سيقوم لصلاة الفجر؟ ألست تحب النبي؟ نعم يا أخي، أحب النبي صلى الله عليه وسلم، لكن ربك رب قلوب، صل على الحبيب المحبوب. يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)، ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل. وبالمناسبة: هذا ليس حديثاً؛ لأن كثيراً من الخطباء والوعاظ يقولون هذا على أنه حديث للنبي صلى الله عليه وسلم، لا، هذا من قول الحسن البصري رحمه الله تعالى: (ليس الإيمان بالتمني، ولا بالتحلي، ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل، فمن قال خيراً وعمل خيراً قبل منه، ومن قال خيراً وعمل شراً لم يقبل منه). أين المحب من الصلاة؟ لا يصلي، لا يزكي إلا ما رحم ربك، لا يحفظ لسانه، تجد الواحد من هؤلاء حريصاً على حل الأكل، يقول لك: هذا لحم مستورد، هذا البسكوت فيه شحم خنزير، وهذا جميل جداً، وما أحسنه من عمل إن كان لله لكنه في الوقت ذاته لا يتورع عن أكل لحوم الناس في الليل والنهار! يا أخي! أنت لا تأكل اللحوم التي أحلها لك ربنا؛ لأنك تشك في كونها ذبحت على غير طريقة الإسلام، وتحل لنفسك أن تأكل لحوم إخوانك في الليل والنهار! الحب الصادق لرسول الله يتمثل في كلمة واحدة هي: الاتباع، أي: أن تتبع النبي صلى الله عليه وسلم، فتمشي على طريق النبي، وتمتثل أمر النبي، وتجتنب نهي النبي، وتقف عند حدود النبي، صلوا على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

المحب الصادق يقدم حب النبي على نفسه

المحب الصادق يقدم حب النبي على نفسه يقول الحبيب: (والذي نفسي بيده! لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه ووالده وولده والناس أجمعين)، أي: لا يكتمل الإيمان في قلبك إلا إذا كان حبك للنبي يفوق حبك لولدك، ولوالدك، وللناس أجمعين، بل ولنفسك التي بين جنبيك، فسل نفسك الآن، وكل يجيب عن نفسه: هل أنا أحب رسول الله أكثر من حبي لولدي؟ وهل ألبي أمر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟ أنت الذي تجيب. هل حب رسول الله في قلبك يفوق حبك لوالدك؟ هل حب رسول الله في قلبك يفوق حبك لنفسك التي بين جنبيك؟ عمر بن الخطاب يقول للنبي: أنا أحبك يا رسول الله، لكن ليس أكثر من نفسي. فقد كانوا لا يعرفون المنافقة والمداهنة والتملق، فقال: أنا أحبك لكن ليس أكثر من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يا عمر، حتى أكون أحب إليك من نفسك. فقال عمر: والذي نفسي بيده لأنت أحب إلي من نفسي يا رسول الله). انظروا الحب يا إخوة، انظروا عمر يقول: والله أنا أحبك الآن أكثر من نفسي، ويشكل هذا الحديث على بعض الإخوة، ويقولون: عمر قال في الأول أنا أحبك لكن ليس أكثر من نفسي، وبعد ذلك فوراً قال: أنا أحبك أكثر من نفسي، لماذا؟ يقول الإمام الخطابي: حب الإنسان لنفسه طبع، وحب الإنسان لغيره اختيار بتوسط الأسباب -يعني: أنا أحبك وأنت تحبني لأسباب-. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

ما للنساء في الجنة

ما للنساء في الجنة النعيم الذي أعده الله تعالى في الجنة لعباده المؤمنين هو للرجال منهم والنساء على حد سواء، ونساء الدنيا إذا دخلن الجنة فحالهن ومنزلتهن أرفع من الحور العين، وهذا من فضل الله تعالى على النساء الصالحات، ومن كمال عدله سبحانه.

المساواة بين الرجل والنساء

المساواة بين الرجل والنساء بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فمع سؤال خطير هام حساس، هذا السؤال تغزى به بيوت المسلمين، وورد لنا السؤال في الجمعة الماضية أمام الإخوة الجالسين بعد الصلاة، وورد أيضاً من جهات أخرى، ومن بيوت على مستوى رفيع، وهم أصحاب حق في السؤال، وصيغة السؤال التي تغزى به البيوت: الرجل له زوجات في الجنة، وأنت أيتها المرأة المسلمة! ما لك في الجنة؟ وأنا أستأذنكم أن أنزل قليلاً إلى اللغة العامية؛ لأن الدرس خاص بأخواتنا المؤمنات. أولاً: الإسلام -يا أخت الإسلام- لم يفرق بين المرأة والرجل في التمتع بالنعيم إطلاقاً، فنعيم الجنة للرجال والنساء على حد سواء، ولنأخذ ماذا قدم الإسلام للمرأة، في الدنيا أولاً، وباختصار.

التكريم في العمل

التكريم في العمل الثالث: التكريم في العمل. لا فرق بين رجل وامرأة في ثواب الأعمال، بل ربما امرأة مستقيمة طائعة لله تعدل عند الله ملايين الرجال الذين لا يعرفون للدين حرمة، ولا للطاعة صداقة، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97].

المساواة والتكريم في استجابة الدعوة

المساواة والتكريم في استجابة الدعوة الرابع: المساواة والتكريم في استجابة الدعوة الصالحة من الرجل والمرأة على حد سواء؛ بل إذا دعت المرأة ربها بقلب حاضر -مثلاً- ودعا رجل ربه بقلب لاه، فإن الله يستجيب لها ولا يستجيب له، لقوله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:195]، هذا على مستوى الدنيا، فهذه تسوية كاملة.

التسوية في أصل الخلق

التسوية في أصل الخلق التسوية بين الرجل والمرأة في أصل الخلق، لا فرق إطلاقاً، الإسلام دين عدل، والخالق لهذا الكون واحد، وهو العادل سبحانه وتعالى الرحيم، فلا فرق بين الرجل والمرأة في الدنيا في أصل الخلق. وهذه التسوية في أصل الخلق، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].

التسوية والتكريم في العقل والعقيدة

التسوية والتكريم في العقل والعقيدة التسوية والتكريم في العقل والعقيدة، تكريم في العقيدة للمرأة في منتهى الحرية والإطلاق، لقوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنَ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11]، كأنها تريد أن تقول لفرعون: إذا كنت أنت ملكت الدنيا، فإنك لم تملك قلبي، ولم تملك عقلي، ولم تملك عقيدتي، فإن قلبي وعقلي وعقيدتي ملك لله رب العالمين.

ما أعد الله في الجنة من النعيم للنساء

ما أعد الله في الجنة من النعيم للنساء يبقى السؤال الذي طرحنه النساء، فإنهن يقلن: نحن عرفنا المساواة في الدين والعقل، والعمل والدعاء، والنفس الواحدة، والأصل والخلق، هذا كله ذكره ربنا في القرآن، لكن ماذا لنا في الجنة؟ فنقول: النعيم في الجنة للرجال والنساء على حد سواء، ولا يوجد أحد يقول: النعيم في الجنة للرجل فقط، ومن قال هذا سنقول له: هات ما عندك من دليل، إن كنت صادقاً؟

هل لنساء الدنيا أزواج في الجنة

هل لنساء الدنيا أزواج في الجنة سيبقى السؤال الحساس الذي هو ختام اللقاء، إذا كان للزوج في الجنة زوجات، فما للنساء؟ وفي ظاهر هذا السؤال أن الزوجة تتمتع بأقل ما يتمتع به الرجل، لكن إذا أحللناه ونظرنا في المسألة بعمق، نجد أن المرأة أوفر حظاً من الرجل في هذا الجانب. ونبدأ في الجواب فنقول: أولاً: التعدد للرجل في الدنيا وفي الجنة مباح، لكن أقول لكل امرأة حرة عفيفة: أتقبلين تعدد الأزواج في الدنيا؟ وأن يكون لك زوجان أو ثلاثة؟ فستقول: لا؛ لأني حرة عفيفة، ولا أقبل ذلك أبداً، فأقول لها: إذا كنت لا تقبلين ذلك في الدنيا أتنادين به في جوار الله في الجنة؟! ستقول: لكن المسألة هو يتمتع أكثر مني، أقول لها: لا، هو لا يتمتع أكثر منك فقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن أحدكم -يعني: من الرجال- ليعطى قوة مائة رجل في الأكل، والشرب، والجماع، والشهوة)، قد تقول إحداكن: طالما هو يعطى قوة مائة رجل، ونحن ماذا نعطى؟ أقول: لو فكرتم في قوله صلى الله عليه وسلم: (ليعطى قوة مائة رجل في الجماع) لعلمتنَّ أن ذلك لصالحكنَّ.

الفرق بين نساء الدنيا وبين الحور العين

الفرق بين نساء الدنيا وبين الحور العين تعالي يا أخت الإسلام: لنعرف ما الفرق بينك وبين الحور العين؛ من أجل ألا تغضبي أو تثيري أسئلة حساسة وخطيرة، الله يقول في سروة الواقعة عنكن: {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً} [الواقعة:35]، إذاً: أنت في الجنة سينشئك الله إنشاءً آخر، فيبقى أول تكريم للمرأة المسلمة في الجنة إنشاء الله لها. الثاني: {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} [الواقعة:36] يعني: أنت ستكونين بكراً بقدرة الله في الجنة، وكلما أتاك زوجك في الجنة تعودين بكراً، كما كنت مطهرة بقدرة الله. ولعل إحداكن تقول: هل الحور العين مثلنا في هذا الأمر؟ أقول لها: نعم، كيف؟ قال تعالى: {عُرُبًا أَتْرَابًا} [الواقعة:37]، فوصف (عرباً أتراباً) هو الذي سيحل لنا هذا السؤال. لنعرف أولاً: ما معنى (عرباً)، عُرُب: جمع عروب، يقال: امرأة عروب، وعربة. يعني: متحببة متذللة لزوجها، مازحة ضاحكة مستبشرة، لها نبرة صوت خلاب، ومزاج جذاب، تقول لزوجها: والله ما في الجنة أجمل منك، ولا أبهى منك، ولا أكمل منك، الحمد لله الذي خلقني لك وخلقك لي، هذا معنى (عرباً). أما (أتراباً): فجمع ترب، يقال: امرأة ترب، يعني: امرأة متساوية؛ متساوية مع الحور العين في الإنشاء، ومن الذي أنشأ الحور العين؟ ومن الذي سينشئ زوجة الدنيا؟ الله، إذاً: التساوي في الإنشاء. (فجعلناهن أبكاراً) من الذي سيجعل الحور العين بكراً كلما عاد لها زوجها؟ الله، من الذي سيجعل زوجة الدنيا بكراً كلما أتاها زوجها؟ الله، إذاً: التساوي في البكارة أيضاً، بل حتى متساويات في السن، فالحور العين أعمارهن ثلاث وثلاثون سنة، وأنتِ يا امرأة الدنيا عمرك ثلاث وثلاثون سنة، وبهذا نعلم أنه لا فرق بينكن في الإنشاء، ولا فرق في البكارة، ولا في العمر وإنما أنتن عرباً أتراباً. وأنتِ تزدادين على الحور العين بأنك سيدة عليها في الجنة، وسيدة القصر، ولماذا أنت سيدة ومفضلة على الحور العين؟ فضلكِ الله بصلاتكِ في الدنيا، وصيامكِ في الدنيا، وحجك في الدنيا، وصبرك في الدنيا، صبرت على مكايد الزوج، صبرت على فراق الأهل، صبرت على موت الولد، صبرت على موت الوالد، صبرت على فراق الأحبة، فيتوجك الله بتاج في الجنة، فيجعلك زعيمة ورئيسة على كل من تحت يدك في الجنة بقدرة الله رب العالمين.

ما ذكر في سورة الواقعة من النعيم للجنسين

ما ذكر في سورة الواقعة من النعيم للجنسين وأنصح كل أخت مسلمة أن ترجع إلى سورة الواقعة، من قوله تعالى: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ * وَظِلٍّ مَمْدُودٍ * وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ * وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ} [الواقعة:27 - 33]، هذا كله لمن؟ لأصحاب اليمين من الرجال والنساء: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} [الواقعة:34]، الفرش المرفوعة يعني: أسرة مرفوعة، طيب! أصحاب اليمين من الرجال والنساء ماذا يعملون؟ {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ * وَظِلٍّ مَمْدُودٍ * وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ * وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ * وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} [الواقعة:28 - 34]، هذه الفرش تحتاج إلى زوج وزوجة، وإلا فما فائدتها؟! وهنا سؤال ورد من النساء أيضاً، له تعلق بالسؤال السابق وهو: هل هؤلاء الحور العين أجمل منا؟ وأحسن منا؟ وأكثر منا؟ فنقول: أنتن أحسن من الحور العين، وأنا لا أقول كلاماً من عندي، فنحن لا نرضي الأنفس بديننا أبداً، إنما نذكر ما جاء في الكتاب والسنة، فنقول للمرأة الصالحة: أنتِ أحسن من الحور العين، وأنت رئيسة وسيدة على الحور العين. ولعل امرأة تقول: أنت قلت في الخطبة: إن الحور العين قاصرات الطرف على أزواجهن، فهل يعني هذا أن طرفنا مرفوع؟! أقول لها: لا، القرآن قال بالتساوي، وعدد مواطن قصر الطرف في القرآن أربعة، مواطنان للحور العين، ومواطنان لنساء الدنيا. {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ} [الصافات:48]، في الحور العين، وفي نساء الدنيا يقول: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ} [ص:52]، وآية ثانية في الحور العين: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [الرحمن:72]، وفي نساء الدنيا يقول: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:56]، ومن الذي ما طمثهن إنس: الحور العين أم نساء الدنيا؟ نساء الدنيا، أي: أن الله ينشئهن خلقاً آخر، لم يطمثهن في الجنة إنس ولا جان، متجهزات لأزواجهن، فيكنَّ آيات قاصرات الطرف أربع: آيتان لنساء الدنيا، وآيتان للحور العين، أتريدين أن تساوي أكثر من هذا في قصر الطرف؟

قصة طريفة

قصة طريفة وسأذكر قصة رجل وزوجته، وفيها جواب عن هذه المسألة، وهي قصة حقيقية. أحدهم أمه ماتت، وله زميل طيب يعمل دكتوراً، فالدكتور ذهب ليعزي زوجة الأخ الذي أمه ماتت، فقال لها: عظم الله أجرك في أم زوجك، فقالت: يا دكتور! كلنا لها، يعني: كلنا سنموت، ثم قال لها: كنت قد كشفت على صحة زوجك، فوجدت صحته -ما شاء الله- مثل الحديد، فقالت: الحمد لله يا دكتور! كلها لنا!!! فإذى أعطى رب العالمين للرجل في الجنة قوة مائة رجل في الجماع والأكل والشهوة، فيبقى عائد ذلك على من؟ طبعاً على المرأة، وعليه فتكونين قد تساويت مع الحور العين في الخلق والإنشاء والبكارة، والسن وقصر العين، وتفضلين عليهن بأنك سيدة القصر، وتتمتعين برجلك الذي أعطي قوة مائة رجل. مع العلم أن الجنة ليس فيها غيرة، وليس فيها حقد، وليس فيها حسد؛ لأن الله يقول: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47]. إذاً: الجنة فيها ما فيها من النعيم للنساء، وفيها ما فيها من التكريم للنساء، وسبحان من يرضي الجميع، نسأل الله أن يرضينا جميعاً، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصبحه.

مشاهد من أمريكا

مشاهد من أمريكا المجتمع الأمريكي مجتمع منحل متفسخ؛ تسوده الفوضى والخوف، وتعلوه الجريمة بمختلف ألوانها، بل لا تكاد تمر دقيقة أو ثانية إلا وتقع فيها جريمة، إما قتل أو سرقة أو اغتصاب أو غير ذلك، فلا يغتر أحد بهذا المجتمع الذي يصوره البعض على أنه قدوة؛ فإن هذا حاله، وما ذاك إلا لبعده عن الإسلام وتعاليمه، ومثل هذا المجتمع يحتاج إلى دعاة إلى الله، يقومون بتقديم الإسلام لينقذه من قسوة المادة والجفاف الروحي.

واقع الأمة الإسلامية

واقع الأمة الإسلامية إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة، وزكى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور، وطبتم جميعاً أيها الإخوة الكرام! وأيتها الأخوات الفضليات! وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً. أحبائي يا ملء الفؤاد تحيةً تجوز إليكم كل سد وعائق لقد شدني شوق إليكم مكلل بالحب والتقدير والدعاء المشفق وأرقني بالمظلمات عليكم تكالب أعداء سعوا بالبوائق أردتم رضا الرحمن قلباً وقالباً وما أرادوا إلا حقير المآزق فسدد الله على درب الحق خطاكم وجنبكم فيه خفي المزالق طبتم جميعاً أيها الإخوة والأخوات وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلا كما جمعنا وإياكم في هذا الجمع المهيب الكريم المبارك على طاعته، أن يجمعنا وإياكم في الآخرة مع سيد النبيين في جنته ودار كرامته؛ إنه ولي ذلك القادر عليه. أحبتي في الله! لقد سألني الإخوة الفضلاء أن أعلق على رحلتي الأخيرة إلى أمريكا في العشر الأواخر من رمضان، وإني لفاعل إن شاء الله جل وعلا، فأعيروني القلوب الأسماع؛ فإن هذا اللقاء من الأهمية بمكان، وقبل أن أشرع في التعليق بإيجاز شديد على هذه المشاهد الكريمة في هذا البلد الكافر، بل في قلعة الكفر على ظهر هذه الأرض، أود أن أقدم اليوم بمقدمة سريعة لابد منها. أيها الأحبة! إنني أعلم علم اليقين أن الواقع المر الأليم الذي تعيش فيه أمتنا في هذه الأيام كان سبباً رئيسياً لأن تعصف رياح القنوط واليأس بكثير من قلوب شبابنا المتحمس، فبمقارنة سريعة أيها الأطهار! لحال الأمة في الواقع المعاصر، ولمكانة الأمة في القرآن الكريم، نرى أن البون شاسع، وأن الفرق كبير بين أمة زكاها الله في القرآن بقوله جل وعلا: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] , وبين واقع أمة بات كثير من أفرادها اليوم يأمر بالمنكر، وينهى عن المعروف، ويكفر بالله جل وعلا! حتى قال قائلهم: إن تطبيق الشريعة الإسلامية في مصر ردة حضارية بكل المقاييس!! وقال آخر: إننا نحتفل الليلة بمولد السيد البدوي المهاب الذي إن دعي في البر والبحر أجاب!! وقال ثالث: إن مصر ستظل فرعونية ولو وقف الإسلام حجر عثرة في طريق فرعونيتنا لنحينا الإسلام جانباً؛ لتطل مصر فرعونية!! وقال رابع: هبوني عيداً يجعل العرب أمة وسيروا بجثماني على دين برهم سلام على كفر يوحد بيننا وأهلاً وسهلاً بعده بجهنم وقال خامس: آمنت بالبعث رباً لا شريك له وبالعروبة ديناً ما له ثاني

سبب سقوط الأمة الإسلامية من القمة إلى الحضيض

سبب سقوط الأمة الإسلامية من القمة إلى الحضيض فيوم أن أمرت الأمة -إلا من رحم ربك- بالمنكر، ونهت عن المعروف، وتركت لواء الإيمان بالله جل وعلا سقطت من هذه القمة، وانحطت إلى هذه المكانة من الخزي والذل والهوان والعار، ولا رفعة لها إلا إذا حققت الخيرية من جديد؛ فآمنت بالله؛ وأمرت بالمعروف، ونهت عن المنكر. ونرى أن الله قد زكى الأمة في القرآن بالوسطية، والوسط كما في رواية البخاري هو العدل، كما قال الحبيب. ولكن الأمة أيها الأحباب الكرام! قد حادت عن المنهج الوسط، وراحت تدور في فلك الشرق الملحد تارة، وتدور في فلك الغرب الكافر تارة أخرى، وتركت منهج الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وذهبت تجوب في بوتقة المغضوب عليهم والضالين من اليهود والنصارى! وزكى الله الأمة في القرآن أيضاً بالوحدة، فقال جل وعلا: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92]. ولكننا نرى الأمة الآن قد تمزقت إلى أجزاء، بل وتفتت الأجزاء هي الأخرى إلى أجزاء، وهذا يوم أن زال ظل الخلافة عن هذه الأمة، ودق الاستعمار اللعين هذا المسمار الخبيث، ألا وهو مسمار الحدود بين البلاد الإسلامية، فراحت البلاد تتناحر وتتطاحن من حين لآخر على هذه الحدود التي وضعها المستعمر اللعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ومما يزيد الأسى والألم في قلوب الشباب والأخوات أنهم -وهم ينظرون حتى إلى الأمة من منظور مادي علمي بحت- يرون الأمة في مؤخرة الركب المادي والحضاري ببعيد، بل وإذا نظروا إلى الأمة وجدوا أن أمماً كثيرة غارقة في الكفر وأوحال الشرك والضلال، لكن هذه الأمم سادت، يرون هذه الأمم قد قادت، ويرون هذه الأمم قد قدمت للبشرية اليوم تقدماً علمياً رائعاً؛ فحولت العالم كله إلى قرية صغيرة عن طريق هذا التقدم المذهل في عالم الاتصالات والمواصلات، ويرون الأمة الموحدة تأتي وراء الركب ببعيد، حتى في ظل هذه النظرة العلمية المادية البحتة. وهنا كثير من الإخوة وكثير من الأحباب سيسأل: ما الذي جرى؟ وما الذي حدث؟ وما الذي غير الأمة إلى هذه الحالة المزرية؟ وما الذي بدل عزتها إلى ذل؟ وما الذي بدل علمها إلى جهل؟ وما الذي بدل قوتها إلى ضعف؟ وما الذي حدث لأمة دستورها القرآن، ونبيها محمد عليه الصلاة والسلام، وربها وإلهها هو الرحيم الرحمن جل وعلا؟ إننا نرى الأمة الآن تتسول على موائد الفكر المادي والعلمي الحضاري والإنساني من منظور المادة، ونراها تتسول على موائد هذا الفكر العلمي والإنساني وهي التي كانت بالأمس القريب منارة تهدي الحيارى والتائهين الذين أحرقهم حر الهاجرة القاتل، وأرهقهم طول المشي في التيه والظلام، والآن نرى الأمة تتأرجح في سيرها، بل ولا تعرف طريقها الذي يجب عليها أن تسير فيه، كل هذا بعد أن كانت الأمة بالأمس القريب هي الدليل الخريت في الدروب المتشابكة وفي الصحراء المهلكة التي لا يهتدي للسير فيها إلا الأدلاء المجربون. فما الذي جرى أيها الأحبة؟! والجواب في آية واحدة محكمة من كتاب الله جل وعلا، هي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]، ورب الكعبة لقد غيرت الأمة وبدلت، في جانب العقيدة غيرت، وفي جانب التشريع بدلت، وفي جانب الأخلاق انحرفت، وفي جانب السلوك المعاملات ضلت، وهذا في الجملة، إلا من رحم ربك من بين أفرادها، نسأل الله أن يجعلنا ممن رحم. فهذه النتيجة التي تحياها أمتنا يا شباب الإسلام! وهي نتيجة عادلة؛ لأن الأمة قد تنحت عن أصل عزها ورفع شرفها. إذاً: إن رأيت المسلمين هنا أو هنالك تكال لهم الضربات، وتسفك دماؤهم، وتمزق أشلاؤهم، وتنتهك أعراضهم، وتسلب مقدساتهم؛ فعليك أن تزداد يقيناً بكلام ربك وكلام نبيك صلى الله عليه وآله وسلم، فلن ينصر الله جل وعلا إلا من نصر دينه، ولن يعز الله جل وعلا إلا من أعز شريعته، ولن يستخلف الله جل وعلا في الأرض إلا من وحده وأخلص العبادة له، وإن شئت أن تعلم ذلك فاسمع لقول ربك جل وعلا: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47] , واسمع لقول ربك جل وعلا: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور:55] الآية، واسمع لقول ربك جل وعلا: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8]. إذاً: أيها الأحبة الكرام! هذا الواقع الذي تعيشه الأمة إنما هو نتيجة عادلة لبعد الأمة عن منهج ربها وشريعة نبيها صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن أيها الأطهار! أود أن نفرق جميعاً بين الإسلام وبين المسلمين؛ فإن الإسلام دين الله، ودين الله باقٍ خالد، والمسلم الذي ذاق طعم الإيمان وذاق مع هذا الإيمان حلاوة الوعد بنصر الله، يعلم يقيناً لا شك فيه البتة أن الباطل مهما انتفخ وانتفش في فترة من الفترات فإنه غير غالب، وأن الحق مهما انزوى وضعف في فترة من الفترات فإنه غير مغلوب، فالمؤمن الصادق يعلم علم اليقين هذه الحقيقة الكونية الثابتة التي قررها الله بذاته وأكدها بنفسه جل وعلا في قوله في سبحانه: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء:81].

أحداث من تاريخ الأمة المشرق

أحداث من تاريخ الأمة المشرق أيها الموحد! أعرني قلبك وسمعك، وانتبه معي! واقرأ معي التاريخ قراءة سريعة جداً، فمن كان يظن أيها الأحباب أن تقوم للإسلام قائمة يوم أن كان الحبيب المصطفى وحده في مكة يدعو لدين الله؟! فقد أوذي صلى الله عليه وسلم، وألقي التراب على رأسه، وألقيت النجاسة على ظهره، وطرد من بلده ومن بيته، وهاجر أصحابه تارة إلى الحبشة، وتارة إلى المدينة، وبعد سنوات لا تساوي في حساب الزمن شيئاً على الإطلاق جاء الحبيب إلى مكة مع عشرة آلاف موحد لله جل وعلا؛ ليحطم الأصنام حول الكعبة، وفي مكة زادها الله تشريفاً يأمر الحبيب بلالاً رضي الله عنه أن يرتقي على ظهر الكعبة ليعلن أنشودة التوحيد العذبة: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله؛ إنه وعد الله جل وعلا. ومن كان يظن أن تقوم للإسلام قائمة يوم أن ظهرت فتنة المرتدين بوجهها الكاذب بعد موت المصطفى صلى الله عليه وسلم، وظهر مدعو النبوة المهرجون الكاذبون؟! ويومها قيض الله للإسلام وللمسلمين ابن الإسلام البار الصديق رضي الله عنه، فقام الصديق فجيش الجيوش، وأخمد نار الفتنة في مهدها، وأطفأ هذه النيران المشتعلة التي كادت أن تلتهم الأخضر واليابس، وخرج الإسلام من هذه الفتنة كأعظم وأقوى ما يكون. ومن كان يظن أن تقوم للإسلام قائمة بعد الحروب الصليبية الطويلة المدمرة، التي دنس فيها المسجد الأقصى على يد الصليبيين في المرة الأولى؟! وها هو اليوم يدنس على أيدي اليهود في المرة الثانية، وأسأل الله جل وعلا أن يقيض للأمة صلاح الدين كما قيض للأمة ولمقدساته أول مرة صلاح الدين؛ فقد قيض الله صلاح الدين بعد سنوات طويلة تزيد على قرن من الزمان، فطهر المسجد الأقصى، وحرر الأرض، وأعاد للإسلام وللمسلمين عزتهم في موقعة حطين الحاسمة، نسأل الله أن يعز الإسلام، وأن ينصر المسلمين. ومن كان يظن أيها الشباب! أن تقوم للإسلام قائمة يوم أن جاء التتار والمغول بهجماتهم الشرسة، فسفكوا الدماء، ومزقوا الأشلاء، وامتلأت الشوارع بالقتلى؟! وقع هذا بدون مبالغة، حتى جسد الإمام ابن الأثير رحمه الله هذه الفجيعة وتلك المأساة تجسيداً بليغاً في كلمات موجزة فقال: لقد أعرضت عدة سنين عن ذكر هذه الحادثة، فأنا أقدم رجلاً وأؤخر الأخرى، فمن ذا الذي يسهل عليه أن يكتب بيديه نعي الإسلام والمسلمين؟ فيا ليت أمي لم تلدني! ويا ليتني مت قبلها وكنت نسياً منسياً! حتى قيض الله للإسلام البطل الشاب قطز، فحرر الأرض، وأعاد للإسلام مكانته، وللمسلمين عزتهم في الموقعة الحاسمة التي تسمى (بعين جالوت) ومن كان يظن أن يرغم إخواننا الأفغان أنف الدب الروسي الغبي الوقح، وهم الذين يقلون عدداً وعتاداً وعدة؟! ولكن يوم أن تخلى إخواننا الأفغان عن شروط النصر كانت الفتنة. هذا الذي وقع ورب الكعبة لا يزيدينا إلا يقيناً في الله، ولا يزيدنا إلا تصديقاً لكلام الحبيب رسول الله، فيوم أن تجردت القلوب ورفعت الراية لتكون كلمة الله هي العليا كان النصر بحول الله جل وعلا، ويوم أن دب حب الدنيا في القلوب كانت هذه النتيجة التي نعلمها جميعاً، ولا ينبغي لنا أن ندفن رءوسنا في الرمال كالنعام، وأن نغض الطرف عن هذا الواقع، بل إنني أود أن أقول لكل شاب: إن هذا الواقع لا يزيدك إلا يقيناً في الله، ولا يزيدك إلا تصديقاً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ولكن من كان يظن أن يرغم إخواننا أنف الدب الروسي الوقح على أرض أفغانستان؟! ولكن للأسف الشديد يركز العلمانيون والضعفاء على الصورة المزرية، وعلى الهزائم دائماً وأبداً، مع أنه ينبغي أن نركز ولو قليلاً من الضوء على حجم الانتصارات التي لو قورنت بحجم ضعف المسلمين، وحجم قوة أعدائهم لكانت انتصاراً لا ينبغي أبداً أن يغض العاملون الطرف عنه، ولكن للأسف الشديد لا نركز إلا على الأخطاء، ولا تركز المجاهير المكبرة إلا على الزلات والسقطات، فإن زل شاب هنا أو هنالك ألصقت التهمة كلها بالإسلام ودين الله! بل وأصبح الدين اليوم مثاراً للخلاف، مع أن الدين هو الأصل الذي ينبغي أن يرد إليه كل خلاف، مع أن الدين هو الحصن الذي ينبغي أن يتحصن به كل عالم، لا أن ينصب أحد من نفسه مدافعاً للرب عن هذا الدين؛ فإن الدين عزيز، وإن الإسلام عزيز، وإن السنة غالبة، وإن رسول الله هو رسول الله حقاً وصدقاً، لا يحتاج هذا الدين إلى من يدفع عنه، أو إلى من ينصب نفسه مدافعاً ليدفع عنه، بل إن الدين هو الحصن الذي ينبغي أن يتحصن به كل خائف، وأن يلوذ إليه كل مضطرب؛ فإن الدين هو الأمن والأمان الذي يجب أن يأتمنه وأن يتحصن به كل داعية، وكل عالم، وكل مسلم ومسلمة. أيها الأحبة! حجم الانتصار في أفغانستان حجم كبير. ومن كان يظن أيها الأحباب! أن يصمد المسلمون في الشيشان في هذه البوتقة الصغيرة التي تقل عدداً وعدة وعتاداً وقوة عن هذا الجيش الروسي الجرار؟! ومن كان يظن أن تدوم الحرب إلى يومنا هذا؟! سمعت لقاءً على تلفاز أمريكا مذيع في الـ ( CNN) يجري حواراً مع جوهار دوداييف رئيس دولة الشيشان ثبته الله وإخوانه، ويقول له: يوم أن قتل ولدك في أرض المعركة هل حزنت على قتله؟ أتدرون ماذا قال هذا الرجل؟ والله لقد قال كلاماً لا نسمعه إلا من العلماء المجاهدين كأمثال عبد الله بن المبارك وكأمثال شيخ الإسلام ابن تيمية، قال هذا الرجل: لا وقت للأحزان حتى نحرر الشيشان من الروس، وأن نرفع عليها من جديد راية الإسلام! هل كان أحد يصدق أو يظن أو يتوقع أن يسمع هذا الكلام في أرض دنست طيلة سبعين عاماً بالحكم الإلحادي الكافر المشرك على يدي الدب الروسي الغبي الوقح؟! لا ورب الكعبة! فلقد كان أحدهم إذا أراد أن يقرأ صفحة من كتاب الله اختفى عن العيون والأنظار ودخل تحت السراديب ليطالع صفحة من كتاب الله. ومن كان يظن أن تستمر الحرب في البوسنة إلى يومنا هذا؟! لقد أجمع المحللون والعسكريون ووكالات الأنباء والصحفيون على أن الحرب لن تستمر في الشيشان إلا أياماً معدودة، وأجمعوا على أن الحرب لن تستمر في البوسنة مع الصربيين الكفرة إلا أسابيع معدودة. وها نحن نرى -ولله الحمد- أن الحرب في البوسنة تحولت إلى ملحمة إسلامية رائعة، فلقد كنا نعلم أن المرأة البوسنية كانت تتزوج بالأمس القريب بالنصراني بدون أي قيود أو ضوابط أو شروط، ووالله ما عاد البوسنيون إلى إسلامهم إلا بعد هذه الحرب، فقد ردتهم هذه الحرب لهويتهم، وارتفعت من جديد كلمة الإسلام، وعلا صوت النبي عليه الصلاة السلام. وأقسم يقيناً لو علم الصرب أن هذه الحرب سترد البوسنيين إلى دينهم ما أعلنوها على البوسنيين يوماً واحداً بعد أن ذابوا في بوتقة هذا الغرب الكافر، ولكنه أمر الله يا عباد الله! إنها الساعات التي تسبق -إن شاء الله تعالى- ضوء الفجر؛ فإن أشد ساعات الليل سوادً هي الساعة التي يليها ضوء الفجر، وفجر الإسلام قادم ورب الكعبة! وأقول لكم: إننا لا نخشى على الإسلام، بل نخشى على المسلمين إن تخلوا عن الإسلام، فإن تخلى المسلمون عن الإسلام ذلوا، ووضعت النعال على رءوسهم، وانتهكت مقدساتهم، وسفكت دماؤهم، وانتهكت أعراض نسائهم، وهذا واقع لا ينبغي أن ننكره، فوالله ما نرى هذا الذي نراه الآن إلا لأن الأمة قد تخلت عن الإسلام، وهذه حقيقة ينبغي أن تستقر في القلوب والعقول. ولكن أقول: إن الإسلام دين الفطرة، ودين الكون كله، كما قال تعالى: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً} [آل عمران:83] , ولو كفرت الإنس والجن، فالإسلام دين الله ودين الله قاهر.

من المبشرات بالخير الصحوة الموجودة اليوم

من المبشرات بالخير الصحوة الموجودة اليوم وأعرني قلبك وسمعك أيها الحبيب! فإني أود في ظل هذه الرياح القاسية من رياح القنوط والشكوك التي تهب على قلوب كثير من أحبابنا وإخواننا أن أبشر، وأن أطمئن، لا من باب الأحلام الوردية لتسكين الآلام وتضميد الجراح، لا ورب الكعبة، بل هذا هو ما نراه بأعيننا. انظروا إلى هذا المشهد الذي يرغم أنوف المجرمين، ويرغم أنوف الحاقدين، إنه وعد الله، ألله أكبر! شباب في ريعان الصبا، وفتيات في عمر الورود، تأتي الفتاة من هنا ومن هناك وقد غطت جسدها كله، ويأتي الشاب وقد زين وجهه بلحية كريمة مباركة اقتداءً بحبيبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد حمل روحه على كفه، وهو يعلم علم اليقين ما سوف يتعرض له من الأذى، وما سوف يتعرض له من البلاء، ولكنه الدين الذي استقر في القلوب يا عباد الله! إنه وعد الله ورب الكعبة! كما قال الشاعر: صبح تنفس بالضياء وأشرق والصحوة الكبرى تهز البيرقا وشبيبة الإسلام هذا فيلق في ساحة الأمجاد يتبع فيلقا وقوافل الإيمان تتخذ المدى درباًوتصنع للمحيط الزورقا وما أمر هذه الصحوة الكبرى سوى وعد من الله الجليل تحققا هي نخلة طاب الثرى فنما لها جذع قوي في التراب وأغذقا هي في رياض قلوبنا زيتونة في جذعها غصن الكرامة أورقا فجر تدفق من سيحبس نوره أرني يداً سدت علينا المشرقا يا نهر صفوتنا رأيتك صافياً وعلى الضفاف رأيت أزهار التقى قالوا تطرف ديننا لما سما قدراً وأعطى للطهارة موثقا ورموه بالإرهاب لما أبى الخنا ومضى على درب الكرامة وارتقى أو كان إرهاباً جهاد نبينا أم كان حقاً بالكتاب مصدقا أتطرف إيماننا بالله في عصر تطرف بالهوى وتزندقا إن التطرف أن نذم محمداً والمقتدين ونمدح عفلقا إن التطرف أن نرى من قومنا من صانع الكفر اللئيم وأطرقا إن التطرف أن نبادل كافراً حباً ونمنحه الولاء محققا إن التطرف وصمه في وجه من حول البوسنة رماداً محرقا شتان بين النهر يعذب ماؤه والبحر بالملح الأجاج تمزقا يا جيل صحوتنا لك في كتاب الله فجر صادقا فاتبع هداه ودعك ممن فرقا لك في رسولك أسوة فهو الذي بالصدق والخلق الرفيع تخلقا يا دين صحوتنا ستبقى شامخاً ولسوف تبقى باتباعك أسمقا

صور من أجل الإسلام والمسلمين في أمريكا

صور من أجل الإسلام والمسلمين في أمريكا إنه وعد الله يا إخواني! ويا أحبابي! وأبشركم إن في أمريكا في العشر الأواخر من رمضان كان يصلي معي في (بروكلين) في نيويورك في مكان واحد من هذه الولاية الكبيرة مايزيد على خمسة آلاف موحد لله جل وعلا، يصلون التراويح والقيام في مسجد واحد، والله لقد أعلن الإخوة عن الصلاة في مسجد مصعب بن عمير، ويوم أن حان وقت العصر قال الإخوة: سيضيق المكان بالمصلين، فراحوا إلى قاعة أخرى كبيرة مستأجرة، ونقلوا صلاة التراويح فيها، ورأينا الجموع الموحدة التي جاءت وقد ملت المعصية، جاءت تصرخ وتنادي وتبحث عن غذاء الروح، وقف هؤلاء جميعاً، وفي ليلة القدر رأيت العدد قد زاد عن ذلك بكثير. وفي أمريكا أيها الأحبة! لا أكون مبالغاً إن قلت: ما من يوم يمر الآن إلا ويدخل الإسلام رجل جديد، وقد أنطقت بعضهم الشهادة بلساني في العشر الأواخر، وهؤلاء يا إخواني -ورب الكعبة- إنهم يريدون شيئاً يسعد أرواحهم، برغم ما وصلوا إليه في جانب المادة! وفي جانب العلم! وهذا شيء لا ننكره. لكنهم والله تنظر إليهم فترى أحدهم يجري كالمطارد، ويضحك كالمجنون، ويئن من الألم، يريد شيئاً يسعد روحه يريد شيئاً يسعد نفسيته يريد شيئاً يسعد وجدانه! الفطرة الطيبة تصرخ في أعماقهم، ولكن أين الدعاة؟! صلينا المغرب والعشاء في إحدى المطارات وفي مدينة يانابلس قال أحدنا: كنا نصلي لله جل وعلا؟ فقال أحدهم: تصلون لمن؟ قلنا: لله. قال: ومن الله؟ ومن أنتم؟ ومن أي البلاد جئتم؟ فقلنا: نحن مسلمون نحن موحدون نحن محمديون. فقال: لا نعرفكم. والله يا إخوان إن منهم من لا يعرفون عن الإسلام إلا قليلاً، وإذا عرفوا شيئاً عن الإسلام لا يعرفون إلا الصورة المظلمة، ولا يعرفون عن الإسلام إلا القتل، ولا يعرفون عن الإسلام إلا السفك، ولا يعرفون عن الإسلام إلا الإرهاب، وجزى الله العلمانيين الذين يدندنون في الليل والنهار ليشوهوا صورة الإسلام وصورة الملتزمين الطاهرين والطاهرات شراً، فوالله لو عرفوا الإسلام على حقيقته لوحدوا الله جل وعلا، ولدخلوا في دين الله أفواجاً. اقترب أحدهم منا وقال: ماذا كنتم تفعلون؟ قلنا: كنا نصلي. فقال: لمن؟ قلنا: لله. قال: ومن الله؟ فأجابه أحد الإخوة. فقال: من أنتم؟ قلنا: مسلمون. قال: ومن أي البلاد؟ فلنا: من هنا، ومن هنالك. ولكن لفت نظره سجودنا، فقال: وماذا كنتم تصنعون حينما وضعتم الوجوه على التراب وعلى الأرض؟ فقال هذا الأخ: كنا نصلي لله، وهذا ركن من أركان صلاتنا يسمى السجود، وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد بين يديه جل وعلا، أتدرون ماذا قال يا إخواني؟! والله لقد نظر هذا الرجل وقال: إنه في بعض الأوقات تعصف بي حالات نفسيه وقلق، وأحس باضطراب شديد وألم فضيع، ولا أحس براحة لهذه الحالة إلا إذا قمت ووضعت وجهي على الأرض كما رأيتكم تفعلون! إنها فطرة التوحيد ورب الكعبة! قال عز وجل: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:30]. وبعض الإخوة أخبروني عن شاب صغير، دخل عليهم بعد صلاة الفجر، وهو لا يجاوز الخامسة والعشرين من عمره، وأشار إليهم وأول كلمة قالها: أريد أن أكون محمدياً، أريد أن أكون مسلماً، فقالوا: من أنت؟ فقال: لا تسألوني، وبعد يوم ويوم وفي اليوم التالي اقترب منه واحد من إخواننا من مصر وقال: يا أخي! ما حكايتك؟ وما قصتك؟ فقال: أنا شاب نصراني من أصل أسباني، نشأت منذ نعومة أظفاري وأنا أحب المسيح عليه السلام، وقلبي متعلق به، ولكنني نظرت إلى أحوال النصارى في أمريكا فوجدتهم أبعد ما يكون من تعاليم المسيح عليه السلام، ففتشت عن الدين الحق فوجدت هذه التعاليم في دين الإسلام، وفي الليلة التي دخلت عليكم فيها جاءني المسيح في الرؤيا وأشار إلي بسبابته وقال لي: كن محمدياً. فخرجت من بيتي أبحث عن مسجد حتى دلني الله عز وجل عليكم، فدخل عليهم أيها الأحبة ودلوه على الإسلام، فأسلم لله جل وعلا، وأذن المؤذن لصلاة العشاء، وقام هذا الأخ الحبيب ليدخل مع إخوانه ليركع ويسجد لله رب العالمين، فانتهى الإخوة من صلاتهم ولازال أخونا ساجداً لله، وبعد أن انتهى الإخوة من الصلاة اقترب منه أحدهم فحركه فوجده قد قبض وفاضت روحه إلى الله جل وعلا!! والله ما من يوم يمر إلا ويدخل الإسلام في أمريكا مسلم جديد، أو مسلمة جديدة، وقد التقيت بمسلمة أمريكية فقلت لها: ما شعورك؟ فقالت: والله يا أخي إني أريد الآن أن أصرخ بأعلى صوتي لتستمع إلي كل امرأة في أمريكا: إنني قد وجدت ديناً يحفظ للمرأة كرامتها!! فاسمعوا أيها العلمانيون الكاذبون! يا من تدعون كل يوم إلى الحرية على مصراعيها! يا من تزعمون أن المرأة في الإسلام أمة! اسمعوا لمرأة دخلت الإسلام وذاقت طعم الإيمان، تقول: والله إني أود أن تستمع إلي كل امرأة بأنني وجدت ديناً يحفظ للمرأة كرامتها! إنه دين الله؛ فإن المرأة عندنا أيها العلمانيون لؤلؤة مصونة، وجوهرة ثمينة، وهل لرجل عاقل أن يلقي جوهرة ثمينة للأعين لتعبث بها؟ وللأيدي لتسرقها؟ لا والله! بل إننا ما حافظنا عليها إلا لأنها لؤلؤتنا المكنونة، ودرتنا المصونة، وأمنا، وأختنا، وبنتنا، وخالتنا، وعمتنا، فإذا لم نحافظ عليها وهي كذلك فعلى من نحافظ؟ وأبشركم أيها الأحبة الكرام! بأنه في شهر يناير في عام (94م) احتفلت وزارة الدفاع الأمريكية في البنتاجون احتفالاً رسمياً حضره عدد كبير من وفود العالم الإسلامي، وعدد كبير من وكالات الأنباء والصحفيين، أتدرون لماذا أقيم هذا الاحتفال؟ أقيم هذا الاحتفال لاختيار وتنصيب أول مسلم ليؤم المسلمين في الصلاة في الجيش الأمريكي، هذا الأخ برتبة نقيب يسمى عبد الرشيد محمد، وهو في قمة الفهم، وفي قمة الوعي، قال كلمة ما سمعتها من عالم، قال: إن الغرب يتهمنا بأننا أصوليون؟ قلت: نعم. قال: يا أخي! مشكلتنا أننا لسنا بأصوليين، ليتنا كنا من الأصوليين، وليتنا عدنا إلى أصولنا، وليتنا أخذنا بأصول ديننا، لكنهم يتهموننا بذلك ولسنا والله كذلك، بل إنني أسأل الله أن يكون المسلمون من الأصوليين، وممن يعودون إلى أصلهم وإلى نبع شرفهم ونعيم كرامتهم ووجودهم.

عدد المساجد في أمريكا، وحال المجتمعات العربية والإسلامية فيها

عدد المساجد في أمريكا، وحال المجتمعات العربية والإسلامية فيها زاد عدد المساجد في أمريكا إلى ما يقرب من ألف وخمسمائة مسجد في حي واحد يسكن فيه أكثر من سبعين ألف مسلم، مشيت في هذا الحي وأحسست أنني في شبرا؛ فالمطاعم يكتب عليها باللغة العربية، وتشم رائحة الفلافل، وتشم رائحة أطعمتنا، وأنا أود من كل أخ يسافر إلى مثل هذه البلاد أن يتمسك بمظهره، وأن يعلن هويته، فإن اليهود هنالك يتعصبون لزيهم وهويتهم، فإذا مشيت بزيك هذا هنا أو هنالك يمر عليك كل أحد ويلقي عليك: السلام عليكم السلام عليكم، فيلقي عليك السلام لزيك ولمظهرك ولهويتك التي يجب عليك أن تعلنها وأنت في غاية العزة والرفعة والكرامة. أيها الأحبة الكرام! في أمريكا في هذا الحي وحده يقطن ما يزيد على سبعين ألف مسلم، بل لقد قدر لنا لقاء مع رئيس مكافحة الجرائم الأمريكية فقال قولة عجيبة جداً، وقف الرجل يتكلم فقال: إنني أتمنى أن تتحول كل أحياء أمريكا إلى مثل هذا الحي المسلم! فتعجبنا، وضجت القاعة ساعتها بالتكبير، لماذا؟ قال: لأن هذا الحي هو الحي الوحيد في أمريكا الذي تصل فيه نسبة الجريمة إلى الصفر، فلا سرقة، ولا خمر، ولا اغتصاب.

واقع المجتمع الأمريكي

واقع المجتمع الأمريكي وقد قرأت إحصائية في الأيام الأخيرة في رمضان تشير إلى أنه في كل ست دقائق تغتصب امرأة في أمريكا، فقلت: سبحان الله! الزنا مباح، ولكن هذا شيء جديد، وسألت طبيباً سورياً عن سبب ذلك، فأجابني إجابة دقيقة فقال: يا أخي! لم تعد المرأة تكفي الرجل؛ لأنه نشأ منذ نعومة أظفاره فوجد المرأة أمام عينيه وبين يديه يأخذ منها في كل وقت كل ما شاء وكل ما يريد، فذهب الرجل يبحث عن شيء ليأخذه عنوة ليحس برجوليته وشخصيته، فترك هذا وذهب إلى هذا، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وزاد عدد الشواذ في تلك البلاد على عشرين مليوناً، ونسأل الله أن يزيدوا، بل وزاد عددهم في الجيش الأمريكي الآن إلى ستة مليون شاذ، وهذه كلها -إن شاء الله جل وعلا- مبشرات، وليس معنى ذلك أنني أقول إن أمريكا ستسقط غداً؛ لأن هذا كلام يخالف الواقع، بل ويخالف السنن الكونية الربانية الثابتة.

ضرورة النموذج العملي في الدعوة إلى الإسلام

ضرورة النموذج العملي في الدعوة إلى الإسلام أيها المسلمون! أعلنها بأعلى صوتي: لن نعيد الإسلام للبشرية بالخطب الرنانة، ولن نعيد الإسلام للدنيا بالمواعظ المؤثرة، لا ورب الكعبة! وإنما نعيد الإسلام للبشرية كلها بأن نقدم نموذجاً عملياً لهؤلاء، ونقول لهم: هذا هو الإسلام، وهذا هو دين محمد عليه الصلاة والسلام. وقد ذكرت في خطبة لي عن أمريكا أننا التقينا بأخت أمريكية تسمى كليرا محمد تلكم الأخت التي أنشأت وحدها خمسين مدرسة إسلامية في أمريكا، وفي فرجينيا أنشأت جامعة لتخرج فيها المعلمين الذين يدرسون في مثل هذه المدارس والكليات. أيها الأحبة الكرام! تلك بشائر مؤتمرات هنا وهنالك، ووفود وأعداد كبيرة، ونرى الناس يقبلون على دين الله عز وجل؛ فإن هذا الشعب يصرخ يريد غذاءً للفطرة، ويريد دواءً للروح، والروح الآن تصرخ: أعطوا البدن كل ما يشتهيه، وأعطوا البدن كل ما يريد، فصرخت الروح أريد غذائي أريد دوائي، أريد علاجي؛ لأن الروح يا إخواني! لا توزن بالجرام، ولا تقاس بالترمومتر، ولا تخضع لبوتقة في معمل تجارب، وإنما هذه الروح لا يعلم حقيقتها إلا الله وغذاؤها ودواؤها في منهج الله، قال عز وجل: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:124 - 126]، وأكتفي بهذا القدر، وأسأل الله جل وعلا أن يتقبل منا جميعاً صالح الأعمال، وأن يكتب لنا الخطوات في موازين أعمالنا وصحائف حسناتنا يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

واجبنا ودورنا نحو الإسلام

واجبنا ودورنا نحو الإسلام الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد بارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام! والسؤال الذي يطرح نفسه بشدة هو: ما واجبنا؟ وما دورنا؟ وأنا لا أملّ من تكرار هذا أبداً، فيجب علينا أن نعلم يقيناً أننا لن نعيد الإسلام بالخطب والمواعظ فحسب، وإنما نريد أن نرى النموذج الإسلامي الفريد. يقول أحدهم: لقد دخلت في الإسلام، وأردت أن أرى الإسلام بين أهله وأصحابه من المسلمين، فأتيت لحج بيت الله الحرام، ورأيت الصورة مقلوبة تماماً، يقول: فحمدت الله عز وجل الذي عرفني بالإسلام قبل أن يعرفني بالمسلمين!! الواقع أليم أيها الأحبة! لا ينبغي أن ننكره، فإن تشخيص الداء هي الخطوة الأولى لتحديد الدواء، ولا يمكن لطبيب أن يصرف لك دواءً إلا إذا شخص داءك، فتشخيص الداء خطوة أولى على الطريق الصحيح لتحديد الدواء، فإن واقع الأمة لا ينكر، فيجب علينا أيها الأحبة! أن يسأل كل واحد منا نفسه: مالذي قدمه لدين الله؟ وما الذي قدمه لدين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فكلنا مسئول عن هذا الدين، وهؤلاء من الذي سيقيم عليهم الحجة؟ بل إن شئت فقل: من الذي سيقيم الحجة على المسلمين الغثاء أولاً؛ ليحول المسلمون الإسلام في حياتهم إلى منهج حياة، ثم لينطلق المسلمون بهذه الأمانة العظيمة، وبهذا العبء الثقيل بحمل الدعوة إلى الله ليقيموا حجة الله على هذه الأمم والشعوب؟ ورب الكعبة! إننا مسئولون بين يدي الله، فإن وقف هؤلاء يوم القيامة وقالوا: ما سمعنا عن الإسلام، فماذا سيكون جوابنا أيها المسلمون؟ فلابد أن نقيم الحجة على خلق الله، إننا أمة مأمورة بحفظ الأمانة، قال صلى الله عليه وسلم: (ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا وكان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنه تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)، والحديث في صحيح مسلم من حديث ابن مسعود. فلابد أن نحمل هذه الأمانه، فوالله لا فكاك لنا من عذاب الله إلا إن حملنا هذه الأمانة العظيمة، -أمانة الدعوة- وتحركنا بها بين المسلمين ابتداءً؛ ليحول المسلمون الإسلام في حياتهم إلى واقع يسمع ويرى، ثم ليتحرك المسلمون بعد ذلك إلى هذه الأمم الكافرة؛ ليقيموا حجة الله عز وجل عليهم، قال عز وجل: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء:15].

مسئولية جميع المسلمين عن الدعوة إلى الله عز وجل

مسئولية جميع المسلمين عن الدعوة إلى الله عز وجل أيها الأزهر! أيتها الأوقاف! أيها المسئولون! يا من عشتم للعروش والفروش والكروش! ستسألون عن هؤلاء بين يدي الله جل وعلا، أيها الدعاة أيها المسلمون جميعاً تحركوا، فإن عجزت أيها الأخ عن أن تتحرك لدين الله بلسانك وبدعوتك، فخصص جزءاً من مالك لدين الله، ولدعوة الله، ولحضور محاضرة إيمانية لداعية إلى الله جل وعلا ليتفرغ للدعوة إلى دين الله عز وجل، خصص راتباً لمحفظ للقرآن الكريم خصص راتباً لمرأة مسلمة تجيد التلاوة لتحفظ الأخوات، ولتعلم البنات العقيدة والقرآن، فإن لم يكن بلسانك فبمالك وبسلوكك وبأخلاقك. نريد أن نشهد الإسلام الآن شهادة سلوكية، وأنا أكرر هذا الكلام عن عمد، نريد أن نشهد الإسلام شهادة سلوكية واقعية عملية. نريد لك أيها الحبيب ألا تنظر إلى جهد الأمة كلها إلا من خلال نظرك إلى جهدك، فالكل ينظر إلى عيب غيره وينسى عيب نفسه، مع أن الله قد حذرنا من ذلك فقال: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165]، ففتش في نفسك، وفتش في عيبك أيها الحبيب! وهيا من الآن تحرك لدين الله، واستغل منصبك استغل كرسيك، واعلم أن كرسيك زائل، فالله الله أن يحول الكرسي بينك وبين الله، والله الله أن يحول الكرسي بينك وبين الجنة، واعلم بأن الكراسي لو دامت لغيرنا ما وصلت إلينا. فيا أيها الحبيب! فكر في منصبك وعلى كرسيك الذي جلست عليه كيف تبدع لهذا الدين؟ وكيف تقدم وقتك وهمك وفكرك وزجتك وولدك لهذا الدين، لتلقى النبي صلى الله عليه وسلم وقد امتثلت أمره، كما في صحيح البخاري من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله علسه وسلم قال: (بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار). أيها الموحدون! نريد أن نعد من الآن الكوادر الإسلامية المتخصصة التي تكون قادرة على تدبير شئون الحياة كلها من منظور الإسلام، ومن منطلق قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، فافهموا الإسلام فهماً دقيقاً بشموله وكماله، وحولوه في حياتكم إبتداءً إلى واقع، وتحرك بعد ذلك للغرب، وإياك أن تحتقر دورك، فلا تحقرن وظيفتك، واغرس ولا تقل: لمن أغرس؟ ومتى تثمر؟ ومن يأكل؟ روى أحمد في المسند والبخاري من حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة فاستطاع أن يغرسها فليغرسها) فلا تقل: القيامة ستقوم، ومتى أغرس؟ ومتى تثمر؟ ومن يأكل؟ هذا ليس لك، فما عليك أيها الحبيب! إلا أن تغرس، وما عليك إلا أن تتحرك لدين الله، ونريد كل مسلم أن يقول لربه جل وعلا: يارب! لقد أعذرت إليك وبذلت كل ما في وسعي لدينك، فالله ما أمرك بأكثر من هذا، قال جل وعلا: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]. وأخيراً أسأل الله جل وعلا أن يقر أعيننا جميعاً بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين. اللهم اشف صدور قوم مؤمنين، اللهم اشف صدور قوم مؤمنين، اللهم اشف صدور قوم مؤمنين. اللهم أنت غياثنا فبك نغوث، وأنت ملاذنا فبك نلوذ، وأنت عياذنا فبك نعوذ، يا ذا المن! ولا يمن عليه، ويا من يجير! ولا يجار عليه، يا ذا المن! ولا يمن عليه، ويا من يجير! ولا يجار عليه، يا من إليه يلجأ الخائفون! يا من إليه يلجأ الخائفون! يا من إليه يلجأ الخائفون! يا من عليه يتوكل المتوكلون! يا من إليه تبسط الأيدي ويرجوه المذنبون! يا من إليه تبسط الأيدي ويرجوه المذنبون! اللهم لا تعاملنا بذنوبنا، اللهم لا تعاملنا بذنوبنا، اللهم إنا نعترف لك بعجزنا، ونقر لك بضعفنا، ونقر لك بجرمنا، فاللهم لا تتخل عنا بذنوبنا، اللهم لا تتخل عنا بذنوبنا، اللهم لا تتخل عنا بذنوبنا. اللهم ارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، واستر عيبنا، وآمن روعاتنا، وفرج كربنا، واكشف همنا، وأزل غمنا، اللهم تقبل دعاءنا برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم احمل المسلمين الحفاة، واكس المسلمين العراة، وأطعم المسلمين الجياع. اللهم اربط على قلوب المجاهدين في كل مكان، اللهم اربط على قلوب المجاهدين في كل مكان، اللهم إنا نشكو إليك خيانة الخائنين، اللهم إنا نشكو إليك خيانة الخائنين، اللهم إنا نشكو إليك خيانة الخائنين، اللهم إنا نشكو إليك مكر المنافقين، اللهم إنا نشكو إليك كيد العلمانيين، اللهم رد كيدهم في نحورهم يا رب العالمين، اللهم اشف صدور قوم مؤمنين، وأقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز المسلمين. اللهم فك أسر المأسورين، وسجن المسجونين، واربط على قلوبنا وإياهم يا رب العالمين! اللهم اجعل مصر واحة للأمن والأمان، اللهم اجعل مصر سخاءً رخاءً وسائر بلاد الإسلام، اللهم ارفع عن مصر الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم ارفع عن مصر الفتن ما ظهر منها وما بطن، واجعلها سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين! أحبتي في الله: صلوا وسلموا على حبيبنا رسول الله؛ فلقد أمرنا الله جل وعلا بذلك في قوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] , اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. هذا وما كان من توفيق فمن الله، وما كان من خطأ أو سهو أو نسيان فمني ومن الشيطان؛ والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون عليه إلى الجنة، ويلقى به في جهنم، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه. والحمد لله رب العالمين.

الإرهاب الغربي

الإرهاب الغربي إن الصور المخزية والمجازر الوحشية التي ترتكب ضد المسلمين اليوم لتدمع لها العيون، وتتفطر لها الأكباد، وتنهد لها الجبال! والأدهى والأمر أن يبرر الإرهاب الغربي كل ما ارتكبه من مجازر، ويلقي ثوب الفضيحة والرذيلة على المسلمين، ويلبسهم لباس التطرف والإرهاب والبربرية، ولو قرءوا التاريخ ونظروا في حياة المسلمين لوجدوا أن دين الإسلام هو دين السماحة والأمن والأمان، وأن الإسلام بريء من كل ما رموه واتهموه به.

صور مخزية من إرهاب الغرب

صور مخزية من إرهاب الغرب إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء، وأيها الإخوة الأحباب الكرام الأعزاء، وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله جل وعلا الذي جمعني مع حضراتكم في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار مقامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله: الإرهاب الغربي، هذا هو عنوان لقائنا مع حضراتكم في هذا اليوم الكريم المبارك، وكعادتنا حتى لا ينسحب بساط الوقت سريعاً من تحت أقدامنا فسوف ينتظم حديثنا مع حضراتكم تحت هذا العنوان في العناصر التالية: أولاً: صور مخزية من إرهاب الغرب. ثانياً: صور مشرقة للتسامح الإسلامي. ثالثاً: لا تيئسوا من روح الله. رابعاً: طريق النجاة. فأعيروني القلوب والأسماع، فإن هذا الموضوع الآن من الأهمية بمكان، فإنني أدين لله جل وعلا بأن هذا ينبغي أن يكون أهم الموضوعات، فإن العلماء والدعاة موضوعاتهم اليوم في واد، وأمتهم بجراحها وآلامها في واد آخر، والله أسأل أن يجعلنا من الصادقين في القول والعمل، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أولاً: صور مخزية من إرهاب الغرب.

تشويه الإعلام الغربي لصورة الإسلام وإلصاق تهمة الإرهاب بالمسلمين

تشويه الإعلام الغربي لصورة الإسلام وإلصاق تهمة الإرهاب بالمسلمين أحبتي الكرام: إن الصراع بين الحق والباطل قديم بقدم الحياة على ظهر الأرض، والأيام دول كما قال ربنا جل وعلا: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140]، ولا شك أن الدولة الآن للغرب الذي كسب الجولة الأخيرة وهزم الأمة المسلمة عسكرياً واقتصادياً وأمنياً ونفسياً، وذلك بعد أن تخلت الأمة عن أسباب النصر، بانحرافها عن منهج ربها ونبيها صلى الله عليه وسلم، مصداقاً لقول الله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11] وذهب الغرب المنتصر -أيها الأحبة الكرام- يسوم الأمة المهزومة سوء العذاب، ويمارس عليها كل أشكال الإرهاب الفكري والنفسي والعلمي والعسكري. ففي الوقت الذي يمارس فيه الإعلام الغربي عامة والأمريكي خاصة لوناً قذراً من ألوان الإرهاب الفكري، بوسم الإسلام والمسلمين بالإرهاب والتطرف والوحشية، والبربرية والجمود والرجعية، والتخلف والتأخر إلى آخر هذه التهم المعلبة الجاهزة التي لم تعد تنطلي إلى على السفلة والرعاع؛ أقول: في الوقت الذي يمارس فيه الإعلام الغربي هذا اللون القذر من ألوان الإرهاب الفكري، شاء الله جل وعلا أن تسقط ورقة السوء، وأن تتمزق خيوط العنكبوت التي طالما وارى بها النظام الغربي والأمريكي عوراته الغليظة، سقطت ورقة التوت، وتمزقت خيوط العنكبوت يوم أن قرر داعر البيت الأبيض بل كلنتون -الذي شاء الله أن يفضحه على رءوس الأشهاد ليغطي على أنباء فضيحته في أنحاء الدنيا- ضرب السودان وأفغانستان، لماذا؟ بحجة محاربة الإرهاب، إنا لله وإنا إليه راجعون، والذي فعلته زعيمة العالم في الإرهاب أمريكا ليس من الإرهاب في شيء، فـ: قتل امرئ في غابة جريمة لا تغتفر وقتل شعب آمن مسألة فيها نظر ويقطع الإرسال الإعلامي العالمي ليخرج علينا إرهابي البيت الأبيض، ليزف إلى العالم الغربي والعربي والإسلامي المهزوم نبأ الغارات الجوية على السودان وأفغانستان، بنفس الطريقة التي خرج بها على العالم من قبله سلفه جورج بوش ليزف للعالم نبأ فتح العراق، وبنفس الطريقة التي خرج بها سلفهما ريجن ليزف للعالم نبأ الغارات الجوية على ليبيا. مسلسل متكرر، مسلسل متصل والضحايا من الموحدين لله جل وعلا، من المسلمين الذين أصبحت دماؤهم أرخص دماء على وجه الأرض ولا حول ولا قوة إلا بالله! يضرب السودان ذلكم البلد الإسلامي الوديع الآمن، وجريمته أنه قال لشرع الله: على العين والرأس سمعنا وأطعنا، جريمة السودان أنه أعلن تطبيق شرع الله، جريمة السودان أنه رفض الهيمنة الأمريكية، ورفض أن يذوب في السياسة الغربية الأمريكية وقال لشرع الله: سمعاً وطاعة، وقال للنظام الشرقي الملحد وللقانون الغربي الكافر: لا لا، وردد مع المؤمنين الأولين: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير. يفرض الحصار الاقتصادي على السودان، بل وحاول الغرب وعلى رأسه أمريكا أن يدخل مصر والسودان في صراع دموي قاتل لصالح العالم الغربي والأمريكي، ولكن الله سلم، وتعاملت مصر -وأسأل الله أن يحفظها بحفظه- مع الكيد الغربي الشيطاني بغاية الحكمة والذكاء. ويضرب أفغانستان ذلكم البلد الإسلامي الشامخ الذي مرغ أنف الدب الروسي الغبي في التراب والطين، يوم أن رفع أبناؤه راية الجهاد في سبيل الله، فلما تخلوا عن راية الجهاد في سبيل الله وقع ما نعلمه فيما بينهم، وهذه سنة ربانية لا تتبدل ولا تتغير، ليعلم الجميع أن الله لن ينصر إلا من نصر دينه، فإن نصبت نفسك وحرصت على كرسي زائل ومنصب فانٍ وكل الله الجميع إلى بعضهم البعض، فلولا أن أهل أفغانستان رفعوا راية الجهاد في سبيل الله جل وعلا لما وضعوا أنف الدب الروسي الغبي الوقح في الوحل والطين والتراب.

من هو الإرهابي الحقيقي

من هو الإرهابي الحقيقي تضرب السودان وأفغانستان بحجة محاربة الإرهاب، وما جعلته زعيمة الإرهاب من ذبح للسودان وأفغانستان بالصواريخ والطائرات ليس من الإرهاب في شيء ما دام هذا السفك بأيد أمريكية، وما دام الحصار يفرض على العراق وعلى ليبيا وعلى الصومال بأيد أمريكية، فما دام القول والفعل من نصف العالم الآن الذي يخون بيده الخبيثة الطويلة الآثمة كل مسلم هنا وهنالك على مرأى ومسمع من العالم الغربي، وعلى مرأى ومسمع من العالم الإسلامي المهزوم، ما دام هذا الصنيع على يد الأمريكان فلا يعد من الإرهاب في شيء، ولا ينبغي لرجل عاقل أن يصف هذا القول والفعل بالإرهاب والتطرف. أما إن تكلم مسلم كلمة يذب بها عن دين الله، ويبين بها الإرهاب الغربي فهو الذي يوصف بالإرهاب، كما يسم الإرهاب الغربي المسلمين في كل مكان بالتطرف والأصولية والإرهاب والوحشية، والبربرية والجمود، والرجعية والتأخر إلى آخر هذه التهم المعلبة، يقتل عشرات الآلاف من الأفغان، وفي كل عام يقتل ما يزيد على خمسين ألف طفل من العراق، لماذا؟ لأن النظام الغربي وعلى رأسه أمريكا يفرض حصاراً اقتصادياً على العراق وعلى ليبيا وعلى السودان وعلى الصومال! لماذا لا يقال بأن هذا هو الإرهاب الحقيقي؟ لماذا لا يقال بأن هذا هو التطرف الحقيقي؟ أين مجلس الأمن الذي يتبجح كل يوم بوجود تطبيق القرارات على العراق، مع أنه هو الذي أصدر ما يزيد على خمسين قراراً في حق إسرائيل، ومع ذلك لم يطالب مجلس الأمن مطالبة عملية واقعية أن تطبق إسرائيل قراراً واحداً من هذه القرارات؟! وسنرى أن الإرهاب اليهودي الآن قد استطال في أرض فلسطين وفي جنوب لبنان وفي هضبة الجولان، فأين أمريكا من هذا الإرهاب اليهودي؟ أين مجلس الأمن؟ وأين أمريكا التي تقول: إننا سنحارب الإرهاب في كل مكان؟! لماذا لا تكف إرهابها عن العالم العربي والإسلامي؟ وأين مجلس الأمن؟ وأين المنظمة العالمية لحقوق الإنسان؟ أين النظام العالمي؟ أما له أثر، ألم تنعق به الأبواق! أين السلام العالمي؟ لقد بدا كذب السلام وزاغت الأحداق يا مجلس الأمن المخيف إلى متى؟! يا مجلس الأمن المخيف الذي في ظله قد ضيع الميثاق يا مجلس الأمن المخيف أوما يحركك الذي يجري لنا أوما يثيرك جرحنا الدفاق وحشية يقف الخيال أمامها متضائلاً وتمجها الأذواق يا مسلمون: أنادي كل علمانيي العرب في الأمة كلها أن يقفوا الآن على حقيقة الإرهاب، وأن يقفوا على حقيقة التطرف، وأن يعلموا من هم الإرهابيون الحقيقيون، وأن يعرفوا لله حقيقة الغرب، هذا هو الغرب الذي لا يكيل بمكيالين كما يريد العلمانيون أن يقنعوا أمثالنا، فالغرب لا يكيل إلا بمكيال واحد، إنه مكيال العداء للإسلام، ولمحمد عليه الصلاة والسلام، هذه حقيقة يجب أن تستقر في قلوبنا، وفي قلوب أبنائنا وبناتنا ونسائنا، الغرب لا يكيل إلا بمكيال واحد، إنه مكيال العداء للإسلام قالوا لنا ما الغرب قلت صناعة وسياحة ومظاهر تغرينا لكنه خاوٍ من الإيمان لا ير عى ضعيفاً أو يسر حزينا الغرب مقبرة المبادئ لم يزل يرمي بسهم المغريات الدينا الغرب مقبرة العدالة كلما رفعت يد أبدى لها السكينا الغرب يكفر بالسلام وإنما بسلامه الموهوم يستهوينا الغرب يحمل خنجراً ورصاصة فعلام يحمل قومنا الزيتونا كفر وإسلام فأنى يلتقي هذا بذلك أيها اللاهونا أنا لا ألوم الكفر في تخطيطه ولكن ألوم المسلم المسجونا وألوم أمتنا التي رحلت على درب الخضوع ترافق التنينا وألوم فينا نخوة لم تنطفئ إلا لتضربنا على أيدينا يا مجلس الأمن المخيف إلى متى تبقى لتجار الحروب رهينا وإلى متى ترضى بسلب حقوقنا منا وتطلبنا ولا تعطينا لعبت بك الدول الكبار فصرت في ميدانهن اللاعب الميمونا يا مجلساً غدا في زي عالمنا مرضاً خفياً يشبه الطاعونا شكراً -لمجلس الأمن- لقد أبرزت وجه حضارة غربية لبس القناع سنينا شكراً لقد نبهت غافل قومنا وجعلت شك الواهمين يقينا يا مجلس الأمن انتظر إسلامنا سيريك ميزان الهدى ويرينا إني أراك على شفير نهاية ستصير تحت ركامها مدفونا إن كنت في شك فسل فرعون عن غرق وسل عن خسفه قارونا

إرهاب تباشره أمريكا

إرهاب تباشره أمريكا أين المنظمات العالمية من الإرهاب الأمريكي ومن الإرهاب الغربي الذي يمارس بكل وحشية وعنجهية واستعلاء، في الوقت الذي يفرض فيه الإعلام الغربي غطاءً من خيوط العنكبوت على أن المسلمين هم أهل الإرهاب وهم أصل التطرف، وهم زعماء التطرف والإرهاب في العالم؟! يا مسلمون! أدركوا من الذي أباد هيروشيما ونجازاكي بالقنابل النووية. هل هم المسلمون أم أمريكا؟! من الذي أباد شعب الهنود الحمر: المسلمون أم أمريكا؟! من الذي فرض الحصار الاقتصادي وقتل عشرات الآلاف من أنصار المسلمين في العراق وليبيا: المسلمون أم أمريكا؟! من الذي ضرب السودان وضرب مصنع الدواء الذي يخرج هذا الدواء للفقراء والجياع: المسلمون أم أمريكا؟! من الذي حاصر السودان من أجل السيطرة على منابع النيل لتصل مياه النيل إلى إسرائيل: المسلمون أم أمريكا؟ فلنفق، يجب أن يفيق كل مسلم، ولتعلم أمريكا أن المسلمين أصبحوا الآن يعلمون كل شيء، ويعرفون كل شيء، لقد انتقل جل المسلمين من مرحلة أزمة الوعي إلى مرحلة وعي الأزمة. أيها المسلمون! لا بد أن نتساءل إذا كانت أمريكا تعلن حرب الإرهاب في أنحاء العالم فلماذا لم تحارب أمريكا إرهاب اليهود في في الأرض المقدسة؟! لماذا لم تحارب أمريكا رائدة العالم الغربي الإرهاب اليهودي في فلسطين وفي لبنان وفي الجولان؟ إن نتنياهو يضرب بكل الأعراف والقوانين والمواثيق الدولية عرض الحائط، حتى المبادرة الأمريكية الأخيرة للسلام رفضها، ولم يحترم قانوناً ولا ميثاقاً، ولا نظاماً عالمياً ولا دولياً، وراح ليؤكد بناء المستوطنات اليهودية في الجولان، وفي الخليج، وفي القدس، يريد أن يغير هوية المدينة المقدسة بأي سبيل، ويعربد في المنطقة كلها كيف شاء، أين رائدة الحضارة الغربية من الإرهاب والتطرف اليهودي؟ وأين هي من عربدة نتنياهو؟ ولله در القائل: عربد كما شئت يا هذا النتنياهو ما عاد في البيت مرب فتخشاه ما ضر لو تحتسي في الصبح قهوتنا على الأريكة في كبر عهدناه ما ضر لو تسرق الأنفاس من رئتي وتستبي حلماً في الليل أحياه ما ضر لو توأد الأشعار إن صرخت وتكنس البحر لو يفضي بمثواه لا تخش من سيفنا فالسيف قد صدئت أنصاله فانزوى والغمد واراه ما عاد كالأمس مزهواً بصنعته فآثر الخلد والتذكار سلواه أما الجواد الذي قد كنت تحسبه متن السباق إذا المضمار ناداه فقد تخلى عن الميدان منهزماً فعاد منسحباً والعجز أعياه وأمتي لا تخف منها فقد هرمت والشيب في رأسها قد خط مجراه حليبها لم يعد يروي لنا ظمئاً فضرعها جف مذ ماتت خلاياه عربد كما شئت يا هذا النتنياهو فأمتي تعشق الشجب وتهواه إن عم خطب بها فالكل ألسنة للشجب يا صاحبي والكل أفواه يا أمة عجزها قد صار قائدها وضعفها لم يعد في الدرب إلا هو يا أمة في خليط العمر نائمة تلوك ماض لها في القبر مثواه هانت على نفسها فاستعدمت وونت وسلمت كنزها للص يرعاه آسادها روضت في الأسر طائعة فأسدها دون أسد الأرض أشياه يا قدس هذا زمان الليل فاصطبري فالصبح من رحم الظلماء مسراه يا قدس لا تقلقي فالحق منتصر وصاحب الحق ليس يرده الله ما دام في القلب دين قد حفظناه وفي اليمين كتاب ما تركناه

الإرهاب الصربي

الإرهاب الصربي أين رائدة العالم الغربي من الإرهاب اليهودي، من التطرف اليهودي في الأرض المقدسة في الجولان في جنوب لبنان، ثم أين رائدة العالم الغربي أمريكا التي ستحارب الإرهاب في كل أنحاء العالم؟ أين هي من الإرهاب الصربي من التطرف الصربي؟ إن الصرب منذ سنوات يبيدون المسلمين في البوسنة وكوسوفو إبادة جماعية، نرى تطهيراً عرقياً واسع النطاق، ونرى ذبحاً للمسلمين كذبح الخراف، أين أمريكا؟ أين مجلس الأمن؟ أين هيئة الأمم؟ أين المنظمة العالمية لحقوق الإنسان من التطهير العرقي والإبادة الجماعية في البوسنة وكوسوفو إلى يومنا هذا؟ كوسوفو تباد والعالم كله خسة وخيانة ونفاق كوسوفو من دولة المجد عثمان أبوها والفاتح العملاق كوسوفو من قلب مكة بالتوحيد يعلو لواؤها الخفاق تركوها وحولها من كلاب الصرب طوق من خلفه أطواق قدمتها الصلبان للصرب قرباناً وللصرب كلهم عشاق ووالله لو فعلنا بالصرب ما فعلوه لرأينا مثل الذي رآه العراق أين رائدة الحضارة الغربية التي ستحارب الإرهاب في كل مكان في العالم، ولكنها لا تحارب إلا الإسلام والمسلمين ونحن نعلم ذلك مهما فرض الإعلام الغربي غطاءً هشاً من خيوط العنكبوت على الممارسات الإرهابية المتطرفة للعالم الغربي وعلى رأسه أمريكا. الصرب يذبحون المسلمين ذبح الخراف، وينطلقون ليحولوا ملحمتهم الشعرية التي تسمى بإكليل الجبل، إلى واقع عملي، تقول الملحمة الصربية: (سلك المسلمون طريق الشيطان، دنسوا الأرض ملئوها رجساً، فلنعد للأرض خصوبتها، ولنطهرها من تلك الأوساخ، ولنبصق على القرآن، ولنقطع رأس كل من يؤمن بدين الكلاب ويتبع محمداً، فليذهب غير مأسوف عليه)، هذه الملحمة الصربية القذرة التي انطلق الصرب ليحولوا كلماتها الخبيثة إلى واقع عملي، فأين رائدة الحضارة الغربية من هذا الإرهاب الفكري والعسكري والاقتصادي والنفسي الذي يمارس على المسلمين في البوسنة في كوسوفو في العراق في ليبيا في السودان في أفغانستان في الصومال في كشمير على أيدي عباد البقر. ففي كل بلد على الإسلام دائرة ينهد من هولها رضوى وثهلان ذبح وصلب وتقتيل بإخوتنا كما أعدت لتشفي الحقد نيران يستصرخون ذوي الإيمان عاطفة فلم يغثهم بيوم الروع أعوان فهل هذه غيرة أم هذه ضيعة للكفر ذكر وللإسلام نسيان

لماذا لا تحارب أمريكا التطرف اليهودي

لماذا لا تحارب أمريكا التطرف اليهودي وإذا سألتموني: لماذا لم تحارب أمريكا التطرف اليهودي والإرهاب الصربي في كل أنحاء العالم؟ سأجيب على حضراتكم بكلمات قليلة وأقول: لأن الكفر ملة واحدة، وبكل أسف لقد بين لنا ربنا في قرآننا الذي يتلى على مسامعنا في الليل والنهار، بين لنا عقيدة القوم، تدبر قول الله جل وعلا: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]؛ لكننا -بكل أسف- منا من لا يصدق ربنا جل وعلا، إن صدق بلسانه فإن قلبه يكذب وإن واقعه ينكر. وقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51]، وقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران:118]، وقال جل وعلا: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ} [البقرة:109]، وقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة:1]. آيات كثيرة يبين الله فيها خطر عقيدة الكفر، وأن عقيدة الكفر واحدة، وأن ملة الكفر واحدة في كل زمان وكل مكان.

صور مشرقة للتسامح الإسلامي

صور مشرقة للتسامح الإسلامي وفي مقابل هذه الصور المخزية للإرهاب الغربي أؤكد لرائدة الحضارة الغربية أمريكا وللعالم الغربي -وتمنيت من كل قلبي أن لو أسمعت العالم الغربي كله هذه الكلمات- أن الإسلام دين الأمن، دين التسامح، دين لا يقر الإرهاب مهما كان لونه ومهما كان زمانه، ومهما كان مكانه ومهما كان جنسه، لا يقر الإسلام إرهاباً ولا تطرفاً على الإطلاق من أي جنس كان، وفي أي زمان كان، وفي أي مكان كان، بل أنا أؤكد للغرب وللمسلمين وللعلمانيين العرب بصفة خاصة أن اليهود والنصارى ما ذاقوا نعمة الأمن والأمان والاستقرار إلا في كنف دين محمد بن عبد الله إلا في ظلال الإسلام، ولا زالت صفحات التاريخ مفتوحة بين أيدينا. فلنرجع إلى التاريخ لنقرؤه، ولنرى أن الإسلام العظيم قد جعل الناس جميعاً في كل أنحاء الأرض سواء لا اختلاف ولا تمايز بينهم إلا بالتقوى والعمل الصالح، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13]، وهذا هو عنصرنا الثاني: (صور مشرقة للتسامح الإسلامي). اسمع إلى خطبة الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم، كما في الحديث الذي رواه أحمد والبيهقي بسند صحيح من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (خطبنا رسول الله في وسط أيام التشريق خطبة الوداع، وكان من بين ما قاله المصطفى: أيها الناس! ألا إن ربكم واحد، ألا إن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى، {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]). هل طبق الإسلام هذه المناهج العظيمة، أم أن الإسلام قد جعلها مناهج نظرية باهتة باردة؟ لا، اقرءوا التاريخ لتروا أن الإسلام قد حول هذه المبادئ السامية إلى واقع يتألق سمواً وروعة وعظمة وجلالاً.

أمان عمر بن الخطاب لأهل إيليا

أمان عمر بن الخطاب لأهل إيليا هذا فاروق الأمة عمر بن الخطاب الذي خرج من المدينة ليتسلم مفاتيح بيت المقدس، وجاء عمر بن الخطاب في موكب مهيب لكنه يتكون من رجلين اثنين، من عمر وخادمه، على ظهر دابة واحدة، يركب فاروق الأمة تارة، وينزل ليركب خادمه تارة أخرى، وينزل الخادم لتمشي الدابة وحدها تارة ثالثة. وما أن وصل عمر إلى بيت المقدس إلا وكانت النوبة لخادمه، فأصر الخادم أن ينزل ليركب أمير المؤمنين، فرفض عمر وركب الخادم، وانطلق عمر بن الخطاب ليجر الدابة لخادمه وهو أمير المؤمنين، فلما أقبل أبو عبيدة بن الجراح قائد الجيوش في القدس في بلاد فلسطين ورأى عمر بن الخطاب يفعل ذلك قال: يا أمير المؤمنين! والله ما أحب أن القوم قد استكرهوك، لا أحب أن يراك القوم وأنت بهذه الحالة، وأنت في طريقك لاستلام مفاتيح بيت المقدس، فالتفت فاروق الأمة القوي إلى أبي عبيدة فقال: (أوه يا أبا عبيدة لو يقولها غيرك! يا أبا عبيدة! لقد كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله). ويقف عمر بن الخطاب أمام بيت المقدس على أرض فلسطين ليكتب لهم الأمان الذي يسمى في التاريخ بالعهدة العمرية، ماذا قال عمر؟ قال: (بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين أهل إيليا -أي: أهل بيت المقدس- من الأمان، أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم، فكنائسهم لا تسكن ولا تهدم، ومن أراد من أهل إيليا أن يخرج فعليه الأمان حتى يبلغ مأمنه، على ما في هذا العهد أقر عمر، فعليه ذمة الله ورسوله والخلفاء والمؤمنين). ووقع على هذا العهد العمري: خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وأبو عبيدة بن الجراح وعبد الرحمن بن عوف ومعاوية بن أبي سفيان، في العام الخامس عشر من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، أعطى عمر للنصارى أماناً على أموالهم وأنفسهم وكنائسهم.

صلاح الدين يرسل طبيبه لمعالجة عدوه

صلاح الدين يرسل طبيبه لمعالجة عدوه ولو رأينا وقرأنا ما فعله صلاح الدين الأيوبي يوم أن انتصر على الصليبيين في موقعة حطين، عاملهم معاملة سيظل التاريخ يقف أمامها وقفة إعجاب وإجلال وإكبار، كما صرح كتابهم هم من الشرق والغرب، لقد مرض ريتشارد قلب الأسد الذي كان قائداً قوياً عنيداً لـ صلاح الدين، فلما مرض أرسل له صلاح الدين الأيوبي طبيبه الخاص بدواء من عنده، هل في تاريخ الحضارات مثل ذلك؟

محمد الفاتح يعطي الأمان للنصارى

محمد الفاتح يعطي الأمان للنصارى ولما فتح البطل الشاب محمد الفاتح القسطنطينية ودخل كنيسة آياصوفيا العملاقة، ماذا فعل محمد الفاتح بالنصارى؟ أعطاهم الأمن والأمان، وعاشوا في كنف محمد الفاتح في ظلال الإسلام، وفي غاية الاستقرار.

عمر بن الخطاب يقتص للقبطي من محمد بن عمرو بن العاص

عمر بن الخطاب يقتص للقبطي من محمد بن عمرو بن العاص وكلكم يعلم قصة اليهودي الذي سرق درع علي، وكلكم يعلم قصة القبطي الذي سابق محمد بن عمرو بن العاص. قبطي من أرض مصر يسابق محمد بن عمرو بن العاص فيسبقه القبطي، فيضرب ابن والي مصر القبطي الضعيف، وهو يقول له: خذها وأنا ابن الأكرمين، ويتلقى القبطي الضربة من سوط محمد بن عمرو بن العاص، وينطلق على الفور إلى الأسد القابع في مدينة المصطفى، إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليدخل عليه المسجد النبوي وهو يقول: هذا مقام العائذ بك يا أمير المؤمنين! فيقول له عمر: من أنت؟ فيقول: أنا قبطي من أهل مصر. ما الذي جاء بك من مصر إلى المدينة؟ قال: سابقت محمد بن عمرو بن العاص فسبقته، فضربني بالسوط وهو يقول: خذها وأنا ابن الأكرمين، فقال له عمر: اجلس هنا، وأرسل مع البريد رسالة عاجلة كتب فيها: (من عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى والي مصر عمرو بن العاص، إن انتهيت من قراءة رسالتي فاركب إلي مع ولدك محمد). فيركب عمرو بن العاص مع ولده محمد ليدخل على عمر رضي الله عنه، فيقول عمر: أين القبطي؟ فيقول: هأنا يا أمير المؤمنين، فيقول: أقبل، خذ السوط واضرب ابن الأكرمين، قبطي يضرب ابن عمرو بن العاص! فيضربه، فيقول عمر: أدر السوط أو الدرة على صلعة عمرو بن العاص، فوالله ما ضربك ولده إلا بسلطان أبيه، فقال القبطي: لا يا أمير المؤمنين قد ضربت من ضربني، فقال عمر: والله لو ضربت عمرو ما حلنا بينك وبين ذلك، ثم التفت عمر إلى عمرو وقال قولته الخالدة: (يا عمرو! متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً). هل في حضارات الدنيا مثل هذا؟! هذا هو تسامح الإسلام العظيم.

قصة عمر بن عبد العزيز مع أهل سمرقند

قصة عمر بن عبد العزيز مع أهل سمرقند وأنا أعجب يوم أن فتح المسلمون سمرقند في عهد عمر بن عبد العزيز، وأرسل أهل سمرقند رسالة إلى عمر رضي الله عنه، وقالوا بأن الفتح الإسلامي لسمرقند فتح باطل؛ لأن الجيوش دخلت سمرقند عنوة، ولم تدعها إلى الإسلام، ولم تفرض عليها الجزية. فما كان من عمر بن عبد العزيز إلا أن يرسل إلى قاضي قضاة المسلمين ليحقق في هذا الأمر، ويرسل القاضي إلى عمر رضي الله عنه بأن الفتح الإسلامي لسمرقند فتح باطل، فيصدر عمر الأوامر إلى قائد الجيوش المسلمة في سمرقند بالانسحاب فوراً، ثم يدعو أهل سمرقند إلى الإسلام فإن أبوا فليفرضوا عليهم الجزية، فإن أبوا فالقتال! فلما خرج الجيش عن بكرة أبيه، خرج أهل سمرقند بين يدي الجيش الفاتح العظيم المنتصر على نفسه، وهم يقولون: نشهد أن لا إله إلا الله ونشهد أن محمداً رسول الله. هذه أخلاق الإسلام، وهذه أخلاق جنوده.

تعامل أبي عبيدة مع أهل حمص ودمشق

تعامل أبي عبيدة مع أهل حمص ودمشق ولما فتح الجيش الإسلامي حمص والعراق والشام، وعلم القادة بقيادة أبي عبيدة أن هرقل قد جمع لهم جيشاً جراراً، خرج القادة يخاطبون أهل دمشق وأهل حمص وقالوا لهم: لقد سمعنا أن هرقل قد جمع لنا جموعاً، وإننا لا نستطيع أن نحميكم وأن ندافع عنكم، وهذه جزيتكم التي دفعتموها لنا في مقابل حمايتكم. فلما رأى الناس ذلك من أهل حمص ومن أهل دمشق طارت عقولهم وخرجوا بين يدي الجيش المسلم يقولون: والله لعدلكم أحب إلينا من جور الروم وظلمهم، مع أنهم على دين واحد. إن الإسلام دين الأمن، دين التسامح، دين الأمان، وما ذاق اليهود والنصارى نعمة الأمن والاستقرار إلا في كنف الإسلام، وفي ظلال دين محمد عليه الصلاة والسلام. إخوتي الكرام: وأخيراً (لا تيأسوا من روح الله)؛ وأوفر الحديث عن هذا العنصر والذي يليه بعجالة إلى ما بعد جلسة الاستراحة، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

لا تيأسوا من روح الله

لا تيأسوا من روح الله الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام: أرى رياحاً عاتية من القنوط واليأس تجتاح نفوس كثير من المسلمين، فإن هذه الهزيمة النفسية وهذا اليأس والقنوط هل تعتقدون أن السبب كله منكم لأمريكا، أم أنه منكم ومن الخالق العظيم، يتصرف فيه كيف شاء؟ {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:26]. إخوتي الكرام، إن زعيمة الإرهاب في العالم، وإن العالم الغربي كله إلى جوار قدرة الله وقوته وعظمته ما هم إلا حشرات ستموت وستسقط كما سقطت الحشرات الشيوعية، ستسقط الحشرات الغربية كما سقطت الحشرات الشيوعية المركزية، لموعود الله جل وعلا، ولموعود الصادق الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم. أيها الإخوة: إذا كان الاستيلاء لأهل الإيمان سنة جارية ثابتة، فإن أخذ الله للظالمين سنة جارية ثابتة، {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102]، {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:6 - 14]. {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:1 - 5] أخذ الله للظالمين سنة ثابتة، وسنة جارية لا تتبدل ولا تتغير. يا إخوتي الكرام؛ أين فرعون الذي قال: أنا ربكم الأعلى، الذي قال: ما علمت لكم من إله غيري، الذي قال لقومه: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51]، فأجراها الله من فوقه؟! أين هامان؟ أين قارون؟ أين ثمود؟ أين عاد؟ أين الظالمون؟ بل أين التابعون لهم بالغي؟ أين من دوخوا الدنيا بسطوتهم وذكرهم في الورى ظلم وطغيان هل خلد الموت ذا عز لعزته أو هل نجا منه بالسلطان إنسان لا والذي خلق الأكوان من عدم الكل يفنى فلا إنس ولا جان لا تيأسوا من روح الله فإن جيل الله قادم! إن جيل الله قادم! هل تصدقون الله جل وعلا؟ هل تصدقون رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ اسمع لربك ونبيك، قال جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36]، وقال جل وعلا: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:8 - 9]، وقال جل وعلا: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21]. ويكفي أن نعلم أنه في نفس الأسبوع ابتلى الله أمريكا بإعصار مكلف لها مئات الملايين من الدولارات، اللهم إنا مغلوبون فانتصر لنا يا رب العالمين! الله جل وعلا يقول: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ} [يوسف:110]. ويذكرنا الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم فيقول كما في الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي من حديث ثوبان: (إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها)، وفي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وغيره من حديث حذيفة، قال عليه الصلاة والسلام: (تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً، فتكون فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرياً، فتكون فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة). وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم! يا عبد الله! ورائي يهودي تعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود). إخوتي الكرام: هل تعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حدد أرض المعركة؟ نعم، لقد حدد النبي صلى الله عليه وسلم أرض المعركة الفاصلة بين المسلمين واليهود، ففي رواية البزار بسند رجاله رجال الصحيح كما قال الهيثمي، أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أنتم شرقي الأردن وهم غربيه)، ولم تكن هناك يومئذ دولة تعرف بدولة الأردن، {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:3 - 5]. وفي الحديث الذي رواه أحمد وغيره بسند صحيح من حديث عبد الله بن عمرو قال: (سئل رسول الله يوماً: يا رسول الله! أي المدينتين تفتح أولاً: القسطنطينية أم روما؟ فقال الصادق الذي لا ينطق عن الهوى: القسطنطينية تفتح أولاً)، وأنتم تعلمون أن القسطنطينية قد فتحت على يد البطل الشاب محمد الفاتح بعد البشارة النبوية بثمانية قرون ونصف، ويبقى الشطر الآخر للبشارة النبوية وعد لا يخلف، ألا وهو فتح روما بإذن الله، وبموعود رسول الله صلى الله عليه وسلم.

طريق النجاة

طريق النجاة ولكن -أحبتي الكرام- هذا الأمل كما أقول ينبغي أن يدفعنا إلى العمل، وهذا هو عنصرنا الأخير من عناصر اللقاء: (طريق النجاة). طريق النجاة على مستوى الأمة أن ترجع الأمة إلى الله جل وعلا، وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعودة إلى القرآن والسنة ليست نافلة ولا اختياراً، بل إن الأمة أمام شرط الإسلام وحد الإيمان، قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]. ثم لترفع الأمة راية الجهاد في سبيل الله، فأنا أدين لله أنه لا شرف ولا عز للأمة إلا بالجهاد في سبيل الله، كما قال المصطفى: (إذا تبايعتم بالعينة، ورضيتم بالزرع، وتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد في سبيل الله؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم)، ثم لتلتقي وقد آن لها أن توحد الصف، وأن تلتقي على كلمة سواء، فإن العالم الآن لا يحترم إلا الأقوياء. والعمل على مستوى الأفراد: أن نصحح في قلوبنا من جديد عقيدة الولاء والبراء، وأن نعلم نساءنا وأنفسنا وأبناءنا وبناتنا من نوالي ومن نهادن، من نحب ومن نبغض، فهذه خطوة عملية حتمية على الطريق، ثم تحول الإسلام في حياتك إلى واقع عملي وإلى منهج حياة، وأن تحمل هم الدين في قلبك، وأن تتحرك ولو بكلمة طيبة، لتعبر عما بداخلك لنصرة هذا الدين العظيم. ثم لتنطلق في خطوة ثالثة حتمية، ألا وهي دعوة الغير إلى دين الله جل وعلا، وإلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجب علينا أيضاً -أيها المسلمون في كل مكان، يا من تستمعون إلي الآن! ويا من ستستمعون إلي عبر شريط الكاست- خطوة عملية يستطيعها كل مسلم: أن يعلن المقاطعة لجميع البضائع والمنتجات الأمريكية واليهودية، كلنا يستطيع ذلك في خطوة عملية دقيقة على الطريق، والله ستحدث أثراً، ولكننا -وللأسف- كل واحد منا يقول: ماذا أصنع أنا؟! وما قيمة دوري أنا؟! فيتخلى عن دوره، ويتخلى ذاك عن دوره، فلا يصبح للمسلمين أي دور. فخذ أنت على الطريق دوراً، وأنا وغيري، وأختي وأختك، وامرأتي وامرأتك، وولدي وولدك، لنعبر عن هذه الغضبة في صدورنا لله ولدين رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووالله ثم والله لو بصق المسلمون جميعاً على وجه الأرض بصقة في آن واحد لأغرقوا اليهود، لكن كل مسلم يقول: ما قيمة دوري أنا؟! وماذا أصنع أنا؟! افعل أي شيئاً، عبر عن هذا الدين، تحرك لهذا الدين، احمل هم الدين في قلبك، المهم أن تسأل نفسك ماذا قدمت لدين الله؟! وما الذي يجب عليك أن تبذله لدين الله جل وعلا؟! اللهم إني قد بلغت، اللهم فاشهد. اللهم اشف صدور قوم مؤمنين، اللهم اشف صدور قوم مؤمنين، اللهم اشف صدور قوم مؤمنين، يا ربنا! إنا مظلومون فانتصر، اللهم إنا مظلومون فانتصر، اللهم إنا مظلومون فانتصر، اللهم عليك باليهود والأمريكان، اللهم عليك باليهود والأمريكان، اللهم أرنا فيهم يوماً كيوم عاد وثمود، بقدرتك وعظمتك يا رب العالمين! اللهم إنا ضعفاء وأنت تعلم ضعفنا فقونا، اللهم ارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، واستر عيبنا، وفك أسرنا، وتول أمرنا، واختم بالصالحات أعمالنا، اللهم لا تدع لأحد منا في هذا الجمع ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا ميتاً لنا إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا رب العالمين! اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا شقياً ولا محروماً، اللهم اجعل مصر واحة للأمن والأمان، وجميع بلاد المسلمين، اللهم ارفع عن مصر الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم ارفع عن مصر الغلاء والوباء والبلاء وجميع بلاد المسلمين، اللهم انصر المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! واشف صدور قوم مؤمنين بنصرة الإسلام وعز الموحدين. أحبتي الكرام: هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه، وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون عليه إلى الجنة ويلقى به في جهنم، ولا أنسى أن أذكر الإخوة بالحق الذي عليهم لله جل وعلا، فلا تنسوا التبرع لهذا البيت المبارك، والله أسأل أن يجعل المال في أيدينا لا في قلوبنا، وأن يتقبل منا ومنكم جميعاً صالح الأعمال.

الطريق إلى القدس

الطريق إلى القدس لن تتحرر القدس إلا بعد تحقيق كلمة التوحيد، ثم توحيد الكلمة، والرجوع الكامل إلى دين الله، وتحكيم شريعة الله، وهذا من أعظم أسباب النصر والتمكين، وكذلك بالجهاد الشرعي؛ فإن ما أخذ بالقوة لا يُرد إلا بالقوة.

اهتمام العلماء والدعاة بجراح الأمة وآلامها

اهتمام العلماء والدعاة بجراح الأمة وآلامها الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء! وأيها الأخوة الأحباب الكرام الأعزاء! وطبتم جميعاً وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم الكريم جلا وعلا الذي جمعنا وإياكم في هذا البيت المبارك على طاعته أن يجمعنا وإياكم في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! أنا أكرر دائماً أنه لا ينبغي أن يكون العلماء والدعاة في وادٍ، وأن تكون الأمة بجراحها وآلامها في وادٍ آخر، ومن هذا المنطلق فإنني أستحي من الله جل وعلا أن أقف بين أيديكم وسط هذه الآلام والجراح دون أن أتكلم عن القدس الجريح؛ لذا فإن عنوان لقائنا هذا هو بعنوان: (الطريق إلى القدس). وكما تعودنا فسوف ينتظم الحديث معكم تحت هذا العنوان في العناصر التالية: أولاً: مؤامرة حقيرة قديمة حديثة. ثانياً: كلمة التوحيد قبل توحيد الكلمة. ثالثاً: نبذ الفرقة، وتوحيد الصف، وتحقيق معنى الأخوة في الله. رابعاً: التخلص من الوهن. خامساً: رفع راية الجهاد في سبيل الله. سادساً: الدعاء، وصدق اللجأ إلى الله جل وعلا. وأخيراً: المؤمنون الصادقون لا يعرفون لليأس طريقاً. فأعيروني القلوب والأسماع أيها الأحباب! فإن هذا اللقاء الآن من الأهمية والخطورة بمكان، والله أسأل أن يقر أعيننا بتحرير القدس الشريف؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.

مؤامرة حقيرة قديمة حديثة

مؤامرة حقيرة قديمة حديثة أيها الأخيار الكرام! إن الصراع بين الحق والباطل قديم بقدم الحياة على ظهر الأرض، والأيام دول كما قال الله جل وعلا: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140]، ولا زال هذا الإسلام العظيم منذ أن بزغ فجره واستفاض نوره مستهدفاً من قِبَلِ أعدائه الذين لا يتفقون على شئ قدر اتفاقهم على الكيد للإسلام، واستئصال شأفة المسلمين، ولا زال التحدي قائماً إلى يومنا هذا، بل وأعلن الأعداء بسفور ووضوح عن مؤامرتهم الحقيرة الرهيبة، فقبل أربعين سنة وقف رئيس وزراء إسرائيل (ابن غوريون) في هيئة الأمم بعد أن اعترف العالم كله بالُغدَّة السرطانية الخبيثة التي تسمى بدولة إسرائيل التي أعلن عن قيامها فوق الثرى الطاهر والأرض المباركة، فوق مسرى الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، وقف رئيس وزراء هذه الغدة السرطانية المدمرة ليعلن للعالم كله عقيدة اليهود في فلسطين، وأتمنى أن تعلم الأمة هذه العقيدة؛ لتعلم يقيناً أن اليهود لا يتكلمون في مؤتمرات ولا في مفاوضات إلا من خلال عقيدتهم المبدلة المحرفة المغيرة التي يعتنقونها، ويجلونها، ويحترمونها وهم على الباطل؛ في الوقت الذي تنكّر فيه أهل الحق للحق الذي من أجله خلق الله السموات والأرض!!! قال رئيس وزراء إسرائيل في اللحظات الأولى لميلاد دولة إسرائيل قبل أربعين سنة تقريباً بالحرف الواحد: قد لا يكون لنا في فلسطين حق من منطلق سياسي أو قانوني، ولكن لنا في فلسطين الحق من منطلق وأساس ديني، فهي أرض الميعاد التي وعدنا الله، وأعطانا الله إياها من النيل إلى الفرات، وإنه يجب الآن على كل يهودي أن يهاجر إلى أرض فلسطين، وعلى كل يهودي لا يهاجر اليوم إلى إسرائيل بعد إقامتها أن يعلم أنه مخالف للتوراة، وأنه يكفر كل يوم بالدين اليهودي!! ثم قال: لا معنى لفلسطين بدون القدس، ولا معنى للقدس بدون الهيكل، ولا معنى لقيام دولة إسرائيل بدون فلسطين!! وأقول: اعلموا يقيناً أن هذه عقيدة لا تتبدل ولا تتغير بتغير رؤساء الوزراء، وهذا ما أصله رئيس وزراء إسرائيل (نتنياهو) يوم أن نجح في الانتخابات الأخيرة وقال: لقد صَوَّت اليهود أخيراً للتوراة!! ثم قال بمنتهى الوضوح: لا مجال للحديث في أى مفاوضات عن تقسيم القدس، فإن القدس عاصمة أبدية لإسرائيل!! أيها الأحباب! هذه عقيدة لليهود، فالصراع بيننا وبين اليهود ليس صراع أرض وحدود. واعلم يقيناً أن اليهود ما تنازلوا عن (أريحا) إلا لأنهم يقرءون في التوراة المحرفة المبدلة قولة تقول: (ملعون من سكنها)، فما تنازلوا عنها إلا من أجل عقيدة يعتنقونها ويعتقدونها، أما القدس فلا. فمهما طالت المباحثات، ومهما جلسوا على مائدة المفاوضات؛ فلن يتخلى اليهود عن القدس أبداً، فهذه عقيدتهم التي يجلونها ويعتمدونها ويحترمونها، ولا مانع عند اليهود أن يبذلوا لها الدماء والأموال والرءوس، فإن صراعنا مع اليهود ليس صراع أرض وحدود، ولكن صراعنا معهم صراع عقيدة ووجود.

حقيقة اليهود

حقيقة اليهود أتمنى أن تصدِّق الأمة ربها، قال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران:118]، وقال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:109] فهذا قرآن ربنا يتلى علينا في الليل والنهار، فالصراع -أيها المسلمون- بيننا وبين اليهود ليس صراع أرض وحدود، ولكنه صراع عقيدة ووجود، وهذا كلام ربنا يتلى في الليل والنهار، وهذا كلام نبينا الصادق الذي لا ينطق عن الهوى بأبي هو وأمي صلى الله عليه وآله وسلم. أيها الإخوة! أدين الله جل وعلا على منبر رسوله أن للقدس طريقاً واحداً، ولن تصل الأمة إلى القدس إلا من خلاله ولو عاشت آلاف السنين، هذا الطريق وَضَّحَ الله في القرآن معالمه وحدوده، فلو ظلت الأمة ألف سنة بعيدة عن هذا الدرب وعن هذا الطريق فلن تستطيع أبداً أن تصل إلى القدس الشريف، فما هي معالم هذا الطريق؟ وما هي خطواته؟!

كلمة التوحيد قبل توحيد الكلمة

كلمة التوحيد قبل توحيد الكلمة مستحيلٌ أن يحرر الأقصى جيل لم يعرف الله، وأتحدى من يقول بغير ذلك، فكيف يحرر الأقصى جيل تحدى الله، وحادَّ شرع الله، وانحرف بعيداً عن منهج الله جل وعلا؟!! فتح بيت المقدس عمر بن الخطاب الذي جاء متذللاً متضرعاً خاشعاً لله، وجاء من المدينة إلى أرض فلسطين وهو يتلو قرآن ربه جل وعلا، أما اليوم فإن الأمة قد نحت قرآن الله، وتحدت شريعة الله جل وعلا، فـ عمر فتح القدس، واستلم المفاتيح؛ لأنه جاء وقد أحنى رأسه ذلاًّ لله، وتواضعاً لله جل وعلا، جاء في ركب متواضع، على ظهر دابة واحدة مع خادمه فقط، جاء وهو يتلو كتاب الله، وهنالك في القدس قابله قائد الجيوش أبو عبيدة رضي الله عنه، وكانت الكرة لخادم عمر، فلقد كان عمر يركب على ظهر الدابة مرة وهو يقرأ سورة يس، وينزل من على ظهرها مرة ليركب الخادم وأمير المؤمنين يمشي على قدميه ويقرأ الخادم السورة مرة، ويترك الأمير والخادم الدابة مرة لتستريح، بهذه القلوب تحررت القدس، وبهذه القلوب تحرر الأقصى. وأمام القدس المبارك وفي الأرض الطاهرة يمر عمر بن الخطاب بدابته على مخاضة -بركة ماء- فينزل الفاروق من على ظهر الدابة، فيلتفت إليه قائد الجند أبو عبيدة أمين الأمة ويقول: (يا أمير المؤمنين! والله! ما أحب أن القوم قد استشرفوك، ولا أحب أن يراك القوم وأنت على هذه الحالة). فقال فاروق الأمة: (آهٍ يا أبا عبيدة! لو غيرك قالها؛ لقد كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العز في غيره أذلنا الله!!) كلمات نرددها ونسمعها، ولكنها والله! ما صادفت القلوب، ولكنها والله! ما تمكنت من القلوب، لقد كنا أذل قوم، كنا رعاة للإبل والغنم فأعزنا الله، بماذا؟ بالإسلام، فمهما ابتغينا العز في غيره أذلنا الله. ويوم أن تحرر قلب صلاح الدين انطلق ليحرر الأقصى الكريم، قيل له: يا صلاح الدين! لماذا لم تُر مبتسماً؟ لماذا لا تبتسم؟!! فقال صلاح الدين: (والله! لن أبتسم والقدس في أيدى الصليبيين!!!) إنها القلوب التى عرفت ربها جل وعلا، وجاءت مذعنة منقادة إلى الله، فذلل الله لها الأرض، بل وأنزل الله لها الملائكة، وأنا لا أتصور أبداً أن ينزل الله الملائكة الآن لأمة نحت كتاب الله، وانحرفت في عقيدتها، ولا أتصور أن يقذف الله الرعب في قلوب أعدائها في هذه الأيام. أيها الأخيار الكرام! كلمة التوحيد قبل توحيد الكلمة أمر مهم. وقد سعدت القلوب لقرار الجامعة العربية -ومع أننا نعلم أنه كلام نظري، لكنها كلمة طيبة- حيث التقى فيها العرب على لسان رجل واحد، فأفزعت هذه الكلمة العالم كله، وزعزعت مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية، وصارت تتعجب وتقول: كيف تجرأت الجامعة أن تتخذ هذا القرار؟! وهو مجرد قرار اتخذته الجامعة فقط، ومع ذلك فزعت أمريكا، وفزع العالم، فما ظنك لو أن هذه الأمة قد التقت قبل ذلك على كلمة (لا إله إلا الله) قبل أن تتوحد كلمتها، فلن تتوحد كلمتها إلا إذا التقت قلوب أبنائها على كلمة التوحيد، على كلمة (لا إله إلا الله).

تصحيح العقيدة هي الخطوة الأولى لتحرير القدس

تصحيح العقيدة هي الخطوة الأولى لتحرير القدس الذي ندين الله به يا شباب! أن الخطوة الأولى على طريق تحرير القدس هي تصحيح العقيدة، وتصحيح العبادة، وعودة الأمة إلى الله، وأنا أثق كل الثقة أن الأمة لو لم تمتثل إلا هذا البند، ولو لم تخط إلا هذه الخطوة؛ لالتقينا في الأقصى الكريم بموعود الله وبموعود رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالإسلام عقيدة تنبثق منها شريعة تنظم كل شئون الحياة، ولا يقبل الله من قوم عملاً إلا إذا صحت عقيدتهم، وحققوا كلمة التوحيد بشمولها وبكمالها. فالتوحيد هو: أن تصرف الأمة العبادة كاملة إلى الله. وكلمة التوحيد تلزم الأمة أن تحكم شريعة الله. وكلمة التوحيد تلزم الأمة بالموالاة لله ورسوله، فتوالي الأمة الله ورسوله والمؤمنين، وتتبرأ الأمة من الشرك والمشركين. قال الشاعر: أتحب أعداء الحبيب وتدعي حباً له ما ذاك في الإمكان وكذا تعادي جاهلاً أحبابه أين المحبة يا أخا الشيطان إن المحبة أن توافق من تحـ ـب على محبته بلا نقصان فإذا ادعيت له المحبة مع خلافك ما يحب فأنت ذو بهتان ولو صدقت الله فيما قلته لعاديت من بالله ويحك يكفر وواليت أهل الحق سراً وجهرة ولما تعاديهم وللكفر تنصر فما كل من قد قال ما قلت مسلم ولكن بأشراط هنالك تذكر مباينة الكفار في كل موطن بذا جاءنا النص الصحيح المقرر تصدع بالتوحيد بين ظهورهم وتدعوهم سراً لذاك وتجهر هذا هو الدين الحنيفي والهدى وملة إبراهيم لو كنت تشعر فكلمة التوحيد تستلزم أن ترجع الأمة إلى التوحيد بشموله وكماله، فالتوحيد ليس كلمة فحسب، بل كلمة باللسان، وتصديق بالجنان، وعمل بالجوارح والأركان، ففي صحيح مسلم من حديث أبى هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم). قال الحسن: ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن الإيمان ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال، فمن قال خيراً وعمل خيراً قُبِلَ منه، ومن قال خيراً وعمل شراً لم يقبل منه. فلابد من تصحيح العقيدة، وتصحيح العبادة، وتحكيم الشريعة، قال عز وجل {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65] هذه هي الخطوة الأولى بلا نزاع على طريق تحرير القدس، فلن يحرر القدس إلا رجل العقيدة الذي عرف قدر الله، وعظمة الله، وعلم يقيناً أنه كله لله، وامتثل عملياً قول الله سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163]. فلن يحرر القدس إلا رجل العقيدة الذي استقر في قلبه مفهوم الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، واستقر في قلبه مفهوم البراء من الشرك والمشركين، وراح يحول في قلبه وواقعه ومنهج حياته قول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51]

وجوب نبذ الفرقة، وتوحيد الصف، وتحقيق معنى الأخوة

وجوب نبذ الفرقة، وتوحيد الصف، وتحقيق معنى الأخوة الفرقة شر، والخلاف هزيمة وضعف، قال الله جل وعلا: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46] أي: تضيع قوتكم. واليهود ما تلاعبوا بالأمة، وضربوا الأمة بالنعال على أم رأسها إلا يوم أن علم اليهود يقيناً أن الأمة مبعثرة متشرذمة؛ إذ كل دولة في الأمة لا همّ لها إلا أن تحفظ حدودها، وإلا أن ترفع قوميتها ووطنيتها، فالأمة قد تمزقت إلى دويلات، بل وتفتت الدويلات هي الأخرى إلى دويلات!!! ودق العدو الفاجر مسماراً قذراً يسمى بمسمار الحدود بين الدول الاسلامية والعربية، فلا تكاد نار الفتنة على حد بين دولتين تهدأ وتخمد إلا ويطرق الأعداء على رأس هذا المسمار بقوة في مكان آخر؛ لتشتعل النار مرة أخرى بين بلدين عربيين مسلمين، فخلافات الأمة ممزقة، والعدو لا يحترم إلا القوي!! أول بروتوكول من بروتوكولات جبناء صهيون يقول: الحق مع القوة. وقال الإرهابي الكبير مناحيم بيجن: إننا نحارب، إذاً نحن موجودون، فالعالم لا يحترم الضعفاء! وهذا كلام واضح، فالعالم لا يحترم الضعفاء، العالم لا يحترم إلا الأقوياء، هذه هي عقيدة الغرب، ومخدوع من ظن أن الغرب لا يكيل بمكيالين، بل إنه مكيال واحد، إنه مكيال العداء في كل وقت وحين. قال الشاعر: قالوا لنا الغرب قلت صناعة وسياحة ومظاهر تغرينا لكنه خاو من الإيمان لا يرعى ضعيفاً أو يسر حزينا الغرب مقبرة العدالة كلما قطعت يد أبدى لها السكينا الغرب مقبرة المبادئ لم يزل يرمي بسهم المغريات الدينا الغرب يكفر بالسلام وإنما بسلامه الموهوم يستهوينا الغرب يحمل خنجراً ورصاصة فعلامَ يحمل قومنا الزيتونا كفر وإسلام فأنى يلتقي هذا بذلك أيها اللاهونا فلا أقول يكيل بمكيالين، بل يكيل بمكيال واحد، إنه مكيال العداء للإسلام، فالغرب يعلن كله: أنه بعد سقوط الشيوعية لم يعد لنا عدو إلا الإسلام، ولم يبق لنا في حلبة العداء إلا الإسلام! وهذا كلام معلن وصريح؛ فالعالم لا يحترم الضعفاء. وبمجرد أن التقت الدول العربية في الجامعة، وأصدرت قراراً واحداً؛ فزع العالم وخاف من قرار كلمة، وصرخت وزيرة الخارجية الأمريكية الخبيثة اليهودية وقالت: كيف تجرأت الجامعة واتخذت هذا القرار؟! فتوحيد الكلمة قوة، فلماذا لا تلتقي الأمة؟!! الأمة تعلم يقيناً أنه لا عز لها ولا كرامة إلا إذا تكلمت بلسان رجل واحد، وعلم الأعداء أنها التقت على قلب رجل واحد. قال العرب قولة في حرب العاشر من رمضان، فحولت تلك الكلمة موازين المعركة، وذلك يوم أن اتخذ العرب قرار منع البترول، فانقلبت الموازين وتحولت الدفة تماماً. فالمسلمون يعلمون يقيناً أنهم لو يتفقون على كلمة فسوف يفزع العالم كله. قال عز وجل: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر:14] فقلوبهم مملوءة بالفزع، فما على الأمة إلا أن توحد الصف، وأن تنبذ الفرقة والخلاف، وأن تحقق معنى الأخوة، كما قال عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]. فينبغي أن ترفض الأمة هذه النعرات، وأن تسقط هذه الرايات، وأن تعلي راية الإسلام وراية الأخوة، وأن تحقق قول الله جل وعلا: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] فهذه الأخوة هي التي ساوت بين سلمان الفارسي، وصهيب الرومي، وأبى ذر الغفاري، وحمزة القرشي، ومعاذ الأنصاري، وبلال الحبشي، إنها أخوة الدين، إنها أخوة العقيدة، فأخي ولو كان في أقصى الشرق والغرب هو من كان على الإسلام، وأخي ابن أمي وأبي لا أعرفه إن كان على غير الإسلام. أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم فالرابطة التي ربطت الأمة قديماً هي رابطة الإخاء في الله، كما قال صلى الله عليه وسلم: (أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله)، ولو عرفنا معنى هذه الأخوة لعلمنا أن لإخواننا في القدس وفى الشرق وفى الغرب حقوقاً علينا، ويجب علينا ألا نتنصل منها، وإلا فإن الأمة كلها آثمة إن تخلت عن هذه الحقوق، وضيعت هذه الواجبات. قال الله جل وعلا: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:10]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى). فلا كرامة للأمة إلا إذا وحَّدَتْ صَفَّهَا، ونزعت هذه الفرقة من قلوبها، وحققت معنى الأخوة الإيمانية؛ فإن رابطة العقيدة هي أعظم رباط، وهي أوثق صلة، وبدونها لا يمكن أبداً أن يحترم العالم كله هذه الأمة التي تبعثرت كتبعثر الغنم في الليلة الشاتية الممطرة.

وجوب العودة الصادقة إلى أخلاق هذا الدين

وجوب العودة الصادقة إلى أخلاق هذا الدين الأمة الآن بعيدة عن أخلاق محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، والقدس لن تُرد بالخطب الرنانة، ولا بالمواعظ البليغة المؤثرة، فنحن نخطب من عشرات السنين!! والزعماء يهتفون من مئات السنين؛ والأمة ذليلة، والقدس مأسور من عشرات السنين. فلن يعاد القدس بالخطب والمواعظ والمؤتمرات الكلامية فقط، وإنما بعودة الأمة إلى أخلاق دينها من جديد؛ لتحول الأمة هذا الدين في حياتها إلى واقع وإلى منهج حياة. وكل واحد منا مخاطب الآن بكل كلمة من هذا الكلام؛ فأنت مخاطب بتصحيح العقيدة، وبتصحيح العبادة، وبتحقيق الشريعة، على قدر استطاعتك في نفسك وفي غيرك إن تمكنت، وأن تلتقي الكلمة على لسان رجل واحد لتحكيم شرع الله جل وعلا، فوالله! لو صدقت القاعدة كلها وصارت تهتف بتحكيم شرع الله فلن تستطيع قوة أن تحول بين هذه القاعدة وبين شرع الله جل وعلا، لكن يجب على الأمة أن تهتف وأن تنطق وأن تتكلم وأن تتحرك، فكلنا مخاطب بهذا المنهج، فأنت على ثغر، وستسأل بين يدي الله ماذا فعلت؟ وماذا بذلت؟ وماذا قدمت؟ وإن رأى الله منك أنك قد بذلت على قدر استطاعتك، وعلى قدر ما تملك؛ فقد أعذرت إلى الله جل وعلا، قال سبحانه: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، وقال سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، وقال سبحانه: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7]، وقال سبحانه: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105]، فلست مكلفاً ومسئولاً عن النتيجة، وإنما أنت مسئول عن البذل والعمل على قدر استطاعتك، ودع النتائج بعد ذلك إلى الله الذي يعلم السر وأخفى. فلابد من العودة الصادقة إلى أخلاق هذا الدين، وقد يكون من اليسير أن نقدم منهجاً نظرياً في الأخلاق، وأن نقدم منهجاً نظرياً في التربية، ولكن هذا المنهج سيظل حبراً على ورق ما لم تحوله الأمة في حياتها إلى واقع عملي، وإلى منهج حياة، ولقد نجح المصطفى صلى الله عليه وسلم أن يقيم للإسلام دولة من فتات متناثر وفق جاهلية جهلاء، ووسط صحراء تموج بالكفر موجاً؛ يوم أن نجح في أن يطبع آلاف النسخ من المنهج التربوي الإسلامي، ولكنه لم يطبعها بالحبر على صحائف الورق، وإنما طبعها على صحائف القلوب بمداد من النور، فيجب على الأمة بكل أفرادها أن تعود من جديد إلى أخلاق هذا الدين.

وجوب التخلص من الوهن

وجوب التخلص من الوهن لابد من التخلص من الوهن الذي أذل الأمة، ووضع رأسها في الطين والتراب، قال النبي عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود من حديث ثوبان: (يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة على قصعتها، قالوا: أو من قلة نحن يومئذٍ يا رسول الله؟! قال: كلا! أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، وليوشكن الله أن ينزع المهابة من قلوب عدوكم، ويقذف في قلوبكم الوهن، قيل: وما الوهن يا رسول الله؟! قال: حب الدنيا وكراهية الموت). فالوهن الذي أذل الأمة هو حب الدنيا وكراهية الموت. إن الأمة الآن -إلا من رحم ربك- تعيش لشهواتها الحقيرة، ونزواتها الرخيصة، وكل لا هم له إلا أن يقضي شهواته ونزواته، وأصبح جل الأمة يردد: دع الملك للمالك، ودع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله، بل ومنهم من يقول: دع ما لله لقيصر، إنها سلبية قاتلة، فأحبوا الدنيا وكرهوا الموت، مع أن الموت قادم، ومحال أن يفلت مخلوق من الموت، فمهما طالت بك حياة فأنت راحل إلى الله، كما قال عز وجل: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء:77]. فإذا أمر الله إسرافيل بالنفخ في الصور نفخة الصعق مات كل حي على ظهر الأرض، بل مات حتى أهل السماء، وبقي الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، وكان آخراً كما كان أولاً، فهو الأول بلا ابتداء، وهو الآخر بلا انتهاء، كما قال عن نفسه: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد:3]، في هذه اللحظات، وفي وسط هذا السكون المهيب، ينطلق صوت جليل قريب يسأل صاحب الصوت ويجيب، فما من سائل ولا مجيب في الوجود يومئذ غيره، فبعد أن يقبض الأرض والسماوات بيمينه يهتف الملك جل وعلا بصوته ويقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يقول سبحانه: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16]. قال الشاعر: أين الظالمون وأين التابعون لهم في الغي بل أين فرعون وهامان أين من دوخوا الدنيا بسطوتهم وذكرهم في الورى ظلم وطغيان هل أبقى الموت ذا عز لعزته أو هل نجا منه ذو السلطان إنسان لا والذي خلق الأكوان من عدم الكل يفنى فلا إنس ولا جان الفارق بيننا وبين أصحاب النبي أنهم كانوا يبحثون وسط ميدان البطولة والشرف عن الشهادة، أما نحن الآن فإننا نبحث عن الحياة، ونبحث عن المعيشة، وركنا إلى الوهن والطين، إنه الوهن الذي أصاب الأمة بالذل والهوان، ولا كرامة ولا عزة لهذه الأمة إلا إذا تخلصت من هذا الوهن، إلا إذا تخلصت من حب الدنيا وكراهية الموت، وعلمت يقيناً أن الدنيا مهما طالت فهي قصيرة، ومهما عظمت فهي حقيرة، وأن الليل مهما طال لابد من طلوع الفجر، وأن العمر مهما طال لابد من دخول القبر، والتخلص من الوهن سيلزم الأمة برفع علم الجهاد.

الجهاد في سبيل الله فيه عز الأمة

الجهاد في سبيل الله فيه عز الأمة والله! لا كرامة ولا عز لهذه الأمة إلا إذا رفعت من جديد راية الجهاد في سبيل الله، وإن لم ترفع الأمة راية الجهاد الآن فمتى سترفعها؟ سعدنا كثيراً لما تقدم شيخ الأزهر مجموعة من الشباب، ورفع يديه كما رأينا على صفحات الجرائد والمجلات وهو يقول: حي على الجهاد! فما أحلاها من كلمة! وورب الكعبة! إن من شيوخ الأمة الآن قبل شبابها من يحترق قلبه شوقاً للجهاد في سبيل الله، ولو رفعت الأمة الراية لوجدنا من أبناء هذه الأمة من شيوخها، وشبابها، ورجالها، ونسائها، بل وأطفالها، من يسير على درب أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويريد أن يقدم روحه لله جل وعلا؛ لأنه يعلم يقيناً أنه لا عز لهذه الأمة إلا بالجهاد في سبيل الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا تبايعتم بالعينة، ورضيتم بالزرع، وتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد في سبيل الله؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم)، فلا عزة للأمة، ولا رفع لهذا الذل عنها إلا إذا رفعت الأمة راية الجهاد في سبيل الله. فما على الزعماء والرؤساء إلا أن يحققوا بنود هذا المنهج الرباني، وذلك بتصحيح العقيدة والعبادة، وتحكيم الشريعة، والعودة الصادقة إلى منهج الله ودينه، والتخلص من الوهن وحب الشهوات والنزوات الرخيصة، ثم ما عليهم بعد ذلك إلا أن يرفعوا راية الجهاد، وأن يعلنوا الجهاد في سبيل الله؛ وسيروا ملايين الشباب في هذه الأمة من أقصاها إلى أقصاها قد جاءوا جميعاً ويتمنى الواحد منهم أن يسد بجسمه فوهة مدافع أعداء الله؛ لتكون كلمة الله هي العليا. ونحن نعتقد اعتقاداً جازماً قول الصادق المصدوق لـ معاذ: (ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قال معاذ: بلى، يا رسول الله! قال الصادق المصدوق: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله).

أهمية الدعاء وصدق اللجأ إلى الله

أهمية الدعاء وصدق اللجأ إلى الله أتحتقرون الدعاء؟ أتستهينون بالدعاء؟ أتستهينون بصدق اللجأ إلى رب الأرض والسماء؟ بين يدي الآن عشرات الآلاف من الشباب، وأنا أسألكم: من منكم يدعو الله في كل سجدة أن يحرر الله الأقصى، وأن يفرج الكرب عن الأمة؟ كل يصدق الله في جوابه، مَنْ منكم يدعو الله في جوف الليل أن يفرج الكرب عن الأمة، وأن يعيد الأمة إلى الدين؟ فالدعاء سهام الليل، وهو أعظم سلاح نحارب به أعداء الله مع الأخذ بالأسباب التي ذكرت، فلست درويشاً أجهل الأسباب والواقع الذي أحياه، وإنما أعتقد اعتقاداً جازماً أن الأمة لو صدقت في اللجأ إلى الله، وقامت في جوف الليل، ولجأت إلى من بيده الأمر كله، وإلى من بيده الكون كله؛ لرأينا والله! العجب العجاب. فهل نسيتم احتراق الطائرتين ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان يوم أن ضجت القلوب وارتفعت الحناجر بالدعاء إلى علام الغيوب؟ إن الله يعلم ضعفنا، ويعلم أنه ما حبسنا إلا العذر، فقد قال المصطفى لأصحابه وهم في عودتهم من الغزو: (إن لكم إخواناً في المدينة، ما سلكتم شعباً ولا نزلتم وادياً إلا وهم معكم يشاركونكم الأجر، قالوا: كيف ذلك يا رسول الله؟! قال: حبسهم العذر). فالله يعلم الصادقين الذين حبسهم العذر فقاموا يتضرعون ويتذللون في جوف الليل بين يدي الله سبحانه، فاستجاب الله، واصطدمت الطائرتان اليهوديتان، وقتل ما يزيد عن أربعين جندياً وضابطاً من كبار ضباط الجيش اليهودي. فمن الذي صنع ذلك؟ إنه الله. وكذلك فيضان المسيسبي الذي دمر ولاية بكاملها في أمريكا، من الذي أمره؟ وإياكم وأن تسمعوا كلام عباد الطبيعة الذين يقولون بأن هذا من فعل الطبيعة!! إننا نعتقد أن الفيضانات والزلازل وكل هذه الأمور من جند الله العزيز الغفور، {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31]، فاصدقوا الله في الدعاء، وقوموا في جوف الليل، وتضرعوا إلى رب الأرض والسماء، وسيحول الله بالدعاء قلوباً، وسيغير الله بالدعاء أحوالاً، فالدعاء سهام الليل. كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: إنكم لا تنصرون بعتاد وعدد، وإنما تنصرون من السماء، فأنا لا أحمل همّ الإجابة، وإنما أحمل همّ الدعاء. فمن أُلهِم الدعاء فإن الإجابة معه. ونحن الآن لا نتضرع، ولا نتذلل، ولا نلجأ إلى الله سبحانه، بل عزفنا عن الدعاء، وتخلينا عن الدعاء، والتذلل لرب الأرض والسماء، ولم ندع الله أن يحول القلوب، وأن يغير الأحوال، وأن يبدل الأمور، وهو القادر وحده، فوالله! ليس لها إلا هو سبحانه. فقوموا في جوف الليل، وتضرعوا إلى الله سبحانه، فإن الله عز وجل يقول: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186]، ولكن قد يسألني سائل ويقول: منذ متى ونحن ندعو الله ولم يستجب الله دعاءنا؟!! و A في صحيح مسلم من حديث أبى هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم (ذكر الرجل أَشْعَثَ أَغْبَرَ يطيل السفر، يَمُدُّ يديه إلى السماء يقول: يارب! يارب! ومَطْعَمُهُ حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِيَ بَالحرام، فَأَنَّى يُستْجَاَبُ لذلك؟!). فعودة إلى المنهج الذي ذكرت، ورد في كتاب الزهد للإمام أحمد: أن بني إسرائيل خرجوا يجأرون إلى الله بالدعاء، فأوحى الله إلى نبيهم وقال: خرجتم تجأرون إليّ بالدعاء حين اشتد عليكم غضبي، ورفعتم إلي أكفاً سفكتم بها الدماء، وملأتم بها بيوتكم من الحرام، لن تزدادوا مني إلا بعداً. إن الدعاء له شروط لكي يُقبل ولكي يُستجاب، وشروطه أن نعود للمنهج الذي ذكرت. قالوا لـ إبراهيم بن أدهم: يا أبا إسحاق! مالنا ندعو الله فلا يستجيب لنا؟! قال: لأن قلوبكم قد ماتت بعدة أشياء. قالوا: ما هي؟ قال: عرفتم الله فلم تؤدوا حقوقه!! وزعمتم حب نبيه وتركتم سنته!! وقرأتم القرآن ولم تعملوا به!! وزعمتم أن الشيطان لكم عدو ولم تخالفوه!! وأكلتم نِعَمَ الله ولم تؤدوا شكرها!! وقلتم: إنَ الجنة حق ولم تعملوا لها!! وقلتم: إن النار حق ولم تهربوا منها!! وقلتم: إن الموت حق ولم تستعدوا له!! وانشغلتم بعيوب الناس ونسيتم عيوبكم!! ودفنتم موتاكم ولم تعتبروا بهم!! لقد ماتت القلوب! فكيف يستجيب علام الغيوب الدعاء من قلوب قد ماتت؟ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله تعالى لا يقبل الدعاء من قلب لاهٍ غافل)، فالأصل أن تحيا القلوب، وأن تعود من جديد إلى علام الغيوب. يا إخوة! أدين الله جل وعلا بين أيديكم أن الأقصى لن يحرر إلا بهذا المنهج ولو عاشت الأمة آلاف السنين، فلابد من تصحيح العقيدة، وتصحيح العبادة، وتحكيم الشريعة، والعودة الجادة إلى أخلاق محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، ونبذ الفرقة وتوحيد الصف، وتحقيق معنى الأخوة في الله جل وعلا، والتخلص من الوهن، وبعد ذلك يجب على الأمة أن ترفع راية الجهاد في سبيل الله، وأن تتضرع إلى الله جل وعلا بأن ينصرها، وأن يقذف الرعب في قلوب أعدائها، إن هذا هو الطريق، فلو عاشت الأمة ألف سنة فلن تصل إلى الأقصى ما دامت الأمة بعيدة عن الله، وما دامت الأمة تتحدى شريعة الله، وما دامت الأمة قد انحرفت عن أخلاق رسول الله! وما دامت الأمة تحارب الأطهار من رجالها ونسائها وشبابها، وما دامت الأمة تتحدى شرع العزيز الغفار. فوالله الذي لا إله غيره! لا كرامة للأمة ولا عزة ولا سيادة ولا بقاء؛ وستظل الأمة تُضرب بالنعال على رأسها؛ ما لم تتب إلى الله، وما لم ترجع إلى الله. فهيا أيها المسلمون الأخيار! ليكن كل منا على ثغر، فابدأ بنفسك، واعذر نفسك بين يدي الله جل وعلا، واعلم بأنك مسئول عن هذا الدين، فلا ينبغي أن تشهد لهم بلسانك فقط، وإنما بقلبك وأعمالك ودعوتك؛ ليرى الله أن قلبك يحترق لهذا الدين، ولهذه الأمة المسكينة التي ضاعت، قال عز وجل: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105]. أسأل الله جل وعلا أن يقر أعيننا وإياكم بنصرة الإسلام وعز الموحدين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

الغلبة للإسلام

الغلبة للإسلام الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام! لقد مر الإسلام بأزمات أحلك من هذه الأزمة وانتصر، فلا نيئس ولا نقنط، فإن الأعداء يريدون لنا اليأس من إمكانية التغيير حتى نظل سلبيين في أماكننا، مستسلمين لهذا الواقع المر الأليم. فيا شباب! لقد انتصر الإسلام على التتار، ولقد انتصر الإسلام على الصليبيين، ولقد انتصر الإسلام على المغول، ولقد حرر الإسلام الأرض من المستعمر البريطاني في مصر والسودان، ولقد حرر الإسلام الأرض من المستعمر الإيطالي في ليبيا وبلاد المغرب، لقد حرر الإسلام الأرض من المستعمر في كل وقت وحين يوم رفع المسلمون راية الإسلام. ولقد مر الإسلام والمسلمون بأزمات حالكة كما بينت ذلك في موضوع (الهزيمة النفسية)، ومع ذلك انتصر الإسلام، وهلك الكفار، وزال المنافقون والخائنون، وبقي الإسلام شامخاً، وسيبقى الإسلام شامخاً، وسيظل الإسلام شامخاً، ولن تستطيع قوة على ظهر الأرض أن تطفئ نور الله جل وعلا، فلابد أن ننطلق بهذا اليقين وبهذه الثقة بنصرة رب العالمين. والإسلام كدين وكمنهج لا تستطيع قوة أن تستأصل شأفته من على ظهر الأرض؛ لأنه الدين الخاتم، وقد وعد الله له بالتمكين والنصرة.

أهمية بث الأمل في قلوب الأمة

أهمية بث الأمل في قلوب الأمة أتمنى من إخواني الشيوخ والعلماء والدعاة وطلاب العلم أن يركزوا على جزئية بث الأمل في قلوب الأمة، وفي قلوب رجالها وشبابها حتى لا نقنط ولا نيئس ولا نقبع في أماكننا مستسلمين لهذا الواقع المرير، بل ننطلق بعزة واستعلاء وأمل في الله، وثقة في نصرة دين الله جل وعلا. أيها الداعية! حدد الدواء، واملأ قلوب شباب هذه الأمة أملاً ورجاء في رب الأرض والسماء، وثقة بنصرة دين الله جل وعلا، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون، فيختبئ اليهود وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم! يا عبد الله! ورائي يهودي تعال فاقتله)، وهأنذا أقسم ورب الكعبة! -لا أقول قولاً رجماً بالغيب، ولا أفتات على الله- أقول: إن كل العلامات الصغرى التي أخبر بها الصادق المصدوق قد وقعت على الكمال والتمام، وإن آخر هذه العلامات التي عتم عليها إعلامياً علامة عجيبة خطيرة، أخبر المصطفى الصادق عنها فقال: (لا تقوم الساعة حتى ينحسر نهر الفرات عن جبل من الذهب) فهل سمعتم عن هذا الخبر؟ لقد انحسر نهر الفرات عن جبل الذهب الذي أخبر عنه الصادق المصدوق، وعتم على هذا الخبر تماماً، ولم ينشر إلا في قصاصات صغيرة. وبكل أسف أقول: إن اليهود يعلمون صدق محمد بن عبد الله حيث قال: (إلا الغرقد فإنه من شجر يهود)، فهذا الشجر هو الوحيد الذي لن ينطق، وهم الآن يقومون بحملة واسعة لزراعة شجر الغرقد، بل يلزمون بعضهم بعضاً بزراعته وبالإكثار منه. وأقول: إن اليهود يصدقون رسول الله، ويعلمون أن هذا الوعد حق، في الوقت الذي كذب كثير ممن ينتسب إلى الإسلام الصادق المصدوق رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكل العلامات قد تحققت، وقد وقعت، ونحن ننتظر اليوم -الذي يعلمه الله- الذي تكون فيه هذه المعركة وهذه الجولة التي أسأل الله أن يشرفني وإياكم بأن نكون من جندها أو أن يكون أبناؤنا من جندها، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أيها الأحبة الكرام! الذي أدين الله به أن هذه الخطوات هي الخطوات المتلازمة المتتابعة الصحيحة التي من خلالها تصل الأمة إلى الأقصى وإلى القدس الشريف. أسأل الله جل وعلا أن يعجل بهذا اليوم، اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا، اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا، اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا. اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا. لا إله لنا سواك فندعوه، لا إله لنا سواك فندعوه، ولا رب لنا غيرك فنرجوه، ولا رب لنا غيرك فنرجوه، يا منقذ الغرقى! يا منقذ الغرقى! ويا منجي الهلكى! ويا سامع كل نجوى! يا عظيم الإحسان! يا عظيم الإحسان! يا عظيم الإحسان! يا دائم المعروف! يا دائم المعروف! يا دائم المعروف! يا قيوم السماوات والأرض! يا قيوم السماوات والأرض! يا مغيث! أغثنا، يا مغيث! أغثنا، اللهم ادفع الكرب عن أمة حبيبك محمد، اللهم ارفع الكرب عن أمة حبيبك محمد. اللهم إنا نشكو إليك ضعفنا، ونشكو إليك عذرنا، اللهم إنا نشهدك أن العذر قد حبسنا، اللهم إنا نشهدك أن العذر قد حبسنا، اللهم إنا نشهدك أن العذر قد حبسنا، اللهم ارحم صبرنا، اللهم ارحم صبرنا، واستر ضعفنا، واغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، وفرج كروبنا، واكشف همومنا. اللهم رد الأقصى إلينا رداً جميلاً، اللهم رد الأقصى إلينا رداً جميلاً، اللهم رد القدس إلينا رداً جميلاً. اللهم عليك باليهود، اللهم عليك باليهود، اللهم عليك باليهود، وأتباع اليهود، وأتباع اليهود، وأتباع اليهود، يا من نصرت الحبيب في بدر! يامن نصرت الحبيب في بدر! يامن نصرت المستضعفين يوم الأحزاب! انصرنا على اليهود. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين.

أحداث الواقع تتمخض لظهور الدين وتمكينه

أحداث الواقع تتمخض لظهور الدين وتمكينه إن كل أحداث الواقع تتمخض وتتبلور لظهور الدين من جديد، إنه العلو الأخير لليهود، وبعده يأتي عباد لله جل وعلا، أسأل الله أن نكون منهم، أو أن يكون أبناؤنا منهم، فكن واسع النظرة، ولا تكن ضيق النظرة، ولا تنظر تحت قدمك، ورب ولدك على ذلك. نظر الناس إلى معاوية وأمه تحمله، وعجبوا من ذكائه وقالوا: لو شب سيسود قومه، فقالت أمه: ثكلته إن لم يسد إلا قومه. تمنت له الموت إن لم يسد إلا قومه فقط، بل تمنت أن يسود الدنيا وأن يسود العالم، فلماذا لا تنظر أيها الوالد! لولدك هذه النظرة؟ ولماذا لا تنظرين يا أم! لولدك هذه النظرة؟ ولماذا لا نعد أجيالنا وأبناءنا ليكونوا من عباد الله الربانيين الذين وعدهم الله في قرآنه بالجولة الأخيرة على اليهود، إنه وعد قرآني لا نشك فيه البتة، قال الله سبحانه: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:8 - 9]. وقال سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55]. وقال الله جل وعلا: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:249]، وقال الله جل وعلا: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21]، وقال الله جل وعلا: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:110]، وقال الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36]. وقال الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى كما في الحديث الذي رواه الطبراني والحاكم وصححه الألباني من حديث تميم الداري أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ليبلغن هذا الأمر -أي: هذا الدين- ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر). وقال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد من حديث حذيفة بن اليمان: (تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً، فتكون فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرياً فتكون فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها -اسمع للصادق الذي لا ينطق عن الهوى، قال بعد الملك الجبري الذي تحياه الأمة الآن-: ثم تكون خلافة على منهاج النبوة) أسأل الله أن يُعجل بها.

الغفلة

الغفلة لا يخفى على الناظر في حال الأمة الإسلامية اليوم ما هي فيه من انغماس في الملذات والشهوات، وغفلة عن رب الأرض والسماوات، سادرة في غيها، لاهية لاعبة، معرضة عن أوامر الله مستخفة بشرعه، وقد حذرنا الرسول صلى الله عليه وسلم من هذا، وأوعدنا بالعقاب الشديد من الله، فيجب علينا الرجوع والإنابة إلى الله سبحانه وتعالى.

الغفلة عن الآخرة والانكباب على الدنيا

الغفلة عن الآخرة والانكباب على الدنيا الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحيَّاكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء! وأيها الإخوة الكرام الأعزاء! وطبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم الكريم جل وعلا الذي جمعنا في هذا الجمع الكريم المبارك على طاعته أن يجمعنا معكم مع سيد النبيين في الآخرة في جنته ودار كرامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! لقاؤنا مع حضراتكم في هذا اليوم الكريم المبارك، بعنوان: (الغفلة) وسوف ينتظم حديثنا مع حضراتكم تحت هذا العنوان في العناصر التالية: أولاً: التهالك على الدنيا والتغافل عن الآخرة. ثانياً: الاستخفاف بأوامر الله عز وجل. ثالثاً: الغفلة عن الغاية. وأخيراً: ففروا إلى الله. فأعيروني القلوب والأسماع، فإن هذا الموضوع بين يدي شهر رمضان من الأهمية بمكان، والله أسأل أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب. قال الله جل وعلا: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} [الأنبياء:1 - 3]. آيات تهز الغافلين هزاً، فالحساب قد اقترب والناس في غفلة!! وآيات الله تتلى، ولكنهم معرضون لا يأتمرون بأوامر الله عز وجل، ولا يقفون عند حدوده جل وعلا. إنك لو نظرت الآن إلى واقع كثير من المسلمين كاد قلبك أن ينخلع وكأن المسلم لا يعلم عن دين الله شيئاً ولا يعنيه أن يسمع قال الله، قال رسوله، فهو لا يعيش إلا لشهواته ونزواته الرخيصة، وكأنه نسي أنه سيعرض يوماً على الله جل وعلا ليسأل عن كل شيء، مصداقاً لقوله سبحانه: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8]. أيها المسلمون! أليس عجيباً أن يعرض المسلم عن الله؟! أليس عجيباً أن يتغافل المسلم عن لقاء مولاه وأن يقضي جل عمره في معصية الله جل وعلا؟!

النعمة مع الإقامة على المعصية استدراج ونقمة

النعمة مع الإقامة على المعصية استدراج ونقمة أيها الغافل! يا من شغلتك هذه الحياة! أنسيت لقاء الله عز وجل؟! أيها الأحبة! ها هو شهر رمضان قد أهل علينا بأنفاسه الخاشعة الزكية، ولا زال كثير من المسلمين في غيه وإعراضه وضنكه وشقائه وضلاله، يستمع إلى القرآن وكأن الأمر لا يعنيه يستمع الموعظة لكنها لا تهز قلبه يستمع إلى النهي من الله ومن رسول الله فلا يرعوي في الوقت الذي لو أمره فيه رئيسه في العمل لامتثل أمره ولاجتنب نهيه ولوقف عند الحدود التي رسمها له. وإن من الناس من يغتر بنعم الله عليه، فيظن أن هذه النعم إنما هي أصل لرضا الله عنه، ويقول: لولا أن الله عز وجل قد رضي عني ما أنعم علي بهذه النعم! فهو مغتر بنعم الله ونسي هذا المسكين أنه مستدرج. أيها المسلمون! تدبروا معي هذا، فالابتلاء بالنعيم أقسى من الابتلاء بالضيق والشدة؛ لأن الابتلاء بالنعيم يلهي وينسي ويطغي إلا من رحم ربك جل وعلا، فصاحبه يظن أن الله ما أنعم عليه إلا لأنه قريب من الله تبارك وتعالى!! كلا، انظر إلى أهل الكفر في الشرق والغرب فقد أنعم الله عز وجل عليهم، وفتح عليهم أبواب كل شيء، فهل هذا دليل على أن الله قد رضي عن الكفر وأهله؟! لا والله، ولكن النعم استدراج لأهل الكفر المعاصي، وتدبر حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه أحمد في مسنده والبيهقي في الشُعب وحسن الحديث الحافظ العراقي وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة من حديث عقبة بن عامر أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رأيت الله جل وعلا يعطي العبد ما يُحِب وهو مقيم على معصية الله فاعلم بأنه استدراج له من الله عز وجل، وقرأ النبي قول الله تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:44 - 45]). (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ)، أي: لما تغافلوا عن الأوامر والنواهي والحدود وكان المفترض أن تكون النتيجة: خسفنا بهم الأرض أنزلنا عليهم الريح، أو أنزلنا عليهم العذاب والخسف والصيحة، ولكن: {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:44 - 45].

التحذير من الظلم

التحذير من الظلم إن من الناس الآن من هو مقيم على معصية الله، ولكن الله يستره ويحفظ عليه نعمه، فيظن المسكين أن المعصية هينة حقيرة، ولولا أنها كذلك لعجل الله له العقوبة في الدنيا، بل ربما يفتخر بأنه عصى الله بليل فيصبح ليهتك ستر الله عليه بنهار، ونسي المسكين أن حلم الله عليه استدراج له من الله جل وعلا. وتدبر معي قول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم قول الله جل وعلا: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102]). أيها المظلوم! إياك أن تظن أن الله قد أهمل الظالم، أو أن الله عز وجل قد نسي الظالم فتعالى ربنا فلا يظل ربنا ولا ينسى، بل إن الله ليملي لأهل الظلم، والطغيان حتى إذا ما أخذهم فلن يفلتهم ربنا جل وعلا. أين الطواغيت والظالمون في كل زمان؟! أين قارون؟! أين فرعون؟! أين هامان؟! أين النمرود بن كنعان؟! أين أصحاب الأخدود؟! أين الظالمون وأين التابعون لهم في الغي؟! أين من دوخوا الدنيا بسطوتهم وذكرهم في الورى ظلم وطغيان هل فارق الموت ذا عز لعزته أو هل نجا منه بالسلطان إنسان لا والذي خلق الأكوان من عدم الكل يفنى فلا إنس ولا جان قال ربنا: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27]. يقول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته) فمن الناس من يغتر بالنعم، ومن الناس من يغتر بحلم الله وستره عليه، ومن الناس من صرف قلبه وهمه ووقته إلى الدنيا، فأصبحت الدنيا غايته التي من أجلها يعيش ويبذل العرق والجهد والفكر والعقل، لا هم له إلا هذه الحياة، يسمع الأذان فلا يقوم يتعلم التوحيد فلا يتأثر يوعظ بالقرآن والسنة فلا يتحرك قلبه ولا يعيش إلا من أجل هذه الحياة الدنيا. والله لقد أخبرني إخواني في أمريكا عن رجل ينتسب إلى الإسلام، ولكنه قد فتح محلاً كبيراً يبيع فيه الخمر والخنزير وقد ضيع الصلاة، فلما ذهبت إلى هنالك يوماً أراد مني إخواني أن أذهب لزيارة هذا الرجل لأذكره بالله عز وجل، فذهبت إليه، ولما قمت بتذكيره بآيات القرآن وأحاديث النبي عليه الصلاة والسلام رد عليّ هذا الغافل اللاهي وقال: يا شيخ! والله ما أتيت إلى هذه البلاد لأصلي أو لأذهب إلى المساجد وإنما أتيت لأجمع مبلغاً من الدولارات وأعدك إن عدت إلى بلدي مرة أخرى فسأفتح مشروعاً وبعد أن أستقر فسأقضي جل عمري في بيت الله عز وجل، قلت: والله لا أضمن لك ذلك؛ لأنني ما وقعت لك ولا لنفسي صكاً مع ملك الموت أن يمهلك أو أن يمهلني حتى أرجع إلى بلدي مرة أخرى، فنظر إلي المسكين وقال: أريد أن أصارحك بشيء، قال: أبشرك! -يظنها بشارة- أنني إذا أصبت بحالة من الصداع أخرجت ورقة مائة دولار ووضعتها على رأسي فيذهب الصداع في الحال، قلت: صدق سيد الرجال إذ يقول: (تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار) فقلت له: أنت عبد الدولار أنت عبد لشهواتك أنت عبد لهذه الحياة الدنيا. إلى متى تعبد الكرسي الذي جلست عليه؟! إلى متى تعبد المال الذي من أجله ضيعت حقوق الله؟! إلى متى تعمل من أجل هذه الحياة الدنيا، وكأنك لن تعرض على الله جل وعلا؟ {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يونس:7 - 8]. (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا)، أي: هو لا يرجو لقاء الله، بل إذا ذكّر بلقاء الله قال لك: ذكرنا بموضوع آخر وإن ذكرته بالموت قال: نريد أن نشعر بالحياة نريد أن ننعم بالحياة لماذا تريدون أيها المشايخ أن تعقدونا من هذه الحياة الدنيا. كلا، نحن لا نعقدك بل إننا نحذرك من الركون إليها، ونحذر أنفسنا، والله نسأل أن يختم لنا ولكم بخاتمة الإيمان؛ لأننا نعلم أن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، فهأنذا الآن أذكرك بالله جل وعلا، ولكن ورب الكعبة لا أضمن ولا تضمن ما هي الخاتمة، ولكننا نستعين بالله عز وجل، من باب قول الحافظ ابن كثير: لقد أجرى الله الكريم عادته بكرمه أن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه.

الأعمال بالخواتيم

الأعمال بالخواتيم لقد عاش شيخنا المبارك فضيلة الشيخ عبد الحميد كشك طيب الله ثراه وجمعنا به في جنات النعيم لدعوة الله ولدين الله، ما نافق ظالماً ولا طاغوتاً من طواغيت أهل الأرض، وإنما تمنى رضوان الله جل وعلا، فكانت الخاتمة أن تقبض روحه وهو في الصلاة بين يدي الله جل وعلا. إنها الخواتيم، وإنما الأعمال بالخواتيم، نسأل الله أن يحسن لنا ولكم الخاتمة. ووالله لقد أخبرت في المنصورة في الأيام القليلة الماضية: أن رجلاً ما صلى لله جل وعلا، وما عرف الصلاة، ذُكّر بالله فكان يسخر بالمذكرين، نصح فكان يهزأ بالناصحين، أصيب بحالة إغماء ثم بعد ذلك لما أفاق قال: أريد أن أتقيأ فدخل الخلاء أعزكم الله، ووضع وجهه في هذه القاعدة التي يجلس عليها؛ ليخرج ما في جوفه وما في بطنه فغلبه القي ووضع رأسه في هذا الموطن القذر النجس! وظل يقيء حتى خرجت روحه في هذا الموطن النجس القذر ولا حول ولا قوة إلا بالله: (إنما الأعمال بالخواتيم). فإلى متى تعيش من أجل الدنيا وكأن الدنيا هي الإله الذي من أجله تركع ومن أجله تبذل الوقت والعرق والجهد؟! إلى متى هذه الغفلة؟! {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا} [يونس:7]، أي: اطمأن بهذه الحياة، فهو يظلم خلق الله، وهو يعتقد أنه مخلد على الكرسي في هذه الدنيا، ونسي أنه سيعرض يوماً على الله جل وعلا ليقف إلى جوار هذا المظلوم ليقتص له ملك الملوك جل وعلا، فأبشر أيها المظلوم! إذا ما علمت أن الذي سيقتص لك من الظالم هو ملك الملوك وجبار السماوات والأرض: {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ} [يونس:7] يذكر بآيات الله فلا يتذكر فهو في غفلة عن القرآن، وغافل عن السنة. ما مصير هؤلاء؟ مصيرهم بنص القرآن: {أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يونس:8] مأواهم النار لا جزاء لهم إلا النار.

الدنيا دار ممر والآخرة دار مقر

الدنيا دار ممر والآخرة دار مقر أذكر نفسي وإياك أيها الحبيب الكريم! يا من غفلتم عن الآخرة، وتهافتم على الدنيا! أذكر نفسي وإياكم بأن الدنيا إلى زوال، وبأن الدنيا دار ممر، وأن الآخرة هي دار المقر، فخذوا من ممركم لمقركم، ولا تفضحوا أستاركم عند من يعلم أسراركم، قال الله جل وعلا: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا * وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا * وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا * وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:45 - 49].

تذكر الموت والعرض على الله

تذكر الموت والعرض على الله تذكر أيها المسلم! تذكر وقوفك يوم العرض عرياناً: أين المال؟! أين المنصب؟! أين الجاه؟! ذهب إلى غير رجعة: مثل وقوفك يوم العرض عُريانا مستوحشاً قلق الأحشاء حيرانا والنار تلهبُ من غيظ ومن حنقٍ على العصاة ورب العرش غضبانا اقرأ كتابك يا عبد على مهلٍ فهل ترى فيه حرفاً غير ما كانا لما قرأت ولم تنكر قراءته وأقررت إقرار من عرف الأشياء عرفانا نادى الجليل خذوه يا ملائكتي وامضوا بعبدٍ عصى للنار عطشانا المشركون غدا في النار يلتهبوا والمؤمنون بدار الخلد سكانا تذكر: {فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ} [الكهف:49] مما في هذا الكتاب: {وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف:49] كم من معصية يا مسكين قد كنت نسيتها ذكرك الله إياها! وكم من مصيبة قد كنت أخفيتها أظهرها الله لك وأبداها! فيا حسرة قلبك وقتها على ما فرطت في دنياك من طاعة مولاك!! يا حسرة قلبك وقتها على ما كنت فيه من غفلة في هذه الحياة الدنيا؟! أخي الحبيب! تدبر قول الصادق المصدوق الذي يقول في الصحيحين من حديث عمرو بن عوف الأنصاري: (والله ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بُسطَت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم). قال تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر:1 - 2] أي: شغلتكم الدنيا شغلتكم الشهوات حتى زرتم المقابر انتبهتم عاينتم الحقائق التي أنكرتموها في هذه الحياة، إما بلسان الحال أو بلسان المقال. وانظر إلى هذا التعبير القرآني اللطيف في كلمة (زرتم) فكأن الميت في قبره ما هو إلا زائر وحتماً ستنقضي مدة الزيارة وإن طالت ليرى نفسه بعد هذه الزيارة قد وقف بين يدي الله جل وعلا ليسأل عن كل شيء قدمه في هذه الحياة.

التحذير من الركون إلى الدنيا

التحذير من الركون إلى الدنيا جاء في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الدنيا خضرة حلوة، وإن الله قد استخلفكم فيها لينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء). أذكر نفسي وإياك أيها الحبيب الكريم! بعدم الركون إلى الدنيا والاطمئنان إليها؛ لأن الله عز وجل قد حذر من ذلك. أيها الغافلون! أيها اللاهون! بل أيها الطائعون المؤمنون! قال لنا ربنا جل وعلا: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:20]. وأود من باب التفصيل العلمي لهذه المسألة أن نعلم أن الذم الوارد في القرآن والسنة في حق الدنيا لا يرجع إلى زمانها ومكانها وما أودعها الله من خيرات ونعم. إن الذم الوارد في الكتاب والسنة في حق الدنيا لا يرجع إلى زمان الدنيا الذي هو الليل والنهار فلقد جعل الله الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً. ولا يرجع الذم إلى مكان الدنيا الذي هو الأرض فلقد جعل الله الأرض مهداً لبني آدم ليتاجروا على ظهرها وليغرسوا فيها الأعمال التي تقربهم إلى الجنة. والذم الوارد في الدنيا لا يرجع إلى ما أودع الله في الدنيا من خيرات ونعم، فهذه نعم الله على خلقه وعلى عباده، والله عز وجل يقول: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف:32]. إذاً: فلنعلم أن الذم الوارد في حق الدنيا في القرآن والسنة إنما هو متعلق بكل ما يرتكب فيها ولا يرضي الرب جل وعلا. الذم للمعاصي للكفر الذي يرتكب في هذه الحياة، قال علي بن أبي طالب: (الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار نجاة لمن فهم عنها، ودار غنى لمن فهم تزود منها، فهي مهبط وحي الله، ومصلى أنبياء الله، ومتجر أولياء الله، ربحوا فيها الرحمة واكتسبوا فيها الجنة). انظر إلى الفهم الدقيق لحقيقة هذه الحياة؛ لأننا لا نريد أن يفهم مسلم هذا الكلام فهماً خاطئاً فيهدر هذه الحياة ويهدر الوظائف والأعمال، كلا. وإنما أقول لك: إن استطعت أن تجمع ملايين الجنيهات فافعل بشرطين: أن تجمع من الحلال، وألا تنسى حق الكبير المتعال. عمّر الكون عمر الدنيا، لكن إياك أن تركن إلى الدنيا وأن تطمئن إليها وأن تنشغل بها عن الآخرة. يقول لي رجل من رجال الأعمال ذكرته بالله عز وجل، يقول لي: إن الدنيا قد شغلتنا وأخذتنا تماماً، ثم قال لي: والله يا شيخ! أنا لا أرى أولادي -مع أنني لست على سفر- إلا بعد فترات طويلة؛ لأنني أرجع إلى البيت وهم نائمون ويخرج الأولاد إلى المدارس وأنا نائم، فأنا لا أرى أولادي، قلت له: وكيف حالك مع الصلاة؟ قال: والله أشغل فيمر علي الأسبوع لا أصلي صلاة واحدة لله جل وعلا، ثم ذكرته بالله فقال: دعنا نجري في هذه الحياة الدنيا؛ لأننا بعد الموت سننام طويلاً، قلت له: لا والله، بل أنت الآن في نوم طويل، وأنت الآن في سبات عميق، وإنما إن استيقظت الآن للعمل للآخرة فستستريح هنالك بين يدي الله جل وعلا، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يونس:7 - 8]. أيها الحبيب الكريم! أذكر نفسي وإياك بحقيقة الدنيا وحقيقة الآخرة، فالدنيا -كما نقول دوماً- وإن طالت فهي قصيرة، وإن عظمت فهي حقيرة؛ لأن الليل مهما طال فلابد بعده من طلوع الفجر، ولأن العمر مهما طال لابد بعده من دخول القبر.

خطورة الاستخفاف بأوامر الله

خطورة الاستخفاف بأوامر الله أيها الأحبة! وهنا أنقل لكم وهذه صورة من أبشع صور الغفلة، تأمر فتقول: قال الله، أو تنهى فتقول: نهى الله عن كذا، ونهى رسول الله عن كذا، فلا مجيب. أرى رجلاً يلبس خاتماً من الذهب فأقول له: لقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس خاتم الذهب للرجال! فيرد علي ويقول: نعم أنا أعلم ذلك! أي استخفاف هذا؟! تقول له: الله عز وجل حرم كذا، فيقول: نعم أعلم ذلك، الله عز وجل نهى عن كذا، فيقول: أعلم. يعلم ولا يطبق ولو قال: سل الله عز وجل لي أن يهديني، وأن يردني إلى الحق لدعونا الله عز وجل له، ولكان ذلك أدعى للقبول، أما أن تقول: أنا أعلم! بكبر وبصوت مرتفع وكأن الأمر لا يعنيك! وأنا أتحداك أن تقول لرئيسك في العمل إن نهاك عن شيء: لا، وإن أمرك بشيء أتحداك أن تقول له: لا. بل ووالله ربما يأمرك بشيء مخالف وتمتثل أحياناً، فالله يأمر وينهى والرسول يأمر وينهى، ولكن أين السمع والطاعة؟! يا من زعمت أنك ممن أحسنوا الظن بالله، أين العمل أين السمع أين الامتثال للأمر أين الاجتناب للنهي أين الوقوف عند الحدود؟ لماذا هذا الاستخفاف بأوامر الله تعالى؟ بل تجد الرجل يرمي الشريعة الربانية المحكمة بالجمود والقصور والتخلف والرجعية، والله عز وجل يخاطب نبيه المصطفى ويقول: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية:18]. إن امتثلت أمر الله في شرعه فأنت المؤمن الذي سمع وأطاع، وإن سمعت وأعرضت فهذا هو دأب المنافقين -أسأل الله أن يحفظنا وإياكم من النفاق- قال جل وعلا: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء:60 - 61]. إن الذي يعرض ويصد عن سبيل الله هو المنافق بنص القرآن وإن أظهر للناس بلسانه وبيانه غير ذلك، فالله عز وجل هو الذي يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير. وأود أن أنبه: أن من يختزل الدين والشريعة كلها في الحدود إنسان لا يحترم عقله ولا يحترم شخصه، وأرجو من كل منصف أن لا يختزل دين الله في الحدود؛ لأننا إذا ما ذكرنا بالشريعة رد علينا: تريدون أن تقطعوا الأيدي؟! تريدون أن ترجموا الناس؟! تريدون كذا وكذا؟! أقول: إن اختزال الشريعة أو الدين في الحدود أمر لا يقول به منصف يحترم علقه ونفسه، فما الحدود إلا باب من أبواب المعاملات، وما المعاملات إلا باب من أبواب الشريعة، بل إن إقامة الحدود في دين الله وفي شريعة الله لها ضوابط وشروط، وليس الأمر هكذا على إطلاقه وعواهنه، وهذا أمر مؤصل في كتب الفقه لأئمتنا وعلمائنا. إن الاستخفاف بأوامر الله عز وجل ينافي الرضا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً ورسولاً، قال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:1 - 2]. قال الإمام ابن القيم: إذا كان مجرد رفع الصوت على النبي صلى الله عليه وسلم يحبط العمل، فكيف بمن قدم العقل على قول وفعل النبي صلى الله عليه وسلم. وأنا أقول: كيف لو عاش ابن القيم في زماننا ورأى من لا يقدم قوله وعقله وفكره على قول وفعل النبي صلى الله عليه وسلم فحسب، بل يتهم شريعة النبي صلى الله عليه وسلم بالجمود والقصور والرجعية، وعدم قدرتها على مسايرة هذه المدنية؟! ماذا يقول؟! إن رفع الصوت فقط على النبي صلى الله عليه وسلم يحبط العمل، فكيف وقد اتهمت شريعته الربانية المحكمة؟! إن الاستخفاف بأوامر الله من أبشع صور الغفلة في هذه الأيام وفي هذا الزمان، وهذه الغفلة التي تتمثل في هذا الاستخفاف تتنافى ابتداءً مع أصل الإيمان: مع الرضا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم نبياً ورسولاً. قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36]، وقال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور:51] هذا شعار أهل الإيمان، أن يقولوا: (سمعنا وأطعنا)، أما شعار المستخفين بأوامر الرحيم الرحمن: (سمعنا وعصينا أعلم أن هذا حلال وأعلم أن هذا حرام)، لكنه لا يفعل ولا ينتهي فالاستخفاف من أبشع صور الغفلة ولا حول ولا قوة إلا بالله.

خطورة الغفلة عن الغاية

خطورة الغفلة عن الغاية أيها الأحباب! إن الغاية التي من أجلها خلقنا هي عبادة الله وحده، والناس غافلون عنها الآن إلا من رحم ربك. قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]. هذه هي الغاية التي من أجلها خلقت، ما خلقك الله عز وجل إلا لطاعته وعبادته، وإن أنعم الله عليك بالزوجة وبالأولاد وبالمنصب والأموال، فيجب أن تسخر هذا من أجل الغاية التي من أجلها خلقت، فلو عشت لهذه الغاية فاستعمل كل الوسائل للوصول إلى هذه الغاية، لكن إن ضيعت الغاية وعشت بلا غاية فسيضيع عمرك في غير طاعة، وكم من الناس الآن ينتسبون إلى الإسلام ولا يعيشون لهذه الغاية، بل لا يعرفون شيئاً عن هذه الغاية! ألم تسمعوا قول هذا المتسكع التائه الضائع الذي يقول: جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت وسأمضي في طريقي شئت هذا أم أبيت كيف جئت؟! كيف أبصرت طريقي؟! لست أردي ويقطع الطريق كالسائمة كالبهيمة لا يعرف لحياته معنى ولا لوجوده غاية، جهل الغاية وضل طريقها، فهو يتسكع كالبهيمة، ولقد قال الله عز وجل في هذا الصنف الغافل عن الغاية: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179]. فيها أيها المسلم! ويا أيتها المسلمة! لابد أن نضع الغاية نصب أعيننا فإننا نعيش من أجل هذه الغاية من أجل طاعة الله وعبادته وحده، ومن أجل الآخرة، فلنسخر كل وسيلة من وسائل هذه الحياة الدنيا من أجل هذه الغاية، فإن كنت صاحب منصب إن عشت للغاية فستفكر كيف تسخر منصبك وكرسيك لطاعة الله، وكيف يقودك هذا الكرسي إلى رضوان الله وجنة الله. أما إن غفلت عن الغاية وجلست على الكرسي فلن تتورع عن ظلم العباد، ولن تتورع عن أكل أموال الناس بالباطل، ولن تتورع عن نهب المال العام الذي أصبح الآن سمة من سمات هذا العصر الذي فسد فيه من كلفوا بالرعاية، ورحم الله من قال: وراعي الشاة يحمي الذئب عنها فكيف إذا الراعاة لها الذئاب ضل عن الغاية وما فكر فيها، وظن أن هذه الحياة أبدية سرمدية، فقال لنفسه: أدركي الوقت قبل فوات الأوان، أنفقت كذا وكذا في الدعاية الانتخابية، أدركي الوقت لتحصلي هذا المبلغ وأضعاف أضعافه. يقول: وجلست على هذا الكرسي وأنا لا أضمن كم سأمكث عليه، فهيا لأقتنص هذه الفرصة وأغنم ولو من الحرام! أيها الأحباب! ما قال هذا إلا لأنه لا يفكر في الغاية، وظن هذا المسكين أنه سيأخذ هذا إلى قبره، ونسي قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) وقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (يتبع الميت ثلاثة: ماله وولده وعمله، فيرجع اثنان: يرجع المال والأهل، ويبقى العمل) فلن ينفعك بين يدي الله إلا العمل الصالح فلا تغفل عن هذه الغاية، ولا تغفل عن طاعة الله. ويوم أن عرف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هذه الغاية وعاشوا من أجلها، سادوا في الدنيا والآخرة، يقول ربعي بن عامر لقائد الجيوش الكسروية رستم، ليعلمه الغاية التي من أجلها وجدوا ولها خلقوا: (إننا قوم ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة). فلتعش أخي لهذه الغاية ولا تغفل عنها لأنك لو عشت لغاية لحددت الهدف وحددت الطريق، ولو غفلت عن الغاية ستنطلق في الطريق جاثماً على وجهك لا تدري إلى أين تذهب وإلى أين ترجع، فاعمل للغاية تفز وتسعد. أسأل الله عز وجل أن يقينا ويقيكم حر جهنم، وأن يكتب لنا هذا الوقت في ميزان حسناتنا يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

ففروا إلى الله

ففروا إلى الله الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام! فروا إلى الله. ها هو شهر رمضان قد أهل علينا بأنفاسه الخاشعة الزكية، وأحببت أن أذكر بهذه الفرصة نفسي وأحبابي وإخواني وأخواتي بالفرار إلى الله قبل رمضان. فالفرار نوعان: فرار السعداء وفرار الأشقياء: أما فرار السعداء فهو الفرار إلى الله، وأما فرار الأشقياء فهو الفرار من الله، ومع ذلك فلا ملجأ ولا ملاذ من الله إلا إليه. أين يذهبون؟! أين يفرون من الله عز وجل؟! أخي! بادر بالفرار إلى الله بادر بالتوبة إلى الله عز وجل، واعلم: (بأن الله يبسط يديه بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يديه بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها)، والحديث رواه مسلم من حديث أبي موسى. سينتهي زمن التوبة يوم أن تطلع الشمس من مغربها، فإن عاد الكافر إلى الله في ذلك اليوم فلا يقبل الله منه الإيمان، وإن عاد العاصي فلا يقبل الله منه التوبة. تدبر معي هذا الحديث لتعلم أهمية التوبة ووجوبها، فقد ورد في صحيح مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى الشمس تغرب يوماً فقال لأصحابه: أتدرون أين تذهب هذه؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال المصطفى: إن هذه تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة لله جل وعلا، فلا تزال كذلك حتى يقال لها: ارتفعي وارجعي من حيث جئت فترجع فتصبح طالعة من مطلعها -أي: من المشرق- ثم تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش، فتخر ساجدة لله جل وعلا، فلا تزال كذلك حتى يقال لها: ارتفعي، وارجعي من حيث جئتِ). يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (فلا تزال كذلك لا يستنكر الناس منها شيئاً)، أي: تشرق من المشرق كل صباح وتغرب في المغرب، ولا يستنكر الناس منها شيئاً. قال المصطفى: (حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فلا تزال كذلك حتى يقال لها: ارتفعي أصبحي طالعة من مغربك، قال: أتدرون متى ذلك؟! قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذاك يوم لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً) فإذا طلعت الشمس من المغرب أغلق باب التوبة. فيا عبد الله! الباب مفتوح لك الآن على مصراعيه فبادر بالتوبة، قبل أن يأتي يوم يغلق فيه باب التوبة، فلا يقبل الله الإيمان من كافر ولا يقبل الله التوبة من مذنب عاصٍ. وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة إذا خرجن لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، والدابة) فإذا طلعت الشمس من المغرب أغلق الله باب التوبة، فهيا عد إلى الله عز وجل أيها اللاهي!! أيها العاصي!! بل أيها المؤمن: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31]. أيها الحبيب! دع عنك ما قد فات في زمن الصبا واذكر ذنوبك وابكها يا مذنب لم ينسه الملكان حين نسيته بل أثبتاه وأنت لاهٍ تلعب والروح منك وديعة أودعتها ستردها بالرغم منك وتسلب وغرور دنياك التي تسعى لها دار حقيقتها متاع يذهب الليل فاعلم والنهار كلاهما أنفاسنا فيها تعد وتحسب قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]. أسأل الله عز وجل أن يغفر لنا ذنوبنا، اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم ارزقنا جميعاً قبل الموت توبة، وعند الموت شهادة، وبعد الموت جنة ونعيماً ورضواناً. اللهم إنا قد أقبلنا إليك وطرحنا قلوبنا بذل وانكسار بين يديك، فاللهم لا تردنا اليوم خائبين يا أرحم الراحمين! اللهم ردنا اليوم جميعاً بذنب مغفور وسعي مشكور وتجارة لن تبور. اللهم إنا نقر لك الآن بين يدي رمضان بذنوبنا وأخطائنا، فاللهم ارحم ضعفنا، اللهم ارحم ضعفنا، اللهم ارحم ضعفنا، اللهم اجبر كسرنا، اللهم اغفر ذنوبنا، اللهم استر عيوبنا، اللهم آمن روعاتنا، اللهم فك أسرنا، اللهم تول أمرنا، اللهم تول أمرنا وفك أسرنا، اللهم اختم بالباقيات الصالحات أعمالنا، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، وبلغنا مما يرضيك آمالنا، اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر. اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها يا مولانا! أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها. اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا ما أحييتنا واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا! اللهم لا تدع لأحد منا في هذا الجمع الكريم ذنباً إلا غفرته ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا ميتاً إلا رحمته ولا عاصياً بيننا إلا هديته. اللهم لا تدع عاصياً بيننا إلا هديته، اللهم لا تدع عاصياً بيننا إلا هديته، اللهم لا تدع سائلاً بيننا طامعاً إلا زدته وثبته، اللهم لا تدع سائلاً بيننا طامعاً إلا زدته وثبته! اللهم استرنا ولا تفضحنا، وأكرمنا ولا تهنا، وكن لنا ولا تكن علينا، إلهنا لا إله لنا سواك فندعوه، ولا رب لنا غيرك فنرجوه، لا إله لنا سواك فندعوه ولا رب لنا غيرك فنرجوه، لا إله لنا سواك فندعوه ولا رب لنا غيرك فنرجوه، يا منقذ الغرقى! يا منقذ الغرقى! ويا منجي الهلكى! ويا سامع كل نجوى، ويا عظيم الإحسان! يا دائم المعروف، يا دائم المعروف أنقذنا من الهلاك والحسرة! وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

جرائم بشعة

جرائم بشعة من الجرائم البشعة المنتشرة في أوساط كثير من الفساق الغافلين: جريمة الزنا، وهي جريمة من أخطر الجرائم التي تهلك الأفراد والمجتمع والأمة، فآثارها خطيرة، وأضرارها كبيرة، ومفاسدها عديدة، ولذا اتفقت الشرائع السماوية على تحريمها.

جرائم زنا وقتل تدق أجراس الخطر

جرائم زنا وقتل تدق أجراس الخطر الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. نسأل الله أن يحيي الوجوه الطيبة المشرقة، ويزكى الأنفس، ويشرح الصدور، وأسأل الله جل وعلا الذي جمعنا وأحبتنا في هذه الدنيا على طاعته أن يجمعنا وإياهم في الآخرة مع سيد الدعاة وإمام النبيين في جنته ودار كرامته؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتى في الله! جرائم بشعة تدق أجراس الخطر في آذان المسلمين جميعاً، وتقرع الآذان بشدة وقوة، وهى تقول: أفيقوا أيها المسلمون؛ فإن ما تعيشون فيه من ضنك وشقاء إنما هو نتيجة حتمية عادلة لانحرافكم عن منهج ربكم، وبتنحيتكم لشريعة نبيكم صلى الله عليه وعلى آله وسلم. تلك الجرائم التي صدمت آذاننا وأفزعت قلوبنا في الأيام القليلة الماضية هي جرائم زنا، يعقبها جرائم القتل، فهذا الذي دخل على أخته فوجدها بين أحضان مدرسها الخصوصي، فأخذته الغيرة فقتل أخته، وقتل المدرس معها. وهذه المرأة الفاجرة التي دخل عليها أبوها فرآها تمارس الفاحشة مع شاب آخر، فما كان من هذه البنت ومن هذا الشقي إلا أن انقضا على هذا الوالد المسكين الذي صدم قلبه وكاد بصره أن يخطف يوم أن رأى فلذة كبده وثمرة فؤاده تمارس الفاحشة، وقد وصل إلى أذنه هذا الخبر من قبل، فانقضت عليه هذه البنت مع عشيقها فقتلاه ولا حول ولا قوة إلا بالله. ما هذا الذي نسمع؟! وما هذا الذي يجري؟! وما هذا الذي يحدث يا عباد الله؟! إن الإسلام دين الفطرة، إن الإسلام لا يحارب دوافع الفطرة أبداً ولا يستقذرها، وإنما ينظمها ويطهرها ويرقيها إلى أسمى المشاعر التي تليق بالإنسان كإنسان. ولا يجوز للداعية الواعي أن تكون خطبته في واد وأن يكون مجتمعه بما يعج من منكرات في واد آخر، وإنما يجب على الدعاة الصادقين وعلى العلماء الربانيين أن يسلطوا أضواء القرآن، وأن يسلطوا شعاع السنة على جرائم مجتمعاتهم؛ ليبينوا لأبناء هذه الأمة سبب الداء، وليشخصوا لهم الداء وليصرفوا لهم الدواء، والداء والدواء في آية واحدة من كتاب الله، اسمع لربك جل وعلا وهو يقول: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:123 - 126]. ولن تكون هذه الجرائم التي نشرتها جرائدنا الغراء في الأسبوع الماضي هي الأخيرة، كلا، بل ورب الكعبة سوف نسمع أبشع من هذا ما دام الناس يتلقون تربيتهم وتعاليمهم عن العلمانيين والساقطين والراقصين والتافهين، وقد تركوا تعاليم رب العالمين، ونَحّو شريعة سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم، لن تكون هذه الجرائم آخر المسلسل، وإنما هي لبنة في بناء عفن، وهي حلقة في مسلسل آسن، وهي حلقة في سلسلة طويلة لم تنته ولن تنتهي حتى يعود الناس من جديد إلى قرآن ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم. أيها المسلمون! الإسلام دين الفطرة، الإسلام دين الله الذي خلق الرجل والمرأة على السواء، وهو الذي يعلم سبحانه وتعالى ما يصلح المجتمع، وما يسعد الفرد وما يسعد الجماعة: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14].

الإسلام يأخذ على يد المفسد

الإسلام يأخذ على يد المفسد الإسلام يحرص على أن يهيئ المناخ الصالح لكى يتنفس الفرد المسلم في جو اجتماعي طاهر نظيف، ثم يعاقب الإسلام بعد ذلك -وبمنتهى الصرامة والشدة- كل فرد ترك هذا الجو النظيف الطاهر النقي وراح ليتمرغ في وحل الجريمة الآثم طائعاً مختاراً غير مضطر، لا يرخي الإسلام العنان لكل أحد لينطلق ليعيث في الأرض فساداً، فينتهك الحرمات، ويتعدى على أعراض النساء المؤمنات، ويروع البيوت الآمنة المطمئنة، لا يرخي الإسلام العنان للفرد ليفعل هذا كله، وإنما إذا لم تجدِ في الفرد التربية ولم تؤثر فيه الموعظة ولم يلتفت الفرد إلى كتاب الله وإلى سنة رسول الله وإلى كرامة أبناء المجتمع الذي يعيش بينهم، إذا لم يراع المسلم أو الفرد كل هذا، وانطلق لينتهك العرض والحرمة فإن الإسلام يأخذ على يديه بمنتهى الصرامة والشدة؛ لتعيش الجماعة كلها آمنة هادئة مطمئنة، وهذه هي الرحمة في أسمى معانيها. أرأيتم لو أن إنساناً من الناس أصيب بمرض السرطان - أعاذنا الله منه وإياكم- في طرف من أطرافه، وقرر الأطباء المتخصصون أنه لابد من بتر هذا الطرف حتى لا يسري المرض في جميع أجزاء الجسم، هل يأتي عاقل ويقول: لا؛ إنها وحشية، إنها بربرية، إنها غلظة وقسوة، لا تقطعوا هذا الطرف؟ لا والله، وإنما سيأتي أقرب الناس إلى المريض، وسيأتي أحب الناس إليه وينصحه ويشجعه على قطع ذلك الطرف، ويقول له: أسأل الله لك التوفيق، وأسأل الله لك الثبات مع أنه يعلم أنه ذاهب إلى غرفة العمليات ليقطع طرفاً عزيزاً لديه وحبيباً عنده، لكنه يعلم أن بتر هذا الطرف سيضمن الحياة -بإذن الله جل وعلا- لبقية الأطراف، إنها الرحمة بعينها. كذا -الفرد أيها الأحبة! - إذا لم تؤثر فيه تربية ولم تؤثر فيه موعظة ولم يراع حرمة مجتمع يعيش فيه وانطلق ليعيث في الأرض فساداً بانتهاك الحرمات والأعراض فإن الإسلام يأخذ على يديه بمنتهى الشدة والصرامة؛ ليزول الفرد العفن السرطاني، ولتبقى الجماعة كلها هادئة آمنة مطمئنة، ومن ثم جعل الإسلام أبشع جريمة على ظهر هذه الأرض بعد الشرك بالله وقتل النفس الزنا، فقال سبحانه في سياق صفات عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} [الفرقان:68] فجاء به بعد الشرك والقتل مباشرة {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} [الفرقان:68 - 71]. نعم -أيها الأحبة الكرام! - إن المرأة -والعياذ بالله- إذا زنت وضعت رأس زوجها، بل ورؤوس أهلها في الوحل والطين والتراب، فإذا خافت المرأة الفضيحة والعار وكانت متزوجة أو كانت بكراً قتلت ولدها من الزنا فوقعت في كبيرتين: كبيرة الزنا وكبيرة القتل والعياذ بالله. وإذا كانت المرأة متزوجة وخانت زوجها الذي انطلق بعيداً ليأتيها بالطعام والشراب ولينفق عليها من المال الحلال الطيب فقد خانت هذا الزوج المسكين، وحملت من الزنا وأبقت على ولدها من الزنا، ونسبت هذا الولد لزوجها المسكين المخدوع، وأدخلت هذه المرأة الخائنة على بيتها ولداً أجنبياً عنهم، فعاش بينهم وهو أجنبي عنهم، وخلا ببناتهم ولا يحق له ذلك، بل وورث أموالهم بعد موت المورث وليس له حق في ذلك، وهكذا -ولا حول ولا قوة إلا بالله- تهدم البيوت، وتدفن الفضيلة، وتنهار المجتمعات. وإذا زنى الرجل اختلطت الأنساب، وتأججت نار الأحقاد في القلوب، وانطلق هذا الذي زني بأهله أو ببنته أو بزوجته أو بأمه وقد نكس رأسه في الوحل والطين والتراب، هذا إن ترك الزاني يمشي أمام عينيه وبين يديه ولم يفكر في قتله، ولا حول ولا قوة إلا بالله. إنه الانحراف عن دين الله، إنه الانحراف عن منهج الله، إنه التحدي لشريعة الله جل وعلا، ووالله ستدور الأمة في هذه المتاهات العفنة الآسنة ما دامت الأمة قد تحدت شريعة الله، وما دامت الأمة قد نَحَّت شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله جل وعلا يقول: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:179]، ولكن العلمانيين القذرين يقولون: ولكم في القصاص وحشية وبربرية، دعوكم من هذه القوانين الجامدة، إن هذه الحدود إنما أنزلت لأناس كانوا يعيشون في أرض الجزيرة كانوا يتَّسمون بالغلظة والقسوة والفظاظة، وكانوا يركبون الناقة والحمار، ولكننا الآن نعيش عصر الحضارة وعصر المدنية وعصر التطور، عصر الصاروخ والقنبلة النووية، فدعوكم من هذه القوانين البربرية الوحشية، وتعالوا بنا لنقنن لأنفسنا من دون الله. يقول الله جل وعلا: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [يوسف:40]، ويأبى العلمانيون إلا أن يقولوا: إن الحكم إلا لمجلس الشعب، الله جل وعلا يقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [يوسف:40] ويأبى العلمانيون إلا أن يقولوا: إن الحكم إلا للبيت الأبيض، أو للبيت الأحمر أو للبيت الأسود فوقعت الأمة في الضنك والشقاء، ولن تخرج من هذا البلاء وهذا المستنقع الآسن إلا إذا نفضت عن كاهلها غبار هذه القوانين الوضعية الفاجرة الكافرة وعادت من جديد إلى كتاب ربها وسنة الحبيب نبيها صلى الله عليه وآله وسلم. أيها المسلمون! أيها الآباء! أيتها الأمهات! أيها الشباب! أيتها البنات! والله الذي لا إله غيره ما شرع الإسلام ما شرع إلا لتبقى المرأة المسلمة درة مصونة ولؤلؤة مكنونة لا يمسها إلا زوجها، ولا تنظر إليها عين زانية، حفظ الإسلام كرامتها، وأمرها بالحجاب، وأمر الرجل بغض البصر، وأمر الرجال والنساء بتخفيف مئونة الزواج، ووضع من الضمانات الوقائية ما يضمن به أن يعيش الرجل والمرأة في ظل مجتمع نظيف طاهر نقي، ثم بعد ذلك يعاقب من ترك هذه الضمانات الوقائية العظيمة وذهب ليتمرغ في أوحال المعصية طائعاً مختاراً غير مضطر.

أحاديث تحذر من جريمة الزنا

أحاديث تحذر من جريمة الزنا أيها الأحبة الكرام! تدبروا معي هذه الأحاديث التي بين المصطفى فيها جريمة الزنا وخطر الزنا وبشاعة الزنا، فقال صلى الله عليه وسلم -والحديث في الصحيحين- من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن) قال عكرمة: قلت لـ ابن عباس: كيف ينزع منه الإيمان؟ فقال ابن عباس: هكذا -وشبك ابن عباس بين أصابعه-. ثم قال: فإن زنى أو شرب الخمر نزع منه الإيمان هكذا، فإن تاب وعاد إلى الله عاد إليه الإيمان هكذا مرة أخرى. وروى ذلك أبو داود والحاكم مرفوعاً، قاله الحافظ ابن حجر في الفتح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (إذا زنى الرجل أو شرب الخمر نزع الإيمان منه كما ينزع الإنسان القميص من رأسه، فإن تاب إلى الله وعاد إلى الله عاد إليه الإيمان وقبل الله منه التوبة)، وهذا هو المحك الحقيقي بين أهل السنة وفرق الضلال الأخرى التي كفرت مرتكب الكبيرة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وفي صحيح مسلم وسنن النسائي من حديث أبي هريرة أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة لا ينظر الله إليهم، ولا يزكيهم، ولا يكلمهم يوم القيامة ولهم عذاب أليم قالوا: من هم يا رسول الله؟! قال: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر) أي: فقير متعال مستكبر، وشيخ قلت عنده الشهوة، وضعفت عنده الرغبة لهذا الأمر، وعلى الرغم من ذلك ذهب ليتمرغ في أوحال هذه الفاحشة، والملك الكذاب ليس في حاجة إلى أن يكذب، فهو يستطيع أن يأمر هذا أن يفعل كذا، ويستطيع أن يأمر ذاك أن يفعل كذا، فما الذي يعوزه إلى الكذب؟ وعائل فقير، وبالرغم من ذلك يتعالى على الناس ويتكبر على خلق الله جل وعلا، قال: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر)، وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله إلا بإحدى ثلاث): -يعني: لا يجوز أن يقتل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله إلا إذا كان واحداً من ثلاثة: (الثيب الزاني)، والثيب هو المحصن، والمحصن هو الذي وطئ في نكاح صحيح وهو حر بالغ عاقل (والنفس بالنفس)، فالقاتل عمداً يقتل من قبل ولي الأمر المسلم، (والتارك لدينه المفارق للجماعة) المرتد، ووالله لو أن شرع الله يقام اليوم في أرض الله لقتل الكثير من هذه الأصناف، فلقد كثرت هذه الأصناف الثلاثة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وفي الصحيحين أيضاً في الحديث الطويل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبر أن جبريل وميكائيل عليهما السلام جاءاه في يوم من الأيام، فقال النبي عليه الصلاة والسلام في الرؤيا: (فانطلقنا فأتينا على مثل التنور -والتنور: هو الفرن توقد تحته النار- وفيه رجال ونساء عراة، أعلاه ضيق وأسفله واسع تلتهب فيه النار، إذا ارتفعت النار ارتفعوا معها، وإذا أخمدت النار رجعوا معها، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم هذا المشهد البشع قال: يا جبريل! من هؤلاء؟ فقال جبريل: هؤلاء هم الزناة والزواني، وهذا عذابهم إلى يوم القيامة). ومن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله رب العالمين. رجل دعته امرأة -أي: للزنا وليفعل بها الفاحشة- فتذكر الله جل وعلا، وتذكر الجنة والنار، وتذكر زوجته، وتذكر ابنته، فقال: إني أخاف الله رب العالمين. هذا من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله. أيها الأحبة الكرام! ترك الزنا سبب من أسباب تفريج الكرب والهم والغم، كما في الصحيحين في قصة الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى غار، فقد خرج ثلاثة نفر، فدخلوا غاراً، فسقطت صخرة من الجبل فسدت عليهم باب الغار، فقالوا: لا ملجأ لنا إلا أن نلجأ إلى الله بصالح أعمالنا. فقال أحدهم: اللهم إنك تعلم أنه كانت لي ابنة عم، وكانت أحب الناس إليَّ، فراودتها عن نفسها فأبت -أي: طلبت منها الفاحشة فأبت-، حتى ألمت بها سنة من السنين -أي: وقعت في شدة وضيق- فجاءتني تطلب مني المال فأعطيتها مائة وعشرين ديناراً على أن تخلي بيني وبين نفسها ففعلت، فلما جلست منها كما يجلس الرجل من زوجته قالت لي: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه. فتذكر هذا الرجل وتدبر، وارتعد قلبه، وأرخى عليها ثيابها. قال: وقامت وهي أحب الناس إلى قلبي، ثم توجه إلى الله جل وعلا وقال: اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه. فانفرجت الصخرة بأمر الله جل وعلا؟ إن ترك الزنا من أعظم أسباب تفريج الكربات في الدنيا، بل وفي الآخرة، وقد شدد القرآن غاية التشديد في جريمة الزنا، فقال الله جل وعلا: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2]، ويزيد القرآن في تبشيع وتفظيع هذه الجريمة، فيقول الله جل وعلا: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:3].

حد الزاني البكر والمحصن وأقوال العلماء في ذلك

حد الزاني البكر والمحصن وأقوال العلماء في ذلك أيها الحبيب! للعلماء في حد الزاني تفصيل ونزاع، وهذا شرع الله جل وعلا الذي يعرض عنه أهل العلمنة. الزاني إما أن يكون بكراً أو محصناً، والبكر هو الشاب الذي لم يتزوج، والمحصن هو الرجل الذي وطئ في نكاح شرعي صحيح وهو حر عاقل بالغ، فإن كان الزاني بكراً فحده عند الله -جل وعلا- أن يجلد مائة جلدة وأن يغرب عاماً عن بلده، أي: ينفى عاماً عن بلده. وهذا هو رأي الجمهور، وخالف في ذلك الإمام أبو حنيفة، فقال: يجلد فقط، ويبقى التغريب للإمام، فإن شاء الإمام -أي: وليَّ الأمر المسلم- غرب وإن شاء لم يغرب. ولكن الراجح هو ما ذهب إليه جمهور أهل العلم، واستدل الجمهور على ذلك برواية في الصحيحين من حديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني قالا: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم يوماً، فجاءه رجل فقال: يا رسول الله! اقض بيننا بكتاب الله فقام خصمه وقال: يا رسول الله! اقض بيننا بكتاب الله وائذن لي -أي: وائذن لي أن أبين حجتي ابتداءً فأذن له المصطفى فقال الرجل: إن ابني هذا كان عسيفاً عند هذا -يعني: كان أجيراً عند هذا- فرأى امرأته فزنى بها، فافتديت ولدي بمائة شاة وخادم -أي: دفعت لهذا الرجل مائة شاة وخادماً لأفتدي ولدي-، ثم سألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم. فقال المصطفى: (والذي نفسي بيده! لأقضين بينكما بكتاب الله عز وجل، المائة شاة والخادم رد عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام. ثم قال: يا أنيس -صحابي من الصحابة- اغد إلى امرأة هذا -أي: انطلق في الصباح إلى امرأة هذا الرجل- فإن اعترفت بالزنا فارجمها. فغدا أنيس إلى هذه المرأة فاعترفت بالزنا فرجمها). فالشاهد من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم على هذا الشاب الذي لم يتزوج وقد ارتكب جريمة الزنا بالجلد وبالتغريب، فالبكر حده أن يجلد مائة جلدة وأن يغرب، أي: أن ينفى عاماً كاملاً. أما المحصن الذي وطئ في نكاح شرعي صحيح فحده أن يرجم حتى الموت، هذا حكم الله عز وجل، وهذا شرع الله عز وجل، ووالله لو علمنا فضل الشرع ما حِدْنا عنه {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:179]. وفي الصحيحين أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب الناس يوماً، فحمد الله عز وجل وأثنى عليه وقال: أيها الناس! إن الله قد بعث محمداً صلى الله عليه وسلم، وأنزل عليه القرآن، وكان مما أنزل الله عليه فيه آية الرجم، فعقلناها ووعيناها وعملنا بها، فرجمنا ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإني أخشى أن يطول بالناس زمان أن يقول قائل: إنا لا نجد آية الرجم في كتاب الله جل وعلا. فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله سبحانه. وفي لفظ الإمام مالك قال عمر: (ووالله لولا أني أخشى أن يقول الناس زاد عمر بن الخطاب في كتاب الله لكتبتها في المصحف بيدي: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة)، قال مالك: الشيخ والشيخة: الثيب والثيبة. أي: المحصن والمحصنة. ويعلق الإمام الشنقيطي رحمه الله على هذا الحديث ويقول: وآية الرجم نسخت تلاوتها، وبقي حكمها لم ينسخ، فهي آية منسوخة التلاوة باقية الحكم. فهذا حد الزاني المحصن الثيب الذي تزوج زواجاً شرعياً صحيحاً وهو حر عاقل بالغ فترك هذا اللحم الطيب، وذهب ليأكل ذاك اللحم النيء الخبيث. قال الإمام أحمد: إن الزاني المحصن يجلد ويرجمه، وخالف جمهور أهل العلم، كما خالف أبو حنيفة جمهور أهل العلم كذلك، خالف الإمام أحمد الجمهور فقال: الزاني المحصن يجلد ويرجمه، واستدل على ذلك بحديث في الصحيحين من حديث عبادة بن الصامت، ولكن الراجح أن حديث عبادة كان في أول الأمر ثم نسخ، وبقي حكم الرجم فقط للزاني المحصن، واستدل جمهور أهل العلم على ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم الزاني المحصن فقط ولم يجلده قبل الرجم، ففي الحديث الذي رواه مسلم من حديث بريدة أن ماعز بن مالك رضي الله عنه جاء إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! طهرني. وانتبه لهذا الحديث، فقد جاء ماعز بنفسه، لم يأت به بوليس الآداب، ولم يأت به جندي من الشرطة، وإنما جاء يسعى على قدميه إلى الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ويقول: يا رسول الله! طهرني، سبحان الله! لم يرك أحد يا ماعز، فما الذي جاء بك يا ماعز؟ انطلق واهرب يا ماعز! لا؛ فإن هربت اليوم في الدنيا، وإن هربت من رسول الله في الدنيا فلن أستطيع أن أهرب من ملك الملوك وجبار السماوات والأرض. هذا هو الحد الفاصل بين أن نربي أبناءنا على مراقبة القانون الوضعي الأعمى وبين مراقبة الحي الذي لا ينام: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يُرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سُبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه).

مراقبة الله

مراقبة الله نريد أن نربي القلوب على مراقبة علام الغيوب، أراد أحد الأساتذة الكرام أن يربي طلابه على مراقبة الله جل وعلا تربية عملية على أرض الواقع، فدفع لكل تلميذ من تلامذته دجاجة أو طائراً، وقال: ليذهب كل تلميذ وليذبح هذا الطائر في مكان لا يراه فيه أحد. فذهب كل تلميذ بطائره في مكان يغيب فيه عن أعين الناس، ثم ذبح كل طالب طائره وعاد به إلى أستاذه، ونظر الأستاذ فوجد تلميذاً نجيباً قد جاء بطائره ولم يذبحه، فقال له: لماذا لم تذبح طائرك؟ فقال: يا أستاذي! لقد طلبت منا أن نبحث عن مكان لا يرانا فيه أحد، وما من مكان ذهبت إليه إلا ورأيت أن الله يراني، فأين أذبحه؟! إنها مراقبة الله. إذا خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل عليَّ رقيب ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما يخفى عليه يغيب قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7] معهم أينما كانوا بسمعه، معهم أينما كانوا ببصره، معهم أينما كانوا بعلمه، ولا تقل: معهم أينما كانوا بذاته. فلا تحيز ذات الله، ولا تجعل ذات الله في أماكن الأوحال والنجاسات والقاذورات. وقال تعالى: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى * قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى * قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:43 - 46]، أي: إني معكما بسمعي وبصري فلا تخافا، ومن كان الله معه فمن يكيده؟ ومن يقف ضده؟ فمعه الحارس الذي لا ينام، ومعه الهادي الذي لا يضل، ومعه الفئة التي لا تقهر، ومعه القوة التي لا تهزم، {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر:36]. أمسك أعرابي امرأة في الصحراء وأراد أن يفعل بها الفاحشة، فأرادت هذه المرأة الورعة أن تعلمه درساً من دروس المراقبة، فقالت له: اذهب وانظر هل نام الناس جميعاً في الخيام؟ فانطلق سعيداً بمعصية سيعقبها الندم، وسيعقبها الغضب، انطلق سعيداً ليفتش وليبحث، ثم عاد إليها قائلاً: اطمئني نام الناس جميعاً، ولا يرانا إلا الكواكب فقالت المرأة المعلمة: وأين مكوكبها؟! أين الله الذي لا يغفل ولا ينام؟! أين الحي القيوم الذي لا تأخذه سِنَةٌ ولا نوم؟!

قصة ماعز بن مالك

قصة ماعز بن مالك جاء ماعز بن مالك بنفسه على قدميه إلى الحبيب المصطفى ليقول: يا رسول الله! طهرني. والعلمانيون يقولون: انظروا إلى الإسلام المتعطش للدماء، انظروا إلى الإسلام المتعطش لإقامة الحدود، انظروا إلى الوحشية، انظروا إلى البربرية! كما يتغنى بذلك أهل العلمنة أذناب الشرق الملحد والغرب الكافر، لقد جاء الرجل بنفسه وهو يقول: يا رسول الله! طهرني، والحبيب المصطفى يقول: (ويحك ارجع استغفر الله وتب إليه)، لم يقم النبي عليه الحد، لم يقل النبي: امسكوه قبل أن يهرب. كلا كلا، الإسلام دين الرحمة، الإسلام أخبرنا أن الله أدخل بغية زانية الجنة؛ لأنها رحمت كلباً فسقته الماء، ويخبرنا الإسلام أن امرأة دخلت النار لأنها حبست هرة ومنعت عنها الطعام والماء، الإسلام دين الرحمة والشفقة حتى في الكلاب وفي القطط وفي الطيور وسائر الحيوانات، الإسلام ما كان ولن يكون ديناً متعطشاً للدماء كما يتغنى بذلك أهل الشرق وأهل الغرب لا والله، بل اسألوا الإسلام عن الأمان، اسألوا الإسلام عن الأمن، اسألوا الإسلام عن الرحمة، اسألوا الإسلام عن الشفقة، اسألوا الإسلام عن العفو، اسألوا الإسلام عن الكرم، بل اسألوا اليهود والنصارى الذين عاشوا في كنف الإسلام سنوات طوال، اسألوهم عن رحمة الإسلام، وعن عظمة الإسلام، وعن شفقة الإسلام؛ لتعلموا علم اليقين أن النبي عليه الصلاة والسلام ما بعث بهذا الدين إلا كما قال: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق). قال له النبي: (ويحك! ارجع استغفر الله وتب إليه)، فرجع ماعز غير بعيد، ثم جاء مرة ثانية وقال: يا رسول الله! طهرني. قلبه يعتصر، هو لا يخالف رسول الله، وإنما يريد أن يطهر نفسه بين يدي الله جل وعلا الذي سمعه ورآه، قلوب حية تغلي من شدة الخوف من الله جل وعلا، فقال له النبي للمرة الثانية: (ويحك ارجع استغفر الله وتب إليه)، فرجع ماعز بن مالك غير بعيد، ثم جاء إلى المصطفى للمرة الثالثة وقال: يا رسول الله! طهرني. فقال المصطفى: (ويحك ارجع فاستغفر الله وتب إليه)، فرجع ماعز غير بعيد، ثم جاء في المرة الرابعة فقال: يا رسول الله! طهرني. قال: (ممّ أطهرك يا ماعز؟ قال: من الزنا. فسأل النبي أصحابه: أبه جنون؟ قالوا: لا يا رسول الله، ليس مجنوناً. قال: أو شرب الخمر فلعبت الخمر برأسه؟ فقام أحد الصحابة فاستنكهه -أي: شم رائحة فمه- فقال: لا يا رسول الله، لم يشرب خمراً. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم به فرجم، وبعد يومين أو ثلاثة عاد المصطفى إلى المجلس وقال: استغفروا لأخيكم ماعز بن مالك، فقال الصحابة: غفر الله لـ ماعز بن مالك فقال المصطفى: والذي نفسي بيده لقد تاب توبة لو قسمت على أمة لوسعتهم).

قصة الغامدية

قصة الغامدية جاءت الغامدية فقالت: يا رسول الله! طهرني. فقال لها المصطفى عليه الصلاة والسلام: (ويحك ارجعي استغفري الله وتوبي إليه)، فقالت المرأة: أتريد أن تردني كما رددت ماعز بن مالك؟ يا إلهي! هل المرأة تقول هذا؟! يقول لها المصطفى عليه الصلاة والسلام: (ويحك ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه) فترد المرأة على رسول الله قائلة: أتريد أن تردني كما رددت ماعز بن مالك، إن في بطني حملاً من الزنا فماذا قال الحبيب: أرجم؟ أقتل؟ لا، وإنما قال: (اذهبي حتى تضعين هذا الولد)، فهذا الولد ما جريرته؟ فانطلقت المرأة حتى وضعت ولدها، وجاءت تلفه في خرقة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهي تقول: يا رسول الله! طهرني. جاءت بعد ثمانية أشهر أو أكثر أو أقل، جاءت بعد هذه الشهور الطويلة وما نسيت وما هربت، وما خافت أن تأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما جاءت بعد أشهر طويلة تقول: يا رسول الله! طهرني. فهل أمر النبي برجمها؟ كلا. سبحان الله! إذاً ماذا فعل؟ قال: (انطلقي وارضعيه سنتين كاملتين حتى تفطميه)، فانطلقت المرأة برضيعها -وهذه في رواية صحيحة في صحيح مسلم- وأرضعته حولين كاملين، وعادت المرأة بعد فطام الولد وهو يحمل كسرة خبز بيده، فقالت: يا رسول الله! هذا ولدي قد فطمته، وها هو يأكل الخبز فطهرني. بعد سنتين! بل إن شئت فقل: بعد ثلاث سنوات ولم تنس المرأة أن تأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليقيم عليها حد الله جل وعلا، فيأمر النبي صلى الله عليه وسلم بها أن ترجم، فيحفر لها وتوضع في الحفرة وترجم، وكان من بين الراجمين خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه، فرجمها خالد بحجر فانفضخ الدم منها على وجهه، فسبها خالد بن الوليد، فسمع النبي سب خالد لها، فقال: (مهلاً يا خالد! أي: لا تسب هذه المرأة. ثم قال الحبيب: والله لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر الله له)، وانظر إلى هذه المنقبة: فقد أمر النبي بها فغسلت وكفنت وصلى عليها المصطفى ودفنها، ويا لها من كرامة أن يدعو لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يصلي عليها نهر الرحمة وينبوع الحنان بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام. هذا -أيها الأحبة- هو حد الزاني إن كان بكراً وإن كان محصناً.

دعوة للتوبة من الزنا

دعوة للتوبة من الزنا وأخيراً: أوجه هذا النداء لكل من ارتكب هذه الفاحشة، ولكل من ارتكب هذه الكبيرة، أذكره بهذا النداء الندي الرخي، وبهذا النداء العلوي الرباني الذي يسكب الأمل في القلوب سكباً، الذي يرد البسمة إلى الشفاه، ويرد الأمل إلى القلوب، ويرد الدمعة الحزينة الدائبة إلى العيون، اسمع لنداء ربك الذي خلقك، وهو الذي يعلم ضعفك، وهو الذي يعلم عجزك، وهو الذي يعلم فقرك، وهو الذي يعلم أنك قد تضعف وتزل في وقت من الأوقات، وبالرغم من ذلك ينادي عليك من سمائه وعليائه جل وعلا ويقول: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]. أيها العاصي! أيها المذنب! تب إلى الله جل وعلا، واعلم أن الأصل في الكبائر هو التوبة، وهذا من أروع ما سطره شيخ الإسلام ابن تيمية، قال: إن الأصل في الكبائر هو التوبة ما لم يرفع أمرك إلى ولي الأمر المسلم. أسأل الله أن يرزق الأمة ولي الأمر المسلم الذي يحكم الأمة بكتاب الله وبشريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن لم يرفع أمرك إلى ولي الأمر المسلم فما عليك إلا أن تتوب إلى الله عز وجل، وأن تلجأ إلى الله، وأن تقلع عن الكبيرة وعن المعصية، وأن تندم على فعلها، وأن تكثر من العمل الصالح والبكاء بين يدي العزيز الجليل جل وعلا، فإن قبل الله جل وعلا منك التوبة سعدت في الدنيا وأسعدك الله بالتوبة الصادقة في الآخرة، فهيا أيها المسلم، وهيا أيتها المسلمة، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم:8].

أحاديث في سعة رحمة الله تعالى

أحاديث في سعة رحمة الله تعالى سأذكر بعض الأحاديث التي تذكر بعظيم فضل الله وبسعة فضله سبحانه وتعالى. وقبل ذلك أقول: أيها الحبيب الكريم! تب إلى الله عز وجل، فأنا أذكر نفسي وإياك، فإن التوبة يؤمر بها العاصي والمؤمن، تب إلى الله سبحانه، واعلم أن الله سيفرح بتوبتك وإن كنت قد ارتكبت جريمة الزنا، عد إلى الله وتب إليه وسيفرح الله بأوبتك، وهو الغني عن العالمين الذي لا تنفعه الطاعة ولا تضره المعصية. (يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك من ملكي إلا كما ينقص المِخْيطُ إذا أُدخل البحر). فضل الله عظيم، ورحمة الله واسعة، فلا تقنط من رحمة الله، ولا تيأس من رحمة الله، وتب إلى الله جل وعلا، واعلم أن الله تواب رحيم، واعلم أن الله غفور كريم، يغفر الذنوب ويقبل التوبة عن عباده. وفي الحديث الآخر يقول صلى الله عليه وسلم: (لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاةٍ، فانفلتت منه راحلته فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها وقد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك، إذ به يرى راحلته قائمة عند رأسه وعليها الطعام والشراب) رجل انفلتت منه الدابة وعليها الطعام والشراب فيئس واسستسلم للموت، ونام في ظل شجرة ينتظر أمر الله جل وعلا، فبينما هو كذلك إذا به يرى الدابة واقفة عند رأسه وعليها الطعام وعليها الشراب، فسعد سعادة غامرة، وفرح فرحاً منقطع النظير، فأراد أن يعبر عن شكره لله عز وجل، فقال: اللهم! أنت عبدي وأنا ربك يقول المصطفى: (أخطأ من شدة الفرح)، هذه الفرحة أنسته نفسه. فالله جل وعلا يفرح بك إن تبت إليه أعظم من فرحة هذا العبد بعودة راحلته إليه مرة أخرى. يا من أذنبت في حق الله بالنهار تب إلى الله، ويا من أذنبت في حق الله بالليل تب إلى الله، فإن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ولا يزال ربك كذلك حتى تطلع الشمس من مغربها، وهذه علامة من علامات القيامة الكبرى، فلا تيأس أبداً ولا تقنط من رحمة ولا من عفو الله جل وعلا، اعترف إلى الله بذنبك، وتب إلى الله وقل: إلهي لا تعذبني فإني مقر بالذي قد كان مني فكم من زلة لي في البرايا وأنت عليَّ ذو فضل ومنِّ يظن الناس بي خيراً وإني لشر الناس إن لم تعف عني تب إلى الله أيها المسلم وتوبي إلى الله أيتها المسلمة، وتوبوا إلى الله جميعاً -أيها المؤمنون- لعلكم تفلحون، وأسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يستر نساءنا وأن يستر بناتنا. واعلم أيها الحريص على الزنا وعلى انتهاك الحرمات والأعراض أن الزنا دين حتماً ستوفيه. يا هاتكاً حرم الرجال وقاطعاً سبل المودة عشت غير مكرم من يزن في قوم بألفي درهم في بيته يزنى بربع الدرهم إن الزنا دين إذا أقرضته كان الوفا من أهل بيتك فاعلم فيا أيها الشاب: تب إلى الله، وتذكر أمك، وتذكر أختك، وتذكر ابنتك، وتذكر زوجتك، فإن رأيت امرأة مسكينة ضعفت فأعنها على طاعة الله، وأنت -أيتها المسلمة- تذكري القرآن، وتذكري السنة، وتذكري النار، وتذكري الجنة، وتذكري هذا الأب المسكين، وتذكري هذا الزوج المسكين، وتذكري هذه الأسرة التي ستضع رؤوسها كلها في الوحل والتراب. أيها المسلمون: إن الزنا جريمة كبيرة، وجريمة بشعة تؤجج نار الأحقاد في القلوب، ومن ثم حذر منها علام الغيوب والحبيب المحبوب، صلى الله عليه وآله وسلم. أسأل الله جل وعلا أن يسترنا وإياكم في الدنيا والآخرة، وأن يتقبل منا وإياكم جميعاً صالح الأعمال، اللهم! احفظ نساءنا، اللهم! احفظ بناتنا، اللهم! احفظ بناتنا، اللهم! اجعلهن قرة عين لنا في الدنيا والآخرة، اللهم! أصلح شباب المسلمين، اللهم! أصلح شباب المسلمين، اللهم! أصلح شباب المسلمين، اللهم! من كان من شبابنا طائعاً فزده طاعة على طاعته، ومن كان منهم على معصية فخذ بناصيته إليك يارب العالمين، اللهم! أصلح حكام المسلمين ووفقهم للعمل بكتابك وتحكيم شريعة نبيك صلى الله عليه وسلم، اللهم! رد الأمة إليك رداً جميلاً، اللهم! رد الأمة إليك رداً جميلاً، اللهم! عجل بالقائد الرباني الذي يقود الأمة بكتابك وبسنة نبيك أنت ولي ذلك والقادر عليه، اللهم! أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، واشف اللهم! صدور قوم مؤمنين، وانصر المجاهدين في كل مكان يا أرحم الراحمين، اللهم! احمل المسلمين الحفاة، واكسُ المسلمين العراة، وأطعم المسلمين الجياع، اللهم! اجعل مصر واحة للأمن والأمان، اللهم! اجعل مصر سخاء رخاء وسائر بلاد الإسلام، اللهم! ارفع عن مصر الغلاء والوباء والبلاء، اللهم! ارفع عن مصر الفتن ما ظهر منها وما بطن برحمتك يا أرحم الراحمين. أحبتي في الله! هذا، وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.

حديث الركب

حديث الركب اشتداد ظلمة الليل مؤذن باقتراب الفجر، وإن ما نراه من فتن مدلهمة تعصف بالمسلمين، ومن تسلط أعداء الأمة على رقاب المؤمنين فضلاً عن ثرواتهم وخيراتهم لن يطول، فالليل الحالك قد أزف على الرحيل، بل قد بدأت تباشير الفجر بالظهور، وهذه الصحوة الإسلامية التي عمت بقاع الأرض خير شاهد على ذلك. فصبراً أيها المسلمون! فما بين المحنة والمنحة إلا غشاء رقيق وهو الصبر.

تعريف الركب

تعريف الركب بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة؛ فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الأحبة الكرام! وطبتم جميعاً وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم الكريم جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت المبارك على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! عنوان موضوعنا هو: حديث الركب. والركب في اللغة: هم أصحاب الإبل في السفر. وحديث أصحاب السفر حديث متنوع الأطراف، متشعب الموضوعات، وإنما كان اختياري لهذا العنوان: (حديث الركب)؛ لأنني أود أن أتحدث في عدة موضوعات، وهذا يشبه حديث الركب في السفر. هذه الموضوعات التي سنتناولها -إن شاء الله تعالى- هي: الموضوع الأول: بشريات من القدس ولبنان. الموضوع الثاني: أحداث الجزائر بين حرمة الدماء وعلامات الاستفهام! الموضوع الثالث: رسالة من طبيب يكتبها بدموع الندم إلى محرر بريد (الأهرام). فأعيروني القلوب والأسماع، والله أسأل أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن نكون كما قال الله عز وجل: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:18].

مبشرات من الأحداث الجارية في فلسطين ولبنان

مبشرات من الأحداث الجارية في فلسطين ولبنان أولاً: بشريات من القدس ولبنان: منذ شهر فقط وقفت على هذا المنبر المبارك لأخطب في المسلمين خطبة الجمعة والتي كانت بعنوان: (بل هم الخنازير) كنت أرد فيها على إخوان القردة والخنازير من أبناء يهود، الذين تطاولوا على البشير النذير، فصوروه على هيئة خنزير يطأ بقدميه قرآن الملك القدير! ويومها قلت: إننا نستبشر خيراً بقرب الفتح بعدما تطاول اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم وقفت الأمة مكتوفة الأيدي! وما سمعنا زعيماً من زعمائها في مؤتمر صحفي قام يذب عن عرض المصطفى؛ فقلت: إذاً: والله نستبشر خيراً؛ لأن الذي سيتولى الدفاع عن المصطفى هو الله، وقد كان، فلم يمض إلا شهر واحد وتحقق ما تمناه كل مسلم ومسلمة، ففي الأسبوع الماضي تزلزلت الدولة العبرية اليهودية الصهيونية زلزالاً مزق قلوب رجالاتها ونسائها، بصورة لم تشهدها دولة إسرائيل منذ قيامها على حد تعبير نتنياهو، تزلزلت دولة إسرائيل بحدوث انفجارات مدوية في مدينة القدس التي تطاول فيها اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووقعت انفجارات على أيدي بعض الفتيات اليهوديات! فسقط ما يزيد على مائتي رجل وامرأة من اليهود ما بين قتيل وجريح. وأنا أقول: إن هذا هو أول انتقام من الله لنبيه، فلو تدبرت الحدث جيداً ما وجدت وراءه أي مسلم؛ إذ إن الفتيات اليهوديات كنَّ قد خططن لعملية انتحارية في القدس، أو بمعنى أدق لعملية تخريبية في القدس، فشاء الملك الذي لا راد لمشيئته أن تتفجر هذه العبوات الناسفة، فيسقط هذا العدد الذي لم يسقط قبله مثله في دولة إسرائيل لا سيما في مدينة القدس، ووالله الذي لا إله غيره! إنني لأعتقد اعتقاداً جازماً بأن هذا إنما هو انتقام من الله للمصطفى صلى الله عليه وسلم الذي خذلته الأمة، وما انتصرت له الأمة، وما هذا إلا تضميد لجراح قلوب كثير من الموحدين والموحدات ممن لا يملكون حولاً ولا قوة. نسأل الله أن يضمد جراحنا، وأن يقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، وبتخريب حصون اليهود المجرمين، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وبعده مباشرة وقعت حادثة أخرى لم يقع مثلها في تاريخ إسرائيل كله! هذه الحادثة تتمثل في قتل أحد عشر رجلاً من صفوة جنود وضباط الجيش الأمريكي من قوات الكومندوز، ومن قوات البحرية الأمريكية بعد إنزال فاشل تعدى خطوط العدو على حد زعم اليهود، أي: في جنوب لبنان، فقتلوا تقتيلاً وجهاً لوجه، وأصيبت إسرائيل بصدمة بالغة ظلوا طيلة ذلك اليوم في حيرة وفي دهشة! إذ لم يحدث مثل هذا من قبل في تاريخ الدولة الإسرائيلية، فقلت: هذا هو الانتقام الثاني من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم. وإنها بشريات! ولا زالت البشريات مقبلة، بل إنني أستبشر خيراً بقرب الفتح، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية طيب الله ثراه في (الصارم المسلول على شاتم الرسول): حدثني العدول من أهل الفقه والخبرة ممن كانوا يحاصرون بني الأصفر، أي: الروم، يقولون: كان الحصن يستعصي علينا، فيعجز المسلمون المحاصرون عن فتحه، يقولون: حتى إذا ما وقعوا في عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم استبشرنا خيراً بقرب الفتح مع امتلاء قلوبنا غيظاً مما قالوه في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنحن نستبشر خيراً بقرب الفتح -إن شاء الله- بعدما تطاول اليهود المجرمون ووقعوا في عرض النبي صلى الله عليه وسلم، في الوقت الذي خذلت فيه الأمة كلها رسول الله! إلا من رحم ربك من أفراد لا يملكون حولاً ولا طولاً ولا قوة. أسأل الله جل وعلا أن يملأ قلوب وبيوت اليهود ناراً، وأن يملأ قلوبهم نكداً وحزناً وهماً وغماً، كما مزقوا قلوب الموحدين والموحدات، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

المستقبل للإسلام

المستقبل للإسلام أيها الشباب! أبشروا، والله إنني ألمح نور الفجر يأتي بعد هذا السواد الحالك، إن أشد ساعات الليل سواداً هي الساعة التي يليها ضوء الفجر، وفجر الإسلام قادم، بل إنني ألمح من خلال فهمي لسنن الله الربانية في الكون أن الله جل وعلا يهيئ الكون كله لأمر أراده، ولأمر وعد به الصادق رسول الله الذي لا ينطق عن الهوى، فقد روى أحمد وابن حبان والحاكم في المستدرك وصححه على شرط الشيخين وأقره الذهبي والمنذري أنه صلى الله عليه وسلم قال: (بشر هذه الأمة بالسناء والتمكين والنصر)، فالنصر في نهاية المطاف لأمة النبي صلى الله عليه وسلم ولو طال الطريق. فيا شباب! أرجو أن تخرجوا من هذه الهزيمة النفسية المدمرة، وإن كان الواقع أمامنا أليماً ومراً، لكن إياك أن تنهزم نفسياً، وأن تعتقد أنه لا نصرة ولا فجر لهذا الليل الطويل الدامس، بل إن أشد ساعات الليل سواداً هي الساعة التي يليها ضوء الفجر، وأمة الإسلام ما ماتت، وإن كان صحيحاً أنها مرضت، ونامت، وطال ركودها، ولكنها ما ماتت ولن تموت -بإذن الله- كما وعد الله، وكما وعد رسوله صلى الله عليه وسلم. قال الشاعر: لئن عرف التاريخ أوساً وخزرجاً فلله أوس قادمون وخزرجُ وإن كنوز الغيب تخفي طلائعاً حرة رغم المكائد تخرجُ إن الصحوة في مشارق الأرض ومغاربها يمدها كل يوم، بل كل ساعة شباب في ريعان الصبا، وفتيات في عمر الورود، وإن الأعداد التي تجتمع في المحاضرات واللقاءات لهي أصدق دليل على عودة شباب ورجال ونساء هذه الأمة إلى الله جل وعلا، فإننا نرى الأمة الآن في جل شبابها قد ولى ظهره لتل أبيب، وواشنطن، وبانكوك، ومدريد، وباريس، وولى وجهه مرة أخرى نحو المسجد الحرام، فلو ذهبت إلى حج بيت الله أو إلى العمرة لوجدت جل من يطوف ببيت الله جل وعلا هم من شباب هذه الأمة، أسأل الله أن يكثر من أمثالهم في الخير، وأن يقر أعيننا جميعاً بنصرة الإسلام وعز الموحدين: صبح تنفس بالضياء وأشرقا والصحوة الكبرى تهز البيرقا وشبيبة الإسلام هذا فيلق في ساحة الأمجاد يتبع فيلقا وقوافل الإيمان تتخذ المدى درباً وتصنع للمحيط الزورقا ما أمر هذي الصحوة الكبرى سوى وعد من الله الجليل تحققا هي نخلة طاب الثرى فنما لها جذع قوي في التراب وأعذقا هي في رياض قلوبنا زيتونة في جذعها غصن الكرامة أورقا فجر تدفق من سيحبس نوره أرني يداً سدت علينا المشرقا يا نهر صحوتنا رأيتك صافياً وعلى الضفاف رأيت أزهار التقى قالوا تطرف جيلنا لما سما قدراً وأعطى للطهارة موثقا ورموه بالإرهاب حين أبى الخنا ومضى على درب الكرامة وارتقى أوكان إرهاباً جهاد نبينا أم كان حقاً بالكتاب مصدقا أتطرف إيماننا بالله في عصر تطرف في الهوى وتزندقا إن التطرف أن نذم محمداً والمقتدين به ونمدح عفلقا إن التطرف أن نرى من قومنا من صانع الكفر اللئيم وأطرقا يا جيل صحوتنا! أعيذك أن أرى في الصف من بعد الإخاء تمزقا لك في كتاب الله فجر صادق فاتبع هداه ودعك ممن فرقا لك في رسولك أسوة فهو الذي بالصدق والخلق الرفيع تخلقا يا جيل صحوتنا ستبقى شامخاً ولسوف تبقى باتباعك أسمقا إن البشريات الكريمة تتوالى، بل وسوف تتوالى، وإنني أعتقد اعتقاداً جازماً بأن القرن القادم إن شاء الله تعالى هو قرن دين محمد بن عبد الله، والله إن الأمة ليست فقيرة الأمة ليست ضعيفة، بل الأمة غنية الأمة قوية برجالها قوية بمالها قوية بأعدادها قوية بمناخها قوية بخيراتها قوية بمنهج ربها وسنة نبيها، ولكن الأمة أصيبت وابتليت بمجموعة من الزعامات حالت بين الأمة وبين عطائها حالت بين الأمة وبين مجدها حالت بين الأمة وبين أن تتبوأ المكانة التي أرادها لها ربها ونبيها صلى الله عليه وسلم، ولكنني أعلم يقيناً أن الخير في الأمة كامن، وأن الخير في الأمة وفير، ولكن أسأل الله أن يمن على الأمة بالقائد الرباني، الذي يفجر هذه الطاقات الكامنة، وهذه القدرات الهائلة، وهذه الطاقات الجبارة؛ لترفع الأمة من جديد راية الجهاد في سبيل الله، بعد أن تصطلح مع الله؛ فتحكم شريعة الله، وتسير على طريق رسول الله، وحينئذ والله! لا تقف أمامها قوة على وجه الأرض، ولمَ لا؟! وقد وعد الله الأمة بالنصر مع بذلها أقصى ما في طاقتها، قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، وقال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال:60]. فإذا رفعت الأمة راية الجهاد في سبيل الله فإن الله سيمكن لها، وسيذل لها أهل الشرق والغرب، كما حقق الله قبل ذلك وعده للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وللصادقين من أمته من بعده، كما في قوله سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} [النور:55] وكما في قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36]. وروى الإمام أحمد والحاكم في (المستدرك) وقال الحافظ العراقي ورجاله ثقات، وقال الإمام الهيثمي في (المجمع): ورجاله رجال الصحيح، من حديث حذيفة بن اليمان أنه صلى الله عليه وسلم قال (ستكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم يكون ملكاً عاضاً، فيكون فيكم ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعه الله إذا شاء أن يرفعه، ثم يكون ملكاً جبرياً)، والأمة الآن تشهد مرحلة الملك الجبري (ثم يكون ملكاً جبرياً فيكون فيكم ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعه الله إذا شاء أن يرفعه، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة)، أسأل الله أن يعجل بها، وألا يحرمنا من أن نستظل بظلالها الوارفة، فإن لم يقدر لأمثالنا فليقدر لأبنائنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أيها الأحبة الكرام! أحببت بهذا الموضوع الأول المختصر أن أسكب من جديد في قلوب شبابنا الأمل، فإنني أتألم كثيراً لبعض شيوخنا ودعاتنا ممن يشخصون داء الأمة، فيترك بعضهم الموضوع دون أن يجدد الأمل في قلوب أبناء الأمة، فيزداد اليائسون يأساً، ويزداد القانطون قنوطاً، ويزداد المهزومون هزيمة، ولكن شخص الداء، وحدد الدواء، وجدد الأمل في قلوب أبناء هذه الأمة، فإن وعد الله قادم، ووعد الله لا يخلف، قال تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:8 - 9]، أسأل الله جل وعلا أن يمكن لدينه، وأن يعز الإسلام والمسلمين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

علامات استفهام حول أحداث الجزائر

علامات استفهام حول أحداث الجزائر الموضوع الثاني: أحداث الجزائر بين حرمة الدماء وعلامات الاستفهام!! تكلمت في خطبة جمعة عن أزمة العقل المسلم، ومما زادني حسرةً وألماً أنني وجدت بعد الجمعة من اعتقد أنني كنت أتكلم عن حادث وفاة سندريلا القرن العشرين، وأنا ما تحدثت عن الحادث أبداً، وإنما وقفت عند الحادث لأستخرج منه الدروس والعظات والعبر، لاسيما وأن الحادث قد أحدث شرخاً رهيباً في صرح عقيدة الولاء والبراء، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن العقل المسلم يعيش حالة أزمة، ويتعامل كثير من المسلمين -الآن ومن قبل- مع الأحداث تعاملاً خطيراً، فتسمع من بعض المسلمين من يتهم المسلمين في الجزائر بهذه المجازر والمذابح المروعة! وهذا الذي يتهم المسلمين في الجزائر بذلك لا يفهم قرآناً ولا يفهم سنة، ولا يقف على سنن الله الربانية في كونه! تدبر معي أيها الحبيب الكريم! أحداث الجزائر التي تخلع القلب الآن! ويجب على المسلم أن يعيش أحوال أمته، وأن يعيش جراح إخوانه، قال عليه الصلاة والسلام: (مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)، فلا يجوز لمسلم أن يأكل ملء بطنه، وأن ينام ملء عينه، وأن يضحك ملء فمه، وأن ينظر إلى أحوال إخوانه وأخواته هنا وهنالك فيهز كتفيه ويمضي وكأن الأمر لا يعنيه لا من بعيد ولا من قريب! فإن هذا لا يستحق هذه النسبة الإسلامية الشريفة، بل إن الله جعل المؤمنين إخوة، فقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:10]. والدماء لها حرمة عظيمة عند رب الأرض والسماء، ولقد كرم الله الإنسان، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء:70]، فلقد خلق الله الإنسان بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وسخر له ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه، وأنزل الكتب، وأرسل الرسل، كل هذا من أجل الإنسان، وأنزل عليه شريعةً ضمنت له كل الحقوق، وضمنت له الحياة السعيدة الأبية الكريمة، ومن أعظم وأكبر هذه الحقوق التي ضمنتها الشريعة للإنسان هي: حق الحياة، ولا يجوز أبداً لأحد أن يسلب هذه الحياة ممن وهبها له الله سبحانه وتعالى، إلا في الحدود الشرعية التي أمر الله سبحانه وتعالى بها، فلا يجوز أبداً أن تنتهك حرمة الحياة، وأن تسفك دماء المؤمنين والمسلمين إلا بالحق الشرعي الذي قرره الرب العلي، والحبيب النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} [الأنعام:151].

الحالات التي يجوز فيها قتل المسلم

الحالات التي يجوز فيها قتل المسلم قد بين النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحق، فقد روى البخاري ومسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة). هذه هي الحالات الثلاث التي يجوز أن تسفك فيها الدماء على يد ولي الأمر المسلم أو من ينوب عنه، فالأمر ليس فوضى لكل أحد؛ حتى لا يتحول المجتمع إلى غابة يقتل فيه القوي الضعيف، كلا! الحالة الأولى هي: حالة القتل، قال الله تعالى فيها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:178 - 179] إي وربي! إن لكم في القصاص حياة: حياة بحفظ حياة أفراد المجتمع، وحياة بردع كل من سولت له نفسه أن يتعدى على الدماء المسلمة البريئة، ولذا قال سبحانه: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:179]. الحالة الثانية: من زنا بعد إحصان، لقوله: (الثيب الزاني). الحالة الثالثة: المرتد، لقوله: (والتارك لدينه المفارق للجماعة)، هذه هي الحالات التي يجوز لولي الأمر المسلم أن يقتل فيها فقط. وأما ما عدا ذلك فإن سفك الدماء وقتل النفس المسلمة أو المؤمنة البريئة جريمة تأتي مباشرة بعد جريمة الشرك بالله، قال تعالى في صفات عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:68 - 70]. أيها الأحبة الكرام! إن قتل النفس المسلمة المؤمنة البريئة جريمة من أخطر وأكبر الجرائم والكبائر، وأسألك بالله -أخي الكريم- أن تتدبر معي هذه الآية التي في سورة النساء، وهي قول الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} [النساء:93]، فتدبر فيها لتقف على حرمة الدماء! وفي صحيح البخاري من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً)، وأنا ما خرجت عن موضوع الجزائر، ولكن لابد من هذه المقدمة لأصل إلى الحكم الذي أريد أن أصل إليه في هذه الأحداث المفجعة المؤلمة، فتدبر قول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً)! وقال عبد الله بن عمر: (إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها: سفك الدم الحرام بغير حله!). وفي الحديث الذي رواه أحمد والنسائي، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع من حديث معاوية ومن حديث أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا من مات مشركاً، أو قتل مؤمناً متعمداً). واسمع هذا الحديث الذي يخلع القلب! هذا الحديث رواه النسائي وصححه الشيخ الألباني من حديث عمرو بن الحمق الخزاعي أن الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أمَّن رجلاً على دمه فقتله فأنا بريء من القاتل، وإن كان المقتول كافراً)، أتمنى لو أسمع هذا الحديث العالم كله الذي يتهم الإسلام بالتطرف والإرهاب وسفك والدماء! هذا هو دين محمد بن عبد الله، وهذه هي حرمة الدماء في دين المصطفى صلى الله عليه وسلم. وفي الحديث الذي رواه أحمد والنسائي وصححه الشيخ الألباني من حديث بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا)؛ ولذلك فإن أول شيء يقضي الله فيه يوم القيامة الدماء. ولا تعارض بين حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة الصلاة)، وبين قوله: (إن أول ما يقضي الله فيه يوم القيامة الدماء)، لأن الدماء هي حق العباد، والصلاة هي حق خالق العباد، فلا تعارض بين الحديثين؛ ولذلك يقول علي بن أبي طالب كما في الصحيحين: (أنا أول من يجلس بين يدي ربي للخصومة) يقصد المبارزة التي كانت بينه وبين خصمه في غزوة بدر، ففي علي وفي خصمه نزل قول الله تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج:19]، فأول شيء يقضي الله فيه يوم القيامة في الدماء، ولذلك ورد في الحديث الصحيح الذي رواه النسائي وصححه الشيخ الألباني أنه صلى الله عليه وسلم قال: (يؤتى بالقتيل يوم القيامة وأوداجه -أي: عروق أعناقه- تشخب دماً! وهو يمسك بالقاتل ويقول: أي ربِّ! سل هذا فيم قتلني؟!) فيأتي المقتول ويأتي القاتل الذي قتل نفساً، ويأتي القاتل المجرم الذي قتل قرية، والذي قتل مدينة، والذي قتل شعباً، والذي قتل أمة، يأتي يوم القيامة وحوله كل من قتلهم جوعاً، أو عرياً، أو رمياً، أو قتلهم بغير ذلك، يأتي هؤلاء يتعلقون بالقاتل يوم القيامة وهم يقولون للرب جل جلاله: يا رب! سل هذا فيم قتلنا؟! فيا أيها المسلم، اعلم حرمة الدماء.

بعض الحقائق في أحداث الجزائر

بعض الحقائق في أحداث الجزائر وبعد هذه المقدمة التي طالت أقول: من هو المسلم الذي يجرؤ أن يتهم مسلماً على وجه الأرض أنه قد استحل سفك الدماء؟! ومن هو الذي يتهم الإسلاميين في الجزائر بأنهم يقومون بهذه المجازر والمذابح بعد ظهور هذه الحقائق؟! إن هذا ليس إلا ذراً للرماد في العيون، بل هو طمس للعيون، خذوا هذه الحقائق وتدبروها جيداً لتعلموا الحق: أولاً: ما يسمى بمثلث الموت أو مثلث الرعب في الجزائر! الذي حدثت فيه في غضون شهرين ما يزيد على عشرين مذبحة، يتكون من ثلاث مدن بقراها، هذه المدن والقرى تحيط بالجزائر العاصمة في مسافة لا تزيد على عشرين كيلو فقط، وتدبر هذا جيداً! الجزائر العاصمة تحولت الآن إلى ثكنة عسكرية، والجيش حول العاصمة تحولوا إلى ثكن عسكرية، ففي مدينة واحدة فقط سبع قواعد عسكرية، لتكون بمثابة خط الدفاع الأول ضد الإسلاميين على العاصمة الجزائر! هذه المدن الثلاث التي تسمى بمثلث الرعب فيها قوات الأمن وقوات الجيش بصورة مكثفة، ومع ذلك حدث فيها في غضون الشهرين الماضيين ما يزيد على عشرين مجزرة أو عشرين مذبحة، راح ضحية هذه المجازر والمذابح ما يزيد على ألفي رجل وامرأة وطفل. أقول: المجازر الأخيرة التي حدثت في الجزائر تركزت في ثلاث مدن بقراها هذه المدن تحيط بالجزائر العاصمة في مثلث يسميه الجزائريون الآن بمثلث الرعب أو بمثلث الموت؛ جل من سقط مذبوحاً من الرجال والنساء والأطفال في هذه القرى والمدن هم أهل الإسلاميين!! وتطاول المجرمون وقالوا: إن هذه حرب تصفية بين الإسلاميينوبعضهم البعض! ثانياً: المذبحة الأخيرة التي راح ضحيتها ما يزيد على خمسمائة رجل وطفل وامرأة، في حي يقال له: حي سيدي موسى، هذه المساحة قتل المجرمون فيها الرجال والأطفال والنساء, وبقروا بطون النساء! وقطعوا رقاب ورءوس بعض النسوة والأطفال! وعلقوا الرءوس على أبواب المنازل! ثم اغتصب في هذه المذبحة ما يزيد على مائة فتاة! ثم قتلن بعد ذلك! هل يفعل ذلك مسلم؟! والله الذي لا إله غيره إنه لا يفعل ذلك مسلم على وجه الأرض يحمل ذرة إيمان! والأمر الأخطر من هذا، أين قوات الأمن؟! وأين قوات الجيش التي لا تبعد عن حي سيدي موسى أكثر من عشرين كيلو؟! وأين كانت هذه القوات لمدة خمس ساعات متواصلة يذبح فيها المجرمون ويقتلون؟! والحقيقة عن العلامة الاستفهامية الأخيرة -وهي خطيرة- هي ما نشرته مؤخراً منظمة العفو الدولية، هذا مع تحفظي على مثل هذه المنظمات، لكن أقول: إذا نطق الأعداء فالحق ما شهدت به الأعداء، مع أنهم قد احترفوا الكذب والتضليل والتلبيس، إلا أن منظمة العفو الدولية قد أصدرت أخيراً تقريراً تحت عنوان (الصمت والخوف) هذا التقرير لمنظمة العفو الدولية يتهم المليشيات الجزائرية التي تنتمي إلى الجيش الجزائري، والتي شكلها الجيش عام (1992م) للقضاء على الجماعات الإسلامية في داخل الجزائر، وتتكون هذه الميلشيات من جماعتين: الجماعة الأولى: تسمى: (جماعة قوة الدفاع الذاتي) والجماعة الثانية: تسمى: (حراس القرى)! هذه الجماعات وهذه الميلشيات سلحتها الحكومة الجزائرية، وأمدتها بالسلاح؛ لتقليم أظافر الإسلاميين، وفي القرى التي تقام فيها هذه المذابح الآن رفض أهل هذه القرى وأهل هذه المدن هذه المليشيات، وأصبح جل هؤلاء ممن يحبون الإسلاميين، وكانوا ممن صوتوا للإسلاميين في انتخابات الجزائر التي نحي عنها المسلمون قبل ذلك! وهؤلاء رفضوا أن يتسلموا الأسلحة من الحكومة الجزائرية ليساهموا في (قوة الدفاع الذاتي) أو ليساهموا في (قوات حراس القرى)، فتتهم منظمة العفو الدولية هذه الميلشيات بأنهم هم الذين قاموا بهذه المذابح المروعة؛ لتقليم أظافر الإسلاميين، ولمن صوتوا للإسلاميين! وهم لا زالوا إلى الآن يرفضون أن يصوتوا للحكم العسكري داخل الجزائر، ويريدون للحكم الشرعي أن يسود البلاد، فالحكومة تنتقم من هؤلاء على أيدي هذه الميلشيات التي شكلت عام (92م). هذا ما أدين لله به في هذه المأساة المروعة، أما أن يصدق مسلم أن مسلماً صلى لله، يخرج على نساء وأطفال وشيوخ ليذبح وليزني ويغتصب النساء! ويعلق الرقاب على أبواب المنازل! ثم يقال هذا مسلم! فحاشا وكلا، والإعلام الغربي بدأ يغير اللهجة الإخبارية، وبدأ يغير اللهجة الدعوية في الخطاب الدعوي الآن؛ إذ إن الإعلام الغربي يقول: وعادة ما يلام في مثل هذا الإسلاميون! وهذا تغيير لا شك. فالجزائريون الآن يشيرون بعلامات استفهام ضخمة جداً: من وراء هذه الأحداث في الجزائر؟! من الذي يسفك الدماء المسلمة؟! ومن الذي يقتل النساء؟! وأنا أدين لله بأن العدو الأول في الجزائر هم من نحوا الإسلاميين أول مرة. سبحان الله! حبس المسلسل يا إخوة! ووضع بدقة رهيبة محكمة في بلاد غربية تتغنى إلى الآن بالديمقراطية! فيقال لهم: أنتم تعبدون الديمقراطية وتقدسونها، والإخوة المسلمون في الجزائر وصلوا إلى دفة الحكم عن طريق هذه الديمقراطية التي تدعونها وتزعمونها! هذا مع تحفظي على مسألة الديمقراطية، ولي فيها كلام آخر، ولست بصدد الحكم عنها الآن، لكن أقول للغربيين الذين يعبدون الديمقراطية ويقدسونها: وصل الإسلاميون في الجزائر بقانون الأصوات الذي وضعتموه، وصوّت الشعب الجزائري في أغلبه للإسلام وللإسلاميين، فتدخل الغرب الذي يتغنى بالديمقراطية، والذي لا يريد للديمقراطية أبداً أن تسود على غير أرضه، فإن تمثال الحرية في نيويورك يصدم الذاهب إلى أمريكا؛ وإنما يضحكون به على بقية شعوب العالم؛ إذ إن هذه الدولة تضرب العالم وتسوق العالم كله بعصاً غليظة، ولا تريد للإسلام ولا المسلمين أن يسودوا أبداً، ولا أن يحكموا شرع الله أبداً، مع أن شرع الله فيه الأمن والأمان. وأقول: سقط في الجزائر خلال خمس سنوات فقط ما يزيد على مائة وستين ألف مسلم ومسلمة، لصالح حفنة قذرة ممن لا تريد لشرع الله أن يحكم، وممن لا تريد لشرع الله أن يسود، جلسوا على الكراسي وأزهقوا كل هذه الأرواح، يعني: بمعدل خمسين قتيلاً كل يوم في الجزائر من أجل حفنة قذرة ممن لا تريد لشرع الله أن يحكم وأن يسود! ثم بعد ذلك يلقى باللوم على من قدمهم الشعب ليحكموا الناس بشرع الله!! أسأل الله أن يرفع عن إخواننا في الجزائر الهم والكرب والغم، اللهم ارفع الهم عن إخواننا في الجزائر، اللهم فرج كربهم، اللهم سكن آلامهم، اللهم احقن دماءهم، اللهم انتقم من عدوهم في الخارج والداخل، اللهم انتقم من أعداء الجزائر في الخارج والداخل، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم أخرجهم من بين أعدائهم سالمين غانمين برحمتك يا أرحم الراحمين! أرجو أن ننظر إلى الأحداث بهذه الرؤية، وأنا أكلف كل من يبلغه كلامي أن يبلغ غيره؛ حتى لا يزل مؤمنٌ في اتهام أخ له يدين لله ويؤمن برسول الله، ويعلم يقيناً حرمة الدماء، كما قال الله وكما قال المصطفى رسول الله صلى الله عليه وآله ومن والاه.

عاقبة الظلم

عاقبة الظلم الموضوع الثالث وأختم به: رسالة من طبيب يكتبها بدموع الندم إلى بريد الأهرام: بتاريخ (15/ 8/1997م) كتب طبيب إلى بريد الأهرام يقول: أنا -يا سيدي! - طبيب سابق بالمستشفى الجامعي بأكبر مدن الصعيد، وأبلغ من العمر خمسة وستين عاماً، وقد ترددت طويلاً في أن أكتب إليك، ثم استجمعت إرادتي لكي أزيح عن كاهلي ما لا أطيق، فلقد نشأت في أسرة فقيرة بل ومعدمة، وكنت أستذكر دروسي في طفولتي وصباي على لمبة الجاز، وتحت عمود الكهرباء في الشارع، وأعمل في الإجازة الصيفية لتدبير نفقات الدراسة، حتى حصلت على بكالوريوس في الطب، ودرست (الماجستير) وحصلت عليه، وتزوجت، وأصبحت لي أسرة صغيرة، وبيت ملائم، واشتهرت كطبيب في مدينتي، وانهمر الرزق عليَّ، وبدلاً من أن أشعر بأحاسيس الفقراء الذين كنت منهم، وأعلم معاناتهم واحتياجاتهم فقد وجدتني أتحول في عملي تدريجياً إلى جزار أو منشار، ينشر هؤلاء البسطاء ويمتص دمهم بلا رحمة وحنان، ويحنو في نفس الوقت على الأغنياء ويتملقهم! وحين أكتب إليك رسالتي هذه الآن يتراءى لي وجه مريض بائس كان يحتاج لإجراء جراحة خطيرة، وطلبت منه قبل أن يدخل المستشفى الخاص بي أن يدفع مبلغاً معيناً، ولم يكن معه سوى نصف هذا المبلغ فقط، فجعل المريض يبكي ويستعطفني ويرجوني أن أرأف بحاله، وأن أقبل منه ما معه من المال، ولكنني أصررت على موقفي بصرامة، وطلبت منه أن يدبر المبلغ كاملاً خلال اثني عشر ساعة وإلا فلن أجري له الجراحة! فهرولت زوجته لتبيع ذهبها القليل وما عندها من ماشية، ورجعت إليَّ بالمبلغ، وبدأت في تحضير المريض للجراحة، فإذا بالمريض يموت قبل أن أجري له الجراحة بنصف ساعة فقط، فلم أفكر لحظة في أن أرد المبلغ لأهله المفجوعين والمعدمين! وإنما كنت أزعم لهم أن المريض قد مات أثناء الجراحة؛ لأستولي على المبلغ كله باعتباره أنه أجر لهذه الجراحة، حتى ولو كانت الجراحة لم تتم أصلاً! كما تتراءى لي أيضاً صورة مريض آخر لم أسمح له بدخول المستشفى الخاص بي، وتركته يدعو الله عليَّ ويرجو الله لي سوء المآل! أما وجه ذلك الطبيب الشاب -أو الذي كان شاباً وقتها- فإنه لا يتراءى لي، وإنما يطاردني بملامحه، وبآخر ما نطق به من كلمات في آخر لقاء بيني وبينه! فلقد كان هذا الطبيب الشاب يستحق التعيين في المستشفى الجامعي الذي أعمل فيه لتفوقه، لكني حرمت هذا الطبيب وحرمت زملاءه الذين يستحقون التعيين في هذا المستشفى بعد حصولهم على الماجستير بلعبة حقيرة، وعينت بدلاً منهم ابني وابن شقيقي وابنة شقيقتي! وجاءني هذا الطبيب الشاب ليقول لي بأنه سوف يرحل عن المدينة كلها؛ ليعمل بإحدى الدول العربية، لكنه يعلم علم اليقين أن الله لن يضيع حقه هدراً، وأنه لن يتركني بلا عقاب، ثم قال لي: ولسوف يجيء اليوم الذي أعض فيه على بنان الندم على ما فعلت به وبزملائه من ظلم! ثم انصرف هذا الطبيب الشاب وأنا أبتسم وأنظر إليه باستخفاف، مترفعاً عن الرد عليه في الظاهر، ومتعمداً ذلك في الباطن؛ لكي لا يضاعف هذا الطبيب من ثورته ومن حنقه عليَّ حتى لا ألقى ما يحرجني من إهانة أمام المساعدين والممرضات. ومضى الشاب إلى حال سبيله، ونسيت هذا الشاب، ونسيت زملاءه الذين أضعت عليهم فرصة التعيين بالمستشفى سنوات طويلة، ولا أعرف ماذا جرى لهم من خلالها. يقول: ولعلك الآن تتساءل: لماذا أروي لك هذه الواقعة وغيرها من الوقائع التي قد تسيء إلي وإلى أبنائي وأقربائي إذا تعرفوا على شخصيتي من خلال هذه الرسالة؟ وأجيبك على التساؤل: بأنني لم أعد أهتم بأحد من هؤلاء جميعاً بعد أن تركوني وتخلوا عني! أما لماذا تخلوا عني يا سيدي؟! ولماذا انشغلوا بأنفسهم؟ فلأنني قد مرضت -ويا للعجب! - منذ ثلاث سنوات، مرضت بالمرض اللعين الذي تخصصت في علاج المرضى منه! ومنذ ثلاث سنوات وأنا أسافر للعلاج في الخارج كل سنة، واستهلك معظم ما جمعت من مال خلال سنوات عمري الطويلة، ولو واصلت السفر للعلاج على هذا النحو فلن يمضي أكثر من عام وأصبح بعد ذلك على الحديدة بلا مدخرات ولا مال ولا شيء سوى معاشي كطبيب، وذلك بعد أن تخلى عني أولادي! وبعد أن تخلى عني أبناء إخوتي الذين وضعتهم في مراكزهم وثبتهم فيها. إنني أكتب إليك هذه الرسالة لأقول لكل من تسول له نفسه أن يظلم غيره: إن الله يمهل ولا يهمل، وإن عقابه شديد، كما أكتبها لك أملاً ورجاءً ودعاءً إلى الله أن يعفو عني، وأن يشفيني، وأن يغفر لي، وأملاً ورجاءً أيضاً لكل من ظلمتهم خلال رحلة الحياة أن يسامحوني فيما فعلت بهم؛ لكي يسامحني الله عز وجل، كما أرجو أن تصل رسالتي هذه عبر بابك إلى أبنائي، لكي يساعدوني ويرعوني في مرضي، وعذراً لأنني لم أكتب لك اسمي؛ لأني لم أستطع ذلك، مع أنني لا أعرف كيف استطعت أن أكتب لك هذه الرسالة! لكني أظن أن الله عز وجل سيكتب لي بعد اعترافي بكل ما فعلت الشفاء، وسيجعل لي مخرجاً من ضيق ذات اليد، وبارك الله فيك وفي أمثالك، والسلام. وهذه الرسالة لا تحتاج إلى تعليق! أسأل الله عز وجل أن يشفي هذا الرجل، ونحن لا نعرفه، ولكن الله يعرفه، نسأل الله أن يتقبل منه ندمه وتوبته.

أعظم شروط التوبة هو الندم

أعظم شروط التوبة هو الندم وأقول: قال الإمام ابن القيم رحمه الله: الندم هو ركن التوبة الأعظم، وأبشرك أيها الطبيب! أن الله عز وجل ما دام قد وفقك وألهمك إلى أن تذكر فضله عليك، وإلى أن تعترف له بتقصيرك وفقرك وعجزك قبل أن تغرغر فأبشر، لعل الله أن يختم لك بخاتمة الخير، فإن الله يقبل التوبة من عبده ما لم يغرغر. وأود أن أذكر نفسي وإخواني جميعاً بأن كفران النعمة سبب لزوالها، فيا من أنعم الله عليك بنعمة! اعلم بأن الله عز وجل يمهل ولا يهمل، فاعترف بفضل الله، واعلم بأن الشكر مأمور به، كما قال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً} [سبأ:13]، والشكر يدور على اللسان والجنان، القلب والأركان، ففي الصحيحين (أن النبي قام حتى تورمت قدماه، فقيل له: أولم يغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فقال صلى الله عليه وسلم: أفلا أكون عبداً شكوراً؟!). فالشكر يقتضي منا أن نحمد الله باللسان، وأن نشكر الله بالجنان، وأن نشكر الله بالجوارح والأركان. يا من منَّ الله عليه بنعمة العين! إياك أن تستخدمها في معصية الله، يا من منَّ الله عليك بنعمة الصحة! استخدم العافية في طاعة الله عز وجل. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

ردة ولا أبا بكر لها

ردة ولا أبا بكر لها الصراع بين الحق والباطل مستمر إلى قيام الساعة، والحرب بينهما سجال، وفي زماننا هذا تنوعت ألوان الصراع وتعددت، ومن أعتاها وأشدها: الغزو الفكري، وزعزعة الثوابت؛ فإن أعداءنا قد استفرغوا جهدهم، واستنفروا جميع طاقاتهم لغزو المسلمين فكرياً، وزعزعة ثوابتهم، وقد استخدموا في هذا الغزو أناساً من بني جلدتنا، يتكلمون بألسنتنا، فرسموا الخطط، واعتمدوا التدرج والتستر وراء الشعارات البراقة التي ينفذون من ورائها ما يريدون.

ظلام فكري وكفري دامس

ظلام فكري وكفري دامس بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: (ردة ولا أبا بكر لها) هذا هو عنوان لقائنا مع حضراتكم، وسوف أركز الحديث مع حضراتكم في هذا الموضوع الكبير في العناصر المحددة التالية: أولاً: ظلام فكري وكفري دامس. ثانياً: ما السبيل؟ وأخيراً: لا تيئسوا من روح الله. فأعيروني القلوب والأسماع، والله أسأل أن يقر أعيننا بالتمكين لعقيدة التوحيد والموحدين، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أولاً: ظلام فكري وكفري دامس: أيها المسلمون! ما زال الإسلام العظيم منذ أن بزغ فجره، واستفاض نوره إلى يومنا هذا؛ مستهدفاً من قبل أعدائه، أعداء الطهر والفضيلة والشرف، الذين كرهوا هذا الدين العظيم. لكن عقيدة التوحيد بالأمس القريب كان إذا مس جانبها وتطاول عليها قزم أو صنم حقير سمعت هذه العقيدة المشرقة أبا بكر يتوعد، وسمعت الفاروق يزمجر، وسمعت خالد بن الوليد يصرخ، ورأت الصادقين من الرجال الأطهار الأبرار يبذلون من أجل نصرتها الغالي والنفيس، بل والدماء والمهج والأرواح. يوم أن خرجت فتنة الردة بعد موت المصطفى صلى الله عليه وسلم قام الصديق المبارك الذي تحولت بين يديه هذه المحنة إلى منحة، يوم أن أعلنها صريحة مدوية: (والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة)، وشرح الله صدر أبي بكر رضي الله عنه، وصدر عمر، وصدر الصحابة رضوان الله عليهم لقتال هؤلاء المرتدين الذين فرقوا بين الصلاة والزكاة. لكننا نشهد اليوم ردة من نوع خبيث جديد، لكن أين الصديق؟! إنها ردة خبيثة ولا أبا بكر لها، إننا نشهد الآن حرباً على هذه العقيدة الطاهرة، لكنها حرب من نوع خبيث جديد، إنها حرب فكرية حرب ثقافية حرب عقدية.

المخطط الإلحادي لزعزعة الثوابت وهدم الدين

المخطط الإلحادي لزعزعة الثوابت وهدم الدين إن المجرمين يعلمون الآن أن أخطر وسائل محاربة هذه العقيدة هي الحرب الفكرية، فهم يشنون الآن حرباً هوجاء، لا على الفرعيات والجزئيات، بل على الثوابت والأصول والأركان والكليات، لا تظنوا أن كتاباً واحداً -كما أشير في بعض الجرائد والمجلات- هو الذي تطاول على عقيدة التوحيد، وعلى القرآن، وعلى ذات الرحيم الرحمن، كلا، بل هي كتب، بل هو مخطط مدروس خبيث. نعم أيها المسلمون! ليس كتاباً واحداً، ولكنها كتب تمثل منهجاً مدروساً ومخططاً خبيثاً، وأستطيع في نقاط محددة جداً أن أبين لحضراتكم: الخطوات الخبيثة، والمراحل الخطيرة لهذا المنهج المدروس، ولهذا المخطط الخبيث، ولهذه الردة الجديدة.

تمجيد العقل وإعلان الحرب على النص

تمجيد العقل وإعلان الحرب على النص أولاً: بدءوا هذا المخطط الخبيث بإعلان الحرب على النص، مع التمجيد المستمر والمتعمد للعقل؛ حتى جعلوا العقل إلهاً يعبد من دون الله جل وعلا؛ ليسقطوا بالعقلانية المزعومة قدسية النصوص، ولو كانت النصوص ثابتة في القرآن وسنة النبي عليه الصلاة والسلام، بل أعلنوا ذلك صراحة فقالوا: لابد من إلغاء القاعدة المتفق عليها والتي تقول: (لا اجتهاد مع النص)؛ لأن هذه القاعدة تشكل حجراً على العقل البشري، الذي أبدع في عصر الألفية الثالثة، أو في أواخر القرن المنصرم، لقد أبدع العقل إبداعاً: فجّر الذرة، وغاص في أعماق البحار، وانطلق في أجواء الفضاء، وحول العالم كله إلى قرية صغيرة، عن طريق هذا التكتيك العلمي المذهل في عالم الاتصالات والمواصلات. فهذا العقل لا ينبغي أن يقال له: لا اجتهاد مع النص، بل يجب على هذا العقل المبدع أن يجتهد مع النص ولو كان النص ثابتاً في القرآن، أو في سنة النبي عليه الصلاة والسلام، فترى عقلاً مريضاً خبيثاً تعرض أمامه النصوص القرآنية والنبوية، فيضع بالقلم الأحمر علامات على هذا النص، ويضع بالقلم الأسود علامات خبيثة على نص آخر، وهكذا!! ويصير دين الله ويصير النص القرآني والنبوي ألعوبة بين عقول مهازيل البشر، فترى من يحكم على نص ثابت في القرآن ويقول: لا ينبغي أن يفهم إلا بالكيفية الفلانية، وذلك من خلال النظرية العلمية الحديثة المعاصرة، وترى عقلاً عفناً آخر ينكر السنة -كما نرى ونسمع كل يوم- ويلغي الأحاديث الصحيحة الثابتة في أصح الكتب بعد القرآن، بدعوى أن هذه الأحاديث تصطدم مع العقل اصطداماً مباشراً، وتصطدم مع العلم الحديث والنظريات العلمية المعاصرة. وأنا أقول: لا ينبغي أن يفهم العلمانيون المجرمون أننا نريد أن نسقط مكانة العقل، كلا، بل إن نور الوحي لا يطمس نور العقل أبداً، بل يبارك نورُ الوحي نورَ العقل، ويزكي الوحي العقل ويحتفي به أيما احتفاء، ويلفت القرآن الأنظار إلى مكانة العقل والتعقل والتدبر في آيات كثيرة: {أَفَلا يَعْقِلُونَ} [يس:68]، {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ} [النساء:82]، {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا} [النمل:69]، آيات وآيات وآيات: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران:190]، لكن ليس معنى ذلك أن يصبح العقل حاكماً على النص القرآني والنبوي، ائتوني بعقل يتعرف على ذات الله جل جلاله، وعلى أسمائه الحسنى وصفاته العلى، وعلى أركان ديننا وأصول إسلامنا، دون أن يرجع إلى النقل أي: إلى النص القرآني والنبوي. ورحم الله ابن القيم إذ يقول: لا يستقل العقل دون هداية بالوحي تأصيلاً ولا تفصيلاً كالطرف دون النور ليس بمدرك حتى يراه بكرة وأصيلاً نور النبوة مثل نور الشمس للـ عين البصيرة فاتخذه دليلاً فإذا النبوة لم ينلك ضياؤها فالعقل لا يهديك قط سبيلاً طرق الهدى محدودة إلا على من أم هذا الوحي والتنزيلاً فإذا عدلت عن الطريق تعمداً فاعلم بأنك ما أردت وصولاً يا طالباً درك الهدى بالعقل دو ن النقل لن تلقى لذاك دليلاً صار العقل إلهاً يعبد من دون الله مع التحقير من شأن النص، ولو كان ثابتاً في القرآن وفي سنة النبي محمد عليه الصلاة والسلام، ثم تجاوزوا المرحلة الأولى من مراحل هذا المخطط الخبيث، ومن مراحل هذا الظلام الفكري والكفري الدامي إلى المرحلة الثانية ألا وهي:

التشكيك في نقلة النصوص

التشكيك في نقلة النصوص التشكيك فيمن نقل إلينا النص، وهم الصحابة رضوان الله عليهم، يضخمون العقل لإلغاء النص، ثم يشككون في حملة النص ونقلة النص، فأعلنوا الحرب الهوجاء على الصحابة الأبرار الأطهار الأخيار. فخرج علينا ساقط وضيع، وشيخ من شيوخ الضلال، ليقول في كتاب من كتبه الخبيثة، ولا حاجة إلى ذكر أسماء هذه الكتب على هذا المنبر الطاهر، حتى لا أروج لهذه الكتب الخبيثة بين هذه الألوف المؤلفة من المسلمين، فليس من الحكمة البتة أن أذكر أسماء هذه الكتب، ولا أسماء هؤلاء الساقطين الذين ألفوها وسطروها؛ لأننا بذلك نرفع من قدرهم، ولا أريد في الوقت ذاته أن أروج لهذه الكتب، وقد لا يطلع أو لم يطلع عليها إلا القلة القليلة. يقول شيخ من هؤلاء الشيوخ الضلال: إن الصحابة كانوا يمثلون مجتمعاً متحللاً مشغولاً بالرذائل والهوس الجنسي، ولم تكن التجاوزات مقصورة على مشاهير الصحابة بل تعدتهم إلى صحابيات معروفات! ثم يقول الخبيث: ولما كان التقاء الذكر بالأنثى والأنثى بالذكر طقساً يومياً من الطقوس الاجتماعية المعتادة في مجتمع يثرب، فقد اضطر محمد رفعاً للحرج أن يبيح لأصحابه أن يمروا في المسجد وهم جنب. ويقول خبيث آخر: لما أرسل علي رضوان الله عليه ابنته أم كلثوم إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليخطبها أسرع إليها عمر ليكشف الثوب عن ساقيها ليعاين جودة البضاعة! خبيث مجرم! أتحداه وأتحدى أشكاله وأمثاله أن يتطاولوا على قسيس أو على مسئول أو على حاقد، لكنهم يتطاولون على القمم! على أصحاب النبي الأطهار! وأكتفي لأشفي ما في قلبي وفي قلوب المسلمين بقولة للإمام مالك، إمام دار الهجرة إذ يقول: إذا وجدت الرجل يحمل في قلبه غيظاً على أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقد أصابه قول الله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29]. وقال الحافظ أبو زرعة رحمه الله تعالى: هؤلاء يريدون أن يهدموا الصحابة ليبطلوا القرآن والسنة؛ وذلك أن الله حق، والقرآن حق، والرسول حق، والذي نقل إلينا كل ذلك هم الصحابة، فهؤلاء يريدون أن يهدموا الصحابة ليبطلوا القرآن والسنة. وهأنتم ترون بعد حربهم على الصحابة يعلنون الحرب على العلماء وعلى الدعاة؛ لأنهم يمثلون ميراث الأنبياء، ويحملون ميراث أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فيسبون العلماء والدعاة علناً، ويسبون الصحابة رضوان الله عليهم علناً دون أدنى خجل أو وجل، والله تعالى يزكي الصحابة ويقول: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:100]. وقال المصطفى صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي سعيد: (لا تسبوا أصحابي فوالذي نفس محمد بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه). ثم تجاوزوا هذه المرحلة الثانية من مراحل هذا المنهج المدروس والمخطط الخبيث، إلى المرحلة الثالثة ألا وهي:

التشكيك والطعن المباشر في السنة

التشكيك والطعن المباشر في السنة مرحلة التشكيك والطعن في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، شككوا في السنة بدعوى أن فيها الضعيف والموضوع، وبدعوى أن السنة تحوي من الأحاديث ما يصطدم اصطداماً مباشراً مع النظريات العلمية المعاصرة الحديثة، فشككوا في السنة، وطعنوا في الأحاديث الثابتة الصحيحة في أصح الكتب بعد كتاب الله، في صحيح البخاري وفي صحيح مسلم، وزعموا أن القرآن وحده يكفي، وهم يريدون بذلك الانتقال إلى المرحلة التي تلي هذه المرحلة، وهي مرحلة إسقاط القرآن؛ لأن القرآن لا يمكن أن يفهم بعيداً عن سنة سيد الرجال صلى الله عليه وسلم. ورحم الله الإمام الأوزاعي العَلَم إذ يقول: القرآن أحوج إلى السنة من السنة إلى القرآن، قال الله جل وعلا: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر:7]، وقال جل وعلا: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، وقال جل وعلا: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36]، وقال الله جل وعلا: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور:51 - 52]. وقال المصطفى صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي بسند صحيح من حديث المقدام بن معد يكرب: (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان متكأ على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السباع، ولا لقطة المعاهد)، وفي لفظ: (فإنما حرم رسول الله كما حرم الله عز وجل)، فرسول الله مشرع: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات:1] قال ابن عباس: أي: لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة. قال القرطبي: أي: لا تقدموا قولاً على قول الله، أو على قول وفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن من قدم قوله أو فعله على قول الله أو على قول وفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنما قدمه على الله؛ لأن الرسول لا يأمر إلا بما أمر به الله عز وجل. قال الشنقيطي: ويدخل في الآية الكريمة دخولاً أولياً تشريع ما لم يأذن به الله، فلا حلال إلا ما أحله الله ورسوله، ولا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله، ولا دين إلا ما شرعه الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66]، {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} [الأحزاب:57]. {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:66]) قد كفرتم أيها المجرمون! أيها المرتدون! يا من ملأتم أقلامكم بمداد نجس قذر عفن، وأعلنتم الحرب على ثوابت الإسلام، وعلى أركان وأصول الدين. أعلنوا الحرب على السنة، وأنكروا حجية السنة، وطعنوا وشككوا في السنة، ثم انتقلوا إلى الخطوة الرابعة ألا وهي:

الطعن في القرآن

الطعن في القرآن مرحلة الطعن في القرآن! نعم في القرآن! وقد قرأتم ذلك في الأسبوع الماضي في كتاب واحد فقط، وقد صرحت وأعلنت ذلك من قبل عدة أشهر على منبر مسجدي، وليس هوكتاباً واحداً، ولكنه مخطط في كل أنحاء العالم الغربي والعربي للنيل من هذا الدين، والطعن في عقيدة التوحيد والموحدين، يصف هذا الكتاب القرآن بأبشع الألفاظ! بلفظ يعف اللسان عن ذكره! والمخطط منظم ودقيق، والكتاب الذي نشر لكاتب سوري خبيث ينسف عقيدة القرآن من أول الفاتحة إلى سورة الناس في عدة أسطر من كتابه الخبيث! ولولا أن الله نقل إلينا كلام الكفار في القرآن، ولا زلنا نقرأ كلمات المشركين في القرآن في حق رب العالمين؛ ما تجرأت أن أنقل مثل هذا الكلام! فأنتم لا زلتم إلى هذه اللحظة تقرءون قول الله تعالى حكاية عن اليهود الملعونين: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة:64]، ولا زلتم تقرءون قولتهم الخبيثة وهم يصفون الله بالفقر وقالوا: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181]، إلى آخر هذه الكلمات، ولولا أن رب العزة قد سطر لنا ذلك في قرآنه، وقد نقل إلينا في قرآنه مثل هذه الكلمات، ما ذكرت مثل هذا. يقول هذا الخبيث في حق القرآن: ما زال الخطاب الديني يتمسك بوجود القرآن في اللوح المحفوظ، اعتماداً على فهم حرفي للنص! وما زال يتمسك بوجود الإله على عرشه وكرسيه وصولجانه ومملكته وبين جنوده من الملائكة! وما زال يتمسك بالحرفية ذاتها بوجود الملائكة والجن والشياطين والسجلات التي تدون فيها أعمال العباد! والأخطر من ذلك إنه ما زال يتمسك بصور الثواب والعقاب كعذاب القبر ونعيمه والمرور على الصراط ومشاهد القيامة والجنة والنار، إلى آخر ذلك من تصورات أسطورية! هل تدبرتم؟! هل سمعتم مثل هذه الكلمات؟! ينسف القرآن كله من الفاتحة إلى الناس. ويقول رائد خبيث من رواد هذا الجيل المضلل: وجود إبراهيم وإسماعيل أمر مشكوك فيه! ولو ذكر في التوراة والإنجيل والقرآن فلسنا ملزمين بتصديق أي من هذه الكتب! كفر صريح واضح، هم يطعنون في القرآن ذاته، بل يطعنون في ذات الله جل جلاله، فإن المرحلة الخامسة من مراحل هذا المخطط الخبيث هي:

الطعن في ذات الله جل جلاله

الطعن في ذات الله جل جلاله مرحلة الطعن في ذات الله جل جلاله، هذا الكتاب الذي قرأتم عنه في الأسبوع الماضي يصف الخبيث رب العزة بالفنان الفاشل! وهذا صنم آخر من سوريا يقول في ديوان خبيث من دواوينه الشعرية، وسأترجم وأبين لحضراتكم أن المخطط مدروس وعلى مستوى الأمة، لا في مصر فحسب، بل على مستوى الأمة، يقول هذا السوري الخبيث: لا أختار الله ولا أختار الشيطان، كلاهما جدار يغلق لي عيني، فهل أبدل الجدار بالجدار؟! سبحان العزيز الغفار! ويقول هذا الصنم الخبيث المجرم: الله في التصور الإسلامي التقليدي: نقطة ثابتة متعالية منفصلة عن الإنسان، لكن التصوف على مذهب الحلاج قد ذوب ثبات الألوهية! وبهذا المعنى يكون قد قتل الله! وأعطى للإنسان طاقاته! ويقول هذا الصنم أيضاً: يا أرضنا! -يخاطب الأرض- يا زوجة الإله والطغاة! ويمعن في كفره فيقول: نمضي ولا نصغي لذلك الإله، فلقد تقنا لرب جديد سواه! تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً. وهذا حقير آخر من العراق -لتعلموا خطر المخطط- يقول: الله في مدينتي يبيعه اليهود، الله في مدينتي شريد طريد. وهذا صنم آخر من فلسطين يقول لعشيقته: نامي فعين الله نائمة عنا وأسراب الشحارير. وهذا صنم آخر من فلسطين الذبيحة يقول: وآخر ديك صاح قد ذبحناه لم يبق سوى الله، يعدو كغزال أخضر، تطارده كل كلاب الصيف، سنطارده سنصيد له الله! وهذا صنم آخر من اليمن يقول: صار الله رماداً، صمتاً، رعباً، في كف الجلادين، صار الله حقلاً ينبت مسابح وعمائم! لا إله إلا الله، جل جلال ربنا، {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67] سبحانه أحد في ذاته، أحد في أسمائه، أحد في صفاته، أحد في أفعاله، {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] استوى كما أخبر، وعلى الوجه الذي أراد، وبالمعنى الذي قال، استواء منزهاً عن الحلول والانتقال، فلا العرش يحمله، ولا الكرسي يسنده، بل العرش وحملته، والكرسي وعظمته، الكل محمول بقدرته، مقهور بجلال قبضته، لا إله إلا الله، نقر له بكل جلال، نقر له بكل كمال، نقر له بكل جمال، نقر له بكل عظمة، ننزه الله عن النقص، ننزه الله عن كلام الكافرين، ننزه الله عن كلام المجرمين، إن لم يحترق قلبك الآن فمتى سيحترق؟! إن لم يحترق قلبك عن الذات الإلهية فمتى سيحترق؟! إن لم تحترق قلوبنا وربنا يسب علناً فمتى ستحترق قلوبنا؟! أخبروني هل ماتت القلوب ونحن لا ندري؟! الله جل جلاله اسم لصاحبه كل جمال، اسم لصاحبه كل جلال، اسم لصاحبه كل كمال، تنزه على النقص وعن الشبيه وعن المثال، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]. جاء حبر من أحبار اليهود -والحديث في صحيح مسلم - إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليقول له: (يا محمد! إنا نجد عندنا مكتوباً في التوراة: أن الله يجعل السموات على إصبع، والأراضين على إصبع، والماء والثرى على إصبع، والشجر على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع، ثم يهزهن ويقول: أنا الملك، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، وقرأ قول الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67]). لو كان الذي يتطاول على الذات الإلهية كافراً ظاهراً لهان الخطب، فهذا منهج الكفار، وهذه عقيدة الفجار، لكن الذي يدمي القلب أن الذي يعلن الحرب الآن على الذات الإلهية هو في عرف العوام من المسلمين! (إنهم رجال من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا) (محمد ومحمود وأحمد وحامد وطه)، رجال من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، وقد رفعوا على الأعناق، ورفعوا فوق الرءوس، وأحيطوا بهالة من الدعاية الكاذبة؛ لتغطي كفرهم وانحرافهم، ولتستر هذه الهالة جهلهم، ولتنفخ الدعاية الكاذبة في هؤلاء المجرمين؛ ليكونوا أمام الناس شيئاً مذكوراً، ليكونوا كالطبل الأجوف، يسمع من بعيد صوته، وهو من الخيرات خال، وهذا في الوقت الذي تشن فيه الحرب على الأطهار على العلماء وعلى الدعاة وعلى شيوخ الحق والسنة والهدى، تشن الحرب عليهم بصورة هوجاء، بصورة مزرية، إنها حرب إسقاط رموز هذه الأمة، لماذا نتحالف مع الشيطان؟ والله ما سب إبليس رب العزة بل قال كما قال الكبير المتعال حكاية عن إبليس الملعون الرجيم: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر:16]، وتدبر معي قول رب العالمين حكاية عن إبليس اللعين: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم:22]. ما سب إبليس رب العالمين، كلا ورب الكعبة، فهؤلاء ألعن من إبليس، هؤلاء الأبالسة الذي يتعلم اليوم منهم إبليس اللعين، هم ألعن منه، وأخبث منه، وأخطر منه، فهم يسبون الله علناً، وهم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا: (طه محمد حامد محمود عبد الوهاب) أسماء من ذكرت كلامهم أسماء رجال ينسبون إلى الأمة وإلى الإسلام! والإسلام منهم بريء براءة الذئب من دم ابن يعقوب. يقول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الذي رواه أحمد والحاكم بسند صحيح من حديث أبي هريرة: (سيأتي على الناس سنوات خداعات، يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة، قيل: من الرويبضة؟ قال: السفيه يتكلم في أمر العامة) وفي الحديث الآخر: (هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا)، وفي لفظ مسلم: (رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس).

السبيل والحل لإيقاف المرتدين عند حدهم

السبيل والحل لإيقاف المرتدين عند حدهم

إقامة حد الردة على المرتدين

إقامة حد الردة على المرتدين والسؤال المر: ما السبيل؟ وهذا هو عنصرنا الثاني. النقطة الأولى: إقامة حد الردة على هؤلاء المرتدين، لكن نسأل الله أن يرزقنا مثل أبي بكر فمن لهذه الردة؟ الأمة الآن في حاجة إلى الصديق وإلى عمر وإلى خالد وإلى سعد وإلى طلحة وإلى عبد الرحمن، الأمة الآن في حاجة إلى الأطهار الأبرار الذين كانوا يبذلون المهج والأرواح والدماء؛ لنصرة عقيدة رب الأرض والسماء. والله الذي لا إله إلا غيره لو طبق حد الردة على مرتد من هؤلاء ما رأيت مثل هذا الهراء، فأنا أدين لله بأن القوانين الوضعية العمياء كانت أخطر أسباب انتشار الردة في هذا الزمان، فالقانون الوضعي يعاقب بأشد العقوبات من وقع في الخيانة العظمى التي هي خيانة الوطن، ونحن لا ننكر أن من خان الوطن يجب أن يقام عليه حد الحرابة، ويرى فيه ولي الأمر المسلم ما يرى، لكن هذا القانون الوضعي الأعمى لا يعاقب من وقع في الخيانة الأعظم -وليست العظمى- ألا وهي خيانة الله ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27]، لا يعاقب القانون الوضعي الأعمى من خان الله ورسوله وارتد عن الإسلام، فيأتي العلمانيون ويقولون: هو حر، وله أن يختار من العقائد ما يريد، يكون مسلماً لمدة يومين ثم يكفر لمدة يومين، كما يريد! ويحتج علينا العلمانيون بقوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256]، نحن لا ننكر آية من آيات رب العالمين، ولا كلمة من كلام سيد النبيين، لكن (لا إكراه في الدين) بعد أن نبين حجة الله ودين الله لغير المسلمين على وجه الأرض، دون أن يحول أحد بيننا وبين دعوة الناس لدين الله، فإن عرضنا الإسلام عرضاً بيناً واضحاً على غير المسلمين، واستمع منا غير المسلمين، وأبوا أن يدخلوا في الإسلام حينئذ نقول: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256]، {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29]، لكننا الآن أمام رجل مسلم دخل الإسلام طواعية واختياراً، ثم ارتد عن الإسلام علانية، هذا يزلزل قواعد المجتمع المسلم من أركانها، وهذا إن لم تأخذ الشريعة على يده دبت الفوضى في المسلمين، وتزلزلت القلوب المريضة من المنافقين الذين لا يخلو منهم زمان ولا مكان؛ لذا قال النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد ألا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة)، وفي لفظ البخاري من حديث ابن عباس: (قال صلى الله عليه وسلم: من بدل دينه فاقتلوه)، فأنت أمام مسلم دخل الإسلام وارتد عنه، فهذا ينبغي أن يستتاب وإلا فعلى ولي الأمر المسلم أن يقيم عليه حد الردة بعد الاستتابة، فيقتله ويخلص المجتمع الإسلامي من شروره الخبيثة.

العلم والإيمان حصن حصين من الفتن

العلم والإيمان حصن حصين من الفتن قد يقول قائل: ما هو واجبنا تجاه هذه الحرب، وماذا نفعل؟ يجب عليك ابتداء -أيها المسلم وأيتها المسلمة- أمام هذه الحرب المسعورة المعلنة على الإسلام بثوابته: أن تحصن نفسك بالإيمان والعلم الشرعي الصحيح، حصن نفسك بالإيمان، فالإيمان الآن كسفينة نوح وسط هذه الأمواج المتلاطمة، إن لم تركب هذه السفينة ستغرق وستهلك، ابحث عن العلماء الربانيين، مهما روجوا في وسائل الإعلام وفرقوا بين العلماء الرسميين والعلماء غير الرسميين، لو كان لا ينبغي لأي أحد أن يتكلم في دين الله إلا إذا حصل على ورقة رسمية فسنحكم الآن بأن الإمام أحمد والشافعي ومالك وأبا حنيفة وابن القيم وابن تيمية، بل والصحابة بأنهم لم يكونوا مؤهلين للدعوة، فالدعوة إلى الله عز وجل: قال الله قال رسوله بالدليل الصحيح، أنت أخذت تصريحاً واضحاً أن تتحرك لدين الله من شريعة رسول الله، إن كنت فاهماً لأدلة القرآن، وأدلة النبي عليه الصلاة والسلام، ولست في حاجة إلى أن يقال لك: تحرك أو لا تتحرك، بل يجب عليك أن تحصن نفسك بالإيمان الصحيح وبالعلم الشرعي الصحيح. ثم الخطوة الثالثة: يجب عليك أن تتحرك بهذا العلم الصحيح للأمر بالمعروف بمعروف والنهي عن المنكر بغير منكر، تحرك للدعوة لدين الله تبارك وتعالى، فكما تحرك أهل الكفر لكفرهم، وأهل الباطل لباطلهم؛ وجب على أهل الحق أن يتحركوا لحقهم، أقسم بالله الذي لا إله غيره! ما انتشر الباطل وأهله، إلا يوم أن تخلى عن الحق أهله. حصن نفسك بالإيمان والعلم الشرعي على قدر استطاعتك، أنت طبيب، أو مهندس، أو مسئول، أو موظف، وأنتِ زوجة في البيت؛ فلنتحرك جميعاً على قدر استطاعتنا، ونعبر عن غيرتنا لله، عبر عن غيرتك لذات الله ولقرآن الله، مر بالمعروف بمعروف، وانه عن المنكر بغير منكر، وبغير انفعال يخرج بك عن ضوابط الشرع. من منا لا يقدر -بعد هذا الهم- أن يكتب مائة رسالة، هذه الألوف المؤلفة التي تحضر معي الآن لو كتب كل فرد فينا عشر رسائل -حتى لا أكون مبالغاً أو شاقاً على الأحباب- وأرسل إلى المسئولين بكلمات مهذبة جميلة، يعبر من خلالها عن غضبه لدينه لعقيدته لقرآن ربه لذات الله جل جلاله، أرسل إلى المسئولين إلى رئيس الجمهورية إلى رئيس الوزراء إلى وزير الأوقاف إلى شيخ الأزهر إلى المفتي إلى وزارة الأوقاف إلى كل المسئولين، وإن كان هنا مسئول يسمعني الآن فأقول له: هذا دينك، هذا قرآنك، هذا ربك جل جلاله، فإن لم تتحرك الآن فمتى ستتحرك؟! ينبغي أن يعي المسئولون أن هذه الأمة لا زالت قلوبها تنبض بتوحيد الله، يجب أن يعلم المسئولون أن هذه الأمة لا زالت تقدم أرواحها ودماءها فداء لدين ربها، وقرآن ربها، ولنبيها صلى الله عليه وسلم، وهي وراء العلماء الربانيين، ووراء الدعاة الصادقين الذين يقولون: قال رب العالمين، قال سيد النبيين، هذا دورك أنت، لا عذر لك -ورب الكعبة- إن لم تفعل، وهذا أضعف الإيمان. إن مثل هذا المشهد الذي يتمثل بكثرة من حضور الناس في المساجد يدل على أن الأمة تعشق الإسلام، وتموت من أجل التوحيد، وتبذل الوقت والمال من أجل أن تستمع إلى الدعاة وإلى العلماء الربانيين، الذين يقولون: قال الله، قال رسوله؛ ولذلك فلابد أن نجيش طاقات الأمة، وقدرات الأمة، وإمكانات الأمة، وقوة الأمة؛ لنري أعداءنا في الخارج والداخل: أن الأمة لا زالت قلوبها تنبض بحب الإسلام، وبحب التوحيد، وبحب القرآن، وبحب النبي محمد عليه الصلاة والسلام. ومع كل هذا فأقول لكم: إنها زوبعة في فنجان، كل ما سمعتموه، وكل الحرب المعلنة على ثوابت الإسلام، شأنها كشأن ذبابة حقيرة تافهة سقطت على نخلة عملاقة، ولما أرادت الذبابة الحقيرة أن تطير وتنصرف قالت للنخلة العملاقة: تماسكي أيتها النخلة! لأني راحلة عنك، فردت عليها نخلة التمر العملاقة وقالت: انصرفي أيتها الذبابة الحقيرة! فهل شعرت بك حينما سقطت علي لأستعد لك وأنت راحلة عني! أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

لا تيئسوا من روح الله

لا تيئسوا من روح الله الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام! لا تيئسوا من روح الله، أين الصليبيون الحاقدون الذين قاموا بالهجمات والغزوات الصليبية الحاقدة على الإسلام؟! وأين التتار؟! وأين القرامطة؟! وأين المرتدون؟! وأين الإنجليز؟! وأين الفرنسيون؟! وأين؟ وأين؟ {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36]، هل تصدقون رب العالمين؟! هذا كلام ربنا: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173]، وقال جل وعلا: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81]، فمهما انتفخ الباطل وانتفش فإنه زاهق، ومهما انزوى الحق وضعف فإنه ظاهر، {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:8 - 9]. وقال جل وعلا: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:110]، وقال جل وعلا: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [إبراهيم:42]، وقال جل وعلا: {فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ} [إبراهيم:47]. وقال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد والطبراني من حديث تميم الداري: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار)، والله إننا نصدق ربنا ونبينا مع شراسة الحرب وضراوتها (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز، أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر). أيها المسلمون! إننا على يقين جازم -مع علمنا بالواقع جيداً- أن الجولة المقبلة للإسلام ولدين النبي عليه الصلاة والسلام، لموعود الله ولموعود رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا أقول هذا من باب الرجم بالغيب، ولا من باب الأحلام الوردية للآلام التي نحملها، ولا من باب ضغط الواقع، فإن من أعظم الأدلة على أرض الواقع: أن النهضة الفكرية الحديثة قد انقلبت إلى ظلام فكري دامس، وأن رواد جيل النهضة يرقصون الآن رقصة الموت، كان رواد جيل النهضة يتصورون أن كتاباتهم ومؤلفاتهم وأقلامهم ستربي وستخرج جيلاً لا يعرف الله! وقد جاء صحفي علماني إلى هذا المسجد، فلما رأى هذا المشهد من جموع المصلين؛ هاله الموقف إذ إنه كان يظن أن الإسلام قد انتهى.

فشل المشروع الإلحادي في زعزعة ثوابت الأمة

فشل المشروع الإلحادي في زعزعة ثوابت الأمة مشروع النهضة الحديث فشل فشلاً ذريعاً؛ لأنهم رأوا في هذه الصحوة الكريمة شباباً في ريعان الصبا، ورأوا فتيات في عمر الورود، ورأوا كوكبة مباركة تعلن الحرب على مشروع نهضتهم المزور الفاسد، بل وتصدى علماء ودعاة الصحوة إلى هذا المشروع، وبينوا زيفه، وأسقطوا ورقة التوت ونسيج العنكبوت الذي طالما اختفى بها وفيها هؤلاء المثقفون المزعومون، فهم يرقصون الآن رقصة الموت، حينما يرون صحوتكم المباركة الراشدة، حينما يرون هذه الكوكبة الكريمة تعود من جديد إلى الله، وتقول قولة السابقين الصادقين الأولين: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285] حينما رأوا هذا الشباب قد ولى ظهره لواشنطن وبنكوك ومدريد وباريس وتل أبيب، ووجه وجهه من جديد إلى القبلة التي ارتضاها الله للمصطفى صلى الله عليه وسلم، إنهم يرقصون -ورب الكعبة- رقصة الموت؛ فحصنوا أنفسكم بالإيمان والعلم الشرعي، وتحركوا للأمر بالمعروف بمعروف، والنهي عن المنكر بغير منكر، وتحركوا للدعوة إلى هذا الدين الذي من أجله خلق الله السموات والأرض والجنة والنار، تحركوا للحق كما تحرك أهل الكفر وأهل الباطل لكفرهم وباطلهم، ونحن على أمل بموعود الله، وبموعود الصادق رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن الجولة المقبلة لدين الله ولشرع المصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم. اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين. ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، واصرف غضبك ومقتك عنا، اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا. اللهم إنا نقر لك -جميعاً- بالعظمة والكمال والجلال، اللهم إنا نقر لك -جميعاً- بالعظمة والكمال والجلال، فلا تؤاخذنا بما فعل السفهاء يا كبير يا متعال! اللهم انصر الإسلام والموحدين، اللهم انصر الإسلام والمسلمين، ومكن للتوحيد والموحدين، وانصر المجاهدين الشيشانين والفلسطينيين والفلبينيين، وفي كل مكان يا أرحم الراحمين! اللهم ارفع عن مصر الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم ارفع عن مصر الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم ارفع عن مصر الفتن ما ظهر منها وما بطن. اللهم اجعل مصر سخاءً رخاءً وجميع بلاد المسلمين، اللهم اجعل مصر سخاءً رخاءً وجميع بلاد المسلمين، اللهم لا تدع لأحد منا في هذا الجمع المبارك ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصياً بيننا إلا هديته، ولا طائعاً إلا زدته وثبته. اللهم إني أسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى، وأسألك باسمك الأعظم الذي إن سئلت به أعطيت، وإن دعيت به أجبت؛ كما صبر إخواننا على تأخر الوقت وعلى حر الشمس، أسألك -يا سيدي- أن تقيهم وتقينا معهم حر جهنم، اللهم قنا حر جهنم، اللهم نجنا من حر جنهم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

يا ألف مليون مسلم

يا ألف مليون مسلم يشن الصليبيون حرباً وحشية على الإسلام وأهله، ومن أعظم ذلك ما قام به الصرب من المذابح الجماعية، والمجازر المروعة، ضد إخواننا في البوسنة والهرسك، وذلك على مرأى ومسمع من العالم، فعلى المسلمين أن يفيقوا من غفلتهم، ويرجعوا إلى ربهم، وينصروا إخوانهم كل بما يستطيعه: بالمال والدعاء ونحو ذلك.

المجازر الصربية وغفلة المسلمين

المجازر الصربية وغفلة المسلمين الحمد لله رب العالمين، أحمدك يا ربي! وأستعينك وأستغفرك وأستهديك، لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، جل ثناؤك وعظم جاهك ولا إله غيرك، اللهم إنا نبرأ من الثقة إلا بك، ومن الأمل إلا فيك، ومن التبجيل إلا لك، ومن التفويض إلا إليك، ومن التوكل إلا عليك، ومن الصبر إلا على بلائك، ومن الذل إلا في طاعتك، ومن الرجاء إلا لما في يديك الكريمتين. اللهم تدافع برك، واتصل خيرك، وكمل عطاؤك، وعمت فواضلك، وتمت نوازلك، وبر قسمك، وصدق وعدك، وحق على أعدائك وعيدك ووعدك، ولم تبق لنا حاجة إلا قضيتها يا أرحم الراحمين! اللهم إنا نشكو إليك ضعف قوتنا، وقلة حيلتنا، وهوان المسلمين على الناس، أنت رب المستضعفين وأنت إلهنا، إلى من تكلنا؟! إلى بعيد يتجهمنا! أم إلى عدو ملكته أمرنا! إن لم يكن بك غضب على المسلمين فلا نبالي. نسألك بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن لا تنزل بنا غضبك، أو يحل علينا سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، إمام المجاهدين وقائد الغر الميامين، وإمام الغر المحجلين، الذي وقف في ساحة الوغى يوم خرست الألسنة وصمتت الأفواه، ونطقت السيوف على منابر الرقاب، وقف الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم يقول بأعلى صوته: (أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب). اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ * إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ * بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج:1 - 22].

الحقد الصربي في البوسنة والهرسك

الحقد الصربي في البوسنة والهرسك أيها المسلمون! هل سمعتم بمجزرة إخوانكم في جمهورية البوسنة والهرسك الإسلامية؟! يا من تلذذتم بالفراش! يا من تلذذتم بالطعام! يا من تلذذتم بالشراب! يا من عافستم الأزواج والأولاد! يا من وضعتم بين أيديكم أصناف وألوان الطعام والشراب! هل سمعتم بما حدث لإخواننا وأخواتنا المسلمات في جمهورية إسلامية، في قلب جزيرة البلقان، في يوغوسلافيا، هل سمعتم ما حدث لإخوانكم المسلمين في جمهورية البسنة والهرسك؟! أيها المسلمون في كل مكان! أيها الغافلون النائمون! انتبهوا، استيقظوا، أفيقوا واطردوا النوم والغفلة عن عيونكم، وعن قلوبكم؛ لتعلموا أن الحروب الصليبية ما انتهت ولن تنتهي إلا إذا شاء الله، وإلا إذا عاد المسلمون إلى ربهم جل وعلا، وإلى إسلامهم، إلى مصدر عزهم، وإلى مصدر شرفهم. هل سمعتم ماذا يفعله النصارى في يوغوسلافيا بإخواننا وأخواتنا في جمهورية البوسنة والهرسك المسلمة؟! والله إن العين لتدمع، وإن القلب ليتمزق، وإنا لما يحدث لإخواننا على مرأى ومسمع من الدنيا لمحزونون! أين دعاة حقوق الإنسان؟! أين الذين ينتمون للديمقراطيات؟! أين الذين يرقصون على مسرح حرية الاعتقادات؟! خرست ألسنتهم! وماتت قلوبهم! حلال لهم حرام على الموحدين، حرام على المسلمين! على مرأى ومسمع من الدنيا، يذبح المسلمون ذبح الخراف وهم ينظرون!! فتعالوا بنا لعل الأعين الجامدة أن تدمع، ولعل القلوب الميتة أن تحيا، وأن تستيقظ وأن تقوم من سباتها العميق، وأن تنفض عن كاهلها غبار والوسن والنوم, الذي طال وطالت مدته، تعالوا بنا لنطير على جناح السرعة إلى إخواننا وأخواتنا إلى المسلمة التي صرخت بأعلى صوتها: وا إسلاماه! وا معتصماه! تقول: يا مسلمون هتك عرضي! وبقرت بطني! ووضع قائد المليشيات النصراني الكافر نطفة حية في بطنها! وسخر وضحك بأعلى صوته وهو يقول لها: هأنا أريد أن أرى هل ستنجبين ذكراً أم أنثى؟! على مرأى ومسمع من الدنيا، على مرأى ومسمع من المسلمين السذج! من المسلمين الذين فتحوا بلادهم للنصارى! وفتحوا قلوبهم للنصارى! وفتحوا بيوتهم للنصارى! ويأتي المسلم الغافل ليسألني ويقول لي: يا شيخ! إن لي صاحباً نصرانياً، هل عليّ إثم في زيارته؟! اسمعوا أيها الغافلون! ماذا يصنع النصارى بإخواننا الموحدين، إن أخواتنا المسلمات ينادين ويقلن: واإسلاماه! واإسلاماه! وامعتصماه! ولكن: ما ثم معتصم يغيث من استغاث به وصاح! ذبحوا الصبي وأمه وفتاتها ذات الوشاح وعدوا على الأعراض في انتشاء وانشراح يا ألف مليون وأين همُ إذا دعت الجراح ما ثم معتصم يغيـ ـث من استغاث به وصاح يا الله! قل الظهير، وقل المعين، وانعدمت المروءة، وانعدمت الشهامة، وانعدمت النخوة، وضاع عهد الرجال وأتى عهد النساء، وأقبل عهد الحريم! فلتزلزلي يا أرض! ولتزمجري يا جبال! ولتزمجري يا سماء! مضى عهد الرجال وأتى عهد النساء، وذبح المسلمون تذبيح الفراخ، هتكت أعراض نسائنا، هتكت أعراض أخواتنا، تصرخ عليك المسلمة وتقول: يا مسلم! يا أخي في الله! بقرت بطني، وهتك عرضي، وضاع شرفي ولكن أين الإسلام؟! وأين المسلمون؟! وأين المعتصم؟ إنا لله وإنا إليه راجعون!

الحقد الصربي تاريخي وقديم

الحقد الصربي تاريخي وقديم وتبدأ القصة على هذه الأرض الإسلامية في جمهورية البوسنة والهرسك المسلمة من عام ألف وثمانمائة وأربعة وأربعين من ميلاد المسيح -على نبينا وعليه الصلاة والسلام- يوم أن أعلن الصرب النصارى الكفرة الفجرة برنامجهم القومي. وكان من بين بنود هذا البرنامج هذا القرار الذي يقول: بتهجير جميع المسلمين من جمهورية البوسنة والهرسك الإسلامية وغيرها، أو إدخالهم في النصرانية، أو في الديانة الأرذوذكسية النصرانية، ولما أصر المسلمون على دينهم وعلى توحيدهم وعلى إسلامهم وعلى دين نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم بدأ العداء، وأراد الصرب أن يعلنوا جمهوريتهم الصربية الكبرى، وبدأت المجازر من ذلك العام. وبدءوا بتدمير وإحراق قرية عن كاملها، على رءوس أطفالها وشيوخها، ورجالها ونسائها! وأتوا على جسر يمتد على نهر كبير وضربوا هذا الجسر فسقط عدد كبير من المسلمين في هذا النهر، ولما امتلأت الشوارع بالجثث المسلمة من المسلمين والمسلمات ألقوا بها في هذا النهر، ولما عجز النهر عن أن يلتقط هذه الجثث، ولفظ بها فطفت الجثث على سطح النهر والماء؛ ذهب الصرب النصارى ليبقروا بطون المسلمين والمسلمات حتى تهوي هذه الجثث في قاع هذا النهر! ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! وتمتد هذه الحرب الصليبية التي ما انتهت ولن تنتهي إلا إذا عاد المسلمون إلى الله، وعاد المسلمون إلى مصدر عزهم وشرفهم وكرامتهم، الذي قال عنه فاروق هذه الأمة عمر: كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله.

مجازر على مرأى ومسمع من العالم

مجازر على مرأى ومسمع من العالم وتمتد هذه المجزرة يا عباد الله! ففي الأسبوعين الماضيين حدثت مجزرة جماعية كبرى للمسلمين والمسلمات في جمهورية البوسنة والهرسك، على مرأى ومسمع ممن يتغنون بحقوق الإنسان وحقوق حرية الاعتقادات وغيرها! ما الذي حدث؟! وما الذي جرى؟! والنصارى في كل مكان يباركون هذه المجازر وهذه الدماء التي سفكت رخيصة لا قيمة لها، والمسلمون يفتحون بلادهم للنصارى ويفتحون قلوبهم للنصارى، ويفتحون أعمالهم للنصارى، والنصارى في كل بلاد المسلمين يأكلون ويشربون ويتنعمون! وتمت المجزرة بتوجه قائد الملشيات الصربية النصرانية الفاجر الكافر إلى قرية من قرى جمهورية البوسنة والهرسك، وأطلق عليها نيران مدفعيته الثقيلة فأبادها على رءوس أطفالها ورجالها ونسائها! وراح الجنود يمثلون بجثث المسلمين والمسلمات، ويسكبون على هذه الجثث الطاهرة زجاجات الخمر التي كانت بأيديهم، ويرسمون بالسكاكين الصلبان على أجسادهم الطاهرة! لماذا؟ لأن عقيدة الذبح عند النصارى الصرب يتعلمونها في المدارس وفي الكنائس، بل ويؤيد ذلك البرلمان الصربي! فقد أصدر البرلمان الصربي قراراً بأن ذبح المسلمين وذبح المسلمات إنما هو قربان إلى الله جل وعلا! لماذا؟ لأنهم يريدون أن يعلنوا للصرب النصارى الفجرة بأن المسلمين هم نسل العثمانيين الذين استولوا وسيطروا على شبه جزيرة البلقان خمسة قرون متوالية، فقد فتح الإسلام هذه البلاد واستمر الإسلام فيها خمسة قرون.

العدالة والمجد للفتوح الإسلامية

العدالة والمجد للفتوح الإسلامية يوم أن غاب المسلمون عن هويتهم وغاب المسلمون عن وعيهم، وراح المسلمون يلهثون وراء الشهوات ووراء النزوات، ونسوا الهدف الذي من أجله أوجدهم رب الأرض والسماوات، أذلهم الله جل وعلا، فراح الصرب يعلنون أن المسلمين في جمهورية البوسنة والهرسك وغيرها من نسل الأتراك العثمانيين، ولابد من الانتقام منهم رداً لاعتبار الذين قتلهم العثمانيون بزعمهم. وقد ضرب المسلمون أروع الأمثلة، التي مثلوا بها الإسلام في هذه البلدان، هل نسيتم يوم أن فتح الإسلام مدينة سمرقند، وأرسل حاكم سمرقند رسالة إلى قاضي قضاة المسلمين، يقول له فيها: إن فتحكم الإسلامي لمدينة سمرقند فتح باطل، وبيَّن له الأسباب ما هي؟ إنكم فتحتم بلادنا عنوة قبل أن تدعونا إلى الإسلام، وقبل أن تفرضوا علينا الجزية، ولما وصلت الرسالة إلى قاضي قضاة المسلمين أرسل أمراً فورياً عاجلاً إلى أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه، يأمره فيه أن يصدر الأوامر إلى جيش المسلمين في سمرقند بسحب الجيش فوراً؛ لأن الفتح لسمرقند فتح باطل لا يرضاه الله، ولم يشرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم. أتدرون ماذا جرى؟! استجاب أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز على الفور، وأرسل رسالة إلى قائد الجيوش الإسلامية في بلاد سمرقند بالانسحاب فوراً، ولما وصلت الرسالة إلى قائد الجيوش وإذا به يصدر الأوامر إلى الجيش الإسلامي بالانسحاب فوراً من سمرقند! فلما رأى أهل سمرقند ذلك الموقف العظيم، وذلك المشهد المهيب الرهيب، خرج أهل سمرقند عن بكرة أبيهم بين يدي قائد الجيش الإسلامي وهم يعلنون على قلب رجل واحد ويقولون: نشهد أن لا إله إلا الله ونشهد أن محمداً رسول الله. ذلكم هو الإسلام الذي جاء به رسولنا صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:256] وقد ضرب الإسلام أروع الأمثلة لحماية هؤلاء تحت مظلته، وتحت رايته، وتحت رعايته، وتحت إمرته، وتحت قيادة جنوده الأبرار الأطهار، الذين رباهم نبينا المختار صلى الله عليه وسلم.

تقرب الصرب إلى الله بذبح المسلمين

تقرب الصرب إلى الله بذبح المسلمين فالصرب يريدون أن يعلنوا لأبنائهم بأن التقرب إلى الله لا يكون إلا بذبح المسلمين وذبح المسلمات! فراحوا في الأسبوعين الماضيين يحدوهم الأمل وأعلنوا عن جمهورية الصرب المستقلة الكبرى، وبدءوا بالتضييق على المسلمين حتى يتركوا جمهوريتهم الإسلامية، فهاجر عدد كبير كاد أن يصل إلى نصف مليون! واسمعوا إلى هذه الفتوى الأخيرة التي أصدرها قساوسة الكنائس، هذه الفتوى الخطيرة التي أصدرها القساوسة النصارى الصرب في يوغوسلافيا تقول: إن أعراض المسلمات حلال لكل من يدين بالنصرانية! فانتهكوا أعراض المسلمات، واعتدوا على شرفهن، وقطعوا أبدانهن، وأرسلوا بمجموعة من النساء اللاتي انتهك شرفهن وضاع عرضهن، وقطعت أجسامهن، أرسلوا بمجموعة منهن إلى أماكن تجمع المسلمين لإحراق قلوبهم! ولكن هذا لمن كان في صدره قلب، ولمن كان في رأسه أذن، ولمن كان في وجهه عين: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55]، لا تنفع الغافلين، ولا تنفع المغفلين، ولا تنفع النائمين، ما الذي جرى؟! وما الذي حدث؟! وما الذي فعله المسلمون أمام هذه المذبحة، وأمام هذه المجزرة التي كانت على مرأى ومسمع من الدنيا؟!

الملحمة الصربية الحاقدة

الملحمة الصربية الحاقدة أتدرون أنهم يعلمون أبناءهم في المدارس هذه الملحمة الشعرية الكبرى! اسمعوا يا عباد الله! اسمعوا يا مسلمون! في كل مكان، اسمعوا إلى بنود هذه الملحمة الكبرى التي يتربى عليها أولاد الصرب النصارى في المدارس والجامعات والمعاهد والكنائس على أيدي القساوسة، وعلى أيدي المدرسين، اسمعوا إلى هذه الملحمة الشعرية الكبرى التي تقول: سلك المسلمون طريق الشيطان، دنسوا الأرض ملئوها رجساً، فلتعد للأرض خصوبتها، ولنطهرها من رجس الأوثان، ولنطهرها من تلك الأوساخ، ولنبصق على القرآن، وليطير رأس كل مؤمن يؤمن بدين الكلاب، ويتبع محمداً، فليذهب غير مأسوف عليه! هذه ملحمتهم، وهذه عقيدتهم، وهذا دينهم، وهذا قولهم، وهذا قرآنهم! أسمعتم يا عباد الله؟! أسمعتم أيها المسلمون؟! يا من تلذذتم بالفراش! وتلذذتم بالطعام! وتلذذتم بالشراب! أماتت نخوتكم؟! أمات إسلامكم؟! أمات دينكم؟! أماتت عزتكم؟! فليتخيل كل واحد منا أن هذه الأخت التي انتهك عرضها وضاع شرفها أنها أمك، أنها أختك، أنها زوجتك، أنها ابنتك، ماذا أنت صانع؟! هل فكرت في هذا؟! أفيقوا يا مسلمون! يا من فتحتم أماكن أعمالكم وشركاتكم للنصارى، ولكل طوائف الكفر من كل فج عميق، جاءوا إلى بلادنا، أكلوا خيراتنا، وأكلوا أرزاقنا، وعاشوا بيننا، ودخلوا بيوتنا، وهم هناك يذبحون أبناءنا، ويذبحون نساءنا، ويذبحون إخواننا. فما ثم معتصم يغيث من استغاث به وصاح {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:1 - 8]. أسأل الله جل وعلا أن يرد المسلمين إلى الإسلام رداً جميلا، وأن يعيد المسلمين إلى حظيرة الإسلام، وأن يعيد إليهم عزتهم وكرامتهم، ومجدهم، وأن يذل الشرك والمشركين، والكفرة والملحدين، إنه ولي ذلك ومولاه. اللهم إني قد بلغت، اللهم فاشهد! اللهم إني قد بلغت، اللهم فاشهد! اللهم إني قد بلغت، اللهم فاشهد! وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

وجوب دعم المسلمين في البوسنة والهرسك

وجوب دعم المسلمين في البوسنة والهرسك الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي المتقين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، إمام المجاهدين وقائد الغر الميامين. اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: أيها الأحبة! إن إخوانكم في جمهورية البوسنة والهرسك أعلنوا أنهم لا يريدون منكم الدواء ولا يريدون منكم الغذاء، ولكنهم يريدون منكم المال الذي يشترون به السلاح؛ ليذودوا عن شرفهم، وليحموا أعراض أخواتهم، فهل من مدكر؟! هل من مجيب؟! هل من مستجيب؟! من سيجمع اليوم الريال والألف؛ ليرسل به إلى الإخوة الذين تكفلوا بإرسال الأموال إلى إخوانكم هناك، وإلى أخواتكم هناك، هل من مستجيب؟ هل من مدكر؟ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الصف:10 - 11]. اللهم إنا نضرع إليك، يا أحد يا فرد يا صمد! يا منقذ الغرقى! ويا منجي الهلكى! ويا سامع كل نجوى! يا عظيم الإحسان! ويا دائم المعروف! لا إله لنا سواك فندعوه، ولا رب لنا غيرك فنرجوه، لا إله لنا سواك فندعوه، ولا رب لنا غيرك فنرجوه. يا سامع الدعوات! ويا سامع الأصوات! ويا عالم الخفيات! ويا عالماً بما هو آت! اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم إنا نشكو إليك ضعف قوتنا، وقلة حيلتنا، وهواننا على الناس، يا أرحم الراحمين! أنت رب المستضعفين، وأنت إلهنا، إلى من تكلنا؟! إلى بعيد يتجهمنا! أم إلى عدو ملكته أمرنا! إن لم يكن بك غضب علينا فلا نبالي. نسألك بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن لا تنزل بنا غضبك، أو يحل علينا سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك. اللهم احم أعراض أخواتنا المسلمات، اللهم احم أعراض أخواتنا المسلمات، اللهم احم أعراض أخواتنا المسلمات، اللهم احم أعراض أخواتنا المسلمات. اللهم انصر المجاهدين في كل مكان، اللهم انصر المجاهدين في أفغانستان، اللهم اربط على قلوبهم يا رحيم يا رحمن. اللهم انصر المجاهدين في البوسنة والهرسك، اللهم انصر المجاهدين في السودان، اللهم انصر المجاهدين في الفلبين، اللهم انصر المجاهدين في الصومال، اللهم انصر المجاهدين في إرتيريا، اللهم انصر المجاهدين في كل مكان. اللهم أقر أعيننا بدولة الإسلام، اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام. اللهم قيض لأمة الإسلام أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل به أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، أنت ولي ذلك ومولاه. اللهم أذل الشرك والمشركين، والكفرة والملحدين، أنت ولي ذلك والقادر عليه يا رب العالمين! اللهم رد المسلمين إلى الإسلام رداً جميلاً، اللهم خذ بأيديهم إليك، اللهم خذ بأيديهم إليك، اللهم عجل بالقائد الرباني الذي يحكم المسلمين بكتابك، وسنة نبيك، أنت ولي ذلك والقادر عليه. هذا وما كان من توفيق فمن الله، وما كان من خطأ أو سهو أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء. وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه. وصل اللهم وسلم وزد وبارك على نبينا وحبيبنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

إلى الشباب

إلى الشباب للشباب مكانة عظيمة ومنزلة عالية، فهم فجر الإسلام وعمدة النصر، ولذا كان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الاحتفاء بالشباب لصبرهم وجلدهم في الثبات على الدين، ولابد للشباب من وصايا، ومنها: لزوم القرب والارتباط بالعلماء، وتوسيع الفهم عن الله ورسوله، وفقه الواقع، وكيفية تغيير المنكر وضوابطه، ومحاسبة النفس أشد من محاسبة الشريك الشحيح لشريكه.

مكانة الشباب

مكانة الشباب الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة الفضلاء! وأيتها الأخوات الفاضلات! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله الكريم جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت المبارك على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة في جنته، ودار مقامته؛ إنه هو ولي ذلك ومولاه. أحبتي في الله! رسالة إلى الشباب. هذا هو عنوان محاضرتنا مع حضراتكم في هذه الليلة المباركة، وكعادتي حتى لا ينسحب بساط الوقت سريعاً من تحت أقدامنا، فسوف ينتظم حديثي مع حضراتكم في هذا الموضوع الجليل الكبير في العناصر التالية: أولاً: مكانة الشباب. ثانياً: الفهم عن الله ورسوله. ثالثاً: فقه التغيير. رابعاً: حرمة الدماء. وأخيراً: نصيحة محب.

حفاوة النبي صلى الله عليه وسلم بالشباب

حفاوة النبي صلى الله عليه وسلم بالشباب أولاً: مكانة الشباب: أحبتي في الله! إن كان شيوخنا وآباؤنا عقول الأمة التي تخطط وتفكر، فإن شبابنا سواعد الأمة التي تبني وتعمر، ولا يكون أبداً لعقل أن يأتي مجرداً دون أن يمشي على قدمين، ودون أن يقوى بساعدين، فالأمة لا تستغني أبداً عن شبابها، وأمة تستغني عن شبابها أمة خاذلة، وأمة خاسرة مخذولة. فلا غنى أبداً للشباب عن الشيوخ والآباء، ولا غنى أبداً للشيوخ والآباء عن الشباب، وكان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحفاوة بالشباب، فلقد أوحى الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في سن الأربعين وهو سن اكتمال الشباب، وكان أبو بكر رضي الله عنه في الثامنة والثلاثين من عمره في ريعان الشباب. أما عمر بن الخطاب رضي الله عنه فكان في السابعة والعشرين من عمره في ريعان الشباب، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه كان في العاشرة من عمره، والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله والأرقم بن أبي الأرقم وخباب بن الأرت وعبد الله بن الزبير ومصعب بن عمير وسعد بن أبي وقاص وأسيد بن حضير هؤلاء وغير هؤلاء كانوا شباباً في ريعان الشباب، نصروا الدعوة من لحظاتها الأولى، وبذلوا عرقهم، بل وأرواحهم ودماءهم لنصرة هذا الدين. فأول سفير يتحدث باسم الإسلام خارج أرض الإسلام كان شاباً في ريعان الشباب في العشرينات من عمره، استطاع هذا الشاب بلغة لم ولن تعرف الدبلوماسية المعاصرة لها مثيلاً على الإطلاق استطاع هذا الشاب المبارك بعرضه لقضية الإسلام أن يضيء للإسلام شمعة في أرض مظلمة، واستطاع أن يشق للإسلام نهراً للحياة وسط صخور صلدة قاسية عاتية، إنه جعفر بن أبي طالب حين تحدث بين يدي النجاشي في بلاد الحبشة. وأول فدائي في الإسلام كان شاباً في الثالثة والعشرين من عمره حين نام في فراش النبي صلى الله عليه وسلم وقد قدم روحه رخيصة لنصرة هذا الدين وللذود والذب عن سيد النبيين وإمام المرسلين، إنه الشاب الذي اضطر يوماً لأن يفخر فقال: محمدٌ النبي أخي وصهري وحمزة سيد الشهداء عمي وجعفر الذي يمسي ويضحي يطير مع الملائكة ابن أمي وبنت محمد سكني وزوجي منوط لحمها بدمي ولحمي وسبطا أحمد ولداي منها فأيكم له سهم كسهمي إنه أسد الله الغالب علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وأول داعية يتحرك للدعوة خارج أرض الإسلام، بل ويضع النبي صلى الله عليه وسلم بين يديه مصير الدعوة بأكمله كان شاباً في ريعان الشباب، إنه زهرة فتيان قريش، إنه لؤلؤة ندواتها، إنه غرة فتيانها، إنه قطب الرحى بين رجالها، إنه أعطر شبابها، إنه مصعب الخير مصعب بن عمير. وهذا شاب آخر يأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يسير لمناطحة الصخور الصماء في بلاد الروم لتأديب القبائل التي اعتدت على حدود الدولة الإسلامية، يوليه النبي قيادة الجيش المسلم، وتحت قيادته أكابر الصحابة كـ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضوان الله عليهم أجمعين، إنه الحب بن الحب أسامة بن زيد رضي الله عنه. كانوا شباباً في ريعان الشباب، عرفوا الغاية التي من أجلها خلقوا، وعرفوا الوظيفة التي من أجلها ابتعثوا، وبذلوا أرواحهم رخيصة لنصرة هذا الدين. لذا كان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحفاوة بالشباب، وشديد الحب للشباب، وشديد العناية بالشباب، فالشباب بلا نزاع هم مستقبل الأمة بإذن الله، الشباب هم أمل الأمة بعد الله تبارك وتعالى، فالشمس لا تملأ النهار في آخره كما تملأ النهار في وسطه وأوله، تلك هي مرحلة الشباب، ومرحلة الطاقة، ومرحلة الفتوة، ومرحلة العمل، ومرحلة الإرادة، ويجب على هذه الأمة أن تستغل شبابها، وأن توظف شبابها في وقت ذلت فيه الأمة وهانت لمن كتب الله عليهم الذل والذلة من إخوان القردة والخنازير.

أهمية الارتباط بين العلماء والشباب

أهمية الارتباط بين العلماء والشباب إنني أدين الله جل وعلا بأن أكبر جرم يرتكب في حق الشباب أن يحال بين الشيوخ والعلماء وبين الشباب، وشبابنا بطبعه يحب التدين، شباب الأمة بطبعه يحب التدين، بل لو انحرف يمنة أو يسرة إذا ذكر بالله بحكمة ورحمة وأدب وتواضع سرعان ما يعود باكياً إلى الله يردد مع السابقين الأولين قولتهم الخالدة: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285]. أقول: إن لم يتعلم شبابنا في المساجد بتلك الطريقة بين الأنوار في وضح النهار وفي الضوء الساطع والواضح، إن لم يتعلم شبابنا في المساجد وهذا النور سيتعلم شبابنا في الظلام، وإن لم يتعلم شبابنا على سطح الأرض في بيوت الله سيتعلم شبابنا تحت الأرض في السراديب، وسيأتي علمهم مظلماً بظلام البيئة التي سيحرصون على التعلم فيها؛ لأنه حيل بينهم وبين الجلوس بين أيدي العلماء، وسيأتي علمهم منحرفاً انحراف السراديب التي سيتلقون فيها العلم بعيداً عن هذا الحق وهذا الوضوح، لا ينبغي أبداً أن نخشى من المساجد، ولا يجوز ألبتة أن نخاف من العلماء، فالعلماء صمام الأمان لهذه الأمة. ويجب على شبابنا أن يجلس بين العلماء الربانيين ليسمع منهم عن الله وعن رسول الله، وحذار ثم حذار أن يسمع شاب من شبابنا فتوى لعالم من علمائنا الربانيين فلا تصادف الفتوى هوى في قلب هذا الشباب من منطلق حماسه وإخلاصه لدين الله، فينطلق ليحكم على هذا العالم الرباني بأنه صار من علماء السلطان أو صار يبحث عن منصب وزاري أو منصب دنيوي، كلا كلا، فالأمر دين. فيجب على شبابنا الآن أن يراجع الربانيين من العلماء، ويجب على المشايخ والعلماء ألا يحتقروا الشباب، وألا يزدروا الشباب، وألا يظهر هنا أو هناك على فضائية أو أخرى من ينسب إلى العلم ليتكلم عن شباب الأمة الذي يود أن لو ضحى بدمه لنصرة دين الله تبارك وتعالى ليعلم سفلة الأرض أن محمداً ما مات وما خلف بناتاً، بل خلف أطهاراً يودون أن لو ضحوا بأنفسهم لنصرة دين الله. لا ينبغي أن يظهر رجل من أهل العلم على فضائية هنا أو فضائية هناك ليقول: (هؤلاء العيال!) إلى آخر هذه الألفاظ التي لا تليق بشباب يود -ورب الكعبة- أن لو بذل نفسه لدين الله تبارك وتعالى. الأمة لا غنى لها أبداً عن شيوخها وعلمائها ورجالها وشبابها، وآن الأوان في وقت تذل فيه الأمة وتهان، آن الأوان أن تلتحم الأمة وأن يلتحم الشباب مع العلماء، وأن يلتحم العلماء مع الشباب ليعلم العلماء الشباب من قرآن ربهم وسنة نبيهم بفهم سلف الأمة الصالح رضوان الله عليهم. هذا ورب الكعبة هو طريق النجاة، وهو المخرج مما يسمونه بالتطرف والإرهاب، لا مخرج إلا أن يجلس العلماء مع الشباب، وإلا أن يحترم العلماء والشيوخ الشباب، وأن يحترم في الوقت ذاته الشباب العلماء، وأن يجلس الشباب بين أيدي العلماء ليتعلموا منهم قول الله وقول رسول الله بفهم سلف الأمة عليهم جميعاً رضوان الله.

نتيجة انحراف الشاب عن الدين والعلماء

نتيجة انحراف الشاب عن الدين والعلماء هذه النعمة -أقصد الشباب- إن ابتعدت عن العلماء وابتعدت عن الدين غرقت في بحور الشهوات، وإن انحرف الشباب عن الفهم الصحيح للدين على مراد الله ومراد رسول الله بفهم الصحابة سقط في شباك الشبهات. أقول: إن ابتعد شبابنا عن الدين غرق الشباب في بحور الشهوات، وإن انحرف الشباب عن الفهم الصحيح للدين على مراد الله ورسوله بفهم السلف سقط شبابنا في شباك الشبهات، ولا يخفى على أحد أن كثيراً من شباب الأمة الآن غرق في بحور الشهوات، وسقط في شباك الشبهات، لماذا؟ لأن شبابنا ينشأ الآن ويربى في ظل جملة هائلة من المتناقضات والأزمات والمشكلات، ولأنه قد انصرف عن العلماء أو حيل بينه وبين العلماء، فصار يعيش في بحر لجي من الفتن، فتن الشهوات والشبهات. ظلمات من الفتن بعضها فوق بعض، بل إذا أخرج الشاب يده لم يكد يراها، بل إذا امتدت إليه يد متوضئة طاهرة فاهمة واعية -تفهم الواقع والدين بفهم دقيق ووعي عميق- لتنقذه من هذا الغرق المحقق في بحور الشهوات أو في شباك الشبهات جذبته أيادٍ أخرى كثيرة لكثرة الأعداء المتربصين بشبابنا ممن لا يريدون لهذا الشباب أن يتربى على القرآن والسنة. مؤامرة تدور على الشباب لتجعله ركاماً من تراب مؤامرة تقول لهم تعالوا إلى الشهوات في ظل الشراب شيوعيون جذر من يهود صليبيون في لؤم الذئاب تفرق شملهم إلا علينا فصرنا كالفريسة للكلاب

الفهم عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم

الفهم عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم

أهمية العلم عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم

أهمية العلم عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم أقول: إن انحرف الشباب عن الدين غرق في بحور الشهوات، وإن انحرف عن الفهم الصحيح للدين سقط في شباك الشبهات، وهذا هو عنصرنا الثاني بإيجاز، الفهم عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. أيها الشباب! من سلك طريقاً بغير دليل ضل، ومن تمسك بغير الأصول زل، والدليل المنير لنا في كل هذه الظلماء، والأصل العاصم لنا بإذن الله من كل هذه الفتن والأهواء هو العلم بفهم عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ترجم الإمام البخاري في كتاب العلم باباً بعنوان: (باب العلم قبل القول والعمل). يجب عليك ألا تتكلم في دين الله تبارك وتعالى إلا بعد أن تتعلم، فضلاً عن أنه يجب عليك ألا تتحرك خطوة واحدة على الطريق لدين الله جل وعلا إلا بعد أن تتعلم. أخاطبك -ورب الكعبة- بكياني كله: حماسك وحده لا يكفي، وإخلاصك للدين وحده لا يكفي، بل يجب أن يكون حماسنا وإخلاصنا منضبطين بضوابط القرآن والسنة بفهم سلف الأمة؛ حتى لا نضر ونحن نريد النفع، وحتى لا نفسد ونحن نريد الإصلاح، فالأمر دين ندين به ربنا تبارك وتعالى. فالفهم عن الله ورسوله، لا تتكلم إلا بعد أن تتعلم، قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد:19]، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية بأمرين، فبدأ بالعلم وثنى بالعمل. قال: وقدم الله العلم على العمل لأن العلم هو المصحح للنية التي يصح بها كل قول وعمل. ثم يترجم الإمام البخاري رحمه الله في كتاب العلم باباً آخر من أفقه أبواب هذا الكتاب، بل ورحم الله من قال: (فقه البخاري في تراجمه)، فترجمة الإمام تحمل فقهاً غزيراً قبل أن تقرأ ما دونه. يترجم باباً آخر في كتاب العلم بعنوان: (باب الفهم في العلم)، فلا تعجل حتى تفهم الدليل، فالدليل ليس منتهى العلم! الدليل ليس منتهى العلم! تقول: الدليل في البخاري ومسلم -على رأيك-. وهذا كلام في عيني وفي قلبي، لكن لا تعجل حتى تفهم الأدلة ومراتب الأدلة ومناطات الأدلة؛ حتى تكون على بصيرة بالمجمل والمبين، بالعام والخاص، بالناسخ والمنسوخ، حتى تكون على بصيرة بالمصالح والمفاسد، حتى تكون على بصيرة بواقعك الذي أنت تعيش فيه، ثم بالأدلة الشرعية التي ستنسحب على واقع هذه المسألة التي تود أن تبحثها أو تدرسها. (باب الفهم في العلم)، ويروي الإمام في هذا الباب حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث معاوية رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)، قال الحافظ ابن حجر: أي يفهمه.

عاقبة سوء الفهم عن الله ورسوله

عاقبة سوء الفهم عن الله ورسوله وأنا أقول: والله العظيم ما ضل من ضل ولن يضل من يضل إلا بسبب سوء الفهم لمراد الله ومراد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن القيم رحمه الله: سوء الفهم عن الله ورسوله أصل كل بدعة وضلالة نشأت في الإسلام قديماً وحديثاً، وأصل كل خلاف في الأصول والفروع. ثم قال ابن القيم: وهل أوقع القدرية -النفاة منهم والجبرية- والمرجئة والخوارج والمعتزلة والروافض وسائر طوائف أهل البدع فيما وقعوا فيه إلا سوء الفهم عن الله ورسوله؟! فالخوارج قال النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة في حقهم: (يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم)، وأرجو أن تتصور أن أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً عليهم رضوان الله يحقر أحدهم صلاته إلى صلاة رجل من الخوارج، كانت جباههم كركب المعز من طول السجود بين يدي الله جل وعلا، ومع ذلك قال النبي في حقهم: (هم كلاب أهل النار) لماذا؟ إنها قضية الفهم. مر عليهم عبد الله بن خباب بن الأرت -رضوان الله عليه وعلى أبيه- مع امرأته، فسأل الخوارج عبد الله عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكان الخوارج قد كفروا علياً بدعوى أنه حكم الرجال في كتاب الله، والله جل وعلا يقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:57]. فانظر كيف يستشهد هؤلاء بالآيات، فلما سألوا عبد الله بن خباب عن علي أثنى عليه بما هو أهله، وأنا أود أن أقول: إننا ندين الله ونتقرب إلى الله مع كل نفس من أنفاس حياتنا بحب علي وحب آل بيت الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم، نعم نحب علياً ونحب آل بيت نبينا صلى الله عليه وسلم، وأهل السنة جميعاً يدينون الله بذلك، والقضية لا تحتاج إلى مزايدات على الإطلاق. فلما أثنى عبد الله على علي قتله الخوارج وذبحوه كما تذبح النعجة، ثم سألوا امرأته عن علي فأثنت عليه بما هو أهله فذبحوها كما تذبح النعجة وبقروا بطنها واستخرجوا جنينها من بين أحشائها، ومر هؤلاء المجرمون وأيديهم ملطخة بدماء عبد الله وامرأته على حائط للنخيل سقطت بعض تمراته خارج أسواره، فانحنى أحدهم ليلتقط تمرة ليأكلها، فقالوا: مه مه. ماذا تصنع يا رجل؟! كيف تستحل لنفسك تمرة لم يأذن لك صاحبها؟! وأيديهم ملطخة بدماء عبد الله بن خباب وامرأته. فسوء الفهم عن الله ورسوله قضية من أخطر القضايا. وفي مسند أحمد وسنن ابن ماجة بسند صححه شيخنا الألباني رحمه الله تعالى في صحيح الجامع من حديث جابر بن عبد الله وابن عباس رضي الله عنهم وعن جميع أصحاب سيدنا رسول الله قال: (كنا في سفر فأصاب رجلاً منا حجر فشجه في رأسه، ثم احتلم، فقال لأصحابه: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ قالوا: لا ما دمت تقدر على الماء)، وأنا أقول: استدلوا بدليل صحيح؛ لأن القاعدة المتفق عليها تقول: (إذا وجد الماء بطل التيمم)، فـ (بطل) -بفتح الباء- معناه: لا يصح لك أن تتيمم وأنت تقدر على الماء، (فاغتسل الرجل فمات)، فهم أخذوا دليلاً عاماً لمناط خاص فقتلوا الرجل، هذه هي المصيبة، أن يفتي من يفتي دون فهم مناطات الدليل التي لابد منها للربط ربطاً صحيحاً بين دلالات النصوص وحركة الواقع، (فاغتسل فمات، فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم قال: قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا؟ إنما شفاء العي السؤال). كم قتل الجهل أناساً بدون حق؟ وكم يقتل؟ وكم سيقتل الجهل أناساً بدون حق؟ (ألا سألوا إذ لم يعلموا). يا أخي! القضية ليست هوى، بل هي قضية دين، والقضية ليست عواطف بل هي قضية دين، يجب أن تسأل نفسك: هل ربي يأمرني بذلك أم لا؟ هل نبيي يكلفني بذلك أم لا؟ هل ديني يأمرني بذلك أم لا؟ هذا هو المنطلق الذي يجب أن ننطلق منه، لا ينبغي أن تؤثر فينا خيانة أعدائنا ونقض أعدائنا لعهودهم لنخون نحن أو لننقض العهود، أبداً، فالأمر دين. جاء في صحيح مسلم من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، يقول حذيفة أمين السر النبوي: (ما منعني أن أشهد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأبي حسيل إلا أننا خرجنا -يعني: للقتال مع النبي صلى الله عليه وسلم- فأخذنا المشركون -قبض المشركون عليهما- فقالوا: أتريدون محمداً؟ قال حذيفة: فقلت: لا) فالحرب خدعة، والكذب في الحرب جائز بنص حديث أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط في الصحيحين، فقال: (لا، ما خرجنا للقتال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال حذيفة: فأخذ المشركون علينا عهد الله وميثاقه أن ننصرف إلى المدينة وألا نقاتل مع رسول الله، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه الخبر، فقال: انصرفا، نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم). هذا محمد صلى الله عليه وسلم يا شباب! هذا إسلامنا يا شباب! نعلنها ورؤوسنا تعانق كواكب الجوزاء، نقول: هذا إسلامنا ولا نخجل أبداً، بل نقول بملء الفم: نحن مسلمون ولا نخجل، ومع كل قولة في ديننا ومع كل أمر ونهي نردده ونقول: مسلمون لا نخجل. ونعلن للدنيا كلها قول ربنا: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29]، فليهلك من هلك، {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} [الكهف:29] الآيات، ونعتز بهذا الدين. فالفهم الفهم، لقد قال صلى الله عليه وسلم في تلك القضية: (قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا؟ إنما شفاء العي -والعي هو الجاهل- السؤال)، فلا تخجل أخي أن تسأل، بل يجب عليك أن تراجع العلماء، ولا ينبغي للعالم أن يتجرأ على الفتوى في المسائل التي لو عرضت -والله- على عمر بن الخطاب لجمع لها أهل بدر. أقول -وقد صرحت بذلك في أكثر من لقاء-: هنالك مسائل يتصدر للفتوى فيها الآن عالم أوحد أرى ألا تخرج هذه الفتوى إلا من المجامع الفقهية، لاسيما إذا كانت الفتوى متعلقة بمسألة من المسائل النوازل الكبار.

فقه التغيير

فقه التغيير قضية الفهم عن الله ورسوله من أخطر وأهم القضايا، إن غاب الفهم لمراد الله وإن غاب الفهم لمراد رسول الله قد نضر ديننا غاية الضرر، وقد نفسد ونحن نريد الإصلاح، وقد نضر ونحن نريد النفع، إن غاب الفهم ربما نخطئ في قضية كبيرة من أخطر وأهم القضايا ألا وهي قضية تغيير المنكر، وهذا هو عنصرنا الثالث بإيجاز: فقه التغيير. أخي الحبيب! الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في هذا الدين، وهو من أشرف المهام التي ابتعث الله لها النبيين والمرسلين، بل ولو طوي بساطه وأهمل علمه وعمله لتعطلت النبوة، واضمحلت الديانة، وفشت الضلالة، وعمت الجهالة، واستشرى الفساد، وخربت البلاد، وهلك العباد، ولن يشعروا بذلك إلا يوم التناد، وقد أمر الله به في كثير من آيات القرآن، وفرضه على أمة النبي عليه الصلاة والسلام، بل وأجمعت الأمة على وجوبه باتفاق، وجعله الله شرطاً من شروط خيرية أمة النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]، وقال جل وعلا: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104]، وما أكثر الآيات! فنحن جميعاً الحكام والعلماء وعامة الناس الصالحين وغيرهم، نحن جميعاً نركب سفينة واحدة إن نجت نجا الجميع، وإن غرقت غرق الجميع، غرق الصالحون مع غيرهم، قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25]، وفي صحيح البخاري من حديث النعمان بن بشير أنه صلى الله عليه وسلم قال: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وأصاب بعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً حتى لا نؤذي من فوقنا -قال صلى الله عليه وسلم-: فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا وهلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا جميعاً). وفي الصحيحين من حديث أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها: (أن النبي استيقظ من نومه عندها فزعاً)، وفي لفظ: (دخل عليها يوماً فزعاً وهو يقول: لا إله إلا الله! لا إله إلا الله! ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه -وحلق النبي بإصبعيه السبابة والإبهام- فقالت أم المؤمنين زينب رضي الله عنها: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث)، وأنا أقسم بالله لقد كثر الخبث، قال: (نعم إذا كثر الخبث). روى الإمام أحمد في مسنده والحاكم في مستدركه بسند صحيح من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (سيأتي على الناس سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة. قيل: من الرويبضة يا رسول الله؟! قال: الرجل التافه -وفي لفظ: الرجل السفيه- يتكلم في أمر العامة)، صدق المصطفى والله. وراعي الشاة يحمي الذئب عنها فكيف إذا الرعاة لها الذئاب (وينطق فيها الرويبضة، قيل: ومن الرويبضة يا رسول الله؟! قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة) واقع مرير. إذاً فنحن جميعاً ركاب سفينة واحدة، ولا يجوز لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يرى المنكرات أمام عينيه وبين يديه ثم يهز كتفيه ويمضي وكأن الأمر لا يعنيه لا من قريب ولا من بعيد، ما دام يأكل ملء بطنه وينام ملء عينه ويضحك ملء فمه، لا، قال صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد -: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان).

ضوابط تغيير المنكر باليد والقلب

ضوابط تغيير المنكر باليد والقلب التغيير باليد له ضوابط حتى لا نضر، ألا تستطيع أن تغير بيدك بكلمة رقيقة جميلة حلوة؟ تستطيع -والله- أن تغير بها، فما عليك إلا أن تبذر بذراً صحيحاً، أعني: بالقرآن والسنة بفهم السلف، ودع النتائج بعد ذلك إلى الله؛ فإن هداية التوفيق ليست بيد ملك مقرب، ولا نبي مرسل، إنما هي بيد الله تبارك وتعالى وحده، فما عليك إلا أن تتحرك بين الناس بأدب وحكمة ورحمة وتواضع لتبلغ عن الله وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودع النتائج بعد ذلك إليه تبارك وتعالى، غير بلسانك، ولا عذر لك أمام الله جل وعلا إن لم تغير المنكر بقلبك، قد لا تستطيع أن تغير بيدك، وقد لا تستطيع أن تغير بلسانك، لكن لا عذر لك أمام الله إن لم تغير بقلبك، فإن قلت: كيف أغير بقلبي؟ قلت: لابد لذلك من شرطين: الأول: أن يرى الله من قلبك بغضك لهذا المنكر. الثاني: أن تزول أنت بنفسك عن المكان الذي ترى فيه المنكر الذي عجزت عن إزالته إن استطعت ذلك. أما أن تأتي وتجلس -مثلاً- أمام فلم من الأفلام، ويعرض الفلم لقطة من لقطات الرقص الشرقي -مثلاً- وأنت جالس وتتصور أنك منكر لهذا المنكر فلا، فتراه جالساً وهو ينظر، ثم هو يريد أن يقنع نفسه بأنه منكر، فيقول: أستغفر الله، أستغفر الله، استغفار الكاذبين، اللهم! اجعلنا من الصادقين. فلابد أن يرى الله من قلبك بغضك للمنكر، هذا أمر، وأن تزول أنت عن مكان المنكر الذي عجزت عن إزالته إن استطعت أن تترك هذا المكان، وإلا فقد لا يستطيع أحد إخواننا، فيرى الله من قلبك بغضك لهذا المنكر؛ لأنك قد تكون في (أتوبيس) عام مثلاً، ويعرض فيلماً أنت لا ترضاه، فذهبت إلى السائق بأدب جم وأنت تحمل شريطاً آخر لعالم من العلماء وقلت: يا أخي! نريد أن نرى هذا الشريط فقال: لا، اجلس أيها الإرهابي. وأنت لا تستطيع النزول، فاجلس وافتح كتاب الله عز وجل وانشغل به، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلني وإياك من الصادقين.

لزوم الموازنة بين المصالح والمفاسد في إنكار المنكر

لزوم الموازنة بين المصالح والمفاسد في إنكار المنكر لكن انتبه -يا أخي الحبيب- فالتغيير باليد له فقه وضوابط، وقلت: الأمر لا تحكمه العواطف، ولا تحكمه الغيرة على الدين بقدر ما تحكمه الضوابط الشرعية، التغيير باليد إن ترتب عليه منكر هو أكبر من المنكر الأصلي الذي تريد تغييره، فلا يجوز لك أبداً أن تقدم عليه لتغيره. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: يجب على من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أن يكون فقيهاً فيما يأمر به، فقيهاً فيما ينهى عنه، رفيقاً فيما يأمر به، رفيقاً فيما ينهى عنه. قال ابن القيم رحمه الله -وعض على هذا الكلام بالنواجذ- في كتابه الماتع (إعلام الموقعين): إن النبي صلى الله عليه وسلم قد شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر؛ ليحصل من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإن كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر من المنكر فهو أمر بمنكر وسعي في معصية الله ورسوله، ولقد كان النبي يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها. وقد يرد على هذا الاستدلال أن تلك كانت مرحلة استضعاف، والجواب ما قاله ابن القيم، حيث قال: بل لما فتح الله عليه مكة وصارت مكة دار إسلام، وعزم النبي على هدم البيت الحرام ورده على قواعد إبراهيم لم يفعل النبي ذلك مع قدرته على فعله؛ لأن قريشاً كانت حديثة عهد بكفر وقريبة عهد بإسلام. هذا هو كلام العلماء، فلابد أن نراجع العلماء. ولابد من الموازنة بين المصالح والمفاسد، لا تزعم لنفسك -يا أخي- أنك أغير على الدين من غيرك، ولا يجوز لي أن أدعي لنفسي أنني أغير على الدين منك أو من غيرك، من أعطاني هذا الحق؟ ومن أعطاك هذا الحق؟ لابد من الموازنة الدقيقة بين المصالح والمفاسد، وهذا لا يحسنه متهور ولا جبان، المتهور سيضرك بتهوره، والجبان سيضر بخذلانه وسلبيته، لكن ضرر المتهور أخطر، والقضية تحتاج إلى موازنات دقيقة بين المفاسد والمصالح، وخذ مني هذه العبارة، وأرجو الله ألا تنسوها: ليس من الفقه أن نسقط أحكام العز والاستعلاء التي مرت بها الأمة على أوقات الذل والضعف والهوان التي تمر بها الأمة. فإن قيل: أين الدليل على هذا التأصيل الذي أصلت قلت: الأدلة كثيرة، فكلنا يعلم الشروط الجائرة الظالمة التي قبلها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية، والأيام دول يا شباب، قال تعالى: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140]، ليس معنى ذلك أن نخضع وأن نخنع، بل يجب أن نعد العدة، كما قال ربنا: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60]. لكن ليس من الحكمة أبداً أن أقوم العمود الصخري وأنا مصر على أن أحطمه برأسي، سيتحطم رأسي ويبقى العمود صامداً شامخاً كما هو، فلا ينبغي أن نسقط أحكام العز والاستعلاء على الأمة في وقت الضعف والذل والهوان. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ علي بن أبي طالب في الحديبية -والحديث في الصحيحين-: اكتب -يا علي - بسم الله الرحمن الرحيم. فيعترض رسول قريش على البسملة، ووالله لو فعل هذا الآن لطاشت عقولنا، ورسول الله بين أظهر الصحابة، يقول سهيل بن عمرو: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب: باسمك اللهم. فيقول الصحابة: والله لا نكتبها إلا (بسم الله الرحمن الرحيم)، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اكتب -يا علي - باسمك اللهم). فهذا هو النبي عليه الصلاة والسلام، واعلم -يا أخي- أن السيرة ليست قصة فقط؛ لأن كثيراً من الناس يسمع الآن السيرة ويخرج وكأنه قد استمع إلى قصة أبي زيد الهلالي، أو إلى قصة عنترة وينسى أن هذا منهج تربوي كامل. (اكتب -يا علي - باسمك اللهم)، فيكتب (باسمك الله). ثم قال: (اكتب هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله، فقال سهيل بن عمرو: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله. فيقول النبي لـ علي: يا علي! امح (رسول الله)) أي: امسح كلمة (هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله). فيقوم سيدنا علي ويقول له: لا والله، والله لا أمحوك أبداً. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أرني يا علي!)، لأن النبي كان لا يقرأ عليه الصلاة والسلام، فيطلب النبي صلى الله عليه وسلم من علي أن يشير له إلى موضع الكلمتين الكريمتين، فيمحو النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه (رسول الله). ثم قال: (اكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله قريشاً: أن تخلي بيننا وبين البيت لنطوف به. قال: لا والله لا تدخلونه هذا العام؛ حتى لا تتحدث العرب أنا قد أخذنا ضغثة -يعني: دخلتم رغم أنوفنا-، ولكن اكتب ذلك من العام المقبل. فقال النبي: اكتب يا علي: وذلك من العام المقبل)، وبدأ سهيل بن عمرو يقول: اكتب يا علي! ثم يقول سهيل بن عمرو: (ونصالحك على أنه لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا. وكل بند لا يطاق، لكن كان هذا خطيراً جداً، فالمسلمون قالوا: سبحان الله! يرد إلى المشركين وقد جاء مسلماً! إلى آخر القصة المعروفة. فأنا أرجو من شبابنا أن يكون فاهماً، وأن يكون على بصيرة، وأن يعلم أن الأيام دول، إن مرت الآن الأمة بمرحلة استضعاف فقد مرت الأمة بمرحلة طويلة جداً من التمكين والعز، فلا ينبغي أن نيأس أبداً أو أن نقنط أو أن نستسلم أو أن نصاب بالهزيمة النفسية. فلئن عرف التاريخ أوساً وخزرجاً فلله أوس قادمون وخزرج وإن كنوز الغيب تخفي طلائع حرة رغم المكائد تخرج

حرمة الدماء

حرمة الدماء أيها الأحبة! فقه التغيير له ضوابط وشروط، إن غاب هذا الفقه ربما نقع في الكبيرة التي تلي الشرك بالله، ألا وهي قتل النفس التي حرم الله عز وجل، وهذا هو عنصرنا الرابع بإيجاز: حرمة الدماء. فالدماء لها حرمة، وفي مثل هذه المسائل الكبيرة والنوازل الخطيرة راجع الربانيين من العلماء، راجع الربانيين من العلماء قبل أن تخطو على الطريق خطوة خطيرة، فالدماء لها حرمة، والله خلق الإنسان وكرمه غاية التكريم، نفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وأنزل وبعث له النبيين والمرسلين ليدلوه على الحق، وأنزل مع الأنبياء والمرسلين الكتب، ووضع الله له شريعة محكمة تضمن له السعادة في الدنيا والآخرة، تلك الشريعة التي تضمن حقوق الإنسان، وفي مقدمة هذه الحقوق حق الحياة، ولا يجوز ألبتة لأي أحد أن يسلب هذا الحق أو يستبيح حماه؛ لأن الله وحده هو واهب الحياة، وليس من حق أي أحد أن يسلب هذه الحياة إلا خالقها جل وعلا، أو في حدود الشريعة التي شرعها ليسعد بها الخلق في الدنيا والآخرة: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]. فالقتل كبيرة تأتي بعد الشرك بالله، قال تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:68 - 70]. وتدبر معي هذا الوعيد، وأنا أقسم بالله على أنك لو فتشت في القرآن الكريم كله لن تجد وعيداً كهذا الوعيد في سورة النساء في قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93] أي وعيد هذا؟ {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93]. وفي صحيح البخاري من حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً)، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: (إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حله). وفي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم بسند صححه شيخنا الألباني من حديث معاوية رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا من مات مشركاً أو قتل مؤمناً متعمداً)، وفي سنن النسائي بسند صحيح من حديث بريدة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (قتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا). ومن أعجب ما قرأت في هذا الباب ما رواه البخاري في التاريخ الكبير، والنسائي في السنن من حديث عمرو بن الحمق الخزاعي رضي الله عنه -وصححه الشيخ الألباني في المجلد الثاني من صحيح الجامع- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أمن -أي: أعطى الأمان- رجلاً على دمه فقتله فأنا بريء من القاتل وإن كان المقتول كافراً)، هذا كلام النبي محمد صلى الله عليه وسلم! الأمر دين، والدماء لها حرمة؛ لذا كانت أول ما يقضى فيه يوم القيامة، والحديث في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال صلى الله عليه وسلم: (أول ما يقضى فيه يوم القيامة في الدماء)، ولا تعارض بين هذا وبين حديث أصحاب السنن من حديث أبي هريرة: (أول ما يحاسب عليه العبد الصلاة)، فالصلاة حق الله، والدماء حق العباد، لا تعارض بين الحديثين، فأول ما يقضى فيه يوم القيامة بين العباد في الدماء، بل في سنن النسائي بسند حسن من حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال: (يجيء المقتول يوم القيامة تشخب أوداجه دماً -أي: تشخب عروق رقبته دماً- يدفع القاتل ليوقفه بين يدي الله وهو يقول: أي رب! سل هذا -أي: سل هذا القاتل- فيم قتلني؟!). فالدماء لها حرمة عظيمة، ومن ثم فأنا أبذل هذه النصيحة من قلبي لأحبابي وإخواني.

نصيحة محب

نصيحة محب

الصبر وعدم العجلة

الصبر وعدم العجلة ثالثاً: الصبر وعدم العجلة. إياك أن تظن أنك أغير على الفلسطينيين الذين تسفك دماؤهم من الله، احذر أن تظن هذا أبداً، إياك أن تظن أنك أرحم من بالعراقيين الذين تسفك دماؤهم من الله، وإياك أن تظن أن الله لا يراهم ولا يسمعهم، فالله يسمع ويرى، لا تسقط ورقة من نخل أو شجرة في هذه الأرض أو في غيرها من البقاع على وجه الأرض إلا بعلمه، فإياك أن تظن أن صاروخاً أو طائرة أو قاذفة أو قنبلة تسقط في أي بقعة من الأرض دون علمه، وتحت سمعه وبصره جل جلاله، وليس أحد أغير على الدين من الله، وليس أحد أغير وأرحم بالمستضعفين في فلسطين والعراق والشيشان وأفغانستان من الله، فلا تتعجل، كن رجلاً ومت رجلاً، لن يسألك الله: لماذا لم تمكن الأمة في عصرك؟! أبداً. لكن ستسأل عما قدمت أنت وبذلت لدين الله، أما النتائج فليست إليك، ليس هذا من شأن كل العبيد، إنما هو من شأن العزيز الحميد. وتعجبني عبارة شيخنا الألباني رحمه الله: (من تعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه)، أنت تحب ثمرة المانجو، فلو قطفت ثمرة مانجو قبل أن تنضج فهل تستطيع أن تأكلها؟ أبداً. فالصبر ولا تعجل: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد:8]. ولا تظن أن دولة من الدول هي التي تحكم الكون وهي التي تدبر أمر الكون، بل إن الذي يدبر أمر الكون هو الله، فاملأ قلبك ثقة بالله الملك الحق، فلا تظن أن دولة تحكم الكون وتدبر شئونه، بل إن الذي يدبر شئون الكون هو الله الملك الحق: {قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عمران:154]، فاصبر ولا تعجل، وليبذل كل واحد ما يقدر عليه لدين الله بحكمة وبرحمة وبأدب وبتواضع، وبفهم دقيق وبوعي عميق، قال ابن القيم: لا يجوز للعالم أو المفتي أو الحاكم أن يفتي في أي مسألة إلا بعلمين: الأول: فهم الواقع. الثاني: فهم الواجب في الواقع. فلابد أن تكون على فهم وبصيرة بواقع الأمة في هذه المرحلة الحرجة من مراحل الضعف والذل والهوان، حتى تكون على بصيرة بربط الأدلة الشرعية بمناطاتها العامة والخاصة، التي تتفق مع هذا الواقع الذي تحياه الأمة الآن. وأخيراً أقول: المسئولية في تربية الشباب تقع على عاتق الجميع، تقع على عاتق وسائل الإعلام التي لا ترقب في شبابنا إلاً ولا ذمة، وتقع على عاتق المؤسسات الدينية، وتقع على عاتق المؤسسات الرياضية التي ابتعدت كثيراً عن منهج الله ومنهج رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومع كل ذلك أقول: إن أخطر بيئة تؤثر على الشباب هي الأسرة، الأسرة التي ضيعت كثيراً من دورها الذي يجب أن تقوم به، أنا أقول: إن استقالة تربوية تدمي القلوب قد وقعت الآن في كثير من البيوت، حين استقال كثير من الآباء والأمهات تربوياً، وخرج الشباب ليبحث عن قوته التربوي في وسائل الإعلام، أو في النوادي، أو عبر الصحبة السيئة، أو في الشوارع، فشعر كثير من شبابنا فعلاً باليتم التربوي الحقيقي. ليس اليتيم من انتهى أبواه من هم الحياة وخلفاه ذليلاً إن اليتيم هو الذي ترى له أماً تخلت أو أباً مشغولاً فليرجع الوالد إلى أولاده، ولتتق الأم ربها تبارك وتعالى في أولادها وأبنائها، فالأسرة هي المحضن التربوي الطاهر الذي يخط أولى الخطوط على قلب وعقل الأولاد داخل البيوت، ولا تيأسوا ولا تقنطوا؛ فإن أشد ساعات الليل سواداً هي الساعة التي يأتي بعدها مباشرة ضوء الفجر. وفجر الإسلام قادم بموعود الله وبموعود الصادق رسول الله، قال تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:172 - 173]. وقال سبحانه: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:110]، وقال سبحانه: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:8 - 9]. وخذ هذه البشرى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال:36]، هل تصدقون الله؟ {ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36]. صبح تنفس بالضياء وأشرقا والصحوة الكبرى تهز البيرقا وشبيبة الإسلام هذا فيلق في ساحة الأمجاد يتبع فيلقا وقوافل الإيمان تتخذ المدى درباً وتصنع للمحيط الزورقا وما أمر هذه الصحوة الكبرى سوى وعد من الله الجليل تحققا هي نخلة طاب الثرى فنما لها جذع قوي في التراب وأعذقا هي في رياض قلوبنا زيتونة في جذعها غصن الكرامة أورقا فجر تدفق من سيحبس نوره أرني يداً سدت علينا المشرقا يا نهر صحوتنا رأيتك صافيا وعلى الضفاف رأيت أزهار التقى قالوا تطرف جيلنا لما سمى قدراً وأعطى للطهارة موثقا ورموه بالإرهاب حين أبى الخنا ومضى على درب الكرامة وارتقى أوَ كان إرهاب جهاد نبينا أم كان حقاً بالكتاب مصدقا أتطرف إيماننا بالله في عصر تطرف في الهوى وتزندقا إن التطرف أن نذم محمداً والمقتدين به ونمدح عفلقا إن التطرف أن نرى من قومنا من صانَعَ الكفر اللئيم وأطرقا يا جيل صحوتنا إني أعيذك أن أرى في الصف من بعد الإخاء تمزقا لك في كتاب الله فجر صادق فاتبع هداه ودعك ممن فرقا لك في رسولك أسوة فهو الذي بالصدق والخلق الرفيع تخلقا يا جيل صحوتنا ستبقى شامخا ولسوف تبقى باتباعك أسمقا أسأل الله جل وعلا ألا يخرجنا من الحياة إلا بذنب مغفور، اللهم لا تخرجنا من الحياة إلا بذنب مغفور، وسعي مشكور، وتجارة لن تبور، اللهم استرنا ولا تفضحنا، اللهم أكرمنا ولا تهنا، اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام، اللهم اشف صدور قوم مؤمنين بنصرة التوحيد والموحدين. اللهم أنج المسلمين المستضعفين في فلسطين، وأنج المسلمين المستضعفين في العراق، وأنج المسلمين المستضعفين في الشيشان، وأنج المسلمين المستضعفين في أفغانستان. اللهم اجعل بلاد الإسلام أمناً أماناً سخاءً رخاءً وجميع بلاد المسلمين، اللهم لا تحرم هذا البلد الكريم من نعمة الأمن والأمان وجميع بلاد المسلمين، اللهم لا تحرم هذا البلد من نعمة الأمن والأمان وجميع بلاد المسلمين. اللهم أصلح شبابنا، اللهم أصلح شبابنا، اللهم أصلح شبابنا، اللهم اهدنا واهد شبابنا، اللهم اهدنا واهد شبابنا، اللهم استرنا واستر شبابنا، اللهم احفظنا واحفظ شبابنا، اللهم استر نساءنا وبناتنا، اللهم رب لنا أولادنا، ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً، اللهم اجعلنا للمتقين إماماً. اللهم لا تفضحنا بخفي ما اطلعت عليه من أسرارنا، ولا بقبيح ما تجرأنا به عليك في خلواتنا، برحمتك يا أرحم الراحمين!

لزوم التوبة واتهام النفس

لزوم التوبة واتهام النفس النصيحة الأولى: التوبة واتهام النفس، فلنتب إلى الله جميعاً، وليتهم كل واحد منا نفسه، وليتهم كل واحد منا نفسه، فعلام العجب؟ وعلام الكبر؟ وعلام الغرور؟ ولم يريد كل واحد منا أن ينفرد برأيه وأن يستقل دون أن نجلس لنعرض هذه الأقوال ولنعرض هذه الأفعال على كتاب الله وعلى سنة رسول الله بفهم السلف حتى لا نختلف؟! ولا ينبغي أن نقول: هم رجال ونحن رجال. فإن كنت تريد بهذه المقولة أنهم رجال بذلوا أرواحهم لدين الله ونحن رجال لا نقل عنهم، فيجب علينا أن نبذل أرواحنا كذلك لدين الله فكلامك على العين والرأس، أما إن كنت تقصد أنهم رجال ونحن رجال تريد أن تضع رأسك برأس أبي بكر فهذا مرفوض -يا أخي- إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها بنص القرآن والسنة. فهؤلاء عدلهم الله وزكاهم، وشهد لهم بالخيرية، بل ورضي الله عنهم ورضوا عنه سبحانه وتعالى، وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم: (والذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)، فهم خير الناس بشهادة سيد الناس، والأدلة على ذلك كثيرة، فليتهم كل واحد منا نفسه، ولنجدد التوبة والأوبة إلى الله من فتن الشهوات، ثم لنرجع إلى العلم لينقذنا ربنا من فتن الشبهات، فلا مخرج لنا من الشهوات إلا بالتوبة، ولا مخرج لنا من الشبهات إلا بالعلم. الجهل قبل الموت موت لأهله وأجسامهم قبل القبور قبور وأرواحهم في وحشة من جسومهم وليس لهم قبل النشور نشور قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]، وقال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11]، وقال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، وقال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18]. قال ابن القيم: إن أول من شهد لله بالوحدانية هو الله، ثم ثنى بملائكته، ثم ثلث بأهل العلم. وهذه هي العدالة في أعلى درجاتها، فإن الله جل وعلا لا يستشهد بمجروح، فلنرجع إلى العلم، ولنراجع الربانيين من العلماء، وإياك أن تتهم عالماً أو تنتقص من قدره، إن خالفت فتوى العالم ما تحبه أنت وما تهواه فلا تتعجل باتهام هذا العالم أبداً؛ فالأمر دين. واعلم يا أخي -وفقني الله وإياك لمرضاته، وجعلني الله وإياك ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته- اعلم بأن لحوم العلماء مسمومة، وأن عادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب ابتلاه الله قبل موته بموت القلب، فلتراجع العلماء الربانيين؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أن الأمة لا تخلو أبداً من العلماء الربانيين القائمين لله بحجة، والحديث في الصحيحين من حديث معاوية رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك). فلا ينبغي أبداً أن تقول: أين الربانيون من العلماء؟ فوق أي أرض؟ وتحت أي سماء؟ لابد أن ترى من يقوم لله تبارك وتعالى بحجة، من يبلغ عن الله وعن رسول الله بفهم الصحابة عليهم جميعاً رضوان الله.

مراعاة أدب الخلاف

مراعاة أدب الخلاف ثانياً: مراعاة أدب الخلاف. الخلاف له أدب وفقه، فلا ينبغي أن يسفه بعضنا بعضاً، وأن يذبح بعضنا بعضاً على شبكات الإنترنت عبر هذه المواقع الكثيرة الخطيرة، وإنما إن اختلفنا فليطرح الخلاف في بوتقة فقه الخلاف. يا أخي! اطرح أدلتك وأنا أطرح أدلتي، وليظلل أدلتي وأدلتك أدب الخلاف وفقه الخلاف. قال ابن تيمية رحمه الله: الاختلاف في مسائل الأحكام أكثر من أن ينضبط، ولو كان كلما اختلف مسلمان في شيء من مسائل الأحكام تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة. فخالفني وأنا أخالفك في عشرات المسائل وفي مئات المسائل ولا حرج ما دمت تطرح أدلة وأنا أطرح أدلة، لكن الخلاف الواقع بيني وبينك بسبب خلافنا في فهم الدليل، وقد وقع ذلك بين أصحاب النبي الجليل صلى الله عليه وسلم، اختلف الصحابة لاختلافهم في فهم الدليل أو بسبب عدم بلوغ الدليل، وهذا الاختلاف أمر وارد واقع، ولو فتشت في كتب الفقه في مجلداتها الضخمة لوجدت جل مسائلها -من مسائل الخلاف- من مسائل الأحكام، فلنراع فقه الخلاف وأدب الخلاف.

حق المستضعفين في أفغانستان وفلسطين

حق المستضعفين في أفغانستان وفلسطين كانت الأمة قبل الإسلام أمة متناحرة، مقطعة الأجزاء، فوحد صفها رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، وآخى بين أجناس الناس المختلفة، حتى صاروا كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. ثم عدنا من جديد إلى الوراء فتفرقت الأمة، وأصبحت فرقاً وأحزاباً، ولا حول ولا قوة إلا بالله! فعلينا واجب ديني عظيم، وهو واجب النصرة لهذا الدين بالنفس والمال بتحقيق الولاء والبراء، وتوحيد الصفوف ولم الشعث، لنستعيد مجدنا الأمثل، والله تعالى ينصر من نصره، ويخذل من تولى عن دينه الحنيف.

أمة الجسد الواحد

أمة الجسد الواحد إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة والأخوات، وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله الكريم جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة وإمام النبيين في جنته ودار مقامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أيها الأحبة! حقوق يجب أن تعرف، سلسلة منهجية تحدد الدواء من القرآن والسنة لهذا الداء العضال الذي استشرى في جسد الأمة، ألا وهو داء الانفصام النكد بين المنهج المنير، والواقع المؤلم المرير، فأنا لا أعرف زماناً قد انحرفت فيه الأمة عن كتاب ربها وسنة نبيها، وضيعت فيه حقوق الإسلام؛ كهذا الزمان، فأردت أن أُذَكِّرَ أمتي ونفسي من جديد بهذه الحقوق الكبيرة التي ضاعت عسى أن تسمع الأمة مرة أخرى عن الله ورسوله، وأن تردد مع السابقين الصادقين الأولين قولتهم الخالدة: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285]. ونحن اليوم بحول الله ومدده على موعد مع اللقاء السابع والعشرين من لقاءات هذه السلسلة الكريمة، وحديثنا اليوم عن حق جليل كبير ألا وهو: حق المستضعفين في أفغانستان وفلسطين، فأعيروني القلوب والأسماع جيداً، والله أسأل أن يرزقنا الصدق في القول والعمل، وأن يقر أعيننا بنصرة المستضعفين من المسلمين في كل بقاع الأرض، وأن يشفي صدور قوم مؤمنين بهزيمة ساحقة لأعداء رب العالمين وأعداء المسلمين، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وحتى لا ينسحب بساط الوقت سريعاً من تحت أقدامنا؛ لأن الحديث طويل بطول آلامه، مؤلم بكثرة دمائه، ممزق للقلوب الحية بكثرة الأشلاء المتبعثرة الممزقة، فأرجو أن أركز الحديث في العناصر المحددة التالية: أولاً: أمة الجسد الواحد. ثانياً: أمة غثاءٌُُ. ثالثاً: أين واجب النصرة؟ رابعاً: أيها المظلوم صبراً لا تهن. وأخيراً: مِنْ رَحِمِ الليل يولد ضوء الصباح. فأعيروني القلوب والأسماع جيداً، والله أسأل أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، وألاَّ يستخرج منا إلا ما يرضيه سبحانه إنه ولي ذلك ومولاه.

الأخوة الإسلامية

الأخوة الإسلامية أولاً: أمة الجسد الواحد: كان العرب أمة ممزقة قبل الإسلام لا وزن لهم ولا قيمة، لو تصفحت التاريخ وقرأت عن حروب العرب؛ لوقفت على قيمة هذا الدين العظيم الذي حَوَّلَهُمْ من غثاء وقبائل متناحرة، ومن أمم متمزقة متصارعة، إلى أمة واحدة؛ لذا امتن الله عز وجل عليهم بهذه النعمة العظيمة الكبيرة فقال سبحانه وتعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران:103]. كانوا متفرقين، وكانوا على شفا حفرة تُوْدِيْ بهم إلى نار الدنيا والآخرة، بشركهم بالله جل وعلا وتَصَارُعِهِمْ وتحاربهم، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فدعاهم إلى التوحيد، فاستنقذهم من شرك العصبية والوثنية إلى أنوار الأُلْفَةِ والتوحيد لرب البرية جل جلاله، فأذلوا كسرى، وأهانوا قيصر، وأقاموا للإسلام دولة من فتات متناثر، وسط صحراء تموج بالكفر موجاً، فإذا دولة الإسلام بناء شامخ لا يطاوله بناء، وذلك في فترة لا تساوي في حساب الزمن شيئاً على الإطلاق، يوم آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم، ووحدت العقيدة صفوفهم، وجمعتهم على لسان وقلب رجل واحد. فجاء المصطفى فآخى بين سلمان الفارسي وحمزة القرشي، وصهيب الرومي ومعاذ الأنصاري وبلال الحبشي، وعلى اختلاف ألوانهم وأوطانهم وأجناسهم انصهروا في بوتقة واحدة، جمعتهم آصرة العقيدة، جمعتهم الأخوة الإيمانية التي لا نظير لها في كل الشرائع الوضعية على وجه الأرض؛ لأنها أُخُوَّة تعلو على إخوة النسب والعِرْقِ واللون والوطن، إنها الأُخُوِّةُ في الله. استطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل من المؤمنين جميعاً دوحة واحدة متشابكة الأغصان، متلاصقة الأوراق، انصهروا في بوتقة المحبة في الله، فرأيت منهم العجب العجاب، ولو لم نكن على يقين بأن ما سنذكر بعضه الآن جاء عن الصادق الذي لا ينطق عن الهوى لقلنا إنه من نسج الخيال؛ لأنه لا يمكن بحال أن يقع في دنيا الناس، اللهم إلا إذا كان المربي لهؤلاء الناس هو المصطفى محمد.

نموذج فريد للأخوة الإيمانية

نموذج فريد للأخوة الإيمانية تدبر معي هذه النماذج ولن أطيل فيها، تدبر معي في هذا النموذج العظيم الأول: في الصحيحين من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: (آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبين سعد بن الربيع الأنصاري)، يوم أن هاجروا من مكة إلى المدينة اختار النبي سعد بن الربيع أخاً في الإسلام لـ عبد الرحمن بن عوف المهاجر من مكة، تدبر ماذا قال الأنصاري لأخيه، قال سعد بن الربيع: يا عبد الرحمن! إني أَكْثَرُ الأنصار مالاً، وسأقسم مالي بيني وبينك نصفين، ولي زوجتان فانظر أعجبهما إليك لأطلقها، حتى إذا انقضت عدتها تزوجتها). والله إن الحلق ليجف، وإن القلب ليرتعد فرحاً وخجلاً، وإن الكلمات كلها لتتوارى خجلاً وحياءً أمام هذه الأُخُوَّةِ. لولا أن الحديث في الصحيحين لظننت أنه من نسج الخيال أن يقول رجل عربي له شهامة، وعنده من الرجولة ما نعلم جميعاً، يقول لأخيه: (عندي امرأتان فانظر أعجبهما إليك؛ لأطلقها، حتى إذا انقضت عدتها تزوجتها)، فيرد عليه العفيف الشريف عبد الرحمن بن عوف ويقول: (بارك الله لك في أهلك ومالك، ولكن دلني على السوق، فدله على سوق بني قينقاع، فذهب فباع واشترى وربح. وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعليه أثر صُفْرَةٍ، فقال له النبي: (مَهْيَمْ؟ -يعني: ماذا صنعت يا عبد الرحمن؟ - قال: تزوجت امرأة من الأنصار يا رسول الله، قال النبي: وماذا سقت لها من مهر؟ فقال: سقت لها مقدار نواة من ذهب، فقال له المصطفى: أو لم ولو بشاة). وإن سألني سائل وقال: أين من يعطي الآن عطاء سعد بن الربيع؟ ف A وأين من يتعفف عفة عبد الرحمن بن عوف؟ فلقد وجد سعد يوم وجد عبد الرحمن، وضاع سعد يوم ضاع عبد الرحمن. جاء رجل فقير إلى أحد الأغنياء الأثرياء ليسأله الصدقة بإلحاح، فلما امتنع الغني قال له الفقير: أين الذين ينفقون لله سرّاً وعلانية؟ فقال له الغني: ذهبوا مع من لا يسألون الناس إلحافاً. إنه مجتمع فريد فيه سعد وفيه عبد الرحمن، فيه من يبذل وفيه من يتعفف، والمربي لـ سعد ولـ عبد الرحمن هو الإسلام، بقيادة المصطفى الذي رباه الله على عينه ليربي به الدنيا، بأبي هو وأمي ونفسي وروحي

موقف العزة من أمة الجسد الواحد

موقف العزة من أمة الجسد الواحد موقف من مواقف الأمة ذات الجسد الواحد، وانظر إلى هذا الموقف الذي يتألق عزة، واسمحوا لي أن أكرره، فإن المسلم الآن يتطلع إلى موقف من عزة ولو في الماضي؛ ليضمد به الجراح، إنه موقف ربعي، ذكرت الموقف كثيراً لكننا في أَمَسِّ الحاجة إلى ذكره الآن؛ لنقف على أمة الجسد الواحد، وبما كانت تمتلكه من عزة ومكانة وكرامة. ربعي بن عامر جندي متواضع في الجيش المسلم، يرسل به قائد القادسية سعد بن أبي وقاص إلى قائد الجيوش الكسروية الجرارة رستم، ويدخل ربعي بثيابه المتواضعة، ويقف بين يدي رستم دون وقوف مع جزئيات الموقف والحدث، ليقول له رستم: من أنتم؟ فيقول ربعي الذي عرف الغاية، وفهم الوظيفة التي من أجلها ابتعث: نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جَوْرِ الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، فمن قبل منا قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن حال بيننا وبين دعوة الناس لدين الله قاتلناه حتى نفضي إلى موعود الله. قال رستم: وما موعود الله؟ قال ربعي: الجنة لمن مات منا، والنصر لمن بقي من إخواننا. قال رستم: سمعت مقالتك، فهل لكم أن تؤجلونا لننظر في أمرنا، ولتنظروا في أمركم؟ قال ربعي: لقد أمرنا نبينا صلى الله عليه وسلم ألاَّ نؤخر الأعداء عند اللقاء أكثر من ثلاث ليال فانظر في أمرك وأمرهم، واختر لنفسك ولهم واحدة من ثلاث. يا لها من عزة وكرامة!. قال رستم: ما هي؟ قال ربعي: الأولى: الإسلام ونرجع عنك -هذه هي الغاية أن تسلموا لله جل وعلا. قال رستم: وما الثانية؟ قال: الجزية، وإن احتجت إلى نصرتنا نصرناك. الجزية التي ما زالت الأمة تدفع فاتورتها الآن كاملة غير منقوصة، ومن أغرب ما قرأت في اليومين الماضيين أن تقريراً أمنيّاً وضعه التقرير الأمريكي عرض على (بوش)، هذا التقرير الأمني يطالب العرب والمسلمين بتسديد نفقات الحرب الأمريكية على أفغانستان، هل تعلمون تكلفة اليوم الواحد؟ تتكلف أمريكا في حربها في أفغانستان في اليوم الواحد ما يزيد على مائة مليون دولار، وليدفع العرب وليحيا العرب، وليبارك الله في بترول العرب، وفي أموال العرب، فليدفع العرب أذلاء، ينفق في اليوم مائة مليون دولار، فالصاروخ تزيد قيمته على مليوني دولار، والقنبلة الانشطارية التي تسقط الآن على أرض أفغانستان تزيد تكلفتها على نصف مليون دولار، ويطالب التقرير الأمني (بوش) أن يكلف العرب بتسديد هذه الفاتورة، بدعوى أنها حرب ضد الإرهاب، والعالم العربي كله بحاجة إلى القضاء على الإرهاب، حسبنا الله ونعم الوكيل!! كل الكلمات ورب الكعبة أراها تنسحب من بين يدي، بأي لغة أعلق؟! وبأي كلام أدلل على مثل هذا الكلام الخطير؟! فالجزية اليوم تدفعها الأمة، وربعي يقول لـ رستم: الجزية، وإن احتجت إلى نصرتنا نصرناك. قال رستم: وما الثالثة؟ قال ربعي: القتال، ولن نبدأك بقتال فيما بين اليوم وبين اليوم الثالث إلا إن بدأتنا أنت. فقال له رستم: عرفتك، أسيدهم أنت؟ أي: هل أنت القائد؟ قال: لا، ولكن المسلمين كالجسد الواحد، يسعى بذمتهم أدناهم على أعلاهم. هذه أمة الجسد الواحد التي حققت قول المربي والمعلم صلى الله عليه وسلم الذي في الصحيحين من حديث النعمان: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى). هذه أمة الجسد الواحد التي حققت قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وشبك النبي صلى الله عليه وسلم بين أصابعه). هذه أمة الجسد الواحد التي استحقت أن تُخَاطَبَ من الله جل وعلا بقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]. استحقت هذه الأمة أن تُخَاطَبَ من الله جل وعلا بقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143]. استحقت هذه الأمة أن تُخَاطَبَ من الله بقوله: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92]، ولو كان المراد بالآية هم الأنبياء، فالخطاب لأمة سيد الأنبياء، وإمام الأصفياء محمد صلى الله عليه وسلم. ظلت هذه الأمة عزيزة تَرْفُلُ في ثوب العز والكرامة حتى جيء بتاج كسرى ليوضع في حجر عمر بن الخطاب وهو في مدينة رسول الله، نعم يؤتى بتاج كسرى ليوضع بين يدي الفاروق! وقيصر تفتَّتَتْ إمبراطوريته، وكسرى يمزق ملكه، وتنتشر وتعلو راية الإسلام على ثلثي الكرة الأرضية في فترة لا تساوي في حساب الزمن شيئاً على الإطلاق، ارتفعت راية الإسلام في قلب الصين في قلب فرنسا في إيطاليا في أقصى الحدود المغربية، ارتفعت راية التوحيد في قلب أوروبا على أيدي هؤلاء الأبطال الفاتحين الذين عرفوا الغاية التي من أجلها خلقوا، والوظيفة التي من أجلها ابتعثوا. ثم راحت الأمة تتخلى شيئاً فشيئاً عن ثوب عزها بانحرافها عن أصل عزها، عن قرآن ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم، راحت الأمة تبتعد يوماً بعد يوم، حتى وقع ما لم يكن يخطر أَلبَتَّةَ لأحد على بال، حين تركت الأمة شريعة الكبير المُتعَاَلِ، وحكمت الأمة قوانين أخبث الرجال في السياسة في الاقتصاد في الإعلام في التعليم في كل مناحي الحياة. ابحث عن شريعة الله وشريعة رسول الله في الأمة لقد ضاعت! بل رأينا من أبناء الأمة من يعلنها صريحة بلا خجل أو وجل: إن الشريعة الإسلامية لم تعد صالحة لمدنية القرن العشرين والقرن الحادي والعشرين، بل يجب على الأمة إن أرادت التقدم والانطلاق أن تحاكي الغرب، وأن تُحَكِّمَ قوانينه ولو اصطدمت مع شريعة الله ورسوله! فاستبدلت الأمة بالعبير بعراً، وبالثريا ثرى، وبالرحيق المختوم حريقاً، وظنت الأمة أنها قد ركبت قوارب النجاة فغرقت وأغرقت وهلكت، وضلت وأضلت، وصارت الأمة الآن ذليلة لأذل أهل الأرض؛ لمن كتب الله عليهم الذُّلَّ والذِّلَّةَ من إخوان القردة والخنازير، وللصليبيين الحاقدين، وَلعِبُادِ البقر، حتى للملحدين في روسيا. وهذا هو عنصرنا الثاني: أمة غثاء:

أمة غثاء

أمة غثاء قال النبي الصادق الذي لا ينطق عن الهوى كما في مسند أحمد وسنن أبي داود بسند صحيح من حديث ثوبان أن النبي صلى عليه وسلم قال: (يوشك)، ولفظة يوشك للقريب، توحي بالقرب (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأَكَلَةُ إلى قصعتها). لقد صرح بوش أنه سيعلن الحرب ضد الإرهاب، وضمت القائمة ستين دولة، وهذا هو عدد الدول العربية والإسلامية على وجه الأرض، (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أومن قلة نحن يومئذٍ يا رسول الله؟! قال: لا. أنتم يومئذ كثير، ولكن غثاء كغثاء السيل) انظر إلى هذا الزِّبَدِ الذي يقذف به السيل لا وزن له ولا قيمة، يؤرجحه التَّيَّارُ حيثما شاء وأراد، (ولكنكم غثاء كغثاء السيل، وليوشكن الله أن ينزع المهابة من قلوب عدوكم، ويقذف في قلوبكم الوهن، قيل: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت) صدق المصطفى الذي لا ينطق عن الهوى، صارت الأمة غثاءً من النفايات البشرية، تعيش على ضفاف مجرى الحياة الإنسانية كدول، أستغفُر الله، بل كدويلات متناثرة متصارعة متحاربة، تفصل بينها حدود جغرافية مصطنعة، ونعرات قومية جاهلية مقيتة، وترفرف على سمائها رايات القومية والعروبة والوطنية، وتحكم الأمة قوانين الغرب العلمانية، وتدور بالأمة الدوامات السياسية، فلا تملك الأمة نفسها عن الدوران، بل ولا تختار لنفسها حتى المكان الذي تحب أن تدور فيه. ذلت بعد عزة، وجهلت بعد علم، وضعفت بعد قوة، وأصبحت في ذيل القافلة البشرية بعدما كانت بالأمس القريب تقود القافلة كلها بجدارة واقتدار، وأصبحت تتسول على موائد الفكر البشري بعد أن كانت بالأمس القريب منارة تهدي الحيارى والتائهين ممن أحرقهم لَفْحُ الهاجرة القاتل، وأرهقهم طول المشي في التيه والظلام. بل وأصبحت الأمة تتأرجح في سيرها، وضلت طريقها بعد أن كانت الأمة بالأمس القريب الدليل الحاذق الأرب في الدروب المتشابكة، بل في الصحراء المهلكة التي لا يهتدي للسير فيها إلا الأَجِلِّاءُ المجربون. أهذه أمة دستورها القرآن وقائدها محمد عليه الصلاة والسلام؟!! أهذه هي الأمة التي خوطبت من الله سبحانه بقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران:110]؟!! أهذه هي الأمة التي خوطبت من الله بقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143]؟!! أهذه هي الأمة التي خوطبت من الله بقوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103]؟!! إن خيرية الأمة ليست عصبية ولا عنصرية ولكنها خيرية هداية وإيمان، والتزام بشرع الله، كما ذكر سبب خيريتها فقال سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]، فبات في الأمة الآن من يشرك بالله، انظر إلى الملايين المملينة في الأمة التي لا تعرف شيئاً عن شرع ربها: ضيعت الصلاة، ضيعت الزكاة، ضيعت الحج مع القدرة، تسأل غير الله، تستغيث بغير الله، تستعين بغير الله، تثق بأمريكا وببعض دول الأرض أكثر من ثقتها بالله، إلى آخر هذا الوباء والبلاء، بات في الأمة الآن من يشرك بالله، وبات في الأمة الآن من يأمر بالمنكر، وينهى عن المعروف!

المسلمون في فلسطين

المسلمون في فلسطين أنا لا أغالي ولا أريد أن ألهب العواطف بكلمات فارغة، وإنما أتحدث عن واقع يعلمه كل مسلم، وتعلمه كل مسلمة، هذا واقع الأمة، ابتعدت الأمة عن ربها فذلت، ابتعدت الأمة عن رسول الله فهانت، تعرت الأمة من ثوب الإسلام فانكشفت كل سوءاتها وعوراتها، فطمع فيها اليهود أنجس أهل الأرض وهم يفعلون بها الآن في فلسطين ما يندى له جبين التاريخ، بل ما يحترق له قلب كل مسلم غيور. يصرح زعيم السلطة ويقول: إنه يثق في شارون، وإن شارون صديق حميم حريص على السلام. قمة الذل، قمة الاستجداء، شارون السفاح المسرف، الذي لُطِّخَتْ يداه بدماء المسلمين المستضعفين في فلسطين يوم أن كان ضابطاً صغيراً في الجيش اليهودي، وإلى هذه اللحظة لا يزال حريصاً على السلام!! وصديق حميم!! تُهَدَّمُ البيوت، وتسفك الدماء، وتمزق الأشلاء، وينتهك عرض الإسلام وعرض المقدسات، والأمة تسمع وترى، والمسلمة في فلسطين تقول: واإسلاماه، وامعتصماه، لكن أين المعتصم؟ ما ثَمَّ معتصم يغيث، أين زعماء العرب؟! أين حكام المسلمين؟! أين الجيوش المسلمة لتنقذ هذه المسلمة التي تنادي باسم المعتصم؟! ما ثم معتصم يغيث من استغاث به وصاح ذبحوا الصبي وأمه وفتاتها ذات الوشاح وعدوا على الأعراض في انتشاء وانشراح يا ألف مليون وأين همو إذا دعت الجراح؟ ما ثم معتصم يغيث من استغاث به وصاح آه يا مسلمون متنا قروناً والمحاق الأعمى يليه محاق أي شيء في عالم الغاب نحن آدميون أم نعاج نساق نحن لحم للوحش والطير منا الجثث الحمر والدم الدفاق وعلى المحصنات تبكي البواكي يا لعرض الإسلام كيف يراق قد هوينا لما هوت وأعدوا وأعدوا من الردى ترياق واقتلعنا الإيمان فاسودت الدنيا علينا واسودت الأعماق وإذا الجذر مات في باطن الأرض تموت الأغصان والأوراق تنادي على المسلمين في بقاع الأرض مسلمة في فلسطين، ومسلمة في أفغانستان، ومسلمة في الشيشان، ومسلمة في كشمير، ومسلمة في طاجكستان، ومسلمة في الفلبين، ومسلمة في الصومال، ومسلمة في العراق، ومسلمة في السودان، ومسلمة في الجزائر، وتقول: أنا لا أريد طعامكم وشرابكم فدمي هنا يا مسلمون يراق عرضي يدنس أين شيمتكم؟ أما فيكم أبي قلبه خفاق؟ أختاه أمتنا التي تدعينها صارت على درب الخضوع تساق أودت بها قومية مشئومة يرتادها نحو الضياع رفاق إن كنت تنتظرينها فسينتهي نفق وتأتي بعده أنفاق مدي إلى الرحمن كف تضرع فلسوف يرفع شأنك الخلاق إنه الذل، إنه الهوان، وددت أن لو أسمعت زعماء العرب وحكام المسلمين مثل هذا، فأنا أعلم أنكم لا تملكون من الأمر شيئاً إلا النزر اليسير، وددت أن لو أسمعت الأمة كلها مثل هذه الكلمات التي تذيب الصخور والحجارة، ولكن القلوب صارت أقسى من الصخور، وأشد من الحجارة.

واجب النصرة

واجب النصرة أين واجب هؤلاء؟ هذا هو عنصرنا الثالث: واجب النصرة: النصرة بالنفس لمن استطاع، والنصرة بالمال لمن لم يقدر على نصرة هؤلاء المستضعفين بنفسه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الصف:10 - 11]. النصرة بالكلمة، فالسياسة الآن تديرها الكلمة، تديرها وسائل الإعلام اليهودية التي تتحكم في الإدارة الأمريكية، بل وفي الإدارة الأوروبية. هذه الجريدة الوقحة تعلن الحرب الآن على مصر ورئيسها، وعلى السعودية وملكها، هذه الجريدة التي تسمى واشنطن يوست، ارجعوا إليها لتعرفوا مجلس إدارتها، لتعرفوا محرريها، لتعرفوا من ينفق عليها، فالجريدة كلها يهودية صرفة، رئيس مجلس الإدارة يهودي، مجلس الإدارة يهودي، المحررون يهود، فالشركة كلها مملوكة لأسرة يهودية. حتى لا نستكثر على هذه الجريدة وغيرها من وسائل الإعلام الأمريكية والغربية هذه الحرب القذرة التي تشن الآن على مصر والسعودية؛ لأنهم يعلمون يقيناً وزن مصر، ومكانة مصر، ولا يريدون أبداً لمصر أن تتدخل لا من قريب ولا من بعيد في مثل هذه الفتنة الطاحنة. ولكن سنؤكل ورب الكعبة جميعاً يوم أكل الثور الأبيض، فالنصرة بالنفس، وبالمال، وبالكلمة، وبتحقيق الولاء والبراء، وبإقامة الفرقان الإسلامي للخروج من حالة الغبش التي تحياها الأمة، وبإعداد بيتك إعداداً يليق بخطورة المرحلة المقبلة والتي لابد منها، ثم الدعاء، وأنا أعي قدر كلمة الدعاء. ولا أستهين بهذا السهم الذي إن خرج من قوس مشدودة، وصادف القوس ساعداً قويًّة، لو أصاب السهم الهدف بإذن الرب العلي، فنحن نريد الآن قلوباً تحترق، ودعوات صادقة تخرج من هذه القلوب إلى عَنَانِ السماء، ونحن مظلومون؛ ليرفعها من حَرَّمَ الظلم على نفسه فوق الغمام، وليقول لها: (وعزتي وجلالي لأنصرنكِ ولو بعد حين). فوالله وإن تخلى العالم الغربي والعالم الإسلامي عن أولئك المستضعفين في فلسطين وأفغانستان وفي كل مكان؛ فإن رب العزة جل جلاله لا يمكن أبداً أن يتخلى عنهم، كيف وربك حكم عدل؟ {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46]، وكيف وربك قد حرم الظلم على نفسه، فقال: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا)، وهذا هو عنصرنا الرابع من عناصر اللقاء.

أيها المظلوم صبرا لا تهن

أيها المظلوم صبراً لا تهن أيها المظلوم صبراً لا تهن، إن عين الله لا تنام، {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255]، ولكن الله قد أودع الكون سنناً ربانية ثابتة لا تتبدل ولا تتغير، ولا تحابي تلك السنن أحداً من الخلق مهما ادعى لنفسه من مقومات المحاباة، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]، وقال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ} [البقرة:251]، وقال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40].

نصرة الله لأبطال الانتفاضة

نصرة الله لأبطال الانتفاضة أنا أقسم بالله! إن ما نراه الآن على أرض فلسطين وعلى أرض أفغانستان لهو النُّصْرَةُ الحقيقية لأولئك المستضعفين من رب العالمين، فلسطين الانتفاضة مضى عليها عام أو يزيد، اسأل الآن أي يهودي على أرض فلسطين: هل يشعر بالأمن؟ هل يشعر بالاستقرار؟ سل جنرالات اليهود الكبار. يصرح أحد جنرالاتهم ويقول: صرت أخشى كل شيء في الشارع، صرت أخشى صندوق القمامة، صرت أخشى الدراجة التي تمر إلى جواري أن تنفجر في وجهي في أي لحظة، {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} [آل عمران:140]. ثم انظر إلى سلاح أولئك، وإلى ترسانة هؤلاء، انظر إلى سلاح اليهود، وسلاح المستضعفين الفلسطينيين، لا وجه للمقارنة، صار الحجر في أيدي الطفل المسلم يتلألأ ويتوهج كأنه قنبلة! أذكر ورب الكعبة كلما رأت عيني هذا المشهد الرقراق مشهد طفل يجري وراء جندي يهودي يجري أمامه وهو مدجج بالسلاح، يجري وراءه بالحجر، أتذكر قول ربي لنبيه: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17]. لماذا يجري اليهودي؟ لأنه جبان! ويقدم الطفل الفلسطيني الذي عَلَّمَ الدنيا كلها أن محمداً ما مات، وما خلف محمد بنات، بل خلف أطفالاً ورجالاً أبطالاً علموا الأمة كلها كيف يكون الذود عن الكرامة والعرض والمقدسات، علموا الحكام والزعماء حقيقة الشرف والبطولة وعظمة الفداء! إنه النصر، {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ} [الحج:40]، أقسم برب الكعبة إنه النصر. مضى عام والأطفال الأبطال ما لانت لهم شكيمة، فما سلَّموا، ولا استسلموا، بل يركض الآخرون بِذُلًّ وعار للاستسلام ولتوقيع الذل والمهانة، لكن هؤلاء يأبون الذل، ويأبون التسليم، ويأبون إلا الكرامة، ويقفون في الصف، ويتصدون لهذه الترسانة الرهيبة اليهودية -أو إن شئت فقل: لهذه الترسانة الأمريكية- بكل عز وكرامة. إنه النصر، صار كل وزير يهودي يخشى على نفسه، فتشوا في بيته، فتشوا في حديقته، يخشى من أي شيء، ماذا تريدون بعد ذلك؟

نصرة الله للمجاهدين والأفغان

نصرة الله للمجاهدين والأفغان وإذا انتقلت إلى أفغانستان أقول بِمِلْءِ فمي: في الأسبوع الرابع على التوالي للحملة الأمريكية على أفغانستان يصرح البنتاجون بأن الحملة قد حققت (10%) من أهدافها، وأنا أقول: لم تحقق الحملة ولا واحداً في المائة من أهدافها، وما زال كل من يبحثون عنهم موجودين بفضل الله، وما زال الأُسوْدُ في كهوفهم ينتظرون الجيش الأمريكي الذي لا يجيد إلا الرمي من فوق والهرب، ينتظرون الجيش لينزل على الأرض كما صرح الملا محمد عمر ويقول: نتشوق إلى لقاء الجيش الأمريكي على الأرض؛ لنلقنهم درساً أقسى من الدرس الذي لقناه للروس بإذن الله. ما سقط على أفغانستان من صواريخ وقنابل كان كفيلاً -لو أن الأمور تسير وفق القوانين المادية كما يحدث العلمانيون- بمحو أفغانستان من على خريطة العالم ووجه الأرض، لكن أفغانستان ما زالت قائمة، ولكن الأبطال ما زالوا قائمين ينتظرون. بل وقد أصيبت المعنويات الأمريكية في الداخل والخارج بنكسة شديدة، وبدأت بعض الأصوات في قلب أمريكا تنادي وتقول: ما الذي حققته الحملة العسكرية على أفغانستان؟! إلى هذه اللحظة لم تحقق أي شيء، وقرأت في اليومين الماضيين تقريراً خطيراً رفع إلى الرئيس الأمريكي يقول: إن التكلفة اليومية للحرب على أفغانستان تزيد على مائة مليون دولار، ويقول التقرير: ولا تستطع أمريكا أن تستمر هكذا أكثر من ستة أشهر وإلا ستسقط أمريكا اقتصادياً! تقرير أمني في منتهى الخطورة؛ ولذلك هم يريدون أن يحملوا العرب الفاتورة كما ذكرت. هزيمة اقتصادية بالفعل، سياسية يقيناً، عسكرية حتماً، سقطت هيبة القوة العظمى سياسياً، عسكرياً، اقتصادياً، لكن قد يسأل رجل ويقول: فلماذا لم تنته بالكلية؟ أقول: حتى لا نحاسب الأمم، وحتى لا نحكم على أعمار الأمم بحكمنا على أعمار الأفراد أقول: لو أصيب شيخ بفيروس، وأصيب شاب قوي بنفس الفيروس، فإن تحمل الشيخ لا يمكن بحال أن يكون كتحمل الشاب، وأمريكا في مرحلة الشباب، وفي مرحلة الفتوة، فهي قوية بلا شك، فلا أريد أن أنقض كلامي لأدفن رأسي في الرمل كالنعام، فعندهم قوة عسكرية رهيبة، وقوة اقتصادية، وقوة سياسية تسوق العالم كله بعصاً غليظة، لكن الفيروس قد أصابها في مقتل، والله تبارك وتعالى يقول: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} [البروج:12]، لكنها سنن. فلو تخلى أهل الأرض عن أولئك المستضعفين فإن الله معهم، ويا لها من معية كريمة عرف إخواننا هنالك قدرها ورب الكعبة، لقد رأيت إعلامياً يحاور رجلاً بسيطاً من أولئك الطالبانيين ويقول له: لقد جيشت أمريكا الجيوش، فماذا أعددتم؟ بأي شيء استعددتم لصد هذه الترسانة الرهيبة؟ فابتسم الأخ ابتسامة لطيفة جميلة وقال له: معنا الله! يا لها من معية جهلت الأمة قدرها وجلالها! نعم معهم من يدبر أمر الكون، تطلق أمريكا الصواريخ للتجسس، فتأتي جل الصور التي التقطتها أحدث وسائل التقنية مشوهة مشوشة! قرأت بنفسي لطيار أمريكي يقول: أصعد بطائرتي وقد حملت بالأسلحة، وأصعد بالهدف الذي أخذت، فحينما أصل إلى مكان الهدف لا أرى شيئاً! قد يكون ذلك فعل ربي وما ذلك عليه بعزيز. ثم بعد ذلك علمت أن إخواننا يضعون أهدافاً وهمية على الأرض؛ ليضربها الأمريكان، يضعون قاعدة كرتونية للدبابات، قاعدة للطيران، قاعدة للمدافع، وهي مصنعة من الكرتون، ويصعد هذا الطيار ويسقط عليها حمولة تزيد قيمتها على خمسة ملايين دولار؛ ليحرقوا مجموعة من الكرتون لا تصل قيمتها إلى دولار، وصدق العزيز الغفار: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36]. لا أريد أن أطيل أكثر من ذلك؛ فلقد مضى الوقت سريعاً، أسأل الله جل وعلا أن يقر أعيننا بنصرة هؤلاء المستضعفين في فلسطين وفي أفغانستان وفي الشيشان وفي كل مكان. وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

من رحم الليل ينبثق نور الصبح

من رحم الليل ينبثق نور الصبح الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فأخيراً أيها الأحبة، ومن رحم الليل يولد نور الصبح، لابد أن يشرق ضوء الفجر، وإن أشد ساعات الليل سواداً هي الساعة التي يأتي بعدها ضوء الفجر مباشرة، ولقد اشتد الظلام واستحكمت حلقاته، اشتد الظلم واشتد الكرب، وكلما اشتد الظلام استبشرنا بنور الصبح وبإشراقة الفجر بموعود الله جل جلاله. تدبر معي هذا الخبر، وفكر فيه جيداً، فلقد ذكرت في أول هذه الأزمة أنني ألمح فيها خيراً كبيراً، وهأنذا أؤكد لحضراتكم الآن ما ذكرت، فحينما ذكرت ذلك لم أذكره من باب الأحلام الوردية، ولا من باب السياسة الجاهلة القاصرة، ولا حتى من باب التنبؤ بالغيب، ولكن من خلال فهمي لقرآن الله وسنة الحبيب رسول الله؛ قلت: {لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور:11]، خذ الخبر: رفع تقرير في غاية الخطورة للبيت الأبيض يقول: بأنه من تاريخ (11 سبتمبر) وهو يوم الأحداث إلى تاريخ (12 أكتوبر) أسلم في أمريكا ثلاثة آلاف من الأمريكان! هل تصدق مثل هذا الرقم في شهر؟! ألم أقل: {لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور:11]؟ قد ينظر بعضنا إلى الأمور نظرة ضيقة؛ فيقع في الإحباط واليأس، لكن لو نظرت إلى الحدث نظرة شمولية واسعة من خلال فهمك لآيات الله والسنن الربانية التي أودعها الله كونه، للمحت من وراء كل حدث خيراً عظيماً، وإن غاب عنك فإن الحكمة ما غابت عن الحكيم الخبير. لو تجمعت الأمة بكل ما تملك من طاقة إعلامية ودعوية لتبلغ الإسلام في الأرض كما شاء الله وقدر في مثل هذا الحدث ما استطاعت، زعماء الغرب: بوش، رئيس وزراء إيطاليا، حتى بوتن في روسيا؛ الكل تحدث عن الإسلام، وعن سماحة الإسلام، وعن أخلاق الإسلام، فسمع الكثيرون من الغربيين ولأول مرة كلمة الإسلام، وشيئاً من الصورة الحقيقية للإسلام، فدخل هذا العدد الضخم بكل المقاييس الإسلام في شهر واحد، لماذا؟ لأن الجهات الأمنية في أمريكا أمرت الجهات والمراكز الإسلامية والمساجد أن تتحرك؛ لتظهر الصورة المشرقة الحقيقية للإسلام، فتحركت كل الجمعيات التي قيدها اليهود قبل ذلك؛ تحركت بأمر من الجهات الأمنية أو إن شئت فقل: بتقدير من خالق البشرية جل جلاله، فكانت النتيجة أن يسلم ما يزيد على ثلاثة آلاف رجل وامرأة من الأمريكان أنفسهم.

حق الموالاة والمعاداة

حق الموالاة والمعاداة الحب في الله والبغض في الله من أوثق عرى الإيمان، وقد دلت نصوص الكتاب والسنة وأفعال سلف الأمة النيرة المشرقة على وجوب تحقيق مبدأ الولاء والبراء كما أمر الله تعالى، ولن يتحقق الولاء والبراء إلا إذا تحقق الإيمان في قلوب الناس، وتحققت الأخوة الإيمانية بين المسلمين، ونُبِذَ الخلاف، واستقام الناس على الحق. وها هي تباشير الفجر قد لاحت في الأفق، مبشرة بنور العز والتمكين لهذه الأمة، المترتب على صدق الأخوة، ووحدة الصفوف.

الموالاة والمعاداة لغة وشرعا

الموالاة والمعاداة لغة وشرعاً بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة الأخيار! وأيتها الأخوات الفاضلات! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم -جميعاً- من الجنة منزلاً، وأسأل الله جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت المبارك على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة في جنته ودار مقامته، إنه ولي ذلك ومولاه. أحبتي في الله! حقوق يجب أن تعرف: سلسلة منهجية كريمة، تحدد الدواء من القرآن والسنة، لهذا الداء العضال الذي استشرى في جسد الأمة، ألا وهو داء الانفصام النكد بين المنهج المنير والواقع المرير، فأنا لا أعرف زماناً قد انحرفت فيه الأمة عن منهج ربها ونبيها صلى الله عليه وسلم في حقوق الدين كهذا الزمن! فأردت أن أذكر نفسي وأمتي بهذه الحقوق الكبيرة التي ضاعت، عسى أن تسمع الأمة مرة أخرى عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن تردد مع السابقين الصادقين الأولين قولتهم الخالدة، {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِير} [البقرة:285]، ونحن اليوم بحول الله ومدده على موعد مع اللقاء الثامن والعشرين من لقاءات هذه السلسلة الكريمة، مع حق جليل عظيم كبير، ألا وهو حق الموالاة والمعاداة، فأعيروني القلوب والأسماع، وسوف ينتظم حديثي مع حضراتكم في هذا الموضوع الكبير الجليل في العناصر التالية: أولاً: تفصيل لغوي وشرعي مهم. ثانياً: أدلة القرآن والسنة. ثالثاً: صور مشرقة في دنيا الواقع. رابعاً: لا تيأسوا، فمن سواد الليل ينبثق نور الفجر. أيها الأفاضل! أكرر القول بأن الداعية الأمين -أسأل الله أن نكون أهلاً لهذه الأمانة - هو الذي لا يكون بأطروحاته في جانب، في الوقت الذي يترك فيه أمته بجراحاتها وأزماتها ومشكلاتها في جانب آخر، ولكنه يشخص الداء؛ ليستل جرثومته بيد بيضاء نقية، ليحدد لهذا الداء الدواء من كتاب رب البرية، وكلام سيد البشرية صلى الله عليه وسلم، ولا يغيب على أحد أن الأمة الآن تعيش واقعاً مريراً، وتزداد المأساة حينما ترى كثيراً ممن ينتسبون إلى الإسلام لا يعرفون شيئاً ألبتة عن هذا الأصل العقدي الكبير، عن الموالاة لله ولرسوله وللمؤمنين، والمعاداة والبغض للشرك والمشركين والكفر والكافرين، مع أن هذا الأصل لا يصح لمسلم على وجه الأرض دين إلا به، وذلك يوقفك على حجم المؤامرة الخطيرة التي أعلنت على عقيدة التوحيد! فلقد حاول أعداؤنا بكل سبيل أن يفرغوا العقيدة من مضمونها الحي، ومحتواها الحقيقي؛ لتصير العقيدة مجرد قشرة هشة خاوية، لا تستطيع الثبوت أمام هذه الفتن الهوجاء والأعاصير المدمرة، فصار المسلم -إلا من رحم ربك- يردد بلسانه كلمة التوحيد، وهو لا يعرف لها معنى، ولا يقف لها على مقتضٍ، ولا يحقق لها في دنيا الواقع مضموناً بين الناس. كانت العقيدة بالأمس القريب إذا مس جنابها سمعت الصديق يتوعد، والفاروق عمر يزمجر، وخالد بن الوليد يهدد، ورأيت الصحابة الصادقين يبذلون من أجل حمايتها الغالي والنفيس، أما اليوم فإن العقيدة في الأمة تذبح شر ذبحة. وأنا أدين لربي جل وعلا بأن الخطوة العملية الأولى على طريق النصر والعزة والكرامة، هي: أن تصحح الأمة عقيدتها، وأن تجدد الأمة إيمانها وتوحيدها لربها جل جلاله، فإن الإسلام عقيدة وينبثق من هذه العقيدة شريعة، وتنظم هذه الشريعة كل شئون الحياة، ولا يقبل الله من قوم شريعتهم إلا إذا صحت عقيدتهم، ويؤلمني أن أذكركم بما قاله قديماً اللورد كرومر في مصر أثناء الاحتلال الإنجليزي لهذه الديار المباركة، يقول في كلمات صريحة: لابد من المحافظة على المظاهر الزائفة للإسلام، حتى يظل المسلمون في اطمئناً خادع إلى أن إسلامهم ما زال بخير، فلا يهبون لنجدة عقيدتهم التي نقتلعها من جذورها. وهذا كلام واضح، فالعقيدة هي الأصل، فإذا غيب هذا الأصل العقدي الكبير ضاعت الموالاة لله ولرسوله وللمؤمنين، وضاعت المعاداة للشرك والمشركين. فما هي الموالاة؟ وما هي المعاداة؟ وهذا هو العنصر الأول: تأصيل لغوي وشرعي مهم. الموالاة: لغة: كلمة مشتقة من الولاء، والولاء هو: الدنو والقرب والنصرة والمودة والمحبة، فالموالاة ضد المعاداة، فالولي ضد العدو، والعدو ضد الولي، فإذا كان النصر والود والقرب والحب لله ولرسوله وللمؤمنين، فهذه هي الموالاة الواجبة شرعاًً على كل مسلم ومسلمة، أما إن كان الود، والنصر، والقرب، والمحبة، للشرك والمشركين، والكفر والكافرين، والغرب والغربيين، فهذه هي الموالاة المحرمة شرعاً بإجماع الأمة بتضافر الأدلة من القرآن والسنة، وإجماع علماء الأمة، وهذه موالاة ردة وكفر بالله ورسوله.

أقسام الناس بالنسبة للدين

أقسام الناس بالنسبة للدين الناس ينقسمون الآن إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: قسم ناصر لله ولرسوله ولدينه -اللهم اجعلنا منهم بمنك وكرمك- قسم يعيش لربه، هو يأكل ويشرب ويستمتع بالحلال، لكنه يحمل هم الآخرة، يعيش من أجل الدين، الدعوة إلى الله هي همه في الليل والنهار، هي شغله في النوم واليقظة، هي فكره في السر والعلن يخطط لها ويفكر يحمل هم دينه ودعوته ينصر دين الله بكل ما يسره الله له من سبيل، فهو في وظيفته يدعو لدين الله، وهو في الشارع يدعو لدين الله، وهو في مصنعه وعيادته ومدرسته يجدد في الأرض بين الناس دين الله، وهو في بيته يذكر أسرته وأولاده ونساءه وبناته بدين الله، رجل ينصر دين الله ويعيش لله، ومن أجل الله تبارك وتعالى، هؤلاء هم القلة المباركة عند الله قال تعالى: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:40]، وقال تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13]، وقال تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص:24]، هؤلاء هم أولياء الله، هم أهل الجنة، وهم أهل الغربة الذين زكاهم نبيهم صلى الله عليه وسلم بقوله كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: (بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء). القسم الثاني: القسم المقابل، هو القسم الذي كفر بالله، وجحد ربه تبارك وتعالى، لا يعرف ربه، ولا يعرف نبيه، بل يعيش كالأنعام -معذرة! - بل إن الأنعام عند الله أفضل من هؤلاء بنص القرآن، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} [محمد:12]، هؤلاء بتقدير الحكيم العليم الخبير: هم الكثرة، وهذا أمر ثابت قدراً، ودل على وقوعه الشرع أيضاً، قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106]، وقال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116]، وقال تعالى: {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} [الإسراء:89]. القسم الثالث: صنف بين هذين الصنفين، صنف يعيش من أجل شهواته الرخيصة، ونزواته الحقيرة، فهو منتسب إلى الإسلام ببطاقة شخصية رسمية: أحمد محمد عبد الله عبد الرحمن إلخ، لكنه لم يحقق انتماءه لهذا الدين، يعيش من أجل شهواته الرخيصة، ونزواته الحقيرة، لا ينصر ديناً، وهو في الوقت ذاته لا ينصر شركاً ولا كفراً، لكنه سلبي، يقول: وما دوري أنا؟! وماذا أصنع أنا؟! دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله! بل ومن هذا الصنف المريض من يقول: دع ما لله لـ بوش. لقد أسمعت لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تنادي ولو ناراً نفخت بها أضاءت ولكن أنت تنفخ في رمادِ عش عصرك، انشغل بأولادك ووظيفتك، ودعك من الدين وانفض يديك من نصرة الإسلام! صنف خاذل لدين الله، وإن كان في ذات الوقت لا ينصر كفراً ولا أعداء الله، لكنه سلبي، وهذا الصنف على خطر عظيم، ويخشى على أفراده أن يختم لهم بسوء الخاتمة، فمن عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه، قال الحافظ ابن كثير: لقد أجرى الله الكريم عادته بكرمه: أن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه، فمن عاش لشهواته ونزواته الحقيرة الرخيصة، عاش ليأكل ملء بطنه، عاش ليضحك ملء فمه، عاش لينام ملء عينيه، لا يحمل هم دين، ولا يحمل هم دعوة، عاش من أجل أسرته، عاش من أجل أولاده، عاش من أجل شهواته، سيموت فقيراً ورب الكعبة! وسيحشر حقيراً صغيرا، ً قال صلى الله عليه وسلم كما في سنن الترمذي بسند صحيح من حديث أنس: (من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه، وجمع عليه شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه، جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له). فكن رجلاً، وكن صاحب همة عالية، وسلم الراية لولدك وأنت رجل، وسلم العقيدة الصحيحة لولدك وأنت قائم بين يدي الله جل جلاله، قال الله لحبيبه: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:21]، فقام الحبيب ولم يذق طعم الراحة حتى لقي الله، يا من خذلت دين الله! أتحب أعداء الحبيب وتدعي حباً له ما ذاك بالإمكان وكذا تعادي جاهداً أحبابه أين المحبة يا أخا الشيطانِ شرط المحبة أن توافق من تحـ ـب على محبته بلا نقصانِ فإن أدعيت له المحبة مع خلافك ما يحب فأنت ذو بطلانِ وقال آخر: نعم لو صدقت الله فيما زعمته لعاديت من بالله وحيك يكفر وواليت أهل الحق سراً وجهرة ولما تعاديهم وللكفر تنصر فما كل من قد قال ما قلت مسلم ولكن بأشراط هناك تذكر مباينة الكفار في كل موطن بذا جاءنا النص الصحيح المقرر وتصدع بالتوحيد بين ظهورهم وتدعوهم سراً لذاك وتجهر هذا هو الدين الحنيفي والهدى وملة إبراهيم لو كنت تشعر

أدلة القرآن والسنة في مسألة الموالاة

أدلة القرآن والسنة في مسألة الموالاة ولخطر هذه القضية، تضافرت أدلة القرآن والسنة النبوية على بيانها، وهذا هو عنصرنا الثاني: أدلة القرآن والسنة. تدبروا معي قول رب الأرض والسماوات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة:51]، نداء لمن آمن بالله ووحده: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51]، هذا كلام ربك! قال حذيفة بن اليمان أمين السر النبوي: فليحذر أحدكم أن يكون يهودياً أو نصرانياً وهو لا يدري! لقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] قال شيخ المفسرين الطبري في قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] قال: أي: من تولى الكافرين، من اليهود والنصارى، ونصرهم على المؤمنين، فهو من أهل دينهم وملتهم، وقال الإمام القرطبي في كتابه (الجامع لأحكام القرآن الكريم) في قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] أي: من تولاهم ونصرهم على المسلمين فحكمه حكمهم في الكفر والجزاء. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51]، وها أنتم قد رأيتم بأم أعينكم الولاية بين الكفر تتجدد الآن على أرض فلسطين، فالكفر ملة واحدة، ولقد بح الصوت في تفصيل هذه الحقائق، ضحكوا علينا في أول إعلان الحرب على الإسلام في أفغانستان، بأنه ستقام دولة فلسطينية في أرض فلسطين! وهذه خدعة، وهذا ضحك على أصحاب اللحى، لكنهم إن حققوا ما أرادوا، سيقلبون علينا ظهر المجن، إنهم يستخفون بالأمة، ويتلاعبون بزعمائها وأفرادها بلا استثناء، وها نحن نرى أن المسلمين في فلسطين هم الإرهابيون! فمنظمة حماس منظمة إرهابية! ومنظمة الجهاد الإسلامي منظمة إرهابية! أما شارون فهو حمامة من حمائم السلام!! أما اليهود فهم حمائم السلام! أما بوش فهو الذي يحمل السلام لكل من في الأرض!! وهو منبع الشر في الأرض، وهؤلاء هم أصل الشر في الأرض، فالكفر ملة واحدة، متى ستعي الأمة هذه الحقيقة؟! متى ستصدق الأمة ربها؟ متى ستصدق الأمة نبيها؟! والله إن القلب ليتفطر، والله إن الكلمات لتتوارى خجلاً وحياءً، وقد قلنا هذا ألف مرة! لكن نصرخ في صحراء مقفرة، من يسمع هذه الأمة عن الله؟! وعن الصادق محمد صلى الله عليه وسلم؟! متى ستصدق الأمة أن الكفر ملة واحدة؟! وأن الكفر لا يمكن أن ينصر توحيداً، وأن الشرك محال أن ينصر إيماناً، اللهم إلا إذا دخل الجمل في سم الخياط! اللهم إلا إذا استخرجنا من النار المشتعلة المتأججة، الماء العذب الزلال! {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51]. وقال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى} [البقرة:120]، إذاً: فلا تنتظروا هذه اللحظة، ولو جلسوا على مائدة المفاوضات كل يوم، فاليهود لا يعرفون وفاء لعهد، ولا وفاء لوعد، إن قلوبهم تغلي على الإسلام وأهله، وأنا لا أنطلق لتأصيل هذا الكلام من مؤامرة عدائية على حسب تعبير العلمانيين، وإنما هذه حقائق قرآنية ونبوية، فلا يحدثك عن القوم مثل خبير: (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى} [البقرة:120] إلا بشرط واحد {لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} [آل عمران:118]، يريدون لكم العنت، يريدون لكم المشقة، {وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [آل عمران:118]، فالآن تهديد صريح للعراق بأنها دولة تأوي الإرهاب، والصومال -الذي لا يجد أهله لقمة الخبز- دولة تأوي الإرهاب! وصارت كلمة الإرهاب كلمة ممزوجة، يعلن الحرب بسببها على الإسلام في كل بقاع الأرض حتى في الفلبين، وهم أصل الإرهاب في الأرض: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران:118]، هل ضاعت عقولنا إلى هذا الحد؟! هل غيبت عقول الأمة إلى هذا الحد؟! الله سبحانه يظهر لنا ما في صدور القوم، ماذا نريد بعد ذلك؟! يقول تعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ} [النساء:138] بشارة للمنافقين، إنه التوبيخ والتبكيت، كما في قوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:49]، فالله سبحانه يقول: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء:138] من المنافقون؟ بنص القرآن: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:138 - 139]، اسمع لقول ربك: {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ} [النساء:139]، سبحان الله! والله أشعر بأن هذه الكلمات لنا ولواقعنا وزماننا، {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ} [النساء:139]، بل العزة لله جميعاً، إن العزة لله سبحانه ولرسول الله صلى الله عليه وسلم، وللمؤمنين الصادقين، أتبتغي الأمة العزة عند الكفر؟! أتبتغي الأمة العزة في الغرب؟! هاهي شربت كئوس الذل أشكالاً وألواناً! هاهي صفعت بل ضربت بالنعال! فمتى سترجع الأمة إلى الكبير المتعال، وإلى دين سيد الرجال صلى الله عليه وسلم؛ لتذوق من جديد طعم العزة وحلاوة الكرامة؟!! قالها عمر: (لقد كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله). لقد ابتغت الأمة العزة في الشرق الملحد تارة فأذلها الله، وابتغت العزة في الغرب الكافر تارة فأذلها الله، وابتغت العزة في الوسط الأوربي تارة فأذلها وأخزاها الله، ولن تذوق معنى العز وحلاوة الكرامة إلا إذا عادت إلى دين الله لتنصره بكل غال ونفيس. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة:1]، أمر عجب!! تعلمون عداوتهم لله، وتعلمون عداوتهم لرسول الله، وتعلمون عداوتهم للدين والمسلمين، ومع ذلك تسرون إليهم بالمودة بالمحبة! تنصرون مناهجهم، وتنصرون أفكارهم، وتنصرونهم بالقول وباللسان وبالجرائد والمجلات والفضائيات والإعلام!! عزف على وتر التقديس والتمجيد لمناهج هؤلاء المجرمين! وإن انبرأ رجل ليتحدث: تراه -ورب الكعبة- يقدم رجلاً ويؤخر أخرى، يا أخي! أنا أشعر وأنا أتحرك للدعوة في ظل هذه الظروف بضغط شديد على كل من يريد أن يجسد الحقيقة حتى ولو بصورة مهذبة! والله سبحانه وتعالى يبين لنا صدور القوم ونفسياتهم في آيات كثيرة لا يتسع الوقت لذكرها، فهذا فيه الكفاية. ويقول الصادق الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الذي رواه الطبراني والحاكم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما بسند حسنه الألباني رحمه الله، قال صلى الله عليه وسلم: (أوثق عرى الإيمان: الموالاة في الله والمعاداة في الله، والحب في الله والبغض في الله)، فأصل الموالاة الحب، وأصل المعاداة البغض، (أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله والمعاداة في الله، والحب في الله والبغض في الله)، وفي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وغيره من حديث أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أحب لله وأبغض لله، وأعطى لله ومنع لله، فقد استكمل الإيمان)، وفي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وغيره: (أن جريراً رضي الله عنه ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ابسط يدك يا رسول الله! لأبايعك، واشترط علي فأنت أعلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أبايعك على أن تعبد الله سبحانه وتعالى لا شريك له، وتقيم الصلاة، وتوتي الزكاة، وتناصح المسلمين، وتفارق المشركين) انظروا إلى الولاء والبراء: (وتناصح المسلمين، وتفارق المشركين).

صور مشرقة في دنيا الواقع

صور مشرقة في دنيا الواقع ولو نظرت إلى حياة النبي صلى الله عليه وسلم لوجدت تطبيقاً عملياً رائعاً لهذا الأصل العقدي الكبير، وهذا هو عنصرنا الثالث من عناصر اللقاء: صور مشرقة في دنيا الواقع. أيها الأفاضل! إن من أعظم صور الموالاة والمعاداة، ومن أنصع صور الحب في الله والبغض في الله، ما سطره الأنصار الأبرار الأطهار الأخيار، الذين فتحوا القلوب والأعين للمهاجرين، قبل أن يفتحوا البيوت والدور، وزكاهم الله تبارك وتعالى بقوله: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9]. أيها الأفاضل! لقد فتح الأنصار القلوب فحل فيها المهاجرون، بل لقد قاسم الأنصاري المهاجر كل شيء، أو شاركه في كل شيء، وتنازل له عن أي شيء، ومن أجمل ما ثبت في هذا ما رواه البخاري ومسلم من حديث عبد الرحمن بن عوف قال: (آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبين سعد بن الربيع الأنصاري، فقال سعد الأنصاري: لـ عبد الرحمن المهاجري يا عبد الرحمن! أنا أكثر الأنصار مالاً، فسأقسم مالي بيني وبينك نصفين، ولي أمرأتان (زوجتان) فانظر أعجبهما إليك لأطلقها، حتى إذا انقضت عدتها تزوجتها! فقال عبد الرحمن بن عوف العفيف: بارك الله في أهلك وأموالك، ولكن دلني على السوق). والسؤال المرير: أين من يعطي الآن عطاء سعد؟! و A وأين من يتعفف عفة عبد الرحمن بن عوف؟! فلقد مضى سعد مع عبد الرحمن، ووجد سعد يوم كان هنالك عبد الرحمن، فهذه صورة من أنصع صور الولاء، ومن أحلى صور الحب في الله، والبغض في الله. وها هو المغيرة بن شعبة، يأتي عروة بن مسعود وهو عم المغيرة ليفاوض النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية، فوقف المغيرة بن شعبة ليظلل على رأس النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس من الحر، وهو آخذ بالسيف ينظر إلى عروة، وعروة بن مسعود يكلم ويفاوض النبي صلى الله عليه وسلم، ويمد يده أحياناً ليداعب شعرات من لحية الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهذا جرياً على عادة العرب في التودد والتخرص، عروة يمد يديه؛ ليأخذ شعرة من شعرات النبي برفق وود، فضربه المغيرة بنصل السيف ضربة على ظهر يده -وهو عمه- وهو يقول: أخر يدك عن لحية رسول الله قبل أن لا تصل إليك يدك، أي حب وأي ولاء هذا؟! وهذا عبد الله بن عبد الله بن أُبي بن سلول، عبد الله إمام في التوحيد، وأبوه رأس النفاق، ولله في خلقه شئون! والحديث رواه ابن جرير بسند صحيح، فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم رأس النفاق عبد الله بن سلول يقول: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، يقصد أنه سيخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذليلاً من المدينة، فقال عبد الله: صدق أبي يا رسول الله فأنت الأعز وهو الأذل، والله ما عرفت المدينة رجلاً أبر بأبيه مني، ولكنه بعد ما قال ما قال فلتسمعن ما تقر به عينك يا رسول الله! وأخذ عبد الله السيف وانطلق إلى الطريق، ووقف في طريق أبيه، فلما أقبل رأس النفاق ابن سلول ليدخل بيته اعترضه ولده عبد الله فقال له أبوه: ماذا تفعل يا بني؟! فقال له ولده: والله لا يؤويك ظلها -يعني: المدينة- ولن تبيت الليلة في دارك إلا بإذن من الله ورسوله؛ لتعلم من الأعز ومن الأذل! فصرخ رأس النفاق يا أهل الخزرج! ابني يمنعني داري! فانطلق رجل من الصحابة إلى الرحمة المهداة، والنعمة المسجاة، وصاحب الخلق الفياض بالأدب والجود والكرم، فأخبره بما كان من عبد الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل: اذهب إلى عبد الله وقل له: يقول لك رسول الله: خله ومسكنه، يعني: دعه يدخل داره، فلما جاء الرجل بالأمر من قبل الحبيب، التفت الولد إلى والده وقال: فلتدخل الآن لتعلم من الأعز ومن الأذل! {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة:22]، هذه هي الموالاة في أنصع صورها، وهذه هي المعاداة في أقوى وأوضح معانيها على وجه الأرض، بهذه العقيدة، وبهذه القلوب، استطاع حبيب القلوب أن يقيم للإسلام دولة أذلت الأكاسرة، وأهانت القياصرة، وغيرت مجرى التاريخ في فترة لا تساوي في حساب الزمن شيئاً على الإطلاق. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

كيفية تحقيق الموالاة والمعاداة

كيفية تحقيق الموالاة والمعاداة الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام! السؤال المهم: كيف نحقق الموالاة والمعاداة؟ والجواب في نقاط محدده، وهذا هو عنصرنا الرابع من عناصر هذا اللقاء:

تحقيق الإيمان

تحقيق الإيمان أولاً: تحقيق الإيمان، فلا يمكن أبداً أن توالي الله ورسوله والمؤمنين، وأن تعادي الشرك والمشركين، دون أن تحقق الإيمان، وهذا هو الواقع، إذ لا يجيد الموالاة والمعاداة إلا المؤمن، ولذلك فإن الله إنما نادى المؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} [المائدة:51]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} [آل عمران:118]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة:1]، وهذا الخطاب للمؤمنين، فلا بد أن نحقق الإيمان، والإيمان ليس كلمة تقال باللسان فحسب، ولكن الإيمان: قول باللسان، وتصديق بالجنان، وعمل بالجوارح والأركان، يزيد بالطاعات، وينقص بالمعاصي والذنوب والزلات، هذا الإيمان هو الذي حول سحرة فرعون إلى أولياء، فمن لحظة أعلنوا فيها: فـ {بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} [الشعراء:44]، فلما ذاقت قلوبهم حلاوة الإيمان، سجدوا لرب موسى وهارون، وقالوا لفرعون بعزة واستعلاء: لا ضير، كلمة واحدة تجسد حلاوة الإيمان في القلوب، (لا ضير) يعني: افعل ما شئت، ذبح صلب قتل، افعل ما شئت، فلن نفرط في هذا الإيمان الذي سكن قلوبنا.

تحقيق الأخوة الإيمانية

تحقيق الأخوة الإيمانية ثانياً: تحقيق الأخوة الإيمانية، إذا حولنا الأخوة بيننا إلى واقع، فإننا بذلك نجسد الموالاة والمعاداة، فبالعقيدة وبالإيمان وبالأخوة بين المسلمين، بأخوة الجسد الواحد، نحقق الموالاة والمعاداة، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] فإن وجدت أخوة بغير إيمان، فاعلم بأنها إلى زوال، وبأنها التقاط مصالح، وتبادل منافع، فإن زالت المصلحة زالت الأخوة الزائفة، وإن زالت المنفعة انفصمت الأخوة المزيفة، وإن وجد إيمان بلا أخوة فاعلم أيضاً بأنه إيمان ناقص، إيمان يحتاج إلى تصحيح وإلى تجديد، إذ إن الأخوة الحقة ثمرة حلوة من ثمرات الإيمان الحق الصادق بالله جل وعلا: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10].

نبذ الخلاف

نبذ الخلاف ثالثاً: نبذ الخلاف: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46]، فالأمة في أمس الحاجة الآن إلى أن تلتقي على كلمة سواء، ولو اتخذت الأمة في هذه الظروف الحرجة قرارات اقتصادية سياسية دبلوماسية -على حد تعبيرهم- والله ستغير مجرى التاريخ في هذه الأيام العصبية، الأمة غنية بالثروات بالمناخ بالعقول والأدمغة بالطاقات بالعمق الاستراتيجي في قلب الأرض، لكنها مهزومة نفسياً، ومشتتة، ومشرذمة، حتى على مستوى العمل الإسلامي، ترى التشرذم والتهارش والنزاع والشقاق والخلاف، وربما لا يلقي الأخ السلام على أخيه؛ لأنه لا ينتمي إلى جماعته، وإنا لله وإنا إليه راجعون!

لا تيأسوا! فمن سواد الليل ينبثق الفجر

لا تيأسوا! فمن سواد الليل ينبثق الفجر وأريد أن أختم اللقاء ببشارة للقلوب، وهذا هو العنصر الأخير، لا تيأسوا فمن سواد الليل ينبثق نور الفجر. أيها الأفاضل! ها نحن نرى الآن على أرض الواقع أن الأمة -ولله الحمد- بدأت تنتقل من مرحلة أزمة الوعي، إلى مرحلة وعي الأزمة، فأنت ترى الآن الولد الصغير من أولادنا يتحدث عن اليهود يتحدث عن الحقد الغربي على الإسلام والمسلمين، أجيالنا المعاصرة ما عرفت قضية القدس، إلا بعد هذه الأحداث، ما عرفت العداء الكامل في الصدور للإسلام إلا في هذه الأيام، فأنت ترى الآن إقبالاً شديداً على الله سبحانه وتعالى في كثير من بقاع الأرض، بل في كل أرجاء الأرض، وإذا اشتدت المحن لم يجد الناس - أقصد من أهل الإسلام - طريقاً إلا أن يفروا إلى الله تبارك وتعالى، وأن يرجعوا إلى الله، وما نراه الآن في الدروس والمحاضرات والجمع، وما نراه من حجاب، وما نراه من إقبال على مطالعة أخبار المسلمين في الشرق والغرب، لمن أعظم الأدلة العملية على أن تباشير صباح جديد بدأت تبزغ في الأفق. أسأل الله أن يحولها إلى فجر صادق إنه ولي ذلك والقادر عليه، فلا تيأسوا ولا تقنطوا فالجولة الأخيرة -كما بينت في اللقاء الماضي- لن تكون ألبتة إلا لدين النبي صلى الله عليه وسلم، برغم أنف الكافرين والمجرمين. أسأل الله جل وعلا أن يشرفنا بالعمل لدينه حتى نلقاه، وأن يثبتنا على المبدأ والعقيدة حتى نلقاه، وأن يقر أعيننا بنصرة دينه، إنه ولي ذلك ومولاه، اللهم اجعلنا رحمة لأوليائك، حرباً على أعدائك، اللهم ارزقنا حبك وحب رسولك، وحب من أحبك، وحب كل عمل يقربنا إلى حبك. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

دروس من الأحداث الأمريكية

دروس من الأحداث الأمريكية لقد عرت أحداث الحادي عشر من سبتمبر زيف الحضارة الغربية، وكشفت الوجه الحقيقي للحرية الأمريكية المزعومة، بل لقد حركت العالم كله، ليعلم أن قوة الله أعظم من كل قوة، وأن هيبة أمريكا وهيمنتها إنما هي حرب نفسية، وأكاذيب إرجافية، كما أنها أبانت أن شمس الإسلام ستشرق من جديد ولو كره الكافرون.

الله الملك الحق

الله الملك الحق الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الفضلاء الأخيار! وأيتها الأخوات الفاضلات! وطبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت المبارك على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! دروس من الأحداث الأمريكية، هذا هو عنوان لقائنا مع حضراتكم في هذا اليوم الأغر الميمون المبارك، وكعادتي حتى لا ينسحب بساط الوقت سريعاً من تحت أقدامنا، فسوف ينتظم حديثي مع حضراتكم في هذا الموضوع في العناصر التالية: أولاً: الله الملك الحق. ثانياً: هذه حضارتنا وتلك حضارتهم. ثالثاً: الضنك والشقاء ثمرة الإعراض عن الله. رابعاً: الأيام دول. وأخيراً: وستشرق شمس الإسلام من جديد. فأعيروني القلوب والأسماع، والله أسأل أن يقر أعيننا جميعاً بنصرة الإسلام وعز الموحدين، وهزيمة الشرك والمشركين، وخذلان الظالمين والمجرمين، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أولاً: الله الملك الحق: لقد أثبتت الأحداث الأمريكية الأخيرة أن القوة العظمى التي نجحت بحدها وحديدها، وإعلامها الذي يحرك دفته اليهود، أن تقنع أصحاب القلوب القلقة التي فرغت من الإيمان، وأن تخدع كثيراً من أهل الأرض أنها القوة المتحكمة في الكون، وأنها المدبرة لأمر الكون، وأنها الحارسة لسماء الكون، وأنها الحارسة لأرض الكون لا تساوي شيئاً؛ فقد أراد الله جل وعلا أن يُعلِم القوة العظمى أن الذي يدبر أمر الكون وحده هو الملك الحق. أتاها الله عز وجل من سمائها، تلك السماء التي ادعت أمريكا أنها قادرة على التحكم فيها، فلا تستطيع ذبابة -فضلاً عن صاروخ أو طائرة- أن يقتحم المكان الجوي فوق وزارة الدفاع (البنتاجون) فشاء الملك الحق أن تُغزا القوة العظمى في الأرض من قبل هذه السماء. تدبر معي قول الله: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} [الأنعام:65]، وقوله جل جلاله: {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرعد:11]، وقوله جل جلاله: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا * وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} [الكهف:58 - 59]. فما من مؤمن على وجه الأرض إلا وهو يعلم الآن يقيناً لا تزعزعه رياح الشك والريبة أنه ما من ذرة في الكون إلا وهي في قبضة الملك الحق، وما من ورقة تسقط إلا بأمره وعلمه، فلا تخرج دبابة ولا تنطلق طائرة ولا يسقط صاروخ ولا تدك الأرض قنبلة إلا بأمر الملك الحق الذي يدبر الكون كله، قال جل جلاله: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59]. ما أود أن أؤصله اليوم ابتداء كأعظم دروس هذه الأحداث: أن نعلم يقيناً أن الله جل وعلا هو الذي يدبر أمر الكون، ولا تستطيع قوة على وجه الأرض مهما أوتيت من القوى، والوسائل العلمية، والتخطيط الهائل لحرب الإرهاب -زعموا- لا تستطيع هذه القوة أن تحول بينها وبين قدر أراده لها الملك الحق. السلاح الأمريكي الذي يخوف به العالم الآن، شاء الله جل وعلا مرة أخرى أن يبين لأهل الأرض أن أمريكا التي استطاعت أن تخدع العالم كله بأنها تملك من السلاح ما تقدر به أن تبيد البشرية؛ وشاء الله جل وعلا أن يتضح لنا في الأيام الماضية أنها ما فعلت شيئاً، فما يزيد على ألفي صاروخ وقنبلة سقطت في الأيام القليلة الماضية على أرض أفغانستان، ولو كانت الأمور تسير بالقوانين الأمريكية، والخطط الاستراتيجية المعدة، ما وجدنا بأفغانستان على الأرض من سبيل، ولكن شاء الله أن يبقيها، وأن يبقي الثلة الطيبة المباركة من طالبان، تلك الثلة التي تعلن الآن أنها تنتظر الجنود الأمريكان لتلقنهم درساً على الأرض كما لقنت الروس والبريطان! أمر عجب! لابد أن تعي القلوب القلقة هذه الدروس، فالذي يدبر الكون هو الله وليست أمريكا بأسلحتها، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة واللفظ لـ مسلم: (جاء حبر من أحبار اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! إنا نجد مكتوباً عندنا في التوراة أن الله تعالى يجعل السموات على إصبع)، تدبر أيها الموحد لله! فالسماء كلها على إصبع واحد من أصابع الملك الحق! (إنا نجد مكتوباً عندنا في التوراة أن الله تعالى يجعل السموات على إصبع، والأراضين على إصبع، والماء والثرى على إصبع، والشجر على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع، ثم يهزهن ويقول: أنا الملك، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر، وقرأ قول الله جل وعلا: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67]). وفي الصحيحين من حديث ابن عمر واللفظ لـ مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يطوي الله جل وعلا السموات والأرض بيمينه يوم القيامة ويقول: أنا الملك! أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟)، وفي الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري واللفظ لـ مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه). عباد الله! لا تنخدعوا بأي قوة على وجه الأرض، فإذا كانت أمريكا هي القوة العظمى، فالله هو القوي الأعظم، الملك الحق الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. الله اسم لصاحبه كل جلال. الله هو اسم لصاحبه كل كمال. الله اسم لصاحبه كل سلطان وجلال. الله هو الاسم الذي ما ذكر في قليل إلا كثره. الله هو الاسم الذي ما ذكر عند خوف إلا أمنه. الله هو الاسم الذي ما ذكر عند كرب إلا كشفه. الله هو الاسم الذي ما ذكر عند هم إلا فرجه. الله هو الاسم الذي ما تعلق به ضعيف إلا قواه. الله هو الاسم الذي ما تعلق به فقير إلا أغناه. الله هو الاسم الذي ما تعلق به ذليل إلا أعزه وآواه. الله هو الاسم الذي تستجاب به الدعوات. الله هو الاسم الذي تستنزل به الرحمات. الله هو الاسم الذي تقال به العثرات. الله هو اسم الذي لو عرفت الأمة قدره وجلاله لنصرها على أعتى القوى في الأرض بأمره وهو رب الأرض والسماوات، {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:116]، فلابد أن تنتزع من القلوب هذه الحال من الخوف والهزيمة النفسية، فلقد أعلنت جرائدنا المبجلة الموقرة وصور إعلامنا الذي نام في العفن نوماً عميقاً، وصور لنا صاروخاً صدرته أمريكا إلى السماء للتجسس، وعلق تحت الخبر بأسلوب مزرٍ: صاروخ أطلقته أمريكا للتجسس، قادر على أن يسجل كل كلمة يتكلم بها أفغاني في أرض أفغانستان! وإلى الآن ما تمكنوا من الوصول إلى أي أحد! إنه الإرجاف، فتعالى الله الملك الحق.

هذه حضارتنا وتلك حضارتهم

هذه حضارتنا وتلك حضارتهم ثانياً: بإيجاز شديد! هذه حضارتنا وتلك حضارتهم: لقد صرح رئيس الوزراء الإيطالي الجاهل أن الحضارة الغربية يجب أن تتفوق على الحضارة الإسلامية، وأن الحضارة الإسلامية هي حضارة التطرف والإرهاب، وحاول بشتى الطرق أن يجمل وأن يزين اللفظ فما استطاع، وصدق ربي إذ يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران:118]. وصرح بوش أنها حرب صليبية ولو زين وجمل {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [آل عمران:118]. وصرح رئيس وزراء بريطانيا بلير وقال: ها نحن قد عدنا يا ملا محمد عمر! وصرح رئيس الوزراء الإيطالي بأن الحضارة الإسلامية حضارة يجب أن تزول، ويجب أن تهزم.

حضارة الغرب الزائفة الهابطة

حضارة الغرب الزائفة الهابطة أيها الأحبة: تعالوا بنا نعقد مقارنة سريعة بين حضارتهم وحضارتنا، ولنبدأ بحضارتهم: فحضارتهم هي الحضارة التي سبت رب العزة سباً فضيعاً منكراً، فنسبت عيسى ابن مريم ابناً لله جل وعلا، ففي جانب الاعتقاد: نرى عقيدة متعفنة، ونرى عقيدة لا أصل لها ولا صواب. حضارتهم هي التي دافعت عن الشذوذ الجنسي إلى هذه اللحظة. حضارتهم هي التي تدافع عن مصارعة الثيران. حضارتهم هي الحضارة التي تدافع عن العنصرية اللونية البغيضة وإلى هذه اللحظة. حضارة الغرب هي الحضارة التي أسقطت القنبلة النووية على هيروشيما وناجازاكي. الحضارة الغربية برائدة الإرهاب في الأرض أمريكا هي التي قتلت أربعة ملايين في الفيتنام. الحضارة الغربية هي الحضارة التي استخدمت أطفال المسلمين ولأول مرة في التاريخ كدروع بشرية في البوسنة والهرسك. الحضارة الغربية هي التي قتلت ما يزيد على مليون ونصف طفل من أطفال العراق. الحضارة الغربية هي التي دمرت مصنع الشفاء في السودان. الحضارة الغربية هي التي ما زالت منذ عشر سنوات تدك العراق والمدنيين في العراق دكاً. الحضارة الغربية هي الحضارة الظالمة التي أبادت الهنود الحمر من الأمريكان. الحضارة الغربية هي الحضارة التي استعبدت الزنوج لوقت من الزمان. الحضارة الغربية هي الحضارة التي فعلت بالإنسان على وجه الأرض ما تخجل الوحوش الضارية أن تفعله ببعضها البعض في عالم الغابات. هذه حضارتهم التي مجدت جانجاكروستو. تلك الحضارة التي مجدت العقد الاجتماعي الفاسد الباطل. تلك الحضارة التي مجدت المذهب الميكافيلي الخبيث. تلك الحضارة التي مجدت كل جاهليات الأرض. هذه هي الحضارة الغربية حضارة الإرهاب. الحضارة الغربية التي ما زالت إلى يومنا هذا تقصف العزل والمدنيين في أفغانستان ممن لا ذنب لهم ولا جريرة. الحضارة الغربية التي تكيل بمكيال واحد لا بمكيالين ألا وهو مكيال العداء للإسلام. الحضارة الغربية التي تمد اليهود بأحدث أنواع الأسلحة لتدك هذه الحضارة الغربية الغاشمة الظالمة الفلسطينيين العزل من الشيوخ والنساء والأطفال إلى هذه اللحظة التي أقف فيها على المنبر. الحضارة الغربية هي التي أعلن عضو بارز من أعضائها وهو الإرهابي الكبير بوتن فقال: إنني أحارب عدوي الأول ألا وهو الإسلام، وسأقضي على الإرهابيين في داغستان والشيشان؛ لأحول البقية الباقية منهم إلى النصرانية. إنها الحضارة التي قال عضو بارز من أعضائها: إن العرب صراصير ينبغي أن يبادوا من على وجه الأرض! إنها الحضارة التي قال عضو بارز من أعضائها: فليذهب العرب إلى الجحيم! إنها الحضارة الغربية التي تغذي الإرهاب والتطرف في قلوب الصغار والأطفال منذ الصغر كما تقول الملحمة الشعرية التي تسمى بإكليل الجبل، وهي الملحمة التي يحفظها الطفل الصربي، تقول كلماتها: سلك المسلمون طريق الشيطان. دنسوا الأرض ملؤها رجساً. فلنعد للأرض خصوبتها. ولنطهرها من تلك الأوساخ. ولنبصق على القرآن. ولنقطع رأس كل من يؤمن بدين الكلاب ويتبع محمداً. فليذهب غير مأسوف عليه. هذه هي الحضارة الغربية، في الجانب العقدي، وفي الجانب الأخلاقي، وفي الجانب الإرهابي، فهي الحضارة التي تغذي وتؤصل الإرهاب في الأرض على يد رائدة الإرهاب في الأرض أمريكا، وربيبتها على الأراضي المحتلة (إسرائيل) على حد زعمهم، وأنا لا أحب أن أستعمل هذه اللفظة. اليهود يمارسون الإرهاب في كل لحظة. والأمريكان مارسوا ويمارسون وسيمارسون الإرهاب. والروس يمارسون الإرهاب إلى هذه اللحظة. وعباد البقر في كشمير يمارسون الإرهاب إلى هذه اللحظة. والصربيون أصلوا الإرهاب وزرعوا جذوره في قلب البلقان. فهذه هي الحضارة الإرهابية المتطرفة اللصوصية الأصولية، الحضارة المتعفنة الروح والضمير، وأنا لا أنكر أن هذه الحضارة قد قفزت في الجانب المادي قفزات هائلة، ففجرت الذرة، وانطلقت إلى أجواء الفضاء، وغاصت في أعماق البحار، وحولت العالم إلى قرية صغيرة عن طريق هذا التكنيك العلمي المذهل في عالم الاتصالات والمواصلات، لا أضع رأسي في الرمال كالنعام لأنكر هذا الشق المهم من شقي الحضارة، إذ لابد لأي حضارة من شق مادي علمي وشق ديني أخلاقي، ولقد قفزت الحضارة الغربية في الجانب المادي، وانتكست في الجانب الأخلاقي والديني، ليتبين لنا أن الأصل الأصيل في أي حضارة هو جانبها الديني والأخلاقي، إذ إن الشق المادي لما غاب عنه الجانب الخلقي تحول هو ذاته إلى ضنك وشقاء ومصدر إبادة للجنس البشري كله. لما غاب الدين وغاب الخلق تحول الشق المادي إلى مصدر فزع، فالعالم الآن عالم مجنون، لو نظر العاقل إلى أحواله لضحك ضحكاً يشبه البكاء. تصور طائرة في سماء أفغانستان تسقط القنبلة التي تدمر مساحة من الأرض -كما يقولون- مثل مساحة استاد كرة رياضي، وبعد لحظات تسقط طائرة أخرى كيساً من الدقيق أو من الأرز! إنه قمة الاستخفاف والظلم! تطعم من استباحت دمه؟ تطعم من ذاق طعم الرعب! ماذا يأكل؟ وماذا ينتظر من يد تضربه بالرصاص في قلبه، وتمنحه الطعام من خلف ظهره؟! مات، قتل، ماذا يريد بعد ذلك؟ ماذا يريد من سالت دماؤه؟ ماذا يريد من هدم بيته؟ ماذا يريد من فقد والديه؟ ماذا يريد من فقد أولاده؟ ماذا يريد من فقد وطنه؟ ماذا يريد من يحال بينه وبين أن يمارس دينه بحرية؟ لا يريد شيئاً على الإطلاق، لكنه اللعب، لكنه الاستخفاف بالعقول، عالم يدمر، ثم بعد ذلك ترى الجمعيات الماجنة التي تطالب من الميسورين والأغنياء في العالم أن يساهموا بالتبرعات للاجئين الأفغان، ولإعادة تعمير أفغانستان مرة أخرى بعدما دمرتها الأسلحة الأمريكية! عالم مجنون بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

رفعة الحضارة الإسلامية

رفعة الحضارة الإسلامية أما حضارتنا فنقول بملء الفم وأعلى الصوت: إنها حضارة لا وجه للمقارنة مطلقاً بينها وبين حضارات الأرض؛ لأن حضارات الأرض استمدت أصولها من الأرض، أما حضارة الإسلام فقد استمدت أصولها من السماء، فأصول الحضارة الإسلامية القرآن والسنة. هذه أصول حضارتنا: (القرآن والسنة) القرآن: كلام الله، والسنة: وحي الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتستمد الحضارة الإسلامية أصولها من هذين الوحيين، ومن هذين النورين المشرقين، أصلت عقيدة التوحيد، فلا ينبغي أن توجه القلوب ولا أن تصرف العبادة إلا لله الواحد الأحد؛ لتلم شمل وشتات الإنسان، فالإنسان المتوجه لإلهين مختلفين مشتت، أما حضارة الإسلام، فهي الحضارة التي أصلت التوحيد الحضارة التي أصلت حقيقة العبودية لله جل وعلا حضارة الإسلام هي الحضارة التي أرست الخلق: خلق الأمن خلق التسامح خلق الوفاء بالوعود والعهود، ولم تكن مبادئ الحضارة الإسلامية كلمات لا تساوي قيمة الحبر التي كتبت به كما هو الحال في ميثاق حقوق الإنسان في هيئة الأمم. ولم تكن الحضارة الإسلامية تماثلاً يصدم الناظرين في قلب أمريكا ليرمز للحرية وهم يسحقون الأحرار خارج بلادهم وأرضهم. ولم تكن الحضارة الإسلامية كلمات حبيسة الأدراج كما هو الحال في الثورة الفرنسية التي حبست دستورها، أو حبست ما تحويه هذه الثورة من معانٍ جليلة عن مستعمراتها التي استعمرتها سنوات طويلة، ولكن الحضارة الإسلامية تحولت على أرض الواقع إلى منهج حياة، فهاهو المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي أصّل هذه الأصول يعلنها صريحة، ويقول: (أيها الناس! إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، إن آدم من تراب، لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأبيض على أحمر، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى، وقرأ قول الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]). وهاهي امرأة من أشراف بني مخزوم تسرق، ويشفع بعض الصحابة لها عند رسول الله -والحديث في الصحيحين- فيغضب النبي صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً ويعلنها صريحة مدوية: (وايم الله! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها). هذه هي الحضارة الإسلامية التي ما ذاق اليهود ولا النصارى طعم الأمن إلا في ظلالها، فهاهم اليهود يعرفون طعم الأمن سنوات طويلة حينما وفوا بالعهود لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، وهاهم النصارى يذوقون طعم الأمن في ظلال الحكم الإسلامي. جاء عمر بن الخطاب من المدينة إلى بيت المقدس ليحقن دماء النصارى، وهو الخليفة الذي كان قادراً على أن يصدر الأوامر لجيشه المنتصر أن يفتح مدينة بيت المقدس عنوة ولكنه أبى، وأتى من المدينة إلى بيت المقدس ليمشي مسافة تزيد على ألفين وخمسمائة كيلو متراً من المدينة إلى بيت المقدس، لم يركب طائرة خاصة، ولا سيارة مكيفة، بل ولم يأت بموكب رهيب يتكون من آلاف الفرسان وآلاف الرجال والجنود، وإنما جاء في موكب مهيب في تواضعه، جاء يركب دابة واحده مع خادمه فقط، يركب عمر الدابة تارة بمقدار قراءة سورة يس -كما قال المؤرخون- وينزل الفاروق من على ظهر الدابة ليركبها خادمه بمقدار قراءة السورة، ثم يمشي عمر إلى جوار خادمه لتستريح الدابة بمقدار قراءة السورة، ولما وصل إلى مدينة بيت المقدس كانت الكرة في الركوب لخادمه، فأصر الخادم أن يركب أمير المؤمنين وأن يمشي هو فأبى، وأصر الفاروق على أن يركب الخادم -وأنا لا أقول هذا من أجل تضييع الوقت ولا لاستهلاكه، وإنما لأبين لحضراتكم حقيقة القلوب التي فتح الله بها بيت المقدس- ويركب الخادم ويجر الدابة له أمير المؤمنين عمر، ويرى أبو عبيدة قائد الجيش هذا المشهد المهيب، وتعترض الدابة مخاضة ماء -بركة ماء- فيشمر الفاروق عن ساعديه، ويضع نعله تحت أبطيه، ويجر الدابة لخادمه، فيقول أبو عبيدة: مه يا أمير المؤمنين! والله ما أحب أن القوم قد استشرفوك -أي: لا أحب أن يراك القوم وأنت في هذه الحالة- فقال الفاروق الأواب: أوه يا أبا عبيدة! لو قالها غيرك يا أبا عبيدة! لأوجعته، لقد كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله. هذه هي القلوب التي فتح الله لها بيت المقدس. ويستلم عمر مفاتيح المدينة المقدسة، ويعطي النصارى عهداً بالأمان لأموالهم ولأنفسهم ولكنائسهم، وألا تسكن كنائسهم وألا تهدم، ومن أراد منهم أن يخرج فله الأمان، ومن أراد أن يبقى في المدينة المقدسة فلا تؤخذ منه الجزية حتى يحصد حصاده. هذا هو الإسلام وهذه حضارته!! وفي هذه الحضارة الإسلامية يبرز جانباً رائعاً منها أمين سر رسول الله حذيفة بن اليمان، والحديث في صحيح مسلم، يقول حذيفة: ما منعني أن أشهد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أني خرجت أنا وأبي حسيل، فأخذنا المشركون وقالوا: أتريدان محمداً؟ قلنا: لا. بل نريد المدينة، قال حذيفة: فأخذ علينا المشركون عهد الله وميثاقه ألا نقاتل مع رسول الله، وأن ننطلق مباشرة إلى المدينة، قال: فانطلقت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما قلت أنا وأبي وبما قاله المشركون -اسمع ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (انصرفا) -أي: لا تشهدا معنا المعركة- (انصرفا نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم)، هذه حضارتنا إنها حضارة الإسلام!! وهذا أبو عبيدة يرسل كتاباً إلى عمر ليقول له: يا أمير المؤمنين! لقد أعطى جندي في الجيش عهداً بالأمان لأهل بلد من بلاد العراق، فماذا أصنع؟ اسمع ما قال عمر؟ أسرع وأرسل كتاباً إلى أبي عبيدة ليقول بعد حمد الله والثناء عليه: من عمر إلى أبي عبيدة: سلام الله عليك وبعد، فإن الله قد عظم الوفاء ولا تكونون أوفياء حتى تفوا فوفوا لهم بعهدهم، وانصرفوا عنهم، واستعينوا الله عليهم. هذه حضارتنا التي تعظم الوفاء بالوعود والعهود!! حضارتنا التي تعظم الدماء!! حضارتنا التي تعظم الأمن والأمان!! حضارتنا التي لا تقر الإرهاب فوق أي أرض وتحت أي سماء، مهما كان لون الإرهاب ووطنه وجنسه!! حضارتنا التي أخبر نبينا صلى الله عليه وسلم أن امرأة دخلت النار في هرة، وأن بغياً من بغايا بني إسرائيل دخلت الجنة في كلب!! حضارتنا حضارة العدل، تحرم الظلم والبغي والعدوان!! حضارتنا التي جلى عظمتها صلاح الدين يوم فتح بيت المقدس وأرسل طبيبه الخاص إلى عدوه اللدود وقائد الجيش الجسور ريتشارد قلب الأسد!! حضارتنا هي التي جلى محمد الفاتح عظمتها يوم فتح كنيسة (آياصوفيا)، وعلم العالم الصليبي الحاقد درساً من أعظم دروس التسامح والوفاء!! ويكفي أن نعلم أن حضارتنا تستمد أصولها وأخلاقها من كلام ربها وكلام نبيها صلى الله عليه وسلم. أيها الأخيار! حتى في الجانب المادي، والله الذي لا إله غيره ما قفزت أوروبا هذه القفزة العلمية إلا على أسس حضارتنا الإسلامية العلمية، ففي الوقت الذي أنار المسلمون الأندلس بضوء الكهرباء، كانت فرنسا ما زالت تعيش في الظلام، ولم تصل بعد إلى ضوء المصباح الكهربائي، وفي الوقت الذي رصف وعبد المسلمون طرق الأندلس، كانت إيطاليا وبريطانيا تعيش في الوحل والطين، ولم تعرف بعد الطرق المعبدة. لكنني أسجل أن المسلمين انتكسوا وتخلوا في الجانب المادي عن حضارتهم، وفي نفس الوقت أخذ الأوروبيون أسس وأصول هذه الحضارة، وطوروها وقفزوا قفزات علمية هائلة، إذ إن الحضارة في أي عصر ما هي إلا نتاج علمي وفكري لآلاف الأدمغة والرءوس التي عملت قبل ذلك. فمحال أن تقارن بين حضارة القرن العشرين وحضارة القرن الخامس عشر؛ محال لأن حضارة القرن العشرين ما هي إلا محصلة لنتاج عقلي وعلمي وفكري لآلاف الرءوس والأدمغة التي عملت في كل مجالات الحياة، فجاءت هذه الحضارة فجنت الثمار وطورت، وأنا لا أنكر ذلك.

الضنك والشقاء ثمرة الإعراض عن الله

الضنك والشقاء ثمرة الإعراض عن الله لا وجه للمقارنة بين الحضارة الإسلامية وبين الحضارة الغربية في جانبها العقدي في جانبها الأخلاقي في جانبها الروحي في جانبها الإيماني، فبالرغم من كثرة هذه الطائرات والدبابات والهيئات والمنظمات والأحلاف فهي محرومة من نعمة الأمن والأمان. على الرغم من التخطيط الهائل المبني على أسس علمية ونفسية لمحاربة الجريمة، فهي محرومة من الأمن والأمان. على الرغم من كثرة الوسائل الأمنية الحديثة، ويجتمع الرؤساء والخبراء والمحللون ويحللون ويبحثون وينفضون ولا حلول. ما زال آلاف البشر يبحثون عن الأمن وسط الركام، ما زال آلاف البشر ينتظرون الموت في كل لحظة، ضاقت الدنيا في وجوههم على الرغم من اتساعها، وأظلمت الدنيا في وجوههم على الرغم من كثرة أضوائها، والعالم كله محروم من الرخاء الاقتصادي على الرغم من كثرة الأسواق المشتركة، فما زال آلاف البشر يموتون من الجوع ولا يجدون لقمة الخبز، يموتون في العراء من شدة البرد، فالعالم محروم من راحة الضمير وانشراح الصدر وخلو النفس من المشاكل والأزمات والهموم، وكل هذا بسبب الإعراض عن الله ومنهجه. أخيراً سمعنا عن مرض فتاك جديد ما سمعنا عنه من قبل ألا وهو الجمرة الخبيثة، وتدبر لفظة الجمرة فأصلها من النار، وأنا لا أقول بأن الجمرة أتت من جهنم، لكن تدبر اللفظة: الجمرة الخبيثة، فالرعب يسود أمريكا إلى حد أنهم أغلقوا فيه الكونجرس الأمريكي، فالكل في حالة فزع، ولم لا وربك جل وعلا يقول: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46]، وربك جل وعلا يقول في الحديث القدسي: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا)؟ فمن أجل ما يذيق الأمريكان الرعب للأفغان، يريد الله في هذا الوقت أن يذيق الأمريكي الرعب. إنه العدل! إنه الحق! وصدق المصطفى صلى الله عليه وسلم إذ يقول كما في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وابن ماجة من حديث ابن عمر: (يا معشر المهاجرين! خمس إن ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشت فيهم الأوجاع والأسقام التي لم تكن في أسلافهم). إنها نتيجة عادلة، وثمرة مرة للإعراض عن الله، والظلم لعباد الله وخلق الله في أرض الله! صار المسلم الذي يدافع عن أرضه وعرضه ومقدساته هو الإرهابي الأصولي، اللصوصي المتطرف، الرجعي المتخلف المتأخر إلى آخر هذه التهم المعلبة التي تكال الآن للمسلمين كيلاً. لو حدث أي شيء في الأرض اتهم المسلمون في التو واللحظة قبل أي دليل أو تحقيق أو برهان، حتى اتهم الفلسطيني الذي يدافع عن عرضه ومقدساته بالإرهابي.

الأيام دول

الأيام دول عنصرنا الرابع: الأيام دول: إن كانت الجولة الآن للغرب وأهله، فإن الله تبارك وتعالى يقول: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140]. إن للحضارات دورات فلكية كما يقول المفكر الشهير سبلنجر، إن للحضارات دورات فلكية، فهي تبرز هنا لتشرق هنالك. ثم يقول: وإن حضارة أوشكت على الشروق في أروع صورة ألا وهي حضارة الإسلام. نعم. إن الدولة والجولة الآن للغرب، لكن لابد أن نعلم أن لله سنناً ربانية في الكون، لا تتبدل ولا تتغير، ولا تحابي تلك السنن أحداً من الخلق بحال، فإن أخذ الغرب بأسباب القوة انتصروا، وإن تخلى المسلمون عن أسباب القوة هزموا؛ لأن الله لا يحابي أحداً من خلقه، لكن كما جعل الله تبارك وتعالى الابتلاء للمستضعفين سنة جارية للتمحيص والتمييز، فإن الله قد جعل أخذ الظالمين سنة ثابتة لا تتبدل ولا تتغير. وأكرر: كما جعل الله الابتلاء والمحن والفتن سنة ربانية للمؤمنين للتمحيص والتمييز؛ ليثبت على الصف من صفت نفسه، وسمت همته، وصدق في عمله وقوله، وليطرد من الصف من حمل الدعوة والدين ليتاجر به في سوق الشهوات والمتاع، كما جعل الله ذلك كذلك؛ فلقد جعل الله أخذ الظالمين سنة جارية ثابتة لا تتبدل ولا تتغير. أين الظالمون وأين التابعون لهم في الغي بل أين فرعون وهامان أين من دوخوا الدنيا بسطوتهم وذكرهم في الورى ظلم وطغيان هل أبقى الموت ذا عز لعزته أو هل نجا منه بالسلطان إنسان لا والذي خلق الأكوان من عدم الكل يفنى فلا إنس ولا جان {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} [الفجر:6 - 13]. (سوط) إنه العذاب الجزئي، وليس الاستئصال الكلي. {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:14]. وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:1 - 5]. فلقد أخذ الله عز وجل الظالمين في كل زمان ومكان، فلا تغتروا إن أمهل الله ظالماً، فإن الله يمهل ولا يهمل، وما ربك بظلام للعبيد. أيها المظلوم صبراً لا تهن إن عين الله يقضى لا تنام نم قرير العين واهـ نأ خاطراً بين الأنام فعدل الله جل وعلا دائم بين الأنام، ولا يتخلى ربنا سبحانه وتعالى عن عدله قط في الدنيا والآخرة، وإن أمهل فلا يهمل، فالذي أخذ فرعون، وأخذ عاد، وأخذ قارون، وأخذ ثمود، ودمر قوم لوط، ودمر قوم صالح؛ هو الحي الباقي الذي لا يموت، ولا تعجزه أمريكا ولا بريطانيا ولا روسيا، لكننا نود أن نكون على مستوى هذا الدين لنكون أهلاً لنصرة رب العالمين. فوالله الذي لا إله غيره لو عادت هذه الأمة لربها، وأخذت بالأسباب قدر ما تستطيع، وعلقت قلوبها بمسبب الأسباب؛ لرأينا العجب العجاب، إذ إن الذي يدبر الأمر كله هو الله سبحانه وتعالى. أيها الأفاضل! ومع هذا الظلم الذي نراه، ومع هذه الصورة التي تؤلم كل قلب مسلم غيور، أقول بملء فمي وأعلى صوتي: اعلموا يقيناً بأن الجولة المقبلة وعن قريب بإذن الله ستكون لدين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، فستشرق شمس الإسلام من جديد، وهذا هو عنصرنا الأخير، وأرجئ الحديث عنه في عجالة إلى ما بعد جلسة الاستراحة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

ستشرق شمس الإسلام من جديد

ستشرق شمس الإسلام من جديد الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد: أيها الأحبة: وستشرق شمس الإسلام من جديد: أنا لا أقول هذا رجماً بالغيب، ولا أقول ذلك من باب الأحلام الوردية الجاهلة، ولا أقول ذلك من باب السياسة القاصرة، بل ولا من باب ضغط الواقع بجراحه وآلامه، إنما أقول ذلك من منطلق حقائق الوحي الرباني والنبوي قال الرب العلي، وقال الحبيب النبي. تدبروا معي هذه العبارة: (لو حورب دين على وجه الأرض بمثل ما حورب به الإسلام لما بقي لهذا الدين على وجه الأرض من سبيل). من أول لحظة ارتقى فيها المصطفى جبل الصفا، وأعلن هذا الإسلام، ورفع رايته، وإذ بمكة بكل أهلها ترغي وتزبد، وتدق طبول الحرب وتتوعد. أين كل العداء والحرب على الإسلام؟ هلك وبقي الإسلام، وسيبقى شامخاً ليعانق كواكب الجوزاء؛ لأن الذي وعد بإبقائه وإظهاره على الدين كله هو خالق الأرض والسماء، فاملأ قلبك رضاً وطمأنينة، فنحن لا نخشى على الإسلام، ولكن نخشى على المسلمين إن هم تخلو عن الإسلام، فسيضربون بالنعال، وسيشربون كئوس الذلة والمهانة إن هم تخلوا عن أصل عزهم ونبع شرفهم ومعين كرامتهم ووجودهم ألا وهو الإسلام. الإسلام دين الله، لا تملك أمريكا ولا بريطانيا ولا فرنسا ولا إيطاليا ولا روسيا، ولا تملك قوة على وجه الأرض أن تستأصله، أو أن تطمس نوره؛ لأنه نور النور، قال تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:8]، تدبر اللفظ القرآني تدبر الكلمات القرآنية الجميلة {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:8]، {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:9]. وأنا أعترف أنني ما ذقت حلاوتها وما عرفت هذه المعاني الجليلة التي تتضمنها هذه الآية إلا في هذه الأيام القليلة الماضية ورب الكعبة، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال: 36]، صاروخ تزيد قيمته على مليوني دولار يسقط على خيمة قيمتها لا تزيد على عشرة دولارات كما صرح بذلك وزير الدفاع الأمريكي، بل ولقد نجح إخواننا في أفغانستان أن يضعوا أهدافاً وهمية -كما قرأت لطيار أمريكي يقول: نأخذ الخطة والهدف، وأصعد بحمولة الطائرة، وأصعد في السماء فلا أرى الهدف- أو إن شئت فقل -وأنا والله لا أستبعد ذلك ولا أستكثره على رب البرية- إن الله عز وجل قد يستجيب لدعوة مخلص صادق فينا يقول: اللهم شتت رميهم فيشتت الله رميهم، وأنا لا أستبعد ذلك. لقد صرح جنرال روسي وقال في حربهم مع الشيشانيين: إننا نرى عجباً مع هؤلاء، نخرج عليهم بعد تصويرنا لهم، فإذا انطلقنا وقربنا من هذا الهدف لا نرى شيئاً، فإذا هممنا بالانصراف رأيناهم يخرجون علينا، وهم يحرصون على الموت ولا نعلم من أين خرجوا؟! وعرفت بعد ذلك من خلال الأخبار التي تأتي على شبكة الإنترنت، وتعجبت من هذا الخبر، أن إخواننا يختبئون في مواسير الصرف الصحي، ثم تخرج عليهم مجموعات بعد ذلك بصورة تملأ قلوب الروس بالرعب والفزع؛ لأنهم يحرصون على الموت كحرص الروس على الحياة، فالله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال:36]، ليس لحرب الإرهاب بل لحرب الإسلام. أي إرهاب؟ إلى الآن لم تقدم أمريكا دليلاً واحداً تدين به المسلمين {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} [الأنفال:36]، هل تذوقت حلاوة اللفظة (ثم تكون عليهم حسرة). {ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال:36]، هل تصدقون الله؟ {ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36] أي: لتتم هنالك في جهنم حسرتهم الكبرى. قال جل وعلا: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ} [يوسف:110]، فلم يقل: حتى إذا استيئس المؤمنون بل الرسل، {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} [يوسف:110]، فالنصر من عنده، والله الذي لا إله غيره ما كان النصر أبداً بعتاد ولا عدد ولا عُدد {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران:126]. أنا أعي ما أقول: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران:126] {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:110]. قال جل وعلا: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173] اللهم اجعلنا من جندك يا رب العالمين!

تزايد انتشار الإسلام في دول الغرب

تزايد انتشار الإسلام في دول الغرب أيها الأحبة: تدبروا معي هذا الكلام العجيب: النسخ المترجمة للقرآن الكريم باللغة الفرنسية لم تعد نسخة واحدة في السوق بعد هذه الأحداث، وكذا نسخ القرآن المترجم بالإنجليزية في أمريكا، بل لقد اتصل أحد إخواننا بالأمس على أحد إخواننا، وأخبر بأن التجارة الرابحة الرائجة الآن في أوروبا هي تجارة الكتاب الإسلامي، فالكل يتطلع للإسلام، وأنا أقسم الأوروبيين الآن في تطلعهم إلى الإسلام، وهمهم للتعرف عليه إلى فريقين: الفريق الأول: فريق أقبل على القراءة عن الإسلام، والتعرف عليه من خلال حبه للقوة، فالأوروبي مفتون بالقوة، ويعتز بالقوة ويحترم الأقوياء، ففريق من الأوروبيين أقبل ليتعرف على الإسلام من خلال ما دسته في قلبه وعقله وسائل الإعلام الأوروبية من أن الذين قاموا بالتفجيرات الأمريكية هم المسلمون، فأقبل فريق كبير جداً من الأوروبيين يقرءون عن المسلمين وعن الإسلام، وعن تلك القوة الخارقة التي فعلت ما لا يصدقه عقل زعيم في الغرب أو في الشرق، فأقبل فريق منهم بروح الفتنة والافتتان بقوة المسلمين. سبحان ربي العظيم! وصدق النبي إذ يقول: (إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر)، والحديث رواه الطبراني بسند حسن. يصرح فاجر بتصريح فيخدم بهذا التصريح هذا الدين!! والفريق الآخر: أقبل على القراءة للتعرف على الإسلام من خلال تصريحات زعماء العالم وذهابهم إلى المساجد والمراكز الإسلامية، فهناك من الأوروبيين -كما رأيت بنفسي أنا- من كان لا يعرف شيئاً على الإطلاق عن دين يسمى الإسلام، فلا يوجد الآن رجل أو امرأة أو صبي إلا وهو يعرف الإسلام، وقد أقام الله بهذه الأحداث الحجة على أهل الأرض، فسبحان ربي العظيم! لو اجتمعت الأمة بكل طاقتها الإعلامية لتعلم أو لتخبر العالم عن سماحة الإسلام ما فعلت مثلما فعل زعماء الغرب، وإن قالت ألسنتهم وكذبت قلوبهم، المهم أنهم قد صرحوا. تصوروا معي ما نشرته مجلة التايم الأمريكية، ومجلة صنداي تلجراف البريطانية، ومجلة لودين الفرنسية، وقد ذكرت هذا، وأكرره لأختم به اللقاء، ولنعلم أن النبوءة النبوية يهيئ الله الكون لها الآن. تقول مجلة التايم الأمريكية -وتدبروا هذه الكلمات، فلقد استعرت عنوان العنصر الأخير منها- وهي مجلة أمريكية مشهورة، تقول بالحرف في شبه ترجمة حرفية: وستشرق شمس الإسلام من جديد -اللهم عجل بإشراقها يا رب- ولكنها في هذه المرة تعكس كل حقائق الجغرافيا؛ لأنها لا تشرق من المشرق وإنما تشرق من الغرب من قلب أوروبا، تلك القارة العجوز التي بدأت المآذن فيها تزاحم أبراج الكنائس، وإن صوت الأذان كل يوم في قلب أوروبا خمس مرات خير شاهد على أن الإسلام يكسب كل يوم أرضاً أوروبية جديدة. جريدة صندي تلجراف تقول: إن انتشار الإسلام في القرن المنصرم وأوائل القرن الحالي ليس له من سبب مباشر، إلا أن سكان العالم من غير المسلمين بدءوا يتطلعون إلى الإسلام، وبدءوا يعلمون يقيناً أن الإسلام هو الدين الوحيد الأسمى الذي يمكن أن يتبع، وهو الدين الوحيد القادر على حل كل مشاكل البشرية. ومجلة لودين الفرنسية تقول في تقرير لعلماء استراتيجيين من العسكريين: مستقبل نظام العالم سيكون دينياً. وهذه حقيقة وسأفرد إن شاء الله تعالى محاضرة كاملة لما يسمونه بمعركة هرمجدون، هذا اليوم الذي اقترب والذي تكلمت عنه كل كتبهم، وهو موجود عندنا أيضاً بمعان أخر، وسأفصل ذلك تفصيلاً، وأذكر كلمات لزعمائهم القدامى والمعاصرين إلى رونالد ريجن فهم يقولون: مستقبل نظام العالم سيكون دينياً، والنظام الإسلامي سيسود على الرغم من ضعفه الحالي؛ لأنه الدين الوحيد الذي يمتلك قوة شمولية هائلة. أولم أقل: وستشرق شمس الإسلام من جديد؟ وعد الله ووعد رسول الله، وما علينا إلا أن نرتقي إلى مستوى هذا الدين.

(ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار)

(ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار) أيها الأحبة: يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث ثوبان: (إن الله تعالى زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها). وفي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد والطبراني من حديث تميم الداري أن الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليبلغن هذا الأمر) أي: هذا الدين (ما بلغ الليل والنهار). وأنا أتصور أن شطراً من هذه النبوءة النبوية قد تحقق بالأحداث الأمريكية، وإن كان المراد بأن الدين يبلغ كل بيت كما يبلغ الليل والنهار في كل أرض، فعلى ألسنة بوش، ورئيس وزراء بريطانيا! ورئيس وزراء إيطاليا! لم يبق بيت الآن على وجه الأرض إلا وقد سمع عن الإسلام، وهذا شطر من النبوءة، والشطر الآخر هو أن يتمكن الإسلام، ويدخل البيوت منتصراً فاتحاً، فهذا موعود الله لرسوله صلى الله عليه وسلم {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:9]، (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر) وقال صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: (هل سمعتم بمدينة جانب منها في البحر وجانب منها في البر؟). النبي صلى الله عليه وسلم يسأل الصحابة، (هل سمعتم بمدينة جانب منها في البر، وجانب منها في البحر؟ قالوا: نعم يا رسول الله!) إنها القسطنطينية -هذا الجواب من عندي- قال عليه الصلاة والسلام: (لا تقوم الساعة حتى يغزوها سبعون ألفاً من بني إسحاق، فإذا جاءوها لم يقاتلوا بسلاح، ولم يرموا بسهم، وإنما قالوا: لا إله إلا الله والله أكبر، فيسقط جانب المدينة التي في البحر، فإذا جاءوها الثانية لم يقاتلوا بسلاح ولم يرموا بسهم وإنما قالوا: لا إله إلا الله والله أكبر، فيسقط جانبها الآخر -يعني الذي في البر- فإذا جاءوها الثالثة لم يقاتلوا بسلاح ولم يرموا بسهم بل قالوا: لا إله إلا الله والله أكبر، فيفتح لهم -أي ربهم جل وعلا- فيدخلوها). قال الحافظ ابن كثير: وفي الحديث نبوءة نبوية تؤكد أن الروم سيسلمون في آخر الزمان، والروم هم الأوروبيون بلغة العصر. قال الحافظ: فسلالة بني إسحاق هم سلالة العيص بن إسحاق بن إبراهيم، وهؤلاء هم الروم. قال الحافظ: فهذه النبوءة النبوية تؤكد أن كثيراً من الروم -أي: من الأوروبيين- سيسلمون في آخر الزمان، وسيجعل الله فتح القسطنطينية على يد طائفة منهم ممن وحدوا الله وآمنوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم.

وصايا

وصايا وأختم هذا اللقاء ببعض الوصايا فأقول: أولاً: يحرم على أي مسلم أن يوالي أعداء الله في حربهم على المسلمين المستضعفين في أفغانستان. ثانياً: يجب على كل مسلم أن يوالي الله ورسوله والمؤمنين وأن يتبرأ من الشرك والمشركين، وأن يحول الإسلام في حياته وبيته ومتجره ومصنعه إلى واقع عملي ومنهج حياة. إن لم تستطع أن تجاهد بنفسك وهو الواقع، فعليك أن تجاهد بمالك تجاهد بكلمتك تجاهد بدعائك تجاهد بتربيتك لأولادك وامرأتك وبناتك تربية ترضي بها ربك تبارك وتعالى. ثالثاً: يجب علينا ألا نغفل عن الدعاء، ولا تحتقروا ما أقول، فإن الدعاء من سهام الليل، وقد كان الفاروق عمر رضي الله عنه يقول: (أنا لا أحمل هم الإجابة وإنما أحمل هم الدعاء، فمن ألهم الدعاء فإن الإجابة معه)، فتضرعوا إلى الله، واستغيثوا بالله، وقوموا بالليل بين يدي الله جل وعلا، واطرحوا القلوب بين يديه بذل وانكسار، وتضرعوا إليه فهو العزيز الغفار. اللهم إنا نسألك باسمك الأعظم الذي إذا سئلت به أعطيت، وإذا دعيت به أجبت، أن تنصر الإسلام والمسلمين. اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين! اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين! اللهم أعلي بفضلك كلمة الحق والدين. اللهم انصر إخواننا في أفغانستان، اللهم احفظهم بحفظك، واكلأهم بعنايتك ورعايتك! اللهم إنهم حفاة فاحملهم، اللهم إنهم عراة فاكسهم، اللهم إنهم جياع فأطعمهم، اللهم إن أهل الأرض قد تكالبوا عليهم فلا تتخل عنهم. اللهم كن لهم ناصراً يوم قل الناصر، اللهم كن لهم ناصراً يوم قل الناصر، اللهم كن لهم معيناً يوم قل المعين. اللهم شتت رمي أعدائهم، اللهم شتت رمي أعدائهم، اللهم زلزل الأرض من تحت أقدامهم، اللهم اقذف الرعب في قلوبهم، اللهم اقذف الرعب في قلوبهم. اللهم عليك باليهود المجرمين، اللهم شتت رمي اليهود المجرمين، اللهم شتت شملهم، وشتت رميهم، ومزق صفهم، اللهم احفظ أهلنا في فلسطين، اللهم احفظ أهلنا في فلسطين، وفي الشيشان، وفي العراق، وفي كشمير، وفي كل مكان! اللهم اشف صدور قوم مؤمنين بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم اشف صدور قوم مؤمنين بنصرة الإسلام وعز الموحدين. اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا! اللهم هذه أمة حبيبك محمد، اللهم ارفع الهم والغم عنها، اللهم أزل همها واكشف غمها، وردها إليك رداً جميلاً! اللهم اجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، واستر عيبنا، وفك أسرنا، وتولى أمرنا، واكشف همنا، وأزل غمنا، واختم بالصالحات أعمالنا. يا غياث المستغيثين! يا غياث المستغيثين! يا غياث المستغيثين! يا مجيب المضطرين! يا مجيب المضطرين! يا كاشف الهم عن المهمومين، فرج كرب أمة سيد المرسلين، فرج كرب أمة سيد المرسلين، فرج كرب أمة سيد المرسلين! اللهم إنه لا إله لنا سواك فندعوه، ولا رب لنا غيرك فنرجوه، لا إله لنا سواك فندعوه، ولا رب لنا غيرك فنرجوه، يا من عليه يتوكل المتوكلون! يا من إليه يلجأ الخائفون! يا من إليه يلجأ الخائفون! يا من بعظيم فضله تبسط الأيدي ويسأل السائلون! يا من بعظيم فضله تبسط الأيدي ويسأل السائلون! يا ودود! يا ودود! يا ودود! يا ودود! يا ودود! يا ودود! يا ذا العرش المجيد! يا ذا العرش المجيد! يا فعال لما يريد! يا من ملأ نوره أركان عرشه! يا من ملأ نوره أركان عرشه! يا ألله! يا ألله! يا ألله! يا ألله! اللهم إنا نستغيث بك فأغثنا، اللهم إنا نستنصر بك فانصرنا، اللهم إنا نستعين بك فأعنا، اللهم إنا نستجير بك فأجرنا، اللهم إنا نستجير بك فأجرنا! اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم احفظ شيوخ المسلمين، وأطفال المسلمين، ونساء المسلمين! اللهم إنهم ضعاف فقوهم، اللهم إنهم أذلة فأعزهم، اللهم إنهم أذلة فأعزهم. يا رب ارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واستجب دعاءنا، اللهم استجب دعاءنا، اللهم استجب دعاءنا! إلهي وسيدي ومولاي لا تخيب فيك رجاءنا، لا تخيب فيك رجاءنا! اللهم اجعل مصر واحة للأمن والأمان وجميع بلاد المسلمين، ولا تجعل لأحد منا في هذا الجمع ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا طائعاً إلا زدته وثبته برحمتك يا أرحم الراحمين!

صرخات من القدس الجريح

صرخات من القدس الجريح إن ما يحدث للمسلمين على أرض فلسطين لأمر مهول تتفطر له الأكباد أسى، وتبكي له العيون دماً، والأدهى من ذلك ما نراه بالمسلمين من الصمت والخنوع والذل، وكأن الأمر لا يعنيهم، وكأنهم لا يسمعون الصرخات ولا الآهات، وكل هذا بسبب انحراف المسلمين عن منهج الله تعالى ودينه، وارتكابهم للذنوب والمعاصي، التي هي سبب الذل والتسلط من قبل أعداء الله تعالى.

صور مؤلمة مفجعة

صور مؤلمة مفجعة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده لله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته. وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأحبابه وأصحابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاًَ أيها الإخوة الفضلاء الأعزاء! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله الحليم الكريم جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى، في جنته ودار مقامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

وحشية في هتك الأعراض

وحشية في هتك الأعراض أحبتي في الله! والله إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، وإنا لما حل بأمتنا لمحزونون ففي كل بلد على الإسلام دائرةٌ يَنْهدُّ من هولها رضوى وثهلانُ ذبحٌ وصَلْبٌ وتقتيل بإخوتنا كما أَعدَّت لتُشفِي الحقدَ نيرانُ يستصرخون ذوي الإيمان عاطفة فلم يغثهم بيوم الروع أعْوُانُ هل هذه غَيرةٌ أم هذه ضعة للكفر ذكرٌ وللإسلامِ نسيانُ برك الدماء، وأكوام الأشلاء تجسد الفجيعة، وتحكي المأساة في كل بقاع الدنيا، في كل مكان ذُبِّح أبناؤنا تذبيح الخراف، بل لقد وضع الطفل على النيران ليشوى جسده أمام والده المسكين، وبعدما انتهى المجرمون من شي ولده وطفله أمام والده، قطعوا الطفل قطعاً صغيرة، وأجبروا والده تحت التهديد والتعذيب والوعيد أن يأكل من لحم ولده، ومن فلذة كبده، ومن ثمرة فؤاده، ثم بعد ذلك أطلقوا عليه النيران فقتلوه!! أختك أختك التي انتهك عرضها وضاع شرفها وها هي الآن يا ابن الإسلام تصرخ علينا وترجونا رجاءها الأخير أتدرون ما هو رجاؤها الأخير؟!! إن أختك التي انتهك عرضها وضاع شرفها تصرخ عليك الآن وتقول: أن اقتلوني واقتلوا العار بين أحشائي اقتلوا ولدي من السفاح والزنا!! هذا هو رجاؤها الأخير!! وذلك بعدما صرخت طويلاً طويلاً حتى انقطع صوتها وضاع أنينها وراح صوتها بعدما صرخت طيلة هذه الأشهر الماضية وهي تقول: وا إسلاماه وا إسلاماه وا معتصماه وامعتصماه، ولكن أين المعتصم؟ ما ثم معتصم يغيث من استغاث به وصاح ذبحوا الصبي وأمه وفتاتها ذات الوشاح وعدوا على الأعراض في انتشاء وانشراح يا ألف مليون وأيـ ـن هم إذا دعت الجراح ما ثم معتصم يغيث من استغاث به وصاح برك الدماء، وأكوام الأشلاء تجسد الفجيعة، وتحكي المأساة في كل مكان: في البوسنة، في الصومال، في كشمير، في الهند، في الفلبين، في بورما، في تركستان، في أفغانستان، في طاجكستان، في الجزائر، وأخيراً في فلسطين برك الدماء، وأكوام الأشلاء، ولا زال المشاهدون من كل بقاع الدنيا قابعين في مقاعدهم يشاهدون هذه المسرحية الهزلية المحرقة، منهم من يبارك هذه التصفية، وهذه الإبادة، ومنهم من جلس يمسح عينيه بمنديل حريري! ولكنه مع هذا ما زال مصراً على أن يقبع في مقعده ليشاهد آخر فصول هذه المسرحية الهزلية المحرقة!!

قتل الأطفال في أحضان آبائهم

قتل الأطفال في أحضان آبائهم طاردتني هذه الصور المؤلمة التي تحرق فؤاد كل مسلم حي، هذا إن كنا لا زلنا نحمل في الصدور أفئدة، إن كنا لا زلنا نحمل في الصدور قلوباً ما كفنت ولا حول ولا قوة إلا بالله! طاردتني كما طاردت كل مسلم صادق هذه الصورة المؤلمة التي تحرق القلب، صورة هذا الطفل المسكين الذي لا ذنب له ولا جريرة إلا أنه ولد فوق الثرى الطاهر، والأرض المباركة، فوق مسرى الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، وقام اليهود المجرمون الأنذال الذين لا يعرفون رحمة ولا شفقة، حتى بعدما احتمى الطفل في أبيه وراح يرفع يديه خائفاً من هؤلاء المجرمين، وراح الوالد المسكين يرفع يده مسلماً مستسلماً، ولكن هيهات هيهات هيهات. هيهات أن يعرف اليهود الرحمة؛ اللهم إلا إذا دخل الجمل في سَمَّ الخياط. فأطلقوا الرصاص على رأس هذا الطفل المسكين فأردوه قتيلاً، وإن شئت فقل: لقد قتلوا أباه وإن لم يمته الرصاص، تصور أن يموت ولدك بين يديك بهذه الصورة التي تحرق الأفئدة، والله لقد نظرت إلى أطفالي بالأمس القريب نظرت إليهم وتخيلت أن قاذفة من قاذفات العدو اليهودي قد سقطت على بيتي على أهلي وأولادي فتمزقت أشلاء أطفالي أمام عيني وبين يدي، والله عبثاً حاولت النوم فأنى للقلوب التي تعرف حقيقة الإيمان فأنى للقلوب التي ذاقت حلاوة الولاء والبراء أن تعرف طعم النوم، وأن تعرف طعم الراحة، والله لولا أن المصطفى في المصائب ذاق ما ذقناه لكانت المصيبة والمأساة! وصورة الطائرات والدبابات والصواريخ والمدفعية تدك بيوت الفلسطينيين العزل، الذين لا يملكون إلا إيماناً بالله عز وجل ثم الحجارة ثم الحجارة ثم الحجارة!!

هدم البيوت على ساكنيها

هدم البيوت على ساكنيها وطاردتني صورة امرأة عجوز يتساقط بيتها فوق رأسها، وهي تنظر إلى سقف البيت يتحطم ولا تملك أن تفعل شيئاً على الإطلاق. وطاردتني صورة الأقصى الجريح وهو يئن ويستجير، وهو يصرخ في المسلمين: وا إسلاماه وا إسلاماه وا إسلاماه لكن من يجيب؟!! من يجيب؟!! القدس يصرخ انتابتني حالة نفسية عجيبة، حالة نفسية مؤلمة، لكن من يجيب؟ كنت أصرخ، ولكن الصرخة في صحراء مقفرة في صحراء مهلكة: عبثاً دعوت وصحت يا أحرار عبثاً لأن قلوبنا أحجار عبثاً لأن عيوننا مملوءة بالوهم تظلم عندها الأنوار عبثاً لأن شئوننا يا قومنا في الغرب يفتل حبلها وتدار ولأننا خشب مسندة فلا ندري ماذا يصنع المنشار أما سقوط الأقصى فحالة مألوفة تجري بها الأقدار هذي شئون القدس ليس لنا بها شأن وما للمسلمين خيار يا ويحكم يا مسلمون قلوبكم ماتت فليست بالخطوب تثار أنكرتم الفعل الشنيع بقولكم شكراً لكم لن ينفع الإنكار شكراً على تنظيم مؤتمراتكم وعلى القرار يصاغ منه قرار وعلى تعاطفكم فتلك مزية فيكم تصاغ لمدحها الأشعار يا ويحكم يا مسلمون نساؤكم يسألن عنكم والدموع غزار هذي تساق إلى سراديب الهوى سوقاً وتلك يقودها الجزار لو أن سائحة من الغرب اشتكت في أرضكم لتحرك الإعصار أما الصغار فلا تسل عن حالهم مرض وخوف قاتل وحصار واليهود يذبحون ويقتلون ومالهم ناصر ودمع عيونهم مدرار يا ويحكم تنسون أن الضعف في وجه العدو مذلة وصغار هذي هي القدس يحرق ثوبها عمداً ويهتك عرضها الأشرار تبكي وأنتم تشربون دموعها وعن الحقائق زاغت الأبصار هذا هو الأقصى يُهَوَّد جهرة وبجرحه تتحدث الأخبار هذا هو الأقصى يطحنه الأسى وجموعكم يا مسلمون عار ملياركم لا خير فيه كأنما كتبت وراء الواحد الأصفار ما جَرَّأَ اليهودُ إلا صمتكم ولَكَمْ يَذِلُ بصمته المغوار خابت سياسة أمة غاياتها تحقيق ما يرضى به الكفار يا قدس أرسل دمع العين مدرارا عميق حزن وصب النَزف أنهارا يا قدس تاه الأهل والأحباب وعثت بأرض الأنبياء كلاب قدساه أرض النور دنسها الدجى والحق ضاع وتاهت الأنساب قادت قرود الإفك قافلة الهدى وسجى بوجه النائمين ذباب ليكود برآسة شارون قاد عصابة يعلو بها القدس مكر محدق وحراب طعنوا بها الشرفاء طعن مذلة فثوى بقدس المعجزات خراب والقبة العظمى تسيل دماؤها والقدس يبكي واشتكى المحراب وبدا اليهود بأرضنا وكأنهم أصحاب أرض ما لها أصحاب ضاعت فلسطين الجريحة واعتلى أقصى المساجد بالسواد ثياب قدساه أين الفاتحون أين عمر بن الخطاب؟!! أين أبو عبيدة ابن الجراح؟!! أين صلاح الدين؟!! أين محمود نور الدين؟!! أين قطز؟!! قدساه أين الفاتحون وعزهم أين الجهاد الحق والألباب ماذا أصاب المسلمين فهل ترى يجدي لديهم بالخطوب عتاب

اليهود نقضة العهود وحقيقة الغرب

اليهود نقضة العهود وحقيقة الغرب اليهود هم اليهود كررنا ذلك حتى بحت الأصوات، لكن الأمة لا تريد أبداً أن تصدق رب الأرض والسماوات، متى وَفَّى اليهود بعهد على طوال التاريخ؟!! قلت: لقد نقض اليهود العهود مع الأنبياء، ومع رب الأرض والسماء، وأسأل بمرارة: هل ينقض اليهود العهود مع الأنبياء، ورب الأرض والسماء، ثم يفي اليوم اليهود بالعهود للحكام والزعماء؟!! لقد ماتت عملية السلام، قلنا ذلك مراراً قبل ذلك فلم يصدقنا أحد. فحال أمتنا حال عجيبة وهي لعمر الله بائسة كئيبة يجتاحها الطوفان طوفان المؤامرة الرهيبة ويخطط المتآمرون كي يغرقوها في المصيبة وسيحفرون لها قبوراً ضمن خططهم الرهيبة قالوا السلام السلام السلام قلت: يعود الأهل للأرض السليبة وسيلبس الأقصى غداً أثواباً قشيبة فإذا سلامهم هو التنازل عن القدس الحبيبة فبئس سلامهم إذاً وبئست هذه الخطط المريبة فالمسجد الأقصى في الدماء له ضريبة قال ربنا الذي خلق اليهود، وهو وحده الذي يعلم من خلق: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، قال جل وعلا: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:100]، وقال جل وعلا: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ} [المائدة:13]، أي: على خيانة بعد خيانة. هذا كلام ربنا جل وعلا، ولا أريد أن أقف مع آيات القرآن، فالآيات كثيرة، قال جل جلاله: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة:60]. وقال جل وعلا: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78 - 79]، ها هو القرآن يُقرأ ويتلى في الليل والنهار، لكن من يصدق كلام العزيز الغفار؟! ومن يصدق كلام النبي المختار صلى الله عليه وسلم؟!

اليهود قوم بهت

اليهود قوم بهت اليهود قومُ بُهتٍ وقومُ خيانةٍ متخصصون في نقض العهود، والله الذي لا إله غيره لن تأتي في إسرائيل وزارة تحترم عهوداً أُبرمت في أوسلو، أو مدريد، أو تل أبيب، أو كامب ديفيد الأولى، لن تكون هناك وزارة أو حزب عمل أو حزب ليكود يحترم عهداً أو ميثاقاً، فهذه هي جبلة اليهود وطبيعتهم منذ أول لحظة هاجر فيها المصطفى إلى المدينة، وقام عبد الله بن سلام حبر اليهود الكبير، فنظر إلى وجه النبي فعرف أنه ليس بوجه كذاب، فشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وقال للمصطفى: يا رسول الله! إن اليهود قوم بهت، -أي: أهل ظلم ينكرون الحقائق- فاكتم عنهم خبر إسلامي وسلهم عني، فجمع النبي بطون اليهود، وقال لهم: (ما تقولون في عبد الله بن سلام؟! قالوا: سيدنا وابن سيدنا! وحبرنا وابن حبرنا! فقام عبد الله بن سلام إلى جوار رسول السلام صلى الله عليه وسلم، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فرد اليهود الكلاب المجرمون على لسان وقلب رجل واحد في حق عبد الله بن سلام قالوا: هو سفيهنا وابن سفيهنا وجاهلنا وابن جاهلنا!!). هذه طبيعة اليهود منذ اللحظات الأولى لم تتغير ولن تتغير، فمتى يفيق النائمون؟! متى يفيق النائمون؟! متى يفيق النائمون؟! ليعلم الكل علم اليقين أن أمريكا ليست شريكاً نزيهاً في عملية السلام، كلا وألف كلا، فالكفر ملة واحدة، الكفر ملة واحدة، الكفر ملة واحدة، لا يمكن أبداً أن تنصر أمريكا قضية من قضايا الأمة، لا يمكن أبداً لهيئة الأمم أن تنصر قضية من قضايا الأمة، لا يمكن أبداً أن يتدخل حلف الناتو لينصر الأقلية المستضعفة من العزل المدنيين في فلسطين، من أجل سواد عيون الأمة، ولا تُخْدَعوا بتدخل حلف الناتو في كوسوفا؛ لأنهم ما تدخلوا إلا لمصالحهم الاقتصادية والعسكرية والاستراتيجية.

الكفر ملة واحدة

الكفر ملة واحدة لا ينبغي أن يجهل الآن مسلم أو مسلمة على وجه الأرض أن الكفر لا ينصر توحيداً الكفر لا ينصر إسلاماً الكفر ملة واحدة، إنهم يشاهدون على شاشات التلفاز كل ليلة ما يحدث لإخواننا وأخواتنا وأطفالنا في فلسطين، لكن: أين النظام العالمي أما له أثر ألم تنعق به الأبواق أين السلام العالمي لقد بدا كذب السلام وزاغت الأحداق يا مجلس الخوف الذي في ظله كُسر الأمان وضيع الميثاق أو ما يحركك الذي يجري لنا أو ما يثيرك جرحنا الدفاق وحشية يقف الخيال أمامها متضائلاً وتمجها الأذواق هذا هو الغرب يا من خُدِعتم بالغرب طيلة السنين الماضية. هذا هو الغرب أيها المرجفون يا من تعزفون على وتر التقديس والتمجيد للغرب في كل المناسبات!! قالوا لنا ما الغرب قلت صناعة وسياحة ومظاهر تغرينا لكنه خاوٍ من الإيمان لا يرعى ضعيفاً أو يسر حزينا الغرب مقبرة المبادئ لم يزل يرمي بسهم المغريات الدينا الغرب مقبرة العدالة كلما رُفعت يد أبدى لها السكينا الغرب يكفر بالسلام وإنما بسلامه الموهوم يستوهينا الغرب يحمل خنجراً ورصاصة فعلام يحمل قومنا الزيتونا كفرٌ وإسلامٌ فأنى يلتقي هذا بذلك أيها اللاهونا أنا لا ألوم الغرب في تخطيطه لكن ألوم المسلم المفتونا وألوم أمتنا التي رحلت على درب الخضوع ترافق التنينا وألوم فينا نخوة لم تنتفض إلا لتضربنا على أيدينا يا مجلس الأمن! يا مجلس الخوف! شكراً شكراً لقد أبديت وجه حضارة غربية لبس القناع سنينا شكراً لقد نبهت غافل قومنا وجعلت شك الواهمين يقينا يا مجلس الأمن انتظر إسلامنا سيريك ميزان الهدى ويرينا إن كنت في شك فسل فرعون عن غرقٍ وسل عن خسفه قارونا

متى يفيق النائمون؟!

متى يفيق النائمون؟! متى يفيق النائمون؟! فشهداؤنا بين المقابر يهمسون والله إنا قادمون والله إنا عائدون والله إنا راجعون شهداؤنا خرجوا من الأكفان وانتصبوا صفوفاً ثم راحوا يصرخون عار عليكم أيها المستسلمون وطن يباع! وأمة تنساق قطعاناً وأنتم نائمون! شهداؤنا قاموا وزاروا المسجد الأقصى وطافوا في رحاب القدس واقتحموا السجون في كل شبر من ثرى الوطن المكبل ينبتون!! في كل ركن من ربوع الأمة الثكلى أراهم يخرجون شهداؤنا وسط المجازر يهتفون الله أكبر إنا عائدون شهداؤنا يتقدمون أصواتهم تعلو على أسوار فلسطين الحزينة في الشوارع في المفارق يهدرون إني أراهم في الظلام يحاربون!! إني أراهم في الظلام يحاربون!! رغم انكسار الضوء في الوطن المكبل بالمهانة والمجون شهداؤنا وسط المجازر يهتفون والله إنا عائدون والله إنا عائدون والله إنا عائدون! أكفاننا ستضيء يوماً في رحاب القدس سوف تعود تقتحم الحصون شهداؤنا في كل شبر يصرخون يا أيها المتنطعون كيف ارتضيتم أن ينام الذئب في وسط القطيع وتأمنون؟! وطنٌ بعرض الكون يعرض في المزاد وطغمة الجرذان في الوطن الجريح يتاجرون أحياؤنا الموتى على الشاشات في صخب النهاية يسكرون من أجهض الوطن العريق وكبل الأحلام في كل العيون يا أيها المتشرذمون والله إنا قادمون شهداؤنا في كل شبر في البلاد يزمجرون جاءوا صفوفاً يسألون يا أيها الأحياء ماذا تفعلون في كل يوم كالقطيع على المذابح تصلبون تتسربون على جناح الليل كالفئران سراً للذئاب تهرولون وأمام أمريكا تقام صلاتكم فتسبحون وتطوف أعينكم بها وفوق ربوعها الخضراء يبكي الساجدون صور على الشاشات جرذان يصافح بعضها والناس من ألم الفجيعة يضحكون تباع أوطان وتسقط أمة ورءوسكم تحت النعال وتركنون تسلم القدس العريقة للذئاب ويسكر المتآمرون القدس تسألكم أليس لها حق عليكم أين فر الرافضون أين غاب البائعون أين راح الهاربون الصامتون الغافلون الكاذبون صمتوا جميعاً والرصاص الآن يخترق العيون وإذا سألت سمعتهم يتصايحون هذا الزمان زمانهم في كل شيء في الورى يتحكمون لا تسرعوا في موكب البيع الرخيص فإنكم في كل شيء خاسرون لن يترك الطوفان شيئاً كلكم في اليم يوماً غارقون تجرون خلف الموت والنخاس يجري خلفكم وغداً بأسواق النخاسة تعرضون لن يرحم التاريخ يوماً من يفرط أو يخون! لن يرحم التاريخ يوماً من يفرط أو يخون! لن يرحم التاريخ يوماً من يفرط أو يخون! كُهاننا يترنحون فوق الكراسي هائمون في نشوة السلطان والطغيان راحوا يسكرون وشعوبنا ارتاحت ونامت في غيابات السجون نام الجميع وكلهم يتثاءبون فمتى يفيق النائمون متى يفيق النائمون متى يفيق النائمون متى سترجع الأمة إلى ربها سبحانه وتعالى وإلى نبيها صلى الله عليه وسلم؛ لتحقق المنهج منهج الله في الأرض؛ لتكون أهلاً لنصرة الله؟! فالأمة تملك مقومات النصر، نعم. الأمة تمتلك الآن مقومات النصر.

انحراف الأمة سبب في ذلها

انحراف الأمة سبب في ذلها وهنا يثور السؤال المرير: ما الذي أوصل الأمة إلى هذه الحالة المزرية من ذل، وضعف، وهوان، وتشرذم، وتشتت؟! تقسمت الأمة إلى أجزاء، بل وتفتتت الأجزاء هي الأخرى إلى أجزاء! ما الذي أوصل أمة القرآن إلى هذه الحالة المزرية التي نراها عليها الآن؟!! وانتبه أيها الحبيب! لتتعرف على الجواب في كلمات قليلة حاسمة قاطعة من قول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]. ورب الكعبة لقد غيرت الأمة وبدلت، وحرفت وابتعدت الأمة كثيراً عن المنهج الرباني الذي جاء به الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم. يا شباب الصحوة! هذه سنة ربانية ثابتة ينبغي أن تستقر في القلوب قبل الأذهان والعقول.

انحراف الأمة في جانب العقيدة

انحراف الأمة في جانب العقيدة إن الأمة قد انحرفت كثيراً عن المنهج الرباني في جانب العقيدة في جانب العبادة في جانب التشريع في جانب الاتباع في جانب الأخلاق والمعاملات والسلوك. ابتعدت الأمة كثيراً كثيراً إلا من رحم ربك عن المنهج الرباني الذي جاء به رسول الله. نرى العقيدة الآن تذبح شر ذبحة على أيدي الكثيرين من أبناء الأمة إلا من رحم ربك، والله جل وعلا يقول: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62]. استمعنا بأم آذاننا على شاشات الشيطان الأكبر الموسوم بالتلفاز من يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حدوث الحادث العمم وإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم نرى العقيدة الآن تذبح شر ذبحة!

انحراف الأمة في جانب العبادة

انحراف الأمة في جانب العبادة وفي جانب العبادة: نرى كثيراً من صور العبادة الظاهرة والباطنة قد صرفت لغير الله جل وعلا، ذبح لغير الله! وسأل الناس غير الله! واستعان كثير من الناس بغير الله! وفوض كثير من الناس الأمور لغير الله! بل ووثقت القلوب ببعض قوى الأرض وببعض دول الأرض أكثر من ثقتها بخالق السماوات والأرض جل وعلا، والله سبحانه وتعالى يأمر نبيه ويقول: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163].

انحراف الأمة في جانب التشريع

انحراف الأمة في جانب التشريع أما في جانب التشريع فابك دماً بدل الدمع، والله لقد وقع ما لم يكن يخطر ألتبة لمخلوق مسلم على بال! ضيعت الأمة شريعة الكبير المتعال حرفت الأمة شرع ربها واستبدلت الأمة بالعبير بعراً وبالثريا ثرى وبالرحيق المختوم حريقاً محرقاً مدمراً. أبت الأمة إلا أن تناقض قول ربها جل وعلا إذ يقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:57]، فأبى كثير من أبناء الأمة إلا أن يقول: إن الحكم إلا للمجالس الشعبية، وللمجالس النيابية، وللبيوت البيضاء والسوداء والحمراء، والله جل وعلا يقول: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50]. غيرت الأمة شريعة ربها، يقرأ المسلم الآن في قرآن ربه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:6]، ويلتزم بهذا الأمر الإلهي، ويضيع في نفس السورة قول ربه: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]. يلتزم بقول الله في سورة البقرة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183]، ويضيع في نفس السورة قول ربه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة:178]. انفصام نكد، ضيعت الأمة إلا من رحم ربك شريعة ربها!!

انحراف الأمة في جانب الاتباع

انحراف الأمة في جانب الاتباع واستبدلت الأمة بالعبير بعراً، وبالثريا ثرى، وبالرحيق المختوم حريقاً محرقاً مدمراً. وفى جانب الاتباع تغنت الأمة بحبها لرسول الله، وخرجت طائفة من الأمة تسخر بسنته وتهزأ بأوامره فاللحية عفن! والنقاب خيمة! والخنزير الذي حرمه القرآن كان خنْزيراً هزيلاً في أرض الجزيرة أما خنازير اليوم فإنها تربى تحت العناية الطبية، وتحت الرعاية الصحية، فما الداعي لتحريمها؟ والخمر الذي حرمه القرآن كان قديماً، أما خمر اليوم فما الداعي لتحريمها وهي التي تسمى بالمشروبات الروحية!! وهكذا ادعت الأمة حب نبيها واتباع نبيها وسخرت من شريعته واستهزأت بسنته ولا حول ولا قوة إلا بالله!

انحراف الأمة في جانب الأخلاق والمعاملات

انحراف الأمة في جانب الأخلاق والمعاملات أما في جانب الأخلاق والمعاملات والسلوك فحدث ولا حرج، كثر الغش، وقل الصدق، وانتشر الخداع، وقُدِّمَ الفارغون الخائنون، وأُخِّرَ الصادقون، وصدق في الأمة قول الصادق المصدوق كما في الحديث الذي رواه ابن ماجة في سننه وهو حديث صحيح: (سيأتي على الناس سنوات خداعة يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة، قيل: وما الرويبضة يا رسول الله؟! قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة). غيرت الأمة أيها الأحباب! والله عز وجل يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]، ولكن أنا لا أريد أن أسكب القنوط واليأس في قلوبكم، ولكنني أريد أن أشخص الداء ولو كان مراً بطعم الحنظل، لنحدد الدواء الناجع لهذا الداء. أيها الأحبة الكرام! لن أطيل عليكم أكثر من ذلك، فإني أرى كثيراً من الأحبة تحت الشمس المحرقة في خارج المسجد، أسأل الله أن يأجرنا وإياكم على هذه اللحظات، وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

موعود الله للمؤمنين في القرآن والسنة

موعود الله للمؤمنين في القرآن والسنة الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام! إننا نستبشر خيراً ولكن بشرط، وما هو هذا الشرط؟! أن تعلن الأمة الآن الجهاد في سبيل الله، وسَيُهْزَم اليهود، لا أقول ذلك رجماً بالغيب، ولا من ضغط الواقع المرير، ولا من باب الأحلام الوردية الجاهلة، ولا من باب الجهل بالواقع الذي تعيشه أمتنا ونحياه الآن بكل مآسيه، كلا، وإنما أقول ذلك من منطلق الحقائق الربانية والنبوية، فهو كلام ربنا، وكلام نبينا الصادق الذي لا ينطق عن الهوى. تدبروا معي هذه الآية التي قرأتموها وسمعتموها جميعاً، لكن قل من انتبه إليها، ووقف معها ليتدبرها، ألا وهي قول الله في سورة آل عمران في حق اليهود: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} [آل عمران:111]، فهل تصدقون الله رب العالمين؟! وقال سبحانه: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر:14] وقلوبهم شتى هذا كلام الخالق الذي يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير. وقال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [الأعراف:167]، وقال جل وعلا: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} [الإسراء:104].

دورنا تجاه إخواننا المسلمين

دورنا تجاه إخواننا المسلمين أما أنت والدي الفاضل! وأنت أخي الحبيب! وأنت أختي الفاضلة! قد يسألني الجمع بين يدي الآن: فماذا نصنع نحن؟ وما دورنا؟ أقول: لو خرجتم اليوم بهذه العقيدة، بعقيدة الولاء والبراء بعقيدة الحب لله ولرسوله ثم بتحويل هذه العقيدة والحب لرسول الله في حياتكم إلى واقع عملي، وإلى منهج حياة، وتبرأتم من اليهود، ومن الشرك والمشركين، وعلَّمتم نساءكم وبناتكم وأولادكم هذه العقيدة، وأُشْرِبَ الجيلُ هذه العقيدة، فإن هذه خطوة عملية على الطريق. والله لن يسألنا عن النتائج بل أمرنا أن نبذل أقصى ما في طوقنا، وهذا هو الآن ما في مقدورنا نحن الضعفاء، ولندع النتائج بعد ذلك إلى الله. ثانياً: ليستعد الآن كل رجل منكم للمرحلة المقبلة والله إن المرحلة القادمة لخطيرة، وقد ينادى عليك بين عشية وضحاها إذا ما تعرض الجميع لحرج أمام اليهود قد ينادى عليك بين عشية وضحاها لمن تابع سنن الله الربانية في الكون قد ينادى عليك بالخروج للجهاد في سبيل الله، فإن المرحلة هذه قادمة والله قادمة! ولابد أن تستعد لابد أن تعد قلبك وأن تعد نفسك وأن تعد نساءك وأن تعد بناتك وأن تعد أولادك لمثل هذا اليوم. وسل الله بصدق أن يبلغك الشهادة، قال صلى الله عليه وسلم: (من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء ولو مات على فراشه). ما تريدون بعد ذلك؟ لكن المصيبة التي تحطم القلوب أن المسلم لا يحمل في قلبه هماً للدين! ولا هماً لإيذاء سيد النبيين، فكيف يتحرك هذا بعد ذلك للجهاد؟! لابد أن تحترق القلوب ابتداءً، لابد أن يعلم الله وأن يرى الله منا أنه ما حبسنا عن رسول الله إلا العذر. اللهم بلغ عنا رسولك أنه ما حبسنا إلا العذر؛ ليرى الله من قلوبنا أنه ما حبسنا إلا العذر. وأبشركم بهذه البشارة بشارة تكسب الأمل في القلوب الجريحة، والحديث رواه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود وغيرهم، أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن بالمدينة أقواماً ما قطعتم وادياً، ولا سرتم مسيراً، ولا أنفقتم من نفقة إلا كانوا معكم، شاركوكم الأجر، قالوا: كيف ذلك يا رسول الله وهم بالمدينة؟! قال المصطفى: حبسهم العذر)، اللهم بلغ عنا رسولك أنه ما حبسنا إلا العذر. وقد بوب الإمام البخاري في صحيحه في كتاب الجهاد باباً رقراقاً يسكب الأمل في القلوب، وعنون له بهذا العنوان، قال البخاري: باب من حبسه العذر عن الغزو. يا راحلين إلى البيت العتيق لقد سرتم جسوماً وسرنا نحن أرواحا إنا أقمنا على عذر نكابده ومن أقام على عذر كمن راحا أسأل الله جل وعلا أن يقر أعيننا وإياكم بنصرة الإسلام وعز الموحدين. اللهم انتقم لنبيك يا رب العالمين اللهم انتقم لنبيك يا رب العالمين اللهم اثأر لنبيك يا رب العالمين اللهم إن الأمة قد خذلت نبيك فاثأر لنبيك اللهم إن الأمة قد خذلت نبيك فاثأر لنبيك اللهم بلغ عنا رسولك عذرنا اللهم بلغ عنا رسولك عذرنا اللهم بلغ عنا رسولك عذرنا اللهم اكتب النصر للمستضعفين، يا من هزمت الأحزاب وحدك اهزم اليهود المغتصبين!! يا من هزمت الأحزاب وحدك اهزم اليهود المغتصبين!! اللهم رد الأمة إليك رداً جميلاً اللهم احم مصر من الفتن ما ظهر وما بطن برحمتك يا رب العالمين! وجميع بلاد المسلمين. اللهم اكفنا شر الظالمين اللهم اكفنا شر المجرمين اللهم اكفنا شر الحاقدين

إفساد اليهود المذكور في القرآن

إفساد اليهود المذكور في القرآن وها هم اليهود يأتون ألفافاً من كل بقاع الأرض؛ ليتحقق وعد الله في آية الإسراء الأولى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا * إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} [الإسراء:4 - 7]. تدبروا معي الآيات! لنقف مع هذه البشارة العظيمة، فالحق وإن انزوى كأنه مغلوب فإنه ظاهر، والباطل وإن انتفش كأنه غالب فإنه زاهق: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81]: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء:18]. تدبر معي قول رب العالمين: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء:4]، إذا جاء وقت المرة الأولى لتدمير ما شيد اليهود: {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا} [الإسراء:5]،أي: بعث الله على اليهود عباداً له ليسوموا اليهود سوء العذاب. اختلف المفسرون في كتب التفسير، فقد قرأت ما يزيد على عشرين تفسيراً في هذه الآيات، فوجدت أن جُل المفسرين قد فسروا هذه الآيات بأن الذي سُلط على اليهود هم البابليون أو الرومان أو بختنصر، أو نبوخذ نصر، فتدبرت الآيات مراراً وتكراراً ووقفت مع بعض أهل العلم من المحققين الذين قالوا: بأن الله تبارك وتعالى يقول: (بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا)، فالعبودية إذا نُسبت لله لا تكون أبداً إلا للموحدين. قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ} [الفرقان:63]، وقال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر:42]، وقال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1]، وقال تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [الجن:19]، وقال تعالى: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة:23]. إذاً: العبودية إن نُسبت لله تعالى وكانت خالصة له فهي من المؤمنين الصادقين، والبابليون وثنيون، والرومانيون وثنيون، وبختنصر وثني ليس بمسلم، فكيف يقال بأن هؤلاء تنطبق عليهم الآية؟! كلا كلا إذاً: من هم عباد الله الذين سلطهم الله على اليهود أول مرة؟ إنهم أصحاب المصطفى، نعم، إنهم أصحاب المصطفى، فهم الذين طردوا اليهود من بني النضير من بني قينقاع من خيبر من بني قريظة وأخرجوهم من المدينة. ثم الصحابة هم الذين دخلوا المسجد أول مرة بقيادة أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، يوم نزل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب من المدينة ليتسلم مفاتيح بيت المقدس بيده، وليكتب لليهود ولأهل بيت المقدس العهدة العمرية المعروفة، ليكتب لأهل بيت المقدس من أهل إيليا العهدة العمرية المشهورة، وقد تحدثت عنها بالتفصيل قبل ذلك. إذاً: أصحاب النبي هم عباد الله الذين دخلوا المسجد أول مرة، ولذلك تدبر معي قول الله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ} [الإسراء:5 - 6] أي: على هؤلاء العباد الذين انتصروا عليكم. وها نحن نرى الكرة قد أعيدت لليهود علينا، أي: على أبناء أصحاب النبي من الموحدين والمؤمنين: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ} [الإسراء:6] أي: أمد الله اليهود بأموال، (وَبَنِينَ) وها نحن نرى أبناء اليهود من كل بقاع الأرض يجتمعون: {وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا}، والنفير هو نفير الحرب، وهأنتم ترون اليهود يمتلكون إلى الآن مائتي قنبلة نووية، وتمد اليهود أمريكا بالسلاح {وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا}. ثم قال لهم ربهم سبحانه: {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ} أي: المرة الثانية والأخيرة {لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ} أي: ليسوء وجوهكم عباد الله من الموحدين والمؤمنين، {وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ}، اللهم عجل بهذه المرة يا أرحم الراحمين! {وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا}. وها هو نبينا الصادق الذي لا ينطق عن الهوى -كما في مسند أحمد وغيره بسند صحيح- (أنه وضع يوماً يده على رأس أبي الحوالة الأزدي رضي الله عنه، ثم قال النبي لـ أبي حوالة: يا أبا حوالة! إذا رأيت الخلافة قد نزلت الأرض المقدسة فقد دنت الزلازل والبلايا، والأمور العظام، والساعة يومئذ أقرب إلى الناس من يدي هذه من رأسك). وفى الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون). والله لا عزة للأمة ولا كرامة للأمة بعد ما فعل اليهود ما فعلوا، إلا أن ترفع الأمة راية الجهاد في سبيل الله، فليرفعها زعيم واحد من زعماء العرب، وسينضوي تحت راية الجهاد في سبيل الله بقيادته ملايين الشباب من على وجه الأرض، ممن تحترق قلوبهم وتتشوق للشهادة في سبيل الله. يا إخوة! كونوا على يقين جازم بأن الأمة لا ينقصها شيء من عدد وعدة وعتاد وقوة، ولكن الأمة مهزومة من نفسيتها ومن داخلها، تحتاج إلى أن يرفع قائد واحد راية الجهاد في سبيل الله، ووالله حينئذٍ ليتمن الله وعده. الله جل وعلا ما أمر الأمة إلا أن تعد قدر استطاعتها: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60]، إذا كان هذا الإعداد هو أقصى ما تملكه الأمة فما عليها بعد ذلك إلا أن تضحي بعشرات الآلاف من شبابها، ممن يتشوقون الآن للشهادة في سبيل الله، وأن ترفع راية الجهاد، فلا عز لها ولا كرامة إلا بالجهاد، وهذا هو كلام ربنا، وكلام الصادق نبينا، قال عليه الصلاة والسلام كما في مسند أحمد وسنن أبي داود -والحديث صححه الشيخ الألباني - من حديث ابن عمر، أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا تبايعتم بالعينة ورضيتم بالزرع، وتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد في سبيل الله؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم).

لا تخونوا الله والرسول

لا تخونوا الله والرسول للأمانة شأن عظيم، وقد أخبر الله عز وجل أن السماوات والأرض والجبال أبين أن يحملنها، وحملها الإنسان لظلمه وجهله، فيجب على كل مسلم أداء الأمانة، واجتناب الخيانة، والخيانة أنواع، وأشدها تحريماً وإثماً خيانة الله ورسوله؛ وذلك بترك أوامرهما، وانتهاك نواهيهما.

تفسير قوله تعالى: (يا أيهاالذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول)

تفسير قوله تعالى: (يا أيهاالذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول) بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة؛ فكشف الله به الغمة. فاللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة الأخيار! وأيتها الأخوات الفاضلات! وطبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله الحليم الكريم جل وعلا الذي جمعني مع حضراتكم في هذا الجمع المهيب المبارك على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار مقامته؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! (لا تخونوا الله والرسول) هذا هو عنوان لقاءنا في هذا اليوم المبارك، وسوف أركز الحديث في هذا الموضوع في العناصر التالية: أولاً: في رحاب آية. ثانياً: خيانة على المستوى العالمي. ثالثاً: خيانة على مستوى الأمة. رابعاً: خيانة على مستوى الأفراد. فأعيروني القلوب والأسماع؛ فإن هذا الموضوع الآن من الأهمية بمكان، وأرجئ الحديث في الطريق إلى القدس إلى محاضرة أخرى إن شاء الله تعالى، أسأل الله أن ييسر ويذلل هذا الطريق.

سبب نزول قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله)

سبب نزول قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله) أولاً: في رحاب آية: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27]. ذكر المفسرون أن هذه الآية الكريمة من سورة الأنفال نزلت في حق أبي لبابة بن عبد المنذر، وهو صحابي جليل رضي الله عنه، بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى يهود بني قريظة لما نقضوا العهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحرج الأوقات، فلقد حاصر الأحزاب من المشركين المدينة من كل جانب، وكان بين رسول الله وبين اليهود عهد، فترك داخل المدينة مع اليهود النساء والأطفال والأموال، ولكن اليهود متخصصون في نقض العهود كما ذكرنا ذلك مراراً، فلقد نقض اليهود العهد مع الله جل وعلا، ومع جميع الأنبياء والمرسلين، وأسأل بمرارة وأقول: أفينقض اليهود العهود مع الأنبياء والمرسلين بل ومع رب العالمين ثم بعد ذلك يفي اليهود بالعهود للزعماء والحكام؟! لقد نقض اليهود العهد في أحرج الأوقات، حتى بلغت القلوب الحناجر، فالمشركون يحاصرون المدينة من كل جانب، ونقض اليهود داخل المدينة العهد؛ فشكلوا تحدياً داخلياً خطيراً مروعاً، حتى قال المنافقون يومها قولتهم الخبيثة: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب:12]. بل لقد قام النبي صلى الله عليه وسلم يتضرع إلى الله جل وعلا -كما في الصحيحين من حديث عبد الله بن أبي أوفى - ويقول: (اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم) واستجاب الله لدعاء نبيه صلى الله عليه وسلم، فأرسل جندياً من عنده، قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31]، فأرسل الله الريح فكفأت قدور الأحزاب، واختلعت خيامهم، وقذف الله الرعب في قلوبهم، وتبعثروا في أرض الصحراء كتبعثر الفئران، وهزم الله الأحزاب وحده، ونصر عبده، وأعز جنده جل جلاله، ومنَّ الله على النبي والمؤمنين بهذا النصر الذلول، ودخل النبي بيت عائشة ووضع سلاحه، وخلع لباس الحرب؛ وإذ به يرى جبريل عليه السلام ما زال يلبس لباس الحرب، ويقول للرسول صلى الله عليه وسلم: (أوقد وضعت سلاحك يا رسول الله؟! فإن الملائكة لم تضع أسلحتها بعد، فقم بمن معك إلى يهود بني قريظة، فإني سائر أمامك؛ لأقذف الرعب في قلوبهم، ولأزلزل حصونهم)، والحديث في الصحيحين من حديث عائشة، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر منادياً أن ينادي في أصحابه: (من كان طائعاً مطيعاً فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة)، فخرج الأطهار الأبرار، وخرج أمامهم النبي المختار، وكان جبريل قد انطلق بمجموعة من الكتائب الملائكية؛ ليقذف الرعب في قلوب يهود بني قريظة، وليزلزل بهم حصونهم. وهنالك حاصر المسلمون يهود بني قريظة خمساً وعشرين ليلة على الراجح من أقوال المحققين من أهل العلم، حتى نزل اليهود على حكم سعد بن معاذ، لكنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يرسل إليهم أبا لبابة بن عبد المنذر؛ ليستشيروه في هذا الأمر، ولماذا أبو لبابة؟ لأنه كان حليفاً لليهود، وكان ماله وعياله عندهم، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم أبا لبابة إلى يهود بني قريظة، فاستشاروه -فتدبروا معي أيها الأفاضل! - فأشار عليهم أبو لبابة إشارة بيده دون أن ينطق، أشار بيده إلى حلقه، يعني: إنه الذبح، فإن نزلتم على حكم سعد بن معاذ فسيقتل رجالكم، وتسبى الذرية، وتقسم الأموال، وقد صرحت رواية الإمام أحمد بسند حسنه العلامة أحمد شاكر رحمه الله تعالى بأن أبا لبابة قد قال بالفعل: إنه الذبح، يعني: ستذبحون، فتصوروا وتدبروا ماذا فعل أبو لبابة، أشار إلى حلقه فقط أو قال: إنه الذبح. قال أبو لبابة: (فوالله! ما تحركت قدماي إلا وقد علمت أني قد خنت الله ورسوله) فعاد إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانظروا إلى هذه الضمائر التي رباها القرآن، انظروا إلى هذه القلوب والمشاعر التي ربها النبي عليه الصلاة والسلام، أشار أو قال كلمة فعلم أنه قد وقع في الخيانة، فعاد إلى المسجد النبوي وربط نفسه في سارية، أي: في عمود من أعمدة المسجد، وأقسم بالله ألا يأكل طعاماً أو شراباً حتى يموت أو يتوب الله عليه، ومكث في هذا الموطن تسعة أيام لا يذوق طعاماً حتى أشرف على الهلاك والموت بالفعل إلى أن أنزل الله عز وجل توبته على النبي صلى الله عليه وسلم، وأنزل عليه قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27]، فلم يخرجه بهذا الذنب من الإيمان، ولا من صفوف المسلمين، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال:27]. وجاء بعض الصحابة وهم يتهللون فرحاً إلى أبي لبابة بن عبد المنذر في المسجد النبوي، وأرادوا أن يفكوا قيده فأبى وقال: (والله! لا يفك قيدي إلا رسول الله بنفسه!) فجاءه النبي صلى الله عليه وسلم ففك قيده بيده، وقرأ عليه الآية، وبشره بتوبة الله عليه، فقال أبو لبابة: (يا رسول الله! إني كنت قد نذرت لله أن أخرج من كل مالي إن تاب الله عليّ) فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (يجزيك الثلث) أي: تصدق بالثلث فحسب، هذا هو سبب من أسباب نزول هذه الآية. وقد ذكر بعض المفسرين أن الآية نزلت في حق حاطب بن أبي بلتعة، وقصة حاطب بغير سبب النزول ثابتة في الصحيحين، فلقد أمر النبي الصحابة أن يكتموا خبر خروجه إلى مكة فاتحاً؛ حتى يفتح مكة على غرة دون أن تسفك دماء في بلد الله الحرام، ولكن حاطب بن أبي بلتعة في لحظة ضعف أراد أن تكون له مكانة عند المشركين في مكة، فكتب كتاباً، ووضعه في شعر امرأة، وانطلقت المرأة بهذا الكتاب لتخبر المشركين في مكة بغزو رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم. ولكن الله أطلع نبيه على خبر هذا الكتاب، فأرسل النبي علياً رضي الله عنه مع نفر من أصحابه، فأحضر هذا الكتاب من شعر هذه المرأة، ودفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فطلب النبي صلى الله عليه وسلم حاطب بن أبي بلتعة، فاعترف حاطب وأقر بذنبه، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (دعني أضرب عنقه يا رسول الله! فلقد خان الله ورسوله والمؤمنين) فماذا قال من هو بالمؤمنين رءوف رحيم؟ ماذا قال الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، الذي يعلم طبائع البشر، ويعلم أن الإنسان مهما علا كعبه ومهما بلغت منه الطاعة، فمن الجائز جداً أن يزل في أي لحظة من اللحظات، في لحظة ضعف بشري لا ينفك عنها إنسان إلا إن كان نبياً أو رسولاً معصوماً من الله جل وعلا. قال النبي لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لا -يا عمر - إنه ممن شهد بدراً، ولعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) وفي رواية في الصحيح: (لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: أعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة). أيها الأخيار! نجاه سابق عمله وصدق عطائه للإسلام من هذه التهمة النكراء، من أن يكون خائناً لله ولرسله وللمؤمنين، ولابد أن ينتبه شباب الصحوة لهذا الدرس. قال الإمام القرطبي في كتابه (الجامع لأحكام القرآن الكريم): الناس صنفان: صنف قد اشتهر بين الناس بالصلاح والدين، فهذا إن زل وجب على أهل الإيمان أن يصبروا عليه. والصنف الآخر صنف يجاهر بمعصيته وذنوبه، فهذا لا غيبة له، يجب على أهل الفضل -إن نصحوه وذكروه وما زال مصراً على معصيته- أن يبكتوه بما فيه؛ كي يحذر الناس شره وفسقه. أما أهل الصلاح فإن زل أحدهم أو إن أخطأ أحدهم فواجب على أهل الإيمان أن يستروا عليه، وألا يكونوا للشيطان عوناً على أخيهم إن زلت قدمه في بؤرة من بؤر المعاصي أو حفرة من حفر الذنوب في لحظة ضعف بشري لا ينفك عنها إلا نبي أو رسول معصوم من قبل الله جل وعلا. وقال الحافظ ابن كثير: والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالآية عامة في التحذير من الوقوع في خيانة الله ورسوله والمؤمنين في كل زمان ومكان. وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال:27]، هذا نداء لمن حقق الإيمان، والإيمان ليس كلمة ترددها الألسنة دخاناً يطير في الهواء فحسب، ولكن الإيمان قول باللسان، وتصديق بالجنان، وعمل بالجوارح والأركان.

خيانة على المستوى العالمي

خيانة على المستوى العالمي قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27]، أستطع أن أقسم الخيانة إلى ثلاثة أقسام: الأول: خيانة على المستوى العالمي. الثاني: خيانة على مستوى الأمة. الثالث: خيانة على مستوى الأفراد. وهذا هو عنصرنا الثاني من عناصر اللقاء بإيجاز. أما الخيانة على المستوى العالمي فإنها الخيانة التي فاح عفنها ونتنها في كل البقاع والأصقاع، إنها خيانة عالمية، خيانة يخطط لها في البيت الأبيض، وفي البيت الأحمر في الكرملن، مروراً بمنظمة هيئة الأمم المتحدة، ومروراً بحلف الأطلسي، ومروراً بالنظام والاتحاد الأوروبي، كل هذه الهيئات وكل هذه المنظمات وكل هذه الأحلاف الدولية تؤصل الآن للخيانة تأصيلاً، إنها خيانة أزكمت الأنوف بعفنها ونتنها، فأي قانون وأي عرف وأي جيل يقر هذه الخيانة العفنة التي تجري الآن منذ أشهر وسنوات على أرض فلسطين؟! وأي عرف وأي ميثاق يقر هذه الخيانة العفنة النتنة التي تمارس على خشبة المسرح العالمي؟ لقد جلس النظام الغربي على مقاعد هذا المسرح العالمي ليصفق بقوة وحرارة وجدارة للجندي اليهودي الجبان الغشوم الظالم، وقف النظام الغربي الخائن كله ليصفق لهؤلاء المجرمين، بل ليمنحهم السلاح لا من وراء ستار، بل على مرأى ومسمع من العالم كله، فبسلاح أمريكي خائن يقتل المسلمون في فلسطين، وبسلاح أمريكي خائن يقتل المسلمون في العراق، وبسلاح أمريكي خائن ضرب جنوب السودان، وضربت أفغانستان، وفي كل موقع من المواقع الآن، لا من وراء ستار، بل على مرأى ومسمع من العالم الإسلامي الهزيل المريض، وعلى مرأى ومسمع من العالم الغربي الخائن الذي تفوح منه الخيانة بعفنها ونتنها. إن البشرية الآن تشهد من صنوف الخيانة وألوان الوحشية والبربرية والهمجية ما تخجل الوحوش الضارية أن تفعله ببعضها البعض في عالم الغابات، واسمحوا لي أن أكرر هذه الكلمات: أقول: والله! إن البشرية الآن تشهد في ظل قيادة الرجل الغربي الخائن من صنوف الوحشية والبربرية والخيانة ما تخجل الوحوش الضارية أن تفعلها ببعضها البعض في عالم الغابات. آه يا مسلمون متنا قروناً والمحاق الأعمى يليه محاق أي شيء في عالم الغاب نحن آدميون أم نعاج نساق نحن لحم للوحش والطير منا الجثث الحمر والدم الدفاق وعلى المحصنات تبكي البواكي يا لعرض الإسلام كيف يراق قد هوينا لما هوت وأعدوا وأعدوا من الردى ترياق واقتلعنا الإيمان فاسودت الد نيا علينا واسودت الأعماق وإذا الجذر مات في باطن الأر ض تموت الأغصان والأوراق آه يا مسلمون القدس تباد والعالم كله خسة وخيانة ونفاق القدس من دولة المجد عثما ن أبوها والفاتح العملاق القدس من قلب مكة بالتوحيـ د يعلو لواؤها الخفاق تركوها وحولها من كلاب الـ يهود طوق من خلفه أطواق قدمتها الصلبان لليهود قربا ناً ولليهود كلهم عشاق ووالله لو فعلنا باليهود ما فعلو هـ لرأينا مثل الذي رآه العراق إنها الخيانة التي يفوح عفنها ونتنها على المستوى العالمي، فزعماء العالم من الطواغيت المجرمين الكلاب يرون كل يوم دماء المسلمين تسفك، ولحومهم تمزق، وبيوتهم على رءوسهم تدمر، وصار الحس متبلداً، وصار الزعيم من هؤلاء يخرج في مؤتمر صحفي بارداً كبرود الثلج ليقول: يجب على الفلسطينيين أن يوقفوا العمليات الإرهابية ليوقف اليهود ضرباتهم للفلسطينيين! بكل خيانة، وبكل جرأة وتبجح صارت الكلمات -ورب الكعبة- لا تجد لها سبيلاً إلى الحناجر. ووالله! ثم والله! لولا أن الله أخذ على أهل العلم الميثاق أن يتكلموا ويبينوا ما تكلمت كلمة، ولا بينت شيئاً؛ لأن زمن التنظير قد مضى، وزمن الكلام قد انتهى؛ فقد صرخت الطائرة في كبد السماء، وصرخ الرشاش في يد اليهودي الخائن، وتكلم الرصاص، فلماذا تنتظر الأمة؟! وأي شيء تنتظر هذه الأمة؟! إنه عالم لا يعرف إلا الخيانة، وعالم لا يقر إلا لغة الحرب ولغة الرصاص، فما هو الذي تنتظره الأمة بعد كل ذلك؟ وزعماء العالم في أمريكا، وفي بريطانيا، وفي روسيا، وفي فرنسا، وفي كل العالم؛ يرى هذه الخيانة كل يوم ويقرها، ويقر الخيانة التي تمارس كل ساعة -بل كل دقيقة- على خشبة المسرح العالمي، ثم بعد ذلك يتغنى هؤلاء المجرمون الخونة بالنظام العالمي الجديد، بأكذوبة السلام العالمي، فأين النظام العالمي الذي يتكلمون عنه؟!

وقفة مع نظرة الغرب إلى المسلمين ونظرتهم إلى الحيوانات

وقفة مع نظرة الغرب إلى المسلمين ونظرتهم إلى الحيوانات والله! إن القلب ليتفطر، والله! إن القلب ليتمزق، أين النظام العالمي؟! لقد رأيت بعيني أمريكية كذابة كسائر الأمريكان الكذابين، رأيتها بعيني في ولاية (نيويورك) في وقت شديد البرد، بل يكاد البرد أن يجمد الدماء داخل العروق، رأيت هذه الأمريكية تمسك قطة وتبكي، فقلت للأخ الذي يقود السيارة: قف وسل هذه المرأة لماذا خرجت في هذا الجو؟ وكنا قد خرجنا من المركز الإسلامي بعد صلاة الفجر، فسألها لماذا خرجت في هذا الجو؟ ولماذا تمسك القطة هكذا وتبكي؟ فأخبرته بأن قطتها مريضة، وأنها في طريقها لتجري لها جراحة عاجلة، قلت: كم ستتكلف هذه الجراحة؟ فقالت: ستكلف ما يقرب من ألفي دولار!! فقلت: أيها الكذابون المجرمون! تبكي المرأة منهم أو الرجل بكاء الكذابين وبكاء الأفاعي لقطة أو لكلب، وأنتم ترون دماء إخواننا وأخواتنا تسفك، وترون أشلاء أطفالنا تمزق، بل رأيتم بأعينكم على شاشات إعلامكم الخائن الصربي ينتزع الطفل من أحشاء المسلمة في البوسنة، ورأيتم الأمريكي يعذب المسلمة الصومالية، ويجرها على التراب! ثم يبكي أحدكم لكلب أو لقطة، صار الدم الإسلامي أرخص دم على وجه الأرض!! وهذا كما قال الشاعر: ففي كل بلد على الإسلام دائرة ينهد من هولها رضوى وتهلان ذبح وصلب وتقتيل بإخوتنا كما أعدت لتشفي الحقد نيران يستصرخون ذوي الإيمان عاطفة فلم يغثهم بيوم الروع أعوان فهل هذه غيرة أم هذه طعة للكفر ذكر وللإسلام نسيان أين النظام العالمي أما له أثر ألم تنعق به الأبواق أين السلام العالمي لقد بدا كذب السلام وزاغت الأحداق يا مجلس الخوف الذي في ظله كسر الأمان وضيع الميثاق أوما يحركك الذي يجري لنا أوما يثيرك جرحنا الدفاق وحشية يقف الخيال أمامها متضائلاً وتمجها الأذواق إنها خيانة على المستوى العالمي.

خيانة على مستوى الأمة

خيانة على مستوى الأمة ثالثاً: خيانة على مستوى الأمة: أقول بملء الفم وبأعلى الصوت: ما خان الغربي إلا يوم أن تخلت أمة الأمانة عن الأمانة، وما تولى الرجل الغربي قيادة العالم وقيادة الأمة إلا يوم أن وقعت الأمة في الخيانة؛ فلقد خانت الأمة ربها ورسولها، وأنا أعي كل لفظة أرددها، لقد خانت الأمة ربها ورسولها، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27] قال ابن عباس رضي الله عنهما: (لا تخونوا الله بترك فرائضه، ولا تخونوا الرسول بترك سنته، ولا تخونوا أماناتكم بتضييعها). وقال ابن عباس في موطن آخر: (الأمانة هي: الفرائض التي افترضها الله على عباده). وقال أبو العالية: (الأمانة هي: ما أمروا به، وما نهوا عنه). وقال الحسن: (الأمانة هي: الدين، فالدين كله أمانة). فهذه الأمانة حمل ثقيل، وقد أشفقت السماوات والأرض والجبال من حملها، وخافت من عواقب التفريط في حمل هذه الأمانة، قال عز وجل: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72] قال العلامة القرآني الشنقيطي في (أضواء البيان): والعرض والإباء والإشفاق كله حق، وليس على سبيل المجاز، وإنما على الحقيقة؛ فلقد خلق الله للسماوات والأرض والجبال إدراكاً لا يعرف حقيقته إلا الله، أدركت المخلوقات بهذا الإدراك ثقل هذه الأمانة، فأبت وأشفقت من حملها، والأدلة على ذلك في القرآن كثيرة، قال تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء:44]، وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج:18]. فالأمانة حمل ثقيل، فالدين كله أمانة، وأشفقت هذه المخلوقات من حمل هذه الأمانة، وتقدم الإنسان الضعيف القصير العمر الذي تتحكم فيه الأهواء والشهوات والشبهات لحمل هذه الأمانة، فمن أدى فرائض الله، وأدى سنة رسول الله، وأدى الأمانة التي عنده؛ فهو الأمين الذي عرف قدر الأمانة، ومن فرط فهو الخائن الذي خان الأمانة. فلا تخونوا الله بترك فرائضه، ولا تخونوا الرسول بترك سنته، ولا تخونوا أماناتكم بتضييعها فيما بينكم، وكم ممن ينتسبون الآن إلى الإسلام قد ضيعوا الفروض من أجل مباراة في إستاد كرة، بل قد تضيع الجمعة، وربما تضيع صلاة الفجر إن كانت المباراة منقولة في آخر الليل، فتضيع الفرائض من أجل هزل!! لقد خانت الأمة ربها فضيعت الفرض إلا من رحم ربك من أفراد، وخانت الأمة رسولها فهجرت السنة، فالأمة تتغنى وترقص لرسول الله في الثاني عشر من كل ربيع في قصائد منسقة منمقة، وفي كلمات رنانة، في الوقت الذي هجرت فيه السنة، ونحت فيه الشريعة، بل ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي على هذه الأمة: هلموا إلينا، هلموا إلى القرآن والسنة، لكن من أفراد الأمة من يرد الآن بلسان الحال، بل بلسان المقال على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: لم يعد شرعك صالحاً لمدنية القرن الحادي والعشرين، ولم تعد شريعتك صالحة لعصر الإنترنت! وأتوبيس الفضاء دسكفري! وصارت الأمة تنظر إلى السنة والشريعة على أنها لم تعد صالحة. خانت الأمة ربها ونبيها، وضيعت الأمانة يوم أن وسدت الأمر إلى غير أهله، وهذا هو تفسير نبينا لتضييع الأمانة كما في صحيح البخاري أنه كان صلى الله عليه وسلم يحدث الناس يوماً، فجاء أعرابي فقال: (يا رسول الله! متى الساعة؟ فمضى النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه ولم يجب الأعرابي، فلما قضى النبي حديثه سأل عن الأعرابي وقال: أين السائل عن الساعة آنفاً؟ فقال الأعرابي: ها أنا يا رسول الله! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا ضُيعت الأمانة فانتظر الساعة، فقال الأعرابي الفقيه: فكيف إضاعتها يا رسول الله؟! قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله) ووالله! لقد وسد الأمر إلى غير أهله، فمن الذي يشكل العقول الآن؟! ومن الذي يدير دفة التوجيه والحكم في الأمة؟ لقد صرنا كما قال الشاعر: وراعي الشاة يحمي الذئب عنها فكيف إذا الرعاة لها الذئاب وفي مستدرك الحاكم ومسند أحمد بسند صحيح من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سيأتي على الناس سنوات خداعة؛ يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة، قيل: ومن الرويبضة يا رسول الله؟! قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة). لقد صار المثل الأعلى لأولادنا لاعب كرة، أو فناناً من الفنانين، صار المثل الأعلى لكثير من أولادنا هم هؤلاء، وقدم هؤلاء على أنهم المثل، وعلى أنهم القدوات، حتى لا يخرج الولد ليفكر في الجهاد أو ليفكر في العلم، ووسد الأمر إلى غير أهله، فمن الذي تصفق لهم الجماهير المخدوعة؟! ومن الذي تذلل لهم الصعاب، وتيسر لهم الأسباب، وتفتح لهم جميع الأبواب؟! هذا، وكثير منهم يجب أن يقام عليه حد الله جل جلاله، ولكن الأمة الآن قلبت الموازين، ووسدت الأمر إلى غير أهله، ووقعت في الخيانة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، قيل: وكيف إضاعتها يا رسول الله؟! قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله). إنها خيانة بتضييع الفرائض، وخيانة بالتفريط في السنة، وتغييب الشريعة، وخيانة بتضييع الأمانة وتوسيد الأمر إلى غير أهله، فأمة لا تقدم الأكفاء أمة خائنة، وأمة تؤخر الأكفاء وتقدم صنفاً للمحسوبية أو للعنصرية البغيضة أو للعصيبة الجاهلة؛ أمة خائنة لا تستحق السيادة ولا العزة ولا الكرامة.

أداء السلف للأمانة

أداء السلف للأمانة أذكر موقف الصديق رضي الله عنه يوم أن عزل أبا عبيدة بن الجراح، وأنتم تعرفون من هو أبو عبيدة؟ إنه أمين هذه الأمة، القائد الفارس البطل المغوار، ومع ذلك رأى الصديق أن الموقف يحتاج إلى خالد بن الوليد؛ فعزل الصديق أبا عبيدة، وولى القيادة في جبهة الشام خالد بن الوليد، وأرسل رسالة إلى أبي عبيدة بن الجراح فقال: (من أبي بكر إلى أبي عبيدة، سلام الله عليك. وبعد: فإني قد وليت خالد بن الوليد قيادة الجبهة في بلاد الشام، فاسمع له وأطع، ووالله! ما وليته إلا لأني ظننت أن له فطنة في الحرب ليست لك، وأنت عندي خير منه!) هذه هي الأمة، أمة تقدم الأكفاء في الساعة المحددة، وكلنا يعرف قدر أبي عبيدة، لكن الصديق رأى أن رجل الساعة هو خالد، فليتقدم خالد، وتقدم خالد لا ينقص أبداً من قدر أبي عبيدة؛ لأن الموقف يتطلب أن يتقدم خالد بن الوليد، هذا هي الأمانة. ومن أجل ذلك أذلوا كسرى، وأهانوا قيصر، وأتى هؤلاء بتاج كسرى بن هرمز فوضعوه في حجر فاروق الأمة عمر رضي الله عنه وأرضاه. إنها أمة قدمت الأكفاء لكل موقع وفي كل وقت، وأخرت من ينبغي أن يؤخر مع عظيم فضله، ومع سبقه في الإسلام ودين الله تبارك وتعالى، فتأخيره لا يقلل من قدره، ولا يقلل من إيمانه، المهم أن يظل في الصف ليعمل لله جل وعلا، كما قال صلى الله عليه وسلم: (طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع) والحديث في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة، فهذا رجل لا يريد أن يكون في الصدارة مع القادة، المهم أن يكون في الجند المخلصين ممن يعملون لدين الله تبارك وتعالى؛ لأنه لا يريد عهراً سياسياً ولا طبلاً ولا زمراً إعلامياً، إنما يريد أن يرضي ربه تبارك وتعالى من منطلق قول الله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5]، اللهم ارزقنا الإخلاص في القول والعمل يا أرحم الراحمين! فأمة تقدم الأكفاء هي أمة أمينة، وأمة تؤخر الأكفاء وتقدم صنفاً معيناً لمحسوبية أو لعنصرية بغيضة أو لرشوة أو لهوىً أو لدنيا فهي أمة خائنة، خانت الله ورسوله، وضيعت الأمانة، كما أخبر الصادق الذي لا ينطق عن الهوى. والله تبارك وتعالى يقول: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، ويقول تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]، ويقول تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36]، وقال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور:51 - 52]، وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء:60 - 61]. فأهل النفاق هم الذين يصدون عن الله ورسوله، ويخونون الله ورسوله، وأهل الإيمان هم الذين يمتثلون أمر الله، ويؤدون فرائض الله، ويمتثلون سنة رسول الله، ويؤدون الأمانة فيما بينهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27]. أما الخيانة على مستوى الأفراد فأرجئ الحديث عنها إلى ما بعد جلسة الاستراحة، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

خيانة على مستوى الأفراد

خيانة على مستوى الأفراد الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى كل من اهتدى بهديه إلى يوم الدين. أما بعد: وأخيراً: خيانة على مستوى الأفراد، والحديث عن هذا العنصر حديث يؤلم القلب بألم الخيانة، فالكلمة أمانة، وكم من هذه الأمانة من الكتاب والأدباء والمفكرين والعلماء والمسلمين، فبكلمة تنال رضوان الله، وبكلمة تنال سخط الله، وبكلمة تدخل جنة الله، وبكلمة تدخل نار الله، قال صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)، وقال عز وجل: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18]. وقد ذكرت من قبل لو أن المسئولين الآن أعلنوا على شاشات التلفاز وفي كل وسائل الإعلام أنه يجب على كل مواطن من رجل وامرأة أن يسرع إلى أقرب قسم شرطة ليركب جهازاً ليسجل عليه كل كلمة من الكلمات، وسيمنح جنيهاً على كل كلمة ذكر وتسبيح وتهليل، وسيعاقب عقوبة يراها المسئولون على كل كلمة ليست طيبة، وانطلق الناس وركبوا هذه الأجهزة، فكيف يكون حالنا؟ والله! لن نتكلم إلا بالتسبيح، ولن نأكل إلا التسبيح، ولن نشرب إلا التسبيح، ولن ننام إلا على التسبيح؛ لأننا سنأخذ على كل كلمة جنيهاً!! ولو قلت لأحد: كيف حالك يا فلان؟! لقال: سبحان الله! ولو قلت: ماذا فعل ولدك في الثانوية؟ لقال: ولا حول ولا قوة إلا بالله. ولو قلت: هل قبضت العلاوة؟ لقال: الله أكبر، ولله الحمد!! والله جل وعلا يقول: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18]، فهل صدقنا الله؟ وهل صدقنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! الجواب يؤكده الواقع المر الأليم: فقد يتورع الصائم عن أكل الحلال ولا يتورع عن الفري في أعراض الأحياء والأموات، أي: في الوقوع في الحرام، فالكلمة أمانة، ولو عرف الكتاب والأدباء والمفكرون والعلماء والمتكلمون قدر هذه الأمانة ما رأينا هذا الواقع المر الأليم: فبدعوى الإبداع الفكري سبوا الله ورسوله! وبدعوى الحرية الشخصية أصلوا للرذيلة والتبرج والعري! وبدعوى التخلص من عقدة القديم تمردوا على سلطان الدين بكلمات خائنة! فالكلمة أمانة، والعلم أمانة، فإن اتقى العالم ربه وأدى ما يدين به لله بحكمة بالغة فهو أمين، وإن زور بهذا العلم الفتاوى لذوي السلطان فهو خائن، قال صلى الله عليه وسلم: (من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار، ومن تعلم العلم ليجاري به العلماء أو ليماري به السفهاء أو ليصرف به وجوه الناس إليه فهو في النار). والمجالس أمانة، فقد يجلس المسلم مع أخيه ويخرج بعد ذلك لينقل كل ما دار بينهما في المجلس، من فعل هذا فهو خائن؛ إنما المجالس بالأمانة، فكم من الناس من قد خان هذه الأمانة! وكم من زوج قد خان زوجته! وكم من زوجة قد خانت زوجها! وأقصد: الخيانة العفنة المعروفة بالزنا، وكذلك خيانة الكلمة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول -كما في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد -: (إن من أشر الناس يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها) لاسيما إذا كان السر متعلقاً بأسرار الفراش، فيجلس على المقهى أو بين زملائه في الوظيفة ليحدث بكل ما دار بينه وبين امرأته في الفراش، أو تجلس المرأة الموظفة لتحدث زميلاتها في العمل بما دار بينها وبين زوجها في الفراش، وهذه خيانة عفنة. والأولاد أمانة، فكم من الآباء من قد خان هذه الأمانة! وكم أم قد ضيعت هذه الأمانة! فترك الوالد أولاده، وظن أن وظيفته أنه ممثل لوزارة المالية فحسب! فإن وجد عنده رمق من الوقت قتله قتلاً بالجلوس أمام التلفاز، مع أنه لو جلس بين أولاده ولو كان صامتاً لا يتكلم ففي جلوسه من عمق التربية ما فيه، فكيف إن تكلم فذكّر بالله ورسوله؟! وكيف إن تكلم فأخذ أولاده إلى بيت من بيوت الله، أو إلى مشهد من هذه المشاهد التي تملأ القلب بالاستعلاء وبالإيمان وبالعزة التي افتقدتها الأمة منذ أمد بعيد؟! وكم من أم خانت الأمانة فضيعت أولادها؛ وذهبت إلى الوظيفة، وهي ليست في حاجة إلى الوظيفة، وخرجت إلى الأسواق لتضيع الوقت، وهي ليست في حاجة إلى هذا، كل همها أن تبحث عن الموضات والموديلات! وضيعت الأولاد، وأصبح الأولاد كما قال الشاعر: فليس اليتيم من انتهى أبواه وخلفاه في همّ الحياة ذليلا إن اليتيم هو الذي ترى له أماً تخلت أو أباً مشغولا والوظيفة أمانة، فكم من الموظفين من قد خان الأمانة بدعوى أن الراتب لا يتلاءم ولا يتواءم مع الجهد الذي يبذله! فيخون الأمانة بأخذ الرشاوى، أو بتضييع العمل مع حاجة العمل إليه، أو بالتعسير على المسلمين وتعطيل مصالحهم. والدَين أمانة، فكم من الناس من قد أخذ أموالاً ثم تفنن بعد ذلك في أكل هذه الأموال، وفي خيانة هذه الأمانة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من أخذ أموال الناس ينوي أداءها أدى الله عنه، ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله). وكم عدد هؤلاء الذين نصبوا على المسلمين فأخذوا أموالهم وهربوا بجوازات سفر مزورة! وقد خانوا الأمانة، وضيعوا حقوق الناس. وكم عدد هؤلاء الذين نهبوا البنوك بل ونهبوا الدولة، بل ونهبوا الأمة، وخانوا الأمانة، وأكلوا أموال الناس بالباطل! ولو وقفنا مع جزءيات الخيانة على مستوى الأفراد لطال الوقت جداً، وحسبنا قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27]. اللهم اجعلنا من أهل الأمانة، اللهم اجعلنا أهلاً للأمانة، اللهم رد الأمة إلى الأمانة رداً جميلاً، اللهم رد الأمة إلى الأمانة رداً جميلاً. اللهم لا تدع لأحد منا ذنباًَ إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا ميتاً لنا إلا رحمته، ولا عاصياً بيننا إلا هديته، ولا طائعاً إلا زدته وثبته، ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا رب العالمين! وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.

لك الله يا أفغانستان

لك الله يا أفغانستان شعب الأفغان شعب مسلم عريق، قوي الشكيمة، صعب المراس، معروف بمواقفه البطولية، فقد دحر الغزاة الروس عن بلده، وابتلي الآن بالغزاة الأمريكان، الذين أعدوا لهم ما استطاعوا من قوة، ولكنه لم يلن، ولم يستسلم، لأنه شعب أبي عصي، إلا أنه يؤتى من بعض أبنائه الخونة العملاء فمن باعوا ضمائرهم للعدو، نسأل الله عز وجل أن يطهر أفغانستان من الصليبيين الحاقدين.

التعريف بالأفغان

التعريف بالأفغان بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة؛ فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، اللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة الفضلاء! وأيتها الأخوات الفاضلات! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله الحليم الكريم جل وعلا الذي جمعنا على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة في جنته ودار مقامته، إنه ولي ذلك ومولاه. أحبتي في الله! أبدأ بهذه الورقة من طويلب من طلابنا -على حد قوله- يذكر أنه يحبني في الله، وأقول: أحبك الله الذي أحببتني فيه، لكنني أعجب من السؤال الذي يقول فيه: كنت منتظراً من فضيلتكم في الخطبة الماضية أن تتكلم عن حق الجهاد، أو أن تجعل ما حدث في أمريكا وأفغانستان هدفاً في الخطبة، ولا أعرف هل حضر أو لا؟! فإن كان ما حضر فأنا لا أعذره، وإن كان حضر فأنا لا أعذره؛ لأنه إن كان حضر فقد نام طوال الخطبة، وإن لم يحضر فما ينبغي له أن يعتب علي دون أن يعلم، ودون أن يفهم، فاسأل من حضر إن كنت ممن لم يحضر، واسمع الخطبة إن كنت ممن حضر، واحذر النوم أثناء الخطبة، وأسأل الله أن يوقظنا جميعاً، إنه ولي ذلك ومولاه. الأخ يسأل ويقول: من هم الأفغان؟ ومن هو أسامة بن لادن؟ وأين أفغانستان من الخطب؟، وأين الشيشان الآن؟! وأين شباب مصر؟! وهل أسامة بن لادن إرهابي؟! وهل الذين فجروا مبنى التجارة العالمي كانوا إرهابيين؟! و A الأفغان شعب مسلم أبي، قوي الشكيمة، صعب المراس، لا يعرف الذل والمهانة والخضوع والاستسلام بسهولة، ولا يؤتى هذا الشعب إلا من قبل بعض أفراده الخونة، ممن يشتريهم الأعداء بالدولار، وهؤلاء لا يخلو منهم زمان ولا مكان. إن اجتمع هذا الشعب بطوائفه لمحاربة عدو خارجي، فمهما كانت قوة هذا العدو، فإن هذا الشعب -بفضل الله سبحانه وتعالى- يضع أنف هذا العدو في التراب، فهذا الشعب الأبي هو الذي مرغ أنف بريطانيا في التراب منذ مائة سنة تقريباً، ولعلكم سمعتم ما قاله المجرم توني بلير في خطابه، وهذا نص عبارته: وها نحن الآن قد عدنا يا ملا محمد عمر!

واجب الداعية

واجب الداعية يا أخي! بفضل الله عز وجل -ونسأل الله أن يرزقنا الصدق- نحن لا نعرف أن ننافق أحداً، ولا نجيد العزف على أوتار النفاق، ونحن لا نريد شيئاً من الدنيا، فقد رزقنا الله من أوسع أبوابه، ونحن لا نريد شيئاً من مخلوق على وجه الأرض حتى ننافق، لكن المسألة أيضاً تحتاج إلى حكمة، وليس معنى الحكمة التمييع، فلم تكن الحكمة تمييعاً للقضايا، ولم تكن الحكمة هي الهروب من الحق، إنما الحكمة هي: قول ما ينبغي، في الوقت الذي ينبغي، على الوجه الذي ينبغي. هذا تعريفها. وأركانها: العلم، والحلم، والأناة. وآفاتها: الجهل، والطيش، والعجلة. وقد تكلمت عن هذه القضية، وبينت الذي أدين به لله تعالى في هذه المسألة؛ لأن من الخيانة أن يكون الداعية بأطروحاته وموضوعاته في جانب، وأن تكون الأمة بجراحها ومشكلاتها وأزماتها في جانب آخر، وأنا أكرر هذا دوماً، وأسأل الله أن يرزقنا الأمانة، وأن يجعلنا أهلاً لها.

أمريكا وجرائمها في العالم

أمريكا وجرائمها في العالم ما يحدث الآن باختصار: هو تجسيد للإرهاب الأمريكي، فإن أمريكا هي رائدة الإرهاب في الأرض، وأنا أسأل أي منصف على وجه الأرض: ما يحدث الآن على أرض أفغانستان أليس هو الإرهاب بعينه؟! بل إن أمريكا تعلم يقيناً قبل غيرها أنها إلى الآن لم تملك دليلاً واحداً على إدانة أسامة أو على إدانة المسلمين. والله العظيم لو تملك أمريكا دليلاً واحداً لضجت به في العالم، ودعك من كلام توني بلير الذي يقول: هذه أدلة استخباراتية لا أقدر على إذاعتها، فهذا كلام باطل، وهذا الوقح يظهر من كلامه ما يخفيه صدره من غل وحقد أضعاف أضعاف ما يحمله قلب بوش الإرهابي الأول في العالم، وقد قال: إنها حرب صليبية، ونقول: نعم، هي حرب صليبية، ويأبى الله إلا أن يظهر في زلات ألسنتهم، وفي كلمات أقلامهم ما تكنه صدورهم من حقد على هذا الدين، وما تخفي صدورهم أكبر، فهي حرب صليبية معلنة على الإسلام، أما أن يقول بوش: هي حرب صليبية، ثم يرجع ويلطف ذلك بشتى الطرق فهذا لا يفيد! بل يأتي توني بلير ويقول: ها نحن قد عدنا يا ملا محمد عمر! وهذه هي نفس الكلمات التي قالها اليهود وهم يركلون قبر صلاح الدين؛ فإنهم كانوا يقولون: ها نحن قد عدنا يا صلاح الدين! فالحقد يملأ قلوب هؤلاء، وهم الذين يفسرون معنى الإرهاب كما يريدون! فهل الإرهاب أن يدافع المسلم عن دينه وعن وطنه وعن عرضه، وأن يرد عن أمته ونفسه وأهله شيئاً من الظلم الذي ملأ القلوب والصدور بالمرارة؟! لا يوجد عاقل على وجه الأرض الآن إلا وقلبه يمتلئ بالحقد والغل على أمريكا؛ بسبب الظلم الذي أذاقته أهل الأرض كئوساً! وما يحدث على أرض فلسطين إلى الآن أليس إرهاباً؟! ومليون ونصف من أطفال العراق قتلوا بسبب الحصار أليس إرهاباً؟! والمسلمون الذين قتلوا في العراق، والمسلمون الذين قتلوا في السودان، والمسلمون الذين قتلوا في أفغانستان، حتى من قتل في (هيروشيما) و (نجازاكي) وفي فيتنام أليس إرهاباً؟! بل في فيتنام لوحدها قتلت أمريكا أربعة ملايين فيتنامياً! أمريكا هي التي أبادت شعب الهنود الحمر! أمريكا هي التي استعبدت الزنوج! أمريكا هي التي أسقطت القنبلة الذرية على (هيروشيما) وبعد ثلاثة أيام على (نجازاكي) فقتلت مائة وسبعين ألف مدنياً! أمريكا هي رائدة الإرهاب في الأرض! وقد جلست مع عمدة نيويورك وقلت له: أنتم تعلمون أن تمثال الحرية الذي تضعونه في قلب أمريكا ليصدم عيون الناظرين خير شاهد على أنكم تسحقون الأحرار خارج حدود أرضكم وبلادكم! وذكرت له تاريخاً طويلاً، وقد كانت لي محاضرة عن حقوق الإنسان في الإسلام، حقوق الإنسان بصفة عامة، وليس حقوق المسلم، وبعد ذلك عملت مقارنة بين حقوق الإنسان في الإسلام وحقوق الإنسان في منظمة وحقوق الإنسان لهيئة الرمم، وقلت لهم: أنتم كذابون، تضحكون على العالم، وتقولون: سلام عالمي! ونظام دولي جديد، إلى آخر هذه المنشطات الساخنة الضخمة! وأنتم تعلمون يقيناً أنكم أكذب وأفجر أهل الأرض، وقلت له: هل نسيت أن أمريكا هي التي قتلت مائة وسبعين ألفاً من المدنيين في (هيروشيما)؟! وهل نسيت أن الأمريكان هم الذين أبادوا الهنود الحمر، وهم السكان الأصليون لأمريكا؟! وهل نسيت أنكم استعبدتم الزنوج؟! مع أنكم أصدرتم بعد الثورة الأمريكية قراراً دستورياً يقول بالمساواة بين جميع الناس: الأبيض والأسود، ثم بالقانون الأمريكي لمدة مائة سنة استعبدتم الزنوج! وهل نسيت أن الأمريكان هم الذين قتلوا المسلمين في فيتنام؟! وهم الذين دعموا كل الديكتاتوريات والحكام الديكتاتوريين على الأرض، بدءاً من جنوب أفريقيا إلى الفلبين! وهل نسيت أن الأمريكان هم الذين قتلوا ما يزيد على أربعة ملايين في فيتنام؟! وهل نسيت أن الأمريكان هم الذين قتلوا ما يقرب من مليون ونصف من أطفال العراق؟! وهل نسيت أن الأمريكان هم الذين شردوا من شردوا وقتلوا من قتلوا في لبنان، وفي السودان، وفي أفغانستان؟! فنظر إلي وقال لي: لكن أمريكا تدخلت لنصرة الأقلية المسلمة في ألبانيا وفي البوسنة. فقلت له: هذا كذب، بل أمريكا ما تدخلت لنصرة المسلمين في البوسنة، وإنما تدخلت لحماية مصالحها، وأمريكا تدخلت الآن بذريعة القبض على أسامة أو قتل أسامة، وهو البطل الذي أسأل الله أن يحفظه بحفظه وإخوانه جميعاً، فإنهم هم الذين ردوا شيئاً من الكرامة المسلوبة لهذه الأمة، فأقول: ما تذرعت أمريكا بقتل أسامة الإرهابي الدولي العالمي -كما يقولون- إلا ليكون لها قدم في منطقة بحر قزوين! وهناك مبشرات من الشيشان، ووالله! ما تركنا قضية إلا طرقناها وتكلمنا فيها، ووالله! ما تركنا قضية للأمة إلا وتحدثنا عنها، وسبق أن قلت: إن أمريكا وروسيا الآن وبعد انخفاط مخزون النفط في منطقة الخليج تبحثان عن أعلى نسبة احتياطي للنفط في العالم، وهذا موجود في منطقة بحر قزوين، فروسيا تريد أن تسيطر على المنطقة، وأمريكا تريد أن تبقي لها رجلاً في المنطقة؛ من أجل أن تسيطر على مقدرات العالم كله، والآن القواعد العسكرية الأمريكية تحيط بالعالم الإسلامي والعربي من كل مكان، والأمة تدفع الجزية كاملة غير منقوصة!! والشاهد أن الرجل لما قلت له: أنتم قمتم بهذا من أجل مصالحكم، قام وسلم عليّ، وشد علي يدي! وقال لي: هل المسلمون يعرفون هذا الكلام الذي تقوله؟ فقلت: هذه هي الكارثة. فقال: لماذا؟ وكأنه استغرب من الجواب، وكأنه كان متصوراً أني سأقول له: إن المسلمين لا يعلمون شيئاً! فقلت له: هذه هي الكارثة، وهي أنكم ما زلتم تعتقدون أنكم تتعاملون مع أغبياء لا يعرفون خططكم، ولا يعرفون مصائبكم وتاريخكم الأسود! بل كل هذا يعرفه الآن أي مسلم، ويعرف مصدر الإرهاب على وجه الأرض، يعرفون ذلك عند أن يدك شعب الأفغان بالصواريخ وبالطائرات، وقد جاءت أمريكا بخيلائها وخيلها ورجلها وسلاحها لتحاد الله عز وجل، وترمي هذا الشعب الفقير الذي لا يجد لقمة العيش؛ بذريعة القبض على أسامة وتدمير جيش القاعدة! ويدعون أن طالبان هم الذين يأوون الإرهابيين إلى آخر هذا الكلام الإعلامي الخبيث الذي يدندن حوله إعلام اليهود، ويتلقفه إعلامنا العربي المهزوز؛ ليردد نفس الكلمات تماماً، ولا تجد دولة مسلمة عربية ترفض، بل إن منهم من يشارك ويقول: نحن مع الضربة العسكرية ضد الإرهاب! ولو صدقوا لقالوا: نحن مع الضربة العسكرية ضد الإسلام! ومع ذلك أخونا عبد السلام ضعيف الرجل القوي الإيمان، سفير الأفغان في باكستان يعلن أن طالبان لن تسلم أسامة، بل إنها قد أطلقت له العنان في أن يفعل ما يشاء، ويقول: إن عندنا اثنين مليون يتمنون الشهادة في سبيل الله، ولكن الإرجاف شغال، فترى بعض الجرائد تقول: طالبان تختنق! وهذا إرجاف، فإن أعداء الله يدكون عليهم دكاً متواصلاً بالصواريخ والطيران والبواخر والسفن الحربية وبكل السبل، وما زالوا يثقون بالله، وأرجو أن نثق وأن نعلم يقيناً أن أمريكا لا تدبر أمر الكون، بل إن الذي يدبر أمر الكون هو الملك عز وجل.

على الأمة أن تجدد يقينها بالله عز وجل

على الأمة أن تجدد يقينها بالله عز وجل الأمة الآن بسبب ضعف يقينها وضعف إيمانها لم تعد تؤمن إلا بالماديات وبالحسيات، فتراهم يأتون بصورة على الصفحة الأولى من بعض الجرائد وفيها صاروخ أطلقته أمريكا، ويقولون: هذا الصاروخ يسجل الكلام الذي يقوله مجاهدو طالبان! وأين كانوا قبل ذلك؟! هل كان بوش يخبئه تحت السرير؟! ولكن هذا عمل المرجفين الذين يريدون أن تزداد هذه الأمة هزيمة على هزيمتها. والله العظيم لقد سمعت بأذني من رجل مثقف يقول: يا شيخ! أمريكا عندها صاروخ لو وضعت على يدك بريزة فضة يأتي عليها الصاروخ فيحرقها ولا يمس يدك!! وهذا بصراحة استخفاف بالعقول، واستخفاف بالقلوب، وإرجاف خطير جداً. فنريد يا إخواننا أن نثق بالله عز وجل. والذي أريد أن أخرج به من هذه الأزمة والأحداث: أن نجدد الثقة واليقين بالله عز وجل، وأن تعلم الأمة يقيناً أن الله تبارك وتعالى هو الذي يدبر أمر الكون وحده، فلا تقع ورقة من شجرة على الأرض إلا بأمره عز وجل وبعلمه، فإذا كانت الورقة لا تقع إلا بعلمه فكيف ستقع القنبلة بدون علمه وبدون تقديره؟! بل كل شيء بقدر، وليس أحد أغير على الحق وأهله من الله، وليس أحد أرحم بالمستضعفين في أفغانستان وفلسطين من الله، لكن الله لا يعجل بعجلة أحد؛ فللكون سنن لابد منها، كسنة التدافع، وسنة الابتلاء، وسنة أخذ الله للظالمين، قال عز وجل: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ} [البقرة:251]، وقال عز وجل: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40]، وقال سبحانه وتعالى: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ} [النساء:104] وقال جل وعلا: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140]! فيا سبحان الله! لا يوجد أمريكي في أكثر الأحيان إلا وهو يعيش حالة من الرعب، ومن سافر إلى أمريكا يعرف ذلك. وقد دخلت مركز التجارة العالمي قبل الأحداث، والله العظيم! إن الإنسان يتعجب من ذلك البناء وعظمته! فتصعد إلى الدور المائة وتسعة عن طريق مصعد مثل الكافتيريا في أقل من دقيقتين تقريباً! وكذلك مبنى البنتاجون -الذي هو وزارة الدفاع- مساحته أفقية ممتدة، ويأخذ مساحة ضخمة جداً، وفيه غرف لا يعلم عنها شيئاً كثير ممن يعملون في البنتاجون؛ وذلك لكثرة الغرف وكبر المساحة، والمكان الذي ضُرب فيه هو المخ والرأس المحرك! وهذا شيء غريب جداً! وضرب الكمبيوتر الرئيسي! ولذلك أمريكا تاهت بعد هذه الحادثة، وبقيت ثلاث ساعات لم يعلق فيها أي رئيس ولا أي وزير ولا أي مسئول، إلا مذيع في (السي إن إن)، أما الرئيس والنائب والوزراء فكلهم تبعثروا، أسأل الله أن يبعثرهم. أقسم بالله إنها آية من الآيات تجعل الإنسان لا يثق إلا بربه، ومع ذلك فالأمة لا زالت قلوبها مملوءة بالضعف والإرجاف، والخور والذلة والمهانة، والخوف والرعب. فيا إخواننا! ألم تفيقوا بعد؟! أما تصطلحون؟! أما تركعون لله عز وجل وحده؟! وفي قناة الجزيرة ظهر مذيع نصراني حقود مع أخ من إخواننا الطيبين ممن لا يجيد الحوار، ولا يجيد الكلام، والناس هؤلاء لابد لهم من محاورين في غاية اللباقة، لكن سبحان الله! لو كنت مكانه ربما لم أستطع أن أتكلم، وليس عندي ربع يقين الأخ الذي كان يتكلم، ووالله! إنه أبكاني، فإن هذا المذيع تكلم وقال: أنتم -يا طالبان- ماذا عملتم أمام هذه القوة والترسانة العسكرية الضخمة؟! فابتسم الأخ ابتسامة جميلة وقال له: معنا الله!! والله إن هذا المذيع المجرم اسود وجهه! فإن المعية عظيمة وكبيرة، ولك أن تتصور السبع السماوات وعظمتها، فإن الله عز وجل يقول: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر:57]، فالعقل البشري الذي فجر الذرة، وصنع الترسانة التي نسمع عنها لا يُعد شيئاً أمام خلق السماء وخلق الأرض، فإن ملك الملوك يحمل السماوات السبع على إصبع! فأريد أن تتدبر هذا الكلام حتى ترجع بيقين، هذا الكلام يقوله حبر من أحبار اليهود، والحديث في صحيح مسلم وفيه: (جاء حبر يقول: يا محمد! إنا نجد مكتوباً عندنا في التوراة: أن الله يجعل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والماء والثرى على إصبع، والشجر على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع، ثم يهزهن ويقول: أنا الملك) الله أكبر! السماوات على إصبع من أصابع الملك جل جلاله، فلا تعطل ولا تكيف، فكل ما دار ببالك فالله بخلاف ذلك، كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]. هذا هو الذي أريد أن أخرج به، فأنا لا أريد أن أكون وكالة أنباء أذيع لك منها أخباراً أنت تعرفها أكثر مني، إنما أريد أن أدخل في قلبك اليقين، ونرجو أن تتعلم الأمة هذا الدرس، ونرجو أن تجدد الأمة يقينها في ربها، وتعلم يقيناً أنه لا تستطيع قوة على وجه الأرض أن تقتلع الإسلام من الأرض؛ لأن الذي وعد بنصرة الإسلام هو الله.

الأحداث التي تمر بالأمة بشير خير

الأحداث التي تمر بالأمة بشير خير أنا متصور بفهمي للقرآن وللسنة وللسنن أن الأحداث التي تمر بها أمتنا الآن ستكون من أعظم الأحداث التي ستربي الأمة، وأرى فيها خيراً كثيراً، فإن جميع أهل الأرض الآن قد قامت عليهم حجة الله بالسماع عن الإسلام من زعماء العالم! فمن الذي كان يسمع من أهل الأرض أن الإسلام دين السماحة، وأن الإسلام دين الرحمة، وأن الإسلام لا يقر الإرهاب، ولا التطرف؟! فمن الذي كان يستطيع من الدعاة أن يسمع العالم كله هذا الكلام؟! لكن بوش وتوني بلير ورئيس وزراء إيطاليا أظهروا الصورة المشرقة للإسلام من حيث لا يشعرون! ولهذا لا تجد نسخة من القرآن المترجم باللغة الفرنسية في الأسواق! ولا تجد نسخة من القرآن المترجم باللغة الإنجليزية في أمريكا؛ لأن جميع النسخ قد نفدت، فالغرب كله يتلهف للقراءة عن الإسلام! وانتظر النتائج من الملك سبحانه وتعالى، فهو الذي يدبر أمر الكون. فأريد أن أقول: إن ما يجري الآن أرجو الله أن يجعله بداية المفاصلة، وقد تكلمت عن المفاصلة! وتكلمت عن إقامة الفرقان كثيراً، ولا أملّ من التكرار، وبعض الإخوة يقولون: الشيخ يكرر كثيراً، فأقول: أنا أكرر -يا أخي! - لأن الله كرر في القرآن بعض القصص عدة مرات، وأنت كم تكرر الفاتحة في اليوم؟! فأنا لا أحب للإخوة الدعاة والمشايخ أن يستحوا من التكرار، بل كرر مرة واثنتين وثلاثاً وعشراً وعشرين. فكم ذكرت إقامة الفرقان! وأنا أرى الآن أن الأمة تحتاج إلى أن تتمايز إلى فسطاطين؛ لأن الأمة الإسلامية تعيش بين التبعية والريادة، فلابد أن تتمايز الأمة إلى فسطاطين: فسطاط إيمان لا نفاق فيه، وفسطاط نفاق لا إيمان فيه، فلابد من التمايز؛ لأن الغبش الذي نحن فيه لن ينصر ديناً، ولن ينصر قضية. وأود أن أقول: إن الله تبارك وتعالى هو الذي يدبر أمر الكون، ولا يحدث شيء في الكون إلا بعلمه وأمره، وهذه الأحداث أرى فيها خيراً كبيراً وكثيراً وعظيماً للإسلام وللمسلمين، وأرى أن يبذل الإنسان المسلم الآن كل ما يملك، فإن كنت تستطيع أن تجاهد بنفسك فافعل، وإذا حيل بينك وبين الجهاد بنفسك فجاهد بمالك، وجاهد بلسانك.

أهمية الجهاد بالكلمة

أهمية الجهاد بالكلمة أرى أن الجهاد بالكلمة في هذا الزمان من أخطر أنواع الجهاد وأعظمها؛ لأن الإعلام هو الذي يحرك العالم، فتكلم وانزع الإرجاف من قلوب المرضى، واملأ القلوب يقيناً، واملأ القلوب ثقة بالله، فمن منا جمع زوجته وأولاده وقعد معهم بالليل وبكى بينهم! ورفع أكف الضراعة بينهم؛ ليرفعوا خلفه أكف الضراعة، ودعوا الله أن ينصر المسلمين في أفغانستان وفي فلسطين؟! أكثرنا لم يعمل ذلك، وإنما نحن (شطار) في الكلام، وأساتذة غيبة، وأساتذة نميمة، وكأننا ليس لنا عمل إلا ذلك، إلا من رحم ربي، وهؤلاء -والله العظيم- قلة، وأما الأكثر فلا تراهم مشغولين بعبادة، ولا بطاعة، ولا بعلم، ولا بدعوة، وإنما هم في غيبة ونميمة طوال النهار، ولا حول ولا قوة إلا بالله! فلو كنت تحمل هماً في قلبك فوالله العظيم! إن قلبك ليكاد أن يحترق، ولن تجلس مع زوجة ولا مع ولد إلا وأنت تذكِّر بهذه القضية، فإذا كنت معهم على الطعام فقل لهم: انظروا كيف نأكل في أمن وفي أمان! وتصوروا -يا أولاد- لو سقط في هذا الوقت صاروخ على بيتنا فحطمه! وتناثرت أشلاؤنا وسالت دماؤنا! إن هذا المشهد يحدث كثيراً في فلسطين وفي غيرها! فعلم الطفل هذا الكلام، وعلمه الولاء والبراء، واغرس فيه بغض اليهود والكفار والمشركين، فمن منا قام بالليل يبكي ويتضرع إلى الله؟! وقد تكلمنا عن الجهاد، ولكن الكلام عن الجهاد سهل، وقلة قليلة هي التي تصدق مع الله، فقم وصل وادع، ولا تستهن بالدعاء.

عظم شأن الدعاء

عظم شأن الدعاء والله العظيم! لقد أخبرني أحد الإخوة في يوم الجمعة وقال لي: والله! يا شيخ محمد! لقد رأينا في الكعبة عجباً عجاباً! قال: كنا نطوف يوم الثلاثاء يوم أحد عشر حول الكعبة، وإذا برجل كبير السن، ذي لحية بيضاء، متعلق بأستار الكعبة وبكى، وارتفع صوته، وكأنما يتحدث بمكبر صوت! وصرخ وهو يقول: إله الحق! أرنا في أمريكا آية! إنها دعوة عجيبة! والله العظيم! إن الواحد ما زال يرتعش منها إلى الآن، وظل يرددها وبكى وصرخ، يقول: كل الناس في صحن الطواف سمعوا الدعوة، فالكل بكى وصرخ، وبعد ثلاث ساعات تقريباً تذيع الأخبار ما وقع في أمريكا! فلا تستهينوا بدعوة الضعيف الصادق؛ فإنها والله! سهم لا يُرد. وأنا أعتقد أن ما وقع إنما هو استجابة من الله عز وجل لدعوة المظلومين المقهورين الصادقين، ممن تحترق قلوبهم ولا يملكون أن يقدموا شيئاً، والله يعلم السر وأخفى، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه)، ومنزلة الشهادة منزلة عظيمة، فنريد أن نصدق.

أنواع الجهاد

أنواع الجهاد الجهاد أنواع: جهاد بالمال، وجهاد بالكلمة، وجهاد بالتربية على عقيدة الولاء والبراء، وجهاد بغرس اليقين في قلوب الأفراد، فإذا كنت موظفاً أو طبيباً أو أستاذ جامعة فلديك فرصة، فاغرس اليقين، وجدد العقيدة والإيمان في قلوب أفراد الأمة، فما أحوج الأمة في هذا الظرف إلى أن تجدد يقينها وإيمانها وثقتها بربها تبارك وتعالى!

المستقبل للإسلام

المستقبل للإسلام لا توجد قوة على وجه الأرض تستطيع أن تقضي على الإسلام؛ لأن الإسلام باق وسيبقى، وسيهلك الله كل من يحارب الإسلام، وسيبقي الله الإسلام شامخاً؛ لأن الذي وعد بإبقائه هو الله الحي الباقي الذي لا يموت سبحانه وتعالى. وأختم المحاضرة بهذه الكلمات الجميلة، وهو خبر نشرته مجلة (التايم) الأمريكية: يقول -وهذه ترجمة حرفية-: وستشرق شمس الإسلام من جديد ولكنها في هذه المرة تعكس كل حقائق الجغرافيا، فهي في هذه المرة لا تشرق من الشرق، وإنما تشرق من الغرب من قلب أوروبا! تلك القارة العجوز التي بدأت المآذن فيها تزاحم أبراج الكنائس! في روما، ومدريد، ولندن، وباريس، وصوت الأذان كل يوم خمس مرات خير شاهد على أن الإسلام يكسب كل يوم أرضاً جديدة! وأقول: المسلمون اليوم في قلب أوروبا أكثر من خمسة وخمسين مليون مسلماً، وهذا عدد لا يستهان به على الإطلاق، وقد أصبحوا مثل اللقمة التي لا يستطاع بلعها ولا مضغها! وهذا تقدير إلهي. اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، هازم الأحزاب، اللهم اهزم أحزاب الكفر، اللهم زلزل الأرض من تحت أقدامهم، اللهم شتت رميهم، اللهم شتت رميهم، اللهم شتت رميهم. اللهم اقذف الرعب في قلوبهم، اللهم اقذف الرعب في قلوبهم، اللهم اقذف الرعب في قلوبهم. اللهم احفظ إخواننا في أفغانستان، اللهم احفظ أهلنا في أفغانستان. اللهم اربط على قلوبهم، اللهم اربط على قلوبهم، اللهم اربط على قلوبهم. اللهم احفظهم بحفظك، واكلأهم بعينك، واحرسهم برعايتك. اللهم إنهم ضعاف فقوهم، اللهم إنهم أذلاء فأعزهم، اللهم إنهم أذلاء فأعزهم، اللهم إنهم عراة فاكسهم، اللهم إنهم جياع فأطعمهم، اللهم إنهم حفاة فاحملهم، اللهم إن أهل الأرض قد تجمعوا عليهم فكن لهم يا ملك! يا قدير! اللهم ارحم ضعفهم، واجبر كسرهم، واغفر ذنبهم، واستر عيبهم، وفرج كربهم. اللهم اجعل الدائرة على عدوهم، اللهم اجعل الدائرة على عدوهم، اللهم اجعل الدائرة على عدوهم. اللهم اجعل تدبير الأعداء تدميرهم، اللهم اجعل تدبير الأعداء تدميرهم. اللهم احفظ أهلنا في فلسطين، اللهم احفظ أهلنا في فلسطين، اللهم عليك باليهود والأمريكان، اللهم عليك باليهود والبريطان، اللهم عليك بالروس والأمريكان، اللهم عليك بأعوانهم من أهل الكفر والنفاق يا قوي يا عزيز! اللهم ارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وتول أمرنا. اللهم تول أمرنا، اللهم تول أمرنا، لا إله لنا سواك فندعوه، ولا رب لنا غيرك فنرجوه، يا منقذ الغرقى! يا منجي الهلكى! يا سامع كل نجوى! يا منقذ الغرقى! يا منقذ الغرقى! يا منجي الهلكى! يا منجي الهلكى! يا سامع كل نجوى! يا عظيم الإحسان! يا عظيم الإحسان! يا دائم المعروف! يا دائم المعروف! يا غياث المستغيثين! يا غياث المستغيثين! يا غياث المستغيثين! يا ودود يا ودود! يا ذا العرش المجيد! يا فعال لما يريد! يا من ملأ نوره أركان عرشه! أغث أمة حبيبك محمد، اللهم أغث أمة حبيبك محمد، اللهم فرج كربها، واكشف همها، وأزل غمها، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم اشف صدور قوم مؤمنين، اللهم اشف صدور قوم مؤمنين، اللهم اشف صدور قوم مؤمنين، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين! وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

من أحكام الصيام

من أحكام الصيام الصيام عبادة عظيمة، يجب على العباد العناية والاهتمام بها، ومن رام ذلك فإن عليه أن يتفقه في أحكامها، فيعلم أركانها وواجباتها ومستحباتها، ويعمل بها ويحرص على أدائها، ويعلم أيضاً مبطلاتها ومحرماتها ومكروهاتها، وبذلك يكون قد أدى هذه العبادة كما أمره الله تعالى، ويرجى له الأجر بغير حساب كما وعد الله بذلك.

معنى الصيام وحكمه مشروعيته

معنى الصيام وحكمه مشروعيته إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جازيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أحبتي في الله، وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يتقبل مني ومنكم صالح الأعمال، وأن يجمعني وإياكم في الدنيا دائماً على طاعته، وفي الآخرة مع سيد الدعاة، وإمام النبيين في جنته، ومستقر رحمته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أيها الأحبة! موضوعنا لهذا اليوم بإذن الله تعالى بعنوان: (من أحكام الصيام)، وسوف ينتظم حديثي في العناصر التالية: أولاً: معنى الصيام وحكمة مشروعيته. ثانياً: أركان الصيام. ثالثاً: مبطلات الصيام. رابعاً: رخص الصيام وآدابه. وأخيراً: أخطاءٌ في الصيام. فأعيروني القلوب والأسماع، فإن هذا اللقاء يحتاجه كل مسلم ومسلمة.

تعريف الصيام لغة وشرعا

تعريف الصيام لغة وشرعاً أولاً: معنى الصيام وحكمة مشروعيته. الصيام لغةً: هو الإمساك والكفُ عن الشيء، كما قال الله تعالى حكاية عن مريم عليها السلام: {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} [مريم:26] أي: إمساكاً عن الكلام. والصيام شرعاً: الإمساك عن جميع المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس مع النية.

حكم مشروعية الصيام

حِكَمُ مشروعية الصيام حكم مشروعية الصيام كثيرة ولله الحمد والمنة، فما من عبادة شرعها الله لعباده إلا لحكمة بالغة، عَلِمَها من علمها، وجَهِلَها من جهلها، وليس جهلُنا للحكمة في عبادة من العبادات دليلاً على أنه لا وجود لها، بل هو دليلٌ على عجزنا نحن عن إدراك حكمة الله سبحانه وتعالى القائل: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85]. ومِنْ ثَمَّ فإن من أعظم حكم الصيام على الإطلاق كما أخبر مُشرِّع الصيام جل وعلا: أنه سبب لتقوى الله سبحانه وتعالى، قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] فالصيام سبب لحصول التقوى، وهذه حكمة بالغة من حكمه العظيمة؛ ليتقي الصائم ربه جل وعلا. والتقوى: هي وصية الله للأولين والآخرين من الخلق، وهي كما عرفها عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أن يطاع الله فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر. وهي كما عرفها طلق بن حبيب بقوله: هي أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نور من الله، تخاف عقاب الله. ورحم الله من ترجم هذه المعاني الجليلة فقال: خل الذنوب صغيرها وكبيرها فهو التقى واصنع كماش فوق أرض الشوك يحذر ما يرى لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى فالتقوى من أعظم ما يترتب على الصيام: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). والصيام يهيئ النفوس ويربيها على تقوى الله سبحانه وتعالى؛ لأن أمر الصيام موكول ابتداءً وانتهاءً إلى نفس الصائم وضميره، إذ لا رقيب على الصائم إلا الله، ومن هنا يربي الصوم ملكة المراقبة في قلب الصائم لله جل وعلا، بامتثال أوامره واجتناب نواهيه. ومن حكم الصيام البالغة أن الصوم يربي النفس، ويكسر شهواتها، ويحد من كبريائها، فتخضع للحق وتلين للخلق. ومن حكم الصيام أيضاً: تذكير الأغنياء الذين يرفلون في نعم الله جل وعلا أن لهم إخواناً لا يتضورون جوعاً في نهار رمضان فحسب، بل إنهم يتضورون جوعاً في كل يوم على مدار العام، بل ومنهم من يموت من شدة الجوع والعطش! ومن ثم يتحرك أصحاب القلوب الحية، والنفوس الأبية، للبذل والإنفاق والعطاء. أما فوائد الصيام الصحية فحدث عنها ولا حرج، ولعله لا يجهلها مسلم ولا مسلمة ولله الحمد والمنة، فما أعظم حكمة الله وأبلغها! وصدق الله جل وعلا إذ يقول: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14].

أركان الصيام

أركان الصيام ثانياً: أركان الصيام.

الإمساك عن جميع المفطرات

الإمساك عن جميع المفطرات الركن الثانى: الإمساك عن جميع المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، قال الله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِن الخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187] والمراد بالخيط الأبيض والأسود: سواد الليل وبياض النهار، لما ورد في الصحيحين من حديث عدي بن حاتم أنه قال: لما نزلت هذه الآية: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} [البقرة:187] الآية قال عدي: (عمدت إلى عقال أسود، وإلى عقال أبيض، وجعلتهما تحت وسادتي، وجعلت أنظر إليهما في الليل فلا يستبين لي شيء، فلما أصبحت غدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك، فضحك النبي عليه الصلاة والسلام وقال: إن وسادك إذاً لعريض، إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار). فالركن الثاني: أن تمسك عن الطعام والشراب، وعن جميع المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. الركن الثالث: هو الصائم نفسه، بشرط أن يكون مسلماً عاقلاً بالغاً قادراً على الصيام.

النية

النية أول ركن من أركان الصيام هو: النية، والنية عمل من أعمال القلوب لا تصح عبادة على الإطلاق إلا بها، قال الله سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة:5]. وقال المصطفى صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث عمر: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى). ويرى جمهور الفقهاء وجوب تبييت النية من الليل لصيام الفريضة، بمعنى: أنه يجب على الصائم أن يبيت النية ويعقدها من الليل لصيام الفريضة. واستدل جمهور الفقهاء على ذلك بالحديث الذي رواه أصحاب السنن بسند صحيح من حديث حفصة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له)، وهذا الحكم خاص بصيام الفريضة -أي: بصيام شهر رمضان، والنذر والقضاء ونحو ذلك- أما صيام النافلة فتجزئ فيه النية بليل أو بنهار ما دام الصائم لم يأكل شيئاً، والدليل على ذلك ما رواه الإمام مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: دخل عليّ النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: (هل عندكم شيء -أي: من الطعام؟ - فقلنا: لا. فقال عليه الصلاة والسلام: فإني صائم) فصيام النافلة يجوز أن تعقد النية له من الليل ومن النهار، بشرط ألا تكون قد طعمت شيئاً. أما صيام الفريضة فيجب عليك أن تعقد النية من الليل قبل الفجر. وهنا سؤال ألا وهو: هل تكفي نية واحدة لصيام الشهر كله؟ A اختلف العلماء في ذلك على قولين: الأول للمالكية: حيث قالوا: إن نية واحدة في أول الشهر تكفي لصيام الشهر كله. القول الثاني: وهو قول جمهور الفقهاء -وهو الراجح والله تعالى أعلم- أنه يجب على الصائم أن يبيت النية لكل يوم على حدة. ولا يشترط في النية أن يتلفظ الصائم بها، ولو نسي التلفظ فلا يقال: إن صيامه غير صحيح؛ لأن النية محلها القلب كما قال الحبيب: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)، فضلاً عن أن سحور الصائم نية، والحمد لله على تيسيره وامتنانه.

مبطلات الصيام

مبطلات الصيام ثالثاً: مبطلات الصيام. وهذه لمحات موجزة سريعة، وأبدأ بأشدها وأكبرها إثماً.

الحيض والنفاس

الحيض والنفاس خامساً: من مبطلات الصيام الحيضُ والنفاس للنساء، فإذا رأت المرأة دم الحيض أو دم النفاس في نهار رمضان في أول اليوم أو في آخره حتى ولو قبل أذان المغرب بلحظات بطل صومها وفسد، ووجب عليها أن تفطر، ويجب عليها بعد ذلك القضاء بعد الطهر، والدليل على ذلك ما رواه الإمام مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أنها سئلت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟! فقالت عائشة: (كان يصيبنا ذلك، فكنا نؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة). فالحائض والنفساء إذا رأت دم الحيض أو دم النفاس -حتى ولو قبل الغروب بلحظات- وجب عليها أن تترك الصيام، وأن تفطر، وتقضي الأيام بعد الطهر، ولا حرج عليها ولا إثم؛ لأن حيضتها ليست بيدها كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام. هذه هي أشهر مبطلات الصوم، والله تعالى أعلم.

الأكل والشرب عمدا

الأكل والشرب عمداً المبطل الثالث من مبطلات الصيام: الأكل والشرب عمداً، فمن أكل أو شرب متعمداً في نهار رمضان بطل صومه، وعليه الإثم، ووجب عليه القضاء دون الكفارة، أما من أكل أو شرب ناسياً فليتم صومه، وصيامه صحيح، لما ورد في الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه).

القيء عمدا

القيء عمداً المبطل الرابع من مبطلات الصوم: القيء عمداً، وهو أن يضع الإنسان أصبعه في فمه ليخرج ما في بطنه، فإن تقيء الصائم عمداً بطل صومه، ووجب عليه القضاء، أما إن ذرعه القيء -أي: غلبه القيء- بغير رغبة منه ولا اختيار فليتم صومه، وصيامه صحيح، لما رواه أبو داود والترمذي وصحح الحديث الحاكم في المستدرك، وصححه أيضاً شيخ الإسلام ابن تيمية في حقيقة الصيام، وهو أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من استقاء عامداً فليقض، ومن ذرعه القيء -أي: ومن غلبه القيء- فلا قضاء عليه).

إنزال المني بشهوة

إنزال المني بشهوة المبطل الثاني من مبطلات الصيام: إنزال المني بشهوة، أي: بغير جماع، فمن أنزل منيه بشهوة بدون جماع، عن طريق التقبيل أو المباشرة أو الملامسة أو الاستمناء باليد فهو آثم، وعليه القضاء دون الكفارة. وبالمناسبة أود أن أقول: إن بعض الناس ربما يتحرجون من ذكر هذه الأحكام، وأنا أقول: عجباً! هل هناك على ظهر الأرض من هو أشد حياءً من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ كلا، لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أشد حياءً من العذراء في خدرها، وهو المبين لنا هذه الأحكام، والموضح لنا هذه الأحكام، فواجب على كل مسلم ومسلمة أن يتعلم أحكام دينه ليعبد الله جل وعلا عبادة صحيحة راشدة، قالت عائشة رضي الله عنها: (رحم الله نساء الأنصار، لم يمنعهن حياؤهن من أن يتفقهن في الدين). أقول: إذا أنزل الرجل منيه بشهوة من غير جماع بطل صومه، ووجب عليه القضاء دون الكفارة، إذ لم تثبت الكفارة إلا في الجماع، ومن قال بغير ذلك فلا دليل معه، والله تعالى أعلم. ودعوني أشير إلى بعض النقاط السريعة المتعلقة بهذا المبطل الثاني، وهو إنزال المني بشهوة، فكثيراً ما أسأل من الشباب، إذا نام الشاب في نهار رمضان واحتلم فما حكم صومه؟ أقول: إن صيامه صحيح، فليغتسل وليتم صومه ولا شيء عليه؛ لأن الاحتلام بغير إرادة منه ولا اختيار. أيضاً: ما حكم من جامع زوجته في الليل ولم يغتسل حتى أذن الفجر؟ أقول: إن صيامه صحيح، فليغتسل وليقم ليصلي صلاة الفجر، ولو أذن عليه الفجر وهو جنب من أهله فلا إثم عليه ولا حرج، لما رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي عليه الصلاة والسلام يدركه الفجر وهو جنب من جماع أهله، ثم يغتسل ويصوم). ونقطة ثالثة: ما حكم من قبل زوجته أو باشرها ولم ينزل؟ نقول: إن صيامه صحيح، ولكن يخشى عليه أن يقع فيما وراء ذلك، فإن قبل الرجل أهله أو باشر زوجته بدون إنزال فصيامه صحيح؛ لما ورد في الصحيحين من حديث عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (كان يقبل ويباشر وهو صائم، إلا أنه كان أملككم لإربه).

الجماع في نهار رمضان

الجماع في نهار رمضان أول مبطلات الصيام: الجماع، فإن جامع الصائم زوجته في نهار رمضان بطل صومه، ووجب عليه القضاء والكفارة المغلظة، وهي: عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، وإن أفطر يوماً بين الشهرين وجب عليه أن يواصل وأن يستأنف الصيام من جديد مرة أخرى لتحصل له المتابعة، أما إن مر عليه في وسط الشهرين عذر شرعي، أو عذر حسي فلا حرج عليه أن يفطر، ثم يواصل الصيام، ولا يستأنف الصيام من جديد. فإن مر عليه عذر شرعي كأيام العيدين -مثلاً- فحينئذ يجوز له أن يفطر وأن يواصل الصيام مرة أخرى، ولا يستأنف الصيام من جديد، وإن مر عليه عذر حسي كالمرض جاز له أن يفطر ثم يواصل الصيام مرة أخرى، ولا يستأنف الصيام من جديد. واختلف العلماء في حكم الكفارة هل هي على الترتيب أم على التخيير؟ والراجح أن الكفارة على الترتيب، وهذا قول جمهور أهل العلم، واستدلوا على ذلك بما رواه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله هلكت! -وفي لفظ عن عائشة في الصحيح: قال: يارسول الله احترقت! - فقال النبي عليه الصلاة والسلام: مالك؟ قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم! فقال النبي عليه الصلاة والسلام: فهل تجد رقبة تعتقها؟ قال: لا. قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا. قال: فهل تجد إطعام ستين مسكيناً؟ قال: لا. يقول أبو هريرة: فمكث النبي صلى الله عليه وسلم، وبينما نحن كذلك إذ أتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق -أي: بمكتل فيه تمر- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أين السائل؟ -وفي لفظ عائشة: أين المحترق آنفاً؟ فقال: أنا يا رسول الله! فقال النبي عليه الصلاة والسلام: خذ هذا التمر وتصدق به. فقال الرجل: على أفقر مني يا رسول الله؟! فوالله ما بين لابتيها -أي: المدينة- أهل بيت أفقر من أهل بيتي، فضحك النبي عليه الصلاة والسلام حتى بدت نواجذه، وفي لفظ البخاري: حتى بدت أنيابه، ثم قال عليه الصلاة والسلام: خذ هذا فأطعمه أهلك). والدليل من هذا الحديث: الترتيب في الكفارة، فجمهور الفقهاء يقولون: إن الكفارة على الترتيب لا على التخيير. واختلف العلماء في حكم المرأة التي أكرهها زوجها على الجماع في نهار رمضان، والراجح -بدون تفريعات أقوال أهل العلم- أن المرأة التي يكرهها زوجها على الجماع في نهار رمضان يجب عليها القضاء فقط دون الكفارة؛ إذ لم يثبت دليل صحيح يلزمها بالكفارة في حالة الإكراه.

رخص الصيام وآدابه

رخص الصيام وآدابه رابعاً: رخص الصيام وآدابه. هناك رخص عديدة امتن الله جل وعلا بها على العباد؛ رفعاً للحرج ودفعاً للمشقة، منها: 1 - أنه يجوز للصائم المريض أن يفطر في نهار رمضان، وكذا للمسافر الذي يشق عليه الصوم لقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:185]. 2 - ومن الرخص أيضاً: أنه يجوز للصائم استخدام السواك في كل وقت: قبل الزوال وبعد الزوال، هذا هو القول الراجح والصحيح من أقوال أهل العلم، أما قول بعض أهل العلم بعدم جواز استخدام السواك للصائم بعد الزوال فلا دليل عليه، أما حديث علي المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا صمتم فاستاكوا بالغداة، ولا تستاكوا بالعشي) رواه البيهقي والدارقطني، فهو حديث ضعيف جداً لا يحتج به. فالسواك مشروع للصائم في كل وقت من نهار رمضان. أما احتجاج بعضهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك) فمن المعلوم لكل أحد أن رائحة الخلوف إنما تنبع من الجوف والبطن لا من الفم، فالسواك جائز للصائم في كل وقت من نهار رمضان، لاسيما في الأوقات الستة التي ورد النص بذكرها وتحديدها، وهي: عند الصلاة، والوضوء، وعند الاستيقاظ من النوم، ودخول المنزل، وعند قراءة القرآن، وعند تغير رائحة الفم. هذه هي المواضع الستة التي ورد النص الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم كان يستاك فيها. 3 - ومن رخص الصيام: أنه يجوز للصائم أن يغتسل بالماء البارد؛ ليذهب عن نفسه حدة الحر أو حدة العطش؛ لما ورد في الحديث الصحيح الذي رواه مالك وأبو داود أنه صلى الله عليه وسلم (كان يصب الماء على رأسه وهو صائم من الحر أو من العطش). 4 - ومن رخص الصيام أيضاً: أنه يجوز للصائم -إن احتاج- أن يضع دواء كالقطرة -مثلاً- في أذنه أو في عينه في نهار رمضان، فلا حرج عليه على الإطلاق، حتى ولو وجد طعم القطرة في حلقه؛ لأن هذا الدواء ليس بأكل ولا بشرب، ولا في معنى الأكل والشرب. 5 - ومن رخص الصيام أيضاً: أنه يجوز للصائم الذي أصيب بمرض الربو أن يستخدم البخاخ في حالة أزمة تنفسه، وليتم صومه ولا حرج عليه ولا إثم؛ لأن هذا البخاخ ليس بطعام ولا شراب، ولا في معنى الطعام والشراب. الحمد لله على تيسيره وفضله وامتنانه: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78].

آداب الصيام

آداب الصيام أما عن آداب الصيام فنذكرها بإيجاز شديد: 1 - السحور؛ لما ورد في الصحيحين أنه عليه الصلاة والسلام قال: (تسحروا فإن في السحور بركة)، ومن المستحب تأخير السحور لما ورد في الصحيحين من حديث أنس عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: (تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قمنا إلى الصلاة -أي: إلى صلاة الفجر- فقال أنس بن مالك لـ زيد بن ثابت: كم كان بين الأذان والسحور؟ فقال زيد: قدر خمسين آية) أي: بين السحور وبين الأذان، فالمستحب أن يؤخر الصائم السحور. والسحور يحصل بكثير الطعام وقليله، بل ولو بجرعة ماء. 2 - تعجيل الفطر لقول النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين من حديث سهل بن سعد: (لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر). ومن السنة أن يكون إفطار الصائم على رطب، فإن لم يجد فعلى التمر، فإن لم يجد فعلى الماء. 3 - الدعاء، فإن كثيراً من الناس قد ينسى هذه السنة الطيبة، فإن للصائم دعوة لا ترد، فمن السنة أن يدعو الصائم عند إفطاره، ومن أصح ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه ما رواه أبو داود بسند حسن من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم (كان إذا أفطر يدعو الله ويقول: ذهب الظمأ وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله تعالى). 4 - ومن آداب الصيام الواجبة لا المستحبة: ترك الغيبة والنميمة وقول الزور، فإذا صامت بطنك عن الطعام والشراب، وصام فرجك عن الشهوة؛ فلتصم جوارحك عن معصية الله تبارك وتعالى، وهذه هي الحكمة -أصلاً- من مشروعية الصيام، لا أن يدع الإنسان طعامه وشرابه فقط، بل ليتربى الإنسان على كل فضيلة، وعلى كل خلق، فالغيبة والنميمة وقول الزور أعمال محرمة في كل وقت، وتزداد حرمتها في رمضان. أما قول بعض أهل العلم: إن الغيبة والنميمة تفطران الصائم، واستدلالهم على ذلك بحديث رواه الإمام أحمد في ذكر المرأتين اللتين أفطرتا لأنهما أكلتا لحوم الناس، فإن الحديث ضعيف، ولا دليل على أن الغيبة والنميمة تفطر الصوم، ولكن تزداد حرمتها في رمضان. هذه بعض آداب الصيام المستحبة والواجبة. أسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولو الألباب، وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

أخطاء في الصيام

أخطاء في الصيام

جعل رمضان فرصة للنوم والخمول والكسل

جعل رمضان فرصة للنوم والخمول والكسل وأخيراً: من أخطاء بعض الصائمين أنهم يحولون شهر رمضان إلى فرصة للنوم والخمول والكسل، فترى كثيراً منهم يقضي النهار كله أو معظمه نائماً، ويضيع صلاة الجماعة والعياذ بالله، ليس هذا هو المقصود من الصيام، بل إذا ذكرت أحدهم ربما يحتج عليك بدليل شرعي، فيقول لك: (نوم الصائم عبادة)، وهو حديث ضعيف لا يحتج به، ثم إنك لم تؤمر بالصيام لتنام، مع أنه لا حرج عليك أن تنام قسطاً وافياً يريح بدنك، ويعينك على أن تصوم وتقوم، أما أن تقضي النهار كله نائماً فلا. هذه بعض أخطاء الصائمين، وأسأل الله جل وعلا أن يتقبل منا وإياكم صيامنا وقيامنا إنه ولي ذلك والقادر عليه. اللهم لا تجعلنا ممن صام وقام ولم يرضك، يا أرحم الراحمين! اللهم لا تجعلنا ممن صام وقام ولم يرضك، يا أرحم الراحمين! اللهم إنا وقفنا ببابك سائلين، ولمعروفك طالبين، فلا تردنا خائبين، برحمتك، يا أرحم الراحمين! اللهم إنا قد وفدنا إليك، ووقفنا بين يديك، فلا تجعلنا أخيب وفد وفد إليك، يا رب العالمين! اللهم اقبل منا الصيام والقيام والقرآن، برحمتك يا رب العالمين! اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. اللهم لا تدع لأحد منا ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا أديته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا طائعاً إلا ثبته، ولا حاجة هي لك رضاً ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ويسرتها، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، وأعل بفضلك كلمة الحق والدين، واقبلنا وتقبل منا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، اللهم وفق حكام المسلمين لكل ما تحبه وترضاه، وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة التي تؤزهم إلى الخير أزاً يارب العالمين! هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه. اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا وحبيبنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

سوء الخلق في التعامل مع الناس

سوء الخلق في التعامل مع الناس أيضاً من الأخطاء التي يقع فيها بعض أحبابنا الصائمين: أننا نرى من الصائمين من يخرج عن حدود اللياقة، فتراه في نهار رمضان فظاً غليظاً سيء الخلق، سيء التعامل مع الآخرين من الموظفين أو من الجمهور، فإذا كان مسئولاً وقيل له: لماذا تتصرف هكذا؟! يقول: إني صائم! سبحان الله العظيم! وهل الصوم يحضك على الفظاظة؟! وهل الصوم يأمرك بالقسوة والغلظة؟! وهل الصوم يعلمك سوء التعامل مع الآخرين؟! كلا. إن الصيام مدرسة عظيمة للتربية على كل فضيلة، وعلى كل خلق، ويجب أن تكون دائماً وأبداً ذاكراً لأمر وحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (والصيام جنة) أي: وقاية تقي الإنسان من كل شيء، من عذاب الله جل وعلا، بل ومن كل رذيلة في الدنيا: (الصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم) متفق عليه، تذكر أنك صائم، ولا تحتج بالصيام على هذه الأفعال والأقوال النابية، وعلى هذه الأصوات العالية، وعلى هذه القسوة والفظاظة والغلظة، بل يجب أن يكون العكس، فإن الصيام يربي على الخلق والأدب، وعلى التواضع واللين والرحمة، وعلى كل فضيلة من فضائل الأخلاق.

الإسراف والتبذير في المأكل والمشرب

الإسراف والتبذير في المأكل والمشرب ثالثا: من الأخطاء التي يقع فيها بعض الصائمين، وهذا أمر ملفت للأنظار ومحزن في الوقت ذاته: الإسراف والتبذير في المآكل والمشارب، فما عليك إلا أن تنظر إلى سفرة لتجد عليها أصنافاً عديدة من ألوان الطعام والشراب، سبحان الله! هذا الأمر يخالف حكمة مشروعية الصيام أصلاً، ويزداد الإثم والذنب حين الانتهاء من الطعام بأكل القليل جداً، ثم تملأ سلة المهملات بما تبقى من الطعام والشراب، في الوقت الذي يموت فيه الآلاف من شدة الجوع والعطش ولا حول ولا قوة إلا بالله! ورحم الله من قال: إنكم تأكلون الأرطال، وتشربون الأفضال، وتنامون الليل ولو طال، وتدعون أنكم أبطال!! هيهات هيهات! نأكل ملء بطوننا، ونشرب ملء بطوننا، ونضحك ملء أفواهنا، وننام ملء جفوننا، وندعي أنه إن لم ندخل الجنة نحن فمن يدخلها؟! ما أقل حياء من طمع في جنة الله ولم يعمل بطاعة الله!! إن سلف الأمة رضوان الله عليهم كانوا يصومون النهار، ويقومون الليل، وتورمت أقدامهم من القيام بين يدي الله جل وعلا، وبالرغم من ذلك كانوا يبكون ويرتعدون كعصفور مبلل بماء المطر خوفاً من لقاء الله جل وعلا. ها هو فاروق الأمة عمر رضوان الله عليه يدخل عليه ابن عباس -كما في صحيح البخاري - وهو على فراش الموت، فيجد فاروق الأمة يبكي خوفاً ووجلاً، ويقول: (والله إني لأرجو أن أخرج من الدنيا كفافاً لا لي ولا علي) فاروق الأمة يقول هذا! فينبغي ألا نسرف في المأكل والمشرب، وأقصد من هذا الاعتدال، فأنا لا أحرم طيبات ما أحل الله لعباده، بل أقصد بهذه الفقرة الاعتدال، فإننا أمة وسط، يجب علينا أن نكون وسطاً في كل شيء، والرسول صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، فيجب علينا أن نكون معتدلين، وأن نكون وسطاً في المآكل والمشارب، استلذ بطيبات الله تبارك وتعالى، وبما أحل الله لك، لكن من غير سرف ولا تبذير، فإن الإسراف حرام.

الجد في أول الشهر والتكاسل في آخره

الجد في أول الشهر والتكاسل في آخره الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وصحبه وسلم. أخيراً: أخطاء في الصيام. لا ريب أن الصائمين من أفضل عباد الله، ولكنْ هناك بعضُ الأخطاء يقع فيها بعضُ الصائمين نذكر بها: منها: أن بعض الصائمين يقبل على العبادة في أول الشهر إقبالاً طيباً، فيحرص على الصلوات في جماعة، ويحرص على صلاة الفجر، ويحرص على قراءة القرآن، ويحرص على الاستغفار، ويحرص على أن يكون وديعاً رقيقاً لطيفاً، فإذا ما انقضت الأيام الأول من الشهر تكاسل -والعياذ بالله- عن هذه العبادات، وعن هذه الأعمال والطاعات، وعن هذا الخير كله. تذكر أيها الصائم الحبيب قول النبي عليه الصلاة والسلام في الصحيحين من حديث عائشة: (أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل)، فإن كنت ممن مَنَّ الله عليك بعبادة من العبادات في أول الشهر، فإياك أن تضيع هذه العبادة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول كما في صحيح البخاري: (إنما الأعمال بالخواتيم)، إن مَنَّ الله عليك في أول الشهر بالحرص على صلاة الفجر في جماعة، وأداء الصلوات كلها مع الجماعة، وقراءة القرآن والذكر والاستغفار، والصدقة والبذل والجود والعطاء، فلا تبخل ولا تتوانى ولا تتكاسل، واعلم أن الأعمال بالخواتيم، أسأل الله جل وعلا أن يرزقني وإياكم حسن الخاتمة.

واعبد ربك حتى يأتيك اليقين

واعبد ربك حتى يأتيك اليقين كثير من المسلمين يقبلون على العبادة في رمضان، فإذا ولى رمضان تولوا عن العبادة، وكأن رب رمضان غير رب شوال!! والعبادة هي الغاية من الخلق، فيجب على المسلم أن يلزمها حتى يلقى ربه.

انتهى رمضان وبقي الرحيم الرحمن

انتهى رمضان وبقي الرحيم الرحمن إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة الفضلاء، وأيتها الأخوات الفاضلات، وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم الكريم جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار مقامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] هذا هو عنوان لقائنا مع حضراتكم في أول لقاء لنا بعد رمضان. وسأرتب الحديث مع حضراتكم بإذن الله تعالى في هذا الموضوع المهم في العناصر التالية: أولاً: انتهى رمضان وبقي الرحيم الرحمن. ثانياً: حقيقة العبادة. ثالثاً: لا تفارق العبادة حتى تلقى الله. وأخيراً: أليس الله أهلاً لأن يعبد؟ فأعيروني القلوب والأسماع جيداً، والله أسأل أن يتقبل منا ومنكم جميعاً صالح الأعمال، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:18]. أولاً: انتهى رمضان وبقي الرحيم الرحمن. أحبتي الكرام! لقد انتهى شهر رمضان، ربح فيه من ربح، وخسر فيه من خسر، وقبل فيه من قبل، وطرد فيه من طرد، فيا ترى من المقبول لنهنئه؟! ومن المطرود لنعزيه؟! نسأل الله أن يجعلنا جميعاً من المقبولين. انتهى هذا الشهر بأنفاسه الخاشعة الزاكية، لكن الذي يؤلم القلب أننا نرى إعراضاً وفتوراً عن كثير من الطاعات بعد انقضاء رمضان، فإن كثيراً من المسلمين لا ينطلقون للعبادة إلا في رمضان، ومع أول فجر من شهر شوال ترى كثيراً منهم قد تفلت من عبادة الكبير المتعال وكأنه يعبد رمضان لا يعبد رب رمضان! وأود دوماً في مثل هذا اللقاء الأول بعد رمضان أن أذكر بأن قضية العبادة لله تبارك تعالى ليست قضية هامشية ولا موسمية، ولكنها القضية الأولى التي من أجلها خلق الله السماوات والأرض والجنة والنار، وأرسل من أجلها الرسل، وأنزل لأجلها الكتب، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58]، لا شك أن الله قد اختص رمضان بكثير من رحماته وبركاته، فأنت ترى الناس في رمضان يقبلون على الطاعة بأريحية عجيبة وسهولة كبيرة؛ وذلك بفضل الله ابتداء، ولبركة الاجتماع في الطاعة انتهاء. فيا عين جودي بالدموع وودعي شهر الصيام تشوقاً وحناناً قد كان شهراً طيباً ومباركاً ومبشراً بالعفو من مولانا شهر يستجيب الله فيه لمن دعا ودليلنا قد جاءنا قرآنا شهر به الرحمن يفتح جنة للصائمين ويغلق النيرانا مرت لياليه الجميلة مسرعة كفيض يحمل رحمة وحنانا لله يا شهر التقى لا تنسنا واذكر لربك خوفنا ورجانا أيها الإخوة! أنا لا أنكر أن الله قد اختص رمضان بكثير من رحماته وبركاته، لكن الذي يؤلم القلب أن كثيراً من المسلمين يتخلى عن كثير من الثوابت الإيمانية بعد رمضان، فإن انتهى رمضان فقد بقي الرحيم الرحمن جل جلاله، وقد فرض العبادة على الموحدين في رمضان وفي غير رمضان، ومن ثم اخترت هذا العنوان: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] فما هي العبادة؟ وما حقيقة العبادة؟ هذا هو عنصرنا الثاني بإيجاز بعد هذه المقدمة المختصرة.

حقيقة العبادة

حقيقة العبادة العبادة معناها في اللغة: الذل، يقال: طريق معبد، أي: طريق مذلل قد وطأته الأقدام، ولكن العبادة التي أمرنا بها تتضمن إلى معنى الذل معنى الحب، فمن خضع لله تبارك وتعالى بغير حب فليس عابداً لله، ومن ادعى أنه يحب الله دون استسلام لأمره ونهيه فليس عابداً لله، بل العبادة هي: كمال الحب لله مع كمال الذل لله جل وعلا، وهي: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة كالصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وبر الوالدين، والإحسان إلى الجيران، والإحسان إلى الفقراء والمساكين، ودروس العلم، والدعوة إلى الله، والتوكل على الله، والصبر لحكم الله، والشكر لله، والخوف من الله، والرجاء، والتفويض، والتوكل، والاستغاثة، والاستعانة، والإنابة، والابتسامة، والعمل الصادق، كل هذا من العبادة. فالعبادة تسع الحياة كلها إن صحت النية، وكان العمل موافقاً لهدي سيد البشرية، ومن أعظم الأدلة النبوية على هذه الرحمة الندية ما رواه مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه: (أن أناساً جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! ذهب أهل الثور بالأجور -أهل الدثور هم أصحاب الأموال-، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم -أي: بما زاد من أموالهم-، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أوليس الله قد جعل لكم ما تصدقون به؟ إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة -أي: في جماع الرجل امرأته صدقة-، قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته فيكون له فيها أجر؟! قال: أرأيتم لو وضعها في الحرام، أيكون عليه وزر؟ قالوا: بلى، قال: فإن وضعها في الحلال فله فيها أجر). فالعبادة ليست أمراً على هامش الحياة، بل تسع العبادة الحياة كلها إن صحت النية، وكان العمل موافقاً لهدي سيد البشرية صلى الله عليه وسلم، فلا تفهم العبادة فهماً جزئياً قاصراً، ولا ينبغي أن نصرف العبادة لله تعالى في شهر دون شهر، وفي زمان دون زمان، بل مقتضى العبودية لله تعالى أن يقول الرب جل جلاله: أمرت ونهيت، وأن يقول العبد المؤمن: سمعت وأطعت، هذا مقتضى العبودية، وهذا شعار المؤمن في أي أرض وتحت أي سماء وفي أي زمان: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285]، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36]، وقال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور:51 - 52]. أما شعار المنافقين: فهو السمع والعصيان، هو السمع والأعراض، هو الصد عن دين الله وعن عبادته جل وعلا، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء:60 - 61]، فمقتضى الإيمان: أن يسلم المؤمن قلبه وعقله وحياته للمصطفى؛ ليقوده إلى سعادة الدارين بوحي الله المعصوم: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:3 - 5]. فالمؤمن الصادق ممتثل للأمر، مجتنب للنهي، وقاف عند الحدود في رمضان وفي غير رمضان؛ لأنه يمتثل أمر الله لنبيه: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99]، وهذا هو عنصرنا الثالث: لا تفارق العبادة حتى يأتيك اليقين، أي: حتى تلقى الله.

لا تفارق العبادة حتى تلقى الله

لا تفارق العبادة حتى تلقى الله المؤمن يعبد الله حتى يلقى الله وهو على عبادة، وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم اليقين بالموت كما في صحيح البخاري في قصة موت عثمان بن مظعون رضي الله عنه، وعثمان بن مظعون ممن شهد بدراً، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)، وهو أول من لقب بالسلف الصالح، وكان من الزهاد العباد، وثبت في رواية في سندها ضعف: (أن عثمان بن مظعون لما مات ذهب إليه المصطفى فقبله بين عينيه، وبكى حتى سالت دموع رسول الله صلى الله عليه وسلم على خدي عثمان بن مظعون رضي الله عنه)، هذا الصحابي الجليل المبارك (لما مات قالت امرأة من الأنصار يقال لها أم العلاء: رحمة الله عليك أبا السائب -تقصد عثمان بن مظعون - شهادتي عليك أن الله أكرمك، فقال لها المصطفى صلى الله عليه وسلم: وما يدريك أن الله أكرمه؟ فقالت أم العلاء: سبحان الله! فمن يا رسول الله؟! -أي: فمن هذا الذي سيكرمه الله إن لم يكرم الله عثمان بن مظعون؟! - فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: أما هو فقد جاءه اليقين -يعني: الموت- وإني لأجو له الخير، ثم قال المصطفى: والله ما أدري -وأنا رسول الله- ما يفعل بي ولا بكم!). يا من غرتك عبادتك! ويا من غرتك طاعتك! ويا من ملأ قلبك العجب والكبر! ويا من غرك علمك! هاهو رسول الله أعرف الناس بالله، وأخشى الناس لله، وأتقى الناس لله، الذي غفر له مولاه ما تقدم من ذنبه وما تأخر يقول: (والله ما أدري -وأنا رسول الله- ما يفعل بي ولا بكم)، اللهم ارزقنا حسن الخاتمة يا أرحم الراحمين. فاليقين هو الموت، فأنت مأمور أيها الموحد لله جل وعلا، وأيتها الموحدة لله جل وعلا؛ نحن مأمورون بأمر الله لنبيه أن نعبد الله جل جلاله حتى يأتينا اليقين، حتى يأتينا الموت ونحن على عبادة وطاعة لرب العالمين. قالت عائشة رضي الله عنها كما في صحيح مسلم: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عمل عملاً أثبته) أي: داوم عليه وحافظ عليه. وفي الصحيحين من حديث عائشة مرفوعاً: (أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل). وفي صحيح مسلم من حديث أبي عمرة سفيان بن عبد الله قال: (يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك؟ فقال له المصطفى صلى الله عليه وسلم: قل: آمنت بالله ثم استقم). استقم أيها الموحد لله استقم على العبادة استقم على الطاعة، لا ينبغي أن يروغ المؤمن روغان الثعالب، إن المؤمن مستقيم ثابت على طاعة الله، حتى ولو زلت قدمه بالمعصية، فإنه سرعان ما يجدد الأوبة والتوبة إلى الله جل وعلا: (قل: آمنت بالله ثم استقم)، وفي رواية الترمذي وأحمد: (قال: حدثني بأمر أعتصم به؟ قال: قل: ربي الله ثم استقم، قال: فما أخوف ما تخاف علي يا رسول الله؟ فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بلسان نفسه، وقال: أخوف ما أخاف عليك هذا، وأشار المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى لسانه). فاستقم على طاعة الله، واعلم بأن الاستقامة على عبادة الله جل وعلا فضلها عظيم في الدنيا قبل الآخرة: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:30 - 32]. (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) على منهج الله على العبادة على الطاعة، (تتنزل عليهم الملائكة) متى؟ قال مجاهد وزيد بن أسلم: تتنزل عليهم الملائكة وهم على فراش الموت، في لحظات السكرات والكربات، في لحظات شديدة قاسية، تألم منها نبينا المصطفى نفسه، حتى قالت الصديقة بنت الصديق: والله لا أكره شدة الموت لأحد بعدما رأيت رسول الله. في هذه اللحظات تتنزل الملائكة على أهل الاستقامة، على أهل العبادة والطاعة بهذه البشارة الكريمة: (أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) من أنتم يا أصحاب هذه البشارة؟ سيأتي A ( نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا) أي: في الجنة، (مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ) أي: ما تريدون وما تطلبون، (نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) أي: ضيافة وإنعاماً وإكراماً من الله جل جلاله. قال ابن عباس وقتادة وابن أبي حاتم: تتنزل الملائكة على أهل الإيمان والاستقامة عند الخروج من القبور يوم البعث والنشور، في يوم الفضيحة الكبرى، نسأل الله أن يسترنا في الدنيا والآخرة، يوم يقوم الناس جميعاً إلى القبور حفاة عراة غرلاً، فإذا خرج أهل الاستقامة على طاعة الله وعبادة الله من القبور تلقتهم ملائكة العزيز الغفور بهذه البشارة الكريمة: (أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) * (نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ) * (نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ). ولا تعارض في الجمع بين القولين: فالملائكة تتنزل بالبشارة على أهل الاستقامة، على أهل الطاعة إذا ناموا على فراش الموت، وإذا خرجوا من القبور مرة أخرى، {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27]. لا تفارق العبادة حتى تلقى الله جل وعلا، ولو علم الواحد منا أن الموت لا يعلمه ملك مقرب ولا نبي مرسل لظل في طاعة الله وفي عبادة الله حتى يأتيه هذا الغائب الذي لا علم لأحد بقدومه: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان:34]. والله لا أعلم يقيناً هو أشبه بالشك من الموت لعدم استعدادنا له. هل من المسلمين أحد أو من المسلمات إلا والكل يعلم أنه سيموت؟ الموت حق لا مراء فيه ولا شك، ولكن من من المسلمين استعد لهذا اليقين بالطاعة والعبادة؟ لو جاء ملك الموت لأحدنا الآن فهل هو على استعداد بعمله الذي هو عليه للقاء الله؟ كان السلف رضوان الله عليهم إذا جاء أحدهم ملك الموت ربما لا يجد عنده من الطاعة ما يزيد؛ لأنه ممتثل للأمر، مجتنب للنهي، منتظر للقاء الرب جل جلاله في أي لحظة من اللحظات! فاعبد الله حتى يأتيك اليقين، حتى يأتيك الموت، وإذا كنت لا تدري متى سيأتيك الموت فاجعل كل أنفاسك طاعة لله، واجعل كل حياتك وحركاتك وسكناتك عبادة لله، وامتثالاً لأمره جل في علاه: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163]. ولله در القائل: أيا عبد كم يراك الله عاصياً حريصاً على الدنيا وللموت ناسيا أنسيت لقاء الله واللحد والثرى ويوماً عبوساً تشيب فيه النواصيا لو أن المرء لم يلبس ثياباً من التقى تجرد عرياناً ولو كان كاسيا ولو أن الدنيا تدوم لأهلها لكان رسول الله حياً وباقيا ولكنها تفنى ويفنى نعيمها وتبقى الذنوب والمعاصي كما هي {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:19 - 22]. (وجاءت سكرة الموت بالحق) والحق: أنك تموت والله حي لا يموت، (وجاءت سكرة الموت بالحق) والحق: أن ترى عند موتك ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب، (وجاءت سكرة الموت بالحق) والحق: أن يكون قبرك روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران، (ذلك ما كنت منه تحيد) أي: تجري وتهرب وتفر. تحيد إلى الطبيب إذا جاءك المرض، وتحيد إلى الطعام إذا أحسست بالجوع، وتحيد إلى الشراب إذا أحسست بالظمأ، ولكن ثم ماذا أيها القوي الفتي! أيها الذكي العبقري! يا أيها الوزير! ويا أيها الأمير! ويا أيها الصغير! ويا أيها الفقير؟! كل باك فسيبكى وكل ناع فسينعى وكل مدخور سيفنى وكل مذكور سينسى ليس غير الله يبقى من علا فالله أعلى أيها الغافل! أيها اللاهي! أيها الساهي! يا من تركت القرآن بعد رمضان! يا من تركت الصلاة في جماعة بعد رمضان! يا من تحللت من الأوامر بعد رمضان! يا من تخليت عن الحساب بعد رمضان! يا من ضيعت قيام الليل بعد رمضان! يا من تركت الأذكار! يا من تخليت عن الصدقة في سبيل العزيز الغفار! (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ). دع عنك ما قد فات في زمن الصبا واذكر ذنوبك وابكها يا مذنب لم ينسه الملكان حين نسيته بل أثبتاه وأنت لاه تلعب والروح منك وديعة أودعتها ستردها بالرغم منك وتسلب وغرور دنياك التي تسعى لها دار حقيقتها متاع يذهب الليل ف

أليس الله أهلا لأن يعبد؟

أليس الله أهلاً لأن يعبد؟ أليس الله أهلاً لأن يعبد؟! أليس الله أهلاً لأن يوحد؟! أليس الله أهلاً لأن يمجد؟! أليس الله أهلاً لأن يطاع؟! أليس الله أهلاً لأن نستحيي منه؟! أليس الله أهلاً لأن نراقبه؟! أليس الله أهلاً لأن نمتثل أمره ونجتنب نهيه ونقف عند حدوده على الدوام حتى نلقاه؟! هذا هو عنصرنا الرابع: أليس الله أهلاً لأن يعبد؟ أيها الجاحد بعبادة الله! أيها المنحرف عن أوامر الله! أيها البعيد عن طاعة الله! هل أحسن إليك بشر من الخلق وأنكرت إحسانه؟ بل تظل تعترف له طوال حياتك بالإحسان، فمن الذي أحسن إليك وأنت في العدم؟! ومن الذي أحسن إليك الآن؟! ومن الذي سيحسن إليك في الآخرة؟! من صاحب الإحسان؟! من صاحب النعم؟! من صاحب الفضل؟! من صاحب الكرم؟! من صاحب الجود؟! من الذي خلقنا من العدم وصورنا في أحسن صورة؟! من الذي أنزل علينا القرآن؟! من الذي بعث لنا محمداً عليه الصلاة والسلام؟! من الذي خلقنا موحدين وجعلنا من أمة سيد المرسلين؟! من الذي خلق لنا الكون وأمده بهذه النعم التي لا تعد ولا تحصى؟! من الذي خلقك في أحسن صورة؟! نظرك في نفسك يكفيك دليلاً على أن الذي يستحق أن يعبد على الدوام هو الله، ونظرك في الكون من حولك يكفيك دليلاً على أن الذي يستحق العبادة على الدوام هو الله، فالله أهل لأن يعبد، الله أهل لأن يوحد لذاته جل جلاله (إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)، فوالله ما قدرنا الله حق قدره، والله ما قدرنا الله حق قدره، والله ما قدرنا الله حق قدره. جاء حبر من أحبار اليهود للمصطفى -والحديث في صحيح مسلم - فقال: (يا محمد! إنا نجد مكتوباً عندنا في التوراة: أن الله تعالى يجعل السماوات على إصبع، والأراضين على إصبع، والماء والثرى على إصبع، والشجر على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع، ثم يهزهن ويقول: أنا الملك، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر، وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم قوله جل وعلا: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67]). لله في الآفاق آيات لعل أقلها هو ما إليه هداك ولعل ما في النفس من آياته عجب عجاب لو ترى عيناك الكون مشحون بآيات إذا حاولت تفسيراً لها أعياك قل للطبيب تخطفته يد الردى يا شافي الأمراض من أرداك قل للمريض نجا وعوفي بعدما عجزت فنون الطب من عافاك قل للصحيح يموت لا من علة من بالمنايا يا صحيح دهاك قل للبصير وكان يحذر حفرة فهوى بها من ذا الذي أهواك بل سائل الأعمى خطا وسط الزحام بلا اصطدام من يقود خطاك قل للجنين يعيش معزولاً بلا راع ومرعى ما الذي يرعاك قل للوليد بكى وأجهش بالبكاء لدى الولادة ما الذي أبكاك وإذا ترى الثعبان ينفث سمه فاسأله من ذا بالسموم حشاك واسأله كيف تعيش يا ثعبان أو تحيا وهذا السم يملأ فاك واسأل بطون النحل كيف تقاطرت شهداً وقل للشهد من حلاك بل سائل اللبن المصفى كان بين دم وفرث من ذا الذي صفاك وإذا رأيت النخل مشقوق النوى فاسأله من يا نخل شق نواك وإذا رأيت النار شب لهيبها فاسأل لهيب النار من أوراك وإذا ترى الجبل الأشم مناطحاً قمم السحاب فسله من أرساك وإذا رأيت البدر يسري ناشراً أنواره فاسأله من أسراك لله في الآفاق آيات لعل أقلها هو ما إليه هداك ولعل ما في النفس من آياته عجب عجاب لو ترى عيناك الكون مشحون بآيات إذا حاولت تفسيراً لها أعياك من الذي يستحق أن يعبد؟! الله اسم لصاحبه كل كمال، الله اسم لصاحبه كل جمال، الله اسم لصاحبه كل جمال، الله هو الاسم الذي تستجاب به الدعوات، الله هو الاسم الذي تستنزل به الرحمات، الله هو الاسم الذي تقال به العثرات، الله هو الاسم الذي من أجله قامت الأرض والسماوات، الله هو الاسم الذي من أجله. أنزل الكتب وأرسل الرسل. الله اسم ما ذكر في قليل إلا كثره، الله اسم ما ذكر عند خوف إلا أمنه، الله اسم ما ذكر عند كرب إلا كشفه، وما ذكر عند بطش إلا أزاله. الله هو الذي يستحق أن يعبد وحده، وأن يمتثل لشرعه وحده، وأن يسمع له وحده، وأن يطاع وحده، وأن يراقب وحده، وأن يتوكل عليه وحده، وأن يحلف به وحده، وأن يستغاث به وحده، وأن يلجأ إليه وحده، وأن يفوض إليه وحده، وأن يسأل وحده، أئله مع الله؟! أئله مع الله؟! أئله مع الله؟! {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء:44]، فالذي يستحق أن يعبد وحده هو الله جل جلاله، لا في رمضان فقط، بل على الدوام حتى نلقاه. أسأل الله أن يختم لنا ولكم برضاه، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

العبادة غاية

العبادة غاية الحمد لله وحده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام! لا بد أن نعلم أن المنهج التعبدي من صيام وقرآن وصلاة وذكر وإنفاق وقيام لليل؛ إنما هو للوصول إلى هذا المنهج العقدي الإيماني. فالعبادة -أيها الأحبة- غاية من أجلها خلق الله الخلق: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، الهدف من هذه الغاية وهذا المنهج من صلاة وصيام وزكاة وحج؛ أن يرتقي المؤمن بهذا المنهج التعبدي إلى المنهج العقدي الإيماني، فنحن لا نريد أن نتعبد بعيداً عن هذا المنهج الإيماني العقدي؛ لأننا نريد للأمة الآن أن ترتقي بعبادتها هذه إلى المرتبة التي تكون بها أهلاً لنصر الله، فكم من مصل يصلي، وكم من صائم يصوم، وكم من قارئ للقرآن يتلو، وكم من قائم لليل يقوم، لكن لماذا منع الله النصرة عن الأمة؟! لماذا منع الله العزة عن الأمة؟! لماذا لم يمكن الله للأمة في الأرض ولم يستخلفها إلى الآن، مع أننا نرى المصلين والقارئين والمنفقين؟! أقول: أريد أن نرتقي بهذا المنهج التعبدي إلى المنهج العقدي الإيماني الذي نحقق به حقيقة الإيمان لنكون أهلاً للنصرة والعزة والاستخلاف والتمكين، قال الله: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]، ولم يقل: نصر المصلين، ولا المتصدقين، فلا بد أن تورثك الصلاة حقيقة الإيمان، لا بد أن يرفعك هذا المنهج التعبدي إلى الإيمان الحق. فلنرب أنفسنا وأولادنا وبناتنا ونساءنا على هذا المنهج، التعبد من أجل أن نحقق الإيمان: نصوم، ونصلي، ونقرأ القرآن، ونقوم الليل إلى آخر أفراد المنهج التعبدي لنحقق الإيمان، لنكون أهلاً لنصرة الرحمن، لنكون أهلاً للعزة والاستخلاف والتمكين. أيها المصلي! لا تخرج من المسجد لتضع المنهج التعبدي الذي كنت عليه في بيت الله على عتبة بيت الله، فتكون في العمل والتجارة إنساناً آخر يختلف اختلافاً كلياً عما كنت عليه في المسجد، هذا هو حال كثير من المسلمين الآن، يصلي، ويصوم، ويخرج لأداء العمرة في رمضان، ولربما يسافر للحج، ولكنه قد أغلق الجانب التعبدي على نفسه، فإذا انطلق إلى الحياة الفسيحة الواسعة الرحبة يتفلت من أوامر هذا المنهج التعبدي الذي ألزم به نفسه داخل بيوت الله تبارك وتعالى: فترى امرأته متبرجة، وترى بناته متبرجات، وتراه يتعامل بالربا، وتراه يأكل الحرام، وتراه يسيء إلى الوالدين، وتراه يسيء إلى مرءوسيه أو إلى موظفيه، وتراه يؤذي جيرانه، وتراه يتورع عن أكل الحلال الطيب وهو صائم ولا يتورع عن أكل لحوم إخوانه وأخواته في الليل والنهار. لا يمكّن الله عز وجل لنا ونحن على هذه الحال أبداً، بل لا بد أن نعلم أن هذا المنهج التعبدي بأفراده وجزئياته هو لنحقق الإيمان الحق، فرب ولدك، ورب امرأتك، ورب نفسك بهذا المنهج التعبدي؛ لتصل إلى حقيقة الإيمان، لتحقق الإيمان، فالإيمان ليس كلمة تقال باللسان فحسب، ولكنه: قول باللسان، وتصديق بالجنان، وعمل بالجوارح والأركان. ووالله لن نحقق نصرة أو عزة أو استخلافاً أو تمكيناًَ إلا إن حققنا الإيمان؛ لأن الله وعد بكل ذلك لمن حققوا الإيمان: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]، {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8]، {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55]. هذا المنهج لا يجوز لك البتة أن تتخلى عنه حتى تلقى الله: الصلاة في جماعة الورد اليومي القرآن قيام الليل قيام الليل هو المدرسة التي أغلقتها الأمة فذلت، وخرجت منها الأمة فهانت. أقول: كم من المسلمين يتركون قيام الليل، أقول هذا وأنا أعي تمام الوعي أن كثيراً من المسلمين الآن لا يصلون الفجر، أسقطوا فريضة من فرائض الله مع الإصرار، يضبط المسلم ساعة الوقت على وقت العمل ويسقط صلاة الفجر! النبي صلى الله عليه وسلم يقول -كما في سنن الترمذي بسند صحيح من حديث بريدة -: (من ترك صلاة واحدة متعمداً فقد برئت منه ذمة الله)، مع سبق الإصرار والترصد يسقط صلاة الفجر. حافظ على الصلاة في جماعة قراءة القرآن قيام الليل تجديد التوبة المحافظة على الأذكار المحافظة على الأوراد اليومية المداومة على الذكر والاستغفار الحرص على البذل والإنفاق التذكير للنفس الأمارة بالسوء دوماً على أنك عبد لله كما كنت تذكرها وأنت صائم: اللهم إني صائم، اللهم إني صائم، فلتذكرها الآن: اللهم إني عبد لله، اللهم إني عبد لك فأعني، اللهم إني عبد لك فأعني، فكن دوماً على طاعة، وإن زلت قدمك لبشريتك فما عليك إلا أن تجذب ثيابك من بين أشواك المعاصي والذنوب، وأن تطهرها بدموع الأوبة والتوبة والندم، وأنت على يقين مطلق أن الله جل وعلا سيفرح بتوبتك وهو الغني عنك. هذا هو حال المؤمن دوماً حتى يلقى الله سبحانه وتعالى وهو ممتثل لأمره: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99]. اللهم لا تدع لأحد منا في هذا الجمع الكريم ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا ميتاً لنا إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا طائعاً إلا زدته وثبته، ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا رب العالمين. اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا شقياً ولا محروماً. اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا سبباً لمن اهتدى. اللهم إني أسألك ألا تخرجنا اليوم من هذا المكان جميعاً إلا بذنب مغفور، وسعي مشكور، وتجارة لن تبور، برحمتك يا عزيز يا غفور. اللهم تقبل منا صالح الأعمال، واغفر لنا ذنوبنا، واستر علينا عيوبنا، وكفر عنا سيئاتنا، وتوفنا مع الأبرار. اللهم إنا نسألك جميعاً أن تذيقنا جميعاً برد عفوك، وحلاوة مغفرتك، ولذة النظر إلى وجهك الكريم. اللهم كما آمنا بالمصطفى ولم نره فلا تفرق بيننا وبينه حتى تدخلنا مدخله، وأوردنا حوضه الأصفى، واسقنا منه شربة هنيئة مريئة لا نظمأ بعدها أبداً يا أرحم الراحمين. اللهم إني أسألك أن تنصر الإسلام وتعز المسلمين، اللهم انصر إخواننا في فلسطين، وفي الشيشان، وفي الفلبين، وفي كشمير، وفي كل مكان. اللهم إني أسألك أن تجعل مصر واحة للأمن والأمان وجميع بلاد المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. أحبتي في الله! هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو نسيان فمني ومن الشيطان، وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون عليه إلى الجنة ويلقى به في جهنم، ثم أعوذ به أن أذكركم به وأنساه. ولا أنسى أن أذكر أحبابي وإخواني بإخراج الحق الذي عليهم لله تبارك وتعالى لهذا المسجد الطيب المبارك؛ وذلك للدعوة، ولطبع بعض الكتيبات الهادفة النافعة إن شاء الله عز وجل. نسأل الله أن يجعل المال في أيدينا لا في قلوبنا، إنه ولي ذلك ومولاه، وأقم الصلاة.

وهذا حق اليقين

وهذا حق اليقين كم هي الأمة اليوم بحاجة إلى أن تقوي يقينها بالله، فإن منزلة اليقين من الإيمان كمنزلة الروح من الجسد، وهذه المنزلة هي ميدان التفاضل بين الناس، كل بحسب درجته ومقامه في هذه المنزلة. وإن من أروع من حقق اليقين أنبياء الله جل وعلا ومن سار على نهجهم من أتباعهم؛ ولذلك مكنهم الله تعالى في الأرض ونصرهم، ووعدهم في الآخرة بجنات النعيم.

منزلة اليقين وعلاماته

منزلة اليقين وعلاماته الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين. فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: أيها الإخوة الأعزاء! وأيتها الأخوات الفاضلات! طبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم -جميعاً- من الجنة منزلاً، وأسأل الله جل وعلا الذي جمعني مع حضراتكم في هذا البيت المبارك على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة في جنته، ودار مقامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! لماذا هزمت الأمة؟! لماذا تحكم في الأمة أخس أهل الأرض من اليهود؟! لماذا صارت الأمة ذليلة لمن كتب الله عليه الذل؟! هل لأن الأمة فقيرة؟! هل لأن الأمة قليلة؟! هل لأن الأمة لا تملك العقول التي تفكر وتبدع؟! هل لأن الأمة لا تملك الثروات الطائلة والمناخ الرائع الجيد؟! A لا، الأمة ليست فقيرة، وليست قليلة العدد، وليست فقيرة لا تملك العقول والأدمغة المبدعة. إذاً: ما السر في هزيمة الأمة وتحكم أخس أهل الأرض فيها؟! والجواب: أن أمتنا تحتاج إلى اليقين. إن الأمة الآن بحاجة إلى أن تجدد ثقتها في الله، وإلى أن تجدد يقينها في الله، وإلى أن تتبرأ من كل حول وطول إلا من حول الله وطوله، وإلى أن تردد بلسانها وقلبها وأعمالها: اللهم إنا نبرأ من الثقة إلا بك، ونبرأ من الأمل إلا فيك، ونبرأ من التسليم إلا لك، ونبرأ من التفويض إلا إليك، ونبرأ من التوكل إلا عليك، ونبرأ من الصبر إلا على بابك، ونبرأ من الذل إلا في طاعتك، ونبرأ من الرهبة إلا منك. أمتنا تحتاج إلى اليقين، هذا هو موضوعنا في هذا اليوم العظيم، وسوف أركز الحديث في هذا الموضوع الكبير الجليل في العناصر التالية: أولاً: منزلة اليقين وعلاماته. ثانياً: أوجه اليقين ودرجاته. ثالثاً: شموس في سماء اليقين. وأخيراً: أمتنا لا تحتاج إلا إلى اليقين. فأعيروني القلوب والأسماع، والله أسأل أن يرزقنا اليقين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

منزلة اليقين

منزلة اليقين أيها الأفاضل! لا قيمة لأي دعوة، ولا قيمة لأي عمل مالم تتشرب قلوبنا حلاوة اليقين، فما هو اليقين وما هي علاماته؟ اليقين هو: العلم وزوال الشك، قال ابن القيم: ومنزلة اليقين من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد، وبه تفاضل العالمون، وإليه شمر العاملون، وفيه تنافس المتنافسون، وإذا تزوج الصبر باليقين ولد بينهما الإمامة في الدين، كما قال رب العالمين: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24]. وخص الله أهل اليقين بالانتباه في الآيات والبراهين، قال رب العالمين: {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} [الذاريات:20]. وخص الله أهل اليقين بالهدى والفلاح، قال جل في علاه: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:1 - 5]. بل وبين ربنا أن أهل النار ما كانوا من أهل اليقين، قال رب العالمين: {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية:32].

علامات اليقين

علامات اليقين فما هي علامات اليقين؟ النظر إلى الله في كل شيء، والرجوع إلى الله في كل أمر، والاستعانة بالله في كل حال. أيها الفضلاء! إن اليقين ليس كلمة يرددها عالم أو داعية، إن اليقين دين كامل ومنهج حياة شامل، فما قيمة الدعوة إن لم تكن على يقين مطلق بالثقة في وعد الله، ووعد الصادق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! اليقين له علامات، علاماته: النظر إلى الله في كل شيء، بأن تراقب الله في سرك وعلنك: (احفظ الله يحفظ، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف). قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7]، النظر إلى الله في كل شيء، والرجوع إلى الله في كل أمر، فأنظر: هل قولي هذا يرضي الله؟! هل نظري هذا يرضي الله؟! هل مدخلي ومخرجي يرضي الله؟! هل سكوني وسكوتي يرضي الله؟! وهكذا يرجع المؤمن صاحب اليقين إلى الله في كل شيء، ويستعين بالله في كل حال، إذ لا حول ولا قوة إلا بالله الكبير المتعال.

أوجه اليقين ودرجاته

أوجه اليقين ودرجاته فما هي أوجه اليقين ودرجاته؟ أما أوجه اليقين ودرجاته فقد نقل ابن القيم رحمه الله عن أبي بكر الوراق رحمه الله قال: اليقين على ثلاثة أوجه: يقين خبر. ويقين دلالة. ويقين مشاهدة.

يقين الخبر

يقين الخبر يقين خبر: وهو سكون القلب إلى الخبر ووثوقه به، فكيف يكون السكون؟! وكيف تكون الثقة لخبر عن الله وعن الصادق رسول الله؟! هل ارتقت الأمة إلى درجة يقين الخبر؟! هل تصدق الأمة الآن بأخبار ربها ونبيها؟! والجواب بملء الفم وأعلى الصوت: لا، إلا من رحم ربك من أفراد الأمة، انظر إلى واقع الأمة لتعلم علم اليقين أن الأمة الآن -إلا من رحم ربك من أفراد، وأسأل الله أن نكون من هذه القلة الموقنة- تثق في بعض دول الأرض أكثر من ثقتها في رب السماء والأرض! ما زالت الأمة إلى هذه اللحظة تعتقد أن حل قضيتها عند الشرق الملحد أو الغرب الكافر. جربت الأمة الشرق فذلت، وجربت الأمة الغرب فهانت، وإلى هذه اللحظة ما جربت أن تلجأ إلى ملك الملوك، وأن تثق فيه وحده، وأن تمتنع به وحده، وأن تحتمي به وحده، وأن تلجأ إليه وحده، وهي على يقين مطلق بالثقة في أخباره سبحانه وفي أخبار رسوله صلى الله عليه وسلم! فيقين الخبر هو سكون القلب ووثوقه بالخبر، فكيف يكون اليقين؟! وكيف تكون الثقة إذا كان الخبر عن الله جل وعلا وعن رسوله صلى الله عليه وسلم؟! قال تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122]، وقال الله تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء:87]، وقال في حق حبيبه: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:1 - 4]. وقال تعالى في حق حبيبه: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33]، هل تعلم أن هذه الآية نزلت في شأن الكفار؟! فلقد انفرد الأخنس بن شريق بـ أبي الحكم في الشام بعد غزوة بدر، وقال الأخنس لـ أبي جهل: يا أبا الحكم لا يسمعنا أحد، أسألك بالله أمحمد صادق أم كاذب؟ فقال أبو جهل: ويحك يا أخنس، والله إن محمداً لصادق، والله إن محمداً لصادق، فنزل قوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33]، وقال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصافات:35 - 36]، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم. فيقين الخبر أن تثق في خبر الله، وفي خبر رسول الله صلى الله عليه وآله ومن والاه.

يقين الدلالة

يقين الدلالة أما يقين الدلائل: فمع أن الخبر من عند الله، ومع أن الخبر من عند الصادق رسول الله الذي لا ينطق عن الهوى، فإن الله تعالى يقيم الأدلة على صدق أخباره وصدق أخبار رسوله، انظر معي إلى يقين الدلالة، تجد أن الله جل وعلا هو الذي يخبر: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122]، ورسول الله هو الذي يحدث، ومن أصدق من رسول الله في دنيا البشر، ومع ذلك يقيم الله الأدلة والبراهين على صدق خبره، وعلى صدق خبر رسوله صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} [النمل:60]، انظروا إلى هذه الأدلة التي تراها العين، وتحسها الجوارح؛ لتخلص الآية الكريمة إلى هذا السؤال المنتقل من توحيد الربوبية إلى توحيد الألوهية: {أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ * أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل:61 - 62] إلى آخر هذه الآيات الكريمة، فالله يقيم الأدلة والبراهين على أنه لا يستحق أن يوحد إلا الله، وعلى أنه لا يستحق أن يعبد في الكون إلا الله. {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:75 - 79]. لله في الآفاق آيات لعل أقلها هو ما إليه هداك ولعل ما في النفس من آياته عجب عجاب لو ترى عيناك الكون مشحون بأسرار إذا حاولت تفسيراً لها أعياك قل للطبيب تخطفته يد الردى يا شافي الأمراض من أرداك قل للمريض نجا وعوفي بعدما عجزت فنون الطب من عافاك قل للصحيح يموت لا من علة من بالمنايا يا صحيح دهاك قل للبصير وكان يحذر حفرة فهو بها من ذا الذي أهواك بل سائل الأعمى خطى وسط الزحام بلا اصطدام من يقود خطاك وسل الجنين يعيش معزولاً بلا راع ومرعى ما الذي يرعاك وسل الوليد بكى وأجهش بالبكا لدى الولادة ما الذي أبكاك وإذا ترى الثعبان ينفث سمه فاسأله من ذا بالسموم حشاك واسأله كيف تعيش يا ثعبان أو تحيا وهذا السم يملأ فاك وسل بطون النحل كيف تقاطرت شهداً وقل للشهد من حلاك بل سائل اللبن المصفى كان بين دم وفرث ما الذي صفاك وإذا رأيت البدر يسري ناشراً أنواره فاسأله من أسراك وإذا رأيت النخل مشقوق النوى فاسأله من يا نخل شق نواك وإذا رأيت النار شب لهيبها فاسأل لهيب النار من أوراك وإذا ترى الجبل الأشم مناطحاً قمم السحاب فسله من أرساك {أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:60]، {أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:60]، {أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:60]. سل الواحة الخضراء والماء جارياً وهذي الصحاري والجبال الرواسيا سل الروض مزداناً سل الزهر والندى سل الليل والإصباح والطير شاديا سل هذه الأنسام والأرض والسما وسل كل شيء تسمع التوحيد لله ساريا ولو جن هذا الليل وامتد سرمداً فمن غير ربي يرجع الصبح ثانيا {أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:60]، وقال جل في علاه: {وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ * لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ * سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ * وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:33 - 40]. أيها المسلمون! {أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:60]، والأدلة كثيرة، هذا يقين الدلالة، فمع أن الذي يخبر هو الله إلا أنه يقيم الأدلة والبراهين على صدق خبره وعلى صدق خبر رسوله الذي ما عرفت البشرية أصدق منه، قال عبد الله بن عمرو والحديث في مسند أحمد بسند صحيح: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، فنهتني قريش وقالوا: إن رسول الله بشر يتكلم في الغضب والرضا، قال عبد الله بن عمرو: فأمسكت عن الكتابة -أي: امتنعت عن الكتابة- وذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له الصادق: (اكتب، فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إلا الحق)، {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]. ودائماً أضرب هذا المثال ولا أمل من تكراره وطرحه، ألا وهو حديث سيد الخلق في الصحيح: (إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله، ثم ليطرحه أو لينزعه، فإنه يحمل -أي: الذباب- في أحد جناحيه الداء وفي الآخر الدواء)، وقد قيل: إن هذا الحديث يصطدم مع العقل! وأنه لا يتفق مع حضارة العقل! ورد على رسول الله خبره وهو الصادق! وقد كان من الواجب عليك فقط أن تسأل: هل هذا الحديث صحيح؟ فإن تبين لك بالأدلة التي وضعها جهابذة علم الحديث أن الحديث ثابت عن الصادق، فكان من الواجب بعد ذلك أن تسلم به ولو لم يدرك عقلك معنى كلام رسول الله؛ لأنني أرى الآن ثورة وهجمة شرسة في كل وسائل الإعلام على ثوابت الدين، وصار الدين الآن ألعوبة، فكل واحد يتكلم في أي جانب من جوانب الشرع، في الوقت الذي يشاء وبالقدر الذي يشاء، ويمضي آمناً مطمئناً وكأنه لم يفعل شيئاً على الإطلاق! ولا يدري أن كثيراً من ضعاف العلم وضعاف الإيمان قد تشككوا واهتزت عقيدة التوحيد في قلوبهم. فخرج علينا عالم من جامعة هام بألمانيا يسمى بريفلز وقد وصل إلى هذا العالم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم السابق وأجرى دراسة علمية، فوجد أن الذبابة تحمل نوعاً من أنواع الجراثيم على جناح من جناحيها، وهو الجناح الذي تسقط عليه، ووجد أن الذبابة تفرز نوعاً من أنواع الجراثيم التي تسبب أمراضاً خطيرة كحمى التيفود والدوسنتاريا وغير ذلك. فلما أتم البحث العلمي وجد أن الذبابة في نفس الوقت تحمل على الجناح الآخر ومنطقة البطن نوعاً من أنواع الفطريات سماها هذا العالم أميوزموسكي، وهذا الفطر أيها الأفاضل! كفيل بقتل هذه الجراثيم التي تفرزها الذبابة من جناحها الأول، بل قال: إن جراماً واحداً من فطر أميوزموسكي، يحمي ألفين لتراً من اللبن من الجراثيم! ولكن العجب العجاب أنه وصل إلى أن الذبابة لا تفرز هذا الفطر المضاد للجراثيم إلا إذا غمست الذبابة كلها في السائل! وصدق المصطفى صلى الله عليه وسلم، أولما جاءنا الوحي من عند رسول الله كذبناه فلما جاءنا من ألمانيا صدقناه! هل هذا يرضي الله؟! لما جاءنا الوحي من عند سيدنا رسول الله كذبناه أو أنكرناه أو تشككنا فيه ورددناه، فلما جاء إثبات صدق رسول الله من ألمانيا قبلناه؟!

يقين المشاهدة

يقين المشاهدة {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر:7]، الله جل وعلا يخبر ويقدم الأدلة على صدق خبره وخبر رسوله؛ لينتقل بعد ذلك القلب من يقين الخبر ويقين الدلالة إلى يقين المشاهدة، هذا هو الذي تحتاج إليه الأمة الآن. يقين المشاهدة هو: أن يتعايش المسلم مع كل أخبار الله وكل أخبار رسول الله وكأنه يشاهدها بعينه، فإذا أخبر الله جل وعلا بأن الجنة للمتقين، وبأن النار للغاوين وللمشركين، فينبغي للمسلم بعد ذلك أن يتعايش مع هذه الأخبار وكأنه يشاهدها مشاهدة العين، لذلك قال أحد الصالحين: لقد رأيت الجنة والنار، قالوا: كيف ذلك يا رجل؟! قال: رأيت الجنة والنار بعين رسول الله، ورؤيتي لهما بعين رسول الله أصدق عندي من رؤيتي لهما بعيني؛ لأن بصري قد يزيغ وقد يطغى، أما بصر النبي صلى الله عليه وسلم فقد قال فيه الرب العلي: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17]. يقين المشاهدة: إذا أخبرنا ربنا تعاملنا مع الخبر وكأننا نشاهده.

شموس في سماء اليقين

شموس في سماء اليقين

سيدنا نوح عليه السلام

سيدنا نوح عليه السلام لتتذوق معي حلاوة اليقين، وتتصور نوحاً وهو يصنع الفلك فوق الرمال! {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود:38]، وكان ذلك بأمر من الله جل وعلا: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} [هود:37]، يصنع الفلك، ولكن أين الماء؟! ليس هذا من شأنك، كن على يقين في خبر الله. ولما جد الجد تضرع إلى الله بهذا الدعاء: {أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر:10]، اللهم إنا مغلوبون فانتصر. ثم انظر إلى ثمرة اليقين: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ} [القمر:11]، ولم يقل ربنا: ففتحنا من أبواب السماء، بل: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا} [القمر:11 - 12]، ولم يقل ربنا: وفجرنا من الأرض عيوناً، بل: {وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ} [القمر:12]، أي: ماء السماء مع ماء الأرض، {عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} [القمر:12 - 14].

سيدنا إبراهيم عليه السلام

سيدنا إبراهيم عليه السلام وهذا نبي الله إبراهيم يلقى في النار، وينزل الله إليه جبريل وهو في النار ويقول له جبريل: يا إبراهيم ألك حاجة؟ فيرد إبراهيم بقولة خالدة: حسبنا الله ونعم الوكيل، وهذا هو الثابت الصحيح كما في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم: (حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حين قيل لهم: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:173 - 174]).

سيدنا موسى عليه السلام

سيدنا موسى عليه السلام وهذا نبي الله موسى، يرى فرعون وجنده وراءه والبحر أمامه، والمستضعفون من الموحدين الذين معه تزلزلت قلوبهم حينما رأوا البحر أمام أعينهم وفرعون بجنوده من خلفهم، {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61]، فقال موسى صاحب اليقين: {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62].

سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم

سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وهذا صاحب أعلى يقين عرفته الأرض، حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي ما ترك سبباً من الأسباب إلا وأخذ به يوم الهجرة، ومع ذلك تأصلت كل هذه الأسباب في لحظة، فالتف المشركون حول الغار بين غمضة عين وانتباهتها، وهنا يقول الصديق رضوان الله عليه صاحب أعلى ذروة سنام الصديقية في الأمة يقول للنبي: يا رسول الله! لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا، وهنا يعلم النبي صلى الله عليه وسلم الصديق والأمة من بعده درساً من أغلى دروس اليقين ويقول: (يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟! لا تحزن إن الله معنا). فليخرج أبو جهل، وليخرج المشركون عن بكرة أبيهم؛ ليقلبوا الحجارة، بل ولينقبوا بين حبات الرمال عن النبي وصاحبه، فورب الكعبة لن يصلوا إليهما أبداً، لماذا؟ لقول الحبيب: (إن الله معنا). بك أستجير ومن يجير سواكاً فأجر ضعيفاً يحتمي بحماكا إني ضعيف أستعين على قوي ذنبي ومعصيتي ببعض قواكا أذنبت يا ربي وقادتني ذنو ب ما لها من غافر إلا كا دنياي غرتني وعفوك شدني ما حيلتي في هذه أو ذاكا لو أن قلبي شك لم يك مؤمناً بكريم عفوك ما غوى وعصاكا رباه هأنذا خلصت من الهوى واستقبل القلب الخلي هواك رباه هأنذا خلصت من الهوى رباه قلب تائب ناجاكا أترده وترد صادق توبتي حاشاك ترفض تائباً حاشاكا فليرض عني الناس أو فليسخطوا فلم أعد أسعى لغير رضاكا (يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟! لا تحزن إن الله معنا)؛ فمن كان الله معه لم يحزن؟! ومن كان الله معه فممن يخاف؟! ممن يخاف ومعه القوي الذي لا يقهر، ممن يخاف ومعه العزيز الذي لا يغلب، ممن يخاف ومعه القيوم الذي لا ينام، ممن يخاف ومعه الحي الذي لا يموت، ممن يخاف ومعه القوي الذي لا يقوى عليه شيء؟! ولا يقدر على إعلان الحرب عليه أي أحد، {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31]. (لا تحزن إن الله معنا): {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} [التوبة:40]، اللهم أنزل علينا السكينة حتى تذوق قلوبنا حلاوة اليقين فيك، وبرد الثقة بك، ولذة التوكل عليك، برحمتك يا أرحم الراحمين!

سحرة فرعون

سحرة فرعون (لا تحزن إن الله معنا) قد يقول قائل: هداك الله أيها الشيخ! أنسيت أنك تتحدث عن صفوة الخلق من الأنبياء والرسل، وهؤلاء هم أولى الناس بتحقيق اليقين؟! تعال معي لندخل بستاناً من أحلى بساتين اليقين في دنيا البشر العاديين، بعيداً عن دنيا الأنبياء والمرسلين، نعم. لقد رأينا في دنيا الناس يقيناً لا يخضع ولا يخنع ولا يتزعزع ولا يتضعضع، رأينا يقيناً قد حول أصحابه ونقلهم من حمأة الطين إلى أعلى عليين، رأينا يقيناً قد رفع أصحابه إلى أفق وضيء فوق كل خيال، إنه يقين سحرة فرعون! لقد حشر الناس جميعاً في يوم مضح مشرق، حشر الناس ضحى بالأوامر العالية من فرعون، وأقبل موسى وأخوه هارون في خوف ظاهر حينما جلس فرعون في أبهته، ونزل السحرة إلى ميدان النزال بعز واستعلاء، وأعلنوها: {بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} [الشعراء:44]، وتسرب الخوف إلى قلب موسى، وجاء الأمر من الله العلي الأعلى: {قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى} [طه:68]. ويلقي السحرة عصيهم وحبالهم وهم يعلمون السحر، فخيل إلى الناس من سحرهم أنها تسعى، وهي في الحقيقة لا تسعى، فلما ألقى موسى عصاه وتحولت بالفعل إلى ثعبان ضخم، وابتلع كل هذه العصي والحبال خر سحرة فرعون سجداً للكبير المتعال! فلما رأى فرعون هذا المشهد الذي يهز الجبال قال قولته الخبيثة الغبية: {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} [طه:71]، وكأنه كان من الواجب عليهم أن يقتلعوا نبتة اليقين وهي تترعرع في قلوبهم! {آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ} [طه:71]، وكان جوابهم كما قص الله قصتهم: {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72]، فانظر إلى هذا اليقين! إن حال القلب قبل أن تشرق عليه أنوار اليقين كالحجرة المظلمة الدامسة، فإذا دخلت هذه الحجرة وتحسست في الظلام الدامس مفتاح النور، وضغطت عليه بأصبع من أصابعك ضغطة رقيقة خفيفة حول نور المصباح الظلام الدامس إلى نور مشرق، كذلك حال القلب إذا لامسته أنوار الهداية من الله جل جلاله، تحول أنوار الهداية واليقين ظلام القلب إلى نور مشرق.

سيدنا أبو بكر رضي الله عنه

سيدنا أبو بكر رضي الله عنه وهؤلاء هم أصحاب الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، جددوا اليقين أيضاً في دنيا الناس. ومن الجفاء ورب الكعبة ألا أبدأ بـ الصديق أبي بكر صاحب أعلى يقين في الأمة بعد نبينا، كان شعاره دائماً هو اليقين: (أوما سمعت يا أبا بكر؟! يزعم صاحبك أنه أسري به من مكة إلى المسجد الأقصى إلى السماوات العلى وعاد إلى بيته في نفس الليلة؟!) فيرد صحاب اليقين الثابت ويقول: (أوقد قال ذلك؟! فقالوا: نعم. قال: إن كان قال ذلك فقد صدق!) يقين مطلق!! ويوم مات المصطفى صاح عمر الفاروق الملهم: والله لأعلون بسيفي هذا من زعم أن رسول الله قد مات، فرسول الله ما مات، بل ذهب للقاء ربه كما ذهب موسى بن عمران، وليرجعن فليقطعن أرجل وأيدي المنافقين الذين يزعمون أنه قد مات، تصور أن هذا الكلام من عمر! وعثمان، وعلي، وجمع من الصحابة طاشت عقولهم، ولم تحملهم أقدامهم! وجاء الصديق بيقين ثابت فدخل غرفة عائشة وتيقن أن الخبر قد وقع، وأن حبيبه قد مات، فكشف الغطاء عن وجهه، وقبل الحبيب بين عينيه، وقال -كما في رواية حسنها الألباني في مختصر الشمائل- منادياً على حبيبه: وآخليلاه وآحبيباه وآنبياه! أما الموتة التي كتبها الله عليك فقد ذقتها فلا ألم عليك بعد اليوم، وخرج الصديق فقال: على رسلك يا عمر! فالتف الناس حول أبي بكر، فحمد الله وأثنى عليه وقال: أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144] لله دره، صاحب أعلى ذروة سنام الصديقية في هذه الأمة، إنه أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه. أيها المسلمون! هل رأيتم يقيناً كيقين رجل يأمر النبي صلى الله عليه وسلم يوماً بالصدقة، فيأتي عمر بنصف ماله! ويأتي الصديق بكل ماله! لا يقدر عليها إلا أبو بكر، فيقول النبي لـ عمر: (ما أبقيت لأهلك؟ فيقول: أبقيت لهم مثله، ويقول النبي للصديق: ما أبقيت لأهلك يا أبا بكر؟ فيقول له: أبقيت لهم الله ورسوله!).

سيدنا خبيب بن عدي رضي الله عنه

سيدنا خبيب بن عدي رضي الله عنه وهذا خبيب بن عدي يصلب على خشبة في مكة، ويلتف المشركون من حوله ويشرعون السهام والرماح؛ لتنقض على هذا الجسد فتمزقه بجنون ووحشية؛ ويقترب أبو سفيان من خبيب بن عدي -وحديثه في صحيح البخاري في كتاب المغازي- ويقول أبو سفيان: يا خبيب! أيسرك أن يكون محمد في موطنك الذي أنت فيه الآن، وأنت في أهلك معافى؟! قال: والله ما يسرني أن يكون رسول الله في موطنه الذي هو فيه الآن تصيبه شوكة تؤذيه وأنا في أهلي معافى! فقال أبو سفيان قولته الخالدة: والله ما رأيت أحداً يحب أحداً كما رأيت أصحاب محمد يحبون محمداً! فطلب خبيب من أبي سفيان أن يصلي لله ركعتين، فأذن له في ذلك، فصلى ركعتين خفيفتين والتفت إلى المشركين وقال: والله لولا أني أخشى أن تقولوا: إنني جزع من الموت لأطلت الصلاة، ثم تضرع إلى الله وقال: اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تبق منهم أحداً، وأنشد أبياته الخالدة الجميلة ومنها قوله: إلى الله أشكو غربتي بعد كربتي وما أرصد الأحزاب لي ذل مصرعي ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي وما بي خوف الموت إني لميت وإن إلى ربي إيابي ومرجعي اللهم ارزقنا اليقين، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.

أمتنا لا تحتاج إلا إلى اليقين

أمتنا لا تحتاج إلا إلى اليقين الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وعلى كل من اهتدى بهديه إلى يوم الدين. وبعد: وأخيراً أيها الأحبة الكرام! فإن أمتنا لا تحتاج إلا إلى اليقين، فأمتنا تملك العدد والعدة والعمق الاستراتيجي المذهل، والأموال والثروات الطائلة، وتملك العقول المفكرة، والأدمغة المبدعة، لكن الأمة لا ينقصها إلا اليقين، لا تحتاج الأمة الآن إلا إلى اليقين في الله سبحانه. لو امتلكت اليقين لرأيت العجب العجاب! ولو تعاملت مع ربك سبحانه وتعالى باليقين في خبره وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم لعشت ورب الكعبة الحياة الطيبة التي أخبر عنها ربنا جل وعلا، ولقلت بيقين: إن كان أهل الجنة في مثل ما أنا فيه فوالله إنهم لفي عيش طيب. ما أحلى العيش في بستان اليقين، ما أحلى أن تتعامل مع ربك ثم مع الخلق من الكفار والمسلمين بلغة اليقين، الأمة الآن تحتاج بحق إلى اليقين، وها نحن قد رأينا -وشاء الله أن نرى على أرض فلسطين- أطفالاً يعلمون الأمة في الشرق والغرب، بل ويعلمون العالم طعم اليقين وحلاوة اليقين، لقد رأيت بعيني في الأرض المباركة في حرب فلسطين أماً مسلمة تحمل على ذراعها الأيسر طفلها الرضيع وتنحني على الأرض لتلتقط الحجارة فتدفعها إلى ولدها وهو في السابعة من العمر، وأمام الصبي دبابة يهودية أمريكية لا تبتعد عنه إلا عشرة أمتار ليقذف الدبابة بالحجر! آه يا مسلمون متنا قروناً والمحاق الأعمى يليه محاق أي شيء في عالم الغد نحن آدميون أم نعاج نساق نحن لحم للوحش والصيد منا الجثث الحمر والدم الدفاق وعلى المحصنات تبكي البواكي يا لعرض الإسلام كيف يراق قد هوينا لما هوت وأعدوا وأعدوا من الردى ترياق واقتلعنا الإيمان فاسودت الدنـ ـيا علينا واسودت الأعماق وإذا الجذر مات في باطن الأر ض تموت الأغصان والأوراق ما حرك هذه الأم إلا اليقين، ما حرك هذا الطفل المبارك على الأرض المقدسة إلا اليقين، وما أمسكوا بهذا اليقين إلا يوم أن قطعوا كل العلاقة بأهل الأرض، نعم. قطعوا اليقين في أهل الأرض، علموا يقيناً أن الشرق والغرب بل والعالم الإسلامي لن ينصرهم، فبيقين علقوا قلوبهم بالملك الحق. فرأينا هذه الآيات والصور التي نراها كل يوم على أرض فلسطين، نرى أطفالاً يروون شجرة العز والكرامة بالدماء الطاهرة الزكية! إنه اليقين، نرى رجالاً، ونساءً، وأطفالاً، وبنات في عمر الزهور والورود يواجهون أعتى الأسلحة على وجه الأرض، ولم لا؟! إنها أسلحة صنعت في أمريكا، والكفر ملة واحدة، تلك الأسلحة الأمريكية التي تقتل الإسلام والمسلمين في فلسطين في أفغانستان في الشيشان في العراق في السودان في الصومال، في كل مكان، ونرى هؤلاء الأطفال والشيوخ والنساء يجسدون لنا اليقين في زمن تعطش لليقين، لنعلم أن القلب إن تجرد لله، ذهل عن أسباب الأرض، وتلعق برب السماء والأرض، رأينا العجب العجاب! لا تستكثروا! ففي مصر وعلى أرضها وترابها تجسد اليقين أيضاً، نعم. والله الذي لا إله غيره لا أجامل بها مخلوقاً على وجه الأرض، هذه الأرض أيضاً أرض جسدت اليقين، كنت أقرأ بالأمس كتاباً عن ملحمة السويس للشيخ المبارك حافظ سلامة سلمه الله وحفظه، وقرأت العجب العجاب، حينما علمت أنه في يوم الثاني والعشرين من أكتوبر عام ثمانية وسبعين لما دخلت القوات اليهودية إلى مدينة السويس من خلال الثغرة المشئومة المعروفة، ووصلت إلى قلب شركة السويس لتصنيع البترول والتقطت لها الصور إلى جوار مستودعات البترول، ونشرت وكالات الأنباء العالمية هذه الصور المزرية، ووصل اليهود إلى قلب السويس، وخاطبوا المسئولين في المحافظة أن يسلموا المدينة وأن يرفعوا الأعلام البيضاء، وبالفعل رفعت الأعلام البيضاء، فقال هذا الرجل المجاهد البطل مع قلة من الجنود والضباط البواسل من جيشنا ومن المسلمين العاديين قالوا: لا، لن نسلم المدينة، وسوف نجاهد اليهود إلى آخر قطرة من دمائنا. وسبحان ربي العظيم! هؤلاء البواسل بمجموعة من الأسلحة العادية كبدوا اليهود خسائر فادحة، حتى صرحت وكالات الأنباء بعد ثلاثة أيام فقط أن اليهود قد خسروا المعركة على أيدي رجال المقاومة الشعبية في مدينة السويس! على أيدي أهل مصر الأوفياء، ويقسم لي بالله الشيخ المبارك حفظه الله ويقول: والله لقد نفذ الماء، وتعرضنا للموت عطشاً، وقمنا في مجموعة كبيرة من الضباط والأفراد العاديين نتضرع إلى الله ونصلي صلاة الاستسقاء؛ ليرزقنا الله ماءً فكدنا أن نهلك من العطش، فيقسم بالله قائلاً: والله الذي لا إله غيره رأينا بدون مقدمات سفينة لا تزود السفن في قناة السويس إلا بالماء! رأينا صندداً من الماء قد كسر الرباط الذي له في المركب، وبدل أن يتجه مع التيار جاء هذا المركب عكس التيار، ووقف أمام هؤلاء الأطهار، فلما نزلنا فيه وجدناه سفينة مخصصة لتزويد السفن في القناة بالمياه! لا تستكثروا شيئاً على الله، فوالله لو صدقنا مع الله لرأينا العجب العجاب، فالأمة الآن ما تحتاج إلا إلى اليقين. ولتلجأ إلى الله وسترى العجب العجاب، وستعلم يقيناً أنه لا تقدر قوة على وجه الأرض مهما كان عددها وعدتها وسلاحها أن تقف في وجه اليقين وأهله. اللهم ارزقنا اليقين، اللهم ارزقنا اليقين، اللهم إني أسألك أن ترزق الأمة حلاوة اليقين بك، والثقة فيك والتوكل عليك، اللهم اشف صدور قوم مؤمنين بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم انصر المسلمين في فلسطين، وانصر المسلمين في أفغانستان، وانصر المسلمين في الشيشان، وانصر المسلمين في العراق، وانصر المسلمين في السودان، واحفظ المسلمين في العراق، واحفظ المسلمين في السودان، واحفظ المسلمين في كشمير، واحفظ المسلمين في الفلبين، اللهم احفظ المسلمين في كل مكان. اللهم إني أسألك أن تجعل مصر واحة للأمن والأمان، يا رب! أسبغ على مصر ثوب الأمن والأمان، اللهم اجعل مصر سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم ارفع الغلاء والوباء، يا رب! استر نساءنا واحفظ بناتنا، اللهم استر نساءنا، واحفظ بناتنا، ورب أولادنا. ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، واجعلنا للمتقين إماماً، اللهم ارحم موتانا وموتى المسلمين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، اللهم اشف مرضانا ومرضى المسلمين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

يا مسلم بأي عيد تفرح

يا مسلم بأي عيد تفرح لقد شرع لنا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عيدين نفرح بهما، ويهنئ بعضنا بعضاً، ويدعو بعضنا لبعض بقبول العمل الصالح، وبحلول الخير والبركة من الله. وشتان بين زمان مضى يفرح المؤمنون فيه بعيد الله وبنصره لهم على الأعداء، وبين زمان مريض متبعثر، أذلاء أهله، يفرحون بالأعياد، ويكثرون من الإسراف، ويرتكبون فيها ما حرم الله، وفي الوقت نفسه يشاهدون إخواناً لهم من المسلمين: تسفك دماؤهم، وتنتهك أعراضهم، وتسلب أرضهم، فأي فرح هذا؟! وأي عيد هذا؟!

العيد فرح وآلام

العيد فرح وآلام إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الأطهار الأخيار الكرام، حيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة، وزكى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور، وأسأل الله جل وعلا أن يتقبل مني وإياكم صالح الأعمال، وأن يجمعني في الدنيا وإياكم دائماً وأبداً على طاعته، وفي الآخرة مع سيد الدعاة وإمام النبيين في جنته ومستقر رحمته. واسمحوا لي أن أخص في هذا اليوم العظيم الكريم المبارك صانعة الأجيال ومربية الرجال، التي تربعت طيلة القرون الماضية على عرش حيائها، تهز المهد بيمينها، وتزلزل عروش الكفر بشمالها، اسمحوا لي أن أخصها بالتحية اليوم في عهد غربة الإسلام الثانية. يا درة حفظت بالأمس غالية واليوم يبغونها للهو واللعب يا حرة قد أرادوا جعلها أمة غريبة العقل غريبة النسب هل يستوي من رسول الله قائده دوماً وآخر هاديه أبو لهب وأين من كانت الزهراء أسوتها ممن تقفت خطى حمالة الحطب فلا تبالي يا أختاه!! فلا تبالي بما يلقون من شبه وعندك الشرع إن تدعيه يستجب سليه من أنا من أهلي لمن نسبي للغرب أم أنا للإسلام والعرب لمن ولائي لمن حبي لمن عملي لله أم لدعاة الإثم والكذب وما مكاني في دنيا تموج بنا في موضع الرأس أم في موضع الذنب هما سبيلان يا أختاه ما لهما من ثالث فاكسبي خيراً أو اكتسبي فدين ربك والقرآن منهجه نور من الله لم يحجب ولم يغب فاستمسكي بعرى الإيمان واعتزي وصابري واصبري لله واحتسبي حياكم الله جميعاً أيها الأحباب الكرام! وطبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم من الجنة منزلاً. اليوم عيد فحق لنا أن نفرح، ولقلوبنا أن تسعد؛ ولكن بأي عيد نفرح؟ وبأي قلب نسعد؟ وفي كل دار على الإسلام دائرة ينهد من هولها رضوى وثهلان ذبح وصلب وتقتيل بإخوتنا كما أعدت لتشفي الحقد نيران يستصرخون ذوي الإيمان إخوتهم فلم يغثهم بيوم الروع أعوان هل هذه غيرة أم هذه ضعة للكفر ذكر وللإسلام نسيان بأي عيد نفرح؟ وبأي قلب نسعد؟ يا من تحمل بين أضلعك قلباً حياً ينبض بذكر الله ينبض بحب الله ينبض بحب رسول الله ينبض بحب الإسلام بأي قلب تسعد وطفلك وولدك في البوسنة قد شوي على النيران أمام أمه وعلى مرأى ومسمع من أبيه، وبعد ما انتهى الصرب من شيه قطعوه إرباً إرباً، وأجبروا والده المسكين تحت التهديد والتعذيب أن يأكل من لحم ولده أن يأكل من فلذة كبده أن يأكل من ثمرة فؤاده، ثم بعد ذلك أطلقوا عليه النيران فقتلوه؟! بأي عيد تفرح وبأي قلب تسعد أيها المؤمن وأخوك المسلم قد شرد أهله، وهدم بيته، وسفك دمه، ومزقت أشلاؤه؟ وبأي قلب تسعد يا من تحمل بين أضلعك قلباً حياً ينبض بالحياة ينبض بحب الله ينبض بحب رسول الله، وأختك في البوسنة قد انتهك عرضها، وضاع شرفها، وها هي الآن تصرخ وترجوكم رجاءها الأخير؟ أتدرون ما هو رجاؤها؟ رجاؤها يا أولاد الإسلام! ويا شباب الإسلام! أن اقتلوني، واقتلوا العار الذي أحمله بين أحشائي، اقتلوا ولدي الذي حملته من السفاح والزنا، هذا هو رجاؤها الأخير منك يا ابن الإسلام. يا من تلذذتم بالفراش! يا من تلذذتم بالطعام! يا من أكلتم ملء بطونكم! ونمتم ملء عيونكم، وضحكتم ملء أفواهكم، هذا هو رجاء أختكم الأخير، تنادي عليكم وتقول: اقتلوني واقتلوا العار بين أحشائي اقتلوا ولدي من الزنا! اقتلوا ولدي من السفاح! هذا هو رجاؤها الأخير منكم يا أحفاد محمد! يا أحفاد صلاح الدين! يا أحفاد خالد بن الوليد! هذا هو رجاؤها الأخير بعد ما صرخت علينا طويلاً، حتى انقطع صوتها وهي تنادي وتقول: وا إسلاماه!! وا إسلاماه!! وا معتصماه!! ولكن أين المعتصم؟ ما ثم معتصم يغيث مـ ـن استغاث به وصاح ذبحوا الصبي وأمه وفتاتها ذات الوشاح وعدوا على الأعراض في انتشاء وانشراح يا ألف مليون وأين هم إذا دعت الجراح ما ثم معتصم يغيث مـ ـن استغاث به وصاح بأي عيد تفرح؟ وبأي قلب تسعد أيها المسلم وبرك الدماء، وأكوام الأشلاء تجسد الفجيعة وتحكي المأساة في كل مكان في البوسنة والصومال، في الهند وكشمير، في بورما في تركستان في طاجكستان في أفغانستان في الفلبين في الجزائر في الصومال وأخيراً في اليمن؟ وما زال المشاهدون من جميع أنحاء العالم قابعين في مقاعدهم يشاهدون فصول هذه المسرحية الهزلية المحرقة. ما زال الجميع قابعاً في مقعده يرى آخر فصول هذه المسرحية، منهم من يبارك هذه التصفية، ومنهم من يبارك هذه الإبادة الوحشية ومنهم من جلس يمسح عينيه بمنديل حريري ولكنه ما زال قابعاً في مقعده؛ لأنه قد أصر على أن يصاحب آخر فصول هذه المسرحية الهزلية: آه يا مسلمون متم قروناً والمحاق الأعمى يليه محاق أي شيء في عالم الغاب نحن آدميون أم نعاج تساق يا قطيعاً من ألف مليون رأس يجري عليها السباق نحن لحم للوحش والطير منا الجثث الحمر والدم الدفاق وعلى المحصنات تبكي البواكي يا لعرض الإسلام كيف يراق قد هوينا لما هوت (وأعدوا) (وأعدوا) من الردى ترياق واقتلعنا الإيمان فاسودت الدنيا علينا واسودت الأعماق وإذا الجذر مات في باطن الأر ض تموت الأغصان والأوراق ما الذي جرى؟! ما الذي حدث؟! ما الذي جرى لأمة دستورها القرآن؟! ما الذي جرى لأمة قائدها محمد عليه الصلاة والسلام؟ ما الذي غيرها؟ ما الذي بدلها؟! ذلت بعد عزة، وجهلت بعد علم، وضعفت بعد قوة، وأصبحت في ذيل قافلة الإنسانية بعد أن كانت في الأمس القريب تقود القافلة بجدارة واقتدار. أصبحت أمة القرآن تتسول على موائد الفكر الإنساني بعد أن كانت منارة تهدي الحيارى والتائهين الذين أحرقهم لفح الهاجرة القاتل، وأرهقهم طول المشي في التيه والظلم، وأصبحت أمة القرآن تتأرجح في سيرها لا تعرف طريقها التي يجب عليها أن تسير فيه، وهي التي كانت بالأمس القريب الدليل الحاذق الأرب الذي يسير في الصحراء المتشابكة، وفي الدروب المهلكة التي لا يجيد أن يسير فيها إلا المجربون. أهذه هي الأمة التي قال الله عنها في القرآن: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]؟ أهذه هي الأمة التي وصفها الله بالوسطية، فقال جل وعلا: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143]؟ أهذه هي الأمة التي وصفها الله في القرآن بالوحدة فقال جل وعلا: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92]؟ والجواب بحق وصدق: إن البون شاسع، وإن الفرق كبير بين الأمة التي زكاها الله في القرآن هذه التزكية وبين الأمة التي نراها الآن في واقعنا المعاصر. يا أبناء الأمة! إننا نرى الآن أمة قد عطلت جميع طاقاتها العقلية، والعلمية، والعددية، والاقتصادية، بل والروحية. أصبحت أمة القرآن في الوحل والطين، وتركت ذروة سنام الإسلام، ورضيت بالزرع، وتبعت أذناب البقر؛ فأذلها الله لمن كتب عليهم الذلة من إخوان القردة والخنازير من أبناء يهود. لماذا أذل الله الأمة؟ لأن الأمة -أيها الأحباب- تخلت عن أصل عزها، ونبع شرفها، ومصدر كرامتها وبقائها ووجودها، فأصابها الله بهذا الذل وهذا الهوان، وهذا الضعف وهذه الفرقة، وهذا الشتات؛ لأنها تخلت عن أصل عزها، ونبع شرفها، ومعين كرامتها وبقائها ووجودها.

بداية الصحوة ودور الشباب في التغيير

بداية الصحوة ودور الشباب في التغيير أيها الأحبة! هنا تساءل خطير وهام، يصرخ به كل شباب الأمة في كل بقاع الدنيا: ما الذي غير الأمة إلى هذا الحال؟ ما الذي حول الأمة إلى هذه الحالة المزرية من هذا الضعف والذل والهوان والعار؟ والجواب في كلمات حاسمة قاطعة، من قول ربنا جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11] ورب الكعبة لقد غيرت الأمة وبدلت -أيها الأحباب- وحرفت منهج ربها في جانب العقيدة في جانب العبادة في جانب الأخلاق في جانب التشريع في جانب الاتباع في جانب المعاملات والسلوك. غيرت الأمة كثيراً كثيراً، وابتعدت عن كتاب ربها وعن سنة نبيها صلى الله عليه وآله وسلم، حتى وصلت إلى هذه الحال المزرية التي نراها عليها الآن. ولكن لا أريد أن أسكب القنوط واليأس في قلوبكم، وإنما أريد أن أشخص الداء حتى وإن كان مراً بطعم الحنظل؛ لنستطيع بعد ذلك أن نحدد الدواء النافع لأمراض هذه الأمة التي استشرت. أقول: بالرغم من كل هذا شاء الله جل وعلا وهو الحليم الكريم اللطيف الخبير شاء الله عز وجل في هذه الأيام التي تجمعت فيها الأحزاب وكل جاهليات الأرض مرة أخرى، للقضاء على الإسلام واستئصال شأفة المسلمين، شاء الله جل وعلا أن يبزغ في الأفق نور يشرق، وأمل يتجدد، أضحى حقيقة كبيرة لا تنكر، بل وأفزعت هذه الحقيقة المشرقة العالم بأسره، وكيف لا وهي أكبر حدث إنساني في السنوات الأخيرة من القرن العشرين؟! ها نحن نرى يا شباب الإسلام! صحوة عالمية مباركة لا في مصر وحدها، ولا في البلاد الإسلامية وحدها، بل في جميع بقاع الدنيا، في جميع أنحاء العالم. رأينا هذه الصحوة في قلب قلعة الكفر أمريكا. رأينا هذه الصحوة في كندا وفي أقصى الدنيا. رأينا هذه الصحوة في فرنسا، وها نحن نرى بحمد الله جل وعلا كوكبة كريمة وثلة مباركة عظيمة من شباب في ريعان الصبا، وفتيان في عمر الورود، تلكم الكوكبة التي بدأت تتنزل بحمد الله في كل بقاع الدنيا كتنزل حبات الندى على الزهرة الظمأى، والأرض العطشى، أو كنسمات ربيع باردة عطرتها وطيبتها أنفاس الزهور، تلكم الكوكبة التي جاءت بعد بدر والقادسية واليرموك وحطين، جاءت في كهولة من الزمن لتعيد الإسلام غضاً طرياً، ولتمضي على تاريخ الدعوة الطويل الضارب في شعاب الزمان، من لدن نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام. جاءت لتمضي على ذات الطريق مستقيمة الخطى، ثابتة الأقدام، تجتاز الصخور والأشواك والحجارة، تجول هنا وتتمزق هنا ولكن الركب الكريم في طريقه لا ينحني ولا ينثني ولا يحيد؛ لأنه على ثقة مطلقة بنهاية الطريق، وبأن المستقبل لهذا الدين رغم كيد الكائدين. أيها الأحباب! أقول بقلب يملؤه اليقين، وبلغة يحدوها الأمل: بدأت الأمة تصحو من جديد، وليس معنى ذلك أن الأمة بجميع أفرادها صحت. أيها الأحباب! إن كان شيوخنا وعلماؤنا هم عقول الأمة التي تفكر فإن شبابنا وأبناءنا هم سواعد الأمة التي تبني وتعمر، ولا يمكن على الإطلاق لعقل أن يأتي مجرداً دون أن يمشي على قدميه، ودون أن يتقوى بساعديه. أقول: إن البداية الصحيحة أننا نرى كثيراً من شباب الأمة وفتيات الأمة قد عادوا إلى الله جل وعلا، فسمعنا آهات التائبين العائدين إلى الله جل وعلا تردد: آيبون تائبون عابدون، لربنا حامدون. ها نحن نرى ونسمع الأصوات قد ارتفعت مرة أخرى، نسمع أصوات أبناء الطائفة المنصورة التي لا يخلو منها زمان ولا مكان بموعود حديث رسول الله، كما في حديث في صحيح مسلم من حديث معاوية أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس) نسمع الآن أصوات الشباب لا في مصر وحدها بل في جميع أنحاء الدنيا، هذا الشباب الذي بدأ يصرخ ويقول: أين الحل أين طريق الخلاص؟ والجواب يا شباب الصحوة في كلمات قليلة حاسمة، طريق الخلاص أن تعود الأمة من جديد إلى ربها إلى الإسلام بكماله وشموله بفروعه وأصوله، فهو مصدر عزنا الذي قال عنه فاروق الأمة عمر: (لقد كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله). هذه هو طريق الخلاص الذي يجب أن يكون محفوراً في القلوب والعقول إلى درجة اليقين -وأعداء الأمة يعلمون هذا- الطريق، فلا بد أن نعلم أن طريق الخلاص هو أن تعود الأمة بكليتها إلى الإسلام بكماله وشموله، بفروعه وأصوله، وأن تحول الأمة من جديد هذا الإسلام إلى منهج حياة كما حوله الرعيل الأول إلى منهج حياة، فحولهم الله بذلك من رعاة للغنم إلى سادة وقادة لجميع الأمم.

طرق إصلاح الأمة

طرق إصلاح الأمة أيها الأحباب الكرام! هذا هو الطريق، ولكن المشكلة الحقيقية الآن التي تعترض المصلحين الصادقين الذين يفكرون في حال الأمة، ويفكرون في العلاج -وانتبهوا معي جيداً لهذا العنصر المهم- ويشخصون الداء، ويصرفون الدواء. إن المشكلة هي: كيف نعيد بناء الأمة من هذا الفتات المتناثر؟! والحق أن ما هدم في سنوات لا يمكن على الإطلاق أن يبنى في أيام، وإن هذا العمل يحتاج إلى جهد كبير وصبر جميل وتجرد في جميع مراحل هذا البناء وأود أن يعلم الجميع بصفة عامة والدعاة وأهل التربية بصفة خاصة أنه لا يمكن على الإطلاق أن نربي الأمة دفعة واحدة، كما أنه لا يمكن على الإطلاق أن نربي كل فرد من أفراد الأمة بصورة مباشرة؛ لأن أعظم مرب عرفته الدنيا لم يفعل ذلك. إذاً: ماذا فعل الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي بنى أمة من فتات متناثر، وأقام للإسلام دولة أذلت الأكاسرة، وأهانت القياصرة، وغيرت مجرى التاريخ في فترة لا تساوي في حساب الزمن شيئاً؟! أقول: لقد ربى رسول الله صلى الله عليه وسلم القاعدة القوية الصادقة الأمينة، ثم انطلقت هذه القاعدة لتربي بقية الأمة، فكانت القدوة الصالحة، وانطلقت لتحول المنهج الرباني إلى واقع عملي يتحرك في دنيا الناس. أيها الأحباب! كيف يمكننا أن نزيل غربة الإسلام الثانية؟ أستطيع -حتى لا أطيل أكثر من ذلك- أن أضع بين أيدي حضراتكم في عجالة سريعة بعض بنود المنهج العملي ليعي كل فرد منا دوره، وليعلم كل واحد منا مسئوليته. أقول: أيها الحبيب! أستطيع أن أضع بين أيدي حضراتكم بعض بنود المنهج العملي الذي أراه من وجهة نظري القاصرة صالحاً للارتقاء بالأمة إلى مكانتها مرة أخرى:

بناء صرح الأخلاق الإسلامية

بناء صرح الأخلاق الإسلامية ثالثاً: من بنود هذا المنهج العملي الذي أراه من وجهة نظري القاصرة صالحاً للارتقاء بالأمة إلى مكانتها مرة أخرى: السعي الجاد لبناء صرح الأخلاق الإسلامية. قد يقول بعض الأحبة الآن: إنك تناقض نفسك، بقولك: نريد الآن العلم، والتكنولوجيا، ونريد الرقي، ونريد الخبرة، ونريد رءوس المال. وأنا أقر هذا ولا أنكره على الإطلاق، ولكنني أقول: إن كل هذه المقومات بدون بناء أخلاقي لن تفيدنا، بل ستحول بيننا وبين العلم الدنيوي والأخروي. فيا أيها الموحد! ضم العالم كله إلى صدرك، وأسمعه خفقات قلبك الذي وحد الله جل وعلا هيا ضم العالم كله إلى صدرك وأسمعه خفقات قلبك الذي وحد الله جل وعلا وامتلأ بمعرفته. هيا قم أيها الموحد! واسق الدنيا كأس الفطرة، لتروى بعد ظمأ، ولتحيا بعد موت، ولتهدى بعد ضلال. قم أيها الموحد! قم يا حفيد صلاح الدين! تحرك بهذا الدين بدعوة الله، فإن أهل الباطل تحركوا على جميع المستويات لباطلهم، وما زال أهل الحق متفرقين. يا أبناء الصحوة: كونوا على قدر هذه المسئولية، كونوا على قدر هذه المؤامرات الموتورة التي تكاد للأمة في الليل والنهار. ألم تفكروا إلى الآن في حسم هذه المؤامرات؟! فلتتوحد الصفوف، ولتلتق القلوب، لا أقول تلتقي الجماعات في جماعة واحدة، فربما يكون هذا من ضرب الخيال، ولكن فلتلتق القلوب، وليحب بعضنا بعضاً، وليعذر بعضنا بعضاً، وليلتق الجميع على الحق، وإذا وجدت أخاك على خطأ فاقترب منه بحكمة ورحمة وقل له: يا حبيبي في الله! هذا خطأ. إنك في حاجة إلى جهد أخيك، وأخوك في حاجة إلى جهدك! أيها الحبيب! فلتكن الرحمة شعارنا، ولتكن الحكمة منهجنا، ولتكن العدالة سبيلنا، فهيا لنتحرك لتلتقي القلوب على منهج الحق، فإننا الآن في أمس الحاجة إلى كل جهد مخلص صادق يبذل لدين الله جل وعلا. أيها الشباب! أيها الأحباب! تحركوا بدين الله، تحركوا بدعوة الله! أخاطبك أيها المسلم، وأخاطبك أيتها المسلمة. فإن الدعوة إلى الله مسئولية الجميع، وسنُسأل عنها بين يدي الله، وفي صحيح البخاري من حديث عبد الله بن عمرو أنه صلى الله عليه وسلم قال: (بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)

نبذ الفرقة وتوحيد الصف

نبذ الفرقة وتوحيد الصف أولاً: من بنود هذا المنهج: نبذ الفرقة وتوحيد الصف -وضعوا هذه في قلوبكم يا أبناء الصحوة- فإن الفرقة والشتات سبب لذهاب الريح وتوهين القوة، قال الله جل وعلا: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46]، وقال الله جل وعلا: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105]. ونحن إذ ننادي بالوحدة فإننا لا نريدها وحدة على غير أصول ثابتة، كلا، فنحن لا نريدها وحدة تجمع شتاتاً متناثراً، وأفكاراً متناقضة على غير حق واتباع وهدى، كلا، فإن هذا الكلام لا يقول به عاقل على الإطلاق، وإنما ننادي بالوحدة التي ترتكز على أصلين لا ثالث لهما، ألا وهما: الأصل الأول: الانتماء للإسلام دون سواه، فلننبذ كل العصبيات والقوميات والنعرات، وليكن ولاؤنا للإسلام فقط، وليكن نسبنا هو الإسلام، ولنردد مع سلمان قولته الجميلة: أبي الإسلام لا أب لي سواه إن افتخروا بقيس أو تميم أما الأصل الثاني لهذه الوحدة فهو: توحيد مصدر الهداية والتشريع، ومصدر الهداية والتشريع هو القرآن والسنة، بفهم سلف الأمة، وحينئذٍ فقط توحد العقيدة وتصفى، وتوحد الشريعة وتنقى.

إعداد الكوادر الإسلامية المتخصصة

إعداد الكوادر الإسلامية المتخصصة ثانياً: من بنود المنهج العملي: إعداد الكوادر الإسلامية المتخصصة وهذه المسئولية تلقى على عواتق وأكتاف الشباب فهم عماد الأمة! أيها الآباء الكرام! يا من حملكم الله أمانة المسئولية وأمانة التربية! أقول: إننا الآن في أمس الحاجة إلى إعداد الكوادر الإسلامية المتخصصة في كل مجالات الحياة: في علم الذرة، في علم الطب، في علم الهندسة، في علم الفلك، في علم الجيولوجيا، في علم الكيمياء، في علم الصناعة، في علم الزراعة، في علم التجارة، في كل مجالات الحياة، نريد الكوادر الإسلامية المتخصصة التي تنطلق من فهم دقيق، ووعي عميق للإسلام بكماله وشموله لتسير جميع شئون الحياة من منظور إسلامي، من قال الله قال رسوله، ولا يمكن على الإطلاق أن نسير شئون الحياة مرة أخرى إلا على أيدي هذه الكوادر الإسلامية المتخصصة التي تنطلق وهي تفهم الإسلام، ولتشهد للإسلام شهادة عملية بعدما شهدت له من قبل شهادة قولية.

المستقبل لهذا الدين

المستقبل لهذا الدين وأخيراً: أقول بقلب يملؤه اليقين، وبلغة يحدوها الأمل: إن المستقبل لهذا الدين رغم كيد الكائدين، ولا نقول ذلك من باب الأحلام الوردية، ولا من باب تسكين الآلام أو تضميد الجراح، ولكنه القرآن الكريم، وكلام النبي الصادق الأمين، يقول الله جل وعلا: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:8]، ويقول الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36]، ويقول الله جل وعلا: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173]. أيها الأحباب! اعلموا بأن المستقبل لهذا الدين، وبأن الإسلام قادم كقدوم الليل والنهار، وبأن هذا الوعد هو وعد الله جل وعلا، ووعد الله لا يخلف، فاسألوا الله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى وتضرعوا إليه في هذه اللحظات -عسى أن يتقبل الله دعوة صادق فينا- أن ينصر الإسلام والمسلمين. اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم وأعل بفضلك كلمة الحق والدين! اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم احمل المسلمين الحفاة، واكس المسلمين العراة، وأطعم المسلمين الجياع. اللهم فك سجن المسجونين، وأسرى المأسورين، واربط على قلوبنا وقلوبهم يا أرحم الرحمين! اللهم لا تدع لأحد منا في هذا الجمع المبارك ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا أديته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا طائعاً إلا سددته، ولا حاجة فيها لك رضاً ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ويسرتها يا رب العالمين! اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل اللهم فينا شقياً ولا محروماً! اللهم اجعل مصر واحة للأمن والأمان، اللهم اجعل مصر واحة للأمن والأمان، اللهم اجعل مصر سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين! اللهم اجعل مصر سخاء رخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم ارفع عن مصرنا الغلاء والوباء والفتن والبلاء برحمتك يا أرحم الرحمين! أيها الأحبة في الله! كل عام وأنتم بعافية وصحة وخير، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

اقترب ظهور المهدي

اقترب ظهور المهدي العلامة الوسطى التي تقع بين علامات الساعة الصغرى وعلامات الساعة الكبرى هي: ظهور المهدي عليه السلام، الذي جاء في الأحاديث الصحاح ذكره ووصفه وصفاً دقيقاً، وجاء فيها ما يحصل في الأرض -في زمنه- من تغير وتحول. بل جاء فيها ملاحمه التي سيخوضها مع المسلمين الموحدين ضد أعداء الدين، حتى يعم هذا الدين أرجاء الأرض. فيجب الإيمان بهذه العلامة، وعدم تحكيم العقل في ذلك.

ظهور المهدي من علامات الساعة الوسطى

ظهور المهدي من علامات الساعة الوسطى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة الفضلاء! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله الكريم جل وعلا الذي جمعنا مع حضراتكم في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار مقامته؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! حديثنا -بإذن الله تعالى ومدده وتوفيقه- عن العلامة الوسطى، أو عن حلقة الوصل -إن صح التعبير- بين العلامات الصغرى والعلامات الكبرى للساعة، هذه العلامة الوسطى هي: ظهور المهدي عليه السلام، وهذا درس من أهم الدروس التي تملأ قلوب المستضعفين من المسلمين الآن بالأمل في أن الإسلام -بموعود الله وبموعود الصادق رسول الله صلى الله عليه وسلم- سيظهره الله على الدين كله، فتدبروا معي هذه المحاضرة، فإنها من الأهمية بمكان، والله أسأل أن يقر أعيننا وإياكم بنصرة المسلمين وعز الإسلام.

حال الأرض في زمن المهدي

حال الأرض في زمن المهدي والأرض تنتظر المهدي في وقت سيقدره الله الرب العلي، إذ لا يعلم وقت ظهور المهدي ملك مقرب ولا نبي مرسل، فهو من الأمور الغيبية التي اختص الله عز وجل بعلمها. يخرج المهدي في آخر الزمان يؤيد الله به الدين، ويملك سبع سنين، فيملأ الأرض عدلاً كما ملأت الأرض جوراً وظلماً، وتنعم الأمة في عهده نعمة لم تنعم بها قط، وتخرج الأرض في عهده نباتها، وتمطر السماء قطرها، ويكون المال بغير عدد، نسأل الله أن يعجل بخلافته. قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: في زمان المهدي تكون الثمار كثيرة، والزروع غزيرة، والمال وافر، والسلطان قاهر، والدين قائم، والعدو راغم، والخير في أيامه دائم.

صفة المهدي

صفة المهدي وصف النبي صلى الله عليه وسلم المهدي وصفاً دقيقاً كما وصف عيسى ابن مريم عليه السلام، وكما وصف الدجال عليه لعنات الله المتتالية. وصف النبي المهدي بأنه أجلى الجبهة، أي: واسع الجبهة، يقل الشعر عند جانبي الجبهة. وأخبر عليه الصلاة والسلام بأنه أقنى الأنف، والأقنى: هو الأنف الذي له أرنبة دقيقة، وله حدة أو دقة في الوسط، وهذا وصف يبين جمال الخلقة وحسن الصورة والمنظر. يصلحه الله في ليلة واحدة، وقد وقف أهل العلم عند قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يصلحه الله)، فقالوا: يصلحه الله في ليلة واحدة أي: يطهره الله عز وجل من كل ذنب وخبث، وهناك قول ثانٍ وهو: إن المعنى: يهيئه الله عز وجل ويعده للخلافة في أيام الفتن والملاحم الأخيرة التي ستكون بين يدي الساعة. ويؤيده الله عز وجل بنصره وعونه؛ إذ إن ظهور المهدي عليه السلام ليس أمر كسبياً منه، يعني: لا ينبغي لأحد أن يقول: بأني سأجتهد بالطاعة والعبادة لأكون المهدي، لا؛ لأن ظهور المهدي ليس أمراً كسبياً، كما أن النبوة ليست أمراً كسبياً؛ وإنما ظهور المهدي أمر قدري في الوقت الذي يشاءه وفي الشخص الذي يريده الرب العلي.

ترجمة المهدي

ترجمة المهدي كثير من المسلمين لا يعرفون شيئاً عن المهدي، فمن هو المهدي؟ وما هي صفته؟ وما هي العلامة المؤكدة والمميزة لظهوره، لا سيما وقد رأينا كثيراً من الكذابين قد ادعى أنه المهدي؟ فهل ذكر النبي صلى الله عليه وسلم علامة مميزة مؤكدة للمهدي الذي سيخرج في آخر الزمان، والذي سيكون بين يدي العلامات الكبرى؟ ثم ما هي الحروب والملاحم والفتن التي سيقود فيها المهدي جيوش المسلمين في الأيام الأخيرة بين يدي الساعة؟ كل هذه الأسئلة سنجيب عنها الليلة بحول الله عز وجل وطوله ومدده. أيها الأحبة الكرام! رجل من المسلمين من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، من ولد الحسن بن علي ابن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، واسم المهدي كاسم النبي، واسم أبيه كاسم أبي النبي، فهو محمد أو أحمد بن عبد الله الحسني العلوي الفاطمي رضوان الله عليه.

ذكر بعض الأحاديث الواردة في المهدي

ذكر بعض الأحاديث الواردة في المهدي والأحاديث الواردة بشأن المهدي عليه السلام بلغت حد التواتر، والمتواتر عند جمهور العلماء يفيد العلم القطعي، ومن ثَمَّ فالعلم به واجب، والإيمان به فرض عين على كل مسلم ومسلمة، ومن هذه الأحاديث الثابتة عن النبي الصادق في شأن المهدي: ما رواه الحاكم في المستدرك وصححه على شرط الشيخين، وأقره الذهبي والألباني من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يخرج في آخر أمتي المهدي، يسقيه الله الغيث، وتخرج الأرض نباتها، ويعطي المال صحاحاً، وتكثر الماشية، وتعظم الأمة، يعيش سبعاً أو ثمانياً -يعني: حججاً). وروى أبو يعلى عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أبشركم بالمهدي، يبعث المهدي على اختلاف من الناس وزلزال، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت الأرض جوراً وظلماً، ويرضى عنه -أي: عن المهدي - ساكن السماء وساكن الأرض، يقسم المال صحاحاً، فقال له رجل: ما صحاحاً؟ قال: بالسوية بين الناس). وروى أبو داود في سننه وصححه الألباني في صحيح الجامع من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تذهبوا أو لا تنقضي الدنيا حتى يملك العربَ رجلٌ من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي).

كيفية معرفة المهدي

كيفية معرفة المهدي مما مضى من الأحاديث -أيها الإخوة- يتبين لنا أن الأحاديث الثابتة في شأن المهدي قد تواترت تواتراً معنوياً كما ذكرتُ، والسؤال المهم: كيف نعلم ظهور المهدي؟ فإنه قد خرج أناس كثيرون يدعي كل واحد منهم أنه المهدي، فكيف نعلم أن هذا الرجل الذي ادعى لنفسه المهدية، أنه هو المهدي الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم؟ و A أن هذا السؤال مهم جداً، والنبي صلى الله عليه وسلم قد ذكر لنا علامة أكيدة مميزة للمهدي عليه السلام دون غيره من الأدعياء الكذابين، فتدبر كلام الصادق الأمين! ففي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم عبث في منامه، أي: تحرك جسمه الشريف وتحركت أطرافه، وفعل شيئاً لم يكن يفعله في نومه، فقلنا: يا رسول الله! صنعت شيئاً في منامك لم تكن تفعله؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (العجب أن ناساً من أمتي يؤمون البيت -أي: البيت الحرام- لرجل من قريش قد لجأ في البيت، حتى إذا كانوا في البيداء -أي: في الصحراء- خسف بهم، فقلنا: يا رسول الله! إن الطريق قد يجمع الناس، قال: نعم، فيهم المستبصر والمجئور -ابن السبيل- يهلكون مهلكاً واحداً، ويصدرون مصادر شتى، يبعثهم الله على نيتهم) ومن العلماء المعاصرين من قارن وصف السفياني في أحاديث كتاب (الفتن) لـ نعيم بن حماد وطابقها على صدام حسين، وليس لدينا دليل على ذلك، إنما هو ضرب من المجازفة، وهذا مذكور في كثير من الكتب التي وقفت عليها، ويبدوا أن هذا السفياني شر في حياته وفي آخر حياته، وهو الذي سيخرج بجيشه لقتال المهدي. يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (يخرج رجل يقال له: السفياني في عمق دمشق، وعامة من يتبعه من كلب -قبيلة معروف تسمى قبيلة كلب- ويخرج رجل من أهل بيتي في الحرم -الذي هو المهدي عليه السلام- فيسير إليه السفياني بمن معه، حتى إذا صار ببيداء من الأرض خسف بهم، فلا ينجو منهم إلا المخبر عنهم)، وفي رواية: (إلا الشريد) يبقي الله عز وجل رجلاً ليخبر عن خسف الله عز وجل للجيش؛ ليشتهر وينتشر خبره وأمره، ولاحظ أن هذه هي العلامة الأكيدة المميزة للمهدي عليه السلام، فإذا ظهر رجل هنالك في مكة، وأعلن عنه أنه المهدي، وخرج جيش لقتاله، فخسف الله بهذا الجيش الأرض علمنا أن ذلك الرجل هو المهدي. فإذا خسف الله عز وجل بالجيش الذي سيخرج لقتال المهدي الأرض، فمعنى ذلك: أن كل المسلمين على وجه الأرض في هذه اللحظة سيعلمون أن الرجل الذي ظهر بمكة هو المهدي، وحينئذ يرحل إلى المهدي -إلى مكة- كل مسلم على وجه الأرض ليبايعه، ثم يتقدم المهدي هذه الجحافل المؤمنة الطائعة، ليقود بهم الملاحم الأخيرة.

أهم الملحم والحروب التي يقودها المهدي

أهم الملحم والحروب التي يقودها المهدي فما هي أهم الملاحم والحروب التي سيقود فيها المهدي عليه السلام كتائب المسلمين في آخر الزمان، وهذا درس من أهم الدروس التي تملأ قلوب المستضعفين من المسلمين الآن بالأمل في أن الإسلام -بموعود الله وبموعود الصادق رسول الله صلى الله عليه وسلم- سيظهره الله على الدين كله. ما أن يخسف الله عز وجل بالجيش الذي خرج لملاقاة المهدي الأرض، حتى يعلو ذكر المهدي، وينتشر صيته، ويأتيه المسلمون من كل بقاع الدنيا ليبايعوه؛ ليشد المسلمون الصادقون -الذين يشتاقون إلى الجهاد في سبيل الله تحت خليفة يرفع راية التوحيد والسنة- على يد المهدي ويبايعونه على النصرة وعلى الجهاد؛ لإعلاء كلمة الله تبارك وتعالى تحت شعار إحدى الحسنين: إما النصر وإما الشهادة، أسأل الله أن يرزقنا وإياكم الشهادة في سبيله. وبعد خسف الله الأرض بالجيش الذي خرج لقتاله، يجتمع للمهدي بعد هذه العلامة المؤكدة جيش كبير جداً من الموحدين من كل بقاع الأرض، ثم لا يجد هذا الجيش بقيادة المهدي وقتاً للراحة ولا للنوم، وإنما يخوضون كثيراً من الملاحم والحروب والمعارك التي تحمر فيها الحدق، ويرتفع فيها صهيل الخيول، وتسمع فيها قعقعة السيوف والرماح، وتبلغ فيها القلوب الحناجر، ويسقط فيها كثير من القتلى والجرحى، حتى تخوض الخيول في برك من الدماء والأشلاء، وينبغي أن تعرف أن العالم سيقف على قلب رجل واحد لقتال المهدي، وتصور أن العالم كله بعد ظهور المهدي سيقف صفاً واحداً لقتال المهدي! وأبشر فما من معركة سيخوضها المهدي إلا وسينصره الرب العلي. المعركة الأولى: غزو جزيرة العرب. المعركة الثانية: غزو بلاد فارس. المعركة الثالثة: غزو بلاد الروم أي: أوروبا وأمريكا. ومن غزو بلاد الروم: فتح القسطنطينية. المعركة الرابعة: قتال اليهود، والنصر عليهم. المعركة الخامسة: قتال الترك، أي: الصين وروسيا واليابان ومنغوليا إلى آخر هذه الشعوب. لو تصورت بعد هذا العرض السريع للملاحم والمعارك التي سيخوضها المهدي -كما ذكرت- يتبين لك أن العالم كله سيقاتل المهدي عليه السلام، وتدبر معي كلام الصادق المصدوق في الجملة! وسأفصل بعد ذلك إن شاء الله تعالى: يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى، الذي ارتقى يوماً المنبر فوصف لأصحابه ما سيكون إلى قيام الساعة، ومما ذكره عليه الصلاة والسلام في الملاحم التي سيقود كتائب المسلمين فيها المهدي عليه السلام ما روى مسلم وأحمد وابن ماجة وغيرهم من حديث نافع بن عتبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تغزون جزيرة العرب فيفتحها الله، ثم تغزون فارس فيفتحها الله، ثم تغزون الروم فيفتحها الله، ثم تغزون الدجال فيفتحه الله). إذاً: المعركة الأولى: فتح بلاد العرب، ثم فتح بلاد فارس، ثم فتح بلاد الروم، ألا وهي أوروبا وأمريكا، ثم فتح الدجال. وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده، وأبو داود في سننه، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عمران بيت المقدس خراب يثرب، وخراب يثرب خروج الملحمة، وخروج الملحمة فتح القسطنطينية، وفتح القسطنطينية خروج الدجال). وفي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم! يا عبد الله! هذا يهودي خلفي تعال فاقتله إلا الغرقد، فإنه من شجر اليهود). وفي الحديث الذي رواه الإمام البخاري والإمام أحمد من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا خوزاً وكرمان)، وهي بلاد مشهورة يحدها من الغرب بلاد فارس، ومن الشمال خراسان، ومن الجنوب الخليج الفارسي، أو بحر فارس كما كان يُسمى قبل ذلك عند العرب، وهي حالياً بلاد الصين وروسيا واليابان، وقد وصف النبي وجوههم وصفاً عجيباً كأنه يراهم اليوم، فقال: (لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا خوزاً وكرمان من الأعاجم، حمر الوجوه، فطس الأنوف، صغار الأعين، كأن وجوههم المجان المطرقة) -أي: كأن وجوههم كالتروس المستديرة التي غطيت بالجلد، انظر إلى وجه الياباني أو وجه الصيني المستدير كأنه الترس المستدير غطي بنوع من الجلد، لو تفرست ودققت النظر في الوجوه لصليت على من لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم. وفي رواية مسلم من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون الترك)، ويراد بالترك هنا بلاد الصين وروسيا واليابان ومنغوليا إلى آخر تلك البلاد في تلك المنطقة، (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون الترك، قوماً وجوههم كالمجان المطرقة، يلبسون الشعر ويمشون في الشعر) هذا وصف جديد، وفي رواية أخرى توضح هذه الرواية في البخاري عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى تقاتلون قوماً نعالهم الشعر) أي: أن النعال التي يمشون فيها من الشعر، ومن ينظر إلى نعال الصينيين والروسيين واليابانيين في هذه المناطق الباردة يعلم يقيناً أنها تصنع من الشعر، وما يسميه البعض: الفرو ومعظم الثياب التي يرتدونها من الشعر -الفرو- فلباسهم الشعر ويمشون في الشعر. يقول عليه الصلاة والسلام -بأبي هو وأمي-: (لا تقوم الساعة حتى تقاتلون قوماً نعالهم الشعر، وحتى تقاتلون الترك صغار الأعين حمر الوجوه، ذلف الأنوف -هو الأنف الصغير الأفطس- كأن وجوههم المجان المطرقة). قف بعد هذا الإجمال على هذا التفصيل:

فتح المهدي لبلاد العرب

فتح المهدي لبلاد العرب المعركة الأولى أو الملحمة الأولى هي: فتح بلاد العرب، وأول جيش سيخرج لقتال المهدي من بلاد العرب، وثبت في بعض الروايات أن الذي سيقود هذا الجيش هو السفياني، يخرج إليه فينصر الله عز وجل المهدي بمدد غيبي من عنده سبحانه وتعالى، يعني: بأمر قدري بحت لا دخل فيه لبشر، ولا دخل فيه لجيش، فيؤيد الله المهدي في هذه المعركة الأولى والتي ستبين للمسلمين في الأرض أن هذا الرجل هو المهدي حقاً، فيخسف الله عز وجل الأرض بهذا الجيش الذي خرج لملاقاته، وبعد هذه المعركة يخرج المهدي عليه السلام، ويبسط سلطانه على كل جزيرة العرب، التي ستفتح أبوابها بعد هذا النصر الغيبي للمهدي عليه السلام، ويتحقق فوراً بعد هذه الخسف قول النبي صلى الله عليه وسلم: (تغزون جزيرة العرب فيفتحها الله عز وجل). إذاً: الذي يفتح للمهدي جزيرة العرب هو الله تبارك وتعالى، دون قتال أو دون نزال بين جيش المهدي وبين هذا الجيش العربي الذي سيخرج لملاقاة المهدي بقيادة السفياني.

فتح المهدي لبلاد فارس

فتح المهدي لبلاد فارس المعركة الثانية: (ثم تغزون فارس فيفتحها الله)، وبعد سيطرة المهدي وكتائب التوحيد معه على أرض الجزيرة كلها ستخرج بلاد فارس بحدها وحديدها - من الشيعة الذين لا يرقبون في مؤمن من أهل السنة إلاً ولا ذمة- يخرجون لقتال المهدي عليه السلام، فيهزمهم المهدي شر هزيمة، ويتحقق قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم تغزون فارس فيفتحها الله)، فيمتد سلطان المهدي من جزيرة العرب ويتجه إلى ناحية الشرق، إلى ناحية بلاد فارس، فيسيطر عليها سيطرة كاملة بموعود الحق تبارك وتعالى، وبموعود رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قتال المهدي لبلاد الروم

قتال المهدي لبلاد الروم المعركة الثالثة: هي الملحمة الكبرى التي وصف النبي أحداثها وصفاً دقيقاً، كأنه يحارب في هذا الجيش الذي يقود كتائبه المهدي عليه السلام، هذه الملحمة الكبرى التي سيقودها المهدي بعد السيطرة على بلاد العرب وعلى بلاد فارس هي قتال الروم، هي قتال أوروبا وأمريكا، وتلك هي الملحمة الكبرى، وهي أشد الملاحم وأعظمها على الإطلاق، وهي المعركة التي سماها بعض أهل العلم: معركة هرمجدون، والتي ستأتي بعد فترة الهدنة والمصالحة التي نحن فيها الآن، أي: فترة مصالحة بين المسلمين وبين الروم الآن، وبعدها سيقاتل المسلمون مع الروم -أي: أوروبا وأمريكا- عدواً واحداً، وهذا العدو ربما يكون العدو الشرقي سواء الشيوعي أو الشيعي، وينتصر المسلمون مع الروم في هذه المعركة، وفي طريق العودة يقوم رجل من الروم فيرفع الصليب ويقول: انتصر الصليب، فيغار رجل من أهل الإيمان والإسلام فيقوم إلى هذا الرجل فيدفعه أو يقتله، فحينئذٍ يغدر الروم بالمسلمين، وتقع هذه الملحمة الكبرى التي أخبر عنها الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم. تدبر ماذا قال النبي عليه الصلاة والسلام! والحديث في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم في الأعماق أو بدابق) ودابق مدينة بالقرب من مدينة دمشق السورية، أي: مقر قيادة المهدي سيكون بمدينة بالقرب من دمشق، وستكون الملحمة في هذه الأرض في أرض المسلمين، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم -أي: الأمريكان والأروبيون- في الأعماق أو بدابق، فيخرج إليهم جيش من المدينة بقيادة المهدي من خيار أهل الأرض يومئذٍ، فإذا تصافوا -أي: للقتال- قالت الروم: خلو بيننا وبين الذين سبوا منا نقاتلهم) وقد تعجبون إن قلت لكم أن الذي سيشارك في فتح القسطنطينية وسيفتح الله عز وجل على يديه هذه المدينة هم مجموعة كبيرة من أهل الروم ممن أسلموا لله عز وجل، فسيسلم الروم في هذه المعارك بأعداد كبيرة جداً، وينضمون إلى كتائب التوحيد بقيادة المهدي عليه السلام، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (فإذا تصافوا قالت الروم: خلو بيننا وبين الذين سبوا منا نقاتلهم، فيقول المسلمون: لا؛ والله! لا نخلي بينكم وبين إخواننا) ولقد صاروا إخواناً لنا من المسلمين (فيقاتلونهم) تدبر ماذا يقول المصطفى في وصف دقيق عجيب: (فينهزم ثلث لا يتوب الله عليهم أبداً)، ينهزم ثلث من جيش المسلمين أي: من الفرَّار أو الكرَّار، والله أعلم بحالهم، يقول النبي في حقهم: (فينهزم ثلث لا يتوب الله عليهم أبداً، ويقتل ثلثهم) وتدبر ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في حق هذا الثلث الثاني: (هم أفضل الشهداء عند الله، ويفتتح الثلث -أي: المتبقي- لا يفتنون أبداً، فيفتتحون قسطنطينية، فبينما هم يقتسمون الغنائم قد علقوا سيوفهم بالزيتون -وليس رشاشاتهم- إذ صاح فيهم الشيطان: إن المسيح قد خلفكم في أهليكم -أي: المسيح الدجال قد خرج- فيخرجون وذلك باطل، فإذا جاءوا الشام خرج -أي: الدجال- فبينما هم يعدون للقتال ويسوون الصفوف إذ أقيمت الصلاة، فينزل عيسى ابن مريم، فإذا رآه عدو الله -أي: إذا رأى الدجال عيسى ابن مريم- ذاب كما يذوب الملح في الماء، فلو تركه -أي: لو ترك عيسى ابن مريم الدجالَ- لانذاب حتى يهلك، ولكن يقتله الله بيده، فيريهم دمه في حربته) أي: فيري عيسى ابن مريم المسلمين الذين معه دم المسيح الدجال في حربته، أي: على رأس حربته التي قتله بها. والنبي عليه الصلاة والسلام يصف هذه المعركة وصفاً دقيقاً آخر، في رواية أخرى في صحيح مسلم عن يسير بن جابر، قال: هاجت ريح حمراء في الكوفة، فجاء رجل ليس له عادة، أي: جاء على غير عادته، فقال: يا عبد الله بن مسعود! جاءت الساعة، جاءت الساعة، قال: فقعد عبد الله بن مسعود وكان متكئاً -انظروا إلى العلماء- فقال ابن مسعود رضي الله عنه: (إن الساعة لا تقوم حتى لا يقسم ميراث، ولا يفرح بغنيمة، ثم قال بيده هكذا ونحاها نحو الشام، ثم قال: عدو يجمعون لأهل الإسلام، ويجمع لهم أهل الإسلام، قلت: الروم تعني؟ قال: نعم، وتكون عند ذاكم القتال ردة شديدة). وفسرت لفظة النبي التي في الحديث الأول: (ثلث لا يتوب الله عليهم أبداً) بأن هذا الثلث ثلث يرتد، وكلام النبي صلى الله عليه وسلم يفسر بعضه بعضاً. وكلام ابن مسعود رضي الله عنه له حكم الرفع؛ لأن هذه الأمور الغيبية لا يتكلم بها صحابي من عند نفسه، ولا يتكلم بكلام مثل هذا إلا وقد سمعه من الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى. يقول: (وتكون عند ذاكم القتال ردة شديدة، فيشترط المسلمون شرطة للموت لا ترجع إلا غالبة، فيقتتلون حتى يحجز بينهم الليل) وهذه نقطة ثالثة تبين أن الليل سيوقف المعارك، ومن المعلوم أن معارك الطائرات والصواريخ لا يوقفها ليل ولا نهار، (فيقتتلون حتى يحجز بينهم الليل، فيفيء هؤلاء وهؤلاء -أي: يرجع هؤلاء وهؤلاء- كل غير غالب) أي: أنها حرب سجال ليس فيها غلبة لأحد، (وتفنى الشرطة، ثم يشترط المسلمون شرطة للموت لا ترجع إلا غالبة، فيقتتلون حتى يحجز بينهم الليل، فيفيء هؤلاء وهؤلاء كل غير غالب، وتفنى الشرطة، ثم يشترط المسلمون شرطة للموت لا ترجع إلا غالبة، فيقتتلون حتى يمسوا، فيفيء هؤلاء وهؤلاء كل غير غالب، وتفنى الشرطة) وهذا هو اليوم الثالث، يقول عليه الصلاة والسلام: (فإذا كان يوم الرابع نهد إليهم أهل الإسلام فيجعل الله الدبرة عليهم -أي: الدائرة على أهل الكفر- فيقتتلون مقتلة لم يُر مثلها) هكذا يقول المصطفى، ولما يقول النبي: (لم ير مثلها) يعني: لم ير مثلها صلى الله عليه وسلم، (حتى إن الطائر ليمر بجنباتهم فما يخلصهم حتى يخر ميتاً، فيتعاد بنو الأب كانوا مائة فلا يجدون بقي منهم إلا الرجل الواحد) ولذلك يقول النبي: (فيقتتلون مقتلة لم يُر مثلها). يقول: (فيتعاد بنو الأب كانوا مائة فلا يجدون بقي منهم إلا الرجل الواحد، فبأي غنيمة يفرح، أو أي ميراث يقاسم، فبينما هم كذلك إذ سمعوا ببأس هو أكبر من ذلك، فجاءهم الصريخ: إن الدجال قد خلفهم في ذراريهم، فيرفضون ما في أيديهم ويقبلون، فيبعثون عشرة فوارس طليعة، إني لأعرف أسماءهم وأسماء آبائهم وألوان خيولهم) بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، والحديث في صحيح مسلم في أعلى درجات الصحة، يقول عليه الصلاة والسلام: (فيبعثون عشرة فوارس طليعة، إني لأعرف أسماءهم وأسماء آبائهم، وألوان خيولهم، هم خير فوارس على ظهر الأرض يومئذٍ أو: من خير فوارس على ظهر الأرض يومئذٍ). فيتبين لنا من خلال هذه الأحاديث التي ذكرتها من صحيح مسلم أن هذه المعركة العنيفة بين المسلمين وبين الروم والتي سميت بالملحمة الكبرى التي لم يُر مثلها -كما قال النبي عليه الصلاة والسلام- ستدور رحاها في بلاد المسلمين بالقرب من سوريا أو دمشق، يعني: بلاد الشام، بمكان يسمى الأعماق أو دابق، وهذا المكان سيكون فيه مقر قيادة المهدي عليه السلام. وروى أحمد وأبو داود والحاكم، وصححه الألباني في صحيح الجامع، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فسطاط المسلمين يوم الملحمة الكبرى) سماها النبي بالملحمة الكبرى، و (فسطاط المسلمين) يعني: مقر قيادة المسلمين (فسطاط المسلمين يوم الملحمة الكبرى بأرض يقال لها: الغوطة، فيها مدينة يقال لها: دمشق) أي: أنه لم يكن على عهد النبي مدينة تُسمى دمشق أبداً، وهذه علامة من علامات النبوة، بل كل ما أذكره هو من علامات النبوة، يقول: (فسطاط المسلمين يوم الملحمة الكبرى بأرض يقال لها: الغوطة، فيها مدينة يقال لها: دمشق، خير منازل المسلمين يومئذٍ)؛ لأنه يكون فيها كتائب المسلمين بقيادة المهدي عليه السلام، والحديث رواه أحمد وأبو داود والحاكم، وصححه على شرط الشيخين، وأقر الحاكم الذهبي والألباني في صحيح الجامع. إذاً: الروم حينما يجمعون ويأتون المسلمين تحت ثمانين غاية أو تحت ثمانين راية، تحت كل راية اثنا عشر ألفاً كما ذكر المصطفى، يقولون للمسلمين: (خلو بيننا وبين الذين سبوا منا نقاتلهم، فيقول المسلمون للروم: لا، والله! لا نخلي بينكم وبين إخواننا)، وهذا يدل كما ذكرت على أن كثيراً من نصارى أوروبا وأمريكا سيسلمون بعد موقعة هرمجدون، وسيدخلون في دين الله أفواجاً، فيريد الروم أن يبدءوا المعارك مع المسلمين بالانتقام من هؤلاء الذين تركوا معسكرهم وأسلموا لله عز وجل، وتبدأ المعركة التي قال النبي في حقها: (فيقتتلون مقتلة عظيمة لم ير مثلها)، وينصر الله عز وجل في هذه المعركة المهدي عليه السلام وكتائب جيش التوحيد.

وجوب الإيمان بخروج المهدي، وعدم تحكيم العقل في ذلك

وجوب الإيمان بخروج المهدي، وعدم تحكيم العقل في ذلك والذي أود أن أقف عنده الآن أننا ذكرنا كلمات صادقة من الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، أخبر فيها أن كتائب التوحيد ستعلق سيوفها بشجر الزيتون، وأخبر فيها أن عيسى عليه السلام سيُري المسلمين دم المسيح الدجال على رأس حربته، وذكر فيها النبي صلى الله عليه وسلم أنه يعرف أسماء الفوارس وأسماء آبائهم وألوان خيولهم، وأنا أعلم أن من المسلمين من لا يصدق هذا الكلام ولو كان من عند المصطفى الصادق صلى الله عليه وسلم، وهم من الذين يعبدون العقل من دون الله عز وجل، ويقدمون العقل على النقل وإن صح. وأنا لا أريد أن أقلل من شأن العقل، وإنما أقول: إن نور العقل لا يصطدم أبداً مع نور الوحي، بل إن شئت فقل -والكلام لـ ابن تيمية طيب الله ثراه-: إن نور الوحي لا يطمس نور العقل أبداً، بل يباركه ويزكيه ويقويه. لكن لا ينبغي على الإطلاق أن يقدم العقل على صحيح النقل، فإذا صح النقل عن الله وعن رسوله فينبغي أن تسلم له، وأن تعلم يقيناً بأن الله سيهيئ الكون في لحظة يريدها؛ ليقع ما أخبر به نبيه الصادق الذي لا ينطق عن الهوى. وأما كيفية ذلك فليس لمخلوق على وجه الأرض أن يقف على كيفية ذلك، وخذوا كلام أهل الغرب الذين يقولون كلاماً عجيباً في هذا الذي أذكره الآن، فإن من المسلمين -وسامحوني- من يصدق تماماً كلام الغربيين، ووالله! لست مبالغاً إن قلت: إن منهم من يصدق الغرب أكثر من تصديقه لكلام سيد المرسلين، فإذا جاء الكلام من الغرب مدعماً بكلام العلماء وأهل العلم تراه يقول: هذا هو الكلام العلمي الذي يقبله العقل، ومن هؤلاء من كانوا ينكرون حديث الذبابة مع أنه حديث صحيح، ويقولون: كيف تحمل الذبابة الداء في جناح وتحمل الدواء في جناح آخر، كيف ذلك؟! هذا كلام لا يصدقه العقل! بل ومنهم من قال كلاماً شديداً لاذعاً وهو من أهل العلم ممن يشار إليهم بالبنان! فلما صدر هذا البحث العلمي من أكثر من جامعة غربية أوروبية وألمانية وأمريكية وبريطانية، وتبين للعلماء في أواخر القرن العشرين أن الذبابة بالفعل تحمل فيروساً معيناً في أحد جناحيها وفي الجناح الآخر الدواء، الذي يفسد الفيروس في الجناح الأول، فلما أثبت العلم ذلك أذعن الجميع بعد ذلك لقول الصادق الذي لا ينطق عن الهوى. أقول: وعلماء الغرب يتكلمون عن أحداث هائلة قد تفنى فيها الأسلحة الحديثة، وقد ذكرت أن هذه الأسلحة البيولوجية والنووية والصواريخ والطائرات والدبابات إلخ قد تبقى في مكانها كما هي، وبجندي من الجنود التي قال ربنا في حقها: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} [المدثر:31] تسلب هذه الأسلحة من خصائصها ومن أعمالها. خرجت أنا وأحد الإخوة في أمريكا لصلاة الفجر، وهو يركب سيارة مرسيدس من أحدث موديل، ولما ركبت إلى جواره، ونزل الضباب الكثيف الذي -والله! - حجب الرؤية داخل السيارة، ولا أقول: خارجها، فعجز الأخ الذي بجواري، وعجزت أنا معه أن نرى شبراً واحداً حتى إلى زجاج السيارة الأمامي، فتوقفت السيارة وتوقفت جميع السيارات، وحينئذٍ قلت للأخ الكريم: سبحان الله! هذا جواب سؤال كنت أبحث عنه، هذه السيارة أحدث موديل، فيها البترول، ويجلس على كرسي القيادة القائد، يجيد القيادة، لا يوجد أي سبب من الأسباب التي تتوقف وتتعطل بها السيارة، ولكن الله أرسل جندياً من جنوده فتعطلت الآلة في مكانها، وهذه أمور عجيبة جداً! أشهد أن الذي علم نبينا هو الله عز وجل. وهذا بحث علمي -خذوا هذا الخبر أيضاً فهو مفيد؛ لأجل أن تعلموا أن لله جنداً لا يعلمها إلا هو -يقول الخبر: في الوقت الذي نجت فيه مئات الأقمار الصناعية من شهب تسمى بشهب الأسد التي احترقت في الغلاف الجوي للكرة الأرضية، قضى عشرات الآلاف ليلة أمس الأول في العراء، في درجة حرارة تصل إلى عشرين درجة تحت الصفر؛ انتظاراً لرؤية هذا العرض الكوني الفريد للألعاب النارية، في ظاهرة فلكية نادرة، ظهرت أكثر وضوحاً في قارة آسيا، وذكرت وكالات الأنباء أن الظاهرة التي تتكرر كل نحو ثلاثة وثلاثين عاماً شهدها بعض المحظوظين، بينما حالت السحب الكثيفة دون مشاهدة البعض الآخر لها، ولم يزد حجم معظم الشهب والنيازك الصغيرة التي تساقطت على الأرض على حجم حبات الرمل، وبلغت سرعتها مائتين وخمسين ألف كيلو في الساعة، مما أكسبها قوة تدمير هائلة، أثارت مخاوف العلماء من احتمال تعرض الأقمار الصناعية لأضرار جسيمة، غير أن الظاهرة مرت بسلام في النهاية! قال ربنا عز وجل: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} [المدثر:31] فهل ازددتم -أيها الإخوة- حباً لله؟! وهل ازددتم حباً للصادق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فهذا كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه بعض الأبحاث العلمية التي تؤكد أن الأمر خطير، وليس بالأمر اليسير. وأنا أقول: أنا على يقين جازم بأن الله تبارك وتعالى سيهيئ الكون في الوقت الذي يشاؤه، بالكيفية التي يريدها؛ ليحدث في الأرض ما أخبر به نبيه الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، ومتى ذلك؟ وكيف ذلك؟ كل هذا لا يعلمه ملك مقرب ولا نبي مرسل، إنما هو في علم الرب العلي وحده تبارك وتعالى؛ لنعلم يقيناً أن الكون كله بيد الله، كما قال عز وجل: {قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:26].

فتح المهدي عليه السلام للقسطنطينية

فتح المهدي عليه السلام للقسطنطينية المعركة الرابعة التي سيخوض المهدي غمارها مع كتائب المسلمين والموحدين هي: فتح القسطنطينية، وقد أخبر النبي الصادق صلى الله عليه وآله وسلم بأن القسطنطينية ستفتح بقيادة المهدي عليه السلام، ولكن ستعجبون إذا علمتم أن القسطنطينية لن تفتح بسيف ولا برمح، ولا بخيول، وإنما ستفتح بلفظة: (لا إله إلا الله) و (الله أكبر)، هكذا قال الصادق، روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل أصحابه: (سمعتم بمدينة جانب منها في البر وجانب منها في البحر؟) والنبي صلى الله عليه وسلم ما رآها، ولكنه يصفها وصفاً كأنه رآها، فيقول لأصحابه: (سمعتم بمدينة جانب منها في البر وجانب منها في البحر؟ قالوا: نعم، يا رسول الله! سمعنا بها، فقال عليه الصلاة والسلام: لا تقوم الساعة حتى يغزوها سبعون ألفاً من بني إسحاق، فإذا جاءوها نزلوا فلم يقاتلوا بسلاح ولم يرموا بسهم، قالوا: لا إله إلا الله، والله أكبر، فيسقط أحد جانبيها الذي في البحر، ثم يقولون في الثانية: لا إله إلا الله، والله أكبر، فيسقط جانبها الآخر، ثم يقولون الثالثة: لا إله إلا الله، والله أكبر، فيفرج لهم، فيدخلوها فيغنموا، فبينما هم يقتسمون الغنائم إذ جاءهم الصريخ، فقال: إن الدجال قد خرج، فيتركون كل شيء ويرجعون) أي: إلى ملاقاة الدجال، وهكذا تفتح القسطنطينية بلا قتال وبلا سلاح ولا سهام. وهذه هي المعركة الرابعة التي سيخوض المهدي غمارها مع المسلمين.

قتل المهدي عليه السلام لليهود

قتل المهدي عليه السلام لليهود المعركة الخامسة: هي قتال اليهود عليهم لعنات الله المتتالية، ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين يقول: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم! يا عبد الله! ورائي يهودي تعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر يهود) ومن المعلوم أن اليهود يكثفون من زراعة شجر الغرقد؛ لأنهم يعلمون يقيناً صدق النبي محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال الله عز وجل: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:146]. فاليهود أهل غدر وأهل خيانة وأهل نفاق، ولا عهد لهم ولا ذمة على الإطلاق، وأنا أقول لكل مسلم على وجه الأرض: لقد نقض اليهود العهود مع الأنبياء، بل مع رب الأرض والسماء، فهل سيصدق اليهود في عهودهم مع الحكام والزعماء، فاليهود يعلمون صدق النبي محمد صلى الله عليه وسلم؛ لذلك يكثفون زراعة هذا الشجر اليهودي الأبكم الذي لا ينطق ولا يتكلم، ولكن بقية الحجر والشجر ستضج من نتن اليهود وريحهم الخبيث، فإذا ما اختفى يهودي خلف حجر أو شجر سينطق الله الحجر والشجر، فلا تعجب فأنت في زمن العجائب حينئذٍ! لا تعجب كيف ينطق الحجر! وكيف ينطق الشجر! لقد جاء رجل يهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليخبره أن ذئباً أخذ غنمة من أغنامه، فلما ذهب ليأخذها منه أقعى الذئب وقال: تأخذ مني رزقاً رزقنيه الله؟! فتعجب اليهودي وقال: ذئب يتكلم؟! قال: أتعجب من ذلك؟! أعجب منه رجل بين النخلتين أو بين الحرتين -أي: محمد- يخبر أنه لا إله إلا الله، فجاء الرجل إلى النبي فأخبره بما قال الذئب، فقال المصطفى: (أنا أصدق ذلك وأبو بكر وعمر) رضي الله عنهما. إذاً: لا تتعجب كيف ينطق الحجر! وكيف ينطق الشجر! سبحان الله! لم لا تتعجب كيف ينطق التلفاز! وهو جهاز أمامك تضغط على زر فينطق، وتخرج صورة كاملة، فكيف لا تتعجب؟! هذا جماد ومع ذلك ينطق، بل تسمعه وتراه، بل ينقل لك ما الذي يحدث في أقصى الأرض في التو واللحظة! فيومئذٍ ينطق الله الحجر والشجر، ويقول: يا مسلم! ليس يا وطني! (يا مسلم! يا عبد الله، ورائي يهودي تعال فاقتله إلا الغرقد، فإنه من شجر اليهود). وفي رواية: (حتى إن الشجر والحجر ينادي: يا روح الله!) أي: عيسى عليه السلام. فيدل ذلك على أن كل هذه الأحداث ستكون في زمن العجائب، فنزول عيسى آية عجيبة، وخرج الدجال آية، وخرج يأجوج ومأجوج آية، وكل هذه آيات، فأنت في هذه اللحظات ستكون في لحظات العجائب والآيات الكبرى. قال صلى الله عليه وسلم: (حتى إن الشجر والحجر ينادي: يا روح الله! هذا يهودي، فلا يترك أحداً ممن كان يتبع الدجال إلا قتله) أي: إلا قتله عيسى ابن مريم على نبينا وعليه الصلاة والسلام.

قتال المهدي عليه السلام لأهل خوز وكرمان

قتال المهدي عليه السلام لأهل خوز وكرمان فيخوض المهدي حرباً أخرى ألا وهي حرب خوز وكرمان، فيفتح خوزاً وكرمان، ألا وهي بلاد الصين وروسيا واليابان، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام، وقد وصفهم النبي وصفاً دقيقاً كما ذكرت، وبذلك يخوض المهدي كل هذه الملاحم والمعارك التي سينصره الله عز وجل فيها كلها؛ ليتحقق وعد الله، وليتحقق وعد رسول الله، بأن الإسلام سيعم أرجاء الأرض. والله العظيم لقد أخبرني أحد الإخوة يوم الجمعة قبل الماضية، فقال لي: والله! يا شيخ محمد! لقد رأينا في الكعبة عجباً عجاباً، فقلت له: ماذا؟ قال: نحن في يوم أحد عشر من شهر أيلول نطوف حول الكعبة، وإذ برجل كبير السن ذي لحية بيضاء، متعلق بأستار الكعبة ويبكي، وارتفع صوته فجأة وكأنما يتحدث بمكبر الصوت، قائلاً: إله الحق أرنا في أمريكا آية، دعوة عجيبة! والله العظيم! الواحد منا لا زال جسمه يرتعش منها إلى الآن، وظل يرددها ويبكي ويصرخ، يقول من حدثني: فكل الناس الذين في صحن الطواف سمعوا الدعوة، والكل بكى وصرخ، وبعد تقريباً ثلاث ساعات تذيع أخبار العالم ما وقع في أمريكا! أنتم تستهينون -يا إخواننا- بدعوة الضعيف الصادق؟! هذا سهم -والله- لا يرد، أنا أعتقد أن ما وقع إنما هو استجابة من الله عز وجل لدعوة المظلومين المقهورين الصادقين ممن تحترق قلوبهم، ولا يملكون أن يقدموا شيئاً. وفي هذا بيان منالله أنه ليس هناك قوة على وجه الأرض ستقدر أن تهدم الإسلام؛ لأن الإسلام باقٍ وسيبقى، وسيهلك الله كل من يحارب الإسلام، وسيبقي الله الإسلام شامخاً؛ لأن الذي وعد بإبقائه هو الله الحي الباقي الذي لا يموت سبحانه وتعالى. وأختم بالكلمة الجميلة هذه، وبهذا الخبر الذي نشرته مجلة (التايم) الأمريكية، تقول: وستشرق شمس الإسلام من جديد، ولكنها في هذه المرة تعكس كل حقائق الجغرافيا، فهي في هذه المرة لا تشرق من الشرق، وإنما تشرق من الغرب، من قلب أوروبا، تلك القارة العجوز التي بدأت المآذن فيها تزاحم أبراج الكنائس في روما ومدريد ولندن وباريس، وصوت الأذان كل يوم خمس مرات خير شاهد على أن الإسلام يكسب كل يوم أرضاً جديدة. هذا خبر في التايم. اليوم المسلمون في قلب أوروبا أكثر من خمسة وخمسين مليون مسلم، وهذا عدد لا يستهان به على الإطلاق، وهم الآن أصبحوا مثل اللقمة التي ليسوا قادرين على أن يبلعوها ولا أن يلفظوها، فوقفت في الزور لا تبلع ولا تمضغ ولا تلفظ. اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، هازم الأحزاب، اللهم اهزم أحزاب الكفر، اللهم زلزل الأرض من تحت أقدامهم، اللهم شتت رميهم، اللهم شتت رميهم، اللهم شتت رميهم، اللهم اقذف الرعب في قلوبهم، اللهم اقذف الرعب في قلوبهم، اللهم احفظ إخواننا في أفغانستان، اللهم احفظ أهلنا في أفغانستان، اللهم اربط على قلوبهم، اللهم اربط على قلوبهم، اللهم اربط على قلوبهم، اللهم احفظهم بحفظك، واكلأهم بعينك، واحرسهم برعايتك، اللهم إنهم ضعاف فقوهم، اللهم إنهم أذلاء فأعزهم، اللهم إنهم عراة فاكسهم، اللهم إنهم جياع فأطعمهم، اللهم إنهم حفاة فاحملهم، اللهم إن أهل الأرض قد تجمعوا عليهم فكن لهم يا ملك! يا قدير! اللهم ارحم ضعفهم، واجبر كسرهم، واغفر ذنبهم، واستر عيبهم، وفرج كربهم، اللهم اجعل الدائرة على عدوهم، اللهم اجعل الدائرة على عدوهم، اللهم اجعل الدائرة على عدوهم، اللهم اجعل تدبير الأعداء تدميرهم، اللهم اجعل تدبير الأعداء تدميرهم، اللهم اشف صدور قوم مؤمنين، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

الإرهاب اليهودي

الإرهاب اليهودي واقع الأمة اليوم واقع مأساوي، ينزف بالدماء وتطاير الأشلاء، وأكبر المسئولين عن ذلك هم إخوان القردة والخنازير وقتلة الأنبياء، والواقع أكبر شاهد على أن اليهود أئمة الإرهاب العالمي وقادته. فعلى الأمة الإسلامية أن تفيق لتأخذ بثأرها، وتنزع السوط من يد جلادها، وأن تعلم أن الحل لن يأتي عن طريق طاولة المفاوضات أبداً، فإن اليهود هم اليهود (نقضة العهود)، وإن الحل لا يكون إلا بالرجوع إلى الله، وبرفع راية الجهاد في سبيل الله.

واقع ينزف

واقع ينزف إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة الأخيار وأيتها الأخوات الفاضلات، وطبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً. وأسأل الله جل وعلا الذي جمعني مع حضراتكم في هذا البيت المبارك على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة في جنته ودار مقامته؛ إنه ولي ذلك ومولاه. أحبتي في الله! الإرهاب اليهودي. هذا هو عنوان لقائنا مع حضراتكم في هذا اليوم الكريم، وسوف ينتظم حديثي مع حضراتكم في هذا الموضوع الذي يجمع بين الآلام والآمال، وبين الجراح والأفراح في العناصر المحددة الآتية: أولا: واقع ينزف. ثانياً: اليهود هم اليهود. ثالثاً: الكفر ملة واحدة. رابعاً: فما الحل؟ وأخيراً: لا تيأسوا، فمن رحم الظلام يولد الصباح، فأعيروني القلوب والأسماع، والله أسأل أن يقر أعيننا بذل اليهود والأمريكان، ونصرة الإسلام والمسلمين، إنه ولى ذلك والقادر عليه. واقع ينزف! آه يا مسلمون متنا قروناً والمحاق الأعمى يليه محاق أي شيء في عالم الغاب نحن آدميون أم نعاج نساق نحن لحم للوحش والطير منا الجثث الحمر والدم الدفاق وعلى المحصنات تبكي البواكي يا لعرض الإسلام كيف يراق قد هوينا لما هوت وأعدوا وأعدوا من الردى ترياق واقتلعنا الإيمان فاسودت الد نيا علينا واسودت الأعماق وإذا الجذر مات في باطن الأر ض تموت الأغصان والأوراق إنها المحنة والرزية إنها الفتنة إنها مرحلة الاستضعاف!! آه يا مسلمون القدس تباد والعالم كله خسة وخيانة ونفاق القدس من دولة المجد عثما ن أبوها والفاتح العملاق القدس من قلب مكة بالتو حيد يعلو لواؤها الخفاق تركوها وحولها من كـ لاب اليهود طوق من خلفه أطواق قدمته الصلبان لليهود قربا ناً ولليهود كلهم عشاق ولو فعلنا باليهود ما فعلوه لرأينا مثل الذي رآه عراق قد حفظنا للمرة الألف عنكم عالم الغاب ما له ميثاق

صورة سوداء من صور الإرهاب اليهودي في فلسطين

صورة سوداء من صور الإرهاب اليهودي في فلسطين واقع ينزف طفل لا يعرف أين ذهب أبوه! ولا أين ذهبت أمه! ولا أين ذهب إخوانه! طفل في الثانية من عمره ينظر إلى السماء التي حولها السلاح الأمريكي في أيدي اليهود إلى نهار مضيء فيتساءل: ما هذه الأنوار في جو السماء في ظلام الليل الدامس؟! ما الذي حول سماء فلسطين المظلمة إلى نهار وأنوار متأججة متوهجة وهو لا يدري أن الصواريخ والطائرات والدبابات والمدافع قد حولت هذا الظلام الدامس الحالك إلى نار مضيئة!! ثم ينظر فيرى أشلاء أمه تتناثر! ويرى أشلاء أبيه تتمزق! ويرى دماء إخوانه تنساح في كل واد! فيخرج الطفل مذعوراً مفزوعاً يخرج إلى الشوارع والطرقات! فيرى جندياً يهودياً يقابله بهذا المدفع الرشاش أو بهذه الدبابة! بل بأرتال من الدبابات والمجنزرات! حتى لم يبق اليهودي على بيت، ولا يبقى رجلاً ولا امرأةً ولا طفلاً يحمل حجراً في يده؛ لأنه ما زال يقدر على حمل الحجر في يده! دكوا مخيم جنين وسووا هذا المخيم بالأرض، وانبعثت رائحة -لا أقول رائحة الجثث- بل رائحة الخيانة خيانة العالم الغربي خيانة العالم العربي خيانة زعماء العالم كله في الداخل والخارج في الشرق والغرب. لا أقول انبعثت روائح جثث إخواننا من الشهداء -أسأل الله أن يتقبلهم عنده في الشهداء- بل انبعثت روائح الخيانة. من أين؟! من تحت الأنقاض! من المقابر الجماعية! ما الذي فعله العالم إلى الآن؟ لم تستطع قوة على وجه الأرض أن تحصر عدد القتلى أو عدد الشهداء؛ لأن اليهود دكوا المخيم دكاً في تسعة أيام متواصلة وسووه بالأرض! ودفنوا الجثث في مقابر جماعية وأهالوا على هذه الجثث الزكية من رجال ونساء وأطفال التراب. ولقد وصل بالأمس مبعوث الرمم المتحدة في الشرق الأوسط، وصرح تصريحات واضحة، وقال: إن ما حدث في مخيم جنين فاق كل التصورات، قال: حتى شممت رائحة الجثث في الشوارع في الطرقات، بل ورأى -على حد تعبيره- مجموعة من الفلسطينيين ما زالوا إلى يومنا هذا يستخرجون الجثث من بين الأنقاض.

قلب الحقائق عند اليهود وأعوانهم

قلب الحقائق عند اليهود وأعوانهم أيها الأحباب! بالأمس بوش -لعنه الله في الدنيا والآخرة، هذا الظالم السفاح، يقول: شارون رجل سلام! وعلى عرفات أن يبذل ما وعد به من القضاء على الإرهاب! آه! أمر يفجر الدم من الرأس! أي إرهاب يا مسلمون؟! أي إرهاب؟! أصار الدفاع عن العرض إرهاباً؟! أصار الدفاع عن المقدسات إرهاباً؟! أصار الدفاع عن الشيوخ والنساء والأطفال إرهاباً؟! قتل امرئ في غابة جريمة لا تغتفر وقتل شعب آمن مسألة فيها نظر لو قتل غربي قام العالم كله، ولو قتل شعب آمن أعزل لا يملك شيئاً فهذا أمر عادي! إنهم إرهابيون!! إن الفلسطينيين هم الإرهابيون! أما شارون السفاح المجرم، مدبر كل هذه المجازر من (صبرا، وشاتيلا، وتل الزعتر، ودير ياسين) إلى آخر هذه المجازر في مخيم جنين فإنه رجل سلام!! إنا لله وإنا إليه راجعون. أصرخ! ولكن في صحراء مقفرة! ويصرخ الأحرار والشرفاء في الشوارع والطرقات! ولكن أين المعتصم؟! عبثاً دعوت وصحت يا أحرار عبثاً لأن قلوبنا أحجار عبثاً لأن عيوننا مملوءة بالوهم تظلم عندها الأنوار عبثاً لأن شئوننا يا قومنا في الغرب يفتل حبلها وتدار ولأننا خشب مسندة فلا ندري ماذا يصنع المنشار أما سقوط الأقصى فحالة مألوفة تجري بها الأقدار هذي شئون القدس ليس لنا بها شأن ولا للمسلمين خيار يا ويحكم يا مسلمون قلوبكم ماتت فليست للخطوب تثار أنكرتم الفعل الشنيع بقولكم شكراً لكم لن ينفع الإنكار شكراً لقادة العرب! شكراً على تنظيم مؤتمراتكم وعلى القرار يصاغ منه قرار وعلى تعاطفكم فتلك مزية فيكم تصاغ لمدحها الأشعار يا ويحكم يا مسلمون نساؤكم يسألن عنكم والدموع غزار هذي تساق إلى سراديب البغا سوقاً وتلك يقودها الجزار لو أن سائحة من الغرب اشتكت في أرضكم لتحرك الإعصار أما الصغار، أي: في فلسطين أما الصغار فلا تسل عن حالهم مرض وجوع قاتل وحصار فاليهود يذبحون رجالهم ونساءهم وما لهم ناصر ودمع عيونهم مدرار يا ويحكم يا مسلمون تنسون أن الضـ عف في وجه العدو مذلة وصغار هذي هي القدس يحرق ثوبها عمداً ويهتك عرضها الأشرار تبكي وأنتم تشربون دموعها وعن الحقائق زاغت الأبصار هذا هو الأقصى يهود جهرة وبجرحه تتحدث الأخبار هذا هو الأقصى يطحنه الأسى وجموعكم يا مسلمون نثار مليارنا لا خير فيه كأنما كتبت وراء الواحد الأصفار ما جرَّأ اليهود إلا صمتنا ولكم يذل بصمته المغوار خابت سياسة أمة غاياتها تحقيق ما يرضى به الكفار واقع ينزف!! ما الذي دهى الأمة؟! ما هذا؟! إلى متى؟! متى سيفيق الحكام والزعماء؟ فوالله الذي لا إله غيره إن المخطط اليهودي لا يقتصر على فلسطين فحسب، بل إن خريطة اليهود مرسومة على (الكنيست)، وقد صرح بهذا بن غوريون في أول يوم اعترفت فيه الدول الغريبة الظالمة بهذه الغدة السرطانية الخبيثة على الثرى الطاهر، قال بن غوريون: قد لا يكون لنا الحق في فلسطين من منظور سياسي أو قانوني، ولكن فلسطين حق لنا من منظور ديني عقدي، فهي أرض الميعاد التي وعدنا الله بها من النيل إلى الفرات. انظروا إلى خريطة وتاريخ اليهود؛ لتعرفوا أن القوم يخططون، ولن يقتصر اليهود على فلسطين، لا ورب الكعبة، بل إن لليهود هدفاً واحداً قد بينه لنا ربنا جل جلاله ألا وهو أن يخرج المسلمون من دينهم، كما قال الله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120].

اليهود هم اليهود

اليهود هم اليهود عنصرنا الثاني بإيجاز شديد: اليهود هم اليهود، ومكمن الخطر أن الحكام والزعماء والساسة ما زالوا يتفاوضون معهم وهم لا يعرفون شيئاً ألبتة عن طبيعة اليهود. ما زلنا ننتظر شارون رجل السلام اليهود حمائم السلام أمريكا هي الراعي الأوحد لعملية السلام في المنطقة! لابد من التدخل الأوربي! لابد أن نناشد هيئة الأمم ومجلس الأمن! لابد من أن يتدخل بوتن السفاح الروسي الملعون الملحد حتى يتم التوازن في المنطقة إلى آخر هذه الكلمات التي تنم عن جهل فاضح بطبيعة القوم بطبيعة اليهود بطبيعة من نفاوض. لماذا؟ لأن القرآن غُيِّب عن الساحة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم غُيِّب بشريعته عن الساحة، فصار كل واحد يهرف بما لا يعرف! أما لو دخلت الساحة من جديد كلمات ربنا وكلمات الصادق نبينا؛ لعلم المفاوض مع من يتفاوض ولعلم الساسة مع من يتحدثون، وعلى مائدة من يجلسون. اليهود لا يعرفون سلاماً، ولن يعرفوا سلاماً قط حتى ولو منحوا الفلسطينيين أو الأمة هدنة، فإنها هدنة للتجديد هدنة للتخطيط هدنة للإعداد فاليهود لا يعرفون ولن يعرفوا السلام قط. هل تصدقون الله؟! هل تصدق الأمة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! اليهود ما ثبتوا على عهد قط، وهذا كلام ربنا إن كنا لا زلنا نصدق ربنا! وليس بقول زعيم ولا عالم!! يقول ربنا جل جلاله: {الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ} [الأنفال:56]. هذا قرآن يا مسلمون! وددت لو أسمعت زعماء الأمة هذا، ربما كانوا لا يسمعون القرآن، ولا يقرأ أحد منهم كلام الرحمن: {الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ} [الأنفال:56]، قال تعالى: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا} هذا العهد منهم هم {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:100] فاستحقوا اللعن من الله، واستحقوا أن يبتليهم الله بقسوة قلوبهم، قال تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة:13] فاليهود لا يعرفون عهداً ولا ميثاقاً ولا وفاءً! كيف يفي اليهود بالعهود؟! اليهود لا يعرفون سلاماً، وهذا دأب القوم وطبيعتهم، ولا ينبئك عن اليهود مثل خبير، قال جل وعلا: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] هذه عقيدة لابد أن تتأصل في قلب كل رجل وامرأة، وكل شاب وطفل من أطفالنا.

الكفر ملة واحدة

الكفر ملة واحدة أيها الأحبة! إنني أتعجب غاية العجب ممن ينتظرون من أمريكا أن تنصر القضية، أو أن ينصر الغرب القضية، فالكفر ملة واحدة وهذا هو عنصرنا الثالث. فلابد من تكرار هذه المادة العقدية، ولابد من تأصيلها الآن في القلوب: لا ينصر الشرك إيماناً، ولا ينصر الكفر توحيداً قط: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51]. قال جل جلاله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران:118]. وقال الله جل جلاله: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]، قال الله جل جلاله: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217]، وقال الله جل في علاه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة:1]. هل تريد الأمة أدلة أكثر من ذلك؟! متى نصر الكفر إيماناً؟! حال أمتنا حال عجيبة وهي لعمر الله بائسة كئيبة يجتاحها الطوفان طوفان المؤامرة الرهيبة ويخطط المتآمرون كي يغرقوها في المصيبة وسيحفرون لها قبوراً ضمن خطتهم رحيبة قالوا: السلام قلت يعود الأهل للأرض السليبة وسيلبس الأقصى غداً أثواباً قشيبة فإذا سلامهم هو التنـ ـازل عن القدس الحبيبة فبئس سلامهم إذاً وبئـ ـست هذه الخطط المريبة وأقول وأكرر: قالوا لنا: ما الغرب قلت صناعة وسياحة ومظاهر تغرينا لكنه خاو من الإيمان لا يرعى ضعيفاً أو يسر حزينا الغرب مقبرة المبادئ لم يزل يرمي بسهم المغريات لدنيا الغرب مقبرة العدالة كلما رفعت يد أبدى لها السكينا الغرب يكفر بالسلام وإنما بسلامه الموهوم يستهوينا الغرب يحمل خنجراً ورصاصة فعلام يحمل قومنا الزيتونا كفر وإسلام فأنى يلتقي هذا بذلك أيها اللاهونا أنا لا ألوم الغرب في تخطيطه ولكن ألوم المسلم المفتونا وألوم أمتنا التي رحلت على درب الخضوع ترافق التنينا وألوم فينا نخوة لم تنتفض إلا لتضربنا على أيدينا يا مجلس الأمن! بل يا مجلس الخوف! يا مجلس الأمن المخيف إلى متى تبقى لتجار الحروب رهينا وإلى متى ترضى بسلب حقوقنا منا وتطلبنا ولا تعطينا لعبت بك الدول الكبار فصرت في ميدانهن اللاعب الميمونا يا مجلساً غدا في جسم عالمنا مرضاً خفياً يشبه الطاعونا شكراً لقد أبرزت وجه حضارة غربية لبس القناع سنينا شكراً لقد نبهت غافل قومنا وجعلت شك الواهمين يقينا يا مجلس الأمن انتظر إسلامنا سيريك ميزان الهدى ويرينا إني أراك على نهاية ناهية ستصير تحت ركامها مدفونا إن كنت في شك فسل فرعون عن غرق وسل عن خسفه قارونا {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:6 - 14]. أيها المظلوم صبراً لا تهن إن عين الله يقظى لا تنام. نم قرير العين واهنأ خاطراً إن عدل الله دائم بين الأنام {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء:227]. {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ} [إبراهيم:42] ونحن ورب الكعبة نؤمن بهذا إلى حد عين اليقين، بل حق اليقين: {فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ} [إبراهيم:47] فالغرب لن ينصر لنا قضية أبداً. كررنا هذا، وأكرره وسأكرره مراراً وتكراراً: الغرب لن ينصر لنا قضية؛ لأن الكفر ملة واحدة.

ما هو الحل

ما هو الحل أيها الأحباب! السؤال الآن: ما الحل؟ والحل على مستويين: مستوى الأمة -مستوى الساسة والحكام- ومستوى الأفراد.

الحل على مستوى الزعماء

الحل على مستوى الزعماء أولاً: على مستوى الزعماء: أول خطوة تجب عليهم: أن يرجعوا إلى الله، وأن يعلنوا توحيدهم لله، وأن يحكموا في البلاد والعباد شرعه، وأن يمتثلوا أمره، وأن يجتنبوا نهيه، وأن يقفوا عند حدوده، وأن يرددوا مع شعوبهم المسلمة قولة السابقين الأولين الصادقين: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285]، ونحن بهذا أمام حد الإيمان وشرط الإسلام، قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]. فأنا لا أفهم أبداً من آية قرآنية أو سنة ربانية كونية أو كلمات نبوية، لا أفهم ألبتة أن رب البرية جل جلاله ينصر أناساً قد خذلوا دينه وغيروا شريعته في الجملة. لابد أن يرجعوا إلى الله ابتداءً، وأن يحكموا في البلاد والعباد آيات الله ومنهج الصادق رسول الله صلى الله عليه وسلم، حينئذٍ تكون الأمة مهيأة للخطوة التالية التي لا كرامة للأمة الآن إلا بها ألا وهي أن ترفع راية الجهاد في سبيل الله. إنني أعي ما أقول! ماذا لو اتخذت الأمة عبر قادتها قرارات سياسية ودبلوماسية فإن لم تجد فنحن لا نحب الحرب ولا نحب سفك الدماء إطلاقاً، لكن لابد من أن تروى شجرة الدعوة بدماء الأطهار الأبرار؛ لتظل هذه الشجرة مثمرة. هذا أمر كوني قدري قضاه الله تبارك وتعالى وقدره على أهل التوحيد؛ ليفوزوا بإحدى الحسنين: إما النصر، وإما الشهادة. ولن تكون الأمة مهيأة لرفع راية الجهاد لإعلاء كلمة الله، إلا إذا عدنا إليه سبحانه وتعالى واعتصمنا به ولجأنا إليه وحده، وجددنا الثقة فيه وحده، ورجوناه وحده، وقطعنا كل العلائق والروابط وارتبطت قلوبنا بالله سبحانه وتعالى وحده. لماذا لا تتخذ الأمة قرارات سياسية أو دبلوماسية كطرد سفراء أو سحب سفراء وإن كنت أعلم أن هذا لا يغير من الواقع شيئاً، لكن فلتخط الأمة على الطريق خطوات؟! ولماذا لا تستخدم الأمة سلاح المقاطعة للسلع التي تستغني عنها الدول والشعوب؟ هناك كثير من السلع الاستهلاكية لا نحتاج إليها، أو لن نموت بدونها، أما السلع الرئيسية التي تحتاج إليها الشعوب والأمم فلا حرج في ذلك ولا بأس، لكن هذا يدفع الأمة الآن دفعاً إلى أن تبدع، والأمة لا تفتقر إلى العقول والأدمغة المبدعة، لكنها الهزيمة النفسية التي منيت بها أمة سيد البشرية ولا حول ولا قوة إلا بالله! ولماذا لا تستثمر الأمة ما رزقها الله تبارك وتعالى به من طاقات كالبترول في محاربة أعداء الله؟! استهزئ بقرار العراق بقطع البترول عن أوروبا وأمريكا لمدة شهر! سخر بهذا القرار واستهزئ به، فماذا لو كان هذا القرار سارياً على مستوى الأمة؟! إذاً: لتغير الحال، فإن استخدمت الأمة كل هذه الخيارات السلمية ولم تجد شيئاً مع السفاح شارون -وأنا أعلم أنها لن تجدي شيئاً، لكن هذا من باب الطرح- فحينئذ لا خيار أمام الأمة إلا أن تفتح الباب لملايين الرجال والشباب ممن تتحرق قلوبهم شوقاً للشهادة في سبيل الله. أيها الأحباب! لماذا لا يمكن العلماء اليوم والدعاة من تجييش طاقة الأمة لإحياء روح الجهاد في سبيل الله؟! فليمت مليون! إلى أين يذهبون إن صحت النوايا إلى الفردوس الأعلى. يا إخوة! تصوروا أن رجلاً قد أذنب ما قدر الله له أن يذنب -فنحن نؤمن بأن الخير والشر مخلوقان لله- ومع أول قطرة دم تنبعث من جسده الطاهر في ساحة الجهاد يغفر الله له كل ذنوبه! أي مكسب هذا في عالم المكسب والخسران؟ إما عظماء فوق الأرض بكرامة وإما عظام تحت الأرض، ونسأل الله الشهادة. أقسم بالله أن نساءنا سيسبقنا وأن أطفالنا سيسبقوننا إلى هذه الساحة؛ لنعلم كلاب الأرض من اليهود مهما كانت مجنزراتهم وأسلحتهم درساً لا ينسوه أبداً. ورب الكعبة سُيعلم شباب محمد صلى الله عليه وسلم كلاب الأرض من اليهود أن محمداً مات وما خلف بنات، بل خلّف رجالاً تحترق قلوبهم شوقاً للشهادة في سبيل الله. فليفتح الباب، فليمت مليون مليونان عشرة ملايين الناس يريدون الشهادة. أيها الأحبة! لو مكن العلماء الآن من وسائل الإعلام لجيشوا -والله- ملايين الشباب في الأمة ممن يتشوقون للجهاد في سبيل الله ضد كلاب الأرض من اليهود، ثم لو حكم الزعماء شرع الله فلا خوف من هذا الشباب؛ لأنه سيرجع ليسمع ويطيع هكذا علمنا نبينا، فشبابنا لا يبحث عن الزعامات، ولا يبحث عن القيادات، إنما يريد فقط أن يحكم بقال الله قال رسول الله، ولو حكمنا عبد حبشي مجدوع الأنف سنسمع له ونطيع، وسنكون سهاماً في كنانته يحركنا حيث شاء ما دام أنه يحركنا إلى مرضاة من يقول للشيء: كن فيكون.

الحل على مستوى الأفراد

الحل على مستوى الأفراد أما على مستوى الأفراد فأنا أنكر غاية الإنكار على أي شاب مسلم يخرج في مظاهرة ليحطم سيارة أو محلاً! لماذا نحطم بلادنا وأرضنا؟! لماذا تحطم سيارة أخيك وهو يسير في أمن وأمان؟! لماذا نعتدي على محلات إخوتنا من المطحونين أصلاً؟! لماذا؟ نريد فطنة يا إخوة! نريد تعقلاً نريد فهماً نريد وعياً نريد حضارة إسلامية في التفكير والسلوك. ما قيمة هذه المظاهرات التي تخرب وتدمر؟ أنا لا أمنعك من التظاهر، بل يجب عليك أن تعبر عن غضبك، وأن تعبر عن احتراقك بأسلوب حضاري، وأنا لا أستعير هذه اللفظة من هؤلاء المجرمين لا، بل إن الإسلام هو أول من أسس الحضارة، وما سرقت أوروبا الحضارة إلا من الأندلس، وما سرقت فرنسا الإضاءة الكهربائية إلا من المسلمين. يوم رصفت شوارع الأندلس كانت فرنسا تعيش في الوحل والطين، ويوم أضيئت شوارع الأندلس كانت فرنسا رائدة الحضارة في هذا الزمان، وإنجلترا التي كانت لا تغيب عن مملكتها الشمس تعيشان في الظلام الدامس. فالإسلام هو الذي أسس الحضارة، فنحن نريد أن نعبر عن غضبنا وعن ألمنا بأسلوب حضاري، ونبتعد كل البعد عما يغضب الله جل وعلا، وعما يفسد علينا أرضنا وبلادنا. أنا لا أجامل بذلك مخلوقاً، إنما هذا ما أدين به لربي تبارك وتعالى. ثم فرق كبير بين أن تعبر عن غضبك في مثل هذه المسيرات السلمية بالضوابط الشرعية: من عدم اختلاط، وعدم تعطيل وإفساد. فرق كبير بين أن تعبر من خلال هذا وبين أن تعتقد أن النصرة للدين في مثل هذه المسيرات. فرق كبير بين هذا وذاك، بل أخشى الآن -ورب الكعبة- أن تفرغ طاقات الأمة في مثل هذه المظاهرات الحماسية، أخشى أن تفرغ الطاقات في مثل هذه المظاهرات، فقد يخرج الرجل ويحطم بالحجارة ويرجع وهو معتقد أنه فتح القدس، وأدى كل ما عليه لله جل وعلا! أكرر القول حتى لا يردد القول أحد طلابنا بخطأ: فرق بين أن تعبر عن غضبك وأملك بقلبك في هذه المسيرات السلمية وبين أن تعتقد أن هذا هو السبيل للنصر، فالطريق النصر تصحيح العقيدة تصحيح العبادة تحكيم الشريعة تصحيح ما فسد واعوج من الأخلاق تهيئة جيل النصر بالتربية على القرآن والسنة وكل هذا التأصيل يأتي بعده حتماً: رفع راية الجهاد في سبيل الله. هذا ما أدين الله به وسيسألني شاب من طلابنا: هل ستنتظر الأمة -أيها الشيخ- لتربى على العقيدة والعبادة؟! و A فرق بين جهاد الطلب وجهاد الدفع. أما جهاد الطلب: فهو فرض كفاية، إن قام به بعض المسلمين سقط الإثم عن بقية المسلمين، هذا هو الذي يحتاج إلى التربية المتواصلة من إعداد عقدي من إعداد تعبدي من تحكيم لشرع الرب العلي من تهيئة لجيل النصر. أما جهاد الدفع، ومعناه: أن يداهم العدو أرضاً من أراضي المسلمين، فعند ذاك صار الجهاد فرض عين على كل مسلم ومسلمة في هذه الديار التي داهمها العدو، كل بحسب قدرته واستطاعته، ويحرم على المسلم القادر على الجهاد أن يجلس في بيت من بيوت الله ليطلب العلم الشرعي. أيها الأحبة! في جهاد الدفع يجب عليك أن تدفع العدو الصائل، ويحرم عليك أن تتقاعس عن الجهاد لأي سبب إن كنت قادراً على أن تشارك في حدود قدراتك واستطاعتك وإمكانيتك. فأرجو من شبابنا أن يؤصلوا هذه المسائل الشائكة الدقيقة؛ لأن الحماس وحده لا يكفي، ولأن الإخلاص وحده لا يكفي، بل لابد أن يكون الحماس والإخلاص منضبطين بضوابط الشرع، حتى نرضي ربنا جل جلاله، وحتى نكون بحق من أنصار نبينا صلى الله عليه وسلم، وهذا واقع مرير نحياه- وهذا تأصيل يبتعد كل البعد عن التنظير الباهت الفارغ البارد، لكنني أتحدث عن واقع نعرفه جمعياً. إن لم تستطع أن تجاهد مع إخوانك بنفسك فبمالك، فلو تبرعنا الآن بمائه جنيه ونحن نعلم يقيناً أنه لن يصل من المائة جنيه إلا عشرة جنيهات فلنبذل المائة الجنيه لتصل العشرة جنيهات، فإخواننا هنالك في حاجة إلى جنيه لا إلى عشرة جنيهات، وأنا أتحدث من خلال الواقع الذي نعرفه. أخي في الله! جاهد بمالك فإن لم تستطع فبدعائك، لا تحتقر الدعاء ولا تستهن به، فأنا أقسم بالله أن القطار الأمريكي ما خرجت عجلاته عن القضبان بالأمس، وقتل فيه من قتل، وجرح فيه من جرح إلا استجابة من الملك لدعوة مطحون مظلوم لا يقدر على شيء. وأن هذه الطيارة السياحية التي ضربت هذا البرج العالي في إيطاليا، والله ما أراها إلا استجابة من الله العلي الأعلى لدعوة صادقة من مسلم يحترق قلبه وهو لا يقدر أن يقدم شيئاً إلا الدعاء مسلم اطلع الله عليه في جوف الليل يتململ كتململ العصفور المبلل بماء المطر بين يديه أن يرفع الغمة عن الأمة. فلا تحتقر الدعاء -أخي- ولا تستهن به، فإننا الآن قد خذلنا إخواننا حتى في الدعاء، وأسألكم بالله من منكم دعا يوم الخميس الماضي في كل سجدات صلواته لإخوانه في فلسطين؟! أقسم بالله لو قدمنا الآن استمارة استبيان في الجمع الحاشد من الصفوة لرأينا قلة هي التي دعت لإخوانها في فلسطين في كل سجدة من سجدات الصبح، والظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء. والله لن نرى إلا قلة، فاسمحوا لي أن أقول: أمة بخلت بالدعاء فهل تجود بالأموال والدماء؟! إن هذا التأصيل يأتي بعيداً عن التنظير البارد أمة بخلت بالدعاء فهل تجود بالمال والدماء؟! أيها الأحباب! ثم يأتي الجهاد بالكلمة بالمحاضرات بالدروس في الشوارع في الطرقات في الوظائف في المكاتب في المجلات تستطيع أن تتصل على مسئول من المسئولين فافعل، إن كنت تقدر على أن تعبر بمقال في جريدة فافعل، إن كنت تملك أن تعبر برسم (كاريكاتوري) معبر فافعل، إن كنت لا تستطيع أن تتحدث عن هذه القضية إلا أمام امرأتك وأولادك فافعل، إن كنت تقدر أن تتحدث في هذه القضية مع زملاء العمل فافعل، المهم أن تشغل القضية مجالسنا وقلوبنا وعقولنا، وأن نجاهد بالكلمة، فالكلمة من أعظم صور الجهاد في سبيل الله، ولن يسألنا الله تبارك وتعالى عن شيء عجزنا عن فعله، والله يعلم الصادق من الكاذب. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: يسقط الواجب بالعذر عنه. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يحيي قلوبنا، وأن يقر أعيننا بنصرة إخواننا. أسأل الله أن يقينا حر جهنم، وأسأل الله أن يجعلنا من أهل الفردوس الأعلى؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يتقبل من الجميع. وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

لا تيأسوا فمن رحم الظلام يولد الصبح

لا تيأسوا فمن رحم الظلام يولد الصبح الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم! صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، وبعد: فأخيراً: أيها الأحبة! لا تيأسوا، فمن رحم الظلام يولد الصباح، فقد صرح جنرالات اليهود أن الفلسطينيين سطروا ملحمة من أروع ملاحم البطولة والفداء في مخيم جنين. قرأت لضباط في الجيش الصهيوني يقولون: لقد تحولت شوارع جنين إلى ألغام محرقة! هل تتصور ماذا فعل إخواننا مخيم جنين؟! مكان لا تزيد مساحته عن أربعة كيلو مترات مربعة فقط -ولا يزيد اتساع الشارع في كل شوارع مخيمات جنين عن مترين فقط- فخخ إخواننا أعمدة الكهرباء فيه ووضعوا العبوات الناسفة عليها، وعلى أغطية الصرف الصحي، وفخخوا بعض البيوت، وعجز الجيش اليهودي بأرتاله وصواريخه وطائراته لمدة ثلاثة أيام متواصلة أن يقتحم المخيم أمام هذا الصمود الباسل لإخواننا على أرض فلسطين، فما كان من المجرم رئيس الأركان شاءول موفاز إلا أن قاد العملية بنفسه، فبدأت الجرافات تهدم البيوت ليفتحوا طريقاً للدبابات في هذه الشوارع التي لا يزيد اتساعها عن مترين، ففتحوا مجموعة من الشوارع يزيد اتساع الشارع على20 متراً. تصور معي حجم الهدم للبيوت ليجعلوا الشارع بهذا الاتساع! وهدموا البيوت وصمد الأبطال إلى آخر طلقة في بنادقهم الآلية التي لا يزيد مداها عن مائتي متر، أمام الطائرات (الإف 16) أمريكية الصنع أمام طائرات الأباتشي الأمريكية أمام الرشاشات التي تعمل بالليزر. صمد هؤلاء الذين يعلمون يقيناً أن الغرب والشرق والعرب لن ينصروا لهم قضية، فاستعانوا برب البرية. سمعت أماً قد تجاوزت السبعين من عمرها ترفع رأسها ويديها إلى السماء وهي تقول: النصر منك يا رب! قلت: من هنا يأتي النصر إن شاء الله حينما تقطع كل العلائق الدنيوية، وتتعلق القلوب بمن يدبر أمر الكون، سيأتي النصر إن شاء الله، وما يحدث الآن على أرض فلسطين -ورب الكعبة- نصر وإن جرت الدماء وإن تطايرت الأشلاء!! نعم، لابد أن تروى شجرة الدعوة بالدماء؛ ليذهب الشهداء إلى جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر، وليبقى من قدر الله له أن يبقى في عزة وكرامة، وهذا وعد الله تبارك وتعالى، وهذه سنة ربانية لا تتبدل ولا تتغير. صمد إخواننا في جنين إلى أن نفدت آخر رصاصة من بنادقهم الآلية، وسطروا ملحمة من أروع ملاحم البطولة الأم الفلسطينية الطفل الفلسطيني الشاب الفلسطيني الذي لم يبلغ العشرين من عمره، يعلم العالم كله الآن حقيقة التضحية وعظمة الفداء وشرف البطولة، فإن الله الذي جعل الأقصى والقدس سكناً للأنبياء لن يديم القدس أبداً سكناً لقتلة الأنبياء، قال تعالى: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ} اسمع! {ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} [آل عمران:111]. هذه الآية في اليهود: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} [آل عمران:111]، بل ستنزل الخلافة على الأرض المقدسة كما قال الصادق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى في الحديث الذي رواه أحمد والحاكم بسند صححه الحاكم والذهبي والألباني: (أن النبى صلى الله عليه وسلم وضع يوماً يده على رأس ابن حوالة الأزدي، وقال: يا ابن حوالة! إذا رأيت الخلافة قد نزلت الأرض المقدسة فقد دنت الزلازل والبلايا والأمور العظام، والساعة يومئذ أقرب إلى الناس من يدي هذه من رأسك) فستنزل الخلافة الأرض المقدسة بموعود الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، لكن الله لا يعجل بعجلة أحد، ومع ذلك فليس أحد أرحم بالمستضعفين من رب العالمين. وفي الحديث الذي رواه أبو يعلى وقال الهيثمي: رجاله ثقات من حديث أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أبواب دمشق وما حولها، وعلى أبواب بيت المقدس وما حوله، ظاهرين على الحق إلى أن تقوم الساعة). وفي الحديث الذي رواه أحمد بسند صحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: (بينما أنا نائم إذ رأيت عمود الكتاب قد احتمل من تحت رأسي فظننت أنه مذهوب به فأتبعته بصري فعمد به إلى الشام، ألا وإن الإيمان حين تقع الفتن بالشام) يعني: سيكون الإيمان في بلاد الشام حينما تقع الفتن. هذا وعد الله وهذا وعد الصادق رسول الله. اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين! اللهم احفظ إخواننا في فلسطين اللهم احفظ إخواننا في فلسطين اللهم احفظ إخواننا في فلسطين اللهم احفظ إخواننا في فلسطين! اللهم إنهم حفاة فاحملهم اللهم إنهم عراة فاكسهم اللهم إنهم جياع فأطعمهم اللهم إنهم خائفون فأمنهم اللهم إنهم خائفون فأمنهم اللهم إنهم خائفون فأمنهم! اللهم شتت شمل اليهود اللهم شتت شمل اليهود اللهم! عليك باليهود وأعوانهم اللهم عليك بكل من خان الدين من أجل اليهود اللهم إنه لا إله لنا سواك فندعوه، ولا رب لنا غيرك فنرجوه. . يا غياث المستغيثين يا غياث المستغيثين يا غياث المستغيثين أغثنا يا غياث المستغيثين أغثنا! اللهم أرنا في أمريكا آية اللهم أرنا في أمريكا آية اللهم أرنا في أمريكا آية اللهم أرنا في اليهود آية اللهم أرنا فيهم آية اللهم أرنا فيهم آية اللهم! أحصهم عدداً اللهم أحصهم عدداً اللهم اقتلهم بدداً اللهم لا تبق منهم أحداً. اللهم لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً اللهم لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً اللهم لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً! إلهنا انقطعت بنا كل الحيل، وانقطعت بنا كل السبل ولا ملجأ لنا إلا أن نلجأ لبابك فلا تحرمنا من فضلك وثوابك، ولا تطردنا عن جنابك! اللهم لا تحرمنا من فضلك وثوابك! اللهم لا تردنا خائبين ولا من فضلك قانطين، ولا من رحمتك وعفوك يائسين اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا يا من إليه يلجأ الخائفون يا من إليه يلجأ الخائفون يا من إليه يلجأ الخائفون يا من عليه يتوكل المتوكلون يا من إليه تبسط الأيدي ويسأل السائلون. اللهم ارفع الهم والغم عن أمة المصطفى اللهم ارفع الهم والغم عن أمة المصطفى اللهم اشف صدور قوم مؤمنين بنصرة الإسلام وعز الموحدين! اللهم اشف صدور قوم مؤمنين بنصرة الإسلام وعز الموحدين برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم! اجعل مصر واحة للأمن والأمان وجميع بلاد المسلمين، يا رب لا تحرم مصر من الأمن والأمان يا رب لا تحرم مصر من الأمن والأمان. اللهم ارفع عن مصر الغلاء اللهم ارفع عن مصر البلاء اللهم ارفع عن مصر الوباء اللهم ارفع عنها الفتن ما ظهر منها وما بطن وجميع بلاد المسلمين! يا رب إن القلوب بين أصبعين من أصابعك فحول قلوب الحكام إليك يا أرحم الراحمين اللهم حول قلوب الحكام إليك يا أرحم الراحمين! اللهم حول قلوبهم إلى قرآنك اللهم حول قلوبهم إلى سنة نبيك اللهم حول قلوبهم إلى شرعك اللهم! حول قلوبهم إلى شرعك أنت ولي ذلك والقادر عليه! اللهم! اشف صدورنا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، أنت ولي ذلك والقادر عليه، برحمتك يا أرحم الراحمين! هذا وما كان من توفيق فمن الله، وما كان من خطأ أو سهو أو نسيان فمني ومن الشيطان والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون عليه إلى الجنة ويلقى به في جهنم، ثم أعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الرزق ثمرة التوكل

الرزق ثمرة التوكل التوكل على الله في الأمر كله من واجبات الإيمان، ومن مقتضى التسليم للرحمن، وليس معنى التوكل ترك الأسباب، بل إن الأخذ بالأسباب من تمام التوكل. ثم إن الأسباب تنقسم إلى: مادية، ودينية، فالأولى: تقع للمسلم والكافر، والثانية: لا تقع إلا لأولياء الله، وهي كثيرة ومتعددة، وقد دل عليها الشرع وصدقها الواقع، فكم من قصص واقعية صدقت ذلك، سواء في الزمان المتقدم أو في وقتنا الحاضر.

حقيقة التوكل

حقيقة التوكل بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة وبلغ الرسالة ونصح للأمة فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة الفضلاء الأعزاء! وطبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم الكريم جل وعلا، الذي جمعني مع حضراتكم في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار مقامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. (الرزق ثمرة التوكل)، هذا هو عنوان لقائنا مع حضراتكم في هذا اليوم المبارك، وسوف ينتظم حديثي مع حضراتكم في هذا الموضوع المهم في العناصر المحددة التالية: أولاً: حقيقة التوكل. ثانياً: الرزق ثمرة التوكل. ثالثاً: ثلة من بستان المتوكلين. فأعيروني القلوب والأسماع جيداً، والله أسأل أن يرزقنا جميعاً صدق التوكل عليه، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أولاً: حقيقة التوكل: روى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة وغيرهم بسند صحيح من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو أنكم توكلون على الله حق توكله؛ لرزقكم كما يرزق الطير تغدوا خماصاً وتروح بطاناً). تدبر معي كلام النبي صلى الله عليه وسلم مرة أخرى: (تغدوا خماصاً)، أي: تخرج في الصباح الباكر وبطونها فارغة، لا تملك إدارة ولا تملك كمبيوتر ولا تملك إنترنت، (وتروح بطاناً)، أي: ترجع في وقت الروحة وقد رزقها الرزاق ذو القوة المتين.

وجوب التوكل على الله مع وجوب الأخذ بالأسباب

وجوب التوكل على الله مع وجوب الأخذ بالأسباب فحقيقة التوكل أيها الأخيار الكرام! أن نأخذ بالأسباب، وأن تكون قلوبنا في الوقت ذاته معلقة بمسبب الأسباب، إذ إن الأسباب وحدها لا تضر ولا تنفع ولا ترزق ولا تمنع إلا بأمر مسبب الأسباب، فالمؤمن يأخذ بالسبب، ويعلق قلبه بمسبب السبب، فإن تيسر أمر فبتيسيره، وإن تعسر أمر فبتقديره، وأنا لا أعلم الآن أمة قد ضيعت قانون السببية كأمة سيد البشرية، ولا حول ولا قوة إلا بالله. فالأمة الآن متواكلة إلا من رحم ربك جل وعلا، إذ إن الأمة قد ضيعت الأسباب وظنت أنها لعلاقتها بالله تبارك وتعالى، وبنسبتها للنبي صلى الله عليه وسلم -دون أن تأخذ بالأسباب- ظنت أن الله سينصرها! ولله سنن ربانية في الكون لا تتبدل ولا تتغير، ولا تحابي هذه السنن أحداً من الخلق بحال، مهما ادعى لنفسه من مقومات المحاباة، فالمصطفى كان قائد المعركة في أحد، فلما تخلى بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن أسباب النصر كانت الهزيمة. إن لله سنناً ربانية في الكون لا تتبدل ولا تتغير، ولا تحابي تلك السنن أحداً من الخلق بحال، مهما ادعى لنفسه من مقومات المحاباة. فالتوكل على الله أن نأخذ بالأسباب: أن نأخذ بأسباب القوة، وأن نأخذ بأسباب النصر، وأن نأخذ بأسباب العزة والاستخلاف والتمكين، وأن نعلق قلوبنا بمسبب الأسباب لا بالأسباب، وهذا هو الفارق بين المؤمن الذي وحد الله جل جلاله، وبين الكافر الذي يأخذ بالأسباب ولا يعلق قلبه إلا بالأسباب فقط. فحقيقة التوكل صدق اعتماد القلب على الله مع الأخذ بالأسباب، فالتوكل هو جماع الإيمان، وهو نهاية تحقيق التوحيد. قال سهل بن عبد الله التستري: من طعن في الأسباب فقد طعن في السنة، ومن طعن في التوكل فقد طعن في الإيمان، فالدخول في الأسباب سنة النبي صلى الله عليه وسلم، والتوكل حال النبي صلى الله عليه وسلم، فمن عمل على سنته فلا يتركن حاله. فسيد المتوكلين هو رسول الله، ومع ذلك ظاهر يوم أحد بين درعين، واستأجر يوم الهجرة دليلاً مشركاً ليدله على طريق الهجرة، وهو الصادق الذي هدى الله به العالمين، وكان يدخر القوت لأهل بيته، وكان إذا سافر للجهاد والحج والعمرة حمل الزاد والمزاد وهو صاحب القلب الذي لم يتعلق قط إلا بالله رب العالمين.

فضل التوكل والمتوكلين

فضل التوكل والمتوكلين فهذه هي حقيقة التوكل ومن ثم أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بتحقيق التوكل فقال: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} [الفرقان:58]، وقال تعالى: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [النمل:79]، وقال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [الأحزاب:3]، وقال تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران:159]. وأثنى على أنبيائه ورسله الذين حققوا التوكل فقالوا: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا} [إبراهيم:12]، وأثنى على أوليائه الذين قالوا: {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة:4]، وأثنى على أصحاب النبي {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} [آل عمران:173 - 174]. وأمر المؤمنين بتحقيق التوكل فقال سبحانه: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران:122]، وجعل التوكل ثمرة حتمية للإيمان به سبحانه فقال جل وعلا: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23]. هذا هو التوكل وهذه حقيقته، هذا هو التوكل الذي جعله المصطفى ثمرة كريمة من ثمار الإيمان، وجعله المصطفى سبباً رئيسياً من أسباب الرزق.

الرزق ثمرة التوكل

الرزق ثمرة التوكل وهذا هو عنصرنا الثاني: الرزق ثمرة التوكل.

المفهوم الشامل للرزق

المفهوم الشامل للرزق قال ابن منظور في لسان العرب: الرزق هو ما تقوم به حياة كل كائن حي، مادياً كان أو معنوياً. وكثير من الناس يظن أن الرزق هو المال فقط، وهذا فهم قاصر وخاطئ، فالرزق أوسع مدلولاً من المال، فالإيمان رزق، وحب النبي صلى الله عليه وسلم رزق، وحب الصحابة رزق، وحب آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم رزق، واليقين رزق، والتوكل على الله رزق، والخوف من الله رزق، والإنابة رزق، والتوبة رزق، والحلم رزق، والحكمة رزق، والعلم رزق، ومحبة الناس لك رزق، والزوجة الصالحة رزق، والذرية الطيبة رزق، والمال رزق. والذي يرزق كل هذه الأرزاق هو الرزاق، قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6]، لا على أوروبا ولا على أمريكا، لا على شرق ملحد ولا على غرب كافر، {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود:6]. جلس إبراهيم بن أدهم ليأكل بعض قطع اللحم المشوي، فجاءت قطة فخطفت قطعة لحم وجرت، فقام وراءها ليراقب هذا الموقف، فوجد القطة قد وضعت قطعة اللحم أمام جحر في باطن الأرض في مكان مهجور ثم انصرفت، فازداد عجبه! وفجأة رأى ثعبان أعمى يخرج من هذا الجحر ليجر قطعة اللحم إلى جحره، فرفع إبراهيم رأسه إلى السماء وقال: سبحانك يا من سخرت الأعداء يرزق بعضهم بعضاً. {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود:6]، وقال تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ} [الذاريات:22]، كيف ذلك والزرع في الأرض، والضرع في الأرض، والإدارة في الأرض، والشركات في الأرض، والوظيفة في الأرض، والله جل وعلا يقول: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ} [الذاريات:22]؟! لتعلم يقيناً أن كل ما تملكه في الأرض إنما هو الأسباب، والأسباب وحدها لا تضر ولا تنفع، ولا ترزق ولا تمنع إلا بأمر من استوى على العرش. {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات:22 - 23]، سمع الآية الكريمة أعرابي فقال: من ذا الذي أغضب الكريم حتى يقسم؟

كيفية تحقيق التوكل

كيفية تحقيق التوكل سئل حاتم الأصم فقيل له: يا حاتم! كيف حققت التوكل؟ سؤال جميل يحتاجه كل واحد منا. فقال حاتم الأصم وهو من سادة المتوكلين من التابعين: حققت التوكل على الله بأربع خصال، قيل له: ما هي؟ قال: علمت بأن رزقي لا يأخذه غيري فاطمأن قلبي، وعلمت بأن عملي لا يعمله غيري فانشغلت به، وعلمت بأن الله مطلع علي فاستحييت أن يراني على معصية، وعلمت بأن الموت ينتظرني فأعددت الزاد للقاء الله. هؤلاء هم المتوكلون، {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات:22 - 23]، ولكن الله جل جلاله لحكمته وكمال مشيئته قدر الرزق، وقدر للزرق أسباباً، قال شيخ الإسلام ابن تيمية طيب الله ثراه: ما من شيء في الدنيا ولا في الآخرة إلا بسبب، والله خالق الأسباب والمسببات.

أسباب الرزق وأنواعه

أسباب الرزق وأنواعه وأسباب الرزق نوعان: أسباب مادية دنيوية، وأسباب إيمانية دينية.

أسباب الرزق المادية

أسباب الرزق المادية أما الأسباب الدنيوية المادية: فيستوي فيها الكافرون والموحدون، ولقد تعمدت أن أقدم المشركين والكفار؛ لأن بعض الناس يظن أن الأرض لا تعطي زرعها إلا لمن وحد الله جل جلاله، فالرزق عطاء ربوبية للكافر والمؤمن على السواء فالله يرزق الكفار ويرزق المؤمنين. والسؤال المرير: أفيرزق ربنا الكفار، وينسى أن يرزق من وحدوا العزيز الغفار؟! و A أن الرزق عطاء ربوبية، فالأرض إن زرعها الكافر وبذرها وحرثها ورعاها أعطته الثمار، فهي لا تمنع رزقها وعطاءها عن الكافر وتمنح رزقها وعطاءها للمؤمن، كلا، لقد وعد الله أن يرزق كل دواب الأرض، فالرزق مكفول للكافرين والمؤمنين، فإن أخذ الكافر بأسباب الرزق الدنيوية المادية رزق.

السبب الأول من أسباب الرزق الدينية

السبب الأول من أسباب الرزق الدينية أما الأسباب الأخرى، فهي الأسباب الإيمانية الدينية، وهذه لا يذوق طعمها ولا يعرف حلاوتها إلا من وحد الله، فما هي هذه الأسباب؟ أما الأسباب المادية فإنها معلومة للجميع، ولكن الذي أود أن أؤكد عليه: أن الأسباب الإيمانية الدينية غفل عنها كثير من المسلمين. ومن أعظم وأهم هذه الأسباب: التوكل على الله، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3] أي: فهو كافيه، تدبروا هذا، فوالله لو تدبر الناس هذا ما أكل الحرام من أكل، وما ارتشى من ارتشى، وما قتل من قتل، وما سرق من سرق إلا وهو جاهل بحقيقة التوكل على الله. إن المفهوم الحقيقي لقضية الرزق مع التوكل على الله جل جلاله، وإلا فإننا نسمع بأذاننا في كل يوم تقريباً من يقول: انظر حولك، انظر خلفك، انظر بين يديك، الناس يتكاثرون، الأمطار تقل، الرزق يقل، من أين نأتي لهذه الأفواه الكثيرة بالطعام والشراب؟ ونسي هؤلاء أن الذي يرزق الكفار هو الله، أفيرزق الكفار وينسى من وحدوا العزيز الغفار؟! {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3] أي: كافيه. وقال في الحديث الذي صدرت به الموضوع: (لو أنكم توكلون على الله حق توكله؛ لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً). ومن أرق وألطف ما قرأت في هذا الباب: أن حاتم الأصم -ذلكم الرجل الذي ذكرت أنه من سادة المتوكلين على الله- سأله رجل يوماً وقال له: يا حاتم! من أين تأكل؟ فقال له حاتم: {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون:7]، أنت ترزق حتى إذا ما وجدت أخاً من إخوانك قد لبس ثوباً جميلاً قلت له: من أين أتيت بهذا الثوب؟ لو كنت رزاقاً ترزق العباد ونسيت أن ترزق هذا فسل: {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون:7]. هذا الرجل - حاتم الأصم - كان فقيراً لا يملك إلا اليسير، وكان قد سمع الناس يتكلمون في حج بيت الله ويستعدون لذلك، فاشتاق لحج بيت الله، فجمع أولاده وقال: يا أولادي! لقد عزمت الآن على حج بيت الله، فقالوا: ومن يطعمنا؟ ومن يرعانا؟ ومن يأتي بحوائجنا؟ ومن يقضي لنا حوائجنا؟ فردت بنت صغيرة من بناته وقالت: يا أبتي! اذهب إلى حج بيت الله فإنك لست برازق. وانطلق الرجل، ونفذ الطعام في البيت، وشعرت الأسرة بالجوع ودخلوا على هذه البنت التقية المتوكلة بالتوبيخ والتعنيف والتأنيب، فخلت هذه البنت بربها وقالت: إلهي وسيدي ومولاي! لقد عودت القوم فضلك فلا تحرمنا من فضلك، ولا تخزني بين أهلي. وفي هذا التوقيت يقدر الرزاق ذو القوة المتين: أن يكون أمير البلدة في الشوارع والطرقات يتفقد أحوال الناس، وبينما هو أمام باب حاتم الأصم شعر بظمأ شديد كاد أن يقتله، فقال لجندي من الشرطة معه: أدركني بكوب من الماء، فلما علم أهل البيت أن الأمير على بابهم تعجبوا وهم الفقراء الذين لا يملكون شيئاً! يقف الأمير على بابهم سائلاً يطلب الماء! فأحضروا ماء بارداً وكوباً نظيفاً، فلما شرب الأمير الماء سأل: بيت من هذا؟ قالوا: بيت حاتم الأصم، قال الأمير: العبد الصالح؟ قالوا: نعم، قال: الحمد لله الذي سقانا من بيوت الصالحين، أين هو لنسلم عليه؟ قالوا: ذهب لحج بيت الله، فقال الأمير: إذاً وجب علينا أن نكافئ أهل بيته في غيبته، وكانت العملة من الذهب، فأخرج صرة مملوءة ذهباً وألقاها في بيت حاتم الأصم. ولكن الرزاق أراد المزيد، فالتفت الأمير إلى الشرطة والجند من حوله وقال: من أحبني فليصنع صنيعي، فألقى كل شرطي ما معه من المال مجاملة لأميره، وامتلأ البيت بالذهب، ودخلت البنت التقية النقية المتوكلة تبكي، فدخلت عليها أمها مع أولادها وقالت: لم البكاء وقد أصبحنا من أغنى الناس؟ فقالت هذه الفتاة الطيبة: لقد نظر إلينا مخلوق نظرة فاغتنينا، فكيف لو نظر الخالق إلينا؟ {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3]، أما حاتم، فلقد أصيب أمير الحج بلدغة عقرب فسأل: هل في القوم من راق؟ قالوا: بيننا حاتم الأصم الرجل الصالح قال: ائتوني به، فرقاه حاتم فشفاه الله جل وعلا، فجعل له الأمير جعلاً كبيراً، فكان حاتم من أغنى الناس نفقة في الحج. إن الذي يرزق هو الله.

السبب الثاني من أسباب الرزق الدينية

السبب الثاني من أسباب الرزق الدينية السبب الثاني من أسباب الرزق: الاستغفار، والمداومة، والاستقامة على منهج العزيز الغفار. قال تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا * مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح:10 - 13] أي: مالكم لا توحدون الله حق توحيده، ولا تعبدون الله حق عبادته، ولا تقدرون الله حق قدره، ولا توكلون على الله حق توكله؟! يا من حرمت من نعمة الأولاد! داوم على الاستغفار، {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا * مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح:12 - 13]، وفي الحديث الذي رواه أحمد في مسنده وصححه العلامة أحمد شاكر، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أكثر الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب). وقال تعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجن:16] أي: لو استقاموا على منهج الله تعالى وعلى أوامره وحدوده؛ لرزقهم الله تبارك وتعالى رزقاً واسعاً طيباً. روى الإمام أبو داود والترمذي وغيرهما بسند صححه الألباني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نزلت به فاقة -أي فقر وحاجة- فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالله يوشك الله له برزق عاجل أو آجل). وفي الحديث الذي رواه أبو داود بسند صحيح من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تابعوا بين الحج والعمرة)، سبحان الله! ما علاقة الحج والعمرة بالرزق؟ اسمع للمصطفى صلى الله عليه وسلم: (تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب، كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة).

السبب الثالث من أسباب الرزق الدينية

السبب الثالث من أسباب الرزق الدينية السبب الثالث من أسباب الرزق: الانشغال بالطاعة والعبادة لله جل جلاله، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58]. وفي الحديث القدسي الجليل الجميل الذي رواه الترمذي وابن ماجة بسند صححه الألباني في السلسلة الصحيحة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: يا ابن آدم! تفرغ لعبادتي أملأ قلبك غنى، وأملأ يديك رزقاً، يا ابن آدم! لا تباعد مني -أي: لا تبتعد عني ولا عن طاعتي- أملأ قلبك فقراً وأملأ يديك شغلا). ولا تعارض البتة بين ما أصلت له في أول اللقاء من الأخذ بالأسباب والتفرغ للعبادة، لا تعارض البتة بين هذا وذاك، فنحن لا نقول قولاً في أول اللقاء لننقضه في وسط اللقاء كلا، وإنما (تفرغ لعبادتي) أي: فرغ قلبك من كل ما سوى الله، وأنت في عبادة الله، فرغ القلب للعبادة فرغ القلب لله حال العبادة، إن وقفت بين يدي الله في الصلاة ففرغ القلب كله لله، إن قرأت كتاب الله ففرغ القلب كله لله.

العبادة تسع أمور الحياة كلها

العبادة تسع أمور الحياة كلها ثم العبادة تعني الحياة كلها، فالصلاة عبادة، والصوم عبادة، والحج عبادة، والصدقة عبادة، والعمرة عبادة، ووقوفك في متجرك للبيع والشراء وللكسب الحلال مع تأديتك لحق الكبير المتعال عبادة. فسعيك على رزقك لأولادك عبادة بشرط أن لا يشغلك رزقك عن حق الله، فلا تقف بالمحل وأنت تسمع الأذان، ويأتيك رجل بعد الآخر فلا تخرج للصلاة! ثم تقول: يا شيخ! العمل عبادة، نعم، عملك عبادة، وأنت تسعى على الرزق الحلال، لكن إن حال هذا العمل بينك وبين أداء حق الكبير المتعال فبئس العمل عملك! وابتسامتك لي عبادة، وابتسامتي في وجهك عبادة والتفويض عبادة، والإنابة عبادة، والخوف عبادة، والاستعانة عبادة، والبكاء من خشية الله عبادة، وبر الوالدين عبادة، وإحسانك للجيران عبادة، وصدقك في القول والوعد والعهد عبادة، وإتقانك لعملك عبادة، وإحسانك لزملائك ومرءوسيك في العمل عبادة. فالعبادة تسع الحياة كلها، قال المصطفى صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه: (جاء أناس للنبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالأجور -أهل الدثور: أصحاب الأموال والغنى- يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم، فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: أوليس الله قد جعل لكم ما تصدقون به، إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة -أي: في جماع الرجل امرأته صدقة- قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته فيكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في الحرام أيكون عليه وزر؟ قالوا: بلى قال: ولو وضعها في الحلال فله بها أجر). فالعبادة تسع الحياة كلها بشرطين: الأول: أن تصح النية. والثاني: أن يكون العمل على هدي ومنهج سيد البشرية. حينئذ كل عمل من الأعمال الظاهرة والباطنة يندرج تحت العبادة، فلا تعارض البتة بين قولنا في أول اللقاء: تحقيق التوكل أن نأخذ بالأسباب، وأن نعلق قلوبنا بمسبب الأسباب، وبين قول الله في الحديث القدسي: (يا ابن آدم! تفرغ لعبادتي أملأ قلبك غنى، وأملأ يديك رزقاً، يا ابن آدم! لا تباعد مني أملأ قلبك فقراً وأملأ يديك شغلاً). وقال المصطفى صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الذي رواه ابن ماجة وأبو داود بسند حسنه الألباني في صحيح الجامع من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من جعل الهموم هماً واحداً: هم المعاد -أي: هم الآخرة- كفاه الله سائر همومه، ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله به في أي أوديتها هلك). وفي رواية الترمذي بسند صحيح من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كانت الآخرة همه: جعل الله غناه في قلبه، وجمع عليه شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه: جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له).

السبب الرابع من أسباب الرزق الدينية

السبب الرابع من أسباب الرزق الدينية السبب الرابع من أسباب الرزق: التقوى. قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3]، كثير من الناس لا يصدق قوله: (ويرزقه من حيث لا يحتسب). وانظر إلى ثمار الإيمان والتقوى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:96]، لم يقل: بركة، وإنما قال: (لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض). قال تعالى: {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:36 - 37]. فما هي التقوى؟ قال طلق بن حبيب: التقوى هي أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخشى عقاب الله. قال علي رضي الله عنه: التقوى هي العمل بالتنزيل، والخوف من الجليل، والرضا بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل. قال أبو هريرة حينما سأله سائل فقال: ما هي التقوى؟ فقال أبو هريرة: هل مشيت على طريق فيه شوك، قال السائل: نعم، قال أبو هريرة: ماذا صنعت؟ قال السائل: كنت إذا رأيت الشوك اتقيته -ابتعدت عنه- فقال أبو هريرة: ذاك التقوى، فأخذ ابن المعتز هذا الجواب البليغ البديع، وصاغه هذه الصياغة الجميلة فقال: خلي الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى واصنع كماشٍ فوق أر ض الشوك يحذر ما يرى لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى

السبب الخامس من أسباب الرزق الدينية

السبب الخامس من أسباب الرزق الدينية خامساً: من أسباب الرزق: صلة الرحم. وأعظم الصلة بر الوالدين، قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} [النساء:1]، وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره فليصل رحمه).

السبب السادس من أسباب الرزق الدينية

السبب السادس من أسباب الرزق الدينية سادساً: من أعظم أسباب الرزق: الإنفاق في سبيل الله. قال تعالى: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ:39]، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: يا ابن آدم! أنفق أُنفق عليك)، يا لها من عظمة! أن ينفق عليك صاحب الخزائن التي لا تنفذ! وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان إلى السماء، فيقول الأول: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً).

السبب السابع من أسباب الرزق الدينية

السبب السابع من أسباب الرزق الدينية سابعاً: من أعظم أسباب الرزق: الدعاء. تضرع إلى الله سبحانه وتعالى، فالله جل وعلا يقول: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186]، وفي الحديث الذي رواه أحمد والترمذي بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى حيي كريم، يستحيي إذا رفع العبد إليه يديه أن يردهما صفراً خائبتين)، فارفع إلى الله أكف الضراعة. وفي صحيح سنن الترمذي وصحح الحديث شيخنا الألباني رحمه الله: (أن رجلاً جاء لـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال له: يا علي! عليّ ديون عجزت عن سدادها فأعني، فقال له علي رضوان الله عليه: أفلا أعلمك كلمات علمنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن قلتها أدى الله علنك دينك ولو كان مثل جبل ثبير؟ قال: بلى علمني، فقال علي: قل: اللهم اكفني بحلالك عن حرامك، وأغنني بفضلك عمن سواك).

السبب الثامن من أسباب الرزق الدينية

السبب الثامن من أسباب الرزق الدينية ثامناً: من أعظم أسباب الرزق: الشكر. قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7]، قال ابن القيم: الشكر هو الحافظ والجالب، هو الحافظ للنعم الحالية، والجالب للنعم المستقبلية. والشكر يدور على اللسان والجنان والجوارح والأركان، قال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} [سبأ:13]، فالشكر يدور على اللسان بأن تشكر الله بلسانك، وعلى الجنان بأن تشكر الله بقلبك، وعلى الجوارح والأركان بأن تشكر الله بجوارحك، أي: بامتثالك للأوامر والنواهي، ووقوفك عند حدود الله جل وعلا. هذه حقيقة الشكر أيها الأحبة الكرام! فمن أنعم الله عليه بالمال أنفق، ومن أنعم الله عليه بالعلم علم، ومن أنعم الله عليه بالقرآن علم، ومن أنعم الله عليه بالصحة استثمر هذه العافية في طاعة الله، وأشفق على المرضى، وهكذا. أيها الأحبة الكرام! هذه بعض أسباب الرزق الإيمانية الدينية التي لا يذوق طعمها ولا يعرف حلاوتها إلا من وحد الله جل جلاله. أسأل الله أن يرزقنا وإياكم من فضله، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وأكتفي بهذا القدر، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

ثلة من بستان المتوكلين

ثلة من بستان المتوكلين الحمد لله رب العالمين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. وأخيراً أيها الأحبة الكرام: ثلة من بستان من المتوكلين. تعالوا بنا لندخل هذا البستان الواسع الفسيح، لنقف أمام بعض زهراته؛ فنستنشق عبيرها، ونستمتع بأريجها، لعل الله عز وجل أن يرزقنا صدق التوكل عليه إنه ولي ذلك والقادر عليه، وليس من الأدب أن أتحدث عن المتوكلين في بستانهم دون أن أبدأ بسيدهم المصطفى صلى الله عليه وسلم.

نموذج من توكل النبي صلى الله عليه وسلم

نموذج من توكل النبي صلى الله عليه وسلم روى البخاري ومسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة ذات الرقاع، فكنا إذا وجدنا شجرة ظليلة تركناها للنبي صلى الله عليه وسلم، فنام النبي صلى الله عليه وسلم تحت شجرة وعلق سيفه بغصن من أغصانها، فجاء رجل مشرك فوجد النبي صلى الله عليه وسلم نائماً، ووجد سيفه معلقاً، فأخذ المشرك السيف ورفعه على وجه النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم، وقال: من يمنعك مني الآن يا محمد؟! فنظر إليه سيد المتوكلين وقال: الله! فسقط السيف من يد المشرك، فأخذ المصطفى السيف ورفعه على المشرك وقال: فمن يمنعك مني الآن؟ فقال المشرك: كن خير آخذ يا محمد! -يعني: يمنعني خلقك وحلمك- فقال المصطفى: لا، حتى تؤمن بالله ورسوله، فقال المشرك: لا، إلا أني أعاهدك ألا أقاتلك، أو أكون مع قوم يقاتلونك، فعفا عنه النبي صلى الله عليه وسلم وخلى سبيله، فانطلق المشرك إلى قومه ليقول: يا قوم! والله لقد جئتكم من عند خير الناس). وروى البخاري من حديث ابن عباس قال: ((حسبنا الله ونعم الوكيل) قالها إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قال له الناس: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:173 - 174]).

نموذج من توكل إبراهيم الخليل وهاجر عليهما السلام

نموذج من توكل إبراهيم الخليل وهاجر عليهما السلام ودعونا قليلاً في بيت إبراهيم، إنه علم الدنيا التوكل، فها هو إبراهيم يأخذ زوجته هاجر وولده الرضيع إسماعيل، والحديث بطوله في صحيح البخاري من حديث ابن عباس، وينطلق إبراهيم بهما من بلاد الشام -من أرض كنعان- إلى أرض مكة زادها الله تشريفاً، وعند دوحة فوق زمزم -ولم تكن عين زمزم قد تفجرت بعد، ولا بني البيت الحرام- وضع إبراهيم هاجر والرضيع إسماعيل، ووضع عندهما جراباً فيه تمر وسقاءً فيه ماء، وأراد أن ينصرف. أسألك بالله أن تتدبر، وأنا أعلم أنك سمعت هذا مراراً وتكراراً، لكن تدبره الآن في موضوع التوكل؛ لتتعرف على عظمه توكل هذه الأسرة التي علمت الدنيا حلاوة التوكل على الله. إبراهيم يترك زوجته، ويترك رضيعها، يترك ثمرة فؤاده وفلذة كبده، فهو الذي حرم من الولد ما يزيد على الثمانين عاماً، ثم يتركه في صحراء لا إنس فيها ولا ماء ولا ظلال ولا بيوت ولا أشجار ولا أنهار، ومن سافر منكم للحج والعمرة ورأى جبال مكة وصحراء مكة عرف هول المصيبة. فـ هاجر تتعلق بإبراهيم وتقول: إلى من تتركنا في هذا الوادي الذي لا شيء فيه؟ فيرفع إبراهيم رأسه إلى السماء وكأنه يريد أن يسلم قلبه وبصره وعقله لله جل جلاله الذي أمره بذلك، فقالت هاجر المتوكلة: آلله أمرك بهذا؟ فأشار برأسه: أن نعم، فقالت أستاذة التوكل: إذاً لا يضيعنا الله أبداً. أعلم أنني قلتها سهلة وكذلك سمعها حضراتكم سهلة، لكن لو تدبرها بعضنا والله لطاش عقلك. هاجر لا ترى شيئاً، بل لا ترى إلا جبال سودتها حرارة الشمس، ولا ترى إلا رمالاً انعكست عليها أشعة الشمس المحرقة، فكادت الأشعة أن تذهب بالأبصار، لا ترى طعاماً لا ترى شراباً لا ترى شجرة تستظل بها لا ترى بيتاً لا ترى إنساً، وإبراهيم تركهم! وهي تقول: إذاً لا يضيعنا. وبعد قليل نفد التمر ونفد الماء! بل وجف الماء في ثديها، ورأت الأم المسكينة رضيعها يتلمظ ويتلوى، وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة تحت حرارة شمس تصهر الحديد وتذيب الحجارة، فجرت وصعدت على أقرب جبل؛ على الصفا لعلها تجد شيئاً وراء هذا الوادي، فلم تر شيئاً، فنزلت تجري إلى بطن الوادي حتى وصلت إلى المروة، ثم نظرت مرة أخرى ناحية الصفا وجرت وهكذا، تجري المرأة سبعة أشواط تحت حرارة هذه الشمس، على جبال لا يقدر الأقوياء على المشي على حجارتها. وفي المرة الأخيرة سمعت صوتاً فقالت: صه صه، كأنها تريد أن تقول: كأني أسمع صوتاً غريباً، فالتفتت ناحية الرضيع إسماعيل، فوجدت الملك -أي: جبريل- يلامس الأرض. وفي رواية الطبري بسند حسنه الحافظ ابن حجر من حديث علي في كتاب الحج من فتح الباري: نادى جبريل على هاجر وهي على المروة وقال: من أنت؟ فقالت هاجر: أنا أم ولد إبراهيم، ولم تقل: أنا هاجر، وإنما نسبت نفسها إلى إبراهيم؛ لأن إبراهيم يعرفه أهل السماء، فقال جبريل: وإلى من وكلكما إبراهيم؟ يعني إلى من ترككم في هذا المكان، فقالت هاجر: وكلنا إلى الله. فقال جبريل: وكلكما إلى كاف {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر:36]، وفي قراءة: (أليس الله بكاف عباده)، ثم فجر جبريل عين زمزم، تلك العين المباركة التي هي ثمرة حلوة من ثمار التوكل على الله التي شرب منها ملايين البشر، وما زالوا يشربون، لم يجف ماؤها، ولم تنضب عينها، ليعلم ضعاف اليقين والتوكل على رب العالمين، أن الرزق بيد الرزاق ذي القوة المتين.

نموذج من توكل أم موسى عليها السلام

نموذج من توكل أم موسى عليها السلام وهذه أم موسى، هل سمعتم في الدنيا كلها أنه يقال لأم: إن خفت على ولدك فارميه في البحر! ما هذا؟! قال الله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} [القصص:7]، أي: فإذا خفت عليه فارميه في البحر، {وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ} [القصص:7]، تدبر لفظة (إنا) {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7]. وذلك أن فرعون كان يبحث عن الأولاد ويقتلهم؛ لأنه كان يعلم أن ملكه سيزول على يد أحدهم، فألقت الأم المتوكلة رضيعها في اليم وكان في تابوت، ويتهادى التابوت حتى يصل إلى قصر فرعون، ويقف التابوت، ويستخرج جند فرعون التابوت من أمام القصر الفرعوني. يا إلهي! إنه طفل، إنه هو الذي يبحث عنه فرعون بعينه، ولكن الله نجاه لا بالطائرات ولا بالدبابات، وإنما بستر رقيق لا يخطر لأحد على بال، ألا وهو ستر المحبة، فقذف الله حب موسى في قلب امرأة فرعون بمجرد أن نظرت إليه، فقالت: {قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ} [القصص:9]، والأوامر في القصور في الغالب للنساء، إذاً: لا يقتل. وأتوا بالمراضع لموسى، كلما قدموا إليه مرضعة أبى هذا الطفل المبارك أن يلتقم ثديها؛ لأن الله قد وعد أم موسى أن يرد موسى إليها، فجيء بأم موسى لتدخل قصر فرعون لتحتضن موسى ولتضم رضيعها إلى صدرها، وفرعون يجلس إلى جوارها ويأمرها أن ترضعه. أخي الكريم! أم موسى كانت بالأمس القريب تخشى على موسى من فرعون وملئه، وهي الآن ترضع موسى في قصر فرعون بأمره، إنه التوكل.

نموذج من توكل أبي بكر الصديق رضي الله عنه

نموذج من توكل أبي بكر الصديق رضي الله عنه ومن الجفاء أن أتحدث عن التوكل وعن المتوكلين ولا أتحدث عن سيد المتوكلين في الأمة كلها بعد نبيها، إنه الصديق أبو بكر رضي الله عنه، رحم الله ابن القيم إذ يقول: هذا هو أبو بكر الصديق الذي عاين طائر الفاقة يحوم حول حب الإيثار، فألقى له الصديق حب الحب على روض الرضا، واستلقى الصديق على فراش الفقر آمناً مطمئناً، فرفع الطائر الحب إلى حوصلة مضاعفة وتركه هناك، ثم علا على أفنان شجرة الصدق ليغرد للصديق بأغلى وأعلى فنون المدح، وهو يتلو في حقه قول ربه: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى} [الليل:17]. الصديق الذي حقق التوكل في أعلى مقاماته، روى الترمذي بسند صحيح من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدقة يوماً، فوافق ذلك مالاً كان عندي فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوماً. يقول عمر: فأتيت للنبي صلى الله عليه وسلم بنصف مالي، فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: ما أبقيت لأهلك يا عمر؟! قال: أبقيت لهم مثله يا رسول الله! قال: فجاء أبو بكر بكل ماله، فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: ما أبقيت لأهلك يا أبا بكر؟! فقال: أبقيت لهم الله ورسوله).

نموذج من نماذج التوكل في زماننا المعاصر

نموذج من نماذج التوكل في زماننا المعاصر وقد يئن الحضور جميعاً من آبائنا وشبابنا ويقول الجميع: سامحك الله أيها الشيخ! تتكلم عن سادة التوكل من السلف! وأنت تعلم أننا نعيش الآن زماناً يختلف عن الزمان، ومكاناً يختلف عن المكان؟ وأنا أقول: والله لن تخلو أمة الحبيب من المتوكلين أبداً، (لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك). من أجل ذلك تعمدت أن أختم هذا اللقاء مع حضراتكم بهذه الكلمات الرقيقة، لأخت فاضلة متوكلة من أخواتنا، سجن زوجها لسبب ما -وهم من الفضلاء- ورزق الله هذه الأخت الفاضلة ببنت صغيرة وزوجها في السجن، ومرضت البنت في ليلة من الليالي، ارتفعت حرارتها ارتفاعاً كبيراً، حتى انتظرت الأم موت ابنتها. تقول: والله وأنا لا أملك إلا أن أبكي، وأرفع أكف الضراعة إلى الله، فأنا لا أملك لابنتي ثمن الدواء، فأنا أشهد الله لقد كنا نبيت بغير عشاء. تقول: جلست إلى جوارها لأضع لها الماء البارد على جبينها، وأنا أبكي وأتضرع إلى الله، وفي الساعة الثانية ليلاً سمعت الباب يدق، تقول: ففتحت الباب، فرأيت طبيباً يحمل حقيبته ويقول: السلام عليكم! قلت: وعليكم السلام، فقال: أين البنت المريضة؟ تقول: فارتجف جفني وقلت: تفضل! موجودة يا دكتور، فدخل الطبيب وكشف على البنت وكتب الدواء وخرج، فوقف خارج الباب ثم قال: أسرعي يا أخت! قالت: ماذا تريد يا دكتور؟ قال: قيمة الكشف، قالت: والله لا أملك، قال: عيب عليك! تتصلي علي الساعة الثانية ليلاً وأجيء وأكشف على البنت ثم تقولين: لا أملك شيئاً! قالت: والله ما اتصلت، وليس عندي تلفون، قال: أليس هذا بيت فلان، قالت: لا، بل هو البيت الذي بجوارنا، فبكى الطبيب وقال: ما حكايتك؟ وما قصتك؟ فوالله ما أخرجني الله إلا لك! فبكت المرأة وقصت عليه القصة، فبكى الطبيب، وعاد مسرعاً، فأحضر الدواء وأحضر العشاء، وجعل لهذه المرأة الفاضلة راتباً شهرياً حتى خرج زوجها، تقسم بالله وتقول: لما خرج الزوج كان يضيق بنا الحال، فكنت أبتسم وأقول لزوجي: اذهب وسافر فإن ربنا يرزقنا. (لو أنكم توكلون على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً). اللهم ارزقنا صدق التوكل عليك، اللهم ارزقنا صدق التوكل عليك، اللهم ارزقنا صدق التوكل عليك، اللهم ارزقنا صدق التوكل عليك، اللهم ارزقنا من واسع فضلك، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وأغننا بفضلك عمن سواك، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وأغننا بفضلك عمن سواك، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وأغننا بفضلك عمن سواك. اللهم لا تدع لأحد منا في هذا الجمع المبارك ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا طائعاً إلا زدته وثبته، ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا رب العالمين! اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا شقياً ولا محروماً، اللهم إنا نسألك أن تذيقنا حلاوة التوكل عليك، اللهم إنا نسألك أن تذيقنا حلاوة التوكل عليك، وبرد اليقين فيك، ولذة الثقة بك يا أرحم الراحمين! اللهم اهدِ نساءنا وبناتنا، واهدِ أولادنا، وأصلح شبابنا، {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74]. اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، وأعل بفضلك كلمة الحق والدين، ومكن للمجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! واجعل مصر واحة للأمن والأمان وجميع بلاد المسلمين، اللهم اجعل مصر سخاءً رخاءً أمناً وأماناً وجميع بلاد المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين! وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أنت الذي تؤخر النصر عن الأمة

أنت الذي تؤخر النصر عن الأمة وعد الله عز وجل حق لا يتخلف، وقد وعد الله عز وجل المؤمنين بالنصر والتمكين في الأرض إذا حققوا شرط الإيمان والعمل الصالح؛ فمتى تحقق هذا الشرط تحقق المشروط، وما تعانيه الأمة اليوم من تسلط أعداء الإسلام عليها، من سفك دمائها، وتدنيس مقدساتها، وأخذ ثرواتها وما إلى ذلك؛ كله بسبب ابتعادها عن دين ربها وشرعه. ، ولو رجعت إلى دينها لتحقق لها موعود ربها بالنصر والتمكين.

حال الأمة حين تركت الجهاد في سبيل الله

حال الأمة حين تركت الجهاد في سبيل الله الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين. وبعد: فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة والأخوات! عبثاً دعوت وصحت يا أحرار عبثاً لأن قلوبنا أحجار عبثاً لأن عيوننا مملوءة بالوهم تظلم عندها الأنوار عبثاً لأن شئوننا يا قومنا في الغرب يفتل حبلها وتدار ولأننا خشب جامدة فما ندري ماذا يصنع المنشار أما سقوط الأقصى فحالة مألوفة تجري بها الأقدار هذي شئون القدس ليس لنا بها شأن وما للمسلمين خيار يا ويحكم يا مسلمون قلوبكم ماتت فليست بالخطوب تثار أنكرتم الفعل الشنيع بقولكم شكراً لكم لن ينفع الإنكار شكراً على تنظيم مؤتمراتكم وعلى القرار يصاب منه قرار وعلى تعاطفكم فتلك مزية فيكم تصاغ لمدحها الأشعار يا ويحكم يا مسلمون نساؤكم يسألن عنكم والدموع غزار هذي تساق إلى سراديب الهوى سوقاً وتلك يقودها الجزار لو أن سائحة من الغرب اشتكت في أرضكم لتحرك الإعصار أما الصغار فلا تسل عن حالهم مرض وخوف قاتل وحصار يُذَّبحون ويُقتَلون وما لهم نصير ودمع عيونهم مدرار يا ويحكم تنسون أن الضعف في وجه العدو مذلة وصغار هذه هي القدس يحرق ثوبها عمداً ويهتك عرضها الأشرار تبكي وأنتم تشربون دموعها وعن الحقائق زاغت الأبصار وهذا هو الأقصى يهود جهرة وبجرحه تتحدث الأخبار هذا هو الأقصى يطحنه الأسى وجموعكم يا مسلمون نثار ملياركم لا خير فيه كأنما كتبت وراء الواحد الأصفار ما جرأ اليهود إلا صمتكم ولكم يذل بصمته المغوار خابت سياسة أمة غاياتها تحقيق ما يرضى به الكفار قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} [الصف:10 - 11] الآية. وفي مسند أحمد بسند صححه شيخنا الألباني رحمه الله من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا تبايعتم بالعينة ورضيتم بالزرع وتبعتم أذناب البقر وتركتم الجهاد في سبيل الله، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم).

محاولة أعداء الإسلام تنحية قضية الجهاد

محاولة أعداء الإسلام تنحية قضية الجهاد أيها الأخيار! لقد قلت مراراً وتكراراً بأن أعداء الإسلام في البيت الأبيض، وفي البيت الأحمر، ومروراً بكل المنظمات والأحلاف والهيئات الدولية الممثلة في هيئة الرمم وفي حلف الناتو وفي الاتحاد الأوروبي وغيرها، قد حاولت كل هذه المنظمات بشتى الطرق أن تظل قضية الجهاد بعيدة عن ساحة القدس والأقصى، وأن تظل القضية مطروحة في هذه المنظمات والأحلاف التي لا تنصر ديناً قط. فالكفر لا ينصر توحيداً أبداً، كما قال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]، وكما قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51]، وقال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة:109] الآية. فالكفر لا ينصر توحيداً، وليس كما يدعي الإعلام أن الغرب يكيل بمكيالين، فهذا باطل، بل الغرب لا يكيل إلا بمكيال واحد فقط، إنه مكيال العداء للإسلام والمسلمين، ولقد حاولوا بشتى الطرق تضليل قضية الجهاد، كما قال العدو والإرهابي الكبير مناحيم بيجن: إننا نحارب، إذاً: نحن موجودون، ويجب أن تظل قضية الجهاد بعيدة عن الساحة! فلقد حاول أعداؤنا بشتى الطرق طيلة السنوات الماضية أن يطمسوا قضية الجهاد، وألا تصبغ قضية القدس والأقصى بصبغة الجهاد في سبيل الله، حتى صرح زعيم عربي مخرف بهذا القول الخطير الخبيث وقال: ما هذه الضجة التي تفتعلونها على مسجد يسمى بالمسجد الأقصى؟! فليصل المسلمون في أي مسجد، وتنتهي الأزمة والمشكلة. فهم لا يريدون للقضية أن تصبغ قط بصبغة الجهاد، ولما رفعت راية الجهاد في أفغانستان مرغ أنف الدب الروسي الغبي في الوحل والطين والتراب، ولا مقارنة بين العُدَد والعتاد والعَدَد، فلقد كان الروس يفوقون المسلمين في أفغانستان عتاداً وعدداً، لكن رفعت قضية الجهاد في سبيل الله فانقلبت كل الموازين. لذلك هم لا يريدون لشباب الصحوة أبداً أن يشارك في هذه القضية، ولا يريدون أن يفتحوا الحدود والثغور أبداً أمام شباب مسلم يحترق قلبه شوقاً الآن للشهادة في سبيل الله، ورب الكعبة لو فتح هذا الباب الآن لرأينا من شيوخنا بل من أمهاتنا وأخواتنا فضلاً عن شبابنا من يذهب ليسد فوهة مدافع اليهود بصدره، وهو يريد أن يصرخ بهمته الطاهرة لزعماء العملاء ولزعماء اليهود أن محمداً ما مات وما خلف بنات، بل خلف شباباً أطهاراً تحترق قلبوهم الآن شوقاً للشهادة في سبيل الله. ويردد أحدهم قولة الإمام المجاهد العلم عبد الله بن المبارك لأخيه عابد الحرمين الفضيل بن عياض: يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك في العبادة تلعب من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب ريح العبير لكم ونحن عبيرنا رهج السنابك والغبار الأطيب من كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الكريهة تتعب ولقد أتانا من مقال نبينا قول صحيح صادق لا يكذب لا يستوي غبار خيل الله في أنف امرئ ودخان نار تلهب

الأمور التي تحل بها قضية فلسطين

الأمور التي تحل بها قضية فلسطين أنا أدين لربي بأن القضية تحل في كلمتين اثنتين لا ثالث لهما: الأولى: تحقيق الإيمان. الثانية: رفع راية الجهاد في سبيل الله. ولن ترفع الراية إلا إذا حققت الأمة الإيمان؛ لأن الله ما أمر بالجهاد إلا من حقق الإيمان ابتداءً. والإيمان يا شباب! ليس كلمة ترددها الألسنة، ولا دخاناً في الهواء، ولكن الإيمان الذي ستنصر به الأمة والذي سترفع به الأمة راية الجهاد في سبيل الله هو قول وتصديق وعمل، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا} [الصف:10]، يثبت الله لهم في صدر الآية بالنداء عقد الإيمان، ومع ذلك يأمرهم بتحقيق الإيمان قبل أن يأمرهم برفع راية الجهاد في سبيل الله، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الصف:10 - 11]، مع أنه قد أثبت لهم عقد الإيمان في صدر الآية لكن لابد من أن تحقق الأمة الإيمان بالله. فأمة لا تعرف ربها كيف تنصر؟ أمة لا تعرف معنى العقيدة كيف يمكن الله لها؟ والله ما وعد الله بالنصرة والعزة والتمكين إلا لأهل الإيمان، كما قال تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]، وقال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ} [النور:55] الآية، وقال: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8]، فلن ترفع الأمة راية الجهاد دون أن تحقق الأمة العقيدة. وأنا أسأل من هم الذين يدعون لإخواننا في فلسطين في صلواتهم؟! فانظروا إلى الحسرة والمرارة، حتى الدعاء بخلنا به، فأمة بخلت بالدعاء فهل تجود بالأموال والدماء؟! ونحن نصرخ: الجهاد الجهاد، القدس القدس! ولكن نريد صدقاً، فما أيسر التنظير! وما أسهل الكلمات الرنانة! لكن نريد صدقاً في التوجه، ونريد صدقاً في تحقيق الاعتقاد؛ فلن يحرر القدس إلا رجل عقيدة عرف الله جل وعلا، لقد عاد إخوانكم هنالك على أرض فلسطين إلى الله، وعلموا يقيناً أن أمريكا وأن البيت الأبيض والبيت الأحمر والبيت الأسود وهذه المنظمات لن تنصر قضية، ولن تنصر توحيداً، فعادوا إلى الله. يحدثني إخوانكم من هنالك ويتصلون بي من على أرض المعركة ويخبرونني بأن الناس هنالك في هذه الحرب الضروس قد عادوا إلى الله جل وعلا، وعلموا يقيناً أنه لا ملجأ ولا ملاذ من الله إلا إليه، وعلموا أنه لن ينصرهم إلا الله، فالأمة لن تنصر إلا بالعقيدة. يُذكر أن جحا صنع يوماً ساقية على النهر؛ لتأخذ الماء من النهر ولترد نفس الماء إلى نفس النهر، فتعجب العقلاء منه، وقالوا: عجباً لك يا جحا! تصنع ساقية على النهر؛ لتأخذ الماء من النهر ولترد نفس الماء إلى نفس النهر؟! فقال جحا: يكفيني نعيرها! ونحن نقول: منذ متى والأمة تصرخ، وتشجب، وتستنكر في مؤتمرات صحفية باردة كبرود الثلج، وفي كلمات هي أسكن من مياه البحر الميت؟ والعالم لا يعرف هذه اللغة، كما صرح الإرهابي الكبير بيجن: إننا نحارب، إذاً: نحن موجودون. وقد قال بن غوريون منذ أربعين سنة أو يزيد: قد لا يكون لنا الحق في فلسطين من منظار سياسي أو قانوني، ولكنها أرض المعاد التي وعدنا الله إياها من النيل إلى الفرات، وإنه يجب الآن على كل يهودي أن يهاجر إلى دولة إسرائيل -هذا على حد تعبيره- بعد إنشائها؛ فإن كل يهودي لا يهاجر بعد اليوم إلى دولة إسرائيل، فإنه يكفر يومياً بتعاليم التوراة. فهم يتحركون هنالك عن عقيدة، وقد صرح نتنياهو -ويومها كنت في أمريكا، وكنت أتابع نتيجة انتخاباته يوم نجح برئاسة الوزراء- وقال قولته الخطيرة: وأخيراً صوت اليهود للتوراة.

بعض أسباب تأخير النصر

بعض أسباب تأخير النصر إن القوم يتحركون عن عقيدة، ويتحركون عن إخلاص لدينهم، لكن أين الأمة صاحبة الحق؟ ما أيسر أن ننظر يا إخوة! وما أيسر أن نتكلم! بل وربما سيغضب علينا بعض الشباب ويقولون: تكلمت الكثير، فماذا صنعت؟ وماذا فعلته؟ وأنا أقول: بل أنت ماذا صنعت؟ وماذا فعلت؟ وهل تدين ربك بأن بيتك بيت مسلم؟ وهل تدين ربك بأنك خطوت على الطريق خطوة أولى لدين الله؟ اعلم بأن ابتعادك عن العقيدة يؤخر النصر خطوة. اعلم بأن انحرافك عن منهج الإسلام يؤخر النصر عن الأمة. اعلم بأن امرأتك المتبرجة تؤخر النصر عن الأمة. اعلم بأن ولدك الذي يقلد مايكل جاكسن يؤخر النصر عن الأمة. اعلم بأن أولادك الذين تاهوا وضاعوا وراحوا يقتاتون قوتهم التربوي من وسائل الإعلام العفنة يؤخر النصر عن الأمة. اعلم بأن تضييعك لصلاة الفجر يؤخر النصر عن الأمة. اعلم بأن أكلك للحرام يؤخر النصر عن الأمة. فأين العقيدة؟ وأين الإيمان؟! فما أيسر التنظير بالأصوات!

منهج الله الرباني يحتاج إلى رجال

منهج الله الرباني يحتاج إلى رجال إن المنهج موجود، هذا المنهج هو الذي جعل ربعي بن عامر يرد على رستم قائد الجيوش الكسروية بعز واستعلاء ويقول له: نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، فمن قَبِل منا قبلنا منه، ورجعنا عنه، ومن حال بيننا وبين دعوة الناس لدين الله قاتلناه حتى نفضي إلى موعود الله. قال: وما موعود الله؟ فـ ربعي الذي عرف الغاية وفهم الوظيفة التي من أجلها ابتعث، بل وحول المنهج الرباني والنبوي إلى واقع عملي وإلى منهج حياة قال له: أما الأولى: فالنصر لمن بقي من إخواننا، والشهادة لمن مات من إخواننا. فقال له رستم: لقد سمعت قولك، فهل لكم أن تؤجلونا؛ لننظر في أمرنا ولتنظروا في أمركم؟ فقال بعز واستعلاء: لقد سن لنا نبينا ألا نؤخر الأعداء عند اللقاء أكثر من ثلاث ليال، فانظر في أمرك وأمرهم واختر لنفسك واحدة من ثلاث. قال ما هي؟ قال: الأولى: الإسلام، ونقبل منك، ونرجع عنك. قال: ما الثانية؟ قال: الجزية. وهذا الجزية أصبحت الأمة تدفعها الآن إلى أمريكا كاملة غير منقوصة. قال: وما الثالثة؟ قال: القتال، ولن نبدأك بقتال فيما بيننا وبين اليوم الرابع إلا إن بدأتنا أنت. قال: أسيدهم أنت؟ قال: لا، ولكن المسلمين كالجسد الواحد يسعى بذمتهم أدناهم على أعلاهم. وأنا أجزم أن ما بين أيدينا من مجلدات، ومن أشرطة، ودروس علمية ما كانت موجودة بين السلف بهذا الكم الهائل، لكن ما الذي فعلته هذه الأشرطة وهذه المجلدات؟ فالمنهج موجود، لكنه يحتاج إلى رجال يحولون هذا المنهج الرباني والنبوي إلى واقع عملي يتألق في دنيا الناس سمواً وروعة وعظمة وجلالاً، والله لو أن الأمة ذباباً يطن في آذان اليهود لفرقنا آذانهم، والله لو تفلت الأمة على اليهود لأغرقنا اليهود بتفلنا، لكنها الهزيمة النفسية، لكنه البعد عن العقيدة الصحيحة بشمولها وكمالها.

واجب المسلم تجاه القدس

واجب المسلم تجاه القدس لن نحرر القدس بالمظاهرات الصاخبة، ولا بحرق الأعلام الأمريكية واليهودية، ولا بحرق الماكتات للزعماء، وإنما نحرر القدس بالعودة إلى دين الله وإلى منهج رسول الله، وبتحويل هذا المنهج الرباني والنبوي في بيوتنا وحياتنا إلى واقع. ولو ظلت الأمة ألف سنة تشكو وتستنكر وتصرخ وتخطب خطباً رنانة فلن تغير من الواقع شيئاً. لذلك أيها الأحبة! أناشد كل مسلم وكل مسلمة أن يبدءوا التصحيح، وما عليك أيها المسلم إلا أن تبذل أنت ودع النتائج إلى الله؛ فالله لا يعجل بعجلة أحد، ولو علم الله أن الأمة تستحق النصرة الآن على اليهود لنصرها، فالله لا يعجل بعجلة أحد، بل لابد أن تبذل الأمة أقصى ما في طوقها، كما قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60]، فما بذلت الأمة شيئاً، وما أعدت الأمة شيئاً، فلابد أن تبذل أنت ولابد أن أبذل أنا، قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح الذي رواه ابن سعد في الطبقات بسند صححه شيخنا الألباني: (إذا قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة فاستطاع أن يغرسها فليغرسها) فلا تقل: قامت القيامة وهذه فسيلة متى ستنمو؟ ومتى ستثمر؟ ومن يأكل من ثمرها؟ ليس هذا من شأنك أنت، بل شأني وشأنك أن نغرس لدين الله، وأن نعمل لله جل وعلا، وأن ندع النتائج لله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105]. فلماذا لا تربي امرأتك وبناتك وأولادك الآن على عقيدة الولاء والبراء؟ ما زلنا إلى يومنا هذا نرى من المسلمين من يقضي الليل أمام مباراة كرة، واليهود يطحنون إخواننا في فلسطين! كانت الأمة تصرخ بحناجر ملتهبة للأهلي على رويال مدريد واليهود يطحنون إخواننا بالطائرات في فلسطين طحناً! ما زالت الأمة بعيدة ترقص وتغني، ومازالت الأسر المسلمة بعيدة عن العقيدة بجمالها وكمالها. وقد ترى الوالد المسلم إذا رأى ولده ذكياً ألمعياً يقول: الولد هذا أكيد سوف يكون دكتوراً. وإذا رأى الولد يكسر ويمسك المفك يقول: هذا الولد مهندس، إنما إذا طلع أعمى، إذا طلع أعرج يقول لك: يطلع شيخ وخلاص! وكأنه لا ينبغي أن نقدم لله إلا المتردية والنطيحة، حتى صار المثل الأعلى لولدي وولدك لاعب كرة، أو ممثلاً هابطاً ساقطاً، وأصبح الأمر كما قال الشاعر: وراعي الشاة يحمي الذئب عنها فكيف إذا الرعاة لها الذئاب فيا إخوة؛ ما أيسر التنظير وما أسهل الكلام! أسأل الله أن يرزقنا الصدق في الأقوال والأعمال والأحوال، وأن يرد الأمة إلى الإيمان والجهاد رداً جميلاً؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

حق القدس

حق القدس اليهود المغضوب عليهم يعيثون اليوم فساداً في أرض الإسراء، فيبطشون بالمسلمين الأبرياء، لا يفرقون في ذلك بين كبير وصغير، ولا بين مريض وصحيح، ولا بين رجل وامرأة، بل يحرصون على أن تسيل منهم الدماء، ومع هذا يخادعون الأمة المحيطة بهم بدعوى السلام، ووالله لن يخرجوا من الأرض المقدسة إلا بالجهاد المبني على العقيدة.

الانفصام بين المنهج المنير والواقع المرير

الانفصام بين المنهج المنير والواقع المرير إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأحبابه وأصحابه وأتباعه وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة الفضلاء الأعزاء! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله الحليم الكريم جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار مقامته؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! حقوق يجب أن تعرف، سلسلة منهجية تحدد الدواء من القرآن والسنة لهذا الداء العضال الذي استشرى في جسد الأمة، ألا وهو: داء الانفصام النكد بين المنهج المنير والواقع المرير، فأنا لا أعلم زماناً قد انحرفت فيه الأمة عن منهج ربها ونبيها كهذا الزمان، فأردت أن أذكر نفسي وأمتي من جديد بهذه الحقوق الكبيرة التي ضاعت! عسى أن تسمع الأمة مرة أخرى عن ربها ونبيها صلى الله عليه وسلم، وأن تردد مع السابقين الصادقين قولتهم الخالدة التي حكاها الله بقوله: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285]. ونحن اليوم على موعد مع اللقاء الخامس عشر من لقاءات هذه السلسلة الكريمة، وحديثنا اليوم في هذا الظرف العصيب، وفي هذا الوقت الحرج، عن حق عظيم جليل كبير ألا وهو: حق القدس. فإن الداعي الصادق -أسأل الله أن نكون منهم- لا ينبغي أبداً أن يكون بموضوعاته وأطروحاته في وادٍ وأن تكون أمته الجريحة المسكينة بأحداثها المؤلمة المفجعة في وادٍ آخر، ومن ثمَّ فحديثنا هذا في سلسلة الحقوق هو عن حق القدس المبارك، وسوف ينتظم حديثي في هذا الموضوع الجريح النازف في العناصر المحددة التالية: أولاً: اليهود إخوان القردة والخنازير وزمرة الشيطان. ثانياً: متى يفيق النائمون؟ ثالثاً: مقومات النصر. وأخيراً: سيهزم اليهود. فأعيروني القلوب والأسماع جيداً، والله أسأل أن يهزم اليهود، وأن ينصر المسلمين في فلسطين؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.

حقيقة اليهود

حقيقة اليهود اليهود هم إخوان القردة والخنازير وزمرة الشيطان. أيها المسلمون! والله الذي لا إله غيره! لولا أن الله قد أخذ على أهل العلم العهود والمواثيق أن يبينوا ويتكلموا ما تكلمنا، فلقد مضى زمن الكلام، وانتهى زمن التنظير، ولا مجال مطلقاً للجهود الدبلوماسية بعدما نطقت الدبابة والبندقية على أيدي أرذل وأنجس وأحقر أهل الأرض من إخوان القردة والخنازير، فلا مجال للكلام مطلقاً، ولولا أن الله قد أخذ على أهل العلم العهد والميثاق أن يبينوا والله! ما بينا، ووالله! ما تكلمنا. لقد طاردتني الصور المؤلمة التي تحرق فؤاد كل مسلم حي -هذا إن كنا لا زلنا نحمل في الصدور أفئدة- ولا حول ولا قوة إلا بالله. طاردتني كما طاردت كل مسلم صادق هذه الصور المؤلمة التي تحرق القلب، إنها صورة الطفل المسكين الذي لا ذنب له ولا جريرة إلا أنه ولد فوق الثراء الطاهر والأرض المباركة، فوق مسرى الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، فقام اليهود المجرمون الأنذال الذين لا يعرفون رحمة ولا يعرفون شفقة بقتله، حتى بعدما احتمى الطفل بأبيه، وجعل يرفع يديه خائفاً من هؤلاء المجرمين، وجعل الوالد المسكين يرفع يده مسلماً مستسلماً، ولكن هيهات هيهات أن يعرف اليهود الرحمة، اللهم إلا إذا دخل الجمل في سم الخياط! فأطلقوا الرصاص على رأس هذا الطفل المسكين فأردوه قتيلاً، وإن شئت فقل: لقد قتلوا أباه وإن لم تمته الرصاص، فتصور أن يموت ولدك بين يديك بهذه الصورة التي تحرق الأفئدة؟! والله! لقد نظرت إلى أطفالي بالأمس القريب، وتخيلت أن قاذفة من قاذفات العدو اليهودي قد أطلقت على بيتي وأنا فيه مع أهلي وأولادي، فتمزقت أشلاء أطفالي أمام عيني وبين يدي، فلم أذق طعم النوم؛ فأنى للقلوب التي تعرف حقيقة الإيمان، والتي ذاقت حلاوة الولاء والبراء أن تعرف طعم النوم، وأن تعرف طعم الراحة؟ والله! لولا أن المصطفى كان في المصائب يأكل لما أكلنا، إنها المصيبة والمأساة، فالطائرات والدبابات والصواريخ والمدفعية تدق بيوت الفلسطينيين العزل الذين لا يملكون إلا إيماناً بالله جل وعلا، ثم الحجارة، ثم الحجارة، ثم الحجارة. وطاردتني صورة امرأة عجوز يتساقط بيتها فوق رأسها، وهي تنظر إلى سقف البيت يتحطم، ولا تملك أن تفعل شيئاً على الإطلاق. وطاردتني صورة الأقصى الجريح وهو يأن ويستجير، وهو يصرخ في المسلمين: واإسلاماة! واإسلاماة! لكن من يجيب؟! القدس يصرخ، ولقد انتابتني حالة نفسية عجيبة حالة نفسية مؤلمة، لكن من يجيب؟ كنت أصرخ، ولكن الصرخة في صحراء مقطعة مهلكة، كما قال الشاعر: عبثاً دعوت وصحت يا أحرار! عبثاً لأن قلوبنا أحجار عبثاً لأن عيوننا مملوءة بالوهم تظلم عندها الأنوار عبثاً لأن شئوننا يا قومنا! في الغرب يفتل حبلها وتدار ولأننا خشب جامدة فما ندري ماذا يصنع المنشار أما سقوط الأقصى فحالة مألوفة تجري بها الأقدار هذي شئون القدس ليس لنا بها شأن وما للمسلمين خيار يا ويحكم! يا مسلمون! قلوبكم ماتت فليست بالخطوب تثار أنكرتم الفعل الشنيع بقولكم شكراً لكم لن ينفع الإنكار شكراً على تنظيم مؤتمراتكم وعلى القرار يصاغ منه قرار وعلى تعاطفكم فتلك مزية فيكم تصاغ لمدحها الأشعار يا ويحكم! يا مسلمون! نساؤكم في القدس يسألن عنكم والدموع غزار هذه تساق إلى سراديب الهوى سوقاً وتلك يقودها الجزار لو أن سائحة من الغرب اشتكت في أرضكم لتحرك الإعصار أما الصغار فلا تسل عن حالهم مرض وخوف قاتل وحصار واليهود يذبحون ويقتلون وما لهم ناصر ودمع عيونهم مدرار يا ويحكم! يا مسلمون! تنسون أن الضعف في وجه العدو مذلة وصغار هذي هي القدس يحرق ثوبها عمداً ويهتك عرضها الأشرار تبكي وأنتم تشربون دموعها وعن الحقائق زاغت الأبصار وهذا هو الأقصى يُهوَّد جهرة وبجرحه تتحدث الأخبار هذا هو الأقصى يطحنه الأسى وجموعكم يا مسلمون عار ملياركم لا خير فيه كأنما كتبت وراء الواحد الأصفار ما جرأ اليهود إلا صمتكم ولكم يذل بصمته المغوار خابت سياسة أمة غاياتها تحقيق ما يرضى به الكفار يا قدس! أرسل دمع العين مدراراً عميق الحزن وصب من النزف أنهار يا قدس! تاه الأهل والأحباب وعدت بأرض الأنبياء كلاب قدساه! أرض النور دنسها الدجى والحق ضاع وتاهت الأنساب قادت قرود الإفك قافلة الهدى وسجى بوجه النائمين ذباب ليكود قاد عصابة يعلو بها بالقدس مكر محدق وحراب طعنوا بها الشرفاء طعن مذلة فثوى بقدس المعجزات خراب والقبة العظمى تسيل دماؤها والقدس يبكي واشتكى المحراب وبدا اليهود بأرضنا وكأنهم أصحاب أرض ما لها أصحاب ضاعت فلسطين الجريحة واعتلى أقصى المساجد بالسواد ثياب قدساه! أين الفاتحون؟ أين عمر بن الخطاب؟ أين أبو عبيدة بن الجراح؟ أين صلاح الدين؟ أين محمود نور الدين؟ أين قطز؟ قدساه! أين الفاتحون وعزهم أين الجهاد الحق والألباب ماذا أصاب المسلمين فهل ترى يجدي لديهم بالخطوب عتاب اليهود هم اليهود، وقد كررنا ذلك حتى بحت الأصوات، لكن الأمة لا تريد أبداً أن تصدق رب الأرض والسماوات، فمتى وفى اليهود بعهد على طول التاريخ؟! لقد نقض اليهود العهود مع الأنبياء ومع رب الأرض والسماء، وأسأل بمرارة هل ينقض اليهود العهود مع الأنبياء ورب الأرض والسماء ثم يوفي اليهود اليوم بالعهود للحكام والزعماء؟! ها هو رابين قد أعلنها صريحة مدوية: لقد ماتت عملية السلام! وقد قلنا ذلك مراراً قبل ذلك فلم يصدقنا أحد. فحال أمتنا حال عجيبة، وهي لعمر الله بائسة كئيبة يجتاحها الطوفان طوفان المؤامرة الرهيبة ويخطط المتآمرون كي يغرقوها في المصيبة وسيحفرون لها قبوراً ضمن خطبتهم رهيبة قالوا: السلام، قلت: يعود الأهل للأرض السليبة وسيلبس الأقصى غداً أثواباً قشيبة فإذا سلامهم هو التنازل عن القدس الحبيبة فبئس سلامهم إذاً، وبئست هذه الخطط المريبة فالمسجد الأقصى بالدماء له ضريبة قال ربنا الذي خلق اليهود وهو وحده الذي يعلم من خلق: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، وقال جل وعلا: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} [البقرة:100]، وقال جل وعلا: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ} [المائدة:13] أي: على خيانة بعد خيانة، هذا كلام ربنا جل وعلا، ولا أريد أن أقف مع آيات القرآن؛ فالآيات كثيرة. قال جل جلاله: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة:60]، وقال جل وعلا: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78 - 79]. فها هو القرآن يُقرأ ويُتلى في الليل والنهار، ولكن من يطبق كلام العزيز الغفار؟! ومن يطبق كلام النبي المختار صلى الله عليه وسلم؟! اليهود قوم بهت، وقوم خيانة، وهم متخصصون يا مسلمون! في نقض العهود، والله! الذي لا إله غيره لن تجد في إسرائيل وزارة أبرمت عهوداً ووفت بها في تل أبيب أو في غيرها، ولن تجد وزارة أو حزب عمل أو حزب ليكود يحترم عهداً أو ميثاقاً، فهذه جبلة وطبيعة اليهود منذ أول لحظة هاجر فيها المصطفى إلى المدينة، وقام عبد الله بن سلام حبر اليهود الكبير فنظر إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم، فعرف أنه ليس بوجه كذاب، فشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وقال للمصطفى: (يا رسول الله! اليهود قوم بهت، وأهل ظلم ينكرون الحقائق، فاكتم عنهم خبر إسلامي وسلهم عني، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم بطون اليهود وقال لهم: ما تقولون في عبد الله بن سلام؟ قالوا: سيدنا وابن سيدنا، وحبرنا وابن حبرنا، فقام عبد الله بن سلام إلى جوار رسول السلام صلى الله عليه وسلم، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فرد اليهود الكلاب المجرمون على لسان وقلب رجل واحد في حق عبد الله بن سلام، وقالوا: هو سفيهنا وابن سفيهنا، وجاهلنا وابن جاهلنا).

متى يفيق النائمون؟

متى يفيق النائمون؟ طبيعة اليهود منذ اللحظات الأولى لم تتغير، ولن تتغير، فمتى يفيق النائمون؟ هذا هو عنصرنا الثاني من عناصر اللقاء، متى يفيق النائمون؟ متى يفيق النائمون ليعلم الكل علم اليقين أن أمريكا ليست شريكاً نزيهاً في عملية السلام؟ كلا! وألف كلا! فالكفر ملة واحدة الكفر ملة واحدة الكفر ملة واحدة. ولا يمكن أبداً أن تنصر أمريكا قضية من قضايا الأمة، ولا يمكن أبداً لهيئة الأمم أن تنصر قضية من قضايا الأمة، ولا يمكن أبداً أن يتدخل حلف الناتو لينصر الأقلية المستضعفة من العزل المدنيين في فلسطين من أجل سواد عيون الأمة، ولا تخدعوا بتدخل حلف الناتو في كوسوفا؛ لأنهم ما تدخلوا إلا لمصالحهم الاقتصادية والعسكرية والإستراتيجية، وهذا أمر لا ينبغي أن يجهله الآن مسلم أو مسلمة على وجه الأرض. فالكفر لا ينصر توحيداً، والكفر لا ينصر إسلاماً. إنهم يشاهدون على شاشات التلفاز كل ليلة ما يحدث لإخواننا وأخواتنا في فلسطين. لكن أين النظام العالمي؟! أما له أثر؟! ألم تنعق به الأبواق؟! أين السلام العالمي؟ لقد بدا كذب السلام وزاغت الأحداق يا مجلس الخوف! الذي في ظله كسر الأمان وضيع الميثاق أوما يحركك الذي يجري لنا؟! أوما يثيرك جرحنا الدفاق؟! وحشية يقف الخيال أمامها متضائلاً وتمجها الأذواق هذا هو الغرب يا من خدعتم بالغرب! طيلة السنين الماضية، هذا هو الغرب أيها المرجفون! يا من تعزفون على وتر التقديس والتمجيد للغرب في كل المناسبات! قالوا لنا الغرب قلت صناعة وسياحة ومظاهر تغرينا لكنه خاوٍ من الإيمان لا يرعى ضعيفاً أو يسر حزينا الغرب مقبرة المبادئ لم يزل يرمي بسهم المغريات الدينا الغرب مقبرة العدالة كلما رفعت يد أبدى لها السكينا الغرب يكفر بالسلام وإنما بسلامه الموهوم يستهوينا الغرب يحمل خنجراً ورصاصة فعلامَ يحمل قومنا الزيتونا؟! كفر وإسلام فأني يلتقي هذا بذلك أيها اللاهونا؟! أنا لا ألوم الغرب في تخطيطه ولكن ألوم المسلم المفتونا وألوم أمتنا التي رحلت على درب الخضوع ترافق التنينا وألوم فينا نخوة لم تنتفض إلا لتضربنا على أيدينا يا مجلس الخوف شكراً لقد أبديت وجه حضارة غربية لبس القناع سنينا شكراً لقد نبهت غافل قومنا وجعلت شك الواهمين يقينا يا مجلس الأمن انتظر إسلامنا سيريك ميزان الهدى ويرينا إن كنت في شك فسل فرعون عن غرق وسل عن خسفه قارونا متى يفيق النائمون؟ شهداؤنا بين المقابر يهمسون: والله! إنا قادمون والله! إنا عائدون والله! إنا راجعون شهداؤنا خرجوا من الأكفان وانتظموا صفوفاً ثم راحوا يصرخون عار عليكم أيها المستسلمون! وطن يباع وأمة تنساق قطعاناً وأنتم نائمون شهداؤنا قاموا وزاروا المسجد الأقصى وطافوا في رحاب القدس واقتحموا السجون في كل شبر من ثرى الوطن المكبل ينبتون في كل ركن من ربوع الأمة الثكلى أراهم يخرجون شهداؤنا وسط المجازر يهتفون: الله أكبر! إنّا عائدون شهداؤنا يتقدمون أصواتهم تعلو على أسوار فلسطين الحزينة في الشوارع في المفارق يهدرون إني أراهم في الظلام يحاربون رغم انكسار الضوء في الوطن المكبل بالمهانة والمجون شهداؤنا وسط المجازر يهتفون: والله! إنا عائدون، والله! إنا عائدون، والله! إنا عائدون أجسامنا ستضيء يوماً في رحاب القدس، سوف تعود تقتحم الحصون شهداؤنا في كل شبر يصرخون: يا أيها المتنطعون! كيف ارتضيتم أن ينام الذئب في وسط القطيع وتأمنون؟! وطن بعرض الكون يعرض في المزاد، وطغمة الجرذان بالوطن الجريح يتاجرون أحياؤنا الموتى على الشاشات في صخب النهاية يسكرون من أجهض الوطن العريق وكبل الأحلام في كل العيون يا أيها المتشرذمون! والله! إنا قادمون شهداؤنا في كل شبر في البلاد يزمجرون جاءوا صفوفاً يسألون: يا أيها الأحياء! ماذا تفعلون؟ في كل يوم كالقطيع على المذابح تصلبون تتسربون على جناح الليل كالفئران سراً للذئاب تهرولون وأمام أمريكا تقام صلاتكم فتسبحون وتطوف أعينكم بها وفوق ربوعها الخضراء يبكي الساجدون صور على الشاشات جرذان تصافح بعضها والناس من ألم الفجيعة يضحكون تباع أوطان، وتسقط أمة، ورءوسكم تحت النعال وتركنون تسلم القدس العريقة للذئاب ويكثر المتآمرون شهداؤنا في كل شبر يصرخون والقدس تسبح في الدماء وفوقها الطاغوت يهدر في جنون القدس تسألكم: أليس لها حق عليكم؟! أين فر الرافضون؟ أين غاب البائعون؟ أين راح الهاربون، الصامتون الغافلون الكاذبون؟ صمتوا جميعاً والرصاص الآن يخترق العيون وإذا سألت سمعتهم يتصايحون هذا الزمان زمانهم في كل شيء في الورى يتحكمون لا تسرعوا في موكب البيع الرخيص فإنكم في كل شيء خاسرون لن يترك الطوفان شيئاً؛ كلكم في اليم يوماً غارقون تجرون خلف الموت، والنخاس يجري خلفكم، وغداً بأسواق النخاسة تعرضون لن يرحم التاريخ يوماً من يفرط أو يخون كهاننا يترنحون فوق الكراسي هائمون في نشوة السلطان والطغيان راحوا يسكرون وشعوبنا ارتاحت ونامت في غيابات السجون نام الجميع وكلهم يتثاءبون فمتى يفيق النائمون؟!! متى يفيق النائمون؟ متى يفيق النائمون؟ ومتى تعلم الأمة قول ربها: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]؟ ومتى ستسمع الأمة لقول ربها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران:118]؟ ومتى ستتدبر الأمة قول ربها: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة:82]؟ ومتى ستسمع الأمة عن ربها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة:1]؟

مقومات النصر

مقومات النصر الكفر ملة واحدة، فمتى سترجع الأمة إلى ربها سبحانه وتعالى لتحقق منهج الله في الأرض، ولتكون أهلاً لنصرة الله؟! فالأمة تملك مقومات النصر، وهذا هو عنصرنا الثالث من عناصر اللقاء، وأعظم مقوم تملكه أمة التوحيد هو: عقيدة (لا إله إلا الله)، لقد صرخ أبطالنا المصريون في حرب العاشر من رمضان بلفظة التوحيد: الله أكبر، لا إله إلا الله، فرأينا أسطورة العدو الذي لا يقهر تتهاوى إلى ركام في ركام في ساعات قليلة. فمتى عرفت الأمة ربها، ورددت كلمة لا إله إلا الله، وكبر في قلبها وعظم في صدرها جلال الله، وقالت: الله أكبر؛ نصرها ربها تبارك وتعالى، كما قال عز وجل: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران:126]. فالعقيدة هي التي حولت سحرة فرعون إلى موحدين في التو واللحظة، واسترخصوا واستعذبوا كل بلاء، إنها العقيدة التي تملأ القلوب بالثقة في رب الأرض والسماء، والعقيدة تجعل كل فرد في الأمة ينظر إلى أمم الكفر على أنها هباء، وأنا لا أقول ما لا أعرف، بل أنا أعلم يقيناً حجم قوة أعدائنا، وأعلم يقيناً أن أمريكا من وراء اليهود، فإسرائيل غدة سرطانية في قلب العالم الإسلامي غرسها أعداء الإسلام، وغرستها أمم الكفر في قلب الوطن العربي. وإن شئت فقل: إسرائيل حاملة طائرات ودبابات وصواريخ، يسكن على ظهرها ما يزيد عن خمسة مليون هم لأمريكا بمثابة اليد الطولى، فهي قريبة من روسيا من ناحية، ومن أوربا من ناحية، وفي قلب العالم الإسلامي من ناحية ثالثة، وقريبة من آبار النفط والموارد المعدنية من ناحية رابعة. ومن ناحية خامسة فهي تشكل عمقاً استراتيجياً يمتد عبر ثلاث قارات، فهذه الدولة لا يمكن لأمريكا أن تتخلى عنها أبداً؛ لأنها تمثل اليد الطولى لأمريكا في المنطقة وفي قلب العالم الإسلامي والعربي، ومن ثمَّ فستظل أمريكا وراء اليهود حتى تفيق الأمة وترجع من جديد إلى العزيز الحميد؛ لتأخذ بما تملك من أسباب ومقومات النصر، وهي كثيرة. أقسم بالله إن الأمة الآن قادرة على أن تجعل أمريكا في الغد تركع، يا إخوة! أنا أعي ما أقول تماماً، أقول: يكون ذلك بالعقيدة وبكلمة سواء يتخذها قادة العرب برجولة وصدق وقوة؛ فلم يعد هناك مجال للخلافات والنزاعات والتشرذم والتهاون، ولم يعد هناك وقت للضياع، فلو اتخذوها وأعلنوها لله تبارك وتعالى لتغيرت الموازين. ولو اتخذت الأمة الآن قراراً بإسقاط التعامل بالدولار الأمريكي -لا أقول: في الاقتصاد ككل بل في مبيعات البترول فقط- والله! لانهارت أمريكا في التو واللحظة، فبمجرد هذه الأزمة ارتفعت أسعار البترول في البورصة العالمية، فهددت هذه الأسعار أمريكا اقتصادياً؛ حتى اضطرت أمريكا أن تعلن أنها ستسحب من احتياطياتها من البترول، والآن ارتفعت أسعار البترول مرة أخرى لهذا الوضع الحرج. تستطيع الأمة بقرار -كما استطاعت في حرب العاشر من رمضان بقرار البترول- أن تغير الدفة، وأن تغير الموازين، فالأمة تستطيع أن تفعل شيئاً كبيراً جداً؛ لأنها تملك العدد، وتملك العتاد، وتملك العمق الاستراتيجي، وتملك العقول الموهوبة التي لا تقل أبداً عن عقول الغرب، بل إن عقول أبناء الأمة في الغرب تبدع، وليست فقيرة، وليست جاهلة، وليست ضعيفة، لكنها مهزومة نفسياً، والمهزوم النفسي مشلول الفكر والحركة. فلتصحح الأمة عقيدتها بالله جل وعلا، فتلك العقيدة هي التي ستخرج الأمة من هذا المستنقع، ومن الهزيمة النفسية القاتلة. تلك العقيدة هي التي جعلت أصحاب المصطفى صلى الله عليه وسلم يتحولون من رعاة للإبل والغنم إلى سادة وقادة لجميع الدول والأمم. تلك العقيدة هي التي انطلقوا بها فدمدموا العالم القديم بصولجانه وجبروته، واستطاعوا بهذه العقيدة الصحيحة الصافية أن يقيموا للإسلام دولة من فتات متناثر في وسط صحراء تموج بالكفر موجاً فإذا هي بناء شامخ عظيم لا يطاوله بناء. تلك العقيدة هي التي جعلت طلحة بن عبيد الله يرمي بين يدي المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو يحمي رسول الله بصدره وهو يقول: (نحري دون نحرك يا رسول الله!). تلك العقيدة جعلت عمير بن الحمام يسمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض فيقول عمير: بخ بخ! جنة عرضها السماوات والأرض، فيقول له المصطفى: يا عمير! ما حملك على قول: بخ بخ؟ فيقول عمير: لا يا رسول الله! إلا أني رجوت أن أكون من أهلها، فقال المصطفى: أنت من أهلها) فأخرج تمرات يأكلهن ليتقوى بهن على القتال، وبينما هو يأكل تذكر الجنة وتذكر الموت في سبيل الله فقال لنفسه: ما بيني وبين الجنة إلا أن آكل هذه التمرات، وأنطلق في الصفوف لأقاتل فأقتل، والله! لأن حييت حتى آكل هذه التمرات إنها لحياة طويلة، فألقى التمرات على الأرض، واندفع في صفوف القتال صادقاً مع الله ليصدقه الله عز وجل. العقيدة هي التي جعلت الصحابة رضوان الله عليهم يبذلون الغالي والنفيس في نصرة دين الله. العقيدة هي التي ستحرك القلوب والجوارح للجهاد في سبيل الله، فأنا أدين لله تبارك وتعالى أن طريق النصر آتٍ بتصحيح العقيدة ورفع راية الجهاد في سبيل الله، والله الذي لا إله غيره! لو أعلن الجهاد الآن وقيل: حي على الجهاد! من قبل أي حاكم من حكام العرب والمسلمين، والله! لخرج ملايين الشباب، بل والشيوخ، بل والنساء، بل والله! لخرج صبياننا وأطفالنا، والله! لخرجوا بغير سلاح ليصد أحدهم بصدره فوهات مدافع اليهود، ليرزقه الله الشهادة في سبيله، وليعلم أنجس أهل الأرض أن محمداً ما مات، وما خلف بنات، بل خلف أطهاراً أبراراً تحترق قلوبهم شوقاً للشهادة في سبيل الله. والله الذي لا إله غيره! لم يعد لهذه القضية إلا الجهاد، فليفطن إليها الحكام والزعماء، وليعلم اليهود أن الشباب المسلم التقي النقي، وهذه الأمة التي قد مرضت واعترتها فترات من الركود الطويل أنها ما ماتت، ولن تموت بموعود الله، وبموعود الصادق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصدق المصطفى إذ يقول كما في مسند أحمد بسند صحيح من حديث ابن عمر: (إذا تبايعتم بالعينة، ورضيتم بالزرع، واتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد في سبيل الله؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم)، وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن في الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، أعدها الله للمجاهدين في سبيله)، وفي صحيح مسلم من حديث أبي سعيد أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً دخل الجنة، فقال أبو سعيد: أعدها عليَّ يا رسول الله! فأعادها عليه، ثم قال: ألا وإن في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، أعدها الله للمجاهدين في سبيله). فأمريكا، وهيئة الأمم، وحلف الأطلنطي، ومجلس الأمن؛ كل هذه الهيئات والمنظمات لا تريد أبداً للقضية أن تصبغ بالصبغة الإسلامية، لا تريد أبداً للقضية أن تخرج عن إطار القومية والوطنية والعروبة، فهم يعلمون أن القضية لو صبغت بالصبغة الإسلامية، ورفعت راية الجهاد لتحولت الموازين. فاليهود يحاربوننا عن عقيدة، وقد أعلنها بن غوريون أول رئيس وزراء إسرائيل، في هيئة الأمم بعدما اعترفت الدول العظماء بإسرائيل فقال بالحرف: قد لا يكون لنا الحق في فلسطين من منظور سياسي أو قانوني، ولكن فلسطين حق لنا من منظور ديني، فهي أرض المعاد التي وعدنا الله إياها من النيل إلى الفرات، ثم قال: لا معنى لفلسطين بدون القدس، ولا معنى للقدس بدون الهيكل، ولا معنى لقيام دولة إسرائيل على غير أرض المعاد! وترجم هذه العقيدة كل رؤساء وزرائهم، بدأ من بن غوريون إلى باراك، ولقد أصدر نتنياهو أربعة عشر قراراً استيطانياً في فترة حكمه، وكان من آخرها القرار الذي صدر بالاستيطان في منطقة جبل أبو غنيم ليؤكد بذلك التطوق السكاني اليهودي في القدس الشرقية، وقد صرح مراراً أنه لا مجال لأي مفاوضات لتقسيم القدس، فالقدس بشطريها عاصمة أبدية لإسرائيل! فهم على عقيدة، ولاحل إطلاقاً مهما جلسوا للمؤتمرات واتخذوا القرارات إلا إذا صححت الأمة عقيدتها، ورفعت راية الجهاد في سبيل الله؛ فلم يعد هناك وقت للتنظير ولا للكلام، وليرى الحكام من هذه الأمة ما تقر به عيونهم إن صححوا العقيدة ورفعوا راية الجهاد في سبيل الله. هذا ما أدين به لربي في هذا الظرف الحرج، وأسأل الله جل وعلا أن يهزم اليهود، وأن يخلص إخواننا المستضعفين العزل من شرهم وكيدهم، وأن يحرك قلوب حكام العرب لما يحبه ويرضاه؛ إنه ولي ذلك ومولاه. وأقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

هزيمة اليهود وعد إلهي

هزيمة اليهود وعد إلهي الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: وأخيراً: أيها الأحبة! سيهزم اليهود، لا أقول ذلك رجماً بالغيب، ولا من ضغط الواقع المرير، ولا من باب الأحلام الوردية الجاهلة، ولا من باب الجهل بالواقع الذي تعيشه أمتنا ونحياه الآن بكل مآسيه، كلا! وإنما أقول ذلك من منطلق الحقائق الربانية والنبوية، فهو كلام ربنا، وكلام نبينا الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، وتدبروا معي هذه الآية التي قرأتموها جميعاً، وسمعتموها جميعاً، لكن قل من انتبه إليها، ووقف معها ليتدبرها، ألا وهي قول الله في سورة آل عمران في حق اليهود: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} [آل عمران:111]، وقال سبحانه: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر:14]، فهذا هو كلام الخالق الذي يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير. قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [الأعراف:167]، وقال جل وعلا: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} [الإسراء:104]، وهاهم اليهود يأتون ألفافاً من كل بقاع الأرض ليتحقق وعد الله في آية الإسراء الأولى، {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا * إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} [الإسراء:4 - 7]، اللهم عجل بهذه البشارة. تدبر معي الآيات! لتقف على هذه البشارة العظيمة، فالحق وإن انزوى كأنه مغلوب فإنه ظاهر، والباطل وإن انتفش كأنه غالب فإنه زاهق، كما قال عز وجل: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81]، وقال عز وجل: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء:18]. تدبر معي قول رب العالمين: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا} [الإسراء:4 - 5]، أي: جاء وقت المرة الأولى لتدمير ما شيد اليهود {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا} [الإسراء:5]، أي: بعث الله على اليهود عباداً له ليسوموا اليهود سوء العذاب، وقد اختلف المفسرون في تفسيرها، فقد قرأت ما يزيد على عشرين تفسيراً لهذه الآيات فوجدت أن جل المفسرين قد فسروا هذه الآيات بأن الذي سُلط على اليهود هم البابليون أو الرومان أو نبوخذ نصر فتدبرت الآيات مراراً وتكراراً، فوجدت بعض أهل العلم من المحققين قالوا: إن الله تبارك وتعالى يقول: {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا} [الإسراء:5]، والعبودية لا تكون أبداً إلا للموحدين، كما قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ} [الفرقان:63]، وقال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر:42]، وقال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1]، وقال تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [الجن:19]، وقال تعالى: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة:23]. إذاً: العبودية إن نسبت لله تعالى وكانت خالصة له فهي عبودية المؤمنين الصادقين؛ والبابليون وثنيون، والرومانيون وثنيون، وبختنصر وثني ليس بمسلم، فكيف يقال: إن هؤلاء تنطبق عليهم الآية؟! إذاً: من هم عباد الله الذين سلطهم الله على اليهود أول مرة؟ إنهم أصحاب المصطفى صلى الله عليه وسلم، فهم الذين طردوا اليهود من بني النضير، ومن بني قينقاع، ومن خيبر، ومن بني قريظة، وأخرجوهم من المدينة، ثم الصحابة هم الذين دخلوا المسجد أول مرة بقيادة أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه يوم ذهب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب من المدينة ليستلم مفاتيح بيت المقدس بيده، وليكتب لأهل بيت المقدس من أهل إيلياء العهدة العمرية المشهورة، وقد تحدثت عنها بالتفصيل في موضع آخر. إذاً: أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هم عباد الله الذين دخلوا المسجد أول مرة، وتدبر معي قول الله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ} [الإسراء:5 - 6]، أي: على هؤلاء العباد الذين انتصروا عليكم، وها نحن نرى الكرة قد أعيدت لليهود علينا، أي: على أبناء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الموحدين والمؤمنين، {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ} [الإسراء:6]، أي: أمد الله اليهود بأموال، وها نحن نرى ذلك {وَبَنِينَ} [الإسراء:6]، وها نحن نرى أبناء اليهود من كل بقاع الأرض يجتمعون، {وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} [الإسراء:6]، والنفير نفير الحرب، وها أنتم ترون اليهود يمتلكون الآن مائتي قنبلة نووية، وتمد أمريكا اليهود بالسلاح. ثم قال لهم ربهم سبحانه: {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ} [الإسراء:7]، أي: المرة الثانية والأخيرة، {لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ} [الإسراء:7]، أي: ليسوءوا وجوهكم، والفاعل عباد الله من الموحدين والمؤمنين، {وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء:7]، اللهم عجل بهذه المرة يا أرحم الرحمين، {وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} [الإسراء:7].

إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بهزيمة اليهود

إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بهزيمة اليهود ثبت عن نبينا الصادق الذي لا ينطق عن الهوى في مسند أحمد وغيره بسند صحيح: أنه (وضع يوماً يده على رأس أبي حوالة الأسدي رضي الله عنه، ثم قال النبي لـ أبي حوالة: يا أبا حوالة! إذا رأيت الخلافة قد نزلت الأرض المقدسة إذا رأيت الخلافة قد نزلت الأرض المقدسة فقد دنت الزلازل والبلايا والأمور العظام، والساعة يومئذ أقرب إلى الناس من يدي هذه من رأسك) وأنا أسأل وأقول: هل تنزل الخلافة الأرض المقدسة والقدس عاصمة أبدية للصهاينة؟ وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون) وهذا وعد الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، وأنا أرى فيما أراه الآن من حرب بكل معنى الكلمة من اليهود للعزل والمدنيين في فلسطين، أرى أن في هذه الحرب خيراً كثيراً، ولا أراها خيراً في ذاتها، بل أراها -إن شاء الله تعالى- القشة التي ستقصم ظهر البعير. فإنا لم نر منذ الاحتلال إلى يومنا هذا مثل هذه الحرقة على القدس وعلى فلسطين بين أبناء الشارع الإسلامي والعربي في كل مكان، بل بين المسلمين في العالم أجمع كما رأينا في هذه الأيام، أرى أن الشعوب بدأت تضغط على حكامها ولو بصورة خفيفة، لكنها بداية أرجو من الله أن يجعل منها النهاية لليهود؛ إنه على كل شيء قدير، فأنا اعتقد اعتقاداً جازماً أنه لا يوجد شر محض أبداً، بل الشر يحمل في ثناياه ما لا نعرفه من الخير، قال تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216]. فلتقدم الأمة من أجل القدس خمسة ملايين أو عشرة ملايين شهيداً، ورب الكعبة! إننا لمستعدون الآن أن نخرج بدون سلاح، وما أحلاها من كلمات تلك الكلمات التي يرسلها إمام من أئمة المجاهدين العلماء لعابد من الزهاد العباد! إنها كلمات عبد الله بن المبارك لأخيه عابد الحرمين الفضيل بن عياض يرسل بها ابن المبارك من ساحة الوغى وميدان البطولة والشرف لأخيه في مكة ليقول له: يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك في العبادة تلعب من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب أو كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الكريهة تتعب ريح العبير لكم ونحن عبيرنا رهج السنابك والغبار الأطيب ولقد أتانا من مقال نبينا قول صحيح صادق لا يكذب لا يلتقي غبار خيل الله في أنف امرئ ودخان نار تلهب فليمت من إخواننا من يقدر الله له هذا الشرف، وأسأل الله أن يتقبلهم جميعاً في الشهداء؛ فإما عيش بكرامة وإما شهادة في سبيل الله، فالكل سيموت، وإن تعددت الأسباب فالموت واحد، فما أحوج الأمة الآن إلى أن تعي واجبها في هذا الظرف الحرج! أيها المسلم! لا تنس إخوانك من الدعاء، وذلك أضعف الإيمان، وبالمال إن استطعت، ثم رب نفسك وولدك على روح الجهاد، إن المعركة قادمة، إي وربي! إن المعركة مع اليهود قادمة، فهيئ نفسك، ورب ولدك، ورب امرأتك، ورب بناتك، ورب أولادك. أتعجب حينما رأى بعض الناس معاوية بن أبي سفيان وهو طفل صغير يلعب، ورأوا عليه ملامح الذكاء، وأمه تنظر إليه بإعجاب، فقال الحاضرون: لو شب معاوية سيسود قومه، فقالت أمه: ثكلته إن لم يسد إلا قومه. تريد أن يسود العالم كله، تريد أن يسود الدنيا كلها، فلماذا لا نربي أولادنا وأنفسنا على هذه العقيدة؟ ولنبذل أقصى ما في وسعنا، فالله يعلم قدراتنا وإمكانيتنا، ويعلم ضعفنا وواقعنا، ووالله! لو سأل الله أحدنا الشهادة بصدق لبلغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه، قال المصطفى صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: (من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه). وأخيراً: يا راحلين إلى البيت العتيق لقد سرتم جسوماً وسرنا نحن أرواحاً إنا أقمنا على عذر وعن قدر ومن أقام على عذر فقد راح اللهم انصر المجاهدين في فلسطين، اللهم إنك قلت لنبيك: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17]، اللهم ارم عنهم يا رب العالمين! اللهم إنهم مغلوبون فانتصر. اللهم عليك باليهود، اللهم عليك بأمريكا، اللهم عليك باليهود وأعوان اليهود، اللهم عليك بالخونة يا غفور! يا ودود! اللهم إنا نشكو إليك خيانة الخائنين، اللهم ارفع الظلم عن المظلومين، اللهم اكتب النصر للمستضعفين، يا من هزمت الأحزاب وحدك! اهزم اليهود المغتصبين. اللهم رد الأمة إليك رداً جميلاً، اللهم انزع الخوف من قلوبنا، وانزع الجبن من صدورنا، وانزع الهزيمة من بيننا، اللهم ألف بين القلوب، ووحد بين الصفوف، اللهم وفق قادة العرب للعودة لدينك، اللهم اقذف في قلوبهم ما يرضيك، اللهم حول قلوبهم إلى ما يرضيك. اللهم انصر الإسلام، وأعز المسلمين، وأعل بفضلك كلمة الحق والدين، اللهم أيد إخواننا في الشيشان وفي الفلبين، وفي كشمير وفي فلسطين، وفي كل مكان يا أرحم الراحمين! اللهم وفق مصر لتقوم بدورها، اللهم اجعل مصر واحة للأمن والأمان، اللهم احم مصر من الفتن ما ظهر منها وما بطن برحمتك يا رب العالمين! وجميع بلاد المسلمين. اللهم لا تدع لأحد منا في هذا الجمع الكريم ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا ميتاً لنا إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا طائعاً إلا زدته وسددته، ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا رب العالمين! اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا شقياً ولا محروماً. اللهم احفظنا بالإسلام قائمين، واحفظنا بالإسلام نائمين، واحفظنا بالإسلام في كل وقت وحين. اللهم إن أردت بالناس فتنة فاقبضنا إليك غير خزايا ولا مفتونين ولا مفرطين ولا مضيعين، ولا مغيرين ولا مبدلين. اللهم اكفنا شر الظالمين، اللهم اكفنا شر المجرمين. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. والحمد لله رب العالمين.

حق القرآن وسبيل العزة

حق القرآن وسبيل العزة القرآن الكريم كلام الله المنزل من عنده سبحانه، وهو معجز في آياته وأحكامه، وهو سبيل عز هذه الأمة، ولما عمل به السلف وترجموه إلى واقع عملي، نصرهم الله، ومكن لهم في الأرض، وفتحوا الدنيا شرقاً وغرباً. وفي المقابل: لما تركه الخلف وراحوا يتلمسون العزة في غيره أذلهم الله، والواقع خير شاهد على هذا، فإذا أرادت الأمة العزة والنصر فعليها أن تراجع كتاب ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم فإنهما مصدر العز.

داء الانفصام النكد بين المنهج المنير والواقع المرير

داء الانفصام النكد بين المنهج المنير والواقع المرير الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة الأخيار، وأيتها الأخوات الفاضلات، وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله جل وعلا الذي جمعني مع حضراتكم في هذا البيت المبارك على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة في جنته ودار مقامته، إنه ولي ذلك ومولاه. أحبتي في الله! حقوق يجب أن تعرف، سلسلة منهجية تحدد الدواء من القرآن والسنة لهذا الداء العضال الكبير الذي استشرى في جسد الأمة، ألا وهو داء الانفصام النكد بين المنهج المنير والواقع المؤلم المرير، فأنا لا أعرف زماناً قد انحرفت فيه الأمة عن منهج ربها ونبيها صلى الله عليه وسلم، وضيعت فيه حقوق الإسلام كهذا الزمان، فأردت أن أذكر نفسي وأمتي من جديد بهذه الحقوق الكبيرة التي ضاعت، عسى أن تسمع الأمة مرة أخرى عن الله ورسوله، وأن تردد مع السابقين الصادقين الأولين قولتهم الخالدة: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285]. ونحن اليوم بحول الله وطوله على موعد مع اللقاء المتمم للثلاثين من لقاءات هذه السلسلة الكبيرة، والحقوق الجليلة، ونحن اليوم على موعد مع حق جليل جليل جليل، كبير كبير عظيم عظيم، ولم لا؟! وهو حق القرآن الكريم. وكعادتي حتى لا ينسحب بساط الوقت سريعاً من تحت أقدامنا، فسوف أركز الحديث مع حضراتكم تركيزاً شديداً في هذا الموضوع الجليل في المحاور التالية: أولاً: مصدرية القرآن دليل على إعجازه. ثانياً: كيف جمع القرآن ووصل إلينا؟ ثالثاً: حق القرآن. فأعيروني القلوب والأسماع بل والكيان كله، فإن الموضوع من الجلال والأهمية والخطورة بمكان، والله أسأل أن يرد الأمة رداً جميلاً إلى القرآن والسنة، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

مصدرية القرآن دليل على إعجازه

مصدرية القرآن دليل على إعجازه أحبتي في الله! القرآن كلام الله جل وعلا، وهذا أعظم دليل على إعجاز القرآن، فمصدرية القرآن دليل على إعجازه، فهو كلام الله الذي فضله على كل كلام كفضل الله على سائر الخلق. القرآن هو كلام الله الذي تحدى الله به البشرية عامة، وتحدى به المشركين المنكرين خاصة، ومازال التحدي قائماً إلى يوم القيامة قال تعالى: {قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء:88]، فلما عجزوا عن الإتيان بقرآن مثله خفف الله جل وعلا التحدي، فتحداهم أن يأتوا بعشر سور فقال الله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود:13] , فعجزوا. فخفف الله التحدي إلى أقل درجاته، فتحداهم أن يأتوا بسورة واحدة من مثل سور القرآن الجليل فعجزوا، قال تعالى: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:23 - 24]. أيها الأفاضل! كلام الله جل جلاله لو أنزله على جبل لتصدع الجبل من خشية الملك الجليل، قال سبحانه: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر:21] , فالقرآن تخشع وتتصدع له الجبال، ولا تتحرك له القلوب الغافلة! لذا قال عثمان رضي الله عنه: (والله لو طهرت قلوبنا ما شبعنا من كلام ربنا). تصور أن المشركين في مكة كانوا يخافون على أنفسهم من سماع القرآن! تصور معي مرة أخرى أن المشركين أنفسهم كانوا يخشون على أنفسهم من سماع القرآن، لماذا؟! لأن القرآن كان يصدع الكفر والكبر في قلوبهم، بل في السنة الخامسة من البعثة النبوية المطهرة انطلق النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت الله الحرام ليصلي لله جل وعلا على مرأى ومسمع من صناديد الشرك والكفر، وكانوا يكرهون ذلك، حتى قال اللعين أبو جهل: أيعفر محمد وجهه وهو بين أظهرنا! يعني: أيسجد محمد لربه على مرأى ومسمع منا عند الكعبة؟! قال: واللات والعزى لئن أتى محمد ليصلي لأطأن عنقه، أي: لأضعن رجلي أو حذائي على عنقه وهو ساجد بين يدي ربه، فجاء الحبيب صلى الله عليه وسلم ودخل المسجد الحرام ووقف يصلي لله تعالى، فلما سجد انطلق اللعين أبو جهل وهو يزعم أنه سيطأ بقدمه في عنق النبي وهو ساجد، فلما اقترب من رسول الله عاد إلى الخلف وهو يجري ويدفع بيديه، وكأنه يرد عن وجهه شيئاً، فلما اقترب من المشركين قالوا: ماذا يا أبا الحكم؟! لماذا رجعت؟! لماذا جريت بهذه الصورة المزرية؟! فقال أبو جهل: إن بيني وبين محمد لخندقاً من نار، ووالله إني لأرى أجنحة. فلما انتهى النبي من صلاته قال قولته الجميلة: (والذي نفس محمد بيده! لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضواً عضواً). الشاهد: دخل النبي صلى الله عليه وسلم كعادته يوماً ليصلي لله جل جلاله، والمشركون ينظرون إليه بتغيظ شديد، ورفع الحبيب صوته بالتلاوة فقرأ سورة النجم كاملة، وأرجو أن تتصور حلاوة وجلالة القرآن وهو يخرج من فم الحبيب، الرسول هو الذي يتلو، فليست التلاوة الآن لبشر عادي، والمشركون يسمعون القرآن من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرأ النبي السورة كاملة، وقرأ في أواخر السورة آيات جليلة تهتز لها الحجارة، وتخشع لها الجبال والقلوب: {أَزِفَتْ الآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ * أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} [النجم:57 - 61] , أي: تغنون وترقصون وتطبلون وتزمرون، {وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ * فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم:61 - 62] , وخر النبي ساجداً لربه، فلم يتمالك أحد من المشركين نفسه فخر ساجداً لله خلف رسول الله! هل تتصورون هذا أيها الأفاضل؟! الحديث رواه الإمام البخاري في كتاب سجود التلاوة مختصراً من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: سجد النبي صلى الله عليه وسلم بالنجم -أي: بسورة النجم- وسجد معه المسلمون والمشركون والجن الإنس. نعم والجن. {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً} [الجن:1] , الجن هم الذين يتحدثون عن القرآن: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً} [الجن:1 - 2] , سجد النبي وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس، وهذا هو السر -يا طلبة العلم- الذي جعل المهاجرين الأول الذين هاجروا من مكة فراراً من بطش المشركين إلى الحبشة؛ هذا هو السر الذي جعلهم يرجعون من الحبشة بعد هجرتهم الأولى لما بلغهم أن المشركين سجدوا خلف رسول الله، فظنوا أنهم قد آمنوا بالله جل وعلا، فعادوا إلى مكة، لكنهم لما رفعوا رءوسهم أنكروا جميعاً ما فعلوه وما صنعوه! لكنه القرآن الذي صدع عناد الكفر والكبر في قلوبهم فسجدوا جميعاً لله من جلال القرآن وروعته وعظمته. نعم أيها الأفاضل! والوليد بن المغيرة والد فارس الإسلام وسيف الله المسلول خالد بن الوليد كان متعنتاً متكبراً منكراً، فلما ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليعرض عليه الملك والجاه والمال والسلطان حتى يرجع إلى دين آبائه وأجداده؛ قرأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم آيات جليلة من القرآن الكريم، فقال الوليد كلماته الخالدة في حق القرآن -والحق ما شهدت به الأعداء- قال الوليد: والله! إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه. هذه شهادة كافر عنيد للقرآن، فلما قال هذه الكلمات للمشركين قالوا: صبأ والله الوليد، إذاً لتصبأنّ قريش كلها، فعاد حتى لا تضيع زعامته في القوم، ففكر وقدر الأمر من جميع جوانبه، ثم عاد ليعلن شهادته الظالمة في حق النبي صلى الله عليه وسلم كما قال ربنا جل وعلا في شأن الوليد: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً * وَبَنِينَ شُهُوداً * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلاَّ ً} [المدثر:11 - 16] , لماذا؟ تدبر القرآن، {إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيداً * سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ} [المدثر:16 - 28] إلى آخر الآيات.

كيف وصل إلينا القرآن؟

كيف وصل إلينا القرآن؟

المرحلة الأولى

المرحلة الأولى عنصرنا الثاني: كيف جمع القرآن؟ وكيف وصل إلينا المصحف الإمام؟ والجواب باختصار سريع: المرحلة الأولى من مراحل جمع القرآن كانت على عهد الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهي المرحلة التي جمع القرآن فيها في صدر النبي وفي صدور الصحابة، فقد من الله عليهم بملكة حفظ جليلة، حفظ النبي القرآن وانتقل القرآن من صدر النبي إلى صدور الصحابة رضوان الله عليهم جميعاً، بل كان النبي صلى الله عليه وسلم من شدة حرصه على القرآن يتعجل بالتلاوة خلف أمين وحي السماء فنزل قول الله جل وعلا: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ} [القيامة:16 - 17] , أي: في صدرك {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ} [القيامة:17 - 18] , أي: قرأه جبريل عليه السلام، أو قرأناه على لسان جبريل، {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:18 - 19]، سيبينه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم. فجمع القرآن في صدر النبي، واتخذ النبي مجموعة من كتاب الوحي كـ زيد بن ثابت رضي الله عنه الذي سماه الإمام البخاري بكاتب النبي، وكـ أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود وغيرهم رضوان الله عليهم، فكان النبي إذا نزل عليه جبريل بالآية أمر كتاب الوحي فنسخوها في الجلود والعسب واللخاف وهي نوع من أنواع الحجارة الرقيقة كان يكتب عليها, والعسب جمع عسيب، وهو جريد النخل، كانوا يكتبون عليه أيضاً، فكان يأمر النبي صلى الله عليه وسلم كتبة الوحي بكتابة الآيات كما يمليها عليهم رسول الله عليه الصلاة والسلام، وظل القرآن مكتوباً في هذه المرحلة في الجلود والعسب، أي: في جريد النخل، ومكتوباً على الحجارة، وفي صدور الرجال إلى أن مات سيد الرجال صلى الله عليه وسلم.

المرحلة الثانية

المرحلة الثانية المرحلة الثانية: كانت في عهد أبي بكر رضي الله عنه، لما وقعت معركة اليمامة بين مسيلمة الكذاب وبين الصحابة قتل في هذه المعركة عدد هائل من الصحابة الذين كانوا يحفظون القرآن في صدورهم، فجاء الملهم عمر رضوان الله عليه إلى الصديق أبي بكر، وقال عمر للصديق: يا أبا بكر! يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم! اجمع القرآن في صحف، فقال الصديق الذي كان مثالاً في الإخلاص والاتباع: كيف أفعل شيئاً لم يفعله رسول الله؟ لا. فقال عمر: هذا والله خير -والحديث في صحيح البخاري - قال الصديق: فما زال عمر يراجعني، أي: بجمع القرآن في الصحف، حتى شرح الله صدري لقول عمر، فأرسل إلى زيد بن ثابت رضوان الله عليه، فقال الصديق لـ زيد: يا زيد! إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك. انظروا يا شباب الإسلام إلى شباب الصحابة، فـ زيد بن ثابت كان شاباً في ريعان شبابه، واختاره النبي كاتباً من كتاب الوحي، بل سماه البخاري كاتب النبي، يا لها من كرامة! (إنك شاب عاقل لا نتهمك، فتتبع القرآن فاجمعه). قال زيد: (والله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن) انظروا إلى أصحاب الهمم العالية الذين يقدرون المسئوليات الضخام الجسام، قال: والله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن، قال: فتتبعت القرآن فجمعته من اللخاف، أي: من الحجارة الرقيقة، والعسب، أي: جريد النخل، وصدور الرجال، وجمع القرآن في صحف ضخمة عديدة، وانتقلت هذه الصحف إلى بيت الصديق رضي الله عنه، فلما توفي أبو بكر انتقلت الصحف إلى بيت عمر رضي الله عنه، فلما توفي عمر رضوان الله عليه انتقلت الصحف إلى بيت أم المؤمنين حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم.

المرحلة الثالثة

المرحلة الثالثة المرحلة الثالثة: وهي الكبيرة والخطيرة، وكانت في عهد عثمان رضي الله عنه، ففي صحيح البخاري أن حذيفة بن اليمان عاد إلى عثمان رضي الله عنه بعد غزوة أرمينية مع أهل الشام، وبعد غزوة أذربيجان مع أهل العراق، فدخل حذيفة على عثمان فزعاً وهو يقول: يا أمير المؤمنين! أدرك الأمة قبل أن تختلف في كتاب ربها كما اختلف اليهود والنصارى! قال عثمان: وما ذاك؟ رأى حذيفة أهل الشام يقرءون القرآن بقراءة أبي بن كعب، ورأى أهل العراق يقرءون القرآن بقراءة عبد الله بن مسعود، فكان أهل الشام يسمعون قراءة من أهل العراق لم يسمعوها من قبل، وكان أهل العراق يسمعون قراءة من أهل الشام لم يسمعوها من قبل، فاختلفوا اختلافاً شديداً حتى كفر بعضهم بعضاً! فجاء حذيفة فزعاً وقال: أدرك الأمة قبل أن تختلف في كتاب ربها كما اختلف اليهود والنصارى، مع أن الله عز وجل من رحمته وتيسيره على الخلق قد أنزل القرآن على سبعة أحرف كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقرأ القرآن على سبعة أحرف) , لا حرج أن تقرأ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6] , وفي قراءة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فتثبتوا) , والقراءتان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكانت بعض القبائل لا تستطيع أن تنطق حروفاً محددة، كانوا ينطقون مثلاً حرف الحاء عيناً، فيقولون في (حتى حين): عتى عين، فنزل القرآن ميسراً على سبعة أحرف قرأها النبي صلى الله عليه وسلم، فلما سمع أهل الشام قراءة ما سمعوها من أبي وسمع أهل العراق قراءة ما سمعوها من ابن مسعود رضي الله عنهم جميعاً؛ اختلفوا، فأرسل عثمان بن عفان رضوان الله عليه إلى حفصة أم المؤمنين: أن أرسلي إلينا بالصحف -أي: التي جمعت في عهد الصديق رضي الله عنه- لننسخها في نسخة واحدة، فأرسلت حفصة الصحف إلى عثمان، فأرسل عثمان إلى كاتب النبي زيد بن ثابت رضي الله عنه وإلى مجموعة من أصحاب رسول الله، وأمرهم أن ينسخوا الصحف في مصحف واحد، ونسخوا مجموعة كثيرة من هذا المصحف الواحد. وأرسل عثمان إلى كل مصر -أي: إلى كل بلد من البلدان- بمصحف واحد إمام، وأمر ببقية الصحف غير هذا المصحف الإمام أن تحرق، وبذلك جمع عثمان رضوان الله عليه الأمة كلها على مصحف واحد قرأ به كله نبينا صلى الله عليه وسلم، وهذا هو المصحف الذي تجدونه بين أيديكم الآن وهو يسمى: بالمصحف الإمام، أي: المصحف الذي جمعه عثمان رضي الله عنه من الصحف كلها، فلقد قال للصحابة: إن اختلفتم مع زيد فاكتبوا بلسان قريش فإنه قد نزل بلسانهم، أي: بالقراءة التي حفظها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من قريش. وبهذا -أيها الأفاضل- حفظ الله القرآن الكريم فلم تتغير منه آية ولم تبدل منه كلمة ولم يحذف منه حرف، فما تولى الله حفظه لا يضيعه أحد: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].

حق القرآن

حق القرآن بيت القصيد، وهو العنصر الثالث والمهم من عناصر اللقاء، ما هو حق القرآن؟ لكن ولابد من هذه المقدمة الموجزة لنقف جميعاً على هذه الكلمات الجليلة التي قدمت. ما حق القرآن؟ هل أنزل الله القرآن ليقرأ على الأموات في القبور؟! هل أنزل الله القرآن ليحلي به النساء صدورهن في مصاحف صغيرة؟! هل أنزل الله القرآن ليهدى من الزعماء والحكام إلى بعضهم البعض؛ فترى الحاكم يستلم المصحف منحنياً على كتاب الله ليقبله بخضوع جسدي كامل وكأنه عثمان بن عفان في الوقت الذي يضيع فيه شريعة هذا القرآن؟! {طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه:1 - 2] , ما أنزل الله عليك القرآن لتشقى به، أو لتشقى به أمتك من بعدك، أو لتشقى بحدوده وأوامره ومناهيه وتكاليفه, كلا. بل أنزل الله عليك القرآن لتقيم به أمة، لتحيي به أمة، لتقيم به دولة، لتسعد به البشر في الدنيا والآخرة: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} [الإسراء:9].

تلاوة القرآن الكريم

تلاوة القرآن الكريم أول حق: أن نقرأ القرآن، أقسم بالله العظيم أن من المسلمين الآن من لم يقرأ كتاب الله، وإن قرأ فإنما يقرأ في رمضان وربما في العشر الأوائل فقط، فإن انتهى رمضان أودع كتاب الله علبته مرة أخرى لتتراكم عليه الأتربة، وهجر القرآن بالكلية هجر تلاوة، مع أن الأصل أنه يجب على كل مسلم قارئ أن يكون له ورد يومي مع كتاب الله تبارك وتعالى، قال ابن القيم: يقرأ القرآن وهو يتصور بقلبه وكيانه أن الله يحدثه. أما أجر تلاوته فلا يعلمه إلا الله، قال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي وغيره من حديث ابن مسعود قال: (من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنه، والحسنة بعشر أمثالها، أما إني لا أقول ألم حرف، بل ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف) , وفي الحديث الذي رواه الطبراني وصححه شيخنا الألباني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أبشروا! فإن هذا القرآن طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم، فإن تمسكتم به لن تهلكوا أبداً). وفي صحيح مسلم من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤتى يوم القيامة بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به تقدمه -أي: تقدم القرآن- سورة البقرة وسورة آل عمران كأنهما غمامتان أو غيابتان أو غيايتان أو كأنهما خرقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما) أي: بين يدي الله جل وعلا. {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204]، ولا يسمع القرآن إلا صاحب القلب الحي، وهو الذي يصغي بأذن رأسه وقلبه فيسمع عن الله جل وعلا؛ لينتفع بآيات الله المتلوة وآيات الله المرئية في الكون من عرشه إلى فرشه.

العمل بالقرآن

العمل بالقرآن ثم حق العمل بالقرآن، آهٍ! ما أكثر من تغافل عن دائه، وأعرض عن دوائه؟! فظل في ضنكه وشقائه، والله ما ذلت الأمة لكلاب الأرض من الإرهابيين السفاحين المجرمين من اليهود، ولأنجس أهل الأرض من عباد البقر الهندوس، ولأكثر أهل الأرض من الملحدين الروس، ولغيرهم من أذل أمم الأرض؛ إلا يوم أن أعرضت عن القرآن. والله ما هانت الأمة إلا يوم أن نحّت القرآن، وهجرت التحاكم إلى القرآن، وضيعت العمل بالقرآن، أعلنها بملء فمي وأعلى صوتي، يوم أن استبدلت الأمة بالعبير بعراً، وبالثريا ثرى، وبالرحيق المختوم حريقاً محرقاً مدمراً، يوم أن تركت الأمة سفينة النجاة الوحيدة وركبت قوارب الشرق الملحد تارة، وقوارب الغرب الكافر تارة، وقوارب الوسط الأوروبي تارة؛ فغرقت في أوحال الذل، وغرقت في بحار من الظلمات من الفتن. ويوم أن نطق العربي في قلب الجزيرة بكلام الوحي، سادوا العالم، فقد تفاعلوا مع القرآن بصورة مذهلة للعقل، سمع أعرابي رجلاً يوماً يتلو قول الله جل وعلا: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات:22 - 23] , فقال الأعرابي -ليس صحابياً-: من ذا الذي أغضب الكريم حتى يقسم؟! إلى هذا الحد من التفاعل مع القرآن، كانت الآية تنزل فيقرأها النبي صلى الله عليه وسلم فتتحول في التو واللحظة إلى واقع، كان الصحابة في المدينة يشربون الخمر، ويدير أنس بن مالك كأس الخمر على الصحابة، قبل أن تحرم الخمر، فدخل عليهم أحد الصحابة وكئوس الخمر تدور بينهم، وقرأ عليهم قول الله جل وعلا: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوه} [المائدة:90] , فلما قرأ الآية والله ما أكمل صحابي جرعة الخمر في يده! ما قالوا: نكمل هذه الكئوس وننتهي، لا. بل قام أنس بن مالك وسكب قلال وجرار الخمر، وسكب الصحابة الخمر في الشوارع حتى سالت في طرقات المدينة وقالوا على لسان وقلب رجل واحد: انتهينا ربنا، انتهينا ربنا.

ساد الصحابة العالم باتباعهم للقرآن

ساد الصحابة العالم باتباعهم للقرآن الحمدلله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الإخوة الكرام! إن الصحابة رضوان الله عليهم حولوا القرآن الكريم إلى واقع عملي ومنهج حياة؛ فسادوا الأمم، وحولوا العالم كله إلى كثيب مهيل، وأحالوه ركاماً في ركام، في فترة لا تساوي في حساب الزمن شيئاً على الإطلاق، لما قرأ الأعرابي قول الله، وقرأ العربي في قلب الجزيرة قول الله، وتحرك للقرآن قلبه، وانتفضت للقرآن جوارحه، وحول هذا الكلام في حياته إلى منهج حياة؛ صار قائداً. والله ما عرفنا عمر، وما عرفنا خالد بن الوليد، وما عرفنا الصديق، وما عرفنا أبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وما عرفنا الصحابة إلا بعد أن أحياهم ربنا تبارك وتعالى بفضل هذا القرآن، إلا بعد أن أخرجهم ربنا سبحانه وتعالى من ظلمات الشرك إلى نور التوحيد والإيمان بهذا القرآن الذي كان يتلوه عليهم النبي عليه الصلاة والسلام. ظلت الأمة ترفل في ثوب العز والكرامة وهي تطبق آيات وأحكام هذا الكتاب، فلما نحت القرآن هزمت عسكرياً واقتصادياً ونفسياً وسياسياً وثقافياً، وراحت تحاكي الغرب الذي انتصر، وكسب الجولة الأخيرة، فماذا كانت النتيجة؟! ما ترونه الآن من ذل وهوان، فلقد صارت الأمة قصعة مستباحة لأذل أمم الأرض، وأعلنها أعداؤنا مراراً وتكراراً: لابد أن يظل القرآن بعيداً عن ساحة المعركة، كما أعلنها الحقود قلادستون وغيره؛ لأن القرآن لو نزل ساحة المعركة لتحولت المعركة إلى جهاد في سبيل الله، وهذا هو الذي حرك الدنيا كلها وحرك العالم كله، يوم أن تحولت المعركة على أرض فلسطين إلى معركة يظلل سماءها كلام رب العالمين وكلام سيد المرسلين، حينما ترددت لفظة الجهاد، لفظة الشهادة، لفظة العمليات الاستشهادية، لما ترددت هذه الألفاظ؛ تحرك العالم كله! والله لا كرامة الآن لأي زعيم ولا لأي حاكم إلا بفضل أطفال الحجارة، هؤلاء هم الذين ردوا للأمة الآن شيئاً من اعتبارها، وشيئاً من كرامتها، وشيئاً من عزتها، ولأول مرة في التاريخ الحديث نرى أن اليهود أنفسهم يعيشون حالة فزع ورعب مع ما يتحصنون به من ترسانة عسكرية أمريكية حديثة لم يسبق لها مثيل! يعيشون الآن حالة من الرعب والفزع! لما علم أولادنا وشبابنا في المعركة أن الأمة قد تخلت عنهم ولن تنصرهم، وأن العالم الغربي الكافر لا ينصر إيماناً ولا توحيداً، فعاهدوا الله جل وعلا على الجهاد في سبيله، ورددوا قوله تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ} [آل عمران:160] , وعلموا يقيناً قول الله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] , ورددوا بيقين منقطع النظير قول الله تعالى عنهم: {وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} [آل عمران:73] , وعلموا قول الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51]، وسعدوا كثيراً بقراءة قول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران:118].

الحث على الجهاد والشهادة في سبيل الله

الحث على الجهاد والشهادة في سبيل الله لما تعامل جيلنا الآن على أرض فلسطين مع القرآن، وفهم هذه الآيات، وعلم شبابنا عقيدة اليهود لا عن طريق ألسنة البشر، ولا عن طريق المثقفين والكتاب والمفكرين، بل عرف شبابنا عقيدة القوم من كلام رب العالمين، ومن كلام سيد النبيين وسيد الصادقين صلى الله عليه وسلم؛ انطلقوا بهذه العقيدة التي حولت مجريات الأمور. لما حول شبابنا شيئاً من منهج القرآن على أرض الواقع إلى منهج حياة؛ قلبت الأمور كلها وتغيرت تماماً، فبالأمس فقط شاب يضحي بنفسه لله جل وعلا، أسأل الله أن يتقبله عنده في الشهداء، والله ما حركه إلا كلام الله وكلام الصادق رسول الله. أقسم بالله إن فلسطينية رزقها الله بست بنات وابن في العاشرة من عمره، فيخرج هذا الولد ابن العاشرة يحمل حجارة، ويلبس زياً عسكرياً! فيقول له أحد الكبار من الشيوخ حينما رأى طفلاً في العاشرة: ما اسمك يا بني؟ قال: محمد. قال: وإلى أين أنت ذاهب؟! قال ابن العاشرة: إلى الجهاد في سبيل الله! فقال له الشيخ: أين أبوك؟ قال: استشهد قبل أربعين يوماً! فقال له الشيخ: هل استأذنت أمك؟ قال له ابن العاشرة: نعم، استأذنت أمي قبل أن أخرج! قال له: ماذا قالت؟! فقال ابن العاشرة: قالت لي: اذهب يا محمد إلى الجهاد، وأسأل الله أن يلحقك بأبيك! هل يحرك هذه القلوب بهذه الصورة كلام بشر؟! والله ما تعطشت القلوب للشهادة إلا لما حركها كلام الله وكلام الصادق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما ذاقت حلاوة وعد الله، وخافت وعيده. يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك في العبادة تلعب من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب ريح العبير لكم ونحن عبيرنا رهج السنابك والغبار الأطيب من كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الكريهة تتعب ولقد أتانا من مقال نبينا قول صحيح صادق لا يكذب لا يلتقي غبار خيل الله في أنف امرئ ودخان نار تلهب {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169] , والله ما سطر الشاب الذي لم يبلغ العشرين من عمره على جدار في القدس الشريف هذه الكلمات إلا من منطلق كلام ربه وكلام نبيه حينما قال: إما عظماء فوق الأرض، وإما عظام تحت الأرض، إنه القرآن الذي يربي. قال النبي صلى الله عليه وسلم يوماً: (قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض، فقال عمير: بخ بخ جنة عرضها السماوات والأرض! فقال له النبي: ما حملك على قول بخ بخ يا عمير؟ قال: لا، غير أني أرجو الله أن أكون من أهلها، قال له الصادق: أنت من أهلها)، فأخرج عمير بن الحمام تمرات يأكلهن؛ ليتقوى على القتال، فقال لنفسه: كأنه ما بيني وبين الجنة إلا أن ألقي بهذه التمرات وأنطلق في الصفوف لأقاتل فأقتل فأدخل الجنة! والله لئن حييت حتى آكل هذه التمرات إنها لحياة طويلة! يا من تعيشون للعروش! يا من تعيشون للفروش! يا من تعيشون للكروش! {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن:26] , سيموت الصغار والكبار، سيموت الجبناء الحريصون على الحياة بأي ثمن، ويموت الصادقون المخلصون الذين يبذلون لدين الله كل ثمن، سيموت أصحاب الاهتمامات الكبيرة والأهداف العالية، ويموت كذلك التافهون الراقصون على الجراح، الذين يعيشون من أجل متاع دنيوي حقير زائل رخيص، الكل سيموت فلنمت بشرف، فلنمت بكرامة، ماذا لو اتخذت قمة كقمة الأمس قراراً برفع راية الجهاد بعد العودة إلى شريعة الله؟! أقسم بالله لتغير كل شيء، قرار على ألسنة قادة الأمة بالعودة إلى الله أولاً، ومحال أن ترفع راية للجهاد في سبيل الله قبل أن تعود الأمة إلى الله، وإلى تطبيق شرعه، وإلى التحاكم للقرآن، {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمْ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً} [الأنعام:114]، {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} [آل عمران:83]، {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللَّهُ} [يوسف:39]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]، {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65]، {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِيهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ} [النور:51 - 52]. {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} [النساء:60 - 61] , فلابد من العودة أولاً إلى القرآن وامتثال آياته وأوامره وتكاليفه وحدوده أمراً أمراً وتكليفاً تكليفاً ونهياً نهياً وحداً حداً، بل وكلمة كلمة وحرفاً حرفاً، والعودة إلى القرآن ليست نافلة، العودة إلى القرآن ليس تطوعاً منا ولا اختياراً، بل إننا أمام شرط الإسلام وحد الإيمان، {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} [النساء:65] إلخ الآية. على قادة الأمة أن يعلنوا الجهاد في سبيل الله، وأنا أعي ما أقول، وأعي كل لفظة -بفضل الله- أرددها، فلنرجع إلى الله، ولنمتثل الأمر، ونحول القرآن إلى واقع، ولنجدد الإيمان، ولنحقق الإيمان، ثم لترفع راية الجهاد، وسيرى حكامنا -بهذا الشرط الذي ذكرت- سيرون من شباب الأمة العجب العجاب -أستغفر الله- بل سيرون من شيوخ الأمة العجب العجاب! والله لقد كنت أذكر بمثل هذا الكلام في مسجد التوحيد في القاهرة يوماً، وقلت: إن من شبابنا الآن من يحترق قلبه شوقاً للشهادة، وإذا برجل يجلس عن يمين المنبر على كرسي جاوز التسعين من عمره، بلحية بيضاء، حينما سمعني أقول: فإن من شبابنا، إذ به يقف ويقول: ومن الشيوخ يا شيخ! ومن الشيوخ! فلم تحمله قدماه فسقط على الأرض! جاوز التسعين وهو يريد الشهادة في سبيل الله! والله لرأى حكامنا من شباب الأمة ومن شيوخ الأمة العجب العجاب. نريد أن نقتل في سبيل الله، والله نريد أن نقتل في سبيل الله، والله الذي لا إله غيره إن من شبابنا الآن من يستعد أن يضع صدره بغير سلاح على فوهة مدافع أعداء الله؛ ليعُلموا العالم كله أن محمداً ما مات وما خلف بنات، بل خلف رجالاً أطهاراً تحترق قلوبهم شوقاً للشهادة وللجنة. آه يا مسلمون! متنا قروناً والمحاق الأعمى يليه محاق أي شيء في عالم الغاب نحن آدميون أم نعاج نساق نحن لحم للوحش والطير منا الجثث الحمر والدم الدفاق وعلى المحصنات تبكي البواكي يا لعرض الإسلام كيف يراق قد هوينا لما هوت وأعدوا واعدوا من الردى ترياق واقتلعنا الإيمان فاسودت الدنيا علينا واسودت الأعماق وإذا الجذر مات في باطن الأرض تموت الأغصان والأوراق اللهم رد الأمة إلى القرآن رداً جميلاً، اللهم رد الأمة إلى القرآن رداً جميلاً، اللهم رد الأمة إلى القرآن رداً جميلاً، اللهم رد حكام الأمة إلى القرآن رداً جميلاً، اللهم رد حكام الأمة إلى القرآن رداً جميلاً، اللهم رد علماء الأمة ورجالها ونساءها وشبابها وأطفالها إلى القرآن رداً جميلاً، اللهم انصر الإسلام والمسلمين نصراً مؤزراً، اللهم اشف صدور قوماً مؤمنين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

نهاية العالم: متى؟ وكيف؟

نهاية العالم: متى؟ وكيف؟ لقد أخبرنا الذي لا ينطق عن الهوى عما سوف تحياه الأمة في هذا الواقع المعاصر، وما سيشهده العالم من أحداث عالمية مؤلمة. وكذلك أخبرنا صلى الله عليه وسلم بنصرة الله للإسلام والمسلمين، وبزوال هذه المحنة عن المسلمين بظهور المهدي وعيسى عليهما السلام. وهذا الأمل يجب أن يدفع العقلاء للعمل، فإن أملاً بغير عمل هو أمل الجهلاء والسفهاء.

الأخبار النبوية الفاصلة عن أحداث نهاية العالم

الأخبار النبوية الفاصلة عن أحداث نهاية العالم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالة في النار. أحبتي في الله: نهاية العالم: متى؟ وكيف؟! هذا هو عنوان لقائنا معكم في هذا اليوم المبارك، وحتى لا ينسحب بساط الوقت سريعاً من تحت أقدامنا فسوف ينتظم حديثي معكم في هذا الموضوع الكبير الجليل في العناصر التالية: أولاً: الأخبار النبوية الفاصلة في الأحداث العالمية المقبلة. ثانياً: الملاحم الكبرى. ثالثاً: وصدق الله ورسوله. وأخيراً: ورقة عمل. فأعيروني القلوب والأسماع جيداً، والله أسأل أن يقر أعيننا جميعاً بنصرة الإسلام وعز الموحدين, إنه ولي ذلك والقادر عليه. أولاً: الأخبار النبوية الفاصلة في الأحداث العالمية المقبلة: أحبتي في الله: لا يستطيع عاقلٌ على وجه الأرض فضلاً عن عالم أن يجزم بشكلٍ قاطع وفي وقتٍ محدد بنهاية العالم بقيام الساعة، لا يعلم وقت قيام الساعة ملكٌ مقرب، ولا نبي مرسل، فهذا من علم والغيب الذي استأثر به الله جل وعلا وحده، قال تعالى: {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب:63] وقال تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا * إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا * كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} [النازعات:42 - 46]. وفي صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن أمين وحي السماء جبريل عليه السلام سأل أمين أهل الأرض محمداً صلى الله عليه وسلم: (متى الساعة؟ فقال المصطفى: ما المسئول عنها بأعلم من السائل). ومع ذلك فإن الله جل وعلا أطلع نبيه صلى الله عليه وسلم على أمارات الساعة وعلاماتها، بل وعلى كل الأحداث التي ستقع في الكون بين يدي الساعة, فتدبر معي. قال الله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ) [الجن:26 - 27] وقال تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة:255] وفي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وغيره من حديث عبد الله بن عمرو أنه قال: (كنت أكتب كل شيءٍ أسمعه من رسول الله أريد حفظه، فنهتني قريش عن ذلك، وقالوا: إن رسول الله بشر، يتكلم في الغضب والرضا، قال: فأمسكت عن الكتابة، ثم ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اكتب، فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إلا الحق) قال تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:1 - 5] ومن ثم قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر:7] فما من شيءٍ إلا وأخبر به الصادق صلى الله عليه وسلم. تدبروا ما رواه البخاري ومسلم من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: (لقد خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم خطبةً ما ترك فيها شيئاً إلى قيام الساعة إلا ذكره، علمه من علمه وجهله من جهله). وفي صحيح مسلم من حديث أبي زيد عمرو بن أخطب رضي الله عنه قال: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت الظهر -ظل النبي واقفاً على المنبر يخطب في الصحابة من الفجر إلى الظهر- قال: فنزل فصلى الظهر ثم صعد المنبر فخطب حتى حضرت العصر، قال: فنزل فصلى -أي: العصر- ثم صعد المنبر فخطب حتى غربت الشمس، قال: فأخبرنا بما كان وبما هو كائن فأعلمنا أحفظنا) أي: لكلام النبي صلى الله عليه وسلم. فما من شيءٍ وقع، وما من شيءٍ قائمٍ بيننا الآن, وما من حدثٍ سيقع في السنوات المقبلة بين يدي الساعة وإلا وقد أخبر به الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، فما تحياه الأمة الآن من واقع معاصر، وما سيشهده العالم من أحداثٍ دامية مؤلمة في السنوات المقبلة إلا وأخبر به الصادق الذي لا ينطق عن الهوى. نعم! لقد جسد النبي صلى الله عليه وسلم واقعنا المعاصر تجسيداً دقيقاً، ففي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر, وذراعاً بذراع, حتى لو دخلوا جحر ضبٍ لتبعتموهم، قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن). وفي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وأبو داود من حديث ثوبان أنه صلى الله عليه وسلم قال: (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أو من قلة نحن يومئذٍ يا رسول الله؟! قال: كلا, أنتم يومئذٍ كثير ولكن غثاء كغثاء السيل، وليوشكن الله أن ينزع المهابة من قلوب عدوكم وليقذفن في قلوبكم الوهن، قيل: وما الوهن يا رسول الله؟! قال: حب الدنيا وكراهية الموت). ومع ذلك فقد أخبر الصادق الذي لا ينطق عن الهوى, عن زوال هذه المحنة وكشف هذه الغمة، وأخبرنا عن نصرة الله للإسلام والمسلمين، وعن إذلال الله للشرك والمشركين، ووالله ثم والله إننا الآن لعلى مقربةٍ شديدةٍ من وقوع هذه البشريات النبوية المحمدية الصادقة مع ما نراه من واقعٍ مُرٍ أليم؛ لأن الذي سيهيئ الكون كله في الأيام والسنوات المقبلة ليحدث على الأرض ما أخبر به الصادق هو ملك الملوك جل جلاله، ومدبر الكون ومسير الأمر الذي يقول للشيء: كن فيكون.

الملحمة الكبرى بين الإسلام والكفر

الملحمة الكبرى بين الإسلام والكفر وهذا هو عنصرنا الثاني والمهم من عناصر اللقاء: الملحمة الكبرى:

الهدنة بين المسلمين والروم

الهدنة بين المسلمين والروم أيها الإخوة الكرام: لقد أخبرنا الصادق الذي لا ينطق عن الهوى أنه بين يدي الملاحم الكبرى في السنوات القليلة القادمة ستكون هدنة بين الروم والمسلمين، والروم أو بنو الأصفر هم الأمريكيون والأوربيون. فستبدأ الملاحم القادمة بهدنةٍ أو بصلحٍ آمن بين الروم -أي بين الأمريكيين والأوروبيين- وبين المسلمين، وأنا أسأل الآن: أو لم تقع الهدنة والصلح الآن بمثل ما أخبر الصادق الذي لا ينطق عن الهوى؟ روى البخاري وغيره من حديث عوف بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اعدد ستاً بين يدي الساعة: موتي, -موت الحبيب صلى الله عليه وسلم- ثم فتح بيت المقدس) وقد كان فتح بيت المقدس بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم في عهد عمر بن الخطاب بقيادة أبي عبيدة. (ثم موتان يأخذ فيكم كقعاص الغنم) طاعونٌ ينتشر فيكم كانتشار الداء في الأغنام، وقد وقع الطاعون في عمواس في بلاد الشام وفيه مات أبو عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل وكثيرٌ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. (ثم استفاضة المال حتى يعطى الرجل مائة دينار فيظل ساخطاً) وقد وقع ذلك، فقد تعطي الرجل الآن مائة جنيه أو مائتين فيظل ساخطاً إما لعدم القناعة والرضا وإما لارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة بحيث لا يكفيه هذا المال لحوائجه وضرورياته. أما العلامة الخامسة قال: (ثم فتنة لا تترك بيتاً في العرب إلا دخلته) يراها كثيرٌ من أهل العلم متمثلةً في وسائل الإعلام بكل صورها وأشكالها، فلم تدع هذه الوسائل الآن بيتاً من بيوت العرب إلا ودخلته. ثم تدبر العلامة السادسة، قال الصادق: (ثم تكون هدنة بينكم وبين الروم، فيغدرون -والغدر شيمة للروم- فيجمعون لكم تحت ثمانين غاية، تحت كل غاية اثنا عشر ألفاً) والغاية هي الراية، وسميت الراية بالغاية؛ لأنها غاية الجيش، فإذا سقطت الراية ضاعت الغاية وهزم الجيش، فسميت الراية لذلك بالغاية. وفي لفظٍ رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة بسندٍ صحيح قال الصادق صلى الله عليه وسلم: (ستصالحون الروم صلحاً آمناً، فتغزون أنتم وهم -أي أنتم: أيها المسلمون، وهم أي: الروم، والروم كما اتفقنا هم أمريكا وأوروبا - عدواً من ورائهم) وتدبر كل كلمات الصادق (من ورائهم) ولم يقل: من ورائكم، (فتغزون أنتم وهم عدواً من ورائهم فتسلمون وتغنمون، ثم تنزلون بمرجٍ ذي تلول -أي: أنتم والروم بمكانً أخضر، يتسم بالخضرة والمياه- فيقوم رجلٌ من الروم فيرفع الصليب، ويقول: غلب الصليب، فيقوم إليه رجلٌ من المسلمين فيقتله، فعندئذٍ يغدر الروم وتكون الملاحم، فيجتمعون لكم في ثمانين غاية، تحت كل غاية اثنا عشر ألفاً). تدبر معي هذا الكلام النبوي: قد وقعت الهدنة الآن، وهانحن نشهد الآن مرحلة الهدنة والصلح الآمن، معاهدات بين الأمريكيين والأوربيين وكل الأمة بلا استثناء، معاهدات وصلحٌ آمن، لكن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن المسلمين سيشاركون أمريكا وأوروبا في قتال عدوٍ مشترك، يا ترى من هذا العدو المشترك؟ هل هو الإرهاب؟ على حد تعبير الأمريكيين والأوربيين وجميع وسائل الإعلام العربية بلا استثناء؟ هل هو المعسكر الشرقي: روسيا والصين واليابان؟ هل هم الشيعة؟! A الله أعلم بمراد رسوله. إلا أن أهل الكتاب يؤمنون إيماناً جازماً بهذه المعركة المشتركة، ويسمونها في كتبهم وعقائدهم بمعركة هر مجدون أو هرمجيدو؛ وهرمجدون كلمةٌ عبرية تتكون من مقطعين، المقطع الأول (هر) بمعنى جبل، و (مجدون) أو (مجيدو) هو سهلٌ أو وادٍ، أين هو؟ في فلسطين، في سفرٍ من أسفار أهل الكتاب يسمى بسفر الرؤيا، في الإصحاح السادس عشر، يقول: اجتمعت جيوش العالم كلها في أرضٍ تسمى هرمجدون. يقول الرئيس الأمريكي الأسبق روملد ريجن: إن هذا الجيل بالتحديد هو الجيل الذي سيرى هرمجدون. يقول: أورل ريبرتسون صاحب كتاب: (دراما نهاية الزمن) يقول: كل شيءٍ سيمضي في بضع سنوات فستقع المعركة العالمية الكبرى، معركة هرمجدون أو معركة سهل مجيدو. وتقول الكاتبة الأمريكية الشهيرة جريس هالسل -وهذا على حد تعبيرها-: إننا نؤمن كمسيحيين بأن تاريخ الإنسانية سينتهي بمعركة تدعى معركة هرمجدون، وسيخاض غمارها في سهل مجيدو، قالت: وستتوج هذه المعركة بعودة المسيح إلى الأرض. ويقول القس الأمريكي الشهير جيمس جارتس: كنت أود أن أستطيع القول بأننا ننتظر السلام أو سنحقق السلام، قال: ولكنني أؤمن بأن معركة هرمجدون قادمة وسيخاض غمارها في سهل مجيدو في فلسطين. نعم! إنها قادمة فليعقدوا ما شاءوا من اتفاقيات السلام، إنهم لن يحققوا شيئاً، فهناك أيامٌ سوداء مقبلة، هذه عقيدة القوم في هذه المعركة التي أخبر عنها الصادق الذي لا ينطق عن الهوى بأنها ستكون معركة مشتركة بين الروم أي: الأوروبيين والأمريكيين والمسلمين من جانب وبين عدوٍ آخر من جانب آخر، فيغنم المسلمون بعد سلامتهم في هذه المعركة. فماذا بعد هرمجدون؟ تدبر جيداً واحفظ هذا الجواب وعلمه امرأتك، وبناتك، وأولادك، فهو كلام الصادق الذي لا ينطق عن الهوى, وهو علم الوقت أي علم أو فقه المرحلة القادمة. ماذا بعد هرمجدون؟ أو إن شئت فقل: ماذا بعد المعركة المشتركة بين الروم والمسلمين من ناحية وبين هذا العدو الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم من ناحية أخرى؟ انتبه معي! فلقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الروم سيغدرون بنا، وفي فترةٍ يجمعون الجيوش ويعدون العدة لاستئصال شأفة المسلمين من على الأرض حينما يرفع الصليبي الصليب ويقول: غلب الصليب، ويقوم إليه رجلٌ من المسلمين فيقتله. في هذه الفترة الزمنية ورد في حديثٍ في مسند أحمد بسندٍ ضعيف أن المدة التي سيجمع فيها الروم للمسلمين هي مدة حمل المرأة، أي في تسعة أشهر، يجمعون الجيوش ويجيشون الجيوش لاستئصال شأفة المسلمين من على الأرض في هذه المنطقة، وهي منطقة فلسطين وسوريا كما سأبين الآن بكلام الذي لا ينطق عن الهوى.

ظهور المهدي عليه السلام

ظهور المهدي عليه السلام في هذه المرحلة الزمنية الخطيرة يحدث في الكون أمرٌ قدريٌ كونيٌ لا دخل فيه للبشر على وجه الأرض، إنه أمرٌ قدره الله وقضاه في أم الكتاب قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، أمرٌ ليس بكسبٍ مادي، ولا بطلبٍ بشري، إنما هو أمرٌ قدره الرب العلي يقع في الكون، كنزول عيسى بن مريم، وكخروج يأجوج ومأجوج، وكخروج المسيح الدجال. ما هو هذا الحدث الكوني الخطير؟! إنه ظهور محمدٍ بن عبد الله المهدي -اللهم عجل به يا كريم يا علي! -. من المهدي هذا؟ إنه رجلٌ من نسل المصطفى من أولاد فاطمة بنت سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يخرج بدون كسبٍ منه، وطلبٍ، وبدون رغبةٍ أو طلبٍ من المسلمين، أو عملٍ معين، وإنما هو أمرٌ قدري كوني يقع في الكون كنزول عيسى وخروج الدجال، وخروج يأجوج ومأجوج. قال الصادق الذي لا ينطق عن الهوى كما في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وصححه العلامة أحمد شاكر، والعلامة الألباني من حديث علي أن الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المهدي منا أهل البيت، يصلحه الله في ليلة) أي: يهيئهُ الله للخلافة رغم أنف العلمانيين والمنافقين، ويصلحه الله في ليلة، إننا سنبيت ليلة عادية من الليالي ونستيقظ في الصباح فنسمع نشرات الأخبار ونسمع في كل وكالات الأنباء وفي جميع وسائل الإعلام أن المهدي عليه السلام قد ظهر في بيت الله الحرام، (يصلحه الله في ليلة) أي: يهيئه الله للخلافة الراشدة؛ ليقود الأمة في هذه المرحلة القادمة، مرحلة الفتن والملاحم بين يدي الساعة. روى الإمام أحمد في مسنده بسندٍ صحيح من حديث حذيفة بن اليمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها, ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً، فتكون فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرياً -وهو ما تحياه الأمة الآن- فتكون فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة) (المهدي منا آل البيت يصلحه الله في ليلة). وفي الحديث الذي رواه الطبراني والبزار والترمذي وابن حبان وابن ماجة والحاكم بسندٍ صحيح صححه الألباني في السلسلة وغيره من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لتملأن الأرض جوراً وظلماً، فإذا ملئت الأرض جوراً وظلماً يبعث الله رجلاً مني، اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي, فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت الأرض ظلماً وجوراً، فلا تمسك السماء شيئاً من قطرها، ولا تمسك الأرض شيئاً من نباتها, فيمكث فيكم سبعاً أو ثمانية فإن أكثر فتسعاً). أيها المسلمون: لقد بلغت أحاديث المهدي مبلغ التواتر, والحديث المتواتر عند جماهير علماء الأمة يفيد العلم القطعي، ومعنى ذلك أن العلم به واجب، وأن العمل فرضٌ لازم. وتدبروا معي كلام الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، فقد يسأل سائل: وكيف نعرف أن الذي خرج في مكة هو المهدي الحقيقي، فقد خرج كثيرٌ من الكذابين والدجاجلة وادعى كل واحدٌ منهم أنه المهدي، فكيف نعرف أنه المهدي الحقيقي؟ لقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بعلامةٍ نبوية محمدية صادقة إن وقعت تلك العلامة فلتعلم الأمة كلها أن الذي ظهر ببيت الله الحرام هو محمد بن عبد الله المهدي عليه السلام، ما هي هذه العلامة؟ اسمع كلام الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، روى البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (عبث رسول الله يوماً في منامه -يعني: تحرك النبي حركةً على غير عادته في النوم- فقالت عائشة: يا رسول الله! رأيتك قد فعلت شيئاً لم تكن تفعله، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: العجب أن ناساً من أمتي يؤمُّون البيت الحرام -أي: يقصدون البيت الحرام- لرجلٍ من قريش لجأ بالبيت الحرام، فإذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بهم) أي: إذا خرج هؤلاء القوم لهذا الرجل الذي اعتصم ببيت الله الحرام يخسف الله الأرض بهذا الجيش، هذه هي العلامة، وهذا أمرٌ كونيٌ قدريٌ آخر لا دخل لأحدٍ من البشر فيه، قالت عائشة: (قلت: يا رسول الله! فإن الطريق يجمع الناس -يعني ما ذنب كثيرٍ من الناس ممن يمشون في الطريق ممن لم يخرجوا لقتال المهدي في هذا الجيش- فقال النبي: نعم. فيهم المستبصر والمجبور وابن السبيل، يهلكون جميعاً مهلكاً واحداً ويصدرون مصادر شتى، يبعثهم الله على نياتهم) يبعث الله كل واحدٍ منهم على نيته الذي خرج بها ومات عليها. وفي صحيح مسلم من حديث حفصة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يعوذ بالبيت -أي يحتمي ويعتصم ببيت الله الحرام- قومٌ -تدبر معي هذا الوصف النبوي الجميل- قومٌ ليست لهم منعة ولا عدد ولا عدة -فقراء ضعفاء- فيخرج إليهم جيش -أي: لقتالهم والقضاء عليهم- فإذا كانوا ببيداء من الأرض -أي: بصحراء من الأرض- خُسِف بهم) وفي لفظٍ في مسلم: (فلا يبقى إلا الشريد) أي: الذي ينجو من الجيش رجلٌ أو رجلان، ليخبرا عما أوقعه الله تبارك وتعالى بهذا الجيش الذي خرج للقضاء على المهدي عليه السلام. فإن خسف الله بهذا الجيش علم المسلمون في الأرض أن الذي ظهر ببيت الله الحرام هو المهدي عليه السلام، فتقبل إليه الوفود المسلمة من أنحاء الأرض، ويقبل إليه المسلمون من كل أرجائها ليشدوا على يديه وليعلنوا له البيعة وليعاهدوا الله معه على الجهاد في سبيل الله وعلى إعلاء كلمة الله للبلوغ إلى إحدى الحسنيين: إما النصر وإما الشهادة؛ نسأل الله أن لا يحرمنا من هذا الشرف إنه ولي ذلك والقادر عليه. فماذا بعد البيعة؟ يعلن العالم كله الحرب على المهدي وكتائب التوحيد معه، فلا يعرف الموحدون مع المهدي طعماً للراحة ولا وقتاً للرخاء والدعة، بل يخوضون معارك وملاحم خطيرة في فترة لا تساوي في حساب الزمن شيئاً، فلا يُهزم المهدي في أي معركة بإذن الله.

المعارك التي يخوضها المهدي قبل نزول عيسى ابن مريم

المعارك التي يخوضها المهدي قبل نزول عيسى ابن مريم ما هي هذه الملاحم؟ وما هي هذه المعارك؟! قال الصادق كما في صحيح مسلم من حديث نافع بن عتبة: (تغزون جزيرة العرب فيفتحها الله -وأرجو أن تتدبروا في كلمات النبي صلى الله عليه وسلم- ثم تغزون فارس - إيران - فيفتحها الله، ثم تغزون الروم -الأمريكيين والأوروبيين- فيفتحها الله، ثم تغزون الدجال فيفتحه الله). المعركة الأولى التي يخوضها المهدي وكتائب التوحيد معه معركة في قلب الجزيرة العربية، خرج الجيش الأول للقضاء عليه من المسلمين فخسف الله به الأرض، الجيش الثاني الذي يخرج لقتال المهدي مع علمه بأن الرب العلي قد خسف بالجيش الأول جيشٌ مسلمٌ كذلك من جزيرة العرب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فيفتحها الله) أي: يَهزِمُ المهدي وكتائب التوحيد معه هذا الجيش وتفتح الجزيرة العربية أبوابها كلها للمهدي وللموحدين معه بإذن الله تبارك وتعالى. فيخرج إلى المهدي جيشٌ آخر من إيران من فارس، حينما يعلم الإيرانيون أن الذي خرج ليس المهدي الذي ينتظرونه في سرداب سامراء، فيخرجون إليه جيشاً جراراً، فيهزم المهدي هذا الجيش بإذن الرب العلي جل وعلا، ثم تغزون فارس فيفتحها الله. ثم تغزون الروم، وقف معي وتدبر هذه المعركة الفاصلة الحاسمة، فهي أخطر المعارك على وجه الأرض، وقد بيَّن الصادق صلى الله عليه وسلم أرض المعركة، وذكر تفاصيل المعركة، بل وحدد نتيجة المعركة، فماذا قال الصادق صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى؟ قال: (ثم تغزون الروم فيفتحها الله) وخذ التفاصيل: روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بـ الأعماق أو بـ دابق) أين الأعماق؟ وأين دابق؟ هما موضعان بالقرب من حلب في دولة سوريا، سينزل الأمريكيون والأوروبيون في السنوات القليلة المقبلة هذه الأرض وهذه المنطقة كما أخبر الصادق الذي لا ينطق عن الهوى. وقد عدت إلى بعض المعاجم القديمة لأقف على تأويل أهل المعاجم القديمة للأعماق ودابق فوجدت أنهم يقولون: الأعماق ودابق موطنٌ بين حلب في سوريا وأنطاكية في تركيا، قلت: سبحان الله العظيم! انظروا إلى القواعد العسكرية الأمريكية في تركيا وفي جل أنحاء العالم الإسلامي، بل والعالم الأوروبي لا سيما بعد أحداث أفغانستان، فقد وضعت أمريكا قواعدها العسكرية كذلك في قلب أوروبا. قال: (لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بـ الأعماق أو بـ دابق) أي: منطقة في حلب في سوريا، ولعلكم تعلمون يقيناً أن أمريكا قد وضعت سوريا ضمن قائمة الدول الراعية للإرهاب، بل وكان وزير الخارجية السوري هو الوحيد في اجتماع وزراء الخارجية الذي صرح بمقاطعةٍ كاملة مع الكيان الصهيوني، لكنهم رفضوا؛ فـ سوريا الآن موضوعة على قائمة الإرهاب الأمريكية. ثم قال صلى الله عليه وسلم: (فيخرج إليهم جيشٌ من المدينة هم من خيار أهل الأرض يومئذٍ، فإذا تصافُّوا -أي: للقتال- قالت الروم للمسلمين: خلوا بيننا وبين الذين سبوا منا نقاتلهم) من هؤلاء؟ هؤلاء من الروم أصلاً لكنهم يوحدون الله جل وعلا ويشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فيسلمون ويتركون جيش الروم من الأمريكيين والأوربيين ويقاتلون الروم مع المسلمين. فهل تتابعون ما يشغل الآن الرأي العام الأمريكي كله منذ أسبوعٍ أو لا؟ هل تعلمون أن الرأي العام الأمريكي كله منشغلٌ الآن بقضية شابٍ يقال له: جون ولكر؟ هل تعرفون شيئاً عن جون ولكر؟ جون ولكر شابٌ أمريكي أسر منذ أسبوع في أفغانستان؛ لأنه أسلم وكان يقاتل في صفوف طالبان ضد الأمريكان، والرأي العام الأمريكي كله كان يتحدث في هذه القضية، وبالأمس في الـ ( mbc) نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني يقول: أنا لا أتصور أن شاباً أمريكياً تربى وترعرع في هذه الأرض ثم يكون مصيره أن يسلم وأن يحارب الأمريكان مع طالبان. فتدبر كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه بشريات على الطريق، قال: (فإذا تصافُّوا -أي وقف الجيش الرومي: الأمريكيون الأوربيون والمسلمون للقتال- قالت الروم للمسلمين: خلوا بيننا وبين الذين سبوا منا نقاتلهم) أي: اتركوا هؤلاء الذين أسلموا وتركوا ديارنا وعقيدتنا وديننا، نقاتلهم: أي: نبدأ بقتالهم، (فيقول المسلمون: لا. والله! لا نخلي بينكم وبين إخواننا) هذا كلام الصادق الذي لا ينطق عن الهوى. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فيقاتلونهم فينهزم ثلث الجيش لا يتوب الله عليهم أبداً) ينهزم ثلث الجيش المسلم لا يتوب الله عليهم أبداً، لماذا؟ لأنهم خونة، فروا من أرض المعركة، وخانوا الله ورسوله والمؤمنين. أما الثلث الثاني قال: (ويقتل ثلثهم، أفضل الشهداء عند الله). أما الثلث المتبقي في الجيش المسلم فقال صلى الله عليه وسلم عنه: (ويبقى ثلثٌ فيفتح الله له) أي: فينصر الله هذا الثلث على الروم الأمريكيين والأوربيين (فيبقى ثلثٌ فيفتح الله له) قال الصادق: (لا يفتنون أبداً). بل في رواية مسلم من حديث عبد الله بن مسعود في غير رواية أبي هريرة قال: (هاجت ريحٌ حمراء بـ الكوفة، فجاء رجلٌ ليس له هيجرى إلا: يا عبد الله بن مسعود! يا عبد الله بن مسعود! جاءت الساعة، فقعد ابن مسعود وكان متكئاً فقال: لا، -انظروا إلى العلم والعلماء- لا تقوم الساعة حتى لا يقسم ميراث ولا يفرح بغنيمة، ثم أشار بيده نحو الشام، ثم قال: عدوٌ يجمعون لأهل الإسلام ويجمع لهم أهل الإسلام -تدبر- قال: وعند ذاكم القتال تكون ردةٌ شديدة) هذا هو الثلث الأول الذي ارتد وانهزم وخان، ثم قال: (فيشترط المسلمون شرطةً للموت لا ترجع إلا غالبة) أي: يقدم المسلمون مجموعةً من الكتائب وتشترط هذه الكتائب ألا ترجع إلا وهي غالبة، قال: (فيقتتلون -أي: يقتتل المسلمون مع الروم- حتى يحجز بينهم الليل، فتفيء كل فئةٍ غير غالبة، وتفنى الشرطة، ثم يشترط المسلمون -أي: في اليوم التالي- شرطةٌ للموت لا ترجع إلا غالبة، فيقتتلون حتى يحجز بينهم الليل، فترجع فتفيء كل فئةٍ غير غالبة وتفنى الشرطة، ثم يشترط المسلمون في اليوم الثالث شرطةٌ للموت لا ترجع إلا غالبة، فيقتتلون حتى يحجز بينهم الليل، فتفيء كل منهم غير غالبة، وتفنى الشرطة، قال صلى الله عليه وسلم: فإذا كان اليوم الرابع نهد إليهم بقية أهل الإسلام -أي: نهض إليهم بقية أهل الإسلام- قال: فيجعل الله الدائرة عليهم -أي: على الروم- فيقتتلون مقتلةً عظيمة لم يُر مثلها، حتى إن الطائر لا يمر بجنباتهم فما يخلفهم إلا وقد خر ميتاً، قال: فيتعاد أبناء الأب الواحد قد بلغوا المائة, فلا يجدون قد بقي منهم إلا الرجل الواحد، فبأي غنيمة يفرح؟ وأي ميراثٍ يقسم؟ قال: فبينما هم كذلك إذ قد وقع بهم بأسٌ هو أكبر من ذلك، فإذ بهم يأتيهم الصريخ -أي من يصرخ فيهم- ليخبرهم أن الدجال قد خلفهم في ذراريهم -أي في أولادهم- قال: فيرفضون ما بين أيديهم -أي: من الأموال والغنائم- ويبعثون عشرة فوارس طليعة -أي ليعلموا الأمر وليطلعوا عليه- قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: والله! إني لأعلم أسماءهم وأسماء آبائهم وألوان خيولهم، هم خير فوارس على ظهر الأرض يومئذٍ). وهكذا ينصر الله عبده المهدي والموحدين معه على كتائب الروم، على الأمريكيين والأوربيين رغم أنف العلمانيين والماديين الذين لا ينظرون ولا يؤمنون إلا بكل ما هو ماديٍ محسوس، هذه الفئة المباركة، هؤلاء الأولياء الأصفياء الأتقياء هم الذين يفتح الله لهم مدينة القسطنطينية بغير قتال، بل وبغير سلاح كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: (سمعتم بمدينة جانبٌ منها في البر وجانبٌ منها في البحر؟ قالوا: نعم يا رسول الله! قال: لا تقوم الساعة حتى يغزوها سبعون ألفاً من بني إسحاق فإذا جاءوها لم يقاتلوا بسلاحٍ ولم يرموا بسهم، وإنما قالوا: لا إله إلا الله، والله أكبر، فيسقط جانبها الذي في البحر، فإذا جاءوها الثانية قالوا: لا إله إلا الله، والله أكبر, فيسقط جانبها الذي في البر، فإذا جاءوها الثالثة قالوا: لا إله إلا الله، والله أكبر، فيفرج لهم فيدخلوها). قال الحافظ ابن كثير: وبني إسحاق في الحديث هم سلالة العيص بن إسحاق بن إبراهيم، وهم من الروم سيسلمون في آخر الزمان وسيجعل الله فتح القسطنطينية على يد طائفةٍ منهم ممن وحدوا الله وآمنوا بالصادق رسول الله صلى الله عليه وسلم.

المعركة مع اليهود والدجال

المعركة مع اليهود والدجال أما المعركة الخامسة والحاسمة التي يقودها المهدي فإنها ستكون مع أنجس خلق الله وأشرهم وهم اليهود، وتحدث الكرامات التي وعد بها الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود, فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم! يا عبد الله! خلفي يهودي تعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود). أيها الأفاضل: يخرج اليهود مع الدجال الذي يهلكه الله على يد عيسى والمهدي، فيقاتل المسلمون اليهود ويجري الله عز وجل لهم هذه الكرامة التي أخبر بها الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، ويستأصل الله شأفتهم ويطهر الأرض من نجاستهم وقذارتهم، وبذلك -أيها الأفاضل- لا يبقى على وجه الأرض دينٌ إلا دين محمد.

وصدق الله ورسوله

وصدق الله ورسوله وهذا هو عنصرنا الثالث: وصدق الله ورسوله، قال الله جل وعلا: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:8 - 9] وقال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وغيره من حديث تميم الداري: (ليبلغن هذا الأمر -أي: هذا الدين- ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدرٍ ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيزٍ أو بذل ذليل, عزاً يعز الله به الإسلام, وذلاً يذل الله به الكفر) صلى الله وسلم وبارك على الصادق الذي لا ينطق عن الهوى. وأسأل الله جل وعلا أن يعجل بهذه الأيام المباركة الكريمة، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

ورقة عمل

ورقة عمل الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله، اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى، برحمتك وفضلك وجودك وكرمك يا رب العالمين. أيها الإخوة الكرام: وأخيراً أقدم ورقة عمل: ليس معنى ذلك أن نتكاسل أو أن نتواكل، فهذا الأمل يجب أن يدفع العقلاء للعمل، فإن أملاً بغير عمل هو أمل الجهلاء وأمل السفهاء، أما الصادقون العقلاء هم الذين يدفعهم الأمل في موعود الله وموعود رسوله بنصرة الإسلام وظهوره على كل الملل للعمل، فلا بد أن نعمل، فهذه ورقة عمل سريعة:

الاعتصام بالله سبحانه وتعالى

الاعتصام بالله سبحانه وتعالى أولاً: يجب علينا أن نعتصم بالله وأن نستعين به، فمن أعانه الله فهو المعان، ومن خذله الله فهو المخذول، إذ لا حول ولا قوة إلا بالله.

طلب العلم

طلب العلم ثانياً: يجب علينا جميعاً مهما كانت وظيفتك، ومهما كان عملك أن تخصص وقتاً من وقتك لتتعلم فيه عن الله وعن رسوله، إن كنت طبيباً فأغلق عيادتك ساعةً في الأسبوع، إن كنت مهندساً فاعتذر عن عملك في مصنعك ساعةً في الأسبوع، إن كنت مدرساً فغيَّر مواعيد الدروس أو العمل ساعةً في الأسبوع، مهما كان عملك ومهما كانت وظيفتك يجب عليك أن تخصص لنفسك ساعةً تحرص فيها أن تأتي بيوت الله جل وعلا لتتعلم العلم الشرعي الصحيح، لتسمع عن الله وعن رسول الله ولتقف على فقه المرحلة القادمة، فإن الجهل من أخطر الفتن، لا سيما إذا علمنا أن جاهلاً بفتنة الدجال سيكفر بالواحد الكبير المتعال، يذهب إلى الدجال وهو لا يعرف شيئاً عما قاله سيد الرجال صلى الله عليه وسلم عن فتنته، فيقول له الدجال: أنا ربك، فيقول: لا. فيقول: فهل لو أحييت لك والديك تؤمن بي؟ قال: نعم، أؤمن بك، وهو لا يعلم أن الدجال فتنة، بل هو أخطر فتنة على وجه الأرض، قال: فيظهر له شيطانان: شيطان على صورة أبيه، وشيطان على صورة أمه، فيأمرانه باتباع الدجال، فيسجد له ويقول: أنت ربي. فيكفر بجهله. فهذا لو علم الدجال وفتنة الدجال وما قاله سيد الرجال صلى الله عليه وسلم ما فعل ذلك. فلا بد أن تحرص على العلم الشرعي، على علم القرآن والسنة الصحيحة على أيدي العلماء المتحققين بالعلم، وهؤلاء بحول الله لا يخلو منهم زمانٌ ولا مكان، إذ يجب أن يكون في الأرض قائمٌ لله بحجة.

تحقيق الإيمان

تحقيق الإيمان ثالثاً: تحقيق الإيمان، الإيمان حصن أمانك، وسفينة نوح التي ستركبها في هذه الأمواج المتلاطمة من الفتن التي نحياها والفتن المقبلة، الإيمان ليس كلمةً باللسان فحسب، بل هو قولٌ وتصديقٌ بالقلب وعملٌ بالجوارح والأركان، حقق الإيمان فبه وبه فقط ينجيك الله من الفتن، وبالإيمان تقرأ على جبين الدجال كلمة (كافر) قال الصادق: (يخرج الدجال مكتوبٌ على جبينه: ك ف ر) وفي لفظٍ: (كافر) قال الصادق: (لا يقرؤها إلا المؤمن) فحقق الإيمان.

التزود بالتقوى

التزود بالتقوى رابعاً: التزود بالتقوى للآخرة. أيها الأفاضل: أُقسم بالله إن كل ما أخبر عنه الصادق من علاماتٍ صغرى قد وقعت، ونحن الآن ننتظر المهدي، وقد ذكرت أن الله سيصلحه في ليلة، وإرهاصات المهدي موجودة بين أيدينا الآن، فتزودوا للآخرة، {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة:197]. دع عنك ما قد فات في زمن الصبا واذكر ذنوبك وابكها يا مذنب لم ينسه الملكان حين نسيته بل أثبتاه وأنت لاهٍ تلعب والروح منك وديعةٌ أُودعتها ستردها بالرغم منك وتسلب وغرور دنياك التي تسعى لها دارٌ حقيقتها متاعٌ يذهب الليل فاعلم والنهار كلاهما أنفاسنا فيهما تعد وتحسب

الاجتهاد في الطاعة

الاجتهاد في الطاعة خامساً: احرصوا -أيها الأفاضل! أذكر نفسي والله وإياكم- على الاجتهاد في الطاعة والاجتهاد في العبادة، فالعبادة في الهرج -أي في الفتن- كهجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث رواه مسلم من حديث معقل بن يسار: (العبادة في الهرج -أي في الفتن- كهجرةٍ إليَّ) أي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، حافظوا على الصلوات في الجماعة لا تضيعوا الورد اليومي للقرآن حافظوا على أذكار الصباح والمساء حافظوا على ركعات ولو قليلةٍ بالليل حافظوا على الصدقة ولو قلَّت حافظوا على الاستغفار. وأنتِ -أيتها المسلمة- مخاطبةٌ بذلك هيا إلى الحجاب الشرعي هيا إلى القرآن هيا إلى الصلاة هيا إلى السنة، فوالله إن الساعة مقبلة، وإن الفتن والملاحم مقبلة، فلنتزود لهذه الأيام الحالكة بطاعة ربنا وبعبادته سبحانه وتعالى. وأخيراً فلنتحرك جميعاً لدين الله، لا ينبغي أن نتواكل أو نتكاسل أو أن نكون سلبيين، قال الصادق: (إذا قامت القيامة -ليس إذا ظهر المهدي- وفي يد أحدكم فسيلة -أي: شتلة صغيرة- فاستطاع أن يغرسها فليغرسها) لا تقل قامت القيامة، وانتهى الناس، وهذه فسيلة متى تنمو؟ ومتى تثمر؟ ومن يأكل منها؟ ليس هذا من شأننا، شأننا أن نعمل لدين الله، وأن نغرس لدين الله، وأن نترك النتائج لله الذي لا يعجل بعجلة أحد. الله الله في التوبة، وآسفاه! وآسفاه! إن دعيت بعد كل هذا الكلام إلى التوبة وما أجبت، واحسرتاه! إن ذكرت الآن بعد كل هذا بالله وما أنبت، متى سترجع إن لم ترجع الآن. اللهم اشفِ صدور قومٍ مؤمنين، بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم اشفِ صدور قومٍ مؤمنين، بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم عجِّل بنصرتك لنا يا رب العالمين، اللهم إننا مغلوبون فانتصر لنا، اللهم إننا مغلوبون فانتصر لنا، اللهم احقن دماء المسلمين في فلسطين وأفغانستان، والشيشان، وكشمير وفي كل مكان، اللهم احفظ المسلمين في الصومال والعراق، والسودان واليمن، وليبيا، وفي كل مكان.

الثقة في الله

الثقة في الله هذه رسالة تحمل في طياتها المخرج الوحيد من الهم والغم والضيق، بل هي مفتاح السعادة في الدنيا والآخرة، وبدونها يعيش الناس في شقاء وبلاء، إنها الثقة بالله سبحانه وتعالى، وفي هذه الرسالة بسط الشيخ الحديث عن هذا الموضوع وأهميته مستدلاً بواقع المجتمع، ومشاكله، ومبيناً أن أساسها هو عدم الثقة بالله سبحانه وتعالى. فهاهي دعوة صادقة توجه إليك أخي المسلم لتعود إلى الله سبحانه وتعالى، وتثق بدين الله.

أهمية الثقة

أهمية الثقة الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريكٌ في الملك وما كان معه من إله، الذي لا إله إلا هو فلا خالق غيره ولا رب سواه، المستحق لجميع أنواع العبادة ولذا قضى ألا نعبد إلا إياه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62] عالم الغيب والشهادة، الذي استوى في علمه ما أسر العبد وما أظهر، الذي يعلم ما كان وما هو كائنٌ وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]. أحمدك يا رب وأستعينك وأستغفرك وأستهديك، لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، جل ثناؤك، وعظم جاهك، ولا إله غيرك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، من توكل عليه كفاه، ومن اعتصم به نجاه، ومن فوض إليه الأمر هداه، وصدق الله إذ يقول: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر:36]. وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وعظيمنا وقائدنا ومعلمنا وقدوتنا وأستاذنا محمد رسول الله، إمام المجاهدين، وقائد الغر المحجلين، صاحب المقام المحمود، وصاحب الحوض المورود، وصاحب اللواء المعقود، وصاحب الشفاعة العظمى في يومٍ لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون، إلا من أتى الله بقلبٍ موحدٍ سليم. اللهم صلِّ وسلم وبارك عليك يا سيدي يا رسول الله، صلاةً وسلاماً يليقان بمقامك يا أمير الأنبياء، ويا سيد المرسلين، أشهد لك يا سيدي يا رسول الله ويشهد معي الموحدون أنك أديت الأمانة، وبلغت الرسالة، ونصحت الأمة، وكشفت الغمة، وعبدت ربك حتى لبيت داعيه، وجاهدت في سبيل ربك حتى أجبت مناديه، وعشت طوال أيامك ولياليك تمشي على شوك الأسى، وتخطو على جمر الكيد والعنت، تلتمس الطريق لهداية الضالين وإرشاد الحائرين، حتى علَّمت الجاهل يا سيدي، وقومت المعوج يا سيدي، وأمَّنت الخائف يا سيدي، وطمأنت القلق يا سيدي، ونشرت أضواء الحق والخير والإيمان والتوحيد كما تنشر الشمس ضياءها في رابعة النهار، فصلى اللهم وسلم وبارك عليك يا سيدي يا رسول الله، وجزاك الله عنا خير ما يجزي الله به نبياً عن أمته ورسولاً عن قومه. أما بعد: فيا أيها الأحباب! إن موضوعي اليوم مع حضراتكم يدور حول كلمةٍ واحدة، كلمة تتكون من خمسة أحرف فقط، هذه الكلمة هي مفتاح السعادة في الدنيا والآخرة، هذه الكلمة هي المخرج الوحيد للهم والغم والكرب والضيق الذي نعيش فيه في هذه الأيام، هذه الكلمة هي مفتاح السعادة في الدنيا والآخرة، وبدونها هأنتم ترون أننا نعيش في شقاءٍ ونعيش في قحطٍ وضيقٍ وبلاء. أتدرون ما هي هذه الكلمة؟ كلمة بسيطةٌ في حروفها، قليلةٌ في تركيبها، عظيمةٌ في معانيها وفحواها، إنها: الثقة. ربما يعجب الكثير، ويقول في ذهنه في التو واللحظة: كيف يجعل خطبةً كاملة ننتظرها من أسبوعٍ لأسبوع عن كلمةٍ كهذه الكلمة ألا وهي كلمة: الثقة، ولكنكم بعد انتهاء الخطبة سترون أن الموضوع جد خطير؛ لأن الثقة -أيها الأحباب- تدور على ثلاثة أمور: أولاً: الثقة في الله. ثانياً: الثقة في منهج الله وهو: (القرآن). ثالثاً: الثقة فيمن بلَّغ عن الله وهو (ابن عبد الله صلى الله عليه وسلم). أعتقد أن الأمر قد اتضح قليلاً، وأن الموضوع جد خطير. الثقة أمرٌ عظيمٌ وأمرٌ خطير؛ لأنها: أولاً: ثقة في الله الخالق، ثقةٌ في الله الرازق، ثقة في الله المانع، ثقة في الله الخافض، ثقة في الله المعطي، ثقة في الله الضار، ثقة في الله المانع. ثانياً: ثقة في منهجه، ثقةٌ في تشريعه، ثقة في كتابه. ثالثاً: ثقة فيمن بلغ عن ربه وهو ابن عبد الله صلى الله عليه وسلم.

مشكلة المجتمع اليوم

مشكلة المجتمع اليوم إن مشكلتنا اليوم ليست نقص في المياه ولا الكهرباء، وليست نقص في الثمرات، ولا في الأرزاق، وليست نقص في العلاج ولا في الإسكان ولا في البناء، وإنما مشكلتنا اليوم هي مشكلة عدم ثقتنا بالله جل وعلا، نحن اليوم لم نعد نثق بالله جل وعلا، إذا ما قلنا: أيها المسئول! لم لا تثق في الله، ولم لا تثق في كلام الله، ولم لا تثقُ في منهج الله، ولم لا تثقُ في شرع الله؟ وجدت أن عدم الثقة واضحةً جليةً وضوح الشمس في ضحاها، يردون عليك بمنتهى الوقاحة وبمنتهى التبجح الممقوت الصارخ، وهم يقولون لك: يا هؤلاء! يا من تنادون بمنهج الله! ويا من تريدون العودة إلى الله! ويا من تصرخون بالصلح مع الله! إذا فعلنا ذلك وأغلقنا (الكبريهات، والكزنوهات) ومنعنا الخمور، وقضينا على شبكات الدعارة، وقبضنا على مافيا المخدرات من علية القوم وسادات الناس، ومنعنا السياحة، فمن الذي يضمن لنا العملة الصعبة؟ إن الذي يضمن لنا ولكم العملة الصعبة والرزق هو الذي خلق الخلق، هو من بيده الرزق، هو من بيده الأمر كله. فمشكلتنا -أيها الناس- وبلغوا هذا الكلام للجميع، وأنا أصرخ وأناشد المسئولين في هذا البلد، المسئولين عن هذا البلد الطيب: إن مشكلتنا الرئيسية أقسم بالله العظيم لا تكمن في نقص المياه، ولا تكمن في نقص الكهرباء، ولا تكمن في نقص الثمرات، وإنما مشكلتنا هي عدم الثقةٌ بالله الخالق. إننا نعيش في قحطٍ وضيقٍ وبلاء، نعيش في أزمات تلو الأزمات، ولكن زاد الطين بلة، هذه القرارات الأخيرة، التي خرجوا علينا بها، وملئوا مسامعنا بها على صفحات الجرائد وشاشات التلفزيون، وعبر موجات الراديو والإذاعات، هذه القرارات التي ترفع لأول مرة للمسئولين عن هذا البلد، ما هي هذه القرارات؟ قراراتٌ خطيرة، تنذر بأن الأمر خطير، وبأن المشكلة ليست كلاماً، وإنما هي مشكلةٌ حقيقية، نقصٌ في المياه، ثم بعد ذلك نقصٌ في الكهرباء. نقص المياه يترتب عليه ماذا؟ يترتب عليه نقصٌ في استصلاح الأراضي الزراعية، ويترتب عليه نقصٌ في الثمرات وزيادة في المشاكل. نقصٌ في الكهرباء. ونقص الكهرباء يترتب عليه ماذا؟ تعطيل للصناعات، وتعطيل للمصانع، زيادة للمشاكل والأزمات، والأفواه تصرخ تريد أن تأكل وتريد أن تشرب، ولكن ما هي النتيجة، ما هي الحلول التي خرج علينا بها المسئولون عن هذا البلد، ما هي الحلول التي ذكّرونا بها للخروج من هذه الأزمات، وللخروج من هذه المشاكل؟ أتدورن ما هي؟ كل الحلول التي قرأناها على صفحات الجرائد، والتي سمعناها وشاهدناها أنهم يصرخون في الناس ويقولون: اربطوا على البطون الأحزمة، لا تسرفوا، لا إسراف في المياه ولا إسراف في الكهرباء، هذا أمرٌ طيب، هذا أمرٌ حث عليه الدين من قبل أن تذكرونا به، فلو كان في القلب ذرةٌ من الإيمان لسمعنا قول الله عز وجل، وهو يصف عباد الرحمن بقوله: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} [الفرقان:67]. إذاً: الاعتدال ركنٌ من أركان الإيمان، وركنٌ من أركان الدين، ولكن القضية ليست قضية عدم إسراف، الحل لا يكمن في عدم الإسراف وحده، الحل لهذه المشكلة والخروج من هذه الأزمة لا يكمن في عدم الإسراف وحده، لماذا؟ لأن النتيجة بعد عدم الإسراف، نفد الماء، ونقصت الكهرباء، وعدنا نضرب كفاً على كف ننتظر الفرج من الله. إذاً: عدم الإفراط ليس هو الحل وحده، إن كان جزءاً من الحل فليس هو الحل كله. إذاً: ما هي النتيجة؟ هل سمعنا مسئولاً واحداً يذكرنا بالصلح مع من بيده مفاتيح الماء؟! هل سمعنا مسئولاً واحداً يصرخ فينا بالرجوع إلى الله، حتى ممن ولاهم الله قيادة أمر الدين في هذا البلد؟ ما سمعنا مسئولاً يذكرنا بالصلح مع الله، ما سمعنا مسئولاً يذكرنا بالرجوع إلى الله، ما سمعنا مسئولاً يذكرنا بأن نرجع إلى من بيده مفاتيح الماء، إلى من بيده مفاتيح الدنيا والآخرة.

الدعوة إلى تأمل كلام الله

الدعوة إلى تأمل كلام الله استمعوا إلى الله أيها المسئولون، استمعوا إلى الله أيها المسلمون، ماذا يقول ربكم؟ ماذا يقول خالقكم؟ ماذا يقول رازقكم؟ يقول الله سبحانه وتعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون:18]. الذي أنزل الماء هو الله، وصاحب الماء هو الله، بالله عليكم لقد وصل الشرق والغرب إلى أعلى درجات الترقي والتطور والحضارة، فهل سمعنا أن هناك قوةٌ شرقية، أو قوةٌ غربية تجرؤ على أن تدعي أنها تستطيع أن تصنع ذرة واحدةً من الماء، هل تستطيع قوة على تصنيع ذرة من ذرات الماء؟! أبداً. إذاً: المالك الحقيقي، والصانع الحقيقي لسبب الحياة الأول والأخير في هذه الحياة: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء:30] سبب هذا المصدر، ومسبب هذا المصدر هو من بيده الأمر كله، هو الله جل جلاله: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ} [المؤمنون:18] اسمعوا أيها المسئولون! اسمعوا أيها المسلمون: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون:18] سبحانك يا رب. يا من تقرءون القرآن ليل نهار، يا من تعقدون السرادقات، وتجلسون لسماع القرآن أين أنتم من كلام الله؟! {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ} [المؤمنون:18] بقدرٍ معلوم، بقدر حاجتهم للماء، وبقدر طاعتهم، وبقدر قربهم، وبقدر شكرهم، وبقدر حربهم على منهج ربهم. {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ} [المؤمنون:18] جعلناه في الأنهار، جعلناه في العيون، جعلناه في الينابيع، جعلناه في الأرض لتنتفعوا به، لتسقوا النبات، ولتسقوا الحيوانات، ولتشربوا عذباً فراتاً زلالاً. {وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون:18] أي: على ذهاب بهذا الماء لقادرون: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40]. إذاً: الذي ينزل الماء هو الله، والذي يرفع الماء هو الله، والذي يحول بين الناس هو الله: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون:18]. واستمعوا إلى الله جل وعلا وهو يقول في سورة الحجر: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} [الحجر:22]. انتبهوا للقرآن، بلغوا هذا الكلام لكل مسئول، أسمعوا هذا الكلام لكل مسئولٍ عن هذا البلد: {وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} [الحجر:22] مهما بنيتم من سدٍ عالٍ، أو سدٍ منخفض، ابنوا ما شئتم من السدود، وابنوا ما شئتم من الحصون، ما أنتم له بخازنين إلا برحمتنا، ما أنتم له بخازنين إلا بأمرنا، ما أنتم له بخازنين إلا بقدرتنا، ما أنتم له بخازنين إلا بلطفنا: {وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} [الحجر:22] انتبهوا للقرآن، انتبهوا لكلام ربكم: {وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} [الحجر:22] إلا بأمر الله وإلا بإدارة الله وإلا بقدر الله جل وعلا.

هلا شكرتم المنعم

هلا شكرتم المنعم واستمعوا إلى الله جل وعلا وهو يقول: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ} [الواقعة:68] انتبه يا موحد، انتبه يا مسلم {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ} [الواقعة:68 - 69] من الذي أنزل الماء؟ الله {أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ} [الواقعة:69 - 70]. فهلا تشكرون المنعم! فهلا تعترفون للمنعم بالفضل والنعم! فهلا تشكرونه!! فهلا تتقونه!! فهلا تعبدونه!! فهلا توحدونه!! لا إله إلا الله. {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ} [الواقعة:68 - 69]. (من المزن): أي من السماء والسحاب. (جعلناه أجاجاً): جعلناه ملحاً لا تستطيعون شرابه ولا تنتفعون به، جعلناه مراً علقماً: {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ} [الواقعة:70]. واستمع إلى الله جل وعلا وهو يقول: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ * فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ} [الملك:25 - 27].

(قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا)

(قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غوراً) {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} [الملك:28 - 30] من؟ الله، الذي إن ذهب بالماء إلى أغوار الأرض وإلى قاع الأرض العميق لا تستطيعون أن تصلوا إليه، لا تستفيدون منه، ولا تنتفعون به. (قل أرأيتم) أخبروني إن أذهب الله هذا الماء، أو إن منع الله الماء من السماء، أو إن منع الله هذا الماء أن تصلوا إليه في أعماق الأرض: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً} [الملك:30] أي: غائراً في باطن الأرض لا تصلون إليه، ولا تستفيدون منه، ولا تنتفعون به: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} [الملك:30] من غير الله يأتيكم بالماء؟ من غير الله يأتيكم بالرزق؟

أتعجبون من هذا البلاء؟!

أتعجبون من هذا البلاء؟! هذا هو كلام الله! هذا هو كلام ربكم أيها المسئولون! فهل تثقون في كلام الله؟! هل تثقون في أن الذي ينزل الماء من السماء هو الله؟! هل تثقون بأن الذي يستطيع أن يخرجنا من هذه الأزمة هو الله؟! إن كان الأمر كذلك فلم تخدعون الناس وتخدعون أنفسكم، إن كان الأمر كذلك فلم تحاربون الله ليل نهار؟! في بلادنا تصنع الخمور! في بلادنا تشرب الخمر! في بلادنا شبكاتٌ للدعارة والزنا! في بلادنا أبيح الربا! في بلادنا إعلامٌ عنيد يدمر الأخلاق والقيم! في بلادنا كل شيء، كل شيء يغضب الله، كل شيء أعلنا فيه الحرب على الله. في بلادنا غناءٌ ماجن ورقصٌ فاحش، ولا يتورعون على أن نقرأ على صفحات الجرائد ليل نهار إعلانات في الصفحات الأولى، إعلانات عارية على الصفحات الأولى من الجرائد، إعلانات عن ماذا؟ عن الكباريهات، والكازنوهات، مع سلطانة الرقص الشرقي، مع ملكة الرقص الشرقي، بدون حياء وبدون خجل، تنتظرون ماذا؟! ماذا تريدون بعد ذلك؟! ماذا تريدون بعد هذه الحرب الشعواء التي شنها الناس على الله؟! ماذا تنتظرون؟! أتعجبون من هذا القحط الذي نعيش فيه؟! أتعجبون من هذا البلاء الذي نعيش فيه؟! أتعجبون من هذا الضيق الذي نعيش فيه؟! إن الله عنده أكثر من هذا البلاء، وأكثر من هذا الضيق، وأكثر من هذا القحط إن لم نرجع إلى الله، وإن لم نصطلح مع الله، وإن لم نعرف قدرتنا: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279] ولن تستطيع قوةٌ على ظهر الأرض أن تتحمل حرب الله، وأن تتحمل حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم. أيها المسئولون! أيها المسلمون! إن أردتم أن نخرج من هذه الأزمة لا نقص في المياه، ولا نقص في الكهرباء، ولا نقص في الأموال، ولا نقص في الثمرات، فعودوا إلى رب الأرض والسماوات. هذا هو الداء وذاك هو الدواء، إن أردتم أن نخرج من هذه الأزمة فأعلنوا في الناس أن الصلح مع الله قد آن، أما آن لنا بعد كل هذا أن نرجع، ماذا ننتظر؟! ماذا ننتظر بعد كل هذا الهم والغم؟! أما آن لنا أن نفيق، أما آن لنا أن نصطلح مع الله، إذا أردتم ذلك فامنعوا الخمور، إذا أردتم ذلك فأغلقوا الكباريهات، إذا أردتم ذلك فنظفوا الإعلام، إذا أردتم ذلك فعودوا إلى الله وامنعوا هذه الإباحية، وامنعوا هذا السفور، وهذه العربدة تحت ستار التطور والتحرر والمدنية، إن أردتم ذلك فحاربوا وأمسكوا على أيدي مافيا المخدرات الذين يريدون لعقول وشباب المسلمين التحطيم والتدمير، وأنتم تعلمون أنهم من علية القوم وسادة الناس، إذا أردتم ذلك فهيا أعلنوا الصلح كله مع الله: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة:85]؟! لابد أن ننظف أنفسنا، ولابد أن ننظف أحكامنا، ولابد أن نرجع إلى ربنا إذا أردنا أن نخرج من هذا البلاء، إذا أردنا أن نخرج من هذا الضيق، إذا أردنا أن نخرج من هذا الشقاء، أفلا تثقون بالله؟!

الرجوع إلى الله وحده

الرجوع إلى الله وحده مشكلتنا عدم الثقة في كلام الله، الله سبحانه وتعالى هو وحده القادر على العطاء، هو وحده القادر على المنع، هو الذي يعطي، وهو الذي يمنع، وهو الخافض، وهو الرافع، وهو القابض، وهو الباسط، وهو بيده رزق كل شيء: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6] فلماذا لا نرجع إليه؟! ولماذا لم نصطلح مع الله تبارك وتعالى؟! أتذكر مشهداً في غاية الروعة والجمال، هذا هو سيدنا عمران بن حصين رضوان الله عليه، جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم مبعوثاً من قريش، ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم لعله يستطيع أن يقنع النبي أن يرجع عن دينه ويرجع إلى دين آبائه، فقال له عمران: [يا محمد! إنك فينا حيث قد علمت، صادقاً أميناً متزناً رزيناً، فهلا هادنت قومك وتركت سب آلهتهم وتسفيه أحلامهم]. فماذا قال له النبي صلى الله عليه وسلم؟! قال له: (يا عمران! من تعبد؟ -ما هي آلهتك؟ - فقال عمران بن حصين: أعبد سبعةً من الآلهة، إلهٌ في السماء وستةٌ في الأرض، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: فأي إله تطلب لحاجتك يا عمران؟! -أي إن كنت في ضيق ٍوحاجة، تطلب من آلهة الأرض أم من إله السماء؟ - قال: بل من إله السماء، قال رسول الله: فإذا كنت في مرض فممن تطلب؟ قال: من إله السماء، قال: فإذا كنت في شدة فممن تطلب؟ قال: من إله السماء، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما دام إله السماء يعطيك ويكفيك ويرضيك فلمَ لا تقل لا إله إلا الله؟!) فلمَ تشرك معه غيره؟ فما لبث عمران إلا أن يذعن لهذه الحجة القوية، ولهذا البرهان الواضح الساطع ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله. أيها الأحباب! لو عدنا إلى الله فإن الله صاحب العطاء! لو عدنا إلى الله فإن الله صاحب الرزق، لو عدنا إلى الله فإن الله عنده الكثير، استمعوا إلى الله جل وعلا وهو يقول في الحديث القدسي الجليل: (يا ابن آدم! لا تخشى من ذي سلطانٍ ما دام سلطاني باقٍ، وسلطاني لا ينفذ أبداً، يا ابن آدم! لا تخشى من ضيق الرزق فخزائني مملوءة وخزائني لا تنفذ أبداً، يا ابن آدم! لا تطلب غيري وأنا لك، فإن طلبتني وجدتني وإن فتني فتك، وإن فتك فقد فاتك الخير كله، يا ابن آدم! إن رضيت بما قسمته لك أرحت قلبك وبدنك وصرت عندي محموداً، وإن لم ترض بما قسمته لك، فوعزتي وجلالي لأسلطن عليك الدنيا تركض فيها ركض الوحوش في البرية، ثم لا يصيبك إلا ما قسمته لك، وصرت عندي مذموماً، يا ابن آدم! أنا لا أنسى من عصاني فكيف أنسى من أتى إلي تائباً؟ فوعزتي وجلالي لو أتيتني نهاراً قبلتك، ولو أتيتني ليلاً قبلتك، ولو تقربتَ مني شبراً تقربتُ منك ذراعاً، ولو تقربت مني ذراعاً تقربت منك باعاً، ولو أتيتني تمشي أتيتك مهرولاً، فمن أعظم مني جوداً وأنا الجواد الكريم). أيها الأحباب! لا مفر ولا مناط: {أَزِفَتِ الْآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} [النجم:57 - 58] أقسم بالله العظيم، أنه لن تكشف هذه الغموم، ولن تحل هذه المشاكل، ولن ترفع هذه الأزمات، إلا إذا اصطلحنا مع الله، وإلا إذا عدنا إلى الله، وإلا إذا رفعنا هذه الحرب عن منهج الله وعن شرع الله جل وعلا، وهأنتم مخيرون إن أردتم أن تخرجوا فاخرجوا، وإن أردتم أن تظلوا فيه هذا الهم والغم والضيق، وإن أردتم الكثير والكثير من الله، فالله عنده الكثير: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124]. عيشةٌ كلها خراب، وعيشةٌ كلها قحط، وعيشةٌ كلها ضيق لمن أعرض عن منهج الله، ولمن أعرض عن ذكر الله، ولمن أعرض عن شرع الله، ولمن أعلن الحرب على الله جل وعلا. نعم. يقول ربنا في الحديث القدسي الصحيح (يا عباد! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيدٍ واحد، وسألوني لأعطيتُ كل واحدٍ مسألته من غير أن ينقص من ملكي شيئاً، إلا كما ينقص المخيط إذا دخل في البحر ثم خرج) الإبرة!! إبرة المخيط، لو أنزلتها البحر وأخرجتها أي مقدار نقص من البحر؟ لا شيء، فلو أن الخلق الإنس والجن جميع العباد وقفوا في وقتٍ واحد وسألوا الله لأعطاهم مسائلهم من غير أن ينقص ذلك من ملك الله شيئاً؛ لأن الله سبحانه وتعالى يملك خزائن السماوات والأرض أسأل الله سبحانه أن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر:18] يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (البر لا يبلى والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، افعل ما شئت كما تدين تدان) وهو القائل أيضاً: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له). أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

دعوة إلى التوبة إلى الله والصلح معه

دعوة إلى التوبة إلى الله والصلح معه الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، أدى الرسالة، وبلغ الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، فصلى اللهم وسلم وبارك عليك يا سيدي يا رسول الله، وجزاك الله عنا خير ما يجزي الله به نبياً عن أمته ورسولاً عن قومه. أيها الأحباب! هيا بنا لنثق في كلام الله، ونثق في رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغ عن ربه، فإن مشكلتنا عدم الثقة بالله جل جلاله، يقول الله سبحانه، وأنا أُذكر المسئولين وأُذكر المسلمين في هذا البلد، ما هي نتيجة الصلح مع الله؟ وما هي نتيجة الرجوع إلى الله جل وعلا؟ يقول الله سبحانه وتعالى على لسان نبيه نوح: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} [نوح:10]. ما هي النتيجة إذاً؟ ما هي النتيجة لو عدنا إلى الله من معاصينا؟ ما هي النتيجة لو تبنا إلى الله من ذنوبنا وتقصيرنا؟ {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً} [نوح:10 - 11]. يا من تريدون الماء! ويا من تريدون المطر! هاهو العلاج، هاهو الدواء {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً * مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} [نوح:11 - 13]. هذا هو كلام ربنا، فالقضية قضية عدم الثقة بكلام الله. لقد جربنا الشرق مرة، وجربنا الغرب مرة، واتخذنا جميع الخطط؛ خطةٌ خمسية، وخطةٌ سنوية، وخطةٌ شهرية، ولكن لا مفر من الصلح مع صاحب الأمر كله، لا مفر من الرجوع إلى الله، لابد أن نرجع: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} [نوح:1] ما هي النتيجة؟ {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً} [نوح:11] لأنه هو وحده بيده مفاتيح الماء، بيده مفاتيح الأرض والسماء: {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} [نوح:11 - 12] ولكنكم لا ترجون توقير الله، ولا ترجون أن تثقوا في الله، ولا تصدقون كلام الله، فأنتم ومصيركم. {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً} [نوح:11] يا من تريدون المطر، ويامن تريدون الماء، ويا من تخافون من نقص المياه، ونقص الكهرباء، هاهنا في استغفار الله، هاهنا في الرجوع إلى الله، هاهنا في العودة إلى الله جل وعلا. ورُوي أن الحسن عليه رضوان الله جاءه رجلٌ يسأله ويشتكي له الفقر، فقال له الحسن: استغفر الله. وجاء رجلٌ ثانٍ إلى الحسن يشكو الجدب -أي: عدم نزول المطر- فقال له الحسن: استغفر الله. وجاء رجلٌ ثالث يقول للحسن: أنا رجلٌ صاحب أموال إلا أنني أريد البنين والأولاد، فقال له الحسن: استغفر الله. وجاء رجلٌ رابع يشكو للحسن قلة ريع الأرض وإنتاج الأرض، فقال له الحسن: استغفر الله. فتعجب الجميع من حوله، وقالوا له: ما هذا يا تقي الدين؟ إن رجلاً جاء وسألك واشتكى إليك الفقر، فقلت: استغفر الله، وجاء آخر يشكو إليك قلة ريع الأرض فقلت: استغفر الله، وجاء آخر يشكو إليك عدم نزول المطر فقلت: استغفر الله، وجاء رابع يشكو إليك عدم وجود البنين فقلتَ له: استغفر الله!! فقال لهم: هذا من كتاب الله جل وعلا ثم تلى عليهم قوله سبحانه: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً * مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} [نوح:10 - 13]. يقول الله سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف:96] يقول سبحانه: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً} [الجن:16] هذا كلام ربنا، فأين الثقة في كلام الله؟ إنها الثقة. إذاً: مشكلتنا عدم الثقة في الله، وعدم اليقين في كلام الله تبارك وتعالى.

ابن مسعود على فراش الموت

ابن مسعود على فراش الموت أتذكر هذا المشهد لأختم به خطبة اليوم حينما دخل عثمان بن عفان على عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وهو نائمٌ على فراش الموت، فقال له عثمان بن عفان: [يا ابن مسعود! من أي شيء تشكو؟ قال له: أشكو ذنوبي، قال أي شيءٍ تخاف؟ قال: أخاف عذاب الله، قال: أي شيءٍ ترجو؟ قال: أرجو رحمة ربي، قال له عثمان: هل أستدعي لك الطبيب، فقال عبد الله: الطبيب لقيني، فقال عثمان: وماذا قال لك؟ فقال ابن مسعود: قال لي الطبيب: إني فعالٌ لما أريد، فقال عثمان: يا ابن مسعود! هل أكتب لبناتك شيئاً من المال بعد موتك؟ قال: كلا يا أمير المؤمنين، قال: ولم؟ قال له: لأنني علمتُ بناتي سورة الواقعة، سمعتُ حبيبي رسول الله يقول: (من قرأ سورة الواقعة في يومه وقاه الله شر الفقر طول يومه] يقين في الله، وثقة في الله. إذاً مشكلتنا هي عدم الثقة في كلام الله؛ لأن الله يقول: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً} [الجن:16] إلا أننا نقول لربنا: لا يا رب الطريقة هاهنا، مرةً في الشرق ومرةً في الغرب، ومرةً مع العملات الصعبة، ولكن أقسم بالله العظيم ليس هذا هو الحل، أقسم بالله ليس هذا هو الحل. اللهم إني قد بلغت اللهم فاشهد، اللهم إني قد بلغت اللهم فاشهد، الحل هاهنا الحل هاهنا الحل هاهنا الفرج هاهنا الفرج هاهنا أن نرجع إلى الله وأن نعود إلى الله، وأن نصطلح مع الله، وأن نجدد البيعة مع الله، وأن ننفذ شرع الله {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً} [الجن:16] {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف:96] {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذريات:22 - 23] فما من دابةٍ في الأرض إلا على الله رزقها. فهيا ثقوا في الله، ثقوا في كلام الله، ثقوا في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وجربوا الله مرة، وجربوا شرع الله مرة، لقد جربتم كل شيء، فلم تعرضون عن منهج الله، ولم تعرضون عن تجربة شرع الله؟ ففي منهج الله العز كله، لماذا؟ لأن الله هو الذي خلق، ولأن الله هو الذي قنن، ولأن الله هو الذي شرع، وصدق الله إذ يقول: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]. أسأل الله سبحانه أن يشرح صدورنا، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه. اللهم ارفع عنا هذا البلاء، اللهم ارفع عنا هذا البلاء، اللهم ارفع عنا هذا البلاء، اللهم ارفع عنا هذا الغم والهم، اللهم ارفع عنا هذا الضيق، اللهم ارفع عنا هذا الضيق، اللهم إن أردت بالناس فتنةً فاقبضنا إليك غير خزايا ولا مفتونين، ولا مفرطين ولا مضيعين، اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا، اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا، اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا، اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، ولا تعذبنا فأنت علينا قادر، لا تعذبنا فأنت علينا قادر، لا تعذبنا فأنت علينا قادر، اللهم الطف بنا يا لطيف، اللهم ارحمنا يا رحيم، اللهم تب علينا يا تواب، اللهم نج مصرنا من هذه الفتن، اللهم ارفع عن مصرنا هذه الابتلاءات، اللهم ارفع عن مصرنا هذه المحن، اللهم إن بـ مصر عباداً ركعاً سجداً يبتغون فضلك ورضوانك، اللهم إن بـ مصر شيوخاً ركعاً، وأطفالاً رضعاً، وبهائم ركعاً فارحمهم يا رب العالمين، اللهم ارفع عنا البلاء وارفع عنا الضيق، اللهم اجعل مصرنا سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم اجعل مصرنا سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين. اللهم لا تحرمنا من نعمة الماء، اللهم لا تحرمنا من نعمة الماء، اللهم لا تحرمنا من نعمة الماء، اللهم لا تحرمنا من نعمة الماء واجعلنا أهلاً لشكر نعمك يا رب العالمين. اللهم اغفر لنا ذنوبنا، واغفر لنا عيوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم لا تدع لأحدنا ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا أديته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا حاجةً هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا رب العالمين. عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، اذكروا الله العظيم يذكركم، واستغفروه يغفر لكم، واشكروه على نعمه يزدكم. وقبل أن أغادر هذا المنبر أذكركم بالتبرع لمسجد الإمام، عسى الله تبارك وتعالى أن يوفقنا للانتهاء من بنائه إن شاء الله جل وعلا، وأنفقوا ولا تخشوا من ذي العرش إقلالاً، وأعتذر لكم عن الدرس فإني على سفر، وأقم الصلاة.

الحمل بالمسيح

الحمل بالمسيح ضمن فوائد سورة مريم يقف الشيخ منبهاً على عقيدة التوحيد، وذلك من خلال سياق قصة مريم عليها السلام حين جاءها الملك، وقصة حملها وولادتها بعيسى عليه السلام، وقد بيَّن -حفظه الله- قدرة الله وعنايته ورعايته ورزقه لمريم، ودعا أخيراً إلى الأخذ بالأسباب ثم التوكل على الله.

موقف أهل الإسلام من عيسى عليه السلام

موقف أهل الإسلام من عيسى عليه السلام الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريكٌ في الملك وما كان معه من إله، الذي لا إله إلا هو فلا خالق غيره ولا رب سواه، المستحق لجميع أنواع العبادة ولذا قضى ألا نعبد إلا إياه {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62]. أحمدك يا ربِ وأستعينك وأستغفرك وأستهديك، لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك. جل ثناؤك، وعظم جاهك، ولا إله غيرك، أحمدك حمداً كثيراً طاهراً طيباً مباركاً فيه ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيءٍ بعد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الواحد الذي لا ضد له، والصمد الذي لا منازع له، والغني الذي لا حاجة له، والقوي الذي لا يعجزه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، هو جبار السماوات والأرض، فلا راد لحكمه، ولا معقب لقضائه، إنما قوله لشيءٍ إذا أراده أن يقول له كن فيكون. وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وعظيمنا وقائدنا ومعلمنا وقدوتنا وأستاذنا محمد رسول الله، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليك يا سيدي يا رسول الله صلاةً وسلاماً يليقان بمقامك يا أمير الأنبياء ويا سيد المرسلين، وأشهد لك يا سيدي ويشهد معي الموحدون أنك قد أديت الأمانة، وبلغت الرسالة، ونصحت الأمة، وكشف الله بك الغمة، وعبدت ربك حتى لبيت داعيه، وجاهدت في سبيل ربك حتى أجبت مناديه، وعشت طوال أيامك ولياليك تمشي على شوك الأسا، وتخطو على جمر الكيد والعنت، تلتمس الطريق لهداية الضالين وإرشاد الحائرين، ونشرت أضواء الحق والخير والإيمان والتوحيد كما تنشر الشمس ضياءها في رابعة النهار، فصلِّ اللهم وسلم وبارك عليك يا رسول الله، وجزاك الله عنا خير ما جزى الله به نبياً عن أمته ورسولاً عن قومه. أما بعد:

عقيدة أهل السنة في عيسى عليه السلام

عقيدة أهل السنة في عيسى عليه السلام فيا أيها الأحباب! تعالوا بنا لنطوف سوياً في روضة القرآن الكريم، ومع اللقاء الرابع عشر على التوالي مازلنا نطوف مع حضراتكم في بستان سورة مريم. نكرر القول بين يدي كل لقاء من لقاءات تفسيرنا لسورة مريم ونقول أولاً: بأن عقيدتنا نحن الموحدون هي لا إله إلا الله، نقولها في كل زمان ومكان، نبتغي بها وجه ربنا ذي الجلال والإكرام ونقول: لا إله إلا الله، لا شريك له، ولا ند، ولا كفء، ولا شبيه، ولا ضد {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4]. هذه هي عقيدتنا، وهذا هو توحيدنا، قالها لنا نبينا صلى الله عليه وسلم: (قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا) هكذا قال ابن عبد الله، فقلناها والحمد لله، ونسأل الله أن يتوفانا على لا إله إلا الله. ثانياً: نبرئ عيسى عليه السلام مما نسبه إليه النصارى، ونقول: بأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم عليها السلام، ليس إلهاً، ولا ابناً للإله جل وعلا، وإنما هو عبد الله ورسوله، ونقول ما قاله الله جل وعلا: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} [البقرة:116] هكذا قال النصارى {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ * بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة:116 - 117]. لا زوجة له، ولا نِد له، ولا ولد له، ولا كفء له، ولا شبيه له، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4]. ثالثاً: نهتف في كل لقاءٍ مع أستاذنا ومعلمنا الإمام ابن القيم ونقول لهؤلاء النصارى: أعباد المسيح لنا سؤالٌ نريد جوابه ممن وعاهُ إذا مات الإله بصنع قومٍ أماتوه فهل هذا إلهٌ ويا عجباً لقبرٍ ضم رباً وأعجب منه بطنٌ قد حواهُ أقام هناك تسعاً من شهور لدى الظلمات من حيضٍ غذاه وشق الفرج مولوداً صغيراً ضعيفاً فاتحاً للثدي فاه ويأكل ثم يشرب ثم يأتي بلازم ذاك هل هذا إله تعالى الله عن إفك النصارى سيسأل كلهم عما افتراه

حوار مريم والملك

حوار مريم والمَلَك أما بالنسبة لتفسير الآيات، فلقد توقفنا في اللقاء الماضي عند قول الحق جل وعلا: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً} [مريم:16 - 21]. لقد توقفنا في اللقاء الماضي عند قول الحق جل وعلا {وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً} [مريم:21] هذه العذراء التي تربت على الطهر والعبادة والعفاف احتجبت يوماً من أيام حياتها عن قومها لقضاء حاجةً من حوائجها الخاصة جداً، وفجأة في هذه الخلوة، ووراء هذا الحجاب، وجدت أمام عينيها وبين يديها بشراً سوياً كاملاً مكتملاً، فقالت: {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً} [مريم:18] أي: إن كنت تتقي الله جل وعلا، وإن كنت ممن يخافون الله جل وعلا، فطمأنها هذا البشر السوي قائلاً: {إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً} [مريم:19] فسألت العذراء في تعجبٍ ودهشةً واستغراب. قالت: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً} [مريم:20] ليس لي زوج، ولم أكون زانية في يومٍ ما {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً} [مريم:20] فطمأنها الملك ثانيةً وهو جبريل عليه السلام قائلاً: {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً} [مريم:21]. وهنا اطمأنت مريم لهذا الكلام، واطمأنت واستسلمت لقضاء الله وقدره {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} [مريم:21] قدرة الله لا تحدها حدود {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً} [مريم:21] ولنجعل هذا المولود آية، أي: علامة؛ علامة على ماذا؟ علامة على قدرتنا وعلى كمال جلالنا وعظمتنا {وَرَحْمَةً مِنَّا} [مريم:21] رحمةً منا لمن شهد لي بالوحدانية وله بالرسالة والنبوة {وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً} [مريم:21] إذا قدر الله وإذا أراد الله شيئاً فإنما يقول له: كن فيكون، {وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً} [مريم:21].

حمل مريم بين عقيدة النصارى والمسلمين

حمل مريم بين عقيدة النصارى والمسلمين نحن اليوم على موعدٍ مع المشهد الثاني؛ لأني قسمت قصة مريم إلى ثلاثة مشاهد، المشهد الأول -تكلمنا عنه في اللقاء الماضي- إلى قول الله جل وعلا: {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً} [مريم:21]. المشهد الثاني: هو قول الله جل وعلا: {فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً * فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً} [مريم:22 - 26] هذا هو المشهد الثاني. فحملت! كنت أود أن يكون موضوعنا اليوم عن معنى كلمة فحملت فقط؛ لأن هذه اللفظة تحمل معانٍ عظيمة وكثيرة.

معنى قوله تعالى: (فحملته) عند النصارى

معنى قوله تعالى: (فحملته) عند النصارى ماذا قال النصارى في حمل مريم؟ وماذا قال الموحدون في حمل مريم؟! قال النصارى عن معنى كلمة: (فحملت) واستمعوا إلى هذا الهراء، والافتراء، والكذب، ماذا قال النصارى عن معنى: (فحملت)؟! ماذا قالت أناجيل النصارى: برنابا، ومتى، مرقص، قالت أناجيل النصارى في حمل مريم بالإجماع: أي حملت بالإله؛ لأن اليعقوبية والنسطورية تقولان -وهاتان طائفتان من طوائف النصارى، كطوائف البروتستانت والأرثوذكس اليوم- بأن أم مريم هي زوجة الرب الإله، ولما أراد الإله أن يتجسد في الناسوت - لأنني قلتُ لكم بأنهم يقولون بأن الإله لاهوتاً وناسوتاً في آنٍ واحد- نزل إلى مريم، -استمع إلى هذه الألفاظ- نزل رب السماوات والأرض من على كرسيه وعرشه -هكذا قالوا- ودخل في فرج مريم، والتحم الإله ببطن مريم، وأقام هناك تسعة أشهر كاملة يتخبط بين اللحم والدم والحيض ثم خرج بعد ذلك لاهوتاً من جنس أبيه، وناسوتاً من جنس أمه، ثم بعد ذلك عاش ما قدر لنفسه أن يعيش، ثم صلبه اليهود وقتلوه، ودفن في قبره ثلاثة أيام ثم ترك الإله القبر، وصعد ليجلس عن يمين أبيه، وتجلس أمه عن يسار الرب ليحكم بين الناس يوم القيامة! هذا ما قاله النصارى، وهذا هو افتراء النصارى!!

معنى قوله تعالى: (فحملته) عند المسلمين

معنى قوله تعالى: (فحملته) عند المسلمين ولكن تعالوا بنا لنفخر ولنعلي هذا الإسلام على رءوس الأزمان والأشهاد، فحقٌ لنا أن نفخر بأننا موحدون ننتسب إلى محمد صلى الله عليه وسلم. ماذا قال الموحدون في حمل مريم؟ ماذا قال قرآننا عن معنى كلمة: (فحملته)؟ ماذا قال نبينا عن معنى كلمة: (فحملته)؟ ما هو كلام المسلمين المؤمنين، وما هو كلام علمائهم؟ يقول علماؤنا: لا ينبغي لنا أن نلهث وراء كيفية الحمل؛ لأنه لا يعلم كيفيته إلا من أمر به. انظر إلى الأدب، انظر إلى الكمال والجلال، لا ينبغي لنا أن نلهث، أو أن نبحث، أو أن ندقق في كيفية الحمل، كيف حملت مريم؟! وكيف نفخ جبريل؟! وفي أي مكان نفخ؟! هل نفخ جبريل في فرجها أو جيبها أو كمها أو درعها؟! لا يجب أن نسأل على الإطلاق، لأننا نقر ونعترف أن الذي أراد ذلك هو الله وكل شيءٍ هينٌ أمام قدرته وعظمته وإرادته، قال الله سبحانه وتعالى: {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً} [مريم:21]. انتبهوا معي لهذا الملحظ الجميل في قوله سبحانه: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40] إذا أراد الله شيئاً فإنما يقول له:، وانتبهوا معي إلى هذه اللفظة، هذه الكلمة التي تتكون من حرفين: لام وهاء، أن يقول له: كن فيكون، نحن نفهم هذه العبارة وهذه الكلمة، إذا قال له: كن فيكون، كلمة له، تحمل معنى شيء، يعني: قال الله للجدار كن فكان، قال له كن أيها الجدار فكان، قال لهذه السماء كوني فكانت. قال له: معنى كلمة (له) أنها تحمل معنى شيء وجد، وهذا يلفت أنظارنا إلى أن الله عز وجل يقول: إذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن، أي أن هذا الشيء وجد قبل أن يقول الله كن، كلمة له موجود، وبعد ذلك يقول كن، إذاً: هو كان ويكون، دليلٌ على القدرة، والعظمة، والإرادة، قبل أن يقول الله كن إذا أراد الشيء كان، وإن كان هذا الأمر يحدث معي أنا إن كنت من المؤمنين الموحدين ودخلت الجنة، فإن هذا الأمر يحدث معك، فإذا كنت من أهل الجنة واشتهيت فاكهةً معينة، أو طعاماً معيناً قبل أن يتحرك لسانك بطلب هذه الفاكهة، وبطلب هذا الشيء ما عليك إلا أن تقول: سبحانك اللهم، وقبل أن تطلب تجد ما اشتهيته أمام عينيك وبين يديك. إذا كان هذا أمرٌ لي أنا الإنسان، فكيف سيكون الحال مع خالق الإنسان والأكوان، إذا قال الله: كن لابد أن يكون. فالله سبحانه وتعالى يقول: فحملته، ما ينبغي لنا أن نسأل، وما ينبغي لنا أن نبحث كيف كان الحمل، وكيف نفخ جبريل، هذا أمرٌ لا يعلمه إلا الله، المهم أننا نعلم أن قدرة الله لا تحدها حدود، فحملته انتهى الأمر {وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً} [مريم:21].

عجز الإنسان عن إدراك حقيقة الروح

عجز الإنسان عن إدراك حقيقة الروح نحن في هذه الأيام في القرن العشرين، الذي صعد الإنسان فيه إلى سطح القمر، وصنع فيه الإنسان السيارة والطيارة والصاروخ والقنبلة النووية، وبالرغم من ذلك ما من قوة على ظهر هذه الأرض في عصرنا هذا اخترقت أو تجرأت على أن تقول: إننا قد أدركنا ما هي الروح، الإنسان عاجز إلى الآن عن إدراك ما هي الروح التي قال الله عنها: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء:85]. أي: أنكم مهما وصلتم وتوصلتم إلى أعلى مراتب درجات العلم، فإنكم لم ولن تستطيعوا أن تصلوا إلى كنه الروح أو ما هي الروح؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد اختص وحده بعلمها.

خلاف أهل الإسلام في مدة الحمل

خلاف أهل الإسلام في مدة الحمل كيفية الحمل؛ الله أعلم به، قال بعض العلماء بأن معنى كلمة فحملته: أي: حملت مريم بعيسى وولدته في ساعة واحدة، وهم يستدلون بقول الله جل وعلا: {فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ} [مريم:22 - 23] فهم يستدلون بوجود الفاء هنا على أنها في اللغة تحمل معنى الترتيب والتعقيب، وهذا يحمل معنى سرعة الحمل والولادة. ولكننا نقول لهم: لا. وإنما حملت مريم بعيسى حملاً عادياً تسعة أشهر، وهذا هو رأي جمهور العلماء، ورأي جمهور المفسرين، أن مريم حملت بعيسى حملاً عادياً تسعة أشهر. الدليل: إذا كنتم تستدلون بفاء الترتيب والتعقيب، فإننا نقول: فاء الترتيب والتعقيب تأتي في اللغة العربية بحسب الشيء الذي يليه. بمعنى: أن الله لما تكلم عن مراحل خلق الإنسان قال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً} [المؤمنون:12 - 14] جاءت هنا فاء الترتيب والتعقيب والحديث في صحيح البخاري ومسلم أن بين كل مرحلةٍ ومرحلة أربعين يوماً. إذاً: فالتعقيب يأتي بحسبه، أنزل الله الماء من السماء فتصبح الأرض مخضرة، كلمة: فتصبح، فاء الترتيب والتعقيب هنا لا تفيد أنه بمجرد نزول المطر اخضرت الأرض، لا. بل أخذت وقتاً وهذا الوقت بحسب الشيء الذي يليه. فمريم حملت بعيسى حملاً عادياً تسعة أشهر، والدليل على ذلك أيضاً: أنها لما ظهرت عليها بوادر الحمل، وكبرت بطنها وثقلت كان يخدم معها في البيت رجلٌ صالحٌ يسمى: يوسف النجار، هذا الرجل الذي اتهم اليهود مريمَ به، قالوا: إن الذي فعل بها هذه الفعلة هو يوسف؛ لأنه هو الذي يوجد معها في بيت المقدس هذا لما نظر إلى بطن مريم، وإلى ثقل بطن مريم، تعجب! وأخذ يفكر في حقيقة الأمر، وكلما سيطر عليه هذا الهاجس وهذا التفكير دفعه بعنفٍ وقوةٍ وشدة لما يعلم من براءتها وطهرها وعفتها وعبادتها ودينها، ولكن سرعان ما يعود هذا الخاطر مرةً ثانية فيقول لنفسه: إذا كانت هي تقيةً ورعة، وأنا أقر بذلك فكيف هذا الحمل؟! كيف كبر بطنها وثقل ويظل يعيش مع هذا الخاطر يدفعه مرة ويسيطر عليه مرات، وفي النهاية ذهب إليها وقال: يا مريم! إني سائلك عن أمرٍ فلا تعجلي عليَّ فيه، فقالت مريم: وكأنها فهمت ماذا سيقول يوسف، قالت: يا يوسف سلني عما شئت ولكن قل قولاً جميلاً؟ فقال لها يوسف مُعرّضاً في الكلام، قال لها يا مريم هل ينبت زرعً بغير بذر؟ وهل ينبت شجر بغير غيث؟ وهل يكون ولدٌ بغير أب؟! فقالت مريم: نعم. قال لها: كيف؟! فقالت له: يا يوسف! ألم تعلم أن الله أنبت الزرع يوم خلقه من غير بذر؟! ألم تعلم يا يوسف أن الله أنبت الشجر يوم خلقه من غير غيثٍ ولا مطر؟! ألم تعلم يا يوسف أن الله يوم خلق آدم خلقه من غير أبٍ وأم؟! فنظر إليها قائلاً: أعلم أن الله على كل شيءٍ قدير!! ولم يستطع بعد ذلك أن يناقشها، أو يجادلها، وتركها إلى حالها. وانتصرت مريم، ولذا فإن الله جل وعلا يقول: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ * أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} [الواقعة:57 - 59] من الخالق؟ الله {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ * نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ * أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ * أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:58 - 74] سبحان ربي العظيم. {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} [الواقعة:58] أفرأيتم هذه النطفة وهذا المني الذي يقذفه أحدكم بشهوة، ويجعل الله منه الولد بقدرته؟ من هذه النطفة ومن هذا الماء تكون أنت أيها الإنسان الكامل المغرور {فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ * إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} [الطارق:5 - 8]. {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} [الواقعة:58 - 59] {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة:63 - 64] {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ} [الواقعة:68 - 69]. من الذي خلق؟ الله. ومن الذي أنزل؟ الله. ومن الذي ينبت؟ الله. ألم تعلم يا يوسف أن الله خلق الزرع يوم خلقه من غير بذر؟! وخلق الشجر يوم خلقها من غير غيث؟! وخلق آدم يوم خلقه من غير أبٍ وأم. يقول سبحانه: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ} [البقرة:259] رجل مرّ على قرية مهجمة لا أثر فيها لأي حياة، فنظر إلى هذا البناء متعجباً وقال: كيف يحي الله هذا الموات؟! {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة:259 - 260]. أعلم أن الله على كل شيءٍ قدير، وأعلم أن الله عزيزٌ حكيم، قدرة الله لا تحدها حدود {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40].

ولادة عيسى عليه السلام

ولادة عيسى عليه السلام حملته حملاً عادياً بقدرة الله وبأمره، وطال وقت الحمل، وظهرت بوادره، وهنا ضاق قلبها، وضاقت نفسها، وضاقت ذرعاً بهذه الفضيحة المنتظرة، {فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً} [مريم:22] لما اقترب الوقت وحان الأجل، وعلمت أن أ/رها سيفضح بين قومها، خرجت بهذا الحمل الذي كاد أن ينزل صاحبه {فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً} [مريم:22] خرجت إلى مكانٍ بعيد، إلى ما وراء الجبال حتى لا يراها أحد من الناس.

إلجاء المخاض لمريم وشدته عليها

إلجاء المخاض لمريم وشدته عليها {فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً} [مريم:22] وهنا في هذا المكان البعيد عن أعين الناس، ولكنه قريبٌ من عين الذي لا يغفل ولا ينام، لا يتركها ربها أبداً، هنا يقول الله سبحانه: {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ} [مريم:23] انظر إلى دقة اللفظ: فأجاءها، بمعنى: فألجأها المخاض إلجاءً فاضطرها اضطراراً، وكلكم يعلم لا أقول النساء وإنما أقول أنتم أيضاً، فما من امرأة أو رجل إلا ويعلم شدة الوضع عند المرأة، فلقد رأيت زوجتك، وأمك، وأختك، وابنتك تتألم وتصرخ وأنت إلى جوارها في مكانٍ آخر، لأن آلام الوضع لا يعلمها إلا من جربت هذا الألم، ربما تألمت أنت لألمها إلا أن الألم الحقيقي لا تعرف قدره أنت مهما كان ألمك. فهنا جاءها المخاض: أي الطلق، وآلام الولادة والوضع: {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ} [مريم:23] أي: ففاجأها المخاض، واضطرها الطلق اضطراراً إلى جذع نخلة قريب من هذا المكان الذي ذهبت إليه وجلست فيه: {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم:23] استندت على هذا الجذع وهي تتألم. ولكم أن تتخيلوا معي عذراء لأول مرة تلد، ليس معها أم، ولا أخت، ولا زوج، ولا ابن، ولا أي مخلوق، لكن معها الله، ومن كان الله معه فلا يحزن، عذراء تلد لأول مرة، وأعتقد أن النساء يعلمن ويعرفن هذا الأمر جيداً، فتاة تلد لأول مرة دون أن يكون معها إنسان. {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم:23] وفجأة نزل الوليد، وليس الإله! هل هناك إلهٌ يولد؟! هل هناك إلهٌ ينزل من فرج؟! هل يليق بالإله أن يتلبط بين الدماء والحيض؟!! هل يليق بالإله أن يلتقم الثدي ليشرب من جوع؟! هل يليق بالإله أن يأكل الطعام ليسد جوعه؟! هل يليق بالإله أن يلف في لفائف، وأن يتبول وأن يتغوط؟! تعالى الله عما يقول النصارى علواً كبيراً! ونزل الوليد، وهنا رأت مريم نفسها أمام الفضيحة بجميع أركانها، لا مفر منها، ولدها أمام عينيها وبين يديها، وهنا قالت بلسان المرأة الضعيفة التي تعلم علم اليقين أنها في مواجهة قومها، قالت: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً} [مريم:23] ليتني متُ قبل هذا اليوم، ليتني ما رأيته، ليتني ما عشتُ إلى هذا اليوم، ماذا سأقول لقومي؟ وماذا سأقول لأهلي؟ وقد انتشر الخبر وشاع في بيت زكريا، وبيت عمران، وبني اسرائيل، بل واتهموها بـ يوسف النجار، وأن الفضيحة إذا خرجت من بيت الورع فإن الألسنة ترددها أيما ترديد، ولكن الفضيحة إن خرجت من بيت الفضيحة والرذيلة لا يأبه لها، ولا يهتم بها أحد، أما أن تخرج الفضيحة من بيت التقى والورع فإنها الفضيحة!! شاع الخبر في بني إسرائيل ومريم في هذه اللحظات أخذت تفكر وتتجاذب مع نفسها أطراف الحديث والحوار، ماذا سأقول لقومي؟! وماذا سيكون جوابي؟! {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً} [مريم:23]. وهنا ملحظٌ فقهيٌ عظيم، وهو: يجوز للمسلم أن يتمنى الموت إن كان تمنيه للموت من فتنةٍ ستدمر عليه دينه، ولكن لا ينبغي للمسلم أن يتمنى الموت لفقره، أو لمرضه، أو لرسوب ابنه، أو لمعاكسة زوجته إياه، لا ينبغي له أن يتمنى الموت لما ورد في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يتمنين أحدكم الموت لضرٍ وقع به، وإن كان ولابد فاعلاً أو متمنياً فليقل: اللهم توفني ما كانت الوفاة خيراً لي، وأحييني ما كانت الحياة خيراً لي) هذا ملحظ سريع في الآية.

تفريج الله لكربة مريم

تفريج الله لكربة مريم وفي وسط هذا الذهول، والفزع، والرعب، والألم، ألمٌ نفسي وبدني، ألمٌ نفسي لما ستلاقيه من قومها، وألمٌ بدني لآلامٌ الطلق والوضع ولا سنيد لها ولا معين يساندها أو يعاونها، هذه الآلام المتلاحقة في وسطها يشق هذه الآلام ويشق هذا السكون، وهذا الجو صوتٌ جميلٌ ندي، إنه صوت الوليد الرضيع، إنه الطفل الذي ولد منذُ لحظات، لا أقول منذُ ساعات، وإنما أقول منذُ لحظات، وهنا مريم تتألم وتنظر بعينيها إلى السماء لتفكر في حقيقة أمرها، ومواجهة قومها، وحقيقة هذا الأمر، وفجأة تسمع صوتاً ندياً جميلاً: {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي} [مريم:24]. لِمَ كل هذا الحزن؟! ولِمَ كل هذا الألم؟! ولِمَ كل هذا البكاء؟! {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا} [مريم:24] قيل بأن المنادي هو جبريل وقيل هو عيسى، ولكن الأرجح أن النداء كان من عيسى؛ لأن عيسى تكلم وهو صبيٌ طفلٌ صغيرٌ رضيع: {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي} [مريم:24] لا تحزني والله معك!! لا تحزني والله راعيك!! لا تحزني والله حافظك!! لا تحزني فإن الذي قدر لك هذا هو الله!! لا تحزني، لا تخافي؛ لأن من كان مع الله كان الله معه، ومن كان الله معه فلا ينبغي له أن يحزن، ولا ينبغي له أن يخاف أو يضطرب أو يفكر لا تحزني، لا تخافي: {قَد جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} [مريم:24] فجر الله لها عيناً من الماء العذب الفرات في هذه الصحراء، نظرت ووجدت عين ماء تحت هذا الطفل الصغير، جدولاً كما ورد فيما رواه الحاكم في مستدركه وقال: صحيحٌ على شرط الشيخين البخاري ومسلم: (فجر الله لها جدولاً صغيراً من الماء). {َلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} [مريم:24] سرياً: أي جدولاً أو نهراً صغيراً من الماء: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً} [مريم:25] فكلي من هذا الرطب، واشربي من هذا الماء وقري عيناً، لا تحزني، هذا هو وعد الله للمتقين، هذا هو عهد الله على ذاته للمؤمنين، حقٌ على الله لمن اتقاه أن يحسن الله بدايته، وأن يتولى الله رعايته، وأن يحسن الله نهايته، حقٌ على الله لمن اتقاه أن يستره الله فوق الأرض، وتحت الأرض، ويوم العرض. {َلَّا تَحْزَنِي} [مريم:24] وهنا أتذكر هذا المشهد المماثل تماماً بتمام، يوم أن ذهب إبراهيم الخليل مع ولده إسماعيل وأمه هاجر عليهم السلام وذهب بهما إلى مكانٍ لا زرع فيه ولا نبات، ولا إنس فيه ولا حياة، وترك الولد والأم وقال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم:37] وتركهما الخليل وأراد أن ينصرف، فنظرت إليه هاجر وقالت: يا إبراهيم إلى من تتركنا؟! إلى من تكلنا في هذا المكان الذي لا أنس فيه ولا زرع فيه ولا سبب من أسباب الحياة؟! وإبراهيم لا ينطق ولا يتكلم كلما كلمته هاجر، وأخيراً نظر إبراهيم إلى السماء، مشيراً أن الذي أمره بذلك هو الله، فقالت هاجر: آلله أمرك بهذا، فأشار برأسه أن نعم، أي أن الذي أمرني بذلك هو الله، فنظرت إليه هاجر قائلةً: إذا فاذهب، فإنه لن يضيعنا أبداً. طالما أن الله هو الذي أمرك فلن يضيعنا الله أبداً. يقول عيسى لمريم: {َلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} [مريم:24] ثم قال: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً} [مريم:25 - 26]. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

رزق الله لمريم حال نفاسها

رزق الله لمريم حال نفاسها الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه إلى يوم الدين. أما بعد: قال الله: {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} [مريم:24] فجر الله لك عيناً من الماء، فاشربي وكلي من الرطب، {رُطَباً جَنِيّاً} [مريم:25] أي: رطباً طيباً طرياً، وهنا قال العلماء فضلاً عن علماء قرننا العشرين: بأنه لا يوجد للنفساء طعامٌ أطيب من طعامٍ أنزله الله لمريم في فترة نفاسها وهو التمر، أطيب طعام للمرأة النفساء هو التمر أو الرطب؛ لأنه طعامٌ قدره الله لمريم فيه فاكهة. {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً} [مريم:25 - 26] اطمأني، فليطمئن قلبك، {وَقَرِّي عَيْناً} [مريم:26] ليطمأن قلبك أن الله الذي قدر لك الماء، وأن الله الذي أنزل إليك التمر من الشجرة العجفاء، قادرٌ على أن يبرئ ساحتك أمام قومك بأمره وقدرته، {وَقَرِّي عَيْناً} [مريم:26] لا تحزني، كلي واشربي وقري عيناً. وهنا أراد هذا الطفل الصغير أن يلقن أمه حجتها، وقال لها: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً} [مريم:26] هذه هي نهاية المشهد الثاني، لو رأيتِ أحداً من الناس من قومك يكلمك ويجادلك فلا تردي، وإنما عليك أن تشيري أنك صائمة، نذرت الصوم لله جل وعلا، وكان الصيام عن الكلام مشروعاً في دينهم، وهو محرمٌ في ديننا، هكذا قال ابن حجر في كتابه فتح الباري شرح صحيح البخاري، وهكذا قال الإمام ابن قدامة، وهكذا قال أئمة المسلمين بأن الصوم عن الكلام في ديننا محرم، ولكنه جائز في دينهم. قالت: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً} [مريم:26] كما قال الله لزكريا: {أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً} [مريم:10] حتى إن زكريا إذا ما جاء ليذكر الله، نطق لسانه بذكر الله، وإذا ما جاء ليتكلم مع الناس لم يستطع لسانه النطق ولا الكلام كما شرحنا ذلك بالتفصيل {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً} [مريم:26]. وننتهي هنا ونكمل إن شاء الله جل وعلا في الأسبوع المقبل المشهد الثالث، وهو مشهد لقاء مريم مع قومها، وما الذي دار؟ وما هو الحوار؟ وماذا قالت مريم؟ وماذا قال أهلها؟ وماذا قال الصبي الصغير؟ والطفل الرضيع؟ لنخرج بعد ذلك ببيان عقيدة النصارى الباطلة التي يعتقدونها في هذه الأيام، ولنفخر نحن الموحدون بعقيدة لا إله إلا الله.

دعوة للأخذ بالأسباب ثم التوكل على الله

دعوة للأخذ بالأسباب ثم التوكل على الله هنا ملحظ أخير في الآية، وسوف أعلق عليه في الدرس إن شاء الله جل وعلا حينما قال الله لمريم: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم:25] تخيل معي امرأة ضعيفة أنهكها الوضع، وقضى على كل قوةٍ فيها، وفي ساعة ولادتها لا سبب إطلاقاً من أسباب الطعام إلا أن تخدم نفسها، لكنه كما هو معهود أن المرأة التي وضعت لا تصنع شيئاً، وإنما تنام لترى من يغسل لها الثياب، ويقدم الطعام، والشراب وهكذا؛ ولكن هذه المرأة في هذا الوضع لا يمكن لمخلوقٍ أن يأتيها بطعامٍ أو شرابٍ وهي التي ستخدم نفسها بنفسها! والله سبحانه وتعالى يقول لها: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم:25] أمر عجيب!! يا مريم اعملي! في هذا الضعف يا رب؟! في هذا المرض؟! وهذه الحالة؟! وأي جذع؟! هل ستهز جذع وردة ريحان، أو فل، أمر يسير ومذلل وسهل؟! ولكن الهز هنا لأي شيء؟ لجذع نخلة! والنخلة: نخلة البلح، وأنتم تعلمون أن أعظم جذع هو جذع النخلة، لا يقوى عنترة بن شداد على هزه، فكيف لامرأة ضعيفة في نفاسها أن تهز الجذع، والمقصود بالهز أن تهزه لينزل الرطب، يعني: لابد وأن يكون الهز قوياً شديداً؛ لأن شدة الهز ستتناسب مع كمية الرطب النازلة {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً} [مريم:25]. هنا ملحظ جميل، لا يظن أحد أن هز مريم الجذع يميناً أو يساراً سينزل الرطب، وإنما هي دعوةٌ من الله للأخذ بالأسباب ثم بعد ذلك التوكل على مسبب الأسباب. يا مريم! حتى وأنتِ في هذه الحالة خذي بأسباب الرزق، لابد أن تسعى لرزق الله، وتأخذ بالأسباب، أما أن تجلس لتنتظر الزرق من السماء دون عمل، فإن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة، إلا إذا وصل الإنسان إلى درجة اليقين التي وصلت إليها مريم حينما دخل عليها زكريا المحراب في الشتاء فوجد عندها فاكهة الصيف، ودخل عليها في الصيف فوجد عندها فاكهة الشتاء، فتعجب قال: {يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران:37] هذه درجة يقين عالية جداً ليست لكل الناس، وإنما لابد من الأخذ بالأسباب؛ لأن التوكل الحقيقي على رب الأرباب جل وعلا هو أن نأخذ بجميع الأسباب، ولكن لا نتكل على هذه الأسباب؛ لأن الأسباب لا تسعف، ولا تأتي برزق، وإنما نأخذ بالأسباب متوكلين على مسبب الأسباب وعلى رب الأسباب جل وعلا. ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه الصحيح من حديث عمر بن الخطاب، وخرجه ابن ماجة، والنسائي، وابن حبان، والحاكم والترمذي، وقال عنه الترمذي: حديثٌ حسنٌ صحيح وليس في البخاري ومسلم، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله؛ لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً) الطائر ينهض في الصباح الباكر ولا يظل نائماً إلى الظهر، فهو الذي يوقظك لصلاة الفجر، في النهار المبكر يترك مسكنه منزله، وعشه ليسعى على رزقه، يغدو من الغدوة من الصباح المبكر، يغدو خماصاً فارغ البطن، خاوي البطن، فيقدر الله له الرزق في أي مكان، فيحصل الطائر على رزقه ويعود إلى عشه وقد تكفل الله برزقه قائلاً: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6]. فعليك أن تأخذ بالأسباب وأن تتوكل بعد ذلك على مسبب الأسباب، أما أن تقول: أنا متوكلٌ على الله دون أخذٍ بالأسباب، فهذا أمرٌ مردودٌ ومرفوض ما فعله سيد الأحباب محمد صلى الله عليه وسلم، ففي ليلة الهجرة أخذ أسباب الحيطة والاحتياط، والأمن والأمان، ولذا فإنه لما علم أنه قد أخذ بجميع الأسباب، ووجد أن الأسباب قد انقطعت يوم أن وصل المشركون إلى الغار، وقال له الصديق: [لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا] يعلم النبي أن الأسباب لا تنجي قال له: (يا أبا بكر! لا تحزن ما ظنك باثنين الله ثالثهما). هنا اللجوء إلى مسبب الأسباب؛ لأن الأسباب قد انقطعت حينها، وقد أعيتها الحيل، ولم تستطع أن تنجي محمداً وصاحبه صلى الله عليه وسلم، ولذا فاللجوء هنا إلى الله، إلى مسبب الأسباب، ولذا فعليك أن تأخذ بالأسباب. يا طالب العلم! ذاكر، واسهر الليل، وحصل الدروس، ثم بعد ذلك توكل على الله، وقل: أنا معتمدٌ على الله وليس على مذاكرتي وتحصيلي؛ لأن من اعتمد على عقله ضلَّ، ومن اعتمد على الناس ذلَّ، ومن اعتمد على ماله قلَّ، ومن اعتمد على الله لا ضلَّ ولا قلَّ ولا ذلَّ. فخذ بالأسباب، وتوكل على مسبب الأسباب، أما أن تأخذ بالأسباب وتقول: إن الأسباب هي التي ستنجحني، أو بأن الأسباب هي التي سترزقني، لا، وإنما الرزق بيد مسبب الأسباب جل وعلا، يقول ربنا في الحديث القدسي الجليل: (يابن آدم! لا تخشى من ضيق الرزق فخزائني مملوءة وخزائني لا تنفذ أبداً) فعليكم أن تحصلوا الأسباب، وألا تعتمدوا عليها، فإن الرزق والفلاح والنجاح بيد مسبب الأسباب: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً} [مريم:25 - 26]. اللهم اغفر لنا ذنوبنا، اللهم استر عيوبنا، اللهم آمن روعاتنا، اللهم توفنا على الإيمان وأنت راضٍ عنا، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، وبلغنا ما يرضيك من آمالنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر. اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادنا، اللهم لا تدع لأحدٍ منا في هذا الجمع المبارك ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلى شفيته، ولا ديناً إلا أديته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصٍ إلا هديته، ولا حاجةً هي لك رضى ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا رب العالمين. اللهم كما خلقتنا موحدين اختم لنا بالإيمان والتوحيد، اللهم كما خلقتنا مؤمنين فاختم لنا بالإيمان والتوحيد، اللهم كما خلقتنا موحدين فاختم لنا بالإيمان والتوحيد، اللهم توفنا على لا إله إلا الله، اللهم استرنا فوق الأرض، واسترنا تحت الأرض، واسترنا يوم العرض. اللهم اجعل بلدنا مصر بلد الأمن والأمان، ووفق ولاة أموره للعمل بكتابك والاقتداء بشرع نبيك صلى الله عليه وسلم. عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، اذكروا الله العظيم يذكركم، واستغفروه يغفر لكم. ولا تنسوا التبرع لبيت الله جل وعلا، ادخروا في خزائن الله، ادخروا في خزائن الله وفي بنك حسنات الله، الذي يضاعف الله فيه الحسنات، فإن الحسنة عند الله بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف، فلا تنسو هذا الخير وهذا الفضل الذي ساقه الله إليكم في الدنيا. أسأل الله سبحانه أن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولوا الألباب. وصلى الله على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم.

السحر والعلاج

السحر والعلاج شرع الله لخلقه عبادته، فأوجب أشياء ونهى وحرم أشياء، وسمى بعض ما حرمه بالكبائر والبعض بالصغائر، ومن هذه الكبائر: كبيرة السحر. وقد أوجد الله السحر فتنة للناس، وجعل للعلاج سبلاً منها ما هو شرعي محمود، ومنها ما هو كفري مذموم.

انتشار السحر على أرض الواقع

انتشار السحر على أرض الواقع الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك وما كان معه من إله، الذي لا إله إلا هو فلا خالق غيره ولا رب سواه، المستحق لجميع أنواع العبادة ولذا قضى إلا نعبد إلا إياه {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [لقمان:30] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الضار النافع، الخافض الرافع، القابض الباسط، المعز المذل، فلا مذل لمن أعز، ولا معز لمن أذل، ولا خافض لمن رفع، ولا رافع لمن خفض، ولا ضار لمن نفع، ولا نافع لمن ضر، ولا قابض لما بسط، ولا باسط لما قبض، الواحد الذي لا ضد له، الصمد الذي لا منازع له، الغني الذي لا حاجة له، القوي الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام:17] وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة وبلغ الرسالة ونصح الأمة وكشف الله به الغمة وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جازيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصلِّ اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة، وزكى الله هذه الأنفس، وأسال الله جل وعلا أن يجمعني وإياكم في الدنيا دائماً وأبداً على طاعته، وفي الآخرة مع سيد النبيين وإمام المرسلين في جنته ومستقر رحمته، إنه ولي ذلك ومولاه وهو على كل شيء قدير. أحبتي في الله! إننا اليوم على موعدٍ مع اللقاء الثاني من السبع الموبقات، التي حذر منها سيد البريات صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم وأبو داوُد والنسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أنه صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله! وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات). ولقد تحدثنا في اللقاء الماضي بتوفيق الله جل وعلا عن الكبيرة الأولى في هذا الحديث إلا وهي: الشرك، وبينّا خطورة الشرك، وتحدثنا بالتفصيل عن رحلة الشرك التي دنست الأرض ولوثت الفطرة، ثم تكلمت عن أقسام الشرك وقسمت الشرك كما قال علماؤنا إلى قسمين: الشرك الأكبر والأصغر، وبينت معنى كل منهما، ثم ختمت الحديث بعد ذلك عن فضل تحقيق التوحيد، ونحن اليوم على موعدٍ مع الكبيرة الثانية الخطيرة في هذا الحديث ألا وهي: السحر. والسحر عالمٌ عجيب غريب تختلط فيه الحقيقة بالباطل، والعلم بالشعوذة والدجل، وعالم السحر عالمٌ ظاهره جميلٌ خلاَّب، يفتن أصحاب العقول الضعيفة، ويبلبل السذج والرعاع والبسطاء، وتاريخ السحر تاريخ طويلٌ مظلم يفتن فيه شياطين الإنس والجن عباد الله جل وعلا، بل ويوقعونهم في أبشع وأكبر وأخطر جريمة، ألا وهي جريمة الكفر والشرك والضلال، وها نحن الآن نرى إقبالاً مزعجاً على السحرة والسحر والمشعوذين والدجالين، بل نرى بأم أعيننا ونسمع بآذاننا من بين أبنائنا ومن إخواننا المسلمين من إذا حزبه أمرٌ واشتكى مرضاً عضوياً كأي مرضٍ من الأمراض، أو اشتكى مرضاً قلبياً كحبٍ أو بغضٍ إلى آخره، نراه يذهب على قدميه حراً مختاراً إلى قسيسٍ في كنيسة تحدى الله جل وعلا. فيدخل المسلم صحيحاً معافى ثم يخرج من عند النصارى القساوسة الكفرة وقد أصابوه بمس الجن أو بسحرٍ لا يستطيع أحدٌ أن يخرجه بعد ذلك إلا إذا شاء الله جل وعلا وقدر, والأصل قول الله تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:102]. فها نحن نرى أيها الأحبة! في هذا العصر المتطور المتحضر نرى إقبالاً مزعجاً على السحر والسحرة والمشعوذين والدجالين، ونرى بأم أعيننا أيضاً أننا نعيش هذا العصر الذي طغت فيه الماديات والشهوات بصورة عارمة مزلزلة، ومن ثم كثرت العقد والمشكلات النفسية، وراح الناس الذين فقدوا راحة النفس، وطمأنينة القلب، وهدوء البال راحوا يلهثون وراء السحرة والمشعوذين والدجالين بعدما ذهبوا إلى الأطباء النفسيين، وعجز علماء الاجتماع على أن يحلوا ألغاز مشاكلهم التي يقف الطب أمامها مبهوتاً متحيراً، وبعد تشخيص دقيق حتى في دول العالم المتحررة المتحضرة يقول الأطباء: لا نجد تشخيصاً لهذه الحالة، ومن ثم يرجع هذا الثري أو هذا الغني إلى عالمٍ ويدور في حلقة مفرغة يذهب إلى الكذابين والنصابين والدجالين والمشعوذين، ولذا نرى سبباً لهذا قسوة في القلوب، وجفافاً لينابيع الخير في كثيرٍ من القلوب، وهؤلاء الذين يبحثون عن طمأنينة قلوبهم وراحة أنفسهم وسعادة بالهم، إذ ذهبوا إلى السحرة والمشعوذين والدجالين، فهم كمن يستجير من الرمضاء بالنار، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ولخطورة هذا الأمر أيها الأحبة! سأفرد له لقائين كاملين بإذن الله جل وعلا، وسينتظم حديثي معكم في هذا الموضوع الخطير في هذه العناصر التالية حتى لا ينسحب بساط الوقت من تحت أقدامنا ومن بين أيدينا. أولاً: تعريف السحر لغة واصطلاحاً. ثانياً: حقيقة السحر وأنواعه. ثالثاً: هل سُحِرَ النبي صلى الله عليه وسلم حقاً؟ رابعاً: حكم السحر وحد الساحر. خامساً: علاج السحر وإبطاله وإفساده. فأعيروني القلوب والأسماع فإن هذين اللقاءين من الأهمية بمكان.

أولا: تعريف السحر لغة واصطلاحا

أولاً: تعريف السحر لغة واصطلاحاً السحر في اللغة هو: كل شيءٍ خفي سببه ولطف ودق. يقول أبو عبيد: وأصل السحر في اللغة هو الصرف، أي: صرف الشيء عن حقيقته، قال الله تعالى: {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون:89] أي: فأنى تصرفون، يقول: وقد يكون الصرف للعين وهو الأُخذة أي: أن تؤخذ العين فلا ترى الشيء على حقيقته التي هو عليها في الواقع، وقد يكون الصرف للقلب من الحب إلى الكره، ومن الكره إلى الحب، ومن البغض إلى الحب، وهكذا. وقد يكون الصرف بالقول الحلال، ألا وهو البيان والحديث كما ورد في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من البيان لسحراً) فالصرف أن يحب هذا فيبغضه عن طريق السحر، وهذا الرجل يحب زوجته فيبغضها، وقد يكون الصرف للعين فترى العين الشيء على غير حقيقته التي هو عليها في الواقع، وقد يكون الصرف للعقول وللقلوب بالقول والبيان الدقيق المنمق. ولم يفرق بعض العلماء بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي للسحر كما نسج في ذلك الإمام الكبير الفخر الرازي، وإن كنا نعلم أنه من أكابر علماء المعتزلة إلا أنه قال: إن السحر في عرف الشرع هو كل أمرٍ يخفى سببه ويتخيل على غير حقيقته في الواقع ويجري مجرى التمويه والخداع، وقد سار على ضربه ووافقه في ذلك الإمام الكبير أبو بكر الجصاص، وهؤلاء وغيرهم ممن يقولون: إن السحر خيالٌ وتخييل ولا حقيقة له في الواقع، وسوف أرد عليهم إن شاء الله جل وعلا. هذا هو الرأي الأول الذي يقول بأن السحر في الاصطلاح: تخييل ورؤية الأشياء على غير حقيقتها، وتمويه وخداعٌ. أما الرأي الثاني وهو رأي جمهور أهل السنة والجماعة، والذي يعرفه الإمام القدير ابن قدامة في كتابة الكبير المذهل المغني مع الشرح الكبير في المجلد العاشر إذ يقول: والسحر عقدٌ ورقى وكلامٌ يتكلم به الساحر أو يكتبه أو يعمل شيئاً فيؤثر في بدن المسحور من غير مباشرة له، وله (أي: وللسحر) حقيقة فمنه، (أي: من السحر)، ما يقتل -ومازال الكلام لـ ابن قدامة - فمن السحر ما يقتل ومنه ما يمرض وما يأخذ الرجل عن أهله فيمنعه وطأها، ومن السحر ما يفرق بين الزوج وزوجه ومنه ما يحبب بين اثنين. هذا تعريف السحر عند علماء أهل السنة والجماعة، إذاً فمذهب جمهور السلف أن السحر ليس تخييلاً ولكنه حقيقة له واقعٌ ملموسٌ محسوسٌ مشاهد، فمنهم من قال: بأنه تخييل، ومنهم من قال: بأنه حقيقة. ومن ثم -يا أحبابي- يجب علي هاهنا أن أفرق لكم بين ثلاثة أشياء خطيرة ألا وهي: السحر والكرامة والمعجزة، حتى لا تختلط الأوراق وتتلابس وتتشابك الأمور. ما الفرق بين السحر والكرامة والمعجزة؟ السحر اتفاق وعقدٌ مبرمٌ بين ساحرٍ وشيطان، بشرط أن يزداد الساحر كفراً لله وعبادة للشيطان، وكلما ازداد الساحر كفراً وزندقة وانحلالاً ازداد الجني أو الشيطان طاعة لهذا الساحر، هذا هو عقد السحر. أما الكرامة فلا تكون إلا لولي. والمعجزة لا تكون إلا لنبي. وجماعهما الأمر الخارق للعادة كما قال ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى في المجلد الحادي عشر في بحثٍ قيمٍ مبدع لمن أراد أن يطَّلع عليه، الكرامة للولي، والمعجزة للنبي ومن ثم يجب أن نفرق أيضاً بين أولياء الرحمن، وبين أولياء الشيطان، فإن ولي الشيطان يحدث الشيطان له خرقاً للعادة ليفتن الناس وليضلهم عن التوحيد والهدى، ومن ثم إذا رأيتم الرجل يطير في الهواء ويمشي على الماء وهو غير متبعٍ لشرع المصطفى فاشهدوا له بالكفر فإنه ولي من أولياء الشيطان. أما أولياء الرحمن فهم الذين يجري الله على أيديهم أموراً خارقة للعادة وهم لا يريدونها ولا يحبون إظهارها، ومن ثم قال الله جل وعلا: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62] من هم أولياء الله؟ {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:63] فالولي هو المؤمن التقي الذي يوحد الله حق توحيده، ويعبد الله حق عبادته ويخلص عمله لله ويخلص اتباعه لسيد الخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلما ازداد تُقاً وقُرباً قد يجري الله على يديه أمراً خارقاً للعادة، والولي لا يريد إظهاره، ذلك ولا يحب إظهار ولذا قال أحد السلف: النفس تتمنى الكرامة وتأبى الاستقامة، والله جل وعلا قد أمرها وطلب منها الاستقامة ولم يطلب منها الكرامة، فولي الرحمن بخلاف ولي الشيطان. أما المعجزة فهي لا تكون إلا للنبي، وقد فرق بعض أهل العلم من علماء السلف بين الكرامة والمعجزة؛ أن الكرامة قد يجريها الله إذا شاء على يد ولي من أوليائه، ولكن المعجزة يجريها الله على يدي رسولٍ من رسله في مقام التحدي، في مقام إظهار الرسالة، وإظهار النبوة لهذا النبي الذي يتحدى قومه، ومن ثم تحدى موسى قومه بما برعوا فيه ومن جنسه بالسحر، برع قومه في السحر فأمده الله بعصا تنقلب إلى حية عظيمة تلقف ما يأفكون. وأمد الله النبي محمداً صلى الله عليه وسلم بمعجزةٍ من جنس ما برع فيه قومه، برع قومه في البلاغة والفصاحة والبيان فأعطاه الله جل وعلا القرآن الذي تحدى به البشرية كلها بل وما زال التحدي قائماً إلى يوم القيامة فقال: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:23 - 24] فأمده الله بالقرآن فسجد المشركون في محراب بلاغة وفصاحة كلام الحق جل وعلا، ولا يتسع الوقت للتدليل على هذا. وهكذا أيها الأحبة! فالمعجزة من النبي من باب التحدي لهؤلاء الذين أرسل إليهم وبعث فيهم، يجري الله على يديه أمراً خارقاً للعادة وخارقاً لنواميس وقوانين هذا الكون ليثبت لهم أنه مرسلٌ من قبل الله جل وعلا. وأنتم تعلمون أن النار قانونها هو الإحراق، ويأبى الله إلا أن يحول هذا القانون وأن يسلبه من النار حينما ألقى المشركون إبراهيم في النار فقال الله جل وعلا: {يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69]. وتعلمون أن قانون المياه هو الإغراق لا سيما إذا ما وضع شيءٌ في الماء تزيد كثافته عن كثافة الماء، فسرعان ما يسقط ويهوي، ولكن ما الذي حدث؟ جعل الله عنصر الإغراق وعنصر الإهلاك عنصر حياةٍ وأمن وأمان لنبي من أنبيائه فأوحى الله جل وعلا إلى أم موسى: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7]. فالمعجزة شيءٌ خارق للعادة ولقوانين ونواميس هذا الكون، يجريها الله على يد رسول من رسله، ونبي من أنبيائه في مقام التحدي لهؤلاء القوم الذين أنكروا رسالته، وأنكروا نبوته من قبل الله جل وعلا. إذاً أيها الأحبة! من العلماء من قال: إن السحر تخييل لا حقيقة له، ومنهم من قال: بأن السحر حقيقة لا تخييل.

حقيقة السحر وأنواعه

حقيقة السحر وأنواعه قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى: ومذهب أهل السنة والجماعة أن السحر ثابتٌ وله حقيقة، وقد اتفق على هذا أهل الحل والعقد الذين بهم ينعقد الإجماع ولا عبرة بعد ذلك لأقوال المخالفين. قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: وقد خالف في ذلك بعض أصحابنا من الشافعية، وقالوا: إن السحر تخييل لا حقيقة له أي: في الواقع، قال النووي: والصحيح الذي عليه الجمهور وعليه عامة العلماء أن السحر ثابتٌ وله حقيقة، دل على ذلك الكتاب والسنة الصحيحة المشهورة. وانتبهوا معي أيها الأحبة! لنقف مع هذين الرأيين المتناقضين المتضادين المختلفين. فلقد استدل أنصار الفريق الأول الذين يقولون: بأن السحر تخييل لا حقيقة له، بأدلة ينبغي أن نقف أمامها، استدل أنصار هذا الفريق بالقرآن الكريم وبقول الله عز وجل في سورة طه: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:66] واستدلوا بقول الله في سورة الأعراف: {فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف:116] واستدلوا أيضاً بالواقع فقالوا: لو أن السحرة يملكون قلب حقائق الأعيان لقلبوا الحصى إلى ذهب، ولقلبوا الأوراق إلى دولارات، ولقلبوا الجبال إلى ذهب، ولغيروا حقائق هذا العالم، لو قدر السحرة على ذلك ما تحايلوا على أكل أموال الناس بالباطل ولكانوا ملوك العالم وأغنى الناس فيه. واستدلوا أيضاً بأن السحرة لو فعلوا ذلك واستطاعوا أن يقلبوا حقائق الأعيان بأن يحولوا مثلاً هذا العمود إلى ذهبٍ وهو من الحجارة أو إلى فضة أو إلى غيرهما، لو فعلوا ذلك لاختلط الحق بالباطل ولاختلطت المعجزة بالسحر حينئذٍ. وقال جمهور أهل العلم رداً عليهم وهم الذين يقولون: أن السحر حقيقة لا تخييل، وقد استدلوا بأدلة أخرى من الكتاب والسنة الصحيحة: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة:102]. قال علماؤنا من جمهور السلف: إن الله جل وعلا قد صرح في هذه الآية بأن الشياطين يعلمون الناس السحر، وبأن الناس يتعلمون السحر من الشياطين، وما لم تكن للسحر حقيقة فما الذي علم الشياطين وما الذي تعلمه الناس؟ واستدلوا أيضاً بالآية فقالوا: ولقد صرحت الآية بأن الساحر يفرق بين المرء وزوجه بسحره، وهذه حقيقة لا يمكن على الإطلاق أن تنكر، لأن التفريق بين الزوج وزوجه أمرٌ عين بائنٌ واضح. واستدلوا بقول الله جل وعلا: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق:4] والنفاثات: هن السواحر اللاتي يعقدن السحر وينفثن عليه، وقالوا: بأنه لو لم تكن للسحر حقيقة ما أمر الله بالاستعاذة منه على الإطلاق. واستدلوا أيضاً بالواقع فقال الإمام ابن القيم: والسحر الذي يؤثر مرضاً وثقلاً وحباً وبغضاً ونزيفاً للنساء معلوم موجودٌ يعلمه عامة الناس. واستدلوا -وهذا من أقوى الأدلة التي استدل بها جمهور أهل السلف على أن السحر حقيقة لا تخييل- بسحر النبي صلى الله عليه وسلم، الله أكبر، وهل سُحِر النبي؟! هذا ما سأجيب عنه إن شاء الله وقبل أن أتخطى إليه لا بد أن أقول: كيف نجمع بين هذين القولين؟ وكيف نرجح أحدهما على الآخر، فريقٌ يقول: بأن السحر تخييل لا حقيقة له، وفريق يقول: بأن السحر حقيقة لا خيال، كيف نجمع بين هذين القولين المتناقضين؟ أقول أيها الأحبة! التحقيق -والله أعلم- أن الذين قالوا بأن السحر كله تخييل لا حقيقة له قد جانبوا الصواب، والذين قالوا: بأَن السحر كله حقيقة لا تخييل فيه قد جانبوا الصواب أيضاً، والحق أقول لكم: بأن السحر ينقسم إلى أقسام منه ما هو حقيقي ومنه ما هو تخييل. أما السحر الحقيقي فلا يكون إلا عن طريق مساعدة الكواكب والنجوم والسحرة والجن، وهذا شريطة أن يكفر الساحر بالله جل وعلا، وأن يزداد عبادةً للجن والشيطان، وللكواكب والنجوم، وحينئذٍ يستطيع الساحر أن يجري سحراً حقيقياً يضر ويؤذي به خلق الله وعباد الله عز وجل. ومن السحر ما هو تخييل لا حقيقة له في عالم الواقع، وهذا السحر يكون تركيزه على العين وهو الأخذة كما ذكرت فتؤخذ العين وتسحر، فترى العين الشيء على غير حقيقته في الواقع، يقول الحافظ ابن كثير: وهذا السحر هو جنس سحر سحرة فرعون، قال الله عز وجل بصريح العبارة -وما زال الكلام لـ ابن كثير -: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:66] وقال الله عز وجل: {فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف:116] إذاً وقع السحر هنا على العين فرأت العين الشيء على غير حقيقته في الواقع. والخلاصة -يا أحبابي- والحق أقول: إن السحر منه ما هو حقيقي ومنه ما هو تخييل، ولا ينبغي أن نقول: إن السحر كله حقيقة، أو أن نقول: إن السحر كله تخييل، وهناك نوعٌ ثالث يطلق عليه مجازاً لفظ السحر ألا وهو فعل الشعوذة والدجل وخفة اليد التي نراها على شاشات التلفاز من آن لآخر، هذا هو التحقيق في هذه المسألة والله أعلم.

هل سحر النبي صلى الله عليه وسلم؟

هل سحر النبي صلى الله عليه وسلم؟ الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الأحبة! هل سحر النبي صلى الله عليه وسلم؟ و A نعم، الحديث رواه البخاري ومسلم وأحمد وابن ماجة والنسائي والبيهقي وابن سعد في الطبقات وغيرهم، وهذا لفظ حديث البخاري في كتاب الطب من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (سحر النبي صلى الله عليه وسلم رجلٌ من بني زريق من حلفاء يهود كان منافقاً يقال له: لبيد بن الأعصم، حتى كان النبي صلى الله عليه وسلم يخيل إليه أنه كان يفعل الشيء وما فعله -لا إله إلا الله- تقول عائشة: حتى إذا كان ذات يومٍ أو ذات ليلة دعا رسول الله ثم دعا، ثم قال: يا عائشة! أرأيتِ أن الله جل وعلا قد أفتاني فيما استفتيته فيه؟ فلقد أتاني رجلان، قعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي، فقال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ -أي: مما يشكو النبي صلى الله عليه وسلم- فقال الآخر: مطبوب، -أي: مسحور- فقال الأول: ومن طبه؟ -أي: ومن سحره؟ - فقال الثاني: لبيد بن الأعصم. فقال الأول: وفي أي شيء؟ -يعني: في أي شيءٍ سحره؟ - فقال الثاني: في مشطٍ ومشاطة وجف طلع نخل ذكرٍ) المشط معلوم، والمشاطة: هو ما يسقط من الشعر وشعر اللحية بعد الترجيل أي: بعد التسريح، ومن ثم ينبغي ألا نفرط في هذا الأمر أو أن نهمله قالت: (قال جبريل -وهو المتكلم في هذا الحديث- لصاحبه: سحره في مشطٍ ومشاطة) أي: في شعر رأسه وفي شعر لحيته الذي سقط من إثر التسريح والترجيل (وفي مشطٍ ومشاطة وجف طلعٍ ذكر) والطلع: هو العشب أو الغشاء الذي يطلع على النخلة أي: على نخلة البلح، هذا هو سحر النبي صلى الله عليه وسلم: (فقال الأول: وفي أي مكانٍ هو؟ فقال الآخر: في بئر ضروان، بئرٌ في المدينة المنورة تقول عائشة: فخرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى البئر في نفرٍ من أصحابه ثم جاء فقال: يا عائشة! كأن ماءها -أي: كأن ماء البئر- نقاعة الحناء -أي: لون الماء كنقع الحناء- وكأنه رءوس الشياطين، قالت: أفلا استخرجته؟ فقال: قد عافاني الله عز وجل وخشيت أن أثير على الناس شراً فأمر بها فدفنت). وفي رواية عائشة وابن عباس عند البيهقي في الدلائل: (أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] فقال النبي: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] فحل جبريل عقدة، فقال: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:2] فحل عقدة حتى إذا فرغ منها قال: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] فحل عقدة حتى فرغ منها قام النبي وكأنما قد نشط من عقال) قام النبي بأبي هو وأمي وكأنما نشط من عقال، من قيودٍ وأغلال. وهنا أحبابي قضية خطيرة ألا وهي أن هناك ممن ينتسب إلى العلم من رد هذا الحديث وأنكره وقال: بأن هذا الحديث باطلٌ ومقدوحٌ في سنده، لماذا؟ قالوا: لأن عقولنا تنكر هذا الحديث وتأباه وما تنكره العقول لا يمكن على الإطلاق أن يكون من المنقول، وهذه شنشنة قديمة حديثة، أثارها قديماً هؤلاء وأثارها حديثاً أفراخ المعتزلة الذي يقدمون العقل على النقل، ويرون أن عقولهم فقط هي الميزان الدقيق الحساس الذي من خلاله يحكمون به على صحيح الحديث أو ضعيفه وسقيمه، ويا للعجب لو كان الأمر أن تقف العقول أمام كل حديث، فإذا ما وافق الحديث العقل قبلناه، وإذا ما عارض الحديث العقل رددناه، لأصبحت سنة النبي ألعوبةً في أيدي البشر، فهذا حديثٌ يراه هؤلاء مقبولاً للعقل، وهذا حديث لا يراه هؤلاء مقبولاً للعقل، ومن ثم تضيع سنة النبي صلى الله عليه وسلم، بل إن هناك من القواعد والمناهج والضوابط والأصول ما وضعه علماء سلف الأمة من المحدثين الجهابذة الكبار، ما يستطيعون به -كتجار الصرافة المهرة- أن يفرقوا بين صحيح الحديث وسقيمه، ولا ينبغي على الإطلاق لأحدٍ أن يأتي ليتجاوز هذه القواعد والنصوص والأصول والضوابط ليحكم على كل حديثٍ بعقله فما قبله العقل قبله وما رده العقل رده، وهذه شنشنة خطيرة، ورضي الله عنه علي بن أبي طالب إذ يقول: [لو أخذ الدين بالعقل لكن المسح على باطن الخف أولى من المسح على أعلاه] أنت حينما تمسح على خفك، تمسح على باطنه الذي تطأ به الأرض؟ أم تمسح على أعلاه؟ تمسح على أعلاه، وما الذي ينبغي أن يمسح عليه؟ يمسح على الباطن، إن كان ذهنك أنك تريد بذلك الطهارة لأن باطن الخف هو الذي يمشي على الأرض، ولكن الله جل وعلا والرسول أمر بالمسح على أعلى الخف لا على باطنه، فلو كان الدين بالعقل لكان المسح على باطن الخف أولى من المسح على أعلاه. ولذلك يا أحبابي! لا ينبغي أن يتجاوز العقل حده على الإطلاق، نور الوحي لا يطمس نور العقل أبداً بل يباركه ويقويه ويزكيه ويعينه، شريطة أن يذعن العقل وأن يسلم لله رب العالمين، كما انقاد كل من في الكون لله رب العالمين. أما أن يكون مقياسنا إذا كان العقل بارعاً في أمر من أمور الدنيا، وفي أمرٍ من أمور العلم فإنه حتماً يكون دقيقاً في أمر الوحي وفي أمر النصوص المنقولة، كلا على الإطلاق، وأضرب لكم بعض الأمثلة السريعة: هذا هو العقل الروسي الجبار شعاره يؤمن بثلاثة ويكفر بثلاثة؛ يؤمن بـ لينين، واستالين، وماركس، ويكفر بالله، وبالدين، وبالملكية الخاصة، هذا عقل. وهذا هو العقل الأمريكي الجبار الذي فعل ما فعل، بل وعُبِدَ اليوم في الأرض من دون العزيز الغفار، هذا هو العقل الأمريكي الجبار يدافع إلى يومنا هذا عن الشذوذ الجنسي، وعن زواج الرجل للرجل، وما أمر الانتخابات الأخيرة لرئيسهم منا ببعيد، ولقد وعد الشواذ أن يأذن لهم بالدخول والالتحاق بالجيش، وهذا العقل أيضاً يدافع عن العنصرية اللونية البغيضة، وما أحداث لوس أنجلوس منا ببعيد هذا عقل. وهذا هو العقل اليوناني يدافع عن الدعارة. وهذا هو العقل الروماني يدافع عن مصارعة الثيران. وهذا هو العقل الهندي يدافع عن إحراق الزوجة مع زوجها، وهو أيضاً يدافع إلى يومنا هذا عن عبادة البقرة والفئران وعن عبادة عضو الذكورة عند الرجل، هذا عقل. وهذا هو العقل العربي في جاهليته الأولى يدافع عن وأد البنات وهن أحياء. وهذا هو العقل العربي في جاهليته المعاصرة يدافع عن البعثية العفلقية الكفرية، فيقول قائلهم: آمنت بالبعث رباً لا شريك له وبالعروبة ديناً ما له ثاني ويقول آخر: هبوني عيداً يجعل العرب أمةً وسيروا بجثماني على دين برهم سلام على كفرٍ يوحد بيننا وأهلاً وسهلاً بعده بجهنم هذا هو العقل ما قيمته؟ حقير تافه إذا انفك عن نور الوحي، وتحدى المنقول الصحيح من القرآن والسنة، لا قيمة له ولا وزن له. هذا هو العقل المارد العملاق الذي يفجر الذرة في الجانب المادي، يفجر الكفر والإلحاد والزندقة في الجانب الديني. هذا هو العقل البشري الذي غاص في الجانب المادي في أعماق البحار، يغوص في الجانب الديني في أعماق الكفر والزندقة والأوحال. إذاً نور الوحي لا يطمس نور العقل، بل يباركه ويقويه ويزكيه شريطة أن يعرف العقل قدره وحده، وألا يتخطاه، وألا يتجاوزه، وأن يعلم يقيناً أن المنقول الصحيح حتى ولو لم يقبله ينبغي أن يذعن له، وينبغي أن ينقاد له، فليس كل ما يرده العقل غير صحيح. ولكن نقول رداً عليهم بأن هذا الحديث باطلٌ ومقدوحٌ في سنده، نقول: إن الحديث مخرجٌ في أصح كتابين بعد كتاب الله جل وعلا، ألا وهما صحيح البخاري ومسلم، وإذا رأيت -أخي في الله- الحديث في الصحيحين وقد اتفق عليه الشيخان؛ فاعلم بأن الحديث قد ارتقى إلى أعلى قمم الصحة، وإذا رأيت الرجل يقدح في حديثٍ في الصحيحين فاعلم أن بضاعته في الحديث مزجاة هذا إن أحسنا الظن به. أما القدح الذي ينبغي أن نقف أمامه حقاً أنهم قالوا: إن هذا الحديث يقدح في نبوة المصطفى وفي عصمته والله جل وعلا يقول: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67] وهذا الحديث يؤيد قول المشركين الذي حكى الله عنه: {وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً} [الفرقان:8] هذه تستحق التوقف والتدبر والجواب بدقة، والجواب بعون الله جل وعلا: إن هذا القول يقدح في عصمة النبي صلى الله عليه وسلم غير صحيح لماذا؟ لأن النبي معصومٌ باتفاقٍ في جانب التبليغ والتشريع والدعوة عن الله جل وعلا، معصومٌ في هذا {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4] وما ينطق عن الهوى في كل ما يبلغه عن ربه، ولكن هناك أمور قد يخطئ فيها النبي من أمور الدنيا، وما قصة تأبير النخل منا ببعيد وإلى آخره، أما ما يبلغه عن ربه وما ينقله عنه فلا يمكن على الإطلاق أن يخطئ فيه أو أن يزل فيه قيد أنملة بوعد الله جل وعلا: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:1 - 4]. أما سائر الأعراض الدنيوية التي تسري على الناس من مرض وألم وفتنة ومحنٍ وابتلاءات، فهذه تصير على النبي كما تصير على غيره من سائر البشر، وقد قال الله جل وعلا حكاية

إلى الباحثين عن السعادة

إلى الباحثين عن السعادة جميع الناس يبحثون عن السعادة مع اختلاف أفكارهم ومبادئهم وعقائدهم، فبعضهم يراها بجمع المال وبعضهم يراها في المنصب والجاه، وبعضهم يراها في تقليد الغرب، فيستورد الأفكار المنحلة منهم، ولكن سرعان ما تنقضي هذه السعادة ويدب اليأس من جديد. وذلك لأن السعادة الحقيقية ليست إلا من التزم بكتاب الله وسنة رسوله، فهما أساس السعادة الحقيقية في الدارين.

الناس جميعا يبحثون عن السعادة

الناس جميعاً يبحثون عن السعادة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء! وأيها الإخوة الأحباب الكرام الأعزاء! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله جل وعلا الذي جمعنا في هذا المسجد الطيب المبارك على طاعته؛ أن يجمعنا وإياكم مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله: (إلى الباحثين عن السعادة) هذا هو عنوان لقائنا معكم في هذا اليوم الكريم المبارك، وكعادتي فسوف ينتظم حديثي معكم تحت هذا العنوان في العناصر التالية: أولاً: الناس جميعاً يبحثون عن السعادة. ثانياً: سعادة العالم بين الوهم والحقيقة. وأخيراً: هذا هو طريق السعادة. فأعرني قلبك وسمعك أيها الحبيب، والله أسأل أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه؛ أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب. مهما اختلفت عقائد الناس وأفكارهم ومبادؤهم، فإنك لو سألت أي إنسان على ظهر الأرض: لمَ فعلت كذا؟ ولم صنعت كذا؟ لقال لك إما بهذه الأحرف أو بكلمات تختلف: أبحث عن السعادة. إنها غاية يتفق فيها الخلق جميعاً، ولكن يختلف الناس في سبيل الحصول على هذه السعادة.

السعادة لا تكون في جمع المال

السعادة لا تكون في جمع المال من الناس من يظن أن السعادة في جمع المال، ولو كان من الحرام، المهم أنه يريد أن يجمع المال بأي سبيل، ولا تعنيه الوسيلة لجمع هذا المال. وأود أن أقول بدايةً: أنا لا أريد أن أقلل من شأن المال، فقد يكون المال سبب السعادة في الدنيا والآخرة، وقد يكون المال سبب الشقاء في الدنيا والآخرة، المال ما أكرمه إذا حركته أيدي الصالحين والشرفاء، وما أشرف المال إذا عرف المسلم غايته، وعلم أن المال ظل زائل، وعارية مسترجعة، وفي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد من حديث أبي كبشة الأنماري، وفيه أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إنما الدنيا لأربعة نفر: -وذكر النبي صلى الله عليه وسلم منهم- رجلاً آتاه الله مالاً وعلماً فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقاً) فهذا في أفضل المنازل عند الله جل وعلا. فالمال ظل زائل، وعارية مسترجعة، لو عرف المؤمن غاية وحقيقة المال والوظيفة التي ينبغي أن يُسخر لها، فأنفق في سبيل الله جل وعلا، وعلم يقيناً أن ماله الحقيقي هو ما قدم، وبُذِلَ في حياته، ففي صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم سأل أصحابه يوماً فقال: (أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟ قالوا: يا رسول الله! ما منا من أحد إلا وماله أحب إليه من مال وارثه، فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: فإن ماله ما قدم ومال ورثته ما أخر)، وفي الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي وغيره أنه صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (مالك يا بن آدم! تقول: مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت) ورحم الله من قال: النفس تجزع أن تكون فقيرة والفقر خير من غنىً يطغيها وغنى النفوس هو الكفاف فإن أبت فجميع ما في الأرض لا يكفيها ... هي القناعة فالزمها تكن ملكاً لو لم تكن إلا راحة البدن وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير الطيب والكفن قال جل وعلا: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً * وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً * وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً * وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:46 - 49]. فالمسلم إذا عرف غاية المال واستخدمه استخداماً صحيحاً؛ فالمال يكون حينئذٍ سبب في سعادته في الدنيا والآخرة، وقد يكون المال من أسباب الشقاء في الدنيا والآخرة؛ إذا عاش الإنسان من أجل المال، وأصبحت غايته في هذه الدنيا أن يجمع المال بأي سبيل وطريق حتى ولو على سبيل الآخرة، يسمع النداء يقول: حي على الصلاة. ولكنه منشغل بتجارته وبأولاده وبكرسيه ومنصبه، ما استجاب لله جل وعلا، بل من أجل الدنيا والمال غفل عن الآخرة، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الغفلة، فقال كما في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري: (إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء). كم ممن ينتسبون الآن إلى الإسلام لا همَّ لهم إلا المال والدنيا، إن أمروا بأمر الله ما أتمروا، وإن نهاهم الله جل وعلا ما انتهوا، وإن حد لهم الله جل وعلا حدوداً تجاوزوا وتعدوا حدود الله تبارك وتعالى، وأصبحت الدنيا الغاية التي من أجلها يخططون ويبذلون، بل وينفقون العقل والوقت والجهد والمال من أجلها. أيها الأحبة: ليس كل صاحب مالٍ سعيد، وأنتم تقرءون آيات القرآن التي قص الله علينا فيها قصة قارون الذي انشغل الناس بملكه وسلطانه، ومع ذلك لما ذُكر بالله ما تذكر، اتق الله، ورد الفضل إلى الله جل وعلا، واعلم أن ما أنت فيه من نعمة إنما هو بفضل الله جل وعلا عليك، فرد قارون باستعلاء وكبر وقال: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص:78] (إنه فن الإدارة) هذه الكلمة التي يرددها أصحاب المال الآن إلا من رحم ربك، فكانت النتيجة: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ} [القصص:81]. ولعل البعض منكم قد تابع قصة أغنى امرأة في العالم، فتاة في العشرين من عمرها، إنها: كريستينا أونسيس ابنة الملياردير الشهير أونسيس، لما هلك أبوها ورثت هذه الفتاة مع زوجة أبيها هذه التركة الضخمة؛ المليارات، والأساطيل، والشركات، وتزوجت هذه الفتاة برجل أمريكي عاشت معه فترة قصيرة ثم طلقته، ثم تزوجت برجل يوناني عاشت معه فترة قصيرة فطلقها أو طلقته، ثم تزوجت برجل روسي شيوعي، فتعجب الصحفيون في حفل زفافها، وقال لها صحفي: كيف تلتقي قمة الرأسمالية بـ الشيوعية؟ فقالت الفتاة بصدق ووضوح: أبحث عن السعادة، ثم عاشت معه وطلقته، ثم تزوجت للمرة الرابعة برجل فرنسي فتقدمت صحفية لتقول لها: هل أنت أغنى امرأة؟ قالت: نعم. أنا أغنى امرأة ولكني أشقى امرأة، ثم وجدوها جثة هامدة في إحدى الشاليهات بدولة الأرجنتين. فليس كل صاحب مال سعيد -أيها الإخوة- والله لن يذوق طعم السعادة إلا رجل منّ الله عليه بالمال؛ فعرف الغاية والوظيفة لهذا المال، فأنفقه لله جل وعلا في الليل والنهار، اكتسبه من الحلال، وأنفقه فيما يرضي الكبير المتعال.

لا تنال السعادة بالمناصب

لا تنال السعادة بالمناصب قد يظن صنف من الناس أن السعادة الحقيقية في المنصب، والجاه والسلطان، وأنا أقول لكم: قد يكون المنصب سبباً من أسباب السعادة في الدنيا والآخرة؛ إذا اتقى الإنسان فيه ربه، وعرف أن المنصب والكرسي الذي أجلسه الله عليه أمانة، وعرف أن هذه الأمانة يوم القيامة قد تكون حسرة وندامة، ففي صحيح مسلم أن أبا ذر جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! ألا تستعملني؟ -لماذا لا تعطيني منصباً أو كرسياً في هذه الدولة العظيمة- فقال له المصطفى بعد أن ضرب على منكبه: يا أبا ذر! إنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها). فالمنصب والمسئولية أمانة، وأستحلفك بالله: أن تتدبر هذا الحديث الذي يرعب القلب لخطره ومسئوليته، والحديث في أعلى درجات الصحة، فقد رواه البخاري ومسلم من حديث معقل بن يسار رضي الله عنه، أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ما من عبد يسترعيه الله رعيةً، يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة) تدبر أيها المسئول، مهما كانت مسئوليتك، ومهما كان منصبك، أنت في أمانة إن أديتها ربما أوصلتك هذه المسئولية إلى الجنان، إن اتقيت الله وعرفت قدر هذه المسئولية وقدر هذه الأمانة، فإن خان الإنسان هذه الأمانة؛ كان المنصب سبباً في شقائه في الدنيا والآخرة. لذا نرى عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا يكاد ينام ليلاً أو نهاراً، يمر في السوق فيلفت نظره إبل سمينة، فيقول عمر: [إبل من هذه؟ فيرد عليه بعضهم ويقول: إبل عبد الله بن عمر! -وكأن حية رقطاء قد أفرغت كل سمها في جوفه- ائتونِ به، ويأتي عبد الله وهو يرتجف -وأنتم تعملون أن عبد الله بن عمر إمام من أئمة الزهد والورع- فيقول له أبوه: ما هذه الإبل يا عبد الله؟ فيقول: إبل هزيلة اشتريتها بخالص مالي يا أمير المؤمنين، وأطلقتها في الحمى ترعى؛ لأبتغي ما يبتغيه المسلمون من الربح والتجارة، فقال عمر في تهكم لاذع وهو الذي عرف حجم المسئولية وقدر الأمانة، قال: بخٍ بخٍ يا بن عمر، وإذا رأى الناس إبلك قالوا: ارعوا إبل ابن أمير المؤمنين، اسقوا إبل ابن أمير المؤمنين، فتسمن إبلك، ويربوا ربحك يا ابن أمير المؤمنين، عبد الله! قال: لبيك يا أبتي! قال: اذهب الآن فبع الإبل، وخذ رأس مالك ورد الربح إلى بيت مال المسلمين] لله دره! هؤلاء كانوا يقفون أمام كل لقمة شهية، وثوب جميل، ونعمة، يقفون وهم يرتعدون من الله جل وعلا. ويقول عمر لنفسه: [ماذا أنت قائل لربك غداً يا عمر، كنت فقيراً فأغناك الله، وكنت وضيعاً فأعزك الله، وكنت ذليلاً فأعزك الله، ثم ولاك الله هذه الأمانة، فماذا أنت قائل لربك غداً يا عمر؟!!]. فيا أيها الحبيب! مهما كان حجم منصبك، ومهما كانت حجم مسئوليتك فإنها أمانة، وإنها يوم القيامة حسرة وندامة، أما إن اتقيت الله، وجعلت هذا المنصب وسيلة للجنة لتفريج كربات الناس، فلا. ولا تعقد مصالح خلق الله، ولا تعقد مصالح عباد الله، بل كن مفتاح خير، فإن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر، فكن مفتاح خيرٍ بمنصبك، وكن مفتاح خير بكرسيك، واستغل هذا الكرسي لمرضاة الله، ولا تستغل هذا الكرسي لمن أجلسك عليه من العباد، فإن الكرسي ظل زائل، وعارية مسترجعة، ولو دام هذا المنصب لغيرك لما وصل إليك. دع عنك ما قد فات في زمن الصبا واذكر ذنوبك وابكها يا مذنب لم ينسه الملكان حين نسيته بل أثبتاه وأنت لاهٍ تلعب والروح منك وديعة أودعتها ستردها بالرغم منك وتسلب وغرور دنياك التي تسعى لها دار حقيقتها متاع يذهب الليل فاعلم والنهار كلاهما أنفاسنا فيهما تعد وتحسب فقد يكون المنصب سبباً من أسباب السعادة في الدنيا والآخرة، كما أنه قد يكون المنصب سبباً من أسباب الشقاء والهلاك في الدنيا والآخرة.

لا تدرك السعادة بمحاكاة الغرب

لا تدرك السعادة بمحاكاة الغرب هناك صنف ثالث يظن أن السعادة الحقيقية في أن يسافر إلى الغرب، وأن يستورد أفكاره، فهؤلاء هم الذين يعيشون في سعادة من وجهة نظرهم، وأنا أقول لكم أيها الأخيار: والله الذي لا إله غيره! من سافر إلى بلاد الغرب علم يقيناً أن هؤلاء يعيشون الضنك بكل معانيه. نعم. هم حولوا العالم كله إلى قرية صغيرة عن طريق هذه التقنية المذهلة في عالم الاتصالات والمواصلات، فجَّروا الذرة، وانطلقوا في أجواء الفضاء، وغاصوا في أعماق البحار، وأعطوا البدن كل ما يشتهيه، وبقيت الروح في أعماقهم تصرخ، تبحث عن غذائها ودوائها، وهنا وقف الغرب أمام الروح وقفة العاجز، لماذا؟ لأن الروح لا توزن بالجرام، ولا تقاس بالترمومتر، ولا تخضع لبوتقة التجارب في معامل الكيمياء والفيزياء، فوقف الغربي حائراً عاجزاً. إن المتابع للإحصائيات الأخيرة سيعجب عجباً حينما يرى هذا الانتشار السريع لعيادات الطب النفسي، ولحالات الانتحار الجماعي؛ لأن الإنسان بدن وروح، ولا يمكن لطائر جبار أن يحلق في أجواء الفضاء بجناح واحد لمدة طويلة، فإن طار وإن طالت مدة طيرانه سيسقط حتماً لينكسر جناحه الآخر، وهنا يقول الحق جل وعلا عند الروح: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء:85] فالإنسان جسد وروح، ومحالٌ أن يجد الإنسان غذاء هذه الروح إلا في منهج الخالق جل جلاله، قال سبحانه: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]. كنت ألقي محاضرة في المركز الإسلامي في لوس أنجلوس، ودخل عليّ أمريكي مع أخوين مسلمين، وقطعا الأخوان محاضرتي وقالا لي: نريد أن تنطق هذا الأمريكي الشهادتين. قلت: الحمد لله، تقدم يا أخي، وقبل أن ينطق الشهادتين، قلت له: لماذا أتيت مسلماً وأنت ترى واقع المسلمين لا يسر عدواً ولا حبيباً. رد عليّ الأمريكي وقال: يا أخي أنا رجل ثري، أملك الشركات والأموال الطائلة، ومع ذلك يقول: فكرت في الانتحار أكثر من عشر مرات، يريد أن يتخلص من الحياة، لا يشعر للحياة بلذة ولا بذوق ولا بطعم، يقول: وعندي هذا الأخ، وأشار إلى موظف مع الأخوين اللذين جاءا معه، هذا الأخ الموظف عندي في إحدى شركاتي، ما من مرة أدخل عليه إلا وأراه مبتسماً نشيطاً في عمله، أميناً في عمله، صادقاً جاداً، فاقترب منه هذا الأمريكي وقال: يا أخي، ما من مرة أدخل عليك إلا وأرى السعادة تعلو وجهك، وأرى عليك الجد والنشاط والحيوية، وأنا صاحب هذه الشركة لا أشعر بما تشعر به، فرد عليه هذا الأخ الذي كان مثالاً للمسلمين، إذ أنني أعتقد من كثرة سفراتي إلى هذه البلاد أن المسلمين هم حجر العثرة في طريق التزام هؤلاء بالإسلام؛ لأن الأمريكي أو الغربي ينظر إلى كثير من المسلمين فيراهم قد انحرفوا عن منهج رب العالمين، هذا يشرب الخمر، وهذا يبيع الخنزير في محله، وهذا يعاقر الزنا، يقول: فما الفرق بيني وبينه؟! إذاً: لو كان المسلم مثالاً حقيقياً لهذا الدين بأخلاقه وسلوكه؛ لتغيرت هذه الصورة المقززة، التي نقلت إلى الغرب والشرق عن الإسلام والملتزمين المسلمين. يقول: فرد عليَّ هذا الأخ المسلم وقال لي: الحمد لله أنا أشعر بالسعادة؛ لأنني مسلم. قال: وما معنى ذلك؟ وهل المسلم يشعر دوماً بالسعادة؟ قال: نعم؛ لأن نبينا صلى الله عليه وسلم علمنا حديثاً صحيحاً في صحيح مسلم من حديث أبي يحيى صهيب يقول: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له, وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له). فرد الأمريكي وقال: فهل لو دخلت الدين الذي أنت عليه سأشعر بالسعادة التي تشعر بها؟ قال: نعم. قال: أدخلني، دلني، فأمره بالاغتسال، فاغتسل وجاء به إلى المركز الإسلامي؛ ليعلن الشهادة، ووالله يا إخوة، ما إن وقف الأمريكي ليردد خلفي كلمة الإيمان والتوحيد إلا وبكى بكاءً هستيرياً طويلاً، فأراد الإخوة أن يسكتوه، فقلت لهم: دعوه، فلما أنهى بكاءه وجلس قلت له: لماذا بكيت؟ فقال لي: أشعر الآن بشيء من الفرح في صدري ما شعرت به قبل ذلك. قلت: صدق ربي إذ يقول: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:123 - 124] إنها نعمة شرح الصدر والهداية، لا يتذوق طعمها إلا من ذاقه وعرفه. قالوا لنا الغرب، قلت: صناعة وسياحة ومظاهر تغرينا لكنه خاوٍ من الإيمان لا يرعى ضعيفاً أو يسر حزينا الغرب مقبرة المبادئ كلما رفعت يداً أبدى لها السكينا الغرب يكفر بالسلام وإنما بسلامه الموهوم يستهوينا الغرب يحمل خنجراً ورصاصة فعلام يحمل قومنا الزيتونا كفر وإسلام فأنى يلتقي هذا بذلك أيها اللاهونا

سعادة العالم بين الوهم والحقيقة

سعادة العالم بين الوهم والحقيقة أيها المسلم! اعلم بأن السعادة الحقيقية تكمن في دين الله جل وعلا وامتثال منهجه. إن العالم كله محروم من السعادة بلا نزاع وجدال، على الرغم من كثرة الأموال والبنوك والأسواق. وعلى الرغم من كثرة المخترعات في جانب الأمن فإن العالم محروم من نعمة الأمن والأمان، ومحروم من نعمة السعادة! لماذا؟ لأنه انحرف عن منهج الله جل وعلا، وابتعد عن منهجه، ولا سعادة لمخلوق على ظهر هذه الأرض إلا إذا سمع عن الله فامتثل، واستجاب لأمر محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. ولا تقل لي: أين النموذج؟ أقول لك: ما وجد هذا النموذج الذي يحول الإسلام في واقع الناس إلى منهج حياة، وإلى واقع عملي، فمن الظلم إذاً أن نحكم على منهج الله ودين الله بأنه ما حقق السعادة للناس على أرض الواقع؛ لأنه ما قدم إلى الآن هذا المنهج بالصورة التي ارتضاها الله جل وعلا أو رسوله صلى الله عليه وسلم. وهاهو المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم، يوم أن حول أصحابه هذا الدين إلى واقع عملي ومنهج حياة، تحولوا من رعاة للإبل والغنم إلى سادة وقادة للدول والأمم، فلا سعادة إلا إذا عادت البشرية إلى الله، بعد أن أحرقها لفح الهاجرة القاتل، وأرهقها طول المشي في التيه والظلام، فإن البشرية كلها من خلق الله، ولن تعالج فطرتها وأمراضها إلا بدواء يقدم لها من عند الله، وهذا الدواء هو كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهيا أيها المسلم! قم وضم العالم كله إلى صدرك، وأسمعه خفقات قلبك الذي وحد الله جل وعلا، هيا قم ودثر العالم كله ببردتك ذات العبق المحمدي، بيّن للدنيا عزة وعظمة وأخلاق هذا الدين، والله أسأل أن يجعلنا وإياكم خير دعاة بأقوالنا وأخلاقنا وسلوكنا ورحمتنا وتواضعنا وبذلنا لهذا الدين، فإن أعظم خدمة نقدمها اليوم أيها المسلمون لهذا الدين العظيم هي: أن نشهد له شهادة عملية على أرض الواقع، بعدما شهدنا له جميعاً شهادة قولية؛ لأننا نرى انفصاماً رهيباً بين هذا المنهج المنير، وبين هذا الواقع المر المرير. والله أسأل أن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

هذا هو طريق السعادة

هذا هو طريق السعادة الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: أيها الأحبة الكرام وأخيراً: هذا هو طريق السعادة:

الإيمان والعقيدة هما الأصل في إيجاد السعادة

الإيمان والعقيدة هما الأصل في إيجاد السعادة لخص الله هذا الطريق في آيات محكمة لمن أراد السعادة في الدنيا والآخرة، قال جل جلاله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97] إيمان بالله جل وعلا، وعمل صالح، واستقامة على هذا الدرب حتى تلقى الله {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [النحل:97] إذ أن الإيمان والعقيدة هما الأصل، ولا تصدق أبداً أن الأمة الآن أصبحت في غنىً عن العقيدة، أو في غنىً عن دعاة يركزون على العقيدة والتوحيد، فإن التوحيد هو اللبنة الأولى إن أرادت هذه الأمة أن يعاد إليها عزها ومجدها المسلوب. فالإسلام عقيدة تنبثق منها شريعة تنظم هذه الشريعة كل شئون الحياة، ولا يقبل الله من قوم شريعتهم إلا إذا صحت عقيدتهم، يخرج علينا من يقول: لا تكثروا الدندنة حول الإيمان أو التوحيد؛ لأن النبي بدأ بالتوحيد، إذ أنه بدأ في بيئة شركية، فلا داعي للإكثار من الحديث عن التوحيد والإيمان وأركانه وأبوابه. أقول: إن الأمة اليوم في أمس الحاجة إلى التوحيد، بل لقد قال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا} [النساء:136] فقد أثبت لهم عقد الإيمان ابتداءً؛ ومع ذلك يأمرهم بالإيمان؛ ليظل الإيمان عقيدة حية في قلوبهم، وراسخة في ضمائرهم، وعاملة في حياتهم وواقعهم، فلا بد أيها الحبيب من تأصيل الإيمان وتحقيقه وتجريده وتخليصه من أي شائبة من شوائب الشرك، فالأمة لا زالت الملايين المملينة فيها تسأل غير الله، وتستغيث بغير الله، ونحَّت شريعة الله جل وعلا، في كل عام في مصر وفي غيرها يحج إلى بعض القبور الملايين من البشر، وسمعنا بآذاننا عبر شاشات التلفاز من يقول: إننا الليلة نحتفل بمولد السيد البدوي المهاب، الذي إذا دعي في البر والبحر أجاب، وسمعنا من يخاطب النبي المصطفى ويقول: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم ومن فيض جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم وسمعنا من أبناء الأمة من يقول: هبوا لي ديناً يجعل العرب أمة وسيروا بجثماني على دين برهم سلام على كفر يوحد بيننا وأهلاً وسهلاً بعده بجهنم وسمعنا من أبناء الأمة من يقول: إن مصر ستظل فرعونية، ولو وقف الإسلام حجر عثرة في طريق فرعونيتنا لنحينا الإسلام جانباً لتظل مصر فرعونية. وسمعنا من أبناء الأمة من يقول: إن القرآن منتج ثقافي. وسمعنا من يقول: آمنت بالبعث رباً لا شريك له وبالعروبة ديناً ما له ثانِ ويخرج من يقول: كفوا عن التوحيد، أين التوحيد في هذه الأمة؟ ليكف الدعاة عن التركيز على التوحيد والإيمان؛ لتحقيقه وتجريده، فوالله لا عز ولا نجاة لهذه الأمة إلا إذا حققت الإيمان بالله جل وعلا ابتداءً: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [النحل:97].

التقرب إلى الله سبب السعادة في الدنيا والآخرة

التقرب إلى الله سبب السعادة في الدنيا والآخرة صمنا رمضانات كثيرة، ومع ذلك لو سألنا أنفسنا -إلا من رحم الله- هل خرجنا بالتقوى من رمضانات كثيرة صمناها؟ لكان A لا. إلا من رحم الله، لماذا؟ لأننا دخلنا رمضان مدرسة الصوم بغير الشرط الذي به سنحصل التقوى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] لن تخرج من رمضان بالتقوى إلا إذا دخلت رمضان بالإيمان، إن لم تحقق الإيمان فلن تخرج بالتقوى، كم من المسلمين يذهب إلى حج بيت الله الحرام، وعلى عرفات، ورب الكعبة لقد رأيت بعيني على عرفات، من جلس بلباس الإحرام ليلعب (الورق)، فكاد قلبي أن ينخلع، فقلت: يا أخي في هذا اليوم العظيم تقضي هذا الوقت في مثل هذا؟ فقال: إن اليوم طويل، وأنا أريد أن أقضي بعض الساعات في اللعب حتى لا أشعر بالملل، هذا في عرفات، لا يشعر بلذة ولا بعظمة هذا اليوم؛ لأنه ما حقق الإيمان، فلن تخرج بتقوى، ولن تستطيع أن تغض بصرك، وأن تكف عن الحرام، وتمتنع عن الربا، وتفعل شيئاً على الإطلاق إلا إذا حققت الإيمان ابتداءً بالله جل وعلا. {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97] حياة سعيدة كريمة، سينشرح صدرك، وييسر الله جل وعلا أمرك، وستشعر بالراحة والطمأنينة وأنت في رحاب الله، وفي قرب من الله جل وعلا، إن أتيت الصلاة، أو قمت الليل، أو أكلت لقمة شعرت باللذة والسعادة، فحقق الإيمان واحرص على العمل الصالح؛ وستسعد بهذه الدنيا، بل وستدخل جنة الدنيا قبل جنة الآخرة، فإن في الدنيا جنة من لم يدخلها لن يدخل جنة الآخرة، إنها جنة القرب من الله، وجنة الطاعة لله، وجنة اللذة بالأنس مع الله جل جلاله، فاحرص على الإيمان والعمل الصالح؛ لتشعر بالسعادة في هذه الدنيا قبل الآخرة. يحدثني أستاذ جامعي في المنصورة في مصر ابتلاه الله بمرض في القلب، فسافر إلى بريطانيا لإجراء جراحة عاجلة، فلما قرر الأطباء الجراحة وظن أنه ربما يموت، قال: أمهلوني ثلاثة أيام لأرجع إلى أهلي لألقي عليهم نظرة أخيرة، ولأرتب بعض الأمور، فإن قدر الله عليَّ الوفاة أكون مطمئناً، فعاد الرجل وقبل أن يسافر بيوم إلى بريطانيا مرة أخرى لإجراء الجراحة، كان يجلس إلى جوار صديق له في مكتب إلى جوار جزار؛ -أي: رجل يبيع اللحم- ولفت نظره امرأة كبيرة تلتقط العظم وبعض قطع اللحم النيئ من الأرض وتضعه في سلة معها، فتعجب الرجل وخرج ونادى على هذه الأم الكبيرة، وقال: ما تصنعين يا أماه؟ قالت: والله يا بني لقد رزقني الله خمساً من البنات، ما ذاقوا طعم اللحم منذ عام تقريباً، فأنا أجمع لهم بعض هذه القطع. فبكى الرجل وتأثر ودخل على هذا الرجل وقال: يا أخي هذه المرأة ستأتيك في كل أسبوع وأعطها من اللحم ما تريد. قالت: لا، أريد كيلو فقط. قال: بل أعطها اثنين، وأخرج من جيبه مباشرة قيمة لحم لعام كامل مقدماً، فبكت المرأة ولم تصدق، ورفعت يديها تتضرع بالدعاء إلى الله جل وعلا أن يسعد هذا الرجل وهو صاحب القلب المريض. يقول لي: والله ما إن عدت إلى بيتي إلا وأنا أشعر بهمة ونشاط، حتى لو كلفوني بهدم بيت لفعلت ذلك. يقول: فلما دخلت قابلتني ابنتي وقالت: ما شاء الله يا أبي أرى اليوم حركتك ونشاطك وجدك زاد، ما هذا؟ أرى وجهك يتهلل، فقص عليها القصة فبكت البنت، وكانت صالحة ورفعت يديها إلى السماء لتدعو الله جل وعلا وتقول: أسأل الله أن يسعدك بشفاء مرضك، كما أسعدت هذه المرأة وأولادها. واستجاب الملك، وسافر الرجل بعد إصرار من أهله وهو الذي شَعُر بالتحسن الكامل، وأمام أطبائه في بريطانيا صرخ طبيبه الذي يعلم حالته وقال: ما هذا؟ فنظر إليه وقال: ما الذي حدث؟ قال: من الذي بذل لك العلاج بهذه الصورة؟ وعند أي الأطباء قد تعالجت وطلبت العلاج؟ فبكى الرجل بين يديه وقال: تاجرت مع الله فشفاني الله جل وعلا، بين غمضة عين وانتباهتها. فاعلم أن الله على كل شيء قدير، وأنك ستسعد في الدنيا والآخرة؛ إن قربت من الله وعرفت طريقه، وحققت الإيمان به، وسرت على درب الحبيب رسول الله صلى الله عليه وسلم. هذا هو طريق السعادة يا شباب! هذا هو طريق السعادة يا أصحاب الأموال والمناصب! لن تشعروا بالسعادة في الدنيا والآخرة إلا إذا سلكتم هذا الدرب: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:30 - 32]، لتسعد بعد ذلك إن سلكت هذا الدرب سعادة حقيقية أبدية لا تشقى بعدها أبداً في جنات النعيم، {فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:54 - 55]، وقال تعالى: {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:105 - 108] هذه هي السعادة، إنها دار السعادة، ولن تدخل دار السعادة إلا إذا دخلتها في الدنيا، فحققت الإيمان، وسرت على درب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

سعادة أهل الجنة ونعيمهم

سعادة أهل الجنة ونعيمهم أيها الحبيب الكريم! روى مسلم في صحيحه من حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أهل الجنة الجنة قال الله تعالى: يا أهل الجنة هل رضيتم؟ فيقول أهل الجنة: وما لنا لا نرضى وقد أدخلتنا الجنة، وأنجيتنا من النار، فيقول الله جل وعلا: أفلا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقول أهل الجنة: وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول الله جل وعلا: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً). أيها الأخيار! إن نعيم الجنة الحقيقي ليس في لبنها، ولا خمرها، ولا ذهبها، ولا قصورها، ولا حريرها، ولا حورها، وإنما نعيم الجنة الحقيقي في رؤية وجه ربها، قال جل جلاله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23] قال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] والحسنى: هي الجنة، والزيادة: هي أن تتمتع بالنظر إلى وجه الله في جنات النعيم. أيها الحبيب الكريم! هذا هو طريق السعادة، فداوم على هذا الدرب، واحرص عليه، واحرص على السير على طريق محمد بن عبد الله، فوالله ثم والله لن تشعر في دنياك بالسعادة ولا بنجاة وفوز وفلاح في أُخراك، إلا إذا سلكت هذا الدرب وهذا الطريق. والله أسأل أن ييسر لي ولكم هذا الدرب، وأن يثبتنا وإياكم عليه. اللهم اجعلنا من أهل السعادة في الدنيا والآخرة، اللهم يسرنا بفضلك لليسرى، اللهم ارزقنا التقى والعفاف والغنى. اللهم صل وسلم وبارك على نبينا وحبيبنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

أميرة القصر، وقضية العصر

أميرة القصر، وقضية العصر كان لحادث وفاة الأميرة البريطانية ديانا وعشيقها صداه المؤسف في الإعلام العربي المقروء والمسموع، مما يدل دلالة واضحة على الخلل العقدي، والفهم الخاطئ لحقيقة الولاء والبراء في الإسلام. في هذه الخطبة أزاح الشيخ اللثام عن هذه الحقيقة وبيّن عوار الإعلام ومساويه، ووضح أهمية أمانة الكلمة، والأزمة التي يعيشها كثير من شباب هذه الأمة، ثم بيّن الفائدة والعبرة من هذه الحادثة، وأنهى الموضوع بالحديث عن الطريق الحق إلى السعادة في الدنيا والآخرة.

قبل أن تغرق السفينة بالجميع

قبل أن تغرق السفينة بالجميع إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصلِّ اللهم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء، وأيها الإخوة الأحباب الكرام الأعزاء، وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم الكريم جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت المبارك على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! (أميرة القصر وقضية العصر) هذا عنوان لقائنا مع حضراتكم في هذا اليوم الكريم المبارك، وكما تعودنا حتى لا ينسحب بساط الوقت من بين أيدينا سريعاً، فسوف أركز الحديث مع حضراتكم تحت هذا العنوان في العناصر التالية: أولاً: قبل أن تغرق السفينة بالجميع. ثانياً: أمانة الكلمة وأزمة العقل المسلم. ثالثاً: أين الولاء والبراء؟ رابعاً: فاعتبروا يا أولي الأبصار. وأخيراً: هذا هو طريق السعادة في الدنيا والآخرة. فأعيروني القلوب والأسماع جيداً أيها الأحباب الكرام، والله أسأل أن يسترنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض، وأن يرزقنا جميعاً حسن الخاتمة، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! حملةٌ إعلامية مبالغٌ فيها بشكلٍ مثير، تستفز مشاعر كل مسلم صادقٍ غيور، حول حادث وفاة الأميرة البريطانية ديانا مع عشيقها بعد حفل عشاءٍ رومنسيٍ ساهر في مدينة باريس، الحدث في ذاته لا يستحق منا أبداً أن نهتم به لولا ما قرأت من كلمات، وما سمعت من آهاتٍ وأناتٍ وتوجعات، وما رأيت من حالاتٍ واعتقاداتٍ تصيب عقيدة الولاء والبراء بطريقٍ مباشر، لولا ذلك ما وقفت اليوم مع حضراتكم هذه الوقفة لأفرد خطبة جمعة كاملة لمثل هذا الموضوع، فلقد رأيت أنه من الواجب الذي سأُسأل عنه بين يدي الله جل وعلا أن أقف اليوم مع حضراتكم وقفة متأنية مع هذا الحدث؛ لأستخرج منه الدروس والعظات والعبر التي تربي النفوس، وتربط القلوب بعلام الغيوب جل وعلا. فالداعية الصادق -أسأل الله أن يجعلني وإياكم من الصادقين- هو الذي ينبض قلبه بحب أمته، ويتمزق قلبه في الوقت ذاته حسرةً على ما أصاب الأمة من انحرافٍ مزرٍ عن منهج الله، وعن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، لذا فهو يستغل الأحداث المتجددة؛ ليطرق على الحديد وهو ساخن؛ ليستخرج الدروس التربوية، والعظات الكبيرة، والعبر المفيدة. لذا فالداعية الصادق هو الذي يختار اللحظة المناسبة التي تبلغ فيها حرارة الانفعال درجة الانصهار؛ ليجلي لأمته المنهج التربوي الإسلامي اقتداءً بالحبيب النبي صلى الله عليه وسلم الذي ما ترك حدثاً من الأحداث في مكة أو المدينة في حياة الرعيل الأول إلا ووظف النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحدث توظيفاً تربوياً فعالاً رائعاً، إذ أن التربية بالأحداث المتجددة من أعظم وسائل التربية. ومن ثم وقفت اليوم بين يدي حضراتكم محذراً أبناء أمتي قبل أن تغرق السفينة بالجميع، بالصالحين والطالحين، والمهرجين والساقطين، فنحن جميعاً -يا إخوة- نركب سفينة واحدة، يركب هذه السفينة الصالحون والطالحون كما قال النبي عليه الصلاة والسلام في حديثه الصحيح الذي رواه البخاري من حديث النعمان قال عليه الصلاة والسلام: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قومٍ استهموا على سفينة -أي ضربوا القرعة على سفينة- فأصاب بعضهم أعلاها وأصاب بعضهم أسفلها، فكان الذي في أسفلها إذا استقوا الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً حتى لا نؤذي من فوقنا -يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم- لو تركوهم وما أرادوا لهلكوا وهلكوا جميعاً، ولو أخذوا على أيديهم لنجوا ونجوا جميعاً) فنحن جميعاً ركاب سفينة واحدة، يركب السفينة الصالح والساقط، التقي والشقي، إن نجت السفينة نجا الجميع، وإن هلكت السفينة هلك الجميع، هذا الواجب الثقيل، واجب الأخذ على أيدي المهرجين والواقعين في حدود رب العالمين، هذا الواجب يا إخوة قد حمله الله والنبي صلى الله عليه وسلم وآله وسلم على كل مسلمٍ ومسلمة على وجه الأرض، كلٌ بحسب قدرته، كلٌ بحسب استطاعته، كلٌ بحسب فكره وعطائه وقدراته. ففي صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) فإن رأيت منكراً -أيها المسلم- فغير هذا المنكر بيدك إن استطعت ذلك بالضوابط الشرعية والقواعد والأصول المرعية، فإن عجزت فبلسانك، فإن عجزت فبقلبك، ولا عذر لك عند الله جل وعلا إن لم تغير هذا المنكر بقلبك. وتغيير المنكر بالقلب -أيها الأخيار- يقتضي منك أن تترك المكان الذي يرتكب فيه المنكر وأنت عاجزٌ عن تغييره، أيها المسلم وأن تُبغض المنكر وأهله، هذا الواجب إن لم تتحمله الأمة وقع بالأمة كلها عقاب الله وعذابه وسخطه، ويتعرض لهذا العقاب الصالحون مع الطالحين، ففي الصحيحين من حديث زينب بنت جحش رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوماً فزعاً وهو يقول: (لا إله إلا الله، ويلٌ للعرب من شرٍ قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق النبي بالسبابة والإبهام، فقالت زينب: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: نعم إذا كثر الخبث). فواجبٌ على الأمة تجاه هذه المهزلة التي نشهدها على صفحات الجرائد، بل وفي جل بيوت المسلمين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، واجبٌ على أهل الإصلاح من الصالحين، على أهل المعروف المنكرين المنكر أن يحذروا الأمة من هذه السفاسف الرهيبة، وأن يذكروا الأمة بقضاياها الكبرى التي أراد لها الأعداء أن يصرفوها عنها، وسقط في هذه المصيدة وهذا الفخ الخطير كثيرٌ ممن يديرون الآن دفة التوجيه والتربية والقيادة في بلاد المسلمين ولا حول ولا قوة إلا بالله! وراع الشاة يحمي الذئب عنها فكيف إذا الرعاة لها الذئاب ويجب عليك أيها المسلم يا من لك العقل والفهم الرشيد السديد أن تقوم اليوم مذكراً، وأن تقف اليوم محذراً؛ لأننا نعيش زمن الفتنة، نعيش الزمن الذي قدم فيه الساقطون الزناة وأهل الدعارة ليكونوا القدوة لشبابنا، ليكونوا القدوة لنسائنا وبناتنا، وقد وصف الصادق هذا الزمان وصفاً دقيقاً محكماً كما في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد والحاكم في المستدرك وصحح الحديث الألباني من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سيأتي على الناس سنواتٍ خداعات، يصدق فيها الكاذب، ويُكذب فيها الصادق، ويُؤتمن فيها الخائن، ويُخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة! قيل: ومن الرويبضة يا رسول الله؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة) صدق المصطفى ورب الكعبة، لقد تكلم التافهون الآن، وأُفرد للتافهين الصفحات الطوال، وأُفرد للتافهين الساعات الطوال ليحركوا عقول الأمة، ليوجهوا شباب الأمة توجيهاً يناقض تماماً ما أراده الله جل وعلا، وما أراده المصطفى صلى الله عليه وسلم لأمةٍ أوجب الله عليها أن تحمل مشعل الهداية لهذه البشرية كلها، ولِمَ لا وبين يديها كتاب الله جل وعلا وسنة الحبيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يزداد هذا الواجب عليك الآن أيها الأخ الحبيب؛ لأننا نعيش هذا العصر الذي خان فيه كثيرٌ من أهل الفكر الأمانة، وتعرض فيه العقل المسلم لأزمة خطيرة تخلع القلوب الحية.

أمانة الكلمة وأزمة العقل المسلم

أمانة الكلمة وأزمة العقل المسلم أمام كل حدث نرى هذه الأزمة، أمام كل مصيبة نرى أزمة العقول المسلمة، ونرى مدى التفاهة لكثيرٍ ممن يديرون دفة التوجيه والقيادة على صفحات الجرائد والمجلات ولا حول ولا قوة إلا بالله رب الأرض والسماوات. أيها الأحبة الكرام! الكلمة أمانة، الكلمة في الجريدة، في الإذاعة، في التلفاز، في المسجد، في الوظيفة، في الشارع الكلمة التي ينطق بها الإنسان أمانة ثقيلة، أمانة عظيمة، الكلمة شأنها عظيم، الكلمة خطرها جسيم، ولِمَ لا؟ فبكلمة واحدة يدخل المرء دين الله، وبكلمةٍ واحدة يخرج المرء من دين الله، وبكلمة واحدة ينال المرء رضوان الله، وبكلمة واحدة ينال المرء سخط الله، قال جل في علاه: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً فيرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً فيهوي بها في جهنم) كلمة! هذه الأمانة العظيمة أمانة الكلمة، أمانة توجيه العقل المسلم، هذه الأمانة الثقيلة يتحملها العلماء، والدعاة، والأدباء، والمفكرون، والكتَّاب، والصحفيون، والمربون، والآباء، والأمهات، وكل من يساهم في تحريك دفة التربية والقيادة والتوجيه بطريقٍ مباشر أو غير مباشر، يتحمل كل هؤلاء هذه الأمانة الضخمة، وهذه المسئولية العظيمة الكبيرة، فالأمة كلها تبعٌ لهؤلاء، الأمة بتوجهاتها وبعقلياتها وبفكرها تبعٌ لهؤلاء القادة ممن يشكلون عقلية هذه الأمة، الأمة تنتظر نتاج هؤلاء، وتنتظر توجيه هؤلاء، وتنتظر تقى هؤلاء. وأعظم دليل على فشل جل هؤلاء ما نراه الآن من حالٍ مهين خطيرٍ لهذه الأمة، حيث أننا نرى الأمة إلا من رحم ربك تتعامل مع كل حدث وأزمة بسطحية مروعة، بسطحية مدمرة، نرى أن المسلم لا فارق بينه وبين هذا الرجل الغربي ألبتة، فالمسلم يتعامل مع الحدث كما يتعامل مع الحدث ذاته الرجل الغربي الذي لا يؤمن بالإله، ولم يهتد من حبيب رسول الله صلى الله عليه وسلم. مكمن الخطر أن الذي يحرك ويشكل هذه العقليات المسلمة وهذه السطحية الخطيرة هم القادة، هم العلماء، هم الكتَّاب، هم الصحفيون، هم الأدباء، وبكل أسف رفعت الأمة هؤلاء على الأعناق، وفوق الرءوس، وهم في الحقيقة إلا من رحم ربك كالطبل الأجوف يُسمع من بعيد وباطنه من الخيرات خالٍ، جل هؤلاء ما يعرف قرآناً، ولا يعرف سنة، ولا يتصور المنهج التربوي الإسلامي بأصالته وسموه وكماله، ومن ثم فإن أي حدثٍ لا يمر على هذا (الفلتر) النقي، على (فلتر) المنهج التربوي الإسلامي ليوظف هذا الأديب أو الصحفي أو الكاتب هذا الحدث توظيفاً يتلاءم مع منهج الله ومع منهج رسول الله فيخرج المسلم بعد ذلك من خلال هذه الرؤية المسلمة العقلية الواسعة، يخرج المسلم بعد ذلك برؤية تخالف تماماً رؤية الرجل الغربي الذي سطر لنا هذا الحدث ليصرف الأمة عن دينها وعن طريق نبيها صلى الله عليه وسلم. كل الجرائد والمجلات والإذاعات والصحف ضخمت الحدث لامرأة زانية، على أعلى مستويات هذه الأمة، قدم الحدث لامرأة ماتت وهلكت مع عشيقها، يقدم الحدث بهذه الصورة التي تثير حالة غبش تحياها الأمة ويحياها الشباب، فيقف الآن المسلم العادي البسيط وهو لا يستطيع أبداً أن يستبين سبيل المؤمنين من سبيل المجرمين، لا يعرف أبداً أين القدوة، ومن هو القدوة والمثل؟ وهذا من أخطر ما تعانيه الحركة الإسلامية الآن، ألا وهي حالة الغبش والتذبذب التي يعيش فيها المسلمون أو جل المسلمين بمعنىً دقيق. ولا يمكن على الإطلاق يا إخوة أن تخرج الأمة لنصرة دينها إلا إذا خرجت من حالة الغبش والتذبذب، إلا إذا تمايز الناس إلى فسطاطين: فسطاط إيمانٍ لا نفاق فيه، وفسطاط نفاقٍ لا إيمان فيه، إلا إذا أسقطت الأمة كل هذه الشعارات المضللة، وكل هذه اللافتات البراقة الخبيثة التي يتخفى خلفها أعداء هذه الأمة ممن لا يرقبون في المؤمنين والمؤمنات إلاً ولا ذمة. لقد آن الأوان بكل صدق ليرفع مثقفو الأمة ومفكروها وعلماؤها وأدباؤها وقاداتها، آن الأوان أن يتخلصوا من عقدة النقص أمام الغرب بكل ثقافاته ومعطياته وسلوكياته، آن الأوان أن يحذر هؤلاء القادة الأمة من هذا الذوبان الخطير في هذه المناهج الغربية والثقافات الغربية التي تصطدم اصطداماً مباشراً مع عقيدتنا وأخلاقنا وديننا، وقد حذر الصادق المصطفى من هذا الذوبان كما في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضبٍ -وفي لفظ: خربٍ- لتبعتموهم، قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن) مَن غير هؤلاء؟ تبعت الأمة سنن هؤلاء مع أن الأمة تعلم يقيناً أن هؤلاء على ضلالٍ وباطل، وأنها تحمل منهج ربها ومنهج نبيها صلى الله عليه وآله وسلم. لقد آن الأوان أن يتخلص هؤلاء من عقدة النقص أمام الغرب بثقافاته، ومعطياته، وسلوكياته، لا سيما في الجانب الأخلاقي التربوي، وإن كنت في الوقت ذاته أقول بأعلى صوتي: لا حرج على الإطلاق أن تستفيد الأمة من حضارة الغرب في الجانب العلمي والمادي والصناعي، ليت الأمة نقلت أروع ما وصل إليه الغرب في جانب التقدم العلمي، ليت الأمة فعلت ذلك، لكنها بكل أسف تركت أروع -وأنا أقر- أروع ما وصلَ إليه التكتيك الغربي في عالم الاتصالات، في عالم المواصلات، في عالم الذرة، في عالم الكيمياء، في عالم الطب، في عالم الجيولوجيا، في كل هذه العوالم تركت الأمة أروع ما وصل إليه الغرب في هذا الجانب، وراحت لتنقل أعفن وأقذر وأرخص وأحقر ما وصل إليه الغرب في الجانب الأخلاقي والتربوي، الذي يصطدم مع عقيدتنا وأخلاقنا، وقيمنا وديننا، حتى رأينا من بني جلدتنا من يقول: لقد عزمنا على أن نأخذ كل ما عند الغربيين حتى الالتهابات التي في رئاتهم، والنجاسات التي في أمعائهم! تبعية ذليلة، وهزيمة خطيرة، خذ أفضل ما عند الغربيين لا حرج، واترك أعفن ما عند الغربيين مما يصطدم مع دينك وقيمك وأخلاقك. إننا نشهد أزمة خطيرة للعقل المسلم تسبب فيها هؤلاء القادة الذين يوجهون ويقودون التربية ويتحكمون في توجيه وتشكيل عقليات أبناء هذه الأمة، إنها أمانة الكلمة، وتوجيه العقل المسلم أمانة، فعلى هؤلاء أن يتقوا الله جميعاً في توجيه الأمة الوجهة الصحيحة التي أرادها لها ربها ونبيها صلى الله عليه وسلم؛ لتتبوأ الأمة من جديد مكانتها التي قال الله عنها: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]. وأنا لا أنكر في الوقت ذاته أننا نرى من هؤلاء القادة من علماء وأدباء ودعاة ومفكرين وصحفيين من تحترق قلوبهم على أحوال هذه الأمة الجريحة، لكنهم يصرخون في صحراء مقفرة، أسأل الله أن يوصل صرخاتهم الصادقة إلى قلوب وآذان هذه الأمة في الشرق والغرب، إنه ولي ذلك والقادر عليه. لا أريد أن أطيل مع كل عنصر، فإن الموضوع والله طويل، وأنا كما ترون لا أريد أن أعالج الحدث في ذاته، وإنما أريد كما ذكرت أن أستخرج الدروس والعظات والعبر التي يجب على كل مسلمٍ أن يخرج بها من مثل هذه الأحداث التي تبين في كل مرة حجم انحراف الأمة عن منهج ربها، وطريق نبيها صلى الله عليه وسلم.

أين الولاء والبراء؟

أين الولاء والبراء؟ والله إن القلب ليحزن، مع كل حدث نرى شرخاً رهيباً لصرح عقيدة الولاء والبراء، رأينا هذا الشرخ الرهيب عند موت العندليب الأسمر، وعند قضية عبدة الشيطان، وعند قضية الاستنساخ، وعند موت سندريلا القرن العشرين، نرى هذا الشرخ الرهيب في صرح عقيدة الولاء والبراء، مسلمٌ في مصر يضرب عن الطعام من أجل سندريلا القرن العشرين، ومسلم في الباكستان ينتحر من أجل سندريلا القرن العشرين، وثالثٌ يقول: لقد ماتا معاً ليعيشا معاً في الجنة هكذا! يقول الإمام ابن القيم: من أحب شيئاً غير الله كما يحب الله تعالى فهو ممن اتخذ من دون الله أنداداً، وهذه هي محبة المشركين، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة:165]. اللهم املأ قلوبنا بحبك وحب نبيك وحب المؤمنين الصادقين، وحب كل عملٍ يقربنا إلى حبك يا أرحم الرحمين! {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة:165] المؤمن نعيم قلبه وقرة عينه في حب الله ورسوله والمؤمنين الصالحين. قال المصطفى كما في الصحيحين من حديث أنس: (ثلاثٌ من كنَّ فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يُلقى في النار) المؤمن قرة عينه ونعيم قلبه في البراءة من الشرك والمشركين، كيف يتعلق قلبك بمشركٍ أو مشركة؟ انتبه يا مسلم انتبه لهذه الكلمات، لا يصح دين ولا إسلام ولا إيمان إلا بموالاة الله ورسوله والمؤمنين، والبراءة من الشرك والمشركين، فتش عن دينك، فتش عن عقيدة التوحيد في قلبك، قلبك يتعلق بمن؟ قلبك فيه من؟ فيه حب الله، فيه حب رسول الله، فيه حب الموحدين، أم فيه حب الساقطين والراقصين والمشركين؟ نقب يا مسلم، والله إني أصرخ بصدقٍ وإخلاص فأنا أحب لك ما أحبه لنفسي، أنا أخاطب المسلمين على وجه الأرض: نقبي يا مسلمة، يا من تعلقت بمغنٍ ساقط! ويا من تعلقت بممثلٍ هابط! فكر يا مسلم ونقب في قلبك عن حب الله ورسوله والمؤمنين، فإن امتلأ قلبك بحب الله ورسوله والمؤمنين طرد أيَّ حبٍ للشرك والمشركين وللباطل والمبطلين، وللساقطين والراقصين، فنقب الآن بصدق: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [المائدة:51] فنقب عن هذا الحب في قلبك الآن اصدق الله، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] قرآن ربك يا مسلم! قال حذيفة بن اليمان: [فليخشَ أحدكم أن يكون يهودياً أو نصرانياً وهو لا يدري لهذه الآية: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51]] قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة:1]. يا من وحدتم الله! يا من أعلنتم الإيمان بالله! نقبوا عن الولاء والبراء في قلوبكم، لقد ضاعت عقيدة الولاء والبراء مع هذا التصالح والتقارب والود مع اليهود، مع الشرك والمشركين، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة:1]. أتحب أعداء الحبيب وتدعي حباً له ما ذاك في الإمكانِ وكذا تعادي جاهداً أحبابه أين المحبة يا أخا الشيطانِ إن المحبة أن توافق من تحب على محبته بلا نقصانِ فإن ادعيت له المحبة مع خلا فك ما يحب فأنت ذو بهتانِ وقال الشاعر: نعم لو صدقت الله حين زعمته لعاديت من بالله ويحك يكفرُ وواليت أهل الحق سراً وجهرةً ولما تعاديهم وللكفر تنشرُ فما كل من قد قال ما قلتَ مسلمٌ ولكن بأشراطٍ هنالك تذكرُ مباينة الكفار في كل موطنٍ بذا جاءنا النص الصحيح المقررُ وتطبع بالتوحيد بين ظهورهم وتدعوهم سراً لذاك وتجهرُ فهذا هو الدين الحنيفي والهدى وملة إبراهيم لو كنتَ تشعر

فاعتبروا يا أولي الأبصار

فاعتبروا يا أولي الأبصار قولوا من الواجب أن يدندن الإعلام المسلم على العظة والعبرة، فلقد تحطمت السيارة التي تركبها المرأة مع عشيقها، وتحولت إلى كومةٍ من الحديد تشبه علبة السجائر التي داستها الأقدام، والعهدة على جريدة الأهرام على صدر صفحتها الأولى، أما لنا في هذا عبرة؟! ولكن العقول وجهت توجيهاً آخر، أما المؤمن الذي يرى برؤية القرآن، ويرى برؤية السنة ينظر إلى الأحداث نظرة أخرى؛ لأن المؤمن يحمل قلباً وعقلاً يختلف تماماً عن قلب وعقل رجلٍ لم يوحد الله جل وعلا، ولم يؤمن برسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه السيارة الضخمة الفخمة تتحول في غمضة عينٍ وانتباهتها إلى كتلة حديد؟! نعم أراد ذلك العزيز الحميد، قضى الملك: {وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:78] إنه الموت يا سادة، إنه الموت يا قادة، إنه الموت، إنها الحقيقة الكبرى التي يسكت عندها جبروت المتجبرين، إنها الحقيقة الكبرى التي يسقط عندها عناد الملحدين، وطغيان البغاة المتألهين، إنها الحقيقة التي تصبغ الحياة البشرية كلها بصبغة الذل والعبودية لقهار السماوات والأرض، إنها الحقيقة التي تسربل بها طوعاً أو كرهاً العصاة والطائعون، بل وشرب كأسها الأنبياء والمرسلون، قال الله جل وعلا: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:26 - 30]. وقال جل وعلا: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:19 - 22] {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق:19] والحق أنك تموت والله حيٌ لا يموت: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق:19] والحق أن ترى عند موتك ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} والحق أن يكون قبرك روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران: {ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] أي: ذلك ما كنت منه تهرب، تحيد إلى الطبيب إذا جاءك المرض، وتحيد إلى الطعام إذا أحسست بالجوع، وتحيد إلى الشراب إذا أحسست بالظمأ، ولكن ثم ماذا أيها القوي الفتي! أيها الذكي العبقري! يا أيها الأمير! يا أيها الوزير! يا أيها الكبير! يا أيها الصغير؟ كل باكٍ فسيبكى! وكل ناعٍ فسينعى! وكل مذخورٍ سيفنى! وكل مذكورٍ سينسى! ليس غير الله يبقى! من علا فالله أعلى! أين الظالمون؟ أين الملوك؟ أين الحكام؟ أين الزعماء؟ أين الوزراء؟ أين الأمراء؟ أين الصالحون؟ أين الأنبياء؟ أين الطالحون؟ أين الظالمون؟ أين الظالمون وأين التابعون لهم في الغي بل أين فرعون وهامان وأين من دوخوا الدنيا بسطوتهم وذكرهم في الورى ظلمٌ وطغيان فهل أبقى الموت ذا عزٍ لعزته أو هل نجى منه بالسلطان إنسان لا والذي خلق الأكوان من عدمٍ الكل يفنى فلا إنس ولا جان قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27] {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [القيامة:26 - 27] قال ابن عباس: [أي: من يرقى بروحه إلى السماء] أيرقى بروحه ملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟ وقال قتادة: {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [القيامة:27] أي: من الذي يبذل له الرقية، ومن الذي يقدم له الطب والعلاج ليحول بينه وبين الموت؟ تحركت مستشفى كاملة إلى الأميرة في موطن الحادث، واستمر أكابر الأطباء لمدة ساعتين كاملتين في إجراءاتٍ وإسعافاتٍ أولية سريعة ليحفظوا هذا القلب، وليمنعوا الروح، ولكن رب الروح قال: لا، إذا قدر الملك شيئاً فلا راد لقضائه، والله لا يمنعك منصبك أياً كنت، والله لا يمنعك مالك مهما كان غناك، والله سترحل، والله لو دام المنصب والكرسي لغيرك ما وصل إليك، هذا طبيبٌ في المخ، وهذا في القلب، وهذا في العظام، وهذا في الأعصاب، وهذا في البطن وغير ذلك، والكل قد التف حول الأميرة ولكن ملك الملوك جل جلاله كان قد أصدر الأوامر لملك الموت، فاستقبل ملك الموت هؤلاء جميعاً ونفذ أمر الله وقضاءه وقدره {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [القيامة:27] إي: من يبذل له الرقية والطب والعلاج؟ لا، إن قضى الملك شيئاً فلا يستطيع أطباء الدنيا أن يحولوا بين هذا وبين ما أراده الله جل وعلا. أيها المسلم! انظر إليها التف من حولها الأطباء كلٍ يدعو لها الرقية، كل يبذل لها العلاج، وانظر كذلك إلى المسلم الذي نام على فراش الموت والتف من حوله الأطباء كلٌ يبذل له الرقية ويبذل له العلاج فهو من هو؟ وهي من هي صاحبت المنصب والجاه والوجاهة؟ وهو من هو صاحب المنصب والجاه والوجاهة؟ انظر إليه اصفر وجهه، وشحب لونه، وبردت أطرافه، وتجعد جلده، وبدأ يشعر بزمهريرٍ قارس يزحف إلى أنامل يديه وقدميه بل إلى جسده كله. وفقه الله لكلمة لا إله إلا الله، فينظر في لحظة صحوة بين السكرات والكربات فإذا وعى ما حوله من الأطباء والأهل والأحباب نظر إليهم نظرةً باكية، نظر إليهم نظرة استعطاف، نظر إليهم نظرة رجاء: يا إخواني! يا أحبابي! يا أهلي! يا أولادي! لا تتركوني وحدي، ولا تفردوني في لحدي، أخفوني بأموالي، أخفوني بأعماركم، أنسيتم من أنا؟! أنا أبوكم! أنا أخوكم! أنا الذي بنيت لكم القصور يا أولادي! أنا الذي عمرت لكم الدور! فمن منكم يزيد في عمري ساعة أو ساعتين، أو يوماً أو يومين، أو سنةً أو سنتين؟ لا ثم لا، ثم يعلو صوت الحق فيقول جل وعلا: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:83 - 96] سبحانك يا من ذللت بالموت رقاب الأمراء والأميرات والجبابرة، وأنهيت بالموت آمال الحكام والقياصرة، ونقلتهم بالموت من القصور إلى القبور، ومن ضياء المهود إلى ظلمة اللحود، ومن ملاعبة النساء والجواري والغلمان إلى مقاسات الهوان والديدان، ومن التنعم في ألوان الطعام والشراب إلى التمرغ في ألوان الوحل والتراب، سبحانك {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:96]. دع عنك ما قد فات في زمن الصبا واذكر ذنوبك وابكها يا مذنبُ لم ينسه الملكان حين نسيته بل أثبتاه وأنت لاهٍ تلعبُ والروح منك وديعةٌ أُودعتها ستردها بالرغم منك وتصلبُ وغرور دنياكَ التي تسعى لها دارٌ حقيقتها متاعٌ يذهب الليل فاعلم والنهار كلاهما أنفاسنا فيهما تُعد وتحسبُ أسأل الله أن يرزقنا جميعاً حسن الخاتمة، وأن يرزقنا قبل الموت توبة، وعند الموت شهادة، وبعد الموت جنةً ورضواناً، ولا أريد أن أطيل عليكم أكثر من ذلك، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

طريق السعادة في الدنيا والآخرة

طريق السعادة في الدنيا والآخرة الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، اللهم صلَّ وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام! أريد أن أُذكر إخواني وأخواتي من المسلمات ممن فتنوا بمثل هذه الحياة التي تعرفوا عليها من خلال هذه الحملة الإعلامية المكثفة، فظن كثيرٌ منهم أن هؤلاء هم الذين يعيشون حياة السعادة، أحببت أن أذكر نفسي وإخواني وأخواتي بأن أهل الكفر والمعصية وإن مشت بهم البغال، وطقطقت بهم البراذين، فإن ذل المعصية في قلوبهم يأبى الله إلا أن يذل من عصاه، كما يأبى الله إلا أن يسعد من أطاعه واتقاه. السعادة يا إخوة والله ما كانت في القصور، فكم من قصورٍ فارهة يعيش أهلها في شقاء وظنك. السعادة يا إخوة والله ما كانت في المناصب، فكم من ألوفٍ يجلسون على الكراسي لا يشعرون بلذة النوم ولا راحة الضمير. السعادة يا إخوة والله ما كانت في المال، فكم من أصحاب أموالٍ يقلقون ويخافون في الليل والنهار. لا يشعر بالسعادة إلا من رزقه الله الإيمان والتوحيد، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97] لا يشعر صاحب المال بلذة وسعادة إلا إذا ملأ الله قلبه إيماناً فعرف وظيفة المال والغاية من المال. لا يشعر صاحب المنصب باللذة والسعادة إلا إذا استغل منصبه وكرسيه في طاعة الله، وفي تفريج كربات الناس وخلق الله، لا يشعر صاحب القصور بالسعادة إلا إذا عمرها بذكر الله وتقوى الله والإيمان بالله جل وعلا، فإن السعادة يا إخوة مصدرها الصدر: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1] فقد يعيش الإنسان في قصرٍ فاره، ويقف في حديقة القصر الرائعة، ومع ذلك يشعر باختناق، بل يفكر في الانتحار لماذا؟!! لأن السعة ليست في المكان وإنما هي في الصدور: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1] نعمة شرح الصدر، نعمة الرضا، نعمة الطمأنينة، نعمة الإيمان، نعمة الذكر، نعمة الأنس بالله جل وعلا، نعمة الشوق إلى لقاء الله، فكم من فقيرٍ قد لا يجد قوت يومه ومع ذلك فهو يشعر برضا، ويشعر بانشراحٍ في صدره، ويشعر بسعادة، وهؤلاء هم الذين تكتمل سعادتهم في الآخرة إن شاء الله تعالى، بجنةٍ عرضها السماوات والأرض، قال الله جل وعلا: {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:105 - 108]. وفي صحيح مسلم من حديث أنس: (يقول الله لأهل الجنة: يا أهل الجنة هل رضيتم؟ فيقول أهل الجنة: وما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك، فيقول جل وعلا: أفلا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقول أهل الجنة: وأي شيءٍ أفضل من ذلك؟! فيقول الله جل وعلا: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً) وفي لفظ: (فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى وجه الله جل جلاله) قال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] وقال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]. اللهم متعنا بالنظر إلى وجهك الكريم، اللهم متعنا بالنظر إلى وجهك الكريم، اللهم متعنا بالنظر إلى وجهك الكريم، اللهم ارزقنا حسن الخاتمة. اللهم ارزقنا جميعاً حسن الخاتمة، اللهم ارزقنا قبل الموت توبة، وعند الموت شهادة، وبعد الموت جنةً ونعيماً ورضواناً، اللهم إن أردت بالناس فتنةً فاقبضنا إليك غير خزايا ولا مفتونين، ولا مفرطين ولا مضيعين، ولا مغيرين ولا مبدلين برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم رد الأمة إليك رداً جميلاً، اللهم رد الأمة إليك رداً جميلاً، اللهم رد الأمة إليك رداً جميلاً، اللهم استرنا ولا تفضحنا، وأكرمنا ولا تهنا، وكن لنا ولا تكن علينا. اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم عليك باليهود وأتباع اليهود وعملاء اليهود، برحمتك يا أرحم الراحمين، بقدرتك يا قوي يا متين! اللهم املأ قلوب اليهود ناراً، اللهم املأ بيوت اليهود ناراً، اللهم دمر بيوتهم قبل أن يدمروا الأقصى، اللهم كما روعوا إخواننا في فلسطين ولبنان فروعهم يا رب العالمين! اللهم كما روع اليهود إخواننا في فلسطين ولبنان فروعهم يا رب العالمين! اللهم ارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، واستر عيبنا، وفك أسرنا، وتول أمرنا، وأحسن خلاصنا برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، نشكو إليك خيانة الخائنين، وضعف الموحدين. اللهم اجبر كسرنا، وارحم ضعفنا يا أرحم الراحمين! اللهم إنا نسألك أن تجعل بلدنا مصر واحة للأمن والأمان، اللهم لا تحرم مصرنا من الأمن والأمان وجميع بلاد المسلمين، اللهم ارفع عن مصر الفتن ما ظهر منها وما بطن، وجميع بلاد المسلمين، اللهم ارفع عن مصر الغلاء والبلاء والوباء وجميع بلاد المسلمين. أحبتي الكرام! هذا وما كان من توفيقٍ فمن الله وحده، وما كان من خطأٍ أو سهوٍ أو زللٍ أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون عليه إلى الجنة ويلقى به في جهنم، ثم أعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.

تبعية ثقيلة

تبعية ثقيلة إن مكانة الدعوة إلى الله تعالى عظيمة؛ فهي أشرف عمل يقوم به المسلم، وهي فرض عين على كل مسلم بحسب الاستطاعة، وهي وظيفة الأنبياء والمرسلين، فلابد أن تكون هي الهم الذي يحمله كل مسلم. لذلك تكلم الشيخ عنها واصفاً لها بأنها ثقيلة، مبيناً ضرورة الإخلاص فيها، وقد أعقب ذلك بالحديث عن الحكمة، وضرورة معرفة واقع الأمة، ثم ختم درسه بكلمة مهمة في الدعوة إلى الله.

مكانة الدعوة إلى الله عز وجل

مكانة الدعوة إلى الله عز وجل إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين، أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الأحبة، وطبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله جل وعلا، الذي جمعنا وإياكم في هذا البيت المبارك على طاعته، أن يجمعني وإياكم في الآخرة مع سيد الدعاة والمصطفى في جنته إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله: إننا الليلة على موعد في هذه اللحظات مع محاضرة تحتاج إلى وقت طويل، إننا الليلة على موعد مع هذه التبعة الثقيلة، والأمانة الكبيرة، والمسئولية العظيمة، ألا وهي تبعة الدعوة إلى الله عز وجل، الذي شرف الله جل وعلا بها الأنبياء والمرسلين، وجعلها وظيفة باقية في خير أمة أرسلت للناس، فالدعوة إلى الله جل وعلا هي أشرف عمل على ظهر الأرض، ولم لا وهي دعوة أنبياء الله ورسله: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33] إنها وظيفة الأنبياء، ووظيفة المرسلين، وقد امتن الله عز وجل على لبنة تمامهم ومسك ختامهم وإمامهم محمد صلى الله عليه وسلم؛ فجعل هذه الوظيفة في أمته إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ففي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا وكان له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنه تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل). فما من نبي إلا وله أنصار، وحواريون وأصحاب، يحملون راية دعوته، ويتحركون بها معه في حضوره وبعد وفاته، وقد شرف الله عز وجل هذه الأمة فنقل إليها وظيفة الأنبياء والمرسلين، ومن ثم شهد الله سبحانه وتعالى لها بالخيرية؛ فشهادة الله بالخيرية لهذه الأمة -أيها الأحبة- لم تكن اعتباطاً ولم تكن من فراغ، وإنما لأن هذه الأمة قد حملت راية الدعوة إلى الله، وتحركت لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، ولتعلن على مدى الزمان والمكان إيمانها بالله جل وعلا، قال سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه} [آل عمران:110]. والدعوة إلى الله عز وجل الآن -كما قال أكثر علمائنا- فرض عين وليست فرض كفاية؛ وذلك لكثرة المنكرات، ولقلة الآمرين بالمعروف، ولتحرك أهل الباطل لباطلهم بكل السبل والوسائل، فأصبحت الدعوة إلى الله الآن فرض عين على كل مسلم ومسلمة، كل على حسب استطاعته وعلى حسب مقدرته. وأنا أود أن يفرق الأحبة بين أمرين: بين طلب العلم الشرعي، وبين الدعوة إلى الله، فكثير من الأحبة الكرام يتقاعس عن الدعوة إلى الله جل وعلا بحجة أنه لا زال يطلب العلم! وأنا أقول: من قال لك بأن طلبك للعلم سينتهي عند فترة من فترات العمر، إن طلب العلم لا ينتهي ما دمت في هذه الحياة، رأى أحد الناس إمام أهل السنة الإمام أحمد رحمه الله تعالى يحمل المحبرة بين يديه يوماً من الأيام، فتعجب هذا الشيخ، وقال: يا إمام، وصلت إلى ما وصلت إليه ولا زلت تحمل المحبرة! فقال الإمام أحمد: مع المحبرة إلى المقبرة. فطلب العلم لا ينتهي، ولم لا، ولا يزال الأمر الإلهي للنبي صلى الله عليه وسلم ممتداًً إلى قيام الساعة: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه:114]! فلا بد أن نفرق بين طلب العلم الشرعي الذي لا ينتهي عند فترة من الفترات، وبين التحرك في الدعوة إلى رب الأرض والسماوات، كل بحسب قدرته واستطاعته؛ لقول النبي، بل وإن شئت فقل: لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، والأمر في هذا الحديث للوجوب لا للندب، إذ لم تأت قرينة تصرف الأمر من الوجوب إلى الندب. والحديث رواه البخاري من حديث عبد الله بن عمرو، أنه صلى الله عليه وسلم قال: (بلغوا عني ولو آية) فكم تحفظ -أيها المبارك- من الآيات؟ وكم تحفظ من الأحاديث؟! (بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار).

ما الهم الذي تحمله؟

ما الهم الذي تحمله؟ فكر -أيها الكريم- ما هو الهم الذي تحمله في قلبك؟ إن أهل الباطل قد تحركوا الآن لباطلهم بكل السبل، بذلوا الأوقات والأموال والأعمال والطاقات الجبارة الهائلة لباطلهم، وتقاعس أهل الحق عن حقهم، عن الحق الذي من أجله خلق الله السماوات والأرض والجنة والنار، وأنزل الكتب وأرسل الرسل، وكما يفكر الواحد منا -أيها الأحبة- للإبداع في عمله والإبداع في وظيفته -وهذا أمر محمود مشكور- يجب عليه أن يفكر كيف يبدع لدين الله، وكيف يبدع لدعوة الله، وكيف يسخر أمواله وطاقاته ونساءه وأولاده ووقته وعرقه لدين الله جل وعلا. أنا لا أختلف معك أنك تحمل في قلبك هموماً كثيرة، فهذا يحمل هم الوظيفة، وهذا يحمل هم البيت، وهذا يحمل هم الأولاد، وذاك يحمل هم المال إلخ، لا بأس على الإطلاق، لكن فتش في قلبك ما هو أول هم تحمله؟ هل هو هم الدعوة؟! هل هو هم الدين؟! هل هو هم هذه الأمة المسكينة التي تشرذمت وذلت الآن للذليل قبل العزيز، وللقاصي قبل الداني، وللضعيف قبل القوي؟! فكر في هذه الدعوة هل فكرت في أن تدخر جزءاً من مالك لتستغل هذا المال في الدعوة إلى الله إن عجزت أنت أن تتحرك بلسانك؟ فإن الدعوة إلى الله لا تقتصر على الدعاة والعلماء، بل لولا أن الله قد سخر شباباً هنا ما سمعتم مثل هذه الكلمات، وهؤلاء جنود، هؤلاء الإخوة الكرام في مركز الشباب هم الذين قاموا على أمر الدعوة، وهم الذين تكلفوا لتسمعوا دعوة الله عز وجل، فهذه دعوة، وهذا الذي أخذ إعلاناً لمحاضرة ووضعه في مسجد دعوة، وهذا الذي دعا أخاه، أو دعا زوجته، أو دعا ابنته ليحضر ليكثر سواد المسلمين، هذه دعوة، وهذا الذي طبع مائة أو ألف شريط، وتحرك على سائقي السيارات ودفع إليهم الأشرطة ليبلغوا دين الله، قد شارك في الدعوة، فلا تحقرن من المعروف شيئاً، فمن رحمة الله سبحانه أن فتح لنا من المعروف أبواباً كثيرة؛ ليتحرك كل مسلم على قدر استطاعته، وعلى قدر طاقته لدين الله عز وجل. ولكن الذي ينبغي أن نفجره في القلوب، هو أن ينام كل مسلم ليفكر في دين الله وفي دعوة الله، لا تنم ملء عينك، ولا تأكل ملء بطنك، ولا تضحك ملء فمك وأنت منشغل عن دين الله، وعن دعوة الله، وكأن الأمر لا يعنيك، والله لتسألن عن هذا الدين: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع) ستسأل عن كل هذه النعم عن الأموال، وعن العمر، وعن الصحة، وستسأل عن كل هذه النعم بين يدي الله عز وجل، وفي قبرك ستسأل عن هذا الدين من ربك؟ من نبيك؟ ما دينك؟ فهل ستستطيع أن تجيب وتقول: ديني الإسلام وأنت ما بذلت لدين الله! وأنت ما تحركت لدعوة الله! وأنت ما أنفقت الوقت والجهد والمال والطاقات الهائلة التي منَّ الله بها عليك لدعوة الله؟!

الدعوة إلى الله واجب الجميع

الدعوة إلى الله واجب الجميع إن الدعوة إلى الله الآن -وأقصد الدعوة العامة- فرض عين على كل مسلم ومسلمة، لا سيما وقد قل الدعاة، وقل الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، لأننا جميعاً -أيها الأحبة- ركاب سفينة واحدة، إن نجت السفينة نجا الصالحون والطالحون، وإن هلكت السفينة هلك الصالحون والطالحون، والحديث رواه البخاري ومسلم من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة -أي: ضربوا قرعة من الذي يسكن أعلى السفينة، ومن الذي يسكن في قاعها- فأصاب بعضهم أعلاها، وأصاب بعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذِ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا وهلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً). كانوا إذا أرادوا أن يأتوا بالماء مروا على من يسكن الطابق الأعلى، فكأنهم تضايقوا من أذاهم للآخرين، فقالوا: (لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذِ من فوقنا) ما الذي يمنع أن نخرق في قاع السفينة خرقاً ونأخذ الماء مباشرة من قاع البحر، ولا نمر على من فوقنا ونؤذيهم بمرورنا؟ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا وهلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً). فنحن جميعاً -أيها الأحبة- ركاب سفينة واحدة، ينبغي أن يبذل كل واحدٍ منا على قدر استطاعته، لأننا نلحظ في الأمة سلبية قاتلة وسلبية مدمرة، أخرت الأمة سنوات طويلة، بحجة مفهوم أو فهم مغلوط لآية محكمة من كتاب الله، ألا وهي قول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105] كثير من الأحبة يردد الآن هذه الآية، ويقول: ما شأني بضلال الضلال، إذا كنت أنا على طريق الكبير المتعال، وعلى طريق منهج سيد الرجال، لا ينفعني ولا يضرني!! لا. لقد خاف الصديق الأكبر رضي الله عنه يوماً من هذه السلبية القاتلة، ومن هذا الفهم المغلوط لهذه الآية، فارتقى المنبر فحمد الله وأثنى عليه، وقال: (أيها الناس! إنكم تقرءون هذه الآية وتضعونها في غير موضعها، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه؛ أوشك الله أن يعمهم بعقاب من عنده) وفي لفظٍ صحيحٍ آخر: (إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه أوشك الله أن يعمهم بعقاب من عنده -وفي لفظ- ثم يدعونه فلا يستجاب لهم) والحديث رواه أصحاب السنن وأحمد وهو حديث صحيح. فينبغي أن يبذل كل واحد منا على قدر استطاعته لدين الله جل وعلا.

السبيل الصحيح في الدعوة إلى الله

السبيل الصحيح في الدعوة إلى الله ثانياً: في عجالة سريعة: ما هو السبيل الصحيح للدعوة؟ وضح الله عز وجل هذا السبيل في آية محكمة؛ فقال جل وعلا: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108] أدعو إلى الله، لا إلى جماعة بعينها، أتعصب لها تعصباً بغيضاً أعمى، يصم الآذان عن سماع الحق، ويعمي الأبصار عن رؤية الدليل، إن سألوك عن شيخك فقل: شيخي رسول الله، وإن سألوك عن منهجك فقل: القرآن والسنة بفهم سلف الأمة، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان، وإن سألوك عن موطنك فقل: ألا إن بيوت الله في الأرض المساجد، وإن سألوك عن جماعتك فقل: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج:78]. لا نريد أن نتعصب تعصباً بغيضاً أعمى للجماعات، وأن أجعل كل همي الجماعة، أدعو إليها وأوالي وأعادي عليها، هذا من العقبات الكئود التي تؤخر العمل الإسلامي الآن، إنما السبيل أيها الأحبة: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية طيب الله ثراه: "وليس لأحد أن ينصب للأمة شخصاً يدعو إلى طريقته، ويوالي ويعادي عليها غير النبي صلى الله عليه وسلم". لا ينبغي أن نرفع شخصاً من الشيوخ أو من العلماء، لنوالي ونعادي عليه، لنلقي السلام على من جلس بين يديه، ولنغض الطرف عمن فارق مجلسه، هذا لا يليق، إنما يجب أن يكون ولاؤنا وبراؤنا لله جل وعلا، لا لشخص من الأشخاص ولا لجماعة من الجماعات، ولا لمنهج يخالف منهج الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

حاجة الدعاة إلى التجرد والإخلاص

حاجة الدعاة إلى التجرد والإخلاص إننا الآن -يا إخواني- في منعطف خطير، يجب علينا أن نجرد فيه دعوتنا إلى الله، وأن نجرد فيه أعمالنا لله، أن نجرد أقوالنا وأفعالنا له جل جلاله، وأن نبتغي بدعوتنا وقولنا وعملنا وفعلنا وجه الله سبحانه. ورد في الحديث الطويل الذي رواه البخاري من حديث أبي هريرة، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (طوبى لعبد آخذٍ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استشفع لم يشفع له، وإن استأذن لم يؤذن له)، رجل مطموس، لا يزعجه أين مكانته بين الدعاة إلى الله، هل هو في الصدارة بين صفوف القادة، أم في المؤخرة بين صفوف الجند، ما دام على طول الطريق يعمل لله جل وعلا لا يزعجه أن يشير إليه الإعلاميون والصحفيون أو لا يشيروا، لأنه لا يريد طبلاً أو مزماراً إعلامياً أو سياسياً، إنما يريد أن يرضي ربه جل وعلا، في سبيل الله لا يبتغي إلا رضاه. واعلم أن من أوائل من تسعر بهم النار يوم القيامة عالم وقارئ للقرآن، والحديث رواه مسلم من حديث أبي هريرة لماذا؟ لأنه لم يبتغ بعلمه أو قراءته وجه الله، هؤلاء هم أهل الرياء والكذب، وإن زوروا في الدنيا أنهم يعملون من أجل الله، إلا أن الله جل وعلا يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، انظروا إلى هذا الدرس من دروس التجرد لله، لأنني أعلم علماً يقيناً أن الله لن ينصر الأمة إلا بمثل هذه القلوب المتجردة، التي تخلص عملها ودعوتها لله جل وعلا. لما ولى الصديق -أيها الأخيار الكرام- خالد بن الوليد قيادة الجبهة في بلاد الشام، على أمين الأمة أبي عبيدة بن الجراح -انتبه ماذا قال الصديق لـ أبي عبيدة - أرسل له رسالة ليقول له فيها: [بسم الله الرحمن الرحيم، من خليفة رسول الله إلى أبي عبيدة بن الجراح، سلام الله عليك وبعد: فإني قد وليت خالد بن الوليد قيادة الجبهة على بلاد الشام، فاسمع له وأطع، ووالله ما وليته القيادة إلا لأني ظننت أن له فطنة في الحرب ليست لك، وأنت عندي خيرٌ منه، لكنه في الموطن المناسب هو رجل ساعة، أراد الله بنا وبك خيراً، والسلام] انظروا إلى التجرد، وانظروا إلى العمل لوجه الله سبحانه وتعالى. يا إخوة: ينبغي ألا يزعجنا من سيرفع الراية إن كانت الراية سترفع، ينبغي ألا نخاف على لسان من ستقال كلمة الحق ما دامت ستقال، يرفع الراية أبو عبيدة فلترفع، وليقف خالد إلى جانبه ليعينه إن كلَّ أو مل، يقول الحق أبو عبيدة فليقل، نريد إخلاصاً لله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} [يوسف:108] وأنت عندي خير منه، لكنه في الموطن المناسب هو رجل ساعة، أراد الله بنا وبك خيراً والسلام. انظر إلى عظمة أبي عبيدة، هل قال أبو عبيدة: لن أطيع أمر الخليفة ومعي الجيش، وإنما تنازل على الفور عن القيادة، ليصبح أبو عبيدة جندياً مطيعاً بعد أن كان بالأمس القريب قائداً مطاعاً، وانظر إلى عظمة خالد هو الآخر، يتلقى الأمر من خليفة رسول الله فيرسل خالد بن الوليد رسالة إلى أبي عبيدة ليقول فيها: [بسم الله الرحمن الرحيم، من خالد بن الوليد إلى أخيه الأمين أبي عبيدة بن الجراح، سلام الله عليك وبعد: فإني قد تلقيت أمر خليفة رسول الله، يأمرني فيه بالسير إلى بلاد الشام، والقيام على جندها، والتولي لأمرها، والله ما طلبت ذلك وما أردته -والله ما أردت هذا ولكنه الإخلاص لله، إنه التجرد- فأنت في موضعك الذي أنت فيه يا أبا عبيدة لا نقطع أمراً دونك، فأنت سيدنا وسيد المسلمين، أراد الله بنا وبك خيراً، والسلام].

معرفة واقع الأمة

معرفة واقع الأمة أيها الأحبة: السبيل الموصل إلى الجنة: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف:108] على حِلْم، وعلى حكمة وفهم، وعلى علم دقيق بواقع الأمة، فلا ينبغي أن يكون الدعاة بدعوتهم في واد والأمة بجراحاتها في واد آخر، هذا ليس من فقه الدعوة إلى الله، إنما ينبغي أن ينظر الداعية بعينٍ متبصرة وبفهم دقيق ووعي عميق لواقع الأمة وآلامها وآمالها؛ لأن الأمة المسكينة تسمع العلمانيين وتسمع المفكرين والصحفيين، كلٌ يدلو بدلوه مع أي حدث، وتبقى الأمة المسكينة في أمسِّ الحاجة لتسمع الكلمة الصادقة الهادفة ممن يقولون: قال الله قال رسوله صلى الله عليه وسلم، الذين يشخصون الداء بدقة وأمانة، ويحددون الدواء كذلك بدقة وأمانة.

الحكمة في الدعوة إلى الله

الحكمة في الدعوة إلى الله قال الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125]. وهذه هي النقطة الثالثة: منهج الدعوة هو منهج أنبياء الله جل وعلا، وهو الحكمة؛ فما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه. ووالله يا إخوة! لقد قرأنا التاريخ فما وجدنا على طول الخط إلا أن العنف يهدم ولا يبني، ويفسد ولا يصلح، والشدة تدمر ولا تعمر، فينبغي أن نتحرك، نحن لا نملك الآن إلا أن نحرك القلوب بكلام علام الغيوب، وكلام الحبيب المحبوب صلى الله عليه وسلم، أما أن يهتدي الناس أو لا فليس هذا من وظيفتك ولا من شأنك أما أن نحكم على الناس بجنة أو نار، ليس من شأنك وليس من شغلك: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} [الرعد:7] هذا خطاب الله لسيد الدعاة عليه الصلاة والسلام: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [العنكبوت:18] وإن لم تفعل فما بلغت رسالته {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:272]. ما عليك إلا أن تتحرك بالدعوة خالصاً لله، أما أن يهتدي الناس أو لا يهتدون فهذا ليس من شغلنا ولا من شأننا، هذا هو شأن الملك الذي يملك القلوب بين يديه جل وعلا، ووالله لو استطاع داعية على ظهر الأرض أن يهدي أحداً من أقرب الناس إليه؛ لاستطاع سيد الدعاة أن يهدي عمه أبا طالب الذي كان حجر عثرةٍ وسدٍ منيع لسيوف المشركين في مكة. دخل عليه وهو على فراش الموت -والحديث في الصحيحين - وعنده بعض المشركين، فقال له المصطفى صلى الله عليه وسلم: (يا عماه! قل لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله يوم القيامة، فقال له أهل الشرك: أترغب عن ملة عبد المطلب؟) فأبى أبو طالب أن ينطق الشهادتين، فماذا قال الحبيب، نهر الرحمة، وينبوع الحنان، وصاحب الخلق صلى الله عليه وسلم؟ قال: (لأستغفرن لك ما لم أنه عنك فنزل قول الله جل وعلا: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113]). انظروا إلى هذا المشهد العصيب الرهيب، ما استطاع النبي أن يهدي عمه، فما عليك إلا أن تتحرك بهذا المنهج الذي ما تركه الله ليجتهد فيه كل داعية كيف شاء! لا، المنهج محدد وواضح، معالمه بينه. أمر من الله إلى سيد الدعاة: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125].

الحكمة في إنكار المنكر

الحكمة في إنكار المنكر وينبغي ألا يتحمس الشباب، وإنما يجب عليهم أن يرجعوا إلى العلماء والمشايخ وأهل الفضل. يقول الإمام ابن القيم في كتابه القيم إعلام الموقعين: "ولقد شرع النبي لأمته إيجاب إنكار المنكر؛ ليحصل من المعروف ما يحبه الله ورسوله -وتنبه معي لهذه الكلمات الدقيقة- ولقد شرع النبي صلى الله عليه وسلم لأمته إيجاب إنكار المنكر؛ ليحصل من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإن كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه، فهو أمر بمنكرٍ وسعي في معصية الله ورسوله، وإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، سيقول الشاب المتحمس: هذا كان في مكة في مرحلة الضعف! اصبر وتدبر ما قاله الإمام ابن القيم، يقول: ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يرى في مكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، بل لما فتح الله عليه مكة، وصارت مكة دار إسلام، وعزم النبي صلى الله عليه وسلم على هدم البيت ورده على قواعد إبراهيم، لم يفعل ذلك مع قدرته على فعل ذلك؛ لأن قريشاً كانت حديثة عهد بكفر وقريبة عهد بإسلام. إنها الحكمة، فما هي الحكمة؟ والتعريف لـ ابن القيم في المدارج في كتابه المدهش، يقول: الحكمة هي قول ما ينبغي، أو فعل ما ينبغي، في الوقت الذي ينبغي، على الوجه الذي ينبغي.

من الحكمة: فهم الواقع

من الحكمة: فهم الواقع لا بد أن ينظر الداعية إلى الأمور نظرة متبصرة على بصيرة وفهم، وفهم الواقع قبل فهم الأدلة الشرعية أمر هام، وهذا الكلام ليس لداعية من دعاة العصر لا والله، بل هو كلام تأصيلي لأئمة السلف، اقرأ أول المجلد الثالث في إعلام الموقعين للإمام ابن القيم سترى كلاماً عجباً يقول ابن القيم: ولا يجوز للمفتي أن يفتي في مسألة من المسائل إلا بعلمين: علم الواقع، وعلم الأدلة الشرعية. علم الواقع لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، ثم بعد ذلك يقول: وعلم الأدلة الشرعية. فالفهم -أيها الأحبة- فهم الأدلة ومراتبها، فهم المناطات الخاصة والعامة، فهم الواقع أو فهم المسألة التي تريد أن تسحب لها دليلاً عاماً أو دليلاً خاصاً، لا بد من الفهم للداعية ليتحرك إلى الله عز وجل على بصيرة. يقول النبي صلى الله عليه وسلم -والحديث رواه البخاري من حديث معاوية -: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) قال الحافظ ابن حجر: يفقهه في الدين أي: يفهمه. فلا بد من الفهم الصحيح والدقيق، لتتحرك لدعوة الله ودينه عز وجل على بصيرة.

نداء وتوجيه هام

نداء وتوجيه هام وأختم هذه المحاضرة الموجزة بهذا النداء والتوجيه الهام، أسأل الله أن ينفعني وإياكم به، ألا وهو: أيها الأحبة: إن الدعوة أكبر من الدعاة، وإن الدعوة أبقى من الدعاة، والدعاة يجيئون ويذهبون ويموتون وتبقى الدعوة خالدة على مر الأجيال والقرون، فليكن ولاؤنا لدين الله ودعوته لا لأشخاص الدعاة، فينبغي أن نتحرك لنؤصل المنهج في القلوب، ولنربط الناس بمنهج علام الغيوب، ومنهج الحبيب المحبوب صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ حتى إذا ما مات داعية، أو سافر أو تحرك يبقى الناس مرتبطين بالمنهج؛ بمنهج الله سبحانه وتعالى. ولذلك لما تعلق الصحابة بالنبي صلى الله عليه وسلم تعلقاً جعل البعض منهم يلقي السلاح في غزوة أحد، بعد ما أشيع الخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات، وألقى بعض الصحابة السيوف وقالوا: وماذا نفعل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ومن نقاتل؟ لقد انتهى أمر هذا الدين، فأراد الله أن يربيهم وأن يعلمهم هذا الدرس العظيم، فنزل قول الله جل وعلا: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144]. أيها الأحبة الكرام: فكروا في همِّ الدين وفي دعوة الله، وليفكر كل واحد منكم الآن: ماذا أقدم لدين الله، ولدعوة الله؟ وماذا يجب عليه أن يبذله وأن يقدمه وأن يفعله. أيها الأحبة: لقد خلقنا الله سبحانه وتعالى لهذه الغاية ولهذه الوظيفة: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] فعليك أن تعيش لهذا الهدف ولهذه الغاية، وأن تحمل هذا النور الذي منَّ الله به عليك، وأن تتحرك به إلى غيرك من الناس، لعل الله أن يهدي بك رجلاً: (فلأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم). أسأل الله جل وعلا أن يشرفنا وإياكم بالعمل لهذا الدين, وأن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال، وأن يجعلنا وإياكم من أنصار وحواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله.

عبدة الشيطان

عبدة الشيطان إن حقيقة عبادة الشيطان هذه النبتة الخبيثة، وهذا الفكر الخبيث هي عبارة عن انتكاس للفطرة السليمة، وانزلاق في مهاوي الحيرة والضياع الذي أصاب المجتمعات البعيدة عن تعاليم ربها، وهي ظاهرة ناتجة عن الفراغ القاتل، ورفقاء السوء، وغياب دور الأسرة، وتأثير المناهج التعليمية المشوهة، وكذلك الإعلام الفاسد، حيث تنشأ مثل هذه الأفكار الهدامة المستقاة من الغرب، والتي بدأت في أوروبا ومن ثم أمريكا ثم تلقاها بعض العرب السذج؛ ليقع فيها كثير من الشباب والفتيات التائهين عن تعاليم الدين.

كلمات حزينة

كلمات حزينة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة؛ فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً، أيها الآباء الفضلاء! وأيها الإخوة الأحباب الكرام الأعزاء! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم الكريم جل وعلا الذي جمعنا في هذا الجمع المهيب الكريم المبارك على طاعته، أن يجمعنا مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله: لا ينبغي للعلماء والدعاة أن يكونوا بموضوعاتهم في واد، وأن تكون الأمة بشرائحها ومشكلاتها وأزماتها في واد آخر، ومن هذا المنطلق؛ فإن لقاءنا اليوم معكم بعنوان: عبدة الشيطان. وكعادتنا فسوف ينتظم حديثنا معكم تحت هذا العنوان في العناصر التالية: أولاً: كلمات حزينة. ثانياً: تاريخ أسود. ثالثاً: عقيدة فاسدة، وطقوس شيطانية غامضة. رابعاً: الشياطين تعترف. خامساً وأخيراً: الأسباب والعلاج. فأعيروني القلوب والأسماع، فإن هذا الموضوع الآن من الأهمية والخطورة بمكان، والله أسأل أن يجعلنا ممن: {يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر:18]. مسكين والله هذا الجيل الذي ينشأ ويربى في ظل جملة هائلة من المتناقضات والأزمات والمشكلات، وكأنه يعيش فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ، بل إذا امتدت إليه يد حانية مشفقة طاهرة لتنقذه من هذا الغرق المحقق، جذبته أيادٍ أخرى كثيرة بكثرة الأعداء المتربصين بهذا الجيل ممن لا يريدون لهذا الجيل أن يتربى أبداً على منهج الإسلام، وعلى سنة النبي محمد عليه الصلاة والسلام. بعد سنوات طوال عجاف، وبعد تجربة مريرة طويلة، حان وقت الحصاد، فلم تجنِ الأمة إلا الفشل الذريع في كل مجالات الحياة، يوم أن أعرضت الأمة عن منهج الله جل وعلا، وأيقن الآن المنصفون ممن يحترمون أنفسهم وعقولهم، أيقنوا الآن وهم الذين كانوا يدافعون بالأمس القريب عن المناهج التربوية الغربية الدخيلة على عقيدتنا وأخلاقنا وديننا، أيقن المنصفون منهم أنهم قصدوا سراباً، وزرعوا حنظلاً، وحصدوا شقاءً وتعاسة، وصدق ربي إذ يقول: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:124]. إنهم يرون الآن نبتة السوء، النبتة التي سقيت طوال السنين الماضية بمداد خبيث، يرون النبتة التي غذيت طيلة السنوات الماضية؛ بفكر منحرف زائغ ضال ضائع تائه، تتمثل هذه النبتة في مجموعة من شباب المسلمين والمسلمات، ومن شباب هذه الأمة، إنهم يعبدون الشيطان الرجيم، لا في أوروبا، ولا في أمريكا، بل في مصر بلد الأزهر، وإنا لله وإنا إليه راجعون. وخرج علينا الإعلام، بل وخرج علينا الكثيرون ليقولوا لنا: إنهم مساكين، إنها شرذمة شاذة خرجت من بين هذه الضغوط التي مورست عليهم في وسط هذا المجتمع، يريد الإعلام لنا أن نعتقد أن هذه الجماعة قد خرجت من خلال الصدفة، وأرادوا أن يلبسوا على الأمة أن جماعة عبدة الشيطان جماعة منظمة، لها عقيدة مؤصلة، ولها طقوس منظمة.

تاريخ أسود

تاريخ أسود أيها الشباب! أيها المسلمون والمسلمات: لاشك أن الشيطان قد عبد في الأرض منذ أول لحظة عصى فيها الإنسان الرحمن وأطاع الشيطان، إلا أن أقدم وثيقة لجماعة عبدة الشيطان ترجع إلى عام (1022) من ميلاد المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام. تدبر لتقف على تأصيل هذه العقيدة منذ القدم، فلقد اعتدنا أن نؤصل المعلومة حتى لا يُظن أننا ممن يثير العواطف فقط. أقول: إن تاريخ الجماعة الأسود يبدأ منذ أن اكتشفت أول وثيقة منظمة لجماعة عبدة الشيطان في عام (1022) من ميلاد المسيح عليه السلام، في مدينة أورلانس بـ فرنسا، ومن فرنسا خرجت جماعة فرسان الهيكل الماسوني مع الحملات الصليبية المبكرة على بلاد المسلمين، واستطاعت جماعة فرسان الهيكل أن تقيم لها ولأول مرة في بلاد المسلمين، بل ستعجبون إذا علمتم في القدس الشريف على وجه التحديد، استطاعت هذه الجماعة الماسونية الخبيثة أن تقيم لها كنيسة في بيت المقدس، وفي القدس الشريف -أسأل الله أن يطهره، وأن يرده إلى الأمة رداً جميلاً، وأن يرد الأمة إليه رداً جميلاً- استطاعت هذه الجماعة أن تقيم لها كنيسة في بيت المقدس، لتمارس فيها لأول مرة طقوس عبادة الشيطان بإشراف الكنيسة الكاثوليكية في هذه الديار. ومن بيت المقدس وفرنسا انتشرت الدعوة إلى بلاد أوروبا في ألمانيا وإنجلترا، وإلى بقية الدول الأوروبية، ثم انتقلت هذه العقيدة الخبيثة من الأوروبيين إلى أمريكا الجديدة بعد اكتشافها لأول مرة، وأصبحت أمريكا بعد ذلك مرتعاً خصباً لعبادة الشيطان، بل وقفزت هذه العبادة قفزات هائلة جداً على يد الكاهن الخبيث الأمريكي المجرم الذي يدعى انطون لافي، الذي بنى أخطر كنيسة على وجه الأرض، هذه الكنيسة تسمى: كنيسة عبدة الشيطان، وهذا الكنيسة أنشئت في سان فرانسيسكو. ثم أنشأت الكنيسة لها فروعاً في كل أنحاء الولايات الأمريكية، ثم في مدن أوروبية، ثم في جنوب أفريقيا على وجه التحديد بصورة مكثفة، ولم تكتفِ الكنيسة بذلك، بل أرسلت منصرين ومبشرين -على حد تعبيرهم- ودعاة لهذه العقيدة الخبيثة الفاسدة في كل أنحاء الدنيا. قدم هذا الكاهن الخبيث انطون لافي، الإنجيل المعروف الذي يسمى: بالإنجيل الأسود في عام (1969م) نشر هذا الإنجيل بعدة لغات، وفي عدة طبعات فخمة فاخرة، يسمى بالإنجيل الأسود، يدعو فيه إلى عبادة وتمجيد الشيطان وكراهية الملك الرحمن جل وعلا، والذي هو أصل أصول هذه العقيدة الخبيثة وهذه الجماعة الشيطانية المتمردة. وفي عدد أكتوبر (1982م) -أًؤصل لكم تاريخاً، حتى لا تغتروا بما يريد هؤلاء أن يؤصلوه في عقول وشباب هذه الأمة المسكينة- نشرت مجلة التايمز الأمريكية مقالاً في (25) صفحة، تحت عنوان: عودة الشيطان المقدس إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وقالت المجلة في هذا المقال: إن عبادة الشيطان تتم ضمن أجواء خاصة تبدأ بالرقص العاري، وسط أصوات الموسيقى الصاخبة، ثم تقدم فتاة عذراء لم تمارس الزنا من قبل، وتنام على خشبة عارية، وتغطى بغطاء جلدي، ويتقدم الكاهن -الخبيث- ويلبس على وجهه قناعاً أسوداً كرمز للشيطان، وهو يلبس معطفه الأسود، تتقدم العاهرات اللائي يلبسن الثياب الحمراء، من أعضاء جماعة عباد الشيطان، وهذا يسمى عندهم القُدّاس الأسود. فيتقدم الكاهن ليبدأ هذا القُدّاس الخبيث، بوضع كأس مليء بالدماء بين ثديي هذه الفتاة العارية، فيكشف عنها الغطاء، ويأخذ هذا الكأس الذي مُلئ بالدم، ثم يشربه ويأذن ببداية الطقوس الخبيثة، فيقوم أعضاء الجماعة ليمارسوا الجنس مع هذه الفتاة العذراء بصورة جماعية، ثم ينطلقون بعد ذلك في صورة بهيمية لممارسة الجنس، إما أن يكون الذكور مع الذكور، أو الإناث مع الإناث، أو الذكور مع الإناث، ويلتفون حول دائرة أو حول نجمة خماسية، يسمونها بالنجمة الخماسية المقدسة، ويثبتون في أركان هذه النجمة الشموع السوداء، ويرقصون عبر هذه الأصوات الموسيقية الصاخبة، وعبر هذه الأضواء المتحركة، حتى يصلوا إلى حالة من فقد الوعي والهستيريا. تقول المجلة: يرتكبون في هذه الحالة بعض الجرائم الشاذة الغامضة، القُدّاس الأسود لجماعة عبدة الشيطان، لاحظ أن هذه الصورة قد انتقلت بحذافيرها إلى هؤلاء المجرمين المتمردين في مصر بلد الأزهر، وقد أعلنت الجرائد ذلك، بل وقد صرحت التقارير الأمنية بذلك، ونُشر هذا الكلام ولم يعد خافياً على أحد، وهذا هو عنصرنا الثالث من عناصر اللقاء.

عقيدة خبيثة فاسدة وطقوس شيطانية غامضة

عقيدة خبيثة فاسدة وطقوس شيطانية غامضة إنهم يعتقدون أقذر عقيدة على وجه الأرض، إنهم يعبدون الشيطان، ويكفرون بالرحمن الذي حذر من عداوة هذا العدو اللدود، فقال سبحانه: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6] وأخبرنا الحق جل جلاله أن هذا الشيطان الرجيم سيتبرأ من عبّاده وأتباعه، قال تعالى: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر:16] ويوم القيامة يعتلي الشيطان الرجيم منبراً من النار، ليبكت عُبّاده وأتباعه، قال تعالى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم:22]. إنهم يعبدون الشيطان الرجيم، ويكفرون بالرحمن الرحيم جل جلاله، ويعتقدون أن الله قد ظلم إبليس؛ لأنه طرده من الجنة، وأنهم يعبدون إبليس؛ لأنه هو الذي سيخلص العالم كله من الشر، وما ملأ العالم كله بالشر إلا إبليس الرجيم. عقيدة خبيثة، وعقيدة فاسدة، وسأبيّن لكم الآن بالدليل أنهم يعتقدون هذه العقيدة، حتى لا يخرج علينا قائل يقول: عاملوهم بالرحمة والشفقة، هؤلاء مساكين، لماذا لا تقولوا هذا مع شباب طاهر مسلم انحرف فكرياً وسلوكياً؟ يوم أن انصرف عن الدعاة، فانصرف الشاب يقرأ من بطون الكتب، ففهم من تلقاء نفسه، فوقع بعض الشباب في بعض الأخطاء الفكرية والحركية، لا ننكر ذلك، لكن لماذا لم تعلنوا هذه المعاملة مع شباب طاهر طائع، أراد أن يخدم دين الله جل وعلا، وانصرف عن كل معصية لله، وإن زل عاد متضرعاً خاشعاً باكياً إلى الله؟ لماذا لم تكن المعاملة لهذا الشباب بالمثل؟ تلك إذاً قسمة ضيزى ورب الكعبة. سأبين لكم بالدليل أنهم يعتقدون ذلك على ألسنة أعضائهم، حتى لا نُتهم بأننا نأخذ من بين السطور ما لا ينبغي أن يؤخذ، كلا، فليس هذا من منهجنا ورب الكعبة؛ لأننا تحترق قلوبنا على هذه الأمة المسكينة، وعلى شباب يجب عليه أن يرفع راية الجهاد، وأن يتحرك لدين الله جل وعلا، في وقت تحرك فيه أهل الباطل بكل قوة للكفر وللباطل وللفسق وللزندقة، وإنا لله وإنا إليه راجعون! طقوس خبيثة انتقلت من بلاد الكفر إلى بلد الأزهر إلى مصر، أسأل الله أن يرفع عنها الفتن، وأن يحفظها بحفظه، إنه على كل شيء قدير. تبدأ الطقوس في مصر بالرقص تحت أصوات الموسيقى الصاخبة، والعالم كله يغني ويرقص، الإعلام العالمي يغني للشباب المسكين الذي قتله الفراغ الديني؛ كما سأبين الآن، العالم يرقص، والشباب يرقص، والفتيات يرقصن مع الشباب، الفتاة في مصر كما قالت التقارير الأمنية التي نشرت: فتاة ترقص بين شابين على حد تعبير قولهم، كهيئة (السندويتش) شاب من أمام الفتاة قد التصق بها، وشاب من خلفها قد التصق بها، رقص على أصوات الموسيقى الصاخبة حول نجمة خماسية رُكِزَت الشموع السوداء في أركانها، وتنام فتاة شبه عارية -هم يقولون- ويبدأ القُداس بذبح خنزير أو دجاجة على جسد هذه الفتاة، ويلطخ جسدها بالدماء، ويمرر الكأس على أعضاء الجماعة وقد ملئ بالدم -لاحظ الاتفاق- فيشرب كل واحد منهم رشفة ليبينوا ولاءهم للشيطان، وليتمنوا على الشيطان أن يقبل منهم النذر، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ثم يبدأ الرقص الجماعي عبر رائحة المخدرات، ويمارسون الجنس الجماعي، هكذا أعلنت الصحف والمجلات، اتفاق وطقوس ثابتة وعقيدة ثابتة لجماعة عِبَادَةِ الشيطان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!

الشياطين تعترف

الشياطين تعترف اعترف عضو أساسي في جماعة عبادة الشيطان، وهو طالب في المدرسة الثانوية الإنجليزية بالزمالِكِ وهو في العشرين من عمره، قال -وانتبهوا لخطورة ما يقول- قال: إن هذه الأفكار والمعتقدات قد نقلت إلى الشباب المصري عن طريق الإسرائيليين عبر الحدود بين مصر وإسرائيل، وفي منطقة طابا على وجه الخصوص. فالصهاينة متخصصون في تدمير شباب الأمة، وفي صناعة سينما الدياثة في هوليود لامتصاص دماء شباب هذه الأمة المسكينة. لقد نجسوا أرض سيناء الطاهرة بالعاهرات اللائي يحملن الإيدز، وهذه ليست منكم ببعيد، أخبار معلومة قديمة، يقول: يجتذب الإسرائيليون الشباب المصري بالمخدرات والجنس والموسيقى، فإذا ما دخل الشاب إلى هذا الثلاثي الخبيث المدمر، تُعرض عليه أفكار جماعة عبدة الشيطان. ثم يقول هذا الشاب: وهناك اتصالات وتبادل معلومات بين أعضاء الجماعة في مصر وإسرائيل. ويقول عضو آخر -وتدبر ما قال- وهو طالب في كلية الهندسة في السنة الدراسية الأولى، يقول: إننا نعبد الشيطان لسببين -كلام واضح، وعقيدة واضحة، هكذا يقول هذا العضو- السبب الأول: لأن الشيطان يبيح المتعة السريعة، فهو يبيح كل ما تحرمه الأديان -فالهدف الأساسي الجنس، وإشباع الغريزة الجنسية بكل وسيلة، فهم لا يمتنعون على الإطلاق من ممارسة الجنس في أجساد الأموات والبهائم، ومع الوالدين والأبناء من الأطفال الصغار، عقيدة وطقوس ثابتة- يقول هذا المجرم: إننا نعبد الشيطان لسببين -كلام صريح، فلا ينبغي أن يخرج علينا من يقول: إنهم لا يعبدون الشيطان- الأول: لأن الشيطان يبيح المتعة السريعة، فهو يبيح كل ما تحرمه الأديان. والسبب الثاني يقول: من أجل خلاف ما اعتاد عليه الناس للتميز عليهم، حب الجديد، هذه الدعوة التي تنفخ كل يوم وتثير التمرد على القديم، وتقول: دعك من هذه العادات البالية، دعك من الدين، دعك من هذه القيود وتحرر، وانطلق أيها الشاب، وانطلقي أيتها الفتاة الجامعية وقلدي الداعرات في سينما هوليود، انطلقوا وتحرروا، ودعوكم من هذه التقاليد العتيقة. فالشاب يقول: نريد أن نتحرر من القديم، نريد أن نتميز على الآخرين، نريد أن نخالط الآخرين، ثم يعلل صور هذا التميز فيقول: فالفتاة بدلاً من أن تضع على شفتيها اللون الأحمر تضع اللون الأسود؛ لأنه رمز الشيطان، نريد أن تخالف الفتاة التي تعتقد عقيدتنا كل الفتيات، فتضع اللون الأسود على شفتيها، وتطلي الأظافر الطويلة جداً باللون الأسود، وتلبس (الشورت) الصغير باللون الأسود، وهكذا الشاب يطيل الشعر جداً، ويلبس الزي الأسود المعروف، ويضع النجمة الخماسية على صدره، ويلبس هذا الغطاء على الرأس الذي يخرج منه قرنان، يريد أن يتشبه بالشيطان في كل منظر وزي. وحينما أنكرنا على هؤلاء، قالوا: لنا حرية شخصية، وحينما دعوناهم لأن يفسحوا الأبواب للمنتقبات في الجامعات، قالوا: لا، هذا تطرف، لماذا لم يكن لبس المنتقبة حرية شخصية؟ لماذا لا تطبق نفس القاعدة على الطاهرات كما فتحت الأبواب للعاريات؟! لماذا غلقت الأبواب في وجوه الطاهرات؟ وقلتم: حرية شخصية للعارية، لماذا لم تقولوا: حرية شخصية للطاهرة والمنتقبة الشريفة العفيفة؟ تلك إذاً قسمة ضيزى ورب الكعبة. فكرٌ يبث في الليل والنهار، فيُخرج لنا هذه النبتة السوداء الخبيثة الفاسدة، اعترافات خطيرة، لا أريد أن أطيل في مثل هذا الشق الأول من الموضوع.

الأسباب والعلاج

الأسباب والعلاج أختم هذا الموضوع بهذا العنصر الأخير، الذي قد يحتاج منا إلى بعض الوقت، ألا وهو الأسباب والعلاج: هذا هو الأصل في موضوعنا، فإننا لا نريد أن نعري أحداً أو نجرح أحداً، وإنما نريد ورب الكعبة أن نضع الدواء الذي أسأل الله أن ينفعني وأن ينفعكم وأن ينفع شباب الأمة به، وأتمنى لو حرص كل شاب منكم -كما سأقول الآن- أن يُقدم هذا الشريط هدية لشاب يشعر منه أنه قد انحرف أو انصرف أو ابتعد عن طريق الهداية، لعل الله أن يجعل هداية هذا الشاب على يديك أيها الشاب الطائع الحبيب، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول لك: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم) أسأل الله أن يثبت قلوبنا على الهداية، وأن يوفقنا وإياكم للثبات على طريق الاستقامة، وأن يختم لنا بخاتمة الإيمان والتوحيد: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8]. ما الأسباب والعلاج؟ وتعمدت أن أتكلم عن العلاج مع الأسباب في عنصر واحد؛ لأنني أعتقد اعتقاداً جازماً أن العلاج يكمن في الأسباب، فمن المحال أن أُشخص الدواء قبل أن أُشخص الداء، ومستحيل أن يصف طبيب ذكي الدواء وهو لا يعرف الداء، فإن عرف الداء حدد الدواء بدقة، فأنا أقول: إن الدواء يكمن في أسباب الداء.

السبب الأول: استقالة الوالدين وغياب القدوة

السبب الأول: استقالة الوالدين وغياب القدوة أيها الآباء أيتها الأخوات أيها الإخوة! ماذا تقولون لو قلت لكم الآن: إن والداً قد قدم استقالة مكتوبة لزوجته أنه قد استقال من تربية الأبناء؟ ستضحكون بملء أفواهكم، وتقولون: إنه زوج أو أب مجنون. ماذا تقولون لو قلت لكم: إن أماً قد قدمت استقالة مكتوبة أو شفوية لزوجها في البيت، لتخبره فيها بأنها قد استقالت من تربية الأبناء؟ ستتهم بالجنون. ولكن لو نظرتم نظرة فاحصة مدققة لواقعٍ مريرٍ أليمٍ تعيشه بيوت المسلمين، لرأيتم استقالةً لا أقول: فردية، بل جماعية من كثير من الآباء والأمهات، استقال الأب عن أغلى وظيفة له، واستقالت الأم عن التربية، الطفل ينزل كصفحة بيضاء، وأول الخطوط التي تخط على هذه الصفحة، تخط في داخل الأسرة والبيت، أين الوالد؟ أين الأم؟ أين الأب الذي استقال منذ زمن؟ أين الأم التي استقالت منذ زمن؟ وظن الأب المسكين أن وظيفته أن يكون ممثلاً لوزارة المالية، وأن ينفق على الأولاد، وأن يُوفر المأكل والمشرب والمسكن فقط، هذه وظيفته، لقد صرح والد من هؤلاء المساكين، وقال: أنا لم أر ولدي منذ سنة، قلنا: ربما كان الوالد مسافراً، قال: لا لم أكن مسافراً، ولم ير ولده منذ سنة، وقالت أم: أنا لم أدخل غرفة ولدي، ولم أر هذه المناظر إلا الآن. أين الأب؟ أين الأم؟ انشغل الأب بالتجارة والوظيفة والأموال، والسفر والحل والترحال. قد أقول لكم الآن: بأنني أعذر كثيراً من الآباء؛ لأن الظروف الاقتصادية تطحن الناس طحناً، فقد لا يجد الوالد رمقاً من الوقت ليوفر لأولاده الحياة الطيبة الكريمة، هذا صنف، لكنني أتكلم عن صنف آخر، حتى لو تبقى له رمق من الوقت في آخر النهار، يرجع ليقتل هذا الرمق قتلاً بالمكث أمام الشيطان الذي جثم على صدورنا في البيوت، أمام التلفاز، يجلس ليقضي ما تبقى من الوقت أمام فلم داعر، أو مسلسل هابط، أو برنامج: العالم يغني، وهاهم الأولاد رقصوا وغنوا. أين الأب؟ يا إخوة! إن جلوس الأب بين أبنائه ولو كان صامتاً فيه من عمق التربية ما فيه، فما بالك لو تكلم، لو ذكر أبناءه بالجنة وحذرهم من النار، لو حل مشكلة، ولو أجاب على تساؤل، ولو أزاح هماً، ولو خطط لأبنائه داخل البيت وخارجه، ماذا ستكون النتيجة؟ وتزداد الكارثة -يا إخوة! - إذا انضمت إلى استقالة الأب استقالة الأم، فانشغلت الأم المسكينة بالمسلسلات والمباريات والأفلام، والضرب في الأسواق، واللهث وراء أحدث المجلات والموضات والمضلات، انشغلت الأم وتركت الأبناء، فانطلق الأبناء وهم يشعرون باليتم التربوي، ليقتاتوا من أين؟ من الشوارع، ومن وسائل الإعلام التي تبث الرذيلة بثاً. ليس اليتيم من انتهى أبواه من هم الحياة وخلفاه ذليلاً فقد يكون الوالد صالحاً، وقد تكون الأم صالحة، ويخرج الولد على غير الطريق، وهذا الاستثناء لا ينقض أصل القاعدة، فهأنذا أتذكر الآن بيتاً هو أطهر بيت في زمانه، الوالد الذي يقوم فيه على التربية إنه نبي من أنبياء الله، ومع ذلك خرج ابن هذا النبي كافراً مشركاً بالله جل وعلا: {يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} [هود:43]. وفي المقابل أرى بيتاً هو أخبث بيتٍ على ظهر الأرض في زمانه، بل وفي كل زمان، إنه بيت فرعون، يقوم على أمر التربية فيه طاغوت، يقول: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24] ومع ذلك خرج من هذا البيت نبي الله موسى، الذي قال الله جل وعلا له: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه:41] لكن غالب فساد الأبناء يرجع إلى إهمال الأمهات والآباء. أيها الإخوة! أيها الآباء الفضلاء: كما أن للوالدين حقوقاً على الأبناء، فإن للأبناء حقوقاً على الوالدين، وما أروع ما أصله فاروق الأمة عمر يوم أن جاءه والد يشكو إليه عقوق ولده، فقال: [ائتني به، فجاء الشاب فوقف بين يدي عمر، فقال له: لمَ تعق والدك؟ فقال الشاب: ما حقي على أبي يا أمير المؤمنين؟! قال: حقك عليه أن يحسن اختيار أمك، وأن يحسن اختيار اسمك، وأن يعلمك القرآن. فقال الشاب: والله ما فعل أبي شيئاً من ذلك يا أمير المؤمنين. فالتفت عمر للوالد وقال: لقد عققت ولدك قبل أن يعقك. ]. عقوق متبادل أخرج هذه النبتة السيئة والحصاد المر، وإهمال الوالدين للأبناء لن يضر الأبناء فحسب، بل يضر الآباء قبل الأبناء في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6] وفي الصحيحين من حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته، وكلكم راع ومسئول عن رعيته). فإن غش الراعي الرعية حرم الله عليه الجنة، ففي الصحيحين من حديث معقل بن يسار، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من عبدٍ يسترعيه الله رعية، يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة) فاستقالة الأسرة، وغياب القدوة، الولد الذي يرى أباه لا يصلي، كيف يتعلم الصلاة إلا إذا وفقه المولى جل في علاه؟ البنت التي ترى أمها متبرجة مستهترة لا تُخلص لزوجها كيف ستتعلم الفضيلة؟! مشى الطاوس يوماً باختيال فقلده بمشيته بنوه العلاج: أن تعي الأسرة مسئولية التربية، وأن يتق الوالدان الله، وأن يعلما يقيناً أنهما مسئولان بين يدي الرحمن جل وعلا، أسأل الله أن يستر عليّ وعليكم في الدنيا والآخرة.

السبب الثاني: المناهج التعليمية الحديثة

السبب الثاني: المناهج التعليمية الحديثة إن المناهج التعليمية في مدارسنا وجامعاتنا تُحسن أن تعلم الجيل المعارف والمعاني والعلوم، ولكنها لا تُحسن أن تُعلم عيونهم الدموع، ولا قلوبهم الخشوع، لا تُجيد هذا أبداً، قد يدرس الشاب في كلية من الكليات أربع سنوات، لا يدرس في كتاب واحد كلمة تقربه من الله أو تبعده عن المعصية، وأنا أتحدى من يعارض، يدرس الشاب أربع سنوات لا يجد آية تقربه إلى الله، ولا يجد قدوة بين يديه يذكره بالله، بل قد يرى الأستاذ الدكتور ينظر إليه وهو يسخر منه، إذا رأى الشاب قد جلس وحده بعيداً عن الفتيات، يقول له: يا فلاح! اقترب من زميلاتك، ورب الكعبة لقد قيلت لي يوماً من الأيام. سبحان الله! حتى الأستاذ! فالعملية التعليمية برمتها تحتاج إلى مراجعة، اختلاط مدمر، وأعتقد أنه قد آن الأوان ليحترم كل منصف نفسه، ولا يقول: بأن الاختلاط سيخفف حدة الكبت الجنسي عند الصنفين والنوعين، كلام لم يعد رجل يحترم نفسه يقول به الآن، فهاهي نتيجة الاختلاط ظاهرة وبينة، اختلاط بين شباب وفتيات في سن المراهقة، وفي سن خطير، نقدم النار ونقربها من (بنزين)، ونقول: إياك أن تشتعلي أيتها النار! ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء أمر عجب! مستحيل أن شاباً له غريزته وشهوته، وشابة أو فتاة لها غريزتها وشهوتها، متعطرة ومتزينة ومتجملة، كأنها ما خرجت إلا لمسرح أو لسينما، وما خرجت إلى الحرم الجامعي، وشاب مسكين، ماذا تنتظرون -يا سادة- بعد هذا؟ وقد أمر الله الصحابة وهم أطهر القلوب على وجه الأرض بعد الأنبياء، إذا كلموا أمهات المؤمنين أن يكلموهن من وراء حجاب: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب:53] إن أصلنا ذلك على صفحات المجلات نتهم نحن بالتطرف والإرهاب، تقول صحفية تنكر عليّ: إنه يحرم الاختلاط في الجامعة والمواصلات والمدارس، إنه التطرف، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! أصبحت الأصول تطرفاً، وأصبحت أصول هذا الدين خروجاً، اختلاط سافر بين الشباب والفتيات، وانظروا إلى التاريخ الإسلامي في كتب أبنائنا، حصة الدين ثانوية بل في آخر اليوم الدراسي، يقول لي ولدي: يا أبتي! إن المدرسة التي تدرسني الدين متبرجة، تلبس القصير، فقلت لها: يا أستاذة! التبرج حرام، فقالت له: اسكت يا حمار! وجاء ولدي يقول لي: حصة الدين، يدخل علينا المدرس ربما (بالسيجارة) ومدرسة ربما متبرجة قد كشفت عن شعرها لتدرس أبناءنا وبناتنا حصة الدين في آخر اليوم الدراسي، وقد تعب الطلاب، ولا يفهمون شيئاً، بل ويسعد الأبناء سعادة غامرة بمدرس يدخل ليقضي حصة الدين في الفكاهات والكلام الفارغ، حتى تنتهي الحصة والأبناء سعداء بهذا كله. حذفت من كتب أبنائنا قصة الفدائي الصغير: علي بن أبي طالب، يوم أن فدى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الهجرة، أبحث في الكتاب عن الفدائي الصغير فلم أجده، قلت: لعلهم وضعوا الفدائي الكبير أبا بكر أو عمر، وإذا بهم في مثل هذا الموضع يضعون قصة مخترع السينما بدلاً من علي بن أبي طالب، والله لا نقول هذا للإثارة أبداً، وإنما أحمل الجميع المسئولية أمام الله، فمحال أن يخلو هذا الجمع الكبير المهيب من مسئول له كلمة تُسمع، فاتق الله أيها الحبيب! وقل قولة حق، بأسلوب طيب رقيق رقراق، لعل الله أن ينفع بكلمتك، ويرفع بنصيحتك الضرر الكبير عن أبنائنا وبناتنا، وفي الجملة عن هذه الأمة المسكينة. وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

السبب الثالث: الإعلام

السبب الثالث: الإعلام الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة؛ فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام! السبب الثالث: الإعلام، وما أدراك ما الإعلام، فإن القائمين على الإعلام لا يرقبون في المؤمنين إلاً ولا ذمة، وأستطيع أن أعلن بكل ثقة واطمئنان أن الناظر إلى الخريطة الإعلامية المقدمة سيخرج بهذه النتيجة الحتمية دون لف أو دوران، ألا وهي أن هذه الخريطة في الجملة تعزف على وتر الجريمة، والعنف، والجنس، كم عدد الأفلام التي تعرض للراقصات؟ كم عدد الأفلام التي تعرض للفاحشة في أدق التفاصيل؟ كم عدد الأفلام التي تعرض للعزف على وتر الجريمة؟ وللعزف على وتر (الفهلوة) ليتعلم الأبناء والبنات. يجلس الطفل المسكين أمام التلفاز، أو حتى الشاب، فيرى ممثلاً ساقطاً هابطاً لا يجيد إلا أدوار العنف والقذارة والجريمة، هذا هو دوره، وفي فيلم آخر أو مسلسل جديد يرى نفس المجرم يلبس العباءة، وقد ركب لحية، وأمسك المسبحة، ويتمتم بآيات القرآن، وبحديث النبي عليه الصلاة والسلام، فيرى الطفل أو الشاب هذا الممثل في هذا الدور، وهو بالأمس القريب رآه في فلم آخر يمثل دور الجريمة والفاحشة، فتختل في قلوب أبنائنا وبناتنا الفضيلة، وتستوي الفضيلة مع الرذيلة، ويستوي الحلال مع الحرام، والحق مع الباطل، لم يعد يفرق بين أي الشخصيتين يختار. وفي وسط هذا الغثاء حديث الروح بالموسيقى، أو بعده فاصل من الرقص الراقي الذي يسمى بفن الباليه، أو بفن البلاء، تخرج فيه المرأة وهي شبه عارية، التمجيد للممثلين والممثلات واللاعبين واللاعبات في كل مناسبة، يقدم هذا الممثل على أنه فاتح وبطل، فيتمنى الطفل الصغير أن لو كان قدوته يتمثل في هؤلاء. غياب القدوة أمر خطير، خريطة إعلامية معلنة، ونعتقد أن جهاز التلفاز من أخطر الوسائل للدعوة إلى الأفكار، لو استغل استغلالاً يرضي العزيز الغفار لرأينا العجب العجاب، فليتقِ الله القائمون على أمر الإعلام، كل مسلم يستطيع أن ينكر، لكن الأمة تبلدت مشاعرها وأحاسيسها بصورة تقتل، حتى الكلمة بخلنا بها، ارفع سماعة الهاتف واتصل بوزير الإعلام، وإن كنت مسئولاً اتصل على مخرج البرامج، اتصل على أي مسئول وذكره بالله، قل كلمة لعل الله أن يحول قلبه، وما يدريك، المهم أن تصنع شيئاً، دعونا من هذه السلبية القاتلة. والله لو أن هذا الجمع تكلم كل واحد فيه كلمة، وأنا أقول: بالحكمة والرحمة وبالكلمة الرقراقة الرقيقة البسيطة المتواضعة، لا نطلب أكثر من ذلك، ومع ذلك يبخل المسلم وتبخل المسلمة، اكتب رسالة، وعوِّد نفسك على أن تعبر عن الحق بأي سبيل، إما عن طريق الهاتف، أو عن طريق الزيارة، أو عن طريق المكاتبة، بأي سبيل من هذه السبل عبر عن رأيك، انصح هؤلاء: (الدين النصيحة، قالوا: لمن يا رسول لله؟! قال: لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم) انصح وابذل النصيحة لعل الله أن يجري الخير على يديك. فالإعلام سبب خطير من الأسباب التي أوصلتنا إلى هذه الحالة من التفسخ والضياع، انظر إلى عدد الإعلانات الملصقة بالألوان بالأحجام الضخمة للراقصين والراقصات، تثير الشهوات الكامنة، وتستثير الغرائز الهاجعة.

السبب الرابع: الفراغ الديني القاتل، وعدم قيام المساجد بدورها

السبب الرابع: الفراغ الديني القاتل، وعدم قيام المساجد بدورها إن هذا الشاب الذي خرج ليعبد الشيطان ما عرف الرحمن، وغيره من الشباب يعيش الآن في فراغ ديني قاتل، والدين هو الوقاية والعصمة والحصن: {فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:123 - 124]. وأنا أود أن أقول للجميع الآن: قارنوا مقارنة سريعة بين هذا الشاب الطاهر الطائع، وبين هذا الشاب التائه الضائع، إنه الدين، شاب يبتلى ويفتتن ومع ذلك يقبض على دينه كأنما يقبض على الجمر، يأتي الشاب إن زل في معصية يبكي ويعتصر قلبه، ويقول: كلما عاهدت الله على التوبة غلبني الشيطان فقمت وارتكبت المعصية المشهورة المعروفة بين شبابنا، ويتألم ويبكي، وبين شاب يمارس الزنا ويشرب المخدرات ويشرب الخمر. والله لقد وقفت على دراسة كاد قلبي أن ينخلع، أجريت الدراسة في جامعة القاهرة على عينة عشوائية من الطلاب، تتكون هذه العينة من سبعمائة طالب وطالبة، فكانت النتيجة مروعة، (36. 4%) من نتيجة العينة شربوا المخدرات، و (50%) من نتيجة العينة شموا (الهيروين) في الجامعة وبين شبابنا! فراغ ديني قاتل، وأخيراً يحارب المنبر، حتى المنبر يحارب، يمنع الدعاة، لماذا؟ نحن مع من يقول، وأعلنها بين يدي هذا الجمع: لا ينبغي أن يرتقي المنبر أي أحد، نعم، مأساة أن يرتقي المنبر من لا يعرف شيئاً عن كتاب الله، ومن لا يعرف شيئاً عن حديث رسول الله الصحيح. والله لقد سمعت بأذني على المنبر كلاماً يخلع القلب، وأنا في سفر ذات مرة، مررت على المسجد لأصلي في الطريق، وسمعت الرجل على المنبر يقول: لما قتل عثمان بن عفان أرسل معاوية -هكذا بدون تكريم- إلى نائلة زوج عثمان، وقال: أريد أن أتزوجك، فقالت: ولماذا؟ قال: أعشقك، قالت: وأي شيء فيّ يُعشق؟ قال: أعشق عينيك، فقال الخطيب المفوه: فخلعت نائلة عينيها، ووضعت العينين على طبق، وأرسلت بالطبق إلى معاوية، وكتبت له تقول: يا اللي أنت غاوي الجمال رح القبر واطلع تلقى الجمال بقى رمم العظم متخلع نعم، يقال هذا على المنبر، وهذا أمر خطير، بل تشوه وتحرف العقيدة، الشريعة أصبحت مغيبة وضائعة، فيخرج على المنبر من يزيد النار اشتعالاً، ومن يزيد الناس ضلالاً، فنحن لسنا مع أي أحد يرتقي المنبر، وإنما في الوقت ذاته لا ينبغي على الإطلاق أن يحال بين المنبر وبين فرسانه، حتى وإن كانوا لا ينتسبون إلى الأزهر، فنحن لا نعرف في دين الله جل وعلا كهنوتية ولا رجال دين، لكن إذا ارتقى المنبر يقول: قال الله جل وعلا، وقال الرسول المصطفى في حديثه الصحيح، لا ينبغي أن يحال بين المنبر وبين فرسانه من الدعاة الصادقين المخلصين. فلو نظرتم الآن إلى ساحة الدعوة، لرأيتم جُلّ دعاتنا المخلصين الصادقين المؤثرين ما تخرجوا من الأزهر، هل يُمنع هؤلاء؟ وهل يحال بين المنبر وبين هؤلاء؟! الذين قد وصلوا إلى درجة تفوق وبكل ثقة أعلنها، كثيراً ممن تخرجوا من هذه الجامعة العريقة لا أقلل من شأنها، لكن هؤلاء يضعون أيديهم في أيدي إخوانهم من علماء الأزهر، ومن شيوخنا الفضلاء الأكارم، ليرفع الجميع راية الدعوة إلى الله بالحكمة البالغة والموعظة الحسنة، والكلمة الرقراقة الطيبة الكريمة. الفراغ الديني، والعلاج: ألا يحال بين المساجد وبين الشباب، وبين الشباب وبين المساجد، وألا نخشى المساجد، فالمساجد: هي الحضن التربوي الطاهر الذي يحمي أبناءنا بإذن الله من الانحراف، لما أُغلقت المساجد في وجوه الشباب، انطلق الشباب ليبحثوا عن العلم في الظلام، فأتى العلم مظلماً، ولما حيل بين الشباب وبين العلماء والدعاة انطلق الشباب ليبحثوا عن العلم في بطون الكتب، فجاء العلم في بعض الأحيان منحرفاً من خلال الفهم الخاطئ، فمن كان شيخه كتابه غلب خطؤه صوابه، فلا تخشوا المساجد، وافتحوا المساجد للعلماء وللدعاة وللشباب؛ ليتربى أبناؤنا وبناتنا، بل وآباؤنا وأمهاتنا في الأحضان التربوية الطاهرة. وقد آن الأوان أن تُرفع من كل وسائل الإعلام كل صور الامتهان للعلماء والمشايخ والدعاة، لازلنا إلى الساعة نمر على أبنائنا في المدارس، فيقولون: إرهابي ومتطرف، إفراز للإعلام، قُدمت له هذه الصورة، صورة اللحية، وصورة سنة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، على أنها الإرهاب، ولم يفرق الإعلام بين الإرهاب وبين الدين. فينبغي أن ترد كرامة التدين، وكرامة أهل الدين، وأنت أيها المسئول! أيها الأخ الكريم! قد تكون مسئولاً في الجوازات، وقد تكون مسئولاً في المطارات، وقد تكون مسئولاً في الشوارع والطرقات، ما أصَّل لك القانون أن تهين إخوانك من المسلمين والمسلمات، بل يجب عليك أن تُجِلَّهم وتقدرهم وأن تحترمهم، وإذا رأيت واحداً من أهل الدين ومن أهل العلم وجب عليك أن ترد للدين هيبته، وللعلماء اعتبارهم، وللمشايخ كرامتهم. لا أريد أن أطيل أكثر من ذلك، فإني أخشى أن أشق على هذا الجمع الكريم، والله أسأل أن يُقر أعيينا وإياكم بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين. ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب. اللهم اهدِ شبابنا، اللهم أصلح شبابنا، اللهم استر نساءنا، اللهم استر بناتنا، اللهم هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً، اللهم لا تدع لأحد في هذا الجمع الكريم ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا ميتاً لنا إلا رحمته، ولا عيباً إلا سترته، ولا هماً إلا فرجته، ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا رب العالمين. اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا شقياً ولا محروماً، اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا سبباً لمن اهتدى. اللهم ثبت قلوبنا على الإيمان، يا مقلب القلوب والأبصار! ثبت قلوبنا على دينك، اللهم ارزقنا جميعاً قبل الموت توبة، وعند الموت شهادة، وبعد الموت جنة ونعيماً ورضواناً، اللهم ارفع عن مصر البلاء يا أرحم الراحمين، اللهم ارفع عن مصر الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم أصلح شبابها وشباب المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم ارفع الفتن ما ظهر منها وما بطن عن مصر يا رب العالمين، وجميع بلاد المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم احمل المسلمين الحفاة، واكس المسلمين العراة، وأطعم المسلمين الجياع، اللهم مكن لدينك يا رب العالمين، اللهم قيض للأمة القائد الرباني الذي يحكم الأمة بكتابك وسنة نبيك إنك على كل شيء قدير، اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشدٍ يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر بقدرتك يا أرحم الراحمين. هذا وما كان من توفيق فمن الله، وما كان من خطأٍ أو سهو أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم بالله وأنساه.

قل آمنت بالله ثم استقم

قل آمنت بالله ثم استقم ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل، فهو قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالجوارح والأركان هذه هي حقيقة الإيمان، والاستقامة عليه كان هذا محور حديث الشيخ؛ مبيناً حقيقة الإيمان والاستقامة، وموضحاً أثر الفكر الإرجائي على الأمة.

الإيمان بالله والاستقامة على شرعه

الإيمان بالله والاستقامة على شرعه إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء، وأيها الإخوة الأحباب الكرام الأعزاء، وطبتم جميعاً وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم جل وعلا الذي جمعنا في هذا المكان الطيب المبارك على طاعته، أن يجمعنا مع سيد الدعاة المصطفى في جنته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله: وصية غالية أذكر بها نفسي وأحبابي وإخواني، ولم لا وهي وصية النبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي قال الله في حقه: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]. الوصية رواها مسلم في صحيحه من حديث أبي عمرة سفيان بن عبد الله رضي الله عنه قال: قلت: (يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك -وفي لفظ لـ أحمد والترمذي -: لا أسأل عنه أحداً بعدك) فلخص له النبي -أيها الأخيار- طريق السعادة وطريق النجاة في الدنيا والآخرة في كلمتين اثنتين، فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (قل آمنت بالله ثم استقم). كلمتان اثنتان: إيمان بالله جل وعلا، واستقامة على هذا الدرب الكريم الطاهر المنير، هذا هو طريق النجاة، هذا هو طريق الفوز في الدنيا والآخرة، وفي رواية أحمد قال سفيان: (قلت: يا رسول الله! حدثني بأمر أعتصم به، فقال له المصطفى صلى الله عليه وسلم: قل ربي الله ثم استقم. فقال سفيان: فما أخوف ما تخاف عليَّ يا رسول الله؟ فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بلسانه ثم قال: هذا).

أثر الفكر الإرجائي على الأمة

أثر الفكر الإرجائي على الأمة أيها الحبيب الكريم: والله ما دمر الأمة إلا فكر إرجائي نخر في جسدها نخراً، لقد ذلت الأمة الآن لمن كتب الله عليهم الذلة من إخوان القردة والخنازير، يوم أن انحرفت الأمة عن حقيقة الإيمان، ويوم أن غاب عن الأمة المفهوم الحقيقي لمعنى الإيمان، فانطلق كثير ممن ينتسبون إلى الإسلام يرددون بألسنتهم كلمة التوحيد والإيمان، من غير أن يقفوا لها على معنى أو على مقتضى، ومن غير أن يحولوا مقتضيات هذه الكلمة العظيمة في حياتهم إلى واقع عملي، وإلى منهج حياة. أيها الأحبة: ما أيسر التنظير! بل إن رفوف المكتبات تئن بالمراجع والمجلدات، وما وجدنا هذا الكم الهائل من المطبوعات بين سلف الأمة الصالح، ولكن البون الشاسع والفارق الكبير بيننا وبين هذه القمم الشماء والمثل العليا، أنهم كانوا إذا سمعوا عن الله أمراًَ، وإذا وقفوا لله على نهي، وإذا عرفوا لله حداً؛ امتثلوا الأمر واجتنبوا النهي ووقفوا عند حدود الله، وحولوا هذا المنهج النظري في جانب الإيمان إلى تصديق وإلى منهج عملي في واقع هذه الحياة؛ فسادوا الدنيا شرقاً وغرباً، وحولهم هذا المنهج المنير -يوم أن حولوه في حياتهم إلى واقع عملي- حولهم من رعاة للإبل والغنم إلى سادة وقادة للدول والأمم، واستطاعوا في فترة لا تساوي في حساب الزمن شيئاً على الإطلاق أن يقيموا للإسلام دولة عظيمة من فتات متناثر، فإذا هي دولة وبناء شامخ لا يطاوله بناء. ويوم أن امتد الفكر الإرجائي إلى الأمة ونخر جسدها نخراً، وانطلق كثير من الناس يردد كلمة الإيمان والتوحيد من غير أن يصدقها قلبه، ومن غير أن يحولها في حياته إلى واقع عملي وإلى منهج حياة، فهو يقف عند قول الله تعالى في أمر فيمتثل، ويقف عند قول الله تعالى في قول آخر فلا يمتثل، يقرأ قول الله في سورة البقرة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:183] فيمتثل أمر الله في هذا الجانب، وفي السورة ذاتها يقف عند أمر الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة:178] فيقول: هذا الأمر لا يليق ولا يتفق مع مدنية هذا القرن يقرأ قول الله تعالى في سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:6] فيمتثل، وفي السورة ذاتها: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] {الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47] {الظَّالِمُونَ} [المائدة:45] فلا يمتثل. ومنهم من ردد بلسانه كلمة الإيمان وقد ضيع الصلاة، وامتنع عن الزكاة، وفعل الزنا، وشرب الخمر، وحرص على ذلك، والطامة الكبرى أنه بمجرد أن ردد لا إله إلا الله يعتقد أنه قد حصّل صكاً من صكوك الغفران، بدخول الجنان، والنجاة من النيران.

حقيقة الإيمان

حقيقة الإيمان أيها الحبيب الكريم: اعلم أن الإيمان ليس كلمة تقال باللسان فحسب، ولكن الإيمان قول باللسان، وتصديق بالجنان، وعمل بالجوارح والأركان، قال الحبيب المصطفى كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) وقال الحسن: [ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل] فمن قال خيراً وعمل خيراً قبل منه، ومن قال خيراً وعمل شراً لم يقبل منه، فكلمة الإيمان حقيقة كبيرة ذات تكاليف، كلمة الإيمان أمانة عظيمة ذات أعباء. فلا بد أن نعلم أن للإيمان أركاناً، لابد أن يحولها المؤمن في حياته إلى واقع عملي، وإلى منهج حياة، كما بينها لنا المصطفى صلى الله عليه وسلم: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره) فأين حقيقة هذا الإيمان في قلوبنا وفي واقعنا الآن؟

من صور الشرك في توحيد الربوبية

من صور الشرك في توحيد الربوبية إن من الأمة الآن من يقول: ربي الله، ومع ذلك فهو يشك في أن الرزاق هو الله من الأمة الآن من أشرك في توحيد الربوبية، وأما أن تقر لله بالأمر والخلق والرزق والتصريف والتدبير، فهذا الجانب قد أقر به المشرك الأول في الجزيرة، إن سألته عن خالقه ورازقه: لمن تلجأ إذا وقع بك الضر في البحر؟ يقول: لله، ومن أبناء الأمة الآن يا إخوة -ولست مبالغاً- من أشرك حتى في هذا الجانب، في جانب توحيد الربوبية. ولقد سمعنا بآذاننا رئيس دولة خرجت من بين برك الدماء والأشلاء يقول إنه ممن يعتقد أن للكون أقطاباً وأوتاداً وأبدالاً تدبر نظامه وتسير شئونه!! وسمعنا بآذاننا على شاشة التلفاز المصري من يقول: إننا الليلة نحتفل بمولد سيدي السيد البدوي المهاب، الذي إن دعي في البر والبحر أجاب!! وسمعنا من يقول الآن في الشهرين الماضيين فقط: إن القرآن منتج ثقافي!! وقرأنا لعميد الأدب العربي -زعموا- وهو يقول: ارفعوا القداسة عن القرآن، وضعوا القرآن بين أيديكم كأي كتاب من الكتب يستحق النقد ويستحق الثناء!! وسمعنا من هذه الأمة من يقول: هبوا لي ديناً يجعل العرب أمة وسيروا بجثماني على دين برهم سلام على كفر يوحد بيننا وأهلاً وسهلاً بعده بجهنم إن الإيمان ليس كلمة فقط، الإيمان كلمة وتصديق وعمل وواقع، لابد أن نحول أركان الإيمان في حياتنا إلى منهج حياة، إلى واقع عملي، وقد حفظنا قديماً: لكل فعل رد فعل مساوٍ له في المقدار ومضاد له في الاتجاه، فإذا استقرت حقيقة الإيمان في القلب فلابد وحتماً أن تنعكس على هذه الجوارح، فتسمع الأمر لله، والنهي لله، وتقف عند حد الله، وشعارك السمع بلا تردد، والطاعة بلا انحراف، قال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور:51 - 52]. الإيمان قول وتصديق وعمل، ووالله لو علمت قريش أن كلمة الإيمان ما هي إلا مجرد كلمة سترددها الألسنة، دون أن تتحول في حياتها إلى واقع ضخم كبير؛ لرددتها مراراً وتكراراً، وما دخلت هذا الصراع الرهيب مع ابنها البار الذي خلعت عليه بالإجماع لقب الصادق الأمين قبل أن يبعث نبياً من رب العالمين. يقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمه وهو على فراش الموت: (يا عم! قل لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الله يوم القيامة. فيقول طاغوتان كبيران إلى جوار رأس أبي طالب: أترغب عن ملة عبد المطلب؟) وكأنه لو قال كلمة الإيمان سيرغب عن ملة عبد المطلب، إنهم يعلمون أن هذه الكلمة لابد أن تخلعه من الشرك خلعاً، لابد إن قالها أن يخلع رداء الكفر كله، ورداء الشرك كله على أول عتبة للإيمان بالله جل وعلا، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (قل. وهما يقولان: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فالتفت إليهما وقال: بل على ملة عبد المطلب، فخرج المصطفى وهو يقول: لأستغفرن لك ما لم أنه عنك. فنزل قول الله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113]). فيا أيها الأحبة الكرام: من الناس الآن من يردد كلمة الإيمان وهو لا يعرف لها معنى، ومن الناس من يرددها وهو لا يقف لها على مقتضى، ومن الناس من يرددها وقد قسم حياته إلى قسمين: قسم في جانب العبادات، فهو يمتثل أمر الله وأمر هذه الكلمة في هذا الجانب التعبدي، والجانب الآخر في المعاملات والسلوك والأخلاق، لا ترى لهذه الكلمة واقعاً في هذا الجانب على الإطلاق، فلابد أن نعي حقيقة الإيمان.

أركان الإيمان ومعانيها

أركان الإيمان ومعانيها (قل: آمنت بالله) أن تؤمن بالله رباً، أن تؤمن بالله إلهاً معبوداً، لا يستحق العبادة سواه، أن تؤمن بأسماء جلاله وصفات كماله، وما أحوجنا إلى أن نتعبد لله بالأسماء والصفات من جديد! فليست العبرة أن يردد كل مسلم منا الأسماء الثابتة، بل إن العبرة أن يحول المسلم مقتضى هذا الاسم في حياته إلى واقع أن يعيش معنى الرزاق، معنى الرحمن، معنى القوي، معنى القيوم، معنى المقيت، نقف على هذه المعاني. والله -يا إخوة- ما عرفت معنى المقيت إلا منذ أيام قليلة، وقفت عند هذا الاسم، وقرأت أقوال السلف ورجعت الأصول اللغوية التي يرد إليها حقيقة هذا الاسم، ومن أعجب ما علمت عن اسم المقيت: أن من أجمل معانيه أن كل عضو من أعضاء هذا البدن -فضلاً عن الكون- له قوت، مادة (قوت) القاف والواو والتاء، فإنه تخلف عنه هذا القوت توقفت حياته كل عضو فيك له قوت، إن امتنع هذا القوت عن هذا العضو تعطل، فعينك لها قوت لتعمل طوال العمر، وقلبك ومخك، وهكذا. يقول أحد العلماء المعاصرين: لو أردنا أن نصنع مصنعاً يقوم بما يقوم به المخ من وظائف وأعمال؛ لاحتجنا إلى مساحة الكرة الأرضية ثلاث مرات!! ليقف الإنسان مع هذه المعاني؛ ليتعرف بعدها على عظمة الله وعلى جلاله، فهو الذي يعطي الكون كله ما يحتاجه ليظل يعمل لهذا الإنسان المتمرد على الرحمن جل وعلا. أن تؤمن بالله رباً إلهاً معبوداً لا يستحق العبادة سواه، أن تؤمن بأسماء جلاله وصفات كماله التي أثبتها لذاته في قرآنه، وأثبتها له المصطفى صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف لا للفظها ولا لمعناها، ومن غير تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، فلست أعلم بالله من الله، ولست أعلم بالله من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأن تؤمن بالملائكة، وأن تعتقد أن لله ملائكة معك: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] {كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:11 - 12] {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:11] وأن للجبال ملائكة، وللعرش ملائكة، وللسحاب ملائكة، وللقطر ملائكة، وللأرزاق ملائكة، فإذا ما آمن الإنسان بهذه الحقيقة استحى، وراقب هذا الملك الذي يراقبه وينتظر قولة أو فعلة ليسطرها عليه في كتاب عند ربي لا يضل ربي ولا ينسى. وأن تؤمن بالكتب التي نزلها الله على أنبيائه ورسله، وأن تؤمن بالرسل: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة:285] وأن تؤمن باليوم الآخر -وما أحوجنا لتكرار الحديث الآن عن اليوم الآخر؛ لأننا نعيش زماناً طغت فيه الماديات، وانصرف كثير من الناس عن التفكر في اليوم الآخر، وعن لقاء رب الأرض والسماوات جل وعلا، وأن تؤمن بالقدر خيره وشره.

حقيقة الاستقامة على دين الله

حقيقة الاستقامة على دين الله لابد أن نحول هذه الأركان -أركان الإيمان- في حياتنا إلى واقع، فإن منَّ الله عز وجل بهذا الفكر، وردد لسانك وصدق قلبك، وترجمت جوارحك وأعمالك؛ فاستقم على هذا الدرب، واستقم على هذا الخير، وعلى هذه الطاعة، وعلى هذا النور. أبشرك بقول الحافظ ابن رجب الحنبلي طيب الله ثراه، حينما قال: وأصل الاستقامة أن يستقيم القلب على التوحيد، فإن استقام القلب على التوحيد؛ استقامت الجوارح كلها على طاعة العزيز الحميد. إن القلب هو الأصل، وبكل أسف يفرط كثير منا ومن طلاب العلم في التنقيب عن أحوال قلبه، فربما يغتر الطالب بتحصيله، ربما يغتر بمراجعه التي بين يديه في الليل والنهار، ولا يشعر بقسوة قلبه، أو مرضه أو غفلته، فكم من الناس مرضت قلوبهم في صدورهم وهم لا يشعرون! بل وكم من الناس ماتت قلوبهم في صدورهم وهم لا يشعرون! قال ابن السماك: كم من مذكر بالله وهو ناسٍ له! وكم من مخوف من الله وهو جريء عليه، وكم من مقرب إلى الله وهو بعيد عنه، وكم من تالٍ لكتاب الله وهو منسلخ عن آياته! نسأل الله السلامة والعافية. يقول أبو هريرة: [القلب هو الملك، والأعضاء جنوده ورعاياه، فإن طاب الملك طابت الجنود والرعايا، وإن خبث الملك خبثت الجنود والرعايا] وجاء من حديث النعمان في الصحيحين، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، إلا وهي القلب) فإن الفتن أول ما تعرض -كما ذكرت- تعرض على القلب، فإن تشرب القلب الفتنة -والعياذ بالله- ثم تشرب الفتنة تلو الفتنة علا الران القلب، فحجب صاحب هذا القلب عن الله تعالى، قال سبحانه: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:14 - 15] وقال صلى الله عليه وسلم: (تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير القلوب على قلبين: قلب أسود مرباداً كالكوز مجخياً، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه، وقلب أبيض كالصفا لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض) أسأل الله جل وعلا أن يجعل قلوبنا من هذا النوع الكريم. فأصل الاستقامة أن يستقيم قلبك على التوحيد، فإن استقام القلب على التوحيد نجوت، يقول ابن القيم طيب الله ثراه: التوحيد هو الإكسير الأعظم، الذي لو وضعت منه ذرة على جبال من الذنوب لأذابتها. لكن بشرط أن تحقق التوحيد، وأن تجرده وتخلصه، ثبت في صحيح مسلم من حديث عثمان أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة) وثبت في الصحيحين من حديث عبادة وفي رواية عتبان: (من قال لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله دخل الجنة) وثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة الطويل وفيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم دفع نعليه لـ أبي هريرة وقال: اذهب بنعليَّ هاتين، فمن لقيت وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة) فلابد من اليقين، وأن تجرد وتحقق وتخلص التوحيد لله جل وعلا. هذا التوحيد إن زلت قدمك، وجذبت أشواك المعاصي ثيابك، فتبت وأنبت إلى الله سبحانه، وقابلت الله جل وعلا بهذا التوحيد الخالص، فهذا التوحيد يبدد ضباب الذنوب وغيومها، كما في حديث البطاقة الذي صححه شيخنا الألباني وهو حديث صحيح، يقول ابن القيم: السر الذي من أجله ثقلت بطاقة التوحيد، وطاشت السجلات في الكفة الأخرى، هو تجريد التوحيد لله جل وعلا. وثبت في صحيح مسلم من حديث أنس، وفي سنن الترمذي واللفظ للترمذي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني إلا غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة). إنه التوحيد الخالص لله جل وعلا، لا تستهن بحقيقة التوحيد ولا بقدره، فلقد ظل النبي يعلم أصحابه التوحيد في مكة ثلاثة عشر عاماً، ولا تظنوا -أحبتي- أن النبي يوم أن انتقل إلى المدينة قد انتقل من التوحيد ليعلم الصحابة غير التوحيد، كلا! فإن التوحيد لا ينتقل منه إلى غيره بل ينتقل معه إلى غيره، وفي كل مرحلة من مراحل تأسيس النبي لدولة الإسلام ما أضاع التوحيد، ولا غيّب منهج التوحيد أبداً، لأننا نسمع الآن نغمة خبيثة تقول: ما الداعي لأن تدندنوا حول التوحيد، وأن تكثروا الكلام عن التوحيد، فإن النبي بدأ بالتوحيد لأنه بدأ في أمة مشركة، أما الآن فالأمة -ولله الحمد- أمة موحدة. قلت: سبحان الله! أين القائل لهذا من واقع مر أليم تحياه الأمة، ففي كل عام يحج الملايين من أبناء الأمة إلى كثير من القبور هنا وهناك؟! أين التوحيد الذي يقال بأن الأمة قد دخلت قصره لا من أبوابه بل من نوافذه؟! فالتوحيد لا ينتقل منه إلى غيره، بل ينتقل معه إلى غيره. أيها الحبيب: استقم على هذا الدرب: (قل آمنت بالله ثم استقم) قرأ عمر بن الخطاب قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30] قرأها يوماً على المنبر فقال: [ثم استقاموا فلم يروغوا روغان الثعالب] عرفت فالزم، ذقت الحلاوة، ذقت طعم الإيمان؛ لأن للإيمان طعماً كما في صحيح مسلم، قال المصطفى: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً) هذا هو الذي ذاق طعم الإيمان، فإن ذقت طعم الإيمان فاستقم، لا ترغ روغان الثعالب -عافاني الله وإياك- استقم على هذا الدرب، على درب الإيمان، على طريق التوحيد، على طريق سنة النبي محمد، بفهم أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، فهم أفهم الناس لكتاب الله، وأعلم الناس بأسباب نزول الآيات على قلب رسول الله، فالزم هذا الدرب وسر عليه تفلح وتسعد في الدنيا والآخرة.

أقوال العلماء في وقت تنزل الملائكة على أهل الاستقامة

أقوال العلماء في وقت تنزل الملائكة على أهل الاستقامة أيها الأحبة! يقول الله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30] هذا فضل الاستقامة على الإيمان: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ} [فصلت:30] وفي وقت تنزل الملائكة على أهل الإيمان والاستقامة قولان: الأول: قاله مجاهد والسدي وزيد بن أسلم، قالوا: تتنزل الملائكة على أهل الإيمان والاستقامة وهم على فراش الموت، إذا نزل بهم الخطب الأفضع، والأمر الأشنع، وسكرات الموت، التي لا يستطيع أي بليغ أو فصيح مهما أوتي من بلاغة وبيان أن يعبر عنها على الإطلاق؛ لأن هذا مما لا يدرك إلا إذا واقعه وعاينه الإنسان بنفسه. لقد خشيت عائشة على رسول الله حينما نزلت به سكرات الموت، وقالت: إنها لا تنكر بعد ذلك شدة الموت على أحد بعد ما رأت من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان المصطفى لما نزلت به السكرات يضع يده في ركوة بها ماء، ويمسح العرق عن جبينه الأزهر الأنور ويقول: (لا إله إلا الله إن للموت لسكرات) والحديث في صحيح البخاري، وفي لفظ لـ أحمد: (كان المصطفى يقول: لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات، اللهم هون عليَّ سكرات الموت) إنه خطبٌ فضيع، وفي هذه اللحظات -أيها الأخيار- يأتي الشيطان ليجتال وليصرف الإنسان عن حقيقة الإيمان، كما ثبت مع الإمام أحمد وقرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى وقال: منهم -أي: من الناس- من تحضره الملائكة لتقول له ذلك، ومنهم من لا يقال له ذلك، إلا أن الموقف رهيب عصيب في هذه اللحظات، لحظات السكرات والكربات والضيق والهم، لحظة أن يعاين الإنسان الحقيقة، تتنزل إليه الملائكة إن كان من أهل الإيمان والاستقامة لتبشره بهذه البشارة: {أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30] من أنتم؟ {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا} [فصلت:31]-أي في الجنة- {مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:31 - 32]. ثبت في سنن ابن ماجة بسند صححه الشيخ الألباني، أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال من حديث أبي هريرة: (تحضر الملائكة -أي: عند الموت- فإذا كان الرجل صالحاً تقول الملائكة: اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، اخرجي حميدة وأبشري بروح وريحان، ورب راضٍ غير غضبان، فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج) فالملائكة تبشر أهل الإيمان والاستقامة وهم على فراش الموت بهذه البشارة العظيمة. القول الثاني: قاله ابن عباس وابن أبي حاتم وغيرهما، قالا: تتنزل الملائكة على أهل الإيمان والاستقامة عند الخروج من القبور يوم البعث والنشور، يوم الفضيحة، نسأل الله أن يستر علينا وعليكم، ترى الفضائح في هذا اليوم، إذ أن كل عبدٍ سيبعث من قبره على ما مات عليه من طاعة أو معصية، ولك أن تتصور -بالله عليك- هذا المشهد، ثبت في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (يبعث كل عبدٍ على ما مات عليه). إن عشت على الطاعة مت على الطاعة وبعثت عليها، وإن عشت على المعصية -عافاني الله وإياك- مات صاحب المعصية عليها وبعث عليها. يقول الحافظ ابن كثير طيب الله ثراه: لقد أجرى الله الكريم عادته بكرمه أن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه، فإن عشت على الطاعة مت على الطاعة وبعثت عليها، وإن عاش الإنسان على المعصية مات عليها وبعث عليها. والله يا إخوة -وسوف أفرد لذلك إن شاء الله محاضرة لخطورة الأمر- لقد حدثني أخ من المنصورة عندنا في مصر عن جارٍ كان يسكن فوقه، وكان مدمن للغناء وما عرف للمسجد طريقاً ولا سبيلاً، ذكروه بالله فما تذكر، فكبر الرجل وكان مولعاً بـ أم كلثوم، فلما نام على فراش الموت لا زال الغناء يملأ أركان البيت، مع أن ملائكة الله جل وعلا قد وجدت الرجل يحتضر، يقول: فلما علمت ذلك وسمعت صراخ النساء صعدت إليهم، فرأيت الرجل يحتضر، فبكيت وقلت: اتقوا الله، أبوكم يموت ويحتضر وأنتم لا زلتم تضعون شريط الغناء، أهذا وقت غناء؟ ضعوا شريطاً للقرآن لعل الله أن ييسر عليه، يقسم بالله أنهم استجابوا لذلك، فامتدت يده على شريط الغناء ونزل فأتى بشريط للقرآن، يقول: حينما وضعت شريط القرآن في المسجل، وإذ بالرجل على فراش الموت ينظر ويقول: دع الغناء فإنه ينعش قلبي، وما تكلم بعدها!! وفي الشهر الماضي كان هناك رجل في منصب يصد عن سبيل الله وعن دينه، وهو في كامل فتوته وشبابه، أصيب بألم بسيط في بطنه، وأراد أن يخرج ما في جوفه، فدخل إلى الخلاء -أعزكم الله- ومن كثرة ما غلبه القيء لم يقو على أن يقف، فبرك على ركبته أمام الحمام الأفرنجي المعلوم ليخرج ما في جوفه، وظل يقيئ ويقيئ حتى صرخ صرخة فخرجت فيها روحه، ووجهه في هذا المكان القذر النجس. لقد أجرى الله الكريم عادته بكرمه أن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه، وهذا شيخنا المبارك الشيخ كشك رحمه الله وغفر له، مات في اليوم الذي أحبه من كل قلبه، في يوم الجمعة، دخل الخلاء فاغتسل وخرج، ثم لبس ثوبه الأبيض وتطيب وصلى ركعتين في بيته، وأراد أن يصلي ركعتين ليخرج إلى المسجد المجاور إلى بيته، فصلى الركعة الأولى في كامل قوته وصحته، فلقد كنت عنده قبل موته بثلاثة أيام، الرجل في صحة، وفي الركعة الثانية وهو يركع سقط على الأرض، فأسرع إليه أهله فوجدوا روحه قد فاضت إلى الله جل وعلا. لقد أجرى الله الكريم عادته بكرمه أن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه، ففي هذا اليوم العصيب يوم الفضائح -نسأل الله الستر والعافية- يخرج أهل الإيمان والاستقامة من القبور، فتستقبلهم ملائكة العزيز الغفور بالبشارات: {أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:30 - 32] نزلاً، أي: ضيافة وإكراماً وإنعاماً من غفور رحيم، غفر لكم الذنوب ورحمكم في يوم الأهوال والكروب. هذا جزاء المؤمنين المستقيمين على طاعة رب العالمين جل وعلا، قال صلى الله عليه وسلم لـ سفيان بن عبد الله: (قل آمنت بالله ثم استقم) وهأنذا أذكر نفسي وأقول لها: قولي: آمنت بالله ثم استقيمي، وأذكر إخواني قولوا: آمنا بالله ثم استقيموا على درب الإيمان، وعلى درب رسول الله صلى الله عليه وسلم. والله أسأل أن يختم لي ولكم بالإيمان، وأن يرزقنا وإياكم الاستقامة على الإيمان، وأن يبعثنا في زمرة الموحدين تحت لواء قدوة المحققين، وسيد النبيين، إنه ولي ذلك ومولاه، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وجزاكم الله خيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ما الإسلام؟ وما الإيمان؟

ما الإسلام؟ وما الإيمان؟ أشار الشيخ حفظه الله إلى حقائق إيمانية من سورة الحجرات، ذاكراً الفرق بين الإسلام والإيمان، ومبيناً أن لكل من اللفظتين معناها الخاص إن ذكرتا معاً، كما أنهما تحملان المعنى نفسه إذا ذكرت إحداهما دون الأخرى، كما بين أن الإيمان يزيد وينقص، وأن أهله متفاضلون فيه بحسب زيادته ونقصانه.

سورة الحجرات قواعد لبناء المجتمع المسلم

سورة الحجرات قواعد لبناء المجتمع المسلم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] , {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] , {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد: فمع الدرس الأخير من دروس سورة الحجرات، سورة التربية والأخلاق, وبعد أن عشنا مع هذه القواعد التشريعية العظيمة التي أرستها السورة لبناء مجتمع إسلامي كريم؛ نستطيع أن نسجل باطمئنان كامل أن هذه الصورة التي لا تتجاوز ثماني عشرة آية تكاد أن تستقل بوضع منهج متكامل لبناء مجتمع إسلامي كريم سليم العقيدة, نقي القلب، نظيف المشاعر, عف اللسان، مهذب الأخلاق إنه مجتمع مثالي بكل ما تحمله هذه الكلمة من تصورات مجتمع له أدب مع الله, ومع رسول الله, ومع نفسه, ومع غيره مجتمع رباه الإسلام بهدي القرآن على يد من كان خلقه القرآن؛ فقد رباه الله ليربي به الدنيا صلى الله عليه وسلم. وتختم السورة الجليلة العظيمة الكريمة بوضع لبنة التمام في هذا البناء العظيم, وفي هذا الصرح الشامخ المهيب؛ وذلك ببيان الحقيقة الكبرى، ألا وهي حقيقة الإيمان، وذلك من خلال الحوار الذي دار بين أعراب بني أسد وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلقد ذكر جمهور المفسرين أن هؤلاء وفدوا المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنة مجدبة، وكانوا يمنون بذلك على رسول الله عليه الصلاة والسلام, ويقولون: يا محمد أتتك العرب بأنفسها على ظهور رواحلها، وجئناك بالأثقال والعيال ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان، فأعطنا من الصدقات فإن لنا حقاً عليك, يمنون بذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت الآيات: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:14] وكما في الآية التي هي قبل أواخر السورة: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17]. ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل, فمن قال خيراً وعمل خيراً قبل منه, ومن قال خيراً وعمل شراً لم يقبل منه, ليس الإيمان كلمة تقال باللسان, ليس الإيمان زعماً يدعى, ولكن الإيمان حقيقة ذات تكاليف، وأمانة ذات أعباء: لا تقولوا آمنا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا، أي: استسلمنا وأذعنا وانقدنا خوفاً من القتل والسبي: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14] أي: لم يستحكم الإيمان بعد في قلوبكم.

الفرق بين الإسلام والإيمان

الفرق بين الإسلام والإيمان وهكذا أيها الأحباب: تعلمنا هذه الآية الكريمة أن هناك فرقاً كبيراً بين الإسلام والإيمان، فأعيروني القلوب والأسماع؛ لأن هذه المسألة مسألة عظيمة من مسائل معتقد أهل السنة والجماعة , ما الفرق بين الإسلام والإيمان؟ مسألة جليلة زلت فيها الأقدام، وضلت فيها الأفهام، إلا من رحم الله جل وعلا, نسأل الله جل وعلا أن يجعلني وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه. وبدايةً -نضرع إليه- قبل أن نشرع بالتفصيل لهذه المسألة وما يتعلق بها من مسائل أخرى, نضرع إلى الله أن يرزقنا الصواب والتوفيق والسداد لمعرفة الفرق بين الإسلام والإيمان!

الإسلام ومعناه إجمالا

الإسلام ومعناه إجمالاً سألخص لكم -أحبتي في الله- مذهب أهل السنة والجماعة في ذلك: أولاً: اعلموا أن دين الله عز وجل الذي أنزل به كتبه, وبعث به رسله ورضيه لأهل سماواته وأرضه هو الإسلام: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} [آل عمران:19] {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85]. هذا الإسلام العظيم قولٌ وعمل, قول باللسان وبالقلب، وعمل باللسان وبالقلب، وبالجوارح. أولاً: قول اللسان, وهو النطق بالشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم, والأدلة على ذلك من القرآن والسنة كثيرة -ولله الحمد والمنة- كما في قول الله جل وعلا في سورة البقرة: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} [البقرة:136]، وقوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30] إلى آخر الآية. وفي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله تعالى) , هذا عن قول اللسان. ثانياً: قول القلب: وهو التصديق والإيقان وعدم الشك كما في الآية التي معنا في سورة الحجرات: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات:15] وكما في قول الله جل وعلا: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر:33] وكما في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أحدٍ يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صدقاً من قلبه إلا حرمه الله على النار) هذا عن قول القلب. ثالثاً: عمل اللسان والجوارح معاً: كتلاوة القرآن، وذكر الله جل وعلا، والتسبيح، والصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، والجهاد، وسائر الطاعات التي لا تؤدى إلا بالجوارح والأعضاء, كما في قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الأحزاب:41 - 42] وكما في قول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج:77 - 78] هذا عن عمل اللسان والجوارح. رابعاً: عمل القلب: وهو النية، والإخلاص، والتوكل، والإنابة، والانقياد، والمحبة، والتفويض، والرجاء إلى آخر الأعمال التي لا تؤدى إلا بالقلب. هذا هو عمل القلب. وبالجملة: فإن القلب هو الأصل، وهو الملك، ولو استقام هذا الملك لاستقامت الجنود والرعايا, وإذا صلح القلب صلح البدن كله، وإذا فسد القلب فسد البدن كله, كما في حديث النعمان بن بشير الذي رواه البخاري ومسلم وفيه: أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله, وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب). إذاً: الإسلام قول وعمل، قول باللسان وبالقلب، وعمل باللسان وبالقلب وبالجوارح.

الإسلام لغة وشرعا وشموليته حال الانفراد

الإسلام لغة وشرعاً وشموليته حال الانفراد ثانياً: الفرق بين الإسلام والإيمان: أعيروني القلوب والأسماع! فإن هذا الباب من أهم أبواب عقيدة السلف - أهل السنة والجماعة - وهي: الفرق بين الإسلام والإيمان، أقول: إن هذا الباب قد ضلت فيه الأفهام وقد زلت فيه الأقدام. الفرق بين الإسلام والإيمان: أولاً: الإسلام: الإسلام لغة: هو الانقياد والإذعان, وإذا أطلق في الشريعة فله حالتان: الحالة الأولى: إذا أطلق لفظ الإسلام مفرداً دون أن يقترن بلفظ الإيمان فإن الإسلام حينئذٍ يراد به الدين كله؛ أصوله وفروعه من الاعتقادات والأقوال والأفعال, والأدلة على ذلك كثيرة من القرآن والسنة، منها قول الله جل وعلا: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19] وقوله سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] ومنها قول الله جل وعلا: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85] وقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208]. هذا هو الإسلام الذي إذا أطلق وحده فإنه يراد به الدين كله, وفي الحديث الذي يوضح ذلك المعنى أوضح بيان وهو الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده والطبراني في الكبير , وقال الإمام الهيثمي في المجمع رجاله ثقات، من حديث عمرو بن عبسة رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله ما الإسلام؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (أن يسلم قلبك لله، وأن يسلم المسلمون من لسانك ويدك, فقال الرجل: وأي الإسلام أفضل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: الإيمان, قال: وما الإيمان؟ قال: تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت).

خصوصية الإسلام حال الاقتران بالإيمان

خصوصية الإسلام حال الاقتران بالإيمان وهكذا أيها الأحباب نرى أن النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل الإيمان جزءاً من أجزاء الإسلام في هذا الحديث، في الوقت الذي يطلق فيه لفظ الإسلام مفرداً من غير أن يقترن بلفظ الإيمان, وهكذا: إذا أطلق لفظ الإسلام وحده دون أن يقترن بلفظ الإيمان، فإن الإسلام في هذه الحالة يراد به الدين كله، أصوله وفروعه من الاعتقادات والأقوال والأفعال. وهذه هي الحالة الأولى لمرتبة الإسلام. الحالة الثانية: إذا أطلق لفظ الإسلام مع لفظ الإيمان، فإن الإسلام في هذه الحالة يراد به الأقوال والأعمال الظاهرة, كما في الآية في سورة الحجرات في قول الله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً} [الحجرات:14] ويوضح ذلك أيضاً أوضح بيان الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (أعطى النبي صلى الله عليه وسلم من الصدقات رهطاً وأنا جالس عنده وترك النبي رجلاً -وقد وضحت الأحاديث الأخرى هذا الرجل وسمته وهو رجل من المهاجرين يقال له: جعيل , كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في الفتح - هو أعجبهم إليّ يقول سعد: فقلت: مالك عن فلان يا رسول الله؟ -أي: لماذا لم تعط فلاناً يا رسول الله؟ - والله إني لأراه مؤمناً, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أو مسلماً، يقول سعد: فسكت، ثم غلبني ما أعلم من الرجل, فقمت وقلت: يا رسول الله: ما لك عن فلان؟ والله إني لأراه مؤمناً, فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: أو مسلماً, يقول سعد: فسكت، ثم غلبني ما أعلم من الرجل فعدت وعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: يا سعد! والله إني لأعطي الرجل وغيره أحب إليّ منه، خشية أن يكبه الله في النار). ويوضح ذلك أيضاً أوضح بيان حديث جبريل عليه السلام، والذي رواه مسلم وغيره من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن جبريل لما جاء وسأل النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا محمد: أخبرني عن الإسلام؟ قال صلى الله عليه وسلم: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً, قال: صدقت -يقول عمر راوي الحديث-: فعجبنا له يسأله ويصدقه، قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره) إلى آخر هذا الحديث المبارك. وهكذا أيها الأحباب: يتضح لنا أن الإسلام إذا أطلق مع الإيمان فإن الإسلام في هذه الحالة يراد به الأعمال والأقوال الظاهرة: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14]. وهذه هي الحالة الثانية لمرتبة الإسلام. إذاً: عرفنا الآن الإسلام إذا أطلق مفرداً, وعرفنا الإسلام إذا قرن بالإيمان, الإسلام إذا قرن بالإيمان فيراد بالإسلام حينئذٍ الأقوال والأعمال الظاهرة.

مدلول الإيمان لغة وشرعا

مدلول الإيمان لغة وشرعاً ثانياً: مرتبة الإيمان: أولاً: الإيمان لغة: هو التصديق, كما قال إخوة يوسف لأبيهم: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف:17] أي: وما أنت بمصدق لنا. أما إذا أطلق الإيمان في الشريعة فله -أيضاً- حالتان:

عموم الإيمان حال انفراده

عموم الإيمان حال انفراده الحالة الأولى: إذا ذكر لفظ الإيمان مفرداً، دون أن يقترن بلفظ الإسلام, فالإيمان في هذه الحالة شأنه كشأن الإسلام يراد به الدين كله، أصوله وفروعه من الاعتقادات والأقوال والأفعال -كما قلت ذلك في معنى الإسلام إذا أفرد- والدليل على ذلك من القرآن قول الله جل وعلا: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:2 - 4]. وكما في قول الله جل وعلا: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة:257] ويوضح ذلك المعنى أوضح بيان حديث وفد عبد القيس الذي رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، لما وفَدَ وفْد عبد القيس على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم الرسول بالإيمان، وقال لهم: (أتدرون ما الإيمان؟ قالوا: الله ورسوله أعلم, قال عليه الصلاة والسلام: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تؤدوا خمساً من المغنم). هذه هي أركان الإسلام التي حفظناها يبينها النبي صلى الله عليه وسلم ويجعلها أركاناً للإيمان في هذا الحديث؛ لأن الإيمان أطلق وحده دون أن يقترن بذكر الإسلام، فهو حينئذٍ يراد به أيضاً الدين كله؛ أصوله وفروعه من الاعتقادات والأقوال والأفعال, ويوضح ذلك -أيضاً- أوضح بيان الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الإيمان بضع وستون شعبة، أفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان). وهكذا أيها الأحباب: اعلموا جيداً أن هذا هو الذي قصده سلفنا الصالح حينما يذكرون في كتبهم: إن الإيمان اعتقاد وقول وعمل, وأن الأعمال تدخل جميعها تحت مسمى الإيمان, ولقد أنكر علماء أهل السنة والجماعة إنكاراً شديداً على من أخرج الأعمال من مسمى الإيمان، وهذا هو الذي أراده الإمام البخاري رحمه الله في الصحيح، حيث بوب في صحيحه أبواباً تحت هذا العنوان باب أمور الإيمان ثم قال: باب الصلاة من الإيمان باب الحياء من الإيمان, باب اتباع الجنائز من الإيمان, باب حب الرسول من الإيمان وهكذا. فإن علماء السلف أنكروا إنكاراً شديداً على من أخرج الأعمال من مسمى الإيمان, فإذا قرأت لعالم من علماء السلف كـ أبي حنيفة مثلاً، الذي لم يُفهَم قوله أنه يقول: بأن الإيمان اعتقاد وقول وعمل, فاعلم علم اليقين بأنهم يدخلون جميع الأعمال في مسمى الإيمان، والإيمان يقصد به في هذه الحالة الدين كله، أصوله وفروعه من الاعتقادات والأقوال والأفعال. وكان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يرسل إلى الأمصار ويقول: [إن الإيمان فرائض وشرائع، فمن استكملها فقد استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان] رواه البخاري تعليقاً. هكذا أيها الأحباب إذا أطلق لفظ الإيمان وحده، دون أن يقترن بلفظ الإسلام، فإن الإيمان في هذه الحالة يراد به الدين كله. هذه هي الحالة الأولى لمرتبة الإيمان.

خصوص معنى الإيمان عند الاقتران

خصوص معنى الإيمان عند الاقتران الحالة الثانية لمرتبة الإيمان: إذا ذكر لفظ الإيمان مقترناً بلفظ الإسلام، فإن الإيمان في هذه الحالة يراد به الاعتقادات الباطنة, ويوضح ذلك أوضح بيان الحديث الذي رواه أحمد وأبو يعلى والبزار وابن أبي شيبة وقال الإمام الهيثمي: رجاله رجال الصحيح إلا علي بن مسعدة، وقد وثقه ابن حبان وغيره، وضعفه آخرون من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الإسلام علانية والإيمان في القلب). ويوضح ذلك أيضاً أوضح بيان الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي وأحمد وابن حبان والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وأقره الذهبي؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا في دعاء الجنازة وقال: (اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام, ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان). وهكذا -أيها الأحباب- إذا ذكر لفظ الإيمان مع الإسلام؛ فإن الإسلام يراد به الأعمال الظاهرة، والإيمان يراد به الأعمال الباطنة. وهكذا أستطيع أن أقول بأنني لخصت لكم مذهب أهل السنة والجماعة وأقوال سلفنا الصالح في هذه المسألة العظيمة، التي خالف بها أهل السنة والجماعة جميع الفرق التي فرطت غاية التفريط، من أمثال الخوارج والكراميّة والمعتزلة والأشاعرة والمرجئة وغيرهم, ومذهب أهل السنة هو الحق وهو المذهب الوسط بوسطية هذه الأمة, نسأل الله أن يتوفانا وإياكم عليه.

زيادة الإيمان ونقصانه وتفاضل أهله فيه

زيادة الإيمان ونقصانه وتفاضل أهله فيه يبقى لنا بعض المسائل التي تتعلق بهذا الباب والتي هي من أصول معتقد سلفنا الصالح: ثالثاً: أيها الأحباب! من هذه المسائل: أن الإيمان يزيد وينقص. يزيد الإيمان بالطاعات، وينقص بالذنوب والزلات, هذا أصل عظيم من أصول مذهب أهل السنة والجماعة، كما قال ربنا جل وعلا في قوله تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4] وكما قال ربنا جل وعلا في سورة الأنفال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2] والآيات في ذلك كثيرة ولله والحمد والمنة. ويوضح هذا الأصل أوضح بيان الحديث الذي رواه مسلم من حديث حنظلة الأسيدي رضي الله عنه، وهو من كُتَّاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال حنظلة: لقيني أبو بكر رضي الله عنه فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ فقال حنظلة: نافق حنظلة يا أبا بكر , قال: سبحان الله! ما تقول؟! فقال حنظلة: يا أبا بكر: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فيذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا نراها رأي العين, فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيراً, قال أبو بكر: والله إنا لنلقى مثل هذا, يقول حنظلة: فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: نافق حنظلة يا رسول الله! فقال صلى الله عليه وسلم: (وما ذاك؟ فقال حنظلة: يا رسول الله: نكون عندك فتذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا نراها رأي العين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات ونسينا كثيراً، فقال صلى الله عليه وسلم: والذي نفس محمد بيده لو تدومون على ما تكونون عليه عندي لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي الطرقات, ولكن يا حنظلة ساعة وساعة) وكررها النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات. وهكذا يوضح هذا الحديث توضيحاً لا لبس فيه ولا غموض أن الإيمان يزيد بالطاعات وفي وقت الطاعات، وينقص بالذنوب والزلات, نسأل الله أن يزيد إيماننا وإيمانكم بالطاعات إنه ولي ذلك ومولاه وهو على كل شيء قدير!

تفاضل أهل الإيمان

تفاضل أهل الإيمان تبقى لنا مسألة أخيرة من المسائل الهامة التي تتعلق بهذا الباب أيضاً، ألا وهي: تفاضل أهل الإيمان. والمقصود: أن أهل الإيمان يتفاوتون فيما بينهم بحسب درجة الإيمان في قلوبهم؛ فأعلاهم منزلة أولو العزم من الرسل، وأدناهم المخلطون من أهل التوحيد الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً, وبين هاتين الدرجتين من الدرجات ما الله جل وعلا به عليم, فإن أهل الإيمان يتفاضلون ويتفاوتون. بل إنهم ليتفاضلون ويتفاوتون في العمل الواحد، وفي المكان الواحد، والوقت الواحد، انظروا مثلاً إلى صلاة الجماعة في مسجد واحد، وفي وقت واحد، وخلف إمام واحد، وبين هؤلاء من الدرجات كما بين السماء والأرض، كما قال إمامنا ابن القيم رحمه الله تعالى: فهذا -مثلاً- يرى الصلاة قرة عين؛ يتمنى أن لو طالت الصلاة, وآخر يحس أنه في أضيق سجن -والعياذ بالله- ويتمنى أن لو انتهت الصلاة كلمح البصر, وآخر من نفس الجماعة، ومن نفس الصفوف تخرج صلاته منيرة مضيئة حتى تفضي إلى عرش الرحمن جل وعلا، وآخر تخرج صلاته مظلمة كظلمة القبر والعياذ بالله, وآخر يقف بجسده في الصلاة وقلبه يهيم في كل واد؛ حتى لا يدري أقرأ الفاتحة جالساً أم قرأ التشهد قائماً, وآخر يقف في الصلاة وهو يفكر هنا وهناك ولا حول ولا قوة إلا بالله، وآخر يأتي الصلاة نفاقاً ورياءً والعياذ بالله, والكل يقف في مسجد واحد، وفي فرض واحد، وخلف إمام واحد، وبينهم من التفاوت والدرجات ما الله جل وعلا به عليم, وعلى هذا التفاوت يموت الناس, وعلى هذا القدر يبعثون، وعلى هذا القدر يكونون في العرق في يوم الموقف, وعلى هذا القدر تقسم الأنوار على الصراط, وعلى هذا القدر يتسابقون إلى الجنات, بل وعلى هذا القدر من الإيمان تكون مقاعدهم من رب الأرض والسماوات في يوم المزيد: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة:4] هذه قاعدة هامة من قواعد أهل السنة والجماعة. وأستطيع أن أقول: بأننا والحمد لله جل وعلا وبتوفيق منه وفضل قد وفينا هذا الباب في قوله تبارك وتعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [الحجرات:14]. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.

فضل الله علينا بالإيمان

فضل الله علينا بالإيمان الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على نبينا وحبيبنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم, أما بعد: أيها الأحباب: هكذا تعرفنا على الفرق بين الإسلام والإيمان، وعلى بعض المسائل التي تتعلق بهذا المبحث وهذا الباب، وهي من أهم معتقد سلفنا الصالح، ومن أهم معتقد مذهب أهل السنة والجماعة , نسأل الله جل وعلا أن يتوفانا وإياكم عليه، إنه ولي ذلك ومولاه وهو على كل شيء قدير! ولما أخبر الله الأعراب بأن الإيمان لم يستحكم بعد من قلوبهم، جاءوا مرة ثانية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحلفون ويقسمون بالله إنهم من المؤمنين الصادقين، فرد الله جل وعلا عليهم، وقال: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ} [الحجرات:16]؛ قل أتخبرون الله بما في قلوبكم، والله جل وعلا يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ} [الحجرات:16 - 17]. إن الفضل لله جل وعلا الذي منَّ عليكم بالإيمان والإسلام من غير اختيار منكم ومن غير إرادة: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) والحديث رواه البخاري من حديث أبي هريرة {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17] , والله لو شكرتم الله الليل والنهار فلن تكافئوا هذه النعمة أبداً، نعمة الإيمان ونعمة الإسلام: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:34] وصدق من قال: ومما زادني شرفاً وفخرا وكدت بأخصمي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحجرات:17 - 18]. أسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى، وصفاته العليا، أن يرزقنا وإياكم إيماناً صادقاً، اللهم اجعلنا من المؤمنين الصادقين, اللهم ارزقنا لساناً ذاكراً، وقلباً شاكراً، وجسداً على البلاء صابراً, اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع, ومن دعوة لا يستجاب لها, اللهم قيِّض لأمة التوحيد أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، أنت ولي ذلك ومولاه وأنت على كل شيء قدير. اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين, اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك, اللهم وفق ولاة الأمر لما تحبه وترضاه. هذا وأكثروا من الصلاة والسلام على نبينا وحبيبنا محمد كما أمركم الله جل وعلا بذلك فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلَّ وسلم وزد وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه. هذا وما كان من توفيق فمن الله جل وعلا وحده، وما كان من خطأ أو سهوٍ أو زللٍ أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء, وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون عليه إلى الجنة ويلقى به في النار، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.

مهلا يا دعاة الهزيمة!!

مهلاً يا دعاة الهزيمة!! لقد هزمت الأمة ونكبت بنكبات كثيرة وخطيرة، وفي هذه المادة يتحدث الشيخ عن نكبة وهزيمة هي من أشد وأخطر الهزائم والنكبات على الأمة الإسلامية، ألا وهي: الهزيمة النفسية في الوقت التي فقدت فيه الأمة جل مقومات النصر، وقد تحدث عن هذه الهزيمة في عدة نقاط ابتدأها باستعراض أعراض الهزيمة، ومناقشتها مناقشة جادة، ثم ذكر أسبابها وذيلها بالعلاج.

الهزيمة النفسية التي أصابت الأمة

الهزيمة النفسية التي أصابت الأمة الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة وبلغ الرسالة ونصح للأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، اللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الأحبة الكرام، وسامحوني فلقد أفسدت عليكم هذه الجلسة الطيبة المباركة، فوالله لا أرى في نفسي أن أجلس في هذا المجلس خلفاً لشيخنا/ مبارك أبي إسحاق، أسأل الله عزوجل أن يحفظه، وأن يسدد رميته، وأن يفتح بينه وبين قومه بالحق، وأن يبارك فيه وفي ولده، وأن يجعلهم قرة عينٍ له في الدنيا والآخرة، وأن يحفظ دعاة الإسلام الصادقين، وأن يتقبل منا وإياكم جميعاً صالح الأعمال إنه ولي ذلك والقادر عليه. أيها الأحبة! هذا قدركم فاحمدوا الله على هذه المصيبة. "مهلاً يا دعاة الهزيمة" موضوع خطير، وعنوان جميل، وليسمح الشيخ أن أنسج بنفس خيوطه، وأن أسير على ذات الدرب، والله أسأل أن يجعلنا وإياكم جميعاً من الصادقين. أيها الأحبة: لقد هزمت الأمة ونكبت بنكبات كثيرة وخطيرة، ومع ذلك فإن أخطر هزيمة هزمت بها ونكبت بها الأمة هي الهزيمة النفسية؛ لأن الأمة كانت مع كل هزيمة من هذه الهزائم تملك كل مقومات النصر من إيمانٍ صادق، وثقة في الله عزوجل، واعتزاز بهذا الدين، أما اليوم فإن الأمة هزمت هزيمة نفسية نكراء في الوقت الذي فقدت فيه جلَّ مقومات النصر، ضعفت العقيدة -هذا مع حسن الظن- ضعفت الثقة في الله، ضعفت الثقة في نصر الله عزوجل، بل إن العقيدة الآن تذبح شر ذبحة على أيدي الكثيرين ممن ينتسبون إليها، كانت العقيدة بالأمس إذا مس جانبها سمعت الصديق يتوعد والفاروق يهدد ويأمر الصحابة، فيتحرك الجميع ويبذل من أجل العقيدة النفوس والمهج والأموال والأرواح، أما اليوم فإن العقيدة تذبح شر ذبحة؛ ففقدت الأمة جلَّ مقومات النصر مع هزيمة نفسية مدمرة؛ فوقعت في هذا الواقع المر الأليم الذي تحياه وهو معلوم للقاصي قبل الداني، وللصغير قبل الكبير.

أعراض الهزيمة النفسية التي أصيبت بها الأمة الإسلامية

أعراض الهزيمة النفسية التي أصيبت بها الأمة الإسلامية لا شك -أيها الإخوة- أن لهذه الهزيمة النفسية أعراضاً وأسباباً وعلاجاً، فقف معي في هذه النقاط المحددة، ما هي أهم أعراض هذه الهزيمة؟ وما هي أسبابها؟ وما هي خطوات العلاج؟

تنحية الشريعة وتحكيم القوانين الوضعية

تنحية الشريعة وتحكيم القوانين الوضعية أولاً: لا شك أن أخطر عرض من أعراض الهزيمة النفسية التي نكبت بها الأمة في هذا العصر الحديث هو تنحية الشريعة الربانية وتحكيم القوانين البشرية، أخطر عرض بلا منازع، لم يتصور أحد من أئمة السلف الذين قالوا: كفر دون كفر أن ترمى الشريعة في يوم من الأيام بالجمود، أو الرجعية، أو التخلف، أو القصور، أو عدم القدرة على مسايرة روح العصر أو المدنية العصرية الحديثة، أبداً ما شهدت الأمة رمياً للشريعة بالكلية كما تشهده الآن من تنحية الشريعة الربانية وتحكيم القوانين البشرية من صنع المهازيل من خلق الله؛ وهذا أخطر عرض للانهزام النفسي الداخلي، ما كان لمسلم أبداً أن يتصور ذلك، والله عز وجل يقول: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] فالأيام دول، ولا شك أن الدولة الآن للغرب الذي كسب الجولة الأخيرة بلا منازع، ومن عادة المغلوب أن يحاكي المنتصر في كل شيء، من عادة المهزوم نفسياً أن يقلد المنتصر الغالب في كل شيء، فذهبت الأمة المهزومة عسكرياً واقتصادياً واجتماعياً ونفسياً تقلد الغرب الذي انتصر وكسب الجولة الأخيرة؛ حتى خرج علينا من بني جلدتنا من يقول بالحرف: لقد عزمنا على أن نأخذ كل ما عند الغربيين حتى الالتهابات التي في رئتهم والنجاسات التي في أمعائهم، انهزام خطير جداً، لقد عزمنا على أن نأخذ كل ما عند الغربيين، نحن لا ننكر أن تنقل الأمة أروع ما وصل إليه الغرب في الجانب المادي ما لم يصطدم بعقيدتنا وأخلاقنا وديننا، لا ننكر ذلك ألبتة، لكن بكل أسف تركت الأمة أروع ما وصل إليه الغرب من تكنيكٍ علمي مذهل في الجانب المادي -ونحن لا ننكر ذلك على الإطلاق- وذهبت لتنقل أعفن وأقذر وأحط ما وصل إليه الغرب في الجانب العقدي والأخلاقي والروحي، كما قال الصادق الذي لا ينطق عن الهوى والحديث مخرج في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري: (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضبٍ لتبعتموهم، قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟!) ذابت الأمة في بوتقة الغرب المنتصر في هذه الجولة، والذي أصبح إلهاً يعبد لدى الكثيرين من الناس، بل ممن ينتسبون إلى الدين. ولله در القائل: قالوا لنا الغرب قلت صناعة وسياحة ومظاهراً تغرينا لكنه خاوٍ من الإيمان لا يرعى ضعيفاً أو يسرّ حزيناً الغرب مقبرة المبادئ لم يزل يرمي بسهم المغريات الدينا الغرب مقبرة العدالة كلما رفعت يدٌ أفدى لها السكينا الغرب يكفر بالسلام وإنما بسلامه الموهوم يستهوينا الغرب يحمل خنجراً ورصاصة فعلامَ يحمل قومنا الزيتونا كفر وإسلام فأنى يلتقي هذا بذلك أيها اللاهونا أنا لا ألوم الغرب في تخطيطه لكن ألوم المسلم المفتونا وألوم أمتنا التي رحلت على درب الخضوع ترافق التنينا وألوم فينا نخوة لم تنتفض إلا لتضربنا على أيدينا ظنت الأمة المسكينة أنها بتنحيتها لشريعة الملك المحكمة المطهرة التي ضمن الله بها السعادة للبشرية كلها في الدنيا والآخرة أنها ستنجح ظنت الأمة المسكينة التي استبدلت بالعبير بعراً، وبالثريا ثرى، وبالرحيق المختوم حريقاً محرقاً مدمراً، ظنت أنها بتمحيص شريعة الله المحكمة وبتحكيم القوانين الغربية الوضعية البشرية أنها قد ركبت قوارب النجاة وسط رياح هوجاء متلاطمة؛ فخابت الأمة وخسرت وغرقت وأغرقت، ولا زالت الأمة تجني ثمار الخسران والضياع والهوان مصداقاً لقول الله عزوجل: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:123 - 124]. عرض خطير وهو في نظري أخطر أعراض الهزيمة النفسية، أن تصل الأمة إلى حالة من الذل والعار والهوان والاستسلام إلى أن تنحي شريعة الرحمن جل وعلا، وأن تحكم في الأعراض والأموال والدماء والفروج القوانين الوضعية الفاجرة من وضع المهازيل من خلق الله، من العلمانيين والشيوعيين، والديمقراطيين والساقطين، والراقصين والرويبضة على ظهر أرض رب العالمين، وصدق سيد النبيين صلى الله عليه وسلم إذ يقول والحديث رواه أحمد والحاكم وصححه الألباني: (سيأتي على الناس سنوات خداعات، يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة، قيل: وما الرويبضة يا رسول الله؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة) فوالله لم يعد التافهون يتكلمون في أمر العوام بل تطاول التافهون اليوم على أمر الإسلام.

اليأس من إمكانية التغيير

اليأس من إمكانية التغيير ثانياً: العرض الثاني من أعراض الهزيمة النفسية كما نرى: اليأس من إمكانية التغيير، ترى هذا العرض قد تمكن من غالب المسلمين، أصبحت ظاهرة أن تسمع الإرجاف في كل مكان، وأن تسمع نغمة اليأس القاتلة، لا فائدة، لن يستمع إليك أحد، أنت تؤذن في خرابة، أنت تنفخ في قربة مقطوعة، لن تغير الكون. لقد أسمعت لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تنادي ولو ناراً نفخت بها أضاءت ولكن أنت تنفخ في رمادي يا شيخ! لا تتعب نفسك، لا تتكلم. وهذا إرجاف ويأس قاتل من إمكانية تغيير هذا الوضع؛ حتى أصبحت هذه الكلمات معتقداً لكثير من المهزومين نفسياً في مجتمعات المسلمين (لا فائدة) وقد شخص المصطفى صلى الله عليه وسلم هذه النفسيات المهزومة تشخيصاً دقيقاً كما في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قال الرجل: هلك الناس فهو أهلكَهم، أو فهو أهلكُهم) بالضم والفتح، والضم أشهر كما قال النووي: (فهو أهلكُهم) أي: فهو أشد الناس هلاكاً، أو (فهو أهلكَهم) أي: هو الذي حكم عليهم بالهلاك وليسوا كذلك. وقال النووي رحمه الله تعالى: (من قال ذلك على سبيل الازدراء والتحقير للناس مع إعجابه بنفسه فهذا مذموم، أما من قال ذلك لما يرى في نفسه وللمسلمين من تقصير فلا بأس بذلك" هذا تأصيل هام جداً، لا بد أن يفهم من خلاله حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا قال الرجل: هلك الناس، فهو أهلكَهم، أو فهو أهلكُهم) وترى هذه النغمة تتردد على ألسنة غالب المسلمين: أنه لا فائدة، واقبل سياسة الأمر الواقع، إسرائيل حقيقة واقعة ينبغي أن نتعامل معها على أنها أصبحت واقعاً لا مراء فيه، وينطلق المفاوض -زعموا- من هذه الهزيمة النفسية فيأخذ على أم رأسه النعال من أذل وأحقر وأنجس أمم الأرض من إخوان القردة والخنازير.

الدفاع عن الإسلام كمتهم في قفص الاتهام

الدفاع عن الإسلام كمتهم في قفص الاتهام العرض الثالث من أعراض الهزيمة النفسية: الدفاع عن الإسلام كمتهم في قفص اتهام، فالغرب يثيرون ثورات ضارية من آن إلى آخر بل في كل آن على الإسلام، ويثيرون عليه الشبهات والشكوك الكثيرة: الإسلام دين انتشر بحد السيف، الإسلام ظلم المرأة، فالزوج سجان قاهر والبيت سجن مؤبد، والأمومة تكافؤ حيواني، ولماذا تزوج الرسول بتسع؟ ولماذا يتزوج المسلم بأربع؟ ولماذا حرم الإسلام الاختلاط؟ ولماذا حرم الإسلام الخلوة؟ ولماذا فرض الإسلام الحجاب على المرأة؟ شبهات يثيرها الغرب وأعداء الإسلام من آن إلى آخر، فينبري فريق من المسلمين للرد على هذه الشبهات من منطلق: أن الإسلام فعلاً متهم في قصف اتهام، وهو في أمس الحاجة إلى أن ينصب لنفسه محامياً بارعاً ليدافع عنه، فتأتي الردود من هذا الباب هزيلة ضعيفة، لا يرد هذا الذي تولى الرد بعزة واستعلاء وبعقيدة وبثقة الإيمان كلا. ولكنه يرد من باب أن الإسلام متهم وهو في قفص اتهام، وهو يريد أن يفتح له هذا الباب فيتكلم بضعف وبخنوع، والله عز وجل يقول: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ} [الكهف:29] بمنتهى القوة والعزة والاستعلاء: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139] فتأتي الردود هزيلة لا تقوى ولا تصلح أبداً، سألتقط بعض هذه الردود لبعض الأعداء مرة أخرى ليأخذوا منها خيطاً لينسجوا على غراره أو من جنسه كلاماً أخطر وأدهى، فترى واحداً من هؤلاء يقول: لقد قال الشيخ فلان كذا وكذا، وقال الشيخ فلان كذا وكذا، ويخدع البسطاء، وأرى أنه من الجفاء أن أذكر هذا العرض الخطير ولا أذكّر بذاك المظهر المنير، فلا يحلو لي أن أسميه عرضاً ذلكم الموقف الذي يتألق عزة وثقة واستعلاء، إنه موقف ربعي بن عامر كلكم يحفظه ويعرفه، فوالله إننا في أمس الحاجة أن نستمع إليه كل لحظة، وأن نربي أبناءنا عليه، ربعي الذي دخل على رستم بمنتهى العزة والاستعلاء، وكلكم يعرف كيفية دخول ربعي، أرادوا أن يمنعوه ليدخل على قائد الجيوش الكسراوية الكبير، ليدخل عليه ربعي على قدميه، فأبى إلا أن يدخل على ظهر جواده، دعك من هذا وانظر إلى الحوار والكلمات والاستعلاء والعزة والثقة، وانظر إلى النصر المعنوي النفسي قبل كل ذلك. يقول رستم: من أنتم؟ وما الذي جاء بكم؟ فيرد ربعي: [نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، أرسلنا الله بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل منا قبلنا منه، ومن أبى وحال بيننا وبين دعوة الناس لدين الله؛ قاتلناه حتى نفضي إلى موعود الله؟]. قال رستم: وما موعود الله؟ قال ربعي: الجنة لمن مات شهيداً، والنصر لمن بقي منا على ذلك. فقال رستم: لقد سمعت مقالتكم، فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر لتنظروا فيه ولننظر فيه؟ قال ربعي: لا. قال: ولم؟ قال: لقد سن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا نؤخر الأعداء عند اللقاء أكثر من ثلاث، فانظر في أمرك وأمرهم، واختر الأعلى لنفسك واحدة من ثلاث. قال: ما هي؟ قال ربعي: إما الإسلام، وإما الجزية، وإمام القتال. فقال رستم: أسيدهم أنت؟ أنت القائد؟ قال: لا. ولكن المسلمون كالجسد الواحد يجير أدناهم على أعلاهم. انظر إلى الاستعلاء، ثقة العزة التي فقدت الآن، ترى الواحد من هؤلاء في بلاد الكفر يمثل دولة، بل إن شئت فقل: يمثل أمة يتكلم وفي مجلسه تشرب الخمور ويستحي أن يقول: هذا حرام، بل والله لست مبالغاً إن قلت: يستحي ألا يمد يده ليدٍ آثمة تمتد إليه بكأس خمر حتى لا يتهم بأنه رجعي متخلف لا يفهم عن (الإيتيكيت) أي شيء، قمة الهزيمة، يستحي المسلم أن يقول: هذا حلال وهذا حرام، هذا حق وهذا باطل، هذه سنة وهذه بدعة، والسبب أنه مهزوم.

الخوف والحياء من إظهار الهوية المسلمة

الخوف والحياء من إظهار الهوية المسلمة سبحان الله! يستحي المسلم في بلاد الغرب أن يظهر هويته، وهذا عرض رابع من أخطر الأعراض: الخوف من إظهار الهوية المسلمة، يخشى المسلم أن يظهر هويته، بل يستحي أن يلبس -مثلاً- القميص، يستحي أن يقول لأي موقف أو عن أي موقف يخالف الشريعة، هذا لا يصح عندنا، وهذا حرام في ديننا، يخشى أن يتهم بالتطرف والإرهاب والجمود والرجعية وضيق الفهم وقلة الأفق، إلى آخر هذه الدعاوى التي يغني بطلانها عن إبطالها أصلاً لدى كل مسلم يفهم شيئاً من دين الله عزوجل، سبحان الله!! أقول لإخواني: حينما نسافر مثلاً إلى بلاد الغرب لماذا لا يصر كل واحد منا أن يظهر بهويته هذه، حتى ولو وضع طاقية على رأسه ليظهر بها أنه مسلم فقط، لاحظ أننا نرى اليهودي بأعيننا هنالك في أمريكا يصر على زيه ويلبس الطاقية السوداء الصغيرة أو القبعة، أو ينزل الضفائر على وجهه التي يسمونها بضفائر موسى، فيظهر هويته باستعلاء، بل يحرص اليهود أن يسكنوا أحياء خاصة بهم، بل ويحرص اليهود على أن يعلموا أبناءهم بالمدارس الخاصة بهم، بل وفي المستشفيات الخاصة بهم، بل وتعجبت حينما علمت أن سيارة الإسعاف التي تنقل المرضى لا يمكن لغير اليهودي أن يركبها أبداً، يعتز بدينه. ولقد صدمت صدمة عظيمة، قدر الله أني كنت في أمريكا يوم أن أعلنت النتيجة بفوز نتنياهو، وصدمنا جميعاً بأول تصريح لهذا الرجل الذي يحترم نفسه وعقيدته ودولته وأمته ودينه، صرح تصريحاً خطيراً جداً، فقال: وأخيراً صوت اليهود للتوراة، أي: أعطى اليهود الصوت والأصوات للتوراة، ليس له كشخص، لا. رجل معتز بعقيدته، يحترم دينه ونفسه، يعمل من أجل هذه العقيدة، ويبذل من أجلها كل شيء، في الوقت الذي تخلى فيها أصحاب الحق عن الحق الذي من أجله خلق الله السماوات والأرض والجنة والنار. عرض آخر من أعراض الهزيمة النفسية: أن يخشى المسلم أن يظهر هويته أو يتحدث في بلادنا في بلاد المسلمين يخشى الآن كثيرٌ من الآباء أن يطلق الابن لحيته، أو أن تنتقب البنت، أو أن يذهب الولد إلى الجامعة وفي يده المصحف، أو أن يذهب إلى محاضرة للشيخ أبي إسحاق أو غيره، يخشى الوالد، لماذا؟ يقول: يا بني لا أريد أن تحضر مثل هذه الجلسات أو اللقاءات، ولا أريد لك لحية، ولا ولا، يخشى الوالد من أن يظهر الابن هويته الإسلامية، إن أظهرت الفتاة الآن هويتها أشاروا إليها بأصابع الاتهام؛ بالإرهاب، والتطرف، والأصولية، والوصولية، والفضولية، إلى آخر هذه التهم المعلبة التي تكال للملتزمين في الليل والنهار.

السلبية القاتلة في الدعوة إلى الله

السلبية القاتلة في الدعوة إلى الله عرض خامس وهو أيضاً من أكبر الأعراض للهزيمة النفسية: ألا وهو السلبية القاتلة في الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحمل هم هذا الدين بسلبية قاتلة، فجُلَّ المسلمين الآن لا همَّ لهم إلا أن يعيش لشهواته الحقيرة ونزواته الرخيصة، يبذل كل طاقة من أجل العرش والكرش والفرش، لا يحمل للدين هماً، ينظر إلى المنكر فيهز كتفيه ويمضي وكأن الأمر لا يعنيه، ينظر إلى مسلم لا يعرف شيئاً عن دين الله، يراه جاهلاً بالسنة فلا يفكر في أن يعلمه السنة بالحكمة والموعظة الحسنة والكلمة الرقراقة الرقيقة، لا يحمل للدين هماً ولا للدعوة هماً في قلبه، فراغه سلبياً، بل ربما يبرر لنفسه سلبيته ويقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105]. وقديماً خشي الصديق رضوان الله عليه هذه السلبية القاتلة على أفراد الأمة، فارتقى المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (أيها الناس! إنكم تقرءون هذه الآية وتضعونها في غير موضعها، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه أوشك الله أن يعمهم جميعاً بعقاب من عنده -وفي لفظ: إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه أوشك الله أن يعمهم جميعاً بعقاب من عنده- ثم يدعونه فلا يستجاب لهم) والحديث رواه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم، وصححه الشيخ الألباني. نحن سمعنا: ركبوا سفينة واحدة -أيها الأخيار- إن نجت السفينة نجونا جميعاً، وإن هلكت هلكنا جميعاً، ولو كان على سطحها الصالحون كما في الصحيح من حديث النعمان بن بشير: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وأصاب بعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً حتى لا نؤذي من فوقنا، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: لو تركوهم وما أرادوا لهلكوا وهلكوا جميعاً، ولو أخذوا على أيديهم لنجوا ونجوا جميعاً) فلا تكن سلبياً يا أخي، ابذل المعروف ولو بكلمة، تحرك ليرى الله منك أن قلبك يحترق على أحوال الأمة وعلى أمر هذا الدين، على حال الدعوة، تحرك بكل ما تملك، ابذل أقصى ما في طاقتك ولست مسئولاً عن النتائج: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105] {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7] المهم أن تعمل. ولم أر في عيوب الناس عيباً كنقص القادرين على التمام أكبر عيب فيك أنك تستطيع أن تؤدي شيئاً ولكنك لا تريد أن تؤديه، ابذل وتحرك، سبحان الله! لعل الله أن يهدي على يديك بكلمة واحدة رجلاً إن رأى الله وعلم منك الصدق، لعلَّ الله أن يهدي على يد زوجتك التي علمتها امرأةً، المهم أن تبذل، وألا تكن سلبياً، تحرك للدعوة وتحرك للدين، فكر! كيف أخطط لدين الله؟ كيف أعمل لدعوة الله؟ أنت تخطط في الليل والنهار لتزيد الألف ألفاً، ولتحصل على العلاوة والمكافأة، ولتنشط في التجارة والعمل، وهذا خير، لكن كما تفكر للدنيا فكر للدين: (من كانت الدنيا همه؛ جعل الله فقره بين عينيه، وشتت الله عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له، ومن كانت الآخرة همه؛ جعل الله غناه في قلبه، وجمع عليه أمره، وأتته الدنيا وهي راغمة) والحديث صححه الشيخ الألباني بمجموع الطرق، وحسنه بعض أهل العلم من أهل الحديث. فلا تنشغل على أمور الدنيا على طول الخط ولا تكن سلبياً، أريد أن أربي الأولاد، لن أغير الكون، دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله! بل هناك والله من يقول: دع ما لله لقيصر، أمرٌ عجب! يجب عليك أن تدعو إلى الله على قدر استطاعتك، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم، والحديث في صحيح البخاري من حديث عبد الله بن عمرو: (بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) بل دعا النبي صلى الله عليه وسلم لكل من حمل عنه بدقة وأمانة، فقال والحديث صحيح: (نضّر الله امرأً سمع منا حديثاً فبلغه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع) ودعا النبي صلى الله عليه وسلم لك بنضارة الوجه، بل وحملك النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأمانة الثقيلة، فقال والحديث في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه؛ وذلك أضعف الإيمان) لا عذر لك أمام الله، ولا عذر لك إن عجزت أن تغير بيدك فغير بلسانك، وإن كنت قادراً على أن تغير بيدك غير بيدك بالضوابط الشرعية المعلومة، والقول الذي يقول: التغيير باليد للحكام، وباللسان للعلماء، وبالقلب لعوام المسلمين، قول لا دليل عليه، بل يجب عليك إن كنت قادراً على أن تغير منكراً بيدك دون أن يترتب على المنكر ما هو أنكر فغير بيدك، ومن نفيس كلام ابن القيم رحمه الله تعالى في إعلام الموقعين يقول: لقد شرع النبي صلى الله عليه وسلم لأمته إيجاب إنكار المنكر ليحصل من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإن كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه فهو أمر بمنكر وسعي في معصية الله ورسوله، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يرى بـ مكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، بل لما فتح الله عليه مكة وصارت مكة دار إسلام وعزم على هدم البيت ورده على قواعد إبراهيم لم يفعل ذلك مع قدرته على فعل ذلك؛ لأن قريشاً كانت حديثة عهدٍ بكفرٍ وقريبة عهدٍ بالإسلام، هذا هو فقه الإنكار، فقه الموازنة بين المفاسد والمصالح، لا تكن متهوراً أو جباناً، فإذا استشكل عليك الأمر فعد إلى المشايخ والعلماء، ولا تتعجل. إذاً: إن عجزت أن تغير بيدك فبلسانك، سيقول العاجز: أنا أغير بلساني؟! لا أجيد الكلمة، لا أستطيع التعبير، وقد يسألني الآن طالب علم فيقول: ما صفة التغيير بالقلب؟ كيف أغير المنكر بقلبي؟ أقول: لا عذر لك أمام الله عزوجل، فيجب عليك أن تأخذ الأمر بجدية وأن تدع هذه السلبية، وأن تتحرك لتحمل هم دعوة خير البرية صلى الله عليه وآله وسلم، فإن رأيت منكراً وكنت قادراً على أن تغيره بيدك بالضوابط المعلومة للجميع غيره، وإن عجزت فبلسانك، وأذكر أنني نبهت أحبابي في هذا المسجد المبارك قبل ذلك إلى أن يفرقوا بين مقامين؛ لأن الخلط بينهما يحدث إشكالاً أو إشكالات كثيرة ألا وهما: مقام الدعوة، ومقام الجهاد، لا تخلط بين المقامين؛ مقام الدعوة -أيها الحبيب- هو اللين من حرف الألف إلى حرف الياء، من أول خطوة على طريق الدعوة إلى آخر خطوة إن كنت تدعو كافراً فضلاً عن مسلم عاصٍ، فواجب عليك أن تحقق لهذا المقام ضوابطه وشروطه التي حددها الله جل وعلا ولم يدعها لداعية من الدعاة ليحددها بنفسه، فقال سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] هذا مقام دعوة، وانظر إلى مقام القتال والجهاد: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة:73] هذا مقام قتال وجهاد، فلا تخلط بين المقامين؛ لأن هذا مقام قتال وليس مقام دعوة: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه:43] وفرعون هو الذي قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24] الذي قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] والذي قال: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ} [الزخرف:51] إلى آخره. {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44] هذا مقام الدعوة، لكن عندما يكون المقام مقام جهاد: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ} [يونس:88] فلا تخلط بين المقامين، فتحرك، فإن عجزت أن تغير بيدك غيرت بلسانك، فإن عجزت فبقلبك، وللقلب شرطان لتحقق الإنكار به: الشرط الأول: أن يرى الله عزوجل منك بغضك وكرهك لهذا المنكر. الشرط الثاني: أن تترك المكان الذي يُرتكب فيه المنكر وأنت عاجزٌ عن تغييره بيدك أو بلسانك إن استطعت، والله يا شيخ! التلفاز حرام ومنكر، ويعطونا أفلام وهو جالس طوال الليل أمام التلفاز، لماذا لا تتحرك؟ أنت تقضي الليل كله على مشاهدة هؤلاء الساقطين وتأتي لتقول: هم يعرضون علينا المنكر، غير هذا المنكر بقلبك ليرى الله منك بغضه، احتراق قلبك على هذا المنكر الأليم، على هذه السفالة، ولا تجلس لتدنس نظرك وقلبك، فإن الفتن أول ما تعرض تعرض على القلوب؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً) إلى آخر حديث حذيفة، فاحذر الفتن. تريد أن تغير المنكر بقلبك بأن تبغض هذا المنكر، وأن تدع المكان الذي يرتكب فيه المنكر؛ لأنك لست قادراً على أن تغيره أو تبدله، قال الله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام:68].

الأسباب الداخلية للهزيمة النفسية التي أصابت الأمة الإسلامية

الأسباب الداخلية للهزيمة النفسية التي أصابت الأمة الإسلامية لا أريد أن أطيل في الأعراض، فهي معلومة وكثيرة، لكن سوف ندخل مباشرة إلى أهم الأسباب، فمعرفة السبب نصف الدواء، ولذا سيسهل علينا بعد ذلك أن نحدد الدواء بإيجاز شديدٍ جداً، وبنقاطٍ لا تحتاج إلى شرح أو تفصيل. الأسباب التي أدت إلى هذه الحالة من الانهزام النفسي تنقسم إلى قسمين: أسباب خارجية، وأسباب داخلية. وأستهل الحديث بإيجاز بالأسباب الداخلية؛ لخطرها من وجهة نظري، فأنا أعتقد أن الخطر الحقيقي يكمن في الأسباب الداخلية، قال الله عزوجل: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165]. وأسباب الهزيمة النفسية الداخلية كثيرة:

ضعف الإيمان

ضعف الإيمان أهمها وأولها: ضعف الإيمان عند غالب المسلمين. فأخطر سبب داخلي للانهزام النفسي هو ضعف الإيمان عند غالب من الناس، رجل ضعيف في الإيمان، مهزوم من داخله، محال أن ينتصر على نفسه بعدما ضعف إيمانه في قلبه، فالإيمان ليس كلمة تقال باللسان فحسب، ولكن الإيمان: قول باللسان، وتصديق بالجنان، وعمل بالجوارح والأركان، وهو يزيد وينقص، ويقوى ويضعف، فاسمع إلى هذا الحديث الجميل الذي رواه أبو نعيم في الحلية والديلمي وصححه الشيخ الألباني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من القلوب قلب إلا وله سحابة كسحابة القمر، بينا القمر مضيء إذ علته سحابة فأظلم، فإذا تجلت عنه أضاء) هل تدبرت معنى هذا الحديث؟ فالقلب تعتريه من آن لآخر سحب مظلمة من أثر المعاصي والذنوب، فتضعف الإيمان في القلب، فإذا انقشعت تلك السحب بالعودة والإنابة، والعمل الصالح والاجتهاد، والاستغفار والذكر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة والنفقة والصلاة والتسبيح إلى آخره إذا انقشعت تلك السحب بهذا العمل الصالح يعود الإيمان مرة أخرى إلى قوته ويزداد، وهذا أصل من أصول أهل السنة: الإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي والزلات، فأنا أتحداك أن يكون قلبك الآن كحال قلبك وأنت أمام مسلسل أو فيلم من الأفلام الهابطة، أبداً، إيمانك الآن في زيادة، فإذا وجدت نفسك في بيئة المعصية قلَّ إيمانك في قلبك، فالإيمان يزيد وينقص. فضعف الإيمان من أخطر أسباب الهزيمة النفسية، إنسان ضعيف الإيمان، مهزوم لا يمكن أن يصمد لأي محنة أو لأي ابتلاء، ربما ترد ابنته المنتقبة العفيفة الشريفة من المدرسة للنقاب والعفة والشرف، فيعنفها ويوبخها، بل وربما يضربها، بل وربما مد يده ليسحب النقاب أو الغطاء عن وجهها، واقع نحياه ونشاهده ونسمعه، وإنا لله وإنا إليه راجعون، الأصل ضعف الإيمان في القلوب، وإذا أردت أن تقف على خطر حقيقة الإيمان، وما الذي يمكن أن يترتب على رسوخه في القلب من تغيير، إذا أردت ذلك فعد معي بسرعة إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لترى كيف حوّل الإيمان هؤلاء الرعاة للإبل والغنم إلى سادة وقادة للدول والأمم. ماذا كنت تعرف عن أبي ذر؟ ماذا كنت تعرف عن بلال وعمر وخالد وابن مسعود وصهيب الرومي؟ ما الذي رفع قدر هؤلاء؟ إيمانهم برب الأرض والسماء، إنه الإيمان الذي صنع الأعاجيب، الإيمان الذي انطلق به هؤلاء الحفاة العراة الجياع على أعظم إمبراطوريات الأرض في فارس والروم فحولوها إلى كثيب مهيل، وأقاموا للإيمان دولة، فإذا هي بناء شامخ لا يطاوله بناء في فترة لا تساوي في حساب الزمن شيئاً على الإطلاق، إنه الإيمان الذي جعل هذا الرجل البدوي يترس على حبيبه النبي صلى الله عليه وسلم ليجعل من ظهره حائط صدٍ منيع لتتحطم عليه السيوف والسهام والنبال والرماح، إنه الإيمان الذي جعل هذا البدوي العربي يحتضن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد ويدافع عنه وهو يقول: نحري دون نحرك يا رسول الله، إنه الإيمان، الإيمان يفعل الأعاجيب.

ترك الجهاد في سبيل الله

ترك الجهاد في سبيل الله ثانياً: ترك الجهاد في سبيل الله، وأنا أعلم أن الحديث عن الجهاد تهمة يؤخذ صاحبها بالنواصي والأقدام، لكنه حق فترك الجهاد في سبيل الله من أخطر أسباب الذل والهوان والضعف والعار الذي شربته الأمة ألواناً وأشكالاً، هذا قول الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، والحديث رواه أبو داود في سننه وأحمد في مسنده من حديث ابن عمر وصححه الشيخ الألباني ومن أهل العلم من حسنه ومنهم من ضعفه، من باب الأمانة العلمية أقول، ولم أقف على الراجح من أقوالهم بعد، والشيخ أبو إسحاق يصححه جزاه الله خيراً: (إذا تبايعتم بالعينة، ورضيتم بالزرع، وتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد في سبيل الله -ما النتيجة؟ - سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم) والله إنه الذل. يا إخوة: أعتقد أنه لا يوجد الآن مسلم على ظهر الأرض عنده مسحة من عقل وبصيص من نور إلا وقد علم يقيناً أن جميع المحافل الدولية كمجلس الأمن وهيئة الأمم وحلف الأطلسي إلى آخر هذه المحافل لن تعيد لهذه الأمة المكلومة جراحها ولا دماءها وأرضها ومقدساتها، لن يعيد للأمة الجراح والأرض والمقدسات والعرض والشرف إلا إذا عادت الأمة من جديد إلى ربها وسنة نبيها، ورفعت لواء ذروة سنام هذا الدين. بكل أسف! إذا تحدث الآن أحد عن الجهاد اتهم أنه يدعو للإرهاب والتطرف؛ لأن الإعلام لا بارك الله في القائمين عليه شوهوا صورة الجهاد المشرقة، ولذلك قامت قيامة الإعلام ولم تقعد لما نادى شيخ الأزهر في خبر بسيط جداً في زاوية من زوايا جريدة من الجرائد لما نادى بالجهاد في سبيل الله، وقال: إنه السبيل الوحيد الذي سنقاتل به اليهود. سبب من أسباب الذل والهزيمة ترك الجهاد، أمة اثاقلت إلى الوحل والطين، وأنا ذكرت قبل ذلك على هذا المنبر في خطبة على البوسنة حينما قلت: إننا نرى الأمة الآن قد ضنت بالدعاء فهل ستجود بالأموال والدماء؟! اسأل نفسك! هل تدعو الله عزوجل لنصرة الدين في كل سجدة؟ هل تدعو الله عزوجل لإخوانك المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها في كل سجدة؟ سل نفسك! أنا أثق أننا لو قدمنا استمارة استبيان الآن وحددنا فيها هذا السؤال لوجدنا النتيجة مؤلمة، هذا في وسط الملتزمين فما ظنك بوسط الغافلين ولا حول ولا قوة إلا بالله. يقول لي مدير مدرسة، مسؤل عن تربية نشء، يقول لي بعد مؤتمر صانعي السلام: أظن أنه الآن أيها الشيخ لا تستطيع أن تتكلم عن اليهود وعن غير اليهود، فهم أبناء عمومتنا وهم إخواننا، وينبغي أن نمد إليهم يد الصداقة، وقد قال فلان وفلان كذا وكذا. يعني: عقيدة الولاء والبراء قد مسخت الآن من القلوب، أنا أقول لك: هذا مدير في مدرسة ولاّه الله عز وجل تربية نشء، لا يعرف شيئاً عن عقيدة الولاء والبراء، ورحم الله من قال: لو صدقت الله فيما زعمته لعاديت من بالله ويحك يكفر وواليت أهل الحق سراً وجهرة ولما تعاديهم وللكفر تنصر فما كل من قد قال ما قلت مسلم ولكن بأشراط هناك ستذكر مباينة الكفار في كل موطن بذا جاءنا النص الصحيح المقرر وتصدع بالتوحيد بين ظهورهم وتدعوهم سراً لذاك وتجهر هذا هو الدين الحنيفي والهدى وملة إبراهيم لو كنت تشعر ويقول آخر: أتحب أعداء الحديث وتدعي حباً له ما ذاك بالإمكان وكذا تعادي زاهداً أحبابه أين المحبة يا أخا الشيطان إن المحبة أن توافق من تحب على محبته بلا نقصان فإن ادعيت له المحبة مع خلا فك ما يحب فأنت ذو بهتان نسخت ومسخت عقيدة الولاء والبراء، غابت مع غياب العقيدة بمفهومها الشامل الكامل. فمن أخطر الأسباب ترك الجهاد، نسأل الله أن يرفع علم الجهاد، وأن يقطع سبيل أهل الزيغ والفساد، وأن يشرفنا وإياكم بالجهاد في سبيله.

عدم معرفة المسلمين بطبيعة الطريق

عدم معرفة المسلمين بطبيعة الطريق ثالثاً: عدم معرفة غالب المسلمين بطبيعة الطريق، وهذا سبب خطير جداً -أيها الإخوة- من أسباب الهزيمة النفسية التي تصاب بها الأمة الآن. كثير من المسلمين إذا التزم أو سلك طريق الالتزام يجهل طبيعة الطريق، فإذا تعرض لمحنة قليلة ووقف عند كمين من الكمائن الأمنية: أين البطاقة؟ تعال تشرف معنا قليل فقط، نتحقق يخرج ليحلق لحيته، لماذا؟ لأنه مهزوم، هزم مع أول محنة، وهزم مع أول محك عملي على طريق الفتنة والابتلاء؛ لأنه يجهل طبيعة الطريق، يعتقد أن طريق الالتزام مفروش بالزهور والورود والرياحين، ونسي أن الطريق مفروش بالدماء والأشلاء، يعوي في جنباته الذئاب، يحمل العقيدة ويظن أنها صفقة إن ربحت فهو معها ومع أهلها، وإن خسرت يقول: ليس لنا دخل بهذه الموضوعات وهذه المواويل: (خليك في حالك وربي العيال، وابسط وفرفش وما لكش دخل) لا دخل لنا بهذا، اجلس ليلة أمام التلفاز وكل واشرب وتمتع. وقد بين الله في قرآنه طبيعة هذا الفريق، فقال سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11] اللهم سلم، سلم يا رب العالمين. مع أول احتكاك عملي على الطريق ينزلق؛ لأنه جهل طبيعة الطريق، ولا بد -يا إخوة- من هذه الابتلاءات والمحن والفتن؛ للتمحيص والتمييز، ليخرج من الصف من حمل اللواء والعقيدة وراية الدعوة ليتاجر بها، وليثبت على الصف من هو أهل بالتشريف والتكريم للسير على درب الأنبياء: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2 - 3].

عدم معرفة المسلمين بقدراتهم وإمكانياتهم

عدم معرفة المسلمين بقدراتهم وإمكانياتهم السبب الرابع بإيجاز: عدم معرفة غالب المسلمين بقدراتهم وطاقاتهم وإمكانياتهم. وهذا سبب خطير جداً قد لا يفطن إليه كثير من أحبابنا. المسلمون دائماً يقللون من قدراتهم وطاقاتهم وإمكانياتهم، مع أن الله قد حبا المسلمين طاقات هائلة جبارة، وأنتم يا إخوة قد لا تعرفون طبيعة هذه البيئة التي يعيش فيها المسلمون إلا إذا سافرتم إلى بلاد الغرب، يعني: أخفف عليكم حدة المنهجية في المحاضرة قليلاً، دعينا مرة لمؤتمر في طورنتو في كندا وبعدها عاملين فيها، يعني مشايخ، وجاء وقت الفجر وذهبنا نصلي في المركز الإسلامي بدون سيارة، قلنا: نتمشى، والله يا إخوة ما إن خطونا خطوة واحدة وتعدينا الثانية إلا كل أخ من المشايخ الذين معنا من السعودية كل واحد أمسك أنفه يظن أنها وقعت، يبحث عن أنفه هل هي موجودة أم قد وقعت، وبعدها دخلنا قلنا: ما الحكاية؟ رجل في فندق عمره خمسين سنة، ونحن نمشي بدون سيارة، ودرجة الحرارة اثنين وثلاثين تحت الصفر، سبحان الله! فسبحان الله ربنا الذي منَّ على الأمة بأرض مناخها عجيب، ثروات وكنوز بباطن الأرض، وأعظم كنز العنصر البشري بدين الله، وأعظم كنز العنصر البشري في الأمة إن اعتز بدين الله، فلا عزة للبشرية إلا بالإسلام، وتعجبني كلمة سيد قطب رحمه الله وغفر له، ومنهجنا كما اتفقنا أننا نقبل الحق على لسان أي أحد ونرد الباطل على لسان أي أحد، من كلماته الرقراقة يقول: إن الحياة البشرية من خلق الله، ولن تفتح مغاليق فطرتها إلا بمفاتيح من صنع الله، ولن تعالج أمراضها وعللها إلا بالدواء الذي يقدم لها من يد الله: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:123 - 124] وأنتم تعلمون أن في الأمة سلاح واحد فقط وهو سلاح البترول استخدمته استخداماً دقيقاً أو صحيحاً للحظات في حرب العاشر من رمضان فتغيرت كل الموازين، سبحان الله! أموال المسلمين هي التي تدير دفة السياسة في بنوك الشرق والغرب، أموالنا نحن المسلمين أموال طائلة، عقول المسلمين هي التي تخطط هنالك وتبني ممررات على جسر مذهل في بركلل في نيويورك يذهل العقول، وكانت المفاجئة أن استوقفني الإخوة بعد ما مررنا وقالوا: انتظر، وقرءوا لي اللافتة على هذا الجسر ليكاد عقلي ساعتها أن يطيش حينما أعلم أن الذي صمم ونفذ هذا الجسر مهندس مسلم من باكستان، عقولنا ضيق عليها هنا وأغلق في وجهها كل باب أو منفذ للإبداع، أو للعطاء، أو للتفكير، والابتكار، فهربت واستقبلت استقبالاً يليق بهذه العقول، وأغرقت هذه العقول بملايين الدولارات للبذل والبحث العلمي، فأعطت وأبدعت وأنتجت، فهذه بضاعتنا، والله لا نقول ذلك من باب التمسك بأذيال الماضي بل هذا واقع نحياه، لا نريد أن ندندن دائماً على أن هذه حضارتنا من بلاد الأندلس وطليطلة وقرطبة، بل هذا الواقع نحياه الآن أن العقول التي تبدع وتفكر في الغالب هي عقولنا، هي عقول أبناء هذه الأمة، فلا ينبغي أن نقلل من قدراتنا وطاقاتنا وإمكانياتنا، فأنت تستطيع أن تفعل شيئاً كبيراً وعظيماً.

النظرة الضيقة للزمان والمكان

النظرة الضيقة للزمان والمكان وأختم الأسباب الداخلية بهذا السبب ألا وهو: النظرة الضيقة للزمان والمكان. سبب خطير من أسباب الهزيمة النفسية بمعنى: ترى الشاب من أبنائنا الآن وإخواننا ينظر نظرة ضيقة جداً للمكان الذي يعيش فيه، جاءني شاب في الصيف الماضي وقال: يا شيخ! الدعوة في بلادنا ماتت، والمتبرجات كثرن، والملتزمين قلوا، وليس عندنا كتب، وتقريباً بعد خمس أو ست سنين لن يبقى عندنا ولا حافظ للقرآن، والإسلام ضاع، والدنيا ضاقت، نظرة ضيقة جداً، فيحطم اليأس قلبه، مع أنه لو نظر للمكان نظرة أوسع لعلم أن الأرض ما خلت ولن تخلو من أبناء الطائفة المنصورة التي لا يخلو منها زمان أو مكان، وليس هناك داعي للنظرة الضيقة هذه؛ حتى لا يحطم اليأس قلبك، كذلك النظرة الضيقة للزمان للتاريخ للأمة الآن ستضرب بالنعال، والأمة ذلت، والشريعة ضاعت، والإسلام ذهب، وعليه العوض، وليس هناك إسلام، نظرة ضيقة لهذا الواقع الذي نعيش فيه، فيحطم اليأس قلوبنا لما تحياه الأمة الآن من واقع مر أليم، مع أنك لو نظرت إلى التاريخ ونظرت نظرة أوسع إلى الزمان؛ لعلمت أن الأمة قد مرت بمراحل أصعب، ومع ذلك غير الله الواقع وبدل الله الحال. انظر يا أخي! ابتداء من فتنة الردة غير الله الواقع وبدل الله الحال، ثم ابتليت الأمة بالهجمات التترية الطاحنة، وظل التتار يذبحون المسلمين في بلاد العراق أربعين يوماً، وستعجب إذا قلت لك: بأن صلاة الجماعة تعطلت من مساجد الجامعة في بغداد أربعين يوماً لا يصلي في المسجد مسلمٌ واحد، أصيب المسلمون بهزيمة نفسية، وحالة من الذعر مرعبة، اقرأ التاريخ اقرأ البداية والنهاية لـ ابن كثير، اقرأ الكامل لـ ابن الأثير، اقرأ تاريخ الطبري، سترى عجباً عجاباً، يكاد عقلك أن يقف وأنت تتابع الكلمات في الصفحات، أربعين يوماً لا تصلى صلاة الجماعات خوفاً من هجمات التتار الذين يذبحون المسلمين في الليل والنهار، ومع ذلك قيض الله عزوجل للإسلام والمسلمين من هزم التتار شر هزيمة، وغير الله الحال. القرامطة المجرمون انقضوا على المسلمين في بيت الله الحرام فذبحوهم ذبح الخراف، بل واقتلعوا الحجر الأسود من الكعبة، وصرخ رئيسهم أبو طاهر القرمطي عليه من الله ما يستحقه والحجر بين يديه وهو يقول: أين الطير الأبابيل؟ أين الحجارة من سجيل؟ وظل الحجر بعيداً عن الكعبة (22 سنة) وغير الله الحال وعاد الحجر إلى بيت الله الكبير المتعال، وطاف المسلمون ببيت الله. الصليبيون أغلقوا بيت المقدس وعلقوا الصلبان على كل جدار من جدرانه، ومنع الصليبيون المسلمين من الصلاة في بيت المقدس (91 سنة) لم يصل مسلم في بيت المقدس، وغير الله الحال، وتغير الواقع، ونحن على يقين مطلق كما أننا نراكم الآن بعيوننا أن الله عز وجل سيغير الحال، وعد الله ووعد الصادق رسول الله صلى الله عليه وآله ومن والاه. إذا عرف التاريخ أوساً وخزرجاً فلله أوس قادمون وخزرج وإن كنوز الغيب تخفي طلائعاً حرة رغم المكائد تخرج

علاج الهزيمة النفسية التي أصابت الأمة

علاج الهزيمة النفسية التي أصابت الأمة العلاج لهذا المرض العضال، وأول جرعة معرفة الداء، لا ينبغي أن نرفع رءوسنا وأن نشمخ بأنوفنا لننكر أن الأمة قد هزمت، بل إن الاعتراف بالواقع وتشخيص الداء نصف الدواء. ثانياً: العودة الجادة إلى كتاب الله والسنة الصحيحة لرسول الله، وتربية أبناء الأمة على العقيدة بشمولها وكمالها. يعني: كفاية هذا العنصر لو تحول إلى واقع يكفي. فالحرب الآن -يا إخوة- حرب اعتقاد، أقول دائماً: ليس الصراع بيننا وبين اليهود صراع حدود لكنه صراع عقيدةٍ ووجود، الحرب في إسرائيل حرب عقدية، الحرب في البوسنة حرب عقدية، الحرب في الشيشان حرب عقدية، الحرب في الفلبين حرب عقدية، الحرب في طاجكستان حرب عقدية، الحرب في مورو حرب عقدية، هي العقيدة، هي الأصل، تربية أبناء الأمة على العقيدة الصحيحة بشمولها وكمالها، وإحياء روح الجهاد. يا أخي! أخرج من بيتك ولداً لله ربه على الجهاد، اغرس في نفسه وقلبه روح الجهاد، أخبره بسير المجاهدين والأبطال الفاتحين، ربِ ولدك على هذه السيرة بعزة واستعلاء، ربه على التخلص من الوهن الذي حذر منه الأمة النبي صلى الله عليه وسلم. وأخيراً: الثقة في الله عزوجل، وفي أن الله ناصر دينه، مهما علا الباطل وانتفخ وكأنه غالب وانزوى الحق وضعف كأنه مغلوب فإن الجولة في النهاية للحق، وعد الله عزوجل، قال تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173] وقال تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء:81]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36]، وقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} [النور:55] وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33] وقال تعالى: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]. ولا أريد أن أطيل بذكر بعض الأحاديث، ففي هذا كفاية، والله أسأل أن يجعلنا وإياكم جميعاً ممن يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ، أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ. وسامحوني على هذه الإطالة الطويلة، وأرى أني لست أهلاً للإجابة بين يدي الشيخ فأدع الإجابة له إن شاء الله تعالى إن رغب الآن وإلا ففي محاضرة له مقبلة، وجزاكم الله خيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام

وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام تحدث الشيخ -حفظه الله- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين التكريم والموت، فذكر الآيات التي فيها تزكية للنبي صلى الله عليه وسلم، فهو صاحب المقام المحمود، وصاحب اللواء المعقود، وصاحب الحوض المورود عليه الصلاة والسلام. كما تحدث الشيخ عن وفاته عليه الصلاة والسلام وكيف بدأ به المرض، وكيف اشتد عليه قبل موته حتى أنه كان يغشى عليه صلى الله عليه وسلم.

تزكية الله لنبيه صلى الله عليه وسلم

تزكية الله لنبيه صلى الله عليه وسلم إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد: فيا أيها الأحبة في الله: أود أن أذكركم قبل أن تستمعوا إلى هذا الشريط بأني قد ألقيت هذه الخطبة المباركة منذ خمس سنوات تقريباً في مدينة السويس العامرة، وقد وقع بها بعض الأخطاء في الحديث الشريف من حيث الصحة متناً وسنداً، ولكثرة تداول هذا الشريط كان لزاماً عليَّ بعد أن منَّ الله عز وجل علينا بدراسة علم مصطلح الحديث، وأقوال أئمة الجرح والتعديل جزاهم الله عن الحديث وأهله خيراً، كان لزاماً أن نعيد هذه الخطبة المباركة في وفاة المصطفى صلى الله عليه وسلم التي كانت بعنوان: رسول الله ما بين التكريم والموت صلى الله عليه وسلم، مع عزو كل حديث في هذا الشريط إن شاء الله جل وعلا من مصدره؛ من كتب الحديث مع بيان درجة صحته. وأسأل الله عز وجل أن يغفر لنا ما قد سلف، وأن يجنبنا وإياكم الزيغ والزلل، وأن يتقبل منا وإياكم صالح الأعمال، وما كان من توفيق فمن الله، وما كان من خطأ أو نسيان فمني ومن الشيطان والله ورسوله منه براء، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي أذل بالموت رقاب الجبابرة، وأنهى بالموت آمال القياصرة، فنقلهم بعظمة الموت من القصور إلى القبور، ومن ضياء المهود إلى ظلمة اللحود، ومن ملاعبة الجواري والغلمان إلى مقاساة الهوام والديدان، ومن التنعم في الطعام والشراب إلى التمرغ في الوحل والتراب، سبحانه!! اللهم إنا نبرأ من الثقة إلا بك، ونبرأ من الأمل إلا فيك، ونبرأ من التسليم إلا لك، ونبرأ من التفويض إلا إليك، ونبرأ من التوكل إلا عليك، ونبرأ من الصبر إلا على بابك، ونبرأ من الذل إلا في طاعتك، ونبرأ من الرجاء إلا لما في يديك الكريمتين، ونبرأ من الرهبة إلا لجلالك العظيم. اللهم تتابع برك، واتصل خيرك، وكمل عطاؤك، وعمت فواضلك، وتمت نوافلك، وبر قسمك، وصدق وعدك، وحق على أعدائك وعيدك ووعدك، ولم تبق حاجة لنا إلا قضيتها ويسرتها يا أرحم الراحمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الواحد الذي لا ضد له، وهو الصمد الذي لا منازع له، وهو الغني الذي لا حاجة له، وهو القوي الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو جبار السموات والأرض، لا راد لحكمه ولا معقب لقضائه وأمره، هو الأول فلا شيء قبله، وهو الآخر فلا شيء بعده، وهو الظاهر فلا شيء فوقه، وهو الباطن فلا شيء دونه وهو على كل شيء قدير، صاحب الملك والملكوت، صاحب العزة والجبروت، الذي كتب الفناء على جميع خلقه وهو الحي الباقي الذي لا يموت. وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، أدى الرسالة، وبلغ الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وعبد ربه حتى لبى داعيه، وجاهد في سبيله حتى أجاب مناديه، وعاش طوال أيامه ولياليه يمشي على شوك الأسى، ويخطو على جمر الكيد والعنت، يلتمس الطريق لهداية الضالين وإرشاد الحائرين، حتى علَّم الجاهل، وقوَّم المعوج، وأمَّن الخائف، وطمأن القلق، ونشر أضواء الحق والخير والإيمان والتوحيد كما تنشر الشمس ضياءها في رابعة النهار. فاللهم اجزه عنا خير ما جازيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته. وصلِّ اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام: تلبيةً لرغبة أحبابنا وإخواننا في الله جل وعلا؛ فأنتم اليوم في موعدٍ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين التكريم والموت، وما أحلى أن يكون اللقاء مع رسول الله، وما أجمل أن يكون الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهو إمام الأنبياء، وإمام الأصفياء، وإمام الأتقياء، وخاتم الأنبياء، وسيد المرسلين، وقائد الغر الميامين، وقائد الغر المحجلين، وصاحب الشفاعة العظمى يوم الدين. هو صاحب المقام المحمود، وصاحب اللواء المعقود، وصاحب الحوض المورود، وصاحب الشفاعة العظمى يوم الدين، شرح الله له صدره، ورفع الله له ذكره، ووضع الله عنه وزره، وزكاه ربه في كل شيء؛ زكاه في عقله فقال: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم:2] وزكاه في صدقه فقال: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3] وزكاه في علمه فقال: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:5] وزكاه في فؤاده فقال: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11] وزكاه في بصره فقال: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17] وزكاه في صدره فقال: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1] وزكاه في ذكره فقال: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:4]، وزكاه كله فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيم} [القلم:4]. فهو إمام الأنبياء، هو حبيب الله، وهو خليل الله، وهو أكرم الخلق على الله جل وعلا، فما أحلى أن يكون اللقاء معه، وما أجمل أن يكون الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فوالله الذي لا إله غيره ما خلق الله من خلقه رجلاً أحب إليه من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما من نبي بعثه الله -أيها المسلمون- إلا وقد أخذ الله عليه العهد والميثاق أن يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم إذا بعث في وجود هذا النبي كما قال ربنا جل وعلا: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:81]. وإذا بعث الله محمداً في وجود هذا النبي وجب على هذا النبي أن يذهب إلى رسول الله وأن يؤمن به وأن ينصره: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:81]. وفي الحديث الذي رواه الإمام مسلم والإمام الترمذي وأحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فضلت على الأنبياء بستٍ: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب -وفي رواية البخاري: ونصرت بالرعب مسيرة شهر- وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً، وأرسلت إلى الناس كافة، وختم بي النبيون) صلى الله عليه وسلم. وفي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى بنياناً فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له، ويقولون: هلاّ وضعت هذه اللبنة). أي: لو وضعت هذه اللبنة لتم لهذا البنيان كماله وجماله وجلاله، يقول صلى الله عليه وسلم: (فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين).

شفاعته لأهل المحشر عليه الصلاة والسلام

شفاعته لأهل المحشر عليه الصلاة والسلام وفي الحديث الذي رواه الإمام مسلم، والإمام أبو داود، والإمام أحمد من حديث أبي هريرة -أيضاً- رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأنا أول من ينشق عنه القبر، وأنا أول شافع ومشفع يوم القيامة). ففي يومٍ يا عباد الله! يزداد همه وكربه على جميع الناس حتى على أنبياء الله ورسله جل وعلا (تدنو الشمس من الرءوس فتغلي رءوس لحرارتها -والعياذ بالله- ويؤتى بجهنم لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها). كما ورد في الحديث الذي رواه الإمام مسلم من حديث عبد الله بن مسعود. فإذا ما رأت جهنم الخلائق زفرت وزمجرت غضباً منها لغضب الله جل وعلا، فحين يراها الخلائق بهذه الكيفية وهذا الحال لا يقوى مخلوق على أن يقف على قدميه فيخر كل مخلوق جاثياً على ركبه: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} [الجاثية:28] في هذا اليوم العصيب الرهيب يزداد الهم والكرب على خلق الله، وعلى عباد الله، فيقول بعض الناس لبعض -كما في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم وأحمد وهذا لفظ أحمد من حديث أبي هريرة - يقول بعض الناس لبعض: (ألا ترون ما نحن فيه، ألا ترون ما قد بلغنا، ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيأتون آدم عليه السلام، فيقولون: يا آدم! أنت أبو البشر، خلقك الله بيديه، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، ألا ترى ما نحن فيه، ألا ترى ما قد بلغنا؟ اشفع لنا إلى ربك، فيقول آدم عليه السلام: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قد عصيت الله عز وجل وطردت من الجنة بمعصيتي، نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح. فيأتون نوحاً عليه السلام ويقولون: يا نوح! أنت أول رسل الله إلى الأرض، وسماك الله عبداً شكوراً، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه، ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول نوح عليه السلام: إن ربي قد غضب غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه كان لي دعوة فدعوت بها على قومي، نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى إبراهيم الخليل. فيأتون إبراهيم عليه السلام، فيقولون: يا إبراهيم! أنت خليل الله، وأنت رسول الله، ألا ترى ما نحن فيه، ألا ترى ما قد بلغنا؟ اشفع لنا إلى ربك، فيقول إبراهيم عليه السلام: إن ربي قد غضب غضباً لم يغضب قبله مثله ولم يغضب بعده مثله، ثم يذكر كذباته الثلاث -التي شرحناها في اللقاء الماضي كما صح بها الحديث في البخاري ومسلم - ثم يذكر كذباته الثلاث ويقول: نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى. فيأتون موسى عليه السلام ويقولون: يا موسى! أنت رسول الله، اصطفاك الله على الناس برسالاته وبكلامه، ألا ترى ما نحن فيه، ألا ترى ما قد بلغنا؟ اشفع لنا إلى ربك، فيقول موسى عليه السلام: إن ربي قد غضب غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قد قتلت نفساً لم أؤمر بقتلها، نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى عيسى. فيأتون عيسى عليه السلام ويقولون: يا عيسى! أنت روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، ألا ترى ما نحن فيه، ألا ترى ما قد بلغنا؟ اشفع لنا إلى ربك، فيقول عيسى عليه السلام: نفسي نفسي نفسي -ولم يذكر عيسى شيئاً- اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم). يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: (فيأتوني في أرض المحشر، فيأتوني يوم أن قال كل رسول: نفسي، ويوم أن قال كل نبي: نفسي، -يقول صلى الله عليه وسلم-: فيأتوني ويقولون: يا رسول الله! أنت خاتم الأنبياء، وأنت رسول الله، خلقك الله عز وجل وفضلك على جميع الأنبياء، فغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، ألا ترى ما نحن فيه يا رسول الله! ألا ترى ما قد بلغنا؟ اشفع لنا إلى ربك). يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: (فأقوم وأقول: نعم، أنا لها أنا لها، فآتي تحت عرش الرحمن وأخر ساجداً لله جل وعلا، فيفتح الله عليَّ بمحامد ويلهمني من الثناء ما لم يفتح به على أحد قبلي، فينادي عليه الحق جل وعلا ويقول: يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفع، فيقول الحبيب: يا رب! وعدتني الشفاعة، فشفعني في خلقك، فيقول الله تعالى: قد شفعتك يا محمد، ارجع فإني آتيكم لأقضي بينكم). وصدق الله جل وعلا إذ يقول: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]. (يا ربي لقد وعدتني الشفاعة فشفعني في خلقك) وهذه هي أعظم شفاعات المصطفى صلى الله عليه وسلم، فيشفع الحبيب لجميع الخلق في أرض المحشر ليقضي الله جل وعلا بين خلقه وعباده، فهو حبيب الله، وهو خليل الله، وهو أكرم الخلق على الله جل وعلا.

بداية مرضه عليه الصلاة والسلام

بداية مرضه عليه الصلاة والسلام ظل الحبيب مكرماً إلى أن نزل عليه -يا عباد الله! وأصغوا السمع والقلب- إلى أن نزل عليه قول الله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:1 - 3]. أخرج الإمام الطبراني من حديث جابر بن عبد الله أنه قال: (لما نزلت هذه السورة على المصطفى صلى الله عليه وسلم قال لجبريل عليه السلام: يا جبريل! أرى أنه قد نعيت إليَّ نفسي بهذه السورة يا جبريل، فقال جبريل: يا رسول الله! والآخرة خير لك من الأولى). نعم أيها الأحباب: وفي أول شهر ربيع الأول في السنة الحادية عشرة لهجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم بدأ النبي صلى الله عليه وسلم يشتكي بألم شديد وصداع شديد في رأسه، وكان أول ما ابتدأ به من شكوى أنه ذهب إلى بقيع الغرقد كما ورد في الحديث الذي رواه ابن إسحاق وابن سعد في الطبقات، وابن جرير وابن كثير والإمام أحمد وأبو داود وغيرهم من حديث أبي مويهبة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال أبو مويهبة: (بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل وقال: يا أبا مويهبة! لقد أمرت أن أستغفر لأهل هذا البقيع، فانطلق معي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما وقف بين أظهرهم سلم على أهل البقيع فقال: السلام عليكم يا أهل المقابر! هنيئاً لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها وآخرها أشر من أولها، ثم التفت إليَّ وقال: يا أبا مويهبة! لقد أعطيت -أو أوتيت- مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة، فقال أبو مويهبة: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! فخذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، فقال الرسول: لا والله يا أبا مويهبة! لقد اخترت لقاء ربي والجنة، يقول: ثم استغفر لأهل البقيع، وعاد إلى بيت عائشة رضي الله عنها فوجدها تقول: وارأساه، رأسي يا رسول الله! أحس بألمٍ شديدٍ في رأسي، فأمسك النبي صلى الله عليه وسلم رأسه الشريف وقال: بل أنا والله يا عائشة وارأساه، أحس بألمٍ شديد في رأسي يا عائشة، فنسيت عائشة ألمها رضي الله عنها وقامت لترقي المصطفى صلى الله عليه وسلم). ورد في صحيح البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى نفث على نفسه بالمعوذات، فمسح بها على جسده، فلما اشتكى في مرضه الذي توفي فيه طفقت أنفث على نفسه بالمعوذات وأمسح بيده الشريفة على جسده). وفي رواية مالك: (رجاء بركة يد رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وفي رواية مسلم: (لأن يده أعظم بركة من يدي). ومسحت جسد الحبيب بيد الحبيب صلى الله عليه وسلم وهي تقرأ عليه المعوذات.

اشتداد الألم والوجع برسول الله صلى الله عليه وسلم

اشتداد الألم والوجع برسول الله صلى الله عليه وسلم واشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم الألم والوجع، فقام النبي صلى الله عليه وسلم ليطوف على نسائه، فاشتد به الألم في بيت ميمونة رضي الله عنها فاستدعى نساءه واستأذنهن أن يمرض في بيت عائشة -وكانت أحب أزواجه إليه- فأذن له في ذلك رضي الله عنهن جميعاً، وعاد الحبيب إلى بيت عائشة وهو يتكئ على العباس وعلى علي من شدة الألم والوجع. ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت عائشة رضي الله عنها وقد اشتد به الألم والوجع، وفزع الصحابة، وقلق الناس قلقاً بالغاً، وخاف الناس خوفاً شديداً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك قال: هريقوا عليَّ من سبع قرب من الماء كما ورد في حديث البخاري من حديث عائشة: هريقوا عليَّ من سبع قرب من الماء، تقول عائشة: فأجلسناه في مخضب -أي: في طست أو إناء - لـ حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وأخذنا وطفقنا نصب عليه الماء حتى قال بيده: قد فعلتن، قد فعلتن. وفي رواية ابن إسحاق: ظل يقول لهن صلى الله عليه وسلم: حسبكن حسبكن -أي: كفى- فأحس الحبيب صلى الله عليه وسلم بنشاط، فعصب رأسه عليه الصلاة والسلام وخرج إلى الصحابة رضي الله عنهم وقد فزعوا فزعاً شديداً، وقلقوا قلقلاً شديداً، وحزنوا على مرض رسول الله، وخافوا على فراقه صلى الله عليه وسلم، فخرج إليهم وصعد النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر، والتف الصحابة برسول الله صلى الله عليه وسلم، فخطب فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال بعدما حمد الله عز وجل وأثنى عليه، وصلى على نفسه صلى الله عليه وسلم، واستغفر لأهل أحد، وصلى عليهم، وأكثر عليهم الصلاة، وأكثر لهم الدعاء، ثم قال: أيها الناس! إني بين أيديكم فرط، وأنا عليكم شهيد، وإن موعدكم الحوض، وإني لأنظر إليه من مقامي هذا، أيها الناس! إني لا أخشى أن تشركوا بعدي ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها كما تنافس فيها من كان قبلكم فتهلككم كما أهلكتهم. ثم قال: أيها الناس! إن عبداً من عباد الله خيره الله بين الدنيا وبين ما عند الله فاختار ما عند الله، فبكى الصديق رضي الله عنه وارتفع صوته بالبكاء، وعلم أن العبد المخير هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع يديه إلى رسول الله وقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! فديناك بآبائنا، فديناك بأمهاتنا، فديناك بأموالنا، فديناك بأنفسنا يا رسول الله! فضج الصحابة وقاموا على أبي بكر رضي الله عنه، وقالوا: عجباً لهذا الشيخ! الرسول صلى الله عليه وسلم يتكلم عن عبدٍ خير بين الدنيا والآخرة فاختار ما عند الله عز وجل، فلماذا يبكي هذا الشيخ؟! ولكن الصديق كان أعلم الصحابة برسول الله، وعلم أن العبد المخير هو المصطفى صلى الله عليه وسلم فبكى، فقام الناس على أبي بكر رضي الله عنه، فقال الحبيب: على رسلك يا أبا بكر أيها الناس: إن أمنَّ الناس عليَّ بصحبته وماله أبو بكر، كلكم كان له عندنا يد كافأناه بها إلا الصديق فإنا تركنا مكافأته لله عز وجل، ولو كنت متخذاً من العباد خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخوة وصحبة. أيها الناس: انظروا إلى هذه الأبواب التي تنفذ إلى المسجد سدوها من اليوم إلا باب أبي بكر رضي الله عنه. وكما جاء في بعض الروايات رواها البزار وغيره: ثم نظر إليهم صلى الله عليه وسلم وبكى، فبكى الصحابة رضي الله عنهم وقال لهم: حياكم الله، آواكم الله، نصركم الله، رزقكم الله، أيدكم الله، إني أحذركم الله، إني لكم نذير مبين، ثم قال صلى الله عليه وسلم: أقرئوا مني السلام من تبعني إلى ديني من يومي هذا إلى يوم القيامة -وعليك السلام يا رسول الله- فبكى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وعاد الرسول وهو يتكئ على العباس وعلى علي رضي الله عنهما فدخل بيت عائشة رضي الله عنها. واشتد به الوجع، واشتد به الألم، وزاد به المرض، وزادت عليه الحمى صلى الله عليه وسلم، تقول عائشة رضي الله عنها: دخل عليه عبد الله بن مسعود -كما ورد في صحيح البخاري - فوجد الحمى تشددت برسول الله، فقال: يا رسول الله! إني أراك توعك وعكاً شديداً، فقال الرسول: أجل يا عبد الله! إني لأوعك كما يوعك الرجلان منكم، قال عبد الله: ذلك وأن لك لأجرين يا رسول الله! قال: نعم. يا عبد الله، فما من مسلم يصيبه أذى حتى الشوكة يشاكها إلا حط الله بها من خطاياه كما تحط الشجرة ورقها. تقول عائشة رضي الله عنها: وأنا مسندة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صدري -كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري - تقول: جمع الله بين ريقي وريقه عند الموت، ولقد جلست وأسندت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صدري، فدخل عليَّ عبد الرحمن بن أبي بكر بيده سواك، فرأيت رسول الله ينظر إلى السواك، فعرفت أنه يحب السواك، فقلت: يا رسول الله! آخذ لك السواك، فأشار برأسه أن نعم، فأخذت السواك فقضمته ثم لينته، ثم طيبته ثم دفعته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستاك به جيداً كأشد ما يستاك قبل ذلك، فأخذت منه السواك واستكت به، فجمع الله بين ريقي وريقه في آخر يوم من أيام الدنيا وأول يوم من أيام الآخرة، فكان هذا هو آخر عهدي بريق المصطفى صلى الله عليه وسلم. واشتد الألم ودخلت فاطمة الزهراء رضي الله عنها وأرضاها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الرسول يحبها حباً شديداً، فكانت أشبه الناس به، وكانت أحب الناس إليه؛ لأنها هي التي أصابها الله جل وعلا بموته، أما جميع أخواتها متن قبل موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت إذا ما دخلت عليه في حال صحته قام إليها وقبلها بين عينيها، وأجلسها في مجلسه، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستطيع القيام، فلما دخلت عليه ووجدته يعاني الألم والمرض أكبت عليه تقبله وهي تبكي، وهي تقول: واكرب أبتاه! واكرب أبتاه! والرسول يقول لها: لا كرب على أبيك بعد اليوم يا فاطمة، لا كرب على أبيك بعد اليوم يا فاطمة، فسارها النبي صلى الله عليه وسلم -أي: التقم أذنها وأعطى لها سراً- فبكت فاطمة رضي الله عنها وانطلقت، فنادى عليها فعادت إليه، فقال لها سراً آخر فضحكت، فلما سئلت عن ذلك؟ قالت: أخبرني أنه سيموت في وجعه هذا، فبكيت، ولما عدت إليه أخبرني أني أول أهل بيته لحوقاً به فضحكت واستبشرت لذلك. وفي رواية أخرى قال لها: يا فاطمة! إن جبريل كان يعاودني القرآن في كل عام مرة، وأراه قد عاودني القرآن في هذا العام مرتين، وما أراه إلا قد اقترب أجلي يا فاطمة، فبكت فاطمة رضي الله عنها، فقال لها الحبيب صلى الله عليه وسلم: يا فاطمة! إني أعلم أنك أشد نساء المسلمين مصاباً بي بعد موتي، فلا تكوني أقل امرأة منهن صبراً، فاصبري يا ابنتي واحتسبي أجرك عند الله، فخرجت فاطمة تبكي وهي تقول: احتسبتك عند الله يا رسول الله! احتسبتك عند الله يا رسول الله! احتسبتك عند الله يا رسول الله! وخرجت فاطمة تبكي رضي الله عنها.

وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام

وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام تقول عائشة رضي الله عنها: وفي يوم الإثنين الذي توفي فيه الحبيب صلى الله عليه وسلم خرج والمسلمون يصلون صلاة الفجر -على الصحيح- فكشف الستر ووقف على باب عائشة رضي الله عنها، فلما رأى الصحابة رسول الله خرج إليهم ووقف على الباب كادوا أن يفتنوا في الصلاة، وفرحوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فعلم الصديق أنهم ما فعلوا ذلك إلا لرؤيتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم الصديق أن ينصرف إلى الخلف ليخلي مكان الحبيب صلى الله عليه وسلم فلقد أمره الرسول أن يصلي بالمسلمين في مدة مرضه صلى الله عليه وسلم، وهم الصديق أن يتأخر، فأشار إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن اثبتوا، وابتسم الحبيب صلى الله عليه وسلم لما رأى من حسن هيئتهم في الصلاة، وأرخى الستر، وكأن الرسول أراد أن يلقي على أصحابه نظرة الوداع، وكانت آخر نظرة نظرها إلى أصحابه صلى الله عليه وسلم. أرخى الستر ودخل إلى بيت عائشة ولا يدري أحد أن اللحظات الأخيرة من عمر الحبيب صلى الله عليه وسلم بدأت تتلاشى وتنتهي، عاد الحبيب وإذ بملك الموت ببيت الحبيب، انتهى الأجل يا رسول الله! انتهى الأجل يا حبيب الله، ملك الموت الآن في بيت المصطفى صلى الله عليه وسلم، ورسول الله في حجر عائشة بين سحرها ونحرها -رأسه على صدرها صلى الله عليه وسلم- وملك الموت في الدار، واقترب الأجل وانتهت اللحظات الأخيرة من أشرف عمرٍ من عمر الحبيب صلى الله عليه وسلم. نعم. أقبل يا ملك الموت انتهى الأجل كما حدده الله، أقبل يا ملك الموت، ويقبل ملك الموت ليعالج أطهر روح على ظهر الأرض، ليقبض أشرف روح، لينادي على روح المصطفى: يا أيتها الروح الطيبة! أخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، وربٍ راضٍ عنك غير غضبان، أخرجي يا روح محمد بن عبد الله أطهر روح وأشرف روح {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30]. وتخرج روح الحبيب، تقول عائشة رضي الله عنها: مات رسول الله بين سحري ونحري، فرأيته رفع إصبعه إلى السماء وهو يقول: بل الرفيق الأعلى بل الرفيق الأعلى بل الرفيق الأعلى. فعلمت أنه يخير؛ لأنه أخبر بذلك صلى الله عليه وسلم. وهكذا أيها الأحباب! خرجت روح الحبيب إلى خالقها، إلى {مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:55] إلى جنة الله جل وعلا، إلى النعيم الأبدي المقيم، إلى دار الخلد، مات رسول الله، مات حبيب الله، مات إمام الأنبياء، مات إمام الأصفياء، مات إمام الأتقياء، مات سيد العالمين، مات سيد المرسلين. فسقطت يده عليه الصلاة والسلام فعلمت أنه مات، فخرجت تبكي وتصرخ، فقابلها عمر فعلم أن الأمر قد وقع، وعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات، ولكنه لا يصدق؛ لا يصدق عقله، ولا يصدق هذه الحقيقة أبداً، فخرج ورفع سيفه في وسط الناس، في وسط هذه الجموع الملتهبة، في وسط هذه الجموع التي تصرخ وتبكي، وقال: [والله إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله قد مات، فوالله ما مات رسول الله، لقد ذهب إلى لقاء ربه كما ذهب موسى بن عمران إلى لقاء الله، وغاب عن قومه أربعين يوماً وعاد مرة ثانية، ورسول الله ما مات وسيعود، وليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أنه قد مات]. وعمر بن الخطاب يصيح ويصرخ، وسمع علي بن أبي طالب الخبر فشلت قدماه، وقعد على الأرض ولم يستطع القيام، وسمع عثمان بن عفان الخبر فخرس لسانه، وكان يذهب به ويؤتى به وهو لا يتكلم ولا ينطق، وأذهل العالمون - أذهل الناس جميعاً- وأذهل أصحاب الحبيب صلى الله عليه وسلم. وأيد الله المنصور أبا بكر رضي الله عنه عاد من منزله بالسنح، وكان في يوم الإثنين قد استأذن رسول الله لما رآه قد طل عليهم من وراء الستر استأذنه أن يذهب إلى بيته بالسنح إلى زوجه هناك، فأذن له الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما سمع الخبر عاد إلى بيت الحبيب -إلى بيت عائشة - وعمر بن الخطاب يصرخ في هذه الجموع، وعثمان بن عفان لا ينطق ولا يتكلم، وعلي جالس في الأرض لا يقوى على القيام، فلم يلتفت الصديق إلى شيء ودخل على جثمان الحبيب صلى الله عليه وسلم، اليوم تدخل على جثمان الحبيب يا أبا بكر، وقد كنت في الأمس القريب تدخل على سيد الخلق وحبيب الخلق، وأنت اليوم تدخل على جثمان مسجى يا أبا بكر. فدخل الصديق إلى جثمان الحبيب صلى الله عليه وسلم وكشف الغطاء عن وجهه، وجلس على ركبتيه أمام الحبيب فقبله بين عينيه وهو يبكى رضي الله عنه وقال: طبت حياً وميتاً يا رسول الله! أما الموتة التي قد كتبها الله عليك فقد ذقتها فلا ألم عليك بعد اليوم يا رسول الله! ثم بكى الصديق رضي الله عنه وقال: يا حبيبي! لقد انقطع لموتك ما لم ينقطع لموت أحد من الأنبياء، جللت يا حبيبي عن البكاء، واصفياه! واخليلاه! وانبياه! وخرج الصديق رضي الله عنه الذي أيده الله بمدد من عنده، وثبته الله عز وجل، خرج وعمر بن الخطاب يصرخ فقال على رسلك يا عمر! أمسك يا عمر! أمسكوا أيها الناس! وعمر يأبى إلا أن يتكلم، يصرخ في الناس، ويقول: [من قال بأن محمداً قد مات لأعلونه بسيفي هذا]. فلما رأى الناس الصديق رضي الله عنه يريد أن يتحدث انصرف الناس عن عمر، وأقبلوا على أبي بكر رضي الله عنه، فوقف الصديق رضي الله عنه ليعلن الحقيقة الكبرى في هذا الوجود كله: [أيها الناس! أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌ لا يموت، ثم تلا قول الله جل وعلا: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144]]. يقول أبو هريرة: [فأخذها الناس من أبي بكر وكأنهم لم يسمعوها قبل اليوم، وكأنهم لم يعلموا أنها أنزلت، فانطلق الناس جميعاً وهم يرددون هذه الآية، كلٌ مشى وهو يتلو قول الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144]]. يقول عمر بن الخطاب: [فلما سمعتها، وعلمت أن رسول الله قد مات عقرت -وقعت على الأرض- ولم تستطع قدماي أن تحملاني، وعلمت أن رسول الله قد مات]. وكفن الحبيب صلى الله عليه وسلم في ثيابه، وقد اختلفوا هل نجرده من ثوبه، أم نغسله في ثوبه؟ فسمعوا منادياً -كما ذكرت جميع كتب السير- سمعوا منادياً ينادي: أن غسلوا رسول الله في ثوبه، لا تجردوا رسول الله أبداً، فغسلوا الحبيب صلى الله عليه وسلم في ثوبه، وكانوا يصبون عليه الماء وعلي رضي الله عنه يغسله صلى الله عليه وسلم من على الثوب لا تمس يده جسد الحبيب صلى الله عليه وسلم. وغسل الحبيب، وكفن الحبيب، ودفن الحبيب في غرفته التي مات فيها في حجرة عائشة رضي الله عنها، ويا له من شرفٍ لـ عائشة رضي الله عنها أن يدفن الحبيب في غرفتها وفي حجرتها وفي بيتها، ودفن الحبيب، وصلت عليه الملائكة وصلى عليه الصحابة وأهل بيته الأقرب فالأقرب، ولما صلي عليه ودفن وسمعت أصوات المساحين في الليل وهي تهيل التراب على جسد الحبيب صلى الله عليه وسلم صرخ نساء النبي، وضجت المدينة بالبكاء، وضجت فاطمة رضي الله عنها وبكت وهي تقول: [وا أبتاه! يا أبتاه! يا أبتاه أجاب رباً دعاه! وا أبتاه إلى جبريل ننعاه! وا أبتاه في جنة الفردوس مأواه، فنظرت فوجدت أنس بن مالك رضي الله عنه، فنظرت إلى أنس وهي تبكي وتقول: يا أنس! أطابت أنفسكم أن تحثوا التراب على رسول الله؟!]. وحان وقت أول صلاة فأذن بلال رضي الله عنه، فلما جاء عند قوله: أشهد أن محمداً رسول الله بكى بلال رضي الله عنه ولم يستطع أن يكمل الأذان فبكى الناس، وضجت المدينة بالبكاء. وهكذا أيها الأحباب! مات الحبيب صلى الله عليه وسلم. والله يا رسول الله! إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، وإنا لفراقك يا رسول الله لمحزنون، وصدق الله عز وجل إذ يقول: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185]. اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، واجزه عنا خير ما جازيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته. وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.

كل نفس ذائقة الموت

كل نفس ذائقة الموت الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وصحبه وسلم. أيها الأحبة في الله: هكذا مات الرسول صلى الله عليه وسلم، والله تعالى يقول: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:34 - 35]. أفإن مت يا محمد فأي مخلوق أن يخلد بعدك؟! لا والله، إنها الحقيقة الكبرى في هذا الوجود. يا عباد الله: إنها الحقيقة التي يسقط عندها جبروت المتجبرين، وعناد الملحدين, وبغيان البغاة المتألهين، إنها الحقيقة التي تسربل بها طوعاً أو كرهاً العصاة والطائعون، بل والأنبياء والمرسلون، إنها الحقيقة التي تعلن على مدى الزمان والمكان في أذن كل سامع، وعقل كل مفكر أنه لا بقاء إلا للحي الذي لا يموت، لو شاء الله جل وعلا أن يجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فوق مستوى الموت وآلام الموت لفعل، ولكنه بشر يموت كما يموت سائر البشر: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء:34]. فيا أيها المسلمون: اعتبروا بموت رسول الله، واذكروا مصابكم في رسول الله صلى الله عليه وسلم، واعلموا أن حب الرسول ليس مجرد دمعات تسكب على الوجنتين لا والله، ولكن حب الحبيب صلى الله عليه وسلم اقتفاء لأثره، واهتداء بهديه، والتزام بسنته، وأن نطيعه صلى الله عليه وسلم في كل ما أمر، وأن ننتهي عن كل ما نهى عنه النبي وزجر؛ هذه هي محبتنا لرسول الله. أما أن نقول إننا نحب الرسول صلى الله عليه وسلم ونكتفي بأن ننتج له القصائد والأشعار على منوال حب عنتر لـ عبلة، أو قيس لـ ليلى -والعياذ بالله- ونتوقف عند كلمات العشق والغرام في رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذه محبة كاذبة، محبة باطلة، يقول شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: لقد ادعى قوم المحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فابتلاهم الله بآية المحبة فقال جل وعلا: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]. اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل ما أمر، وانته عن كل ما نهى عنه النبي وزجر، تكون بذلك محباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم. اللهم كما آمنا بنبيك ولم نره فلا تفرق بيننا وبينه حتى تدخلنا مدخله. اللهم أوردنا حوضه الأصفى، واسقنا بيده الشريفة شربة هنيئة مريئة لا نرد ولا نظمأ بعدها أبداً يا رب العالمين. اللهم اجزه عنا خير ما جازيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته. اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. اللهم اجزه عنا خير الجزاء يا رب العالمين. اللهم توفنا على ملته، واحشرنا تحت لوائه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

وقفات مع قوله تعالى: ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض

وقفات مع قوله تعالى: ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض حياة القلوب وقوة الإيمان في ذكر اليوم الآخر، الذي فيه تتطاير الصحف وتنشر، ويوقف العبد للحساب والعقاب، هذا اليوم له علامات ومقدمات، ومن هذه المقدمات نفخة الصور، وقد وقع الخلاف بين العلماء في بيان عدد النفخات ووقتها، والراجح أنها ثلاث: الفزع، ثم الصعق، ثم البعث والنشور.

واقع الأمة وموقفها من دينها وعقيدتها

واقع الأمة وموقفها من دينها وعقيدتها الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة الفضلاء! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم جل وعلا الذي جمعنا في هذا الجمع الكريم المبارك على طاعته، أن يجمعنا مع حضراتكم في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أيها الأحبة الكرام! ما أحوجنا إلى أن نقضي هذه الدقائق مع آية في كتاب الله جل وعلا استمعنا إليها في صلاة العشاء، ألا وهي قول الله سبحانه وتعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68]. قد نُتهم بأننا نكثر الحديث عن الدار الآخرة، وقد نُتهم بأننا إذا ما أكثرنا الحديث في هذا الجانب أننا نجهل الواقع، ولكن من فتح كتاب الله جل وعلا وجد القرآن كله يركز على الترغيب والترهيب -يُذكر بالجنة والنار- بل إن أول ما نزل من القرآن أنزل الله جل وعلا آيات كريمة طيبة تذكر الناس بالجنة وتحذرهم من النار كما قالت عائشة رضي الله عنها: [إن أول ما نزل من القرآن سور تذكر الجنة والنار، ولو قال الله عز وجل: لا تزنوا، لا تشربوا الخمر، لقالوا: لن ندع الزنا ولن ندع الخمر أبداً]. فالأمة الآن في هذه الأوقات تعيش في واقع مرّ أليم، متشرذمة كتشرذم الغنم في ليلة شاتية ممطرة! والمتدبر لهذا الواقع يعلم يقيناً أن الأمة الآن في أمس الحاجة إلى أن تعيد وتصحح عقيدتها في اليوم الآخر، وتنظر إلى هذا اليوم نظرة واقع وعمل، فإن الإيمان باليوم الآخر ركن من أركان الإيمان، ومحال أن يتأصل الإيمان في قلب مسلم بهذا اليوم المهيب إلا إذا أكثر تذكره؛ وأكثر السماع لأهواله. إن الأمة الآن تعيش حالة من الماديات والشهوات الطاغية، وتحتاج إلى من يذكرها دوماً بالله وبجنة الله، ويذكرها دوماً بالنار، ويحذرها منها، فلقد كان النبي يرتقي المنبر ويقول للناس: (أنذرتكم النار، أنذرتكم النار) حتى تسقط الخميصة أو الرداء من على ظهره، يقول أحد الصحابة: [لو كان رجل بالسوق لسمع صوت النبي صلى الله عليه وسلم وهو ينادي في الأمة ويقول: أنذرتكم النار، أنذرتكم النار]. طغت الماديات والشهوات بصورة شغلت كثيراً من الناس عن رب الأرض والسماوات، وعن التفكر في هذا اليوم الذي سيقف الإنسان فيه بين يدي الله جل وعلا.

مشاهد من اليوم الآخر

مشاهد من اليوم الآخر ورد في الصحيحين من حديث عدي بن حاتم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ما منكم من أحد إلا وسيكلمه ربه يوم القيامة، ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر -أي: العبد- أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة) ستعرض على الله جل وعلا، فهل فكرت في هذا الموعد؟! هل أعددت لهذا اللقاء؟! أيها الحبيب! كيف يكون حالك إذا عُدت الليلة إلى دارك فرأيت خطاباً من قاضٍ من قضاة الدنيا يأمرك فيه بالمثول بين يديه في الصباح الباكر، أتحداك أن تنام الليل، مع أنك ستقف أمام عبد فقير حقير. لقي الفضيل بن عياض رجلاً، فقال له الفضيل: كم عمرك؟ قال: ستون سنة. قال الفضيل: إذاً أنت منذ ستين سنة تسير إلى الله توشك أن تصل. فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون! فقال الفضيل: هل عرفت معناها؟ قال: نعم، عرفت أني لله عبد وأني إليه راجع. فقال الفضيل: يا أخي! إن من عرف أنه لله عبد وأنه إليه راجع عرف أنه موقوف بين يديه، ومن عرف أنه موقوف عرف أنه مسئول، ومن عرف أنه مسئول فليعد للسؤال جواباً. فبكى الرجل وقال: يا فضيل! وما الحيلة؟ قال الفضيل: يسيرة. قال: ما هي يرحمك الله؟ قال: اتق الله فيما بقي من عمرك، يغفر لك الله ما قد مضى وما قد بقي من عمرك. تذكر وقوفك يوم الحشر عريانا مستوحشاً قلق الأحشاء حيرانا والنار تلهب من غيض ومن حنق على العصاة ورب العرش غضبانا اقرأ كتابك يا عبدي على مهل فهل ترى فيه حرفاً غير ما كانا لما قرأت ولم تنكر قراءته أقررت إقرار من عرف الأشياء عرفانا نادى الجليل خذوه يا ملائكتي وامضوا بعبد عصى للنار عطشانا المشركون غداً في النار يلتهبوا والمخلصون بدار الخلد سكانا يقول جل وعلا: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} [الزمر:68] جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! ما الصور؟ فقال المصطفى: قرنٌ ينفخ فيه) والقرن هو البوق، والنافخ هو إسرافيل باتفاق الأمة، يأمر الله إسرافيل أن ينفخ في الصور. ولقد اختلف أهل العلم، فمنهم من قال: إن إسرافيل ينفخ في الصور نفختين، ومنهم من قال: إن إسرافيل ينفخ في الصور ثلاث مرات، ووقف بعضهم وهذا ما رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية طيب الله ثراه عند آيات القرآن.

نفخة الفزع

نفخة الفزع قال تعالى: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل:87] هذه هي نفخة الفزع التي تحول هذا الكون كله إلى كون انقلبت كل ذراته؛ انقلب كل كيانه، ولو أردت أن تتعرف على هذا الانقلاب الهائل ما عليك إلا أن تقرأ سورة التكوير، والانفطار، والانشقاق: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير:1] ذهب ضياؤها وراح نورها {وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ} [التكوير:2] تناثرت من عقدها البديع الفريد {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} [التكوير:3] هذه الجبال العملاقة تتحول إلى عهن منفوش {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً * فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً * لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً} [طه:105 - 107] {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ} [التكوير:3 - 4] العشار هي: النوق الحبالى، وهي من أغلى ما يمتلكه العربي في أرض الجزيرة، فإذا نفخ في الصور نفخة الفزع، نظر إليها ولم يعبأ بها؛ لأنه قد وقع به ما يشغله. {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} [التكوير:5] الوحوش! المفترس مع الأليف الوديع، قد جاء منكسراً ذليلاً إلى الله جل وعلا، فلا يخشى الوديع من المفترس، ولا ينقض المفترس على الأليف؛ لأن الكل قد وقع به ما يشغله {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير:6] هذه البحار التي جعلها الله سبب الحياة، يتحول ماؤها إلى براكين نارية {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} [التكوير:3] إلى آخر الآيات، يتحول هذا الكون كله إلى شيء آخر: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم:48].

نفخة الصعق (الموت)

نفخة الصعق (الموت) بعد هذه النفخة يأمر الله جل وعلا إسرافيل أن ينفخ في الصور نفخة الصعق -أي: الموت- فيموت كل حي على ظهر هذه الأرض، بل ويموت أهل السماء إلا من شاء الله، ومن أهل العلم من قال: يستثنى جبريل وإسرافيل وميكائيل وملك الموت وحملة العرش، واستدل بعضهم بحديث الصور الطويل وهو حديث ضعيف بطوله؛ لأنه يدور على إسماعيل بن رافع وقد ضعفه أهل الجرح والتعديل، فإذا ما أمر الله إسرافيل بالنفخ في الصور نفخة الصعق يموت كل حي على ظهر هذه الأرض! ويطوي الملك جل وعلا السماوات والأرض بيمينه، وورد في رواية مسلم: (يطوي السماء بيمينه والأرض بشماله) ورواية الصحيحين: (يطوي السماء والأرض بيمينه) وقد ثبت: (وكلتا يديه يمين) جل جلاله (يطوي السماء والأرض بيمينه ويقول سبحانه: أنا الملك، أين المتكبرون؟ أو أين الجبارون؟ ثم يقول جل وعلا: لمن الملك اليوم؟ فلا يجيبه أحد؛ لأنه سبحانه في هذا اليوم يسأل ويجيب، فما من سائل غيره ولا مجيب، يقول جل جلاله: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16]) أين الملوك؟ أين الأمراء؟ أين الرؤساء؟ أين الزعماء؟ أين الوزراء؟ مات كل حي وذهب كل شيء. أين الظالمون وأين التابعون لهم في الغي بل أين فرعون وهامان أين من دوخوا الدنيا بسطوتهم وذكرهم في الورى ظلم وطغيان هل أبقى الموت ذا عز لعزته أو هل نجا منه بالسلطان إنسان لا والذي خلق الأكوان من عدم الكل يفنى فلا إنس ولا جان

نفخة البعث

نفخة البعث {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68] الله أكبر! إنها نفخة البعث، انظر إلى هذا المشهد العجب! يقول ابن مسعود، والأثر ذكره الإمام السيوطي في الدر المنثور وعزاه لـ ابن أبي حاتم وابن المنذر وابن مردويه وروى الأثر الحاكم في المستدرك وصححه على شرط الشيخين وتعقب الحاكم الذهبي فقال: بل هو صحيح على شرط البخاري، أن ابن مسعود رضي الله عنه قال: [يبعث الناس يوم القيامة ومنهم من يكون نوره كالجبل، ومنهم من يكون نوره كالنخلة، ومنهم من يكون نوره كالرجل القائم، ومنهم من يكون نوره على إبهامه يوقد مرة ويطفأ مرة، ومنهم من تحيط الظلمة به من كل ناحية] والعياذ بالله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في صحيح مسلم (يبعث كل عبد على ما مات عليه) تدبر هذه المشاهد لتقف على خطر هذا اليوم {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68] {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ * وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} [الانشقاق:1 - 4] {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْأِنْسَانُ مَا لَهَا} [الزلزلة:1 - 3] ما الذي بدل سكونها؟ ما الذي بدل استقرارها وأمنها؟ ذلك {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:5 - 8]. يخرج الجميع حفاة عراة غُرلاً، ليعرض الجميع على الله جل وعلا؛ ليكلمك الله، ويعطيك كتابك، فإن كنت من أهل التوحيد السعداء -أسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم، وأن يختم لنا ولكم بالتوحيد- أعطاك الله كتابك بيمينك، وقيل لك كما في الصحيحين من حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال: (يدنى المؤمن من ربه يوم القيامة حتى يضع رب العزة عليه كنفه -والكنف في اللغة لا تأويلاً للصفة فلسنا ممن يؤول الصفات، هو الستر والرحمة- يدنى المؤمن من ربه يوم القيامة حتى يضع رب العزة عليه كنفه، ويقرره بذنوبه فيقول: لقد عملت كذا وكذا في يوم كذا وكذا، فيقول المؤمن: رب أعرف، رب أعرف، فيقول له الله جل وعلا: ولكني سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، ويعطيه صحيفة حسناته) أما الآخرون -عياذاً بالله- ينادى عليهم على رءوس الأشهاد: ألا هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ألا لعنة الله على الظالمين! يدنى المؤمن من ربه ويكلمه الله جل وعلا -ينادى عليه- وتعطى هذه الصحيفة التي لا تغادر بلية كتمتها، ولا مخبأة أسررتها، بل كم من معصية قد كنت نسيتها ذكرك الله إياها، وكم من مصيبة قد كنت أخفيتها أظهرها الله لك وأبداها، فيا حسرة قلبك وقتها على ما فرطت في دنياك من طاعة مولاك، فتدبر هذه الآية: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68] ستعرضون على الله جل وعلا {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم:93 - 95]. فيا أيها الحبيب! أكثر من ذكر هذا اليوم واستعد له بالعمل الصالح؛ بالقرب من الله جل وعلا، وبالبعد عن المحرمات والمعاصي والذنوب، واعلم بأن أقرب غائب تنتظره هو الموت فإن العبد إذا مات قامت قيامته، يسأل في هذا القبر الضيق: عن ربه، ونبيه، ودينه. فيا أيها الحبيب الكريم! أذكر نفسي وإياك بالعمل والاستعداد الجاد لهذا اليوم العظيم: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89]. مثل لنفسك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمور إذ كورت شمس النهار وأدنيت حتى على رأس العباد تصير وإذا النجوم تساقطت وتناثرت وتبدلت بعد الضياء كدور وإذا الجبال تقلعت بأصولها فرأيتها مثل السحاب تسير وإذا العشار تعطلت وتخربت خَلتِ الديار فما بها معمور وإذا الوحوش لدى القيامة أحشرت وتقول للأملاك أين نسير وإذا الجليل طوى السما بيمينه طيَّ السجل كتابه المنشور وإذا الصحائف نشِّرت وتطايرت وتهتكت للعالمين ستور وإذا الجنين بأمه متعلق يخشى القصاص وقلبه مذعور هذا بلا ذنب يخاف جناية كيف المصر على الذنوب دهور وإذا الجحيم تسعرت نيرانها ولها على أهل الذنوب زفير وإذا الجنان تزخرفت وتطيبت لفتىً على طول البلاء صبور قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68] أسأل الله جل وعلا أن يوفقنا وإياكم لطاعته، وأن يوفقنا وإياكم للاستعداد الجاد لهذا اليوم العظيم، يوم نقوم لرب العالمين، وأسأل الله أن يختم لي ولكم بخاتمة التوحيد، وأن يحشرنا وإياكم في زمرة الموحدين، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

وقفة مع النفس

وقفة مع النفس الأيام تمر إثر الأيام، والأشهر تجري وراء الأشهر، والسنون تتلوها السنون، فتنقضي الأعمار، وتندرس الأجيال جيلاً بعد جيل، وبعدها يقف الجميع بين يدي الملك الجليل للحساب والسؤال عن القليل والكثير، وهذه دعوة يقدمها الشيخ لكل المسلمين للمبادرة بمحاسبة النفس، فهل من قابل للدعوة؟! وهل من مشمر لها؟

أهمية محاسبة النفس

أهمية محاسبة النفس إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: حياكم الله جميعاً أيها الإخوة الفضلاء، وطبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله الكريم جلا وعلا الذي جمعنا معكم في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار مقامه، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله: هاهي الأيام تمر والأشهر تجري وراءها تسحب معها السنين، وتجر خلفها الأعمار، وتقضي على جيل بعد جيل، وبعدها يقف الجميع بين يدي الملك الجليل، للسؤال عن الكثير والقليل، مصداقاً لقوله سبحانه وتعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:7 - 8]. وكان سلفنا الصالح رضوان الله عليهم يقف الواحد مع نفسه ليحاسبها محاسبة الشريك الشحيح لشريكه فهذا هو دريد بن الصمة رحمه الله جلس يوماً مع نفسه جلسة صدق، وعدَّ سنوات عمره التي مضت، فوجد أنه قد قارب الستين، وأن أيام عمره زادت على واحد وعشرين ألف يوم، فصرخ وقال: يا ويلاه يا ويلاه، ألقى ربي في واحد وعشرين ألف ذنب! كيف وفي كل يوم عشرات المعاصي والذنوب؟!. فأحببت أن أقف الليلة مع نفسي وأحبابي وإخواني لأذكرهم بوقفة مع النفس، فهذا هو عنوان محاضراتنا في هذه الليلة المباركة -وكما تعودت- حتى لا ينسحب بساط الوقت سريعاً من تحت أقدامنا، فسوف ينتظم حديثي مع هذا الموضوع المهم في العناصر التالية: صفات النفس في القرآن الكريم. محاسبة النفس. مشقة الحساب يوم القيامة أفق يا سابحاً في بحار الغمرات. فأعيروني القلوب والأسماع، فما أحوجنا جميعاً إلى هذه الوقفة الصادقة مع النفس، وأسأل الله جل وعلا أن يجعلنا ممن قال الله فيهم: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر:18].

صفات النفس في القرآن الكريم

صفات النفس في القرآن الكريم أحبتي الكرام: فقد وصف الله تعالى النفس في القرآن الكريم بثلاث صفات.

النفس المطمئنة

النفس المطمئنة قال تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر:27 - 28]. فما هي النفس المطمئنة؟ النفس المطمئنة: هي النفس التي اطمأنت إلى الرضا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسولاً ونبياً. هي النفس التي اطمأنت إلى أمر الله ونهيه، هي النفس التي اطمأنت إلى وعد الله ووعيده، هي النفس التي اطمأنت واشتاقت إلى لقاء الله عز وجل. قال أحد السلف: [مساكين والله أهل الغفلة خرجوا من الدنيا ولم يذوقوا أطيب ما فيها، قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: ذكر الله والأنس به]. فلا يتذوق المؤمن طعم الأنس ولا حلاوة القرب إلا في طاعة الله جل وعلا، ولا تشعر بلذة الطمأنينة وحلاوتها إلا مع الله جل وعلا. فالنفس المطمئنة: هي النفس الراضية عن الله عز وجل وعن شرعه وعن نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبياً ورسولاً) والحديث في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة.

النفس اللوامة

النفس اللوامة النفس اللوامة هي: نفس أبية كريمة هي الأخرى. قال ميمون بن مهران: [لا يبلغ المؤمن درجة التقى إلا إذا حاسب نفسه محاسبة الشريك الشحيح]. فهي نفس كريمة تلوم صاحبها على الخير والشر معاً، تلوم صاحبها على الخير لماذا لم تكثر منه؟ لماذا لم تداوم على فعل الخيرات؟ وتلوم صاحبها على الشر والمعاصي: لماذا فعلت الشر؟ لماذا ارتكبت المعصية؟ لماذا وقعت في الذنب؟ فهي نفس كريمة، أقسم الله عز وجل بها في قرآنه، قال سبحانه: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة:1 - 2]. فالنفس اللوامة هي التي تلوم صاحبها على الخير والشر، على الخير لماذا لم يكثر منه، وعلى الشر لماذا وقع فيه.

النفس الأمارة

النفس الأمارة أما النفس الأمارة -أسأل الله أن يعيذني وإياكم من شرها- فهي النفس التي تدفع صاحبها دفعاً إلى المعصية، وتحاول تلك النفس الخبيثة أن تخرج صاحبها من طريق الهداية إلى طريق الغواية، والطاعة إلى المعصية، والخير إلى الشر. لو أتيت الليلة إلى مثل هذا المسجد المبارك لتقضي وقتاً مع الله جل وعلا في صلاة القيام الذي قال في حقه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) وقفت النفس الأمارة لك بالمرصاد، تريد أن تحول بينك وبين هذا الخير. والناس صنفان: صنف انتصر على نفسه وقهرها وغلبها، وفطمها عن المعصية، وألجمها بلجام التقوى، وجعلها مطية إلى كل خير وطاعة، أسأل الله أن يجعلني وإياكم من هذا الصنف الكريم، قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:7 - 10]. صنف أفلح في تزكية نفسه، زكاها بالطاعة وبالبعد عن المعصية والشهوات والشبهات، زكاها عن كل ما يغضب الله عز وجل. وصنف قهرته نفسه، وغلبته نفسه، وجعلته -النفس- مطية إلى كل هوى وشهوة ومعصية وذنب، قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:37 - 41]. فالنفس أمارة بالسوء، قال الله تعالى في حق هذه النفس حكاية عن امرأة العزيز: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [يوسف:53]. هذه النفس الأمارة تستوجب من المسلم التقي الذكي أن يكون منتبهاً مستيقظاً فطناً، فقد تزين لك المعصية والتسويف في آن، فينبغي أن يكون المؤمن حذراً من هذه النفس الأمارة، وأن ينتبه إليها، وأن يقف معها لا أقول في كل ليلة، بل مع كل كلمة وعمل، بل قبل القول، وبعد القول، وقبل العمل، وبعد العمل، ليحاسبها محاسبة الشريك الشحيح لشريكه في التجارة، وإلا لهلك الإنسان من حيث لا يدري ولن ينتبه إلا وهو في عسكر الموتى بين الأموات. قال سليمان بن عبد الملك لـ أبي حازم الزاهد العابد العالم: [يا أبا حازم! ما لنا نحب الدنيا ونكره الموت؟ فقال أبو حازم: لأنكم عمرتم دنياكم وخربتم أخراكم، وأنت تكرهون أن تنقلوا من العمران إلى الخراب] من الذي يحب أن يترك العمران ويترك حياة الرفاهية ليذهب إلى الصحراء والخراب؟. فقال سليمان: [يا أبا حازم! فما لنا عند الله جل وعلا؟ فقال أبو حازم: اعرض نفسك على كتاب الله لتعلم أين مكانتك عند الله جل وعلا، فقال: وأين أجد ذلك؟ فقال أبو حازم: في قوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار:13 - 14] فقال سليمان: فأين رحمة الله يا أبا حازم؟! فقال أبو حازم: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:56] فقال سليمان: فكيف القدوم على الله غداً؟ فقال أبو حازم: أما المحسن فكالغائب يرجع إلى أهله، وأما المسيء فكالآبق يرجع إلى سيده ومولاه].

عدم ارتباط المحاسبة بوقت

عدم ارتباط المحاسبة بوقت المؤمن هو الذي يقف مع نفسه ليذكرها بحقيقة الدنيا وحقيقة الآخرة، وهذا هو عنصرنا الثاني بإيجاز: محاسبة النفس، والمحاسبة نوعان:

المحاسبة قبل القول والعمل

المحاسبة قبل القول والعمل لمن أتكلم؟ لمن أعمل؟ لماذا أحب؟ لماذا أبغض؟ لماذا أوالي؟ لماذا أعادي؟ لماذا أعطي؟ لماذا أمنع؟ لماذا جئت؟ لماذا لم آت؟ سؤال عن الإخلاص لمن تعمل: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110]. إخوتي الكرام! لو وقف أحدنا وحاسب نفسه قبل أن يتكلم وقبل أن يعمل لتغير حالنا تماماً، بل لفكر أحدنا بدل المرة ألف مرة قبل أن ينطق مرة؛ لأنه سوف يسأل نفسه: لماذا أتكلم؟ فهل أبتغي بعملي هذا وجه الله، أم أبتغي السمعة والشهرة والرياء؟ حساب للنفس قبل القول والعمل يجعل الإنسان يفكر بدل المرة ألف مرة قبل أن ينطق مرة، وقبل أن يعمل مرة، والله جل وعلا لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً لوجهه، وما كان موافقاً لهدي نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية طيب الله ثراه: وجماع الدين أصلان: الأصل الأول: أن نعبد الله وحده لا شريك له، والأصل الثاني: أن نعبده بما شرعه على لسان رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وهذان الأصلان هما حقيقة قولنا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فبالشهادة الأولى يُعرف المعبود عز وجل، وبالشهادة الثانية: يعرف كيف يُتوصل إلى المعبود عز وجل، إذ أن الطرق كلها مسدودة إلى الله عز وجل إلا من طريق المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفي الصحيحين من حديث عائشة أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد).

المحاسبة بعد القول والعمل

المحاسبة بعد القول والعمل إذاً: محاسبة قبل القول والعمل، ومحاسبة بعد القول والعمل، أحاسب نفسي بعد كل كلمة وحركة: هل ابتغيت بها وجه الله؟ ثم هل كان العمل موافقاً لهدي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فإن وجد المؤمن نقصاً أكمله، وإن وجد خللاً سده، وإن وجد تقصيراً اتهم نفسه. وأؤكد لكم بأن المؤمن دائماً يتهم نفسه بالتقصير، ولا يرى لنفسه أبداً فضلاً ولا شرفاً ولا كرامة، فإن أطعت الله فمن الذي وفقك للطاعة؟ وإن صبرت من بعد صلاة العشاء إلى وقت القيام في بيت رب الأرض والسماء فمن الذي وفقك لهذا؟ غيرك الآن يجلس أمام التلفاز وأنت الآن في بيت الله بغير حول منك ولا طول. بل إن الحول والطول والمدد والقوة من الله عز وجل وحده: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17] ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه) ينشأ في بيت يهودي على اليهودية، وآخر ينشأ في بيت نصراني على النصرانية، وآخر ينشأ في بيت مجوسي على المجوسية، ونحن نشأنا في بيوت توحد رب البرية، فوحدنا الله جل وعلا من غير رغبة منا ولا اختيار: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة:4]. فيا إخوتي الكرام! والله إن لله عز وجل علينا نعماً لا تعد ولا تحصى، وإن أجل وأكرم نعمة قد أنعم الله بها علينا هي نعمة الإيمان والتوحيد، ولله در القائل: ومما زادني فخراً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك: يا عبادي وأن أرسلت أحمد لي نبياً فالمؤمن دوماً يحاسب نفسه ويتهم نفسه بالتقصير: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60]. قالت عائشة رضوان الله عليها: (يا رسول الله! أهو الرجل يزني ويسرق ويشرب الخمر؟! قال: لا يا بنت الصديق، إنه الرجل يصلي ويصوم ويتصدق ويخشى ألا يتقبل الله منه). ولذلك جاء رجل إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فقال: [يا أم المؤمنين! ما تقولين في قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر:32] فقالت عائشة: يا بني! أما السابق بالخيرات: فقوم سبقوا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشهد لهم بالجنة، وأما المقتصد: فقوم ساروا على هديه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى ماتوا على ذلك، وأما الظالم لنفسه: فمثلي ومثلك]. أم المؤمنين عائشة جعلت نفسها معنا وهي من؟ هي المبرأة من فوق سبع سماوات، هي زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المبشرة بالجنة، هي أحب نساء النبي إلى قلبه بعد خديجة، كما في صحيح البخاري من حديث عبد الله بن عمرو: (يا رسول الله! أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة، قال: من الرجال؟ قال: أبوها، قال: ثم من، قال: ثم عمر). وهاهو سفيان الثوري إمام الدنيا في الزهد والعلم والورع ينام على فراش الموت فيدخل عليه حماد بن سلمة، فيقول له حماد: [أبشر يا أبا عبد الله إنك مقبل على من كنت ترجوه وهو أرحم الراحمين، فقال له سفيان: أسألك بالله يا حماد! أتظن أن مثلي ينجو من النار؟!].

دعوة إلى محاسبة النفس

دعوة إلى محاسبة النفس فالمسلم دوماً يحاسب نفسه ويتهمها بالتقصير، فقف أيها الحبيب مع نفسك الليلة وقفة صدق وقل لها: يا نفس! ليس لي بضاعة إلا العمر، فإن ضاعت بضاعتي ضاع رأس مالي، توهمي يا نفس أنك قد متي وطلبتي من الله الرجعة، وهاأنت قد عدتي إلى الدنيا فاعملي قبل أن تتمني الرجعة يوماً فلا يستجاب لك: {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99 - 100] فيكون A { كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100]. يا نفس! إن كنت تجترئين على معصية الله وأنتِ تظنين بأن الله لا يراك فما أعظم كفرك بالله جل وعلا! وإن كنت تعلمين بأن الله يراك وأنت مصّرة على معصيته فما أشد جرأتك على الله، وما أعظم وقاحتك مع الله عز وجل. يا نفس! إلى متى تعصين وعلى الله تجترئين؟! ومتى ستعيشين بالإسلام وللإسلام؟! يا نفس! متى ستحافظين على قراءة القرآن، وعلى هدي النبي عليه الصلاة والسلام، وعلى تحقيق التوحيد لله، وعلى بر الوالدين، وعلى الإحسان للجيران؟! ومتى ستبذلين المال للفقراء؟! ومتى ستحسنين العمل؟! متى متى متى؟! يا نفس! أما لك بأهل القبور عبرة؟! أما لك إليهم نظرة؟! كانوا كثيراً، وجمعوا كثيراً، فأصبح بنيانهم قبوراً، وأصبح جمعهم بوراً. يا نفس! ألا تفكرين في القبر وضمته؟! ألا تفكرين بالصراط ووحدته؟! ألا تفكرين في النار والأهوال والأغلال؟! أما تخشين من الحجاب عن النظر إلى وجه الكبير المتعال؟! ويحك يا نفس! يا نفس قد أزف الرحيل وأظلك الخطب الجليل فتأهبي يا نفس لا يلعب بك الأمل الطويل فلتنزلن بمنزل ينـ ـسى الخليل به الخليل وليركبن عليك فيه من الثرى حمل ثقيل قرن الفناء بنا جميعاً فما يبقى العزيز ولا الذليل أيها الأخ الحبيب: قف مع نفسك الليلة وقفة صدق، وحاسبها محاسبة شديدة، واعلم أن النفس كالطفل إن فطمتها عن المعصية انفطمت، وإن ألجمتها بلجام التقوى ألجمت، وإن عودتها على الطاعة اعتادت، فالنفس كالطفل، إن فطمت الطفل عن ثدي أمه بكى يوماً أو يومين ثم اعتاد بعد ذلك، كذلك النفس. فيظن كثير منا أن إجبار النفس على الطاعة وإبعادها عن المعصية أمر عسير، وهو كذلك إلا لمن يسر الله عز وجل له ذلك. أسأل الله أن ييسر لنا ولكم الطاعات.

مشقة الحساب يوم القيامة

مشقة الحساب يوم القيامة اعلم بأن النفس جموح، وأن النفس أمارة، وأنه لن يخف الحساب يوم القيامة إلا على من حاسب نفسه في الدنيا. قال عمر بن الخطاب: [حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا، وتزينوا للعرض الأكبر يوم لا تخفى منكم خافية، فإنما يخف الحساب يوم القيامة عمن حاسب نفسه في الدنيا]. أيها الحبيب: هل دعيت يوماً لحضور محاكمة في قاعة محكمة من محاكم الدنيا؟ انتقل معي على جناح السرعة إلى قاعة محكمة وتصور أنك جالس في هذه القاعة، وهاهو القاضي يدخل إلى قاعة المحكمة، وبين يديه الحاجب ليصرخ في الحضور: محكمة انظر إلى وجوه الناس وتفرس، انظر إلى الصدور ربما تعلو وتهبط وهي تنتظر أن تسمع الحكم من القضاء؛ بل ربما ترى العيون وقد انهمرت منها الدموع مدراراً على الوجوه، والآذان صاغية، والأبصار مشدودة، والكل منتظر، المتهم في قفص الاتهام وأهله ينتظرون، يا ترى بأي حكم سينطق القاضي في هذه اللحظات؟! تصور هذه اللحظات لتقف على حجم الهول الذي يعيش فيه الناس، ولله المثل الأعلى، فأرجو أن تنتقل من هذه الجلسة إلى لحظات يقف فيها العبد على بساط العدل بين يدي الله جل وعلا، وقد دنت الشمس من الرءوس مقدار ميل وغرق الناس في عرقهم كل على قدر عمله، وأتي بجهنم ولها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها، فإذا رأت جهنم الخلائق زفرت وزمجرت، فتجثوا كل الأمم على الركب من هول الموقف. تذكر وقوفك يوم العرض عرياناً مشتوحشاً قلق الأحشاء حيرانا والنار تلهب من غيظ ومن حنق على العصاة ورب العرش غضبانا اقرأ كتابك يا عبدي على مهل فهل ترى فيه حرفاً غير ما كانا لما قرأت ولم تنكر قراءته إقرار من عرف الأشياء عرفانا نادى الجليل خذوه يا ملائكتي وامضوا بعبدٍ عصى للنار عطشانا المشركون غداً في النار مسكنهم والمؤمنون بدار الخلد سكانا مثل لنفسك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمور إذ كورت شمس النهار وأدنيت حتى على رأس العباد تسير وإذا النجوم تساقطت وتناثرت وتبدلت بعد الضياء كدور وإذا الجبال تقلعت بأصولها فرأيتها مثل السحاب تسير وإذا العشار تعطلت وتخربت خلت الديار فما بها معمور وإذا الوحوش لدى القيامة أحشرت وتقول للأملاك أين نسير وإذا الجليل طوى السما بيمينه طي السجل كتابه المنشور وإذا الصائحف نشرت وتطايرت وتهتكت للعالمين ستور وإذا الوليد بأمه متعلق يخشى القصاص وقلبه مذعور هذا بلا ذنب يخاف جناية كيف المصر على الذنوب دهور وإذا الجحيم تسعرت نيرانها ولها على أهل الذنوب زفير وإذا الجنان تزخرفت وتطيبت لفتىً على طول البلاء صبور وصدق ربي حيث يقول: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً * فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً * لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً * يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً * يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً * وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} [طه:105 - 111]. ((وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ)) [طه:111] تذكر هذه اللحظات لتقف على مشقة الحساب بين يدي رب الأرض والسماوات، ففي الصحيح من حديث عائشة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (من نوقش الحساب يوم القيامة عذب، قالت عائشة: يا رسول الله! أليس الله يقول: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} [الانشقاق:7 - 8]؟! قال: ليس ذلك الحساب يا عائشة! إنما ذلك العرض، فمن نوقش الحساب يوم القيامة عذب). والعرض: هو أن يعرض الله على العبد أعماله، كما في الصحيحين من حديث عدي بن حاتم أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (ما منكم من أحد إلا وسيكلمه ربه يوم القيامة ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر العبد أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة). وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (يدنى المؤمن من ربه يوم القيامة حتى يضع رب العزة عليه كنفه، ويقرره بذنوبه) أي: يقول الرب سبحانه: عبدي لقد عملت كذا وكذا أي: من الذنوب والمعاصي، يوم كذا وكذا، وعملت كذا وكذا يوم كذا وكذا (فيقول المؤمن: رب أعرف، فيقول الله عز وجل: ولكن سترتها عليك في الدنيا وأغفرها لك اليوم). انظروا إلى فضل الله عز وجل، فمن نوقش الحساب يوم القيامة عذب، فإن الهول شديد، وإن الكرب والله عظيم، ولن تخف مشقة الحساب على العبد يوم القيامة إلا إن حاسب نفسه، وشق على نفسه في الحساب في الدنيا، قال عمر: [حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا، وتزينوا للعرض الأكبر يوم لا يخفى منكم خافية فإنما يخف الحساب يوم القيامة عمن حاسب نفسه في الدنيا].

أفق يا سابحا في بحار الغمرات

أفق يا سابحاً في بحار الغمرات أفق يا سابحاً في بحار الغمرات. أيها اللاهي! أيها الساهي: دع عنك ما قد فات في زمن الصبا واذكر ذنوبك وابكها يا مذنب لم ينسه الملكان حين نسيته بل أثبتاه وأنت لاه تلعب والروح منك وديعة أودعتها ستردها بالرغم منك وتسلب وغرور دنياك التي تسعى لها دار حقيقتها متاع يذهب الليل فاعلم والنهار كليهما أنفاسنا فيها تعد وتحسب

أهمية المسارعة في التوبة

أهمية المسارعة في التوبة عد إلى الله جل وعلا، واعلم بأن الدنيا -أخي الحبيب- مهما طالت فهي قصيرة، ومهما عظمت فهي حقيرة؛ لأن الليل مهما طال لا بد من طلوع الفجر، ولأن العمر مهما طال لابد من دخول القبر، فالدنيا دار ممر، والآخرة هي دار المقر، فخذوا من ممركم لمقركم ولا تفضحوا أستاركم عند من يعلم أسراركم. قال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:20]. ولله در القائل: إن لله عباداً فطنا طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا نظروا فيها فلما علموا أنها ليست لحي وطناً جعلوها لجة واتخذوا صالح الأعمال فيها سفناً فالدنيا مزرعة -أيها الأحبة- أنا لا أريد أن أيئسك من الدنيا، أو أن أقنطك من الحياة، كلا. وإنما أقول لك ما قاله علي رضوان الله عليه بهذا الفهم العالي لحقيقة الدنيا حيث قال: [الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار نجاة لمن تزود منها، فالدنيا مصلى أنبياء الله، ومتجر أولياء الله، ومهبط رحمة الله، ربحوا فيها الرحمة، واكتسبوا فيها الجنة]. ازرع في هذه الدنيا واستعد، وأقبل إلى الله جل وعلا، وأفق وانتبه، واعلم أن العمر قصير، وبأن الدنيا إلى زوال، وأن الآخرة هي دار القرار، أقبل على الله وأنت على يقين بأن الله عز وجل سيفرح بتوبتك وهو الغني عنك، كما ذكرت إخوانكم قبل الآن فالله تبارك وتعالى يقول: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].

فرحة الله بتوبة العبد

فرحة الله بتوبة العبد يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في الصحيحين من حديث أنس: (لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته في أرض فلاة، فانفلتت منه راحلته وعليها طعامه وشرابه فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها وقد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذا به يرى راحلته قائمةً عند رأسه، فأخذ بخطامها وقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك -يقول المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أخطأ من شدة الفرح). أيها الحبيب: فرح الله بتوبتك إليه أفرح من هذا العبد بعودة راحلته إليه. وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (ينزل الله عز وجل كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يمضي ثلث الليل الأول -يتنزل ربنا نزولاً يليق بكماله وجلاله- ثم ينادي رب العزة ويقول: أنا الملك من ذا الذي يدعوني فأستجيب له؟ من ذا الذي يسألني فأعطيه؟ من ذا الذي يستغفرني فأغفر له؟ فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر). وأختم بهذا الحديث الذي رواه البخاري من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى يوماً امرأة في السبي تبحث عن ولدها، فلما وجدته ألزقته ببطنها فأرضعته، فالتفت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى هذا المشهد الحاني وقال لأصحابه: أترون هذه الأم طارحة ولدها في النار؟! قالوا: لا يا رسول الله، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لله أرحم بعباده من رحمة هذه الأم بولدها). قال أحد أهل العلم: اللهم إنك تعلم أن أمي هي أرحم الناس بي، وأنا أعلم أنك أرحم بي من أمي، وأمي لا ترضى لي الهلاك والعذاب، أفترضاه لي أنت وأنت أرحم الراحمين؟! اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم، ولا تعذبنا فإنك علينا قادر. اللهم اغفر لنا الذنوب، واستر لنا العيوب، وفرج عنا الكروب، وتقبل منا صالح الأعمال، برحمتك يا أرحم الراحمين. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وجزاكم الله خيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

يا رب! أمتي أمتي

يا رب! أمتي أمتي تحدث شيخنا -حفظه الله- عن الشفاعة كحَدَث عظيم يوم القيامة، مبيناً أن أبانا آدم وأولي العزم من الرسل يهابون الوقوف للشفاعة الكبرى؛ فتصل إلى حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم فيقول: أنا لها، أنا لها؛ وذلك هو المقام المحمود الذي وعده الله إياه! ثم تكلم عن هول ذلك اليوم، مذكراً الأمة بوجوب توقير وتعظيم النبي الكريم، وأن التمسك بسنته عزة، وتركها ذلة يضربها الله على الأمة كما هو حالها اليوم.

من مشاهد يوم القيامة والشفاعة العظمى

من مشاهد يوم القيامة والشفاعة العظمى إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله, أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة؛ فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين, فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته, وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء والإخوة الأحباب الكرام الأعزاء. وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً, وأسأل الله العظيم الكريم جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت المبارك على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته, إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله: في رحاب الدار الآخرة سلسلة علمية هامة تجمع بين المنهجية والرقائق, وبين التأصيل العلمي والأسلوب الوعظي الهادف، منها: تذكير الناس بالآخرة في عصر طغت فيه الماديات والشهوات, وانصرف كثير من الناس عن منهج رب الأرض والسماوات؛ ليعجلوا بالتوبة إلى الله سبحانه وتعالى قبل أن تأتيهم الساعة بغتة وهم يخصمون؛ فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ. وهذا هو لقاؤنا الحادي عشر من لقاءات هذه السلسلة المباركة الكريمة, وكنا قد أنهينا الحديث في اللقاء الماضي مع الناس وهم في أرض المحشر وقد اشتد بهم الهول والغم والكرب، فالزحام يكاد وحده أن يخنق الأنفاس, والشمس فوق الرءوس بمقدار ميل, والناس غرقى في عرقهم كل بحسب عمله وقربه من الملك الجليل, وفي هذا المشهد الرهيب العصيب يزداد الهم والغم والكرب بمجيء جهنم -أعاذنا الله من حرها- قال تعالى: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} [الفجر:23 - 26]. وفي الحديث الذي رواه مسلم من حديث ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم قال: (يؤتى بجهنم يوم القيامة لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها) , فإذا ما رأت النار الخلائق زفرت وزمجرت غضباً منهم لغضب الملك الجبار جل جلاله، وحينئذٍ تجثو جميع الأمم على الركب، قال تعالى: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:28]. وهنا تطير قلوب المؤمنين شوقاً إلى الجنة -اللهم اجعلنا منهم بمنك وكرمك- وتطير قلوب المجرمين هرباً وخوفاً وفزعاً ورهبة من النار, بل ويعضُّ صنف كثير من الناس في أرض المحشر على يديه يتأسف ويتحسر ويتندم على ما قدم في هذه الحياة الدنيا، ولكن يوم لا ينفع الندم قال تعالى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً * وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً} [الفرقان:26 - 29]. {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي} [الفرقان:27] ولكن متى؟! ضاع وقت التحسر, وفات وقت الندم {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً} [الفرقان:27 - 29]. في هذا الكرب ينطلق بعض الناس ويقول بعضهم لبعض: ألا ترون ما نحن فيه؟ وما قد بلغنا؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم ليقضي بينكم ولا نقف هذا الموقف العصيب الرهيب؟! وهناك يقول كل نبي: نفسي نفسي ويقول المصطفى: (أنا لها) , فلا يتقدم للشفاعة إلا نبينا صلى الله عليه وسلم، وهذا هو موضوعنا اليوم معكم أيها الأحبة الكرام, وكما تعودنا فسوف ينتظم حديثنا معكم في العناصر التالية: أولاً: الشفاعة العظمى. ثانياً: من أسعد الناس بشفاعة المصطفى صلى الله عليه وسلم. ثالثاً: مجيء الرب جل جلاله. فأعرني قلبك وسمعك -أيها الحبيب- والله أسأل أن يتقبل مني ومنكم جميعاً صالح الأعمال، وأن يستر علينا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض إنه على كل شيء قدير.

الشفاعة العظمى واختصاصها بالنبي صلى الله عليه وسلم

الشفاعة العظمى واختصاصها بالنبي صلى الله عليه وسلم روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أنا سيد الناس يوم القيامة، ثم قال: هل تدرون مم ذاك؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد وتدنو الشمس من الرءوس؛ فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، فيقول بعض الناس لبعض: ألا ترون ما نحن فيه؟ ألا ترون ما قد بلغنا؟ ألا تنظرون من يشفع لنا إلى ربنا؟ فيقول بعضهم لبعض: أبوكم آدم, فيأتون آدم عليه السلام فيقولون: يا آدم! أنت أبو البشر، خلقك الله بيده, ونفخ فيك من روحه, وأمر الملائكة بالسجود لك، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم عليه السلام: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله) -اللهم إنا نسألك بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات, وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، ألا تنزل بنا غضبك أو يحل علينا سخطك, لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك يا أرحم الراحمين-. يقول أبو البشرية آدم وهو نبي من أنبياء الله: (إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإنه قد نهاني عن الشجرة فعصيت، نفسي نفسي نفسي) -اللهم سلّم سلّم يا أرحم الراحمين-. يا أخي! بالله عليك عش بقلبك مع هذه الكلمات, آدم أبو البشر يقول: (نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري, اذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحاً عليه السلام فيقولون: يا نوح! أنت أول رسل الله إلى الأرض، وقد سماك الله عبداً شكوراً، فاشفع لنا إلى ربك, ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟) -نوح أول رسل الله في الأرض, ذلكم العملاق الذي ظل يدعو إلى الله ألف سنة إلا خمسين عاماً, ذلكم النبي الكريم الذي دعا القوم في السر والعلانية، في الليل والنهار {رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلَّا فِرَاراً * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً} [نوح:5 - 9] ما ترك هذا النبي الكريم سبيلاً إلا وسلكه، ألف سنة إلا خمسين سنة لم ينم ولم يهدأ، ولم يقر له قرار- فيقول نوح: (إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإنه كانت لي دعوة فدعوت بها على قومي، نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري) لقد دعا نبي الله نوح دعوته، فلكل نبي دعوة مستجابة، كل نبي تعجل بها في الدنيا إلا المصطفى صلى الله عليه وسلم, كما في صحيح مسلم: (لكل نبي دعوة مستجابة، وكل نبي قد تعجل دعوته إلا أنا فقد اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فإنها نائلة إن شاء الله تعالى من مات لا يشرك بالله شيئاً) اللهم ارزقنا التوحيد وتوفنا عليه يا أرحم الراحمين. نوح دعا على قومه فقال: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً} [نوح:26 - 27] , لذا يقول: (اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى إبراهيم) إلى الخليل والحليم الأواه وحبيب الله بلا نزاع, إلى هذا النبي الكريم الذي حرم الله على النار أن تمس جسده قال تعالى: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69]. (فيأتون إبراهيم الخليل عليه السلام ويقولون: يا إبراهيم! أنت نبي الله وأنت خليل الله من أهل الأرض اشفع لنا إلى ربك, ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول خليل الله إبراهيم: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، ويذكر إبراهيم كذباته, ثم يقول: نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري). وهل كذب إبراهيم؟! والجواب من صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات اثنتين منهن في ذات الله، أما الأولى فقوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89]) متى قال إبراهيم هذه العبارة؟ يوم كان شاباً صغيراً نشأ في قوم يعبدون الأصنام, ودعاه والده ليخرج مع القوم في عيد عبادة الأصنام، فتعلل إبراهيم بالمرض فقال: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89]؛ لأنه لا يريد أن يسجد لغير رب العالمين. وأما الثانية فقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} [الأنبياء:63] وذلك عندما حطم الأصنام وعلق الفأس في رأس كبير هذه الآلهة المدعاة, فلما عادوا {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:59] , فرد البعض بلغة التحقير التي هي ديدن الظالمين في كل زمان وأوان: {قَالُوا سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} [الأنبياء:60 - 61] , ثم وجهوا له هذا Q { أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} [الأنبياء:62 - 63]. وأما الكذبة الثالثة: فهي يوم أن خرج مهاجراً بزوجته سارة فنزل مصر، وكان في مصر في ذاك الزمان جبار من الجبابرة -أسأل الله أن يطهر مصر من الجبابرة في كل زمان وأوان- فلما مر بـ سارة عليها السلام نقل بعض الناس لهذا الجبار: إن رجلاً قد نزل بأرضنا معه امرأة من أجمل الناس. فأرسل هذا الجبار الخبيث بالشرطة، فجاءت لإبراهيم فأخذوه إلى الجبار، فقال له: من هذه؟ فقال إبراهيم: إنها أختي. ولم يقل إنها زوجتي؛ فلو قال: إنها زوجتي لقتله ليخلص إليها, فقال: إنها أختي. ثم عاد إبراهيم فقال لها: يا سارة! لقد سألني هذا الرجل عنك فقلت له: إنها أختي؛ فإنه لا يوجد على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك، فأنت أختي في دين الله جل وعلا, فإن سألك فصدقيني ولا تكذبيني. ثم أرسل هذا الخبيث الجبار إلى سارة فأتي بها, فلما دخلت عليه ونظر إليها قام إليها ليلمسها بيده، فشلّ الله يده -والحديث في صحيح البخاري - ووقف فقال لها: ادعي الله عز وجل ولا أضرك بعدها, فدعت الله فأطلق الله يده, فقام إليها الخبيث مرة ثانية ليتناولها بيده فشلّ الله يده, فقال: ادعي الله ولا أضرك بعدها, فدعت الله فأطلقت يده, فنادى على بعض حجبته وقال: إنكم لم تأتوني بإنسان وإنما أتيتموني بشيطان، اخرجوا بها وأخدموها هاجر , فأعطاها هاجر عليها السلام؛ لتخدمها وهي التي تزوجها إبراهيم بعد بذلك. فعادت سارة بـ هاجر فرأت إبراهيم يصلي لله جل وعلا, فلما انصرف من صلاته قال: مهيم -أي: ماذا فعل الله بك؟ - فقالت سارة: رد الله كيد الفاجر وأخدم هاجر، أي: وأعطاني هاجر خادمة لي. وهكذا صان الله عرض نبيه إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام, هذه كذبات إبراهيم على هامش الحديث الذي نحن بصدده، أرجع إلى حديث الصحيحين، يقول إبراهيم: (نفسي نفسي نفسي -وذكر كذباته التي ذكرت الآن- اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى موسى) إنه الكليم والمصطفى بالرسالة، والمجتبى بالكلام، والمصنوع على عين الله: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39] اصطفاه الله برسالاته وبكلامه على جميع الخلق. فيأتون موسى فيقولون: (يا موسى! أنت كليم الله، اصطفاك الله برسالاته وبكلامه على الناس ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ اشفع لنا إلى ربك, فيقول موسى عليه السلام: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإني قد قتلت نفساً لم أومر بقتلها، نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري -حتى الكليم يقول: اذهبوا إلى غيري! - اذهبوا إلى عيسى -يقول الحبيب محمد:- فيأتون عيسى عليه السلام ويقولون: يا عيسى! أنت رسول الله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، وكلمت الناس في المهد، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ اشفع لنا إلى ربك, فيقول عيسى عليه السلام: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله, اذهبوا إلى غيري، نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى محمد بن عبد الله). فهو والله التجارة الرابحة من سار على دربه نجا في دنياه وأخراه، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم, ولم يذكر عيسى صلى الله عليه وسلم ذنباً من الذنوب، فيقول الحبيب المصطفى: (فيأتوني فيقولون: يا رسول الله! لقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ اشفع لنا إلى ربك, فيقول المصطفى: أنا لها أنا لها -بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، لا يقول ولا يجيب إلا الحبيب- يقول: فأقوم فأخر ساجداً لربي تحت العرش، ثم ينادي عليه الملك جل جلاله ويقول: يا محمد! ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع, فيقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: يا رب! أمتي، يا رب! أمتي، يا رب! أمتي) هو الحليم الأواه صاحب القلب الكبير والرحيم, الذي قال الله في حقه: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]. قرأ يوماً قول الله في إبراهيم: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أ

المقام المحمود وفضله صلى الله عليه وسلم

المقام المحمود وفضله صلى الله عليه وسلم أقول: لم يشفع في البشرية كلها لفصل القضاء إلا المصطفى، ولم يرد الملك جل جلاله إلا على محمد بن عبد الله. أيها الموحدون: والله لا يعرف قدر رسول الله إلا الله, إن قدر رسول الله عند الله لعظيم, وإن كرامة النبي عند الله لكبيرة, فهو المصطفى والمجتبى، فلقد اصطفى الله من البشر الأنبياء، واصطفى من الأنبياء الرسل، واصطفى من الرسل أولي العزم الخمسة، واصطفى من أولي العزم الخمسة الخليلين إبراهيم ومحمداً، واصطفى محمداً ففضله على جميع خلقه, شرح له صدره، ورفع له ذكره, ووضع عنه وزره, وزكاه في كل شيء؛ زكاه في عقله فقال سبحانه: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم:2] , وزكاه في صدقه فقال سبحانه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3] , وزكاه في صدره فقال سبحانه: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1] , وزكاه في فؤاده فقال سبحانه: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11]، وزكاه في ذكره فقال سبحانه: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:4]، وزكاه في ظهره فقال سبحانه: {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ} [الشرح:2]، وزكاه في علمه فقال سبحانه: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:5]، وزكاه في حلمه فقال سبحانه: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، وزكاه كله فقال سبحانه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] بأبي هو وأمي، هو صلى الله عليه وسلم رجل الساعة ونبي الملحمة وصاحب المقام المحمود، فهذا هو المقام المحمود الذي يغبطه عليه كل نبي في أرض المحشر, الذي وعد الله به نبينا في قوله: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} [الإسراء:79]. فهذا هو المقام المحمود كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة, وأنا أول من ينشق عنه القبر, وأنا أول شافع وأول مشفع). وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة كذلك أنه صلى الله عليه وسلم قال: (مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى بنياناً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة في زاوية من زواياه, فجعل الناس يطوفون به ويتعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ -أي: ليكتمل جمال البنيان وجلاله، يقول المصطفى- فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين). وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم -فهو البليغ الفصيح- ونصرت بالرعب -وفي لفظ البخاري: مسيرة شهر- وأحلت لي الغنائم, وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً, وختم بي النبيون, وأرسلت إلى الناس كافة) هذه مكانة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم.

وجوب توقير النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه

وجوب توقير النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه بل أنزل الله قرآناً ليربي وليعلم الصحابة كيف يعظمون رسول الله، ويوقرونه ويتأدبون حتى في ندائه صلى الله عليه وسلم، ولكن الأمة الآن -إلا من رحم ربك- لم تعرف قدر نبيها ولم تعظم رسولها, بل لقد أساءت الأمة الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهجرت شريعته، ونحَّت سنته، ولم تعد تجيد إلا أن تتغنى برسول الله في ليلة هجرته وفي ليلة مولده وفي ليلة النصف من شعبان، فالأمة الآن لا تجيد إلا الرقص والغناء؛ لأنها عشقت الهزل وتركت الجد والرجولة. أمة تدعي الحب لرسول الله وتتغنى بحب رسول الله في المناسبات والأعياد الوطنية في الوقت الذي نحَّت فيه شريعته وهجرت فيه سنته, بل وخرج من أبناء هذه الأمة المتمردة من يقول في حق القرآن الذي أنزله الله على قلب رسوله, والذي جعل الله فيه الهدى في الدنيا والآخرة قال هذا المجرم المرتد: إن القرآن منتج ثقافي ليس من عند الله. وقال خبيث آخر: لقد عزمنا على أن نأخذ كل ما عند الغربيين حتى الإلتهابات التي في رئاتهم والنجاسات التي في أمعائهم. وقال خبيث ثالث: إن مصيبة الشرق في التمسك بما يسمى بالأديان. الأمة هجرت شريعة رسول الله, ونحَّت الأمة سنة رسول الله, أين الشريعة المغيرة المبدلة المضيعة؟! فهذا ورب الكعبة هو أعظم منكر على وجه الأرض, وهذا هو الذي يجب أن تجيش له كل الطاقات والإمكانيات حتى تظلل شريعة المصطفى سماء هذه الأمة, اللهم رد الأمة إليك رداً جميلاً برحمتك يا أرحم الراحمين.

سبب رد أقوام عن حوضه صلى الله عليه وسلم

سبب رد أقوام عن حوضه صلى الله عليه وسلم اسمع! وانتبه! فإن كل منتسب لأمة النبي مغرور ومخدوع يقول: إن لم أدخل الجنة أنا أيدخلها بطرس شلودة أنا الذي سأدخل الجنة, اسمع! لتعلم أن كل من غير وبدل وابتدع وانحرف عن هدي رسول الله سيحال بينه وبين حوض رسول الله في أرض المحشر, لن يعرفه النبي ولن يتقدم إليه النبي, حوض المصطفى في أرض المحشر الناس في حاجة إليه شديدة, الزحام يخنق الأنفاس, والشمس فوق الرءوس كلها في أرض واحدة من لدن آدم في هذا الظرف الرهيب، المصطفى واقف على حوضه, والحوض ماؤه أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل وأطيب ريحاً من المسك, كيزانه بعدد نجوم السماء, من شرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبداً حتى يتمتع بالنظر إلى وجه الملك في الجنة, اللهم اسقنا شربة هنيئة مريئة, لا نرد ولا نظمأ بعدها أبداً برحمتك يا أرحم الراحمين. وفي الحديث الذي رواه البخاري من حديث سهل بن سعد الساعدي يقول صلى الله عليه وسلم: (أنا فرطكم على الحوض -أي: سأسبقكم- يوم القيامة لأقف على الحوض فمن مر عليّ شرب, ومن شرب لا يظمأ أبداً, لَيَرِدَنّ عليّ الحوض قوم أعرفهم ويعرفونني ثم يحال بيني وبينهم -وفي لفظ في الصحيح: ثم يختلجون -أي: يمنعون ويصدون- فيقول المصطفى: إنهم من أمتي إنهم من أمتي فيقال للحبيب: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فيقول المصطفى: سحقا سحقاً -أي: بعداً بعداً لكل من غير بعدي-). الاتباع امتثال الأمر والنهي للحبيب محمد. هذا هو سبيل الفوز والنجاة. معاذ بن جبل ينام على فراش الموت ويدخل عليه الليل فيشتد به الألم والوجع فينظر إلى أصحابه ويقول: [هل أصبح النهار؟ فيقولون: لا لم يصبح بعد, فيبكي معاذ بن جبل -حبيب رسول الله الذي قال له: والله يا معاذ إني لأحبك- ويقول: أعوذ بالله من ليلة صباحها إلى النار] يخشى معاذ بن جبل أن يكون من أهل النار. وهذا هو فاروق الأمة عمر بن الخطاب الذي أجرى الله الحق على لسانه وقلبه ينام على فراش الموت، فيدخل عليه ابن عباس ليذكره وليثني عليه الخير كله, فيقول له عمر: [والله إن المغرور من غررتموه, والله لو أن لي ملء الأرض ذهباً لافتديت به اليوم من عذاب الله قبل أن أراه] ثم قال عمر: [وددت أن أخرج من الدنيا كفافاً لا لي ولا عليّ]. وهذه هي عائشة تسأل عن قول الله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر:32] , فتقول عائشة: [يا بني! أما السابق بالخيرات فهؤلاء الذين ماتوا مع رسول الله وشهد لهم رسول الله بالجنة, وأما المقتصد فهؤلاء الذين اتبعوا أثر النبي حتى ماتوا على ذلك, وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلك] فجعلت عائشة نفسها معنا جعلت نفسها من الظالمين لأنفسهم. وهذا سفيان الثوري إمام الدنيا في الحديث ينام على فراش الموت فيدخل عليه حماد بن سلمة فيقول له حماد: أبشر يا أبا عبد الله! إنك مقبل على من كنت ترجوه وهو أرحم الراحمين, فبكى سفيان وقال: أسألك بالله يا حماد أتظن أن مثلي ينجو من النار. ونحن جميعاً نقول: من منا لن يدخل الجنة؟ من منا لن يشفع له رسول الله؟ هاهو الحديث في البخاري يبين لنا فيه الحبيب النبي أنه سيحال بينه وبين أقوام من هؤلاء الذين حرفوا وبدلوا وانحرفوا عن سنته صلى الله عليه وسلم؟

أسعد الناس بشفاعة المصطفى صلى الله عليه وسلم

أسعد الناس بشفاعة المصطفى صلى الله عليه وسلم أحببت أن أكمل الفائدة بهذا العنصر الثاني في هيئة هذا Q من أسعد الناس بشفاعة المصطفى صلى الله عليه وسلم؟ وهذا العنصر الثاني من عناصر هذا اللقاء لتكتمل الفائدة في باب الشفاعة، فإنه من أنفس أبواب العلم, ومن أسعد الناس بشفاعة الحبيب, ليحاسب اليوم كل واحد منا نفسه: أين هو من الحبيب؟ من يدعي حب النبي ولم يفد من هديه فسفاهة وهراء فالحب أول شرطه وفروضه إن كان صدقاً طاعة ووفاء قال سبحانه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31] هل امتثلت أمره؟ واجتنبت نهيه؟ هل وقفت عند الحدود التي حدها لك المصطفى؟ سؤال أو أسئلة يجب أن يسألها كل مسلم صادق لنفسه؛ ليحدد موقعه من منهج وطريق رسول الله صلى الله عليه وسلم. من أسعد الناس بالشفاعة يوم القيامة؟ والجواب في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، فهو صاحب هذا السؤال الجليل, قال أبو هريرة: (من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة يا رسول الله؟ فقال المصطفى: لقد ظننت أنه لا يسألني عن هذا السؤال أحد قبلك لما رأيت من حرصك على الحديث يا أبا هريرة -منقبة من رسول الله لـ أبي هريرة - أسعد الناس بشفاعتي من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه) , وفي رواية ابن حبان: (أسعد الناس بشفاعتي من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه يصدق قلبه لسانه، ويصدق لسانه قلبه) , وفي صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لكل نبي دعوة مجابة، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي، فهي نائلة إن شاء الله تعالى من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً) , هذا هو الشرط, وهو أسعد الناس بشفاعة الحبيب من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه، وحقق التوحيد لله.

لابد من إخلاص التوحيد ومطابقة القول للعمل

لابد من إخلاص التوحيد ومطابقة القول للعمل من الناس الآن من يردد بلسانه: لا إله إلا الله، لم يصدق قلبه هذه الكلمة, ولم يخلص العبادة لله جل وعلا, بل ذهب ليصرف العبادة لغير الله، فهو لا يعرف لكلمة التوحيد معنى، ولا يقف لها على مضمون، ولا يعرف لها مقتضى. ومن الناس من يردد بلسانه: لا إله إلا الله، وقد انطلق حراً طليقاً ليختار لنفسه من المناهج الأرضية والقوانين الوضعية الفاجرة ما وضعه المهازيل من خلق الله. ومن الناس من ردد بلسانه: لا إله إلا الله، وهو لم يحقق لله الولاء ولا البراء. ومن الناس من ردد بلسانه كلمة: لا إله إلا الله، وقد ترك الصلاة وضيعها, وضيع الزكاة والحج مع قدرته واستطاعته, وأكل الربا, وشرب الخمر, وباشر الزنا, وأكل أموال اليتامى, يسمع الأمر فيهز كتفيه في سخرية وكأن الأمر لا يعنيه, ويسمع المواعظ فيهزأ وكأن الأمر لا يعنيه. فلا بد من إخلاص التوحيد، فكلمة التوحيد ليست مجرد كلمة يرددها الإنسان بلسانه وفقط، لا. بل إن الإيمان: قول باللسان، وتصديق بالجنان، وعمل بالجوارح والأركان. ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل، فمن قال خيراً وعمل خيراً قبل منه، ومن قال خيراً وعمل شراً لم يقبل منه. وفي الصحيحين من حديث عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق والنار حق؛ أدخله الله الجنة على ما كان من العمل) , وفي رواية عتبان بن مالك: (فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله) , إنه إخلاص التوحيد.

عزة الأمة بتحقيق توحيد الله

عزة الأمة بتحقيق توحيد الله يا من رددت بلسانك: لا إله إلا الله! هل صدق قلبك وامتثلت جوارحك مقتضيات هذه الشهادة, فإن التوحيد أمره عظيم, إن شأن التوحيد عظيم وثقيل, إنها الأمانة العظيمة، ووالله ما ضاعت الأمة وذلت إلا يوم أن فرغت محتوى لا إله إلا الله من مضمونها كله, فإن الجذر الحقيقي لهذه الأمة هو التوحيد, ويوم أن فرغ الجذر وأصبح قشرة هشة تحركها الرياح من هنا ومن هنالك ذلت الأمة ممن كتب الله عليهم الذل والذلة من إخوان القردة والخنازير من أبناء يهود, فإن مصدر سعادة الأمة هو التوحيد, ما أعز الله الأمة إلا بالتوحيد، وإن لبنة الأساس في صرح الإسلام هي التوحيد, وإن أول خطوة على طريق العز والكرامة هي التوحيد، ولا عزة للأمة إلا إذا حققت وأخلصت وجردت التوحيد لله من جديد, فمن أبناء الأمة الآن من يذبح، ومن يقدم النذر لغير الله, ومن أبناء الأمة الآن من يتهم شريعة الله المطهرة بالجمود والرجعية والتخلف والتأخر وعدم قدرة هذه الشريعة على مسايرة مدنية القرن الحادي والعشرين. فلا كرامة للأمة إلا إذا أخلصت التوحيد, فأسعد الناس بشفاعة محرر العبيد من أخلص التوحيد للعزيز الحميد جل وعلا, من مات لا يشرك بالله شيئاً. فوحد الله -أيها الحبيب- وأخلص التوحيد لله, وأخلص الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث الذي رواه مسلم والترمذي واللفظ للترمذي من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى في الحديث القدسي: (يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي, يا بن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي, يا بن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة) , إنه التوحيد وفضل الإيمان بالله جل وعلا. فأسعد الناس بشفاعة المصطفى من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه. أيها الأخيار! فكلمة التوحيد قد قُيدت بشروط ثقال: بالعلم واليقين والإخلاص والقبول والمحبة إلى آخر هذه الشروط التي فصلناها في دروس الاعتقاد قبل ذلك. فلا بد أن تحققوا وتخلصوا وتجردوا التوحيد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يشفع يوم القيامة إلا إن أَذن الله عز وجل له، ولا يشفع إلا لمن وحد الله وأخلص له كلمة لا إله إلا الله. أسأل الله جل وعلا أن يجعلني وإياكم من أهل التوحيد, وأن يختم لي ولكم بالتوحيد, وأن يرزقنا شفاعة النبي بمنه وكرمه إنه على كل شيء قدير. بقي لنا أن نتحدث عن مجيء الرب جل وعلا، ولكن أرى الوقت قد أزف وسرقنا، لذا سأرجئ الحديث عن هذا العنصر الهام إلى اللقاء المقبل إن قدر الله لنا اللقاء والبقاء. وأسأل الله جل وعلا أن يتقبل مني ومنكم جميعاً صالح الأعمال, اللهم استرنا فوق الأرض، واسترنا تحت الأرض، واسترنا يوم العرض, اللهم ارزقنا شفاعة حبيبك المصطفى, اللهم وكما آمنا به ولم نره لا تفرق بيننا وبينه حتى تدخلنا مدخله, اللهم وأوردنا حوضه الأصفى, واسقنا من حوضه شربة هنيئة مريئة لا نرد ولا نظمأ بعدها أبداً, اللهم لا تحرمنا شفاعة الحبيب, اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض يا أرحم الراحمين. اللهم لا تدع لأحد منا في هذا الجمع المبارك ذنباً إلا غفرته, ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته, ولا ميتاً لنا إلا رحمته, ولا عاصياً إلا هديته, ولا طائعاً إلا زدته وثبته, ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ويسرتها يا أرحم الراحمين. اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروماً. اللهم إنا نسألك لإخواننا وأبنائنا الطلاب التوفيق والسداد, اللهم يسر لهم الأسباب, اللهم ذلل لهم الصعاب, اللهم فَتِّح لهم الأبواب, اللهم ذكرهم في الامتحانات ما نسوا, وعلمهم في الامتحانات ما جهلوا, اللهم يسر لهم بمنك وكرمك يا رب العالمين. اللهم اجعل أبناءنا قرة عين لنا في الدنيا والآخرة برحمتك يا أرحم الراحمين. هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده, وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان, والله ورسوله منه براء, وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.

يوم القيامة

يوم القيامة قبل أن يذكر الشيخ حفظه الله مشاهد يوم القيامة ذكر عقيدة التوحيد في عيسى عليه السلام وما وقع من الاختلاف فيه، ثم تحدث عن يوم القيامة، وإنذار الله تعالى وتحذيره منه، وزلزاله وما يقع فيه من حسرة، مذكراً بالنفخ في الصور، وفناء الخلق وبعثهم، وحالهم يوم العرض على الله، ومبيناً وجوب الاستعداد لذلك بمحاسبة النفس قبل أن تحاسب.

عيسى عليه السلام وتوحيده لله

عيسى عليه السلام وتوحيده لله الحمد لله المستحق لجميع أنواع العبادة، ولذا قضى ألا نعبد إلا إياه، ذلك بأن الله هو الحق، وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلي الكبير. حمداً لك يا من اعترف بفضلك وكرمك ونعمك كل حاضرٍ وباد. حمداً لك يا من اغترف من بحر جودك وكرمك وإحسانك كل رائحٍ وغاد. حمداً لك يا من نطقت بوحدانيتك جميع الكائنات، فالسماء دائماً وأبداً تقول: سبحان من رفعني بقدرته، وأمسكني بقوته، فهو ركني وعمادي، والأرض دائماً وأبداً تقول: سبحان من وسع كل شيء علماً ومهد مهادي، والبحار دائماً تقول: سبحان من بمشيئته وقدرته وإرادته أجراني، وأسال عيون مائي لقصادي وورادي، والعارف به يقول: سبحان من دلني عليه، وجعل إليه مرجعي ومعادي، والمذنب يقول: سبحان من اطلع علي في المعصية ورآني، فلما رآني سترني وغطاني، ولما تبت إليه تاب علي وهداني. أحمدك يا ربي وأستعينك وأستغفرك وأستهديك، لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، جل ثناؤك، وعظم جاهك، ولا إله غيرك. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الواحد الذي لا ضد له، وهو الصمد الذي لا منازع له، وهو الغني الذي لا حاجة له، وهو القوي الذي لا يعجزه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، وهو جبار السماوات والأرض، لا راد لحكمه، ولا معقب لقضائه، إنما قوله لشيءٍ إذا أراده أن يقول له: كن فيكون. وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وعظيمنا وقائدنا ومعلمنا وقدوتنا وأستاذنا محمداً رسول الله، اللهم صلَّ وسلم وبارك عليك يا سيدي يا رسول الله، صلاةً وسلاماً يليقان بمقامك يا أمير الأنبياء! ويا سيد المرسلين! وأشهد لك يا سيدي ويشهد معي الموحدون أنك قد أديت الأمانة، وبلغت الرسالة، ونصحت الأمة، وكشف الله بك الغمة، وعبدت ربك يا سيدي حتى لبيت داعيه، وجاهدت في سبيل ربك حتى أجبت مناديه، وعشت طوال أيامك ولياليك تمشي على شوك الأسا، وتخطو على جمر الكيد والعنت، تلتمس الطريق لهداية الضالين، وإرشاد الحائرين، حتى علمت الجاهل، وقومت المعوج، وأمنت الخائف، وطمأنت القلق، ونشرت أضواء الحق والخير والإيمان والتوحيد كما تنشر الشمس ضياءها في رابعة النهار، فصلى الله وسلم وبارك عليك يا سيدي يا رسول الله، وجزاك الله عنا خير ما جزى الله نبياً عن أمته، ورسولاً عن قومه. أما بعد: فيا أيها الأحباب: تعالوا بنا لنطوف سوياً في روضة القرآن الكريم ومع اللقاء الثاني عشر على التوالي، ما زلنا نطوف مع حضراتكم في بستان سورة مريم، وبفضلٍ من الله وبحوله ومدده وطوله وقوته أنهينا الحديث في اللقاء الماضي عن قصة عيسى وعن قصة مريم عليهما السلام، وكانت هذه النهاية عن رفع عيسى وعن نزوله بين يدي الساعة كعلامة من علامات الساعة الكبرى، وقلنا بأن اليهود والنصارى قالوا: بأن عيسى قُتل وصلب، ولكننا رددنا عليهم بما رد عليهم به ربنا جل وعلى فقال: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:157]. ونحن اليوم أيها الأحباب على موعدٍ مع قول الله جل وعلا بعد أن أقر عيسى لله بالوحدانية وأقر لنفسه بالنبوة والرسالة، فقال على نبينا وعليه الصلاة والسلام: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً * وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً * وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً) [مريم:30 - 33] قال الله بعدها: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [مريم:34 - 35] وقال عيسى: {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [مريم:36] ثم قال الله جل وعلا: {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ * أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم:37 - 40] نحن اليوم على موعدٍ مع هذه الآيات المباركات من كتاب رب الأرض والسماوات، فانتبهوا معي جيداً أيها الموحدون.

اختلاف النصارى في عيسى عليه السلام

اختلاف النصارى في عيسى عليه السلام {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ} [مريم:37] بعد أن بين الله حقيقة عيسى اختلف الأحزاب أي: اختلف أهل الكتاب من اليهود والنصارى، فقال اليهود في عيسى: إن عيسى ولد زنا -والعياذ بالله- واختلف النصارى في عيسى على ثلاثة طوائف: قالت الطائفة الأولى: إن عيسى هو الله نزل من السماء إلى الأرض فأحيا من أحيا، وأمات من أمات، ثم صعد مرةً ثانيةً إلى السماء، وهذه هي الطائفة التي تسمى بـ اليعقوبية. الطائفة الثانية قالت: بأن عيسى ابن الله، وهذه الطائفة تسمى بـ النسطورية. الطائفة الثالثة قالت: إن عيسى ثالث ثلاثة، فالله إله وعيسى إله ومريم إله، وهذه الطائفة تسمى بـ المنسية. وهناك طائفة رابعة ولكنها تختلف تماماً عن هذه الطوائف كلها، قالت: إن عيسى هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء وروحٌ من الله، وهذه الطائفة هم الموحدون من أمة إمام الموحدين وسيد الأولين والآخرين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، هذه هي الطائفة التي قالت بالحق وعرفت الحق فقالت بأن الله واحدٌ لا شريك له، واحدٌ في ذاته، وصفاته، وأفعاله، لا يشبهه شيء، منزه عن كل نقصٍ، ومنزهٌ عن كل عيب، لا تدركه العقول، ولا تكيفه الأفهام، فكلما دار ببالك فالله بخلاف ذلك: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] الذي قال ذلك هم الموحدون من أمة إمام الموحدين سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم.

تهديد الله لكل من افترى عليه الكذب

تهديد الله لكل من افترى عليه الكذب {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ} [مريم:37] في عيسى كلمة الله، وعبد الله، ورسول الله {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [مريم:37] تهديدٌ ووعيدٌ شديد من الله العزيز الحميد لكل من افترى على الله الكذب، لكل من زعم أن لله ولداً، والله جل وعلا يقول عن نفسه: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:3 - 4] {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [مريم:37] من مشهد يوم القيامة.

إنذار الله تعالى وتحذيره من يوم القيامة

إنذار الله تعالى وتحذيره من يوم القيامة وبعد هذه الآيات ينذر الله تبارك وتعالى، ويحذر ويبين حال المشركين والكفار في يومٍ تشخص فيه الأبصار، وافتقارهم إلى رحمة العزيز الغفار، فيقول جل وعلا: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [مريم:38] تعجب من حدة سمعهم وحدة بصرهم في يوم القيامة، فسوف يبصرون ما يسود وجوههم، وسوف يشاهدون ما يخلع قلوبهم: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} [مريم:38] يسمعون كل شيء، وينظرون كل شيء، وصدق الله إذ يقول: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة:12] كلا، هيهات هيهات، إنهم يسمعون كل شيء ويبصرون كل شيء، ولكن قد انقضى كل شيء لا عودة {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ * كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:99 - 101] كلمة لا يسمعها الله، كلمة لا يجيبها الله، بل يأتيه جواب في وجهه كالقنبلة: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون:101] لا يسمعها الله ولا يجيبها الله: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:101]. {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} [مريم:38] أي يوم القيامة {لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ} [مريم:38] أي: في الدنيا {فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [مريم:38] لا يسمعون ولا يبصرون ولا يعقلون: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ} [البقرة:13] إذا قيل لهم: آمنوا، قولوا لا إله إلا الله، وحدوا الله حق توحيده، واعبدوا الله حق عبادته، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ} [البقرة:13].

من مشاهد يوم القيامة

من مشاهد يوم القيامة {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [مريم:38] لكن الظالمون في حياتهم الدنيا في ضلال، لا يسمعون ولا يبصرون، ولا يعقلون، ولا يعرفون حقاً، ولا يعرفون طريقاً مستقيماً، {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [مريم:38]. ثم بعد ذلك -انتبهوا معي جيداً- يأتي الإنذار العام، فيقول الله جل وعلا: ((وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ)) [مريم:39] أنذر الناس جميعاً يا محمد، أنذر الخلائق جميعاً يا رسول الله؛ ((وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ)) [مريم:39] يوم القيامة {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [مريم:39]. ورد في الحديث الصحيح الذي أخرجه الإمام البخاري ومسلم والإمام أحمد في مسنده، وابن ماجة في سننه، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، ورواية البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار يجاء بالموت على صورة كبشٍ أملح فيوقف بين الجنة والنار، ثم ينادى: يا أهل الجنة! فيشرئبون وينظرون، ثم يُقال لهم: هل تعرفون هذا؟ فيقول أهل الجنة: نعم. إنه الموت، ثم ينادى على أهل النار: يا أهل النار! هل تعرفون هذا؟ فيقول أهل النار: نعم. إنه الموت، فيأمر الله جل وعلا أن يُذبح الموت في صورة هذا الكبش، ثم ينادى ويقال: يا أهل الجنة خلودٌ فلا موت، ويا أهل النار خلودٌ فلا موت ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم قول الله جل وعلا: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [مريم:39] ثم أشار النبي صلى الله عليه وسلم بيده وقال: إن أهل الدنيا في غفلة) نعم والله يا رسول الله إن أهل الدنيا في غفلة. {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [مريم:39] يوم الحسرة يوم القيامة، يوم الحسرة والندامة، يوم الصيحة، يوم الحاقة، يوم القارعة، يوم الزلزلة، يوم يقوم الناس لرب العالمين، يوم ترجف الأرض والجبال، يوم تسير الجبال، يوم تكون الجبال كالعهن المنفوش {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89] يوم الطامة، يوم الصاخة. ((وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ)) [مريم:39] {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم:48] {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:104] وأنذرهم يا محمد يوم الحسرة، يوم القيامة، يوم الحسرة والندامة، هذا اليوم الذي تنقلب فيه كل الموازين، وتتغير وتتبدل فيه كل القوانين {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم:48] تُغير هذه الأرض، وتُبدل هذه الأرض، الجبال ينسفها ربي نسفاً.

زلازل الدنيا عظة وعبرة

زلازل الدنيا عظة وعبرة سبحان الله العظيم، يأبى الله جل وعلا إلا أن يظهر الحق ويزهق الباطل، ما أحداث زلزال أرمينيا منكم ببعيد، ما الذي حدث وما الذي جرى في ثوانٍ قليلة معدودة، في لحظاتٍ قليلة بدل الله الأرض غير الأرض، دمر الله الحضارات، ودمر الله المدنيات، ودمر الله الكفرة والمشركين، في ثوانٍ ثلاث دمر الله مدينة بأسرها، وحطم الله حضارةً بعينها، بنوها في مئات السنين، بل في آلاف السنين، وفي ثوانٍ قليلة أمر الله الذي لا راد لأمره ولا معقب لحكمه فدمر هذه المدنيات، ودمر هذه الحضارات بزلزالٍ قليل، بزلزالٍ بسيط لم يتجاوز الثواني الثلاث دمر الله المدنيات، وحطم الله الحضارات، فأين كانت أجهزة الإنذار المبكر عند الشيوعيين؟ أين كانت قوتهم؟ أين كان جبروتهم؟ أين كان طغيانهم الذي صبوه على رءوس إخواننا من الموحدين في أفغانستان؟ أين كانت هذه القوة وأين كان هذا الجبروت؟ وأين كان هذا الظلم؟ أين كانت الأجهزة؟ إن الله الذي أمر لا راد لأمره: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40] دمر الله المدنية، ودمر الله الحضارة بهذا الزلزال البسيط الضعيف. وأعجبتني عبارة عجباً كثيراً لصاحب ظلال القرآن الشيخ سيد قطب عليه رحمة الله وقدس الله روحه بقدر ما أعطى للقرآن من معانيه، قال صاحب ظلال القرآن: وإن هذه الزلازل وتلك البراكين التي تدمر المدنيات، وتحطم الحضارات، إنها إلى جوار زلزلة يوم القيامة كتسليات أطفال، هذا الزلزال الذي دمر وحطم وأباد الناس إنما هي تسليات أطفال إلى جوار هول وزلزلة يوم القيامة، فتعالوا بنا أيها الأحباب لنرى ماذا قال الله عن يوم الحسرة.

تصوير الله ليوم الحسرة

تصوير الله ليوم الحسرة {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ} [مريم:39] ماذا قال الله جل وعلا عن ذلك اليوم؟ ماذا قال الله جل وعلا عن يوم الحسرة، والقيامة، والندامة، عن يومٍ يعض الظالم فيه على يديه ويقول: يا ليتني وحدت الله حق توحيده، ويا ليتني عبدت الله حق عبادته، ماذا قال الله جل وعلا؟ يقول سبحانه وتعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1 - 2]. بسم الله الرحمن الرحيم {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ * وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ * وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ * وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ * وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ * وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} [التكوير:1 - 14]. بسم الله الرحمن الرحيم {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ * يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ * كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ * وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ * إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ * يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ * وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار:1 - 19]. بسم الله الرحمن الرحيم {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ * وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ * يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:1 - 6]. بسم الله الرحمن الرحيم {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْأِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:1 - 8]. {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} [مريم:39] يوم القيامة، يوم الحسرة والندامة، يوم الزلزلة، {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ} [مريم:39]، {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير:1] ذهب ضياؤها وضاع نورها. {وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ} [التكوير:2] أي: تناثرت من عقدها الفريد، ونظامها البديع. {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} [التكوير:3] {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً} [طه:105] فتكون كالعهن المنفوش. {وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ} [التكوير:4] والعشار هي النوق الحبالى في شهرها العاشر أغلى ما يملكه العربي، ولكنه يوم في القيامة لا يلتفت إليها ولا يهتم بها لأنه قد حل به ما يشغله عنها. {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} [التكوير:5] المفترس مع الأليف. {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير:6] تفجرت بالنيران. {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ * وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ * وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ} [التكوير:7 - 11] {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم:48]. {وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ} [التكوير:12] {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق:30]. {وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ} [التكوير:13] أي: قربت للموحدين، للمؤمنين، للمخلصين، للمتقين، للمسلمين. {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} [التكوير:14] وفي آية أخرى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} [الانفطار:5] هذا هو اليوم الذي ينقلب فيه كل مسئول، هذا هو اليوم الذي ينقلب فيه كل معهود، هذا هو اليوم الذي سيفنى فيه كل موجود {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم:48] هذه مرحلة من مراحل هذا اليوم، مرحلة كلها فزع، مرحلةٌ كلها رعب، قال الله جل وعلا عنها: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل:87] ثم ماذا عن هذا اليوم؟ ثم ماذا عن يوم الحسرة والندامة؟ ثم ماذا عن قوله: ((وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ)) [مريم:39] يأمر الله جل وعلا إسرافيل أن ينفخ في الصور لماذا؟ ليموت كل حيٍ على ظهر هذه الأرض، ليموت كل حيٍ في السماوات وفي الأرض إلا من شاء الله جل وعلا، فإذا ما أمر الله تبارك وتعالى إسرافيل بالنفخ في الصور: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68] مات كل مخلوقٍ بعد هذه النفخة، مات كل حيٍ بعد هذه النفخة، ويأتي ملك الموت إلى الملك ويدور بين الله جل وعلا وبين ملك الموت هذا الحوار: يقول ربنا تبارك وتعالى لملك الموت: يا ملك الموت! من بقي؟ وهو أعلم سبحانه وتعالى! فيقول ملك الموت: يا رب! بقيت أنت الحي الذي لا تموت، وبقي جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت وحملة العرش. فيقول ربنا جل وعلا: ليمت جبريل وميكائيل، وهنا ينطق العرش ويقول: جبريل وميكائيل فيهتف الحق جل وعلا وينادي على عرشه ويقول: اسكت فإني كتبت الموت على كل من كان تحت عرشي، ليمت جبريل ويمت ميكائيل فيموتان. ويأتي ملك الموت إلى الملك فيقول ربنا لملك الموت: يا ملك الموت! من بقي؟ فيقول ملك الموت والله أعلم بمن بقي: يا رب! قد مات جبريل وميكائيل وبقي إسرافيل وبقي حملة العرش وبقيت أنا، أما أنت فأنت حيٌ لا تموت. فيقول الملك: يا ملك الموت! ليمت إسرافيل لام الأمر ولام العظمة ولام الإرادة ولام الذل والقهر {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40] ليمت إسرافيل فيأمر الله العرش أن يلتقم الصور. فيقول الله جل وعلا لملك الموت: من بقي؟ وهو أعلم، فيقول: بقيتَ أنت الحي الذي لا يموت، وبقيتُ أنا وبقي حملة العرش، وعرش الرحمن غير محتاج إلى الحملة {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] استوى كما أخبر وعلى الوجه الذي أراد، وبالمعنى الذي قال، استواءً منزه عن الحلول والانتقاص، فلا العرش يحمله، ولا الكرسي يسنده، بل العرش وحملته، والكرسي وعظمته، الكل محمولٌ بلطف قدرته، مقهورٌ بجلال قبضته، فالاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعةٌ، ومن الله الرسالة وعلى الرسول البلاغ؛ لأنه تعالى كان ولا مكان، وهو على ما كان قبل خلق المكان لم يتغير عما كان، لا يحويه زمان، ولا يحده مكان، علم ما كان وما هو كائن وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40]. فيقول الله لملك الموت: ليمت حملة العرش، فيموت حملة العرش ويبقى ملك الموت. وهنا يقول الملك: يا ملك الموت! من بقي وهو أعلم. فيقول: يا رب ما بقي إلا عبدك الذليل الضعيف الماثل بين يديك ملك الموت، فيقول الله جل وعلا لملك الموت: يا ملك الموت! وأنت خلقٌ من خلقي، خلقتك لما ترى، فمت يا ملك الموت، مات جبريل ومات إسرافيل، ومات ميكائيل، ومات حملة الع

أيها الإنسان! إنك إلى ربك راجع فاستعد

أيها الإنسان! إنك إلى ربك راجع فاستعد {إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6] وصدق الله إذ يقول: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:26 - 30]. بسم الله الرحمن الرحيم {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ * وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ * فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:81 - 96]. أيا من يدعي الفهم إلى كم يا أخا الوهم تعب الذنب والذم وتخطي الخطأ الجم أما بان لك العيب أما أنذرك الشيب وما في نصحه ريب ولا سمعك قد صم أما نادى بك الموت أما أسمعك الصوت أما تخشى من الفوت فتحتاط وتهتم فكم تسدر في السهو وتختال من الزهو وتنصب إلى اللهو كأن الموت ما عم كأني بك تنحط إلى اللحد وتنغط وقد أسلمك الرهط إلى أضيق من سم هناك الجسم ممدود ليستأكله الدود إلى أن ينخر العود ويمسي العظم قد رم فزود نفسك الخير ودع ما يعقب الضير وهيئ مركب السير وخف من لجة اليم بذا أوصيك يا صاح وقد بحتت كمن باح فطوبى لفتى راح بآداب محمد يأتم كل باكٍ فسيبكى كل ناعٍ فسينعى وكل مذكورٍ سينسى وكل مذخورٍ سيفنى ليس غير الله يبقى من علا فالله أعلى يا ظالم حاكماً كنت أو محكوماً، يا فاسق! يا فاجر! يا من حاربت الله! يا من بارزت شرع الله! يا من استعبت اللحية بأنها عفن! ويا من اتهمت النقاب بأنه رجعية وتخلف! ستموت والله ستموت، والله لو دام الكرسي لغيرك ما وصلَ إليك، والله لو دامت الدنيا لغيرك ما وصلت إليك، والله ستلقى الله يوماً؛ فأعد للسؤال جواباً، أعد للعرض على محكمة الله بياناً، ثم ماذا؟ يقول الملك: لمن الملك اليوم؟ لله الواحد القهار، لا ملك اليوم إلا لله، ولا ملك قبل ذلك اليوم إلا لله، فالملك في الدنيا وفي الآخرة لصاحب الملك، الملك اليوم لله الواحد القهار. ثم ماذا عن قوله: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [مريم:39]؟ مات الجميع، بعد ذلك يأتي الأمر من الله جل وعلا إلى إسرافيل أن يحيى، وأن يحيى ميكائيل، وجبريل، وملك الموت، وحملة العرش، يحيي الله هذه الملائكة، ويقبض الله جل وعلا الأرواح، وأرواح المؤمنين لها ضياء، وأرواح الكافرين والمشركين لها ظلمة، ويقبضها رب العزة بيمينه جل وعلا، ويقذفها رب العزة في الصور، ويأمر الله إسرافيل أن ينفخ فلما ينفخ إسرافيل في الصور تخرج الأرواح تملأ ما بين السماء والأرض لها دويٍ كدوي النحل، فيقول الحق جل وعلا: وعزتي وجلالي لترجعن كل روحٍ إلى جسدها، فتدخل الأرواح إلى الأجساد وتسري في الأجساد كما يسري السم في جسد اللديغ، وتبدأ الأجسام بالتكامل والبناء، وتنشق الأرض عن الناس، وأول من تنشق عنه الأرض سيد الناس، فيخرج الناس من القبور حفاةً عراةً غرلاً.

حال الناس يوم العرض على الله

حال الناس يوم العرض على الله يا من ملأت بطنك بالمال الحرام! ويا من لبست على جسدك من اللباس الحرام! ستخرج من قبرك يوم القيامة حافياً عرياناً، (يحشر الناس يوم القيامة حفاةً عراةً غرلاً) كما قالت عائشة والحديث في البخاري ومسلم، فقالت: (يا رسول الله! الرجال والنساء ينظر كلٌ منهم إلى الآخر قال: يا عائشة إن الأمر أكبر من أن يهمهم ذلك) وفي رواية الإمام النسائي قالت عائشة: (الرجال مع النساء يا رسول الله! فكيف بالعورات؟! قال النبي صلى الله عليه وسلم: يا عائشة لكل امرئ منهم يومئذٍ شأنٌ يغنيه) {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:33 - 37]. فيقف الناس يبكون بالدموع حتى تنقطع الدموع، فيبكون دماً ينتظرون، وفجأة يرون أهل السماء من الملائكة ينزلون ليقفوا معهم في أرض المحشر، في الأرض التي أعدها الله للحساب، أرضٌ غير هذه الأرض {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم:48] {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:104] ينزل أهل السماء الأولى بضعفي من في الأرض، ثم الثانية، فالثالثة، فالرابعة، فالخامسة، فالسادسة، فالسابعة على قدر ذلك من التضعيف، فلما ينظر الناس إلى أهل السماء الأولى من الملائكة، مخلوقات عجيبة، مخلوقات جديدة تراها لأول مرة، فيقول الناس للملائكة: أفيكم ربنا؟ فتقول الملائكة: سبحانه! كلا. وهو آت، آتٍ إتياناً يليق بكماله وجلاله، فكل ما دار ببالك فالله بخلاف ذلك. ثم تنزل حملة العرش بكرسي الملك حيث شاء الله، وحيث أراد الله، يتنزلون ولهم تسبيح وتحميد، يقولون: سبحان ذي الملك والملكوت، سبحان ذي العزة والجبروت، سبحان من كتب الفناء على خلقه ولا يموت، قدوسٌ قدوسٌ قدوس، رب الملائكة والروح. ويتنزل الملك ويستوي الملك على كرسيه استواءً لا تدركه العقول ولا تكيفه الأفهام {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً} [طه:108] لا ينطق مخلوق، ولا يجرأ على الكلام أحد، إنما هو همس فقط {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً} [طه:108] وفجأة يشق هذا السكون، وهذا الذهول، وهذا الموقف صوت الملك ينادي على الخلائق من الإنس والجن ويقول: يا معشر الإنس والجن! لقد أنصت إليكم كثيراً في الدنيا فأنصتوا اليوم إلي، لا ينطق أحد، لا يتكلمون {لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً} [النبأ:38]. يا معشر الجن والإنس! لقد أنصت إليكم كثيراً في الدنيا فأنصتوا اليوم إلي، ثم ينادي الحق بعدها ويقول: (إنما هي أعمالكم وصحفكم تقرأ عليكم، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه) ويأمر الله جهنم فتُخرج عنقاً أسود مظلماً، وينادي الحق جل وعلا قائلاً: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ * هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [يس:60 - 64]. وفي واحة هذا الموقف فجأة: أين فلان ابن فلان، أين فلان ابن فلان؟! من؟! هذا هو اسمي؟! هل أنا صاحب هذا النداء؟! هل أنا صاحب هذا الدعاء؟! ماذا تريدون؟! أقبل إلى عرش الواحد الديان. فتتخطى الصفوف صفوف الإنس والجن والملائكة، تتخطى هذه الصفوف، وفجأة ترى نفسك واقفاً أمام محكمة أحكم الحاكمين، تلكم المحكمة التي لا تقبل رشوة، ولا محسوبية، ولا محاماة، ولا تقبل الاستئناف للأحكام؛ لأن قاضيها هو الواحد الديان، عنوانها: {لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [غافر:17] فتُعطى صحيفتك، هذه الصحيفة التي لا تغادر بلية كتمتها، ولا مخبأةً أسررتها، فكم من معصية قد كنت نسيتها ذكرك الله إياها، وكم من مصيبة قد كنت أخفيتها أظهرها الله لك وأبداها، فيا حسرة قلبك في وقتها على ما فرطت من طاعة ربك، فإن كنت من السعداء الفالحين أخذت كتابك باليمين، وإن كنت من الأشقياء الهالكين أخذت كتابك بغير اليمين والعياذ بالله، وصدق الله إذ يقول: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ} [الحاقة:19 - 33]. وصدق الله إذ قال: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} [مريم:39] وهل هناك حسرة أبشع وأشد من هذه الحسرة؟ أسأل الله تبارك وتعالى أن ينجينا وإياكم من هول هذا اليوم، وأن يجعلنا وإياكم ممن {يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر:18]. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

حقيقة لاشك فيها وعظة عليك أن تصغي إليها

حقيقة لاشك فيها وعظة عليك أن تصغي إليها الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليك يا سيدي يا رسول الله، صلاةً وسلاماً يليقان بمقامك يا أمير الأنبياء! ويا سيد المرسلين! {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} [مريم:39] فهذا الذي سمعتموه قليلٌ من كثير عن يوم الحسرة: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ} [مريم:39] أصبح أهل الجنة في الجنة، وأصبح أهل النار في النار، {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [مريم:39] وبعدها قال الله الحقيقة التي لا تقبل هراءً ولا جدالاً ولا مناقشة: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم:40] إنا: عظمة؛ لأن صاحب العظمة والكبرياء هو الله: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم:40] فذكر نفسك وقل لها: يا نفس قد أزف الرحيل وأظلك الخطب الجليلُ فتأهبي يا نفس لا يلعب بك الأمل الطويلُ فلتنزلن بمنزلٍ ينسى الخليل به الخليلُ وليركبن عليك فيه من الثرى ثقلٌ ثقيلُ قرن الفناء بنا فما يبقى العزيز ولا الذليلُ كل شيءٌ هالكٌ إلا وجهه {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27] {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [العنكبوت:57] {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم:39 - 40].

لا تقنطوا من رحمة الله

لا تقنطوا من رحمة الله فاستعدوا أيها الأحباب للقاء الله جل وعلا، ولكن لست مقنطاً ولست مثبطاً، وإنما فلتفرحوا برحمة الله لكل من قال: لا إله إلا الله، أبشروا بسعة رحمة الله لكل موحدٍ أعلن التوحيد لله، يقول رب العزة: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]. ويقول ربنا في الحديث القدسي الجليل: (إني والإنس والجن لفي نبأٍ عظيم، أخلق ويُعبد غيري، وأرزق ويشكر سواي، خيري إلى العباد نازل، وشرهم إليَّ صاعد، أتحبب إليهم بالنعم وأنا الغني عنهم، ويتبغضون إلي بالمعاصي وهم أحوج شيءٍ إلي، أهل ذكري هم أهل مجالستي، فمن أراد أن يجالسني فليذكرني، وأهل طاعتي هم أهل محبتي، وأهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي، فإن تابوا إليَّ فأنا حبيبهم، وإن أقبل واحدٌ منهم إليَّ تائباً تلقيته من بعيد، وإن أعرض عني واحد منهم عاصياً ناديته من قريب قائلاً له: إلى أين تذهب؟ ألك ربٌ غيري؟ الحسنة عندي بعشر أمثالها وأزيد، والسيئة عندي بمثلها وقد أعفو، وعزتي وجلالي وإن استغفروني غفرتها لهم). قال إبليس لرب العزة: (وعزتك وجلالك لأضلنهم ما دامت أرواحهم في أبدانهم، فقال أرحم الرحمين وأكرم الأكرمين لإبليس: وعزتي وجلالي لأغفرن لهم ما داموا يستغفرونني) فتوبوا إلى الله أيها الأحباب، وارجعوا إلى الله، من كان لا يصلي فليصل، من كانت سافرة متبرجة أو لبست حجاب الفتنة وحجاب التبرج فلتتقي الله ربها، ولترجع إلى الله عز وجل، من كان يحارب الإسلام فليتب إلى الله، من عادى العلماء ومن عادى الدعاة فليتق الله، وليعلم أنه موقوفٌ بين يدي الله جل وعلا، ومن جلس بيننا واندس بيننا ليثير بيننا الفتنة نسأل الله عز وجل له أن يشرح صدره، وأن يأخذ بيديه من الظلمات إلى النور.

دعوة للمحاسبة

دعوة للمحاسبة فيا أيها الأحباب! اعلموا أنكم ستعرضون على الله فرداً فرداً، وستُسألون عن كل شيءٍ حرفاً حرفاً، فحاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وأعدوا للسؤال جواباً قبل أن تُسألوا أمام من يعلم السر وأخفى. اللهم اغفر لنا ذنوبنا، واستر لنا عيوبنا، وكفر عنا سيئاتنا، وإسرافنا في أمرنا، اللهم لا تدع لأحدٍ منا ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، اللهم اشف مرضانا ومرضى المسلمين، اللهم اشف مرضانا ومرضى المسلمين، وارحم موتانا وموتى المسلمين، وانصر بفضلك كلمتي الحق والدين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وألف بين قلوب الإخوة يا رب العالمين، ووحد صفوف المسلمين، اللهم نق قلوبنا من الحقد والغل والحسد، اللهم نق قلوبنا من الغل والحقد والحسد، ربنا لا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا، ربنا إنك رءوفٌ رحيم. اللهم استرنا ولا تفضحنا، وأكرمنا ولا تهنا، وكن لنا ولا تكن علينا، اللهم كن لنا ولا تكن علينا، اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا، اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا، اللهم ارفع الفتن عن أمتنا، وارفع الغلاء عن بلادنا، وارفع الغلاء عن شعوبنا، اللهم اجعل مصرنا بلد الأمن والأمان، اللهم اجعل مصرنا بلد الأمن والأمان، اللهم اجعل مصرنا بلد الأمن والأمان، اللهم جنبه الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم جنب مصرنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، ووفق ولاة أموره للعمل بكتابك، ووفق ولاة أموره للعمل بكتابك، والاقتداء بشرع نبيك صلى الله عليه وسلم. عباد الله أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

الحجاب يا أختاه!

الحجاب يا أختاه! إن الإسلام الحنيف حريص على حفظ المرأة في أرفع المقامات، فهو يحفظ لها مكانتها في مجتمعها، ويحجبها عما يزري بكرامتها، ويهدم وظيفتها التي خلقت من أجلها، فشرع لها الحجاب الذي يستر جميع جسمها ووجهها، لتتقي به شر الفتنة. ولقد أمر الله به أفضل نساء الدنيا زوجات نبينا، فكان الأحرى أن تلتزم به من دونهن من نساء المؤمنين.

مفهوم الحجاب

مفهوم الحجاب الحمد لله رب العالمين، الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريكٌ في الملك وما كان معه من إله الذي لا إله إلا هو، فلا خالق غيره ولا رب سواه، المستحق لجميع أنواع العبادة، ولذا قضى ألا نعبد إلا إياه، ذلك بأن الله هو الحق، وأن ما يدعون من دونه هو الباطل، وأن الله هو العلي الكبير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الواحد الذي لا ضد له، وهو الصمد الذي لا منازع له، وهو الغني الذي لا حاجة له، وهو القوي الذي لا يعجزه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، وهو جبار السماوات والأرض، فلا راد لحكمه، ولا معقب لقضائه وأمره، هو الأول فلا شيء قبله، وهو الآخر فلا شيء بعده، وهو الظاهر فلا شيء فوقه، وهو الباطن فلا شيء دونه، وهو على كل شيءٍ قدير. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الرسالة، وبلغ الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة عن هذه الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، وعبد ربه حتى لبى داعيه، وجاهد في سبيل ربه حتى أجاب مناديه، وعاش طوال أيامه ولياليه يمشي على شوك الأسى، ويخطو على جمر الكيد والعنت، يلتمس الطريق لهداية الضالين وإرشاد الحائرين، حتى علم الجاهل، وقوم المعوج، وأمَّن الخائف، وطمأن القلق، ونشر أضواء الحق والخير والتوحيد، كما تنشر الشمس ضياءها في رابعة النهار، فاللهم اجزه عنا خير ما جازيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فمرحباً بكم أحبتي في الله، ومع الدرس الخامس من دروس سورة الستر والعفاف سورة النور. وما زلنا بفضل الله جل وعلا نتحدث عن الضمانات الوقائية التي وضعها الإسلام العظيم حمايةً لأفراده من الوقوع في الفاحشة والعياذ بالله، ولقد تكلمنا في اللقاء الماضي عن الضمان الثاني، ألا وهو تحريم التبرج وفرض الحجاب، وقلنا بأن الإسلام يهدف إلى إقامة مجتمعٍ طاهرٍ نظيف، لا تهاج فيه الشهوات في كل لحظة، ولا تستثار فيه دوافع اللحم والدم في كل حين؛ لأن عمليات الاستثارة المستمرة تنتهي إلى سعارٍ شهوانيٍ لا ينطفئ ولا يرتوي. إن اللحم العاري، والزينة المتبرجة، والرائحة المؤثرة، والنبرة المعبرة، والمشية المتكسرة، كلها من الأشياء التي تثير الشهوة، وتؤجج نار الفتنة والهوى. لذا أيها الأحبة: من هنا حرم الإسلام التبرج، وفرض الحجاب على المرأة المسلمة لماذا؟ ينبغي أن تعلم المسلمة وأن يعلم الناس جميعاً أن الإسلام ما فرض هذه الضوابط على المرأة المسلمة في ملبسها وزينتها وعلاقتها بالرجال إلا لصيانتها وحمايتها من عبث العابثين، ومجون الماجنين، ولتكون المرأة المسلمة كالدرة المصونة، وكاللؤلؤة المكنونة التي لا تصل إليها الأيدي الآثمة. تكلمنا في اللقاء الماضي عن التبرج ومظاهره وخطورته، ولقاؤنا اليوم عن الشق الثاني من الضمان الثاني ألا وهو فرض الحجاب على المرأة المسلمة، وحتى لا ينسحب بساط الوقت من تحت أقدامنا فسوف أركز الحديث مع حضراتكم في أربعة عناصر: أولاً: الحجاب لغةً وشرعاً. ثانياً: الأدلة الشرعية من القرآن والسنة على وجوب الحجاب. ثالثاً: شروط الحجاب الشرعي. رابعاً: شبهات والرد عليها. نسأل الله جل وعلا أن يرزقنا الصواب والإخلاص والتوفيق.

معنى الحجاب في اللغة

معنى الحجاب في اللغة أولاً: الحجاب لغةً وشرعاً: أحبتي في الله! الحجاب: جمعه حُجب، ومعناه لغةً يدور بين الستر والمنع، لذا يقال للستر الذي يحول بين الشيئين حجاباً؛ لأنه يمنع الرؤية بينهما، ولذا يقال لحجاب المرأة: (حجاب) وسمي حجاب المرأة حجاباً لأنه يستر المرأة عن الرؤية، ويمنع الرجال من أن يشاهدوا أو أن ينظروا إلى المرأة. ووردت لفظة الحجاب في القرآن في ثمانية مواضع، وكلها تدور حول هذا المعنى -أي: حول معنى الستر والمنع- كما قال الله جل وعلا في سورة الأعراف: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ} [الأعراف:46] أي: بينهما سورٌ يمنع الرؤية، أو حاجزٌ يمنع الرؤية، وكما قال الله جل وعلا: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص:32] أي: حتى منعت هذه الخيول من الرؤية، وأصبحت لا ترى، وكما قال الله جل وعلا: {فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً} [مريم:17] على مريم عليها السلام، أي: استترت مريم بستارٍ عن أعين الرجال، وكما قال الله جل وعلا: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب:53] أي: من وراء ساترٍ أو حاجزٍ أو حائلٍ يمنع من رؤيتهن. إذاً: فالحجاب يدور بين معنى الستر والمنع، ولذا يُفهم المعنى الشرعي من هذه المعاني اللغوية لحجاب المرأة المسلمة بأنه الذي يحجب المرأة المسلمة عن نظر الرجال الأجانب، وله صورٌ متعددة هي: صورة الأبدان وصورة الوجوه، أي حجاب الأبدان، وحجاب الوجوه. وللمرأة أن تحتجب عن الرجال الأجانب ببيتها، وبالستائر السميكة بداخل البيت، وللمرأة أن تحتجب بثيابها من رأسها إلى قدمها إذا ما خرجت من بيتها لحاجةٍ ضرورية، أو دينية، أو دنيوية، وهذا جائزٌ في حقها ولا إثم عليها إذا خرجت بشروط الحجاب الشرعي التي سأبينها إن شاء الله جل وعلا، مع غطاء الوجه بالحجاب، أو الخمار، أو النقاب. وهذا ما يسميه علماؤنا بحجاب الوجه.

بعض الأخطاء في مفهوم الحجاب

بعض الأخطاء في مفهوم الحجاب الخمار: وانتبهوا معي إلى أن هناك خلطاً بين هذه المعاني عند كثيرٍ من الناس، فالخمار عندنا مثلاً يراد به الطرحة التي تلبسها المرأة على رأسها ويظهر منها الوجه، وهذا خطأٌُ لغوي، ويقال أيضاً للحجاب عندنا، وهذا ما ذكره بعض أهل العلم في كتبهم، قالوا: بأن الحجاب هو الطرحة التي تلبسها المرأة على رأسها، ويظهر منه الوجه أيضاً وهذا خطأٌ لغوي، فانتبهوا معي لنتعرف على معنى الخمار وعلى معنى النقاب، حتى نضع النقط على الحروف من بداية هذا اللقاء.

الحجاب بمفهومه الصحيح

الحجاب بمفهومه الصحيح الخمار أيها الأحبة -وربما سيعلم ذلك لأول مرة كثيرٌ من المسلمين والمسلمات- هو ما تخمر به المرأة وجهها. من أين لك بهذا التأويل والتفسير؟ من كتاب الله جل وعلا، ومن أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أقوال أئمة الهدى ومصابيح الدجى عليهم رحمة الله، يقول الله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31]. قال الحافظ ابن حجر إمام أهل الحديث في الفتح في تعريف الخَمْر: ومنه خمار المرأة، وهو الذي تخمر به المرأة وجهها -أي: تغطي به المرأة وجهها- وأعظم دليلٍ على صحة هذا الكلام ما ورد في صحيحي البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها، وهل تريدون أوضح من هذا؟ هل تريدون دليلاً أوضح من دليلٍ ورد في حديثٍ رواه البخاري ومسلم من حديث أمنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها؟ أتدرون ماذا قالت أمنا رضي الله عنها في حادثة الإفك؟ تقول السيدة عائشة: لما رآها صفوان بن المعطل السلمي رضي الله عنه، لما تخلفت عن الجيش، ونامت وجاء صفوان فوقعت عينه عليها، وكان صفوان بن المعطل يعرف السيدة عائشة رضي الله عنها؛ لأنه كان قد رآها مراراً قبل نزول آية الحجاب، فلما رآها صفوان وعرفها استرجع، أي قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، رأى زوج نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم تخلفت عن الجيش، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون. تقول سيدتنا عائشة: (فلما رآني عرفني، وكان يعرفني قبل الحجاب، فلما رآني استرجع -أي قال: إنا لله وإنا إليه راجعون- تقول عائشة رضي الله عنها: فاستيقظت باسترجاعه) أي صحت سيدتنا عائشة على قولته: إنا لله وإنا إليه راجعون. اسمع ماذا قالت أمنا رضي الله عنها؟ قالت: (فاستيقظت باسترجاعه، وحين عرفني خمرت وجهي بجلبابي) فخمرت وجهي بجلبابي: هذا هو معنى الخمار في حديثٍ في الصحيحين فماذا تريدون بعد ذلك من أدلة!! قالت: (فخمرتُ وجهي بجلبابي) وفي راويةٍ: (فسترت وجهي بجلبابي) أي: خمرت. ويؤكد ذلك أيضاً حديث فاطمة بنت المنذر رضي الله عنها ورحمها الله تعالى، تقول: (كنا نخمر وجوهنا من الرجال في الإحرام مع أسماء بنت أبي بكرٍ) رضي الله عنها، وحديثها رواه الإمام مالك في الموطأ ورواه الحاكم في المستدرك، وقال الحاكم: حديثٌ صحيح على شرط الشيخين البخاري ومسلم ولم يخرجاه، وأقره الإمام الذهبي. إذاً: الخمار -أيها الأحبة- هو ما تخمر به المرأة وجهها، أي: ما تغطي به المرأة وجهها.

النقاب الشرعي

النقاب الشرعي أما النقاب: فهو حجابٌ للوجوه أيضاً، وسمي النقاب بالنقاب؛ لوجود نقبين بمحاذاة العينين لتتعرف المرأة من خلال هذين النقبين على الطريق. ولكن: ينبغي أن أنبه هنا إلى أمرٍ خطير، ألا وهو أن بعض المسلمات اللائى يلبسن النقاب، قد حولنه هو الآخر إلى مصدر فتنةٍ وإغواءٍ وإغراء، كيف ذلك؟ وسعت المرأة فتحة العين على وجهها، فظهر من خلال هذه الفتحة حاجبها، وظهر جزءٌ كبيرٌ من وجنتيها، وهذه هي الفتنة بعينها. وليس معنى أن كثيراً من النساء قد حولن النقاب إلى مصدر فتنةٍ وإغراءٍ وإغواء أن نقول بعدم شرعية النقاب، فليس معنى أن يختل المسلمون في تطبيق أمرٍ أو جزءٍ شرعي أن نلغي هذا الجزء، وإنما ينبغي أن يؤمر المسلمون بأن يردوا هذا الأمر إلى ما أراده الله، وإلى ما أراده رسول الله صلى الله عليه وسلم. فيجب على المرأة التي انتقبت أن تظهر من عينها بمقدار الرؤية، وأن تظهر الفتحة لعينها لتتعرف من خلالها على الطريق، أما أن تتفنن في أن تظهر جمال عينها، وقد امتلأت كحلاً وجمالاً وفتنةً وتأثيراً، وظهر حاجبها وجزءٌ كبيرٌ من وجنتيها، وتدعي بأنها منتقبة، فإنما هي خادعة أو مخدوعة، فينبغي أن تتوب وأن ترجع إلى الله جل وعلا، وأن تتقي الله، وأن تعلم بأن الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. هذا هو الخمار، وذاك هو النقاب، وهذا هو معنى الحجاب. إذاً: هناك حجابٌ للأبدان وللوجوه معاً، إما من وراء ستارةٍ سميكة أو من وراء جدار كما قال الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب:53] أو إذا خرجت المرأة من بيتها لحاجةٍ دينية أو دنيوية فعليها أن تلبس الثياب من رأسها إلى قدميها، وأن تغطي وجهها بالخمار أو النقاب، بالشروط والضوابط التي أشرت إليها آنفاً.

الأدلة الشرعية من القرآن والسنة على وجوب الحجاب

الأدلة الشرعية من القرآن والسنة على وجوب الحجاب أولاً: أدلة القرآن:

الدليل الأول: قوله تعالى: (يا أيها النبي قل لأزواجك)

الدليل الأول: قوله تعالى: (يا أيها النبي قل لأزواجك) وهي قول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الأحزاب:59] قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وهل تعرف المرأة إلا من وجهها؟ انتبهوا معي أيها الأحبة، وانتبهن معي أيتها الفضليات؛ لنتعرف على هذه الآية، وعلى ما تحمله من أحكامٍ عظيمة غابت عن كثيرٍ من المسلمين والمسلمات: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:59] إذاً: الأمر هنا من الله جل وعلا لزوجات النبي الطاهرات، وبنات النبي العفيفات، ونساء المؤمنين الصالحات القانتات، ليس الأمر هنا خاص بزوجات النبي صلى الله عليه وسلم وحدهن كما هو واضحٌ بمنطوق الآية ومفهومها أيضاً. قال شيخ المفسرين الإمام ابن جرير الطبري عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير آية الإدناء، واحفظوا هذا القول لـ ابن عباس رضي الله عنه؛ لأنه قد افتري عليه قولٌ آخر، وقد ادعي عليه ما لم يقله وهو بريءٌ منه كما سنرى بالأدلة وبطرق أهل الحديث إن شاء الله جل وعلا، قال: [أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن لحاجةٍ أن يغطين وجوههن من فوق رءوسهن بالجلابيب ويبدين عيناً واحدة] أي: لتتعرف بها على الطريق. ويقوي هذا الإسناد ما صح عن ابن سيرين رحمه الله تعالى عن عبيدة السلماني، وعبيدة السلماني هو التابعي الجليل الفقيه العلم الذي آمن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه لم ينزل المدينة إلا في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولم يزل عبيدة السلماني بـ المدينة حتى توفاه الله جل وعلا، وأنا تعمدت أن أقول ذلك لتعلم أنه إن فسر عبيدة السلماني آية الإدناء تفسيراً عملياً، فإنما هو يوضح حال نساء أصحاب النبي رضي الله عنهن جميعاً، ويوضح ما كان عليه النساء في عهد الصحابة رضي الله عنهم، يقول ابن سيرين: سألت عبيدة السلماني عن معنى آية الإدناء وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59] فقال عبيدة بثوبه هكذا، فغطى وجهه بثوبه، وأبرز بثوبه عن إحدى عينيه، توضيحٌ عملي من تابعيٍ جليلٍ عاش في المدينة المنورة من عهد عمر بن الخطاب إلى أن مات رحمه الله. فقال بثوبه هكذا، فغطى رأسه ووجهه بثوبه وأبرز الثوب عن إحدى عينيه، تفسيرٌ عملي لآية الإدناء، ووالله إنه من أعظم الأدلة من تابعيٍ رأى ما كان عليه النساء في عهد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59]. وقال الإمام الفخر الرازي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: وفي هذه الآية دلالة على أن المرأة الشابة مأمورةٌ بستر وجهها عن الأجانب، وإظهار الستر والعفاف إذا خرجت لحاجة حتى لا يطمع أهل الريب فيها. من العلماء من يقول: بأن الصحابيات رضي الله عنهن كنّ يخرجن كاشفات الوجوه، وهذا والله بهتانٌ عظيم؛ لأن الوجه أيها الأحبة هو أصل الجمال في المرأة، وأنا أسألك: بالله عليك أيها المسلم المنصف، لا أريد منك جواباً وإنما أريدك أن تجيب أنتَ بنفسك على نفسك في جلسة صدقٍ ولحظة صدقٍ مع الله جل وعلا: أسألك بالله لو أن شاباً تقدم لخطبة فتاة، وقيل له لن ترى الفتاة إلا في صورةٍ من الصورتين، فقال الشاب ما هما: قالوا: الصورة الأولى: أن تخرج الفتاة في كل زينتها وقد غطت وجهها أي: غطت بدنها بالثياب، وغطت وجهها، إلا أنها من تحت هذه الثياب، ومن تحت هذا الغطاء وضعت كل ما يمكن أن تضعه المرأة من زينة سبحان الله!! وماذا استفاد هذا المسلم؟ إذاً ما رأى شيئاً وما استفاد من تلك الزينة شيئاً. الصورة الثانية قالوا: أن تقف لك الفتاة من خلف نافذة، وتنظر لك بوجه مبتسم وقد يتغطى كل البدن من خلف جدار هذه النافذة، بشرط أن تظهر الوجه فقط، فبالله عليك ماذا يختار الشاب؟ هل يختار الحالة الأولى التي خرجت إليه المرأة في كل زينتها وقد تغطت من قمة رأسها إلى أخمص قدميها وغطت وجهها؟ أم أنه يريد أن ينظر إلى الوجه؛ لأنه هو عنوان الجمال الخلقي في الإنسان، ومن خلاله يستطيع الإنسان أن يتبين الجمال أو القبح، والدمامة أو النضارة فيقول بالمنطق -وهذا لا يحتاج إلى دليل- يقول: لا. أريد الصورة الثانية، والحالة الثانية، ألا وهي أن ينظر إلى وجه المرأة ليتعرف من خلال وجهها على جمالها، وقبحها، أو دمامتها، وهذا لا يحتاج إلى دليل، وإن كل منصفٍ لم يمت إنصافه في قلبه -فيعمى بذلك قلبه وعقله- سيقول هذا. إذاً أيها الأحباب: الله تبارك وتعالى هنا يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأمر زوجاته وبناته ونساء المؤمنين جميعاً بالحجاب الساتر لجميع الجسم، ومن العلماء من قال: بأن الحكم هنا خاص بزوجات النبي صلى الله عليه وسلم، قلتُ: سبحان الله! كيف يكون الحكم خاصاً بزوجات النبي والله تبارك وتعالى يقول في نفس الآية: {وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:59]، ويقول العلامة الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: وفي الآية قرينةٌ واضحة ٌعلى وجوب ستر الوجه، ما هي هذه القرينة؟ يقول: هي قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} [الأحزاب:59] ومعلومٌ أن وجوب احتجاب زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وسترهن لوجوههن أمرٌ لا نزاع فيه بين المسلمين، فكيف تستقيم دعوى الخصوصية لنساء النبي وحدهن والله تعالى يقول في الآية: {وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:59] وهذا واضح. وأكتفي بذلك القدر في هذه الآية؛ لأن الموضوع طويل.

الدليل الثاني: قوله تعالى: (وإذا سألتموهن متاعا)

الدليل الثاني: قوله تعالى: (وإذا سألتموهن متاعاً) يقول الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً} [الأحزاب:53]. {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب:53] لماذا؟ ما هي العلة من فرض الحجاب بين الرجال والنساء؟ قال الله تعالى الخالق وهو الذي يعلم من خلق {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] وقال جل وعلا: {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53] هذه هي آية الحجاب، وهي معنىً واضح في وجوب احتجاب النساء عن الرجال، ولكن من العلماء أيضاً من قال -وإنا لله وإنا إليه راجعون- بأن هذه الآية خاصةٌ بزوجات النبي صلى الله عليه وسلم وحدهن. قلتُ: إن كانت الآية خاصةً بزوجات النبي صلى الله عليه وسلم من جهة السبب، فهي عامةٌ من جهة الأحكام، والقاعدة الأصولية تقول: إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ولو فهمنا كل أوامر القرآن هكذا، بأنه لو جاء أمرٌ خاص لزوجات النبي صلى الله عليه وسلم، قلنا إذاً: هو لزوجات النبي وحدهن، لو جاء أمرٌ خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، قلنا إذاً: هو للنبي وحده دون سائر المؤمنين لو كان الأمر كذلك لعطلنا معظم أوامر ونواهي القرآن. وبالله عليكم أيها الأحبة: هل تظنون أن الله جل وعلا لو أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله في أول سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب:1] هل يقول عاقل بأنه لا يجب علينا أن نتقي الله لأن الأمر هنا خاصٌ بالنبي صلى الله عليه وسلم؟! وهل لو أمر الله نبيه بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} [التوبة:73] هل يقول عاقل بأنه لا يجب علينا أن نجاهد الكفار والمنافقين؛ لأن الأمر هنا خاصٌ بالنبي صلى الله عليه وسلم. وهل لو أمر الله المؤمنين بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} [الأحزاب:53] هل يقول عاقل بأنه يجوز لهم أن يدخلوا غير بيوت النبي من غير أن يؤذن لهم. إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وهذا ما قال به علماؤنا، فالحكم هنا أيها الأحباب: إن كانت الآيات خاصةً بزوجات النبي الطاهرات من ناحية السبب فهي عامةٌُ من ناحية الأحكام، وإلا فبالله عليكم اسألوني: ما هي العلة في فرض الحجاب؟ سأجيب: بأن العلة من فرض الحجاب بنص الآية هو قوله تعالى: {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53] أتدرون لمن هذا الأمر؟ إنه لنساء النبي الطاهرات، ولأشرف نساء العالمين، ولأطهر نساء الدنيا اللائى تربين في بيت النبوة على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، واللائى شربن من نبع الوحي الزلال الصافي، وهن المطهرات من السفاح، والمحرمات علينا بالنكاح، والموصوفات بأنهن أمهات المؤمنين؛ يأمرهن الله بالحجاب حمايةً لقلوبهن، وطهارةً لقلوبهن وقلوب أبنائهن المحرم عليهم نكاحهن، فما نقول في غيرهن المحللات لنا بالنكاح، المتطلع لهن أهل السفاح، هل يجوز أن يخرجن، أو أن يكن سافرات غير منتقبات، وبارزات غير محجبات؟! الأولوية في هذه الآية واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار؛ لأنه إذا أمرت عائشة بالحجاب فهل يترك غيرها؟ وإذا أمرت حفصة بالحجاب طهارةً لقلبها وهي حفصة فهل يترك غيرها؟ أو فهل نترك غيرها؟ وإذا أمرت أم سلمة بالحجاب طهارةً لقلبها فهل نترك غيرها؟ وإذا أمرت سودة، وزينب وغيرهن رضي الله عنهن بالحجاب فهل نترك غيرهن؟ إن دليل الأولوية واضحٌ في هذه الآية، وهذا المسلك في القرآن معلومٌ عند أهل الأصول بمسلك الإيماء والتنبيه. إن الأمر بيِّن؛ إن الأمر واضح: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب:53] لماذا؟! {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53].

الدليل الثالث: قوله تعالى: (وليضربن بخمرهن على جيوبهن)

الدليل الثالث: قوله تعالى: (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) وهي قول الله جل وعلا: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور:31]. يستدل العلماء من هذه الآية بثلاث مواضع وهي: الموضع الأول: هو قوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31] أعيروني القلوب والأسماع أحبتي في الله، يقول الله: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31] بغير قصدٍ وعمدٍ بل وهي مضطرة لإظهاره رغماً عنها، ألا وهو ظاهر الثياب، فإن الثياب على بدن المرأة زينة وأي زينة؟ إلا ما ظهر منها: ظاهر الثياب، وحتى لا نتهم بأننا نتعسف في لي أعناق الآيات لياً فتعالوا بنا إلى صحابيٍ جليلٍ، وعلم من أعلم الصحابة بكتاب الله جل وعلا، ما من آية نزلت إلا وهو يعلم متى نزلت وأين نزلت وفيم نزلت، إنه الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. ماذا قال ابن مسعود في تفسير هذه الآية، والإسناد صحيحٌ إن شاء الله جل علا؟ قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: [{وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31] قال: الثياب] هذا قول ابن مسعود: زينة المرأة الظاهرة الثياب، وهذا ثابت عنه بإسناد صحيح. أما ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في أنه قال: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31] قال: [الوجه والكفان] فإسناده إلى ابن عباس لا يصح بحال كما هو معروف لعلماء الحديث وعلماء التخريج لماذا؟ لأن هذا الأثر المروي عن ابن عباس ورد من طريقين: الطريق الأول: رواه شيخ المفسرين الإمام ابن جرير الطبري. الطريق الثاني: أخرجه الإمام البيهقي في السنن الكبرى، فتعالوا بنا نقف مع هذين الإسنادين لنتعرف على صحتهما من ضعفهما؛ حتى يتضح لنا أن هذا القول لا يصح إسناده بحالٍ إلى ابن عباس رضي الله عنهما. أما الطريق الأول: وهو الذي أخرجه الإمام ابن جرير الطبري في التفسير: هذا لا يصح بحال؛ لأنه إسنادٌ ضعيفٌ جداً، بل هو منكر؛ لأن في رجاله مسلم الملائي الكوفي، قال فيه البخاري: تكلموا فيه، وقال الحافظ الذهبي: ضعفوه، وقال الحافظ ابن حجر في التقريب: ضعيف، وقال يحي بن معين: ليس بثقة، وقال النسائي: متروكٌ الحديث. إذاً: الإسناد بهذا الطريق لا يصح بحال كما هو معلوم لكل علماء الحديث. أما الإسناد الآخر الذي أخرجه الإمام البيهقي، فهو ضعيف جداً أيضاً؛ لضعف راويين من رجال سند هذا الطريق الثاني: أحدهما أحمد بن عبد الجبار العطاردي، قال فيه الحافظ ابن حجر في التقريب: ضعيف، وقال فيه الحافظ الذهبي: ضعيف. أما الرجل الثاني فهو عبد الله بن هرمز بن مسلم بن هرمز، قال فيه الحافظ ابن حجر في التقريب: ضعيف، وقال فيه الحافظ الذهبي: ضعفه ابن معين والنسائي. إذاً: الإسنادان لا يصحان بحال، ولا يصح أن يحتج بهما في المتابعات والشواهد فضلاً عن أن يحتج بهما عالمٌ في أمرٍ من الأمور الواجبة كما هو معلومٌ لكل طالب علمٍ مبتدئٍ في علم الحديث. إذاً: لا يصح الإسناد إلى ابن عباس رضي الله عنهما في أنه فسر الزينة الظاهرة بالوجه والكفين، ويؤكد صحة ذلك ما ذكرته في أول اللقاء، حينما فسر آية الإدناء بقوله: [أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن لحاجةٍ أن يغطين وجوههن من فوق رءوسهن بالجلابيب ويبدين عيناً واحدة]. إذاً: الزينة الظاهرة هي الثياب، وهي ما يظهر من المرأة من غير عمدٍ وعلى حين غفلةٍ من المرأة، ومن علم أحوال النساء علم ذلك جيداً، إذا هبت ريح فتكشف وجه المرأة، أو اضطرت المرأة حين شرائها وبيعها لتكشف عن وجهها الغطاء فنظر رجلٌ خلسةً إلى وجهها على حين غرة منها، هذه زينةٌ تظهر من المرأة من غير عمد ومن غير قصد، وهي بإذن الله لا تؤاخذ عليها بدليل قول الله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31]. الموضع الثاني في الآية: هو قوله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31] وأوضحنا ذلك بأنه ضرب الخمار على الوجه وتغطية الوجه، بدليل حديث عائشة الذي رواه البخاري ومسلم: (فخمرت وجهي بجلبابي) وبدليل حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: (كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات، وكنا نمتشط قبل ذلك في الإحرام) والحديث رواه مالك، وصححه ابن خزيمة وابن حبان، ورواه الحاكم في المستدرك من طريقه، وقال: حديثُ صحيح على شرط الشيخين البخاري ومسلم ولم يخرجاه، وأقره الإمام الذهبي على ذلك. ويؤكد ذلك أيضاً قول فاطمة بنت المنذر رحمها الله تعالى الذي أشرت إليه آنفاً، قالت: (كنا نخمر وجوهنا من الرجال ونحن مع أسماء بنت أبي بكرٍ رضي الله عنها) والأثر رواه الإمام الحاكم في المستدرك أيضاً من طريقه، وقال: صحيحٌ على شرط الشيخين البخاري ومسلم، وأقره الذهبي على ذلك. إذاً: أيها الأحبة! {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31] المفهوم من ضرب الخمار: هو أن تضرب المرأة الخمار من على رأسها على وجهها، وما سميت الخَمْر خَمْراً إلا لأنها تغطي العقل، وقال الحافظ ابن حجر في تعريف الخَمْر: ومنه خمار المرأة لأنه يستر وجهها. أما الموضع الثالث في هذه الآية فهو قوله تعالى: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور:31]. قلنا: إن كان الإسلام قد حرم على المرأة أن تضرب الأرض برجلها؛ خشية أن يفتتن الرجال بسماع صوت خلخالها، فبالله عليكم هل يحرم الإسلام على المرأة ذلك ثم يبيح لها أن تكشف وجهها الذي قد امتلأ نضارةً وجمالاً وحسناً وتجميلاً وتزييناً! أي الفتنتين أعظم، فتنة الوجه أم فتنة القدم؟! {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37] ورحم الله من قال: إن الحجاب الذي نبغيه مكرمة لكل مسلمةٍ عادت ولم تعدِ نريد منها احتشاماً عفةً أدباً وهم يريدون منها قلة الأدب يا رُبَّ أنثى لها عزمٌ لها أدبٌ فاقت رجالاً بلا عزمٍ ولا أدب ويا لقبح فتاةٍ لا حياء لها وإن تحلت بغال الماس والذهبِ إن الحجاب عفة، إن الحجاب مكرمة، إن الحجاب شرف، إن الحجاب مروءة، إن الحجاب إيمان، إن الحجاب طاعة، إن الحجاب امتثالٌ لأمر الله ولأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيا أيتها اللؤلؤة المكنونة المسلمة! يا أيتها الدرة المصونة الغالية! والله ما نريد لك إلا العفة، ووالله ما أراد الإسلام لك إلا الكرامة وأن يحميك من عبث العابثين، ومجون الماجنين، والله لا نريد لك إلا الخير في الدنيا والآخرة: أختاه يا بنت الإسلام تحشمي لا ترفعي عنك الحجاب فتندمي صوني جمالك إن أردت كرامةً فالناس حولك كالذئاب الحومِ إي والله! كالذئاب الحوم، خاصة في زمان قل فيه الإيمان والورع والزهد، وقلّت فيه التقوى، وإلى الله المشتكى، والله المستعان. وأكتفي بهذا القدر من الأدلة القرآنية أحبتي في الله.

ثانيا: الأدلة من السنة على وجوب الحجاب

ثانياً: الأدلة من السنة على وجوب الحجاب أما الأدلة النبوية فهي كثيرة ولله الحمد والمنة، ووالله لو لم يكن منها إلا هذا الحديث الذي رواه البخاري، ومالك في الموطأ، والترمذي في السنن وقال: حديثٌ حسن صحيح، ورواه أحمد في مسنده وغيرهم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين) أي: التي أهلت بالإحرام في الحج أو العمرة، لا تنتقب ولا تلبس القازين. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: دل هذا الحديث على أن النقاب والقفازين كانا معروفين لدى النساء اللاتي لم يحرمن، وأظنه واضحٌ جداً: لا تنتقب المحرمة، إذاً: غير المحرمة كانت في الأصل منتقبة، وأمرها النبي صلى الله عليه وسلم في حال إحرامها ألا تنتقب، وهو الذي نهيت عنه، وهذا هو الذي أمرت به. وفي الحديث الذي رواه أحمد والبيهقي والدارقطني وغيرهم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (كان الركبان -أي: الرجال الذين يركبون الدواب- يمرون علينا ونحن محرمات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا حاذونا -أي اقترب هذا الركب منا وفيه من الرجال من فيه- سدلت إحدانا جلبابها من على رأسها على وجهها، فإذا ما جاوزونا كشفناه) والحديث للأمانة بذاته ضعيف، وله شاهدٌ قوي من حديث أسماء، وحديث فاطمة بنت المنذر اللذين ذكرتهما آنفاً، والحديث الأول رواه مالك في الموطأ، وابن خزيمة في الصحيح، وابن حبان في الصحيح، والحاكم من طريقه في المستدرك وقال: صحيح على شرط الشيخين وأقره الذهبي، والآخر رواه الحاكم في المستدرك وقال: صحيح على شرط الشيخين وأقره الذهبي. أما أحاديث النظر إلى المخطوبة، فهي والحمد لله أحاديث صحيحة بطرقها: الأول: كحديث محمد بن مسلمة، والمغيرة بن شعبة، وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم جميعاً، وهذه الأحاديث تدل على أن الخاطب كان يتكلف مشقة وعناءً في النظر إلى وجه مخطوبته، وهي تجيز أيضاً للخاطب أن ينظر إلى وجه مخطوبته، سأختار منها حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وهذا الحديث يقول فيه جابر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا خطب أحدكم المرأة؛ فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل، قال جابر بن عبد الله: فخطبت جاريةً فكنت أتخبأ لها حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها وتزوجتها) يقول علماؤنا: إن المرأة في هذا الزمان تخرج متبرجةً مكتحلةً متزينةً متطيبةً متعطرة ما تكلف الرجل مشقةً في أن يختبئ لينظر إلى وجه مخطوبته، بل ما عليه إلا أن يمشي إلى جوارها في الشارع، ليرى منها كل شيء كما نرى في زماننا هذا، وإنا لله وإنا إليه راجعون. وهكذا أيها الأحباب: إن من لم يمت إنصافه في قلبه، ومن لم يعمَ بذلك قلبه وعقله لا يحتاج إلى سرد هذه الأدلة، وإلى كل هذه الأدلة، وإنما هو بفطرته النقية الطيبة سيعلم علم اليقين أن أصل الفتنة والجمال في المرأة هو وجهها، وليعلم علم اليقين أن حجاب المرأة شرف لها قبل أن يكون شرفاً وكرامةً لأفراد المجتمع. فيا أيها الأخ الكريم! عليك بزوجتك، وبابنتك، وبأختك، وأنتِ أيتها الأخت الفاضلة الكريمة! اتقي الله جل وعلا، واعلمي أن في الحجاب الشرف، والعزة، والمنعة، والكرامة، وخيري الدنيا والآخرة، وأسأل الله تبارك وتعالى أن يرزقنا وإياكم الصواب. يبقى لنا بعد ذلك أيها الأحبة أن نتكلم عن عنصرين أخيرين في هذا اللقاء ألا وهما: شروط الحجاب الشرعي وبعض الشبهات والرد عليها، وسوف أرجئ الحديث عن هذين العنصرين إلى ما بعد جلسة الاستراحة؛ لأشير إليهما في عجالةٍ سريعة. وأسأل الله جل وعلا أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

شروط الحجاب الشرعي

شروط الحجاب الشرعي الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد: فيا أيها الأحبة: أما عن شروط الحجاب الشرعي؛ حتى تعلم المرأة أنه ليس كل ثوبٍ تستطيع أن تخرج به خارج البيت، فللحجاب الشرعي شروط فلتتعلمها كل امرأة:

الشرط الأول: أن يكون ساترا لجميع البدن

الشرط الأول: أن يكون ساتراً لجميع البدن فلا يجوز بحالٍ أن تغطي المرأة رأسها وبدنها ثم يكون الثوب قصيراً لتظهر قدميها، أو ساقيها، ومنهن من تتفنن في ذلك لستر هذا الجزء الباقي من أسفل؛ فتلبس حذاءاً برقبة طويلة لتستر هذا الجزء، ثم تدعي وتزعم أنها محجبة.

الشرط الثاني: ألا يكون زينة في ذاته

الشرط الثاني: ألا يكون زينةً في ذاته ألا تلفت المرأة الأنظار إلى ثوبها بألوانه الفاقعة التي تلفت الأنظار، وتجذب الأنظار، فلا ينبغي أن يكون الثوب في حد ذاته زينة، لا ينبغي أن يكون معطراً حتى يلفت إليه الأنظار كما سنرى؛ لأن هذا شرطٌ مستقلٌ من شروط الحجاب الشرعي.

الشرط الثالث: ألا يكون شفافا

الشرط الثالث: ألا يكون شفافاً بل يجب أن يكون الثوب صفيقاً -أي: سميكاً- حتى لا يشد بدن المرأة أو ما تحته، ومن النساء من تلبس ثوباً صفيقاً -أي سميكاً- وتأتي على مكانٍ بمحاذاة الصدر، أو على الذراعين، وتلبس ثوباً شفافاً يظهر ما تحته، وهذه هي قمة الفتنة. والرسول صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الذي رواه مسلم من حديث أبي هريرة: (صنفان من أهل النار لم أرهما -وذكر منهما عليه الصلاة والسلام- ونساءٌ كاسياتٌ عاريات) وهذا وجهٌ من أوجه التفسير لهذا الحديث؛ أن تلبس المرأة ثوباً شفافاً يُظهر ما تحته.

الشرط الرابع: ألا يكون ضيقا

الشرط الرابع: ألا يكون ضيقاً لأن الثوب الضيق يكون من أعظم الفتن، ومن أعظم سهام الشهوات؛ لأن الثوب الضيق وإن كان صفيقاً وسميكاً لا يشد فإنه يبين حجم عظام المرأة، وهذه من قمم الفتن التي ترسل بها النساء -اللائي يلبسن مثل هذه الثياب الضيقة- إلى قلوب الشباب والرجال، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

الشرط الخامس: ألا يكون معطرا

الشرط الخامس: ألا يكون معطراً أيضاً من الشروط -وهذا بإيجازٍ أيها الأحباب- ألا يكون الثوب مبخراً أو معطراً أو مطيباً، وهذا بالطبيعة هو الثوب الذي تخرج به المرأة إلى الشارع، أما الإسلام فيأمرها بأن تتعطر وتتطيب وتتزين لزوجها في داخل بيتها، وإن همت بالخروج فلا يجب أن يكون الثوب معطراً؛ لأن العطر من ألطف وسائل المخابرة بين الرجل والمرأة كما أوضحت قبل ذلك آنفاً، وفي الحديث الذي رواه مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا خرجت إحداكن إلى المسجد فلا تقربن طيباً) فما ظنكم إذا خرجت إلى الأسواق والشوارع والطرقات!! والحديث الذي رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح من حديث أبي موسى الأشعري، أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أيما امرأة استعطرت فخرجت فمرت على قومٍ ليجدوا ريحها فهي كذا وكذا -أي: زانية- وكل عينٍ زانية -أي: وكل عينٍ تنظر إليها بشهوة فهي زانية-) وأسلفنا أن العينين تزنيان وزناهما النظر.

الشرط السادس: ألا يكون ثوب شهرة

الشرط السادس: ألا يكون ثوب شهرة أيضاً من شروط الحجاب الشرعي: ألا يكون ثوب المرأة لباس شهرة، كأن تلبس المرأة ثياباً غاليةً في الثمن، ليشار إلى ثوبها بالبنان، ويقال: إن فلانة بنت فلان تلبس من الثياب ما قيمته كذا وكذا، هذا ثوب شهرة، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول في الحديث الذي حسنه شيخنا الألباني، وحسنه الإمام المنذري في الترغيب والترهيب، أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من لبس ثوب شهرة ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة، ثم ألهب عليه ناراً) ولا يشترط بالضرورة أن يكون ثوب الشهرة غالياً، وإنما من الممكن أن يكون ثوب الشهرة رخيصاً جداً، يلبسه الرجل ليظهر التواضع، وليظهر المسكنة، وليظهر الذلة، وهذا من ثوب الشهرة أيضاً.

الشرط السابع: ألا يشبه ثياب الرجال

الشرط السابع: ألا يشبه ثياب الرجال كذلك من شروط الحجاب الشرعي: ألا يشبه ثياب الرجل، وألا تتشبه المرأة في لباسها أو صوتها، أو حتى في مشيتها بالرجال، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول والحديث رواه البخاري: (لعن الرسول صلى الله عليه وسلم المتشبهات من النساء بالرجال، والمتشبهين من الرجال بالنساء) هذا ملعونٌ على لسان رسول الله، وهذه ملعونةٌ على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديث ابن عباس: (لعن النبي صلى الله عليه وسلم المرأة تلبس لبسة الرجل، والرجل يلبس لبسة المرأة) (ولعن النبي صلى الله عليه وسلم: المخنثين من الرجال، والمترجلات من النساء) أي: المرأة التي تريد أن تظهر كالرجل، بل وهي تسعد إن أشير إليها بذلك، هذه ملعونة على لسان النبي صلى الله عليه وسلم. أما الرجل الذي يتشبه بالمرأة فرجلٌ مخنث، يتكسر في مشيته، ويتغنج في لفظه، ويلبس من الثياب ما لا يليق أن يلبسه، ولا تلبسه إلا المرأة، هذا ملعونٌ على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الشرط الثامن: ألا يشبه ثياب الكافرات

الشرط الثامن: ألا يشبه ثياب الكافرات الشرط الأخير أيها الأحباب: ألا يشبه ثوب المرأة لباس الكافرات، وهذه من النكسات النفسية التي أصبنا بها، حتى أصبحت المسلمة تقلد الكافرة في كل شيء، حتى في قصة شعرها، وهذه من الهزيمة النفسية التي أصابت قلوب كثيرٍ من النساء. يجب على المسلمة ألا تقلد الكافرة في شيءٍ أبداً، وفي جزءٍ من الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ومن تشبه بقومٍ فهو منهم) إلخ، حسنه شيخنا الألباني، وحسنه الحافظ ابن حجر في الفتح، وصححه الحافظ العراقي. هذه بعض الشروط بإيجازٍ أيها الأحباب.

شبهات والرد عليها

شبهات والرد عليها يبقى بعض الشبهات والرد عليها في كلمتين اثنتين وهي: الحديث الذي يستدل به بعض العلماء الذين يقولون بجواز كشف الوجه، ونحن نحسن الظن بهم ولا نتهمهم والعياذ بالله، فنحن نحب شيوخنا وعلماءنا، ولكن الحق أحب إلينا منهم، يستدلون بحديث أسماء الذي رواه أبو داود والبيهقي من حديث خالد بن دريك، عن عائشة رضي الله عنها قالت: (دخلت أسماء على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثيابٌ رقاق -أو رقيقة- فأعرض عنها النبي عليه الصلاة والسلام، وقال يا أسماء: إن المرأة إذا بلغت المحيض لا يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا، وأشار النبي عليه الصلاة والسلام إلى وجهه وكفيه) هذا الحديث كما هو معروف لكل طالب علم مبتدئ في علم الحديث لا يصلح بحالٍ للمتابعات والشواهد، ولا يحتج به أبداً؛ لأن به ثلاث علل من علل الحديث القادحة: العلة الأولى: أنه حديثٌ مرسل من طريق خالد بن دريك عن عائشة؛ لأن خالد بن دريك لم يدرك عائشة رضي الله عنها، وخالد من أتباع التابعين، ومعلومٌ لكل علماء الحديث أنه لا يحتج بالحديث المرسل، بل ومنهم من قال: لا يحتج إلا بحديث مرسل عن كبار التابعين فقط، كـ سعيد بن المسيب وغيره، وخالد من أتباع التابعين. العلة الثانية: فيه سعيد بن بشير الأزدي وهو ضعيفٌ كما ضعفه الحافظ الذهبي وضعفه الحافظ ابن حجر، ومن رجال هذا الحديث أيضاً قتادة وهو مدلس، فبالله عليكم! حديث انقطع فيه السند، مرسلٌ ضعيفٌ، وفيه ضعفٌ في رواته، وفيه تدليس، فعند كل طالب علم مبتدئ يعلم علم اليقين أن هذا الحديث لا يحتج به، ولا يصلح أبداً للمتابعات والشواهد. كنتُ أود أن أفند معظم الشبه الباقية، ولكن إن في هذا كفاية، وإن هذا لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، ورحم الله من قال نداءً إلى المسلمة الطاهرة: فلا تبالي بما يلقون من شبهٍ وعندك العقل إن تدعيه يستجب سليه: من أنا؟ ما أهلي؟ لمن نسبي؟ من غرب أم أنا للإسلام والعرب؟ ِ لمن ولائي لمن حبي لمن عملي لله أم لدعاة الإثم والكذبِ؟ فيا أيها الأحباب ويا أيتها الأخوات: أسأل الله جل وعلا أن يرزقنا وإياكم الصواب، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، إنه ولي ذلك ومولاه. ومعذرةً لكم؛ لأنَّا قد أطلنا عليكم اليوم كثيراً، أسأل الله جل وعلا أن يجعل هذا الوقت في ميزان حسناتكم، وميزان أعمالكم في يومٍ لا ينفع فيه مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلبٍ سليم. وأسأل الله جل وعلا أن يطهرنا وإياكم، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، اللهم بارك في حكام المسلمين، وفي نساء المسلمين، وفي شباب المسلمين، اللهم هيئ لهذه الأمة أمر رشدٍ، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، أنت ولي ذلك ومولاه. هذا وأكثروا من الصلاة والسلام على نبينا وحبيبنا محمد كما أمركم الله جل وعلا بذلك في قوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا وحبيبنا محمد وعلى آله وصحبه. هذا وما كان من توفيقٍ فمن الله وحده، وما كان من خطأٍ أو سهوٍ أو زللٍ أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.

الخلوة والاختلاط

الخلوة والاختلاط جاء دين الإسلام بحفظ ضروريات خمس لا تقوم المجتمعات إلا بحفظها، ومن هذه الضروريات: حفظ الأعراض؛ ولأجل ذلك سن الدين الحنيف للمسلمين الزواج؛ حتى لا تختلط الأنساب، ومنع الفاحشة بعد أن وضع لها البديل، ثم لما حرم الفاحشة حرم مقدماتها، ومن مقدماتها: الخلوة والاختلاط.

ضمانات وقائية من الوقوع في الفاحشة

ضمانات وقائية من الوقوع في الفاحشة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فمرحباً بكم -أحبتي في الله- وأسأل الله جل وعلا بدايةً أن يتقبل منا وإياكم صالح الأعمال، وأن يجعلنا وإياكم من المقبولين، وأن يجعل شهر رمضان شاهداً لنا لا علينا، وأن يجعلنا من عتقائه من النار بمنه وكرمه، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أيها الأحبة: لقد توقفنا في شهر رمضان مع فضائل هذا الشهر العظيم، فتعالوا بنا لنواصل حديثنا مرة أخرى ألا وهو: دروسٌ من سورة النور، فنحن اليوم على موعدٍ مع الدرس السادس من دروس سورة الستر والعفاف سورة النور، وما زال حديثنا بفضل الله جل وعلا عن الضمانات الوقائية التي وضعها الإسلام سياجاً حامياً وواقياً لأفراده من الوقوع في الفاحشة الكبرى -والعياذ بالله- ولقد جمعنا هذه الضمانات الوقائية في عدة ضمانات: أولاً: تحريم النظر إلى المحرمات. ثانياً: تحريم التبرج وفرض الحجاب على المرأة المسلمة. ثالثاً: تحريم الخلوة بالمرأة الأجنبية والاختلاط المستهتر. رابعاً: تحريم الغناء الخليع الماجن. خامساً: الحض على الزواج لمن استطاع إلى ذلك سبيلاً، والحض على الصوم لمن لا يستطيع، والحض على عدم المغالاة في المهور. ونحن اليوم بفضل الله جل وعلا على موعدٍ مع الضمان الثالث من هذه الضمانات ألا وهو: تحريم الخلوة بالمرأة الأجنبية والاختلاط المستهتر، فأعيروني القلوب والأسماع -أحبتي في الله- ونسأل الله بدايةً أن يرزقنا التوفيق والصواب، إنه ولي ذلك ومولاه. أيها الأحبة: إن الإسلام منهج حياةٍ متكامل لا يقوم على العقوبة ابتداءً، وإنما يقوم على توفير الأسباب للحياة النظيفة الطاهرة، ثم يعاقب بعد ذلك من ترك هذه الأسباب الميسرة، وذهب ليتمرغ في الوحل والطين والتراب طائعاً مختاراً غير مضطر. إن الإسلام يهدف إلى إقامة مجتمع طاهرٍ نظيف لا تستثار فيه الدوافع والشهوات الكامنة؛ لذا فقد وضع مثل هذه الضمانات والضوابط والقيود. إن الإسلام العظيم إنما هو تشريع الذي يعلم من خلق: {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّه} [البقرة:140] {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] إنه دين الله جل وعلا، وشرع النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام.

تحريم الخلوة والاختلاط

تحريم الخلوة والاختلاط أيها الأحبة في الله: ومن أعظم الضمانات الوقائية التي وضعها الإسلام سياجاً واقياً للمرأة المسلمة أولاً، ولأفراد المجتمع الإسلامي ثانياً أن حرم الخلوة بين المرأة الأجنبية والرجل الأجنبي، وأن حرم الاختلاط المستهتر بين الرجال والنساء، لماذا؟ لأن الميل الفطري بين الرجل والمرأة ميلٌ عميق في التكوين النفسي والحيوي؛ لأن الله قد أناط به امتداد الحياة على ظهر هذه الأرض، لذا فهو ميلٌ دائمٌ لا ينقطع ولا ينتهي، والمرأة بطبيعتها فطرت على الأنوثة والجمال وحب الزينة؛ ليتم الانسجام بينها وبين شريك حياتها كما أراد الله، والإسلام لم يتنكر لتلك الفطرة التي فطرت عليها المرأة، ولم يعاكسها الإسلام في أنوثتها، وحبها للزينة والجمال، ولكن الإسلام أحاطها بسياجٍ من الوقاية لا كما يقول زعماء وعبيد المدنية السوداء: بأنكم تخافون على نسائكم أكثر من خوف الغرب الملحد والكافر على نسائه، نقول: ليس كذلك يا دعاة الغربية والمدنية! تحت ستار التحرر والتطور الأسود، وإنما لأن امرأتنا في الإسلام درةٌ مصونة، ولؤلؤة مكنونة، لا يريد الإسلام لها أن تعبث بها الأيدي الآثمة، ولا أن تمتد إليها النظرات السانية، إنما هي أمنا وأختنا وبنتنا وزوجتنا، فهي في غاية من الصون والحفظ والعفاف. الإسلام ما أحاط المسلمة بهذه الضمانات إلا حماية لها، وحرصاً عليها، وحفظاً لها ابتداءً، ولأفراد مجتمعها المسلم الذي تعيش فيه انتهاءً. فالخلوة محرمة بين الرجال والنساء، والاختلاط محرم في دين الله جل وعلا، ونظراً لأن هذا الموضوع طويل -أيها الأحبة- فسوف أركز فيه الحديث في عدة عناصر: أولاً: خطورة الخلوة بالمرأة الأجنبية والأدلة على تحريمها. ثانياً: صورٌ من الخلوة المحرمة شرعاً. ثالثاً: مأساة من الواقع، وعظة من القرآن. رابعاً: خطورة الاختلاط والأدلة على تحريمه. خامساً: صورٌ من الاختلاط المحرم شرعاً. سادساً: مأساة من الواقع، وصورة مشرقة من القرآن. سابعاً: فهل من مدكر؟ فأعيروني القلوب والأسماع أحبتي في الله!

خطورة الخلوة بالمرأة الأجنبية والأدلة على تحريمها

خطورة الخلوة بالمرأة الأجنبية والأدلة على تحريمها الخلوة هي: أن ينفرد الرجل بامرأة أجنبية عنه في غيبة عن أعين الناس، هذه خلوة محرمة في دين الله، ولو كانت بين أصلح الرجال وأتقى النساء فهي حرام في دين الله جل وعلا. والأدلة على تحريمها من شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرة، من هذه الأدلة -أيها الأحبة- حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال عليه الصلاة والسلام: (لا يخلون رجلٌ بامرأة إلا مع ذي محرم) وفي رواية أخرى في البخاري ومسلم من حديث ابن عباس أيضاً رضي الله عنهما: أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا يخلون أحدكم بامرأة ليس معها ذو محرم، فقام رجلٌ فقال: يا رسول الله! إن امرأتي خرجت حاجّة -خرجت تحج بيت الله الحرام- وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا) أتدرون ماذا قال له النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: (ارجع فحج مع امرأتك) هل تفلسف هذا الرجل وقال: لا يا رسول الله! كيف أدع الجهاد في سبيل الله وأذهب لمرافقة زوجتي؟ أنا أثق في أخلاقها يا رسول الله! أنا لا أشك في تربيتها يا رسول الله! كيف تأمرني بهذا وهي بنت بيت التقى والورع والدين والالتزام، لا، إن المرأة هي المرأة وإن الرجل هو الرجل، والمرأة تضعف أمام شهوتها وغريزتها ولو كانت ذات شرفٍ ومنصبٍ وجمال إلا لمن عصم الكبير المتعال جل وعلا. فرجع الرجل فحج مع امرأته بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. هذه هي مكانتك عندنا أيتها الأخت الكريمة الفاضلة، هذه هي مكانتك أيتها المسلمة الكريمة، أنت درتنا المصونة، أنت لؤلؤتنا المكنونة التي حرص الإسلام على ألا تمتد إليك الأيدي العابثة، ولا أن تلوثك النظرات الآثمة، لا والله، بل أنت مكرمةٌ في دين الله وعزيزة في شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي الحديث -أيها الأحباب- الذي رواه الإمام أحمد في مسنده، والإمام الترمذي في سننه وقال: حديث حسنٌ صحيح، ورواه الإمام الحاكم في المستدرك، وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وأقره الإمام الذهبي من حديث عامر بن ربيعة رضي الله عنه: أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا يخلون رجلٌ بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان) هذا كلام الصادق المصدوق، الذي لا ينطق عن الهوى. أسمعت أيها الحبيب الكريم؟ أسمعتِ أيتها الأخت الكريمة الفاضلة؟: (لا يخلون رجلٌ بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان) لا تقل: أنا أثق في أخلاق المرأة، ولا تقل: أنا أثق في تربيتها، ولا تقل: أنا أثق في أخلاق الرجل، وأثق في ورعه وزهده وتقواه، المرأة امرأة، والرجل هو الرجل: (لا يخلون رجلٌ بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان) بشهادة من لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم. وفي رواية الإمام أحمد من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يخلون بامرأةٍ ليس معها ذو محرم، فإن ثالثهما الشيطان) هذا كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم، إن الشيطان ثالثهما وشريكٌ في هذا اللقاء، فيزين المرأة للرجل ولو كانت دميمة، وسيزين الرجل للمرأة ولو كان قبيحاً، وكثيراً ما نرى من الجرائم والحوادث التي ينخلع لها القلب. إننا نرى رجلاً قد ارتكب معصية الزنا مع امرأةٍ وهو متزوج، ولو نظرت إلى زوجته لرأيت أن الله قد أعطاه امرأةً حسناء جميلة، على خلقٍ ودين، وذهب إلى امرأةٍ قبيحة دميمة ليفعل بها الفاحشة، ما هذا؟! إن الشيطان قد زينها له، وزينه لها، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب. قال صلى الله عليه وسلم: (إذا خرجت المرأة من بيتها استشرفها الشيطان) ما معنى استشرفها؟ علاها، أي: علا الشيطان المرأة، إنها جنديٌ من جنود إبليس إذا خرجت على غير شرع الله وعلى غير الضوابط التي وضعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا خرجت استشرفها الشيطان، فيزينها في قلوب الرجال، ويزين الرجال في قلبها، وربما تكون المرأة تقية نقية طاهرة وخرجت لحاجة من حوائجها الضرورية دينية كانت أو دنيوية، إلا أن الشيطان لا يدعها وإنما يزينها للرجال -ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم- فما ظنك بعد ذلك بامرأة متبرجة متعطرة متزينة متكسرة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! ولذا أيها الأحباب: حذر النبي صلى الله عليه وسلم، تحذيراً صريحاً واضحاً كما في حديث البخاري ومسلم من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال عليه الصلاة والسلام: (إياكم والدخول على النساء -تحذير شديد اللهجة- فقام رجلٌ من الأنصار فقال: يا رسول الله! أفرأيت الحمو؟ فقال عليه الصلاة والسلام: الحمو الموت) وزاد مسلم قال الليث: الحمو: أخو الزوج وأقارب الزوجة من غير المحارم، إذا دخل أخوك على زوجتك وخلا بها فهي خلوةٌ محرمة في دين الله. سترى كثيراً من الناس يعجبون لهذا الكلام، ويقول: ما هذا التنطع والتطرف يا شيخ؟! إنه أخي يدخل على أولادي ماذا في هذا؟! ما هذا التطرف الذي أنتم فيه؟! ما هذا الدين الجديد الذي جئتمونا به؟! هل أخي لا يدخل على زوجتي في غيبتي؟! نقول: نعم، لا يدخل عليها، إنه كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، دين الله -يا عبد الله- هل أنت أعلم بالناس من الله؟ هل أنت أعلم بطبائع البشر ممن لا ينطق عن الهوى، من الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، الحمو هو: أخوك وأقاربك، وأقارب الزوجة من غير المحارم لا يدخلون على الزوجة في غيبتك، وإلا فالموت والهلاك والدمار بموعود رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله: أفرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت) الهلاك في ذلك، وربما لا تقع المعصية من أول مرة، والشيطان له خطوات: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [البقرة:208] وله مداخل -يا عباد الله- لا تقل: أنا أثق فيها، إنها امرأة يا عبد الله! وإنه رجلٌ يا عبد الله! هل يقرب (البارود) من النار ونقول: إننا قد وضعنا تحذيراً شديداً للنار ألا تشتعل في (البارود)؟! إنه خداعٌ في خداع، لا يدخل أخوك على زوجتك في غيبتك.

مأساة من الواقع

مأساة من الواقع إن ما سبق يجرنا للحديث عن العنصر الثاني ألا وهو: مأساة من الواقع، وهذه طالعتنا به جرائدنا السوداء التي راحت هي الأخرى تنم عن نفسها بمنتهى الصراحة والوضوح كوضوح الشمس في رابعة النهار، طالعتنا الجرائد بمأساة وسوف ألخصها بقدر ما يسمح به الحياء والمقام، وتتلخص هذه المأساة في قصة امرأة غاب عنها زوجها وترك لها من وسائل الإفساد والفساد ما الله به عليم؛ ترك لها التلفاز ذلك الصنم الأكبر، ذلك الشيطان الذي جثم على الصدور في البيوت والقلوب، ودخل عقر دور المسلمين برغبتهم -ولا حول ولا قوة إلا بالله- يبث الرذيلة بثاً، ويدمر الأخلاق تدميراً على مرأى ومسمعٍ منا، وكان لبناتها غرفة خاصةٌ بهن، أودعت بداخلها التلفاز والفيديو -احذر أيها المسلم! احذري أيتها المسلمة- تركت لبناتها في غرفتهن التلفاز والفيديو، وبعد مرور الزمان ومضي الأيام دخلت البنات بشريطٍ جنسيٍ -والعياذ بالله- ليشاهدنه في غرفتهن الخاصة، وأصبح الأمر عادياً لدى البنات بعد ذلك، والأب مشغول، والأم مشغولة لا تدري عن حال بناتها شيئاً، ولا يعلم الأب عن حال بناته شيئاً، إنه مشغولٌ بهذا أو ذاك، ودخل عم البنات يوماً عليهن، وكان يدخل كعادته بغير ضوابط وبدون قيود وشروط، أمر عادي، إنه عم البنات، إنه أخو الزوج، فما في ذلك؟ ما هذا التنطع والتشدد؟ دخل العم كعادته فما الذي جرى؟ دخل إلى غرفة البنات وهو لا يعلم شيئاً، وبتلقائية طبيعية وضع يده على زر جهاز الفيديو اللعين ليشغل الجهاز ليقضي الوقت حتى ترجع البنات، وإذ به يرى الفاجعة الكبرى، يرى الشريط الذي نسي في هذا الجهاز، ويضعف هذا الرجل أمام هذه المناظر التي تحول العباد الزهاد إلى فساق فجار، يضعف ويجلس ليرى، وتدخل عليه زوجة أخيه بكأس من الشاي قد أعدته له، فترى المرأة ما يحول التقيات الطاهرات إلى فاسقات ماجنات، وباختصار بقدر ما يسمح به الحياء والمقام أوقع الشيطان بينهما فزنى بها. والمؤلم في هذه المأساة -يا عباد الله- أن المرأة تقول: إن الأمر أصبح عادياً، بعد ذلك كثرت هذه الكبيرة وهذه المعصية، والذي يزعجها على حد قولها: أنها أرسلت رسالة إلى أهل الفتوى من العلماء والدعاة تقول: إن ما يزعجني في هذه الأيام أنني حاملٌ من أخي الزوج، فماذا أصنع؟! إنا لله وإنا إليه راجعون! هذه ثمرة حنظلٍ مرّة من ثمرات البعد عن كتاب الله وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم أن عاند الناس شرع ربهم ونبيهم، هذه هي الثمار -يا عباد الله- هذه هي الثمرات المرة التي نجنيها من وراء عنادنا لشرع الله وشرع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرسول حذرك تحذيراً صريحاً، وقال: (الحمو الموت) فأبيت إلا أن تعاند أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلت: أنا أثق في أخلاق زوجتي ولا أشك في تربيتها، وأثق في أخلاق أخي ولا أشك في تربيته، هذا -يا عبد الله- لا ننكره، ولكن المرأة تضعف أمام شهوتها، وكذلك الرجل، إلا من عصم الله جل وعلا، وإلا من رحم الله جل وعلا.

صور من الخلوة المحرمة شرعا

صور من الخلوة المحرمة شرعاً العنصر الثالث من عناصر هذا اللقاء هو: صور من الخلوة المحرمة شرعاً: لأن كثيراً من الناس قد وقع في الحرام وهو لا يدري، فمن صور الخلوة المحرمة: أن تفتح المرأة بيتها لأصدقاء زوجها، وأقاربها من غير المحارم، وأقارب الزوج من غير المحارم، تفتح البيت في غياب الزوج تقول: تفضل استرح وتعطيه فنجاناً من القهوة أو من الشاي حتى يعود زوجي، وحتى يعود صديقك، فيدخل الرجل ويخلو بها وتخلو به، وقد لا تقع المصيبة أول مرة؛ لأن الشيطان يسير على خطوات كما قال رب الأرض والسماوات، هذه خلوةٌ محرمة في دين الله عز وجل. ثانياً: من صور الخلوة المحرمة: أن يخلو السائق بالمرأة في السيارة في غيبة عن أعين الناس، وهذا مما ابتلي به كثيرٌ من المسلمين -ولا حول ولا قوة إلا بالله- وربما كان السائق شاباً وسيماً جميلاً يخلو بالمرأة في سيارةٍ واحدة في غيبة في بعض الطريق عن أعين الناس، ولا يعلم طبيعة الحوار الذي يدور في السيارة إلا الذي يسمع ويرى، خلوة محرمة في دين الله. ثالثاً: من صور الخلوة المحرمة: أن يخلو الخطيب بمخطوبته بحجة أن يتعرف كل منهما على أخلاق الآخر، وخاب الجميع وخسروا، وبعد ذلك نندم يوم لا ينفع الندم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! رابعاً: من مظاهر وصور الخلوة المحرمة: أن تذهب المرأة وحدها بغير محرم إلى الطبيب، فيخلو الطبيب بها بحكم عمله، ويكشف عن مواطن حساسة في جسدها بحكم وظيفته، وهي خلوة محرمة في دين الله، أسمعت يا عبد الله؟! أسمعت يا أمة الله؟! خلوة محرمة في دين الله جل وعلا، إن اضطرت المرأة إلى الطبيب حينما عجزت عن عدم وجود الطبيبة المسلمة فيجوز لها أن تذهب إلى الطبيب مع محرمٍ من محارمها، لا تذهب وحدها ويخلو بها الطبيب وتخلو بالطبيب، وهذه خلوة محظورة شرعاً في دين الله جل وعلا. خامساً: من أخطر مظاهر وصور الخلوة المحرمة في دين الله عز وجل: أن يخلو الخادم في البيت بالمرأة وحدها، وأن يخلو الرجل في البيت بالخادمة وحدها، وكم وقع من المآسي والمصائب بسبب ذلك، أن يخلو الخادم بالمرأة، يخرج الرجل إلى عمله أو إلى شأنٍ من شئونه، ويترك الخادم في البيت طوال الساعات، وربما يكون الخادم شاباً وسيماً جميلاً، وربما يكون الزوج مسناً أو كبيراً أو دميماً أو مخاصماً لزوجته أو هاجراً لفراش زوجته، فتقع المصيبة -يا عبد الله- لأن الكلفة ترفع على مدى الأيام والزمان، هي تناديه وتأمره وتنهاه وهو يجيب بحكم طبيعة عمله، ولكن المرأة امرأة، والرجل هو الرجل، والرسول أخبر بأنه: (ما خلا رجلٌ بامرأة إلا وكان الشيطان ثالثهما) وقد تقع المصيبة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!

عظة من القرآن

عظة من القرآن أليست لنا في القرآن عظة وعبرة؟ ألم يحكِ القرآن قصة امرأة شريفة عزيزة وجيهةٍ غنية جميلة مع يوسف عليه السلام؟ انتبهوا -يا عباد الله- ألم يقص القرآن علينا قصة امرأة عزيز مصر مع خادمٍ لها في البيت؟ هي من هي؟ هي في غاية الشرف والجمال والمال والجاه والسلطان، وهو من هو؟ هو عبدٌ لها وخادمٌ عندها في بيتها، ليس خادماً فحسب بل هو عبدٌ لها في بيتها يعيش معها في بيتٍ واحد، وتحت سقف واحد، ما الذي جرى؟ هكذا بإيجازٍ شديد وبدون مقدمات كما قال الله سبحانه: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} [يوسف:23] هكذا بوضوح وبصراحة وبمنتهى المراودة المكشوفة الجاهرة: {هَيْتَ لَكَ} [يوسف:23] نعم، تقول لمن؟ لشابٍ في كامل فتوته وقوته وجماله وشبابه معها تحت سقف واحد، بل وأُغلق عليهما بابٌ واحد، ولكن يوسف كان قلبه موصولاً بالله جل وعلا: {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف:23] أنى للقلوب الموصولة بالله أن يؤثر عليها الشيطان، ألم يقل: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص:82 - 83]؟ ولقد حكم الله ليوسف أنه من عباده المخلصين: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24] الذين لا تأثير ولا سلطان للشيطان عليهم، ولكن المرأة العنيدة التي ضعفت أمام شهوتها وأمام غريزتها لعبدٍ من عبيدها ولخادمٍ من خدامها تنتصر لكبريائها الذي وضعه يوسف في الوحل والطين والتراب، وينتشر الخبر ويسري كسريان النار في الهشيم: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف:30 - 31] وكأن هذا الإعلان السافر من هؤلاء النسوة قد دفع المرأة دفعاً لأن تعترف اعترافاً صريحاً وأن تنتصر لكبريائها وشهوتها انتصاراً متبجحاً قالت: {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلِيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ} [يوسف:32] وهنا لم يغتر يوسف بعصمته، وإنما اعترف بعجز وضعف بشريته ولجأ إلى الله الحفيظ العليم جل وعلا: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف:33] لم تعد الدعوة من امرأة العزيز وحدها بل أصبحت الدعوة منهن جميعاً: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ} [يوسف:33] لم يقل: كيدها بل (كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:33] فماذا كانت النتيجة؟: {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [يوسف:34]. الذي يسمع ويرى ويعلم القلوب التقية النقية من القلوب الكاذبة المنافقة إنه هو السميع العليم سبحانه وتعالى. هذا نموذجٌ وعظة من كتاب الله الذي نقرءوه في الليل والنهار، ولكن أصبح القرآن كتاب ثقافة للتسلية وللمتعة، يجلس الرجل ليقرأ القرآن ولا هم للناس إلا أن يقولوا: هذا صوته جميل، وذاك صوته حسن، وهذا صوته غير طيب، ويؤمر وينهى ولا سمع ولا طاعة للأمر، ولا اجتناب للنهي؛ لأن القرآن حول إلى علب القطيفة وإلى البراويز الذهبية والفضية، وحول إلى حلي تحلي به النساء صدورهن، يقرأ على الأموات في القبور، والله جل وعلا يقول: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} [يس:70] وصدق الله جل وعلا إذ يقول: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} [الفرقان:30]. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

خطورة الاختلاط والأدلة على تحريمه

خطورة الاختلاط والأدلة على تحريمه الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وأحبابه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الأحبة: العنصر الرابع هو: خطورة الاختلاط، والأدلة على تحريمه. والاختلاط أيها الأحباب: هو اختلاط الرجال بالنساء من غير المحارم بلا شك في مكانٍ واحدٍ بدون حجبٍ ولا حواجز، ووالله إن الاختلاط حتى في أماكن العبادة حتى في بيت الله الحرام خطر جسيم وشرٌ عظيم، ولقد قال الله سبحانه: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33] {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) [الأحزاب:53] ولكننا نرى النساء يدافعن ويزاحمن الرجال حتى حول بيت الله الحرام بصورة يندى لها الجبين ويقشعر لها البدن أسفاً وحزناً، ترى النساء بصورة متبجحة -إلا من رحم الله جل وعلا- وهن كثرة ولله الحمد والمنة، إن الخير لا ينقطع في هذه الأمة أبداً إلى قيام الساعة، فإننا نرى نساءً على قمة الحياء والالتزام والورع والدين -نسأل الله أن يكثر من أمثالهن، وأن يزيدهن حياءً وشرفاً وعفة. الاختلاط أما تعلمون أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد خصص باباً في مسجده للنساء حتى لا يختلط النساء بالرجال، قال نافع: [لما خصص النبي صلى الله عليه وسلم باب النساء قال عبد الله بن عمر: والله لن أدخل منه أبداً. فما دخل منه عبد الله حتى توفاه الله عز وجل] وهو بابٌ معروف الآن في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بباب النساء إلى جوار باب جبريل عليه السلام، وكان صلى الله عليه وسلم يأمر الرجال أن يتأخروا ولا ينصرفوا بعد السلام حتى ينصرف النساء، حتى لا يختلط الرجال بالنساء في موطن العبادة والصلاة، وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم من حديث أبي هريرة: (خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها) حتى لا يقترب الرجال من النساء ولا يقترب النساء من الرجال، وكانت المرأة في هذا العهد النبوي المبارك تستحي من الرجال، لا تدافع الرجال ولا تزاحمهم في المساجد والطرقات، وإنما كانت تطوف حول بيت الله بعيدةً عن مدافعة الرجال، ولما جاءت امرأة -والحديث في صحيح البخاري - إلى عائشة رضي الله عنها، قالت: [قومي بنا، انطلقي نستلم يا أم المؤمنين! فقالت: انطلقي إليك عني] وأبت رضي الله عنها أن تقوم لتطوف مع هذه المرأة خشيت أن تدافع الرجال أو أن تزاحمهم، وروى الإمام الشافعي في مسنده: جاءت امرأة إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فقالت: [يا أم المؤمنين! لقد طفت بالبيت سبعاً واستلمت الركن مرتين أو ثلاثاً -أي: قبلت الحجر مرتين أو ثلاثاً أتدرون ماذا قالت عائشة -؟ قالت لها: لا آجرك الله تدافعين الرجال ألا كبرتِ ومررتِ؟ ألا كبرتِ ومررتِ تدافعين الرجال عند الحجر] وهذا ما نراه -ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم- بل والله ترى المرأة بغير خجل ولا حياء تقف أمام عينيك وبين يديك لتركع وتسجد بثيابٍ لا يعلم حالها إلا الله، إنا لله وإنا إليه راجعون! إن الحياء هو شرف المرأة ورأس مالها وعظيم بضاعتها: (الحياء والإيمان مقرونان إذا رفع أحدهما رفع الآخر). يا عباد الله! الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت) إن الحياء خصلة عظيمة من صفات المرأة المسلمة النقية المؤمنة التقية، فنسأل الله أن يرزق نساءنا الحياء، وأن يرزقنا الحياء والتقى إنه ولي ذلك ومولاه. أيها الأحبة: لقد قالت كاتبة إنجليزية هي إلذي كوك هذه المرأة تقول: "إن الاختلاط بين الرجال والنساء شيءٌ يألفه الرجال، وعلى قدر كثرة الاختلاط تكون كثرة أولاد الزنا". امرأة أجنبية كافرة تقول هذا الكلام؟! والحمد لله أثبتت الدراسات والإحصائيات كذب وافتراء ما كان يدعيه عبيد المدنية الغربية وعبيد التطور والتحرر تحت ستار المدنية الأسود، أثبتت الدارسات والإحصائيات عكس ما يقولون، كانوا يقولون: إن الاختلاط يهذب غريزة الرجل، إن الاختلاط يخفف من الكف الجنسي بين الرجل والمرأة، فعلامَ هذا الغلو والتطرف؟ أثبتت الإحصائيات والدراسات عكس ذلك، وتعد هذه الدراسات بمثابة الصفعة على وجوه هؤلاء؛ لأن الرجل مع المرأة بارودٌ إلى جوار النار، لا بد وأن يشتعل حتماً وإن تأخر، وقد أثبتت الدراسات بأن الجرائم تنتشر بكثرة، ولا أريد أن أعكر الصفو بأكثر من هذا، فوالله كنت قد أعددت قصتين تخلعان القلوب من الصدور، ولكن يكفي هذا، والأمر واضحٌ لكل المسلمين والمسلمات. الإحصائيات بمثابة الصفعة على وجوه أدعياء الاختلاط مهلاً مهلاً يا دعاة المدنية والسفور!! مهلاً مهلاً يا دعاة الاختلاط!! ارجعوا واقرءوا الدراسات والإحصائيات لتعلموا أن كثرة الاختلاط كثرةٌ للجرائم والفواحش والزنا -والعياذ بالله- فإلى عبيد المدنية الغربية والمدنية الذين أطلقوا العنان لبناتهم ونسائهم فخالطن الرجال وخلون بالرجال. اتقوا الله يا عباد الله! واعلموا بأنكم موقوفون بين يدي الله جل وعلا: (كلكم راعٍ وكلكم مسئولٌ عن رعيته) وستسأل بين يدي الله جل وعلا عن هذه البنت وعن هذه الزوجة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].

خامسا: صور من الاختلاط المحرم

خامساً: صور من الاختلاط المحرم من صور الاختلاط المحرم أيها الأحبة: أن يختلط الرجال بالنساء فيما يسمى بالجلسات العائلية، وتظهر المرأة فيها على أتم زينة ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! وهذا اختلاطٌ محرم في دين الله. أيضاً من صور الاختلاط: الاختلاط في دور التعليم، وأصبح الأمر واضحاً لكل مسلم بأن الجامعات أو معظم دور الدراسة والتعليم قد تحولت إلى سباقٍ علني واضح لأرقى الموديلات وأحدث الأزياء وأرقى العطور والبرفانات. ومن صور الاختلاط المحرم: الاختلاط في أماكن العمل، وهذا ما يغفل عنه كثيرٌ من الطيبين والطيبات، الإسلام لا يحرم عمل المرأة إذا اضطرت إلى ذلك وألجأتها الضرورة إليه، لكن بضوابط وشروط وقيود، ونحن في حاجة إلى أن تعمل المرأة في موطن الطب لتعالج النساء لا الرجال، وفي حاجة إلى معلمة مسلمة لتعلم البنات لا الأولاد والشبان، وهكذا -أيها الأحبة-. أكتفي بذلك القدر، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يتقبل منا ومنكم، وأن يجعلنا وإياكم ممن يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ، وأسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يتقبل منا وأن يرزقنا وإياكم الزهد والحياء والإخلاص والتقى والعفاف، اللهم احفظ بناتنا، اللهم احفظ نساءنا، اللهم جملهن بالحياء يا رب العالمين!

الشهوات والملذات

الشهوات والملذات إن فتنة الشهوات والشبهات لا تأتي إلا عن قلة العلم، واتباع الهوى، وكثرة المعاصي، وسيطرة الدنيا على القلوب، ومما يساعد على انتشار هذه الشبهات الفتاوى المضلة، وكذلك الأفكار المنحرفة والقول على الله بغير علم. والمخرج من هذه الفتنة وهذه الغربة في الدين هو بالاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

تفسير قوله تعالى: (واتبعوا الشهوات)

تفسير قوله تعالى: (واتبعوا الشهوات) الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك وما كان معه من إله، الذي لا إله إلا هو فلا خالق غيره، ولا رب سواه، المستحق لجميع أنواع العبادة، ولذا قضى ألا نعبد إلا إياه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الواحد الذي لا ضد له، والصمد الذي لا منازع له، والغني الذي لا حاجة له، وجبار السماوات والأرض، فلا راد لحكمه، ولا معقب لقضائه وأمره، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وعظيمنا وقائدنا ومعلمنا وقدوتنا وقرة أعيننا محمد رسول الله، فصلى الله وسلم وبارك عليك يا سيدي يا رسول الله، صلاةً وسلاماً يليقان بمقامك يا أمير الأنبياء! ويا سيد المرسلين! وأشهد لك يا سيدي يا رسول الله، ويشهد معي الموحدون أنك قد أديت الأمانة، وبلغت الرسالة، ونصحت للأمة، وكشف الله بك الغمة، وعبدت ربك حتى لبيت داعيه، وجاهدت في سبيل ربك حتى أجبت مناديه، وعشت طوال أيامك ولياليك تمشي على شوك الأسى، وتخطو على جمر الكيد والعنت، تلتمس الطريق لهداية الضالين، وإرشاد الحائرين، حتى علَّمت الجاهل يا سيدي، وقومت المعوج، وأمَّنت الخائف، وطمأنت القلق، ونشرت أضواء الحق والخير والإيمان والتوحيد كما تنشر الشمس ضياءها في رابعة النهار، فصلى الله وسلم وبارك عليك يا سيدي يا رسول الله، وجزاك الله عنا خير ما جزى الله به نبياً عن أمته ورسولاً عن رسالته. أما بعد: فيا أيها الأحباب الكرام: تعالوا بنا لنواصل مسيرتنا المباركة في شرحنا لآيات من كتاب ربنا عز وجل، ومع اللقاء السابع والعشرين على التوالي، وما زلنا بفضل الله وطوله وحوله ومدده نطوف معكم في بستان سورة مريم، وكنا قد توقفنا في اللقاء الماضي عند قول الحق جل وعلا: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59] وانتهينا من شرح هذه الآية في شطرها الأول {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ} [مريم:59] ونحن اليوم على موعدٍ مع شطر الآية الثاني وهو قول الله عز وجل: {وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59].

أنواع الفتن وأسبابها

أنواع الفتن وأسبابها الشهوات: جمع شهوة، ولقد عرفها ابن منظور في لسان العرب فقال: إن الشهوة ليست خاصة بشيء معين أو محدد، ولكنها في كل شيء من معاصي الله عز وجل. الشهوات أيها الأحباب: من أعظم الفتن على الإنسان؛ لأن الفتنة نوعان كما يقول الإمام ابن القيم: 1/ فتنة الشبهات. 2/ فتنة الشهوات. فأما فتنة الشبهات فتأتي من قلة العلم، ومن اتباع الهوى، ولقد حذر الله جل وعلا من اتباع الهوى؛ لأن اتباع الهوى يضل عن سبيل الله، فقال سبحانه: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص:26]. وأما فتنة الشهوات فسببها كثرة المعاصي، وفسق الأعمال، وسيطرة الدنيا على القلوب، ولذا قال سلفنا الصالح: احذروا من الناس صنفين: صاحب هوى قد فتنه هواه، وصاحب دنيا قد أعمته دنياه، وأقول -ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم-: لقد ابتلانا الله جل وعلا في بلادنا، وفي أيامنا هذه، وفي زماننا هذا بهذين الصنفين، ابتلانا الله جل وعلا ابتلاءً شديداً بكثير من الناس الذين قد أعمتهم شهوات الدنيا، وشبهات الباطل، فراحوا يقولون في هذا الدين بغير علم، ويفترون على الله جل وعلا، ويعلنون العداء لهذا الدين، ويظهرون حقدهم الدفين على هذا الدين، ويشنون عليه الحرب الهوجاء باسم الدين، ولكن يأبى الله جل وعلا إلا أن يظهر حقدهم الدفين على هذا الإسلام، وعلى هذا الدين العظيم ونفاقهم المبين في زلات ألسنتهم، وعلى صفحات وجوههم، ليميز الله الخبيث من الطيب، وليعلم الموحدون العدو من الصديق. أيها الأحبة الكرام: لقد ابتلانا الله جل وعلا في هذه الأيام ابتلاءً شديداً بكثيرٍ من الناس الذين يقولون في ديننا بغير علم، ويقولون في ديننا بالهوى، فقد أعمت أعينهم نارُ الشبهات وظلماتُ الشهوات، فراحوا يفترون على الله الكذب، ويعلنون العداء للإسلام ولرسول الإسلام صلى الله عليه وسلم، ولكن الله جل وعلا وعدنا بأنه هو الذي سيتولى أن يحفظ دينه، وهو الذي قال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]. اعلموا أيها الأحباب: أنه ليس من العيب أن يزل العالم؛ لأنه ليس بمعصوم؛ لأن العصمة للنبي صلى الله عليه وسلم وحده، ولكن مكمن الخطر، ومصيبة المصائب أن يقول العالم في الدين بغير علم، أو يصر على خطئه وعلى عناده وكبره بعدما يتبين له الحق بالدليل الشرعي استحياءً من الناس، أو خجلاً من الناس، أو خوفاً منهم، والله لا يستحيي من الحق، أقولها بمنتهى الوضوح والصراحة: إننا نحب علماءنا، ونحب شيوخنا، ولكن الحق أحب إلينا من شيوخنا وعلمائنا، إننا نحب شيوخنا وعلماءنا، ولكننا نحب الحق أكثر من حبنا لعلمائنا وشيوخنا.

خطورة الفتاوى المضللة والأفكار المنحرفة

خطورة الفتاوى المضللة والأفكار المنحرفة أيها الأحبة الكرام: إن مكمن الخطورة في فتاوى عصرنا المنحرفة والمضللة أنها سرعان ما تنتشر، وسرعان ما يعرفها ملايين من البشر بواسطة وسائل الإعلام الحديثة المسموعة والمرئية والمقروءة. وإن مكمن الخطر كذلك ومصيبة المصائب أن الذين يتحكمون في أئمة الفكر في بلادنا، والذين يسيطرون على عقول الناس بما يملونه عليهم من آراء وأفكار، هذا الصنف من الناس عادةً ما يحاط بهالة من الدعاية، تستر كذبه وجهله وتغطي حقده الدفين على الإسلام، وعلى هذا الدين، وعادةً ما يحاط هؤلاء بهالة عجيبة من الدعاية والإعلان ليلوي هؤلاء الناس أعناق الناس إليهم، وليلفت أسماع الناس إليهم، فيرضخوا لفتاويهم ولكلماتهم، ويأبى الله جل وعلا إلا أن يقيض لهذا الدين من يحذر الناس من فتاوى هؤلاء ودعاويهم. اعلموا أيها الناس: أن هذه الهالة، والدعايات، وهذا الإعلان لا يقرب أصحاب الفكر من قلوب الناس، ولا يجعل من جهلهم علماً، ولا يجعل من بعدهم عن قلوب الناس قرباً، "مثلهم كمثل الطبل الأجوف يسمع صوته من بعيد، وباطنه من الخيرات خالٍ". نعم إنني أقدم بهذه المقدمة الطويلة لماذا؟ لأنه مما يدمي الضمائر الحية؛ ويمزقها أن ينبري أعداء ديننا في هذه الأيام، وعبيد الفكر الغربي لحرب هذا الإسلام حرباً صريحة وحرباً هوجاء، وأرى أن أعداء هذا الفكر -أي: الفكر الإسلامي- وأنصار هذا الفكر -أي: الفكر الغربي- راحوا ينفثون سمومهم على صفحات الجرائد، وعبر شاشات التلفاز، وعبر الإذاعات المسموعة في كل زمانٍ ومكانٍ، يريدون إسلاماً على أمزجتهم، يريدونه خاصاً على أهوائهم، وبما يمليه عليهم قادة الغرب من المستشرقين، والمبشرين، والشيوعيين، والعلمانيين، فتارةً يقولون: إننا لا نأخذ بآراء الفقهاء ولا بآراء المفسرين ولا بآراء العلماء، لا نأخذ إلا بالوحي من القرآن والسنة، فإن وافقتهم جدلاً على أن يتركوا آراء الفقهاء وآراء العلماء، والمفسرين، ويأخذوا بالقرآن والسنة، بعد فترة يقولون لك: إننا لا نأخذ بالسنة بكاملها؛ لأن فيها ما هو ضعيف ومردود وموضوع، ولا نأخذ إلا بالقرآن الكريم، فإذا ما ضيعوا السنة ولم يبق أمامهم إلا القرآن، قالوا لك بعد ذلك: إن القرآن قد نزل ليعالج أوضاع البيئة العربية في أرض الجزيرة، ولذا فإنه ينبغي أن نأخذ من القرآن ما يتفق مع روح عصرنا، وما يتمشى مع روح التطور والتحرر. أضاعوا آراء الفقهاء، وأضاعوا السنة، وفي النهاية قالوا: لا بد أن نأخذ من القرآن ما يتفق مع روح عصرنا ومع روح مدنيتنا وتطورنا، آمنوا ببعض الكتاب وكفروا بالبعض الآخر. فإن قلت لهم: إن القرآن الكريم قال: إن الخنزير رجس، ولقد وصفه القرآن الكريم بأنه رجس، لقالوا لك: لقد وصف القرآن الكريم الخنازير ولحومها بأنها رجس؛ لأن وصفه كان لخنازير في العصور المتخلفة، كانت خنازير سيئة التغذية، أما خنازير اليوم -وما أكثرها- فإنها خنازير متطورة ومتحضرة، ليست بالخنازير المتخلفة كخنازير العصور الماضية. فإن قلت لهم: إن القرآن الذي تؤمنون به يقول: للذكر مثلُ حظِ الأنثيين في الميراث، قالوا لك: لقد قال القرآن ذلك في عصورٍ ماضية، قبل أن تخرج المرأة لميدان العمل، أما يوم أن خرجت المرأة لميدان العمل فقد أصبحت تساوي الرجل في كل شيء وهكذا.

غربة الدين والتدين

غربة الدين والتدين إنها نار الشهوات وفتن الشبهات، وأنا -كما قلت- أقدم بهذه المقدمة الطويلة لهذه الشهوات والشبهات التي يحارب بها إسلامنا وديننا في هذه الأيام؛ لأن قلبي كاد أن ينخلع، وكاد عقلي يطير، لما قرأته على صفحات جريدة إسلامية ولا أقول على صفحات جريدة شيوعية أو علمانية أو ماركسية، وإنما أقول: على صفحات جريدة إسلامية بعنوان: (تذكير الأصحاب بتحريم النقاب) أسمعتم؟ أرأيتم؟ على صفحات جريدة إسلامية عنوانٌ ضخمٌ يقول: (تذكير الأصحاب بتحريم النقاب) إلى هذا الحد يحارب الإسلام؟! إلى هذا الحد يحارب الالتزام؟! إلى هذا الحد يحارب الاحتشام؟! أنا لا أدري لماذا يثير النقاب هذه البغضاء في قلوب هؤلاء، والله لا أدري، فمنهم من يصف النقاب بأنه خيمة، ومنهم من يصف المنتقبات بأنهن متأخرات، ومتخلفات، ورجعيات، ومتحجرات، لا أدري لماذا كل هذه الحرب الشعواء؟! لماذا كل هذه الحرب الهوجاء على النقاب؟! لماذا لم تكن هذه الحرب على السفور؟ لماذا لم تكن هذه الحرب على العري والتبرج؟ لماذا لم تكن هذه الحرب على الاختلاط السافر؟ لماذا لم تكن هذه الحرب على المتبرجات العاريات الكاسيات المائلات المميلات اللائي يُفتح لهن الأبواب، وتيسر لهن الأسباب، وتذلل لهن الصعاب، وينلن كل الرضا والاحترام والتقدير من هؤلاء، أصحاب الشهوات وأصحاب القلوب المريضة، أما المنتقبات والعفيفات، والطاهرات، والمتوضئات، فإن الحرب تصب على رءوسهن صباً، لا تفتح لهن أبواب الجامعات، ولا أبواب المدارس، ولا أبواب الوزارات أو أبواب الأعمال، لا تفتح لهن الأبواب، ولا تذلل لهن الصعاب، ولا تيسر لهن الأسباب، ويصب هؤلاء الحاقدون على رءوسهن الحرب صباً، لماذا كل ذلك؟ لماذا هذه الحرب الشعواء على النقاب، وعلى الإسلام، وعلى الإخوة الذين توضئوا لله جل وعلا، وسجدوا له، والذين رفعوا شعار لا إله إلا الله، لماذا؟ إنني أتعجب! والله إنني لأتألم من هذه الحرب، ولكنني أتعجب ويزداد عجبي أن تكون هذه الحرب على النقاب ليست من أعداء الإسلام، وإنما ممن ينتسبون ظلماً وزوراً إلى الإسلام. إلى هذا الحد تحارب المنتقبة من المسلمين، وممن يتسمون بسمة أهل العلم والدين؟! إلى هذا الحد؟! فإنا لله وإنا إليه راجعون. ولكنني أقول: أيتها الأخوات المتنقبات. اصبرن، واعلمن علم اليقين أن في الحديث الصحيح الذي أخرجه الإمام مسلم، وغيره من أهل السنن والمسانيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء فطوبى للغرباء) وفي رواية للإمام أحمد: (قيل: من الغرباء يا رسول الله؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس) الغرباء: الذين يتمسكون بالقرآن وهدي النبي عليه الصلاة والسلام في وقتٍ قل فيه التمسك بالقرآن، وبسنة النبي عليه الصلاة والسلام. وفي الحديث الصحيح أيضاً الذي أخرجه الإمام الترمذي بسندٍ حسنٍ صحيح من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سيأتي على الناس زمانٌ الصابر فيه على دينه كالقابض على الجمر) وهذا هو زماننا، وهذه هي أيامنا، فمن صبر في هذه الأيام، وفي هذا الزمان على دينه كمن قبض على جمر بين يديه. فاصبري يا أختاه، واصبروا أيها الإخوة، اصبروا أيها الشباب، اصبروا أيها المسلمون، فإن الله جل وعلا قال: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} [الشرح:5 - 6]. وأقول لكم: أبشروا، فإن أشد ساعات الليل سواداً هي الساعة التي يأتي بعدها ضوء الفجر، وفجر الإسلام قادم، ونور الإسلام قادم، ونور محمدٍ قادم، وعز الإسلام قادم، ولكننا نحتاج إلى الصبر، اصبري يا أختاه، اصبري يا من التزمت بشرع الله، وبشرع رسول الله صلى الله عليه وسلم. إنني أتعجب! النقاب حرام؟ هذا آخر ما كنت أتخيله، يخرج علينا بعد ذلك هذا الفذ، والعبقري بهذا الاختراع المدوي، وبهذا الاكتشاف الكبير، وبهذه القنبلة المدوية ليقول لنا: إن النقاب حرام، والله ما قال بذلك أحدٌ من أسلافك الأولين.

المرأة سلاح ذو حدين

المرأة سلاح ذو حدين اعلموا أيها الناس: أن أعداء الإسلام علموا أن المرأة سبب فلاح الأمة الإسلامية، ومصدرٌ من مصادر نجاحها. ويعلمون أن عز الأمة عند المرأة المسلمة، ويعلمون كذلك أن المرأة المسلمة مصدر من مصادر الفتن والهتك والتدمير، فإن المرأة سلاحٌ ذو حدين، ولقد علم أعداء الإسلام ذلك، ولقد قالها أحد أقطاب المستعمرين يوم أن قال: كأس وغانية يفعلان في الأمة المحمدية ما لا يمكن أن يفعله ألف مدفع. فأغرقوا الأمة في الشهوات والملذات، هكذا أفلح أعداء ديننا، وهكذا خطط أعداء إسلامنا، علموا علم اليقين أن المرأة سلاحٌ ذو حدين، فهي مصدر عزة للأمة، ومصدر هتك وهدمٍ وتدمير، فهي سلاحٌ ذو حدين، ومن هذا المنطلق كان للمرأة النصيب الأكبر، والحظ الأوفر من المؤامرات والمخططات والمدبرات والتدبيرات التي دبرت لإسلامنا، والتي دبرت لأمتنا ولديننا، فانتبهوا جيداً. علموا علم اليقين أن المرأة إن التزمت بما قال لها ربها، وبما قال لها نبيها صلى الله عليه وسلم فهي مصدر الرعب والإذلال. لقد ظلت المرأة المسلمة طيلة القرون الماضية تهز المهد بيمينها، وتزلزل عروش الكفر بشمالها، فعز على أعداء ديننا أن تعود المرأة في أيامنا وفي بلادنا وزماننا، فتنجب عمراً كـ عمر بن الخطاب، أو تنجب خالداً كـ خالد بن الوليد؟ أو صلاحاً كـ صلاح الدين؟ فراحوا يدبرون ويخططون، ووالله الذي لا إله غيره ما ترك الاستعمار بلادنا وما سحب الاستعمار جيوشهم من بلادنا ومن أرضنا إلا بعد أن اطمأنوا اطمئناناً كاملاً أنهم قد خلفوا لهم جيشاً جديداً أحرص على أهدافهم منهم عليها. إي والله! ما ترك الاستعمار بلادنا، وما رفع الاستعمار يديه عن أرضنا إلا بعد أن اطمأن اطمئناناً كاملاً أنه قد ترك في بلادنا جيشاً جديداً من قادة الفكر، وقادة الأدب والفن، هؤلاء الذين سماهم الاستعمار -زوراً وبهتاناً لإضلال المسلمين- وأطلق عليهم صفات المحررين، وصفات المطورين، والمجددين، هذه الدعاوى الباطلة، وهذه الدعاوى الكاذبة.

من شخصيات أصحاب الفكر المنحرف

من شخصيات أصحاب الفكر المنحرف ومن هؤلاء الذين انخدع بهم كثيرٌ من الشباب وكثيرٌ من المسلمين من قادة هذه الأمة: رفاعة رافع الطهطاوي، هذا الذي أعدت له المسلسلات، وأعدت له الكتب، وقررت سيرته على الشباب وعلى الطلبة والطالبات، هذا هو رفاعة رافع الطهطاوي يقول بالحرف الواحد في كتابه الشهير: تخليص الإبريز في تلخيص باريس: إن السفور والاختلاط بين الجنسين -أي: بين الرجل والمرأة- ليس داعياً من دواعي الفساد، وإن الرقص -انتبهوا واسمعوا التطور اسمعوا التحرر اسمعوا المدنية اسمعوا التقدمية اسمعوا الفسق تحت ستار التطور والتحرر، والمدنية السوداء، أباحوا العربدة، وأباحوا الفسق والفجور- يقول الطهطاوي: وإن الرقص على الطريقة الأوروبية -وأنتم تعلمون كيفية الرقص على الطريقة الأوروبية، أن يأخذ الديوث زوجة ديوث آخر، وهي مع زوجٍ آخر، وأن يتراقصا، يضع يده حول خصرها، ويضع خده على خدها، ومعذرة لهذه الألفاظ، لكن حتى يتضح الأمر لمن يعلم ولمن لا يعلم- يقول: إن السفور والاختلاط بين الجنسين ليس داعياً من دواعي الفساد، وإن الرقص على الطريقة الأوروبية ليس من الفسق -أسمعتم بهذا في آبائكم الأولين؟ - وإن الرقص على الطريقة الأوروبية ليس من الفسق، وأنه لا يخرج عن قوانين الحياء. إذاً فأي حياء هذا الذي تريدون وإن كان الرقص على الطريقة الأوروبية لا يخرج عن قوانين الحياء؟ ومنهم أيضاً: نرقص فهمي الذي نادى في كتابه الذي أسماه: المرأة في الشرق، الذي نادى فيه بعدم الحجاب، ونادى فيه بالاختلاط السافر بين الجنسين. ومنهم أيضاً: هؤلاء الذين صنعهم الاستعمار بيديه، وأبقاهم شوكةً في صدور المسلمين، وشوكة في صدر الإسلام: قاسم أمين الذي نادى في كتابه: تحرير المرأة، برفع الحجاب، ونادى فيه بالاختلاط، والسفور. ومنهم أيضاً: هدى شعراوي، عندما رجعت إلى الإسكندرية بعد سفرها إلى باريس أول مرة، وتدخل إلى أرض مصر مع صديقتها شيزنبراوي، هذه الصديقة الملحدة الفاجرة الكافرة، يوم أن دخلت معها هدى شعراوي إلى أرض مصر فخلعت النقاب عن وجهها، وكانت لأول مرة تتجرأ امرأة على أن تخلع النقاب، وبعدها خلعت صفية زغلول النقاب عن وجهها، وغير هؤلاء، وهؤلاء هم الذين جعلهم الاستعمار شوكة في صدر الإسلام والمسلمين، ولقبهم بالمبددين، والمحررين والمطورين، فاعرفوا تاريخكم، وافهموا إسلامكم، واعرفوا دينكم لتميزوا الخبيث من الطيب، ولتعرفوا العدو من الصديق! وفي النهاية وأخيراً وليس بأخير: يتمخض الجبل فيلد فاراً، هذا الذي ظهر علينا في الأسبوع الماضي، وهذا الذي ينتسب زوراً وبهتاناً، وأما من قدم أو من أغرى الناس بعلمه، لا أقول: إنه يساويه في الوزر والإثم، هذا الذي فتح له صفحات الجرائد، وفتح له جريدته على مصراعيها ليقول بالخط العريض، والممشط الكبير: تذكير الأصحاب بتحريم النقاب، لا إله إلا الله! تمخض الجبل فولد فأراً، هل هذا هو اختراعك؟ هل هذا هو ابتكارك يا صاحب العقل؟ هل هذا هو اختراعك يا صاحب الاختراع؟ هل حلت جميع مشاكلنا ولم تبق إلا مشكلة النقاب؟ لقد سقطت ذبابة على نخلة -نخلة البلح- فلما أرادت الذبابة أن تنصرف قالت الذبابة للنخلة: تماسكي أيتها النخلة فإني راحلةٌ عنك، أمر عجيب! الذبابة تقول للنخلة العملاقة: تماسكي أيتها النخلة فإني راحلةٌ عنك، فردت عليها النخلة العملاقة وقالت لها: انصرفي أيتها الذبابة الحقيرة، فهل أحسست بك حينما سقطت علي لأستعد لك وأنت راحلة عنيز قل ما شئت، وليقل الحاقدون ما شاءوا، فوالله الذي لا إله غيره، لا يضر السماء نبح الكلاب، ولا أنين الذئاب، والله لو اجتمع أهل الأرض على أن يطفئوا نور الله ما استطاعوا، والله ما استطاعوا، وسيعلو صوت الحق في كل زمانٍ وفي كل مكان، {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32] ولو كره المشركون، ولو كره الحاقدون، ولو كره المنافقون الذين يأبى الله جل وعلا إلا أن يظهر نفاقهم، ويظهر حقدهم على صفحات وجوههم، وعلى صفحات جرائدهم، وفي زلات ألسنتهم، ليميز الله الخبيث من الطيب، ولنعرف نحن الموحدين العدو من الصديق. إن النقاب حرام؟! ليتك قلت: إن التبرج حرام، وليتك قلت: إن العري حرام، أو قلت: إن السفور حرام، أو إن الربا حرام، أو إن الخمر حرام، أو إن الزنا حرام، أو ليتك قلت: إن (كبريهات) شارع الهرم حرام، أو إن البنوك وفوائدها من الربا حرام، وليتك قلت: إن سلب الحريات حرام، أو: إن تكميم الأفواه حرام، أو ليتك قلت: إن الزنا حرام، أو إن قتل الأبرياء من الأطفال والشيوخ والنساء على أرض فلسطين الذبيحة حرام، ليتك قلت: إن اجتماع الغرب بأسره على الإسلام حرام، أو ليتك قلت: إن حملات التبشير والتنصير والعداء للإسلام حرام، ليتك قلت ذلك، هل انتهيت من كل ذلك أيها العبقري أيها الدكتور لتترك كل ذلك وتقول: إن النقاب حرام؟! هل حُلت جميع مشاكل مصر؟! وهل حُلت جميع مشاكل الشباب؟ وهل حُلت جميع مشاكل النساء والفتيات ولم يبق لنا إلا مشكلة النقاب لنتبارى فيها بنار الشهوات والشبهات لنضل الناس بغير علم؟! ولقد كنت أعددت لكم الأدلة من الكتاب والسنة على وجوب النقاب عند كثيرٍ من أهل العلم، ولكنني أرى الوقت لا يتسع، فالموضوع كاملاً يحتاج منا إلى جمعة كاملة لنعلم أن هؤلاء ما تحركوا بهذه الفتاوى إلا من منطلق الهوى، وفتن الشبهات والشهوات.

المخرج من فتن الشبهات والشهوات

المخرج من فتن الشبهات والشهوات ولكن أيها المسلمون: اعلموا علم اليقين -والله الذي لا إله غيره- أنه لا عز لنا إلا بالإسلام، ولا قيام لنا إلا بالإسلام، ولا وجود لنا إلا باتباع محمد عليه الصلاة والسلام، ولقد ورد في مستدرك الحاكم، وقال الحاكم: حديث صحيح على شرط الشيخين البخاري ومسلم، ووافقه على ذلك الإمام الذهبي قال: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج يوماً إلى الشام ليلقى أبا عبيدة بن الجراح، وكان عمر بن الخطاب يركب ناقته، وفي الطريق مر عمر بن الخطاب على مخاضة -أي: على بركة من الطين والماء- ونظر عمر بن الخطاب إلى هذه المخاضة وإلى بركة الطين والماء، فماذا صنع أمير المؤمنين؟ أشفق عمر بن الخطاب على ناقته فنزل من على ظهرها وجرها سحباً بيديه وخلع نعليه ووضعهما على عاتقه وأخذ بزمام الناقة، خشي من الله جل وعلا أن يركب على ظهرها لتخوض به هذه المخاضة. أرأيتم؟ فهو الذي كان يمد يده الشريفة في دبر البعير المريض ليداويه ويعالجه، وإذا ما نظر إلى البعير المريض وهو يشتكي وهو يئن بكى عمر بن الخطاب وقال له: [والله إني لخائف أن يحاسبني ربي عما بك من مرضٍ يوم القيامة]. عمر ينزل من على ظهر الناقة ويضع نعليه على عاتقه ويسحب ناقته من زمامها، وينظر أبو عبيدة بن الجراح ويتعجب لحال عمر ويقول له: يا أمير المؤمنين! أأنت تصنع ذلك؟! والله لا أحب أن القوم قد استشرفوك -أي: إنني أكره أن يراك أحدٌ وأنت على هذه الحالة، أتدرون ماذا قال عمر؟ - قال عمر: أوه يا أبا عبيدة؛ لو قالها أحدٌ غيرك لجعلته نكالاً لأمة محمد، ثم قال: [يا أبا عبيدة والله لقد كنا أذل قومٍ فأعزنا الله بالإسلام، ومهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله] لا عز لنا إلا بإسلامنا، ولا كيان لنا إلا بديننا، ولا بقاء لنا إلا بالتزامنا، أما أن ينعق كل ناعقٍ، ويفتري كل مفترٍ، ويقول في العلم والدين بغير علم أو بالهوى، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح الذي أخرجه الإمام البخاري والإمام مسلم من حديث ابن عمر، أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لا ينزع العلم انتزاعاً من صدور الرجال، ولكن بقبض العلماء، فإذا لم يبق عالم اتخذ الناس رءوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علمٍ فضلوا وأضلوا) أين أنتم يا هؤلاء، يا من تتبجحون على الدين بغير علم؟ ويا من تجترئون على الدين بغير علم؟ أين أنتم من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان إذا ما سئل يقول: (انتظروا حتى يأتيني جبريل بالوحي من عند الله)؟ أين أنتم من صحابة رسول الله؟ أين أنتم من التابعين؟ وهذا هو القاسم بن محمد إمام من فقهاء المدينة السبعة، يأتيه سائل ليسأله عن شيء فيقول القاسم: إني لا أحسنه، إني لا أعرف ولا أدري، فتعجب السائل وقال له: يا قاسم، أنا أتيتك لا أعرف غيرك، وأنت تقول: لا أعرف، ولا أدري، فنظر إليه القاسم وقال: يا أخي لا تنظر إلى طول لحيتي، ولا إلى كثرة الناس من حولي، والله لا أحسنه، والله لا أعرف، ولا أدري، وكان شيخٌ إلى جوار القاسم من شيوخ قريش فقال له: أيها العالم يا ابن عمي! الزمها فوالله ما رأيناك في مجلسٍ أنبل منك اليوم فقال القاسم: والله لأن يقطع لساني خيرٌ وأحب لي من أن أقول في الدين بما لا علم لي به. لكننا الآن نجد هؤلاء الذين يجترئون على الدين، ويقولون في الدين بغير علم من منطلق الهوى، والهوى يضل صاحبه عن سبيل الله: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص:26]. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

انتشار الشهوات بين الناس

انتشار الشهوات بين الناس الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه. أما بعد: فيا أيها الأحباب الكرام: كنت قد أعددت لكم كثيراً؛ لأن الموضوع لم ينته بعد، لكن خشية أن يطول الوقت بنا جعلت لموضوع الشهوات جمعة أخرى؛ لأن كثيراً من الشهوات قد سيطرت على كثيرٍ من الناس في هذه الأيام، فهناك شهوة الغناء وحب الغناء، بل من العلماء من قال بأن الغناء لا شيء فيه، ومنهم من طالعنا في كتبه الأخيرة، وأنا لا أنتقد أحداً، وإنما أذكِّر، ووالله الذي لا إله غيره ليس من طبعي أن أجرح في أحد من العلماء، أو أنتقد أحداً منهم؛ لأني على يقينٍ كامل أنه لا ينبغي أن يخطّئ العالم إلا عالم، ولست من العلماء، ولكنني أقول من باب التذكير والتحذير: يقول عالمٌ من علمائنا، وكما قلت: إننا نحب علماءنا، ولكننا نحب الحق أكثر من حبنا لعلمائنا، يقول: لقد دخل عليّ شابٌ كنت مشرفاً على رسالته، فدخل علي وأنا أستمع إلى الغناء -كان يستمع إلى الغناء من صوت محبب إليه- ودخل هذا الشاب الصغير، فلما رأى أستاذه يستمع إلى الغناء، وأنتم تدرون وكلكم على علم بكلمات أغانينا في أيامنا هذه، لابد أن الشريط الملعون: (لولا) قد وزع منه ثمانية مليون نسخة من هذه الخزعبلات والهراءات، ثمانية مليون شريط أمرٌ عجيب! فدخل الشاب على أستاذه وتعجب! فقال أستاذه: إن الغناء لا شيء فيه، فلما لم يستطع التلميذ أن يناقش أستاذه استحلفه بالله أن يغلق المذياع، فاستجاب الأستاذ لتلميذه وأغلق الراديو، يقول أستاذنا: ولم أستطع أن أصمت، فجعلت أردد كلمات الأغنية بصوتي أنا. وغيرها من الشهوات وغيرها.

تنبيه على مسائل مهمة في العقيدة

تنبيه على مسائل مهمة في العقيدة أقول: إن الموضوع طويل، ولكن هناك نقطة أخيرة في غاية الأهمية أود أن أنبه إليها. وهي: أن في الجمعة الماضية في مسجدٍ مبارك من مساجد السويس، كان أحد الدعاة الأفاضل والكرام يفسر على المنبر سورة الفجر، ولكنه أخطأ خطأً كبيراً أود أن أذكر العقول إليه، وأنا أقول بدايةً: والله الذي لا إله غيره ليس من باب تصيد الأخطاء، وليس من باب الانتقاد للدعاة، أو أن ينبري البعض للبعض الآخر، وليس من باب التقليل من شأن هذا الداعية الكريم، فإني أشهد الله والله شهيد على ما في قلبي أني أحبه في الله عز وجل، وأشهد له أنه من الدعاة الذين يحترمون المنبر، ويحترمون العقول، ويعدون للجمعة إعداداً جيداً وكاملاً، وأسأل الله أن يغفر لي وله، ولكن من باب التذكير، ومن باب النصح لا أكثر من ذلك والله الذي لا إله غيره. لقد قال هذا الداعية الكريم في تفسير سورة الفجر في قول الله جل وعلا: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:14]-ولقد استمعت إلى الشريط بأذني رأسي حتى أكون على يقين- وقد ظل يعدد أن الله سبحانه يراك في كل مكان، ثم قال عبارة اقشعر منها بدني حينما قال: فلو ذهبت إلى الخمارة لو جدت الله هناك. ثم قال في قول الله عز وجل: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [الفجر:22] قال بالحرف الواحد: لا مجيء لله أبداً، ونفى المجيء عن الله عز وجل، قلت: بأن هذا الموضوع جد خطير، وكان يحتاج مني إلى وقفة وإلى تذكير، والله لا من باب الانتقاص ولا الانتقاد؛ لأنه أمرٌ في صلب العقيدة، يقول علماؤنا -وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة في مسألة الأسماء والصفات لرب الأرض والسماوات-: إن الله جل وعلا له أسماءٌ وصفات، ومذهب أهل السنة والجماعة في هذه الأسماء والصفات: أننا نؤمن بها صريحة ونمرها كما هي من غير تحريف، ولا تكييف، ولا تأويلٍ، ولا تعطيلٍ، ولا تشبيهٍ أو تمثيلٍ، كيف؟ الله سبحانه وتعالى له أسماء وله صفات أثبتها جل وعلا لذاته في القرآن الكريم، وأثبتها له نبينا صلى الله عليه وسلم، فينبغي أن نؤمن بهذه الأسماء وتلك الصفات كما أثبتها الله لنفسه، وكما أثبتها النبي صلى الله عليه وسلم لربه جل وعلا.

الإيمان بصفات الله عز وجل بلا تحريف

الإيمان بصفات الله عز وجل بلا تحريف أولاً: أن نؤمن بصفات الله جل وعلا من غير تحريف، ما معنى ذلك؟ أي: نأخذ الصفة دون أن نحرفها عما جاءت في القرآن والحديث، وعلى سبيل المثال: أثبت الله جل وعلا لنفسه صفة الكلام في القرآن وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال سبحانه: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء:164] فرد هؤلاء الذين قالوا بتعطيل الصفات كـ الجهمية والمعطلة والمعتزلة وغيرهم وقالوا: بأن أهل السنة والجماعة ما فهموا هذه الآية حق فهمها، قيل لهم: لماذا؟ قالوا: لأن الآية معناها أو قراءتها الصحيحة: (وكلّم اللهَ موسى تكليماً) فجعلوا لفظ الجلالة (الله) في محل مفعول به مقدم، و (موسى) فاعلاً؛ ليكون الكلام من موسى، أي: أن الذي تكلم هو موسى؛ لينفوا صفة الكلام عن الله. فرد عليهم علماؤنا وقالوا لهم: إذا كنتم تقولون في هذه الآية بأن المتكلم هو موسى لتقديمكم وتأخيركم الباطل، فماذا تقولون في قول الله جل وعلا: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143]؟ الله أثبت لنفسه الكلام وأثبت النبي صلى الله عليه وسلم لربه الكلام، إذاً: نؤمن بأن الله يتكلم ولكن كيف؟ الله أعلم.

الإيمان بصفات الله عز وجل بلا تأويل

الإيمان بصفات الله عز وجل بلا تأويل ثانياً: أن نؤمن بصفات الله جل وعلا بدون تأويل، بمعنى: أن نأخذ الصفة ولا نؤولها على هوانا، فلا نقول في قول الله جل وعلا كما قال هؤلاء المعطلة للصفات من الجهمية والمعطلة والأشاعرة والمعتزلة، فإنهم في قول الله جل وعلا: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة:64] أولوا صفة اليد لله جل وعلا، وقالوا: بل نعمتاه مبسوطتان، فجعلوا لله نعمتين اثنتين، والله جل وعلا يقول: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [النحل:18] فنأخذ الصفة بدون تأويل، وفسروا وأولوا أيضاً قول الله جل وعلا: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] فقالوا: إن معناها القدرة، وهذا تأويل باطل كما قال أهل السنة والجماعة، لماذا؟ لأن الله جل وعلا أثبت لنفسه يدين اثنتين وكلتاهما يمين، وأثبت الله جل وعلا لذاته ساقاً {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم:42]. وأثبت الله لنفسه قدماً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري ومسلم: (إن الله جل وعلا يلقي في جهنم من المشركين والكفار، وتظل جهنم تنادي وتقول: هل من مزيد؟ هل من مزيد؟ حتى يضع الحق عز وجل عليها قدمه، فتقول: قطٍ قطٍ قد امتلأت) بغير تأويل.

الإيمان بصفات الله بلا تعطيل

الإيمان بصفات الله بلا تعطيل ثالثاً: أن نؤمن بالصفات بلا تعطيل، لا كما قال أستاذنا في قوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [الفجر:22] فهو عطل صفة المجيء عن الله عز وجل وقال: لا مجيء لله أبداً، ولكننا نقول: إن أهل السنة والجماعة يقولون: بأنه ينبغي أن نؤمن بالصفة بدون تعطيل، فقد أثبت الله لنفسه المجيء، وأثبت لنفسه الدنو، فنؤمن بهذه الصفات بدون تعطيل، لماذا؟ لأن تعطيل الصفة عن الموصوف يعني أن الموصوف لا وجود له -أنا أنفي صفة عن شيء إذاً: لا وجود لهذا الشيء- لأنه لا تمنع الصفة ولا تحجب إلا عن العدم المحض، كما قال ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم: لا تنفى الصفة إلا عن عدمٍ محضٍ، فنحن نؤمن بالصفات بدون تعطيل، فنقول: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر:22] أي: أثبت الله لنفسه المجيء، ولكن نقول: جاء ربك مجيئاً يليق بكماله وجلاله، فكل ما دار في بالك فالله بخلاف ذلك {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] لا تدركه العقول، ولا تكيفه الأفهام، فنؤمن بالصفات بدون تعطيل. أما ما قال أستاذنا في قول الله جل وعلا: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:14] أي أن الله معك في كل مكان، على إطلاق العبارة هكذا، فلو ذهبت إلى الخمارة لوجدت الله هنالك، فإن هذا كلامٌ خطير، وإنما مذهب أهل السنة والجماعة في هذه العبارة أن الله جل وعلا ذاته لا تشبه ذوات المخلوقين، وإذا قلنا: إن الله موجودٌ في كل مكان على إطلاقها لجعلنا ذات الله في أماكن القاذورات والنجاسات، ولقلنا كما قال أهل الحلول والاتحاد، ولكن ينبغي أن نقول: الله جل وعلا بعلمه في كل مكان، أي: بإحاطته في كل مكان، أو الله مع الناس أو مع مخلوقاته في كل مكان بعلمه وقدرته وإرادته وقهره وإحاطته وسلطانه، ولا نجعل ذات الله في أماكن النجاسات أو أماكن القاذورات أبداً. وكذلك في قوله جل وعلا: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] يقول الجهم بن صفوان عليه لعنة الله، هذا الذي كان قائداً للمعطلة: لو وجدت سبيلاً لإزالة هذه الآية من المصحف لأزلتها وحككتها، وجعلت بدلاً من: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] (الرحمن على العرش استولى) وقال جهم كما قال أسلافه من اليهود حينما قال الله جل وعلا لهم: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ} [البقرة:58] أي: حط عنا ذنوبنا {نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} [البقرة:58] فخالف اليهود أمر الله، فبدلاً من أن يدخلوا الباب سجداً دخلوه وهم يزحفون على أستاههم، أي: على مقاعدهم، وبدلاً من أن يقولوا: حطة أي: حط عنا خطايانا، استهزءوا بكلمة الله فقالوا: حنطة. فمذهب أهل السنة والجماعة في هذه الآية: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] أي: استوى كما أخبر، وعلى الوجه الذي أراد، فلا العرش يحمله، ولا الكرسي يسنده، بل العرش وحملته والكرسي وعظمته الكل محمولٌ بلطف قدرته، مقهور بجلال قبضته وكنت أقول معقباً على هذه العبارات في كل مرة أنه تعالى كان ولا مكان، ولقد قرأت والحمد لله أن هذه العبارة خطأ شنيع أيضاً. وأسأل الله أن يغفر لي ما مضى، فقد قرأت أن ابن تيمية قال: بأن لفظة: (كان الله ولا مكان) عبارة خاطئة، وإنما الصحيح أن يقال: كان الله ولم يكن شيءٌ قبله. فأسأل الله أن يغفر لي ما مضى، وأن يغفر لأستاذنا، وأن يغفر لجميع المسلمين، وكما قلت وأقول: والله ما أردت بهذا إلا النصح، وما أردت بهذا إلا أن أبين للناس. اللهم صل وزد وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. هذا وما كان من توفيق فمن الله تعالى وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله من أن أذكركم به وأنساه.

فبهت الذي كفر

فبهت الذي كفر المخالفون المخاصمون لدين الله ولشرعه ولرسله كثر، يتزعمهم دجالون يناظرون عن باطلهم بحجج أوهن من بيوت العنكبوت ولقد تحدث الشيخ عن قصة مريم عليها السلام حينما حملت بعيسى عليه السلام، وكيف صبرت عند هذا الابتلاء وواجهت بني إسرائيل معتمدة على الله جل وعلا، ثم تكلم عن مناظرة حدثت بينه وبين أحد القساوسة من النصارى الذين يقولون: إن عيسى ولد الله، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

التمسك بالدين مصدر عز الأمة

التمسك بالدين مصدر عز الأمة إن الحمد لله، نحمده سبحانه وتعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أحبتي في الله: وبعد أن انتهت هذه الأحداث المؤلمة التي مرت بها أمتنا المسلمة في هذه الشهور والأيام الماضية، وكان من الواجب علينا أن نعلِّق على هذه الأحداث من منظور إسلامي، بعد أن أبطل الله جل وعلا نار هذه الحرب، نسأله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى وباسمه الأعظم الذي إن سئل به أعطى، وإن دعي به أجاب، أن يجعل نهاية هذه الحرب بداية خير للإسلام والمسلمين، وأن يرد المسلمين إليه رداً جميلاً، وأن يوفق المسلمين ليعوا هذا الدرس جيداً، وأن يعودوا إلى الله عز وجل، وأن يعودوا إلى إسلامهم الذي ضمن الله لهم به العزة والكرامة في الدنيا والآخرة، فما دام المسلمون متمسكين بهذا الإسلام فهم أعزة، وهم أصحاب القيادة والريادة، وإن تخلى المسلمون عن إسلامهم وعن مصدر البقاء الحقيقي لهم بعزة وكرامة في هذه الأرض، إن تخلى المسلمون عن مصدر هذا العز والكرامة تخلى الله جل وعلا عنهم، وإن نسوا الله تبارك وتعالى نسيهم، وإن كان ذلك كذلك فسوف يصلون إلى حالة من الذل والهوان لا يكاد يصدقها عقل، فلقد أذل الله جل وعلا اليهود وكتب عليهم الذلة والمهانة، ولكن الله قد أذل المسلمين إلى كتب عليهم الذل، وهل هناك أذل ممن أذله الله للأذل؟! فلا مصدر لعزة المسلمين وكرامتهم وبقائهم وسيادتهم وقيادتهم -لأنهم ما خلقوا إلا ليقودوا ركب البشرية كلها- إلا إذا عادوا إلى الله جل وعلا، وتمسكوا بإسلامهم الذي ضمن الله لهم بتمسكهم به العزة والكرامة، فنسأل الله عز وجل أن يرد المسلمين إليه رداً جميلاً، وأن يعودوا إلى إسلامهم عوداً حميداً، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

وقفات وعبر مع آيات من سورة مريم

وقفات وعبر مع آيات من سورة مريم وبهذه الجولة مع هذه الأحداث المؤلمة، تعالوا بنا -أحبتي في الله- لنعود مرة أخرى إلى آيات القرآن الكريم، وإلى موضوعنا الذي كنا بصدده قبل بداية هذه الأحداث المؤلمة، فمع اللقاء العشرين ما زلنا نطوف بكم في بستان سورة مريم، وأظن أن الأحداث قد أنستنا ما ذكرناه في سورة مريم، فتعالوا بنا لنراجع أحداث السورة، ومع آيات الحق جل وعلا. يقول الحق تبارك وتعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً * فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً * فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً} [مريم:16 - 26].

بشارة جبريل لمريم عليها السلام

بشارة جبريل لمريم عليها السلام توقفنا في اللقاء الأخير مع آيات هذه السورة المباركة عند هذا الحوار الكريم بين مريم وجبريل عليهما السلام، حينما خلت مريم بنفسها لشأن من شئونها الخاصة بها في هذا المكان الشرقي البعيد، وضربت الحجاب بينها وبين أعين الناس جميعاً، وفي هذا المكان الشرقي البعيد، وفي هذه الخلوة الكاملة التامة التي ضربت فيها الحجاب بينها وبين أعين الناس، إذ بها تفاجأ بمفاجأة عنيفة تهز القلب وتزلزل الفؤاد، إنه رجل سوي! بشر كامل مع مريم العذراء الطاهرة في هذه الخلوة الكاملة! وإذ بها تنتفض انتفاضة العذراء التي هُددت في عرضها، رجل وهي لا تعلم عن هذا الرجل شيئاً! فسرعان ما استجارت واستعاذت بالله جل وعلا قائلة: {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً} [مريم:18] إن كنت ممن يتقي الله جل وعلا، وتزلزله كلمة الاستعاذة بالله عز وجل، فكم من الناس من يذكر بالله ولا يخشع قلبه! وكم من الناس من يوعظ ولا يتعظ! {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الرعد:19]. {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً} [مريم:18] فجاءتها البشارة الطيبة التي نزلت على قلبها نزول الندى على الزهرة الظمأى: {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً} [مريم:19] وهنا ترد مريم على هذه البشارة الطيبة رد الأنثى المهددة في عرضها وشرفها بمنتهى الصراحة والوضوح الذي لا لبس فيه ولا غموض، فإذا بها تقول: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً} [مريم:20] فيأتيها الجواب واضحاً وضوح الشمس في ضحاها: {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً} [مريم:21] أي: إنه أمر يسير أمام قدرة الله جل وعلا {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ} [مريم:21] أي: علامة على عظيم قدرة الله جل وعلا، فالله له مطلق القدرة، وله كمال القدرة، وله تمام القدرة، فهو الفعال لما يشاء -كما يقول صاحب معارج القبول - كيف شاء، في أي وقت شاء {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]. {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ} [مريم:21] أي: علامة على كمال ومطلق قدرة الله جل وعلا. وأنا أقول دائماً: إن من كلف نفسه أن يبحث عن حدود قدرة الله كمن كلف نملة ضعيفة أن تنقل جبلاً عملاقاً من مكان إلى آخر؛ فقدرة الله لا تحدها حدود، فله مطلق القدرة وكمالها وتمامها، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، فخلق الخلق، وبعث الخلق -في كمال قدرته- كنفس واحدة سبحانه وتعالى، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، فما من جبل على ظهر هذه الأرض إلا ويعلم الله ما في وعره، ولا بحر على سطح هذه الأرض إلا ويعلم ما في قعره، {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [فاطر:11]. {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ} [مريم:21] اختارك الله يا مريم ليعرض على البشرية من خلالك المعجزة الكبرى؛ لأنه إذا كان قد خلق آدم من غير أب وأم، وخلق حواء من أب دون أم؛ فإنه سيخلق عيسى من أم دون أب، ويخلق سائر البشر من أم وأب؛ لتظهر قدرة الله جل وعلا في جزئية الخلق، وليعلم الناس جميعاً أن الله على كل شيء قدير.

قصة عزير ودلالتها على كمال قدرة الله تعالى

قصة عزير ودلالتها على كمال قدرة الله تعالى قال سبحانه في سورة البقرة في قصة عزير: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:259] مر عزير على قرية بيت المقدس، بعدما دمرها الله تعالى وأصبحت القرية خاوية على عروشها، فمر ووقف على هذه الأطلال ثانية، وتعجب وقال: هل يحيي هذه الله بعد هذا الموت والدمار والفناء؟! فأماته الله عز وجل مائة عام كاملة. أيها الأحبة: أماته الله مائة عام وأحياه مرة أخرى؛ ليبرهن للناس أنه على كل شيء قدير. وبعد ما أحيا الله عزيراً سأله عن طريق الملك: كم لبثت؟ فنظر -كما يقول الإمام ابن كثير - فوجد أن الشمس ما زالت باقية، فظن عزير أنها شمس نفس اليوم الذي نام فيه، {قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ} [البقرة:259] والدليل على ذلك -انظر إلى وجه المقارنة الأول الثابت الذي لا يتغير- {انْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} [البقرة:259] أي: لم يتغير لونه ولم يتغير طعمه -وانظر إلى الوجه الآخر من وجوه المقارنة- {وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ)) [البقرة:259] فنظر إلى الحمار فوجده عظاماً بالية، قد تحول إلى رميم، وتراب، فهل يتحول هذا التراب بعد هذه الحالة التي وصل إليها إلى حالة كاملة مرة أخرى من الخلق؟!

قصة العاص بن وائل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم

قصة العاص بن وائل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب العاص بن وائل -عليه من الله ما يستحق- إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعظام بالية، أخذها في يديه ووقف بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وفتَّ العظام فحولها إلى رميم وتراب، ثم قال: (يا محمد! أتزعم أن الله يحيي هذه العظام بعد ما صارت رميماً؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: نعم، يميتك ثم يبعثك ثم يدخلك جهنم) فأنزل الله قوله تعالى في آخر سورة يس: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس:77 - 83].

افتراء النصارى على الله سبحانه وتعالى

افتراء النصارى على الله سبحانه وتعالى {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} [مريم:21] قدرة كاملة، {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً} [مريم:21] في علم الله جل وعلا: (فحملت) هكذا بفاء الترتيب والتعقيب. وبداية -أيها الأحبة- أود أن أقول: إننا لو تتبعنا كتب النصارى التي تكلمت عن الحمل لانخلعت القلوب، وارتعدت الأفئدة، فإننا نجد كلاماً يستحي من ذكره في حق الله جل وعلا، فلقد وصفوا الله في هذه الجزئية بأوصاف شنيعة، وبكلمات تنخلع لها القلوب، وأنا لن أتكلم عن هذه الكلمات أبداً؛ لأنه لا يمكن على الإطلاق أن تدنس بيوت الله عز وجل، أو حتى الأفواه بمثل هذه الكلمات التافهة الفارغة التي وصفوا الله عز وجل بها، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً، وقد صفوا الله عز وجل بها في كيفية حمل مريم عليها السلام. ولذلك لما سئل أحد قساوستهم الذي شاء الله أن يفضحه بعد ذلك على رءوس الخلائق والأشهاد، لما قيل له: إذا أردت أن تقص على ابنتك قصة مريم، وقصة حملها، وقصة ولادة عيسى، فمن أي الكتب تستطيع أن تقرأها عليها؟ فقال بجرأة متبجحاً: أقرؤها على ابنتي من القرآن. لأن القرآن -أيها المسلمون- والإسلام قد كرم وشرف مريم أكثر من تشريف النصارى لها. وقد جلست يوماً إلى أحد كبرائهم، بل إلى كبيرهم، وقد قدر الله هذا اللقاء، وطال المجلس والوقت، وظل يتحدث عن مريم وعيسى وعن توحيدهم المزيف، ويقول لي: إننا لا نختلف معكم في توحيدكم، قلت: كيف ذلك؟ قال: لأنكم تقولون بأن الله عز وجل: هو الله، وهو الرحمن، وهو الكريم، أسماء متعددة، وكذلك نحن نقول: باسم الأب والابن وروح القدس، هذه مثل تلك، قلت: حاشا لله، تعالى الله عما قلت علواً كبيراً، وطال الحديث أيها الأحباب، وكان حديثاً في حلقة مفرغة؛ وأردت أن أنهي هذا اللقاء في حضور كثير من المسئولين، فقمت ونظرت إلى هذا الكبير وقلت له: أما قرأت هذا الخبر؟ قال: وأي خبر؟ قلت له: خبر عجيب ومرعب ومزلزل، فانتبه وجلس على الكرسي جلسة ما، ونظر إليَّ وأخذ يدقق النظر، ثم صرخ قائلاً: ما هو الخبر؟ فقلت: خبر زواج البابا. فجلس على الكرسي براحة تنهد وتنفس الصعداء، ونظر إلى المسئول الكبير وقال له: ألم أقل لك بأن هذا الشاب كذاب؟ قلت: ولم هذا الاتهام؟ قال: من أين لك هذا الخبر؟ عليك أن تأتي بالجريدة التي قرأت فيها هذا الخبر، عليك أن تأتي بالدليل، قلت: وإن لم آتِ بالدليل فلماذا لا تصدقني؟ قال: لأن البابا لا يتزوج، هذا قانوننا وهذا ديننا وشرعنا، البابا أسمى من أن يتزوج. فقلت: سبحان الله! إن كان البابا عندكم أسمى من أن يتزوج، فكيف تزوجون الله بمريم؟ أما تستحون؟ لمَ هذه البجاحة؟ البابا عندكم وفي قانونكم ودينكم المزيف لا يتزوج، أنتم وشأنكم، فإن كان هذا حال عبد حقير ذليل ضعيف تقولون: بأنه أسمى من ذلك، أسمى من أن يحتضن امرأة، أو أن يتزوج امرأة، أو أن يكون مرتبطاً بامرأة في الحلال، وما استحييتم أن تقولوا في قصة حمل مريم كلاماً تنخلع له القلوب وتقشعر له الأبدان، وتزوجوا الله -تعالى الله عن ذلك- بمريم؟! فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين.

كيفية حمل مريم عليها السلام

كيفية حمل مريم عليها السلام أقول: إنهم قالوا كلاماً -أيها الأحبة- تنخلع له القلوب في حمل مريم، ولكننا نحن الموحدين لله عز وجل لا نقول ما قالته النصارى تعالى الله عن ذلك، وحاشا لله وعياذاً به جل وعلا. نقول وأقولها بداية: ينبغي على كل موحد لله ألا يبحث على الإطلاق عن كيفية الحمل، الله جل وعلا قال: {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً} [مريم:21] فلا ينبغي أن نتتبع الطريق كما تتبعه النصارى، أو أن نزل كما زلوا؛ بأن نبحث عن كيفية الحمل، فنقول: كيف حملت؟ هل نفخ الله في درعها؟ هل نفث الله في جيبها؟ هل كان النافخ هو الله؟ هل كان النافخ هو جبريل؟ لا ينبغي على الإطلاق أن نبحث وراء كل هذه الأمور أبداً؛ لأن المؤمن يثق بوعد الله جل وعلا، وبكلام الله عز وجل، ويصدق كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله عز وجل: {فَحَمَلَتْهُ} [مريم:22] كيف؟ لا تسأل، هذا أمر هين أمام قدرة الله الذي خلق آدم من غير أب وأم، أيعجز عن خلق عيسى من أُم دون أب؟! سبحان الله العظيم! {فَحَمَلَتْهُ} [مريم:22] انتهى الأمر بفاء التعقيب والترتيب، وحملت مريم بعيسى عليه السلام. فهنا لو تتبعنا الإسرائيليات في كتب التفسير لوجدنا العجب، يقولون: إن مريم حملت بعيسى ووضعته في ساعة واحدة، وهذا أمر أيضاً هين أمام قدرة الله، لا نناقشه، لكن الذي عليه جمهور أهل التفسير: أن مريم عليها السلام قد حملت بعيسى حملاً عادياً كأي امرأة -وإن كان الأمر الأول كما قلت: هين أمام قدرة الله جل وعلا- فرد أصحاب الرأي الأول الذين قالوا: بل حملت ووضعت في ساعة واحدة وقالوا: إن الفاء في اللغة العربية تأتي للترتيب والتعقيب، فقال الله عز وجل: {فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ} [مريم:22 - 23] أي: طلق الولادة، والفاء هنا للترتيب والتعقيب. ولكننا نرد ونقول: إن فاء الترتيب والتعقيب تأتي وتعقب كل شيء بحسبه، ما الدليل؟ الدليل قول الله جل وعلا: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:12 - 14] انظر إلى الفاء التي جاءت هنا في مراحل ثلاث، والحديث الصحيح يخبر بأن بين كل صفتين وبين كل حالتين أربعين يوماً. إذاً: فاء التعقيب تأتي مع كل شيء بحسبه، وقد ورد في الحديث الصحيح من حديث ابن مسعود الذي رواه البخاري ومسلم أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو الصادق المصدوق- يقول: (إن أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك -أربعين يوماً- ثم يكسى باللحم، ويؤمر الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بكتب أربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد، فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها). إذاً: قد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن بين كل مرحلة وأخرى أربعين يوماً، فتعقيب كل شيء بحسبه. ((فَحَمَلَتْهُ)) [مريم:22] حملت مريم حملاً عادياً، ولذلك لما رأى يوسف النجار -وكان بحدم معها بيت المقدس - معالم الحمل الحقيقية وبوادر الحمل ظهرت عليها، ذهب إليها -كما ذكر الإمام ابن كثير - وقال: يا مريم! إني سائلك عن شيء ولا تعجلي عليَّ فيه، فقالت مريم -وكأنها فهمت ماذا يريد أن يقول يوسف -: يا يوسف! قل ما شئت ولا تقل إلا قولاً حسناً. فقال يوسف: يا مريم! هل يكون زرع بغير بذر؟ -يعرض لها في الكلام- وهل يكون شجر بغير غيث؟ وهل يكون ولد بغير أب؟ قالت: نعم يا يوسف! قال: كيف ذلك يا مريم؟ قالت: يا يوسف! ألم تعلم أن الله تعالى خلق الزرع يوم خلقه من غير حب ومن غير بذر، وخلق الشجر يوم خلقه من غير غيث، وخلق آدم يوم خلقه من غير أب ولا أم؟ قال: أقول: إن الله على كل شيء قدير، و {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يّس:82].

ظهور الحمل الولادة

ظهور الحمل الولادة {فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً} [مريم:22] لما اتسع بطنها بالحمل، وكادت المدة أن تنتهي، وبدأ الخبر يتسرب إلى بني إسرائيل، واغتم بيت آل عمران غمة شديدة، فقد كانت شائعة مدوية، دوت في أرجاء بني إسرائيل، وما أدراكم من بنو إسرائيل في تزوير وإشاعة الشائعات والفاحشة! امتلأت البيوت بهذا الخبر المزري، وقالوا: ما فعل هذه الفعلة إلا يوسف النجار، فهو معها في خلوة واحدة، وفي مكان واحد. ولما ضاق صدر مريم عليها السلام بهذه الشائعات والكلمات التي تزلزل قلب أي امرأة فضلاً عن العذراء الطاهرة العفيفة الشريفة، خرجت مريم عليها السلام ومعها حملها: {فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً} [مريم:22] أي: ذهبت إلى مكان بعيد، واختفت عن أعين الناس حتى لا يراها الناس ولا ترى الناس، وفجأة كما يقول الحق جل وعلا: {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ} [مريم:23] فأجاءها إجاءةً، أجاءها الطلق حتى اضطرها إلى جذع نخلة لتتمسك به، وتعض عليه من شدة الألم {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم:23] تألمت وهي العذراء التي لا علم لها بمثل هذا الأمر قبل ذلك، ولا يوجد معها امرأة تعينها، وتعلم كل امرأة على وجه هذه الأرض هذه الآلام المضنية، التي تتعرض لها الأنثى أثناء الولادة، فضلاً عن عذراء تلد لأول مرة ولا يوجد معها أنيس ولا جليس. ولما رأت أن الأمر قد انتهى، وأن المدة قد انتهت، وأن الولد سينزل عن قريب؛ قالت بصوت ضعيف: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً} [مريم:23] يا ليتني لم أواجه مثل هذا اليوم، وهي تقول ذلك برغم الوعد الكريم الذي وعدها به جبريل عليه السلام، ولكنها تقول ذلك خوفاً من الناس الذين سيقعون في عرضها حين يتكلمون عنها، وقالت ذلك خوفاً من مواجهة الفضيحة أمام الناس من منظورهم البشري. {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا} [مريم:23] في هذه الآية دليل شرعي على جواز تمني الموت إذا ما وقع العبد في مصيبة أو فتنة يخشى منها ضياع الدين، ولكن يكره أن يتمنى العبد الموت إذا وقع به ضر أو بلاء من بلاء الدنيا، كما ورد في الحديث الذي رواه مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يتمنى أحدكم الموت لضر نزل به، فإن كان ولا بد متمنياً فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني ما كانت الوفاة خيراً لي).

ظهور الآيات ونزول الفرج

ظهور الآيات ونزول الفرج ومع هذه الآلام النفسية والبدنية امرأة ضعيفة، وحدها، عذراء طاهرة شريفة عفيفة، وإذ بها تلد الولد، ووسط هذه الآلام ومريم تقول هذه الكلمات التي تنم عن ألم شديد، تأتي المفاجأة الكبرى التي تريح القلب ويطمئن لها الفؤاد، فيناديها عيسى من تحتها، وهذا هو الراجح، قال ابن عباس: [(فناداها مَنْ تحتها) أي: جبريل] وقال مجاهد وقتادة عن سعيد بن جبير وغيرهم وكذلك من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: (فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا) أي: عيسى. وهناك القراءة الأخرى: (فناداها مَنْ تحتها) بالله عليك! تخيل طفلاً رضيعاً يناديها من تحتها ويطمئنها ويقول: {أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً} [مريم:24 - 26] وأنا الذي سأبرئ ساحتك إن شاء الله عز وجل. يا لها من بشارة عجيبة! هذا وعد الله للمتقين أيها الأحباب، وعد قطعه الله جل وعلا على نفسه، حق على الله لمن اتقاه أن يتولى هدايته، ورعايته، ونهايته، حق على الله لمن اتقاه أن يستره فوق الأرض، وتحت الأرض، ويوم العرض {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3] طفل رضيع ما زال مولوداً ينادي أمه بهذه الكلمات التي تطمئن القلب والفؤاد: لا تحزني والله معك، لا تحزني ومعك قدرة الله، لا تحزني ومعك رحمة الله، لا تحزني والله جل وعلا معك بقدرته، وبرحمته، وبلطفه، وبإرادته، لا تحزني وانظري إلى آثار رحمة الله عز وجل، فلقد فجر الله لها جدولاً من الماء لتشرب منه، وأنبت لها التمر في النخل وكانت النخلة يابسة: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً} [مريم:25] وهذا الجدول من الماء من تحت قدميك فاشربي الماء وكلي التمر.

موقف هاجر عند فراق زوجها إبراهيم عليهما السلام

موقف هاجر عند فراق زوجها إبراهيم عليهما السلام وهنا أذكر موقف هاجر عليها السلام، يوم أن ذهب بها الخليل إبراهيم مع ولدها الرضيع إسماعيل، وتركهما إلى جوار بيت الله الحرام، ونظرت هاجر عليها السلام إلى هذا المكان المقفر الموحش الذي لا سبب فيه من أسباب الحياة الظاهرة، وقالت له حينما هم بالانصراف: يا إبراهيم! لمن تتركنا في هذا المكان؟ وإبراهيم لا يرد، وأخيراً مع توسلات هاجر عليها السلام ينظر إبراهيم إلى السماء، ففهمت هاجر أن الله جل وعلا أمره بذلك، فقالت: آلله أمرك بهذا؟ فأشار برأسه أن نعم، فقالت: إذاً فلن يضيعنا الله أبداً. هذا وعد الله لأوليائه ولأحبابه وللأتقياء: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3] والرسول صلى الله عليه وسلم يوم أن أخذ بكل ما يمكن أن يؤخذ به من الأسباب في يوم الهجرة، ويوم أن انقطعت به الأسباب، وقال الصديق رضي الله عنه: (يا رسول الله! لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا، فقال له الرسول: يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟) ومن كان الله معه فمن ضده؟ ومن عليه؟ ومن يكيده؟ وكما يقول الإمام ابن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحكم: فمن كان الله معه فمعه القوة التي لا تقهر، والفئة التي لا تغلب ولا تهزم، والحارس الذي لا ينام، والهادي الذي لا يضل. وكما قال الله جل وعلا لموسى وهارون: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى * قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى * قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:43 - 46]. {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً} [مريم:24 - 26]. ونعاود الحديث بعد جلسة الاستراحة. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

التوكل على الله والأخذ بالأسباب

التوكل على الله والأخذ بالأسباب الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أيها الأحبة: انظروا إلى آيات قدرة الله جل وعلا: {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} [مريم:24] حتى إن كان المنادي هو جبريل كما قال أصحاب الرأي الأول، فإنها أيضاً كرامة، فجَّر الله لها عيناً من الماء، أو نهراً من الماء، وأسقط جل وعلا عليها الرطب، ولكن هنا ملحظ جميل ينبغي أن يتوقف عنده: يقول لها المنادي: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم:25] سبحان الله! يوم أن سألت مريم عن الأسباب قال: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم:25] وقبل ذلك كان رزقها يأتيها بدون أسباب، {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:37] ولكنها حينما سألت عن الأسباب، وعن الكيفية، وكيف ذلك، وكيف يكون {أَنَّى يَكُونُ لِي} [مريم:20] قال: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً} [مريم:25]. وهنا ملحظ آخر: وهو أنه لا بد من الأخذ بالأسباب، فمن التوكل على الله جل وعلا الأخذ بالأسباب وترك النتائج إلى مسبب الأسباب، أما أن نقول: نحن متوكلون على الله، وندع الأسباب، ولا نأخذ بأسباب القوة، وبأسباب البقاء والقيادة والكرامة في الأرض، ونقول: إننا موحدون ومؤمنون، ولم تأتنا قوة؛ فهذا أمر غير شرعي، بل لا بد من الأخذ بالأسباب، قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال:60]، علينا أن نحرث الأرض ونلقي البذر في الأرض ونتولاه بالعناية والرعاية، ومع ذلك لا نتوكل على الأسباب، ولا نعتمد على الأسباب، وإنما نترك النتائج لمسبب الأسباب جل وعلا. يقول الإمام الشاطبي في الموافقات: فمن أخذ بالأسباب وتوكل عليها واعتمد عليها، وظن أن الأسباب وحدها ترزق وتنصر فقد أشرك بالله عز وجل. خذ بالأسباب كما أمرك الله، ولكن إياك أن تعتقد أن الأسباب وحدها ترزق أو تنصر، وإنما توكل على مسبب الأسباب جل وعلا، خذ بالأسباب واترك النتائج لمسبب الأسباب تبارك وتعالى {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم:25]. وفي الحديث الذي رواه أحمد والترمذي بسند حسن، ورواه أبو داود وابن ماجة والحاكم في المستدرك من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً). {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً} [مريم:25 - 26] لا تحزني ولا تقلقي، فإن الذي أجرى لك هذه الكرامات، وأجرى أمام عينيك هذه الآيات البينات الواضحات على كمال قدرته جل وعلا، هو وحده القادر على أن يبرئك. {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً} [مريم:26] وهذا كان وارداً في شرعهم، يقول الإمام ابن حجر والإمام ابن قدامة: كان جائزاً في شرعهم. {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً} [مريم:26] فاطمأن قلبها، وانشرح صدرها، وقويت على أن تواجه القوم بعد هذه الآيات البينات، وحملت ولدها المبارك، وذهبت به لتواجه القوم ومعها كل هذه الأدلة والبينات، وقبل كل ذلك وبعده معها الله عز وجل الذي قدر ولا راد لمشيئته ولا راد لقدرته. أسال الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب. اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى، وصفاتك العلى، وباسمك الأعظم الذي إن دعيت به أعطيت، وإن سئلت به أجبت، نسألك اللهم بعزك أن تنصر الإسلام والمسلمين، اللهم انصر الإسلام والمسلمين، اللهم أعل بفضلك كلمة الحق والدين، اللهم اجعل هذا البلد مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم انصر دينك وكتابك وعبادك المؤمنين. اللهم لا تدع لأحد منا ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا أديته، ولا هماً إلا فرجته، ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ويسرتها يا رب العالمين. اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل اللهم فينا ولا منا شقياً ولا محروماً، اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا سبباً لمن اهتدى. اللهم وفق ولاة الأمر للعمل بكتابك، والاقتداء بنبيك صلى الله عليه وسلم. اللهم أصلح ذات بين المسلمين، اللهم ألف بين قلوبهم يا رب العالمين، اللهم وحد صفوفهم يا أرحم الراحمين، اللهم قيض لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، أنت ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله: ما كان من توفيق فمن الله جل وعلا، وما كان من خطأ أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.

بشرى وأمل!

بشرى وأمل! إن آلام المسلمين وجراحهم قد كثرت، حتى أصبح المسلمون يعيشون في ذل وهوان، إلا أن ذلك لا يعني اليأس من التغيير، والرضا بالهزيمة؛ لأن موعود الله قادم لا محالة؛ ولأن المسلمين الصادقين هم أهل النصر وليس المتخاذلين. ولنا في رسول الله وأصحابه مثل وعبرة في الصبر والصدق والتحمل. وما يعيشه المسلمون من اضطهاد وحروب لا يعني أن الوضع سلبي على إطلاقه، بل إن له إيجابيات، وإن كانت الكفة لصالح الكفر وفق سنن الله الكونية، إلا أن النصر قريب.

المسلمون آلام وجراح

المسلمون آلام وجراح إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمد عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولا ً عن دعوته ورسالته، وصلَّ اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة، التي سيطول والله شوقنا إليها، وزكَّى الله هذه الأنفس التي انصهرنا معها في بوتقة الحب في الله، وشرح الله هذه الصدور العامرة التي جمعنا وإياها كتاب الله تعالى. طبتم جميعاً أيها الآباء الفضلاء، وأيها الإخوة الأحباب الأعزاء وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله جل وعلا أن يجمعني وإياكم في هذا الملتقى المبارك -بدولة قطر المباركة- على طاعته، وأن يجمعني وإياكم في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله: بشرى وأمل! هذا هو عنوان محاضرتنا مع حضراتكم في هذه الليلة الميمونة المباركة. بشرى وأمل! وقد يئن كثيرٌ من الأحبة الآن ويقول بلسان الحال، بل وربما بلسان المقال، ويمنعه الحياء أن يعلو وأن يرفع صوته بهذا ويقول: أية بشرى وأي أمل؟ أية بشرى تريد أن تضمد بها جراحنا الليلة؟ وأي أمل تريد أن تطمئن به قلوبنا الليلة؟ أية بشرى وأي أمل وبرك الدماء وأكوام الأشلاء تجسد الفجيعة وتحكي المأساة؟! أية بشرى وأي أمل وقد زال ظل الخلافة، وتمزقت الأمة إلى أجزاء، بل وتفتتت الأجزاء هي الأخرى إلى أجزاء؟! أية بشرى وأي أمل وقد بتر من جسد الأمة القدس الحبيب: أولى القبليتين، ومنتهى مسرى سيد الثقلين؟! أية بشرى وأي أمل وقد اتفق أعداء الإسلام على الرغم من اختلاف عقائدهم، و (أيديولجياتهم) ونظمهم وأفكارهم، ما اتفقوا على شيء بقدر ما اتفقوا على الكيد للإسلام، واستئصال شأفة المسلمين؟! أية بشرى وأي أمل وطلائع البعث الإسلامي الأبية تتعرض الآن لأشد الضربات وأعنف الهجمات؟! ففي كل بلد على الإسلام دائرة ينهد من هولها رضوى وثهلان ذبحٌ وصلب وتقتيل بإخوتنا كما أعدت لتشفي الحقد نيران يستصرخون ذوي الإيمان عاطفة فلم يغثهم بيوم الروع أعوان هل هذه غيرة أم هذه ضعة للكفر ذكر وللإسلام نسيان أية بشرى وأي أمل والإبادة الجماعية للمسلمين في كل مكان في البوسنة، والشيشان، وطاجكستان، وتركستان، بورما، وكمبتسيا، وسيرلنكا، والفلبين، والهند، وفلسطين الذبيحة وفي كل مكان؟ أية بشرى وأي أمل وقد ذلت الأمة كلها بعد عزة، وجهلت بعد علم، وضعفت بعد قوة، وأصبحت تتأرجح في سيرها، بل ولا تعرف طريقها، بل وتعرضت الآن للذل والخزي والهوان والعار، وضربت من قِبَل أذل وأخس وأنذل وأحقر أمم الأرض؟! أية بشرى وأي أمل وقد أصبحت الأمة -كما ذكرت- قصعة مستباحة لأذل أمم الأرض، وتحولت إلى غثاء من النفايات البشرية على ضفاف مجرى الحياة الإنسانية، وتفصل بينها الآن حدودٌ جغرافية، ونعراتٍ قومية مصطنعة، وترفرف على سمائها رايات القومية والوطنية، وتحكمها قوانين الغرب العلمانية، وتدور بها الدوامات السياسية، فلا تملك الأمة نفسها عن الدوران، بل ولا تختار لنفسها حتى المكان الذي تدور فيه؟ أهذه هي الأمة التي ذكرها الله عز وجل في قرآنه بالخيرية وعلل خيريتها بقوله: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]؟ وقد بات في الأمة الآن من يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف، بل ولو رفعت صوتك بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأصبحت متهماً تؤخذ بالنواصي والأقدام. إن قلت قال الله قال رسوله همزوك همز المنكر المتعالي صحفي يتهمني في إحدى المجلات ويقول: إنك إن جلست معه انهال عليك بسيلٍ من الأدلة من القرآن والسنة! هذه سبة؟! هذه تهمة؟! إن قلت قال الله قال رسوله همزوك همز المنكر المتعالي أو قلت قد قال الصحابة والألى تبعاً لهم بالقول والأعمال أو قلت قال الشافعي وأحمد وأبو حنيفة والإمام الغالي صدوا عن وحي الإله ودينه واحتالوا على حرام الله بالإحلال يا أمةً لعبت بدين نبيها كتلاعب الصبيان في الأوحال حاشا رسول الله يحكم بالهوى تلك إذاً حكومة الضلال أية بشرى وأي أمل وقد تحولت الأمة الآن إلى هذا الحال، وبات فيها من يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف؟! أهذه الأمة التي زكاها الله بالوسطية في قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة:143] وقد جنحت الآن إلى اليسار أو اليمين، أو إلى الشرق أو الغرب؟ أهذه هي الأمة التي زكاها الله في القرآن بالوحدة فقال: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92] وقد تشرذمت وتشتتت وتفتتت إلى أجزاءٍ ودويلات، بل وتفككت الأجزاء الأخرى إلى أجزاءٍ كما ذكرت؟ ما الذي جرى لأمةٍ دستورها القرآن؟ ما الذي حدث لأمةٍ نبيها محمد عليه الصلاة والسلام؟ ما الذي بدل عزها؟ ما الذي بدل علمها؟ ما الذي أذلها لمن كتب الله عليهم الذل والذلة من إخوان القردة من أبناء يهود؟ أية بشرى وأي أمل؟؟!! أبعد هذا كله تريد أن تقدم لنا في هذه الليلة بشرى وأمل بعد أن بدأت أول ما بدأت بالعزف، على وتر الجراح والآلام؟ هل عندك بعد ذلك من بشارات؟ هل عندك بعد ذلك من آمال تريد أن تزفها الليلة إلينا؛ لتضمد الجراح ولتطمئن القلوب؟

إن النصر مع الصبر وإن الفرج مع الكرب

إن النصر مع الصبر وإن الفرج مع الكرب أيها الأحبة أيها الأخيار أيها المسلمون يا من تقرءون القرآن في الليل والنهار، أقول لكم: رويداً رويداً! ومهلاً مهلا! فبالرغم من هذا كله، وبالرغم مما ذكرت، أقول لكم بلغةٍ يحدوها الأمل، وبقلبٍ يملؤه اليقين في موعود الله وموعود رسول الله أقول لكم: لئن عرف التاريخ أوساً وخزرجا فلله أوسٌ قادمون وخزرج وإنّ كنوز الغيب تخفي طلائعاً حرة رغم المكائد تخرج إن أشد ساعات الليل سواداً هي الساعة التي يليها ضوء الفجر، وفجر الإسلام قادم رغم كيد الكائدين، وإن أمة الإسلام قد تمرض، نعم. بل قد مرضت، وقد تعتريها فترات من الركود بل وربما من الركود الطويل، ولكنها بحمد الله جل وعلا لا تموت ولن تموت. وإن الذي سيفصل في الأمر عند نهايته ليس ضخامة الباطل، أبداً، وإنما الذي سيفصل في الأمر في نهاية الطريق قوة الحق، ولا شك على الإطلاق أن معنا الحق الذي من أجله خلق الله السماوات والأرض، ومن أجله خلق الله الجنة والنار، ومن أجله أنزل الله الكتب، ومن أجله أرسل الله الرسل، ومعنا رصيد فطرة الكون، ومعنا رصيد فطرة الإنسان، ومعنا قبل كل ذلك وبعد كل ذلك الملك جل وعلا، ويا لها والله من معية كريمة مباركة لو عرفنا قدرها، قال جل وعلا: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21] وقال: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173]. وعد الله جل وعلا، ووعد الله لا يتغير ولا يتبدل، فالنصر لهذا الدين سنة ربانية ماضية كما تمضي النجوم والأفلاك والأقمار في مدارها الذي حدده لها الملك جل وعلا. وهاهو القرآن يؤكد، وهاهو الصادق المصدوق يؤكد، وهاهو التاريخ والواقع يشهدان، فانتبه معي أيها الحبيب:

جراح النبي قبل النصر والتمكين

جراح النبي قبل النصر والتمكين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو وحده في مكة يدعو إلى لا إله إلا الله مع فئة قليلة مستضعفة، ويوم أن صعد على جبل الصفا؛ ليعلن هذه الدعوة بصورة جهرية؛ أرعدت مكة وأبرقت، ودقت طبول الحرب على أشدها على رأس النبي والموحدين معه، وما من مكان تحرك فيه المصطفى في أرض مكة إلا ووجد أرض مكة أرضاً صلبةً صلدة لا تتلقى بذرة التوحيد. فعُذِّب، ووضعت النجاسة على ظهره، ووضع التراب على رأسه، بل وتقدم إليه المجرم عقبة بن أبي معيط وخنقه خنقاً شديداً، حتى كادت أنفاس الحبيب أن تخرج، وجاء صديق الأمة الأكبر ليدفع عقبة عن رسول الله وهو يقول: [أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم] ولا يجد في أرض مكة الأرض الخصبة التي تتلقى بذرة التوحيد، فيأمر أصحابه المضطهدين المعذبين بالهجرة، وبترك الديار والأوطان إلى أين؟ إلى الحبشة. لماذا؟ لتغسل شلالاتها دماء وجروح أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولأن بـ الحبشة ملكاً لا يُظلم عنده أحد، بل ويضطر النبي صاحب الدعوة إلى ترك مكة للهجرة إلى أين؟ إلى الخروج إلى الطائف، يمشي على قدميه المتعبتين بلا راحلة، ولا زاد. والله ما انطلق إلى أهل الطائف يريد مالاً، ولا جاهاً، ولا وجاهة، ولا ثراءً، بل خرج يريد لهم خيري الدنيا والآخرة، ويريد أن يُخرجهم من أوحال الشرك والوثنية إلى أنوار الإيمان والتوحيد برب البرية جل وعلا. وفعل أهل الطائف بالحبيب ما تعلمون! فعلوا به أسوأ ما يُفعل بالإنسان، بل وذهب إليهم في اليوم الأخير يرجوهم رجاءه الأخير أن اكتموا خبر زيارتي عن أهل مكة حتى لا يشمت بي الأعداء هناك، فأبى أهل الطائف على النبي أن يحققوا له حتى هذا الرجاء الأخير، واضطروا النبي إلى أن يرفع هذه الدعوات وهذه الكلمات الحارة الصادقة، وإن كان الشيخ الألباني قد ضعف إسناد الحديث، إلا أن الحديث رواه الإمام الطبراني وقال الإمام الهيثمي في مجمع الزوائد: ورجاله ثقات إلا ابن اسحاق وهو مدلسٌ ثقة، ووقفت على طريقٍ آخر لهذا الحديث ولله الحمد والمنة رواه ابن اسحاق موصولاً عن محمد بن كعب القرظي، والروايتان تقوي الأولى الأخرى وهكذا فلا بأس على الإطلاق أن أستشهد بهذه الرواية لا أن أستأنس بها. رفع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الله أكف الضراعة قائلاً: (اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين! أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيدٍ يتجهمني؟! أم إلى عدوٍ ملكته أمري؟! إن لم يكن بك غضبٌ عليَّ فلا أبالي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن لا ينزل بي غضبك، أو يحل عليَّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك). ويعود المصطفى، وفي الطريق يؤيده الله بهذا النصر الغيبي، وانتبه إلى أولى البشارات: ينادي منادٍ من السماء إنه جبريل يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: يا رسول الله! لقد سمع الله ما قاله قومك لك، وقد أرسل الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت، فمره بما شئت يا رسول الله، فسلم ملك الجبال على المصطفى -والحديث في الصحيحين - وقال: مرني بما شئت يا رسول الله، لو أمرتني أن أُطبق عليهم الأخشبين لفعلت، والأخشبان: جبلان عظيمان بـ مكة يقال للأول: أبو قبيس، ويقال للثاني: الأحمر. انتبهوا أيها الأخيار والله الذي لا إله غيره لو كان ممن ينتقم لذاته ولمنصبه ولزعامته وقيادته وصدارته وريادته؛ لأمر النبي صلى الله عليه وسلم ملك الجبال فلحطم ملك الجبال أهل الطائف، ولهدم ودمدم هذه الرءوس الصلبة والجماجم العنيدة، ولسالت دماءٍ غزيرة ليرى أهل مكة بـ مكة دماء أهل الطائف في مكة. ولكن ماذا قال نهر الرحمة، وينبوع الحنان؟ قال: (بل إني أرجو الله أن يُخرج من أصلابهم من يعبد الله جل وعلا).

تمكينه تعالى لرسوله بعد الابتلاء

تمكينه تعالى لرسوله بعد الابتلاء يصبر الحبيب، ويضطر لترك بلده إلى المدينة، وفي مدة لا تساوي من حساب الزمن شيئاً على الإطلاق، بل ولا تساوي في بناء الدول شيئاً على الإطلاق، يرجع المصطفى مع عشرة آلاف موحدٍ لله جل وعلا ليفتح مكة؛ وليأمر النبي بلالاً رضي الله عنه ليصعد على سطح الكعبة، ليرفع الأذان لأول مرة، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله محمد رسول الله، وتتهلل حجارة الكعبة فرحاً لهذا التوحيد، ولهذا الثوب الجديد الذي كساها إياه إمام الموحدين، وقدوة المحققين محمد صلى الله عليه وسلم. ويحطم النبي الأصنام، ويردد قول الله جل وعلا: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء:81]. من كان يظن في أول الأمر عندما وقف النبي على جبل الصفا لدعوة قومه؛ أن تمر هذه الرحلة بهذه السرعة؛ ليرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة فاتحاً؟ إنه وعد الله: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173]؟

صبر أبو بكر حتى كان التمكين

صبر أبو بكر حتى كان التمكين من كان يظن أن تقوم للإسلام قائمة بعد موت المصطفى صلى الله عليه وسلم، وظهرت فتنة الردة بصورة تكاد أن تلتهم الأخضر واليابس، من كان يظن في هذا اليوم العصيب الذي جسده عروة بن الزبير رضوان الله عليه وقال: [كان المسلمون كالغنم المبعثرة في الليلة الشاتية الممطرة؛ لفقد نبيهم ولقلة عددهم وكثرة عدوهم]. انظر إلى هذا الواقع، وإلى هذا الحال، مات النبي فارتد كثيرٌ من العرب، وظهرت فتنة الردة، وفتنة من يدعي النبوة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، بل ذهب أحد المسلمين لـ أبي بكر رضي الله عنه ليقول له: يا خليفة رسول الله! الزم بيتك، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين، فماذا قال الرجل الذي يزن في ميزان الرجال أمة؟ ماذا قال الصديق الذي قيضه الله للأمة يوم الردة كما قيض الله للأمة أحمد بن حنبل يوم المحنة؟ أبو بكر الذي يكاد القلب يهتز حياءً ووجلاً من هذا الرجل؛ لأن التاريخ قد ظلمه، فكم من المسلمين الآن لا يعرف عن أبي بكر الكثير! بل ولست مبالغاً إن قلت: والله لا يعرف كثيرٌ من المسلمين عن أبي بكر إلا القليل، بل ومنهم من لا يعرف عن هذا العملاق شيئاً. إنه صديق الأمة الذي لخص الإمام ابن القيم حياته تلخيصاً بديعاً فقال وتدبر معي كلامه؛ فلا يتسع الوقت لأقف معك وقفة موجزة مع أبي بكر، فخذ هذا الوصف الدقيق من ابن القيم رحمه الله تعالى، يقول في حق أبي بكر رضي الله عنه: هذا هو أبو بكر الذي عاين طائر الفاقة يحوم حول حب الإيثار؛ فألقى له الصديق حب الحُب على روض الرضا، واستلقى على فراش الفقر آمناً مطمئناً، فرفع الطائر الحب إلى حوصلة المضاعفة وتركه هنالك، ثم علا الطائر على أفنان شجرة الصدق يغرد للصديق بأغلى وأعلى فنون المدح وهو يتلو في قول الصديق قول ربه جل وعلا: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:17 - 21]. قيض الله للإسلام وللأمة أبا بكر فقال قولته الخالدة: [والله لو منعوني عقال بعيرٍ كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم عليه بالسيوف] وأمر بإرسال وبإنفاذ بعث أسامة. قالوا: يا خليفة رسول الله! لقد ظهرت فتنة الردة، وظهر مدعو النبوة، ولا داعي الآن لأن ترسل هذا الجيش، ولا بد أن يبقى هذا الجيش في المدينة ليؤمنها، فقال الصديق قولته الخالدة: [والله لأنفذن بعث أسامة وإن تخطفتني الذئاب]، وفي لفظ: [وإن جرت الكلاب بين أرجل أمهات المؤمنين لأنفذن بعث أسامة، كيف يبرم رسول الله عقداً ولا أبرمه أنا]. وسار جيش أسامة الذي كان فتحاً عظيماً من الله على أبي بكر رضي الله عنه، حيث أن المرتدين خارج جزيرة العرب قد نظروا إلى هذا الأمر نظرة عجيبة، وقالوا: لولا أن أبا بكر يملك من القوة ومن الجيوش في المدينة ما يستطيع أن يدفع بها الشر عن المدينة ما أرسل بعث أسامة. انظر إلى الفتح والتأييد والمدد من الله جل وعلا! وانطلق الجيش، وانتهت فتنة الردة، وقيض الله للأمة خالد بن الوليد رضي الله عنه، وانتهت حروب الردة، وقتل من ادعى النبوة، وخرج الإسلام من هذه الفتنة قوياً شديداً، وفي أول الأمر ظن كثير من الناس أنه لن تقوم للإسلام قائمة.

جراح أعقبها النصر والتمكين

جراح أعقبها النصر والتمكين ومن كان يظن أن تقوم للإسلام قائمة بعد الحروب الصليبية المتكررة، بعد سفك الدماء، وانتهاك الأعراض، وهدم المساجد والبيوت، حتى قيض الله للأمة صلاح الدين -أسأل الله أن يرزق الأمة بـ صلاح الدين - فهزم الصليبيين الحاقدين في معركة حطين، وخرج الإسلام قوياً بعد الحروب الصليبية؟ من كان يظن أن تبقى للإسلام قائمة بعد حروب المغول والتتار، وبعد الهجمة الشرسة التي روعت البلاد والعباد، حتى جسَّد الإمام ابن الأثير الجزري رحمه الله تعالى هذه المأساة المروعة، فقال: "لقد انصرفت عدة سنين عن تسجيل هذه الحادثة، فأنا أقدم قدماً وأؤخر أخرى؛ فمن ذا الذي يسهل عليه أن يكتب بيديه نعي الإسلام والمسلمين، فليتني لم أولد قبل هذا اليوم وكنت نسياً منسيا". حتى قيض الله للأمة البطل الفاتح قطز، فحرر البلاد والعباد، وخرج الإسلام من هذه الأزمة الطاحنة قوياً شديداً صلباً؟ ومن كان يظن أن تبقى في وقتنا المعاصر امرأة بوسنية واحدة، أو رجلٌ بوسني واحد، أو طفلٌ بوسني واحد، لقد قرر جميع الخبراء العسكريين مع بداية حرب البوسنة منذ ثلاث سنوات تقريباً أن الحرب لن تستمر أكثر من أسبوع، وسيفني الجيش الصربي شعب البوسنة، ووالله لو علم الصرب أن هذه الحرب ستعيد الإسلام من جديد إلى هذه الأرض، وسترد كثيراً من البوسنيين إلى الإسلام، والله ما أطلق الصرب على البوسنيين رصاصة واحدة. انظروا إلى المحن! {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2 - 3] إنه التمحيص: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214]. انتهت الآن الحرب البوسنية وإن كانت في الواقع والحقيقة لم تنته بعد -أسأل الله أن يضمد الجراح، وأن يسكن الآلام- وبقي البوسنيون، بل وعاد الكثير من البوسنيين إلى الإسلام، بل ورفع اسم الإسلام في هذه المنطقة ودب الرعب في قلوب هؤلاء، مع أن المسلمين في قمة الضعف والذل والهوان. من كان يظن أن تستمر الحرب في الشيشان إلى يومنا هذا؟ لأنه بكل أسف حينما يتناول كثيراً من دعاتنا كثير من هذه القضايا، يطرح دائماً وأبداً جانب السلبيات فحسب، ولو نظرنا إلى هذا النصر العظيم في مقابل قوة أهل الباطل، وحجم أهل الباطل، وما يملكون من عتاد وسلاح، لكان ما يحققه المسلمون من نصرٍ زهيدٍ -في أعيننا ونظرنا- لكان هذا النصر نصراً عظيما بالمقارنة إلى حجم وقوة أعداء الدين. فينبغي ألا ننظر بمنظار قاتم على طول الخط، ولا مانع من أن نشخص الداء، ولكن ينبغي أن نصف الدواء، ولا مانع من أن نبين المرض، لكن لا يمنع على الإطلاق في الوقت ذاته أن نقول بأن هناك بوادر للشفاء، وللأمل، وللخير، فهذه الفتن ما ضرت الإسلام قط، بل هذه الفتن في صالح الإسلام، كيف ذلك؟! إنه التمحيص، حتى لا يثبت على الصف ولا يحمل هذه الراية إلا الرجال الأطهار الذين هم أهل لأن يكونوا من حواري وأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما الذين يحملون الدعوة ويتاجرون بها في سوق الشهوات؛ تشترى منهم أو لا تُشترى؛ فهؤلاء لا يصلحون ابتداءً أن يكونوا أصحاب رسالة، فإذا ما هبت عاصفة أو فتنة سرعان ما تبعثر هؤلاء كما تتفرق الفئران، وهذه من رحمة الرحيم الرحمن؛ ليبقى على الصف من صفت نفسه، وخلصت سيرته، وطهر الله قلبه؛ ليرفع راية لا إله إلا الله كيف لا وأنت ستمضي على طريق محمد بن عبد الله. فإن الطريق ليس هيناً لينا، وليس مفروشاً بالورود ولا بالرياحين، وهأنذا ألخص لك الطريق أيها الحبيب المبارك في كلماتٍ حتى لا تُنسى، وأقول لك: إن سلكت طريق الدعوة إلى الله ورأيت أن الطريق ممهدة، وأنها مفروشة بالورود والزهور والرياحين؛ فاعلم علم اليقين أنك قد ضللت الطريق، وابتعدت عن طريق محمد ونوح وموسى وعيسى وكل الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه. الطريق بينٌ واضح، فتن ومحن وابتلاءات للتمحيص والتمييز، ليثبت على الصف الخالصون المخلصون، أسأل الله أن يشرفنا وإياكم أن نكون منهم إنه ولي ذلك والقادر عليه. أيها الأحبة: من كان يظن أن تبقى الحرب الشيشانية إلى يومنا هذا، والشيشان شعبٌ صغير أعزل، يحارب القوة الثانية في العالم كله؟ بل ومن كان يظن أن الأفغان يخرجون الدب الروسي الغبي الوقح بعد هذه السنوات الطوال؟ ولكن بكل أسف! رأينا ما رأينا يوم أن دبت الفرقة والخلاف بين القلوب والصفوف؛ فسقط على كابول من الصواريخ والقنابل ما لم يسقط عليها طيلة الحرب مع الروس، ولا حول ولا قوة إلا بالله!! وهذه أيضاً سنةٌ ربانية فمحالٌ أن يتنزل النصر مع الخلاف، ومحالٌ أن تتنزل السكينة مع التشرذم والتهارش، ولا يختلف اثنان ممن يعملون الآن على الساحة الإسلامية في أن العقبة الكئود الأولى في طريق العمل الإسلامي هي: عقبة التشرذم والتهارج والاختلاف والبعد عن المنهج: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46] أي: تذهب قوتكم: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105]. من كان يظن أيها الأحبة أن تستمر الحرب إلى الآن، بل ويكبد المجاهدون الشيشان الروس الخسائر الفادحة؟

بشائر النصر

بشائر النصر أيها الأخيار الكرام: إنه وعد الله، ولا بد أن يبقى هذا الإسلام، ولا بد في النهاية أن ينتصر الإسلام، ووالله إننا لا نخاف على الإسلام، بل نخاف على المسلمين إن تخلوا عن الإسلام، أما الإسلام في ذاته كدين وكمنهج فإنه قادم كقدوم الليل والنهار. وخذوا معي بعض الأدلة القرآنية والنبوية على هذه الحقائق.

كتابة النصر لمن قاتل في سبيل الله

كتابة النصر لمن قاتل في سبيل الله وأستهل هذه البشريات والآمال بآية من كتاب الكبير المتعال، يقول الله عز وجل: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:39 - 40] وقد تحقق وعد الله عز وجل في عهد نبيه، ونصر الله القلة الضعيفة المستضعفة يوم أن نصرت دين الله عز وجل، ووعد الله محفوظ، ووعد الله قائم لكل من ينصر دين الله أن ينصره الله جل وعلا. ما علينا إلا أن ننصر دين الله، ولكن بماذا؟ بما منَّ الله عز وجل به علينا من قوة، فلم يأمرنا الله أن نعد الإعداد الذي يخرج عن طوقنا واستطاعتنا أبداً. بل ما أمرك الله إلا بقوله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] وأمرك الله عز وجل بالتقوى بقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] فابذل ما استطعت من الإعداد لتنصر بهذا الإعداد دين الله، واترك النصرة بعد ذلك لمن وعد بالنصرة كل من نصر دينه جل وعلا. ما علينا إلا أن ننصر الدين على قدر استطاعتنا، وإلا فإن العلمانيين الآن يريدون أن يوقعوا بالإسلاميين، ويقولون لهم: ماذا تملكون وماذا بأيديكم، وأنا لا أقلل أبداً على الإطلاق من شأن القوة المادية، فإن هذه (دروشة) لأنه بكل أسف أمتنا الآن فيها من هم (دراويش) لا يجيدون إلا الكلام، شأنها في ذلك شأن جحا، هل تعرفون جحا الذي صنع يوماً ساقية على النهر لتأخذ الماء من النهر ولترد نفس الماء إلى نفس النهر، فقالوا: عجباً لك يا جحا! تصنع ساقية على النهر لتأخذ الماء من النهر ولترد نفس الماء إلى نفس النهر؟! فقال جحا: يكفيني نعيرها، منشورات بيانات صاخبة خطب رنانة. هذا لن يعيد الإسلام إلى الأرض، وإن كان هذا نوع من أنواع العمل؛ لكننا لن نعيد الإسلام مرة أخرى إلا إذا حولنا الإسلام إلى منهج حياة، إلى واقع يتألق سمواً وروعة وجلالاً؛ فإن العالم الغربي الآن يحكم على الإسلام من خلال واقع المسلمين المر الأليم. فيجب علينا أن نبذل قدر استطاعتنا، وليس معنى ذلك أنني أقلل من شأن القوة المادية في مواجهة أعداء الإسلام أبداً، وإنما أقول: نعد على قدر المستطاع وعلى قدر الطاقة؛ فالأمة تحتاج إلى تنظيم جهود، ووالله إن الأمة مليئة بالطاقات وبالخيرات. ولعلكم تذكرون سلاحاً واحداً استخدمته هذه الأمة، لا لمدة أسابيع ولا لمدة شهور بل لمدة أيام؛ فوقف الشرق الملحد والغرب الكافر يوم أن استخدم المسلمون سلاح البترول في حرب أكتوبر. الأمة مليئة بالطاقات المادية والعددية، وتعجبني الآن كلمة لـ جمال الدين الأفغاني، مع تحفظي على كلماتٍ كثيرة للقائل، إلا أننا نقول بأننا نقبل الحق على لسان أي أحد، ونرد الباطل على لسان أي أحد، يقول هذا الرجل للهنود يوم أن احتلهم الإنجليز: (لو أن ملايينكم ذباب يطن في آذان الإنجليز لخرقتم آذانهم). أمةً تملك طاقة عددية هائلة جبارة، وتملك طاقة مادية جبارة هائلة، ولكن الأمة تحتاج إلى التقاء الصفوف، وإلى تجميع الطاقات، وتنظيم الجهود، وكلمة واحدة، ونظام الصف ماذا أعني بنظام الصف؟ أمتنا أمة النظام، وبكل أسف! تذهب إلى بلاد الغرب فترى نظام الصف موجوداً في أقل الأمور، ففي المطعم ترى نظام الصف، وفي المطار ترى نظام الصف، وفي الركوب على الباص ترى نظام الصف، فإذا ما أتيت إلى هذه الأمة رأيت نظام القطيع -الذي يقوى على الآخر يدوسه- وتردد الأمة بلسان الحال قول الشاعر الجاهلي القديم: ونشرب إن وردنا الماء صفواً ويشرب غيرنا كدراً وطينا نظام القطيع في كل شيء، مع أن الأمة صاحبة نظام الصف، يقول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:4] ليس صفاً معوجاً ولا مختلاً، وإنما كأنه البنيان المرصوص الذي رصت لبناته بمنتهى الدقة والإحكام، والبراعة والجمال في آن واحد، بل وقال المصطفى في الصلاة: (لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم) يا سبحان الله! ما علاقة تسوية الصف بالقلب؟! انظر إلى هذا الحديث، فالأمة تحتاج إلى تنظيم وتجميع للطاقات، وكلٌ مسئول على قدر استطاعته. ابذل ما استطعت، واتصل بالمسئولين بمنتهى الأدب والحكمة والرقة والبلاغة، واتصل بمن تظن أنه يبذل شيئاً لدين الله، لتلتقي الجهود، ولتلتقي كل هذه الطاقات، وسترون والله العجب العجاب، ولكن ليبدأ كل واحدٍ منا بنفسه؛ لأننا بكل أسف نعلق الأخطاء دوماً على الآخرين، وقد حذرنا الله من هذا الداء فقال: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165]. إذاً: من هذه البشارة أخلص إلى أنه من نصر دين الله على قدر استطاعته، وعلى قدر ما مكنه الله عز وجل من قوة ومن طاقة سينصره الله عز وجل، وهل تستطيع قوةٌ على ظهر هذه الأرض أن تحارب ملك الملوك؟!! يا إخوة: ترون الآن سيولاً تجرف بيوتاً ومدناً، وترون زلازل وبراكين تدمر حضارات، وتزلزل وتبيد مطارات: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} [المدثر:31]. سبحان الله! تعجبني عبارة هذا العربي في أرض الجزيرة في القديم يوم أن خوفوه من الإنجليز، وقالوا: هؤلاء يملكون طائرات، قال: ما معنى طائرات؟ لا يعرف معنى الطائرات، قالوا: هذه طائرات تطير في السماء تنزل وتسقط النار، لا يستوعب هذا المشهد، ولا يعرف معنى الطائرة لكن انظروا إلى التوحيد الذي استقر في قلبه، وإلى اليقين الذي افتقدته الأمة الآن، قال قولةً عجيبة: الطائرة أعلى أم ربنا أعلى؟! قالوا: لا، ربنا أعلى، قال: إذاً فلا تخف، سبحان الله! إنها الفطرة التي تفتقدها الأمة الآن، بل والله إن من أبناء الأمة الآن من يشك في رزق الرزاق، ونسمع على أعلى مستوى من يقول: "كنت أعتمد على الشرق والآن أنا أعتمد على الغرب، فإن لم أعتمد على الغرب فعلى من أعتمد؟!! " على الله الذي وعد برزق كل دابة: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود:6] وربك يرزق الكفار؛ فهل ينسى أن يرزق من وحدوا العزيز الغفار؟ هذا محال.

استخلاف الله للمسلمين في الأرض

استخلاف الله للمسلمين في الأرض خذوا البشارة الثانية: يقول الله عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55] هذه شروط الاستخلاف يا إخوة: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور:55]. ووالله لقد حقق الله وعده، وتحقق وعد الله لرسوله وأصحابه والموحدين معه، واستخلفهم الله في الأرض، فأذلوا الأكاسرة، وأهانوا القياصرة هذا هو الإسلام وهذه هي العبودية لله، من رعاة للغنم في أرض الجزيرة إلى سادة وقادة لجميع الأمم. وجيء بتاج كسرى إلى عمر بن الخطاب في مدينة رسول الله، فقال عمر قولته الجميلة: [والله إن قوماً أدوا هذه الأمانة كاملةً غير منقوصة، والله إنهم لأمناء؛ فقال له علي بن أبي طالب: يا أمير المؤمنين! عففت فعفوا، ولو رتعت لرتعوا]. جيء بتاج كسرى إلى عمر رضي الله عنه؛ لأنهم حققوا شروط الاستخلاف، صرفوا العبادة لله جل وعلا، وحققوا العبودية لله سبحانه، واستكملوا الشروط فكانت: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور:55]. وشروط الاستخلاف والتمكين لا زالت في أيدينا؛ لأن وعد الله لكل فئة تحقق شروط الاستخلاف والتمكين بصرف العبادة كاملة إلى الله، وبتحقيق العبودية خالصة إلى الله جل وعلا، أن يمكن الله جل وعلا لهذه الطائفة التي ستكون حينئذٍ جديرة بالاستخلاف والتمكين.

صدود الكفار بأموالهم هو حسرة عليهم

صدود الكفار بأموالهم هو حسرة عليهم ويشرق علينا نور البشارة الثالثة من سورة الأنفال، ويا لها والله من بشارة! يقول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال:36] هل تصدقون الله رب العالمين؟! إنه كلام الله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36] لتتم هنالك إن شاء الله تعالى حسرتهم الكبرى. أيها الأحبة: كم من أموالٍ أنفقت لتنصير المسلمين؟ وكم من أموال أنفقت للقضاء على طلائع الصحوة؟ وكم من أموال أنفقت لتقويض صرح الأسرة المسلمة، ببث الأفلام الداعرة والمسلسلات الفاجرة؟ وكم من أموال أنفقت على أندية الروتر العالمية؟ وكم من أموال أنفقت على أندية الماسونية العالمية؟ وكم من أموال أنفقت بالجملة لإخراج المسلمين عن إسلامهم؟ ولكن ما هي النتيجة؟ النتيجة بموعود الله {فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال:36] وعلى أرض الواقع جسدت هذه المعاني العظيمة وثيقة للتنصير الكنسي التي صدرت عبر مائة وخمسين صفحة، وأجريت خلال خمس سنوات، ونشرتها لأول مرة جريدة " نيويورك تايمز إنترناشيونال " في عددها الصادر في شهر يناير لعام (1991م) وفي هذه الوثيقة يصرخ بابا الفاتيكان جنبلي الثاني، وينادي على المسحيين -على حد تعبيره وإلا فهم النصارى- ويأمرهم بالوقوف صفاً واحداً أمام الزحف الإسلامي الهائل في بلاد أوروبا على الرغم من أنك لو فتشت لوجدت الجهود المبذولة لدين الله لا تساوي شيئاً على الإطلاق، ولكنه دين الفطرة. ولا أدري هل تابع أحدكم هذا الخبر أم لا؟ فقد نشرته جريدة بريد الإسلام التي تتابع أخبار الإسلام والمسلمين في بلاد الغرب، نشرت خبراً عجيباً في حديقة (الهايفبارك في بريطانيا وفي إنجلترا) هذه الحديقة تضم كل المآسي. وجاء بعض الشباب المسلم العاقل الواعي، الذي تحتاج الأمة إليه الآن، وينظر إلى الأمور كلها نظرة واعية دقيقة، ليعيش العصر بالقرآن والسنة، فقالوا: لماذا لا نتخذ ركناً في هذه الحديقة لندعو هذه الجموع إلى الإسلام؟ لماذا لا نعرف هؤلاء بالإسلام؟ وبكل أسف حضرت مؤتمراً في " دتريت " ودعي إلى هذا المؤتمر رئيس تحرير جريدة " نيويورك تايمز إنترناشيونال "، وقال هذا الرجل كلمةً حتى وإن كانت خبيثة آلمت قلبي وقلب كل مسلم حين ذاك، يوم أن قال: أيها المسلمون! أنتم تعلمون أن صورة الإسلام مشوهة في الشرق وفي الغرب بصفة خاصة، لكن هل بذلتم الجهود لتظهروا الصورة الحقيقية لإسلامكم؟ عار وشنار على مليار مسلم، تبذل الأموال الطائلة في أمورٍ تافهة، ولا تُبذل لتبني هذه القضية عبر هذه الوسائل الإعلامية العالمية؛ لنبين صورة الإسلام المشرقة التي شوهت ولوثت ومسخت، على أن الإسلام دين العدل والرحمة، والأمن والأمان. وما يوصم به الإسلام الآن من رعب وإرهاب وتطرف؛ فإن الإسلام بريء منه كبراءة الذئب من دم يوسف بن يعقوب. أيها الأحبة الكرام: هذه الأموال الطائلة التي تنفق وبالرغم من ذلك ينتصر دين الله عز وجل ويمتد، فوقف هؤلاء الإخوة في هذه الحديقة وأرادوا أن يبينوا للناس الإسلام، فقام قسيس ليرد على هذا الأخ المبارك البريطاني المسلم، ولما ضعفت حجته لجأ إلى الأسلوب الآخر المعروف، ألا وهو السب والشتم والتسفيه، فسب هذا القسيس رب العزة والنبي محمداً صلى الله عليه وسلم. سبحان الله! هذا نصرٌ غيبي يرسله الله من آن إلى آخر ليطمئن القلوب القلقة، فيقول الخبر: يصاب هذا القسيس بدورانٍ شديد ويسقط على الفور مغشياً عليه، فلما اقتربوا منه وجدوه قد هلك، وقد فارق الحياة، فاقترب رئيس الشرطة الذي كان مكلفاً بحراسة هذا الجمع من هذا الأخ المبارك، وقال له: أربك قويٌ بهذه الصورة؟! فقال له: ولكن اعلم أن الذي قدّر هذا قد يُقدِّر أن يقول غير هذا أكثر مما قال هذا، ولا يفعل به بمثل ما فعل بهذا، حتى لا نعتمد على مثل هذه الأمور: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:62]. لا بد من أن يبذل المسلمون سبل النصر: {فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36]. وأختم البشائر القرآنية بهذه البشارة في سورة الصف، يقول جل وعلا: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:8 - 9] لا بد من إظهار الدين، هل يضر السماء نبح الكلاب؟! وهل تستطيع جميع الأفواه وإن اجتمعت أن تطفئ نور الله في السماء؟ وهل تستطيع الطحالب الحقيرة أن توقف سير البواخر العملاقة على سطح الماء؟ لا والله أبداً: {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:8] وعد الله عز وجل.

بشائر نبوية بالفتح

بشائر نبوية بالفتح وخذوا بعض البشائر السريعة من كلام الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم، والحديث رواه أحمد، والحاكم في المستدرك وصححه على شرط الشيخين، وأقره الذهبي من حديث تميم الداري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليبلغن هذا الأمر -أي: هذا الدين- ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدرٍ ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيزٍ أو بذل ذليل، عزاًَ يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر). وفي الحديث الذي رواه أحمد في مسنده، والطبراني في الأوسط، والبزار بسند حسن، وقال الهيثمي: رجاله ثقات من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافةٌ على منهاج النبوة؛ فتكون فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عضوضاً؛ فتكون فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرياً؛ فتكون فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة) ونحن الآن نعيش مرحلة الحكم الجبري، والمرحلة القادمة بموعود رسول الله الذي لا ينطق عن الهوى: (ثم تكون خلافة على منهاج النبوة). وفي الحديث الذي رواه أحمد، والحاكم بسندٍ جيد، من حديث عبد الله بن عمرو أنه قال: (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رجل: يا رسول الله! أي المدينتين تفتح أولاً، أقسطنطينة أم رومية -أي روما -؟ فقال المصطفى الصادق المصدوق: مدينة هرقل تفتح أولاً) أي: تفتح القسطنطينة أولاً، هل تعلم متى فتحت القسطنطينة، فتحت بعد هذه البشارة النبوية بثمانية قرون، ويبقى الشطر الثاني في الحديث وعدٌ لا يتخلف إن شاء الله جل وعلا. وأختم البشائر النبوية بهذا الحديث الذي رواه البخاري ومسلم، من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون، فيختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم يا عبد الله! ورائي يهودي تعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر يهود). بل ستعجب أن النبي قد حدد أرض المعركة كما في رواية البزار، وقال الهيثمي في المجمع: ورجالها رجال الصحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنتم شرقي نهر الأردن وهم غربيه) ولم تكن هناك يومها دولة تسمى بـ الأردن، ولكنه كلام الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى، والواقع والتاريخ يشهدان بأن الإسلام قادم، وبأن المستقبل لهذا الدين رغم كيد الكائدين.

انتشار الإسلام في الغرب

انتشار الإسلام في الغرب إن أصواتاً مرتفعة الآن تصرخ في الغرب وتنادي وتحذر من قدوم الإسلام، يقول المفكر الشهير اسبنجلز: "إن للحضارات دورات فلكية، فهي تغرب هنا لتشرق هناك، وإن حضارة أوشكت على الشروق في أروع صورة، ألا وهي حضارة الإسلام، الذي يملك وحده أقوى قوة روحانية عالمية نقية". فلا تغتروا بما عند الشرق أو الغرب، فإن الغرب الآن ينهار من الداخل، وتعجبني عبارة سيد قطب رحمه الله وغفر له إذ يقول: "إن أحشاء الغرب تتمخض الآن بمولود جديد يسمى الإسلام" إنها الفطرة، فطرة الله جل وعلا، ما من واحدٍ من هؤلاء عرف الإسلام وحقيقة الإسلام إلا وشرح الله عز وجل صدره له. لكن يبقى أن نبذل نحن لهؤلاء، وأن نقدم نحن لهم الإسلام الجميل بصورته المشرقة التي علمنا إياها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. الغرب هذه البالونة الضخمة التي تعبد الآن في الأرض من دون الله من قِبل كثير ممن ينتسبون إلى الإسلام، لا بد أن نعرف حقيقتها أيها الأحبة: قالوا لنا فالغرب فيه صناعة وسياحة ومظاهر تغرينا لكنه خاوٍ من الإيمان لا يرعى ضعيفاً أو يسر حزينا الغرب مقبرة المبادئ لم يزل يرمي بسهم المغريات الدينا الغرب مقبرة العدالة كلما رفعت يدٌ أبدى لها السكينا الغرب يكفر بالسلام وإنما بسلامه الموهوم يستهوينا الغرب يحمل خنجراً ورصاصةً فعلام يحمل قومنا الزيتونا كفرٌ وإسلامٌ فأنى يلتقي هذا بذلك أيها اللاهونا أنا لا ألوم الغرب في تخطيطه لكن ألوم المسلم المفتونا وألوم أمتنا التي رحلت على درب الخضوع ترافق التنينا وألوم فينا نخوةً لم تنتفض إلا لتضربنا على أيدينا أيها الأحبة: إن أطباء الغرب وعلماء الغرب يقفون الآن في دهشة وحيرة أمام حالات الانتحار الجماعية، أمام الحالات المتزايدة للمصابين بالحالات النفسية والعصبية؛ لأن هؤلاء قد أعطوا البدن كل ما يشتهيه، وبقيت الروح في أعماق البدن تصرخ وتبحث عن دواءٍ، وتبحث عن غذاء، ولا يعلم دواء وغذاء الروح إلا خالق الروح: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء:85]. ونرى في الأفق كوكبة مضيئة، إنه أعظم حدثٍ في النصف الثاني من القرن العشرين، وهذا من الآمال العظيمة، والبشارات الكبيرة أن نرى شباباً في ريعان الصبا، ونرى فتياتٍ في عمر الورود، ما من يومٍ يمر إلا وتلتحق جموع بالصحوة الراشدة، أسأل الله أن تكون كذلك. نرى الآن في مصر والجزائر وغيرها، نرى بدون مبالغة عشرات الألوف من الإخوة الشباب، والأخوات الملتزمات وسط هذه الفتن، ووسط هذه الضربات، يحرص الجميع على حضور المحاضرات، وعلى حضور خطب الجمعة، لا في المساجد بل في الشوارع، وتحت حرارة الشمس المحرقة، يصلون على الأرض وعلى التراب. فأينما توجهت يا عبد الله وجدت خشوعاً ورجوعاً جديداً إلى الله، ووجدت شباباً يبكي ويتضرع وقد ولى ظهره لـ واشنطن وبنكوك ولندن وباريس ومدريد، ووجه وجهه من جديد لـ مكة زادها الله تشريفاً وتكريماً، ولى وجهه صوب بيت الله الحرام، وأعطى ظهره لعواصم الكفر على ظهر الأرض، ويصرخ بأعلى صوته، ودموع الخشوع والبكاء والندم تتلألأ على وجهه الأنور الأزهر، وهو يقول: آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون، نريد كتاب الله، نريد سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. إنها الصحوة المباركة، إنه الأمل الذي أقلق العالم كله الآن في النصف الثاني من القرن العشرين. صبح تنفس بالضياء وأشرقا والصحوة الكبرى تهز البيرقا وشبيبة الإسلام هذا فيلق في ساحة الأمجاد يتبع فيلقا وقوافل الإيمان تتخذ المدى درباً وتصنع للمحيط الزورقا ما أمر هذي الصحوة الكبرى سوى وعد من الله الجليل تحققا هي نخلة طاب الثرى فنما لها جذعٌ قويٌ في التراب وأعذقا هي في رياض قلوبنا زيتونة في جذعها غصن الكرامة أورقا فجرٌ تدفق من سيحبس نوره أرني يداً سدت علينا المشرقا يا نهر صحوتنا رأيتك صافياً وعلى الضفاف رأيت أزهار التقى قالوا تطرف جيلنا لما سمى قدراً وأعطى للطهارة موثقا ورموه بالإرهاب حين أبى الخنا ومضى على ضرب الكرامة وارتقى أوكان إرهاباً جهاد نبينا أم كان حقاً بالكتاب مصدقا أتطرفٌ إيماننا بالله في عصرٍ تطرف بالهوى وتزندقا إن التطرف أن نذم محمداً والمقتدين به ونمدح عفلقا إن التطرف أن نرى من قومنا من صانع الكفر اللئيم وأطرقا إن التطرف أن نبادل كافراً حباً ونمنحه الولاء محققا إن التطرف وصمة في وجه من جعل البوسنة رماداً محرقا شتان بين النهر يعذب ماؤه والبحر بالملح الأجاج تمزقا يا جيل صحوتنا أعيذك أن أرى في الصف من بعد الإخاء تمزقا لك في كتاب الله فجرٌ صادقٌ فاتبع هداه ودعك ممن فرقا لك في رسولك أسوةٌ فهو الذي بالصدق والخلق الرفيع تخلقا يا جيل صحوتنا ستبقى شامخاً ولسوف تبقى باتباعك أسمقا وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الأسئلة

الأسئلة

حكم تعدد الجماعات الإسلامية

حكم تعدد الجماعات الإسلامية Q نظراً لوجود الجماعات في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وتعددها، فهذا من الأنصار وهذا من المهاجرين، وهذا من أهل الصفة، وهؤلاء أهل البيعة، ومع اختلاف الجماعات في أيامنا هذه وبعد الشق بينها وبين الجماعات الأولى التي كانت في أيام النبي صلى الله عليه وسلم، ما هو المنهج الذي ينبغي أن تسير عليه الجماعات الإسلامية في هذا العصر؟ A أيها الأحبة: أركز المنهج في نقاط محددة فأقول: تعلموا الإسلام بشموله وكماله، وافهموا الإسلام فهماً صحيحاً كما أراده لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نفهمه، ثم حولوا هذا الإسلام الذي فهمتموه بشموله وكماله في حياتكم وبيوتكم إلى منهج حياة، وإلى واقع، ثم تحركوا بهذا الإسلام بشموله وكماله إلى الدنيا كلها، وارفعوا عن العوام جهلهم، واربطوهم بالإسلام وبينوا لهم حقيقة الدين، فلقد آن دورك أيها الموحد وأيها العملاق الحنون؛ فقم بعد فهمك للإسلام بشموله، واعمل به في بيتك وبين إخوانك وبين أهلك وأحبابك، وقم بعد ذلك وضم العالم كله إن استطعت إلى صدرك، وأسمعه خفقات قلبك الذي وحد الله جل وعلا. قم ودثر العالم كله ببردتك ذات العبق المحمدي، قم واسق الدنيا كأس الفطرة لتروى بعد ظمأ، ولتحيا بعد موت، ولتهدى بعد ضلال، فمعك الحق والنور، اعرف هذا الحق، وحول هذا الحق في حياتك إلى منهج، وتحرك بهذا المنهج بعد ذلك إلى الآخرين. ابذل على قدر استطاعتك لدين الله، وعلى قدر ما منَّ الله به عليك من طاقات. يا إخوة! ذكرت أننا لا نريد أن تتحول الأمة كلها إلى دعاة على المنصات أو على المنابر، بل إننا نحتاج أن تتحول الأمة كلها إلى دعاة لدين الله كل من موقع إنتاجه، وموطن عطائه ومسئوليته، نريد الآن الكوادر الإسلامية المتخصصة التي تكون قادرة على تسيير شئون الحياة كلها من منظور الإسلام. أريد الطبيب المسلم الذي يجسد الإسلام في موطن عمله، والمهندس المسلم الذي يحول الإسلام إلى واقع على أرض عطائه وإنتاجه، وكذا أريد المدرس المسلم، والمرأة المسلمة، أريد الكوادر الإسلامية المتخصصة التي تخدم دين الله في كل مكان، وهناك الدعاة لهم دورهم ولهم وظيفتهم، أما أن نعتقد أنا نريد أن تتحول الأمة كلها إلى دعاة وخطباء ووعاظ، فلا. كان هناك خالد بن الوليد اذهب يا خالد وادع الناس في اليمن، لا. لا يقدر، ليست وظيفته هذه، بل اذهب أنت يا معاذ على اليمن، وأنت يا خالد أمْسِك السيف، فأنت سيف من سيوف الله سله الله على أعدائه حسناً وأبي بن كعب؟ لا. أتركه في القرآن يعلم الأمة القرآن، وعبد الله بن مسعود؟ علم القرآن، وحذيفة؟ احفظ أحاديث الفتن، وتعرف على الشر، وزيد تعلم الفروض والفرائض كل له دوره. وهذا هو الذي أظهر لنا عظمة أصحاب النبي، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد اختار الرجل المناسب فوضعه في المكان الذي يتناسب مع قدراته وكفاءاته وعطاءاته؛ فبذل كل واحد في الموطن الذي يناسبه أقصى ما عنده من طاقة لدين الله عز وجل، فبرع وأبدع وأفاد واستفاد. تدبروا معي هذه الرسالة المباركة التي يرسل بها أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى أبي عبيدة بن الجراح على جبهة الشام، والجيوش على جبهة الشام بدأت تتخلخل، فأمر خالد بن الوليد أن يذهب بسرعة إلى أبي عبيدة بن الجراح، وأن يتولى القيادة العامة على جبهة الشام، وخالد بن الوليد سيف الله، ترياق الوساوس والشياطين، ويكتب رسالة، وانتبه لهذه الرسالة الجميلة الرقيقة، يقول أبو بكر الصديق: [بسم الله الرحمن الرحيم من خليفة رسول الله إلى أخيه أبي عبيدة بن الجراح، سلام الله عليك وبعد، فإني قد وليت خالد بن الوليد قيادة الجبهة في بلاد الشام، فاسمع له وأطع، ووالله ما وليته القيادة إلا لأني ظننت أن له فطنة في الحرب ليست لك، وأنت عندي خير منه]. هنا التجرد، هنا العمل للدين بحق، وبصدق، وبرجولة، خالد رجل الساعة اذهب يا خالد فـ أبو عبيدة أمين الأمة تأخر الآن. المكان لـ خالد، إذاً: يبرز خالد. ونأتي لتعلم القرآن فنقول: لا. تأخر يا خالد، وتقدم أنت يا بن مسعود كفاءات قدرات فليس كل الأمة نريد أن نحولها إلى وعاظ على المنصات، لا. فمن يصنع؟ ومن يتاجر؟ ومن يرزع؟ ومن يبدع؟ نريد كل الطاقات التي في الأمة أن تتفجر على هذا الأساس. أنا أقول: وجود الجماعات التي في الساحة من أكبر النعم لو كان الاختلاف بينها اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، لو كان الخلاف الموجود الآن بين الجماعات التي تعمل للإسلام اختلاف تنوع، أي: هذه تجيد التنظيم، وهذه جماعة تجيد الحركة والتحرك لتبليغ الدعوة، وهذه جماعة تجيد التمحيص والتحقيق للروايات والتصفية والتربية، وهذه جماعة تجيد تحريك روح الجهاد في قلوب الأمة، وأنا أقف وأبدأ من حيث انتهى إخواني، وأبني من حيث بنى الآخرون لتتظافر الجهود، لا آتي وأهدم ما بنيت أنت. إذاً: الخلاف هنا اختلاف تنوع يثري العمل الإسلامي، ويثري الحركة كلها، وحينئذٍ ليس هناك مشكلة في المسميات، ولا مشاحة في الاصطلاح؛ لأن المسميات هذه كانت موجودة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، كان هناك المهاجرون والأنصار، وأهل الصفة، وأهل بيعة الرضوان، لكن متى أنكر النبي أن توجد هذه المسميات؟ عندما تحولت إلى نعرات كما هو الواقع حينما تحولت إلى نعرة فقال: (دعوها فإنها منتنة) مجرد مسميات، والكل يعمل تحت لواء: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} [الحج:78]. إذاً: التنوع إثراء للحركة كلها، ولكن الواقع يقول غير هذا؛ فالاختلاف الآن اختلاف تضاد، أنا الذي أقعد على المنصة، وأنت تتأخر ومن أنت لتقول ومن أنت ليرجع إليك؟ إنه مرض في القلب. مرضان خطيران يا إخوة: الجهل والهوى، الهوى ملك ظلوم غشوم يصم الآذان عن سماع الحق، ويعمي الأبصار عن رؤية الدليل، فشيخي الذي أتلقى العلم على يديه هو الأوسع علماً، والأبلغ حجة، والأقوى بياناً، والأعظم دليلاً، والأسطع برهاناً، وجماعتي هي جماعة المسلمين، وما عداها من الجماعات فليست من جماعة المسلمين، قال الله تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} [يونس:32] ما شاء الله!! هذا هو الاستشهاد بالأدلة؟!! لا يليق هذا أبداًَ، فلو كان الاختلاف الآن اختلاف تنوع لأثرى هذا العمل كل على قدر استطاعته لخدمة الحركة الإسلامية، فنريد أن تتضافر الطاقات والجهود، ولو أن كل مسلم حمل هم الدين في قلبه، وفكر وهو نائم في الدين، وفي الدعوة: أعمل ماذا؟ وكيف أفكر؟ وكيف أخطط؟ وكيف أستغل المال؟ وكيف أستغل الزوجة؟ وكيف أستغل الولد؟ وكيف أستغل الكرسي؟ وكيف أستغل الوظيفة؟ وكيف أستغل كل طاقة منَّ الله بها علي في دين الله لتلتقي الجهود وتتضافر في وقت استغلت فيه كل الطاقات للباطل وللكفر. إذاً: كلنا نفهم الإسلام بكماله وشموله، فلنعمل نحن بالإسلام؛ لأن مسألة أننا: إن شاء الله نكون (كنيفاً ملئ علماً) دون أن نحول هذا العلم إلى واقع، ليس له حاجة أبداً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2]. نحن لا نطلب العلم على أساس أن طلب العلم غاية يا إخوة، لا. نحن نقول: إن طلب العلم وسيلة لغاية: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] ليس مسألة أننا نأتي بالشباب احفظ كذا واحفظ كذا واحفظ كذا، وفي النهاية لا نجد شيئاً على أرض الواقع أخلاق بعيدة عن العلم الذي تعلمه، ومعاملات سيئة إلا من رحم ربك، ليس هذا هو الهدف، وليست هذه هي الغاية. يقول علي: [يا حملة العلم! اعملوا به، فإن العالم من علم ثم عمل، ووافق علمه عمله، وسيأتي أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم، يخالف علمهم عملهم، وتخالف سريرتهم علانيتهم، يقعدون حلقاً، يباهي بعضهم بعضاً، حتى إن أحدهم ليغضب على جليسه إن تركه وجلس إلى غيره، أولئك لا ترفع أعمالهم إلى الله عز وجل]. القضية ليست قضية تحصيل وهي الغاية، بل إنها وسيلة لغاية، لا خير في علم لم يورثك الخشية، ولا بركة في علم لم يقربك إلى الله، ولا نفع في علم لم يملء قلبك ذلاً ورهبة لله، إن العالم إذا لم يعمل بعلمه زلت موعظته عن القلوب، كما يزل القطر عن الصفا، وكم من مذكر بالله وهو ناسٍ لله، وكم من مخوف من الله وهو جريء على الله، وكم من مقرب إلى الله وهو بعيد عن الله، وكم من تالٍ لكتاب الله وهو منسلخ عن آيات الله. إذاً: نعلم ونتعلم ونفهم ونعمل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2 - 3] {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44]. أسأل الله تبارك وتعالى أن يرزقني وإياكم الصدق. ثم بعد ذلك نحول هذا العمل إلى دعوة، فأنا أدعو بلساني، وأنت تدعو بمالك، وهذا يدعو من خلال وظيفته، وهذا يدعو بأولاده، وهذا يدعو بكتاب، وهذا يدعو بشريط، وهذا يدعو بهدية، وهذا يدعو بزيارة، وهذا يدعو بحضور محاضرة، وهذا يدعو بلصق إعلان. الطاقات موجودة لكن نريد العمل، هذا دورك أيها المسلم ودور الأخت المسلمة، فقد آن الأوان لتبذل كل الجهود، ولتجيش الأمة كل الطاقات. ثم بعد ذلك أيها الأحبة أقول: لا تتعجلوا لا تتعجلوا، من تعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه، أتأتي

مضمون الدعوة السلفية

مضمون الدعوة السلفية Q هل من دعوة للشباب إلى الدعوة السلفية؟ A السلفية ليست جماعة، وليست حزباً ضيقاً، وفي الوقت ذاته ليست دروشة، السلفية تُظلم كثيراً ممن يظنون أنهم سلفيون، كلام أقوله بمنتهى الصراحة والوضوح وبعلو الصوت، السلفية تيار نوراني ممتد على رأسه المصطفى، ومن خلفه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود ومعاذ وأبي وأصحابه، ومن خلف هؤلاء التابعون، ومن خلف هؤلاء تابعو التابعين، ويتبع هؤلاء كل من سار على دربهم واقتفى أثرهم إلى يوم القيامة. ومن ثم ومن هذا المنطلق فـ السلفية ليست حكراً على أحد، وليست من حق أحد دون أحد، إنما كل مسلم يقرأ القرآن، ويقرأ سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ويبحث عن فهم القرآن والسنة بفهم أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، ومالك، والشافعي، وأحمد، وأبي حنيفة، والأوزاعي، والثوري، فهؤلاء هم سلف الأمة، من الذي ينكر هذا ويرد هذا؟ من الذي يقول: أنا لا أريد أن أفهم القرآن بفهم ابن مسعود الذي قال: [ما من آية من كتاب الله نزلت إلا وأنا أعلم أين نزلت، ومتى نزلت، وفيما نزلت، ولو أعلم أن أحداً من أهل الأرض أعلم مني بكتاب الله تبلغه المطايا لركبت إليه] من يكره بعد هذا ألا يفهم القرآن بفهم هذا العملاق القرآني؟ هذا عبد الله بن مسعود، من من إخواننا في الإخوان يكره هذا؟ ومن في التبليغ يكره هذا؟ أو في الجماعة الإسلامية يكره هذا؟ أو في السلفيين يكره هذا؟ في أي فصيلة من الفصائل من يقول بغير هذا؟ ونحن لا نريد بهذا أن نقطع الطريق ونقول: حده إلى الصحابي، لا. أبداً، الخير ممتد إلى قيام الساعة: (لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي نصر الله وهم ظاهرون على الناس) أبواب الاجتهاد ما أغلقت ولن تغلق إلى قيام الساعة، ويبقى علماء على الخط والطريق، فكل من اقتفى أثر الصحابة والتابعين ومن سار على دربهم فهو منتسب إلى السلف، وكل من عاش مع السلف ولم يقتفِ أثرهم، ولم يسر على دربهم فلا ينتسب لا من قريب ولا من بعيد إلى السلف. فكم من أناس عاشوا معهم وليسوا منهم، وكم من أناس لم يعيشوا معهم وهم منهم، لابد أن نفهم هذا الفهم أيها الأخيار الكرام حتى لا تثور من آن إلى آخر مثل هذه النعرات، جماعتنا جماعة المسلمين، بل: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} [الحج:78]. وأنا أوالي كل مسلم على ظهر الأرض يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، على قدر قربه وبعده من منهج الله جل وعلا، نريد أن نفهم هذا الفهم لتلتقي الصفوف وتلتقي القلوب. أما: أنا سلفي وأنت إخواني، أو أنا إخواني وأنت سلفي، بمجرد أني لا أنتمي إلى جماعتك وأنت لا تنتمي إلى جماعتي فلن ألقي عليك السلام، ولا أعترف لك ألبتة بأي مساحة أرضية ألتقي فيها معك أو تلتقي فيها معي، فهذا ظلم مزق الشمل وشتت الصف. أنا أحب كل مسلم على ظهر الأرض يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله على قدر قربه أو بعده من المنهج، محال أن يكون ولائي لرجل تقي نقي من أهل السنة والجماعة يعمل لله كحبي لرجل مسلم بسيط متكاسل، يصلي فرضاً ويدع فروضاً، لا. أنا أحب هذا لإسلامه لكن محال أن أسوي بين هذا وذاك، فولائي لكل مسلم يوحد الله ويؤمن برسول الله على قدر قربه أو بعده من منهج الله جل وعلا، هذا هو الإنصاف، بل ولو زل مسلم بكبيرة لا أكفره، ولا أخرجه من الملة، بل لقد أقيمت الحدود على أصحاب رسول الله منهم من زنى، ومنهم من شرب الخمر، بل ويوم أن سب صحابي هذا الشارب للخمر ما قَبِل الرسول، وقال: (لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم) وفي لفظ قال: (والله ما أعلم إلا أنه يحب الله ورسوله) وهو شارب للخمر!! لأنه ما خرج بكبيرته من الدين ولا من الملة أبداً. يوالى على قدر طاعته، ويعادى على قدر معصيته، الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، والبراء من الشرك والمشركين، هذه مفاهيم لابد أن ترسخ وتستقر في القلوب والأذهان. أيها الأحبة: في هذه المرحلة الحرجة لابد أن تلتقي الصفوف والقلوب على كتاب الله وعلى سنة رسول الله، إذ أننا نلتقي على أصول كبيرة جداً وكثيرة جداً، وهذا الخلاف في أمور فرعية، أو حتى يا أخي لو خالفتك في أمر عقدي -وأنا أعي ما أقول جيداً- ولا أقول في أمر منهجي، فمن سيصحح لي خطئي إن ابتعدت أنت وانصرفت عني؟! أنا على خطأ عقدي، تعال اقترب مني، حقي عليك النصيحة، لا تصعد على منبرك اليوم الثاني وتقول: فلان الفلاني عنده خطأ في العقيدة، وعنده خلل وعنده وعنده حسناً تعال، هل جربت هذا؟! هل اقتربت مني وذبت معي في بوتقة الحب في الله، ووجهت إليَّ النصيحة بحكمة ورحمة وتواضع؟ هل أشعرتني أنك مخلص في نصحك لي؟ هل أشعرتني أن قلبك يحترق على خطئي العقدي؟ والله الذي لا إله غيره لو أشعرتني بذلك لذلل الله قلبي للحق الذي أجراه هو على لسانك، جربوا هذا يا إخوة، وهذا الكلام كله معروف واضح لا يحتاج إلى توضيح، وكله منصب في دائرة إخواننا في أهل السنة والجماعة، إنما ليس المراد بهذا إطلاقاً أنني أريدها وحدة كما ذكرت تجمع شتاتاً متناقضاً متناثراً على غير حق واتباع وهدى؛ لا! فإن تضميد الجراح على ما فيها من عفن وقذر ونتن لن يزيد الجراح إلا سقماً، لكن نخرج العفن والنتن وبعد ذلك نضمد الجراح، هذا هو الذي يبقي الوحدة والصف متميزاً إن شاء الله تعالى، وأسأل الله أن يؤلف بين قلوبنا وإياكم على الحق.

آه آه يا مسلمون!

آه آه يا مسلمون! في هذه المادة يتحدث الشيخ عن بعض مآسي المسلمين في العالم، والأوضاع المتردية التي تحياها الشعوب المسلمة، ومن تكالب الأعداء عليهم، واتفاق الخصوم فيما بينهم على عداوة الإسلام والمسلمين، متبعاً إياها بالحديث عن الموت وشيء من التذكير والوعظ.

غربة الدين وأهله

غربة الدين وأهله الحمد لله رب العالمين، نحمدك يا رب ونستغفرك ونستهديك، لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، جل ثناؤك وعظم جاهك ولا إله غيرك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الأول فلا شيء قبله، وهو الآخر فلا شيء بعده، وهو القاهر فلا شيء فوقه، وهو الباطن فلا شيء دونه، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصلِّ اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحيا الله هذه الوجوه المشرقة، وزكى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور: أحبائي يا ملء الفؤاد تحيةً تجوز إليكم كل سدٍ وعائقِ لقد شدني شوق إليكم مكللٌ بالحب والتقدير والدعاء المشفقِ وأرقني في المظلمات عليكم تكالب أعداء سعوا بالبوائقِ طلبتم رضا الرحمن قلباً وقالباً وما طلبوا إلا حقير المآزقِ فسدد الله على درب الحق خطاكمُ وجنبكم فيه خطير المزالقِِ طبتم جميعاً أيها الأطيار الأطهار، وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً، وحيى الله صاحبة النقاب والحجاب في عهد غربة الإسلام الثانية التي أخبر عنها الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، فاسمحوا لي أن أكرر هذه التحية إلى صانعة الأجيال ومربية الرجال، إلى من تربعت طيلة القرون الماضية على عرش حيائها، تهز المهد بيمينها، وتزلزل عروش الكفر بشمالها: يا درة حفظت في الأمس غاليةً واليوم يبغونها للهو واللعبِ يا حرة قد أرادوا جعلها أمة غريبة العقل أو غريبة النسبِ هل يستوي من رسول الله قائده دوماً وآخر هاديه أبو لهبِ وأين من كانت الزهراء أسوتها ممن تقفت خطا حمالة الحطبِ فلا تبالي بما يلقون من شبهٍ وعندكِ الشرع إن تدعيه يستجبِ سليه من أنا من أهلي لمن نسبي للغرب أم أنا للإسلام والعربِ لمن ولائي لمن حبي لمن عملي لله أم لدعاة الإثم والكذبِ وما مكاني في دنيا تغوث بنا في موضع الرأس أم في موضع الذنبِ هما سبيلان يا أختاه ما لهما من ثالثٍ فاكسبي خيراً أو اكتسبي سبيل ربك والقرآن منهجه نورٌ من الله لم يحجب ولم يغبِ فاستمسكي بعرى الإسلام واعتزي وصابري واصبري لله واحتسبي حياكِ الله يا صاحبة النقاب، حياكم الله يا أصحاب أوسمة السنة والشرف، يا أصحاب اللحى، حياكم الله جميعاً، وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يربط على قلوبكم، وأن يثبتنا وإياكم على الحق، وأن يشرفنا وإياكم بالعمل لهذا الدين، وأن يتقبل مني وإياكم صالح الأعمال، وأن يجمعني وإياكم في الدنيا دائماً وأبداً على طاعته، وفي الآخرة مع سيد الدعاة وإمام النبيين في جنته ومستقر رحمته، إنه ولي ذلك ومولاه وهو على كل شيءٍ قدير.

المستقبل لهذا الدين

المستقبل لهذا الدين أيها الأحبة في الله: تلبيةً لرغبة أحبابنا وإخواننا فإن حديثي الليلة مع أحبابي في الرقائق، وكم كنت أتمنى أن أعتذر عن الحديث في هذا الموضوع؛ لأنني أعلم يقيناً أنه لا يجيد الحديث عن الرقائق إلا أصحاب القلوب الحية، وأشهد الله أني لست منهم، كما كنت أتمنى أن يكون حديثنا في كل وقتٍ وفي كل مكان عن تصحيح بعض المفاهيم، وإيقاظ العقول والقلوبِ لهذه التحديات الخطيرة، ولهذه المؤامرات الكبيرة الرهيبة التي تحيط بأمتنا في الليل والنهار، والتي تحاك لهذا الدين، وتُحاك للمسلمين لاستئصال شأفتهم، وللقضاء على هذا الدين، ولكنني أقول بملء فمي: إن هذه المؤامرات، وإن هذه المكائد، التي تكاد لهذا الدين ولهذه الأمة في الليل والنهار، إنما هي إلى زوال، وإن أهلها إلى فناء، وسيبقى الإسلام شامخاً يناطح كواكب الجوزاء؛ لأنه دين رب الأرض والسماء. إن المستقبل يا شباب الصحوة لهذا الدين ورب الكعبة رغم كيد الكائدين، ولن تستطيع جميع الأفواه ولو اجتمعت أن تطفئ نور الله: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:8]. نعم. أقول بملء فمي: نامت الأمة بل وراحت في سباتٍ عميق، وأقول بملء فمي: مرضت واعتراها الركود إلى سنوات طويلة، ولكن الأمة بحمد الله لم تمت، ولن تموت بإذن الله جل وعلا. نعم. ما تجنيه الأمة اليوم من ثمار الحنظل المرة إنما هي نتيجةٌ لفترة رقادها الطويلة التي طالت وطالت، فسلبت أرضها، وسفكت دماؤها، وانتهك عرضها، وهانحن نرى الآن، وينطبق على الأمة الآن قول القائل الصادق: آه يا مسلمون متم قروناً والمحاق الأعمى يليه محاق أي شيءٍ في عالم الغاب نحن آدميون أم نعاج تساق نحن لحمٌ للوحش والطير منا الـ جثث الحمر والدم الدفاق وعلى المحصنات تبكي البواكي يا لعرض الإسلام كيف يراق سراييفو تباد والعالم كلـ ـه خسة وخيانةً ونفاق سراييفو من دولة المجد عثما ن أبوها والفاتح العملاق سراييفو من قلب مكة بالتو حيد يعلو لواءها الخفاق تركوها وحولها من كلاب الصـ ـرب طوقٌ من خلفه أطواق قدمتها الصلبان للصرب قربا ناً وللصرب كلهم عشاق فوالله لو فعلنا بالصرب ما فعلو هـ لرأينا مثل الذي رآه العراق انتهك عرضنا، وضاع شرفنا، ومسخت هويتنا، وراح عزنا، وزالت سيادتنا، وزعزع انتماؤنا يوم أن رقدت الأمة وطال رقادها، ونامت فطال سباتها؛ ولكنني أبشركم -أيها الأحباب- وأقول: إن أمة الإسلام قد مرضت واعترتها فترات من الركود الطويل، ولكنها بحمد الله تعالى ما ماتت ولم تمت ولن تموت بإذن الله مصداقاً لبشرى الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث معاوية: (لا تزال طائفة من أمتي قائمةً بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله، وهم ظاهرون على الناس) فأسأل الله جلا وعلا أن يشرفني وإياكم لأن نكون من أفراد هذه الطائفة؛ إنه ولي ذلك ومولاه وهو على كل شيءٍ قدير.

حياة القلوب وموتها

حياة القلوب وموتها إذاً: أيها الأحباب! إن حديثنا الليلة في الرقائق لا ينقسم عن هذه التحديات، فإننا لن نواجه هذه المؤامرات الموثورة إلا برجال، وإننا الآن نريد أن نربي هؤلاء الرجال، وهؤلاء الرجال لن نبدأ تربيتهم إلا بتصفيح وتصليح قلوبهم، فإن الحديث عن الرقائق ليس بمعزلٍ عن مجابهة هذه التحديات؛ لأننا نرى الآن من بين أبناء الأمة قلوباً صدئة علاها الران، نرى أصحاب هذه القلوب الآن مع أنهم يتكلمون بألسنتنا ويلبسون زينا إلا أنهم قد انطلقوا بدون أدنى خجلٍ أو وجلٍ يحاربون الله ويصدون عن سبيل الله جلا وعلا. فهؤلاء هل تعتقدون أنهم يحملون في صدورهم قلوباً تعرف ملك الملوك جل وعلا؟ هل يحملون في صدورهم قلوباً ترق إذا ذكر لله؟ وتبكي عيونهم إذا تلي كلام الله؟ وترق أفئدتهم إذا ذكِّروا بالله جل وعلا؟ وبيومٍ سيتركون فيه الجاه، والكراسي الزائلة، والمناصب الفانية، لا وزارة، ولا إمارة، ولا سيارة، ولا عمارة، ولا جاه، ولا منصب، وإنما سيقف هذا عارياً يبن يدي ملك الملوك، وجبار السماوات والأرض ليكلمه ربه جل وعلا دون ترجمان: (ما منكم من أحد إلا وسيكلمه ربه يوم القيامة ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة). هؤلاء نسوا يوماً سيعرضون فيه على الله، لماذا؟ لأن قلوبهم قد ماتت في أكفان صدورهم، كفنتها الصدور منذ زمن، إذا ذكِّروا بالله سخروا، وإذا ذكِّروا بحديث رسول الله استهزءوا، وصفوا النقاب بأنه خيمة، ووصفوا اللحية بأنها عفن، ووصفوا شريعة الله بأنها تخلف، هل تعتقدون أن هؤلاء وإن كانوا يتحركون بين الأحياء يحملون قلوباً حية تعرف ملك الملوك جل وعلا؟ لا والله. لا والله. إذاً: فالنقطة الأولى -أيها الأحباب- هي كما قال الحبيب: (ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) فلنفتش جميعاً في قلوبنا وعن قلوبنا. أين يقع قلبك أيها الحبيب؟! هل قلبك من القلوب الحية؟ هل قلبك من القلوب السليمة؟ هل قلبك من القلوب المريضة؟ هل قلبك من القلوب الميتة؟ سل نفسك أيها الحبيب فتعالوا بنا لنخاطب القلب والعقل معاً بهذه الحقيقة الكبيرة، فوالله ما ظلم الظالمون، وما جار المتجبرون، وما ظلم الطغاة المتكبرون إلا يوم أن غفلوا عن يومٍ سيعرضون فيه بين يدي ملك الملوك وجبار السماوات والأرض، إلا يوم أن اعتقد أنه إله مخلد، إلا يوم أن رن في أذنيه قول فرعون -وهؤلاء أتباع الفراعنة- كما قال الله تعالى: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] إلا يوم قال بلسان الحال: {يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51].

(وجاءت سكرة الموت بالحق)

(وجاءت سكرة الموت بالحق) فيا أيها الحبيب! أخاطب الجميع الآن، أخاطب الكبير والصغير، أخاطب الرجل والمرأة، أخاطب الشاب والفتاة، أخاطب كل مسلم بهذه الحقيقة التي غفل عنها كثيرٌ من الناس، والتي سماها الله في قرآنه (بالحق) فقال جل وعلا: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] والحق أنك تموت، والله حيٌ لا يموت: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق:19] والحق أن ترى عند موتك ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق:19] والحق أن قبرك روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النيران: {ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] ذلك ما كنت منه تهرب وتجري وتفر، تحيد إلى الطبيب إذا جاءك المرض، وإلى الطعام إذا أحسست بالجوع، وإلى الشراب إذا أحسست بالظمأ، ولكن ثم ماذا؟ أيها القوي الفتي، يا أيها الذكي العبقري! يا أيها الأمير! يا أيها الوزير! يا أيها الكبير! يا أيها الصغير! كل باكٍ فسيُبكى كل ناعٍ فسيُنعى كل مذخورٍ سيفنى كل مذكورٍ سينسى ليس غير الله يبقى من علا فالله أعلى يا من غرك جاهك! يا من غرتك وزارتك! يا من غرك كرسيك! يا من غرك منصبك! يا من غرك مالك! يا من غرك جندك! يا من غرتك قوتك! تذكر يوم أن تخرج من هذه الدنيا وقد انفض عنك الجمع، انفض عنك الجند والمال والأهل، انفض عنك الأحباب، فوقفت بين يدي الله جل وعلا ليسألك عن القليل والكثير، وعن الصغير والكبير. تذكر وقوفك يوم العرض عريانا مستوحشاً قلق الأحشاء حيرانا والنار تلهب من غيضٍ ومن حنقٍ على العصاة ورب العرش غضبانا اقرأ كتابك يا عبدي على مهلٍ فهل ترى فيه حرفاً غير ما كانا لما قرأت ولم تنكر قراءته أقررت إقرار من عرف الأشياء عرفانا قال الجليل خذوه خذوه هو الذي حارب الله وحارب سنة رسول الله، وحارب النقاب، وهو الذي أعلن الحرب على الحجاب، وحارب الأبرار، وحارب الأخيار، خذوه. قال الجليل خذوه يا ملائكتي وامضوا بعبدٍ عصى للنار عطشانا المشركون غداً في النار يلتهبوا والمؤمنون بدار الخلد سكانا {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] ذلك ما كنت منه تهرب:: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} [القيامة:26] من الذي يرقيه؟ من الذي يبذل له الرقية؟ ومن الذي يقدم له الطب والعلاج؟ من الذي يحول بينه وبين أمر الله جل وعلا؟! انظر إليه وهو على فراش الموت، وهو من هو؟ صاحب الجاه والوزارة والإمارة والملك، نام على فراش الموت، التف الأطباء من حول رأسه، ذلك يبذل له الرقية، وذلك يقدم له العلاج، فهم يريدون شيئاً، وملك الملوك يريد شيئاً آخر. انظر إليه وقد زحف الموت إليه، وقد اصفر وجهه، وشحب، وبردت أطرافه، وتجعد جلده، وبدأ يشعر بزمهريرٍ قارص يزحف إلى أنامل يديه وقدميه، يحاول جاهداً أن يحرك شفتيه بكلمة التوحيد، فيحس أن الشفة كالجبل لا تريد أن تتزحزح إلا لمن يسر الله له النطق بلا إله إلا الله، لأهل الإيمان، ولأهل التوحيد، ولأهل الاستقامة. في هذه السكرات ينظر فإذا وعى ما حوله في لحظة الصحوات بين السكرات والكربات، ينظر فيرى ملائكة من بعيد تقترب يفرح أهذه ملائكة الرحمة، أم ملائكة العذاب؟ يا ترى أهذا الذي جالسٌ عند رأسي الآن من هو؟ إنه ملك الموت، يا ترى ماذا سيقول لي؟ هل سيقول لي: يا أيتها الروح الطيبة! اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان وربٍ راضٍ غير غضبان، أم سيقول لي: يا أيتها الروح الخبيثة! اخرجي إلى سخطٍ من الله وعذاب؟ فإذا نظر إلى أهله وأولاده وأحبابه ووعاهم نظر إليهم نظرة استعطاف ورجاء وأمل، وهو يقول بلسان الحال بل بلسان المقال: يا أحبابي! يا إخواني! يا أولادي! لا تتركوني وحدي، ولا تفردوني في لحدي، أنا أبوكم، أنا أخوكم، أنا كبيركم، أنا الذي بنيت لكم القصور، وعمرت لكم الدور، أنا الذي كان يقف الناس بين يدي، وكان يركع الناس بين يدي، لا تتركوني وحدي، ولا تفردوني في لحدي، أفدوني بأعماركم وبأموالكم، من منكم يزيد في عمري ساعة أو ساعتين، فهنا يعلو صوت الحق: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:83 - 96]. سفري بعيدٌ وزادي لن يبلغني وقوتي ضعفت والموت يطلبني ولي بقايا ذنوبٍ لست أعلمها الله يعلمها في السر والعلنِ أنا الذي أغلق الأبواب مجتهداً على المعاصي وعين الله تنظرني ما أحلم الله عني حيث أمهلني وقد تماديت في ذنبي ويسترني كأنني وحولي من ينوح ومن يبكي عليَّ وينعاني ويندبني وقد أتوا بطبيبٍ كي يعالجني ولم أرَ الطب هذا اليوم ينفعني واشتد نزعي وصار الموت يجذبها من كل عرقٍ بلا رفقٍِ ولا هونِ كأنني بين تلك الأهل منطرحاً على الفراش وأيديهم تقلبني وقام من كان أغلى الناس في عجلٍ نحو المغسل يأتيني يغسلني فجاءني رجلٌ منهم فجردني من الثياب وأعراني وأفردني وغادروني على الألواح منطرحاً وصار فوقي خرير الماء ينظفني وأسكب الماء من فوقي وغسلني غسلاً ثلاثاً ونادى القوم بالكفنِ وحملوني على الأكتاف أربعةً من الرجال وخلفي من يشيعني فقدموني إلى المحراب وانصرفوا خلف الإمام فصلى ثم ودعني صلوا عليَّ صلاةً لا ركوع لها ولا سجود لعل الله يرحمني وأنزلوني إلى قبري على مهلٍ وقدموا واحداً منهم يلحدني فكشف الثوب عن وجهي لينظرني فأسكب الدمع من عينيه أغرقني وقال هلوا عليه الترب يا مسكين! يا من ضحك الناس عليك! يا من نفخك الناس نفخاً! يا من غرك الناس غروراً! يا مسكين! رجعوا وتركوك، يا مسكين! في التراب وضعوك، يا مسكين! للحساب عرضوك، يا مسكين! والله لو ظلوا معك ما نفعوك، فلم يبق لك إلا عملك مع رحمة الحي الذي لا يموت. وقال هلوا عليه الترب واغتنموا حسن الثواب من الرحمن ذي المننِ يا نفس! ويحك توبي! اتق الله، اتق الله ولا تحارب الله ورسوله، ولا تحارب الأطهار، ولا تحارب الأخيار. يا نفس ويحك توبي واعملي حسناً عساك تجزين بعد الموت بالحسنِ وامنن علي بعفوٍ منك يا أملي فأنت الرحمن ذو المننِ : {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [المدثر:27] من يرقيه؟ من يبذل له الرقية؟ من يقدم له العلاج؟ من يحول بينه وبين ما وقع به؟ {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [المدثر:27] من يرتقي بروحه إلى السماء؟ تفسيرٌ آخر من يحمل روحه ويرتقي بها إلى الله جل وعلا؟ أي: من الملائكة التي نزلت لتشيع هذه الروح بعد معالجة ملك الموت لها.

الحقيقة الكبرى

الحقيقة الكبرى قال تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] إنها الحقيقة الكبرى التي تصبغ الحياة البشرية بصبغة الذل والعبودية لقهار السماوات والأرض. إنها الحقيقة الكبرى التي تُعلن على مدى الزمان والمكان، في أذن كل حاكم، وكل أديب، وكل مفكر، وكل سامع، أنه لا بقاء إلا للحي الذي لا يموت. إنها الحقيقة التي تسربل بها طوعاً أو كرهاً العصاة والطائعون. إنها الحقيقة التي شهد كأسها الأنبياء والمرسلون. إنها الحقيقة التي تصبغ الحياة البشرية كلها بصبغة الذل والعبودية للحي الذي لا يموت جل وعلا. أيها الحبيب الكريم: إنها الحقيقة التي أمرنا الحبيب بالإكثار من ذكرها: (أكثروا من ذكر هادم اللذات، قيل: وما هادم اللذات يا رسول الله؟! قال: الموت) والحديث رواه بعض أصحاب السنن من حديث عمر بن الخطاب، وهو حديثٌ حسن. تذكر يا نفس قد أزف الرحيل وأظلك الخطب الجليلُ فتأهبي يا نفس لا يلعب بك الأمل الطويلُ فلتنزلن بمنزلٍ ينسى الخليل به الخليلُ وليركبن عليك فيه من الثرى ثقلٌ ثقيلُ قرن الفناء بنا فما يبقى العزيز ولا الذليلُ لقي الفضيل بن عياض رجلاً فسأله الفضيل عن عمره، قال الفضيل: كم عمرك؟ قال الرجل: ستين سنة، قال الفضيل: إذاً أنت منذ ستين سنة تسير إلى الله توشك أن تصل، فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون، قال الفضيل: هل عرفت معناها؟ قال: نعم عرفت أني لله عبدٌ وأني إليه راجع، قال الفضيل: يا أخي! إن من عرف أنه لله عبدٌ وأنه إليه راجع، عرف أنه موقوفٌ بين يديه، ومن عرف أنه موقوفٌ عرف أنه مسئول، ومن عرف أنه مسئول فليعد للسؤال جواباً، فبكى الرجل وقال: يا فضيل! وما الحيلة؟ قال الفضيل: يسيرة، قال: وما هي يرحمك الله؟ قال: أن تتقي الله فيما بقي يغفر الله لك ما قد مضى.

رسالة إلى أصحاب الكراسي والأقلام

رسالة إلى أصحاب الكراسي والأقلام إلى أصحاب الكراسي، إلى أصحاب الأقلام، إلى أصحاب صفحات الصحف والمجلات أيا من يدعي الفهم إلى كم يا أخا الوهم تعبي الذنب بالذم وتخطي الخطأ الجم أما بان لك العيب أما أنذرك الشيب وما في نصحه ريب ولا سمعك قد صم أما نادى بك الموت أما أسمعك الصوت أما تخشى من الفوت فتحتاط وتهتم فكم تسدر في السهو وتختال من الزهو وتنصب إلى اللهو كأن الموت ما عم كأني بك تنحط إلى اللحد وتنغط وقد أسلمك الرهط إلى أضيق من سم هناك الجسم ممدود ليستأكله الدود إلى أن ينخر العود ويمسي العظم قد رم وزود نفسك الخير ودع ما يعقب الضير وهيئ مركب السير وخف من لجة اليم بذا أوصيت يا صاح وقد بحت كمن باح فطوبى لفتىً راح بآدابيَ يأتم وصدق الله إذ يقول: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:26 - 30]. ويفتح سجله، ويفتح ملفه، ويفتح كتابه وإذا به: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة:31 - 32].

مواقف البعث والنشور

مواقف البعث والنشور : {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ} [ق:19 - 20] لا بد من استقرار هذه الحقيقة في النفس، يموت الصالحون والطالحون، يموت الظالمون والمظلومون، يموت المجاهدون والقاعدون، يموت المستعلون بالعقيدة والمستذلون للعبيد، يموت المخلصون الصادقون، الرجال الذين يأبون الضيم والذل، والجبناء الحريصون على الحياة بأي ثمن، يموت أصحاب الاهتمامات الكبيرة والأهداف الراقية العالية، والفارغون التافهون الذين لا يعيشون فقط إلا من أجل شهواتهم ونزواتهم، ومن أجل متعهم الرخيصة: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185]. : {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ} [ق:19 - 20]. ليت الأمر توقف عند الموت، لكن كلا. من علم أن الموت موعده، والقيامة مورده، والوقوف بين يدي الله مشهده، فحق له أن يطول بالدنيا حزنه. من النافخ؟ إسرافيل، ويأمره الله جل وعلا أن ينفخ نفخة الفزع: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} [النمل:87] فيأمره أن ينفخ نفخة ثانية: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الزمر:68] أي: فمات، وحينئذٍ إذا أمر الله إسرافيل بالنفخ في الصور نفخة الصعق، ومات كل حيٍ على ظهر هذه الأرض، بل وأمر الله بموت الملائكة جميعاً يسود صمتٌ رهيب، يشق هذا الصمت صوت جليل مهيب، يسأل صاحب الصوت ويجيب، فما من سائل يومئذٍ غيره ولا مجيب، كما في الصحيحين: (إذا مات كل حي ينطق الحق جل وعلا، ويقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟! أين المتكبرون؟! أين الجبارون؟!) وفي رواية مسلم: (يقول الحق جل وعلا: لمن الملك اليوم؟ فيجيب على ذاته ويقول: {الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16]). أين الظالمون؟ وأين التابعون لهم في الغي؟ بل أين فرعون وهامان؟! أين من دوخوا الدنيا بسطوتهم وذكرهم في الورى ظلماً وطغيان هل أبقى الموت عزٍ لعزته أو هل نجا منه بالسلطان إنسان لا والذي خلق الأكوان من عدمٍ الكل يفنى فلا إنس ولا جان أنا الملك {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16] {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الزمر:67] ثم يُؤمر إسرافيل بالنفخة الثالثة ألا وهي: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68] قيامٌ انظر إلى هذا المشهد، فوالله أنه من أرهب مشاهد القيامة، يوم ترى الأرض كلها تتشقق هنا وهناك، ليخرج الناس جميعاً من لدن آدم عليه السلام إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ليخرج الناس من قبورهم حفاةً عراةً مرتاعين: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْأِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:1 - 8]. أيها الحبيب: يخرج الناس جميعاً ممتدة رقابهم، شاخصة أبصارهم، يستجيبون لهذا الداعي الذي جاء ليقودهم إلى أرض المحشر، ليرى العبد نفسه واقفاً بشخصه ولحمه عارياً بين يدي ربه جل وعلا، ليعطى صحيفته، هذه الصحيفة التي لا تغادر بلية كتمتها، هذه الصحيفة التي لا تغادر مخبأة أسررتها، فكم من معصية قد كنت نسيتها ذكرك الله إياها، وكم من مصيبة قد كنت أخفيتها أظهرها الله لك وأبداها.

تكليم الله للعبد وأخذ الكتاب باليمين أو بالشمال

تكليم الله للعبد وأخذ الكتاب باليمين أو بالشمال انتبه أيها الحبيب! سينادى عليك في هذا المشهد الرهيب، في يوم الفضائح، ويوم القيامة والزلزلة والحسرة، في يوم الحاقة والقارعة: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} [آل عمران:30] مثل لنفسك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمور إذ كورت شمس النهار وأدنيت حتى على رأس العباد تسير وإذا النجوم تساقطت وتناثرت وتبدلت بعد الضياء كدور وإذا الجبال تقلعت بأصولها فرأيتها مثل السحاب تسير وإذا البحار تفجرت نيرانها فرأيتها مثل الجحيم تفور وإذا الوحوش لدى القيامة أحضرت وتقول للأملاك: أين نسير وإذا العشار تعطلت وتخربت خلت الديار فما بها معمور وإذا الجليل طوى السما بيمينه طي السجل كتابه المنشور وإذا الصحائف نشِّرت وتطايرت وتهتكت للعالمين ستور وإذا الجنين بأمه متعلقٌ يخشى القصاص وقلبه مذعور هذا بلا ذنبٍ يخاف جنايةً كيف المصر على الذنوب دهور وإذا الجحيم تسعرت نيرانها فلها على أهل الذنوب زفير وإذا الجنان تزخرفت وتطيبت لفتىً على طول البلاء صبور ينادى عليك باسمك لترى نفسك بين يدي الله بدون متكلمٍ أو ترجمان، كما في حديث عدي بن حاتم وهو مخرج في الصحيحين: (ما منكم من أحد إلا وسيكلمه ربه يوم القيامة، ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة). إن كنت من المؤمنين الموحدين قربك الله جل وعلا منه، كما في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال: (يُدنى المؤمن من ربه يوم القيامة حتى يضع رب العزة عليه كنفه) والكنف لغة لا تأويلاً للصفة: هو الستر والرحمة، فلا تؤولوا صفة ولا تعدوها: (حتى يضع رب العزة عليه كنفه، ويقرره بذنوبه) هذا العبد المؤمن، يقرره الله بذنوبه ويقول له: (أنت عملت كذا يوم كذا، وعملت كذا يوم كذا، فيقول المؤمن: ربِ أعرف! ربِ أعرف! فيقول الله جل وعلا: ولكني سترتها عليك في الدنيا وأغفرها لك اليوم) اللهم اجعلنا من هؤلاء. ويعطيك الله كتابك بيمينك، وتنطلق ينير وجهك، ويشرق النور من على يمينك، ومن بين يديك: {يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم:8]. أهل الأنوار إذا أعطاه الله الكتاب بيمينه انطلق في أرض المحشر وقد أشرقت أعضاؤه وأنار وجهه، ينطلق إلى أحبابه وإخوانه وإلى من هم على شاكلته ليبشرهم، فلقد سعد سعادة لن يشقى بعدها أبداً، وفاز فوزاً لن يخيب بعده أبداً، ينطلق في أرض المحشر وكتابه بيمينه، ويقول لأحبابه ولإخوانه ولخلانه: هيا اقرءوا معي كتابي، انظروا هذا توحيدي وصلاتي وزكاتي وحجي ودعوتي وصبري على الابتلاء واحتسابي، وهذا ديني: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:19 - 24]. وإن كانت الأخرى -والعياذ بالله- أعطاه الله كتابه بشماله أو من وراء ظهره، واسود وجهه، وكسي من سرابيل القطران، وقيل له: انطلق إلى أمك الهاوية، فينطلق في أرض المحشر وكتابه بشماله، وقد اسود وجهه، ويقول كما قال الله حكاية عن هذا الصنف الخبيث: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} [الحاقة:25 - 37] نسأل الله أن يسترنا وإياكم يوم العرض، وتحت الأرض، وفوق الأرض، إنه ولي ذلك ومولاه.

حقارة الدنيا

حقارة الدنيا أيها الحبيب الكريم: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ} [ق:20] (يُؤتى بأنعم رجلٍ في الدنيا، ويغمسه الله غمسة واحدة في جهنم، ويقول له: هل رأيت نعيماً قط؟ فيقول: لا وعزتك ما رأيت نعيماً قط، ويؤتى بأتعس رجل من أهل الدنيا -ولكنه يوم القيامة من أهل الجنة- فيغمسه الله غمسة واحدة في جنات النعيم ويقول له: هل رأيت بؤساً قط؟) تذكر الآلام والمحن والفتن والاتهامات والابتلاءات والأذى: (هل رأيت بؤساً قط؟! فيقول: لا وعزتك ما رأيت بؤساً قط) أنساه نعيم الجنة كل بؤسٍ وشقاء، كما أن الأول أنساه جحيم جهنم كل نعيمٍ في الدنيا. أيها الحبيب: إن الدنيا قصيرة، مهما طالت فهي قصيرة، ومهما عظمت فهي حقيرة؛ لأن الليل مهما طال لا بد من طلوع الفجر، ولأن العمر مهما طال لا بد من دخول القبر، وأريد أن أبشركم أيها الشباب! أيها الأطهار! أيها الأخيار! يا من عضضتم بالنواجذ على دينكم، في وقتٍ تكال لكم فيه الضربات كيلاً، وتصب على رءوسكم المحن صباً! اعلموا أن سلعة الله غالية: (ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة) {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214].

هل من مشمر للجنة؟

هل من مشمر للجنة؟ أيها الشاب الحبيب: يا من ابتليت في عرضك! يا من ابتليت في رزقك! يا من ابتليت في عملك! يا من ابتليت في دينك! اصبر فورب الكعبة ما هي إلا أيام وستجد نفسك بين يدي الله جل وعلا، فإن الدنيا مهما طالت فهي قصيرة، وإن دنياكم دار ممر، وإن أخراكم هي دار المقر، فخذوا من ممركم لمقركم، ولا تفضحوا أستاركم عند من يعلم أسراركم. أيها الحبيب: اصبر فإن سلعة الله هي الجنة، وما أدراكم ما الجنة؟ في الجنة: (ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر) ورد في سنن ابن ماجة وصحيح ابن حبان، وفي إسناد الحديث سليمان بن موسى مختلفٌ فيه، وبقية رجال الإسناد ثقات من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه، أنه صلى الله عليه وسلم وصف الجنة يوماً لأصحابه، فقال الحبيب صلى الله عليه وسلم: (هي ورب الكعبة نور يتلألأ، وريحانة تهتز، وقصرٌ مشيد، ونهرٌ مضطرد، وفاكهة كثيرة نضيجة، وزوجةٌ حسناء جميلة، ثم قال الحبيب: ألا من مشمرٍ للجنة؟ فقال الصحابة: نحن المشمرون لها يا رسول الله! فقال لهم: قولوا: إن شاء الله عز وجل) أسأل الله أن يمتعني وإياكم بالنظر إلى وجهه الكريم. أيها الحبيب الكريم النفس تبكي على الدنيا وقد علمت أن السلامة فيها ترك ما فيها لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبنيها فإن بناها بخيرٍ طاب مسكنه وإن بناها بشرٍ خاب بانيها أموالنا لذوي الميراث نجمعها ودورنا لخراب الدهر نبنيها وكم من مدائن في الآفاق قد بنيت أمست خراباً وأفنى الموت أهليها أين الملوك التي كانت مسلطنةً حتى سقاها بكأس الموت ساقيها إن المكارم أخلاقٌ مطهرةٌ الدين أولها والعقل ثانيها والعلم ثالثها والحلم رابعها والجود خامسها والفضل باقيها لا تركنن إلى الدنيا وزخرفها فالموت لا شك يفنينا ويفنيها واعمل لدار غدٍ رضوان خازنها والجار أحمد والرحمن بانيها قصورها ذهبٌ والمسك طينتها والزعفران حشيشٌ نابتٌ فيها أنهارها لبنٌ مصفى ومن عسلٍ والخمر يجري رحيقاً في مجاريها والطير تجري على الأغصان عاكفة تسبح الله جهراً في مغانيها من يشتري الدار في الفردوس يعمرها بركعة في ظلام الليل يحييها أيها الحبيب الكريم: اعلم بأن نعيم الجنة الحقيقي ليس في لبنها، ولا في خمرها، ولا في حورها، ولا في قصورها، ولا في ذهبها، ولكن نعيم الجنة الحقيقي في التمتع بالنظر إلى وجه ربها: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23] وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أهل الجنة الجنة، قال الله تعالى: يا أهل الجنة! فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، والخير بين يديك، فيقول ربنا جل وعلا: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى -وفي لفظ مسلم: ألم تدخلنا الجنة؟ ألم تنجنا من النار؟ ألم تبيض وجوهنا- فيقول الله جل وعلا: أفلا أعطيكم أفضل من ذلك؟! فيقول أهل الجنة: وأي شيءٍ أفضل من ذلك؟! فيقول الله جل وعلا: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً -وفي لفظ مسلم: فيكشف الله الحجاب بينه وبينهم فما أُعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى وجه الله جل وعلا، ثم تلا النبي قول الله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]) والحسنى: هي دخول الجنة، والزيادة: هي التمتع بالنظر إلى وجه الله جل وعلا في الجنة. أيها الحبيب: هل ستموت؟ إنك تعلم يقيناً بأنك ميت، وتعلم أن الموت نهاية كل حيٍ وإن تعددت الأسباب، فلم الجبن والكسل والخوف والتواني عن دعوة الحق؟ تعددت الأسباب والموت واحدُ لماذا يتحرك كل أهل الباطل غضباً لباطلهم، ولا يتحرك أهل الحق لحقهم؟ ماذا تنتظر؟ ومن تنتظر؟ هل تنتظر الأوباش الأنجاس يتحركون لدعوة الله جل وعلا؟!!

الدعوة إلى الله مسئولية الجميع

الدعوة إلى الله مسئولية الجميع أيها الشباب: إنني أحملكم المسئولية جميعاً أمام الله، ليست الدعوة مسئولية الدعاة فحسب، ولكن كل مسلمٍ ومسلمة مسئولٌ مسئولية كاملة عن دين الله، فهيا -أيها الشباب- تحركوا من الآن، أيها الشاب صحح دينك، صحح اعتقادك، افهم إسلامك فهماً كاملاً شاملاً، وحول الإسلام في حياتك إلى واقع، وإلى منهج حياة، ثم انطلق على بركة الله، بقدر ما منَّ الله به عليك من علم وصدقٍ وإخلاص، لدعوة الناس إلى دين الحق بالحكمة البالغة، والموعظة الحسنة، والكلمة الطيبة، فإن الله جل وعلا يقول لحبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران:159]. أيها الحبيب: كن من حواري وأنصار رسول الله، ففي صحيح مسلم من حديث ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ما من نبيٍ بعثه الله في أمةٍ قبلي إلا وكان له في أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنه تخلف من بعدهم خلوف -أسأل الله ألا نكون منهم- يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون مالا يُؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل). أيها الحبيب الكريم: خذ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بلغوا عني ولو آية) والحديث رواه البخاري من حديث عبد الله بن عمر. يا طالب العلم: فرق بين طلب العلم وبين الدعوة إلى الله، فإن طلب العلم لا ينتهي البتة، كما قال أحمد بن حنبل: مع المحبرة إلى المقبرة. لكن الدعوة إلى الله واجب كل مسلمٍ ومسلمة، فلتتحرك أيها الحبيب للدعوة إلى الله، ولدين الله، بكلمتك الطيبة، وبدعوتك الصادقة، وبسلوكك وأخلاقك لنظهر للدنيا كلها حقيقة إسلامنا، فإننا الآن نعيش زماناً أصبح يُحكمُ فيه على الإسلامِ من خلال مكانة المسلمين المنحطة. فنسأل الله جل وعلا أن يشرفنا وإياكم بأن نكون من حواري وأنصار رسول الله، وأن نتحرك للدعوة إلى الله، ولدين الله، ونحن على يقين جازم أن الأجل لا يقربه جبن جبانٍ ولا حرص حريص، وأن الرزق بيد الله جل وعلا، وبأن الأمر كله لله، فكن على يقينٍ بالله وثقةٍ بالله، واعلم بأن الملك كله لله، والأمر كله لله، وأسكن في قلبك الطمأنينة التي لا يجب على الإطلاق أن تشيبها شائبة شكٍ، أو أن تعصف بها رياح قنوط وأن الإسلام قادمٌ، وأن المستقبل لهذا الدين رغم كيد الكائدين. وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. والسلام عليكم ورحمة الله.

أبناؤنا بين البر والعقوق

أبناؤنا بين البر والعقوق لقد كثر عقوق الوالدين في زمننا، وأسباب ذلك كثيرة، منها: إهمال الوالدين تربية أبنائهما التربية الصحيحة. ومنها: عدم اختيار الأم الصالحة عند الزواج. ومنها: دور الإعلام في فساد الأخلاق. ومنها: تقصير المدرسة في تعليم الأبناء الفضائل ومحاسن الصفات، بالإضافة إلى دور الشارع في فساد الأخلاق الحسنة. فعلى الأبناء أن يعوا خطورة العقوق في الدنيا والآخرة، وكذلك على الآباء والإعلام والمدرسة أن يقوموا بدورهم في تربية الأبناء.

حقا إنها مأساة

حقاً إنها مأساة بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جازيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء! وأيها الإخوة الأحباب الكرام الأعزاء! وطبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم الكريم جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت المبارك على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! أبناؤنا بين البر والعقوق، هذا هو عنوان لقائنا هذا، وسوف أركز الحديث تحت هذا العنوان المهم في العناصر الآتية: أولاً: حقاً إنها مأساة. ثانياً: خطر العقوق. ثالثاً: فضل البر. رابعاً: حقوق تقابلها واجبات. وأخيراً: إنها مسئولية المجتمع. فأعيروني القلوب والأسماع، والله أسأل أن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن نكون من الذين هداهم الله، وأولئك هم أولوا الألباب. أحبتي في الله! لا شك أن الوالدين يندفعان بالفطرة إلى حب ورعاية الأولاد، بل وإلى التضحية للأولاد بكل شيء، حتى بالذات، فكما تمتص النبتة الخضراء كل غذاء في الحبة فإذا هي فتات، وكما يمتص الفرخ كل غذاء فى البيضة فإذا هي قشرة هشة؛ فكذلك يمتص الأولاد كل رحيق وعافية واهتمام من الوالدين، فإذا هما شيخوخة فانية، ومع كل ذلك فهما سعيدان، ولكن من الأولاد من ينسى هذا الحب والعطاء والحنان، ويندفع في جحود وعصيان ونكران؛ ليسيء إلى الوالدين بلا أدنى شفقة أو رحمة أو إحسان، وتتوارى كل كلمات اللغة على خجل واستحياء، بل وبكاء، حينما تكتمل فصول المأساة، ويبلغ العقوق الأسود منتهاه، حينما يقتل الولد أمه أو أباه! فعلى مقربة منا في إحدى القرى المجاورة حدثت جريمة مروعة؛ هي التي دفعتني للحديث عن هذا الموضوع: في أسرة فقيرة تتكون من عشرة أبناء، يقضى الوالد المسكين ليله ونهاره ليوفر لأبنائه العيشة الطيبة الكريمة، وبالفعل وفق الله الوالد في ذلك توفيقاً عظيماً، فقد استطاع أن يلحق أولاده جميعاً بالكليات والجامعات، ومن بين هؤلاء الأبناء ابن عاق؛ فبدلاً من أن يساعد أباه في نفقات هذه الأسرة الكبيرة ذهب يثقل ظهر والده بالنفقات؛ ليضيعها على (البانجو) والمخدرات والفتيات، فقال له والده المسكين: أي بني! أنا لا أقدر على نفقاتك ومصروفاتك، دعني لأواصل المسيرة مع إخوانك وأخواتك، وأنت قد وصلت إلى كلية العلوم فاشتغل أنت، وشق طريقك في الحياة، ولكن هذا الولد الذي تمرد على التقاليد والقيم وعلى سلطان البيت، بل وعلى سلطان الأسرة، بل وعلى سلطان الدين؛ قام هذا الولد العاق ليفكر بتفكير شيطاني خبيث؛ إنه يفكر كيف يقتل أباه، ولكن كيف قتل الولد أباه؟! إنه طالب في كلية العلوم، فقام يستغل دراسته وعلومه استغلالاً شيطانياً خبيثاً، حيث أعد مادة كيمائية بطريقة علمية معينة، وأخذ منها كمية كبيرة، وعاد إلى البيت، وانتظر حتى نام أبوه، فسكب المادة الكيميائية على أبيه وهو نائم، فأذابت المادة لحم جسده حتى بدت العظام! الله أكبر!! لا إله إلا الله!! لا إله إلا الله!! والله! إن الحلق ليجف، وإن القلب لينخلع وإن الكلمات لتتوارى على خجل وحياء وبكاء أمام هذه المأساة المروعة بكل المقاييس. قد يأتي الآن والد كريم من آبائنا أو أخ عزيز يجلس معنا ويقول: إنه الفقر، قاتل الله الفقر!! والجواب مع تقديري لكل آبائي وأحبابي: لا، لم يكن الفقر سبباً ليقتل الولد أباه، وإذا أردت الدليل فخذ الحادثة الثانية المروعة التى طالعتنا بها جريدة الأهرام: كان في محافظة الإسماعيلية أسرة غنية ثرية؛ وصل الوالدان فيها إلى مكانة اجتماعية مرموقة، فالأم في هذه الأسرة دكتورة مهندسة، وليس بعد ذلك درجة، جلست هذه الأم المثقفة لتناقش ابنها الذي أنهى دراسته الجامعية في أمر خطيبته التي أراد أن يتزوج بها، وأبت الأم على ولدها أن يرتبط بهذه الفتاة، فاحتج الولد على أمه وقال: كيف ذلك وهذا اختياري، وهذه رغبتي، وهذه حريتي؟! وما كان من هذا المجرم العاق إلا أن أسرع إلى المطبخ ليرجع بسكين كبيرة، ثم ينقض بالسكين على أمه بطعنات قاتلة حتى فارقت الحياة، ما هذا؟! ما هذا؟! والله! إن الحلق ليجف، وإن القلب لينخلع، وإن الكلمات لتتوارى على خجل واستحياء، بل وبكاء أمام هذه الصور البشعة من صور العقوق للآباء والأمهات، وقد حذر الله جل وعلا من العقوق في أدنى صوره، وأقل أشكاله وألوانه، فقال جل وعلا: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:23 - 24] رب ارحمهما كما ربيانا صغاراً؛ برحمتك يا أرحم الراحمين!

خطر العقوق

خطر العقوق أيها المسلمون! أيها الأبناء! يا أبناء الجامعات! أيها الأحباب الأعزاء! اعلموا بأن العقوق كبيرةٌ تلي كبيرة الشرك بالله. العقوق من أكبر الكبائر، ففي الصحيحين من حديث أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أُنَبِّئُكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى، يا رسول الله! قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان المصطفى متكئاً فجلس ثم قال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، فمازال النبي يكررها حتى قلنا: ليته سكت) وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من الكبائر شتم الرجل والديه -لا أن يقتل الرجل والديه- فقال الصحابة: يا رسول الله! وهل يشتم الرجل والديه؟! -الصحابة في مجتمع الطهر استغربوا أن يشتم الرجل والديه- فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: نعم، يسب الرجل أبا الرجل، فيسب أباه، ويسب أمه، فيسب أمه) إن شتمت أبا رجل شتم أباك، فتكون قد شتمت أنت أباك، وإن شتمت أمه شتم الرجل أمك، فتكون قد شتمت أمك؛ فالعقوق من أكبر الكبائر والعياذ بالله! أيها الأبناء! العقوق سبب للحرمان من الجنة وسبب للطرد من رحمة الله الذي وسعت رحمته كل شيء، ففي الحديث الذي رواه النسائي والبزار بسند جيد، وحسنه الألباني، ورواه الحاكم في المستدرك، وصححه على شرط الشيخين البخاري ومسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة لا ينظر الله عز وجل إليهم يوم القيامة) وتدبروا -أيها الأبناء! وتدبروا أيها الآباء! - هذا الحديث العظيم؛ فإن هؤلاء قد خابوا والله! وخسروا؛ لأنهم طردوا من رحمة الرحمن الذي وسعت رحمته كل شيء: (ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، قيل: من هم يا رسول الله؟! قال: العاق لوالديه، والمرأة المترجلة والديوث) والمرأة المترجلة أي: المرأة المتشبهة بالرجال، وكم من امرأة تنتسب إلى الإسلام تتشبه في زيها، وفي مشيتها، وفي كلامها، وفي طريقة معاملتها بالرجال! بل وهي تشعر بلذة حين تتشبه بالرجال، والديوث هو: الذي يقر الزنا والفسق في أهله والعياذ بالله! وقال صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، ومدمن الخمر، والمنان). أيها الأبناء! أخاطبكم بكل قلبي وكياني، أيها الأبناء! يا من منَّ الله عليكم الآن بنعمة الأمهات والآباء! وأنتم لا تدركون قدر هذه النعمة، ولن تشعروا بها إلا إذا فقدتم الوالدين، أسأل الله أن يبارك في أعمار آبائنا وفي أعمار أمهاتنا، وأن يختم لنا ولهم بصالح العمل؛ إنه على كل شيء قدير. أيها الأبناء! عقوق الوالدين لا ينفع معه أي عمل، فإن صليت أو اجتهدت وأنت عاق لوالديك فلن ينفع مع العقوق عمل، ففي الحديث الذي رواه الإمام الطبراني وابن أبي عاصم في كتاب السنة -وحَسَّنَ الحديث الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة- من حديث أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة لا يقبل الله منهم صرفاً ولا عدلاً -أي: لا فرضاً ولا نفلاً ولا عملاً-: العاق لوالديه، والمنان، والمكذب بالقدر). أيها الأحباء! أيها الأعزاء! أختم بهذه الكلمات؛ لأعرج على بقية عناصر الموضوع، فأقول: إن العقوق دين لابد من قضائه في الدنيا قبل الآخرة، فكما تدين تدان، فإن بذلت البر لوالديك سَخَّرَ الله أبناءك لبرك، وإن عققت والديك سَلَّط الله أبناءك لعقوقك، وستجني ثمرة العقوق في الدنيا قبل الآخرة، ففي الحديث الذي رواه الطبراني والبخاري في التاريخ وصححه الألباني من حديث أبي بكرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اثنان يعجلهما الله في الدنيا: البغي، وعقوق الوالدين). أي: الظلم، فمهما كنت قادراً قوياً واستخدمت وجاهتك أو منصبك أو مالك في ظلم العباد؛ فاعلم بأن الله سيسلط عليك من يظلمك. لا تظلمن إذا ما كنت مقتدراً فالظلم ترجع عقباه إلى الندم تنام عيناك والمظلوم منتبه يدعو عليك وعين الله لم تنم عقوق الوالدين يعجل الله لك بسببه عقوق أبنائك في الدنيا، وتدبر معي والدي الكريم وأخي الحبيب: هذا ابن عاق يعيش معه والده في بيته، فكبر الوالد، وانحنى ظهره، وسال لعابه، واختلت أعصابه؛ فاشمأزت زوجة الابن من والد زوجها -وكم من أبناء يرضون الزوجات على حساب طاعة الآباء والأمهات، فاتق الله! وإياك أن تقدم امرأتك على أمك أو أبيك، فالمرأة لها حقوق، والأم لها حقوق، والأب له حقوق، فإياك وأن تقدم حق الزوجة على حق أبيك أو على حق أمك، فالحق الأول للأمهات، والحق الثاني للآباء، فلما اشمأزت هذه الزوجة من والد زوجها بدأت تعلم الأبناء هذا الشعور من جدهم، فأراد الولد أن يطرد أباه من البيت، فَرَقَّ طفلٌ صغير في البيت لجده، فقال لأبيه: لماذا تطرد جدنا من بيتنا يا أبت؟! فقال: حتى لا تتأففون منه، فبكى الطفل لجده، وقال: حسناً يا أبت! سوف نصنع بك ذلك غداً إن شاء الله!! إنه دَين والله! لابد من قضائه. وهذا ابن آخر يقوم ويصفع والده على وجهه، فيبكي الوالد ويرتفع بكاؤه، فيتألم الناس لبكاء هذا الشيخ الكبير، وينقض مجموعة من الناس على هذا الابن العاق ليضربوه، فيشير إليهم الوالد ويقول لهم: دعوه، ثم بكى وقال: والله! إني منذ عشرين سنة وفي نفس هذا المكان صفعت أبي على وجهه!! فالعقوق دَين لابد من قضائه. وهذا ابن ثالث يجر أباه من رجليه ليطرده خارج بيته، وما أن وصل الولد بأبيه حتى الباب، وإذا بالوالد يبكي ويقول لولده: كفى يا بني! كفى يا بني! إلى الباب فقط، إلى الباب فقط، فقال: لا، بل إلى الشارع، قال: والله! ما جررت أبي من رجليه إلا إلى الباب فقط!! فكما تدين تدان. أيها الأخ الحبيب! اذهب اليوم إلى أبيك فقبل رجله، وارجع اليوم إلى أمك فقبل رجليها؛ فثمَّ الجنة. العقوق خطره عظيم، وما أشقاها والله! من حياة! إنها حياة العقوق، وما أطيبها وأروحها وأسعدها وألذها من حياة! ألا وهى حياة البر، وهذا عنصرنا الثالث.

فضل البر

فضل البر أيها الحبيب الكريم! يكفي أن تعلم أن الله جل وعلا قد قرن بر الوالدين والإحسان إلى الوالدين بتوحيده، قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23] وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة:83]. قال ابن عباس: (ثلاث آيات نزلت مقرونة بثلاث، لا يقبل الله واحدة بدون قرينتها: أما الأولى: فهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [محمد:33] فمن أطاع الله ولم يطع الرسول لم يقبل منه. وأما الثانية: فهي قول الله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] فمن أقام الصلاة وضيع الزكاة فلن يقبل منه. وأما الثالثة: فهي قول الله تعالى: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان:14] فمن شكر لله ولم يشكر لوالديه لم يقبل منه). قوله: (أن اشكر لي ولوالديك) ما أروحها والله! من حياة! إنها حياة البر، فإذا كنت باراً ستشعر بلذة، وبانشراح صدر، وستشعر بسعادة في كل الخطى، وسيوسع الله عليك رزقك، بل سيبارك الله لك في عمرك، كل هذا في بر الوالدين.

البر سبب لدخول الجنة

البر سبب لدخول الجنة تدبر معي كلام النبي صلى الله عليه وسلم: روى مسلم من حديث أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رغم أنفه، رغم أنفه، رغم أنفه -أسلوب نبوي بياني بلاغي عجيب! أي: ذل وهان وتعرض للخيبة والخذلان- قيل: من يا رسول الله؟! - أي: من هذا الذي تعرض للخيبة والذلة والمهانة -فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: من أدرك والديه الكبر أحدهما أو كلاهما ثم لم يدخل الجنة). فإياك وأن تضيع هذا الخير يا من منَّ الله عليك به الآن!

بر الوالدين من أعظم القربات إلى رب الأرض والسماوات

بر الوالدين من أعظم القربات إلى رب الأرض والسماوات اسمع -حبيبي في الله- لكلام سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله ومن والاه، ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم وقلت: يا رسول الله! أي العمل أحب إلى الله تعالى؟ فقال: الصلاة في وقتها، قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله). فقدم النبي صلى الله عليه وسلم بر الوالدين على الجهاد. وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو: (أن رجلاً جاء إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم ليستأذنه في الجهاد، فقال له الحبيب صلى الله عليه وسلم: أحي والداك؟ قال: نعم. قال له المصطفى صلى الله عليه وسلم: ففيهما فجاهد). وفي رواية مسلم من حديث عبد الله بن عمرو: (أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! جئت أبايعك على الهجرة والجهاد، فقال له المصطفى صلى الله عليه وسلم: هل من والديك أحدٌ حي؟ فقال الرجل: نعم، كلاهما يا رسول الله! فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: تبتغى الأجر من الله؟ قال: نعم، قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما).

بر الوالدين سبب لتفريج الكربات

بر الوالدين سبب لتفريج الكربات في الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (انطلق ثلاثة نفر ممن كان قبلكم حتى آواهم المبيت إلى غار، فسقطت صخرة من أعلى الجبل فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، فقال أحدهم: اللهم إنك تعلم أنه كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً -أي: وكنت لا أقدم عليهما في الشراب أهلي، لا زوجتي ولا أولادي، ولا أقدم عليهما مالي أي: خدمي ورقيقي- فنأى بي طلب الشجر يوماً -كان يعمل حطاباً، فانطلق ليجمع الحطب فتأخر على الوالدين حتى ناما- فعدت إليهما فوجدتهما نائمين، وكرهت أن أوقظهما، فحملت قدح اللبن على يدي، وانتظرت استيقاظهما حتى برق الفجر). فبر الوالدين يفرج الهم، ويكشف الغم، ويزيل الكرب، بإذن الله جل وعلا.

تقديم الأم على الأب في البر

تقديم الأم على الأب في البر أيها الأحبة الكرام! اعلموا أنه لابد أن نعي أن بر الأم مقدم على بر الأب، ففي الصحيحين من حديث أبى هريرة رضي الله عنه (أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! مَنْ أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك). وتدبر معى! هذا الحديث الرقيق الرقراق الذي رواه البيهقي وابن ماجة، وحسنه شيخنا الألباني في السلسلة الصحيحة من حديث معاوية بن جاهمة: (أنه رضي الله عنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أردت أن أغزو -أي: في سبيل الله- وقد جئت أستشيرك، فبماذا تشير علي؟ فقال له المصطفى صلى الله عليه وسلم: ألك أم؟ قال: نعم. فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: الزم رجلها فثمَّ الجنة، الزم رجلها فثمَّ الجنة).

صور من بر الوالدين بعد موتهما

صور من بر الوالدين بعد موتهما قد يتحسر الآن كثير من آبائنا وأحبابنا ممن حرموا من نعمة الوالدين، لكن جاء في حديث في سنده علي بن عبيد الساعدي لم يوثقه إلا ابن حبان وبقية رجال السند ثقات: (أن رجلاً من بني سلمة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! هل بقي عليَّ من بر أبوي شيء بعد موتهما أبرهما به؟ فقال له المصطفى صلى الله عليه وسلم: نعم، الصلاة عليهما -أي: الدعاء لهما، والترحم عليهما- والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما). فادع لوالديك، واستغفر الله لوالديك، وتصدق لوالديك، وحج لوالديك، وأنفق لوالديك، وتضرع إلى الله في صلواتك بالدعاء لوالديك أن يرحمهما كما ربياك وأنت صغير، فالبر -يا إخوة- لا ينقطع، أما أنت يا من منّ الله عليك بالوالدين، وقد ضيعت وفرطت وقصرت؛ فتب اليوم، ولا تضيع هذا الباب من أبواب الجنة، فلقد كان السلف رضوان الله عليهم إذا ماتت أم أحدهم بكى وقال: ولم لا أبكي؛ وقد أغلق اليوم عليَّ باب من أبواب الجنة؟! أيها الموحدون! أيها الأبناء! أيها الآباء! لا تضيعوا هذا الحق، فما أسعدها -والله- من حياة، ألا وهي حياة البر للوالدين. أسأل الله جل وعلا أن يعيننا وإياكم جميعاً على هذه النعمة وعلى هذا الفضل؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.

حقوق الأبناء على الآباء

حقوق الأبناء على الآباء كما أن للوالدين حقوقاً على الأبناء فإن للأبناء حقوقاً على الوالدين، فكم من آباء، وكم من أمهات قد ضيعوا الأبناء! فالتربية منذ أول لحظات الحياة للأبناء مسئولية كاملة على الوالدين، بل وقبل أن يأتي الولد للحياة، فالوالد مسئول عن هذا الابن الذى لم يأت بعد، كيف ذلك؟! باختيار أمه التى يجب أن تربيه بعد ذلك على الصلاح والفضائل. يا إخوة! أسألكم بالله أن تتدبروا معي هذه الكلمات التي سأطرحها عليكم: ماذا تقولون لو قلت لكم الآن: إن أباً قد عاد اليوم إلى داره فأخرج ورقة وكتب عليها استقالة من تربية أبنائه؟! حتماً سيتهم هذا الوالد بالجنون. وماذا تقولون لو أن أمّاً عادت اليوم من عملها إلى بيتها، فسحبت ورقة وكتبت عليها استقالة من تربية الأبناء؟! حتماً ستتهم هذه المرأة بالجنون، بل وقد يفكر زوجها المسكين في طلاقها. فماذا تقولون لو قلت لكم: إن نظرة صادقة إلى الواقع الذي نحياه تبين أن استقالات تربوية جماعية قد حدثت في كثير من بيوت المسلمين؟ نعم لقد استقال كثير من الآباء تربوياً، واستقالت كثير من الأمهات تربوياً، فالولد ينظر إلى الوالد بأنه تسبب في تعكير حياته؛ لأنه لم يجد أبوة الأب بمعناها الواسع، لم يجد أبوة التربية، ولم يجد أبوة النصح، ولم يجد أبوة الرجولة، ولم يجد أبوة الخبرة، ولم يجد أبوة التوجيه، ولم يجد أبوة الحنان، ولم يجد أبوة العطف، ولم يجد أبوة الشفقة والإحسان. فالوالد المسكين يظن أن دوره يتمثل في أن يكون وزيراً للمالية والنفقات، يدخل البيت فيقول: ماذا يحتاج الأولاد؟ وتقول الأم: يحتاج الأولاد كذا وكذا، فيخرج المال ثم ينصرف هائماً على وجهه للتجارات وللسفر وللترحال، بل وإذا عاد إلى بيته في آخر النهار ووجد عنده قليلاً من الوقت قتله قتلاً بالجلوس أمام المسلسلات والأفلام، ولا يفكر أن يخلو في أوقات قليلة بأولاده وزوجته. وأنا لا أقول لك: فَرِّغ كل وقتك لولدك؛ لأنني أعلم ظروف الحياة، وأعلم الحالة الاقتصادية الطاحنة التي ترهق ظهور الآباء. لكن أقول لك: والله! إن جلوس الأب بين أبنائه وهو صامت لا يتكلم فيه من عمق التربية ما فيه، فما بالكم لو تكلم فَذَكَّر بجنةٍ، وحَذَّرَ من نارٍ، وحل مشكلة، ووجه نصيحة، وأشعر أولاده بأنه يشعر بهم وبأحاسيسهم، وسأل عن صديق الولد، وسأل عن صاحبة البنت، ونقب في حقيبة ابنته، ونقب في حقيبة ولده، ونظر إلى قصة شعر ولده، ونظر إلى البنطلون الجنز الممزق من ركبتيه الذي يلبسه ولده، فنقب عن هذه الأمور، وبذل النصيحة بحنان وبرحمة، وبأبوة حانية؟! هذه هي الأبوة في أجل معانيها، فإن الأبناء ينظرون إلى من تسبب في وجودهم، ولكنهم لا يجدون أبوة الأب بمعناها الواسع الشامل. والله -يا أخوة- لقد جاءني في الأسبوع الماضي شاب تزين اللحية وجهة، وهذا الشاب كاد أن يبكي فقلت له: مالك؟ قال: إن أبي يقسم عليَّ بالله إن ذهبت إلى المسجد فسوف يطردني من البيت!! ثم يشكو الآباء بعد ذلك من العقوق!! أيها الوالد! أنت مسئول أن تربي نبتتك من أول لحظة. مشى الطاووس يوماً باختيالٍ فقلد شكل مشيته بنوه فقال علام تختالون فقالوا لقد بدأت ونحن مقلدوه فخالف سيرك المعوج واعدل فإنا إن عدلت معدلوه وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوَّده أبوه أما تدري أبانا كل قرع يجاري بالخطى من أدبوه فإن ربيت ولدك -أيها الوالد الكريم- على الفضائل والأخلاق والصلاح منذ أول لحظة من لحظات حياته، ومنذ ترعرعه في بيتك؛ شب حتماً على هذه الأخلاق. وقد يقول لي والد: إنني قد أربي ولدي في البيت، وسيخرج إلى الشارع ليعود وقد طُمِس بناؤه الجميل، الذي اجتهدت في تزيينه وتجميله في البيت، فأقول له: أبشر واطمئن، فما دام الأصل سليماً والجوهر نقياً فسرعان ما يزول هذا الغبش الذي تأثر به ظاهر ولدك، وسرعان ما يعود إلى أخلاقه وجوهره التقي النقي الذي اجتهدت في تأصيله في بيتك على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله ومن والاه. أيها الوالد الحبيب! ابنك أمانة، ابنتك أمانة، فاجتهد ولا تضيع ولدك؛ فسوف تسأل عنه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]. وفي الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته، الإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل في أهل بيته راع ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته، وكلكم راع ومسئول عن رعيته). واسمع -أيها الوالد الكريم- إلى هذا التهديد والوعيد، ففي الصحيحين من حديث معقل بن يسار أن النبي المختار صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة). وتزداد المأساه -يا مسلمون- إذا انضم إلى استقالة الآباء استقالة الأمهات، فالأم هي الحضن التربوي الطاهر، والأم هي المدرسة الأولى للتربية، فماذا تقولون لو أغلقت المدرسة الأولى للتربية، ألا وهي مدرسة الأم، وانشغلت الأم بالمسلسلات وبالأفلام، وانشغلت الأم بالتجوال في الأسواق وبالجري وراء أحدث الموضات والموديلات، وانشغلت عن أولادها، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم؟! تزداد المأساة إذا استقالت الأم تربوياً، بالإضافة إلى استقالة الآباء تربوياً، فيا إخوة: ليس اليتيم من انتهى أبواه وخلفاه في هم الحياة ذليلا إن اليتيم هو الذي ترى له أماً تخلت أو أباً مشغولا فليس اليتيم من مات أبواه وتركاه في الحياة ذليلاً، إن اليتم الحقيقي هو اليتم التربوي، إن اليتيم هو الذي ترى له أماً تخلت عنه، أو أباً مشغولاً عنه، فماذا تقولون لو علمتم أن من الآباء من يمنع ولده من إعفاء لحيته، أو يمنع ولده من الذهاب إلى المسجد، أو يمنع ولده من الذهاب إلى مجالس العلم؟! وأسأل الله أن يجعلني من المنصفين، أنا لا أريد بعدما أصلت للوالدين من حقوق أن أقلل من شأنهما عند الأبناء، وإنما أود أن أقول لإخواني وأبنائي: قد يأمرك الوالد بذلك من منطلق الخوف عليك، وهذا هو الواقع، فالولد قرة عين أبيه، والولد ثمرة فؤاد أبيه، فإن أمر الوالد ولده بذلك فليعلم بأن المصيبة أكبر، وبأنه سيزداد خوفه بصورة أكبر، فإذا منع الولد من أن يعرف طريق المساجد، وإذا حال بين الولد وبين طريق السنة، وبين طريق الالتزام؛ فسوف يبكي الوالد دماً بدل الدمع إذا رأى ولده يحقن نفسه بحقنة مخدرات، أو يشم البانجو، أو يمشى مع فتاة في الحرام ولا حول ولا قوة إلا بالله؛ لذا أذكر آبائي الكرام بأن يفتحوا الباب على مصراعيه لأبنائهم؛ ليسلكوا طريق الالتزام، وليسلكوا طريق سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وليعلموا يقيناً بأن السعادة كل السعادة، وبأن الالتزام والهداية والتفوق في أمور الدنيا والآخرة لا يكون أبداً إلا إذا عرف الولد طريق الله جل وعلا، وراقب الله في سره وعلنه، فقد ينجح الوالد في مراقبة أبنائه في ساعة من ليل أو ساعة من نهار، ولكنه لا ينجح في أن يراقب أولاده طيلة الليل وطيلة النهار، فدرب ورب ولدك على أن يراقب العزيز الغفار، ورب ولدك على القرآن والسنة. وقد يقول لي والد كريم من آبائنا الطيبين: فماذا سيكون جوابك إذا سألتك وقلت: إن الوالد نفسه يحتاج إلى أن يتعلم هو القرآن والسنة؟ و A حياك الله، ثم حياك الله أنت وأولادك جميعاً في المساجد؛ لتجلسوا بين أيدي العلماء المتحققين بالعلم الشرعي، لتتعلم أيها الوالد الكريم مع ولدك كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. أيها الآباء الكرام! إن للوالدين حقوقاً على الأبناء، وإن للأبناء حقوقاً على الوالدين، وإن من الآباء من يقع في عقوق ولده قبل أن يعقه ولده. جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فقال: (يا أمير المؤمنين! أشكو إليك عقوق ولدي، فقال: ائتني به، فجاء الولد إلى عمر رضي الله عنه، فقال عمر: لمَ تعق أباك؟ فقال الولد: يا أمير المؤمنين! ما هو حقي على والدي؟ فقال عمر: حقك عليه أن يحسن اختيار أمك، وأن يحسن اختيار اسمك، وأن يعلمك القرآن. فقال الولد: والله ما فعل أبي شيئاً من ذلك، فالتفت عمر إلى الوالد وقال: انطلق؛ لقد عققت ولدك قبل أن يعقك). نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من الصادقين، وأن يتقبل منا ومنكم جميعاً صالح الأعمال، وأسأل الله أن يشفينا، وأن يشفي مرضانا ومرضى المسلمين، وأن يتقبل منا صالح الأعمال. وأخيراً: إنها مسئولية الجميع، أرجئ الحديث عن هذا العنصر إلى ما بعد جلسة الاستراحة، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

تربية الأبناء مسئولية الجميع

تربية الأبناء مسئولية الجميع الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفي أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام! إنها مسئولية الجميع، يجب أن نعلم أن المسئولية تقع على كواهلنا جميعاً، فعلى الأسرة مسئولية، وعلى الإعلام مسئولية، وعلى المدرسة مسئولية، وعلى الشارع مسئولية، وعلى مناهج التعليم مسئولية، فالمسئولية تقع على كواهل الجميع.

مسئولية الشارع في تربية الأبناء

مسئولية الشارع في تربية الأبناء وعلى الشارع دوره في التربية، فلو خرج الأبناء إلى الشوارع بأخلاق البيوت الطيبة لتغير الحال. إذاً: المسئولية مشتركة على الجميع، ولا أريد أن أطيل عليكم أكثر من ذلك. أسأل الله أن يقر أعيننا وإياكم بصلاح أبنائنا وستر بناتنا. ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، واجعلنا للمتقين إماماً، اللهم هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، واجعلنا للمتقين إماماً، اللهم هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، واجعلنا للمتقين إماماً. اللهم استر نساءنا، اللهم استر نساءنا، واحفظ بناتنا، واحفظ بناتنا، واهد شبابنا، واهد شبابنا، وأصلح أولادنا، واجعلهم قرة عين لنا. اللهم ارحم آباءنا وأمهاتنا كما ربيانا صغاراً، اللهم ارحم آباءنا وأمهاتنا كما ربيانا صغاراً، اللهم من كان من آبائنا وأمهاتنا بين يديك فتغمده برحمتك، اللهم من كان من آبائنا وأمهاتنا بين يديك فتغمده برحمتك، ومن كان منهما حياً فأحيه على طاعتك، وتوفه على ملتك وعلى سنة نبيك برحمتك يا أرحم الراحمين! رب ارحمهما كما ربيانا صغاراً، رب ارحمهما كما ربيانا صغاراً. اللهم ارزق أولادنا البر للوالدين، اللهم ارزق أولادنا البر للوالدين، اللهم جنب أولادنا العقوق للوالدين، اللهم جنب أولادنا عقوق الوالدين، اللهم ارزق أبناءنا البر يا رب العالمين! اللهم ارزق أبناءنا البر يا أرحم الراحمين، واحفظ أبناءنا وبناتنا من العقوق يا أرحم الراحمين! اللهم استرنا ولا تفضحنا، وأكرمنا ولا تهنا، وكن لنا ولا تكن علينا، اللهم اقبلنا وتقبل منا، وتب علينا وارحمنا؛ إنك أنت التواب الرحيم. اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم عليك باليهود وأعوانهم يا رب العالمين! اللهم املأ قلوب وبيوت اليهود ناراً، اللهم دمر بيوتهم قبل أن يدمروا الأقصى، وحرق بيوتهم قبل أن يحرقوا الأقصى، وأرنا في اليهود يوماً كيوم عاد وثمود بقدرتك يا رب العالمين! اللهم اجعل بلدنا مصر واحة للأمن والأمان وجميع بلاد المسلمين، اللهم لا تحرم مصر من الأمن والأمان وجميع بلاد المسلمين، اللهم اجعل مصر سخاءً رخاءً وجميع بلاد المسلمين، اللهم ارفع عن مصر الغلاء والوباء والفتن والبلاء برحمتك يا رب الأرض والسماء وجميع بلاد المسلمين؛ إنك على كل شيء قدير. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين.

مسئولية المدرسة في تربية الأبناء

مسئولية المدرسة في تربية الأبناء وعلى المدارس دور في تربية الأبناء، وإني والله أستحي أن أقول هذا الكلام: لقد أخبرني مدير إحدى مدارس البنات -ولن أسمي المكان- أخبرني بكلام يخلع القلب، وهي مدرسة ثانوية للبنات، وأنا أستحي والله! أن أقول: المدارس، فقد أصبح الولد الآن لا يحترم مدرسة، لماذا؟ لأن البركة في مدرسة المشاغبين حيث لا بركة! علموا الأولاد كيف يتطاولون على الأساتذة والمدرسين، كان الطالب قديماً يهاب أستاذه إن رآه أو إن سمع صوته من بعد، ولكن الولد أصبح الآن يتطاول على أستاذه وعلى مدرسه، فالمدرسة لها دور، لابد أن تعود المدرسة لدورها الريادي في التربية قبل أن تعلم أبناءنا العلوم، ومن جميل ما قاله محمد إقبال رحمه الله: إن العلوم الحديثة تحسن أن تعلم أبناءنا المعاني والمعارف، ولكنها لا تحسن أن تعلم عيونهم الدموع، ولا قلوبهم الخشوع!

مسئولية الإعلام في تربية الأبناء

مسئولية الإعلام في تربية الأبناء أيها الوالد الكريم! أيتها الأم الفاضلة! تبدأ المسئولية في تربية الأبناء من عندكما من البيت فاجتهدا، ثم على أهل الإعلام أن يتقوا الله؛ فإنني أدين لله بأن الإعلام يتحمل المسئولية الكبرى في إفساد أخلاق أبنائنا وبناتنا، أعلنها لله. إن الإعلام الذي لا يرقب في المؤمنين إلاً ولا ذمة، والذي يعكف في المسلسلات والأفلام على وتر الجنس، وعلى وتر الدعارة، وعلى وتر أفلام الإجرام، وعلى وتر التحرر؛ جعل الولد ينظر إلى أبيه المحافظ صاحب الأخلاق نظرة احتقار وازدراء وسخرية، ويقول الولد لوالده: هكذا نرى في المسلسلات والأفلام، وهذه موضة قديمة، فأنت لا تعيش عصرك، وأنت لا تعيش زمانك، وأنتم لا زلتم تعيشون في مجاهل القرون الماضية! إنه العزف بصورة واضحة على نغمة التحرر، مما جعل أبناءنا يتحررون من كل شيء، فرفض الأولاد سلطة الأسرة، ورفض الأولاد سلطة الوالدين، بل ورفض الأولاد أخيراً سلطة الدين ولا حول ولا قوة إلا بالله! فعلى الإعلام وعلى القائمين على الإعلام أن يتقوا الله، وقد يقول لي الآن قائل: الآن أنت تخاطب الآباء، فلماذا لا تخاطب الإعلام؟ فأقول: أنا أعي ما أقول؛ فإن من بيننا في هذا الجمع الكريم من يحتل مكانة، ومن يحتل كرسياً ومنصباً، وهؤلاء جميعاً هم أبناؤنا، فإن استطعت أن تخاطب مسئولاً بكلمة طيبة وبكلمة رقيقة أن يتقوا الله في أبنائنا وبناتنا فافعل، وإلا فأنت مضيع للأمانة، أسأل الله أن يجعلنا جميعاً أهلاً لهذه الأمانة.

مسئولية الأسرة في تربية الأبناء

مسئولية الأسرة في تربية الأبناء تبدأ المسئولية من البيت ومن الأسرة، ولكن قد يتألم بعض الأحبة ويقول: نسيت أن تذكرنا بأنه إذا كان الوالد والأم في البيت من الصالحين، واجتهد الوالدان في تربية الأبناء تربية ترضي الرب سبحانه، ولكن مع ذلك خرج من بين هؤلاء الأبناء ابن عاق انحرف عن الطريق، فما ذنبهما؟ A هذا لا يقدح في أصل القاعدة، فإنني أرى بيتاً في بيوت المسلمين، يشرف على التربية فيه نبي كريم من أنبياء الله، وهو نبي الله نوح عليه السلام، ومع ذلك لم يخرج ابنه في هذا البيت عاقاً، وإنما خرج كافراً بالله والعياذ بالله! وألمح بيتاً آخر يقوم على أمر التربية فيه فرعون مصر، أكثر أهل الأرض فساداً، ومع ذلك يخرج من هذا البيت موسى كليم الله جل وعلا. فابذل ما استطعت واجتهد، وضع النتائج بعد ذلك إلى الله الذي يعلم كل شيء، والذي يعلم الحكمة لكل شيء، إنه عليم حكيم.

الأخوة في الله

الأخوة في الله الأخوة في الله من الواجبات الضرورية خاصة في زمننا هذا؛ وذلك لقلتها -إن لم نقل: لانعدامها- حتى بين أبناء الدعوة الواحدة. وقد حث الرسول صلى الله عليه وسلم على الأخوة في سنته، وبين الطريق الموصل إليها، وإن للأخوة حقوقاً يجب معرفتها والعمل بها.

حقيقة الأخوة في الله

حقيقة الأخوة في الله إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدَّى الأمانةَ، وبَلَّغَ الرسالةَ، ونَصَحَ للأمة؛ فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جازيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة الفضلاء! وطبتم جميعاً وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً. وأسأل الله العظيم الكريم جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت المبارك على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى صلى الله عليه وسلم في جنته ودار كرامته؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! إننا على موعد مع محاضرة عامة هامة ومهمة، وهي بعنوان: الأخوة في الله، وسوف ينتظم حديثنا تحت هذا العنوان في العناصر التالية: أولاً: حقيقة الأخوة في الله. ثانياً: حقوق الأخوة. ثالثاً: الطريق إلى الأخوة. فأعيروني القلوب والأسماع، والله أسأل أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب. أحبتي في الله! لقد أصبحت الأمة الآن كما ترون غثاءً من النفايات البشرية، وتعيش على ضفاف مجرى الحياة الإنسانية كدويلات متمزقة متناثرة متصارعة متحاربة، تفصل بينها حدود جغرافية مصطنعة، ونعرات قومية جاهلية بغيضة، وترفرف على سماء الأمة رايات القومية والوطنية، وتحكم الأمة قوانين الغرب العلمانية، وتدور بالأمة الدوامات السياسية، فلا تملك الأمة نفسها عن الدوران، بل ولا تختار لنفسها حتى المكان الذي تدور فيه! لقد تمزق شمل الأمة، وتشتت صفها، وطمع في الأمة الضعيف قبل القوي، والذليل قبل العزيز، والقاصي قبل الداني، وأصبحت الأمة قصعة مستباحة لأحقر وأخزى وأذل أمم الأرض من إخوان القردة والخنازير. والسبب الرئيسي: أن العالم الآن لا يحترم إلا الأقوياء، والأمة أصبحت ضعيفة؛ لأن الفرقة سبب من أسباب الضعف والخذلان والضياع، والقوة ثمرة طبيعية من ثمار الألفة والوحدة والمحبة، فما ضعفت الأمة بهذه الصورة المهينة إلا يوم أن غاب عنها أصل وحدتها وقوتها وألفتها وحبها، ألا وهو: الأخوة في الله بالمعنى الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ إن الأخوة في الله لا يمكن أبداً أن تتحقق إلا على عقيدة التوحيد بصفائها وشمولها، ومحال أن تتحقق أخوة بمعناها الحقيقي إلا على عقيدة صافية بشمولها وكمالها، كما حولت هذه الأخوة الجماعة المسلمة الأولى من رعاة للغنم إلى سادة وقادة لجميع الدول والأمم، يوم أن تحولت هذه الأخوة التي بنيت على العقيدة بشمولها وكمالها إلى واقع عملي ومنهج حياة، وقد تجلى هذا الواقع المشرق يوم أن آخى النبي صلى الله عليه وسلم ابتداءً بين الموحدين في مكة، وهذه هي المرحلة الأولى من مراحل الإخاء، فقد آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين أهل التوحيد في مكة وبين الذين اختلفت ألوانهم وأوطانهم وألسنتهم وأشكالهم، آخى بين حمزة القرشي، وسلمان الفارسي، وبلال الحبشي، وصهيب الرومي، وأبي ذر الغفاري، وكان هؤلاء على اختلاف ألوانهم وأوطانهم -بعد أن آخى بينهم رسول الله- يهتفون بهذه الأنشودة العذبة الحلوة: أبي الإسلام لا أبَ لي سِوَاهُ إذا افتخروا بقيسٍ أو تميمِ وبعد أن تصافحت القلوب مع القلوب، وامتزجت الأرواح بالأرواح، ذهبوا يرددون جميعاً قول الله سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:10]. ثم آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين أهل المدينة من الأوس والخزرج بعد حروب بينهم دامية طويلة، وبعد صراع مرير دمر الأخضر واليابس!! ثم آخى رسول الله بين أهل مكة من المهاجرين وبين أهل المدينة من الأنصار، في مهرجان حُبٍّ لم ولن تعرف البشرية له مثيلاً في مهرجان حب تصافحت فيه القلوب في مهرجان حب امتزجت فيه الأرواح! وتأمل هذا المشهد الرائع الذي رواه البخاري ومسلم من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: (آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبين سعد بن الربيع، فقال سعد لأخيه عبد الرحمن الذي جاء إلى المدينة من مكة مهاجراً: يا عبد الرحمن! إنني أكثر الأنصار مالاً، وسأقسم مالي بيني وبينك شطرين، ولي زوجتان فانظر أعجبهما إليك لأطلقها، فإذا انقضت عدتها تزوجتها، فقال عبد الرحمن بن عوف: بارك الله لك في أهلك ومالك! بل دلني على السوق، فدله سعد بن الربيع على سوق بني قينقاع، فانطلق عبد الرحمن بن عوف ليتاجر ويبيع ويشتري، فما لبث أن عاد ومعه فضل من أقط وسمن، ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم يوماً وعليه صفرة، فقال له المصطفى: مهيم؟ -أي: ما الذي بك يا عبد الرحمن؟! - فقال عبد الرحمن: تزوجت امرأة من الأنصار يا رسول الله! فقال المصطفى: فما سقت إليها؟ -أي: من صداق- فقال عبد الرحمن: سقت لها مقدار نواة من ذهب، فقال له المصطفى: أولم ولو بشاة). وقد يتحسر الآن كل الإخوة على زمن سعد بن الربيع ويقولون: أين سعد بن الربيع الذي يشاطر أخاه في ماله، بل وفي زوجتيه؟ و A ضاع زمن سعد بن الربيع وذهب يوم أن ذهب عبد الرحمن بن عوف. فلئن سألت: من الذي يعطي الآن عطاء سعد؟ فسأجيبك وأقول: وأين من يتعفف الآن عفة عبد الرحمن بن عوف؟!! لقد ذهب رجل إلى أحد السلف فقال: أين الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً؟ فقال له: ذهبوا مع من لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا. فلا تسل: أين سعد؟ بل سل قبلها: أين عبد الرحمن؟ وأين أهل العفة؟ وأين أهل الحياء؟ وأين أهل الفضل؟ وهذا مشهد من مشاهد الإخاء، والله! لولا أن الحديث في أعلى درجات الصحة لقلت: إن هذا المشهد من مشاهد الرؤى الحالمة الوديعة الرقراقة الرقيقة! هذه هي الأخوة الصادقة، هذه هي حقيقتها، تلكم الأخوة التي لا يمكن أبداً على الإطلاق أن تدانيها أخوة بنيت على أواصر الوطن أو العرق أو النسب أو الدم أو اللون؛ لأن الأخوة في الله لا تنبني إلا على أواصر العقيدة، وأواصر الإيمان، وأواصر الحب في الله، تلكم الأواصر التي لا تنفك عراها أبداً. والأخوة في الله نعمة من الله وفيض منه، يغدقها الله على المؤمنين الصادقين. والأخوة في الله شراب طهور يسقيه الله المؤمنين الأصفياء الأتقياء؛ ولذا فإن الأخوة في الله قرينة الإيمان، فلا تنفك الأخوة عن الإيمان، ولا ينفك الإيمان عن الأخوة، فإن وجدت أخوة من غير إيمان فاعلم بأنها التقاء مصالح وتبادل منافع، وإن رأيت إيماناً بدون أخوة صادقة فاعلم بأنه إيمان ناقص، يحتاج صاحبه إلى دواء وإلى علاج؛ ولذا جمع الله بين الإيمان والأخوة في آية جامعة فقال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]. فالمؤمنون جميعاً كأنهم روح واحد حل في أجسام متعددة، كأنهم أغصان متشابكة تنبثق كلها من دوحة واحدة، أين هذه المعاني الآن؟!! لو تحدثت الآن عن مشهد كهذا الذي ذكرت، ربما استغرب بعض أهل الإسلام هذه الكلمات، وظنوها من الخيالات والأوهام؛ لأن حقيقة الأخوة قد ضاعت الآن بين المسلمين، وإن واقع المسلمين اليوم ليؤكد الآن تأكيداً جازماً لا لبس فيه انعدام حقيقة الأخوة، فلم تعد الأخوة إلا مجرد كلمات جوفاء باهتة باردة، فأنت تنظر إلى المسلم الآن ينظر إلى إخوانه هنا وهناك يذبحون ذبح الخراف، وتقطع أثدية نسائهم، وتنتهك أعراضهن، بل ويطردون من أرضهم وديارهم وبلادهم، ومع ذلك ينظر المسلم إلى هؤلاء الإخوة فيضحك بملء فيه، ويأكل ملء بطنه، وينام ملء عينه، ويهز كتفيه ويمضي وكأن الأمر لا يعنيه لا من قريب ولا من بعيد!! الأخوة الموصولة بحبل الله نعمة امتن بها ربنا جل وعلا على المسلمين الأوائل، قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران:102 - 103]. فالأخوة في الله نعمة امتن الله عز وجل بها على المسلمين، فمستحيل أن تجد قانوناً وضعياً على ظهر الأرض يؤلف بين القلوب، قال عزوجل: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال:63]، ومحال أن ترى قانوناً وضعياً بشرياً يؤلف بين قلوب أهله وأصحابه، فهذه نعمة لا يمنحها الله عز وجل إلا لأهل الإيمان، فإن رأيت محبة بين غير أهل الإيمان فاعلم بأن قلوب هؤلاء متناثرة متشتتة، كما قال تعالى: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر:14]، أما التقاء القلوب بصدق وصفاء فلا يكون إلا لمن ملأ الله قلوبهم بالإيمان.

حقوق الأخوة

حقوق الأخوة أشهد الله أنني كنت أعد هذه المحاضرة وأنا أشعر بخجل؛ لتقصيري ابتداء في حق الأخوة، ويتردد الآن في أذني قول الشاعر: وغير تقي يأمر الناس بالتقى طبيب يداوي الناس والطبيب عليل فأنا لا أتكلم عن الأخوة وحقوقها من منطلق شعوري أنا بالأهلية، وإنما من منطلق شعوري بالمسئولية، وهذا ما تؤصله القاعدة الأصولية: (من عدم الماء تيمم بالتراب)، والله أسأل أن يغفر ذنوبنا، وأن يستر عيوبنا، وأن يجبر كسرنا، وأن يفرج همنا، وألا يجعل حظنا من ديننا قولنا، وأن يحسن نياتنا وأعمالنا، إنه على كل شيء قدير. أرجو أن تهتموا جيداً بهذه المحاضرة، فما أحوج الأمة بصفة عامة، وما أحوج الإخوة الذين يعملون الآن للإسلام بصفة خاصة لمثل هذه المحاضرة في هذه الأيام؛ إن الأمة الآن متشرذمة متهالكة مشتتة ممزقة، ولن تقوم لها قائمة ولن يكون لها كيان إلا إذا اتحد صفها، والتقى شملها، وتجمع أبناؤها، ولن يجمع هذا الشتات المتناثر إلا الأخوة الصادقة في الله، أسأل الله أن يجعلنا من الصادقين.

من حقوق الأخوة قضاء حوائج الدنيا على قدر الاستطاعة

من حقوق الأخوة قضاء حوائج الدنيا على قدر الاستطاعة الحق الرابع: من حق الأخ على أخيه إن استطاع أن يعينه في أمر من أمور الدنيا ألا يبخل عليه، ويجب على الأخ أن يحسن الظن بأخيه إن طلب منه أمراً من أمور الدنيا، وعجز عن أن يساعده فيه، فلا يتهمه أنه فرط وضيع؛ لأن هذه هي حياة الأُخوة، فقد أكلفك بأمر وأنت تتمنى من كل قلبك أن تقضيه لي، ذهبت إلى موطن عملك ومنصبك فعجزت عن أن تؤدي لي هذه الخدمة، فهل أبغضك وأهجرك؟! لا، فليس هذا هو حسن الظن بالإخوة، فالتمس لأخيك الأعذار، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول -كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة -: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه). فيا أخي المسئول! يا من منّ الله عليك بمنصب! ويا من منّ الله عليك بمال! ويا من منّ الله عليك بوجاهة أو جاه، إن استطعت أن تنفع إخوانك فافعل ولا تبخل. وبالمقابل يجب على الإخوة ألا يكلفوا إخوانهم ما لا يطيقون، فإن كلفوهم فعجزوا فليعذروهم، وما أجمل أن يقول الأخ لأخيه: أخي في الله! أسأل الله أن يجعلك مفتاح خير، وهذه حاجتي إليك، فإن قضيتها حمدت الله وشكرتك، وإن لم تقضها حمدت الله وعذرتك؛ هذه هي الأخوة! فعليك أن تعين إخوانك على حوائجهم الدنيوية على قدر استطاعتك؛ فإن الله جل وعلا يقول: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] وأنا لا أظن البتة أن مسلماً يستطيع أن ينفع إخوانه يسمع هذا الحديث الواحد فقط ويتخلى بعد ذلك عن أن ينفعهم ولو بكلمة طيبة، ولو بشفاعة مخلصة؛ فإن المحروم من حرمه الله من هذا الفضل، أسأل الله ألا يحرمنا وإياكم من فضله.

من حقوق الأخوة النصيحة بضوابطها وشروطها

من حقوق الأخوة النصيحة بضوابطها وشروطها الحق الخامس من حقوق الأخوة: التناصح، فالمؤمنون نصحة، والمنافقون والمجرمون غششة. في صحيح مسلم من حديث أبي رقية تميم الداري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدين النصيحة. قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم). لكن أتمنى من الله أن يعي إخواني الضوابط الشرعية للنصيحة. قال الشافعي: (من نصح أخاه بين الناس فقد شانه، ومن نصح أخاه فيما بينه وبينه فقد ستره وزانه). فقد يأتي أخ لينصحك فتشم من رائحته الحقد والغل، ولا تشعر أبداً بحب. وأما الناصح الصادق فهو رقيق القلب مخلص، نقي السريرة؛ يحب لأخيه ما يحب لنفسه، فإن رأى أخاه في عيب أو على معصية أو خطأ دنا منه، وتمنى أن لو ستره بجوارحه لا بملابسه، ثم قال له: حبيبي في الله! هذه نصيحتي لك يكللها الحب والصدق والإخلاص والغيرة، فأنا لا أحب أن يظهر خطؤك للآخرين، وليبين له النصيحة بأدب ورحمة وتواضع؛ أما أن يأتي أخ لينصحك أو أن يرسل إليك رسالة بحجة أنها نصيحة، فترى التوبيخ والتقريع وسوء الأدب، فهذا المسكين يظن نفسه أنه ناصح أمين، وهو خبيث القلب لم ينصح، بل كتب ليؤذي أخاه، أو تكلم ليؤذي أخاه، بل ليتهم أخاه، بل -والله! - إنه قد يسطر بعض التهم دون بينة أو دليل، ويزعم أنه نصح فلاناً من الناس، وهو كذاب؛ فالنصيحة لها آداب، ولها ضوابط، ولها شروط، فلتشعر أخاك وأنت تنصحه بحبك وبتواضعك وبخفضك لجناح الذل له. قال عز وجل: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29]، جلس رجل في مجلس عبد الله بن المبارك الإمام المجاهد التقي العابد الورع، فاغتاب أحد المسلمين، فقال له عبد الله بن المبارك: (يا أخي! هل غزوت الروم؟! قال: لا. قال: هل غزوت فارس؟! قال: لا. فقال عبد الله بن المبارك: سلم منك الروم، وسلم منك الفرس، ولم يسلم منك أخوك!!) يا لها من مصيبة، ويا له من عار، نجلس ونتفنن ونتحذلق في تصيد أخطاء بعضنا البعض، ويجلس الأخ منتفخاً منتشياً يتكلم عن أخيه وكأنه يتكلم عن مشرك، وكأنه لا يتكلم عن أخ يربط بينه وبينه رباط الإسلام ورباط الحب في الله، بل يتمنى أن لو ذبح أخاه ونشر لحمه بين الناس، فأين الأخوة؟! والله! إن القلب ليتمزق، وهذا الذي أحكي عنه موجود بين الإخوة الذين يعملون على الساحة للإسلام، فما ظنكم بما يحدث بين بقية المسلمين؟! والله! إننا لا نستحق تمكيناً، والله! إننا لا نستحق نصراً، والله! إننا لا نستحق رفعة ولا عزة؛ إن لله سنناً ربانية في الكون، لا تحابي هذه السنن أحداً من الخلق بحال مهما ادعى لنفسه من مقومات المحاباة. اليهود في العالم كله يشعر بعضهم ببعض، ويأتي أصحاب الأموال من قلب نيويورك ليقيموا المستوطنات لإخوانهم في القدس، ويذهب بعض أثرياء العرب إلى الشرق والغرب لينفق على عاهرة في ليلة ما يزيد على عشرة آلاف دولار! إن لله سنناً ربانية في الكون، لا تحابي هذه السنن أحداً من الخلق بحال، مهما ادعى لنفسه من مقومات المحاباة، قال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40]. فمن الحقوق التي يجب علينا أن نعيدها في حياتنا إلى واقع عملي بضوابطها الشرعية: التناصح، فعليك أن تنصح أخاك بأدب وتواضع وحكمة ورحمة! وأشدد عليكم يا طلاب العلم! إذا كانت النصيحة لشيخ من شيوخكم أو لعالم من علمائكم فإياك أن تنسى قدرك، وإياك أن تغض الطرف عن فضل شيخك، فليس هذا من الأدب، ووالله! لا بركة في علمك ولا فيما تعلمت إن كنت ممن يسيء الأدب لمن علمك عن الله وعن رسول الله. كنت أجلس ذات يوم مع شيخي الفاضل محمد بن حسين بن يعقوب، وكان يرد على سؤال لطالب من طلابنا، وكان السؤال بسوء أدب، وكأن الشيخ ما علَّم هذا السائل شيئاً عن الله ولا عن رسول الله. فإنه لا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا أهل الفضل، فاعرف قدر شيوخك، وعلى كل أن يعرف قدر نفسه. من حق الدين وحق الأخوة أن تنصح أخاك، لكن بضوابط النصيحة وشروطها، وإن لم تكن عالماً بضوابط النصيحة الشرعية فاسأل عنها، وتعلمها قبل أن تبذل النصيحة لأحد إخوانك؛ حتى لا تريد أن تنصحه فتقع في فضيحته، أسأل الله أن يستر علي وعليكم في الدنيا والآخرة.

من حقوق الأخوة التناصر

من حقوق الأخوة التناصر الحق السادس من حقوق الأخوة: التناصر. يقول صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قالوا: يا رسول الله! عرفنا كيف ننصره مظلوماً، فكيف ننصره ظالماً؟ قال: أن تكفه عن الظلم، فذاك نصره) فانصر أخاك في كل الأحوال، فإن كان ظالماً فخذ بيده وكفه عن الظلم، وإن كان مظلوماً -وأنت تملك أن تنصره- فانصره ولو بكلمة، وإن عجزت فبقلبك. إن استطعت أن تنصر أخاك بيدك فانصره بيدك، وإن عجزت عن نصرته باليد فانصره بلسانك، وإن عجزت عن ذلك فبقلبك، وذلك أضعف الإيمان. فهذه مسلمة استغاثت في أقصى بلاد الروم ونادت وقالت: وا إسلاماه! وا معتصماه! فنصرها المعتصم وقال: لبيك لبيك أختاه! فأين التناصر الآن بين هذه (الملايين المملينة)؟! آخر إحصائية لتعداد المسلمين في العالم مليار ومائتان وخمسون مليون مسلم، إحصائية ستة وتسعين وتسعمائة وألف للميلاد، وقد كنا نقول: المسلمون مليار مسلم، لكن إحصائية سنة ستة وتسعين تبين أن عدد المسلمين في العالم بلغ ملياراً ومائتين وخمسين مليون مسلم، إحصائية كبيرة، وعدد ضخم، ومع ذلك يصرخ المسلم هنا، وينتهك عرض الأخت هنالك، وينادي الجميع، ولكن من يجيب؟! أين المعتصم؟! فالتناصر من حقوق الأخوة، من حقوق الأخوة أن تنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، تنصر أخاك ظالماً بكفه عن الظلم، وتنصر أخاك مظلوماً بعونه وإعانته إن كنت تقدر على ذلك، إما بيدك، فإن عجزت فبلسانك، فإن عجزت فبقلبك، وذلك أضعف الإيمان.

من حقوق الأخوة الستر

من حقوق الأخوة الستر الحق السابع: الستر. وهو من أعظم حقوق الأخ على أخيه، فمن حق الأخ على أخيه أن يستر عليه، فالأخ ليس ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً، فإن زل الأخ في هفوة فهو بشر، فاستر عليه قال علماؤنا باتفاق: الناس صنفان: صنف اشتهر بين الناس بالصلاح والبعد عن المعاصي، فهذا إن زل ووقع وسقط في هفوة من الهفوات لبشريته؛ وجب على المسلمين أن يستروا عليه؛ لأنه رجل مشهور بالصلاح والدين والأخلاق والعلم والفضل، وهو بشر ليس بملك ولا نبي، ولقد مضى زمن العصمة بموت المعصوم المصطفى صلى الله عليه وسلم، فإن زل أخوك فاستر عليه، ولا تتبع عوراته. ففي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وأبو داود من حديث أبي برزة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر من آمن بلسانه ولما يدخل الإيمان قلبه! لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من تتبع عوراتهم، تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته، يفضحه في جوف بيته). اللهم استرنا ولا تفضحنا. يأتي الأخ يتكلم على أحد إخوانه، وكأنه مبرأٌ من كل ذنب، وكأنه مبرأ من كل عيب، ونسي المسكين أن بيته من الزجاج وهو يقذف الناس بالطوب والحجارة، فكل يتذكر ضعفه ونقصه وعيبه، قال عز وجل: {كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا} [النساء:94]، فإن رأيت أخاً من إخوانك من أهل الفضل والصلاح قد زل فاستر عليه، بل يجب عليك ذلك، أما إن كان الرجل -والعياذ بالله! - ممن يبارز الله بالمعاصي وممن يجهر ويتباهى بالمعصية، فهذا هو الفاسق الفاجر الذي لا غيبة له. في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: أن تذكر أخاك بما يكره. قال: فإن كان في أخي ما أقول؟ قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته)، والبهتان هو: الظلم العظيم، فهذه هي أخلاق نبينا، وهذه هي سنة نبينا، ومع ذلك كأن بيننا وبين هذه السنة العظيمة بعد المشرقين. إذاً: إن زل أخوك وجاء ليعتذر إليك فاقبل عذره، ولا تتعنت، فهذه أمراض منتشرة الآن. فإن زل الأخ في حق أخيه زلة فقد تراه ينسى كل أعمال هذا الأخ المسكين؛ لمجرد أنه زل زلة، ولا يريد أن يتغاضى معه أبداً، مع أن الله سبحانه يعاملنا يوم القيامة بالحسنات والسيئات، فمن رجحت حسناته على سيئاته نجا، فالله يعامل العباد يوم القيامة بالحسنات والسيئات، ونحن لا نريد أن نعامل إخواننا بهذا! قد نرى الأخ من إخواننا قد بذل وأعطى فإذا زل زلة هل تقوم فتنسف كل أعماله نسفاً؟ أنا أتكلم الآن عن إخواننا من أهل السنة والجماعة، عن إخواننا الذين معنا على المنهج، عن إخواننا الذين يدينون معنا دين الحق، فأنا لا أقصد أبداً سمك لبن تمر هندي، لا أريدها وحدة تجمع شتاتاً متناقضاً على غير حق واتباع وهدى، كلا! بل أنا أتكلم الآن عن إخوة لنا معنا على الطريق، يدينون لله بدين الحق، ومع ذلك إن زل هذا الأخ زلة نسف جهاده، وأصبح الحال كما قال الشاعر: وعين الرضا عن كل عيب كليلة كما أن عين السخط تبدي المساويا وكفى المرء نبلاً أن تعد معايبه.

من حقوق الأخوة التورع في القول

من حقوق الأخوة التورع في القول الحق الثالث: من حق أخيك عليك -إن لم تستطع أن تنفعه بمالك- أن تكف عنه لسانك، وهذا التورع في القول أضعف الإيمان، فإن ترك الألسنة تُلقي التهم جزافاً دون بينة أو دليل يترك المجال فسيحاً لكل من شاء أن يقول ما شاء في أي وقت شاء، فتصبح الجماعة وتمسي وأعراضها منتهكة، وسمعتها ملوثة، وإذا كل فرد فيها متهم أو مهدد بالاتهام، وهذه حالة من القلق والشك والريبة لا يمكن أن تطاق بحال من الأحوال، فكيف يعيش مسلم في هذه البيئة؟! يخرج وهو متهم أو خائف من أن يتهم؛ لأنه يرى إخوانه يراقبونه ويرصدونه، وهم له على كل كلمة وعلى كل سلوك بالمرصاد! فمن كان كذلك فهو يعيش في حالة قلق واضطراب. فتورع في القول عن إخوانك، فإن اللسان من أخطر جوارح هذا الجسم، قال الله جل وعلا: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18]. وقال الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:19]. وقال الله جل وعلا: {إنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [النور:23 - 25]. فتورع عن إخوانك، وأمسك عليك لسانك، وتورع عن العلماء، وتورع عن الخوض في أعراض كواكب الأمة ومصابيح الدجى وأئمة الهدى، تورع عن الخوض في أعراض الشيوخ، وعن الخوض في أعراض الإخوة والأخوات، واتق الله، فوالله! ما من كلمة إلا وهي مسطرة عليك في كتاب عند ربي، لا يضل ربي ولا ينسى. في الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت). وفي الصحيحين من حديث أبي موسى: (أنه قال: يا رسول الله! أي المسلمين أفضل؟ قال: من سلم المسلمون من لسانه ويده). وفي الصحيحين من حديث أبى هريرة -واللفظ للبخاري - أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم) والعياذ بالله! وفي الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود والحاكم وأحمد، وصححه الألباني من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:: (الربا اثنان وسبعون باباً: أدناها مثل إتيان الرجل أمه، وإن أربى الربا استطالة الرجل في عِرْضِ أخيه). فاستطالتك في عرض أخيك أبشع من الربا، بل أربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه. وأختم هذه الطائفة النبوية الكريمة بهذا الحديث الذي يكاد يخلع القلب، والحديث رواه الطبراني، وقال عنه شيخنا الألباني في السلسلة الصحيحة: حديث صحيح بمجموع طرقه، وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال، قيل: ما ردغة الخبال؟ قال: عصارة أهل النار، حتى يخرج مما قال وليس بخارج). ووالله! لو كنا نحمل في قلوبنا ذرة إيمان، ونسمع حديثاً من هذه الأحاديث؛ لألجم الإنسان منا لسانه بألف لجام قبل أن يتكلم بكلمة، ولكنه لا أقول: إنه ضعف إيمان، بل إنا لله وإنا إليه راجعون.

من حقوق الأخوة طهارة القلب من الغل والحقد والحسد

من حقوق الأخوة طهارة القلب من الغل والحقد والحسد الحق الثاني من حق الأخ على أخيه: ألا يحمل الأخ على أخيه غلاً في صدره ولا حقداً ولا حسداً؛ لأن المؤمن سليم الصدر، طاهر النفس، زكي النفس، تقي القلب، نقي القلب. المؤمن ينام على فراشه من الليل وهو يشهد الله في عليائه أنه لا يحمل ذرة غل أو حقد أو حسد على مسلم على وجه الأرض، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول -كما في الصحيحين من حديث أنس -: (لا تباغضوا، ولا تقاطعوا، ولا تدابروا، ولا تحاسدوا، وكونوا -عباد الله- إخواناً). فالحقد والحسد من أخطر أمراض القلوب والعياذ بالله! فقد يرى الأخ أخاه في نعمة فيحقد عليه ويحسده، ونسي هذا الجاهل أنه ابتداءً لم يرض عن الله الذي قسم الأرزاق، فمن الذي وهب؟ إنه الله، ومن الذي أعطى هذا العلم، وأعطى هذا المال، وأعطى هذه الزوجة الصالحة، وأعطى هذا الولد الطيب، وأعطى هذا الحلم، وأعطى هذا الفضل؟ إنها أرزاق قسمها الرزاق، فالذي يحسد إخوانه هو في حقيقة الأمر معترض على الله جل جلاله، فليتق الله، وليتب إلى الله، وليعد إلى الله سبحانه، وليسأل الله الذي وهب هذا أن يعطيه من فضله وعظيم عطائه، كما أعطى إخوانه من عظيم فضله وواسع عطائه. والحسد من خصال اليهود، فكل منا ينقب الليلة في قلبه، ابحث في قلبك يا من تستمع إلي الآن! ويا من تستمع إلي بعد ذلك عبر شريط الكاسيت! فأنا لا أخاطبكم أنتم فقط، بل أخاطب ملايين الأمة ممن يسمعون هذا الشريط، فكل ينقب في قلبه، هل خلا قلبك من الحقد؟ وهل طهر قلبك من الغل؟ وهل طهر قلبك من الحسد؟ هل رددت هذا الدعاء مع هؤلاء الصادقين: {وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَءَامَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10]؟ فردد هذا الدعاء مع هؤلاء بصفاء، وصدق، وعمل، قال الله: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:9 - 10]. فلماذا الحقد والحسد، وصاحب الفضل هو الله، والذي يقسم الأرزاق بعدله هو الله؟ هل تشك في عدل الله؟ سل الله الذي أعطى إخوانك أن يعطيك من فضله، وهو الواسع العليم. روى أحمد في مسنده بسند جيد من حديث أنس قال: (كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة، فخرج علينا رجل تقطر لحيته من أثر الوضوء، وقد أخذ نعليه بشماله، فدخل فصلى وسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وانصرف، وفي اليوم التالي قال النبي صلى الله عليه وسلم: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة، فدخل الرجل نفسه، وفي اليوم الثالث قال النبي كذلك، فانطلق وراءه عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، وقال: يا أخي! لقد تلاحيت مع أبي -أي: تشاجرت مع أبي- وأقسمت ألا أبيت في داره ثلاث ليال، فإن رأيت أن أبيت هذه الليالي معك فعلت، قال: نعم أفعل -فبات عبد الله بن عمرو معه؛ ليراقب هذا الرجل في عمله فيقتدي به؛ ليكون من أهل الجنة، كما قال الله عز وجل: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26] فهم كانوا يتسابقون في الخيرات لا في كشف العورات، ولا في هتك العورات. قال:- فكان عبد الله بن عمرو يراقب الرجل، فلم ير كثير عمل، ولم ير الرجل يقوم من الليل، إلا أنه إذا استيقظ من نومه ذكر الله ونام، حتى إذا حان وقت صلاة الفجر قام فصلى الفجر -يحافظ على الصلاة في بيت الله خلف رسول الله- ولا يتكلم إلا بخير، فلما انقضت الليالي قال له ابن عمرو: يا أخي! والله! ما تلاحيت مع أبي، ولكن رسول الله قال كذا وكذا، وأنا أتيت لكذا وكذا فلم أر شيئاً، فقال الرجل: هو ما رأيت، فلما انصرف نادى عليه وقال: هو ما رأيت إلا أنني أبيت ولا أحمل لأحد من المسلمين في قلبي غشاً ولا حقداً ولا حسداً، فقال عبد الله بن عمرو: هذه هي التي بلغت بك) إنها سلامة الصدر للمسلمين؛ ولذا -يا أخي- أنا بشر وأنت بشر، فلا تعكر صفاء قلبي لإخواني بكلمات من عندك، ولا تعكر حب أخيك لأخ من إخوانه بنميمة خبيثة بحجة أنك تنصحه! الرسول صلى الله عليه وسلم -وهو صاحب أسلم صدر على وجه الأرض، وصاحب أطهر قلب- كان يأمر أصحابه ألا يخبروه بشيء عن أصحابه؛ حتى يخرج إليهم وهو يحمل للجميع صدراً سليماً، وقلباً طاهراً نقياً، إنها أخلاقيات لا توجد الآن إلا بين القلة القليلة من الموحدين الذين عرفوا قدر الأخوة الصادقة في الله.

من حقوق الأخوة الحب في الله والبغض في الله

من حقوق الأخوة الحب في الله والبغض في الله الحق الأول من حقوق الأخوة في الله: الحب في الله والبغض في الله. محال أن تتحقق أخوة صادقة من غير حب في الله وبغض في الله، فالحب في الله والبغض في الله أوثق عرى الإيمان، كما في الحديث الذي رواه أبو داود والضياء المقدسي، وصححه الشيخ الألباني من حديث أبي أمامة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من أحبَّ لله وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان) فهل تحبني لله؟ وهل أنا أحبك لله؟ وهل تحب أخاك لله؟ وهل تبغض أخاك لله؟ وهل تعطي أخاك لله؟ وهل تمنع فلاناً لله؟ سل نفسك الآن بصدق؛ فإن عقد الولاء والبراء الآن ليس لله إلا من رحم الله، وإنما من أجل رايات ومسميات وجماعات، فأنا أحب أخاً ينتمي لجماعتي، ويجلس معي بين يدي شيخي الذي أتتلمذ على يديه، وأتلقى العلم عنه، أما هذا الأخ الصادق المتبع المخلص الناصح الأمين فأنا أبغضه، فهو لا يفهم ولا يعي ولا يدرك عن الواقع شيئاً، وهو رجل جهول، ولا حديث له إلا في الحيض، ولا يتكلم إلا في النفاس، ولا يجيد الحديث إلا في الرقائق، ولا يحسن القول إلا فيما يبكي الناس، فأنا أبغضه؛ لأنه لا ينتمي إلى جماعتي!! هذه مصيبة تحطم القلب. فهذا نتنياهو يصفع الأمة بالنعال على الأقفية، ولا زال إخواننا الذين يعملون للدين، والذين يرفعون راية الإسلام، يوالون ويعادون على مسميات ما تعبدنا الله بها، وما أنزل الله بها من سلطان!! فهل تحب لله؟ وهل تبغض لله؟ وهل تعطي لله؟ وهل تمنع لله؟ ولماذا أتيت؟ ولماذا لم تأت؟ ولماذا تكلمت؟ ولماذا صمت؟ ولماذا أعطيت؟ ولماذا منعت؟ ولماذا ابتسمت؟ ولماذا غضبت؟ ولماذا أحببت؟ ولماذا واليت؟ ولماذا عاديت؟ سل نفسك الآن أيها المسلم! هل عملك لله؟ واصدق الله، فلو خادعت الخلق فلن تخادع الذي يعلم منك السر وأخفى، فمن أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان. وتدبروا هذه الطائفة النبوية الشريفة من الأحاديث الصحيحة: في الصحيحين من حديث أنس، أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يُلقى في النار) أولها: وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، فإذا كانت هذه فيك تذوقت حلاوة الإيمان؛ فإن للإيمان طعماً وحلاوة. وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله) وأرجو ألا تسمع هذا الحديث وتجعله كلاماً عابراً، فإن هذا يكاد أن يمزق القلب، فإني أرى بعض الإخوة يستمعون، وكأن الكلام لا يصل إلى القلوب البتة! يقول صلى الله عليه وسلم: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)، فهل فكرت في هذه العبارة النبوية؟! يوم القيامة ستدنو الشمس من الرءوس، فلا عمارات ولا أشجار ولا بيوت ولا مكيفات، فالشمس فوق الرءوس، والرءوس تلتهب من حرارتها، والزحام يكاد وحده أن يخطف الأنفاس، والبشرية كلها من لدن آدم إلى آخر رجل قامت عليه الساعة واقفة في أرض واحدة، وجهنم تزفر وتزمجر، (قد أتي بها لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها) كما روى مسلم من حديث ابن مسعود، وفي ظل هذه المشاهد التي تخلع القلب ينادي الله جل وعلا على سبعة أصناف من البشرية في أرض المحشر؛ ليظلهم في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وهؤلاء هم: (إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه، وتفرقا عليه -من منا يعجز عن هذه؟ - ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه -أي: اجتمعا على الحب في الله، وتفرقا على الحب في الله- ورجل دعته امرأة ذات منصبٍ وجمال -أي: للزنا- فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه). اللهم ارزقنا عيناً دامعة، وقلباً خاشعاً، وعملاً متقبلاً يا رب العالمين! والشاهد هنا قوله: (ورجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه، وتفرقا عليه). وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن رجلاً زار أخاً له في قرية، فأرصد الله له على مدرجته ملكاً، فلما أتى الملك قال له الملك: أين تريد؟ قال له: إلى أخ لي في هذه القرية، فقال له الملك: فهل لك من نعمة تربها عليه -أي: تبتغي زيادتها- قال: لا؛ غير أني أحببته في الله، فقال له الملك: فإني رسول الله إليك أخبرك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه)، وأرجو ألا تمر أخي المسلم! على هذه الكلمات النبوية مرور الكرام، بل قف عليها متأملاً متدبراً، فمن أنت ليخبرك الملك بأن الله قد أحبك كما أحببت أخاك فيه؟! وفي الحديث الذي رواه أبو داود في سننه، والحاكم في المستدرك، وصححه على شرط الشيخين، ورواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، ورواه مالك في الموطأ بسند صحيح، أن أبا إدريس الخولاني رحمه الله قال: (أتيت مسجد دمشق فإذا فتىً براق الثنايا، والناس من حوله، وإذا اختلفوا في شيء أسندوه إليه، وصدروا عن رأيه -أي: أنه شاب صغير في حلقة من الناس فيهم الكبار والصغار، ولكنهم إذا اختلفوا في شيء سألوا هذا الشاب المبارك، فإذا ما أفتاهم أخذوا بقوله وفتواه- فقال أبو إدريس: من هذا؟ فقالوا: إنه معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال أبو إدريس: فلما كان من الغد هجّرت إلى المسجد -أي: بكرت إلى المسجد- فوجدت معاذاً قد هجر وسبقني، ووجدته يصلي، فانتظرت حتى قضى صلاته، فجئته من قبل وجهه فسلمت عليه، ثم قلت: والله! إني لأحبك، فقال معاذ: آلله؟ فقال أبو إدريس: آلله. فقال معاذ: آلله؟ فقال أبو إدريس: آلله. قال أبو إدريس: فأخذ بحبوة ردائي فجبذني إليه وقال لي: أبشر؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (وجبت محبتي للمتحابين في، والمتجالسين في، والمتزاورين في، والمتباذلين في). وفي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده! لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟! قالوا: بلى، يا رسول الله! قال: أفشوا السلام بينكم) فسلم على أخيك بصدق وحرارة، ولا تسلم سلاماً باهتاً بارداً، ووجهك في الاتجاه الآخر، خذ على يد أخيك بحب، فإنك قد ترى الأخ يأخذ بيد أخيه بطرف أصابعه، ويلوي عنقه إلى ناحية أخرى، ولا تشعر بحرارة اللقاء، ولا بإخلاص المصافحة، ولا تشعر بأن القلب قد صافح القلب، ولا تحس بأن الروح قد سلمت وامتزجت بالروح، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول -كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة -: (الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، والأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف)، قال الخطابي: فالخيِّر يحن إلى الأخيار، والشرير يحن إلى الأشرار، وهذا هو معنى: (ما تعارف من الأرواح ائتلف، وما تناكر من الأرواح اختلف) ولذا لا يحب المؤمن إلا من هو على شاكلته من أهل الإيمان، ولا يبغض المؤمن إلا منافق خبيث القلب، قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم:96] أي: محبة في قلوب عباده المؤمنين، اللهم اجعل المحبة والود لنا في قلوب عبادك المؤمنين برحمتك يا أرحم الراحمين! وهذه -أخي الحبيب- لا ينالها مؤمن على ظهر الأرض إلا بإذن الله، يعني: لا يضع الله محبتك في قلوب المؤمنين الصادقين إلا إذا أحبك ابتداءً، في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أحب الله عبداً نادى جبريل فقال: يا جبريل! إنى أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: يا أهل السماء! إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض -اللهم اجعلنا من هؤلاء الصادقين، برحمتك يا أرحم الراحمين! وإذا أبغض الله عبداً نادى جبريل: إني أبغض فلاناً فأبغضه، فيبغضه جبريل، وينادي جبريل في أهل السماء: يا أهل السماء! إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه، فيبغضه أهل السماء، ثم توضع له البغضاء في الأرض) اللهم سلم سلم يا أرحم الراحمين! اللهم عاملنا بفضلك ورحمتك، واستر ذنوبنا وعيوبنا بفضلك وكرمك يا أرحم الراحمين! إذاً: أيها الأحبة الكرام! الخيِّر لا يميل إلا إلى الأخيار، ولذا لو سافر إنسان حتى إلى بلاد الكفر وكان مؤمناً صادقاً فإن أول ما سيسأل عنه: المسجد أو المركز الإسلامي في هذه الولاية، وسرعان ما يسرع إليه فتلتقي روحه بأرواح إخوانه، أما الخبيث الذي ذهب للفسق والعربدة فإنه بمجرد أن يصل فسيسأل عن الخمارة، وعن أماكن الدعارة، اللهم استرنا ولا تفضحنا، فالخيِّر يحن إلى الأخيار، والخبيث يحن إلى الخبثاء الأشرار. وهناك أحاديث كثيرة في الحب في الله، ولا زلنا مع الحق الأول فقط من حقوق الأخوة الصادقة في الله جل وعلا، لكن أرجو أن ينتبه الإخوة إلى أن المرء لن يحشر يوم القيامة إلا مع من أحب، ففتش عن قلبك الآن، فهل أنت تحب الممثلين والممثلات؟ فإن كنت كذلك فستحشر معهم، وهل تحب الساقطين والساقطات، واللاعبين واللاعبات؟ إن كنت كذلك فستحشر معهم، أم هل أنت تحب الأطهار والأخيار والأبرار ابتداءً بنبيك المختار وصحابته الأبرار؟ إن كنت كذلك فستحشر معهم، في الصحيحين من حديث

الطريق إلى الأخوة

الطريق إلى الأخوة أعتقد اعتقاداً جازماً أن الطريق إلى الأخوة قد وضح في ثنايا المحاضرة، لكنني أجمل هذا الطريق في خطوتين اثنتين لا ثالثة لهما: الخطوة الأولى: العودة الصادقة إلى أخلاق هذا الدين، قال الشاعر: إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا فعلينا أن نعود إلى هذه الأخلاقيات التي ذكرتها في ثنايا المحاضرة، حتى تعود لنا الأخوة الصادقة الحقيقية، فتلتئم الصفوف، وتضمد الجراح، وتلتقي الأمة على قلب رجل واحد. أما وحال الأمة على هذه الحالة فوالله! لا وحدة، ولا ألفة، ولا نصرة، ولا عزة، ولا تمكين، فهذه سنن ثابتة لله في كونه، فتجب العودة الصادقة إلى أخلاق هذا الدين، وإن شئت فقل: العودة الصادقة إلى أخلاق سيد النبيين، فلقد لخصت عائشة أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم في كلمات قليلة فقالت: (كان خلقه القرآن) لقد كان محمد صلى الله عليه وسلم قرآناً متحركاً في دنيا الناس، رأى الناس صدقه ونبله وعفته وشرفه وحياءه وكرمه وبطولته وشجاعته ورجولته وسخاءه وعبادته وخشوعه وزهده وورعه وتقواه؛ فعلم الناس يقيناً أن هذا المنهج ما أنزله الله إلا ليتحول في دنياهم إلى واقع عملي، وإلى منهج حياة؛ فصدقوا هذا المنهج الرباني، وتحولوا بهذا المنهج من رعاة للغنم إلى ساسة وقادة لجميع الأمم. أيها الأحبة! قد يكون من اليسير جداً تقديم منهج نظري في التربية والأخلاق، بل إن المنهج موجود بالفعل، ومسطر في بطون الكتب والمجلدات، ولكن هذا المنهج لا يساوي قيمة الحبر الذي كتب به إن لم يتحول في حياة الأمة مرة أخرى إلى واقع عملي، وإلى منهج حياة، فإن البون شاسع بين منهجنا المنير، وواقعنا المرير. الخطوة الثانية: وجوب دعوة المسلمين إلى أخلاق الدين بحكمة. بعد أن نحول هذه الأخلاق في حياتنا إلى واقع، يجب علينا بعد ذلك أن نتحرك لدعوة المسلمين إلى هذه الأخلاق بالحكمة البالغة، والموعظة الحسنة، والكلمة الرقيقة الرقراقة، وبالرفق والحلم، فهذا هو مقام دعوة الناس إلى الله في كل زمان ومكان، قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125]. وقال تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران:159]. أسأل الله جل وعلا أن يربط بين قلوبنا برباط الحب في الله، اللهم املأ قلوبنا بحبك وحب نبيك وحب من أحبك، اللهم املأ قلوبنا بحب أوليائك، اللهم املأ قلوبنا ببغض أعدائك، اللهم املأ قلوبنا بحب أوليائك، واملأ قلوبنا ببغض أعدائك، اللهم املأ قلوبنا بحب أوليائك، واملأ قلوبنا ببغض أعدائك. اللهم ألف بين قلوبنا، ووحد صفوفنا، واجمع شملنا، اللهم اجمع شملنا، اللهم اجمع شملنا، اللهم شتت صف عدونا، اللهم شتت صف عدونا، اللهم شتت صف عدونا. اللهم اربط بين قلوبنا برباط الأخوة فيك، اللهم اربط بين قلوبنا برباط الأخوة فيك، اللهم اربط بين قلوبنا برباط الأخوة فيك؛ إنك ولي ذلك والقادر عليه. وأرجو رجاءً من أحبابي وإخواني أن يهتموا بهذه المحاضرة، وليعاهد الله كل أخ يقدر على أن يشتري من هذه المحاضرة بالذات خمسة أشرطة، ويوزعها ابتغاء وجه الله عز وجل بين إخوانه، وأتمنى لو دخل هذا الكلام كل بيوت المسلمين، وأتمنى من الله عز وجل أن يسعد قلوبنا بتحويل هذه الكلمات الربانية والنبوية إلى واقع يتألق روعة وجلالاً، إنه على كل شيء قدير، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. والحمد لله رب العالمين.

الاستنساخ

الاستنساخ قضية الاستنساخ قنبلة علمية أذهلت العالم كله، فزعزعت عقيدة مرضى القلوب، وضعاف النفوس، وكان لابد من إجلاء حقيقة هذه القضية، وذلك ببيان ثلاثة عناصر: الأول: أن العلم يدعو للإيمان، وأن نور الوحي لا يطمس نور العقل. الثاني: هل علماء الجيولوجية خلقوا نعجة؟ الثالث: أن ما تراه من عجيب الصنعة هو من خلق الله، فهو الذي أوجد من العدم، وهو الذي أحسن كل شيء خلقه.

خطورة قضية الاستنساخ

خطورة قضية الاستنساخ إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين. اللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء! وأيها الإخوة الكرام الأعزاء! وطبتم جميعاً وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم الكريم جل وعلا الذي جمعنا وإياكم في هذا الصباح الكريم المبارك على طاعته، أن يجمعنا مع حضراتكم في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! قنبلة علمية أذهلت العالم كله في الأيام الماضية!! بل وأصابت العالم كله بالدوار، وانطلق العلمانيون للصيد في الماء العكر، وخرجوا علينا بكلمات خبيثة عبرت تعبيراً صادقاً عما يدور في صدورهم، وخلجات نفوسهم. أيها الأحبة الكرام! هذه القنبلة العلمية التي أصابت العالم بالدوار، وأصابت العلمانيين بالشجون، وانطلقوا من خلالها ليدمروا بقية باقية من عقيدة باهتة مشوشة في قلوب مريضة لا يخلو منها زمان ولا مكان، هذه القضية هي: قضية الاستنساخ. إن القضية تمس العقيدة بطريق مباشر، وتمس قدرة الله وجلال الله وعظمة الله في نفوس المؤمنين؛ لذا رأيت من واجبي في هذا الجمع المهيب، وفي هذا اليوم الحبيب: أن أجلي الحق في هذه القضية الخطيرة، وفي هذه المسألة التي هزت القلوب المريضة والنفوس الضعيفة؛ لأنني أعتقد اعتقاداً جازماً أنه لا ينبغي أن يكون العلماء والدعاة بموضوعاتهم في واد من الأودية، وأن يكون العالم بصفة عامة، وأن تكون الأمة بصفة خاصة في واد آخر، ومن هذا المنطلق كان لقاؤنا في الجمعة الماضية بحول الله وتوفيقه عن الطريق إلى القدس، أسأل الله أن يحرره من دنس اليهود، وأن يرده إلى الأمة رداً جميلاً، إنه وليّ ذلك والقادر عليه. وإن لقاءنا مع حضراتكم عن قضية الساعة التي زلزلت العقيدة في قلوب مريضة، ونفوس خبيثة ألا وهي قضية (الاستنساخ). أيها الأحبة! واجب عليكم جميعاً ألا ينصرف من بين يدي أحد إلا إذا أنهيت هذا الموضوع الخطير؛ فإنه يجب عليك أن تقف اليوم على أبعاده، هذا لزام على كل مسلم في هذه اللحظة، فإن لم تصبّر نفسك ساعة لله؛ لتتعرف على قضية خلخلت العقيدة في قلوب عباد الله، فمتى ستبذل وقتك لدين الله جل وعلا؟! وسوف ينتظم حديثنا مع حضراتكم في هذا الموضوع الخطير في العناصر التالية: أولاً: العلم يدعو إلى الإيمان. ثانياً: هل خلقوا نعجة بالفعل؟! ثالثاً: هذا خلق الله. وأخيراً: يا أيها الإنسان ما غرك!! فأعيروني القلوب والأسماع جيداً والله أسأل أن يتقبل مني ومنكم صالح الأعمال.

العلم يدعو إلى الإيمان

العلم يدعو إلى الإيمان أولاً: العلم يدعو إلى الإيمان: إن نور الوحي لا يطمسُ نور العقل أبداً، بل يباركه ويزكيه ويقويه، شريطة أن يذعن العقل مع الكون كله لله رب العالمين، وإنه لواجب علينا أن نحترم العقل والإدراك البشري، بالقدر الذي أراده الله له من التكريم في مجاله الذي يبدع ويحسن فيه، حتى لا نمضي بالعقل البشري والإدراك البشري بعيداً عن مجاله وحدود قدراته وإبداعه، وحتى لا نمضي في التيه والضلال بلا دليل أو برهان. أيها الأحبة الكرام! ما كان الإسلام أبداً ولن يكون ضداً للعلم، وكيف ذلك والإسلام هو الذي دعا للعلم منذ لحظاته الأولى؟! يوم أن تنزلت الآيات على قلب النبي الأمي الذي علم المتعلمين! قال الله جل وعلا: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1 - 5]. وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان:34] فعلم الله علم محيط كامل، فالله جل جلاله يعلم ما كان وما هو كائن، وما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون. قال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59]، ولكن الله جل وعلا قدر منذ الأزل وشاء منذ الأزل أن يعلم الإنسان شيئاً من علمه سبحانه في الوقت الذي يشاؤه الله، وبالقدر الذي يريده الله، قال جل في علاه: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة:255]. فالإنسان لا علم له بأي شيء في هذا الكون إلا بالقدر الذي أراده الله، وفي الوقت الذي يريده الله، وإلا فإن ما اكتشفه الإنسان كان موجوداً مخبوءاً في الكون منذ الأزل، وما اكتشفه الإنسان إلا يوم أن أراد الله، ويوم أن أذن الله للإنسان أن يكتشفه، قال جل جلاله: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:31 - 33]، فكل علم يعلمه الإنسان اليوم إنما ورثه الله جل وعلا لهذا الإنسان من خلال أبيه آدم الذي علمه الله أسماء وعلوم كل شيء، وظل هذا العلم مخبوءاً في هذا الكون، فإذا شاء الله في وقت من الأوقات أن يكتشفه الإنسان اكتشفه في الوقت الذي يشاء الله، وبالقدر الذي يريده الله جل وعلا، إلا أن الإنسان الذي أسكرته نشوة العلم، وأعماه غرور العلم، جاء في هذا القرن متبجحاً بعلمه، مستعلياً على الله باكتشافاته، مع أنه إلى الآن لا يعلم حقيقة نفسه!! لا يعلم حقيقة مشاعره!! لا يعلم حقيقة عقله!! لا يعلم حقيقة روحه!! ومع ذلك فإنه يتبجح ويستعلي على الله بما شاء الله وأراده الله له أن يكتشفه! ومن هنا فإن العلماء ينقسمون تجاه الآيات الكونية والعلمية إلى قسمين: القسم الأول: فريق من العلماء إذا ما كشف آية من آيات الله، وكشف اكتشافاً علمياً في كون الله، يتبجح ويزداد عناداً وإلحاداً وكبراً وطغياناً وكفراً، وهؤلاء عند الله بعلومهم أضل من البهائم قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179]. القسم الثاني: فريق إذا ما اكتشف آية لله في كونه، ووقف على قانون علمي أو اكتشاف علمي، ازداد إجلالاً لله، وازداد خشوعاً لله، وفي هذا الصنف يقول الله جل وعلا: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]. أيها الأحبة الكرام! العلم يدعو إلى الإيمان بالله جل وعلا، وأختم هذا العنصر الهام بكلمات دقيقة لعالم الطبيعة والفيلسوف الأمريكي (ماريت ستانلي) إذ يقول: إن العلوم التي يصل إليها الإنسان تبدأ بالاحتمالات، وتنتهي كذلك بالاحتمالات، وإن أي نتيجة يصل إليها الإنسان من خلال نظرية علمية ليست نهائية، وإنما هي اجتهادية؛ ولذلك فإن العالم إذا ما وصل إلى نظرية أو قانون يقول: هذا هو آخر ما وصل إليه العلم، ولكنه يترك الباب مفتوحاً لما يستجد من نظريات ومن علوم. هذه الكلمات الدقيقة تبين حقيقة ما وصل إليه العلم في العصر الحديث في أي مجال من المجالات، فوسيلة الإنسان لأي نظرية علمية هي التجربة والقياس، وهذه التجربة والقياس -باتفاق أهل العلم- لا يمكن أبداً أن توصل الإنسان إلى نتيجة حتمية يقينية نهائية، وإنما توصله إلى نتيجة ظنية، وهذا هو ما أثاره كثير من العلماء على قضية الاستنساخ، وهذا هو عنصرنا الثاني: هل خلقوا نعجة بالفعل؟!

هل خلقوا نعجة بالفعل؟

هل خلقوا نعجة بالفعل؟ اصطاد العلمانيون في الماء العكر، وخرجوا علينا بكلمات خبيثة، خرج علينا من يقول: انتهت أسطورة الأمومة!!! وخرج علينا من يقول: لم تعد هناك حاجة لدور ملُحٍّ للرجل!!! وخرج علينا من يقول: لقد آن الأوان للعذراء التي لم تتزوج أن تختار طفلاً بالصفات الوراثية التي تشاء! دون الزواج بأي رجل على وجه الأرض!!! وخرج علينا من العلمانيين من يقول: لقد أحدثت النعجة (دوللي) انقلاباً في كل الموازين والمقاييس!!! اسمع! انقلاباً في كل المقاييس والموازين البيولوجية والأخلاقية والدينية، منذ أن خرجت إلى النور في يوليو الماضي، فجعلت الإنسان في حَيْص بَيْص، هكذا يقول: فجعلت الإنسان في حيص بيص؛ وذلك لسبب واحد وهو: أنها ولدت بدون أب!! ونسي العالم المجنون المخدوع أن الله خلق عيسى بدون أب! وخلق آدم بدون أم وأب! وصار العالم والعلمانيون يطبلون ويزمرون: انتهى عالم الشرع والدين، وليس هناك مجال للخطباء الذين يصرخون على المنابر أن يتكلموا بعد اليوم، لماذا؟! لقد خلق العلماء نعجة!! كذب وخداع، فما الذي حدث؟ ركزوا معي جيداً لتقفوا على حقيقة ما حدث، وليمتلئ قلبك الآن بعظمة الملك، وجلال الملك، وقدرة الملك جل جلاله. كل ما حدث أنهم أخذوا خلية -وركز معي جيداً، فلن أسمح لك أن تنصرف إلا بعد أن تسمع الموضوع بكاملة وإلا فوالله لا عذر لك إن اختل الإيمان في قلبك من كلام العلمانيين -وهذه الخلية الحية أخذوها من ثدي نعجة- ومنطقة الثدي تسمى: (( active area)) أي: منطقة نشطة، وهذه الخلية الحيوانية تحتوى على اثنين وخمسين كروموسوماً، والكروموسوم: هو الذي يحمل الصفات الوراثية كلها، وهذه الخلية لا يمكن على الإطلاق أن تتكون إلا إذا التقى الحيوان المنوي بالبويضة، فإذا خصبت البويضة بالحيوان المنوي وتجمعت الكروموسومات من الحيوان المنوي ومن البويضة تكونت الخلية، والحيوان المنوي يحتوي على ستة وعشرين كروموسوماً في الشواذ، والنواة في البويضة تحتوي على ستة وعشرين كروموسوماً، فإذا ما اجتمع هذا العدد في الحيوان المنوي مع هذا العدد في نواة البويضة وخصبت البويضة، تكونت الخلية التي تحتوي على (52) كروموسوماً، هذا في الحيوان. أما الخلية في الإنسان: فإنها تتكون من ستة وأربعين كروموسوماً، (23) كروموسوماً في الحيوان المنوي للرجل، و (23) كروموسوماً في بويضة المرأة، فإذا لقح الحيوان المنوي البويضة تجمعت كل هذه الأعداد من الكروموسومات التي تحمل كل الصفات الوراثية في الحيوان أو في الإنسان، ماذا صنع هذا الفريق العلمي في أسكتلندا؟ أخذوا خلية من نعجة تتكون من (52) كروموسوماً، ثم في المرحلة الثانية: أخذوا بويضة من نعجة ثانية، وهذه البويضة لم تخصب بحيوان منويّ أي أنها: تحتوي على (26) كروموسوماً فقط، واستطاعوا بإبرة دقيقة تصنع بالكمبيوتر أن يأخذوا حمض الـ: ( DNA) الذي يحمل كروموسومات هذه البويضة، فأصبحت البويضة بسائلها فقط دون حمض الـ: ( DNA) أي: بدون الكروموسومات، ووضعوا الخلية الأولى التي جاءوا بها من النعجة الأولى إلى جوار البويضة التي حصلوا عليها من النعجة الثانية، وعن طريق الحث الكهربائي اندمجت الخلية في هذه البويضة، وبعد ستة أيام نقلوا البويضة التي وضعوا بداخلها الخلية -التي تحتوي على جميع الصفات- إلى النعجة الثالثة، وبدأ الحمل يسير في رحم النعجة الثالثة حتى وضعت النعجة نعجة تشابه النعجة الأم، أي: التي أخذوا منها الخلية الأولى. هذا هو كل ما حدث في الاستنساخ.

الرد على من يظن أن البشر خلقوا نعجة

الرد على من يظن أن البشر خلقوا نعجة أقول بعد هذا البيان: هل يدعي عاقل يحترم نفسه ويحترم عقله أنهم خلقوا نعجة؟!! إن الخلق إيجاد من عدم، وليس تركيب مكونات هي أصلاً من خلق الملك. وأنا أتحدى أمام هذا الجمع أن يخلق علماء الهندسة الوراثية حيواناً منوياً واحداً، أو أن يخلقوا بويضة، أو أن يخلقوا خلية. لماذا ذهبتم إلى الخلية -التي هي أصلاً من خلق الملك- فأخذتموها وأجريتم عليها التجارب؟!! لماذا لم توفروا على أنفسكم هذا الجهد الهائل، وهذه المليارات الطائلة، وتخلقوا خلية من أول الأمر تحمل الصفات الوراثية التي تريدونها؟!! فالخلية خلق مَنْ؟! والحيوان المنوي خلق مَنْ؟! والبويضة خلق مَنْ؟! {ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [الأنعام:95]، وأنا أتحدى علماء الهندسة الوراثية على وجه الأرض وأقول لهم: أيهما أيسر: أن نستنسخ إنساناً جديداً أم أن نبقي حياة إنسان يعيش بيننا؟! A أن نبقي حياة إنسان يعيش بيننا، فلا نحتاج إلى نواة ولا إلى خلية ولا إلى تجارب ولا إلى سنوات ولا إلى مليارات. نتحدى الدنيا وعلماء الهندسة الوراثية في أمريكا وبريطانيا وأسكتلندا وإيطاليا والصين وفى كل الأرض نتحداهم أن يخلدوا (بيل كلينتون) أو (جون ميجور) أو (نتنياهو)، نتحدى العالم كله. {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [الأنبياء:34 - 35]. اسمع أيها الموحد لربك؛ ليمتلئ قلبك إيماناً بالله، اسمع لقول الله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} هل تصدقون الله؟! هذا كلام ربنا، {لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:73 - 74].

هذا خلق الله

هذا خلق الله ثالثاً: هذا خلق الله. أيها الإنسان المغرور! يا من أنفقت المليارات! وتحديت رب الأرض والسماوات، انظر لخلق الله، يلتقي الرجل بالمرأة ويستمتع ويتلذذ كل منهما، ويلقي الرجل نطفته، وهذه النطفة تحتوي على مئات الملايين من الحيوانات المنوية، تنطلق هي بدورها لتبحث عن البويضة، وتخرج البويضة كأنها عروس في كامل زينتها عليها تاج مشع، نعم عليها تاج مشع! وهذا مفهوم علمي وليس مفهوماً أدبياً، عليها تاج مشع لعلها تجذب إليها حيواناً منوياً واحداً، فتهلك كل هذه الملايين من الحيوانات، ولم تكتشف هذه القضية العلمية إلا في القرن العشرين، في الوقت الذي أخبر عنها المصطفى منذ مئات السنين، اسمع لحبيبك محمد -والحديث في صحيح مسلم - قال صلى الله عليه وسلم: (ما من كل الماء يكون الولد) بل تهلك كل الحيوانات، ويبقى حيوان منوي واحد: (ما من كل الماء يكون الولد، وإذا أراد الله خلق شيء لم يمنعه شيء)، فيصل هذا الحيوان المنوي الواحد إلى جدار البويضة، فتخرج له سائلاً لزجاً لعله يتعلق بجدارها! ويفرز هو الآخر سائلاً لعله أن يذيب هذا الشعاع الملتف حول البويضة، ثم يخترق الحيوان المنوي جدار البويضة، فإذا ما أخصبت البويضة بأمر الملك تكون ما يسمى بالنطفة الأمشاج، قال تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان:2]، تتكون هذه النطفة الأمشاج، ثم تبدأ الخلية في الانشطار إلى خليتين، والخليتان إلى أربع، وهكذا حتى تتكون في صورة تشبه الدودة، فتتعلق هذه الدودة بجدار الرحم، فتتحول إلى المرحلة التالية ألا وهي مرحلة العلقة، وسميت بالعلقة لتعلقها بجدار الرحم، وتبدأ هذه العلقة بالتمايز إلى طبقتين: طبقة خارجية وظيفتها أن تأكل الرحم؛ لتحصل على الدماء لتغذي الجنين، أما الطبقة الداخلية في العلقة فوظيفتها: تخليق الجنين وإنشاؤه في الرحم. وبعد مرحلة العلقة تتحول هذه العلقة إلى مضغة، وسميت مضغة؛ لأن العلماء اكتشفوا على ظهرها أشباه أثر أسنان وكأنها قد مضغت، وهذه المضغة بعد مرحلة تكون عظاماً، ثم يكسوا الله جل وعلا العظام باللحم، ثم ينشئ الله الإنسان خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين، قال جل وعلا: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:12 - 14]. أيها المسلمون! أئله مع الله؟! هذا خلق الله جل وعلا، فتبارك الله أحسن الخالقين. وقد قفت على كلمة لعالم فرنسي شهير كبير تابع نمو الجنين في رحم الأم: نطفة ثم علقة ثم مضغة، وفجأة -في الوقت الذي شاء الله أن يرسل الملك فينفخ فيه الروح- تحرك هذا الجنين لما نفخت فيه الروح، فصرخ العالم الذي كان يتابع النمو ساعة بساعة وقال: (هنا الله)! توقف كل العلم البشري، من أين جاءت الحياة إلى هذا الجنين؟! لماذا تحرك؟! ما الذي حدث؟! إنها الروح: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85]، وفي الصحيحين من حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم قال: (وَكَّلَ الله بالرحم ملكاً فيقول الملك: أي رب! نطفة. أي رب! علقة، أي رب! مضغة. أي رب! أذكر أم أنثى؟ أي رب! ما رزقه؟ ما أجله؟ أي رب! أشقي أم سعيد؟ فيكتب الملك ما شاء الله) وفي رواية: (فيقضي ربك ما شاء). أئله مع الله؟! العلم الحديث يقول: إنه يعلم الآن الجنين أهو ذكر أم أنثى! وأنا أقول لهم: نعم، لا ننكر عليكم أن تعلموا أن الجنين في بطن أمه ذكر أم أنثى، ولكن متى علمتم ذلك؟ لقد علمتم ذلك في مرحلة معينة من مراحل النمو، ولكننا نقول: إن الله جل وعلا قد علم أن فلاناً من الناس سيلتقي بفلانة، ويتزوج بها في الليلة الفلانية، ويقدر الله بينهما الإنجاب، ويعلم الله هل سيكون المولود ذكراً أم أنثى، ويعلم الله أيكون هذا المولود شقياً أم سعيداً، ويعلم الله أجله، ويعلم الله رزقه، ويعلم الله بأيِّ أرض يموت. اسألوا أهل العلم وقولوا لهم: أأنتم أعلم أم الله؟! قل للطبيب تخطفته يد الردى يا شافي الأمراض من أرداك قل للمريض نجا وعُوفي بعدما عجزت فنون الطب من عافاك قل للصحيح مات لا من علة من يا صحيح بالمنايا دهاك بل وسل البصير كان يحذر حفرةً فهوىَ بها من ذا الذي أهواك بل سائل الأعمى خطى وسط الزحام بلا اصطدام من يقود خطاك وسل الجنين يعيش معزولاً بلا راع ومرعى ما الذي يرعاك وسل الوليد بكى وأجهش بالبكاء لدى الولادة ما الذي أبكاك وإذا ترى الثعبان ينفث سمه فسله من ذا بالسموم حشاك واسأله كيف تعيش يا ثعبان أو تحيا وهذا السم يملأ فاك واسأل بطون النحل كيف تقاطرت شهداً وقل للشهد من حلاك بل سائل اللبن المصفى من بين فر ث ودم من ذا الذي صفاك وإذا رأيت الحي يخرج من ثنا يا ميت فاسأله من أحياك وإذا رأيت النبت في الصحراء ير بو وحده فاسأله من أرباك وإذا رأيت النخل مشقوق النوى فاسأله من يا نخل شق نواك وإذا رأيت البدر يسري ناشراً أنواره فاسأله من أسراك وإذا رأيت النار شب لهيبها فاسأل لهيب النار من أوراك وإذا ترى الجبل الأشم مناطحاً قمم السحاب فسله من أرساك لله في الآفاق آيات لعـ ل أقلها هو ما إليه هداك ولعل ما في النفس من آياته عجب عجاب لو ترى عيناك والكون مشحون بأسرار إذا حاولت تفسيراً لها أعياك أئله مع الله؟! سل الواحة الخضراء والماء جاريا وهذه الصحاري والجبال الرواسيا سل الروض مزداناً سل الزهر والندى سل الليل والإصباح والطير شاديا سل هذه الأنسام والأرض والسما سل كل شيء تسمع التوحيد لله ساريا ولو جن هذا الليل وامتد سرمدا فمن غير ربى يرجع الصبح ثانيا أئله مع الله؟! انظر لتلك الشجرة ذات الغصون النضرة كيف نمت من حبة وكيف صارت شجرة ابحث وقل من ذا الذي يخرج مها الثمرة ذاك هو الله الذي أنعمه منهمرة ذو حكمة بالغة وقدرة مقتدرة

يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم

يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:6 - 8]. ؟!! اعرف قدر ربك لتعرف قدر نفسك اعرف عظمة ربك لتعرف عجز نفسك اعرف جلال ربك لتعرف ضعف نفسك. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [فاطر:15 - 17]. اللهم املأ قلوبنا إيماناً، اللهم املأ قلوبنا إيماناً، اللهم املأ قلوبنا إيماناً، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، اللهم لا تدع لأحد من هذا الجمع المهيب ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا طائعاً إلا ثبته، ولا حاجة هي لك رضاً ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا رب العالمين! اللهم حرر الأقصى من دنس اليهود، اللهم حرر الأقصى من دنس اليهود، اللهم حرر الأقصى من دنس اليهود، اللهم عليك باليهود وأتباع اليهود، اللهم عليك باليهود وأتباع اليهود، اللهم دمر كل من كاد دينك، اللهم دمر كل من كاد دينك، اللهم أعل بفضلك كلمة التوحيد والإيمان، واجعل مصر واحة للأمن والأمان برحمتك يا رب العالمين! هذا وما كان من توفيق فمن الله، وما كان من خطأ أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وجزاكم الله خيراً، وكل عام وأنتم بخير. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الأمن والأمان

الأمن والأمان يعيش العالم اليوم صراعاً نفسياً، ورعباً يجتاح الأعماق ويقضي على الطمأنينة والرخاء، رغم ما حققه من التقدم في عالم الماديات، وما وفره من وسائل حماية الأمن والاستقرار، والسبب في ذلك هو البعد عن منهج الله الذي لو رجع الناس إليه لسكب الله في نفوسهم السكينة، ولملأ قلوبهم طمأنينة، ومن قرأ تاريخ المسلمين وجد ذلك واقعاً.

فقدان الأمن والأمان في عصرنا

فقدان الأمن والأمان في عصرنا الحمد لله، نحمده ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة، وزكى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور، وأسأل الله جل وعلا أن يتقبل مني وإياكم صالح الأعمال، وأن يجمعني وإياكم في الدنيا دائماً وأبداً على طاعته، وفي الآخرة مع سيد النبيين في جنته ومستقر رحمته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

تحول وسائل الأمن الحديثة إلى وسائل رعب

تحول وسائل الأمن الحديثة إلى وسائل رعب أحبتي في الله! إن العالم اليوم محروم من الأمن والأمان، رغم هذه الوسائل الأمنية المذهلة التي وصل إليها العلم الحديث، ورغم هذه الاختراعات والابتكارات المذهلة التي يكتشف ويخترع منها كل يوم الجديد والجديد، ورغم هذا التخطيط الهائل المبني على الأسس العلمية والنفسية لمحاربة الجريمة. بالرغم من هذا كله فإن العالم بأسره لا زال محروماً من الأمن والأمان، وإن الملايين من البشر في عالمنا اليوم يعيشون في حالة من الرعب والفزع والذعر والخوف والقلق، بل وينتظرون الموت في كل لحظة من لحظات حياتهم، لما يرونه بأم أعينهم من إبادة للجنس البشري، ولما يرونه بأم أعينهم من رخص شديد للدم البشري! بل لقد تحولت هذه الوسائل الأمنية نفسها من رءوس نووية وطائرات وصواريخ وقنابل وبنادق وغيرها، هذه هي الوسائل الأمنية التي اخترعها وابتكرها العالم لحمايته ولأمنه ولاستتباب استقراره، تحولت هذه الوسائل الأمنية نفسها إلى مصادر رعب وفزع وهلاك وخوف واضطراب، وتعالت الأصوات، وصرخ المفكرون والأدباء والسياسيون هنا وهناك لنزع هذه الرءوس ولتقليص هذه الوسائل، وبالرغم من هذا كله لا زالت الملايين من البشر في عالمنا اليوم تعيش حالة من القلق والفزع والخوف والاضطراب، وأصبحت الدنيا في أعين هؤلاء الضعفاء البائسين المشردين مظلمة على الرغم من كثرة الأضواء من حولهم، وأصبحت الدنيا في أعينهم ضيقة على الرغم من كثرة الميادين والحدائق واتساع الصحراء بعدما طردوا من ديارهم وأموالهم وأوطانهم! وهكذا حرم العالم اليوم من الأمن والأمان على كثرة هيئاته ومنظماته وقوانينه ومواثيقه، حرم بعد هذا كله من نعمة الأمن والأمان، بل ووالله لا أكون مغالياً إن قلت: لقد أصبح الإنسان في عالمنا اليوم يفعل بأخيه الإنسان ما تخجل الوحوش أن تأتيه في عالم الغابات.

الحرمان من الرخاء الاقتصادي

الحرمان من الرخاء الاقتصادي وأصبح العالم اليوم أيضاً محروماً من الرخاء الاقتصادي بعد أن حرم من الأمن والأمان، على الرغم من كثرة الأسواق والأموال والبنوك والتجارات. وعلى الرغم من اختراع أحدث الوسائل في كل مجالات الاقتصاد إلا أن العالم اليوم محروم من الرخاء الاقتصادي، ولا زالت الملايين من البشر في عالمنا المنكوب تبحث عن لقمة الخبز فلا تجدها! ولا زالت الملايين من البشر تبذل ماء وجهها للحصول على ثوب تستر به عوراتها، ولا زالت الملايين من البشر تبحث وتبذل نفسها للحصول على المسكن، ومنهم من يموت جوعاً، ومنهم من يموت عطشاً، ومنهم من يموت برداً، ومنهم من يسكن الجبال ويعيش بين المخاطر محروماً من الرخاء والسعة.

عدم الاستقرار النفسي والطمأنينة

عدم الاستقرار النفسي والطمأنينة والعالم اليوم أيضاً محروم من الطمأنينة النفسية والسعادة القلبية وانشراح الصدر. بعد الأمن والأمان وبعد السعة والرخاء حرم أيضاً من الطمأنينة النفسية والسعادة القلبية وانشراح الصدر، والنفس إن لم تتوفر لها الطمأنينة النفسية والسعادة القلبية وانشراح الصدر، لا تستلذ بعيش وإن كان صاحبها غنياً، ولا تهنأ بثوب وإن كان فاخراً ولا تهنأ بمركب ولو كان فارهاً، هذه فطرة الله جل وعلا التي فطر الناس عليها. حرم العالم اليوم من الطمأنينة النفسية والسعادة القلبية وانشراح الصدر، ولا تظن أن هذا المال والمتاع، وأن هذه الشهرة وأن هذا الجاه وهذه المناصب، لا تظن أن هذا كله يعيد للنفس طمأنينتها، أو يعيد للقلب انشراحه، أو يعيد للإنسان السعادة وهذا وإن كان جزءاً قليلاً من أجزاء السعادة، إلا أن راحة القلب وانشراح الصدر وطمأنينة النفس لا تتحقق بمثل هذا، وإنما لا بد لها من دواء آخر.

أسباب الشقاء وحياة الضنك في العالم

أسباب الشقاء وحياة الضنك في العالم والحرمان الأمني والاقتصادي والنفسي الذي يعيشه العالم اليوم وصفه الله جل وعلا في القرآن الكريم بكلمتين اثنتين، ألا وهما: المعيشة الضنك، ووصفه من لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه الحاكم في المستدرك وابن ماجة في السنن وصحح الحديث شيخنا الألباني في صحيح الجامع من حديث عبد الله بن عمر، أنه صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر المهاجرين! خمس خصال إن ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشت فيهم الأوجاع والأسقام التي لم تكن في أسلافهم).

ظهور الفاحشة

ظهور الفاحشة من منا في الأمس القريب كان يسمع عن الإيدز؟! من منا بالأمس القريب كان يسمع عن الأزمة القلبية؟! من منا بالأمس القريب كان يسمع عن جلطة المخ؟! من منا بالأمس القريب كان يسمع عن الزهري والسيلان والفشل الكلوي؟! من كان يسمع عن مثل هذا وذاك؟! لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشت فيهم الأوجاع والأسقام التي لم تكن في أسلافهم.

نقص المكيال والميزان ومنع الزكاة

نقص المكيال والميزان ومنع الزكاة قال: (ولم ينقصوا المكيال والميزان)، بأبي هو وأمي! والله ما نقص المكيال وما نقص الميزان ولو نقص المكيال والميزان لكان الأمر هيناً، بل لقد انقلبت الموازين بأسرها واضطربت المقاييس كلها، (ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المئونة وجور السلطان، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا)، هذا المطر الذي يتنزل بعد هذا كله إنما هو رحمة من الله من أجل البهائم والشيوخ الركع والأطفال الرضع، ولو نزل بلاء بهذه الأرض فإن الحشرات والهوام يسبان ويلعنان بني آدم؛ لأنه لا ينزل البلاء إلا بذنب، ولا يرفع البلاء إلا بتوبة. ومن أخبار بني إسرائيل التي لا تصدق ولا تكذب كما قال صلى الله عليه وسلم: (وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج)، مما ذكره الحافظ ابن كثير: أنه في عهد سليمان -على نبينا وعليه الصلاة والسلام- أجدبت الأرض وجف الضرع وهلك الناس، فقال سليمان لبني إسرائيل: هيا بنا لنخرج لصلاة الاستسقاء، لنضرع إلى الله جل وعلا لينزل علينا المطر، وفي طريقه مر على وادي النمل، فنظر سليمان وسمع نملة تناجي ربها جل وعلا. وهو الذي فك الله له رموز لغة النمل والطير، كما قال الله عز وجل حكاية عنه: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل:18 - 19]. عرف سليمان لغة النمل فاستمع إليها وهي تقول: اللهم إنك تعلم أنه لا ينزل البلاء إلا بذنب، ولا يرفع البلاء إلا بتوبة، ونحن خلق من خلقك، فلا تهلكنا بذنوب بني آدم! والله تحيلنا على الزكاة، ومنعنا الصدقات ومنعنا الزكوات إلا من رحم الله جل وعلا. (ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدواً من غيرهم فيأخذ بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل الله بأسهم بينهم) بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، ذلك هو الضنك، ذلكم هو الشقاء، ذلكم هو الهلاك الذي وصفه النبي صلى الله عليه وسلم حينما يعرض الناس في أرض الله، في كل زمان وأوان عن منهج الله جل وعلا. هكذا أيها الأحبة! حرمان أمني، وحرمان اقتصادي، وحرمان نفسي وضيق في الصدر، ضنك بكل ما تحمله هذه الكلمة من معان عظيمة، ضنك وشقاء، ضنك في كل شيء، وضيق في كل شيء، في كل زمان وفي كل مكان، والله ما من يوم إلا وتسفك فيه دماء، وتتمزق فيه أشلاء، وتحرق بيوت وتدمر مصانع ومدارس ومزارع وصوامع، بل وتباد حضارات بأكملها على يدي هذا الإنسان الذي اخترع بنفسه وبيديه وسائل إبادته ووسائل إفنائه، ووسائل تدميره ووسائل إنهائه من هذه الحياة ومن هذا الوجود.

الرجوع إلى منهج الله هو المخرج من حياة الضنك والحرمان

الرجوع إلى منهج الله هو المخرج من حياة الضنك والحرمان إنه الضنك بكل ما تحمله هذه الكلمة من معان، {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه:124] نتيجة عادلة وجزاء عادل، نعم أحبتي في الله! احفظوا هذه العبارات وانقلوها ورددوها: إن هذه الحياة البشرية من صنع الله الذي أتقن كل شيء، ولا غضاضة أن أقول من صنع، بدلاً من أن أقول: خلق، كما قال ربنا جل وعلا: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل:88]. إن هذه الحياة البشرية من صنع الله، ولن تفتح مغاليق فطرتها إلا بمفاتيح من صنع الله، ولن تعالج أمراضها وعللها إلا بالدواء الذي سيقدم إليها من يد الله. أكرر: إن هذه الحياة البشرية من صنع الله، ولن تفتح مغاليق فطرتها إلا بمفاتيح من صنع الله، ولن تعالج أمراضها وعللها إلا بالدواء الذي سيقدم إليها من يد الله، وإن هذه الحياة البشرية بكل ما تملك من حضارات ووسائل تقنية حديثة، لتبدو تافهة القيمة مبتورة الهدف معدومة النفع إن لم تكن مرتبطة بمرشدها الأول وقدوسها الأجل الأعظم. لا بد من عودة العالم إلى الله جل وعلا، وسيظل العالم كله بصفة عامة والإسلامي منه بصفة خاصة يمشي في هذه الهاجرة، ويلفح وجهه هذا الحر القاتل، وسيظل يمشي في هذا التيه والضلال، وسيظل يمشي ويمر بهذا القلق والضنك والضيق والذعر ما لم يرجع إلى منهج الله جل وعلا مرة أخرى من جديد.

الإسلام قول وعمل وخلق

الإسلام قول وعمل وخلق إن العالم الإسلامي فضلاً عن العالم الغربي والشرقي قد عاند منهج الله عز وجل، وأعرض عن ذكر الله عز وجل إلا من رحم الله تبارك وتعالى، فأين قرآن الله جل وعلا؟! أين: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [يوسف:40]؟! أين القرآن في معاملاتنا الاقتصادية، وفي أحكامنا وفي بيوتنا وفي مصانعنا وفي مزارعنا؟! أين أخلاق الإسلام؟! والله لقد اتصلت عليَّ أخت كريمة فاضلة من مدينة رابغ، وهي تبكي في المكالمة وتصرخ وتتألم لما رأته من أحوال المسلمين في الحج، وتقول لي: والله يا شيخ! ونحن نطوف، كانت معنا أخت لنا وجاءتها حالة غيبوبة وحالة إغماء، وجعلنا نبحث عن قطرة ماء فلا نجد؛ لأنه من الصعوبة بمكان أن نترك هذا الزحام الهالك القاتل أثناء الطواف، معذرة! ليس طوافاً ولكنه قتال، ولكنه نزال، ولكنه صراع، ولكن القوي يريد أن يدمر الضعيف، ولكن الرجل لا يراعي للمرأة حرمة ولا يراعي لها نقاباً ولا حجاباً! المرأة التي صرخت يوم أن نزعت ثيابها وكشفت عورتها ماذا كانت النتيجة؟ كانت النتيجة جيوشاً جرارة أجلت اليهود من المدينة، ولكن المسلمة في بيت الله نزع نقابها ونزع حجابها على أيدي يهود؟! على أيدي منافقين؟! كلا، وإنما على أيدي إخوانها من المسلمين وإنا لله وإنا إليه راجعون! تقول: ونظرنا فوجدنا امرأة في الطواف تحمل إبريقاً من الماء البارد وحمدنا الله عز وجل أن كان الماء قريباً منا، وذهبنا وقلنا: نريد قليلاً من الماء، أختك تموت، تقول: والله أبت هذه المسلمة أن تعطينا قطرة ماء! عند بيت الله يا عباد الله! حول بيت الله! أعاد الله أياماً مرت فيها جرعة الماء على الأطهار الأبرار الأخيار فكان كل واحد يؤثر أخاه على نفسه، ومرت جرعة الماء على الجميع حتى عادت مرة أخرى إلى الأول، وكان الكل قد سعد بشهادة وبجنة عرضها السماوات والأرض، أين نحن من هؤلاء؟! أين الإسلام؟! أين أخلاق الإسلام؟ هل الإسلام كلمة؟! الإسلام خلق، الإسلام واقع، الإسلام تعامل، الدين المعاملة، أين إسلامنا العظيم؟! أين الرحمة؟! أين الحب؟! أين السماحة؟! أين الود؟! أين القرب؟! أين قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)؟ أين قوله عليه الصلاة والسلام: (الرحماء يرحمهم الرحمن)؟ أين قوله عليه الصلاة والسلام: (مثل المؤمنين في تراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد)؟ أين هو الجسد الواحد، بل إن المسلم أصبح ينهش في هذا الجسد، ولو استطاع أن يأكله لأكله، بل ووالله إنا لنأكله في الليل والنهار وهو ميت، كما قال ربنا جل وعلا: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات:12].

نماذج الأمن والأمان في ظل الإسلام

نماذج الأمن والأمان في ظل الإسلام الإسلام واقع، ومنهج حياة، سيظل العالم الإسلامي يعيش في هذا القلق والضنك بعيداً عن منهج الله جل وعلا، وإن أراد السعادة والريادة والسيادة والقيادة، فليرجع إلى أصل عزه ومصدر شرفه وكرامته ألا وهو: لقد كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله. إنه الذل لله، والحب لله، والانقياد لمنهج الله، وشرع ابن عبد الله صلى الله عليه وسلم.

تقاضي علي رضي الله عنه مع اليهودي على الدرع

تقاضي علي رضي الله عنه مع اليهودي على الدرع نعم أيها الأحبة! لقد حقق منهج الله في الأرض الأمن والأمان والسعة والرخاء، والطمأنينة القلبية والسعادة النفسية وانشراح الصدور، لا أقول هذا رجماً بالغيب، ولكنه واقع، ولكنه تاريخ مفتوحة صفحاته لكل من أراد أن يقرأ وأن يتعرف على الحقائق، أقول بملء فمي: لقد حقق منهج الله في الأرض الأمن والأمان، نعم لقد تحقق الأمن والأمان، لا أقول للمسلمين الذين نفذوا منهج الله فحسب، بل للمسلمين ولليهود والنصارى الذين عاشوا تحت ظلال منهج الله في أي بقعة من أرض الله جل وعلا. إن ذلكم اليهودي -وكلكم يعلم القصة، وغيرها كثير وكثير- اليهودي الذي سرق درع علي، وعلي حينئذ كان خليفة المسلمين وأميراً للمؤمنين، ولما رأى علي درعه عند اليهودي قال: هذا درعي، لا أتركك. فقال اليهودي: بل هو درعي. أتدرون ماذا حدث؟ مَثَلَ علي أمير المؤمنين وخليفة المسلمين مع اليهودي أمام قاضي المسلمين، وقفا في ساحة القضاء أمام شريح رحمه الله رحمة واسعة الذي ضرب بعدله المثل، ولما دخل علي مع اليهودي أمام شريح، فنادى شريح على علي قائلاً: يا أبا الحسن! فغضب علي، فظن شريح سوءًا، قال: ما الذي أغضبك، فقال علي -الذي غضب للعدل والحق- قال: يا شريح! أما وقد كنيتني -أي: ناديت عليَّ بكنيتي وقلت: يا أبا الحسن - فلقد كان من واجبك أن تكني اليهودي هو الآخر، أي: فإما أن تكنيني أنا وخصمي أو تدع. ما هذا الخلق وما هذا الدين العظيم؟! ومَثَلَ علي واليهودي أمام شريح، فنظر شريح إلى علي وقال: يا علي ما قضيتك؟ قال: الدرع درعي ولم أبع ولم أهب، أي: لم أهب له هذا الدرع ولم أبعه، فنظر شريح إلى اليهودي قال: ما تقول في كلام علي؟! فقال اليهودي: الدرع درعي وليس أمير المؤمنين عندي بكاذب! خبث ودهاء معهودان: الدرع درعي وليس أمير المؤمنين عندي بكاذب، فنظر شريح إلى علي وقال: هل عندك من بينة؟ يقول هذا، لـ علي وهو أمير المؤمنين، هل عندك من بينة؟ فالبينة على من ادعى واليمين على من أنكر، قاعدة شرعية عظيمة أول من وضعها أستاذ البشرية ومعلم الإنسانية محمد صلى الله عليه وسلم. قال شريح لـ علي: هل عندك من بينة؟ قال: لا، وكان شريح رائعاً بقدر ما كان أمير المؤمنين عظيماً، وقضى شريح بالدرع لليهودي. وأخذ اليهودي الدرع وخرج، ومضى غير قليل، ثم عاد مرة أخرى ليقف أمام علي وأمام القاضي وهو يقول: ما هذا! أمير المؤمنين يقف معي خصماً أمام قاض من قضاة المسلمين ويحكم القاضي بالدرع لي! والله ليست هذه أخلاق بشر، إنما هي أخلاق أنبياء، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، وقال اليهودي: يا أمير المؤمنين! الدرع درعك ولقد سقطت منك فأخذتها، فنظر إليه علي مبتسماً وقال: أما وقد شرح الله صدرك للإسلام فالدرع مني هدية لك! هذا الأمن والأمان لمن؟ لأبناء يهود، تحت ظلال الإسلام الوارفة.

قصاص القبطي من ابن الأكرمين

قصاص القبطي من ابن الأكرمين ذاك يهودي، وهذا نصراني قبطي سبق ابن عمرو بن العاص في مصر، وغضب ابن والي مصر كيف يسبقه القبطي؟! وجاء بعصا وضرب هذا القبطي في رأسه وقال: خذها وأنا ابن الأكرمين! وما كان من هذا القبطي الذي عرف عظمة الإسلام إلا أن يسابق الريح إلى واحة العدل، إلى المدينة المنورة زادها الله تشريفاً وتعظيماً وتكريماً، إلى أمير المؤمنين، إلى فاروق الأمة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ويرفع له الشكوى. فما كان من عمر إلا أن يرسل فوراً بأن يأتي ابن عمرو وأبوه عمرو؛ لأن ابنه ما تجرأ على فعلته إلا لوجود أبيه. ويأتي عمرو بن العاص والي مصر مع ولده، فيقفان أمام أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، ويقف القبطي ويدفع عمر العصا للقبطي ويقول له: اضرب ابن الأكرمين! هذا إسلامنا، هذا هو العدل في ديننا، هذه عظمة دين محمد صلى الله عليه وسلم! ويأخذ القبطي العصا ويضرب رأس ولد عمرو، ويقول عمر قولته الخالدة التي لا تكتب بماء الذهب فحسب، وإنما تكتب بماء من النور: يا عمرو! متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً! لله ما أورعه وما أتقاه وما أنقاه، ولله ما أعظم إسلامنا! يا عمرو! متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟! ذاك يهودي وهذا قبطي! ويوم أن فتح أبو عبيدة بن الجراح بلاد الشام وفرض عليهم الجزية شريطة أن يدافع عنهم وأن يحميهم من شر الروم على أيدي هرقل، ويوم أن سمع أبو عبيدة رضي الله عنه بأن هرقل قد جهز له جيشاً جراراً، خاف ألا يستطيع أن يدافع عن هؤلاء الذين أخذ منهم الجزية، فرد عليهم الجزية مرة أخرى وقال: لقد سمعتم بـ هرقل وأنه قد جهز لنا جيشاً، ونخشى ألا نتمكن من الدفاع عنكم فخذوا جزيتكم، وإن نصرنا الله عليهم عاودنا الحماية والدفاع عنكم مرة أخرى. أي دين هذا! هذا منهج الله يحقق الأمن والأمان في أرض الله، لا للمسلمين فحسب، وإنما لليهود وللنصارى الذين عاشوا في ظلاله الوارفة اليانعة! نريد أن تتضح الحقائق لهؤلاء الذين يخافون من دين الله عز وجل الذي وفر لهم الأمن والأمان أكثر مما وفرته لهم دياناتهم وقوانينهم ومواثيقهم.

منهج الله يحقق الرخاء الاقتصادي

منهج الله يحقق الرخاء الاقتصادي ومنهج الله قد حقق الرخاء الاقتصادي، أجل والله لقد جاء اليوم الذي أرسل فيه أمير من أمراء المؤمنين وخليفة من خلفاء المسلمين منادياً ينادي في الناس: من كان فقيراً فحاجته من بيت مال المسلمين. فأغنى الفقراء، وظلت البركة في بيت المال، وأعاد الله زماناً كانت حبة القمح فيه بمقدار نواة التمرة، وكتب عليها: هذا يوم أن كانت بركة الله في الأرض، كما قال عبد الله ابن الإمام أحمد في المسند، حبة القمح بمقدار نواة التمرة يوم أن كانت البركة في الأرض. ونادى المنادي مرة أخرى: من كان عليه دين فسداد دينه من بيت مال المسلمين. وسددت الديون، وبقيت البركة باركة في بيت المال. ونادي المنادي مرة ثالثة: يا معشر الشباب! من أراد منكم الزواج فزواجه من بيت مال المسلمين. فزوج الشباب، وحقق منهج الله الرخاء في الأرض. ألسنا على يقين من قول الله: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:96]، ألسنا على يقين من قول الله جل وعلا: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} [نوح:10]، ذلك وعد الله عز وجل. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم. الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وصحبه وسلم. فيا أيها الأحبة: لا سعادة ولا فلاح إلا بالعودة إلى منهج الله كما أراد الله وكما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس الإيمان كلمة تقال باللسان فحسب، ولكن الإيمان حقيقة ذات تكاليف، وأمانة كبيرة ذات أعباء، ومسئولية عظمى ذات مقتضيات، ورحم الله الحسن حيث قال: ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن الإيمان ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال، فمن قال خيراً وعمل خيراً قبل منه، ومن قال خيراً وعمل شراً لم يقبل منه. إننا في أمس الحاجة إلى أن نحول إسلامنا إلى عمل وإلى واقع، أذكر نفسي وإياكم بذلك، وأسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يشرفنا وإياكم بالعمل لهذا الدين، وأن يقر أعيننا وإياكم بنصرة الإسلام وعز المسلمين، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين وأعل بفضلك كلمة الحق والدين، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم لا تدع لأحد لنا ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا عاصياً إلا هديته.

الزواج العرفي

الزواج العرفي الزواج العرفي قضية خطيرة، انتشرت في المجتمعات الإسلامية انتشار النار في الهشيم، وقد بين العلماء صورته وحكمه وأضراره، وأسباب انتشاره وعلاجه، فينبغي على الدعاة تحذير الناس منه، وتبيين آثاره السيئة، ومفاسده الكبيرة.

الزواج آية ربانية وسنة نبوية ومملكة إيمانية

الزواج آية ربانية وسنة نبوية ومملكة إيمانية أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله. أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين. فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته. وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة الفضلاء! وأيتها الأخوات الفاضلات! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم الكريم جل وعلا الذي جمعنا مع حضراتكم في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار مقامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. الزواج العرفي: هذا هو عنوان لقائنا مع حضراتكم في هذه الليلة الكريمة الطيبة، وكما تعودت حتى لا ينسحب بساط الوقت سريعاً من تحت أقدامنا، فسوف ينتظم حديثي مع حضراتكم في هذا الموضوع الخطير في العناصر التالية: أولاً: الزواج آية ربانية، وسنة نبوية، ومملكة إيمانية. ثانياً: الزواج العرفي باطل شرعاً وعرفاً. ثالثاً: الضحايا يعترفون، والمأساة مروعة!! رابعاً: هذه هي الأسباب، وهذا هو العلاج. وأخيراً: فهل من توبة؟!! فأعيروني القلوب والأسماع، فإن هذا اللقاء من الأهمية والخطورة بمكان. والله أسأل أن يجعلنا ممن: {يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:18]. أولاً: الزواج آية ربانية، وسنة نبوية، ومملكة إيمانية: أحبتي في الله! إن الإسلام لا يحارب دوافع الفطرة ولا يستقذرها، وإنما ينظمها ويطهرها ويرفعها عن المستوى الحيواني والبهيمي، ويرقيها إلى المستوى الإنساني الطاهر، الذي يليق بالإنسان الذي كرمه الله جل وعلا كما في قوله: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء:70]. من أجل ذلك، فإنه يقيم العلاقة بين الرجل والمرأة على أساس من المشاعر النبيلة الراقية الرقيقة الطاهرة النظيفة، والتي تنبني على السكن النفسي والبدني والمودة والرحمة، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21]. فالزواج آية ربانية، وسنة نبوية، وفطرة إنسانية، وضرورة اجتماعية، وسكن للغريزة الجسدية، أما بيت الزوجية فمملكة كريمة إيمانية، الزوج ملكها وربانها، والمسير لشئونها وأمورها، بما جعل الله له من قوامة في قوله جل وعلا: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34]، والزوجة ملكة متوجة هي الأخرى في هذه المملكة الإيمانية؛ لأنها شريكة الحياة، ورفيقة الدرب، وقرة العين، والرعية في هذه المملكة بين هذين الملكين الكريمين، هم ثمرة الفؤاد ولب الكبد وزهرة الحياة الدنيا هم الأولاد، قال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:46]. هذه المملكة الإيمانية إن ظلل سماءها منهج رب البرية وسيد البشرية، وروي نبتها بماء المودة والرحمة الندية؛ آتت ثمارها كل صبح وعشية، وأينعت فيها زهرات الحب والوفاء والأخلاق العلية.

الزواج يحفظ للمرأة كرامتها وحقوقها

الزواج يحفظ للمرأة كرامتها وحقوقها هذا الزواج الشرعي -أيها المسلمون- هو السبيل الوحيد الذي يحفظ للمرأة كرامتها وحقوقها، وللأولاد مكانتهم وحقوقهم في المجتمع؛ لأن الزوج مسئول عنهم مسئولية كاملة في الدنيا والآخرة؛ لقوله الله عز وجل: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق:7]، ولقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6]. ولقول النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين من حديث ابن عمر -: (كلكم راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته). ولقول النبي صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله -: (اتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، -ثم قال صلى الله عليه وسلم-: ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف). هذا الزواج الذي يباركه الله جل وعلا، ويمضيه شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويشهده المجتمع الإسلامي ويفرح به؛ هو الذي عرفه المسلمون منذ بداية الوحي إلي أن صرنا إلى هذا الزمان، زمان الفتن، فتن الشهوات والشبهات، ذلكم الزمان الذي ضاعت فيه المقاييس الصحيحة للحلال والحرام!! وتجرأ فيه كثير من الناس على محارم الله جل وعلا!! فرأينا فيه ظاهرة جديدة وخطيرة تنتشر الآن في مجتمعات المسلمين انتشار النار في الهشيم، وقع فيها كثير من الشباب والفتيات، إما جهلاً بالدين وإما جرأة على الدين، تلك الظاهرة التي تسمى بـ (الزواج العرفي) هي عنصرنا الثاني من عناصر هذا اللقاء المهم.

الزواج العرفي باطل شرعا وعرفا

الزواج العرفي باطل شرعاً وعرفاً الزواج العرفي باطل شرعاً وعرفاً، ونظراً لخطورة هذا العنصر فاسمحوا لي أن أركز فيه الحديث مع حضراتكم في المحاور التالية: أولاً: صورة الزواج العرفي القائم. ثانياً: بطلانه عرفاً. ثالثاً: بطلانه شرعاً.

صورة الزواج العرفي

صورة الزواج العرفي أولاً: صورة الزواج العرفي القائم الآن: تتلخص في التقاء الرجال بالنساء أو الشباب بالفتيات في العمل أو في المدارس أو الجامعات في اختلاط رهيب مدمر، فيترصد الشاب لفتاة مستهترة!! يعرفها الشباب جيداً، فهي تعلن عن نفسها بصراحة ووضوح من خلال ثوبها العاري أو الضيق الذي يظهر كل مخبوء من مفاتنها، ومن خلال شعرها المكشوف، وعطرها الأخاذ، وصوتها المؤثر، وحركاتها المثيرة، فيترصد الشاب لها، ويلهب مشاعرها بوابل من كلمات الحب والعشق والغرام التي حفظها من كتب الأدب المكشوف، والمسلسلات والأفلام، ويقسم لها أنه يحبها حباً قد أحرق فؤاده، وأنه مصر على أن يتزوج بها، ولكن ظروفه لا تسمح الآن!! ومن هنا يحاول إقناعها بالزواج في السر بغير ولي -أي: بدون علم والد الفتاة- وبغير إشهار، ولا إعلان، ولا مهر، ولا نفقة، ولا مسكن، وليكمل فصول خديعته الكبرى يأتي بورقة، ويشهد عليها زميلين من زملائه المقربين ممن يعرفون علاقاته المحرمة والمشبوهة؛ ليكون هو الآخر بدوره شاهداً لواحد منهم على عقد عرفي باطل جديد، هذه هي الصورة المشئومة للزواج العرفي المزعوم، التي نراها الآن في مجتمعات المسلمين.

بطلان الزواج العرفي عرفا

بطلان الزواج العرفي عرفاً هل يقر عرف الناس هذا الزنا؟! A لا ورب الكعبة، بل العرف يبطله، وهذا هو المحور الثاني، فالعرف عند علماء الأصول: هو ما تعارف عليه الناس في عاداتهم ومعاملاتهم، وقد يكون هذا العرف معتبراً شرعاً، وقد لا يكون معتبراً شرعاً، بمعنى: أن الشرع المطهر قد يقر عرفاً، وقد يبطل عرفاً آخر، ومن ثم فالعرف المعتبر شرعاً: هو الذي لا يخالف نصاً شرعياً أو قاعدة من قواعد الشريعة. وعلى هذا التأصيل، فإن الناس لم يعرفوا أبداً هذا الزواج العرفي المزعوم، ولم يعتادوا في تزويجهم لأبنائهم وبناتهم على هذه الصورة الخبيثة، والعلاقة المحرمة التي تتم في السرية والظلام والخفاء، والتي تقوم على النفاق والغش والخداع والخيانة بين شاب وفتاة، بين شاب مستهتر خان أهله ومجتمعه بعد أن خان الله ورسوله، وفتاة مستهترة خانت أهلها ومجتمعها بعد أن خانت الله ورسوله، وإن توهم أحدهم وخادع نفسه، وظن أنه متزوج بالحلال، وأن ذلك هو عرف الناس اليوم، فأنا أسأله وأرجو أن يصدق في الجواب: لماذا أخفيت هذا الزواج عن أقرب الناس إليك إن كنت تعلم أنه زواج شرعي صحيح؟ لماذا أخفيته عن أهلك الذين لا زالوا ينتظرون اللحظة التي ستتخرج فيها من الجامعة؛ ليفرحوا بك وأنت مع زوجتك في الحلال الطيب؟ ثم ألا تشعر بالخيانة والنفاق والخداع وأنت تأخذ المصروف في الصباح من والدك، وتذهب بعد ذلك من الجامعة إلى شقة مفروشة أو إلى غرفة مظلمة لتزني بفتاة بدعوى الزواج؟! ثم لماذا تتلصص وتبحث عن مكان خفي لا يراك فيه أحد من الناس لتقضي وقتاً في الرذيلة والحرام مع فتاة تدعي أنها زوجتك؟ ثم هل تقبل أن يأخذ شاب من زملائك في الجامعة أختك أنت إلى نفس الشقة المفروشة ليزني بها بدعوى أنها زوجته؟ ثم هل تقبل بعد ذلك أن تخرج ابنتك إلى الجامعة؛ لترجع إليك بحمل في بطنها بدعوى أنها متزوجة، وأنت لا تعلم عن هذا الأمر شيئاً؟! أخي! أجبني بصدق وتذكر قول القائل: يا هاتكاً حرم الرجال وتابعاً طرق الفساد فأنت غير مكرم من يزني في قوم بألفي درهم في قومه يزنى بربع الدرهم إن الزنا دين إذا استقرضته كان الوفاء من أهل بيتك فاعلم ثم لا تنسى أبداً قول الله تعالى: {بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} [القيامة:14 - 15]، وردد كثيراً قول الله جل وعلا: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47]. وأنت أيتها الفتاة الجريئة! يا من وضعت رأس والدك في الوحل والطين والتراب إلى الأبد، يا من وضعت شرف العائلة بأسرها في الوحل والطين والتراب إلى الأبد، يا من ضيعت أطهر وأشرف وأغلى ما تعتز به كل فتاة طاهرة شريفة، يا من دنست طهرك بأوحال الرذيلة والعار؛ لا تخدعي نفسك بأنك متزوجة في الحلال الطيب، وإن كنت لا زلت تتوهمين وتظنين ذلك، وتدعين أنك أيضاً متزوجة في الحلال، وأن هذا هو عرف الناس اليوم؛ فأنا أسألك وأرجو أن تصدقي في الجواب: هل يعقل أن تتزوج فتاة طاهرة شريفة في السر والظلام بدون علم والدها المسكين، وبدون علم أمها التي سهرت وربت، بل وهي لا زالت إلى الآن تتضرع إلى الله أن يرزقك بالزوج الصالح، وهي مسكينة لا تدري أنك متزوجة؟! ثم ألا تشعرين بالخيانة والنفاق والخداع وأنت ذاهبة في الصباح إلى الجامعة أمام الأهل والأسرة، ومنها إلى شقة مفروشة أو غرفة مظلمة بين أحضان شاب في الحرام؟ يا للعار!!! يا للخيانة!!! يا للخداع!!! وبعد ذلك تكذبين وتزعمين وتتوهمين أن هذا هو عرف الناس اليوم!!! لا والله، بل العرف يبطله، بل وكذلك شرع الله يبطله، وهذا هو المحور الثالث.

بطلان الزواج العرفي شرعا

بطلان الزواج العرفي شرعاً أيها المسلمون! أيها الشباب! أيتها الفتيات! إن الزواج في الإسلام ميثاق غليظ له قدسيته ومكانته، وله أركانه وشروطه، ولا يحل للزوجين أن يستمتع كل منهما بالآخر إلا على الوجه الذي شرعه الله عز وجل، إلا بالقبول والإيجاب والولي والشهود والإعلان والمهر. أما القبول والإيجاب: فهما ركنان عظيمان، وهي صيغة العقد المعروفة، ومذهب جمهور العلماء أنه ينعقد بكل لفظ يدل عليه. أما الولي: فهو شرط لا يصح العقد إلا به بنص القرآن والسنة في أيِّ أرض وتحت أيِّ سماء، ولأي ظرف من الظروف، قال الله عز وجل: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:232]، والعضل: هو المنع والتضييق والتعسير، قال الإمام الشافعي: وهذا أبين ما في القرآن على أنه لا نكاح إلا بولي، وبهذا قال جمهور المفسرين، وستعجبون إذا علمتم سبب نزول هذه الآية، فلقد نزلت في معقل بن يسار رضي الله عنه الذي زوج أخته لرجل، وأحسن إليه وأكرمه، ولكن الرجل طلق أخت معقل بعد فترة من الفترات، فلما انقضت عدتها عاد الرجل مرة أخرى إلى معقل بن يسار ليرد المرأة، فقال له معقل بن يسار: زوجتك وأكرمتك فطلقتها! ثم جئت تخطبها، لا والله لا تعود إليك أبداً، وكان رجلاً لا بأس به، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه، فأنزل الله عز وجل قوله: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:232]، فلما قرأ الآية رسول الله صلى الله عليه وسلم على معقل بن يسار قال: (الآن أفعل يا رسول الله) وفي لفظ: (سمعاً وطاعة) فزوجها إياه، وأعادها إليه بعقد جديد. وقد ذهب جمهور المفسرين إلى أن المرأة لا تزوج نفسها حتى ولو كانت ثيباً لهذه الآية؛ لأن أخت معقل بن يسار لم تكن بكراً وإنما كانت ثيباً، والآية الكريمة نص صريح لا تأويل فيه. وقال الله عز وجل: {فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} [النساء:25]، ذهب جمهور المفسرين إلى أن المرأة لا تزوج نفسها ولا غيرها؛ لقوله تعالى: (فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ)، وقال تعالى: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور:32] هذا خطاب من الله لأولياء المرأة، وترجم الإمام البخاري بهذه الآية باباً بعنوان: لا نكاح إلا بولي. وقال تعالى: {وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} [البقرة:221]، وهذه الآية قد استدل بها أيضاً جمهور المفسرين على أن المرأة لا تزوج نفسها؛ لأنه خطاب من الله عز وجل لأولياء المرأة. وتأتي السنة النبوية المطهرة بعد كتاب الله عز وجل لتؤكد تأكيداً واضحاً لا لبس فيه ولا غموض ولا تأويل بطلان الزواج الذي يتم بدون الولي، في أيِّ أرض وتحت أيِّ سماء، ولأيِّ ظرف من الظروف، ففي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة والبغوي والبيهقي والطبراني والحاكم عن أبي موسى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا نكاح إلا بولي) تدبروا قول الحبيب النبي: (لا نكاح إلا بولي)، وفي رواية: (لا نكاح إلا بولي، والسلطان ولي من لا ولي له)، وفي الحديث الصحيح الصريح الذي رواه أحمد وأبو داود والترمذي والدارقطني والبيهقي والبغوي والحاكم من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل). ماذا تريدون أيها المسلمون بعد ذلك؟! ماذا تريدون أيها الشباب وأيتها الفتيات من أدلة صحيحة صريحة بعد ذلك على بطلان هذا الزواج العرفي المزعوم المشئوم، الذي لا يعلم عنه ولي البنت شيئاً على الإطلاق؟ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل). وفي الحديث الصحيح الذي رواه ابن ماجة والدارقطني والبيهقي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزوج المرأة المرأة، ولا تزوج المرأة نفسها)، وقال أبو هريرة رضي الله عنه: الزانية هي التي تزوج نفسها. وقال ابن عباس: البغي هي التي تزوج نفسها، وحكى ابن المنذر إجماع الصحابة رضي الله عنهم على ذلك، أما حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه مسلم وأبو داود والترمذي من حديث ابن عباس: (الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأمر وأذنها سكوتها) فالمراد عند جمهور أهل العلم: أن الولي لا يجوز له أن يزوج الثيب إلا بأمرها ورضاها، فإن زوجها وليها بغير أمرها ورضاها فالنكاح مفسوخ، كما في حديث خنساء بنت خزام الذي رواه البخاري وأحمد: (فقد زوجها أبوها وهي امرأة ثيب فكرهت ذلك، فاشتكت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرد النبي نكاحه).

عدم جواز رد الأدلة الصريحة لقول أبي حنيفة رحمه الله

عدم جواز رد الأدلة الصريحة لقول أبي حنيفة رحمه الله لا يجوز -يا مسلمون- لأيِّ منصف على وجه الأرض بعد هذه الأدلة الناصعة من القرآن والأحاديث الصحيحة الصريحة من سنة النبي عليه الصلاة والسلام أن يحتج علينا بقول لـ أبي حنيفة رحمه الله أجاز فيه النكاح بدون ولي محتجاً بالقياس على البيع، بمعنى: أن المرأة تستقل ببيع سلعتها ومن ثم فلها أن تزوج نفسها! هذا قياس فاسد الاعتبار؛ لأنه قياس مع وجود نص، والقاعدة الأصولية تقول: لا قياس مع النص، هذا باتفاق علماء الأصول، والذي أدين به تبجيلاً مني لـ أبي حنيفة رحمه الله: أن الدليل الصريح في هذه المسألة لم يبلغه، وهذا لا يقدح في علم أبي حنيفة فإن من الصحابة رضي الله عنهم من لم يبلغه الدليل في كثير من المسائل، بل وأنا أكاد أجزم أن أبا حنيفة لو بلغه الدليل في هذه المسألة -أي: الدليل الصريح- لقال به، ولم لا! وأبو حنيفة رحمه الله هو القائل: إذا صح الحديث فهو مذهبي، وهو القائل: لا يحل لأحد أن يقول بقولنا حتى يعلم من أين قلنا؟ وستعجبون إذا علمتم أن الإمام الطحاوي رحمه الله قد ذكر في شرح معاني الآثار: أن أبا يوسف ومحمد بن الحسن -وهما أتبع الناس لـ أبي حنيفة، وأعلمهم بقوله- خالفا أبا حنيفة في هذه المسألة، بل وفي كثير من المسائل الأخرى وقالا: لا يجوز للمرأة أن تزوج نفسها إلا بإذن وليها، فهل يجوز بعد ذلك لمسلمة أو مسلم أن يقدم قول أبي حنيفة على قول الله جل وعلا أو على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!

شروط عقد الزواج

شروط عقد الزواج يا أيها الشباب! ويا أيتها الفتيات! اعلموا بأن أي زواج بغير إذن الولي فهو زواج باطل باطل باطل وإن سجل في أوراق عادية، بل ولو سجل في وثيقة زواج رسمية، وأكرر أقول: إن أي زواج بغير إذن الولي فهو زواج باطل وإن سجل في ورقة كراسة عادية، بل وإن سجل في وثيقة زواج رسمية عند مأذون. واعلموا أن أيَّ زواج يباركه الولي، ويأذن به ويعقده بنفسه، ويشهد عليه الشهود، ويعلن، ويفرح به المجتمع الإسلامي؛ فهو زواج شرعي صحيح، وإن لم يسجل أو يوثق في وثيقة رسمية عند مأذون، فهذه الوثيقة من باب المصالح المرسلة لضمان حقوق النساء في زمان خربت فيه الذمم، وقل فيه أهل الأمانة. إذاً: كل زواج يتم بدون إذن الولي فهو زواج باطل بنص القرآن وسنة النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا الشرط الأول الشرط الثاني من شروط العقد: الإعلان والإشهار: فلقد أوجب الإسلام إعلان الزواج وإشهاره، فالإسلام لا يعرف ولا يعترف بالزواج في السر أبداً، ففي الحديث الذي رواه أحمد وابن حبان والبيهقي والطبراني بسند حسن من حديث عبد الله بن الزبير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعلنوا النكاح)، وفي رواية للطبراني بسند حسن بشواهده من حديث يزيد بن السائب: (أن النبي عليه الصلاة والسلام سئل: هل يرخص لنا في اللهو عند العرس؟ قال: نعم، إنه نكاح لا سفاح إنه نكاح لا سفاح، ثم قال صلى الله عليه وسلم: أشيدوا النكاح) أي: أعلنوه وأظهروه ولا تسروه. الشرط الثالث من شروط العقد: المهر، فالمهر واجب على الرجل، وهو حق كامل للمرأة، قال الله جل وعلا: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء:4]، وقد حث الإسلام على التخفيف وعلى التيسير في المهر، بل وستعجبون إذا علمتم أن النبي صلى الله عليه سلم قد زوج رجلاً بامرأة بما يحفظه من كتاب الله تعالى، والحديث في الصحيحين من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه: (أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله! لقد وهبت نفسي لك)، وأود أن أبين أيضاً: أن الوهب أمر خاص بالنبي، فلا يجوز لامرأة على وجه الأرض أن تهب نفسها لرجل أياً كان، هذا أمر خاص بالنبي عليه الصلاة والسلام: (فلما لم يخطبها النبي لنفسه قال رجل من الصحابة: زوجنيها -يا رسول الله- إن لم يكن لك بها حاجة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: فهل معك من شيء تصدقها إياه؟ يعني: تقدمه لها مهراً، قال: لا، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: اذهب فالتمس ولو خاتماً من حديد، فعاد الرجل وقال: يا رسول الله! لا أملك إلا إزاري، فقال له النبي: لو أعطيتها إزارك جلست لا إزار لك، اذهب فالتمس شيئاً قال: لا أجد، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: هل تحفظ شيئاً من القرآن؟ قال: نعم، أحفظ سورة كذا وسورة كذا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: قد زوجتكها بما معك من القرآن). الشرط الرابع: الشهود، ففي الحديث الذي رواه ابن حبان والبيهقي والدارقطني وصححه الألباني في إرواء الغليل من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا نكاح إلا بولي وشاهدين)، وفي رواية عمران بن حصين التي صححها الألباني بشواهدها في إرواء الغليل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل) والشاهد العدل باتفاق علماء الأصول يشترط فيه: الإسلام، والبلوغ، والعقل، وعدم الفسق، هذه صفات مجمع عليها عند علماء الأصول في الشاهد العدل. والله لقد أرسلت إلي فتاة جامعية رسالة سطرتها بدموع الندم يوم لا ينفع الندم تقول: إن زميلها في الجامعة قد خدعها بهذا الزواج العرفي المزعوم، وكانت تلتقي معه في شقة مفروشة حتى فوجئت يوماً بأنها حامل، ففزعت وأسرعت إليه لتتوسل بين يديه أن يتقدم لأهلها ليتزوجها زواجاً صحيحاً، فتنكر لها ومزق الورقة بين يديها وقال لها: ومن يدريني أنه ولدي؟! ولا تعجبوا! فلقد نشرت جريدة الأهرام الرسمية في ملحقها خبراً خطيراً بالبند العريض يقول: اثنا عشر ألف طفل ثمرة الزواج العرفي لا يعرفون آباءهم، إنها كارثة حين يتنكر الشاب للفتاة بعد أن يخدعها. تقول: وكانت الكارثة الأخرى، والصدمة العنيفة، أن أتى إليها شاب من الشابين اللذين شهدا على العقد العرفي الباطل، وطلب أن يزني بها، فلما رفضت هددها بأنه سيفضحها بزواجها العرفي، وتسألني وتقول: هل تمكنه من نفسها ليزني بها؛ حتى لا تفضح نفسها في الجامعة أو بين أسرتها؟ وكثير من هؤلاء يذهبن بعد ذلك إلى طبيب لا يتقي الله -عز وجل- ليعيد إليها غشاء البكارة مرة أخرى، وهي تظن أنها خدعت بذلك المجتمع، خدعت أسرتها وخدعت زوجها الذي سيتقدم إليها بعد ذلك في الحلال الطيب، ولكن أين ستذهب من الله عز وجل الذي يسمع ويرى، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور؟! هؤلاء -يا مسلمون- هم الشهود العدول الذين يشهدون اليوم لبعضهم البعض على ورقة الزواج العرفي المزعوم المشئوم الباطل! أيها المسلمون! أيها المسئولون! أيها الشباب! أيتها الفتيات المسلمات! هل يستطيع مخلوق بعد ذلك أن يزعم أن هذا الذي نراه الآن زواج شرعي؟ لا والله، إنها حيلة باطلة حقيرة، وعلاقة محرمة خبيثة لا يقرها الشرع، ولا يقرها العرف. والذي يدمي القلب أنهم يتمسحون بالدين، فيلبسون الباطل ثوب الحق، ويلبسون الحرام ثوب الحلال، ويلبسون الزنا ثوب الزواج، وهذا والله لا يمكن أن يكون أبداً حتى ولو تغيرت الأسماء، فالعبرة بالمسميات والحقائق لا بالأسماء والأشكال، فلو سميت الخمر بالشمبانيا أو الكنياك أو البرانزي أو الوسكي فالمسمى واحد، وهو الخمر الحرام، ولو سمي الربا بالفائدة أو العائد أو المعاملة، فهذا لا يخرج الربا عن كونه رباً حرمه الله عز وجل. فالزواج العرفي المزعوم ظاهر البطلان، وعيش في الحرام، وصورته الزنا، فهو نكاح السر، ونكاح البغايا، وهو زواج نفاق لا يباركه الرحمن، بل يباركه الشيطان، ولا أظن أن مسلماً على وجه الأرض يرضاه لأمه أو لأخته أو لابنته أو حتى لابنه؛ لأنه خروج عن الدين والأخلاق والفطرة السليمة، بل هو مكر وخداع وخيانة واستهزاء ولعب بشريعة الله المحكمة، وتحليل للمحرمات، وانتهاك للأعراض والحرمات يأباه رب الأرض والسموات، بل إن الواقع المر الأليم الآن ليؤكد تأكيداً جازماً أن المأساة مروعة، وهذا هو عنصرنا الثالث من عناصر اللقاء.

الضحايا يعترفون والمأساة مروعة

الضحايا يعترفون والمأساة مروعة ثالثاً: الضحايا يعترفون والمأساة مروعة!! وسأكتفي بذكر ثلاث حالات فقط لنقف على خطورة المأساة. فهذه فتاة جامعية تقول: شكلت أنا وزميلي ثناء عاطفياً كان محل أنظار الجميع، وفي السنة الرابعة قررنا أن نتزوج زواجاً عرفياً مزعوماً لنضع الأسرتين أمام الأمر الواقع!! تقول: وبالفعل كنا نلتقي في شقة أسرتي أثناء غيابهم أو في شقة زميل من زملائه سافر أهله إلى الخارج، تقول: ويوم أن ظهرت النتيجة اتصلنا بالأسرتين لنخبر الأسرتين معاً بخبر نجاحنا، تقول: فاتصلت بأمي، وأعطيتها بعد ذلك هذا الزوج المزعوم ليخبرها بخبر زواج ابنتها أي: بهذا الزواج العرفي، فلما اتصل الفتى على أم هذه الفتاة وأخبرها الخبر صرخت صرخة عالية، تقول البنت: سمعتها وأنا إلى جواره في التلفون، وأسرع الوالد إلى هذه الأم المسكينة ليتعرف على الخبر، فلما أخبرته بأن ابنته متزوجة أي: زواجاً عرفياً وهو لا يعلم، وأمها لا تعلم، سقط الوالد على الأرض، وحملوه إلى المستشفى في التو واللحظة، وفي غرفة العناية المركزة قال الطبيب: لقد أصيب هذا الرجل المسكين بجلطة في المخ تسببت في شلل نصفي، هذه ثمرة مرة من ثمار الزواج العرفي المشئوم المزعوم الباطل. وهذه مضيفة جوية قتلت وأحرقت جثتها بسبب الزواج العرفي المزعوم، ونشرت الجريمة تحت عنوان: الطيار قاتل المضيفة يعترف ويقول: هددتني بإعلان زواجنا، فقتلتها بالسكين في شقتها، ثم أحرقت جثتها بعد ذلك. وهذه حالة ثالثة: زوج أراد أن يتزوج على امرأته، لكنه خاف من زوجته ومن المجتمع الظالم الذي انقلبت فيه الموازين، وراح المجتمع ينظر إلى التعدد الحلال الذي شرعه الله على أنه جريمة وفضيحة، فتزوج في السر بهذا العقد العرفي الباطل، واستطاع لسنوات طويلة أن يخفي أمر زواجه العرفي عن أسرته الأولى، بل وعن المجتمع، فلقد تزوج المرأة الثانية بالعقد العرفي في بلد بعيد عن بلده الذي يسكن فيه مع أسرته الأولى حتى لا يفتضح أمر زواجه العرفي، ورزقه الله من زوجته الأولى بالأولاد، ورزق من المرأة الثانية أيضاً بالأولاد، ويقدر الله عز وجل أن يدخل ولده من زوجته الأولى إلى الجامعة، وأن تدخل البنت من المرأة الثانية إلى الجامعة، ويقدر الله أن يلتقي الشاب بالفتاة، ويحب كل منهما الآخر، فقررا الزواج العرفي، وسبحان الله! علم كل واحد منهما التطابق الكامل في الاسمين، ومع ذلك قال أحدهما للآخر: هذا من يمن القدر حتى الأسماء متطابقة إلى هذا الحد! وفي يوم من الأيام تقول الفتاة: شعرت بالحمل في أحشائي، وذهبت إلى هذا الشاب لتصرخ بين يديه ليتقدم إلى أهلها ليطلبها رسمياً، وحددت له موعداً، وفي اليوم المحدد، أتى هذا الشاب إلى أسرة هذه الفتاة ليطلبها، وكانت المفاجأة، وكانت الصدمة الحادة العنيفة، وهو يطرق الباب، والباب يفتح، من الذي يفتح الباب؟! إنه أبوه، ما الذي جاء به إلى هنا؟! فلما ظهرت الحقيقة، وعرف الشاب الخطر، ألقى بنفسه منتحراً، ولما علم الوالد الحقيقة سقط على الأرض وأصيب بأزمة قلبية، ولما علمت الفتاة الخبر أصيبت بحالة من الذهول، وفقدت النطق، ولا حول ولا قوة إلا بالله! وصدق الله جل وعلا إذ يقول: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:123 - 126]. هذه ثمرة مرة للإعراض عن شرع الله، وللبعد عن منهج الله جل وعلا. والسؤال المهم الذي يطرح نفسه: أليست هذه الظاهرة الخطيرة بكل ما تحمله من مآس مروعة نتيجة مؤكدة وطبيعة لأسباب محددة؟ والجواب بملء الفم وأعلى الصوت: نعم نعم. فما هي أهم هذه الأسباب وما علاجها؟

هذه هي الأسباب وهذا هو العلاج

هذه هي الأسباب وهذا هو العلاج عنصرنا الرابع من عناصر هذا اللقاء: هذه هي الأسباب، وهذا هو العلاج:

البعد عن الله

البعد عن الله السبب الأول: البعد عن الله عز وجل، وضعف الإيمان، وقلة الخوف من سخط الله وعذابه في الدنيا والآخرة، والجرأة على محارمه، والاستهتار بشرعه وحدوده، كل هذا مع كثرة الفتن بنوعيها ألا وهما فتنة الشهوات والشبهات. ولا شك أيها الإخوة! أن القلب الذي لم يعرف الله عز وجل، ولم يتذوق صاحبه حلاوة الإيمان، ولم يرتجف إجلالاً لله وخوفاً منه سبحانه، لا شك أن صاحب هذا القلب يعيش في ظلمة ووحشة وضنك، وإن كان يتقلب في النعيم المادي الزائل، ولا شك أن صاحب هذا القلب يعيش فريسة سهلة للشيطان والهوى والنفس الأمارة بالسوء، هذا عندي هو أول وأخطر الأسباب للوقوع في هذه المصيبة والكارثة، بل وفي كل مصيبة وكارثة، وإن أردتم الدليل العملي على قولي، فعليكم أن تنظروا نظرة سريعة إلى أولئك الشباب الطاهر الطائع، وإلى أولئك الشباب التائه الضائع، كلهم شباب في سن واحدة في بيئة واحدة يتعرضون لنفس الفتن والمؤثرات، ولكن شتان شتان بين شاب يقف بين يدي الله جل وعلا متذللاً متضرعاً يخاف الفتنة، ويخشى الوقوع في المعصية، ويهرع إلى المساجد، وإلى مجالس العلم، ويحرص على مصاحبة الأطهار، ويبتعد عن الاختلاط الحرام، ويذهب إلى الجامعة وهو يحمل هموم أمته ودعوته وأسرته، شتان شتان بين هذا وبين شاب لا يعرف الله جل وعلا، ولم يتذوق حلاوة الإيمان، ولم يعرف طريق المسجد، ولم يحضر مجالس العلماء، ولم يستمع إلى القرآن، بل ولا يفارق سمعه الغناء الماجن والموسيقى الصاخبة، ولا يستحي أن يخلو هنا أو هنالك بفتاة متبرجة لا تعرف للدين حرمة، ولا للحياء مكانة، فما العلاج؟! العلاج يكمن أيها الشباب! وأيتها الفتيات! في العودة إلى الله عز وجل، فو الله ثم والله لا سعادة ولا فلاح ولا نجاة في الدنيا والآخرة إلا في صدق اللجأ إلى الله جل وعلا، قال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69]، وقال سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3]، وقال سبحانه: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3]، وفي الحديث الذي رواه أبو نعيم وابن ماجة والحاكم والبغوي بسند صحيح بشواهده من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن روح القدس نفث في روعي: إن نفساً لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملن أحدكم استبطاء الرزق أن يطلبه بمعصية الله، فإن ما عند الله لا ينال إلا بطاعة الله). نعم أيها الشباب! وإذا رأيتم شاباً على المعصية وقد أعطاه الله من النعيم ومن فضله فاعلموا بأنه مستدرج من الله جل وعلا، ففي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد والبيهقي من حديث عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رأيت الله يعطي العبد ما يحب وهو مقيم على معصيته فاعلم بأنه مستدرج من الله تعالى، وقرأ النبي قول الله عز وجل: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:44 - 45]).

غياب الأسرة وضياع القدوة وانعدام الرقابة

غياب الأسرة وضياع القدوة وانعدام الرقابة السبب الثاني: غياب الأسرة، وضياع القدوة، وانعدام الرقابة بدعوى الحرية المزعومة للأولاد والبنات، وهذا من باب التقليد الأعمى للغرب الذي تصطدم سلوكياته وأخلاقياته مع عقيدتنا وأخلاقنا وقيم مجتمعنا الإسلامي اصطداماً مباشراً، فالوالد لا يفكر أن يسأل ابنته عن جدول محاضراتها في الجامعة، ولماذا تتأخر؟ وأين تذهب؟ ومع من تمشي؟ ومع من تتكلم في التلفون كل هذه الساعات؟ والأم هي الأخرى لا تفكر في هذا، بل ويترك الأب الوقور المحترم ابنته الجامعية تخرج في الصباح إلى الجامعة بهذه الثياب الضيقة والزينة الخطيرة، ولم يسأل نفسه مرة: لماذا كل هذا؟! وأين ستذهب البنت بهذا الشكل المثير؟! وما علاقة هذا بالعلم في الجامعة؟! ولم يغضب لله مرة، بل ولا حتى للرجولة مرة فوقف وقفة ليمنع ابنته أن تفارق البيت بهذه الصورة المزرية، التي لا تمت إلى الدين ولا إلى الأخلاق بأدنى صلة، بل ولم تفكر الأم هي الأخرى في شيء من ذلك، بدعوى الحرية المشئومة. والعلاج أن ترجع الأسرة إلى الله عز وجل، وأن يعي الوالدان المسئولية العظيمة التي سيسألان عنها بين يدي الله تعالى، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6]، وفي الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كلكم راع ومسئول عن رعيته، الإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها). بل وتذكر أيها الوالد! وتذكري أيتها الأم! حديث النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث معقل بن يسار: (ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الحنة).

التبرج والاختلاط والخلوة

التبرج والاختلاط والخلوة السبب الثالث: التبرج والاختلاط والخلوة بين الرجل والمرأة، وبين الطالب والطالبة، وهذا سبب من أخطر الأسباب أيضاً؛ لأن الميل بين الرجل والمرأة أمر فطري عميق في التكوين البشري؛ لأن الله قد أناط به امتداد النسل البشري على ظهر الأرض، والجسم العاري، والنبرة المؤثرة، والرائحة المؤثرة، كل هذا يشعل نار الفتنة بتحريك الغرائز الهاجعة والشهوات الكامنة، فإذا تم الاختلاط بين الرجال والنساء والشباب والفتيات على هذه الصورة الخطيرة، كانت الكارثة أعظم، وسبحان من قال: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، فما حرم الإسلام الاختلاط والتبرج والخلوة إلا لأنه يهدف إلى إقامة مجتمع طاهر نظيف، ولقد استوقفتني كلمات خطيرة لكاتبة إنجليزية تسمى اللاديكوك تقول: على قدر كثرة الاختلاط يكثر أولاد الزنا، ولا شك أن جعبة الباحثين والدارسين لظاهرة الاختلاط والخلوة حافلة بالمآسي المخزية، والفضائح المزرية، التي تمثل صفعة قوية على وجه كل من يجادل في الحق بعدما تبين، فعلى الذين تربوا على موائد المدنية الزائفة، وأطلقوا العنان للرجال والنساء في الخلوة والاختلاط المحرم بدعوى أن الظروف قد تغيرت، وأن المرأة قد تعلمت وتثقفت وتنورت، وهي محل ثقة الزوج والأب والأسرة، على هؤلاء جميعاً أن يعلموا أنهم يرتكبون جرماً عظيماً وحرمة كبيرة، وعليهم في الوقت ذاته أن يراجعوا بعد ذلك الدراسات والإحصائيات والجرائم الكثيرة المنتشرة التي يعلن عنها يومياً؛ ليعلموا يقيناً أنه لم تقع ولن تقع جريمة ينهش فيها العرض، ويذبح فيها العفاف، ويضيع فيها الشرف إلا بسبب الجرأة والتعدي على حدود الله جل وعلا، فمحال -يا أصحاب العقول الراشدة- أن نسكب البنزين على نار مشتعلة ثم نقول للنار: إياك والاشتعال، محال أن نقيد شاباً بالحبال وأن نلقيه في اليم ثم نقول: إياك والغرق، إياك أن تبتل بالماء! ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء هذا محال، والعلاج في العودة إلى شرع الكبير المتعال، أن نذعن لحكمه، ونحن على يقين أن السعادة في الدنيا والآخرة بالتسليم المطلق لأمر الله ورسوله، ويجب أن نتخلص من التقليد الأعمى للغرب، قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36]. وفي الحديث الصحيح الذي رواه مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فما أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عن شيء فدعوه).

الإعلام بكل وسائله

الإعلام بكل وسائله السبب الرابع: الإعلام بكل وسائله، فهو يقدم كل ألوان الخلاعة والإغراء، بدءاً بما يسمى بالأدب الجديد وهو الأدب المكشوف، أدب الجنس الماجن الخليع، ثم تأتي الأفلام الغرامية التي تعرض على شاشات السينما والتلفزيون، ثم تأتي المسرحيات الهابطة الساقطة التي تعرض على خشبات المسرح، ثم يأتي الغناء الماجن، والموسيقى الصاخبة، والرقص المثير، والصور، كل هذا مع العزف المستمر على وتر التمجيد لأهل الفن، وتشويه الدين وأهله، هذا كله -ورب الكعبة- يشيع الفاحشة في الذين آمنوا، والله عز وجل يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:19]. والعلاج في كلمات قليلة: أن يعود الإعلام إلى الهدف الذي من أجله أقيم، أن يعود القائمون على الإعلام إلى الحق وإلى الفضيلة، يجب أن يقوم الإعلام بنشر الأخلاق والفضيلة، وقتل الشر والرذيلة، وليس العكس؛ لأن دوره الآن خطير، فهو يوجه ويحرك، ولا ينكر منصف على وجه الأرض خطر البرامج الإعلامية في كل الوسائل التي تقدم للشباب والشابات، فإن هذه البرامج تهيج الغرائز الهاجعة، وتثير الشهوات الكامنة.

المغالاة في المهور وتكاليف الزواج

المغالاة في المهور وتكاليف الزواج السبب الخامس: وهو من أخطر الأسباب على الإطلاق: المغالاة في المهور وتكاليف الزواج بصورة خطيرة زادت عن الحد، وفاقت كل تصور، فكم من شبابنا أصبح عاجزاً عن تكاليف الزواج! وكم من فتياتنا أصبحن عوانس فاتهن سن الزواج، كل هذا بسبب تعنت كثير من الآباء والأمهات في المغالاة في المهور ونفقات الزواج. فيا أيها الآباء! ويا أيتها الأمهات! ارحموا الشباب والفتيات، فهناك الذي يفني زهرة شبابه، وأجمل سنواته، في تحصيل القليل من تكاليف الزواج. ارحموا البنات فورب الكعبة لولا حياؤهن لصرخن في وجوهكم: ارحموا ضعفنا، واستروا عوراتنا، وخلوا بيننا وبين شاب مسلم ولو كان فقيراً، لنكون عوناً لبعضنا البعض على أمر الدين والدنيا. والعلاج بلا ريب يكمن في العودة إلى الإسلام، إلى أوامره الربانية الطاهرة، فالإسلام يأمر بتيسير الزواج، ويحرم المغالاة في المهور، فلقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا) وفي الحديث الذي رواه الترمذي وابن ماجة وغيره من حديث أبي هريرة بسند حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة وفساد عريض). نداء إلى الآباء والأمهات أن ييسروا أمر الزواج لشبابنا وبناتنا، فإن الأمر والله في غاية الخطورة. أسأل الله عز وجل أن يلقى هذا النداء قلوباً رحيمة، وآذاناً وعاية، فإن الخطر يهدد الجميع.

المدارس والجامعات التي لا تربي على الإيمان

المدارس والجامعات التي لا تربي على الإيمان السبب السادس: المدارس والجامعات ومناهج التعليم التي تحسن أن تعلم أبناءنا وبناتنا المعارف والعلوم، ولكنها لا تحسن أن تعلم عيونهم الدموع، ولا قلوبهم الخشوع، كيف ذلك مع هذا الاختلاط الرهيب بين الشباب والفتيات في سن خطيرة، وتجاهل لمادة الدين؟! والأمر يحتاج والله إلى وقفة صادقة من كل القائمين على أمر التعليم؛ لمناقشة هذه الحلول العملية التي أقدمها كعلاج لهذا السبب الخطير من أسباب هذه الظاهرة. أولاً: إلغاء الاختلاط بين الطلاب والطالبات ولو في الفصول الدراسية على الأقل، وذلك أضعف الإيمان. ثانياً: جعل مادة الدين من المواد الأساسية، ومن مواد الرسوب والنجاح، على أن يقوم بوضعها نخبة من العلماء الأجلاء والأساتذة الفضلاء؛ ليختاروا المعلومة الدينية الصحيحة الهادئة الهادفة، التي تتناسب مع أعمار كل مرحلة من مراحل التعليم. ثالثاً: إلغاء الرحلات المختلطة بين الطلاب والطالبات إلغاءً تاماً وكلياً؛ لأنها من أخطر أسباب الانحراف. رابعاً: إلغاء الدراسة المسائية للطالبات في الكليات العملية والنظرية. خامساً: المحافظة على قيم الجامعة ورسالتها، وعدم السماح لأي طالبة تدخل إلى الجامعة بلبس خليع ضيق أو عار مكشوف لا يتفق أبداً مع المكان الذي ستدخله، وعدم السماح لهذه الثنائيات المشبوهة بين الطلاب والطالبات التي تنتشر هنا وهنالك في زوايا الجامعات. سادساً: وضع عقوبات شديدة رادعة لكل طالب وطالبة يأتي بسلوك يخالف القيم والأخلاق في الجامعة. سابعاً: فتح الباب بصورة منظمة للعلماء والدعاة الصادقين للدخول إلى المدارس والجامعات لإلقاء المحاضرات الدينية الهادئة الهادفة، على أن يتولى الأمر بنفسه رئيس الجامعة أو وكيل الكلية، على أن يدعى لهذه المحاضرة الكبيرة المدرسون والمدرسات والطلبة والطالبات. ثامناً: مراعاة أوقات الصلوات أثناء وضع الجدول الدراسي، والسماح للطلاب والطالبات بأداء الصلاة مع أساتذتهم. هذه بعض الحلول العملية التي أسأل الله أن تجد قلوباً وآذاناً عند أساتذتنا الأجلاء الفضلاء من القائمين على أمر التربية والتعليم في المدارس والكليات والجامعات، فإن المشكلة ليست لفئة دون فئة، بل إن الخطر ورب الكعبة يهدد الجميع.

عدم قيام المؤسسات الدينية والتربوية بدورها

عدم قيام المؤسسات الدينية والتربوية بدورها وأخيراً: من الأسباب الخطيرة أيضاً: عدم قيام المؤسسات الدينية والتربوية بدورها الذي يجب أن تقوم به، والعلاج يكمن في أن تهتم وزارة الأوقاف والأزهر بهذا الأمر الخطير، وأن تكون الدعوة تدور حول مشاكل الشاب، وعلى مستوى فكر الشباب، ولا ينبغي في ظل هذه الظروف الحرجة أن نفصل بين الدعاة الرسميين والدعاة غير الرسميين ممن فتح الله عز وجل عليهم، وجعل لهم قبولاً بين المسلمين والمسلمات، وبين الشبان والفتيات، بل يجب الآن على كل من منّ الله عز وجل عليه بالعلم الشرعي الهادئ الهادف الصحيح أن يتحرك لدين الله تبارك وتعالى. أحبتي في الله! وأحب بعد هذه الأسباب والعلاج أن أذكر شبابنا وبناتنا وأخواتنا بهذه الكلمات: قلنا أأنت تباهي بالزنا فرحاً أأنت تعبث بالأعراض تياها فقال بل ذاك شرع صار متبعاً كم تاه غيري قبلي وكم باها فقلنا: ألست تخاف الله منتقماً فقال في كبر: لا أعرف الله ويح الشباب إذا الشيطان نازعهم على القول فأوهاها وألغاها قد علمتهم أفانين الخنا وسائل غشى بصائرها زيغ وأعماها ومطربة ومطرب في المذياع لقنهم ألحان فحش وزكاها وغناها ووالد غافل لاهٍ ومدرس نظامها من نظام الدين أقصاها لو أن لي قوة في أمتي ويداً ألزمت حواء مثواها ومأواها البيت كان لها ملكاً تعز به وفيه كانت ترى السلطان والجاها فقوضت بيديها عرشها وغدت رعية وذئاب الأرض ترعاها هذي الحضارة دين لا أدين به إني كفرت بمبناها ومعناها

هل من توبة؟

هل من توبة؟ وأخيراً: فهل من توبة؟! أيها المسلمون! أيها الشباب! أيتها الفتيات! إنني أعلم أن من سقط في هذا المستنقع الآثم ينقسمون إلى فريقين من الناس: الأول: من وقع في هذا الحرام جهلاً بأنه يزني ويأتي الفاحشة، وقد غرر بهم الشيطان وأغواهم وأعمى بصائرهم، وخيل لهم أنهم متزوجون في الحلال، وأن ما هم فيه ضرورة للبعد عن الزنا، وهم في مستنقع الزنا ذاته، وهذا الجهل لا يعفيهم من المسئولية العظيمة، ولا يرفع عنهم الإثم الخطير، فالطريق إلى النار يفرش أحياناً بالنوايا الطيبة، وأنا أعتقد اعتقاداً جازماً: أن هؤلاء مهما ظنوا أنهم لم يخالفوا الشرع فإن في داخلهم هاجساً دائماً وشعوراً بالذنب، وخوفاً من أن يكونوا قد وقعوا في الحرام، وإلا فلماذا استتروا، وبالغوا في التخفي والسرية والكتمان؟ فالحلال لا حاجة فيه إلى السراديب تحت الأرض، والحق دائماً لا يخشى الظهور في النور. أما الفريق الثاني: وهو الأكثر عدداً، فهو يعلم جيداً أنه يتلاعب بالأعراض، وينتهك الحرمات، ويخادع وينافق ويتمسح بالدين للوصول إلى غرضه الدنيء الحقير، وهؤلاء يتجرءون على الدين، ويستهزئون بالشرع، ولا يدخلون البيوت من أبوابها، ويزدادون إصراراً على التنقل في أوحال الرذيلة والعار؛ لأن أحكام الله معطلة، وحدوده مهملة، والمسلمين في غفلة، ومع ذلك فإلى هؤلاء وهؤلاء أقول: فهل من توبة؟! هيا أيها الشاب! وهيا أيتها الفتاة! يا من وقعت في هذه الرذيلة، ويا من وقعتي في هذا المستنقع! توبوا إلى الله عز وجل، أقلعوا عن هذا الذنب، واندموا على ما مضى، وتضرعوا إلى الله تبارك وتعالى أن يغفر ما قد سلف، واعلموا يقيناً بأن الله جل وعلا يفرح بالتائب حين يتوب إليه، وهو الغني عن العالمين، فهو سبحانه وتعالى الذي يفتح باب التوبة لعباده، يقول سبحانه: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]. وينادي سبحانه وتعالى أهل الإيمان بالتوبة وتجديدها، فإن الإنسان لا ينفك عن معصية صغيرة أو كبيرة، ومن ثم فالله جل وعلا يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم:8]، ويقول سبحانه: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31]. وما من يوم -أيها المسلمون! وأيها الشباب! وأيتها الفتيات! - إلا ورب العزة جل جلاله يتنزل إلى السماء الدنيا تنزلاً يليق بكماله وجلاله، ويقول سبحانه: (أنا الملك، من ذا الذي يدعوني فأستجيب له؟ من ذا الذي يسألني فأعطيه؟ من ذا الذي يستغفرني فأغفر له؟ فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر). وفي الصحيحين أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى -في الحديث القدسي-: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب مني شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إليَّ ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة). وفي صحيح مسلم من حديث أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل).

رحمة الله بعباده

رحمة الله بعباده وأختم هذا اللقاء بهذا الحديث الجليل الكريم الذي رواه البخاري من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى امرأة في السبي تبحث عن ولدها، فلما وجدته ألزقته ببطنها فأرضعته، فأثر هذا المشهد الرقراق الحاني في قلب النبي الكريم، فسأل النبي أصحابه فقال: (هل ترون أن هذه الأم طارحة ولدها في النار؟ قالوا: لا يا رسول الله! فقال صلى الله عليه وسلم: لله أرحم بعباده من هذه بولدها). فهيا أيها الشباب! وهيا أيتها الفتيات! إلى التوبة إلى رب الأرض والسموات. وا أسفاه إن دعيت اليوم إلى التوبة وما أجبت وا حسرتاه إن ذكرت الآن بالله وما أنبت. ماذا ستقول لربك غداً؟! وماذا ستقولين لربك غداً؟! تذكر أيها الشاب وتذكري أيتها الفتاة تذكروا أيها المسلمون: تذكر وقوفك يوم العرض عريانا مستوحشاً قلق الأحشاء حيرانا والنار تلهب من غيض ومن حنق على العصاة ورب العرش غضبانا اقرأ كتابك يا عبدي على مهل فهل ترى فيه حرف غير ما كانا فلما قرأت ولم تنكر قراءته وأقررت إقرار من عرف الأشياء عرفانا نادى الجليل خذوه يا ملائكتي وامضوا بعبد عصى للنار عطشانا المشركون غداً في النار يلتهبوا والمؤمنون بدار الخلد سكانا عد إلى الله، وتذكر أنك ميت، لا تغتر بشبابك، ولا تغتر بصحتك، ولا تغتر بقوتك، فالموت لا يترك صغيراً ولا كبيراً، ولا شاباً ولا شيخاً، ولا رجلاً ولا امرأة. وأنت أيتها الفتاة! لا تغتري بشبابك ولا بجمالك ولا بصحتك، ولا بخديعتك لأسرتك ولا للمجتمع، فستقفين يوماً بين يدي الله جل وعلا الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. أيها المسلم! أيتها المسلمة! دع عنك ما قد فات في زمن الصبا واذكر ذنوبك وابكها يا مذنب لم ينسه الملكان حين نسيته بل أثبتاه وأنت لاه تلعب والروح منك وديعة أودعتها ستردها بالرغم منك وتسلب وغرور دنياك التي تسعى لها دار حقيقتها متاع يذهب الليل فاعلم والنهار كلاهما أنفاسنا فيهما تعد وتحسب وصدق ربي جل وعلا إذ يقول: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ * فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى * أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة:26 - 40]. أسأل الله أن يردنا إلى الحق رداً جميلاً. {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74]. اللهم استر نساءنا وبناتنا، واحفظ شبابنا وردهم إلى الحق رداً جميلاً برحمتك يا أرحم الراحمين. أحبتي في الله! هذه صرخة ونصيحة من أخ يحبكم في الله، أسأل الله عز وجل أن يجعلها خالصة لوجهه، وأن ينفع بها المسلمين والمسلمات، إنه ولي ذلك والقادر عليه. هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو زلل أو سهو أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. وجزاكم الله خيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الوقت هو الحياة

الوقت هو الحياة إن أعظم ما يملكه الإنسان وقته، وسيسأل عنه، وعن كل ساعة من ساعاته، وعن كل لحظة من لحظات أيامه. فعلى المسلم أن يحذر من إضاعة الأوقات، وليستغل ساعات أيامه في فعل الخيرات، فإن عمره الحقيقي هو ما استغله في طاعة الله.

قيمة الوقت

قيمة الوقت بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصلِّ اللهم وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء، وأيها الإخوة الأحباب الكرام الأعزاء، وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت المبارك على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! تقبل علينا اختبارات آخر العام؛ فترفع البيوت حالة الطوارئ إلى أقصى درجة، فإذا ما أنهى أبناؤنا الاختبارات عادت البيوت مرة أخرى إلى حالة قاتلة من الفراغ والارتخاء! وترى قليلاً من البيوت هي التي تعرف قدر الوقت وقيمة العمر، فإذا ما أقبلت الإجازة الصيفية استغلوا هذا الوقت استغلالاً طيباً بما يعود على أبنائهم بالنفع في الدنيا والآخرة، فأحببت مع إقبال الإجازة الصيفية علينا أن أذكِّر نفسي وآبائي وإخواني بقيمة الوقت وشرف الزمان؛ لذا فإن لقاءنا اليوم مع حضراتكم بعنوان: (الوقت هو الحياة) وكما تعودنا فسوف أركز الحديث مع حضراتكم تحت هذا العنوان في العناصر التالية: أولاً: قيمة الوقت. ثانياً: عوائق الاستفادة من الوقت. ثالثاً: كيف يطول عمرك؟! وأخيراً: رسالة إلى القتلة! فأعيروني القلوب والأسماع. والله أسأل أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولو الألباب. أولاً: قيمة الوقت. أيها الأحبة الكرام! إن الوقت هو الحياة، والعاقل هو الذى يعرف قدر وقته، وشرف زمانه؛ فلا يضيع ساعة واحدة من عمره إلا في خير للدنيا أو للآخرة؛ حتى لا يتحسر على هذه الساعة في ساعة لا تنفع فيها الحسرة ولا يجدي فيها الندم. إن الوقت من أعظم نعم الله، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان:62]، ويلفت ربنا أنظارنا إلى قدر الوقت وقيمة الوقت حين أقسم بالوقت في آيات كثيرة من قرآنه، قال جل وعلا: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} [الليل:1 - 2]، وقال جل وعلا: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر:1 - 2]، وقال جل وعلا: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3]. فالوقت -يا إخوة- هو العمر هو الحياة. والعاقل هو الذى يدرك شرف زمانه وقدر وقته، ولا تراه في ساعة من عمره إلا منشغلاً بعمل نافع للدنيا، وإما بعمل نافع للآخرة. وها هو نبينا يعلمنا أن الإنسان سيسأل عن ساعات عمره، وعن أيام عمره، وعن شهور عمره، وعن سنوات عمره، سيسأل الإنسان عن عمره كله بين يدي الله جل وعلا كما في الحديث الصحيح الذي رواه الترمذى من حديث أبي برزة الأسلمي أن الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن جسمه فيما أبلاه،-وفي لفظ: وعن شبابه فيما أبلاه-، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه). لن تتحرك من أرض المحشر ومن موقف الحساب بين يدي الله حتى تسأل عن أربع، كيف قضيت الأيام؟ كيف قضيت الساعات؟ كيف قضيت العمر؟ ستسأل عن عمرك كله، فيم أفنيت هذه الأيام، وهذه السنوات الطوال؟ هل أفنيتها في طاعة الكبير المتعال، وفي نفع لدنياك وأخراك، أم ضيعت عمرك وسنواتك كلها في معصية الله، وفيما لا يعود عليك بخير للدنيا أو للآخرة؟! وها هم سلفنا رضوان الله عليهم يعلموننا الحرص على الوقت، وأن الوقت هو الحياة، وأن العمر هو الحياة، فهم يعلموننا أن من عقوق الزمن أن تمضي ساعة واحدة لا يستغلها الإنسان لخير في حياته أو لآخرته، فهاهو عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: (ما ندمت على شيء كندمي على يوم غربت شمسه، قرب فيه أجلي، ولم يزد فيه عملي). تدبر هذه الكلمات! ولله در القائل: إذا مر يومٌ ولم أقتبس هدىً ولم أستفد علماً فما ذاك من عمري.

الوقت يمر مر السحاب

الوقت يمر مر السحاب يزداد الأمر خطراً إذا علمنا أن من أهم خصائص الوقت: أنه يمر مر السحاب، ويجري جري الرياح، فدنياك مهما طالت فهي قصيرة، ومهما عظمت فهي حقيرة؛ لأن الليل مهما طال لابد من طلوع الفجر، ولأن العمر مهما طال لابد من دخول القبر، فالأيام تمر ونحن في غفلة، الأيام تمر والأشهر تجري وراءها، وتسحب معها السنين، وتجر خلفها الأعمار، وتطوى حياة جيلٍ بعد جيل. وبين يدي الملك الجليل سيعلم الذين خسروا أنفسهم وضيعوا أوقاتهم وأعمارهم أنهم ما لبثوا في هذه الدنيا إلا ساعة إلا يوماً أو بعض يوم، {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ * وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ * وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} [المؤمنون:112 - 118] ومن أهم خصائص الوقت: أنه ما مضى منه لا يعود أبداً ولا يعوض. أتحداك أن تسترد اليوم الذي فات، لقد انتهى اليوم. كان الحسن البصري رحمه الله يقول: ما من يوم ينشق فجره إلا وهو ينادي بلسان الحال: يابن آدم! أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيد؛ فاغتنمي فإني لا أعود إلى يوم القيامة. ومع أن الوقت أيها الأخيار هو أغلى وأثمن ما يملكه الإنسان، فإننا نرى كثيراً من إخواننا يقتلون الوقت قتلاً، ويضيعون العمر تضييعاً، ولا حول ولا قوة إلا بالله، بل ولا يقفون على خطر العوائق التي تحول بينهم وبين الاستفادة من أوقاتهم وأعمارهم.

معوقات الاستفادة من الوقت

معوقات الاستفادة من الوقت تعرف على عوائق الاستفادة من الوقت؛ لتحذرها أيها الكريم!

اتباع الهوى

اتباع الهوى العائق الأول: اتباع الهوى، والهوى مَلِكٌ ظلوم غشوم جهول، يهوي بصاحبه إلى الشر في الدنيا، والهلاك في الآخرة. يقول ابن عباس: ما ذكر الله الهوى في موضع من كتابه إلا وذمه، قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية:23] ولقد حذر الله نبياً كريماً من أنبيائه من الهوى فقال تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص:26] وخاطب الله نبيه المصطفى بقوله: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28] فالهوى يهوي بصاحبه إلى الشر في الدنيا والآخرة، وفي الحديث الذي رواه البزار والبيهقي والحاكم -والحديث حسن بمجموع طرقه- من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث مهلكات وثلاث منجيات، أما الثلاث المهلكات: فشح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه). هذه إن اجتمعت على عبد أهلكته (شح مطاع) أي: رجل شحيح بخيل يدعى إلى الإنفاق في سبيل الله فيحول الهوى والشح بينه وبين ذلك. قال: (وأما الثلاث المنجيات: فخشية الله في السر والعلانية، والقصد في الفقر والغنى، والعدل في الغضب والرضا). هذه هي طريق الهلاك، وهذه هي طريق النجاة، يلخصها لنا من آتاه الله جوامع الكلم في ست كلمات فقط: (ثلاث مهلكات، وثلاث منجيات). فلو انقاد الإنسان لهواه لزين له جلسة الفارغين وجلسة البطالين، وزين له تحلل المتحللين من أوامر رب العالمين. ترى المسلم يقضي الساعات الطويلة في الليل على المقهى، أو يقضي جل الليل أمام المسلسلات والأفلام، وإن سألت واحداً من هؤلاء: ما الذي أجلسك هذه الجلسة الطويلة على المقهى أو أمام التلفاز؟ يقول لك: أضيع الوقت أقتل الوقت إنا لله وإنا إليه راجعون!! وهو لا يدري أنه يقتل نفسه، وأنه ينتحر انتحاراً بطيئاً؛ لأن الإنسان مجموعة أيام، فإن انقضى يوم من أيامه استقبل به الآخرة، واستدبر به الدنيا. كان لقمان يقول لولده: (أي بني! إنك من يوم أن نزلت إلى الدنيا استدبرت الدنيا واستقبلت الآخرة، فأنت إلى دار تقبل عليها أقرب من دار تبتعد عنها!) فيا أيها المسلم! إن وقتك هو الحياة إن وقتك هو العمر فلا تضيع ساعة من عمرك إلا وأنت في خير للدنيا أو في خير للآخرة، وإلا فورب الكعبة سنندم على كل ساعة مضت من أعمارنا قضيناها في معصية ربنا ونبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم. فالهوى مَلِكٌ ظلوم غشوم، سيزين لك الفراغ سيزين لك المعصية سيزين لك الباطل سيزين لك الفراغ القاتل، ولا يصل العبد إلى حقيقة الإيمان إلا إذا وافق هواه ما جاء من عند الله وما جاء به رسول الله، قال جل وعلا: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]. فالهوى من أخطر العوائق التي تصرف العبد عن استثمار وقته فيما يُرضي الله جل وعلا.

طول الأمل

طول الأمل العائق الثاني: طول الأمل، جميل أن تحمل أملاً في قلبك لتعمر الكون، فالإنسان مفطور على حب الحياة، ولا ينكر ذلك إلا جاهل بالقرآن والسنة. جميل أن أعيش في الدنيا وأنا أحمل الأمل في قلبي أن أُعَمِّر بيتاً لأولادي، وأن أصل إلى أعلى المناصب، وأرقى الدرجات، وأن أحصل على الملايين المملينة من الأموال من الحلال الطيب. هذا شيء جميل، لكن الخطر أن يحول طول الأمل بينك وبين طاعة الله جل وعلا!! فطول الأمل -مع قتل الوقت وتضييع العمل- مصيبة كبيرة، ومرض عضال، إن أصاب الانسان شغله عن طاعة الكبير المتعال، وفتنه بالدنيا وأنساه الآخرة، فتراه لطول أمله في غفلة يقضي الليل والنهار في أمور الدنيا، إن ذكَّرته بالله ما تذكَّر، إن تلوت عليه القرآن ما تأثر، إن ذكرته بحديث النبي ما تحرك قلبه، إنه في غفلة، ومع ذلك يمنيه طول الأمل بـ (سوف)! واحسرتاه من (سوف)! سوف أصلي غداً، سوف أقيم الليل غداً، سوف أتصدق غداً، سوف أتفرغ للعبادة إذا خرجت على المعاش، سوف أرتدي الحجاب أيها الشيخ إذا تزوجت! سوف وسوف وسوف سوف أحج في العام المقبل. ويرى الإنسان نفسه في لحظة بين عسكر الموتى بين يدي الله جل وعلا، يتمنى الرجعة، فيقال له: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون:100] لا وزن لها، ولا يجيبه الله جل وعلا. جميل أن تحمل الأمل في قلبك، لكن احذر أن يحول طول الأمل بينك وبين طاعة الله سبحانه، وأن يمنيك بكلمة: سوف تفعل، وسوف تفعل، وسوف تفعل! ولقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من طول الأمل فقال كما في صحيح البخاري لـ ابن عمر: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل). الغريب في بلد يفكر في العودة إلى موطنه، وعابر السبيل في بلد يفكر في العودة إلى بلده، فكن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل. وكان ابن عمر يقول: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء). هذا هو الفهم الحقيقي للأمل، فلا تكن أيها المسلم! مثل من قال الله تعالى فيهم: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:3]. قال القرطبي: أي: يشغلهم الأمل عن طاعة الله جل وعلا. أخي الحبيب! أيا عبد كم يراك الله عاصياً حريصاً على الدنيا وللموت ناسيا نسيت لقاء الله واللحد والثرى ويوماً عبوساً تشيب فيه النواصيا لو أن المرء لم يلبس ثياباً من التقى تجرد عرياناً ولو كان كاسيا ولو كانت الدنيا تدوم لأهلها لكان رسول الله حياً وباقيا ولكنها تفنى ويفنى نعيمها وتبقى الذنوب والمعاصي كما هيا (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً). وهذا ليس من كلام النبي، وإنما هي حكمة لأحد السلف، والراجح أنها من قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه. اخرج لعملك وأنت مستعد للقاء الله، بل وأنت في شوق في كل يوم للقاء الله جل وعلا، ففي الصحيحين من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، قالت عائشة: فكلنا يكره الموت. قال: ليس ذلك يا عائشة، ولكن المؤمن إذا بشر برحمة الله ورضوانه وجنته أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا بشر بسخط الله وعذابه كره لقاء الله وكره الله لقاءه)، يمنيك بطول الأمل، ويقول لك: لا تعمل الآن كذا، فرِّغ نفسك الآن للمعصية أو للهو أو لمتع الدنيا أو للشهوات أو للملذات، يقول الرجل لنفسه: أنا لا زلت شاباً، ولا زالت بين يدي حياة أستمتع بها وأتلذذ بها! أذهب إلى هنا، وأنطلق إلى هنالك، وأعدك -يا شيخ- إذا بلغت سن المشيب لن أفارق بيت الله جل وعلا لحظة! قال لي إخواننا في أمريكا: إن رجلاً من الله عليه بالأموال، وهو جار للمسجد، وما دخل المسجد مرة، ذكَّروه بالله فما تذكر، حذروه من النار فما خاف النار، ذكروه بكلام النبي المختار فما تحرك قلبه، وصدق فيه قول الله عز وجل: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179]، أسأل الله أن يحفظنا من الغفلة. فذهبت إلى هذا الرجل، فرأيته يبيع الخمر في محله، ويبيع لحم الخنزير، فقلت له: يا أخي! اتق الله! ألست مسلماً؟! المسجد إلى جوارك، وما خطوت إليه خطوة! تلوت عليه القرآن، وذكرت هذا المسكين بحديث النبي عليه الصلاة والسلام، فقال لي -ورب الكعبة-: يا شيخ! أعدك إن عدت إلى بلدي -بعد ما أحصل من المال ما أريد- أن أبني لله مسجداً، وأن أعتكف فيه، ولن أفارقه! قلت له: انتظر حتى أوقع هذا العقد بينك وبين ملك الموت! أعطني هذه الفرصة لأوقع لك هذا العقد بهذه الصورة بينك وبين ملك الموت!!! هل ضمنت يا مسكين أن تعود إلى بلدك؟!! هل ضمنت يا مسكين أن تصبح إلى اليوم التالي! فنظر إلي وقال -وهو الذي صار عبداً للدولار-: أشهد الله، ثم أشهدك أنني إذا أصبت بحالة إعياء وحالة صداع فإني أضع ورقة الدولار من فئة المائة على رأسي فيطير الصداع والألم في الحال! قلت: أنت عبد للدولار، وأنت عبد للدرهم والدينار كما قال النبي المختار: (تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار) أنت تعيش من أجل المال، وتعيش من أجل الدنيا، والمال ظل زائل، وعارية مسترجعة، والدنيا إلى زوال وإلى فناء، ولو دامت لأحد لدامت لسيد الخلق محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله ومن والاه القائل: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) وكان ابن عمر يقول: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء)، فلا يغرنك طول الأمل. ورحم الله الحسن إذ يقول: (ما أطال عبد الأمل إلا وقد أساء العمل).

الفراغ

الفراغ العائق الثالث: الفراغ. آهٍ من الفراغ على شبابنا وأخواتنا!! آهٍ من الفراغ وخطره!! الفراغ يعد نعمة من أجل النعم ونحن لا ندري!!

نعمة الصحة ونعمة الفراغ

نعمة الصحة ونعمة الفراغ روى البخاري من حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ). الصحة نعمة ونحن لا نشعر بقدر هذه النعمة، بل يظن كثير منا أن النعمة فقط هي الأموال، فإن منَّ الله علينا بالأموال فهذه هي النعمة، وإن حجب الله عنا المال، ومنَّ علينا بنعمة الإيمان ونعمة الإسلام، فهذه نعمة، فمن أجل النعم نعمة الإيمان والتوحيد لله جل وعلا. قال الشاعر: النفس تجزع أن تكون فقيرة والفقر خير من غنى يطغيها وغنى النفوس هو الكفاف فإن أبت فجميع ما في الأرض لا يكفيها وقال آخر: هي القناعة فالزمها تكن ملكاً لو لم تكن لك إلا راحة البدن وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير الطيب والكفن ما أخذ دولاراً ولا ديناراً ولا سيارة ولا عمارة، ما أخذ شيئاً إلا العمل الذي سينفعه بين يدي الله جل وعلا، فالفراغ مقتلة وهو في الوقت نفسه نعمة إن استخدمت هذه النعمة في طاعة الله، والصحة نعمة وهي في الوقت نفسه مقتلة إن استخدمها الإنسان في معصية الله وتجبر بها على خلق الله، وطغى بها على عباد الله، (الصحة والفراغ نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس) قال الحافظ ابن حجر: فمن استغل صحته وفراغه في طاعة الله فهو المغبوط، ومن استغل صحته وفراغه في معصية الله فهو المغبون.

أنواع الفراغ

أنواع الفراغ الفراغ أنواع: الفراغ القلبي، والفراغ النفسي، والفراغ العقلي. هذه هي أنواع الفراغ. الفراغ القلبي: وهو أخطر أنواع الفراغ على الإطلاق، أن يفرغ القلب من الإيمان، أن يفرغ القلب من اليقين، أن يفرغ القلب من الرضا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبالمصطفى نبياً ورسولاً. إن فرغ القلب من الإيمان فصاحب هذا القلب ميت وإن تحرك بين الأحياء، فالقلب وعاء الإيمان كما قال المصطفى في حديث النعمان الذي رواه الشيخان وفيه: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب). القلب هو الملك، والأعضاء جنوده ورعاياه: فإن طاب الملك طابت الجنود والرعايا، وإن خبث الملك خبثت الجنود والرعايا. فإن عمر القلب بالإيمان ما شعر الإنسان أبداً بالفراغ؛ لأنه في كل لحظة سيتلذذ بالأنس بالله. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: مساكين والله أهل الدنيا؛ خرجوا من الدنيا ولم يذوقوا أطعم وأحلى ما فيها. قيل: وما أطعم ما فيها؟! قال: ذكر الله، والأنس بلقائه. الأنس في طاعة الله، والأنس في ذكر الله جل وعلا، فإذا عمر القلب بالإيمان شعر الإنسان بلذة الحياة، وبطعم الطاعة والعبادة لله جل في علاه، روى أبو نعيم والديلمي وصححه الألباني من حديث علي أن الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من القلوب قلب إلا وله سحابة كسحابة القمر، فبينا القمر مضيء إذ علته سحابة فأظلم، فإذا تجلت عنه أضاء)، فكذلك نور الإيمان في القلب، إن حجب نور الإيمان بسحائب الظلم والذنوب والمعاصي؛ فتر الإنسان عن طاعة الله، بل وربما انجرف وانحرف؛ لأن القلب سيفرغ من حقيقة الإيمان، وفراغ القلب من الإيمان هلاك للعبد في الدنيا، وخسران له في الآخرة؛ لأن أصل النجاة هو الإيمان، ولأن مدار الفلاح على الإيمان بالله تبارك وتعالى. فالفراغ القلبي من الإيمان سيعرض القلب لكل أنواع الفتن، روى مسلم من حديث حذيفة أن المصطفى قال: (تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً، فأيما قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تعود القلوب على قلبين: قلب أسود مُربادّاً كالكوز مُجخياً، لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه، وقلب أبيض لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض) فالقلب وعاء الإيمان ومحط الفتن، فإذا فرغ القلب من الإيمان تعرض الإنسان لكل فتنة، وتشربها قلبه.

علاج الفراغ القلبي

علاج الفراغ القلبي علاج الفراغ القلبي ودواء الفراغ القلبي بزيادة الإيمان؛ إذ إن الإيمان يزيد وينقص، كيف يزداد الإيمان في قلبي؟ يزداد الإيمان بالطاعات، وينقص الإيمان بالمعاصي والزلات، ونقب عن قلبك أيها الحبيب! وأنت الآن في مجلس علم كهذا، ثم نقب عن قلبك وأنت أمام التلفاز أو في مجلس غيبة أو نميمة، فتقف على حجم الفارق بين حال قلبك في الطاعة، وبين حال قلبك في المعصية. يقول عبد الله بن مسعود: (تفقد قلبك في ثلاثة مواطن: عند سماع القرآن، وفي مجالس الذكر والعلم، وفي وقت الخلوة بينك وبين ربك). ابحث عن قلبك في هذه المواطن: عند سماع القرآن إن وجل القلب، في مجالس العلم إن وجل القلب، في وقت الخلوة إن وجل القلب، فاحمد الله أنك تحمل قلباً، وسل الله أن يملأه إيماناً ورضى وتقىً، فإن لم تجد قلبك في هذه المواطن، فابحث عن قلب؛ فإنه لا قلب لك!! يقول ابن مسعود: إن لم تجد قلبك في هذه المواطن فابحث عن قلبك فإنه لا قلب لك، فإن القلب يمرض والإنسان لا يدري، وإن القلب يموت والإنسان لا يدري، إذا تعب القلب بمرض من الأمراض العضوية أسرعنا إلى الأطباء، هذه فطرة، لكن القلب قد يمرض بالشهوات وقد يموت بالمعاصي والملذات وصاحبه لا يدري على الإطلاق!!! يقول المصطفى كما في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري: (مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه كمثل الحي والميت) فالذاكر لله حي وإن حبست منه الأعضاء، والغافل عن ذكر الله ميت وإن تحرك بين الأحياء!! وخذوا هذه الوصفة البليغة من سفيان الثوري لرجل مريض القلب مثلي، ذهب إليه رجل فقال: يا سفيان! لقد ابتليت بمرض قلبي فصف لي دواءً. فقال سفيان: عليك بعروق الإخلاص، وورق الصبر، وعصير التواضع، ضع هذا كله في إناء التقوى، وصب عليه ماء الخشية، وأوقد عليه نار الحزن على المعصية، وصفِّه بمصفاة المراقبة له، وتناوله بكف الصدق، واشربه من كأس الاستغفار، وتمضمض بالورع، وابعد عن الحرص والطمع، يشفى مرض قلبك بإذن الله. أسأل الله أن يعيننا على هذا الدواء الناجع النافع!! والفراغ الأخير هو الفراغ النفسي، فالنفس إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل، إن لم تفطمها بالطاعات قادتك إلى المعاصي والزلات، قال الله: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [يوسف:53] فاللهم ارحمنا بفضلك. فيا أيها الأخ الحبيب! ويا أيها الوالد الكريم! الفراغ النفسي مقتلة شبابنا، فإذا فرغت نفوسهم قاموا إلى كل معصية، وانحرفوا في كل واد وفي كل طريق ضال، إذا لم يجد الشاب عملاً يقوم به، ورأى نفسه في فراغ، انشغل بالمعاصي انشغل بالفتن والشهوات انشغل بالأفلام والمباريات والمسلسلات انشغل بالمجلات الخليعة الجنسية الماجنة، وبقراءة القصص التي تحول الزهاد العباد إلى فساق فجَّار! إنه فراغ النفس، فالنفس إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل، وإن لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية. يظن الإنسان أنه يصعب عليه أن يطيع الله، والأمر سهل، فلو فطمت نفسك كفطمك للرضيع عن اللبن وعن ثدي أمه مرة بعد مرة لاعتادت الطاعة، ولشعرت براحة ولذة في أي طاعة لله، ولن تشعر بثقل على الإطلاق؛ لأن الله جل وعلا قد زكى النفس، ودلَّها على هذين الطريقين فقال: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس:7 - 9]. وقال جل وعلا: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:37 - 41]. ­­­فالناس صنفان: صنف قد انتصر على نفسه وقهرها، وألجمها بلجام الطاعة، وجعل النفس مطية إلى رضوان الله والجنة، أسأل الله أن يجعلني وإياكم منهم، وصنف قهرته نفسه، وانتصرت عليه نفسه، وغلبته وقادته إلى كل شر في الدنيا، وإلى الهلاك في الآخرة. أسأل الله أن يحفظنا وإياكم من نفوسنا الأمارة بالسوء، إنه ولي ذلك والقادر عليه. ملء الفراغ النفسي يكون بالطاعة، فاشغل نفسك بطاعة الله وبعمل مفيد. والعقل نعمة، والفراغ العقلي حياة صاحبه دمار، وآخرته بوار، بدليل أن أهل النار وهم في النار بين يدي الواحد القهار يتصايحون بأنهم كانوا لا يحملون عقولاً يفكرون بها، سمعوا القرآن فما اتعظوا، سمعوا الحديث فما اعتبروا، ذكروا فما تذكروا، فكان المصير أن يتصايحوا في النار، وأن ينادوا على العزيز الغفار، ولكن هيهات!! قال الله جل وعلا عن هؤلاء الذين لا يحملون عقولاً يفكرون بها: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:10]، لو كنا نحمل عقولاً سليمة نسمع بها الحق، ونذعن بها للحق، ونخضع بها لله ولرسوله ما كنا بين هؤلاء المجرمين من أصحاب النار. فيا أيها الوالد الكريم! ويا أيها الأخ الحبيب! لقد آتانا الله عقولاً، وهي من أعظم نعم الله علينا. وأنا أقول أيضاً: نحن لا نفكر في نعمة العقل، وقد ذكرتكم مراراً حينما ذهبنا مع إخواننا، لنزور إخواننا وأخواتنا في مستشفى الأمراض العقلية، ودخلنا عنبراً للنساء، ورأينا النساء بين أيدينا، وقد أعطاهن الله كمال الخلق، وفجأة اقتربت منا فتاة في الثانية والعشرين من عمرها؛ لتأخذ الغطاء الذي على الرأس، ولتمسك باللحية!! وفجأة رأينا هذه الفتاة ذهبت إلى جانب في العنبر، وتجردت من كل ثيابها كما ولدتها أمها! فخرجنا، وقلت لإخواني يومها: أشهد الله، ثم أشهدكم أنني ما عرفت قدر نعمة العقل إلا في هذه اللحظة، فلا تترك عقلك فارغاً للتفاهات للمسلسلات التافهة، وللأفلام القذرة، وللقصص الماجنة، بل املأ عقلك بالعلم النافع، بالقراءة الجيدة، بالأفكار الهادفة، واعلم بأنك تحمل قضية دين، وتحمل قضية أمة تُضرب الآن بالنعال على أم رأسها، فلا تشغل ولا تملأ فراغ عقلك -أيها الأخ الحبيب- بمثل هذه التفاهات، فوقتك أغلى من هذا، وعمرك أغلى من هذا الضياع الذي تضيعه أمام مسلسل أو فلم أو مباراة، أو على مقهى تقضي فيه الساعات الطوال.

الفتن

الفتن أيها الأحبة الكرام! من أخطر العوائق: الفتن، والفتن التي بين أيدينا كثيرة، وهي بالجملة تنقسم إلى نوعين: فتن الشهوات، وفتن الشبهات. ولا عون لك -لتستفيد من وقتك وسط هذه الفتن- إلا إذا استعنت بالله جل وعلا، وحرصت على مجالس الخير، وعلى مجالس العلم. أسأل الله أن يحفظني وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن، إنه ولي ذلك ومولاه.

العمر الحقيقي وكيفية إطالته

العمر الحقيقي وكيفية إطالته ثالثاً: سؤال قد يستغربه الجميع: كيف يطول عمرك؟! الإنسان مفطور على حب الحياة، ويرجو أن لو طال عمره، بل ويتمنى الخلود إن استطاع، ولكن الموت يختطف الشاب في ريعان شبابه!! ويختطف الفتى المدلل الوحيد من بين أهله!! ويختطف العروس في ليلة عرسها!! ويختطف الحاكم القوي المرهوب من بين حرسه وجنوده!! فالأيام محسوبة، والآجال معدودة، وما دام الموت هو نهاية الحياة فإن العمر حينئذ قصير. الأيام تمر، والأشهر تجري، والسنين تولي، والعمر ينقضي!! فما دام الموت هو آخر المطاف فالعمر قصير، ولم يستطع العلم -بل ولن يستطيع- أن يرد الشيخوخة إلى شباب، أو أن يحول بين الإنسان وبين الموت، ومع ذلك قد يستطيع الإنسان أن يطيل عمره!! كيف؟! اعلم أيها الأخ الكريم! أن العمر الحقيقي للإنسان لا يقاس بسنواته التي قضاها من يوم ولادته إلى يوم وفاته، وإنما العمر الحقيقي للإنسان يقاس بقدر ما قدم الإنسان في سنوات عمره من عظائم الأعمال، وجلائل الأعمال الخيرات الصالحات الطيبات. إذاً: عمرك الحقيقي يقاس بعمل الخيرات وبالطاعات. فكم من عمر طالت آماده، وقلت خيراته وأمداده!! وكم من عمر قلَّت آماده، وكثرت خيراته وأمداده!! فالعمر الحقيقي يقاس بالأعمال يقاس بالطاعات، ولا يقاس بالسنوات، فكم من أناس قد مكثوا مائة سنة أو يزيد، ومع ذلك رصيدهم عند الله صفر أو دون الصفر بلغة المصارف والبنوك. بل عليه من الأوزار والذنوب ما تنوء بحملها الجبال، ومن الناس من يقضون سنوات قليلة: قد يموت الشاب في الثلاثين من عمره، أو في الأربعين من عمره، ورصيده عند الله جل وعلا مشرق منير، وعمره عند الله جل وعلا عظيم كبير؛ لأن الأعمار لا تقاس بالسنوات، وإنما تقاس بأعمال الخيرات والبر والطاعات.

بركة أعمار الأنبياء

بركة أعمار الأنبياء انظر إلى نبي الله نوح قضى ألف سنة إلا خمسين عاماً في الدعوة إلى الله، وقدر الله جل وعلا ألا يؤمن معه إلا قليل! وانظر إلى عمر المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم كم عاش؟ وكم كان عدد سنوات دعوته؟ تزيد عن العشرين، فهي قليلة جداً، ومع ذلك استطاع المصطفى في هذا العمر القليل أن يقيم للإسلام دولة من فتات متناثر، فإذا هي بناء شامخ لا يطاوله بناء! استطاع أن يرد الناس في صحراء تموج بالكفر موجاً إلى الله العلي الأعلى جل وعلا.

بركة عمر أبي بكر الصديق

بركة عمر أبي بكر الصديق صديق الأمة الأكبر مدة ولايته لا تزيد على سنتين ونصف، حَوَّلَ فيها المحن التي أصابت الأمة إلى منح! في سنتين ونصف قضى على فتنة الردة! في سنتين ونصف أنفذ بعث أسامة! في سنتين ونصف جمع القرآن الكريم، وَرَدَّ الأمة إلى منهج النبي الكريم!! فاستحق من النبي أن يبشره بأن أبواب الجنة كلها ستنادي عليه يوم القيامة؛ إذ إن كل باب من أبواب الجنة يريد أن يدخل منه أبو بكر رضي الله عنه، هل تصدق هذا؟! عبد من عباد الله تتمنى أبواب الجنة أن يمر منها، جاء في البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (من أنفق زوجين في سبيل الله دعي من أبواب الجنة: يا عبد الله! هذا خير. فإن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، وإن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، وإن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، وإن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان. فقال أبو بكر: يا رسول الله! فهل يدعى أحد من هذه الأبواب كلها؟ قال المصطفى: نعم، وأنت منهم يا أبا بكر).

بركة عمر أمير المؤمنين عمر

بركة عمر أمير المؤمنين عمر فاروق الأمة عمر خلافته عشر سنوات وستة أشهر فقط، قدم فيها للدنيا كلها قدوة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، في هذه الفترة القليلة التى لا تساوي أي شيء في حساب الزمن، يقدم عمر لدنيا الناس كافة قدوة لا تبلى بل ولن تبلى، إنها قدوة تتمثل في حاكم بركت الدنيا كلها على عتبة داره وهي مثقلة بالغنائم والأموال والكنوز والطيبات! فقام عمر يسرحها سراحاً جميلاً، قام لينثر على الناس خيراتها، وليدرأ عن الناس مضلاتها وفتنها، حتى إذا ما نفض يديه من علائق هذا المتاع الزائل، قام ليستأنف سيره ومسراه إلى مولاه، انظر إليه هنالك، ستراه يجري في وقت الظهيرة المحرقة وراء بعير من إبل الصدقة قد ند يخشى عليه الضياع، فيلتفت إليه عثمان من شُرفة بيته، يا ترى! من هذا الذي يجري في هذا الوقت الحار؟! إن الشمس تذيب الحجارة والحديد، بل وتكاد أشعتها التي انعكست على الرمال أن تخطف الأبصار، ولما دنا من هذا الذي يجري فإذا به عمر أمير المؤمنين! فقال عثمان: يا أمير المؤمنين! ما الذي أخرجك في هذه الساعة المحرقة؟! فيرد عمر: بعير من إبل الصدقة قد ند -يا عثمان - أخشى عليه الضياع!! وأخشى أن أسأل عنه بين يدي الله يوم القيامة!! فقال عثمان: تعال إلى الظل وإلى الماء البارد يا أمير المؤمنين! وكلف أحد عمالك بالبحث عن البعير، فالتفت إليه عمر وقال: عد إلى ظلك ومائك البارد يا عثمان، أأنت ستحمل عني وزري أمام الله يوم القيامة؟! إنه عمر الذي أرهب الملوك والحكام، وجاءت تحت قدميه مفاتيح أعظم الإمبراطوريات: إمبراطورية فارس، وإمبراطورية الروم، وانتشر الإسلام في عهد عمر شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، بل ورفرفت راية الإسلام على روسيا في عشر سنوات وستة أشهر! إنها بركة الأعمار! إنها الأعمار الطويلة المزكاة المباركة من الله.

بركة عمر معاذ بن جبل

بركة عمر معاذ بن جبل معاذ بن جبل شاب من شباب الأمة، شاب أسلم في الثامنة عشرة من عمره، وتوفي في الثالثة والثلاثين من عمره. لا أقول: في الثالثة والتسعين، ولا في الثالثة بعد المائة، بل في الثالثة والثلاثين من عمره!! في هذه السنوات القليلة، في عشر سنوات أو تزيد قليلاً استطاع معاذ أن يسطر على جبين الزمان، وعلى صفحات التاريخ والأيام، هذا المجد وهذه العظمة وهذا الخلود حتى قال له المصطفى يوماً: (يا معاذ! والله إني لأحبك).

بركة عمر عمر بن عبد العزيز

بركة عُمْرِ عُمَرَ بن عبد العزيز عمر بن عبد العزيز شاب في ريعان الشباب، استمرت ولايته قرابة سنتين ونصف، واستطاع فيها أن يضع يده على الداء الذي استشرى في أمة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، ونجح في أن يستل جرثومته بيد بيضاء نقية، وأن يعيد البشرية عوداً حميداً إلى الهدى والنور، وكأنها تعيش في زمن الوحي، حتى خرج المنادي يقول: من كان عليه دين فسداد دينه من بيت مال المسلمين!! وهذا الشبل من ذاك الأسد، سدد عمر بن عبد العزيز الديون، وبقيت البركة باركة في بيت المال، فخرج المنادي يقول: من أراد -من شباب المسلمين- أن يتزوج فزواجه من بيت مال المسلمين!! فزوج الشباب، وبقيت البركة باركة في بيت المال!! فخرج المنادي للمرة الثالثة -وهي أعجب- ليقول: أيها الناس! من أراد حج بيت الله -وهو لا يستطيع- فحج بيت الله على نفقة بيت مال المسلمين! وخرج من أراد الحج وبقيت البركة باركة في بيت المال! هل فعل هذا في مائة سنة؟! في ألف سنة؟! لا والله، في سنتين ونصف، ألم أقل لكم: إن العمر يطول بجلائل الأعمال، وعظائم البطولات؟! فيأيها المسلم! أطل عمرك بعمل الخيرات وعمل الطاعات، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اغتنم خمساً قبل خمس، -هذا أمر نبيك، وهذه وصية حبيبك محمد، والحديث رواه أحمد وغيره وهو حديث صحيح- اغتنم خمساً قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك). اغتنم هذه الغنائم: اغتنم الغنى قبل الفقر، والشباب قبل الهرم، والصحة قبل المرض، والحياة قبل الموت!! اغتنم هذه الغنائم، ولا تضيع عمرك، ولا تضيع ساعات وقتك، فإن العمر يولي، وغداً سترى نفسك بين يدي الله. وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

رسالة إلى قتلة الوقت

رسالة إلى قتلة الوقت الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: أيها الأحبة الكرام! رسالة أخيرة إلى أشر القتلة! إلى من يقتلون الوقت قتلاً إلى من يقتلون العمر قتلاً إلى من يضيعون الحياة تضييعاً. يا من تضيع الوقت! أنت تضيع عمرك، وتضيع حياتك، وتنتحر انتحاراً بطيئاً وأنت لا تدري، بل ولا يذكرك أحد بهذه الجريمة الشنعاء التي ترتكبها في حق نفسك. تسأل الكثيرين الآن: لماذا تفعل كذا؟ يقول: أضيع الوقت!! بل -ورب الكعبة- رأيت بعيني على جبل عرفات في يوم عرفة ناساً بلباس الإحرام قد جلسوا على (الشيشة)! ورأيت بعضهم يجلس على السّلَّم والثعبان! ورأيت بعضهم يلعب (الكوتشينة)؛فتعجبت! واقتربت منهم، وقلت لأحدهم: يا أخي! اتق الله، أنت بلباس الإحرام في يوم عرفة، جئت لتتطهر من كل ذنب، ولترفع إلى الملك أكف الضراعة، وأراكم على هذا اللهو والعبث!! والله لقد رد عليّ جلهم، وقالوا: يا شيخ! اليوم طويل، ونحن نُضيِّع وقتنا! أتضيع وقت عرفات؟! أتضيع وقت الطاعات؟! أتضيع وقتاً يتنزَّل فيه رب الأرض والسماوات؛ ليباهي الملائكة بعباده الذين ذهبوا إليه شعثاً غبراً يطلبون رضوانه ومغفرته؟! أيها القاتل لوقتك، بل لعمرك، بل لحياتك!! والله الذي لا إله غيره ستندم يوم لا ينفع الندم، وستأتي عليك ساعة ستعرف فيها قدر الساعة، وسيأتي عليك زمن تعرف فيه قدر الزمن، وسيأتي عليك وقت تعرف فيه قدر الوقت!!

الحسرة على ضياع الأوقات عند الموت

الحسرة على ضياع الأوقات عند الموت إذا نمت على فراش الموت ستتمنى من الله أن تعود إلى الدنيا ساعة واحدة؛ لتعمل فيها عملاً صالحاً لله جل وعلا. انظر إليه وهو على فراش الموت، وهو صاحب الجاه والمنصب والأموال والسيارات والعمارات والدولارات! انظر إليه على فراش الموت، وقد اصفر وجهه، وشحب لونه، وبردت أطرافه، وتجعد جلده، وبدأ يشعر بزمهرير قارس يزحف إلى أنامل يديه وقدميه، يحاول جاهداً أن يحرك شفتيه بكلمة (لا إله إلا الله)، فيشعر أن الشفة كالجبل لا تريد أن تتزحزح إلا لمن يسر الله له النطق بلا إله إلا الله! فينظر في لحظة صحوه بين السكرات والكربات الناس من حوله مرة يقتربون، ومرة يبتعدون! ويرى الغرفة التي هو فيها مرة تتسع، ومرة تضيق! وفجأة! يا ترى من هذا الذي أراه يقترب إلي من بعيد، إنه ملك الموت! يا ترى! بأي شيء سينادي علي الآن؟! هل سيقول: يا أيتها الروح الطيبة! اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، ورب راض غير غضبان أم سيقول: يا أيتها الروح الخبيثة! اخرجي إلى سخط من الله وعذاب؟! فإذا أفاق لحظة صحوه بين السكرات والكربات، رأى أهله من حوله، ورأى الأطباء من فوق رأسه، فقال بلسان الحال، بل وربما بلسان المقال: يا أولادي! يا أهلي! يا أحبابي! لا تتركوني وحدي، ولا تفردوني في لحدي، افدوني بأعماركم، افدوني بأموالي، أنا أبوكم! أنا الذي بنيت لكم القصور، وأنا الذي عمرت لكم الدور، وأنا الذي نمَّيت لكم التجارة، فمن منكم يزيد في عمري ساعة أو ساعتين؟! يريد أن يرجع إلى الحياة ساعة، وهنا يعلو صوت الحق: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:83 - 96] يتمنى الرجعة، فيقال له: لا. قال جل وعلا: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ * أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:102 - 108] يتمنى أهل النار أن يعودوا إلى الدنيا؛ حتى لا يعودوا إلى الكفر، ولا إلى المعاصي ولا إلى الظلم أبداً، ولكن هيهات هيهات! يقال لهم: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108]. وقال جل وعلا: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ * حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:97 - 100] اللهم استرنا فوق الأرض، واسترنا تحت الأرض، واسترنا يوم العرض. أيها الحبيب الكريم! اعرف قدر وقتك وشرف زمانك، وحقيقة عمرك، وحقيقة ساعات أيامك، فعد الليلة إلى الله، البدار البدار، قبل فوات الأعمار! واسمع إلى العزيز الغفار، وهو ينادي ويقول: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]. اللهم لا تدع لأحد منا في هذا الجمع الكريم ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا ميتاً لنا إلا رحمته، ولا عاصياً بيننا إلا هديته، ولا طائعاً إلا زدته وثبته، ولا حاجة هي لك رضاً ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا رب العالمين، اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا شقياً ولا محروماً. اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى، اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى، اللهم يسر لأبنائنا التوفيق والنجاح يا رب العالمين! ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، واجعلنا للمتقين إماماً، اللهم أقِرَّ أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم أقِرَّ أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحين، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همِّنا، ولا مبلغ علمنا. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

بل هم الخنازير

بل هم الخنازير لقد تعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم لمحن وحوادث بسبب الحقد الدفين الذي يحمله اليهود من عهده صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، فقد حاولوا في حياته قتله عدة مرات، وبعد موته حاولوا نبش قبره فأحبط الله كيدهم ومكر بهم، وهاهم اليوم يسخرون به صلى الله عليه وسلم في الصحف والجرائد والقنوات، ويتطاولون على جنابه -أخزاهم الله- وهذا مبشر بفتح وخير، ومخرج لهذا الأمة من أزمة الذل والعار والاضطهاد إلى العزة والتمكين بإذن الله!

إخوان القردة والخنازير يتطاولون على البشير النذير

إخوان القردة والخنازير يتطاولون على البشير النذير الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفر، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء! وأيها الإخوة الأحباب الكرام الأعزاء! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، نضر الله وجوهكم، وزكى الله نفوسكم، وشرح الله صدوركم، وأسأل الله أن يجمعني مع حضراتكم مع سيد النبيين في جنات النعيم، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! إخوان القردة والخنازير يتطاولون على البشير النذير، هذا هو عنوان لقائنا مع حضراتكم في هذا اليوم الميمون المبارك، وكما تعودنا حتى لا ينسحب بساط الوقت من بين أيدينا سريعاً، فسوف أركز الحديث مع حضراتكم تحت هذا العنوان المخجل في العناصر التالية: أولاً: بل هم الخنازير. ثانياً: حقد قديم لن يزول. ثالثاً: الله يدافع عن نبيه. وأخيراً: نستبشر خيراً ولكن بشرط. فأعيروني القلوب والأسماع أيها الأحبة الكرام! وأنا أعلم أن من الأحباب من استمع إلى هذا الموضوع عبر شريط الكاست، ولكنني لا أود أن أحرم هذه الألوف المؤلفة ممن لم يستمعوا إلى هذا الموضوع الهام، أرجو أن لا أحرم أحبابي من هذه الكلمة التي أسأل الله أن يجعلها خالصة لوجهه، وأن يتقبل منا ومنكم جميعاً صالح الأعمال.

عصر الذل والهوان

عصر الذل والهوان أولاً: بل هم الخنازير: آه يا مسلمون متم قروناً والمحاق الأعمى يليه محاق أي شيء في عالم الغاب نحن آدميون أم نعاج نساق نحن لحم للوحش والطير منا الجثث الحمر والدم الدفاق وعلى المحصنات تبكي البواكي يا لعرض الإسلام كيف يراق قد هوينا لما هوت وأعدوا وأعدوا من الردى ترياق واقتلعنا الإيمان فاسودت الدنيا علينا واسودت الأعماق وإذا الجذر مات في باطن الأر ض تموت الأغصان والأوراق آه يا مسلمون في زمن الردة والبهتان، والكل مهان وجبان! يتطاول الكلاب الحمير إخوان القردة والخنازير على البشير النذير، على النبي الكريم، على إمام الأنبياء، وقائد الأصفياء، وسيد الأتقياء، وحبيب رب الأرض والسماء. لم نر للأمة حتى في مؤتمر صحفي بارد كبرود الثلج موقفاً جاداً ولو بكلمات بائسة تلوكها ألسنة زعماء العرب، أو دخاناً يطير في الهواء، لتعبر الأمة أمام العالم الغربي العميل وأمام الدنيا عن غضبها لنبيها الكريم، لمحمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، ماذا تنتظر الأمة بعد هذا الذل؟! لم يكتف اليهود باحتلال الأرض، لم يكتف اليهود بتدنيس الأرض، لم يكتف اليهود بالتخطيط لتدمير الأقصى، بل جاءوا في المرحلة الأخيرة ليجسوا نبض المسلمين، فإن أعظم ما يجب أن يعتز به مسلم هو دين الله، هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن اليهود قد اطمأنوا طمأنينة كاملة إلى أن المسلمين قد كفنوا وماتوا، ودفنوا منذ أمد بعيد! فهم يجسون نبض المسلمين بالإهانة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كبروفة عملية قبل هدم الأقصى، كما قال أكبر حاخامات اليهود: (اهدموا الأقصى، واعلموا أن المسلمين سيغضبون في أول الأمر، ثم بعد ذلك سرعان ما يتناسون هذه القضية)، فهم يعلمون نفسيات الأمة، ويعلمون ذل الأمة، ويعلمون ضعف الأمة، ويعلمون أن الأمة الآن لا تعيش إلا للعروش والكروش والفروش ولا حول ولا قوة إلى بالله! ماذا بعد هذا الذل؟! ماذا بعد هذا الهوان؟! أن يتطاول الكلاب الخنازير على البشير النذير، ويصورونه على صورة خنزير، يطأ بقدميه قرآن الملك القدير، آه حال أمتنا حال عجيبه وهي لعمر الله بائسة كئيبه يجتاحها الطوفان طوفان المؤامرة الرهيبه ويخطط المتآمرون كي يغرقوها في المصيبه وسيحفرون لأمتنا قبوراً ضمن خطتهم رهيبه قالوا السلام قلت يعود الأهل للأرض السليبه وسيلبس الأقصى غداً أثواباً قشيبه فإذا السلام هو التنازل عن القدس الحبيبه بئس سلامهم إذاً وبئست هذه الخطط المريبه فالمسجد الأقصى الجريح بالدماء له ضريبه ما هذا الذل والهوان؟ والله والله إن الحياة بعد إهانة رسول الله لرخيصة، والله إن الحياة بعد إهانة رسول الله لحقيرة، ماذا تنتظر الأمة بعد ذلك؟! والله لو دخل اليهود لطحنوا الجميع، والله لن يستقر الكرسي تحت أحد إذا ما دخل اليهود الأرض، وهم الآن يلوحون بالحرب، بل لقد قال نتنياهو في اليابان في الأسبوع الماضي بالحرف الواحد: لقد قبل عرفات قبلة الموت لمحادثات السلام! لقد قبل عرفات قبلة الموت لمحادثات السلام! هم يلوحون الآن بشن حرب على سوريا، بل ويشنون الحرب الآن على جنوب لبنان، على إخواننا المسلمين في لبنان على مرأى ومسمع من العالم الغربي الحقير العميل. الأمة تنتظر بكل سذاجة أن الغرب سينصر قضيتها، غباء، بل قمة في الغباء، فإن الغرب يحمل نفس العقيدة، فالكفر ملة واحدة، يقول الله سبحانه: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]، ولكن الأمة لا تصدق الله، وتصدق مجلس الأمن، وتصدق حلف الأطلسي، وتصدق هيئة الأمم التي وعدت الأمة منذ سنوات بأنها ستعيد لها أرضها المسلوبة، وستعيد لها مقدساتها، وستعيد لها عرضها، ولكن لا زالت الأمة تضرب بالنعال، وستظل الأمة تضرب بالنعال حتى تفيء إلى دين الكبير المتعال، وحتى تنصر دين سيد الرجال صلى الله عليه وآله وسلم. والله إن القلب ليكاد ينخلع، والله إن حلقي ليجف، والله إن كلمات اللغة في كل قواميسها لتتوارى من بين يديَّ الآن خجلاً وحياءً، ماذا أقول؟! لقد مضى زمن التنظير، مضى زمن المحاضرات الرنانة، مضى زمن المحاضرات والخطب النارية المؤثرة، إن الأمة الآن لا يصلحها إلا الجهاد، إن اليهود الآن لن يتأدبوا إلا بالجهاد، لا تقلم أظفار اليهود إلا بالجهاد، لقد مضى زمن القلم، ومضى زمن الكلمة، وحان وقت الجهاد، حان وقت الجهاد في سبيل الله. أسأل الله أن يرفع علمه، وأن يرد الأمة إلى الجهاد في سبيله رداً جميلاً، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وأسأل الله أن يرزقنا شهادة في سبيله إنه على كل شيء قدير.

زمن العزة والتمكين

زمن العزة والتمكين في زمن العزة تطاول يهودي وقح على امرأة مسلمة في سوق بني قينقاع، فعقد طرف ثوبها من أسفل إلى أعلى، فلما قامت المرأة المسلمة انكشفت سوأتها، فضحك اليهود، فاليهود متخصصون في كشف السوءات والعورات فصرخت المرأة الحيية، فانقض رجل مسلم غيور على هذا اليهودي الخبيث فقتله، فانقض اليهود المجرمون على المسلم فقتلوه، فجر النبي صلى الله عليه وسلم جيشاً جراراً، فأخرج يهود بني قينقاع إلى أذرعات الشام، وأجلاهم عن المدينة المطهرة المنورة بعدما غنم المسلمون أموالهم. في زمن العزة تلمح رجلاً اعتز بدينه، يقف بكل استعلاء -استعلاء العقيدة والإيمان- أمام قائد الجيوش الكسروية رستم. فيقول له رستم: ما الذي جاء بكم إلى هنا؟ فقال له ربعي: جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، فلقد ابتعثنا الله لندعو الناس إلى دينه، فمن حال بيننا وبين دعوة الناس إلى دين الله قاتلناه حتى نفضي إلى موعود الله. قال رستم: وما موعود الله؟ قال ربعي: الجنة لمن مات في سبيل الله، والنصر لمن بقي من إخواننا. فقال رستم: لقد سمعت مقالتكم، فهل لكم أن تؤجلوا هذا الأمر لننظر فيه ولتنظروا فيه؟ فقال ربعي بكل عزة: لا. ما سن لنا رسول الله عند لقاء العدو أن نؤخره أكثر من ثلاث ليال، فانظر في أمرك الآن وأمرهم، واختر لنفسك واحدة من ثلاث. قال رستم: ما هي؟ قال ربعي: أما الأولى: الإسلام، ونقبل وندعك وأرضك. قال: والثانية؟ قال ربعي: الجزية، ونقبل منك ونكف عنك، وإن احتجت إلينا لنصرتك نصرناك. قال: والثالثة؟ قال: أما الثالثة فالحرب، ولسنا نبدؤك بقتال فيما بيننا وبين اليوم الرابع إلا أن تبدأنا، أنا كفيل بذلك عن أصحابي. فقال رستم: أسيدهم أنت؟ أي: هل أنت قائد المعركة؟ قال: لا، ولكن المسلمين كالجسد الواحد يجبر أدناهم على أعلاهم. بهؤلاء انتصر الإسلام، وبالرويبضات في عصرنا هزم الإسلام، وتطاول اليهود على نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم، هذه الحملة الشعواء التي يشنها اليهود الآن على الأقصى، وعلى رسول الله، وعلى الأمة ليطفئ اليهود بها مراجل الغل والحقد التي تغلي في صدورهم منذ أول لحظة بعث فيها المصطفى. أيها الآباء الفضلاء! أيتها الأخوات الفضليات! يجب أن يتعلم الآن كل مسلم هذه العقيدة، أعني: عقيدة الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، وعقيدة البراء من الشرك والمشركين، لتعلم -أخي- هذه العقيدة أولادك، ولتخرج من بيتك رجلاً يعرف الولاء والبراء، ليوم قادم حتماً بموعود الله وموعود رسوله، أسأل الله أن يجعل هذا اليوم قريباً.

حقد قديم لن يزول

حقد قديم لن يزول اليهود منذ أول لحظة يحقدون على رسول الله، وهذا هو عنصرنا الثاني من عناصر اللقاء، (حقد قديم لن يزول): لقد استفتح اليهود على الأوس والخزرج قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم بهذا النبي المنتظر، وقالوا: لنتبعن هذا النبي، ولنقتلن به المشركين قتل عاد وإرم، فلما بعث النبي من العرب حقدوا عليه صلى الله عليه وسلم، وناصبوه العداء منذ أول لحظة وصل فيها رسول الله إلى المدينة، بل وأعلنوا العداء ورسول الله في مكة، فلما هاجر جهروا بعدائهم للنبي صلى الله عليه وسلم.

تخطيط اليهود لاغتيال النبي صلى الله عليه وسلم

تخطيط اليهود لاغتيال النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكتف اليهود بذلك أيها الإخوة الفضلاء! بل خططوا لاغتيال النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى يهود بني النظير ليستعينهم في دية تحملها عن أصحابه، فاستقبله الخبيث حيي بن أخطب الثعبان وقال: نعم، لقد آن الأوان لنعطيك ما تريد منا يا محمد، اجلس هنا! وأجلس الوقح رسول الله إلى جوار حائط لبيت يهودي خبيث منهم، ثم خلا هذا الثعبان بإخوانه من اليهود، وقال: إنها فرصة، هيا اصعدوا إلى سطح هذه الدار وحطموا رأس محمد بهذه الحجرة العظيمة لنستريح من شره أبداً، وصعد المتآمرون إلى سطح الدار وحملوا حجرة عظيمة ليسقطوها على رأس المصطفى، ولكن هيهات هيهات! فإن الله لا يغفل ولا ينام، أطلع الله نبيه على هذه المؤامرة، فقام النبي صلى الله عليه وسلم مسرعاً وامتن الله بهذا على نبيه والمؤمنين فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [المائدة:11]. الفضل لله ابتداءً وانتهاءً، {فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} [المائدة:11] فلما علم الصحابة بهذه المؤامرة، خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فحاصروا يهود بني النضير، وأجلاهم البشير النذير صلى الله عليه وآله وسلم عن المدينة المنورة.

تخطيط اليهود لقتل النبي صلى الله عليه وسلم بالسم

تخطيط اليهود لقتل النبي صلى الله عليه وسلم بالسم ولم يكتف اليهود بذلك، بل خططوا لسم النبي في خيبر، فلما فتح رسول الله خيبر سم اليهود شاة، وقدموا الشاة لرسول الله ليأكلها فيقتل، وأخذ منها قطعة فتوقف عن أكلها وقال: (إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم -بأبي هو وأمي- وجمع النبي اليهود وسألهم، فصدقوه في هذه وقالوا: نعم، لقد وضعنا فيها السم، قال: لماذا؟ فقال اليهود الخبثاء المجرمون: قلنا لو كنت نبياً لن يضرك مثل هذا، ولو كنت كاذباً استرحنا منك). فاليهود يحقدون على رسول الله، وعلى الأمة، وعلى الإسلام منذ أول لحظة بعث فيه النبي من العرب من غير جنس اليهود، ولن يرضى اليهود عن محمد وأمته ودينه أبداً إلا بشرط واحد ألا وهو: أن يقلع النبي عن دينه، وأن تقلع الأمة عن دين رسول الله، وأن تتبع الأمة دين اليهود المحرف المزور المبدل، كما قال الله جل وعلا: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120].

تشكيك اليهود في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ونبوته

تشكيك اليهود في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ونبوته ثم شككوا في النبي وفي دعوته ونبوته يوم أن تحول النبي صلى الله عليه وسلم من استقبال بيت المقدس إلى استقبال بيت الله الحرام، فأثار اليهود -كشأنهم في كل زمان ومكان- شبهات خطيرة؛ لتحويل النبي صلى الله عليه وسلم القبلة، فقال اليهود: لماذا تحول محمد من قبلته الأولى إلى بيت الله الحرام؟! لو كانت القبلة الأولى حقاً ثم تحول عنها محمد فقد تحول من الحق إلى الباطل! ولو كانت القبلة الأولى باطلة فإن صلاتكم في السنوات الماضية إلى هذه القبلة الباطلة باطلة! ولو كان محمد نبياً حقاً ما ترك قبلة الأنبياء من قبله وما فعل اليوم شيئاً وخالفه غداً! فنزل قول الله جل وعلا: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:142 - 143]، والإيمان في هذه الآية هو الصلاة، أي: وما كان الله ليضيع صلاتكم إلى القبلة الأولى، {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ * قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [البقرة:143 - 144].

إعلان اليهود الحرب والعداوة للنبي صلى الله عليه وسلم

إعلان اليهود الحرب والعداوة للنبي صلى الله عليه وسلم ذهب -في أول يوم وصل فيه المصطفى إلى المدينة- حيي بن أخطب وأخوه أبو ياسر بن أخطب، فنظرا إلى وجه النبي فعرفاه، فقال أبو ياسر لأخيه حيي: أهو هو؟ قال: نعم، والله إنه لهو. فقال أبو ياسر: هذا هو النبي الذي كنا ننتظر؟ فقال حيي: إي والله إنه لهو. فقال أبو ياسر: تعرفه بصفته؟ فقال حيي: نعم، أعرفه بصفته. فقال أبو ياسر: فماذا تجد في نفسك؟ فقال المجرم: عداوته والله ما بقيت. يا مجرم! أنت الذي ذكرت أنه هو النبي الذي ذكر في التوراة بصفته! ولكنه الحقد، وفي هذا اليوم جاء عبد الله بن سلام عالم اليهود الأكبر وحبر اليهود الأعظم إلى النبي صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح البخاري من حديث أنس - فقال: (يا محمد! إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي، فقال المصطفى: ما هي؟ قال عبد الله بن سلام: أسألك عن أول أشراط الساعة؟ وما هو أول طعام أهل الجنة؟ وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه؟ فقال المصطفى: لقد أخبرني بهذا جبريل آنفاً، أما أول أشراط الساعة: فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام أهل الجنة: فزيادة كبد الحوت، وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع -أي: كان المولود ولداً- وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزعت -أي: كان المولود بنتاً- وفي لفظ مسلم من حديث ثوبان: إذا علا مني الرجل مني المرأة كان ذكراً بإذن الله، وإذا علا مني المرأة مني الرجل كأن أنثى بإذن الله، فقال عبد الله بن سلام: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله)، عالم منصف. ثم قال عبد الله بن سلام: يا رسول الله! إن اليهود قوم بهت، يعرفون الحق وينكرونه ويكذبونه، فأرسل إلى اليهود واسألهم عني قبل أن يعلموا بإسلامي، فأرسل النبي إلى بطون اليهود فأقبل اليهود، فقال لهم بعدما اختفى ابن سلام: (ما تقولون في عبد الله بن سلام؟ قالوا: حبرنا وابن حبرنا، وسيدنا وابن سيدنا، وخيرنا وابن خيرنا، -وفي رواية: وأفضلنا وابن أفضلنا- فقال لهم المصطفى: فماذا لو أسلم عبد الله بن سلام؟ قالوا: أعاذه الله من ذلك، فخرج عبد الله بن سلام وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فرد اليهود المجرمون على لسان رجل واحد وقالوا: هو سفيهنا وابن سفيهنا، وشرنا وابن شرنا). فاليهود قوم بهت، عرفوا النبي تماماً ولكنهم شككوا في نبوته منذ اللحظة الأولى، ونزل قول الله جل وعلا: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89]، وقال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:146]. من أجمل ما قاله عبد الله بن سلام: (والله إني لأقر لمحمد بالنبوة أكثر مما أقر لابني بالبنوة) فإن الذي أخبر بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم هو الله رب العالمين، فشكك اليهود في نبوته منذ أول لحظة وصل إلى المدينة المنورة، بل منذ أول لحظة بعث فيها المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وقالوا: يا محمد! إن كنت رسولاً من عند الله فلقد جاءنا موسى بالألواح من السماء، فإن كنت نبياً حقاً فاطلب من ربك أن ينزل عليك ألواحاً من السماء لنطمئن لنبوتك، فنزل قول الله تعالى: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ} [النساء:153]، أي: لموسى. وذهبوا للمصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وقالوا: اطلب من ربك يا محمد أن يكلمنا وأن يخبرنا أنه قد أرسلك رسولاً، فنزل قول الله جل وعلا: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ} [النساء:153]، وقال الله جل وعلا: {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [البقرة:118].

إن الله يدافع عن نبيه

إن الله يدافع عن نبيه أيها الأحبة الكرام! أبشروا فإن الله جل وعلا هو الذي يدافع عن نبيه، فلئن خذلت الأمة الآن رسول الله فوالله سيثأر الله وينتقم لرسوله، كما انتقم الله لرسوله في كل مرة تطاول فيها وقح مجرم على جناب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا هو العنصر الثالث: (إن الله يدافع عن نبيه). أيها الأحبة الكرام! والله ما تعرض أحد لرسول الله بسوء أو أذى إلا قصم الله ظهره، ودق الله عنقه، وأخزاه الله في الدنيا قبل الآخرة، وتدبروا معي هذه الأدلة الكريمة القوية الطيبة التي تؤكد لحضراتكم بأن الله جل وعلا هو الذي سيثأر لرسوله، في وقت خذلت فيه الأمة نبيها، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!

قصة النصرانيين اللذين أرادا سرقة الجثة النبوية من القبر الشريف

قصة النصرانيين اللذين أرادا سرقة الجثة النبوية من القبر الشريف أختم هذه الأدلة في هذا العنصر الثالث من عناصر لقائنا بهذه الحادثة المفجعة، التي ذكرت في كل كتب التاريخ، والتي أرخت للمدينة المنورة، ذكرت في كتاب تاريخ المدينة المنورة للإمام المراري، وذكرت في كتاب تاريخ المدينة المنورة للإمام المطري، وذكرت في الرياض النضرة لـ محب الدين الطبري، وذكرت في كتاب تاريخ المدينة المنورة للإمام السمهودي، وذكرت في كل الكتب التاريخية التي أرخت لمدينة رسول الله، هذه الحادثة حدثت في السنة السابعة والخمسين بعد الخمسمائة، في عصر السلطان العادل الزاهد الورع التقي محمود نور الدين زنكي، قام هذا الرجل يصلي، فلقد كان الزعماء قديماً يقومون الليل لله. قام هذا الرجل يصلي، فقرأ ما يسر الله له من القرآن، وصلى ما يسر الله له أن يصلي ثم نام، فجاءه المصطفى في المنام، وأشار المصطفى إلى محمود، ثم أشار إلى رجلين أشقرين، وقال المصطفى لـ محمود نور الدين زنكي: يا محمود! أنقذني من هذين الرجلين، فقام محمود من نومه فزعاً، فتوضأ وصلى، ثم نام، فما أن نام الرجل حتى جاءه النبي مرة ثانية وقال: أنقذني من هذين الرجلين يا محمود، فاستيقظ الرجل فزعاً فتوضأ وصلى وجلس، ثم نام، فجاءه النبي للمرة الثالثة وأشار على نفس الرجلين، وقال: أنقذني من هذين يا محمود، فقام الرجل وقال: والله لا نوم بعد الساعة، وأرسل إلى وزير صالح تقي في بطانته يقال له جمال الدين الموصلي، فجاء جمال الدين الموصلي في جوف الليل إلى السلطان التقي الزاهد الورع، فقص عليه السلطان ما رأى. فقال له جمال الدين: اخرج الآن يا مولاي إلى مدينة رسول الله، ولا تخبر أحداً لما ذهبت، فخرج في نفس الليلة مع جند من جنده وحمل أموالاً طائلة، وذهب إلى المدينة ووصل المدينة في أسبوعين فقط، ثم زار المسجد النبوي، ثم ذهب للسلام على الحبيب النبي، فلما سلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم -أسأل الله أن يرزقني وإياكم زيارة لمسجد حبيبه، وأن يشرفنا وإياكم بالسلام على المصطفى إنه ولي ذلك والقادر عليه- جلس السلطان الورع في الروضة الشريفة يبكي ويفكر ماذا يصنع؟ وماذا يفعل؟ فلما التف الناس حول السلطان من المدينة، قام الوزير الذكي العبقري جمال الدين الموصلي وقال: أيها الناس! لقد أتى مولاي لزيارة المسجد النبوي، وللسلام على النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاء بأموال كثيرة، وهو يريد أن يوزع هذه الأموال بنفسه على كل فرد من أفراد المدينة، ليرى السلطان الوجوه بنفسه، فجاء أهل المدينة إلى السلطان، وأخذ السلطان يمنح الأموال وينظر ويدقق النظر في الوجوه، فلم ير وجهاً من الوجهين اللذين أشار إليهما النبي صلى الله عليه وسلم، ففزع الرجل وقال: ألم يبق أحد؟! قالوا: لا. يا مولانا، فقال الرجل: لا والله، فكروا وتدبروا. قالوا: لم يبق أحد والله يا مولانا من أهل المدينة، فقال رجل: يا مولاي! لم يبق أحد إلا رجلين صالحين، وهما غنيان ثريان ينفقان على المسلمين، ولا يحتاجان الصدقة من أحد. فقال: عليّ بهما، فجاء الرجلان، فلما نظر إليهما السلطان العادل بكى، وقال: اللهم صل على محمد، هما والله هما، هما والله هما، قال: ما شأنكما؟! فقالا: أتينا حاجين، أتينا لنجاور الأسرة النبوية الشريفة، ولنتعبد لله إلى جوار رسول الله، ولنكثر الصدقة والنفقة على فقراء المسلمين. قال السلطان: أين بيتكما؟ والناس في حيرة ودهشة، ما هذا؟! لماذا يهتم السلطان لمثل هذا الأمر؟! وخرج السلطان بنفسه إلى بيت المجرمين الخبيثين، فدخل الحجرة فلم يجد شيئاً، بل وجد مصحفين، ووجد مسبحتين، ووجد أموالاً طائلة، ولم ير شيئاً يلفت النظر، فسأل عن الرجلين، وأهل المدينة يثنون على الرجلين خير الثناء. ودخل السلطان غرفة من غرف البيت فوجد حصيراً في جانب البيت، فرفع الحصير فوجد سرداباً تحت الأرض كاد أن يصل إلى قبر المصطفى، فقال: ما هذا؟ قصا عليَّ الخبر. فقالا: أرسلنا قومنا من النصارى بأموال طائلة لنتظاهر بالزهد والعبادة والورع، ولنحفر سرداباً تحت المسجد، لنصل إلى جثمان محمد لنخرجه من قبره! وظن هؤلاء الخبثاء المجرمون أنهم يستطيعون أن يصلوا إلى الجسد الطاهر، ولكن هيهات هيهات! ففي الليلة التي كادا أن يصلا فيها إلى القبر رعدت السماء وأبرقت، وظهر المصطفى في المنام لهذا السلطان الورع العادل، فلما عرف الأمر ضرب رأس كل واحد منهما تحت شباك الحجرة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة وأزكى السلام. وجلس السلطان يبكي بكاءً مريراً لهذا الشرف العظيم الذي شرفه الله عز وجل به، ولم يغادر مدينة رسول الله حتى أمر بصب سور ضخم من الرصاص القوي المتين حول الحجرة النبوية الشريفة كلها، وقد ظن هؤلاء المجرمون أنهم سيصلون إلى الجثمان الطاهر، إلى جثمان الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، ونسي هؤلاء أن الذي حفظ نبيه وهو حي هو الحي الباقي الذي لا يموت، فالله جل جلاله هو الذي يثأر لنبيه ويدافع عن نبيه. يا إخوتي! والله إني لأستبشر الآن خيراً بعدما وقع اليهود في عرض رسول الله، أستبشر الآن خيراً بعدما سب اليهود رسول الله، أستبشر بقرب الفتح إن شاء الله جل جلاله، فلقد وقفت على كلام كثير لشيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه الشهير الممتع: الصارم المسلول على شاتم الرسول، قال ابن تيمية: حدثني العدول من أهل الفقه أنهم كانوا يحاربون الروم، ويحاصرون الحصن أو المدينة شهراً أو أكثر فلا يستطيعون فتحه، يقول: حتى إذا وقع أهل الحصن في عرض رسول الله استبشرنا خيراً بقرب فتح الحصن، يقول: فوالله لا يمر يوم أو يومان إلا وقد فتحنا الحصن عليهم بإذن الله جل وعلا، ثم قال: كانوا يستبشرون خيراً بقرب الفتح إذا ما وقعوا في عرض رسول الله، مع امتلاء قلوبهم غيظاً على ما قالوه في حق المصطفى. ونحن والله نستبشر خيراً بقرب الفتح إن شاء الله، فالله يهيئ الأرض الآن لأمر أراده، الله يهيئ الكون الآن لأمر دبره: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]، نستبشر الآن خيراً ولكن ليس بالأماني ولا بالكلمات بل بشرط عملي أرجئه إلى ما بعد جلسة الاستراحة، وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

عاقبة أبي جهل

عاقبة أبي جهل وهذا هو فرعون هذه الأمة أبو جهل عليه لعنات الله بقدر ما آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم، روى مسلم في صحيحه: أنه سأل إخوانه من صناديد الشرك يوماً وقال: أيعفر محمد وجهه بين أظهركم -يعني: يسجد محمد بين أظهركم-؟ واللات والعزى؛ لئن رأيت محمداً لأطأن على عنقه، ولأعفرن وجهه بالتراب، فسجد المصطفى صلى الله عليه وسلم، فجاء هذا الوغد الوقح يزعم أنه سيطأ بنعليه على رقبة رسول الله وهو ساجد، فلما اقترب من النبي عاد القهقرى -عاد إلى الوراء- وهو يجمع بيديه هكذا وهكذا، فلما وصل إلى إخوانه من أهل الشرك قالوا: ما بالك رجعت؟ فقال أبو جهل: والله إن بيني وبين محمداً لخندقاً وهولاً وأجنحة، فقال المصطفى: (والله لو دنا مني لتخطفته الملائكة عضواً عضواً). هل تعرف نهاية أبي جهل؟ قتل في بدر، سقط وهلك في بدر، قتله صقران من صقور المسلمين، شابان في ريعان الشباب، اقتربا من عبد الرحمن بن عوف، وقال كل واحد منهما لـ عبد الرحمن: يا عماه! أين أبو جهل؟ فاستصغر عبد الرحمن بن عوف هذا الشاب الصغير، ماذا تريد من أبي جهل؟ فقال: سمعت أنه يسب رسول الله، والله لئن رأيته لأقلتنه، والتفت إلى يساره ووجد شاباً آخر يقول له مثل هذا الكلام، فلما رأى أبا جهل أشار إليهما فانقضا عليه كالصقرين، فقتلاه، وعادا في غاية الفرح والسرور إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول كل واحد منهما: أنا الذي قتلت أبا جهل، والآخر يقول: لا، بل أنا الذي قتلت أبا جهل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هل مسحتما الدماء عن سيفيكما؟ قالا: لا، فأخذ النبي السيف الأول، وأخذ السيف الآخر، فنظر إلى دماء المجرم على السيفين فقال لهما: كلاكما قتله)، لم يحرم النبي صلى الله عليه وسلم أحدهما من هذا الشرف. وخلص ابن مسعود رضي الله عنه بعد ذلك على هذا المجرم، وأهلكه الله تبارك وتعالى، ورمي كالجيفة النتنة كما هو معلوم من كتب السير، هذه نهاية هذا المجرم الذي طالما سب وآذى النبي صلى الله عليه وآله وسلم. أيها الأحبة الكرام! أقول: والله ما تعرض أحد للمصطفى بسوء أو أذى إلا قصم الله ظهره، ودق الله عنقه، وأخزاه الله في الدنيا قبل الآخرة، وفي الصحيحين من حديث جابر رضي الله عنهما قال: (كنا في غزوة ذات الرقاع، إذ رأينا شجرة ظليلة تركناها للنبي صلى الله عليه وسلم، فنام النبي ذات يوم تحت الشجرة، وعلق سيفه عليها، فجاء رجل مشرك فأخذ سيف نبي الله، وأراد أن يهوي بالسيف على النبي وهو نائم، فلما استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم نظر إليه والسيف على رأسه، فقال له هذا المشرك واسمه غورث بن الحارث: أما تخافني يا محمد؟ قال المصطفى: لا، فقال غورث: فمن يمنعك مني الآن؟ قال المصطفى: الله، فسقط السيف من يد هذا الرجل، فأخذ النبي السيف بيده وقال له: من يمنعك مني الآن؟ قال: كن خير آخذ يا محمد، فقال له المصطفى: أتشهد أن لا إله إلا الله؟ فقال الرجل: لا، إلا أني أعاهدك أن لا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك، فخلى النبي صلى الله عليه وسلم عنه، فانطلق الرجل إلى قومه ليقول لهم: يا قوم! والله لقد جئتكم من عند خير الناس، من عند محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم). فالله عز وجل هو الذي يحفظ نبيه، وهو الذي يدافع عن نبيه، ولا أريد أن أكثر من الأدلة في هذا الباب، فإنني أرى إخواني -جزاهم الله خيراً- يقفون في الشمس قبل أن أرتقي المنبر، أسأل الله أن يقيهم وأن يقينا معهم حر جهنم، وأن يتقبل منا ومنهم جميعاً صالح الأعمال، وأن يجمعنا هكذا في جنات النعيم مع سيد الرجال، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

عاقبة عقبة بن أبي معيط

عاقبة عقبة بن أبي معيط والله لا يعرف قدر رسول الله إلا الله، لذا تولى الله الثأر والانتقام والدفاع عن نبيه، وفي الحديث الذي رواه الطبراني بسند رجاله رجال الصحيح، ورواه أبو نعيم في الدلائل بسند صحيح، من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن عقبة بن أبي معيط -عليه لعنات الله بقدر ما آذى رسول الله- أتى النبي صلى الله عليه وسلم يوماً في مجلسه فبصق في وجه المصطفى)، وهو الذي وضع النجاسة على ظهره يوماً، والحديث في البخاري، وهو الذي خنق النبي صلى الله عليه وسلم يوماً حتى كادت أنفاسه أن تخرج، والحديث في البخاري. جاء هذا المجرم الوقح فبصق في وجه الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم، فما زاد النبي على أن مسح البصاق عن وجهه الأزهر الأنور، والتفت إلى هذا الوغد الوقح وقال: (والله لو رأيتك خارج جبال مكة لأضربن عنقك)، فارتعد هذا المجرم من هذا الوعد النبوي، انظر لتعلم نهاية كل من آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم. في غزوة بدر أبى هذا الجبان أن يخرج مع المشركين، قالوا: كيف يا عقبة؟ قال: أنسيتم ما وعدني به محمد أنه لو رآني خارج جبال مكة ليضربن عنقي! قالوا: إن لك ناقة لا تسبق، فإذا كانت الهزيمة طرت عليها إلى مكة، فخرج معهم هذا الجبان المجرم، ولكن أنى لهذا الوقح أن يفلت من وعد الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم، لما تبعثر المشركون في أرض الجزيرة كتبعثر الفئران أمام ضربات الحق من سيوف الموحدين الصادقين مع رسول الله، جرى هذا الجبان على ظهر بعيره، ولكن هيهات هيهات فقد سقط به بعيره في بركة من طين، ووقف البعير لم يستطع أن يتحرك، وأخذ هذا المجرم مع أسرى المشركين، فقدم لرسول الله ليضرب عنقه فقال له عقبة: أتقتلني من بين هؤلاء يا محمد؟ فقال له المصطفى: (نعم أقتلك إذ بصقت في وجهي يوماً، أنسيت أني قلت لك: والله لو رأيتك خارج جبال مكة لضربت عنقك؟ فأمر النبي علياً فضرب علي عنقه)، هذه نهاية عدل.

انتقام الله لنبيه من رجل اتهمه بالغباء حال حياته

انتقام الله لنبيه من رجل اتهمه بالغباء حال حياته فلقد روى البخاري ومسلم من حديث أنس: (أن رجلاً نصرانياً أسلم وكتب الوحي لرسول الله، وقرأ البقرة وآل عمران، ثم ترك الإسلام وعاد إلى نصرانيته مرة أخرى، ثم كذب على النبي فقال: لا يعلم محمد إلا ما كنت أكتبه له، فأهلكه الله جل وعلا، فدفنه أصحابه فأصبحوا فوجدوا الأرض قد لفظته لم تقبل الأرض مثل هذا الخبيث الذي آذى وكذب على رسول الله فقد أصبحوا فوجدوا الأرض قد لفظته -أي: أخرجته على سطحها- فقالوا: هذا فعل محمد وأصحابه، لما هرب منهم صاحبنا وعاد إلى ديننا أخرجوه ونبشوا عليه القبر، فدفنوه فلما أصبحوا وجدوا الأرض قد لفظته)، فأعمقوا له في الأرض، وقالوا: هذا فعل محمد وأصحابه، فلما أصبحوا وجدوا الأرض قد لفظته، فأعمقوا له ما استطاعوا ودفنوه، فلما أصبحوا وجدوا الأرض قد لفظته، فعلموا أن هذا ليس من فعل الناس، وعلم الناس يقيناً أن هذا من فعل رب الناس، ثأراً منه ودفاعاً عن سيد الناس صلى الله عليه وآله وسلم. فالله جل وعلا هو الذي يدافع عن نبيه، بل ما من نبي من الأنبياء إلا وقد دفع عن نفسه التهم التي وجهت إليه من قبل القوم الذين أرسل إليهم: قال قوم نوح لنوح: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأعراف:60]، فقال نوح عليه السلام مدافعاً عن نفسه: {يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ} [الأعراف:61]. وقال قوم هود لهود عليه السلام: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ} [الأعراف:66]، فقال هود مدافعاً عن نفسه: {يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ} [الأعراف:67]. وقال فرعون لموسى: {إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا} [الإسراء:101]، فدافع موسى عليه السلام عن نفسه وقال: {وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء:102]. أما المصطفى فإن الذي تولى الدفاع عنه هو الله جل جلاله: اتهمه القوم بالجنون؛ فدافع الله عن حبيبه المصطفى فقال: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم:2]، واتهمه القوم بالشعر والكهانة، فدافع الله عنه فقال: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الحاقة:41 - 42]. اتهمه القوم بالضلال؛ فدافع الله عنه فقال: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم:2]. اتهمه القوم بأن ربه قد غضب عليه وهجره وقلاه؛ فأقسم الله بالضحى والليل إذا سجى أن محمداً هو حبيبه، وأنه ما هجر محمداً وما قلاه، فقال جل في علاه: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:1 - 3]. أغر عليه للنبوة خاتم من نور يلوح ويشهد وضم الإله اسم النبي إلى اسمه إذا قال في الخمس المؤذن أشهد وشق له من اسمه ليجله فذو العرش محمود وهذا محمد

وقوع اليهود في عرض النبي صلى الله عليه وسلم بشارة بعقابهم

وقوع اليهود في عرض النبي صلى الله عليه وسلم بشارة بعقابهم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام! أقول: نستبشر خيراً أن وقع اليهود في عرض النبي صلى الله عليه وسلم نستبشر بقرب الفتح إن شاء الله تعالى، ولكن بشرط ما هو؟ أن ترفع الأمة الآن راية الجهاد في سبيل الله، وأن يعود الزعماء بالأمة ابتداءً إلى شرع رب الأرض والسماء، وأن يصححوا العقيدة، ويخلصوا العبادة، ويحكموا شريعة النبي الطاهرة، وأن يرفعوا راية الجهاد في سبيل الله، فوالله -وأنا أعلنها وأدين لله بها- إن هذه المرحلة لا يصلحها ولا يصلح معها إلا أن تضحي الأمة بعشرات الآلاف من شبابها الطاهر الذي يتشوق الآن للجهاد في سبيل الله، ويكاد قلبه أن يحترق لينال هذا الشرف العظيم، لا سبيل لكرامة الأمة إلا أن تضحي بعشرات الآلاف من شبابها الصادق الطاهر لترفع دين الله، ولتعلي شأن شريعة رسول الله، ولتثأر من إخوان القردة والخنازير، للبشير النذير صلى الله عليه وسلم، فإن اليهود جبناء: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر:14]. والله والله لو تبناها زعيم عربي واحد فاصطلح هو ابتداءً مع الله، وعاد إلى الله، وحكم شرع الله، وبين عشية وضحاها رفع راية الجهاد في سبيل الله، لانطوى تحت الراية ملايين الرجال، وملايين الشباب، وعشرات الآلاف من الأخوات والنساء، وخرج الجميع يقولون: حي على الجهاد، حي على الفلاح، وحينئذٍ سترى الأمة صدق وعد الله وصدق وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلا عز لها إلا بالجهاد، ولا شرف لها إلا بالجهاد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معاذ! ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قال: بلى يا رسول الله، قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله)، وقال المصطفى كما في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وأبو داود من حديث ابن عمر: (إذا تبايعتم بالعينة، ورضيتم بالزرع، واتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد في سبيل الله، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم). فلا عز للأمة إلا بالجهاد، وأنا أعلم أن للجهاد ضوابط، وأنا أعلم أن للجهاد أصولاً، فيجب على هذه الأمة أن تفسح المجال، وأن تهيئ الوقت والبيئة لتنال هذا الشرف بالجهاد في سبيل الله، فإن شباب الأمة الآن يحترق قلبه ويتشوق للجهاد، وأنا أعلم علم اليقين أنه ما من رجل أو شاب أو امرأة إلا ويتمنى أن لو نودي الآن في مثل هذه اللحظات: حي على الجهاد، والله لن يخرج كل هؤلاء من بين يدي إلا على ساحة الجهاد، أسأل الله أن يرزقنا وإياكم الشهادة في سبيله. فليكلفنا زعيم عربي واحد، فليكلف الدعاة وليكلف العلماء بعدما يعود هو ابتداءً إلى الله جل جلاله، ويحكم شريعة الله، وليكلف العلماء والدعاة، وسيجيش العلماء والدعاة ملايين الشباب من هذه الأمة، يخرج الكل يشتاق للشهادة في سبيل الله، ولصحبة رسول الله، وسيخرج أبناؤنا ليهتف الجميع: غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه.

واجبنا في الدفاع عن الجناب النبوي الشريف

واجبنا في الدفاع عن الجناب النبوي الشريف أيها المسلم بين يدي! تعلم عقيدة الولاء والبراء، هذا هو ما في مقدورك الآن، فأنا لا أريد أن أنظر فقط، وأن يخرج الجمع يلتهب، ثم يتساءل: ماذا نصنع؟ وماذا نفعل؟ لا أريد التنظير، وإنما سأحدثك بما يمليه علينا الواقع الآن، أما إن أردت التنظير فما أيسره! فأقول لك أيها الحبيب: تعلم الآن عقيدة الولاء والبراء، تعلم الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، وتعلم البراء من الشرك والمشركين، وحول هذه العقيدة في حياتك العملية إلى واقع عملي وإلى منهج حياة. ثانياً: علم هذه العقيدة لأولادك. ثالثاً: أخرج من بين أولادك رجلاً، وقل: اللهم إني قد نذرت هذا لك، فتقبله مني يا رب العالمين شهيداً في سبيلك، رب أولادك على روح الجهاد. رابعاً: استعد أنت استعداداً نفسياً وبدنياً ليوم قادم بموعود الله، إن أدركته فأنت مستعد، وإن لم تدركه فقدم له ولدك، قدم لهذا اليوم المقبل ولدك، أخرج من بيتك رجلاً بطلاً، يعرف الإسلام ويعيش للإسلام وبالإسلام. وأنتِ يا أختاه كوني عوناً للزوج في هذه المرحلة على أن تربي أولادكِ تربية طيبة، تليق بهذه الظروف الحرجة التي تمر بها أمتنا، فلن يحرر الأقصى إلا جيل تربى على القرآن والسنة، وإن أول من سيفر من الميدان هم الذين يرفعون الآن فوق الرءوس والأعناق من الممثلين والممثلات، والمطربين والمطربات، واللاعبين واللاعبات، ولن يقف في الميدان برجولة إلا من كان من أبناء الأمة الصادقين في مشارق الأرض ومغاربها، أسأل الله أن يرد الأمة إلى الحق رداً جميلاً. أيها المسلم الكريم: أرجو الله أرجو الله أرجو الله أن نكون كهؤلاء البكائين الذين جاءوا للنبي صلى الله عليه وسلم ليحملهم إلى الجهاد في سبيل الله، فاعتذر لهم النبي أنه لا يجد لهم الناقة، ولا يجد لهم الدابة، ولا يجد لهم النفقات، فمنا الآن من لا يملك الناقة، ومن لا يملك النفقات، بل ومن ملك الذهاب إلى ساحة جهاد فسيحال بينه وبين الجهاد على أيدي هؤلاء الذين رفعوا الذل والمهانة. فأرجو الله -والله يعلم ضعفنا وفقرنا وذلنا- أن نكون من بين هؤلاء الذين جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليحملهم معه، فلما اعتذر لهم رسول الله تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً أن رسول الله لا يقدر على أن يحملهم للجهاد، فعادوا إلى بيوتهم وهم يبكون، عادوا إلى بيوتهم وهم يتضرعون إلى الله أن يفتح لهم باباً للجهاد في سبيل الله. فأر الله اليوم من قلبك هذه النية، أروا الله اليوم من أنفسكم خيراً، فوالله ثم والله ثم والله لو سألنا الله الشهادة بصدق لكتبنا الله عنده في الشهداء، ولبلغنا الله منازل الشهداء ولو مات الواحد منا في مسجده الآن أو في فراشه أو في وظيفته، لقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الذي رواه مسلم وأبو داود والنسائي والترمذي من حديث سهل بن سعد، قال عليه الصلاة والسلام: (من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء)، وفي الصحيحين: (إن في المدينة أقواماً ما قطعتم وادياً، ولا سرتم مسيراً، ولا أنفقتم من نفقة إلا كانوا معكم شاركوكم الأجر، قالوا: كيف ذلك يا رسول الله؟ قال: حبسهم العذر). يا راحلين إلى البيت العتيق لقد سرتم جسوماً وسرنا نحن أرواحا إنا أقمنا على عذر نكابده ومن أقام على عذر كمن راح اللهم ارفع علم الجهاد، اللهم اقمع أهل الزيغ والفساد، اللهم إنا نشكو إليك خيانة الخائنين، اللهم إنا نشكو إليك عمالة الخائنين، اللهم إنا نشكو إليك ضعف الموحدين، اللهم ارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، وفرج كروبنا، واكشف همومنا، اللهم فك أسرنا، اللهم تول أمرنا، اللهم أحسن خلاصنا، اللهم اختم بالصالحات أعمالنا. اللهم عليك باليهود، اللهم أذل اليهود، اللهم املأ بيوتهم ناراً، اللهم املأ قلوبهم ناراً، اللهم زلزل حصونهم، اللهم دمر بيوتهم، اللهم رمل نساءهم، اللهم شتت أطفالهم، اللهم املأ قلوبهم ناراً كما ملئوا قلوب الموحدين غيظاً، اللهم دمرهم قبل أن يدمروا الأقصى، اللهم دمر اليهود قبل أن يدمروا الأقصى، إلهنا! لا إله لنا سواك فندعوه، ولا رب لنا غيرك فنرجوه، يا منقذ الغرقى، يا منجي الهلكى، يا منقذ الغرقى، يا منجي الهلكى، يا سامع كل نجوى، يا عظيم الإحسان، يا دائم المعروف، يا ألله يا ألله يا ألله ارفع مقتك وغضبك عنا، لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا. اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام، وعز الموحدين، اللهم ائذن في تحرير الأقصى الأسير، اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل الطاعة، ويذل فيه أهل المعصية برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم إن أردت بالناس فتنة فاقبضنا إليك غير خزايا ولا مفتونين ولا مفرطين ولا مضيعين، ولا مغيرين ولا مبدلين. اللهم من أراد بالإسلام والمسلمين خيراً فوفقه لكل خير، ومن أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه، واجعل تدبيره في تدميره برحمتك يا أرحم الراحمين! نعوذ بك أن نغتال من فوقنا، نعوذ بك أن نغتال من تحتنا، نعوذ بك أن نغتال عن يميننا ويسارنا. اللهم احفظنا بالإسلام قائمين، واحفظنا بالإسلام قاعدين، واحفظنا بالإسلام راقدين، اللهم احفظنا بحفظك يا أرحم الراحمين! اللهم استرنا ولا تفضحنا، وأكرمنا ولا تهنا، وكن لنا ولا تكن علينا. اللهم اجعل بلدنا مصر واحة للأمن والأمان، اللهم لا تحرم مصر من الأمن والأمان وجميع بلاد المسلمين، اللهم ارفع عن مصر الفتن ما ظهر منها وما بطن، وجميع بلاد المسلمين، اللهم اجعل مصر سخاءً رخاءً وجميع بلاد المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين! أحبتي الكرام! هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو نسيان فمني أنا ومن الشيطان والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون عليه إلى الجنة ويلقى به في جهنم، ثم أعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.

تحذير الأحباب ممن حرم النقاب

تحذير الأحباب ممن حرم النقاب لا يزال الحق والباطل يصطرعان ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة، ولا يزال أهل الحق يكشفون شبه أهل الباطل المزخرفة، ويردون عليهم، ويفندون آراءهم، وإن من الأباطيل المحدثة: القول بحرمة النقاب، ووصفه بالتشدد والتنطع، وقد رد أهل العلم على هذه الدعوى السافرة والإفك المبين بالحجج البينات، والأدلة الواضحات.

تحية وبشرى إلى بنت الإسلام

تحية وبشرى إلى بنت الإسلام أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد: فمرحباً مرحباً بأحبابي وإخواني في الله عز وجل، ومرحباً مرحباً بأخواتي الفضليات، واسمحوا لي أن يكون هذا اللقاء رداً علمياً هادئاً على من حرم النقاب، وأضرع إلى الله جل وعلا أن ينفع بهذا اللقاء، وأن يجعله خالصاً لوجهه، وأن يكون زاداً لنا يوم نلقاه: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:30]، وحتى لا ينسحب بساط الوقت من تحت أقدامنا فسوف أركز الحديث في عدة عناصر: أولاً: تحية وبشرى إلى بنت الإسلام. ثانياً: دعوى محدثة وأقوال خطيرة. ثالثاً: كتاب تذكير الأصحاب في الميزان. رابعاً: الأدلة الشرعية على وجوب الحجاب. خامساً: عتاب ودعوة. سادساً وأخيراً: أيتها المنقبة! أولاً: تحية وبشرى إلى بنت الإسلام: هذا نداء أصل العز والشرف والحياء، إلى صانعة الأجيال ومربية الرجال، إلى من تربعت طيلة القرون الماضية على عرش حيائها، تهز المهد بيمينها، وتزلزل عروش الكفر بشمالها. إلى أختي المسلمة التي تصمد أمام تلك الهجمات الشرسة، وتصفع كل يوم دعاة التحرر والسفور بتمسكها بحجابها ونقابها. تحية وبشرى إلى هذه القلعة الشامخة أمام طوفان الباطل والكذب، إلى أختي الفاضلة التي تحتضن كتاب ربها وترفع لواء نبيها وهي تصرخ في وجوه المبتدعين قائلة: بيد العفاف أصون عز حجابي وبعصمتي أعلو على أترابي إليك أيتها الدرة المصونة! إليك أيتها اللؤلؤ المكنون! أقدم لك التحية والبشرى من رسول الله صلى الله عليه وسلم في عهد الغربة الثانية التي تنبأ بها الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم: (بدأ الإسلام وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء)، طوبى لك يا بنت الإسلام! وهنيئاً لك يا صاحبة الحجاب! يا درة! حفظت بالأمس غالية واليوم يبغونها للهو واللعب يا درة! قد أرادوا جعلها أمة غريبة العقل غريبة النسب هل يستوي من رسول الله قائده دوماً وآخر هاديه أبو لهب؟ وأين من كانت الزهراء أسوتها ممن تقفت خطى حمالة الحطب؟ أختاه نفسك نبت لا جذور لها ولست مقطوعة مجهولة النسب أنت ابنة العرب والإسلام عشت به في حضن أطهر أم من أعز أب أيتها الأخت الفاضلة الصابرة! لقد علم أعداء ديننا أن المرأة المسلمة من أعظم أسباب القوة في المجتمع الإسلامي، فراحوا يخططون لها في الليل والنهار؛ لشل حركتها والزج بها في مواقع الفتنة، وأعلنوها صريحة في هذه المقولة الخطيرة، حيث قال أحدهم: كأس وغانية يفعلان في تحطيم الأمة المسلمة أكثر مما يفعله ألف مدفع، فأغرقوها في حب المادة والشهوات. لقد عز عليهم أن تجود المسلمة من جديد على أمتها بالعلماء العادلين والمجاهدين الصادقين، فصار همهم أن تصير المسلمة عقيماً لا تلد، خشية أن تلد من جديد خالداً وصلاح الدين وابن تيمية وغير هؤلاء. ولذلك لم يرفعوا أيديهم عن أمتنا ويسحبوا جيوشهم العسكرية من بلادنا، إلا بعد أن اطمئنوا أنهم خلفوا وراءهم خطاً فكرياً جديداً أميناً على كل أهدافهم، وأطلقوا على أفراد هذا الجيش أفضل الألفاظ والأوصاف كالمحررين والمجددين وأحاطوا هذا الصنف بهالة من الدعاية الفاسدة تخفي جهله، وتغطي انحرافه، وتنفخ فيه ليكون شيئاً مذكوراً، وتحدث حوله ضجيجاً يلفت إليه الأسماع ويلوي إليه الأعناق، وكل هذا في الحقيقة والله لا يفيد من جهله علماً، ولا من قلبه تقوى، ولا من بعده عن قلوب الناس قرباً، فهو كالطبل الأجوف يسمع من بعيد وباطنه من الخيرات خال. ومما يمزق الضمائر الحية أن يكون من بين هؤلاء بعض المتصدرين للفتوى، والمتسمين بسمة أهل العلم الشرعي الديني، الذين يزورون لأهل الباطل وأعداء الدين شبهاً عرجاء يتكئون عليها، لينفذوا مآربهم من تدمير صفة هذه الأمة، وتدمير وجهتها وقبلتها من حيث يشعرون أو لا يشعرون. وفي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا)، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!!

بدعة القول بتحريم النقاب

بدعة القول بتحريم النقاب أيها الأحبة! إن مما ابتلينا به في هذه الأيام: بدعة محدثة خطيرة، وقولة آثمة شريرة، ألا وهي القول بتحريم النقاب، تولى كبرها طبيب بيطري يرأس تخصصات الطب الشرعي والسموم بجامعة القاهرة. إن هذه الدعوى أوسع من الغبراء، وأكبر من أن تظلها الخضراء دعوى مخترعة محدثة لم تسمع من قبل من أحد من العلماء دعوى فاسدة يغني فسادها عن إفسادها باطلة يغني بطلانها عن إبطالها. إنها دعوى أن المحجبة المنقبة آثمة عاصية مجرمة مستحقة لعقاب الله وغضبه بسبب ارتدائها النقاب، وأن المتهتكة المتبرجة أفضل منها؛ لأنها أقل ابتلاءً وأقرب إلى سواء السبيل، فإنا لله وإنا إليه راجعون! هل سمعتم -يا عباد الله! - قولة خطيرة على مدى التاريخ كله كهذه القولة الجائرة الظالمة؟! لماذا يثير النقاب هذه البغضاء الكامنة في قلوب هؤلاء؟ لماذا لا يطيقون رؤية النقاب؟ لماذا يعلنون الحرب على الستر والعفاف؟ لماذا لا تكون هذه الحرب الهوجاء على التبرج والعري والعهر والفجور والإباحية والعربدة تحت ستار المدينة والتطور المظلم الأسود؟ لماذا لا تكون هذه الحرب الشعواء على المتبرجات على الكاسيات العاريات المائلات المميلات، اللائي ينفثن سموم الفتنة في قلوب الشباب والرجال في الليل والنهار؟ لقد أصبحت المنقبة الطاهرة آثمة في عصر تبدلت فيه الحقائق، وانقلبت فيه الموازين، فصار المعروف منكراً والمنكر معروفاً، والسنة بدعة والبدعة سنة. أصبحت المنقبة هي الآثمة العاصية المجرمة، والمتهتكة الخليعة المتبرجة هي الأقرب إلى سواء السبيل!! رويداً رويداً، ومهلاً مهلاً يا دعاة التبرج والسفور! فأين حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه مسلم وأحمد وهو من معجزات النبي الخالدة من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، رءوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا). وفي رواية الإمام الطبراني: (العنوهن فإنهن ملعونات). فلا تبال بما يلقون من شبه وعندك العقل إن تدعيه يستجب سليه من أنا من أهلي لمن نسبي للغرب أم أنا للإسلام والعرب؟ لمن ولائي لمن حبي لمن عملي لله أم لدعاة الإثم والكذب؟ وما مكاني في دنيا تموج بنا في موضع الرأس أم في موضع الذنب هما سبيلان يا أختاه ما لهما من ثالث فاكسبي خيراً أو اكتسبي سبيل ربك والقرآن منهجه نور من الله لم يهزم ولم يغب في ركبه شرف الدنيا وعزتها ويوم نبعث فيه خير منقلب هذه الدعوة خطيرة، وكان من الواجب على كل العلماء والدعاة أن يتصدوا لها، لماذا؟ لأنها اشتهرت وانتشرت، وفرضتها جريدة النور -حيث لا نور- على الناس فرضاً ولمدة تسعة أشهر كاملة! وأخيراً تحولت هذه الفتوى إلى كتاب كبير يعلن عنه في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، ومما يؤلم القلب أن مجلة (أكتوبر) قد أجرت حواراً مع فضيلة المفتي بعنوان (مجرد غسيل مخ)، وزعم فضيلته أن النقاب ليس من الإسلام في شيء، ثم أثنى ثناءً حميداً على مقالات: تذكير الأصحاب بتحريم النقاب، ووصفها بأن حجتها قوية وقاطعة. ونود أن نذكر فضيلة المفتي بما كتبه هو بيده في تفسيره للقرآن العظيم في سورة الأحزاب، فلقد فسر فضيلته آية الإدناء بأنها تشمل تغطية الوجه من المرأة، ولكن هذا الحكم الذي كتبه فضيلته كان قبل أن يتولى فضيلته منصب الإفتاء، نسأل الله الثبات على الحق، ونسأل الله حسن الخاتمة، إنه ولي ذلك والقادر عليه. ورد في الحديث الذي رواه مسلم من حديث أبي عمرو جرير بن عبد الله أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء). أيها المسلمون! أيتها المسلمات! إليكم بعض الأقوال الخطيرة التي نشرها صاحب هذا الكتاب لتشهدوا عليه وعليها أمام الله عز وجل -إن لم يتب ويرجع إلى الله- في يوم سيعرض فيه الجميع على الله جل وعلا في يوم لا تنفع فيه الكراسي الزائلة، والمناصب الفانية، في يوم تنصب فيه الموازين، وتتطاير الصحف، وتقرأ الكتب، وصدق الله إذ يقول: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:14]. وصدق من قال: مثل وقوفك يوم العرض عريانا مستوحشاً قلق الأحشاء حيرانا والنار تلهب من غيظ ومن حنق على العصاة ورب العرش غضبانا اقرأ كتابك يا عبد على مهل فهل ترى فيه حرفاً غير ما كانا لما قرأت ولم تنكر قراءته إقرار من عرف الأشياء عرفانا نادى الجليل خذوه يا ملائكتي وامضوا بعبدٍ عصى للنار عطشانا المشركون غداً في النار يلتهبوا والمؤمنون بدار الخلد سكانا نسأل الله أن يسترنا وإياكم في يوم الفضائح، إنه ولي ذلك ومولاه، وأن يجعل قولنا وعملنا خالصاً لوجهه إنه سميع مجيب الدعاء!

تدليس الكاتب وتحريفه

تدليس الكاتب وتحريفه ثانياً: إن الكاتب -وهذا أمر خطير- استحل واستباح التدليس والتلبيس والتحريف والمراوغة، ولم يكن أميناً في نقل أدلة من خالفه من العلماء، بل كذب على العلماء وافترى على العلماء وقال عليهم ما لم يقولوه، لا ندعي ذلك جزافاً، ومن ذلك أنه دلس على شيخ الإسلام ابن تيمية وكذب عليه. فالكاتب يقول في صفحة رقم (مائة وواحد وتسعين): قال ابن تيمية رحمه الله في الصراط المستقيم: ومن أجل ذلك كان من شروط المسلمين الأول على أهل الذمة أن تكشف نساؤهم عن سوقهن وأرجلهن لكي لا يتشبهن بالمسلمات، ثم يعلق الكاتب ويقول: ويفهم -هذا ما يفهمه الكاتب- ويفهم من كلام ابن تيمية رحمه الله: أن الوجه لنساء المؤمنين لم يكن مغطى، وهذا عين الكذب على شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، كيف فهم الكاتب هذا؟ ومن أين جاء بهذا الفهم؟ وهو يعلم -وأنا واثق من ذلك- أن شيخ الإسلام ابن تيمية من أوائل من يقولون بوجوب النقاب وبوجوب ستر الوجه، حيث يقول شيخ الإسلام في آية الحجاب، أي في قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59]: والجلباب هو الملاءة، وهو الذي يسميه ابن مسعود وغيره الرداء، وتسميه العامة الإزار، وهو الإزار الكبير الذي يغطي رأسها وسائر بدنها، وقد حكى عبيدة السلماني وغيره: أنها تدنيه من فوق رأسها فلا تظهر إلا عينها، ومن جنسه النقاب، فكان النساء ينتقبن، وفي الصحيح: (إن المحرمة لا تنتقب ولا تلبس القفازين)، فإذا كن -وما يزال الكلام لـ شيخ الإسلام - فإذا كن (أي: النساء) مأمورات بالجلباب وهو ستر الوجه أو ستر الوجه بالنقاب، كان حينئذ الوجه واليدان من الزينة التي أمرت ألا تظهرها للأجانب، هذا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية بنصه من مجموع الفتاوى المجلد الثاني والعشرين صفحة رقم مائة وعشرة ومائة وإحدى عشر، ذكرت هذا ليتبين لكم -أيها الأحباب وأيتها الفضليات- كيف سمح هذا الكاتب لنفسه أن يكذب على شيخ الإسلام ابن تيمية، وأن يقول عنه ما هو بريء عنه براءة الذئب من دم ابن يعقوب. وقد أوهم الكاتب القراء الذين يقرءون كتابه، من الذين لا حظ لهم من علم الأصول أو من الفهم الدقيق؛ أوهم أن الإمام ابن القيم رحمه الله يصف النقاب بالتنطع والغلو والتشدد والتكلف، فيأتي الكاتب بعدما وصف النقاب بأنه غلو وتنطع وتشدد، يأتي ببعض الألفاظ التي قالها الإمام ابن القيم ليرد بها على أهل الغلو والتنطع، يأتي بها الكاتب ليصف بها ما يقوله هو من أن النقاب تنطع وغلو؛ ليوهم الناس بأن هذه الكلمات التي ذكرها الإمام ابن القيم إنما يصف بها النقاب، وأنه من الغلو والتنطع والتشدد، ومعلوم أن الإمام ابن القيم يقول بوجوب النقاب كما في إعلام الموقعين عن رب العالمين في الجزء الثاني في فصل: الفرق بين النظر إلى الحرة والأمة، ويوهم الكاتب أيضاً أن الإمام القرطبي يوافقه في مذهبه من تخصيص الحجاب بأمهات المؤمنين رضي الله عنهن، فيقول الكاتب في صفحة رقم مائة وسبعة وأربعين بهذه الروح العجيبة التي أشرنا إليها آنفاً يقول: وقد فهم القرطبي هذا المعنى الأساسي مثلما ذهبنا إليه تماماً. سبحان الله! القرطبي هو الذي فهم مثل ما ذهب إليه الكاتب، مع أن الإمام القرطبي رحمه الله يقول في تفسير نفس السورة في آية الحجاب: ويدخل في ذلك -أي: في عموم الحجاب لجميع البدن- جميع النساء بالمعنى، وبما تضمنته أصول الشريعة من أن المرأة كلها عورة، هذا قول الإمام القرطبي الذي أوهم الكاتب أنه وافقهم في مذهبه بتخصيص أمهات المؤمنين بالحجاب وحدهن رضي الله عنهن. ثم يكذب الكاتب على العلماء الذين قالوا: بأن الحجاب ليس خاصاً بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم وحده وهم كثرة، كما سنرى ليأتي بهذا الإجماع الغريب العجيب فيقول في صفحة رقم ثلاثة وعشرين: وقد ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن النقاب خاص بأزواج النبي وحده، ثم نقل الإجماع! ومن أين جاء به؟ والله إنه عين الكذب على من قال: إن تخصيص الحجاب لزوجات النبي صلى الله عليه وسلم وحدهن، وهذا ليس صحيحاً على الإطلاق كما سنرى في الأدلة الشرعية، وهذا الكاتب يقول: أجمع على ذلك المؤيدون لتعليمه والمعارضون، وهذا بهتان عظيم! وأكتفي بهذا القدر لضيق الصدر وتألم النفس، وإلا فوالله لو وقفنا مع كل صفحة من صفحات هذا الكتاب لرددنا عليه.

كتاب (تذكير الأصحاب) في الميزان

كتاب (تذكير الأصحاب) في الميزان العنصر الثالث من عناصر هذه المحاضرة: كتاب تذكير الأصحاب في الميزان. أيها الأحباب! أيتها الفضليات! إن نظرة سريعة للكتاب تضحك وتبكي في آن واحد، نعم، فالكاتب الذي يقول دائماً: كما هو مقرر في الأصول؛ لا يحسن معنى الدليل، ولا يحسن مراتب الأدلة، ويجهل قواعد الجمع والترجيح، ويسيء فهم قواعد علم الأصول، ومن ذلك حتى لا يظن أحد أننا ندعي ذلك جزافاً: أولاً: أن الكاتب لا يعلم كيف يستفاد الحكم بالتحريم، فمعلوم أن الحرام كما يقول الدكتور زيدان في كتابه القيم: الوجيز في أصول الفقه: الحرام هو ما طلب الشارع الكف عنه على وجه الحتم والإلزام، فيكون تاركه مأجوراً مطيعاً، وفاعله آثماً عاصياً، سواءً أكان دليله قطعياً لا شبه فيه كحرمة الزنا، أم كان دليله ظنياً كالمحرمات بالسنة (الأحاديث). ثم يقول (أي الدكتور زيدان حفظه الله): ويستفاد الحكم بالتحريم -انتبه وانتبهن أيتها الفضليات! ويستفاد الحكم بالتحريم من استعمال لفظ يدل على التحريم بمادته كلفظ الأم أو لفظ البنت كقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء:23]، وكقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه) رواه البيهقي والدارقطني. أو يستفاد الحكم بالتحريم من صيغة النهي المقترنة بما يدل على الحتم كقوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج:30]، وكقوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة:90]. أو يستفاد الحكم بالتحريم من ترتيب العقوبة على الفعل كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور:4]، وكقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10]. والشرع الحكيم -وما يزال الكلام للدكتور زيدان حفظه الله- والشرع الحكيم لم يحرم شيئاً إلا لمفسدته الخالصة أو الغالبة، وهذه المفسدة إما أن ترجع إلى ذات الفعل المحرم، وهذا هو المحرم لذاته أو لعينه، وإما أن ترجع المفسدة إلى أمر اتصل بالفعل المحرم، وهذا هو المحرم لغيره كالصلاة في الأرض المغصوبة، أو كالبيع في وقت نداء الجمعة، فالبيع مثلاً في ذاته مباح، ولكن لوقوعه في وقت نداء الجمعة وإعاقته عن السعي إلى أداء صلاة الجمعة جاء النهي عنه من الشرع الحكيم. هذه هي قواعد علم الأصول التي تعلمناها من علمائنا ومشايخنا، والتي يستفاد منها الحكم بالتحريم، فأين هذه القواعد من هذه الفتوى الجائرة الظالمة بتحريم النقاب، كيف فهم الكاتب هذه القواعد التي يستفاد منها الحكم بالتحريم؟ اسمعوا واستمعن، هل ورد نص بلفظ حرمة النقاب؟ هذه هي قواعد علم الأصول التي يستفاد منها الحكم بالتحريم، هل ورد نص بلفظ حرمة النقاب؟ أو هل ورد نص بنفي الحل عن النقاب؟ أو هل ورد نهي من الشرع عن ارتداء النقاب، سواء على سبيل التحريم أو حتى على سبيل الكراهة؟ أو هل ورد نص يحتم العقوبة على من تلبس النقاب؟ أجبنا أيها الكاتب! ومما يزيد الأسى أن الكاتب لا يعرف الفرق بين النقاب والحجاب، نعم، لا يعرف الفرق اللغوي بين معنى النقاب والحجاب، فهو يقول: إن كلامنا عن النقاب أفضل من كلامنا عن الحجاب؛ لأن الأول -أي: كلامنا عن النقاب- يدرأ فتنة، أما الثاني (أي: كلامه عن الحجاب) فيجلب المصلحة، ومعلوم أن درأ الفتن أو المفاسد مقدم على جلب النعم أو المصالح كما هو مقرر في الأصول، وليعلم الكاتب أن الحجاب أشمل وأعم من النقاب، والنقاب جزء من الحجاب الشرعي أو صورة من صور الحجاب الشرعي، فليتعلم معنى النقاب ومعنى الحجاب ليطبق القاعدة التي ذكرها آنفاً في علم الأصول تطبيقاً صحيحاً، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

الرد على دعوى عدم وجود دليل شرعي على مشروعية النقاب والقفازين

الرد على دعوى عدم وجود دليل شرعي على مشروعية النقاب والقفازين ومن أقواله الخطيرة التي يسخر فيها من العلماء، يسخر فيها من الأئمة الأعلام ومصابيح الظلام، ويتهم العلماء بالإفلاس وعدم الفهم وقلة العقل، يقول في صفحة رقم (مائتين وثلاثة عشر): انظر كيف يفعل الإفلاس بأصحابه حين أصبحوا عاجزين عن الإتيان بدليل شرعي يقيني واحد على مشروعية النقاب أو القفاز، فلما لم يجدوا الدليل ألجأهم العجز إلى القصص، إلى القصص والإشاعات التي لا يعرف لها مصدر علمي، علهم يجدون فيها ما ينقلهم من الحرج الذي وضعوا أنفسهم فيه، إنها رواية أشبه بما يحكى عن أبي زيد الهلالي والزير سالم وغيرهما، فهل يمكن الاحتجاج بما يقال فيه: قال الراوي: يا سادة! يا كرام! فيقدم للناس على أنه من الدين الحنيف. أسمعتم أيها الأحباب! إلى هذا الحد صارت السخرية والاستهزاء بأئمة الهدى ومصابيح الظلام! ثم يقول في صفحة رقم (مائتين وخمسة وعشرين): إن كل مدافع عنه (أي: عن النقاب) عاجز تماماً عن الإتيان بدليل شرعي واحد يعتد به على جواز التمسك به، وإن الذين زينوا للعوام الجهلة فعل التنقب ولبس النقاب، إنما هم في أكثرهم نقلة صحف، لا يفقهون ما ينقلون، ولا يعقلون ما يكتبون، وفي أقلهم حفظة يرددون ما يحفظون دون أن تترسخ لهم قدم، فيحسبون أنهم على شيء من العلم بدقائق الشرع الشريف الحنيف، وهم واهمون؛ لأنهم عادة متحمسون وأنى للمتحمسين أن يحسنوا الحياد في العلم والموضوعية في البحث؟! هكذا أيها الأحباب! وهذه حروف الكاتب تماماً، أسأل الله العافية، فالعلماء الأجلاء وورثة الأنبياء في نظر هذا الكاتب نقلة صحف، لا يفقهون ما ينقلون، ولا يعقلون ما يكتبون، فإلى الله المشتكى، والله المستعان، ونسأل الله لنا ولكم حسن الخاتمة. ومن أقواله التي تفوح منها هذه الروح قوله في عدد (28/ 1/1411هـ) من جريدة النور قال: وقد صدق ظني عندما أصدرت كتابي عن النقاب، وقلت: إنه لا يستطيع نقده أو الرد على بعض ما فيه، فليست العصمة إلا للأنبياء، إلا واحد من اثنين: إما الألباني العلامة المشهور، وإما ابن باز العالم الكبير -هذا على حد تعبير الكاتب-، وإني أتشوق لذلك، وإن كنت أتوسم بفضل الله تعالى أن أدافع عما يوجه إلي منهما إلى آخر كلامه، وسوف أرد عليه بكلام مصباحي الدجى، ومجددي شباب الأمة، بكلام شيخنا الألباني وشيخنا ابن باز في موضعه بإذن الله جل وعلا. ثم تعلن هذه الروح عن نفسها صراحة، فيقول في عدد (2/ 4/1411هـ) من جريدة النور: إنني أطلب من علماء الكرة الأرضية بقاراتها السبع أن يأتي واحد منهم بدليل واحد على كون النقاب من الإسلام! وسوف آتيه بعشرات الأدلة بإذن الله جل وعلا. وأكتفي أيها الأحباب! بذكر هذه الأقوال، وإلا فهي خطيرة كثيرة تبعثرت في الكتاب كله، فيشهد الله لقد ضاق صدري، وتألمت نفسي وكفى، وصدق الله جل وعلا إذ يقول: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18]: هذه بعض الأقوال التي ذكرها الكاتب، وسأترك للمسلم والمسلمة أن يحكم على هذه الأقوال الخطيرة، وليشهد بها وعليها أمام الله عز وجل، في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. ونسأل الله العفو والعافية.

الرد على القول بأن المتبرجة أفضل من المنقبة

الرد على القول بأن المتبرجة أفضل من المنقبة من أقواله الخطيرة: قوله في صفحة رقم (مائتين وستة وعشرين) و (مائتين وسبعة وعشرين): إن المتبرجة أفضل من المنقبة -اسمع لقوله- يقول: لأن الأولى (أي: المتبرجة) عاصية تعلم أنها عاصية بينما الثانية المنقبة عاصية تعلم أنها فاضلة. كما أن الأولى (أي: المتبرجة) ليست عرضة للكبر والعجب المانعين من دخول الجنة، بينما الثانية (أي: المنقبة) أكثر عرضة لذلك، يقول: فأيهما أحق بالإشفاق؟ وأيهما أقرب للتوبة؟ وأيهما أولى بالاستغفار؟ إن المنقبة -هذا قوله- إن المنقبة تحتاج إلى أن نستغفر لها مرتين، بينما المتبرجة مرة واحدة؛ لأنها أقل ابتلاءً، وأقرب إلى سواء السبيل. إنا لله وإنا إليه راجعون، وأنا أسأل كل عاقل على وجه الأرض، هل المنقبة التي غطت نفسها تماماً، وتمشي على استحياء، شاخصة ببصرها إلى موضع قدمها، هي التي يتملكها العجب والكبر والغرور أم المتبرجة التي خرجت تتفنن بعرض زينتها وفتنتها وجمالها وهي تقول بلسان الحال: ألا تنظرون إلى هذا الجمال؟ هل من راغب في القرب والوصال؟ إنها تعرض جمالها في الأسواق والشوارع والطرقات كما يعرض البائع المتجول سلعة. سأترك لك الجواب أيها المسلم! وأيتها المسلمة!

الرد على القول بأن النقاب بدعة

الرد على القول بأن النقاب بدعة ومن أقواله التي استدل بها على تحريم النقاب: قوله في صفحة رقم (مائتين وثمانية وعشرين) و (مائتين وتسعة وعشرين) من كتابه: إن المنقبة تشبهت ببعض طوائف أهل الكتاب، طوائف من الراهبات يلبسن مثل هذا النقاب. وأنا أسألك أيها الكاتب! لأني رأيت صورته على غلاف كتابه بلحية كبيرة كثة، أسألك: هل يجوز أن تحلق لحيتك؛ لأن بعض القساوسة قد أعفى وأطلق لحيته؟ ومن أقواله الخطيرة التي استدل بها أيضاً على تحريم النقاب: قوله في صفحة رقم (مائة وثمانين) و (مائة وواحد وثمانين): إن تنقب عموم النساء أمر محدث في الدين، وكل محدث حرام ومردود، ولا يرد إلا الحرام والخبيث، والحرام معروف حكمه، والخبيث في النار، وأصحابه هم الخاسرون ثم يشير إلى أن النقاب من هذا الخبيث ومن الخبائث ويستدل على ذلك بقول الله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157]، إنا لله وإنا إليه راجعون! ومن أقواله الخطيرة: أنه ادعى أن الصحابة رضي الله عنهم قد أجمعوا إجماعاً فعلياً -أي: عملياً- على وجوب كشف الوجه، كما يقول في صفحة رقم (مائتين وسبعة وعشرين)، وهذا والله بهتان عظيم، فمن أين جاء بهذا الإجماع؟ من أين جاء بهذا الإجماع الخطير؟ إنا لله وإنا إليه راجعون! ومن أقواله الخطيرة التي يستدل بها أيضاً على تحريم النقاب: قوله في صفحة رقم (سبعة وثلاثين): الوجه أصل الفطرة والفطرة، محمودة دائماً، وديننا هو دين الفطرة، ومن أدان الفطرة فقد أدان الإسلام. ما شاء الله على هذا الاستدلال المنطقي! وهو كقول من قال: كل فرار من العدو جبن، وكل جبن مصنوع من اللبن، إذاً: كل فرار من العدو مصنوع من اللبن.

الأدلة القرآنية على وجوب الحجاب

الأدلة القرآنية على وجوب الحجاب أيها الأحباب وأيتها الفضليات: تعالوا بنا إلى العنصر الرابع من عناصر المحاضرة وهو: الأدلة الشرعية على وجوب الحجاب:

الدليل الأول: آية الإدناء

الدليل الأول: آية الإدناء أيها الأحباب وأيتها الفضليات: تعالوا بنا إلى العنصر الرابع من عناصر المحاضرة وهو: الأدلة الشرعية على وجوب الحجاب:

كلام الإمام الرازي في آية الإدناء

كلام الإمام الرازي في آية الإدناء قال الله عز وجل في سورة الأحزاب في الآية (59) بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب:59].

ذكر كثير من العلماء القائلين بوجوب الحجاب

ذكر كثير من العلماء القائلين بوجوب الحجاب أيها الأحباب: رجح كثير من أهل العلم وجوب النقاب -كما سمعتم آنفاً إلى أقوالهم القيمة الطيبة- ولولا أنني أخشى الإطالة لذكرت كل أقوالهم مفصلة، ولكنني سأكتفي بذكر مزيد من أسماء هؤلاء الأئمة العلماء مشيراً فقط إلى المصدر الذي ورد فيه قولهم بوجوب النقاب أو بوجوب ستر الوجه، من هؤلاء العلماء الذين قالوا بوجوب ستر الوجه: - الإمام القرطبي في الجامع لأحكام القرآن الكريم في تفسير سورة الأحزاب الآية (59). - ومنهم الإمام البغوي في معالم التنزيل في تفسير سورة الأحزاب الآية (59). - ومنهم الإمام الزمخشري في الكشاف في تفسير سورة الأحزاب الآية (59). - ومنهم الإمام ابن الجوزي في زاد المسير في علم التفسير في تفسير سورة الأحزاب الآية (59). - ومنهم الإمام البيضاوي في أنوار التنزيل وأسرار التأويل في تفسير سورة الأحزاب الآية (59). - وبه -أي: بوجوب ستر الوجه- قال الإمام النسفي في مدارك التنزيل وحقائق التأويل في تفسير سورة الأحزاب. - وبه قال الإمام ابن حيان الأندلسي في البحر المحيط في تفسير سورة الأحزاب في الآية (59). - وبه قال الحافظ ابن كثير في تفسير سورة الأحزاب ذاكراً تفسير عبيدة السلماني رحمه الله. - وبه قال الإمام الخطيب الشربيني في السراج المنير في تفسير سورة الأحزاب. - وبه قال شيخ الإسلام ابن تيمية في تفسير سورة النور وغيرها. - وبه قال الإمام ابن القيم في إعلام الموقعين في فصل: الفرق بين النظر إلى الحرة والأمة. - وبه قال الإمام ابن حزم في المحلى في الجزء الثالث تحقيق الشيخ أحمد شاكر رحمهم الله. - وبه قال العلامة الشوكاني في فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية في علم التفسير في تفسير سورة الأحزاب. - وبه قال العلامة الألوسي في روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني في تفسير سورة الأحزاب. وبه قال علامة الشام محمد جمال الدين القاسمي في محاسن التأويل في تفسير سورة الأحزاب. - وبه قال علامة القصيم الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي في تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، في تفسير سورة الأحزاب. - وبه قال الدكتور محمد محمود في التفسير الواضح في تفسير سورة الأحزاب. - وبه قال شيخنا أبو بكر الجزائري حفظه الله في أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير في تفسيره لسورة الأحزاب. - وبه قال فضيلة الشيخ صالح بن إبراهيم البليهي رحمه الله في كتابه القيم: يا فتاة الإسلام اقرئي حتى لا تخدعي. وأعتقد أيها الأحباب! أن هذا يكفي رداً على قول الكاتب وتحديه لكل علماء الكرة الأرضية أن يأتوا بدليل واحد على كون النقاب من الإسلام. وصدق الله جل وعلا إذ يقول: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]. وصدق من قال: إن الحجاب الذي نبغيه مكرمة لكل مسلمة ما عابت ولم تعب نريد منها احتشاماً عفة أدباً وهم يريدون منها قلة الأدب يا رب أنثى لها عزم لها أدب فاقت رجالاً بلا عزم ولا أدب ويا لقبح فتاة لا حياء لها وإن تحلت بغالي الماس والذهب

كلام الشيخ المودودي في الأمر بالحجاب

كلام الشيخ المودودي في الأمر بالحجاب قال الشيخ المودودي رحمه الله في آية الإدناء صفحة رقم (250): نزلت خاصة في ستر الوجه. ثم يقول: ومعنى الآية بالحرف: أن يرخين جانباً من خمورهن أو ثيابهن على أنفسهن، وهذا هو المفهوم من ضرب الخمار على الوجه، والمقصود به ستر الوجه وإخفاؤه، سواء كان بضرب الخمار أو بلبس النقاب أو بطريقة أخرى غيره. ثم يقول الشيخ المودودي رحمه الله في صفحة رقم (330): وإن الوجه هو المظهر الأكبر للجمال الخلقي والطبيعي في الإنسان، فهو أكثر مفاتن الجمال الإنساني جذباً للأنظار واستهواءً للنزعات، ثم هو العامل الأقوى للجاذبية الجنسية بين الصنفين.

كلام الشيخ ابن عثيمين في وجوب الحجاب

كلام الشيخ ابن عثيمين في وجوب الحجاب ويقول شيخنا الحبيب ابن عثيمين حفظه الله في رسالة قيمة بعنوان (توجيهات للمؤمنات حول التبرج والسفور). يقول في صفحة (17 - 18 () من هذه الرسالة القيمة: وقد دلت الأدلة من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنظر الصحيح والاعتبار والميزان على أنه يجب على المرأة أن تستر وجهها عن الرجال الأجانب الذين ليسوا من محارمها. ثم يقول: وإذا تأمل العاقل المؤمن هذه الشريعة وحكمها وأسرارها تبين أنه لا يمكن أن تلزم -أي: الشريعة- المرأة بستر الرأس والعنق والذراع والساق والقدم، ثم تبيح -أي: الشريعة- للمرأة أن تخرج كفيها ووجهها المملوء جمالاً وتحسيناً، فإن ذلك خلاف العفة إلى آخر كلامه حفظه الله.

كلام الشيخ الشنقيطي في الحجاب

كلام الشيخ الشنقيطي في الحجاب يقول العلامة الرباني الشيخ الشنقيطي رحمه الله في آية الإدناء: وفي الآية الكريمة قرينة واضحة على أن قوله تعالى: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59] يدخل في معناه: ستر وجوههن بإدناء جلابيبهن عليها. والقرينة المذكورة هي قوله تعالى: (قل لأزواجك)؛ ووجوب احتجاب أزواجه وسترهن وجوههن لا نزاع فيه بين المسلمين، بل هذا مما يوافق عليه الكاتب. يقول الإمام الشنقيطي: فذكر الله تعالى الأزواج مع البنات مع نساء المؤمنين في آية واحدة وفي حكم واحد يدل على وجوب ستر الوجوه بإدناء الجلابيب، فكيف تستقيم دعوى الخصوصية والله تعالى يقول: (ونساء المؤمنين)؟ اهـ. وهذا واضح جداً لمن لم يدخل الهوى في قلبه، فيعمي بذلك عقله والعياذ بالله. ويقول فضيلة الشيخ عبد العزيز بن خلف حفظه الله في كتابه القيم: نظرات في حجاب المرأة المسلمة في صفحة رقم (48) في الهامش، يقول عن آيات الإدناء: لو لم يكن من الأدلة الشرعية على منع كشف الوجه إلا هذا النص من الله تعالى لكفى به حكماً موجباً؛ لأن الوجه هو العنوان من المرأة لنعرف بها من الناحية الشخصية ومن الناحية التي تجلب الفتنة. ثم يقول: وهذا الأمر يقتضي الوجوب ولا يوجد أي دليل ينقله من الوجوب إلى الاستحباب أو الإباحة.

كلام ابن جرير الطبري في تفسير آية الإدناء

كلام ابن جرير الطبري في تفسير آية الإدناء يقول شيخ المفسرين ابن جرير الطبري رحمه الله في تفسير آية الإدناء في سورة الأحزاب: قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: -واحفظوا هذا القول لـ ابن عباس رضي الله عنهما؛ لأنه سيفترى عليه قولاً آخر- أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رءوسهن بالجلابيب ويبدين عيناً واحدة. ويقوي هذا الإسناد ما صح عن ابن سيرين قال: سألت عبيدة السلماني -وعبيدة السلماني هو التابعي الجليل الفقيه العلم، آمن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ونزل المدينة في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولم يزل عبيدة في المدينة حتى مات رحمه الله، وقد فسر آية الإدناء تفسيراً عملياً وفعلياً وواقعياً يوضح ما كان عليه نساء الصحابة رضي الله عنهن جميعاً- يقول ابن سيرين: سألت عبيدة السلماني عن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59]، يقول: فأخذ بثوبه فغطى رأسه ووجهه، وكشف ثوبه عن إحدى عينيه. هذه صورة فعليه عملية للتابعي الجليل الذي عاش في المدينة المنورة في زمن عمر رضي الله عنه وإلى ما بعده، وهو يوضح فعل الصحابيات وما كن عليه رضي الله عنهن، فإلى الله المشتكى والله المستعان على ما قيل كذباً على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنهم أجمعوا إجماعاً فعلياً على وجوب كشف الوجه والكفين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!! يقول الإمام الرازي في آية الإدناء أيضاً: وفي هذه الآية دلالة على أن المرأة الشابة مأمورة بستر وجهها عن الأجنبيين، وإظهار الستر والعفاف عند الخروج، لئلا يطمع أهل الريبة فيها.

كلام الشيخ ابن باز في الحجاب

كلام الشيخ ابن باز في الحجاب يقول والدنا الكريم وشيخنا الحبيب الشيخ ابن باز حفظه الله -ولقد تعمدت أن أبدأ بقوله؛ لأن الكاتب قد طلب أن يرد عليه الشيخ ابن باز أو الشيخ الألباني - يقول شيخنا ابن باز -واسمع أيها الكاتب- في هذه الآية، في كتاب (ثلاث رسائل في الحجاب) صفحة رقم (7): أمر الله -والأمر صيغة من صيغ الوجوب كما تعلمنا في علم الأصول- يقول الشيخ: أمر الله سبحانه جميع نساء المؤمنين بإدناء جلابيبهن على محاسنهن من الشعور والوجه وغير ذلك حتى يعرفن بالعفة إلى آخر كلامه حفظه الله. فالشيخ أيها الكاتب يقول بوجوب النقاب؛ لأن الأمر صيغة من صيغ الوجوب.

الدليل الثاني: آية الحجاب

الدليل الثاني: آية الحجاب الدليل الثاني: قول الله تبارك وتعالى في سورة الأحزاب في الآية (53) بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53]، وهذه الآية هي التي تسمى بآية الحجاب، نزلت في ذي القعدة في السنة الخامسة من الهجرة، وهي نص واضح في وجوب تحجب النساء عن الرجال وتسترهن منهم، وهذا لا خلاف فيه بنص الآية، ولكن الذي يحتاج إلى البحث: قول الكاتب: إن هذه الآية -بما تحمله من حكم بوجوب الحجاب- خاصة بأمهات المؤمنين رضي الله عنهن فقط دون غيرهن من النساء.

ذكر كلام أهل العلم في تفسير الآية

ذكر كلام أهل العلم في تفسير الآية يقول الإمام القرطبي في: (الجامع لأحكام القرآن الكريم): ومما يؤيد عموم آية الحجاب وأنها ليست خاصة بأمهات المؤمنين رضي الله عنهن قوله تعالى بعدها: {لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلا أَبْنَائِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ} [الأحزاب:55] إلى آخر الآية. ويقول العلامة القرآني الأمين الشنقيطي رحمه الله: وفي هذه الآية الكريمة الدليل الواضح على أن وجوب الحجاب حكم عام في جميع النساء لا خاص بأزواجه صلى الله عليه وسلم، وإن كان أصل اللفظ خاص بهن؛ لأن عموم علته دليل على عموم الحكم فيه، ومسلك العلة الذي دل على أن قوله تعالى: {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53] هو علة قوله تعالى: {فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب:53]، وهو المسلك المعروف في الأصول بمسلك الإيماء والتنبيه. وقال مفتي مصر سابقاً الشيخ حسنين مخلوف رحمه الله في تفسيره (صفوة البيان لمعاني القرآن): وحكم نساء المؤمنين في ذلك حكم نسائه صلى الله عليه وسلم. ويقول صاحب كتاب (فقه النظر في الإسلام): فإن قال قائل: إن هذه الآية خاصة بأمهات المؤمنين وقد نزلت بحقهن، قلت: إنها وإن كانت خاصة بنساء النبي صلى الله عليه وسلم من جهة السبب فهي عامة من جهة الأحكام؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ثم يقول: فادعاء أنها خاصة بنساء النبي صلى الله عليه وسلم لا ينهض حجة؛ لأن الاستثناء في آية: (لا جناح عليهن في آبائهن) إلى آخره عام وهو فرع من الأصل وهو الحجاب، فدعوى تخصيص الأصل يستلزم تخصيص الفرع وهو غير مسلم. ويقول صاحب كتاب (كشف النقاب): وإذا كانت نساء النبي صلى الله عليه وسلم المطهرات من السفاح، المحرمات علينا بالنكاح، الموصوفات بأنهن أمهات المؤمنين قد أمرن بالحجاب طهارة لقلوبهن وقلوب أبنائهن المحرم عليهم نكاحهن، فماذا نقول في غيرهن، المحللات لنا بالنكاح، المتطلع لهن أهل السفاح، هل يجوز لهن أن يكن سافرات غير منتقبات، وبارزات غير محجبات؟! ويقول صاحب كتاب (فقه النظر) في قوله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:32 - 33]. يقول: إنها وصايا ربانية، وأوامر إلهية، فأي منها لا يتصل بعامة النساء المسلمات؟! وهل النساء المسلمات لا يجب عليهن أن يتقين الله أو قد أبيح لهن أن يتبرجن تبرج الجاهلية؟ ثم هل ينبغي لهن أن يتركن الصلاة ويمنعن الزكاة ويعرضن عن طاعة الله ورسوله؟ وهل يريد الله أن يتركهن في الرجس؟ فإذا كانت هذه الأوامر والإرشادات عامة لجميع المسلمات، فما المبرر بتخصيص ما ورد في سياق مخاطبة أمهات المؤمنين من قرار في البيوت وملازمة للحجاب وعدم مخالطة الأجانب بهن خاصة؟ نعم. ما هو الدليل على أن هذه التكليفات والأوامر خاصة بزوجات النبي صلى الله عليه وسلم وحدهن؟ وهكذا أيها الأحباب! وأيتها الفضليات! فدليل الأولوية واضح وضوح الشمس في هذه الآيات الكريمات، وهو أن أمهات المؤمنين كن أطهر نساء الدنيا قلوباً، وأعظمهن قدراً في قلوب المؤمنين، ومع ذلك أمرن بالحجاب طلباً لتزكية قلوب الطرفين، فغيرهن من النساء أولى بهذا الأمر والتكليف. وقال الشيخ عبد العزيز بن خلف حفظه الله: لم يرد في آية النور وآية الأحزاب أي تخصيص لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم بما قضت به من الأحكام، فهي أحكام عامة للمسلمات من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة، وإن من الزعم الباطل أن يقال: إن آية الحجاب خاصة بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، إلى آخر ما ذكره في كتابه: (نظرات في كتاب حجاب المرأة المسلمة) في صفحة (99 - 93) حفظه الله. ويقول شيخنا أبو بكر الجزائري حفظه الله في كتابه (فصل الخطاب في المرأة والحجاب) صفحة (34 - 35): ومن عجيب القول: أن يقال: إن هذه الآية نزلت في نساء النبي صلى الله عليه وسلم، فهي خاصة بهن دون باقي نساء المؤمنين، إذ لو كان الأمر كما قيل لما حجب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءهم، ولما كان لإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم للخاطب أن ينظر لمن يخطبها معنى أبداً. اهـ وهذا واضح وضوح الشمس في ضحاها، ولولا أنني أخشى الإطالة لتعاملت مع هذا الدليل بإطالة، وذكرت أقوال أهل العلم مفصلة كما تعاملنا مع الدليل الأول في آية الإدناء.

الديل الثالث: قوله تعالى: (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها)

الديل الثالث: قوله تعالى: (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) الدليل الثالث: قول الله تعالى في سورة النور الآية (31)، ويستدل العلماء بثلاث مواضع من هذه الآية الكريمة على وجوب الحجاب: الموضع الأول: قول الله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31]. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وحقيقة الأمر أن الله جعل الزينة زينتين: زينة ظاهرة وزينة غير ظاهرة، وجوز لها -أي: للمرأة- إبداء زينتها الظاهرة لغير الزوج وذوي المحارم، وأما الباطنة فلا تبديها إلا للزوج وذوي المحارم. وصح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31] الثياب. وإسناده في غاية الصحة، رواه ابن جرير الطبري وابن أبي شيبة والحاكم من طريقه وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في التلخيص. وأما ما ينسب إلى ابن عباس رضي الله عنهما من أنه فسر الزينة الظاهرة بالوجه والكفين؛ فلا يصح إسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما، وهذا الأثر المروي عن ابن عباس أخرجه الإمام ابن جرير الطبري في تفسيره، والإمام البيهقي في (السنن الكبرى) فلنتعرف على صحة هذين الإسنادين من عدمها. الطريق الأول: قال الإمام ابن جرير الطبري: حدثنا أبو كريب قال: حدثنا مروان قال: حدثنا مسلم الملائي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) قال ابن عباس: الكحل والخاتم. قال الشيخ عبد القادر السندي: قلت: إسناده ضعيف جداً، بل هو منكر. قال الإمام الذهبي في ترجمة مسلم الملائي الكوفي: متروك الحديث، وقال عنه يحيى: ليس بثقة. وقال البخاري: يتكلمون فيه. وقال النسائي: متروك الحديث. وقال الشيخ السندي: وهذا الإسناد ساقط لا يصلح للمتابعات والشواهد كما لا يخفى على أهل هذا الفن. الطريق الثاني: ما ورد في السنن الكبرى للإمام البيهقي قال: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن أبي عمرو قالا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب حدثنا أحمد بن عبد الجبار حدثنا حفص بن غياث عن عبد الله بن مسلم بن هرمز عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) ما في الكف والوجه. قال الشيخ السندي: إسناده مظلم ضعيف لضعف راويين هما: أحمد بن عبد الجبار العطاردي قال الذهبي: ضعفه غير واحد. وقال أبو حاتم: ليس بالقوي. وقال مطين: كان يكذب. وقال ابنه عبد الرحمن: كتبت عنه وأمسكت عن التحديث عنه لما تكلم الناس فيه. وقال الحافظ في التقريب: ضعيف. والراوي الثاني هو عبد الله بن مسلم بن هرمز المكي، قال الحافظ الذهبي: ضعفه ابن معين. وقال أبو حاتم: ليس بالقوي، وضعفه النسائي. وقال الحافظ في تقريب التهذيب: ضعيف. قال الشيخ السندي: هذان الإسنادان ساء حالهما إلى حد بعيد، لا يحتج بهما ولا يكتبان. أيها الأحباب: ويؤكد صحة ذلك أيضاً ما ذكرناه سابقاً عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال فيما رواه عنه علي بن أبي طلحة قال: أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رءوسهن بالجلابيب ويبدين عيناً واحدة. يقول شيخنا ابن باز حفظه الله: وقد نبه على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من أهل العلم والتحقيق، وهو الحق الذي لا ريب فيه. وقال شيخنا الحبيب محمد بن عثيمين حفظه الله: إن الله تعالى نهى عن إبداء الزينة مطلقاً إلا ما ظهر منها، وهي التي لابد أن تظهر كظاهر الثياب؛ ولذلك قال الله تعالى: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31]، ولم يقل: إلا ما أظهرن منها، ثم نهى تبارك وتعالى مرة أخرى عن إبداء الزينة إلا لمن استثناهم، فدل هذا على أن الزينة الثانية غير الزينة الأولى، فالزينة الأولى: هي الزينة الظاهرة التي تظهر لكل أحد ولا يمكن إخفاؤها، والزينة الثانية: هي الزينة الباطنة التي يتزين بها، ولو كانت هذه الزينة جائزة لكل أحد لم يكن للتعميم في الأولى والاستثناء في الثانية فائدة معلومة. ويقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في قوله: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31]، يقول: توجد في الآية قرينة تدل على عدم صحة قول من قال: هي الوجه والكفان، وهذه القرينة هي أن الزينة في لغة العرب هي ما تتزين به المرأة مما هو خارج عن أصل خلقتها كالحلل والحلي، فتفسير الزينة ببعض بدن المرأة خلاف الظاهر، ولا يجوز الحمل عليه إلا بدليل يجب الرجوع إليه. ثم استشهد على ذلك بأن لفظ الزينة يكثر تكرره في القرآن الكريم مراداً به الزينة الخارجة عن أصل المزين بها، ولا يراد بها بعض أجزاء ذلك الشيء المزين بها، كقول الله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31]، وكقوله تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} [القصص:79]، وكقوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا} [الكهف:7]، وكقوله تعالى: {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} [طه:59] وهكذا وأما الموضع الثاني في هذه الآية الكريمة فهو قول الله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31]، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الخمر التي تغطي الرأس والوجه والعنق، والجلابيب: التي تسدل من فوق الرءوس حتى لا يظهر من لابسها إلا العينان. وقال الحافظ ابن حجر في الفتح في شرح حديث عائشة: يرحم الله نساء المهاجرات الأول لما أنزل الله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31]، شققن مروطهن فاختمرن بها. يقول إمام أهل الحديث الحافظ ابن حجر: فاختمرن بها، أي: غطين وجوههن. يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله: وهذا الحديث صريح في أن احتجاب النساء عن الرجال وسترهن لوجوههن تصديق لكتاب الله وإيمان بتنزيله كما ترى. ثم يقول: فالعجب ممن يدعي من المنتسبين للعلم أنه لم يرد في الكتاب ولا السنة ما يدل على ستر المرأة لوجهها عن الأجانب، مع أن الصحابيات فعلن ذلك ممتثلات أمر الله في كتابه إيماناً بتنزيله، ومعنى هذا ثابت في الصحيح كما تقدم عن البخاري، وهذا من أعظم الأدلة وأصرحها في لزوم الحجاب لجميع نساء المسلمين كما ترى. والموضع الثالث في هذه الآية: قول الله تعالى: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور:31]، يقول الشيخ الجزائري حفظه الله: فإذا حرم الله تعالى بهذه الآية على المرأة أن تضرب الأرض برجلها؛ خشية أن يسمع صوت حليها فيفتن به سامعه، كان تحريم النظر إلى وجهها وهو محط محاسنها أولى وأشد حرمة.

الدليل الرابع: قوله تعالى: (والقواعد من النساء اللاتي)

الدليل الرابع: قوله تعالى: (والقواعد من النساء اللاتي) الدليل الرابع من الأدلة التي استدل بها العلماء الذين يقولون: بوجوب ستر الوجه: قول الله تبارك وتعالى في سورة النور في الآية رقم (60) بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور:60]. أكتفي بتعليق شيخنا ابن باز حفظه الله في: رسالة الحجاب والسفور صفحة رقم (6 - 7 - 8) إذ يقول في هذه الآية: يخبر سبحانه أن القواعد من النساء وهن العجائز اللاتي لا يرجون نكاحاً، لا جناح عليهن أن يضعن ثيابهن عن وجوههن وأيديهن إذا كن غير متبرجات بزينة، فيعلم بذلك أن المتبرجة بالزينة ليس لها أن تضع ثوبها عن وجهها ويديها وغير ذلك من زينتها، وأن عليها جناح في ذلك ولو كانت عجوزاً؛ لأن كل ساقطة لها لاقطة؛ ولأن التبرج يفضي إلى الفتنة بالمتبرجة ولو كانت عجوزاً، فكيف يكون الحال بالشابة والجميلة إذا تبرجت؟ لاشك أن إثمها أعظم، والجناح عليها أشد، والفتنة بها أكبر. وشرط الله سبحانه في حق العجوز ألا تكون ممن يرجون النكاح، -وما زال الكلام لشيخنا ابن باز - وما ذاك والله أعلم إلا لأن رجاءها النكاح يدعوها إلى التجمل والتبرج طمعاً في الأزواج، فنهيت عن وضع ثيابها عن محاسنها صيانة لها ولغيرها من الفتنة، ثم ختم الآية سبحانه بتحريض القواعد على الاستعفاف، وأوضح أنه خير لهن، فظهر بذلك فضل التحجب والتستر بالثياب ولو من العجائز، وأنه خير لهن من وضع الثياب، فوجب أن يكون التحجب والاستعفاف عن إظهار الزينة خيراً للشابات من باب أولى وأبعد لهن عن أسباب الفتنة. وسأكتفي أيها الأحباب! بهذه الأدلة القرآنية على وجوب ستر الوجه رداً على الكاتب الذي تحدى علماء الكرة الأرضية بقاراتها السبع على أن يأتي عالم واحد بدليل واحد على كون النقاب من الإسلام، وإنا لله وإنا إليه راجعون، ولضيق الوقت فقط ما استطعت أن أسرد أقوال أهل العلم في كل دليل كما فعلنا وتعاملنا مع الدليل الأول في آية الإدناء. فيا أيتها الأخت الفاضلة! أختاه يا بنت الإسلام تحشمي لا ترفعي عنك الحجاب فتندمي صوني جمالك إن أردت كرامة فالناس حولك كالذئاب الحوم ما كان ربك جائراً في شرعه فاستمسكي بعراه حتى تسلمي ودعي هراء القائلين سفاهة إن التقدم في السفور الأعجم حلل التبرج إن أردت رخيصة أما العفاف فدونه سفك الدم فتعلمي وتثقفي وتنوري والحق يا أختاه أن تتعلمي لكنني أمسي وأصبح قائلاً أختاه يا بنت الإسلام تحشمي

الأدلة من السنة على وجوب الحجاب

الأدلة من السنة على وجوب الحجاب أما الأدلة من الأحاديث النبوية فكثيرة ولله الحمد والمنة، وسأشير إلى بعضها، ومن أراد المزيد فليرجع إلى كتب أهل العلم التي استشهدت بها آنفاً في خلال هذه المحاضرة:

الدليل الأول: حديث: (لا تنتقب المحرمة ولا تلبس القفازين)

الدليل الأول: حديث: (لا تنتقب المحرمة ولا تلبس القفازين) الحديث الأول: ما رواه البخاري ومالك في الموطأ والترمذي وقال: حسن صحيح، وأبو داود والنسائي وأحمد من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين). يقول الشيخ أبو هشام الأنصاري في: إبراز الحق والصواب في مسألة السفور والحجاب: هذا الحديث أحسن دليل على ما وقع من التغيير والتطور في ألبسة النساء بعد نزول الحجاب، والأمر بإدناء الجلباب وأن النقاب قد صار من ألبسة النساء، وحيث لم يكن يخرجن إلا به، وليس معنى النهي عن الانتقاب للمحرمة أنها لا تستر وجهها، وإنما المراد أنها لا تتخذ النقاب لباساً على حدة من ألبستها، وإنما تستر وجهها بجزء من لباسها. وقال ابن تيمية رحمه الله معلقاً على هذا الحديث: وهذا مما يدل على أن النقاب والقفازين كانا معروفين في النساء اللاتي لم يحرمن، وذلك يقتضي ستر وجوههن وأيديهن.

الدليل الرابع: حديث: (المرأة عورة)

الدليل الرابع: حديث: (المرأة عورة) الدليل الرابع: حديث صحيح رواه الإمام الترمذي وقال: حسن غريب. ورواه الطبراني وصححه الألباني في إرواء الغليل من حديث عبد الله بن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم قال: (المرأة عورة)، ولقد أوضحت ذلك آنفاً مفرقاً بين العورة بالنسبة للصلاة وبالنسبة لنظر الأجانب، وسأكتفي أيها الأحباب! بهذا القدر من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وكم كنت أود أن أفند كل الحجج التي استدل بها من خلال بعض الأحاديث التي ذكرها كحديث الخثعمية والمرأة سفعاء الخدين وغيرهما، ولكن أختم ببعض ما قاله شيخنا الألباني، فعلى الرغم من أنه لم يقل بالوجوب -أي: بوجوب تغطية الوجه- إلا أنه لم يقل بالحرمة ولم يقل بأن النقاب بدعة، بل قرر الشيخ أن ستر الوجه والكفين له أصل في السنة، وأنه كان معهوداً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وساق الأدلة على ذلك حفظه الله. وقال الإمام أبو حامد الغزالي في (الإحياء): لم يزل الرجال على مر الزمان مكشوفي الوجوه، والنساء يخرجن منتقبات. وقال شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر العسقلاني: إن العمل استمر على جواز خروج النساء إلى المساجد والأسواق والأسفار منتقبات لئلا يراهن الرجال. وفي هذا كفاية أيها الأحباب! {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37].

الدليل الثاني: حديث عائشة: (كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات)

الدليل الثاني: حديث عائشة: (كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات) الحديث الثاني: ما رواه أحمد في مسنده وأبو داود وابن ماجة والبيهقي والدارقطني عن عائشة قالت: (كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات فإذا حاذوا بنا أسدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه). وهذا الحديث للأمانة حديث ضعيف، ولكن له شاهد قوي من حديث فاطمة بنت المنذر عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: (كنا نغطي وجوهنا من الرجال وكنا نمتشط قبل ذلك) فهو حديث صحيح صححه ابن خزيمة، وأخرجه مالك والحاكم في المستدرك، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وأقره الذهبي. يقول شيخنا ابن عثيمين حفظه الله: وكشف الوجه في الإحرام واجب على النساء عند الأكثر من أهل العلم، والواجب لا يعارضه إلا ما هو واجب، فلولا وجوب الاحتجاب وتغطية الوجه عند الأجانب ما ساغ ترك الواجب من كشفه في حالة الإحرام.

الدليل الثالث: أحاديث النظر إلى المخطوبة

الدليل الثالث: أحاديث النظر إلى المخطوبة الدليل الثالث: أحاديث النظر إلى المخطوبة، وهي أحاديث صحيحة، كحديث جابر والمغيرة ومحمد بن مسلمة، وأكتفي بقول الشيخ أبي هشام الأنصاري معلقاً عليها: وهذا يدل -أي: معاني هذه الأحاديث- وهذا يدل على أن النظر إلى النساء لم يكن سهلاً، ولو كانت النساء تخرج سافرات الوجوه في ذلك الزمان لم يكن لشرط الاستطاعة في النظر إليهن معنى، وهذا واضح جداً.

عتاب ودعوة

عتاب ودعوة ومن عناصر هذه المحاضرة حتى لا أطيل عليكم أكثر من ذلك: عتاب ودعوة: عتاب إلى صاحب جريدة النور الذي وقف مع أعداء الصحوة الإسلامية في خندق واحد، في الوقت الذي تصب فيه الفتن على رءوس أبناء الصحوة صباً، وتكال لهم الاتهامات كيلاً، وكم كنت أتمنى أن يفي صاحب الجريدة بما قطعه على نفسه من عهد، حيث قال لصديقه الحميم صاحب فتوى التحريم: إننا اعتدنا أن ننشر في جريدة النور الرأي والرأي الآخر، بل كنت أتمنى أن ينشر في الجريدة الردود على كتاب صاحبه كرد الشيخ محمد بن إسماعيل حفظه الله: بل النقاب واجب، أو غيره من الردود. وكم كنا نود أن يفعل صاحب الجريدة مع إخوانه وأخواته ما فعله مع السكرتير الثاني لدولة أفغانستان الشيوعية، فلقد نشرت له جريدة النور مقالة طويلة بطول الصفحة هاجم فيها المجاهدين الأفغان، ودافع عن الحكومة الشيوعية العميلة، ونشرت الجريدة مقالته بمنتهى الأمانة. ما كنا نتوقع ذلك أبداً من صاحب الجريدة، ولكن بالرغم من كل ذلك فإننا على يقين أن الكمال لله وحده، وأن العصمة لنبيه صلى الله عليه وسلم، وأن الخطأ صفة ملازمة للبشر ولا عيب في أن يخطئ الإنسان فهو بشر، ولكن العيب والخطر أن يتمادى الإنسان في خطئه، فهذه ذكرى ودعوى، نسأل الله أن يجعلها خالصة لوجهه، وندعو الكاتب الذي سمعت عنه أنه كان من المحاربين للبدع والمبتدعين، وكان من المدافعين بقوة وصراحة عن السنة المطهرة، وندعو صاحب جريدة النور، وندعو كل من افتتن بهذه الفتوى وهذا الكتاب؛ أن يرجعوا جميعاً إلى الله عز وجل، وأن يتوبوا إلى الله تبارك وتعالى، ورحمة الله وسعت كل شيء، وفي الحديث الذي رواه مسلم وأحمد من حديث أبي موسى الأشعري أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها)، ولكني أود أن أذكر أن من شروط هذه التوبة: البيان والإعلان؛ لقول الله تبارك وتعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:160]. نسأل الله لنا ولكم حسن الخاتمة، وأن يغفر لجميع المسلمين؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.

صبرا أيتها المنقبة الطاهرة

صبراً أيتها المنقبة الطاهرة وأخيراً: أيتها المنقبة الطاهرة! اصبري وصابري واحتسبي، واعلمي أن أشد ساعات الليل سواداً هي الساعة التي يليها ضوء الفجر، وفجر الإسلام قادم، وفجر الحق قادم، ولن تستطيع جميع الأفواه ولو اجتمعت على أن تطفئ نور الله عز وجل، وصدق الله إذ يقول: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:8 - 9]. وفي الحديث الذي رواه أحمد والطبراني وقال: رجاله رجال الصحيح، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، وقال الألباني: بل هو على شرط مسلم من حديث تميم الداري أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر). فليكن ردك أيتها المنتقبة على كل هذه الحملات المسعورة المزيد من التمسك بالحجاب، والصبر على هذه الفتن، والإصرار على السير على طريق الحق والهدى وإن قل السالكون، ولا تغتري بطريق الضلالة وإن كثر الهالكون. بلغت يا ذات الحجاب مناك وحباك ربك عزه ورعاك لبيت صوت الحق دون تلعثم وعصيت صوت الفاجر الأفاك جانبت أخلاق العدو تكرماً وتبعت خلقاً سنه مولاك أختاه إن خسر العدو بجولة سيعاود الأخرى ولن ينساك فتأهبي دوماً وكوني حرة لا يخدعنك كاذب متباك زعموا الدعارة والخنا حرية هتكاً لعرضك فاحذري إياك أختاه! قد تلقين ضيماً أو أذى فثقي بربك واثبتي لعداك فالابتلاء يزيد دينك قوة والمؤمنات صبرن قبل أذاك فلأم عمار وأم عمارة أسمى المواقف من ذوي الإدراك وكذاك أسماء وإن تستخبري عنهن تاريخ العلا أنباك يا بنت فاتح لقنيهم في الصبا تاريخ مجد كان من أسراك شهدت به الدنيا وذل لسيفه كل الملوك وكان فيه علاك أضحى به صرح الشريعة شامخاً وهوت لديه معاقل الإشراك أختاه! إن الدرب صعب مجهد يحتاج زاداًً والتقى بيداك قومي إذا جن الظلام ورتلي آيات ربك ولتجد عيناك فالله حرم أن تمس جهنم عيناً بكت فلتسعدي ببكاك ولتذكري بظلامه قبراً غداً يمسي من الدنيا به مثواك صومي نهارك ما استطعت فإنه يطغي به يوم الحساب ضماك ولتحكم الأخلاق عمرك كله حب النبي وقربه وكفاك أسأل الله جل وعلا أن يوفقنا جميعاً لما يحبه ويرضاه، وأن يجعل قولنا وعملنا خالصاً لوجهه، إنه ولي ذلك ومولاه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

حسن الخلق

حسن الخلق لقد امتدح الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بحسن الخلق، والله سبحانه لا يمتدح إلا من كان أهلاً لذلك، وقد كان صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً مع أمته ورعيته وأهل بيته، فكان صلى الله عليه وسلم حليماً متواضعاً سمحاً كريماً رحيماً، وما أحوج الأمة الإسلامية اليوم إلى التأسي بخلقه صلى الله عليه وسلم والمضي على دربه.

حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم

حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، اللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وصحبه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله -جميعاً- أيها الإخوة الفضلاء الأعزاء! وطبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم -جميعاً- من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم الحليم الكريم جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار مقامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! حسن الخلق يُحَب لذاته، فكيف لو اجتمع مع حسن الخلق حُسنُ الخَلق؟! ذلكم هو المصطفى صلى الله عليه وسلم.

إسلام ثمامة بن أثال وبيان جميل خلقه صلى الله عليه وسلم معه

إسلام ثمامة بن أثال وبيان جميل خلقه صلى الله عليه وسلم معه روى البخاري ومسلم رضوان الله ورحمته عليهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلاً قبل نجد، فجاءت برجل يقال له: ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة، فربط الصحابة ثمامة بن أثال في سارية -أي: في عمود من أعمدة المسجد النبوي- فدخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد فوجد ثمامة مربوطاً في سارية من سواري المسجد فعرفه -لأن ثمامة كان سيداً في قومه- فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: ماذا عندك يا ثمامة؟ قال: عندي خير يا محمد! إن تقتل تقل ذا دم! -يعني: إن قتلتني قتلت رجلاً له مكانته في قبيلته، ولن تفرط قبيلتي في دمي وفي الأخذ بثأري -إن تقتل تقتل ذا دم وإن تُنْعِم تنعم على شاكر- يعني: فإن أطلقتني سأعترف لك بهذا الجميل وسأشكره لك ما حييت- وإن كنت تريد مالاً فسل تعط من المال ما شئت، فتركه صاحب الخلق الكريم صلى الله عليه وسلم، وفي اليوم الثاني دخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد فأقبل على ثمامة فقال له: ماذا عندك يا ثمامة قال: عندي ما قلت لك يا محمد! إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط من المال ما شئت، فتركه صاحب الخلق الكريم صلى الله عليه وسلم، وفي اليوم الثالث دخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد فأقبل على ثمامة فقال: ماذا عندك يا ثمامة قال: عندي ما قلت لك يا محمد! إن تقتل تقتل ذا دم وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط من المال ما شئت، فقال المصطفى: أطلقوا ثمامة أطلقوا ثمامة لا نريد فدية ولا مالاً، بل ولا نلزمه بالإسلام، ولا نكرهه على الإيمان أطلقوا ثمامة فانطلق ثمامة. بعد أن فكوا قيده وانطلق إلى أقرب نخل إلى جوار المسجد النبوي فاغتسل، ثم عاد مرة أخرى إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله). أخي الحبيب! تدبر معي قول ثمامة: يا رسول الله! والله ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فأصبح وجهك الآن أحب الوجوه كلها إلي، والله ما كان على الأرض دين أبغض إلي من دينك، فأصبح دينُك أحبَّ الدين كله إلي، والله ما كان على الأرض بلدٌ أبغض إلي من بلدك فأصبح بلدك أحبَّ البلاد كلها إلي! ثم قال: يا رسول! الله لقد أخذتني خيلك وأنا أريد العمرة، وقد كانوا يعتمرون ويحجون إلى البيت وهم على الكفر والشرك. كان أحدهم يلبي فيقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، فإذا سمع النبي صلى الله عليه وسلم هذا الكلمات يقول: قط قط. يعني: قد اكتفيتم قفوا عند هذا القدر ولا تزيدوا، ثم يزيدون قائلين لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك لبيك، إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك! ولو تدبر أحدهم في الإضافة بتعقل لوجد أن هذا الإله المعبود من دون الله لا يملك لنفسه شيئاً. ولو تدبر أحدهم بتعقل لعلم أن هذه الآلهة لا تضر ولا تنفع، ورحم الله من رأى يوماً على صنمه بولاً فنظر حواليه فوجد ثعلباً يلعب بالقرب من معبوده، فعلم أن الذي فعل هذه الفعلة الشنعاء هو هذا الثعلب، فنظر إلى إلهه والنجاسة تنساح عليه، وتفكر وتدبر في الأمر وقال بعقل راجح راشد: رب يبول الثُعلبان أو الثَعلبان -واللغتان صحيحتان كما قال ابن منظور في لسان العرب- ربٌ يبول الثُعلبان برأسه لقد ذل من بالت عليه الثعالب فلو كان رباً كان يمنع نفسه فلا خير في رب نأته المطالب برئت من الأصنام في الأرض كلها وآمنت بالله الذي هو غالب يقول ثمامة: (لقد أخذتني خيلك يا رسول الله! وأنا أريد العمرة فماذا ترى أن أصنع؟ فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر). قال الحافظ ابن حجر: فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: بالجنة أو بخيري الدنيا والآخرة، أو بمحو سيئاته. يا له من فضل (وأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعتمر، فأقبل ثمامة إلى مكة ملبياً، فكان ثمامة هو أول من جهر بالتلبية في مكة، فأخذته قريش وقالوا: من هذا الذي اجترأ علينا -أي: جهر بالتلبية بين أظهرنا- من هذا الذي يردد الكلمات التي يعلمها محمد -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه؟! فأخذوه وضربوه ضرباً شديداً حتى قال قائلهم: دعوه إنه فلان فأنتم تحتاجون الميرة من اليمامة فجلس ثمامة وهو يقول: والله لا تصل إليكم بعد اليوم حبة حنطة إلا أن يأذن فيها رسول الله) هذا لفظ مسلم والحديث في الصحيحين. وفي رواية ابن إسحاق بسند صحيح: (لما جهر ثمامة بالتلبية وأقبل عليه المشركون فضربوه، وقال أبو سفيان: ألا تعرفون الرجل؟ إنه ثمامة سيد أهل اليمامة، دعوه فأنتم تحتاجون إلى الحنطة -أي: القمح- والميرة من اليمامة، فلما جلس ثمامة قال: والله لا تصل إليكم بعد اليوم حبة حنطة إلا أن يأذن فيها رسول الله). أقول: من أول لحظة دخل فيها ثمامة الإسلام جعل ووضع كل طاقاته ووجاهته ومكانته وقدراته وإمكانياته في خدمة الدين، عرف الإسلام فوضع كل ما يملك من قدرات وطاقات في خدمة دينه الذي اعتنقه، وأنار الله قلبه به، وبالفعل أدى العمرة.

التسليم لأقدار الله

التسليم لأقدار الله وهنا أقف مع جزئية أخرى فريدة ألا وهي: أن أسر ثمامة كان سبب نجاته من النار، وسبب سعادته في الدنيا والآخرة! ولو علم أن أسره سيكون سبباً لسعادته في الدنيا والآخرة؛ لرحب به، فلقد خرج ليؤدي العمرة على الشرك فأبى الله إلا أن يؤدي العمرة على التوحيد، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. إذاً: لابد أن نسلم لكل أقدار الله، ولابد أن تعلم يقيناً أن قدر الله دائماً هو الخير، فقد ينظر أحدنا إلى قدر الله من وجهة نظره، فيراه شراً عليه، لكن الله جل وعلا يقول: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216]. كن عن همومك معرضاً ودع الأمور إلى القضا وانعم بطول سلامة تُسليك عما قد مضى فلربما اتسع المضيقُ وربما ضاق الفضا الله يفعل ما يريد فلا تكن متعرضا قال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام:17].

الولاء والبراء في الله

الولاء والبراء في الله انطلق ثمامة إلى اليمامة فمنع الميرة عن قريش، وقال: (والله لا تصل إليهم حبة حنطة بعد اليوم إلا أن يأذن رسول الله) إنه الولاء لله ورسوله والمؤمنين! إنه البراء المعلن من الشرك والمشركين. فلابد من هذه المفاصلة، ولابد من هذا الفرقان، فإنك إن عشت طوال حياتك حالة الغبش التي يحياها كثير من المسلمين اليوم، فلن تنصر ديناً ولن تنشر سنة. لا تكن مذبذباً بين هؤلاء وهؤلاء، فهناك صنف من الناس الآن كالشاة العائرة بين الغنمين تيعر إلى هذه مرة، وهي لا تسير مع هذه الأغنام، ثم تأتي في المنتصف لتيعر إلى هذه مرة، وهي لا تسير أيضاً مع هذه الأغنام، وهذا شأن النفاق وأهله، فهم مذبذبون لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. ترى أحدهم إن جلس مع عامة المسلمين مع بداية انتخابات مقبلة لمجلس شعب أو لمجلس شورى، إن جلس مع أهل الالتزام والسنة قال: قال الله جل وعلا، وقال النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا والله أحب اللحية وأحب الحجاب، بل وأنا ألزم بناتي بذلك! فإن جلس مع غير هذا الصنف الكريم، وجلس مع العلمانيين المجرمين ممن يعزفون على وتر التحرر والمدنية والبعد عن الرجعية! ومحاربة التزمت والتخلف والرجعية إلى آخر هذه التهم المعلبة! إن جلس معهم قال: أعوذ بالله، عقول جامدة متخلفون متأخرون رجعيون متنطعون أصوليون وصوليون فوضويون! وحاله كما وصف الله فقال: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة:14 - 15]. إن قلت قال الله قال رسوله همزوك همز المنكر المتغالي أو قلت قال الصحابة والأولو تبعٌ لهم في الفضل والأعمال أو قلت قال الشافعي وأحمد وأبو حنيفة والإمام الغالي صدوك عن وحي الإله ودينه واحتالوا على حرام الله بالإحلال يا أمة لعبت بدين نبيها كتلاعب الصبيان في الأوحال حاشى رسول الله يحكم بالهوى والجهل تلك حكومة الضلال {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:204 - 205]. أعلن ثمامة المفاصلة الحاسمة بصدق، فلنقتد به، ولنخرج من حالة الغبش والتذبذب بين الإيمان والنفاق بين أهل الإيمان تارة وأهل النفاق تارة، بين أهل الطاعة تارة وأهل المعصية تارة، بين أهل السنة تارة وأهل البدع تارة، فبهذا لا تصح لك حياة، وبهذه الشاكلة وبهذا الغبش يحيا الآن كثير من الناس! لابد من أن تعلن المفاصلة، ولابد أن تستبين سبيل المجرمين من سبيل المؤمنين، ولابد من إقامة الفرقان الإسلامي الآن؛ لأن كثيراً ممن ينتمون إلى الإسلام، بل من الكتاب والمفكرين والأدباء يغنون للحاكم بالإشتراكية إن كان الحاكمُ إشتراكياً، ويرقصون ويعزفون على الديمقراطية المزعومة إذا كان الحاكم ديمقراطياً، فهم يركبون كل موجة ويعيشون في كل بيئة، ويتلونون بلون كل أرض، فهم يعيشون حالة غبش وتذبذب لا ينبغي لمسلم صادق يحترم نفسه أن يحيا هذه الحياة أبداً. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [الممتحنة:1] نداء لأهل إيمان: {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة:1] وقال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران:118]. وقال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51]. أتحب أعداء الحبيب وتدعي حباً له؟! إن حبيب حبيبي حبيبي، وعدو حبيبي عدوي، هذا هو الولاء، وهذه قاعدة الولاء والبراء: حبيب حبيبي حبيبي وعدو حبيبي عدوي، من أحب الله ورسوله فهو حبيبي في أي أرض وتحت أي سماء، ومن عادى الله ورسوله فهو عدوي فوق أي أرض وتحت أي سماء!! أتحب أعداءَ الحبيب وتَدَّعي حباً له ما ذاك في الإمكان وكذا تعادي جاهداً أحبابه أين المحبة يا أخا الشيطان إن المحبة أن توافق من تحب على محبته بلا نقصان فإن ادعيت له المحبة مع خلافك ما يحبُ فأنت ذو بهتان وقال آخر: لو صدقت الله فيما زعمته لعاديت من بالله ويحك يكفر وواليت أهلَ الحقِ سراً وجهرة ولما تعاديهم وللكفر تنصر فما كل من قد قال ما قلت مسلمٌ ولكن بأشراطِ هُنالك تُذكر مباينة الكفار في كل موطن بذا جاءنا النص الصحيح المقرر وتصدع بالتوحيد بين ظهورهم وتدعوهم سراً لذاك وتجهر هذا هو الدين الحنيفي والهدى وملة إبراهيم لو كنت تشعر {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:68]. فنحن أولى الناس بإبراهيم عليه السلام. أعلن ثمامة الفرقان، أعلن ثمامة المفاصلة: (والله لا تصل إليكم حبة حنطة إلا أن يأذن فيها رسول الله)

قصة رأس النفاق مع ولده

قصة رأس النفاق مع ولده روى الطبري بسند حسن: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نادى عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول وقال له المصطفى صلى الله عليه وسلم: يا عبد الله! هل سمعت ما قال أبوك؟! فقال عبد الله: وماذا قال بأبي أنت وأمي يا سول الله؟! فقال المصطفى: قال أبوك: لئن رجعنا المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل -يذكر رأس النفاق أنه سيخرج من المدينة رسول الله، وهو الذي قال قولته الخبيثة: سمن كلبك يأكلك- فقال عبد الله: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! فوالله لأنت الأعز وهو الأذل)! انظروا إلى المفاصلة! وقفوا على الفرقان: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22]. قال عبد الله رضي الله عنه: (بأبي أنت وأمي يا رسول! فوالله لأنت الأعز وهو الأذل! ثم قال: يا رسول الله! والله لقد قدمت يثرب ولا يعلم أحد من أهل يثرب أن هناك من هو أبر بأبيه مني، أما وقد قال ما قال، لتسمعن ما تقر به عينك يا رسول الله! وأخذ عبد الله السيف وانطلق إلى ناصية المدينة، فلما أقبل أبوه وقف له ولده ورفع السيف في وجهه وقال: إلى أين؟! قال: إلى بيتي إلى المدينة، فقال عبد الله: والله لا يأويك ظلها -يعني: المدينة- ولن تبيت الليلة في دارك إلا بإذن من رسول الله؛ لتعلم من الأعز ومن الأذل! إنه الفرقان إنها المفاصلة فصرخ رأس النفاق: يا للخزرج! يا للخزرج! ابني يمنعني داري! وأبى عبد الله أن يأذن لوالده فانطلقت الرسل إلى خير رسل الله في الأرض إلى المصطفى: يا رسول الله! قد حدث كيت وكيت وكذا وكذا، فأرسل صاحب الخُلق الرفيع إلى عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول وقال له: يقول لك رسول الله: ائذن لأبيك، فقال عبد الله: أما وقد جاءك الإذن من رسول الله فلتدخل الآن لتعلم من الأعز ومن الأذل) إنه الفرقان!

أهمية تحقيق الولاء والبراء لا سيما في زماننا

أهمية تحقيق الولاء والبراء لا سيما في زماننا إننا في أمس الحاجة الآن إلى هذا الفرقان، فلا تكن مذبذباً وكن على سنة ولا تحد عن الطريق، ولا تطلق اللحية مرة فإذا وقفت أمام المرآة شعرت أنك تحتاج إلى حلقها بالمرة، لا تجلس في مجالس العلم مرة فإذا تعرضت لفتنة تركت مجالس العلم بالمرة. لا تجلس أمام كتاب الله مرة، ثم تتخلى عن كتاب الله بالمرة، لا ترتدي النقاب، ثم إذا تعرضتي لمحنة تجردتي من ثوب العزة والشرف. أخي! لا تكن مذبذباً، بل كن مستقيماً، كما قال المصطفى: (قل آمنت بالله ثم استقم) وكما قال عمر رضوان الله عليه: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30] قال: ثم استقاموا على دين الله فلم يروغوا روغان الثعالب، فلا تكن كل يوم على حال، إن جلست مع المتبعين فأنت متبع، وإن جلست مع العلمانيين فأنت كذلك. قال ثمامة: (والله لا تصل إليكم بعد اليوم حبة حنطة حتى يأذن رسول الله ومنع الميرة حتى أكلت قريش العلهز، -أي: وبر الإبل مع الدم يضعونه على النار ويشوونه ليأكلوه في وقت المجاعة- فأرسل أبو سفيان إلى صاحب الخلق صلى الله عليه وسلم، يقول له: إنك تصل الرحم ونحن رحمك -مع أنهم على الكفر والشرك- إنك تصل الرحم ونحن رحمك، ولقد منع ثمامة عنا الميرة فاكتب إليه، فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخلي بين قريش وبين الميرة، التي كانت تصل إليهم من اليمامة). أيها الإخوة! أعترف منذ البداية أنني عاجز عن أن استخراج الدروس والعظات والعبر من هذا الحديث الجليل المبارك، لكنني أود أن أقف وقفات متأنية مع هذا الحديث العظيم الغالي؛ لأبين لحضراتكم أن الرفق والحلم والخلق حوّل البغض في قلب ثمامة إلى حب فياض. تدبر معي كلمات ثمامة: (والله ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إليّ من وجهك، فأصبح وجهك الآن أحب الوجوه كلها إليّ). لماذا؟ إنه الرفق إنه الحلم إنه الخلق إنه الأدب، ولقد تعمد المصطفى صلى الله عليه وسلم أن يظل ثمامة مربوطاً في المسجد، وهذا دليل آخر على جواز دخول المشرك إلى المسجد، إن دخل في حاجة أو لغاية بشرط أن لا يدخل للإفساد أو للنجاسة أو لامتهان مقدسات المسلمين. ظل ثمامة في المسجد ثلاثة أيام، وقد تعمد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون ثمامة في داخل المسجد؛ ليسمع القرآن غضاً طرياً بأذنه من فم المصطفى صلى الله عليه وسلم، وليرى الصحابة بين يدي رسول الله كيف يعاملونه؟ وكيف يتأدبون في حضرته؟ وكيف إذا أمرهم ابتدروا أمره؟ وكيف يسمعون له؟ وكيف وكيف؟ رأى ثمامة في هذه الأيام الإسلام يتحول إلى واقع عملي وإلى منهج حياة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فتعلق قلبه بهذا الدين والنبي العظيم صلى الله عليه وسلم. إنه الخلق، والحديث عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم أحوج ما تكون الأمة إليه الآن. الكل ينادي بالعودة إلى خلق النبي صلى الله عليه وسلم، لكن من منا الليلة سيتخلق بخلق النبي؟! كلنا يعلم حلمه كلنا يعرف كرمه كلنا يعرف رقته كلنا يعرف أدبه كلنا يعرف تواضعه كلنا يعرف فضله كلنا يعرف رفقه كلنا يعرف جماله كلنا يعرف حسن خلقه وخلقه لكن من منا سيشهد الليلة أو من الليلة لدين النبي شهادة عملية على أرض الواقع، ليحول شيئاً من خلق النبي صلى الله عليه وسلم في حياته إلى واقع عملي ومنهج حياة؟!

تعظيم الله لرسوله صلى الله عليه وسلم

تعظيم الله لرسوله صلى الله عليه وسلم قال ربنا جل في علاه لسيدنا رسول الله: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، بل وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] قال ابن عباس: فرسول الله رحمة للبار والفاجر، فمن آمن به تمت له الرحمة في الدنيا والآخرة، ومن كفر به أجلت له العقوبة إلى الآخرة مصداقاً لقول الله جل وعلا: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال:33] قال ابن عباس: (والله ما ذرأ الله وما برأ نفساً أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم). وروى مسلم في صحيحه من حديث أنس والحديث في البخاري أيضاً قال: (لما أوتي بالبراق -واللفظ لـ مسلم - للنبي صلى الله عليه وسلم ليركبه ليلة المعراج فانتقض البراق، فقال جبريل للبراق: أبمحمد تفعل هذا؟! فوالله ما ركبك قط رجل هو أفضل عند الله من محمد فارفض البراق عرقاً، وقال المصطفى: فارفض البراق عرقاً)، ما من نبي ولا رسول إلا وله مكانة عند الله، لكن تتجلى مكانة سيد رسل الله في الأرض حينما نقف مع آيات القرآن، فنرى ربنا جل وعلا يخاطب كل الأنبياء والرسل بأسمائهم مجردة إلا المصطفى، فيقول الله: {يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة:35] {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا} [هود:48] (يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات:104 - 105] {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ} [القصص:30] {يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران:55] {قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ} [هود:81] {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ} [مريم:7] {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:12] {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ} [ص:26]. ولما خاطب المصطفى صلى الله عليه وسلم قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب:45 - 46] {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [المائدة:41]. وناداه بصفته: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل:1 - 2] {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:1 - 2].

وجوب الاقتداء العملي بخلق الرسول صلى الله عليه وسلم

وجوب الاقتداء العملي بخلق الرسول صلى الله عليه وسلم هذه مكانة النبي عند الله وهذا قدر النبي صلى الله عليه وسلم عند الرب العلي جل في علاه، فمن منا سيشهد من الليلة عملياً للنبي صلى الله عليه وسلم ودينه؟ ما أيسر التنظير لمن يدعى حب النبي صلى الله عليه وسلم هو بعيد عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم. ما أيسر أن نتكلم كلاماً نظرياً جميلاً! لكن من منا سيتحلى في مظهره بشكل النبي عليه الصلاة والسلام؟! من منا سيتحلى في مخبره بالنبي عليه الصلاة والسلام؟! من منا سيسير على منهج النبي صلى الله عليه وسلم فيمتثل أمره ويجتنب نهيه؟! ومن منا سيتخلق بأخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! أيها الأحبة! ما أحوج الأمة الآن بحكامها وعلمائها ودعاتها ورجالها ونسائها وأطفالها إلى أن ترجع من جديد إلى أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم.

حلمه صلى الله عليه وسلم

حلمه صلى الله عليه وسلم أيها الأحبة! روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أن أعرابياً قام في طائفة المسجد النبوي - يعني: في جانب من جوانب المسجد النبوي- يتبول في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه! فقام الصحابة وقالوا: مه مه! ماذا تصنع أيها الأعرابي الجلف؟! لم تجد مكاناً لتتبول فيه إلا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحب الخلق يقول: لا تزرموه) ووالله لو سكت لكان فعلاً كريماً، ولكان هذا الفعل خلقاً كريماً، لكنه يقول: (لاتزرموه) يعني: دعوه يكمل بوله! والآن ماذا لو تبول طفل من أطفالنا في المسجد؟! ماذا لو دخل سفيه إلى مسجدنا في جميع كبير كهذا الجمع وتبول، أو وقف أمام الشيخ وتبول؟! ماذا لو دخل سفيه الآن فسبني وأنا أتكلم؟! ولكن صاحب الخلق يقول: (لا تزرموه) يعني: لا تقطعوا عليه بوله، وأكمل الأعرابي تبوله تماماً بطمأنينة كاملة وكأنه في خلاء بيت: (ثم نادى عليه رسول الله وقال له: إن المساجد لا تصلح لشيء من هذا، وإنما جُعلت للصلاة ولذكر الله ولقراءة القرآن، يا فلان! ائتني بدلو من الماء، فأفاضوا عليه دلواً من الماء فطهر المكان) وهكذا أنهى الإشكال كله، فانفعل الأعرابي بهذا الحلم وهذا الخلق والرفق، فدخل في الصلاة -والحديث في صحيح البخاري في كتاب الأدب- فدخل الصلاة وقال بصوت مرتفع: (اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً، فقال له صاحب الخلق بخلق: لقد حجرت واسعاً!). يعني: لماذا تضيق ما وسع الله عز وجل وهو القائل سبحانه: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156]؟!

رفقه في تعليم المخطئين صلى الله عليه وسلم

رفقه في تعليم المخطئين صلى الله عليه وسلم وروى مسلم في صحيحه من حديث معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه قال: (دخلت الصلاة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فعطس رجل من القوم فقلت: يرحمك الله. يقول معاوية: فرماني القوم بأبصارهم، -يعني: نظروا إليه- فقلت: وا ثكل أمياه! ما شأنكم تنظرون إلي؟! يقول: فضربوا بأيديهم على أفخاذهم يصمتونني فسكت، فلما قضى النبي صلاته بأبي هو وأمي والله لم أر معلماً قبله ولا بعده أحسن منه، والله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني إنما قال لي: إن الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتهليل وقراءة القرآن). {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].

حكمته صلى الله عليه وسلم

حكمته صلى الله عليه وسلم وأختم هذا الدرس بهذا الحديث الغالي جداً، والحديث في البخاري ومسلم ومسند أحمد وعند أصحاب السنن وغيرهم، من حديث أبي سيعد وعلي وعبد الله بن عمرو وغيرهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قسم الغنائم يوم حنين أعطى المؤلفة قلوبهم وترك الأنصار، ووكل الأنصار إلى إيمانهم بالعزيز الغفار وحبهم للنبي المختار، وأعطى المال للمؤلفة قلوبهم ليتألفهم، وليحببهم في الإسلام، فوجد الأنصار في أنفسهم، وقالوا كلمات شديدة، منها: (غفر الله لرسول الله، غفر الله لرسول الله يعطي قريشاً ولا يعطينا ولا زالت سيوفنا تقطر من دمائهم؟!). وقالوا أيضاً: (والله لقد لقي رسول الله قومه) يعني: من لقي أحبابه نسي أصحابه؟! لما رأى النبي قومه من قريش نسينا فأعطاهم ولم يعطنا، فسمع سعد بن عبادة هذه الكلمات وهو سيد الأنصار فأسرع إلى النبي المختار وأخبره بما قال الأنصار، فقال المصطفى: اجمع لي الأنصار يا سعد فإذا اجتمعوا فأعلمني، فانطلق سعد بن عبادة فجمع الأنصار جميعاً، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! قد جمعت لك الأنصار حيث أمرتني فانطلق النبي صلى الله عليه وسلم. أخي الحبيب! أعرني قلبك وسمعك وانتبه! قام النبي صلى الله عليه وسلم في الأنصار خطيباً، وهو أفصح الخطباء الذي كانت تهتز بين يديه لكلماته أعواد المنابر، فهو أفصح من نطق بالضاد وأصدق الناس لهجة: (قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً في الأنصار فقال: يا معشر الأنصار! ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله بي؟! عالة -أي: فقراء- فأغناكم الله؟! أعداءً فألف الله بين قلوبكم؟! فقالوا: المن لله ولرسوله، المن لله ولرسوله، فقال المصطفى: والله لو شئتم لقلتم فصدقتم: جئتنا طريداً فآويناك عائلاً فواسيناك مخذولاً فنصرناك، فقالوا: المن لله ولرسوله، فقال: يا معشر الأنصار! أوجدتم في أنفسكم في لعاعة -أي: في أمر تافه من أمر الدنيا- أتألف به أقوماً ووكلتكم إلى إيمانكم بالله جل وعلا؟! يا معشر الأنصار! والله لولا الهجرة لكنت رجلاً من الأنصار، ولو سلك الناس شعباً وسلك الأنصار شعباًَ لسلكت شعب الأنصار، فاللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار، فبكى الأنصار جميعاً حتى اخضلت لحاهم، ثم قال: يا معشر الأنصار! أما ترضون أن يرجع الناس إلى رحالهم بالشاة والبعير وترجعون أنتم إلى رحالكم برسول الله؟! فقال الأنصار جميعاً على قلب ولسان رجل واحد: رضينا بالله ورسوله قسماً ومغنماً). أيها الأحبة! إنه الخلق، فوالله ثم والله لو ظللت أتحدث طوال الليل عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم -على رغم جهلي وقلة بضاعتي- ما مللتم. أيها الإخوة! ما أحوج الأمة الآن أن تحول خلق النبي صلى الله عليه وسلم في حياتها إلى منهج حياة إلى واقع يتألق سمواً وعظمة وروعة وجلالاً، ما أيسر أن تحتفل الأمة وتحتفي بالمولد تارة وبالهجرة تارة، وبليلة النصف من شعبان تارة إلى آخره من هذه الاحتفالات والأعياد التي كثرت في أمتنا، أسأل الله أن يكثر أعيادها على السنة. ما أحوج الأمة التي تجيد الكلام والخطابات والاحتفالات والقصائد والأشعار إلى أن تحول خلق النبي المختار إلى واقع عملي ومنهج حياة. أيها الأحبة! لو ظللنا الدهر كله نتغنى بخلق النبي صلى الله عليه وسلم ونحن لم نمتثل أمره ولم نجتنب نهيه ولم نقف عند حده، ولم نذب وندافع عن سنته ولم نحمل هم دعوته، فوالله لن نغير من الواقع شيئاً، فما أحوج الأمة في هذا الشهر الذي تحتفل فيه برسول الله صلى الله عليه وسلم أن تحول خلقه إلى واقع عملي ومنهج حياة. وقبل أن أنهي الحديث أريد أن أشير وأنبه إلى ما حدث في أثناء المحاضرة: أقول: أنا قلت للأخ السائل أثناء المحاضرة: اجلس ولم أجبه لسؤاله، وهذا من السنة، والدليل على ذلك: ما رواه البخاري ومسلم: (أن رجلاً دخل المسجد فرأى النبي صلى الله عليه وسلم يحدث الناس فقال: يا رسول الله! متى الساعة فمضى النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه ولم يجب السائل، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم حديثه قال: أين السائل؟ قال: هأنذا يا رسول الله! قال: إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، فقال السائل -الفقيه-: وكيف إضاعتها يا رسول الله؟! قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)، فمن السنة أن يقول الخطيب أو المتكلم للسائل: اجلس حتى ينهي حديثه، فإن أراد أن يسأل عن السائل فعل وإلا فلا حرج ولا عيب. أسأل الله جل وعلا أن يرد الأمة إلى القرآن والسنة رداً جميلاً، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصل اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الأسئلة

الأسئلة

حكم منع المرأة من زيارة أمها

حكم منع المرأة من زيارة أمها Q أخ ملتزم وزوجته ملتزمة، ولكن ظروفه المادية صعبة، وعنده مشاكل مع أم زوجته، فمنع زوجته من زيارة أمها، فهل هذا يجوز؟ A لا يجوز له أن يمنع زوجته من أن تزور أمها وأن تبر بها، حتى ولو كانت أمها على الشرك، قال الله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15]، لكن يجوز له هو أن يمتنع عن زيارة أم زوجته، يقول: والله أنا لا أريد أن أذهب إلى هناك، ولا حرج عليه لاسيما إذا شعر أن هذا قد يسبب له ضرراً أو فتنة في دينه، لكن ليس من حقه أن يمنع الزوجة، وإن قال: إن بيت أم زوجته فيه معاصي، فأقول: فلتذهب زوجتك للبيت ولتجلس قليلا بنية الصلة ولترجع، فلا ذنب بعد الشرك ولا ذنب بعد الكفر، وقد أمر الله بالصلة مع الشرك والكفر، فلا تمنع امرأة من أن تكون برة واصلة لأمها. أقول: وصّل الزوجة إلى بيت أمها، واتفق معها على موعد محدد لترجع لها، ولكن لا تقطع الرحم. أسأل الله أن يرشدنا وإياكم بهداه.

التوبة الصادقة طريق التخلص من الذنوب

التوبة الصادقة طريق التخلص من الذنوب Q أسأل عن معصية تراودني فترة بعد فترة، فهل هذا نفاق، وما الحل للتخلص منها؟ A إن كانت المعصية تراودك بعد توبة صادقة فجدد توبة أخرى ولو وقعت في المعصية ألف مرة! واعلم بأن الله لا يمل حتى تملوا، قال الله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]. وقال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] وقال المصطفى صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة في حديث ثانٍ لـ عمر سأذكره الآن: أنه صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر الله لهم) واحذر أن تفهم هذا الحديث على أنه حث على المعصية، وإنما يفتح باب الرجاء لكل مذنب، فإن زلت قدمك في بؤرة معصية فعد إلى الله وأنت على يقين بأن الله سيغفر لك، واعلم بأن الله لا يمل حتى تملوا. والمهم أن تقلع عن المعصية وأنت نادم، وأن تدخل في التوبة وأنت صادق، فإن عاودت المعصية فجدد التوبة مرة أخرى وأخرى وأخرى، فجدد لكل معصية توبة وأسأل الله أن يتوب علينا وعليكم. قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ معاذ: (يا معاذ! اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن).

حكم العمل في محلات تبيع أشرطة الغناء

حكم العمل في محلات تبيع أشرطة الغناء Q أعمل في سوبر ماركت، ولكن السوبر ماركت يبيع أشرطة الغناء، فماذا أفعل؟ A اجتهد في نصح صاحب المحل بأن يتخلص من أشرطة الغناء، وذكّره بالله ولو أهديته بعض الأشرطة فقد أحسنت وأجملت، وإن كنت تقدر على عمل آخر لا شبهة فيه فانتقل إليه، وإلا فكن في عملك مع البحث الجاد الصادق حتى ييسر الله لك عملاً آخر. وأسأل الله أن يرزقنا الحلال الطيب.

حكم الهجرة إلى بلاد الكفار

حكم الهجرة إلى بلاد الكفار Q شركة أمريكية تطلب شباباً للهجرة إلى أمريكا، وأنا أبحث عن مخرج من هذا البلد، فهل يجوز لي الهجرة إلى أمريكا؟ A لا تجوز الهجرة إلى بلاد الكفر إلا لضرورة شديدة جداً، وأنا سافرت إلى أمريكا وإلى أوروبا، وأنا أنصح كل شاب يسألني عن السفر إلى هذه البلاد أن يجتهد قدر الإمكان ألا يسافر إلا لضرورة، والضرورة تقدر بقدرها؛ لأنك ستذهب من أجل الدنيا فسترجع بلا دين في الغالب، ولا أحكم على الجميع، ولكن هذا هو الغالب، فهذه البلاد لاسيما إذا سافر الشاب بدون زواج وبدون عقيدة صلبة صحيحة فيخشى عليه الفتن، فالفتن هناك مشتعلة تموج كموج البحر، ووالله لولا الدعوة ما سافرنا إلى تلك البلاد، ولولا أن نخشى أن نأثم ما سافرنا إليها فتن شديدة جداً. كم من شباب سافر إلى أمريكا وإلى أوروبا وإلى إسرائيل، فعاد بغير دين. أقول لهذا الشاب: ابحث عن عمل في بلد مسلم، وإن لم يتيسر لك هنا في مصر، ففي أي بلد آخر من بلاد المسلمين، اجتهد والله تبارك وتعالى يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] والضرورة تقدر بقدرها.

الحث على ارتداء النقاب

الحث على ارتداء النقاب Q أنا فتاة أرغب في ارتداء النقاب وهناك معارضة من العائلة، ويقولون لي: إن ارتديت النقاب فلن أتزوج؟ A البسي النقاب وأنا آتي لك بمائة عريس تختارين من تريدين! أقول: أنا أنصح العائلة الفاضلة بأن تحرص على أن ترتدي ابنتها النقاب، ولتعلم العائلة علم اليقين أن الشباب المسلم الملتزم لا يبحث إلا عن المنتقبات، ولا يبحث إلا عن الطاهرات الفاضلات، أما السافرات فلا والله، فممكن أن يلعب عليها أو يكلمها وتجلس معه والعياذ بالله في الحرام، لكن عندما يريد أن يتخذ الخطوة الحقيقة للزواج يقول: أنت لعبتِ معي، فلا آمن أن تلعبي! ويبحث عن الطاهرة العفيفة الشريفة.

الصبر على الأذى في ذات الله

الصبر على الأذى في ذات الله Q والدي يصر عليَّ بأن أقصر لحيتي -خوفاً عليَّ- وقد استنفذت معه جميع طرق الإقناع، ولكنه مازال مصراً عليَّ بأن أقصرها، فما هو توجيهكم؟! A اثبت واصبر فالله يقول: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:90] ولا تتخلى بسهولة. يعني: نحن ما عُمل فينا ما عُمل في بلال وخبيب وعمار وزنيرة وخباب إن كان الوالد يشتمك أو يضربك، أيش المشكلة؟! ولابد من الرجولة ولابد من الثبات، والله العظيم لو وجدك والدك ثابتاً صادقاً لتركك، وأسأل الله أن يثبتنا وإياك.

طريقة العلاج من المس الشيطاني

طريقة العلاج من المس الشيطاني Q أنا فتاة على خلق والحمد لله، وأرتدي الحجاب الشرعي، وأحافظ على الصلاة وعلى مجالس العلم في أحيان كثيرة، لكن يحدث لي شيء غريب وهو أن بي مساً من الجن، علماً بأنني ذهبت إلى كثير ممن يدعون المعرفة بالقرآن فوجدتهم على غير ذلك، وأتمنى أن توضح لي الحل في نقاط محددة لأتبعها وجزاك الله خيراً. A أنصح كل من ابتلي بمس الجن -بمس الشيطان- أو بالسحر أن يحافظ على الرقية الشرعية، وليس بالضرورة أن يذهب إلى المعالجين أو إلى من نصبوا أنفسهم للعلاج. وأيضاً أنصح كل من نصب نفسه للعلاج أن يخشى على نفسه وعلى قلبه، ووالله العظيم إنه فتنة، ولا أود بذلك أن أقول: اتركوا، وإنما أنصح المريض ابتداءً أن يحرص على أن يرقي نفسه بنفسه بعد تحقيق تمام التوكل على الله عز وجل، ولو اجتمع أهل الأرض لرقيه وهو بعيد عن التوكل وعن اليقين فلن ينفعه ذلك على الإطلاق. فلو أن أختاً مصابة بمس من الشيطان وهي لا تصلي فلو قرأ عليها محمد حسان وأبو إسحاق ومصطفى العدوي ومحمد يعقوب وغيرهم فلا فائدة؛ إذ لابد من تحقيق التوحيد، ولابد من أن تحقق الأخت الفاضلة وكل أخت حقيقة التوكل على الله عز وجل. إذاً: لنعلم أولاً أن الشيطان لا سلطان له على المخلصين، فقد يؤذى الإنسان، وقد سحر النبي عليه الصلاة والسلام وهو سيد المخلَصين وسيد الذاكرين ابتلاءً؛ ليبين الله عز وجل لنا بشرية النبي من جانب؛ وليبين الله لنا العلاج لهذا الداء من جانب آخر. فنقول: العلاج بخطوات كالتالي: الأمر الأول: المحافظة على الصلوات، فلابد من المحافظة على الصلوات وترك الجلسة أمام التلفزيون ليلاً ونهاراً. الأمر الثاني: المحافظة على الأذكار: أذكار الصباح والمساء، فهي أمر في غاية الأهمية، وقد يستهين بها كثير من الإخوة والأخوات ولترجع -مثلاً- لكتاب رياض الصالحين، أو القصاصات التي تباع فيها الأذكار: أذكار الصباح والمساء، احفظ أي نوع من أنواع الذكر، وليس بالضرورة أن تحفظ الأذكار كلها، لكن احفظ شيئاً من الأذكار كأذكار الصباح وأذكار المساء، ولابد أن يكون لسانك رطباً بذكر الله عز وجل. الأمر الثالث: المحافظة على الورد اليومي من القرآن. الأمر الرابع: المحافظة على قيام الليل، فصلاة الليل تحفظك بإذن الله، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقربة إلى ربكم، ومكفرة عن السيئات، ومنهاة عن الإثم) فالصلاة بالليل تنهاك عن الآثام، وتحثك البعد عن الآثام، وهي قرب من الرحمن، فهي طاعة يتقرب بها إلى الله. الأمر الخامس: المحافظة على الوضوء، والأعظم من كل هذا: أن تحقق التوكل على الله، وأن تعلم يقيناً أن الضار والنافع هو الله، قال تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:102] فالضار النافع هو الله ولا يقع شيء في الأرض إلا بإذنه وأمره جل وعلا. الأمر السادس: قراءة سورة البقرة، فإن عجز عن قراءة سورة البقرة فعن طريق شريط الكاست، فتقرأ في البيت كل ثلاثة أيام مرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خذوا البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا يستطيعها البطلة)، يعني: السحرة. الأمر السابع: قراءة آية الكرسي، فالذي يقرأها بالليل لا يزال عليه من الله حافظ حتى يصبح، ومن قرأها الصبح لا يزال عليه من الله حافظ حتى يمسي، وقراءة أواخر سورة البقرة: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} [البقرة:285] إلى آخره: (من قرأ آيتين من أواخر سورة البقرة في ليلة كفتاه) أي: من كل هم وغم وجور. الأمر الثامن: أكل سبع تمرات من تمر العالية وهي منطقة في مدينة رسول الله عليه الصلاة والسلام: (من تصبح بسبع تمرات من تمر العالية لا يصيبه في هذا اليوم سم ولا سحر). الأمر الثامن: الصبر. فسيدنا أيوب -على الراجح من أقوال أهل العلم- بقي مريضاً ستة عشر سنة، والابتلاء له ثلاث درجات: الدرجة الأولى: للتمحيص: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2 - 3]. إذاً: المرتبة الأولى من مراتب الابتلاء: التمحيص. المرتبة الثانية من مراتب الابتلاء: التطهير: (ما من مسلم يصيبه أذى حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه) إذاً: الابتلاء مع الصبر طهارة من الذنوب. المرتبة الثالثة من مراتب الابتلاء: رفع الدرجة؛ لأن الله قد ابتلى نبيه المصطفى؛ لرفع الدرجة، قال تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [الفتح:2] والابتلاء للنبي صلى الله عليه وسلم رفع لدرجته. إذاً: الابتلاء إما أن يكون للتطهير، وإما أن يكون للتمحيص، وإما أن يكون لرفع الدرجة، فاصبر فأنت على خير في كل أحوالك، فإذا ابتلي إنسان ورقى نفسه ولم يقدر الله له الشفاء؛ فلا يتعجل ولا ييأس من المداومة والمواظبة على الرقية، بل يجب عليه أن يستمر على ذلك، وأن يصبر، ونسأل الله أن يرفع البلاء عن السائل وعن كل مرضى المسلمين من الرجال والنساء، إنه على كل شيء قدير. وهناك رسالة في الوقاية من الشيطان للشيخ الفاضل مصطفى العدوي فيها ما ذكرت وزيادة، وأسأل الله أن يتقبل منا ومنه ومن جميع إخواننا صالح الأعمال.

دعاء لشاب أسلم حديثا

دعاء لشاب أسلم حديثاً Q يجلس بيننا الآن شاب يبلغ من العمر ثمانية عشر عاماً، كان نصرانياًَ فأسلم بين أيدينا، ويصلي معنا في مسجد بعيد عن المنزل حتى لا يراه أهله، ونحن نطلب من حضرتك الدعاء له. نسأل الله أن يشرح صدره وأن يثبتنا وإياه على الحق، وأن يتقبل منا ومنه صالح الأعمال، وأوصي هذا الأخ بالثبات، فإن الإسلام غال، وأحمد الله الذي شرح صدره للحق، وأسأله سبحانه وتعالى أن يثبتنا وإياه على الحق حتى نلقاه. وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

رحلتي إلى أمريكا

رحلتي إلى أمريكا حري بمن أنعم الله عليه فهداه للإسلام، وجعله من أمة خير الأنام صلى الله عليه وسلم أن يحمد الله على هذه النعمة، وأن يشكره على هذه المنة. وإن من الأسباب التي تدفع المرء لحمد الله على الهداية أن يطوف في أرض الله؛ ليطلع على حال من حرمه الله من نعمة الإسلام، فظل يتخبط في ظلمات الكفر والشرك، وينبغي على كل مسلم ساقته قدماه إلى بلد من بلدان الكفر أن يكون داعية إلى دين الله بقوله وفعله وسمته لعل الله أن يهدي به رجلاً واحداً.

انطباعات حول رحلة أمريكا

انطباعات حول رحلة أمريكا إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة وبلغ الرسالة ونصح الأمة وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة، وزكى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور، طبتم جميعاً وطاب ممشاكم وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجمعني وإياكم في الدنيا دائماً وأبداً على طاعته، وفي الآخرة مع سيد الدعاة وإمام النبيين في جنته ومستقر رحمته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! اسمحوا لي أن يكون لقاؤنا اليومَ بعنوان: (رحلتي إلى أمريكا بين الحقائق والآمال والواجبات). فلقد شرفني اللهُ جل وعلا في الأيام القليلة الماضية بالمشاركةَِ في ثلاثة مؤتمرات إسلامية في أمريكا، أستطيع أن أعطي حضراتكم لمحة سريعة عن هذه المؤتمرات، قبل أن أسجل بين يدي حضراتكم بعض انطباعاتي عن هذه الزيارة: أما المؤتمرُ الأول: فقد عُقد في مدينة (إنديانا بوليس) تحت إشراف جمعية القرآنِ والسنة التي يقوم عليها إخوةٌ فضلاء كرام، يقدمون الإسلام غضاً طرياً صافياً خالصاً من القرآن والسنة بفهم سلف الأمة. يقدمون الإسلام بهذه الصورة المشرقة في بيئة قد أحرقها لفح الهاجرة القاتل، وأرهقها وأضناها طول المشي في التيه والظلام، هذا المؤتمر الذي يقوم عليه هؤلاء الإخوة الفضلاء كان الموضوع الذي طرحه في هذا العام: (العملُ الإسلاميُ المعاصر بين عذاب الاختلاف ورحمة الائتلاف). وشارك فيه مجموعةٌ من العلماء والدعاة وحضر المؤتمر عدةُ مئات من المسلمين والمسلمات. أما المؤتمر الثاني: فكان في مدينة (ديترويت) تحت إشراف رابطة الشباب المسلم العربي، هذه الرابطة المباركة التي بدأت بأفراد قلائل، ويقوم عليها إخوة يعتز بهم كل مسلم، هؤلاء الإخوة الذين رأيت منهم مواصلة الليل بالنهار، وبذل الجهود والطاقات لإنجاح هذا المؤتمر الكبير، هؤلاء الإخوة يتطوعون بعملهم هذا لله جل وعلا، هذا المؤتمر الذي كان موضوعه الذي طرحه في هذا العام بعنوان: (الأمة الإسلامية شروق لا غروب)، وحضر في هذا المؤتمر عدد كبير من أكابر علماء الأمة ودعاتها من مختلف أنحاء العالم الإسلامي، وأصغ لي السمع أيها الحبيب وانتبه! فإن عدد الحضور في هذا المؤتمر في أمريكا بلغ ستة آلاف مسلم ومسلمة، وقد احتلوا أكبر فندق في هذه المدينة، وتحول هذا الفندق بقاعة المؤتمرات إلى تظاهرة إسلامية شماء شامخة تبكي العيونَ فرحاً، وتهز القلوبَ أملاً لدين الله جل وعلا!! وفي أول ليلة من ليالي هذا المؤتمر قام أحد الإخوة بدعوة المسلمين إلى مد يد العون لإخوانهم في البوسنة والهرسك وفي فلسطين وفي كشمير، وكانت العجيبة التي لا أصدقها إلى الآن أن الإخوة جمعوا في هذه الليلة ما يزيد على مائتين وأربعين ألف دولار في نصف ساعة! وفي الليلة التالية جمعوا أكثر من مائة وثمانين ألف دولار! إنه الإسلام! إنه العمل الجاد! ولا يفوتني هنا أن أسجل كلمة حق لله جل وعلا، وهي أنه على الرغم من وجود بعض الملاحظات على هذا المؤتمر إلا أنها تذوب تماماً مع الحسنات الكبيرة الكبيرة، فقد بلغ الإخوة في هذا المؤتمر درجة من التنظيم والتنسيق والترتيب والإبداع يسعد ويعتز بها كل مسلم ومسلمة في أرض الله جل وعلا، لاسيما وقد علمتم أن الحضور قد بلغ في هذا المؤتمر قرابة ستة آلاف مسلم ومسلمة. أما المؤتمر الثالث: فكان في (كندا) في مدينة (توزنتو) تحت إشراف الاتحاد الإسلامي الصومالي، أسمعتم؟! تحت إشراف إخوان لنا من الصوماليين الذين هاجروا من بلادهم هرباً بدينهم من نيران الحروب الأهلية الطاحنة، وذهبوا إلى كندا وتحركوا لدين الله جل وعلا، وتعجبون إذا علمتم أن الطرح الذي طرحه المؤتمر في هذا العام كان بعنوان: (نحو منهج السلف)، أي: نحو منهج أبي بكر وعمر وعثمان وعلي!! على أيدي إخوة صوماليين يتحركون لدين الله جل وعلا في بلد مثل كندا!! وقد شارك في المؤتمر عدد من العلماء والدعاة، وكذا حضره عدة مئات من المسلمين والمسلمات. ثم يسر الله لنا بعض الزيارات لبعض المساجد والمراكز الإسلامية، وكادت سعادتنا وفرحتنا أن تبلغ عنان السماء ونحن نتجول بين أجهزة حديثة وصرح شامخ في ولاية (فرجينيا) في معهد الدراسات الإسلامية والعربية التابع لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، هذا الصرح الشامخ الذي يسعد ويعتز به كل مسلم ومسلمة، أنشئ منذ ثلاث سنوات فقط وافتتح رسمياً منذ عام واحد، وبالرغم من ذلك، لو وقفتم على نشاطات هذا المعهد لعجبتم، ومن أروع ما قدمه هذا المعهد: برنامجاً بالكمبيوتر لتعليم الإسلام باللغة الإنجليزية للمسلمين ولغير المسلمين من الأمريكيين، مع طبع النشرات والدوريات والمجلات وترجمة بعض الكتب، فضلاً عن أنه يدرس للطلاب العرب والأمريكيين ويمنح البكالوريوس مع الماجستير في الدراسات العليا للدراسات الإسلامية. من كان يظن أن هذا العمل للإسلام يكون يوماً ما في أمريكا! أنا لن أتحدث اليوم عن أمريكا، ولا عن الشعب الأمريكي، ولا عن أخلاقه، وإنما أحدثكم اليوم عن الأمل عن البسمة عن السرور عن الفجر الذي بدأ يتدفق ويتحرك كالنسيم في كل بقاع الدنيا، حتى في قلب أمريكا يعمل هذا العمل المنظم لدين الله جل وعلا، وعلمنا ونحن في مؤتمر (ديترويت) أن هناك مؤتمراً آخر يعقد في فرنسا، وما استطعنا أن نلبي الدعوة ونذهب إلى هناك، وحضر المؤتمر في فرنسا ما يزيد على خمسة وثلاثين ألف مسلم ومسلمة! شيء عجيب! ولا أريد أن أطيل عليكم أيها الأحبة! فدعوني أسجل لحضراتكم بعض انطباعاتي عن هذه الرحلة بين الحقائق والآمال والواجبات

نعمة الإيمان والعيش في بلاد الإسلام

نعمة الإيمان والعيش في بلاد الإسلام أولاً: الحقائق: إن أكبر حقيقةٍ أذكر بها نفسي وإياكم أن من قدَّر الله له زيارة تلك البلاد عَلم عِلم اليقين أن أعظم نعمةٍ امتن الله بها علينا -ونحن نغفل عنها- هي نعمةُ الإسلام والإيمان، نعمة التوحيد لله العزيز الحميد، أعظم نعمة وأكبر نعمة امتن الله بها علينا من غير اختيار منا ومن غير فضل منا، ولا بقوة عقولنا، فإن القوم هناك قد ناطحوا السحاب بما أبدعته عقولهم، وعرفوا كل شيء في الكون إلا خالقه جل وعلا! فالفضل لله ابتداءً وانتهاء أن من علي وعليك بالتوحيد والإيمان والإسلام. ومما زادني فخراً وتيها وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن أرسلت أحمد لي نبيا من أنا ومن أنت ليشرفنا الله بعبادته وتوحيده جل وعلا؟! إنه محض فضل الله على العباد ابتداء وانتهاء، {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل:53] {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} [الحجرات:7 - 8] {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17]. ذلك الفضل من الله جل وعلا، فيا منْ منَّ الله عليك بلا إله إلا الله وبنعمة الإسلام وبنور الإيمان! لا تغفل عن هذه النعمة، واسجد لربك شاكراً، واحمد الله مع كل نفس من أنفاس حياتك أن خلقك الله موحداً بغير رغبة منك ولا اختيار، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (كل مولود يولد على الفطرة)، وفي لفظ مسلم: (ما من مولود إلا ويولد على الفطرة فأبواه يهودانه) ينشأ في بيت يهودي يقول: عزير ابن الله! فينشأ يهودياً كافراً بمولاه. (أو ينصرانه) ينشأ في بيت يقول: عيسى ابن الله، أو المسيح ابن الله! فينشأ كافراً بمولاه. (أو يمجسانه) ينشأ في بيت يعبد النار من دون الله فيخر لها ساجداً من دون مولاه! قال: (يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء -أي: مكتملة- ثم قال أبو هريرة: واقرءوا إن شئتم: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:30]). وفي صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (قال الله تعالى: إني خلقت عبادي حنفاء) أي: على الملة الحنيفية السمحة، وعلى فطرة التوحيد، {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف:172 - 173] قال: (إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا) فالفضل لله ابتداء وانتهاء. وإذا منَّ الله عليك -بعد نعمة الإسلام والإيمان- ببيئة تعينك على طاعة الله، وعلى ذكر الله، وتحول بينك وبين معصية الله فهي نعمة أكبر ونعمة أعظم، ولا يعرف قدر بيئة الطاعة التي ذكرتها إلا من ذهب إلى تلك البلاد، فإن البيئة هناك تؤزك إلى المعصية أزاً، وتدفعك إلى معصية الله دفعاً، فلا تقع عينك في أي مكان إلا على معصية، في المطار في القطار في الطائرة في المصنع في الفندق في الشارع في المحل في التلفاز في المجلة في الجريدة، لا تقع عينك -بلا ذرة من المبالغة- إلا على معصية. ففي كل لحظة تنظر وفي كل وقت تمشي لا تقع عينك في تلك البيئة إلا على معصية الله جل وعلا، ولا يعصمك إلا الله، لا يوجد أحدٌ يذكرك بالله، إلا إذا التقيت بأخ من إخوانك يتلهف لرؤياك وتتلهف لرؤيته، كل ما في تلك البيئة يؤزك إلى المعصية أزاً، ومن رأى تلك البيئة عرف فضل بيئة الطاعة التي نعيشها. ووالله إن أطهر وأشرف بيئة على ظهر الأرض تعينك على طاعة الله هي بيئة بلاد الحرمين، أقولها لمرضاة الله جل وعلا، هذه البلاد بلاد الحرمين التي هي جزيرة الإسلام، وفيها مهبط الوحي وأرض الرسالات فيها بيت الله جل وعلا، ومسجد رسوله المصطفى ونبيه المجتبى، فكلما تجاذبت الإنسان أشواك الطريق هرول مسرعاً إلى بيت الله أو إلى مسجد رسول الله شاداً إليه الرحال؛ ليغتسل هناك، وليرفع إلى الله أكف الضراعة، ليرجع وقد شرح الله صدره، وغفر ذنبه، وفرج كربه، إنها بيئة تدفعك إلى الطاعة دفعاً، وتحول بينك وبين المعصية حولا، إلا لمن بحث عن المعصية طائعاً مختاراً غير مضطر، فهذه ما خلا منها زمان ولا مكان، بل لقد كانت على عهد سيد ولد عدنان صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. كيف لا وقد قال الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى كما في صحيح البخاري ومسلم واللفظ لـ مسلم من حديث أبي هريرة: (إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، وهو يأرز بين المسجدين -أي: المسجد الحرام والمسجد النبوي- كما تأرز الحية في جحرها) ومعنى يأرز: أي يتجمع وينضم كما تنضم وتتجمع الحية في جحرها، فالإسلام -بشهادة رسول الله- يأرز وينضم ويتجمع بين المسجد الحرام ومسجد الرسول عليه الصلاة والسلام. بل وفي صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، إلا في التحريش بينهم) أي: يوقع بينهم من الفساد والعداوة والبغضاء، لكن أن يعبده المصلون من دون الله جل وعلا في الجزيرة فلا، فالشيطان ما يئس من أن يعبد في أرض من أرض الله -بشهادة رسول الله- إلا في أرض الجزيرة العربية، وهذه نعمة من الله جل وعلا، وربك يخلق ما يشاء ويختار، وكما أن الله سبحانه قد اختار من الخلق الأنبياء، واختار من الأنبياء الرسل، واختار من الرسل أولي العزم الخمسة، واختار من أولي العزم الخليلين الكريمين إبراهيم ومحمداً، فكذلك اختار الله جل وعلا له أرضاً، فاختار مكة وشرفها على بقاع الأرض كلها، وقد جاء في سنن الترمذي وابن ماجة بسند حسن صحيح أن رسول الله حين خرج مهاجراً قال يخاطب مكة: (والله إنك لخير أرض الله، وإنك لأحب بلاد الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت أبداً)، ويوم أن ترك مكة وذهب إلى المدينة دعا لها وقال -كما في صحيح البخاري من حديث أنس بن مالك -: (اللهم اجعل في المدينة ضعفي ما جعلت بمكة من البركة) واستجاب الله دعاء حبيبه وخليله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. بل وقال كما في صحيح البخاري ومسلم من حديث أنس: (إن على مناقب المدينة ملائكة، لا يدخلها الطاعون، ولا يدخلها الدجال) ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. فمن من الله عليه بالإيمان وببيئة تعينه على طاعة الرحيم الرحمن فليسجد لله شكراً، وليعرف قدر هذه النعمة، وليضرع إلى الله جل وعلا أن يثبته عليها وأن يتوفاه عليها، أسأل الله أن يجعل بلاد الحرمين أمناً أماناً، سخاء، رخاء، وسائر بلاد المسلمين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

المستقبل للإسلام

المستقبل للإسلام ثانياً: الآمال: الآمال كثيرة، ولله الحمد والمنة، وكُلها تنادي بصوت مرتفع وتقول: إن الإسلامَ قادم، كقدوم الليل والنهار. فإن عرف التاريخ أوساً وخزرجاً فلله أوس قادمون وخزرج وإن كنوز الغيب تخفي طلائعاً مصابرة رغم المكائد تخرج أيها الأحبة! إن أمة الإسلام مرضت وطال مرضها، ونامت وطال رقادها، ولكنها بحمد الله لم تمت. وإن الذي يفصل في الأمر في نهاية المطاف ليس هو كثرة الباطل، ولا قوة الحديد والنار، ولكن الذي يفصل في الأمر في نهاية المطاف هو قوة الحق. ولا شك أننا نملك الحق الذي من أجله خلقت السموات والأرض، والجنة والنار، ومن أجله أنزلت الكتب، وأرسلت الرسل. معنا رصيد الفطرة فطرةُ الكون وفطرة الإنسان وقبل كل ذلك وبعد كل ذلك معنا الله، ويا لها والله من معية عظيمة جليلة مباركة، قال تعالى: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21] وقال: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173] وقال سبحانه: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:8 - 9]. وقال جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36] وقال سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور:55] بشرط: {يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55] إنه وعد الله الذي لا يتخلف، وسنة الله التي لا تتغير. ومن أروع ما قرأت -وأنا أعد هذا اللقاء- قول المفكر الكبير ماكنيل: (إن الحضارة الغربية في طورها الأخير من أطوار حياتها). ومن سافر إلى تلك البلاد عرف هذه الحقيقة التي بدأت تنادي ويصرخ من أجلها المفكرون هناك: إن الحضارة الغربية في طورها الأخير من أطوار حياتها. نعم أيها الأحبة! لا ننكر أن الحضارة الغربية قد قدمت تقنية علمية رائعة مذهلة، انطلقت بعيداً بعيداً في أجواء الفضاء، وغاصت بعيداً بعيداً في أعماق البحار والأنهار والمحيطات، وفجرت الذرة، بل وحولت العالم كله إلى قرية صغيرة عن طريق هذا التقدم العلمي المذهل، والتقنية الحديثة في عالم الاتصالات والمواصلات. ولكنها بالرغم من ذلك فشلت في أن تمنح الإنسان طمأنينة النفس، وسعادة القلب، وراحة البال، واستقرار الضمير، وهدوء الأعصاب، ومن أراد أن يتحقق من ذلك فليراجع أي إحصائية تقع عليها عينه؛ ليتعرف على هذه الحقائق التي ذكرتها. والسبب في ذلك: أن الحضارة تتعامل مع شق واحد من هذا الإنسان، ألا وهو البدن، فأعطت هذه الحضارة البدن كل ما يريد، وكل ما يشتهي، وكل ما يرغب، وبقي الشق الآخر وهو الروح، وهذه الأمور لا تتعامل مع الروح؛ لأن الروح لا تقاس بالكيلومترات ولا توزن بالجرام، ولا تخضع للترمومتر الميتافيزيقي مثلاً، ولا تخضع ولا تتجسد في بوتقة اختبار في مصنع أو معمل كيمياء أو فيزياء كلا، بل إنه لا يشبع الروح ولا يغذيها ولا يسعدها ولا يفرحها، إلا منهج خالقها جل وعلا، هذه حقيقة بدأ يصرخ بها الآن المفكرون في هذه الحضارات الغربية وينادون بها، ومن أعجب ما قرأت في هذا ما قاله المفكر الشهير اكسنجل، حيث يقول في كتابه القيم سقوط الحضارة: إن للحضارة دورات فلكية، فهي تغرب هنا لتشرق هناك، وإن حضارة جديدة أوشكت على الشروق في أروع صورة، هي حضارة الإسلام، فهو وحده الذي يملك أقوى قوة روحانية عالمية نقية، إنه دين الفطرة، دين الله الذي خلق هذا الإنسان ويعلم ما يفسده وما يصلحه، {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] وبدأت البشارات تتوالى، ومن هذه البشارات أنه في الأسبوعين الماضيين حدث في أمريكا حدث لأول مرة في تاريخ أمريكا، فلقد احتفل البنتاغون -وزارة الدفاع الأمريكية- بتنصيب أول إمام للمسلمين في الجيش الأمريكي، وهذا حدث فريد من نوعه، وقد تلقفت هذا الخبر وكالات الأنباء والإذاعات والمجلات في أمريكا، وركزت عليه تركيزاً شديداً، إنه حدث فريد في تاريخ أمريكا كله أن ينصب رجل مسلم في مثل هذا المنصب، واسم هذا الرجل عبد الرشيد محمد وقد نصب إماماً للمسلمين في الجيش الأمريكي والذين يزيد عددهم عن ستة آلاف مسلم، وسمح لهم رسمياً بإقامة الصلوات في أوقات الدوام الرسمي. خذ المزيد: وصل عدد المسلمين في أمريكا إلى ما يزيد عن ستة ملايين مسلم! خذ المزيد: بلغ عدد المساجد في أمريكا ما يقرب من ألف مسجد يرفع التكبير لله العلي الكبي! ألف مسجد يؤذن ويصلي فيه المسلمون الصلوات الخمس لله جل وعلا! خذ المزيد: مؤسسة كبيرة تسمى بمؤسسة الأخت كليرا محمد هذه الأخت الفاضلة المليونيرة المسلمة الأمريكية سخرت مالها لدين الله، وأنشأت خمسين مدرسة إسلامية، والعام الماضي انتهت من إنشاء كلية في ولاية فرجينيا، وهذه الكلية تسمى بكلية المعلمين؛ لتخريج المدرسين الذين يدرسون في هذه المدارس الإسلامية. خذ المزيد: في الشهر الماضي، بل في الأيام القليلة الماضية افتتح في أمريكا أول برنامج إذاعي ليبث للمسلمين والأمريكيين باللغة الإنجليزية تعاليم دين الرحيم الرحمن في إذاعة تسمى (صوت الحق). خذ المزيد: معهد الدراسات الإسلامية والعربية التابع لجامعة الإمام يمنح (البكالوريوس) و (الماجستير) في الدراسات الإسلامية، ويقدم برامج علمية هادفة مثقفة مركزة باللغة الإنجليزية للمسلمين الأمريكيين ولغير المسلمين، بالإضافة إلى هذه التجمعات والمؤسسات الإسلامية والمؤتمرات والندوات والمجلات والدورات والنشرات والمحاضرات في كل أنحاء أمريكا، بل تعجبون أيها الأحبة! لقد علمت أن في مدينة واحدة -وهي مدينة (ديترويت) - أكثر من سبعين مسجداً، ويزيد عدد الإخوة اليمنيين في هذه المدينة عن مائتي ألف يمني مسلم! كادوا أن يستقلوا بحياتهم ومطاعمهم ومآكلهم ومشاربهم في هذه المدينة، إنه فضل الله جل وعلا، إنه وعد الله الذي لا يتخلف، وسنة الله التي لا تتغير، إن يد الله جل وعلا تعمل ولكننا في غفلة. وأخيراً أيها الأحبة الكرام! يبقى أن نقول: فما واجبنا وما دورنا؟ وهذا نتعرف عليه بعد جلسة الاستراحة، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

واجب المسلم في نشر دين الإسلام

واجب المسلم في نشر دين الإسلام الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: أيها الأحبة! يزيد هذا الأمل ويضاعف هذه البشريات ما نراه من صحوة إسلامية عالمية مباركة، يحلو لي أن أكررها وأن أذكر بها في كل لقاء؛ فإنها أكبر حدث إنساني في النصف الثاني من هذا القرن، هذه الصحوة التي يغذيها كل يوم شباب في ريعان الصبا، وفتيات في عمر الورود، تأتي هذه الكوكبة المباركة والثلة العظيمة الأبية، تأتي بعد بدر والقادسية واليرموك وحطين، تأتي في كهولة من الزمن؛ لتمضي على طريق الدعوة الطويل الضارب في شعاب الزمان من لدن نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، تأتي هذه الكوكبة لتمضي على نفس الطريق مستقيمة الخطى، ثابتة الأقدام، تجتاز الصخور والأشواك والحجارة، فتسيل دماء، وتتمزق هنا وهناك أشلاء، ولكن الركب الكريم في طريقه لا ينحني ولا ينثني ولا يحيد؛ لأنه على ثقة مطلقة بانتصار الحق ومحق الباطل حتى وإن طال الطريق، إنه صبح كريم مبارك: صبح تنفس بالضياء وأشرقا والصحوة الكبرى تهز البيرقا وشبيبة الإسلام هذا فيلق في ساحة الأمجاد يتبع فيلقا وقوافل الإيمان تتخذ المدى دربا وتصنع للمحيط الزورقا ما أمر هذي الصحوة الكبرى سوى وعد من الله الجليل تحققا ولكن أيها الأحبة! ما هو دورنا نحن؟ وما هو واجبنا؟ إنني أخاطبك أيها المسلم! وأخاطبك أيتها المسلمة! في كل مكان من أرض الله يسمع هذا الكلام، أخاطبك وأخاطبك كي نتحرك جميعاً لدين الله، وأن نكون إيجابيين، دعونا من الكسل، ودعونا من الكلام المثبط للهمم، كقول: ماذا أصنع؟! وماذا أفعل؟! وما هو دوري؟! أنت أدرى بدورك، وأنت أعلم بوظيفتك، أنت تستطيع أن تبدع في مجالك لدين الله بدلاً من أن يملي عليك غيرك. فهيا تحرك يا أخي! تحرك أيها الحبيب! لدين الله جل وعلا بكل ما تملك، كفانا كلاماً، نريد أن نحول بعض هذه الكلمات إلى واقع وعمل، تحرك لدين الله على قدر استطاعتك وبكل ما تملك، لقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الحديث الذي رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد وهو حديث صحيح- أنه قال: (إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فاستطاع أن يغرسها، فليغرسها؛ فإن له بذلك أجراً) لا تقل: متى أغرس؟! ومتى تثمر؟! ومن يأكل؟! إن القيامة ستقوم. لا يا أخي! اغرس ولا تهتم بالثمرة، ولا تحرص على أن تكون أنت آكل الثمار، اغرس وليأكل ولدك، وليأكل حفيدك، فهيا اغرس لدين الله جل وعلا وتحرك من الآن لدين الله جل وعلا، وتحركي يا أختاه! من الآن لدين الله جل وعلا. بماذا؟ بالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى! بالتربية تربية صحيحة على كتاب الله وعلى سنة رسول الله بفهم سلف الأمة الصالح، حتى ولو تأخرت نتيجة التربية فإن الله جل وعلا لن يسألنا: لماذا لم تنتصروا؟ ولكنه سيسألنا: لماذا لم تعملوا؟ {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105]. فهيا نتحرك بالدعوة إلى الله جل وعلا، وأقول هنا: حتى لو كانت الدعوة المتخصصة لا يقوم بها إلا أهلها، إلا أنني على يقين جازم بأن كل مسلم ومسلمة بإمكانه الدعوة إلى الله جل وعلا، ونحن لا نريد أن يتحول الناس جميعاً إلى خطباء وإلى محاضرين على المنابر، ويتركوا مجالات الأعمال وحقول الإنتاج كلا، بل إننا نريد من كل مسلم ومسلمة أن يتحول إلى داعية عظيم لدين الله في موطن إنتاجه وموقع عطائه، وإن أعظم خدمة نقدمها اليوم للإسلام أن نشهد للإسلام شهادة عملية واقعية سلوكية؛ لأنه أصبح يحكم على إسلامنا من خلال واقعنا المر الأليم. وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (بلغوا عني ولو آية) حديث صحيح رواه البخاري من حديث عبد الله بن عمرو، فكم تحفظ من الآيات؟! وكم تحفظ من الأحاديث؟! هيا تحرك بما عندك لدين الله جل وعلا. وأقول مكرراً: حتى وإن كانت الدعوة المتخصصة لها رجالها، ولها الدعاة، ولها العلماء، إلا أن الدعوة العامة واجبة عليك أيها المسلم! فيجب عليك أن تدعو إلى الله جل وعلا، إن لم يكن بلسانك العذب الرقيق فبسلوكك بأخلاقك بمالك بشريط بكتاب بهدية بدورة بنشرة براتب تخصصه لدين الله في هذه البيئات وفي هذه البقاع وفي هذه البلاد، فإن المنصرين يغدقون الأموال والعطاءات على هؤلاء الشباب؛ ليحركوهم لباطلهم في كل بقاع الدنيا، ونحن أهل الحق لا نتحرك للحق الذي من الله جل وعلا به علينا! فهيا أيها الحبيب! لنتحرك جميعاً، ولنتشرف بأن نكون من حواريي رسول الله وأصحابه وأنصاره كما في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا وكان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنه تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل). أيها الأحبة الكرام! أسأل الله جل وعلا أن يُقر أعيننا وإياكم جميعاً بنصرة الإسلام وعز المسلمين. اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، وأعل بفضلك كلمة الحق والدين، اللهم احمل المسلمين الحفاة، اللهم اكس المسلمين العراة، اللهم أطعم المسلمين الجياع، اللهم اقبلنا وتقبل منا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه، واجعل تدميره في تدبيره إنك ولي ذلك والقادر عليه يا أرحم الراحمين! اللهم اقبلنا وتقبل منا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه. أحبتي في الله! هذا وما كان من توفيق فمن الله، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه. والحمد لله رب العالمين.

قواعد منهجية لترشيد الصحوة الإسلامية

قواعد منهجية لترشيد الصحوة الإسلامية شاء الله أن يبزغ في الأفق نور مشرق، وأمل متجدد، أضحى حقيقة كبرى لا تنكر، وهو هذه الصحوة الإسلامية المباركة، ولابد لهذه الصحوة من قواعد وأصول تسير عليها؛ لتؤتي ثمارها، وتنتج خيراتها.

انتشار الصحوة الإسلامية

انتشار الصحوة الإسلامية بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة التي طال شوقي إليها، وزكى الله هذه الأنفس التي انصهرنا معها في بوتقة الحب في الله، وشرح الله هذه الصدور التي جمعنا وإياها كتاب الله. أحبائي يا ملء الفؤاد تحية تجوز إليكم كل سد وعائق لقد شدني شوق إليكم مكلل بالحب والتقدير والدعاء المشفق وأرقني في المظلمات عليكم تكالب أعداء سعوا في البوائق أردتم رضا الرحمن سمتاً وقالباً وما أرادوا إلا خطير المآزق فسدد الله على درب الحق خطاكم وجنبكم فيه خفي المزالق مرحباً بأحبابي، مرحباً بإخواني، أسأل الله جل وعلا أن يجمعني وإياكم في الدنيا دائماً وأبداً على طاعته، وفي الآخرة مع سيد الدعاة وإمام النبيين، في جنته ومستقر رحمته، إنه ولي ذلك ومولاه، وهو على كل شيء قدير. أحبتي في الله: لقد شاء الله جل وعلا -وهو الحكيم الخبير- في وقت تجمعت فيه كل جاهليات الأرض مرة أخرى للقضاء على الإسلام واستئصال شأفة المسلمين أن يبزغ في الأفق نور يشرق، وأمل يتجدد، أضحى حقيقة كبيرة لا تنكر، بل وأفزعت هذه الحقيقة المشرقة العالم بأسره، كيف لا وهي أكبر حدث إنساني في النصف الثاني من القرن العشرين، متمثلاً في هذه الصحوة الإسلامية العالمية المباركة؟! فها نحن نرى -بفضل من الله جل وعلا- كوكبة كريمة وثلة مباركة عظيمة من طلائع البعث الإسلامي المرتقب، من شباب في ريعان الصبا، وفتيات في عمر الورود، تلكم الكوكبة الكريمة التي بدأت تتنزل -بفضل من الله جل وعلا وحكمة- في كل بقاع الدنيا، كتنزل حبات الندى على الزهرة الظمأى، والأرض العطشى، أو كنسمات ربيع باردة عطرتها وطيبتها أنفاس الزهور، تلكم الكوكبة الكريمة المباركة من هذا الشباب الكريم الطاهر، ومن هؤلاء الفتيات الطيبات الطاهرات العفيفات الشريفات، تلكم الكوكبة الكريمة التي جاءت من جديد بعد القادسية واليرموك وحطين وبدر وأحد، جاءت لتمضي على طريق الدعوة الطويل، على طريق نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم جميعاً، جاءت لتمضي على ذات الطريق الطويل، جاءت لتنضم إلى ركب الدعاة المبارك، الموغل في القدم، الضارب في شعاب الزمان من لدن نوح عليه السلام. جاءت هذه الكوكبة لتمضي على ذات الطريق، مستقيمة الخطى، ثابتة الأقدام، تجتاز الشوك والصخور والحجارة، تسيل دماء، وتتمزق هنا وهناك أشلاء، ولكن الركب الكريم من هذه الكوكبة الكريمة في طريقه لا ينحني ولا ينثني ولا يحيد؛ لأنه على ثقة مطلقة، وعلى يقين جازم بنهاية الطريق، وعلى ثقة أن قوى الباطل مهما رصدت من قوى الحديد والنار لهذا الدين العظيم، فإن النهاية كما قال الله جل وعلا: {إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128]، فإن النهاية تتألق كالأمل، وتشرق كالفجر، وتتحرك كالنسيم، كما قال الله جل وعلا: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:8]، {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33]. تأتي هذه الكوكبة الكريمة المباركة من جيل الصحوة الإسلامية الكريمة المباركة، الجيل الذي تفتحت عينه على نور الإسلام الجيل الذي انشرحت بصيرته لتقبل الحق الجيل الذي لم يخدع بصره بريق الحضارة الغربية الخاطف للأبصار الجيل الذي لم يؤثر فيه سحر الحضارة الغربية المغير للعقول والأفكار الجيل الذي بدأ يوجه وجهه من جديد إلى مكة المكرمة، زادها الله تشريفاً وتكريماً وتعظيماً، ويولي ظهره لواشنطن وباريس ولندن وبانكوك ومدريد، إنه الجيل الكريم المبارك. يا أحبابي! أبشركم -والله- حيثما توجهتم في كل بقاع الدنيا وجدتم صحوة إسلامية عظيمة كريمة مباركة، وجدتم إقبالاً شديداً على الله جل وعلا، وجدتم نفوساً مشتاقة لدين الله، وجدتم نفوساً متعطشة للإسلام بعد أن أحرقها لفح الهاجرة القاتل، وأضناها وأرهقها طول المشي في التيه والظلام، حيثما توجهتم وجدتم نفوساً راجعة خاشعة خاضعة، ووجدتم شباباً وفتيات، وجدتم عودة صادقة إلى الله جل وعلا، وسمعتم آهات التائبين ونبرات العابدين تردد، ودموع الخشية من الله تبلل خديها، وهي تناجي ربها وتقول: آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون، والله إنه لصبح كريم مبارك، صبح هذه الصحوة الإسلامية المباركة التي بدأت تتنزل بفضل الله جل وعلا في كل بقاع الدنيا.

الصحوة الإسلامية تبشر بخير قادم

الصحوة الإسلامية تبشر بخير قادم أبشركم أيها الأحبة! والله لقد رأينا في مصر في خطب الجمعة وفي المحاضرات ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الشباب والفتيات، وجدنا عودة صادقة إلى الله جل وعلا، ورأينا دموع الخشوع، ودموع الخشية، ودموع الخوف، وسمعنا آهات التائبين، ونبرات العائدين تناجي ربها جل وعلا، وتسأل الله التوبة والأوبة والصفح والعفو والمغفرة، وجدنا نفوساً قد اشتاقت للإسلام، وجدنا نفوساً قد تعطشت للقرآن وسنة الحبيب عليه الصلاة والسلام، والله إنه لصبح كريم مبارك. صبح تنفس بالضياء وأشرقا والصحوة الكبرى تهز البيرقا وشبيبة الإسلام هذا فيلق في ساحة الأمجاد يتبع فيلقا وقوافل الإيمان تتخذ المدى درباً وتصنع للمحيط الزورقا وما أمر هذه الصحوة الكبرى سوى وعد من الله الجليل تحققا هي نخلة طاب الثرى فنما لها جذع قوي في التراب وأعذقا هي في رياض قلوبنا زيتونة في جذعها غصن الكرامة أورقا فجر تدفق من سيحبس نوره أرني يداً سدت علينا المشرقا يا نهر صحوتنا رأيتك صافياً وعلى الضفاف رأيت أزهار التقى فيا جيل صحوتنا أعيذك أن أرى في الصف من بعد الإخاء تمزقا لك في كتاب الله فجر صادق فاتبع هداه ودعك ممن فرقا لك في رسولك قدوة فهو الذي بالصدق والخلق الرفيع تخلقا يا جيل صحوتنا ستبقى شامخاً ولسوف تبقى بالتزامك أسمقا

قواعد وأصول لترشيد الصحوة المباركة

قواعد وأصول لترشيد الصحوة المباركة هذه الصحوة الإسلامية المباركة من أجل أن تكون صحوة قوية بناءة مثمرة راشدة تحتاج إلى منهج يضبطها، ويقوم مسيرتها، ويقود سيرها وخطاها ومسراها، وما لم تكن هذه الصحوة الكريمة منضبطة بهذا المنهج الشرعي، فإنها ستضيع كما يضيع ماء الأمطار بين الوديان والشعاب. واسمحوا لي أيها الأحبة -كابن من أبناء هذه الصحوة الكريمة المباركة- أن أضع اليوم بين أيدي حضراتكم بعض قواعد وأصول هذا المنهج الشرعي؛ لترشيد هذه الصحوة الكريمة المباركة.

العودة إلى الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة

العودة إلى الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة القاعدة الأولى من قواعد ترشيد هذه الصحوة هي: وجوب العودة إلى الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة، والعودة إلى القرآن وإلى السنة ابتداءً ليست نافلة، ولا تطوعاً، ولا اختياراً، لا، بل إنه الإيمان أو لا إيمان، إنه شرط الإسلام وركن الإيمان: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]. العودة إلى القرآن الكريم بائتمار أوامره، واجتناب نواهيه، والوقوف عند حدوده، وأن نحول هذا القرآن في حياة الأمة إلى تشريع، وإلى واقع، وإلى منهج حياة، وإلى مجتمع متحرك به، {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [يوسف:40] إلى كتاب الله جل وعلا وإلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووالله ما ذلت الأمة إلا يوم أن ضيعت كتاب ربها، وسنة الحبيب نبيها صلى الله عليه وسلم، وراحت تلهث وراء الشرق الملحد تارة، ووراء الغرب الكافر تارة أخرى، وبين يديها مصدر عزها، وأصل شرفها وكرامتها، وبقائها ووجودها. فالعودة إلى القرآن بالوقوف عند أوامره، بأن نمتثل أوامره أمراً أمراً ونهياً نهياً، وحداً حداً، بل وكلمة كلمة، وحرفاً حرفاً، وأن نرجع إلى سنة الحبيب الصحيحة صلى الله عليه وسلم. وها نحن نسمع شنشنة قديمة حديثة، ونرى من ينادي بين أبناء الأمة بوجوب العودة إلى القرآن دون السنة، ويقولون بأن السنة فيها الصحيح وفيها الضعيف وفيها الموضوع، فلابد من العودة إلى القرآن فقط وتنحية السنة، وهذه شنشنة قديمة حديثة، فقديماً جلس الصحابي الجليل عمران بن حصين يحدث الناس بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رجل: يا أبا نجيد! حدثنا بالقرآن -أي: لا تحدثنا بالسنة-. فقال الصحابي الجليل رضوان الله عليه: أنت وأصحابك تقرءون القرآن، فحدثني عن الصلاة، وأركانها، وشروطها، وحدودها، هل هناك آية في القرآن الكريم تقول بأن الجمعة ركعتين؟! هل هناك آية في القرآن تقول بأن الظهر أربع ركعات؟! هل هناك آية في القرآن تقول بأن الصبح ركعتين؟! كلا، إن السنة هي التي بينت، وهي التي وضحت؛ لأن السنة مبينة وموضحة ومفسرة للقرآن، ومن أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم ما ورد في الحديث الذي رواه أبو داود، وصحح الحديث شيخنا الألباني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه)، {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:1 - 5]، (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان متكئ على أريكته، يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه) أي: يقول: عليكم بالقرآن فقط دون السنة، وهذا من أعلام نبوته، وقد وقع ما أخبر به رسول الله؛ لأنه لا ينطق عن الهوى، ألا وإن رسول الله قد آتاه الله الكتاب والحكمة، والكتاب هو القرآن، والحكمة هي السنة، (ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه) أي: السنة. فلابد -أيها الأحبة- من العودة إلى القرآن والسنة الصحيحة، ولكن هناك قيد وشرط؛ لأن كل من يعمل الآن على الساحة يقول: إنني أعمل بالقرآن والسنة. وحتى تتآلف القلوب، ويتحد الصف، ويجتمع الشمل، لابد من هذا القيد ومن هذا الشرط، ألا وهو وجوب العودة إلى القرآن والسنة بفهم سلف الأمة الصالح، مَن مِن المسلمين لا يريد أن يفهم القرآن والسنة بفهم أبي بكر رضي الله عنه؟! مَن مِن المسلمين لا يريد فهم عمر؟! مَن مِن المسلمين لا يريد فهم علي؟! أو فهم عثمان؟ أو فهم معاذ؟! أو فهم أبي ذر؟! أو فهم غيرهم من الصحابة الأخيار الأبرار الأطهار؟! ومن تبعهم في القرون الخيرية الثلاثة الأولى، وكما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري ومسلم من حديث معاوية: (لا تزال طائفة من أمتي قائمة على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس)، فإن الطائفة المنصورة قائمة في كل زمان ومكان، لا يخلو منها زمان ولا مكان بنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلابد من أن نعود إلى القرآن والسنة بفهم السلف من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، لابد من العودة إلى هذين النبعين الصافيين بهذا القيد وهذا الشرط، لماذا؟ لأن سلف الأمة هم أفهم الناس للقرآن والسنة، وهم أقعد الناس بالعلم، وهم أقرب الناس للحق، ورضي الله عن ابن مسعود إذ يقول: من كان مستناً فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا أفضل هذه الأمة، أبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، اختارهم الله لصحبة نبيه ولإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم على آثارهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم. هذا هو الطريق يا أبناء الصحوة! هذا هو السبيل أيها المسلمون! هذا هو السبيل لرضوان الله جل وعلا ولمرضاته، ولجنات النعيم في الآخرة. والله لقد حدد النبي صلى الله عليه وسلم هذا الصراط وهذا السبيل تحديداً جلياً واضحاً، كما في الحديث الذي رواه الدارمي في السنن، وأحمد في المسند، والحاكم في المستدرك، وصححه على شرط الشيخين، وأقره الذهبي، إلا أن الحديث ما ارتقى لدرجة الصحة فهو حديث حسن من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً مستقيماً، وقال: هذا سبيل الله، وخط عن يمينه وعن شماله خطوطاً متعرجة، ثم قال الحبيب: وهذه سبل، وعلى رأس كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم تلا النبي قول الله جل وعلا: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153]). بل وحدد النبي أهل هذا السبيل وأهل هذا الصراط، كما في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام الترمذي في السنن، وأحمد في المسند، واللالكائي في السنة، والطبراني في معجمه الكبير وغيرهم، من حديث معاوية وأبي هريرة وأنس وغيرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة)، وفي رواية: (على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار).

اعرف الحق تعرف أهله

اعرف الحق تعرف أهله أيها الأحبة الكرام: أكتفي بقاعدة أخرى ثانية من قواعد ترشيد الصحوة الإسلامية المباركة، وهي من أهم القواعد التي يحتاجها أبناؤنا وأحبابنا وإخواننا من أبناء هذه الصحوة، ألا وهي: اعرف الحق تعرف أهله، فإن الحق لا يعرف بالرجال، ولكن الرجال هم الذين يعرفون بالحق. ومن أروع ما قاله الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى في كتابه القيم الاعتصام: ولقد زل أقوام بسبب الإعراض عن الدليل، والاعتماد على الرجال، وخرجوا بسبب ذلك عن جادة الصحابة والتابعين، واتبعوا أهواءهم بغير علم فضلوا عن سواء السبيل. إننا نريد من أبناء الصحوة تحرراً، لا نريد تعصباً بغيضاً أعمى، لا للجماعات ولا للأفراد ولا للشيوخ ولا للمناهج، بل نريد من شباب الصحوة تعصباً وتمسكاً بالحق وللحق. لماذا؟ لأن التعصب البغيض الأعمى يصم الآذان عن سماع الحق، ويعمي الأبصار عن رؤية الدليل، فإننا لا زلنا نرى من بين أبنائنا وأحبابنا وإخواننا من يتعصب لجماعته، فجماعته هي جماعة المسلمين، وهي وحدها التي على الحق وما عداها من الجماعات فهي على الباطل؛ ولذا فإن كل ما يصدر عن جماعته فهو شرعي، كل ما ينتج عنها من نظريات، ومن أفكار وفتاوى نظرية، أو حتى اجتهادات حركية؛ هو الشرعي، وهو الصواب، وهو الصحيح، ومن ثم فإن شيخه في هذه الجماعة هو الأوسع علماً، وهو الأنصع حجة، وهو الأقوى بياناً، وهو الأعظم دليلاً، حتى ولو لم يكن عند شيخه دليل يقنع، ولا علم يشبع، ومن ثم فهو لا يقبل في شيخه نقداً ولا مراجعة على الإطلاق، وهذا -أيها الأحبة- من التعصب الذي لا يقره الإسلام، ونهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل وحذر منه الله تبارك وتعالى. لماذا؟ لأن نتيجة هذا التعصب ظاهرة لكل أحد، ولا يمكن على الإطلاق أن ندفن رءوسنا في الرمال كالنعام، وأن نبرئ بعض أفراد الصحوة الإسلامية من هذا الداء العضال، ومن هذا المرض الفتاك الخطير، لا ينكر هذا المرض إلا أحد جلس ينظِّر للحركة الإسلامية المعاصرة من برج عاجٍ، أو من مكتب مغلق مكيف. إن هذا الواقع نعيشه ونحياه، وإن هذا التعصب شتت الصف، وزرع بذور العداء، وبذر بذور الخلاف، ولابد من التعالي على هذا التعصب، لابد من التحرر منه والتخلص منه، وذلك لا يكون إلا بتجرد القلوب لله جل وعلا، وبأن ننطلق في أعمالنا ودعوتنا قاصدين وجه الله، لا نريد قومية ولا عصبية ولا راية ولا شارة، ولا ندعو لمصلحة أو مغنم، ولا ندعو لتملق أو هوى، إنما ندعو إلى الله جل وعلا وحده، بفهم سلف الأمة الصالح، والله إن هذه الدعوة تجمع القلوب، وتوحد الصفوف، وتزيل بذور العداء والشقاق والنزاع من بين هذا الصف، وإننا لعلى يقين جازم أن أعداء الإسلام قد فشلوا في الوصول إلى قلب الصحوة الإسلامية من الخارج، ولكنني على يقين أنهم يستطيعون أن يدخلوا إلى قلب الصحوة من داخلها، ببذر بذور العداء والخلاف بين أفرادها؛ امتثالاً عملياً لمقولتهم الخبيثة الخطيرة التي تقول: لابد أن يتسبب في قطع الشجرة أحد أغصانها، فلابد أن نكون على مستوى هذه المؤامرة، ولابد أن نكون على مستوى هذه الأمانة وعلى مستوى هذا الدين؛ بالتحرر من التعصب البغيض الأعمى لأي أحد، بل إننا يجب أن نتعصب للحق جاء على لسان أي أحد، فإن الحق لا يعرف بالرجال، ولكن الرجال هم الذي يعرفون بالحق، ومن نفيس كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أنه يقول: ليس لأحد أن ينصب للأمة شخصاً يدعو إلى طريقته، ويوالي ويعادي من أجله غير النبي صلى الله عليه وسلم، وليس لأحد أن ينصب للأمة كلاماً يدعو إليه ويوالي ويعادي عليه غير كلام الله ورسوله وما اجتمعت عليه الأمة، بل إن هذا من فعل أهل البدع والأهواء الذين ينصبون للأمة شخصاً أو كلاماً يوالون ويعادون عليه، ويفرقون به بين الأمة. ويقول شيخ الإسلام في موضع آخر من مجموع فتاويه المبارك: ومن تعصب لواحد من الأئمة بعينه فهو بمنزلة من تعصب لواحد من الصحابة بعينه، كالرافضي الذي يتعصب لـ علي، وكالخارجي الذي يقدح في عثمان وعلي، فمن تعصب لواحد بعينه من الأئمة ففيه شبه من هؤلاء، وهذه طرق أهل البدع والأهواء. أيها الحبيب! اعرف الحق تعرف أهله، وينبغي أن نتعالى وأن نتجرد في دعوتنا لله جل وعلا، وأن نخلص أعمالنا لله عز وجل، لاسيما إذا علمنا أن أول من تسعر بهم النار يوم القيامة عالم وقارئ للقرآن. لأنه ما ابتغى بعلمه ولا بقرآنه الله جل وعلا، وإنما عمل من أجل الزعامة، أو من أجل الريادة، أو من أجل القيادة، أو من أجل السمعة، أو من أجل الشهرة، أو من أجل أن يقال: إنه داعية وإنه عالم، وإنه قارئ، أو إنه منفق، أو إنه مجاهد وقد قيل، فيأمر الله جل وعلا به فيسحب على وجهه في جهنم والعياذ بالله. وفي الصحيحين من حديث أسامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤتى بالرجل فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه -أي: أمعاؤه- فيدور بها كما يدور الحمار في الرحى، فيجتمع إليه أهل النار ويقولون: يا فلان! مالك؟ ألم تك تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟! فيقول: بلى، كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه). أيها الحبيب! لابد من التجرد والإخلاص لله جل وعلا، أسأل الله أن يجعلني وإياك من المخلصين ومن المتجردين في أقوالهم وأفعالهم لله رب العالمين. أيها الأحبة! ينبغي أن تتحرر الصحوة من هذا الداء ومن هذا المرض، لينتهي هذا الخلاف الذي هو شر كله، ووالله ما ذكر الله الخلاف إلا وحذر الأمة منه، قال الله عز وجل: {وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103] {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105]، قال الله عز وجل: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا} [الأنفال:46] نتيجة حتمية {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46]، وقال الله عز وجل: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هود:118 - 119]، ولقد أخرج الله من رحم من الوقوع في شر وبراثن الخلاف. فيا أيها الحبيب! لابد أن نكون على مستوى هذا الدين، وعلى مستوى هذه الأمانة، وأن نتحرر من هذا التعصب البغيض الأعمى، وأن نتمسك بالحق جاء على لسان أي أحد، فإن الحق لا يعرف بالرجال، ولكن الرجال هم الذين يعرفون بالحق، ولقد ذكر الله أهل الكتاب وشهد لهم بالخيرية التي تمثلوا بها، فقال عز وجل: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} [آل عمران:75].

التورع في الأقوال والأفعال

التورع في الأقوال والأفعال وأخيراً: لابد من أن نتورع في أقوالنا، وأفعالنا، فإنني أرى كثيراً من أحبابنا وإخواننا لا يتورعون أن يحكموا حتى على النيات، وعلى نيات من؟ على نيات بعض العلماء وبعض الدعاة وبعض أهل الخير من المصلحين الصالحين، وهذه مزلة خطيرة أيها الأخيار الكرام! لأن النية لا يعلم بها إلا الله جل وعلا، أما نحن فلا ينبغي أن نتعدى الحكم على الظواهر، أظهروا لنا أحسن أعمالكم، والله أعلم بالسرائر، كما قال فاروق الأمة رضي الله عنه وأرضاه. فينبغي أن نتورع في أقوالنا في الحكم على الناس، لاسيما على العلماء وعلى الدعاة، ونحن نرى حملة شرسة ضارية في الإعلام الغربي وذيوله على الإسلام بصفة عامة، وعلى العلماء والدعاة الصادقين بصفة خاصة، وقد ينجر بعض المسلمين الكرام في ترديد هذه الأقوال وهذه الإشاعات على علماء الأمة ودعاتها دون تورع أو دون خجل أو وجل، والله تبارك وتعالى يقول: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18]، والله جل وعلا يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} [الحجرات:12]، قال جمهور المفسرين: والظن الذي أمر الله عز وجل أن ينتهي المسلمون عنه هو ظن السوء والشر بأهل الخير والصلاح. وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً فيرفعه الله بها في الجنة، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً فيهوي بها في جهنم). وأختم بقولة الحافظ الكبير ابن عساكر رحمه الله تعالى إذ يقول: اعلم يا أخي! وفقني الله وإياك لمرضاته، وجعلني الله وإياك ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته: بأن لحوم العلماء مسمومة، وأن عادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب بلاه الله قبل موته بموت القلب. أسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعل هذه الصحوة صحوة راشدة، صحوة مثمرة، صحوة قوية بناءة، وأن يجعلها سبب خير للإسلام والمسلمين. اللهم قيض لأمة التوحيد أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، أنت ولي ذلك والقادر عليه. اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، وأعل بفضلك كلمتي الحق والدين، اللهم احمل المسلمين الحفاة، واكس المسلمين العراة، وأطعم المسلمين الجياع، اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز المسلمين، اللهم أقم علم الجهاد، واقمع أهل الزيغ وأهل الفساد برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم اقبلنا وتقبل منا وتب علينا وارحمنا إنك أنت التواب الرحيم. اللهم وفق حكام المسلمين إلى ما تحبه وترضاه، وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة يا رب العالمين! اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميره برحمتك يا أرحم الراحمين! أيها الأحبة! أكثروا من الصلاة والسلام على نبينا وحبيبنا محمد كما أمرنا الله جل وعلا بذلك في محكم كتابه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]. اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا وحبيبنا محمد، وعلى آله وصحبه، هذا وما كان من توفيق فمن الله، ومن كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء.

هيا بنا نؤمن ساعة

هيا بنا نؤمن ساعة القلب هو ملك الأعضاء والمهيمن عليها، فإن صلح صلحت سائر الأعضاء، وإن فسد فسدت سائر الأعضاء، ومن أجل ذلك لزم العناية بصحة القلب وصلاحه، ولا يتم ذلك إلا بتجديد التوبة، والإكثار من عمل الطاعات، واجتناب المعاصي والمنكرات فهي لا تزيد القلب إلا قسوة، ولا تزيد الإيمان إلا ضعفاً ورقة؛ لأن الإيمان قول واعتقاد وعمل، يزيد وينقص، ويبلى ويتجدد.

دعوة إلى تجديد الإيمان

دعوة إلى تجديد الإيمان الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وعلى آله أجمعين. أما بعد: فمن المفترض أن يكون حديثنا اليوم عن الأحداث المؤسفة الأخيرة، من اعتداء أمريكي سافر على السودان وأفغانستان، أسأل الله جل وعلا أن يفرج الكرب عن بلاد المسلمين وعن أمة محمد إنه ولي ذلك والقادر عليه، ولكن الإخوة جزاهم الله خيراً أخبروني أن مجموعة كبيرة من الشباب تحضر معنا اليوم لأول مرة، واستحلفوني بالله أن أرقق قلوبهم لعل الله أن يشرح صدورهم للالتزام، على وعد مني إن شاء الله تعالى بأن أعلق على هذه الأحداث المؤلمة في الخطبة التي كنت قد أعددت لها بعنوان: (عالم الغاب والذئاب). وأسأل الله جل وعلا أن ييسر لنا أن نذكر بهذا الموضوع إنه ولي ذلك ومولاه؛ لذا فإن عنوان لقائنا اليوم: (هيا بنا نؤمن ساعة). وكما تعودت -حتى لا ينسحب بساط الوقت سريعاً من تحت أقدامنا- فسوف أركز الحديث اليوم مع شبابنا وأحبابنا في العناصر المحددة التالية: أولاً: جدد إيمانك. ثانياً: قسوة القلوب وقلة الخوف من علام الغيوب. ثالثاً: إلى أين المصير؟! وأخيرًا: متى سنتوب؟ فأعيروني القلوب والأسماع، والله أسأل أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولو الألباب. أولاً: جدد إيمانك. أخي الحبيب! إن الإيمان قول واعتقاد وعمل، قول باللسان وتصديق بالجنان وعمل بالجوارح والأركان، وهو يزيد بالطاعات وينقص بالزلات والعصيان، قال جل وعلا: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4]. إخوتي الكرام! إذا تراكمت سحب المعاصي على القلب حجبت نور الإيمان في القلب كما تحجب السحابة الكثيفة نور القمر عن الأرض، فإذا انقشعت السحب ظهر نور القمر لأهل الأرض مرة أخرى، كذلك إذا انقشعت سحب المعاصي والذنوب عن القلب ظهر نور الإيمان في القلوب. فلابد من تعهد القلب أيها الشباب! لابد من تجديد الإيمان في القلب وتقويته من آن لآخر، وذلك بتعريض القلب لمواد تقوية الإيمان بالله جل وعلا، كقراءة القرآن، وذكر الرحمن، والصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام، والاستغفار، وزيارة المقابر، وزيارة المرضى، والمحافظة على أذكار الصباح والمساء، والإنفاق على الفقراء والمساكين، والإحسان إلى الأرامل واليتامى والمحرومين. هذه هي الأعمال التي تقوي وتجدد الإيمان في القلب؛ فإن القلب -أيها المسلمون- هو ملك الأعضاء، والأعضاء والجوارح هي جنوده ورعاياه، فإن طاب الملك طابت الجنود والرعايا، وإن خبث الملك خبثت الجنود والرعايا، كما في الصحيحين من حديث علي بن أبي طالب أن البشير النذير صلى الله عليه وسلم قال: (ما من القلوب قلب إلا وله سحابة كسحابة القمر)، وقال صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب). فلابد من تعهد الإيمان في القلب، ولابد من تجديد الإيمان في القلب من آن لآخر؛ لأن الإيمان يقوى ويضعف، ويتجدد ويبلى، ووالله الذي لا إله غيره، لا أعلم زماناً قست فيه القلوب وتراكمت فيه الذنوب على الذنوب، وقل الخوف فيه من علام الغيوب كهذا الزمان.

قسوة القلب

قسوة القلب ثانياً: قسوة القلوب وقلة الخوف من علام الغيوب. قال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16]. ألم يأن للقلوب أن تخشع لذكر الله جل وعلا؟! ألم يأنِ لقلوب من وَحّدوا الله وآمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم أن تخضع لعظمة الله تبارك وتعالى، وأن تذعن لأمره، وأن تجتنب نهيه، وأن تقف عند حدوده تبارك وتعالى؟! {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16]

صور من خوف السلف الصالح من الله وإشفاقهم من عذابه

صور من خوف السلف الصالح من الله وإشفاقهم من عذابه والله لو وقفنا مع خوف النبي صلى الله عليه وسلم من ربه وهو أعرف الناس به، وأتقى الناس له، وأخشى الناس منه؛ لرأينا العجب العجاب، ولو وقفنا على حجم الهوة الرهيبة بيننا وبين ما كان عليه نبينا وسلفنا الصالح رضوان الله عليهم، لعرفنا قسوة قلوبنا. فاروق الأمة الأواب عمر الذي أجرى الله الحق على لسانه وقلبه، كان رضوان الله عليه يخاف الله جل وعلا خوفاً مزق قلبه، وهو الذي لما وضع على فراش الموت دخل عليه ابن عباس رضي الله عنهما وقال: أبشر يا أمير المؤمنين! لقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسنت صحبته، ثم توفي رسول الله وهو عنك راض، وصحبت أبا بكر فأحسنت صحبته، ثم توفي أبو بكر وهو عنك راض، ثم حكمت فعدلت، ووالله لئن مت اليوم فإن أصحاب رسول الله عنك لراضون. فالتفت عمر إلى ابن عباس وقال: ذلك ما مَنَّ الله به علي، وإن المغرور والله من غررتموه، فوالله إني لوددت أن أخرج من الدنيا كفافاً لا لي ولا عليّ، والله يا ابن عباس! لو أن لي طلاع الأرض ذهباً لافتديت به اليوم من عذاب الله قبل أن أراه! يا من أسرفت على نفسك بالمعاصي والذنوب! تذكر وتدبر قول عمر: والله لو أن لي طلاع الأرض -أي: ملء الأرض- ذهباً لافتديت به اليوم من عذاب الله قبل أن أراه. وهذا حِبُّ المصطفى وحبيب رسول الله معاذ بن جبل، الذي أقسم له النبي صلى الله عليه وسلم يوماً وقال: (يا معاذ! والله إني لأحبك). ماذا يقول معاذ بن جبل حبيب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! يبتلى معاذ رضي الله عنه بطاعون الشام، وينام على فراش الموت وهو الشاب الذي لم يبلغ الثالثة والثلاثين من عمره، فيقول لأصحابه: هل أصبح الصباح؟ فينظر أصحابه فيقولون: لا بعد، -أي: لم تطلع الشمس بعد- فيقول معاذ مرة أخرى: هل أصبح الصباح؟ فيقول أصحابه: لا بعد. فيقول معاذ: هل أصبح الصباح؟ فيقول أصحابه: لا بعد! فيبكي معاذ بن جبل ويقول: أعوذ بالله من ليلة صباحها إلى النار! وسفيان الثوري إمام الدنيا في الزهد والورع والحديث، ينام على فراش الموت فيدخل عليه حماد بن سلمة، فيقول له: أبشر يا أبا عبد الله إنك مقبل على من كنت ترجوه، وهو أرحم الراحمين، فيبكي سفيان ويقول لـ حماد بن سلمة: أسألك بالله يا حماد، أتظن أن مثلي ينجو من النار؟! وهذا إمام الدنيا الشافعي رحمه الله تعالى، يدخل عليه الإمام المزني وهو على فراش الموت فيقول له: كيف أصبحت يا إمام؟! فيقول الشافعي: أصبحت من الدنيا راحلاً، وللإخوان مفارقاً، ولعملي ملاقياً، ولكأس المنية شارباً، وعلى الله وارداً، ثم بكى وقال: فلا أدري والله يا مزني أتصير روحي إلى الجنة فأهنيها، أم إلى النار فأعزيها؟! وهذا مالك بن دينار وهو من أئمة السلف الأخيار، كان يقوم بالليل يصلي للعزيزِ الغفار ويقبض على لحيته ويبكى ويقول: يا رب! يا رب! لقد علمت ساكن الجنة وساكن النار؛ ففي أي الدارين منزل مالك بن دينار؟! هل فكرت في المصير يا عبد الله؟! هل فكرت في مصيرك: أتصير إلى الجنة أم إلى النار؟!

معرفة الله سبب لخشيته والانكسار بين يديه

معرفة الله سبب لخشيته والانكسار بين يديه أيها الأحباب! إن الذي يعرف الله ويخشى عذابه ويستحيي منه -حتى ولو زلت قدمه في المعصية، فارتكب كبيرة من الكبائر في حال ضعف بشري منه، أو وقع في صغيرة من الصغائر، أو بارز الله بمعصية من المعاصي- سرعان ما يجدد التوبة والأوبة والندم، وسرعان ما يطرح قلبه بين يدي الله بذل وانكسار، وهو يعترف لله بفقره وعجزه وضعفه. فعلى قدر علمك بالله يكون حياؤك وخوفك منه، يقول المصطفى: (أنا أعلمكم بالله، وأشدكم له خشية)، لذا (كان الحبيب صلى الله عليه وسلم يصلي ولصدره أزيز كأزيز المِرجل من البكاء)، وهو الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. بل وفي الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه قال: (بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحابه شيء، فخطب فقال: عرضت علي الجنة والنار -خطبة ما سمعت مثلها قط- إلى أن قال: (والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا). يقول أنس: (فغطى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وجوههم ولهم خنين) أي: ولهم بكاء بصوت مكتوم. عندما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً)، تأثر أصحاب القلوب الرقيقة من أصحاب المصطفى صلى الله عليه وسلم بمثل هذه الكلمات على الرغم من قلتها. بل وورد في مسند أحمد وسنن الترمذي بسند صحيح بالشواهد من حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوماً: (كيف أنعم وقد التقم صاحب القرن -أي: صاحب الصور وهو إسرافيل- القرن، وأصغى سمعه وحنى جبهته، ينتظر متى يؤمر أن ينفخ؟ فشق ذلك على أصحاب البشير النذير صلى الله عليه وسلم، فقالوا للمصطفى: فماذا نقول يا رسول الله؟! فقال لهم: قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل).

قسوة القلب سبب لقلة الخوف من الله

قسوة القلب سبب لقلة الخوف من الله إخوتي الكرام! والله الذي لا إله غيره إن قلة الخوف من الله جل وعلا في هذا الزمان ثمرةٌ مرةٌ لقسوة القلب وظلمته ووحشته، فنرى منا الآن من يسمع القرآن يتلى ولا تدمع عينه، ولا يتحرك قلبه، ولا تلين جوارحه، ولا يخشع جلده!!! لماذا؟ لأن القلوب قست، ولأن القلوب في وحشة، ولأن القلوب في ظُلمة، فقلة الخوف من الله ثمرة مرة لقسوة القلب وظلمة القلب ووحشة القلب. كما أن الخوف من الله جل وعلا ثمرة حلوة للإيمان بالله تبارك وتعالى، فلا يتصور أبداً -أيها الأخيار الكرام- أن ينفك مؤمن عن خوف من الله جل وعلا، فعلى قدر إيمانك بالله، وعلى قدر حبك لله، وعلى قدر علمك بالله، وعلى قدر معرفتك بالله جل وعلا يكون حياؤك وخوفك، ومراقبتك لله تبارك وتعالى، فلو وقف كل واحد منا على هذه المعادلة ونظر في نفسه: هل يحمل في صدره قلبًا رقيقًا أم يحمل في صدره قلبًا قاسيًا وهو لا يدري؟!! إن كنت عارفاً عالماً بالله؛ اشتد خوفك وحياؤك من الله جل وعلا، فعلى قدر العلم بالله يكون الخوف وتكون الخشية، قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28].

قلة العلم بالله وضعف التوحيد سبب لقسوة القلب

قلة العلم بالله وضعف التوحيد سبب لقسوة القلب البعض لا يتأثر بالقرآن، ولا يتأثر بكلام النبي عليه الصلاة والسلام، ولا يتأثر بالموعظة ولو كانت مؤثرة، بل ولا يتأثر بعبرة على أرض الواقع مؤلمة، كأن يهلك الله طاغوتاً من الطواغيت، أو كأن يأخذ الله فرعوناً من الفراعنة، أو كأن يرى الإنسان حادثاً مؤلماً بين يديه على الطريق، فيرى إنساناً مزقت أشلاؤه أو تناثرت دماؤه، ومع ذلك قد ينظر بعين جامدة وبقلب قاسٍ إلى كل هذه العظات والعبر. وقد تسمع أذنه الموعظة فلا يتحرك قلبه، ولا يخشع جلده ولا تلين جارحته! لماذا؟ لأنه لا يتأثر بكل هذا -أيها الأحبة- إلا من وحد الله جل وعلا وخاف الله سبحانه، وعمل حساباً لعمل الآخرة، قال جل وعلا: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} [هود:102 - 103]؛ من الذي يعتبر بها؟ من الذي يتعظ ويتأثر بها؟ تدبر كلام الله جل وعلا: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:103 - 108]، فعلى قدر علمك بالله يكون الحياء والخوف منه، فقف على حسب معرفتك وعلمك بالله! يا من تتجرأ على معصية الله جل وعلا! يا من ترخي الستور، وتغلق الأبواب، وتبارز الله جل وعلا بالمعصية، وأنت تظن -يا مسكين- أنه لا يسمعك ولا يراك! كن اليوم على يقين أنك لا تعرف الله جل وعلا؛ لأنه على قدر علمك بالله يكون حياؤك منه، وعلى قدر معرفتك بالله يكون خوفك منه، كما قال أعرف الناس بربه صلى الله عليه وسلم: (أنا أعلمكم بالله، وأنا أشدكم له خشية)

أين المصير

أين المصير ثالثاً: أين المصير؟ والله إنه لسؤال يحتاج أن يطرحه كل واحد منا على نفسه في الليل والنهار. مع كل معصية قل لنفسك: إلى أين المصير؟ مع كل كبيرة قل لنفسك: إلى أين المصير؟ يا من بارزت الله بالزنا قل لنفسك: إلى أين المصير؟! يا من خنتِ زوجكِ الذي سافر ليأتيكِ أنت وأولادك بالطعام الحلال! سلي نفسك يا مسكينة وقولي: إلى أين المصير؟ يا من تلاعبت ببنات المسلمين وبارزت الله بالمعاصي! سل نفسك يا مسكين وقل: إلى أين المصير؟

بيان حال أهل الجنة

بيان حال أهل الجنة أما الجنة، فلا يعلم ما أعد فيها من كرامة للمؤمنين إلا العزيز الغفار، ففيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة؛ لا يبولون، ولا يتغوطون، ولا يتفلون، ولا يمتخطون، أمشاطهم الذهب، وريحهم المسك، ومجامرهم الألوة، وأزواجهم الحور العين). ويكفي أن تقف مع أدنى -أي: أقل- أهل الجنة منزلة؛ لتعلم قدر أعلى أهل الجنة منزلة، ففي صحيح مسلم من حديث المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سأل موسى ربه جل وعلا فقال: يا رب! ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ فقال الله تعالى: أدنى أهل الجنة منزلة رجل يجيء وقد دخل أهل الجنة الجنة فيقول الله عز وجل له: ادخل الجنة، فيقول: يا رب! كيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم؟! -يخيل إليه أن الجنة ملأى، حتى لا يرى لنفسه مكاناً في الجنة- فيقول الله جل وعلا له: أترضى أن يكون لك مثل مُلْك مَلِكٍ من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت يا رب! فيقول الله جل وعلا: لك ذلك ومثله ومثله ومثله ومثله، فيقول العبد في الخامسة: رضيت يا رب! رضيت يا رب! فيقول الرب سبحانه: لك ذلك وعشرة أمثاله معه. قال موسى: يا رب! هذا أدنى أهل الجنة منزلة، فما أعلاهم منزلة؟ قال الله: أولئك الذي أردت، غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها، فلم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر). وإن أعلى نعيم في الجنة -أيها المسلمون- هو النظر إلى وجه الله جل وعلا: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]. ففي صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أهل الجنة الجنة قال الله تعالى: يا أهل الجنة! فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، والخير كله في يديك! فيقول الله سبحانه: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أدخلتنا الجنة، ونجيتنا من النار، وبيضت وجوهنا يوم تسود الوجوه؟! فيقول الله تعالى: أفلا أعطيكم أفضل من ذلكم؟ فيقول أهل الجنة: وأي شيء أفضل من ذلك؟! فيقول: أحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبدًا). وفى رواية أبي سعيد: (فيكشف الحجاب؛ فما أعطوا شيئًا أحب إليهم من النظر إلى وجه الله جل وعلا) قال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى} [يونس:26] وهي الجنة، (وزيادة) وهي التمتع بالنظر إلى وجه الله جل وعلا في الجنة، اللهم متعنا بالنظر إلى وجهك الكريم، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

قصة محزنة لمن ينتهكون محارم الله

قصة محزنة لمن ينتهكون محارم الله والله لقد قرأت ومن أعجب ما قرأت: أن ثلاثة من الشبان في المملكة كانوا يتفننون في تصيد بنات المسلمين، وفي ليلة من الليالي اصطاد كل ذئب من هؤلاء الذئاب فتاة مسلمة، وانطلق الشباب بثلاث فتيات إلى الصحراء؛ ليفجر كل شاب بالبنت التي معه، ولما وصلوا إلى هنالك يقول أحدهم: كان بين أيدينا الشراب الملعون -أي: الخمر- وكان بين أيدينا كل ما نشتهيه، ولكننا نسينا أن نأتي بالطعام فشعرنا بالجوع، فأرسلنا أحدنا ليأتي لنا بالطعام من أقرب مكان؛ حتى نقضي ليلة حمراء ساهرة. يقول: وذهب هذا الشاب وطالت غيبته، فانتظرناه ساعة فلم يأت، وانتظرنا الثانية فلم يأت، وكاد الصبح أن يشرق علينا، يقول: فانطلقت بسيارتي؛ لأبحث عن زميلي، وعلى جانب الطريق رأيت ناراً مشتعلة متأججة فاقتربت من السيارة فعلمت أنها سيارة صاحبنا، ونظرت في داخلها فوجدت النار قد وصلت إلى صاحبي وقد أحرقت نصفه تماماً، وهو يصرخ ويقول قولة واحدة: ماذا أقول له؟! ماذا أقول له؟! ماذا أقول له؟! يقول: فعجزت أن أخرج صاحبي من السيارة، ولكن شغلني كلامه، وشغلني سؤاله الذي ما زال يردده: ماذا أقول له؟! فقلت له: من تقصد؟! ومن الذي تريد؟! فقال: الله. ماذا أقول لربي غداً؟! ماذا أقول وأنا الذي ألقاه وأنا زان؟! ماذا أقول لربي غدا وأنا ألقاه وَعَلَيَّ جنابة الزنا؟! ماذا تقول لربك أيها الزاني؟! وماذا تقولين لربك أيتها الزانية؟! ماذا تقول لربك أيها الظالم؟! وماذا تقولين لربك أيتها الظالمة؟! ماذا تقول لربك أيها الشاب؟! يا من انحرفت عن طريق الله، وعن هدي الحبيب رسول الله، ماذا تقول لربك غداً؟ فارتجف هذا الشاب وعاد إلى رفاقه وهو يبكي ويرتعد ولا ينطق إلا بهذه الكلمة: وأنا ماذا أقول له غداً؟! ماذا أقول له غداً؟! فيا من أسرفت على نفسك بالمعاصي! ماذا تقول له غدا؟! مثل وقوفك يوم العرض عريانا مستوحشاً قلق الأحشاء حيرانا والنار تلهب من غيض ومن حنق على العصاة ورب العرش غضبانا اقرأ كتابك يا عبدي على مهل فهل ترى فيه حرفاً غير ما كانا لما قرأت ولم تنكر قراءته إقرار من عرف الأشياء عرفانا نادى الجليل خذوه يا ملائكتي وامضوا بعبد عصى للنار عطشانا المشركون غداً في النار يلتهبوا والمؤمنون بدار الخلد سكانا ماذا تقول لربك غداً إن وقفت بين يديه عارياً؟! أين المنصب؟ ضاع. أين الجاه؟ زال. أين الأموال؟ تبددت. ماذا تقول لربك غدا؟ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8]، فماذا تقول لربك غداً أيها المسكين؟ إلى أين المصير؟ وجه لنفسك اليوم هذا Q هل أنت ممن عمل الطاعة وتنتظر الجنة من الله جل وعلا، أم أنك مسرف على نفسك بالمعصية، ومع ذلك تتمنى على الله الأماني وترجو الجنة؟ ما أقل حياء من طمع في جنة الله وهو لم يعمل بطاعة الله سبحانه!!

بيان حال أهل النار

بيان حال أهل النار من يقوى منا على أن يقتحم حريقاً هائلاً شب في بيت من البيوت؟! من منا يقوى على نار الدنيا؟! وقد جاء في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ناركم هذه التي توقدون جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم، قالوا: يا رسول الله! والله إن كانت لكافية! فقال: فضلت عليهن بتسعة وستين جزءاً، كلهن مثل حرها!). عباد الله! اتقوا النار فإن حرها شديد، وإن قعرها بعيد، وإن مقامعها من حديد. إن الطعام في النار نار، وإن الشراب في النار نار، وإن الثياب في النار نار؛ فطعام أهل النار من الزقوم والغسلين والضريع. هل تعلم عن الزقوم والضريع والغسلين شيئاً؟ الزقوم: شجرة طلعها كأنه رءوس الشياطين، تنبت في أصل جهنم، يقول ابن عباس: لو أن قطرة واحدة من الزقوم قطرت في الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم، فكيف بمن يكون طعامهم؟! أي: فكيف بمن يكون الزقوم طعامهم؟! {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ * فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ} [الصافات:62 - 66]. أما الضريع: فهو نوع من أنواع الشوك الذي ينبت في أرض الجزيرة، يأكله أهل النار يوم القيامة: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ * لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ * لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} [الغاشية:1 - 7]. أما الغسلين: فهو عصارة أهل النار من قيح وصديد، قال جل وعلا: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِئُونَ} [الحاقة:25 - 37] فالغسلين هو عصارة أهل النار من قيح وصديد، فإذا تأججت النار في بطونهم استغاثوا يريدون الماء، فيغاثون بماء، ولكن ما هو الماء؟ {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد:15]، هذا كلام ربنا جل وعلا. وقال جل وعلا: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:29]. وهنا يستغيث أهل النار بخزنة جهنم: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ * قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [غافر:49 - 50]. فإن يئس أهل النار من خزنة النار نادوا على مالك رئيس الخزنة: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77]. فيتذكر أهل النار إخوانهم من أهل التوحيد ممن أساءوا إليهم وآذوهم في الدنيا، فينادون عليهم ليغيثوهم بقليل من الماء أو بشيء من رزق رب الأرض والسماء: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ * الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [الأعراف:50 - 51]. فإن يئس أهل النار من الخلق أجمعين استغاثوا بالملك الكريم جل وعلا، الذي وسعت رحمته كل شيء وهو أرحم الراحمين ومع ذلك اسمع بماذا يرد جل وعلا على أهل النار: {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:106 - 108]. فالطعام نار، والشراب نار، حتى الثياب من النار: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} [الحج:19 - 21].

الحث على المسارعة في التوبة

الحث على المسارعة في التوبة الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام، أيها الآباء الفضلاء، وأيتها الأخوات الكريمات، وأيها الشباب! متى سنتوب؟! متى سنرجع إلى علام الغيوب؟! أما آن لقلوبنا أن تخشع، وأن تخضع وأن ترجع وأن تنيب، والله إن الموت يأتي بغتة، وإن أقرب غائب ننتظره جميعاً هو الموت، فلا تسوف أخي الكريم وعجل بالتوبة، وعاهد ربك الآن بين يديه أن تنيب، وأن ترجع إليه سبحانه، وأن تمتثل أمره، وأن تجتنب نهيه، وأن تقف عند حدوده، وأن تراقب الله في سرك وعلنك، وفي خلوتك وجلوتك، وأن تحرص على مجالس العلم، وأن تفرغ لها من الوقت والجهد والمال، فإن مجالس العلم تجدد الإيمان في القلب، وتحول بينك وبين معصية الله بإذنه جل وعلا؛ لأن مجلس العلم طريق يقربك إلى الجنة ويبعدك عن النار، كما قال النبي المختار: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً، سَهَّلَ الله له طريقاً إلى الجنة). فعد وارجع وتب إلى الله، وأرجو ألا تيأس أو تقنط، فالفقه كل الفقه أن نرهب دون يأس أو تقنيط -نسأل الله أن يرزقنا الفقه والعلم- فالفقه كل الفقه أن نرهب بكلام الله وكلام رسوله دون أن نوصل الناس إلى حد القنوط واليأس من رحمة الله. حاشا ثم حاشا أن ييأس مسلم يعرف الله جل وعلا من رحمته ومن فضله وعظيم عفوه، لكن المسلم العاقل الذي يرجو الله هو الذي يدفعه الرجاء في الله إلى العمل الصالح والتوبة والأوبة. أيها الشاب! مهما بلغت ذنوبك ومهما بلغت ذنوبك أيتها المسلمة! فلتعاهد الله جل وعلا جميعاً من الآن على أن تعود إليه، وعلى أن تجدد له التوبة والأوبة. ونحن على يقين بأنه سبحانه وتعالى سيفرح بتوبتنا وهو الغني عنا، فهو سبحانه لا تنفعه الطاعة، ولا تضره المعصية، قال الله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]. ما دمت توحد الله جل جلاله فاعلم بأن التوبة تجب كل كبيرة وصغيرة: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]

دعوة للإنفاق في سبيل الله

دعوة للإنفاق في سبيل الله وأود أن أذكر هذا الجمع الكريم بين يدي بالحق الذي عليهم لله تبارك وتعالى، فأنتم ترون هذا المسجد المبارك الذي شيده إخواننا -أسأل الله أن يتقبل منا ومنهم صالح العمل- إلا أنه يحتاج إلى إتمام دوره العلوي، فأرجو أن نقف اليوم مع إخواننا وقفة رجل واحد، وألا ينصرف أحد من الإخوة أو من الأخوات إلا وقد ساهم -ولو بالقليل- لإنهاء بيت الله الجليل تبارك وتعالى، وأسأل الله أن يجعل الدنيا في أيدينا لا في قلوبنا؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه. ثم أود أن أذكر -وأرجو أن يبلغ الحاضر منكم الغائب- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)، إن مصر بلد الخير وبلد العطاء بلا نزاع، ولا نجامل بها ورب الكعبة مخلوقاً، فإني أذكر أن التاريخ قص علينا يوماً لما وقعت المجاعة في مدينة المصطفى وأرسل فاروق الأمة عمر إلى عمرو بن العاص في مصر: أن: أرسل إلينا مدداً من مصر، فقرأ عمرو بن العاص في مسجده رسالة عمر بن الخطاب على أهل مصر: إن إخوانكم من أصحاب النبي في المدينة يذوقون الجوع؛ فيطلبون منكم الغوث والمعونة والنجدة. فخرج أهل مصر بعطاء لم يعرف التاريخ له مثيلاً على الإطلاق، حتى أرسل عمرو بن العاص رسالة إلى عمر بن الخطاب وقال فيها: يا أمير المؤمنين! لقد أرسلت إليك قافلة من المئونة أولها عندك وآخرها عندي. فمصر بلد العطاء والجود والخير، وأنا أعلنها لله: إن أهل مصر لم يصابوا بأزمة بخل وإنما أصيبوا بأزمة ثقة، إذ لم يجدوا من يثقون فيه ليسلموا له أموالهم بنفس سخية وبيد معطية منفقة. أقول: يعيش بيننا في مصر العطاء والخير إخوان لنا وأخوات من ماليزيا وغيرها من بلاد شرق آسيا، وهم مسلمون فقراء، منهم والله من لا يجد الطعام فضلاً عن أجرة بيته، وقد وقف أهل الفضل -في المنصورة بالذات- وقفة ترضي الرب وتذهل اللب، وللأمانة فلقد قام كثير من أهل الخير بالإنفاق بسخاء على هؤلاء الإخوة والأخوات، ولكنهم لا زالوا في حاجة إلى المزيد، فأرجو من المسلمين، وأرجو بأن يبلغ الحاضر منكم الغائب عن هؤلاء الإخوة، فإننا نذكر الإخوة المسلمين في المنصورة وفي غيرها بأن يكفل كل مسلم طالباً أو طالبة من هؤلاء؛ ليساعده على إتمام دراسته الشرعية في مصر، لينصرف هؤلاء بعد ذلك دعاة إلى دين الله جل وعلا. أسأل الله أن يجعل لهذه الدعوة في قلوبكم مكاناً، وأن يرقق قلوبكم لها، وأن يبحث كل واحد منكم عن هؤلاء الإخوة والأخوات. وأدلكم على أخصر طريق: فمن ذهب منكم إلى كلية الدراسات الإسلامية هنا استطاع أن يحصل على رقم الحساب، أو استطاع أن يكفل طالباً أو طالبة، أو أكثر من ذلك، وأسأل الله جل وعلا أن يتقبل مني ومنكم جميعاً صالح الأعمال، وأن يجمعنا جميعاً في جنات النعيم.

شروط قبول التوبة

شروط قبول التوبة ولكني أود أن أذكرك -أخي وأختي في الله- بأن للتوبة شروطاً وأركاناً. فأول شروط التوبة: أن نقلع عن الذنوب والمعاصي كبيرها وصغيرها، ثم الندم على ما مضى، فلا تباه ولا تفاخر بأنك أوقعت فلانة، أو بأنك ارتكبت المعصية الفلانية، إن سترك الله فاستر على نفسك وتب إليه: (فكل أمتي معافى إلا المجاهرين) كما قال النبي الأمين صلى الله عليه وسلم. ثم عليك بالندم، فالندم ركن التوبة الأعظم، ليرى الله من قلبك الحرقة والألم على ما مضى من إفراط وإسراف. ثم المداومة على العمل الصالح: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:70]، وفي الحديث القدسي الذي رواه مسلم والترمذي واللفظ للترمذي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة). اللهم اغفر لنا ذنوبنا، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم لا تدع لأحد منا في هذا الجمع المبارك الكريم ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً بيننا إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا ميتاً لنا إلا رحمته، ولا عاصياً بيننا إلا هديته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا طائعاً إلا زدته وثبته، ولا حاجة هي لك رضاً ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا أرحم الراحمين! اللهم احفظ أهلنا في السودان، اللهم احفظ أهلنا في السودان، وفي أفغانستان، وفي فلسطين، والصومال، وفي كشمير وطاجكستان، وفي الفلبين، وفي الجزائر وفي كل مكان، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم أرنا يوماً كيوم عاد وثمود في أمريكا ومن شايعها، اللهم عليك بأمريكا ومن شايعها، اللهم إن أمريكا قد طغت وبغت ولا قدرة للمسلمين عليها، اللهم إنا مغلوبون فانتصر، اللهم إنا مغلوبون فانتصر، اللهم إنا مغلوبون فانتصر، اللهم عليك باليهود وأعوان اليهود، اللهم إنا نشكو إليك خيانة الخائنين وضعف الموحدين! اللهم ارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، واستر عيبنا، ولا تهتك سترنا، وفك أسرنا، وتول خلاصنا، واختم بالصالحات أعمالنا برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم استرنا ولا تفضحنا، وأكرمنا ولا تهنا، وكن لنا ولا تكن علينا، اللهم أصلح شبابنا، اللهم أصلح شبابنا، اللهم احفظ شبابنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم استر نساءنا وبناتنا، اللهم استر نساءنا وبناتنا برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم اجعل بلدنا واحة للأمن والأمان وجميع بلاد المسلمين، اللهم ارفع عنا البلاء والوباء والفتن ما ظهر منها وما بطن، برحمتك يا أرحم الراحمين! إخوتي الكرام! هذا وما كان من توفيق فمن الله، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون عليه إلى الجنة ويلقى به في جهنم، ثم أعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.

واقع الأسرة المسلمة في الغرب

واقع الأسرة المسلمة في الغرب لقد ابتعدت الأمة اليوم عن منهج ربها في شتى الجوانب الاعتقادية والأخلاقية والتشريعية ونحوها، وحصل هناك انفصام نكد بين المنهج المنير، والواقع المرير، وإننا اليوم نواجه تحديات خطيرة داخلية وخارجية ضد الأسرة المسلمة تريد تفكيك المجتمع المسلم بأسره، وأن ينحل من قيمه وأخلاقه، وخصوصاً من يعيش داخل المجتمعات الغربية، ولابد من حلول تجابه هذا التحدي، وأولها: العودة إلى المنهج التربوي الإسلامي، وتأسيس الأسرة المسلمة على ذلك، ومن هنا يكون المنطلق إن شاء الله تعالى!

واقع الأسرة المسلمة وتحديات المستقبل

واقع الأسرة المسلمة وتحديات المستقبل بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله أجمعين. أما بعد: أحبتي في الله! واقع الأسرة المسلمة وتحديات المستقبل، هذا هو عنوان لقائنا مع حضراتكم في هذا اليوم الكريم المبارك، وكعادتي حتى لا ينسحب بساط الوقت سريعاً من تحت أقدامنا، فسوف ينتظم حديثي مع حضراتكم -تحت هذا العنوان المهم- في العناصر التالية: أولاً: الانفصام بين المنهج والواقع. ثانياً: تحديات خطيرة. ثالثاً: ما السبيل. وأخيراً: فجر قادم وأمل يتجدد. فأعيروني القلوب والأسماع جيداً، والله أسأل أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:18].

الانفصام بين المنهج والواقع

الانفصام بين المنهج والواقع أولاً: الانفصام بين المنهج والواقع، إن المجتمع المسلم الذي شاد القرآن صرحه الشامخ، وأرسى لبناته على يد المصطفى صلى الله عليه وسلم كان مجتمعاً فريداً، لم ولن تشهد البشرية له مثيلاً على الإطلاق، كان مجتمعاً فريداً في عقيدته، امتثالاً عملياً -من أفراد هذا المجتمع- لقول الله جل وعلا: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62]. وكان مجتمعاً فريداً في عبادته، امتثالاً عملياً لقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163]. وكان مجتمعاً فريداً في شريعته، امتثالاً عملياً لقول الله جل وعلا: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]. وكان مجتمعاً فريداً في أخلاقه وسلوكه ومعاملاته، امتثالاً عملياً -من أفراد هذا المجتمع الكريم- لقول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل:90]. وكان مجتمعاً فريداً في محبة المصطفى صلى الله عليه وسلم، واتباع هديه، امتثالاً عملياً لقول الله عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31]، وكان مجتمعاً فريداً في إقامة بنيان الأسرة المسلمة، أفراد هذه الأسرة يعيشون جميعاً بالإسلام وللإسلام، ويحمل كل أفراد هذه الأسرة هم الإسلام، فالرجل في الأسرة يعمل لدين الله، والزوجة في الأسرة تعمل لدين الله، حتى الأطفال يعملون لدين الله جل وعلا. جاء في الصحيحين من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: (بينما أنا واقف في الصف يوم بدر إذ التفت، فإذا عن يمنيني وشمالي فتيان حديثا السن -أي: رأى صبيين صغيرين إلى جواره في الصف يوم بدر- فلم آمن على نفسي بمكانهما -تمنى أن يكون بين بطلين عظيمين- فغمزني أحدهم سراً من صاحبه، وقال لي: يا عم! هل تعرف أبا جهل؟ قلت: وماذا تصنع بـ أبي جهل يا ابن أخي؟ فقال هذا الفتى المبارك: لقد بلغني أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد عاهدت الله إن رأيت أبا جهل ألا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا، يقول عبد الرحمن: فتعجبت! فإذا الفتى الآخر يغمزني سراً من صاحبه: يا عم! يا عم! هل تعرف أبا جهل؟ قلت: وماذا تصنع أنت الآخر بـ أبي جهل يا ابن أخي؟ قال: سمعت أنه يسب رسول الله، ولقد عاهدت الله إن رأيت أبا جهل أن أقتله، أو أموت دونه، وفي لفظ: ألا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا، يقول: عبد الرحمن: فوالله ما سرني أن أكون بين رجلين مكانهما، فرأيت أبا جهل يجول في الناس -يعني: يأتي ويروح- فقلت: انظرا! هل تريان هذا؟ هذا صاحبكما الذي تسألان عنه. يقول عبد الرحمن: فانقضا عليه كالصقرين، فقتلاه، وأسرع كل واحد منهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يا رسول الله! قتلت أبا جهل!! والآخر يقول: لا، بل أنا الذي قتلته!! فقال المصطفى: هل مسحتما سيفيكما؟ قالا: لا. فنظر النبي في السيفين، فرأى دماء أبي جهل على السيفين معاً، فالتفت إلى الصبيين -أستغفر الله، بل إلى البطلين، بل إلى الرجلين- وقال لهما: كلاكما قتله). البطل الأول: هو معاذ بن عمرو بن الجموح، والبطل الثاني: هو معوذ بن عفراء، فتيان صغيران، تربى كل واحد منهما في أسرة مسلمة، حملته هم الدين!! إن الناس جميعاً -أيها الأحبة- يحملون هموماً على اختلاف عقائدهم ومشاربهم، ولكن الهموم تتفاوت بين الناس جميعاً بتفاوت الهمم، والهمة رزق من الله تعالى: فمن الناس من يحمل هم الدين، ومنهم من يحمل هم الطين، ومنهم من يحمل هم أن يستمتع بامرأة جميلة حسناء في الحلال أو في الحرام سواء، ومنهم من لا هم له إلا أن يحصل على المال ولو من الحرام، ومنهم من لا هم له إلا أن يحصل على المجد والجاه والشهرة، ولو على حساب دينه. قال الشاعر: على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم وتعظم في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائم فكل الناس -أيها الأحبة- يحملون هموماً، لكن: انظروا إلى الهموم التي يربي الآباء والأمهات عليها الأبناء في هذه الأيام، والهموم التي كان يتربى عليها أولاد سلفنا الصالح في بيوت عاشت بالإسلام وللإسلام!! أيها الأحبة! ظل هذا المجتمع الإسلامي العظيم يرفل في ثوب التوحيد الخالص، الذي كساه إياه إمام الموحدين، وقدوة المحققين صلى الله عليه وسلم، وسرعان ما ابتعد هذا المجتمع المسلم رويداً رويداً عن أصل عزه، ونبع شرفه، ومعين كرامته، وتجرد رويداً رويداً من ثوب التوحيد الخالص، فانكشفت سوءاته، وظهرت عوراته، وراح المجتمع المسلم يحاكي الشرق الملحد، والغرب الكافر، ترك شرع الله المحكم، وتخلى عن المنهج التربوي الإسلامي العظيم، واستبدل بالعبير بعراً، وبالثريا ثرى، وبالرحيق المختوم حريقاً محرقاً مدمراً، فوقع في هذا الخلق الشائن، والانفصام النكد بين المنهج المنير والواقع المرير، ففي الجانب العقدي نرى العقيدة الآن تذبح شر ذبحة على أيدي الكثير من أفراد المجتمع الإسلامي!! وفي الجانب التعبدي نرى كثيراً من الأفراد قد صرفوا العبادة لغير الله. وفي الجانب التشريعي وقع المنكر الأعظم الذي لم يكن يخطر ألبتة لأحد على بال، يوم نحيت شريعة الكبير المتعال، وحكم بالقوانين الوضعية الفاجرة الجائرة في الأعراض والأموال والدماء والفروج، وظنت الأمة المسكينة أنها قد ركبت قوارب النجاة، فغرقت وأغرقت، وهلكت وأهلكت، وظلت وأظلت. وفي الجانب الأخلاقي والسلوكي حدث ولا حرج! ترى انتكاسة خطيرة في الأخلاق، وترى فجوة رهيبة بين منهجنا المنير، وواقعنا المؤلم المرير. وفي الجانب الأسري ترى استقالة تربوية -لا أقول: فردية بل جماعية- في كثير من بيوت المسلمين، استقال كثير من الآباء تربوياً، واستقال كثير من الأمهات تربوياً، وظن الوالد المسكين أن وظيفته أن يقدم لأولاده الطعام والشراب، والمسكن والملبس فحسب، وظنت الأم هي الأخرى أن وظيفتها أن تغذي الأبدان فحسب، وانشغلت بالضرب في الأسواق، والبحث عن أرقى الموضات والموديلات، وأرقى العطور والملابس والثياب، وراحت الأم تحاكي المرأة في الغرب، وتحاكي المرأة في الشرق؛ فشعر كثير من أبنائنا في بيوتنا باليتم التربوي، وخرج الأولاد من البيوت ليقتاتوا قوتهم التربوي في السينما والمسرح عند أصحاب السوء: في الشارع! أو في وسائل الإعلام المدمرة! ليس اليتيم من انتهى أبواه من هم الحياة وخلفاه ذليلا إن اليتيم هو الذي ترى له أماً تخلت أو أباً مشغولا هذا هو الواقع المر الأليم.

تحديات خطيرة

تحديات خطيرة ثم عرف أعداء الإسلام -أيها الإخوة والأخوات- أن الأسرة المسلمة هي اللبنة الأولى الصحيحة في صرح المجتمع المسلم، بل عرف أعداؤنا أن الأسرة المسلمة هي الأمة الإسلامية الصغيرة، فخطط الأعداء بكل سبيل، للقضاء على المجتمع الإسلامي، وبالقضاء على النواة الأولى في صرحه الشامخ، ألا وهي: الأسرة المسلمة. وهذا هو عنصرنا الثاني بإيجاز، تحديات خطيرة في طريق الأسرة المسلمة، وأستطيع أن أقدم لحضراتكم التحديات في نقاط ثابتة محددة أيضاً، وسأقسم التحديات إلى قسمين: أولاً: تحديات خارجية. ثانياً: تحديات داخلية.

التحديات الخارجية ضد الأسرة المسلمة

التحديات الخارجية ضد الأسرة المسلمة القسم الأول: وهو التحديات الخارجية: وتتمثل في المخطط اليهودي الصليبي الحاقد؛ لإخراج الأسرة المسلمة من المجتمع الإسلامي عقيدة وعبادة وشريعة، وأخلاقاً وسلوكاً، وذلك عبر نقاط محددة، وهي: أولاً: التشكيك، ثم التذويب، ثم إفساد المرأة المسلمة باعتبارها العمود الفقري، والمحور المركزي، لقيام الأسرة المسلمة الصحيحة. أما التشكيك فقد جعل المخطط الصليبي اليهودي يشكك الأسرة، بل ويشكك الأمة الإسلامية الكبيرة، يشككها في منهجها الرباني: في القرآن، وفي السنة، وقالوا: إن القرآن كان يخاطب أناساً في أرض الجزيرة العربية، لكننا نعيش الآن في عصر (الإنترنت)، عصر أتوبيس الفضاء (دسكفري)، إننا نعيش عصراً قد وصل فيه العقل البشري والعلم المادي إلى مكانة عالية: صنع العقل القنبلة النووية، وفجر الذرة، وغاص في أعماق البحار، وانطلق في أجواء الفضاء، فماذا تريدون؟ إن أردتم -أيها المسلمون- التقدم والحضارة والمدنية لابد أن تنبذوا دينكم، وأن تنظروا إلى النموذج الغربي الذي قفز قفزات هائلة في الجانب العلمي، وفي التقدم المادي، وأنا لست كالنعام: أدفن رأسي الآن في الرمال؛ لأنكر ما وصل إليه الغرب في الجانب المادي، كلا، كلا، بل أنا أقر به، لكن يا إخوة! اعلموا يقيناً بأن الحياة لا تتوقف عند الجانب المادي فحسب، ولو أن طائراً عملاقاً أراد أن يحلق في أجواء الفضاء لفترة طويلة؛ فطار بجناح واحد، فإنه حتماً سيسقط، فينكسر جناحه الآخر، فالحياة ليست مادة فحسب، بل إن الغرب وقف عاجزاً أمام الشق الآخر: أمام الروح؛ لأن الروح لا تقاس بالترمومتر، ولا توزن بالجرام، ولا توضع في بوتقة التجارب في معامل الكيمياء والفيزياء، قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85]، وأنتم تعلمون يقيناً أن الأسرة في الغرب تفككت وتشتتت، بل إن الغرب يعيش الضنك بكل معانيه، مصداقاً لقول الله: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه:123 - 124]، انظروا إلى عدد عيادات الطب النفسي! انظروا إلى حالات الانتحار الفردي والجماعي! انظروا إلى حالات القلق النفسي! انظروا إلى حالات الاضطراب! انظروا إلى التفكك الأسري! فأنا لا أنكر أن الغرب وصل في الجانب المادي إلى ما وصل إليه، لكنه يعاني في الجانب الآخر. والله لا أنسى ذلك الموقف وأنا ألقي محاضرة في يوم من الأيام في مركز من المراكز الإسلامية هنا في أمريكا، وإذ بأحد الإخوة يستوقفني، ويقول لي: لو سمحت -يا شيخ- نريد أن يردد هذا الأمريكي الشهادة خلفك، فلقد جاء مسلماً لله جل وعلا، فقلت: تفضل أيها الأخ الكريم! وقبل أن يردد خلفي الشهادتين قلت له: أخي! ما الذي أتى بك إلينا، وأنت ترى أحوال المسلمين لا تسر عدواً ولا حبيباً؟! ما الذي جاء بك إلينا؟ فقال هذا الأمريكي: بأنه ملياردير، يملك الأموال والشركات والأساطيل. ثم يقول: ما شعر هذا الرجل بطعم السعادة قط، يقول: انتشلوه من محاولة الانتحار أكثر من عشر مرات، ثم قال لي: دخلت يوماً على هذا الموظف -وأشار على أخ سوري معه وهو يعمل في شركة من شركاته- فرأيت هذا الموظف يغسل قدمه في حوض الماء الذي أغسل فيه وجهي، فتعجبت وقلت: كيف تغسل قدمك في هذا الحوض؟! قال: أنا أتوضأ وأغسل قدمي خمس مرات في اليوم، فقال: ما الوضوء؟ فأخبره، قال: ولماذا؟ قال: للصلاة، قال: ما الصلاة؟ فعلمه، فقال: تصلي لمن؟ لله، قال: من الله؟ فأخبره، فقال له: لماذا كلما دخلت عليك وجدت السعادة في وجهك، ورأيتك نشيطاً، ما رأيتك سكراناً قط؟! قال: إن ديني يحرم عليّ الخمر، وإن نبيي يعلمني حديثاً يقول فيه: (عجباً لأمر المؤمن!! إن أمره كله له خير، وليس ذلك إلا للمؤمن: إن أصابته سراء شكر؛ فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر؛ فكان خيراً له) فقال: ماذا لو دخلت في دينك هذا، هل سأشعر بالسعادة التي تشعر بها؟ قال: نعم، قال: أدخلني. وأنتم تعلمون أنهم لا يتعصبون لعقيدة، وأنا أقول لإخواني دائماً: الذي يسبق إلى الشعب الأمريكي يكسب الجولة، فإنه شعب لا تعصب عنده، لكن المشكلة عندنا، فإننا لا نتحرك لدين ربنا، ولا لدين نبينا صلى الله عليه وسلم، قال: أدخلني، فجاء به إلى المركز الإسلامي، تعجبت حينما قال: بأنه لم يشعر بطعم السعادة، بعدما أصر أن أذهب معه إلى قصره أو إلى بيته؛ لأتناول معه طعاماً في بيته، فدخلت بيتاً مصنعاً من الزجاج على الشاطئ، نصف البيت في المحيط، والنصف الآخر على الشاطئ في اليابسة، فتعجبت كيف يعيش هذا الرجل في هذا النعيم، ومع ذلك لم يشعر بطعم السعادة! فلما قام بين يدي وردد الشهادة، وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، بكى بكاء هستيرياً طويلاً!! فأراد الإخوة أن يسكتوه، فقلت: دعوه، اتركوه، فلما كف عن البكاء، وسكنت جوارحه، قلت له: أخي! لماذا بكيت؟ فرد في ترجمة حرفية قائلاً: والله! إني أشعر الآن بسعادة في صدري ما ذقت طعمها قبل الآن! قلت: إنها نعمة شرح الصدر بالإسلام!! ولا يذوق طعمها إلا من شرح الله صدره للإسلام، أنتم -أيها الإخوة الكرام- في نعمة والله! أنتم في نعمة! يا من خلقك الله موحداً وأرسل إليك محمداً! لو وضعت رأسك على التراب؛ لتشكر الله على هذه النعمة حتى تلقاه ما وفيت الله حقه. قال الشاعر: ومما زادني فخراً وتيها وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن أرسلت أحمد لي نبيا وقال الله تعالى قبل ذلك: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17]، فالمخطط الصليبي اليهودي يسعى للتشكيك في الدين في المنهج الإسلامي التربوي، بل ورأينا الآن رجالاً ونساء من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، يرددون ما ردده وأصله اليهود والنصارى، فهم يشككون الآن في الثوابت، وإن المؤتمر الذي عقد في مصر في الشهر الماضي والذي يسمى بمؤتمر تحرير المرأة، وسميته في خطبة جمعة مباشرة: بمؤتمر انفلات المرأة، فهم يشككون في ثوابت الدين في أصول هذا الدين وأركانه، تخرج علينا امرأة تنسب إلى الإسلام، فتقول: لا بد من إلغاء قوامة الرجل، وأخرى تقول وهي دكتورة: إن الرجال يركعون أمام ركبتي مادلين وأولبريت الجميلتين، ويفعلون كذا -لفظة يعف لساني والله عن ذكرها- يفعلون فعلة معروفة بين شبابنا إلا من رحم ربك، ويفعلون كذا على صور مارلين مونرو، ثم تقول أخرى: لا بد من مساواة الرجل بالمرأة في الميراث، وتقول أخرى: لا بد من إلغاء العدة والاكتفاء بالعودة إلى الطب الحديث؛ للتحقق من إبراء الرحم من الحمل من عدمه، حرب على الثوابت، حرب على الأصول والأركان والكليات، مخطط للتشكيك. ثم بعد هذا التشكيك -يا إخوة، ويا أخوات -يكون التذويب يصبح المسلم- الذي هزم فكرياً ونفسياً- مستعداً للذوبان في بوتقة الغرب أو الشرق، وصدق المصطفى إذ يقول، كما في الصحيحين من حديث أبي سعيد: (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب -وفي لفظ: خرب- لتبعتموهم، قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟) من غير هؤلاء؟! إنه الذوبان، وقدموا لنا النموذج الغربي على أنه النموذج الأوحد الفريد في السعادة والتقدم. قال الشاعر: قالوا لنا الغرب قلت: صناعة وسياحة ومظاهر تغرينا لكنه خاوٍ من الإيمان لا يرعى ضعيفاً أو يسر حزينا الغرب مقبرة المبادئ لم يزل يرمي بسهم المغريات الدينا الغرب مقبرة العدالة كلما رفعت يد أبدى لها السكينا الغرب يحمل خنجراً ورصاصة فعلام يحمل قومنا الزيتونا كفر وإسلام فأنى يلتقي هذا بذلك أيها اللاهونا أنا لا ألوم الغرب في تخطيطه لكن ألوم المسلم المفتونا وألوم أمتنا التي رحلت على درب الخضوع ترافق التنينا وألوم فينا نخوة لم تنتفض إلا لتضربنا على أيدينا يا مجلس الأمن المخيف إلى متى تبقى لتجار الحروب رهينا لعبت بك الدول الكبار فصرت في ميدانهن اللاعب الميمونا شكراً لقد أبرزت وجه حضارة غربية لبس القناع سنينا شكراً لقد نبهت غافل قومنا وجعلت شك الواهمين يقينا يا مجلس الأمن انتظر إسلامنا سيريك ميزان الهدى ويرينا إن كنت في شك فسل فرعون عن غرق وسل عن خسفه قارونا

دعوى تحرير المرأة

دعوى تحرير المرأة التشكيك ثم التذويب في بوتقة المناهج الغربية، ثم إفساد المرأة المسلمة؛ لأن المرأة المسلمة هي العمود الفقري، وهي المحور المركزي لبنيان الأسرة الصحيحة، فحاول هؤلاء أن يفسدوا المرأة، وأرجو من أخواتي الفاضلات الطاهرات أن ينتبهن لهذا المخطط الخبيث، عز على أعداء ديننا -أيتها المسلمة- أن تجود المسلمة من جديد على أمتها بالعلماء العاملين، والمجاهدين الصادقين، فراحوا يشككون المرأة في دينها، وراحوا يفتعلون قضية في بلاد المسلمين تسمى بقضية تحرير المرأة، بل إنهم يريدون أن ينزلوها من عرش حيائها للزج بها في مستنقع الرذيلة الآسن العفن، شككوها في الحجاب، وقالوا لها: لا بد من التحرر، إن القول بالعزل والفصل بين الرجل والمرأة كلام المتخلفين، كلام المتأخرين، تحرري، وهي الحرة بالإسلام، يحررون المرأة من ماذا؟! يا حرة قد أرادوا جعلها أمة غريبة العقل غريبة النسب يا درة حفظت بالأمس غالية واليوم يبغونها للهو واللعب هل يستوي من رسول الله قائده دوماً وآخر هاديه أبو لهب؟ وأين من كانت الزهراء أسوتها ممن تقفت خطى حمالة الحطب؟! فلا تُبالي يا أختاه! أيتها المسلمة الصابرة! أيتها المسلمة الصابرة على الحجاب! الصابرة على العفة والشرف، الصابرة على تربية الأولاد! لا تبالي بما يلقون من شبه وعندك الشرع إن تدعيه يستجب سليه من أنا من أهلي لمن نسبي للغرب أم للإسلام والعرب لمن ولائي لمن حبي لمن عملي لله أم لدعاة الإثم والكذب هما سبيلان يا أختاه ما لهما من ثالث فاكسبي خيراً أو اكتسبي سبيل ربك والقرآن منهجه نور من الله لم يحجب ولم يغب أنت درتنا المصونة، أنت لؤلؤتنا المكنونة، أنت الأم، أنت الزوجة، أنت البنت، أنت الأخت، أنت الخالة، أنت العمة، أنت المجتمع بأسره، صحيح أن المرأة تشكل نصف المجتمع، ولكنها تقدم للمجتمع نصفه الآخر من أولاد من شباب من رجال ونساء، فهؤلاء عرفوا خطر المرأة، وعلموا أن المرأة المسلمة من أعظم أسباب القوة في المجتمع الإسلامي، فحاربوها وحارب حجابها وخلقها ودينها وعفتها وشرفها. والذي يدمي القلب أن كثيراً من المسلمات قد تأثرن بهذه الدعاوى الخطيرة التي يغني بطلانها عن إبطالها، وظنت المسلمة أنها بالفعل مظلومة، وأنها شبه مهملة، وأنها رئة معطلة، وأن البيت سجن مؤبد، وأن الزوج سجان قاهر، وأن الأمومة تكاثر حيواني لا يليق بحضارة القرن العشرين، إن ما يزعمونه في المرأة هو المأساة، وظنت المسكينة أنها ظلمت بالفعل. ومن هنا انبرى بعض إخواننا من أهل العلم للرد على هذه الشبهة، من منطلق أن الإسلام بالفعل في قفص الاتهام، فجاءت الردود هزيلة، ومهزومة كهزيمة من رد بها، ولا حول ولا قوة إلا بالله! بل يجب على المسلمة أن تعلم أن الإسلام ما أمرها بالحجاب، وما حرم عليها الخلوة، وما حرم عليها الاختلاط، وما حرم عليها السفر بدون محرم إلا ليحفظ كرامتها، وليصون عرضها وشرفها؛ لأنها لؤلؤة مكنونة، ودرة مصونة، وجوهرة غالية، وأنا لا أتصور عاقلاً من العقلاء يرزق بجوهرة، ثم يلقي بهذه الجوهرة في أي مكان من أماكن البيت، بل سيبحث عن آمن الأماكن؛ ليحتفظ فيه بهذه الجوهرة، وبهذا اللؤلؤ المكنون.

التحديات الداخلية ضد الأسرة المسلمة

التحديات الداخلية ضد الأسرة المسلمة هكذا أنت أيتها المسلمة الفاضلة! يا صاحبة الحجاب! يا صاحبة العفة والشرف! فهذا هو التحدي الخارجي، أما التحدي الداخلي فحدث ولا حرج، ومنه الجهل بالإسلام، وضعف الإيمان، فأنا لا أتصور أن مسلماً أو مسلمة يعيش بالإسلام للإسلام، وهو يجهل الإسلام!! ومن هذه التحديات غياب القدوة، أختي الفاضلة! أخي الحبيب! إن التربية بالقدوة في داخل الأسرة من أعظم وسائل التربية، فلا يمكن أبداً أن يتعلم الولد الصدق إذا رأى أباه يكذب! ولا يمكن أبداً أن تتعلم البنت الفضيلة، إن رأت أمها مستهترة! ولا يمكن أن تتعلم الأمانة إن رأت أمها خائنة لأبيها أو لزوجها. مشى الطاووس يوماً باختيال فقلد شكل مشيته بنوه فقال علام تختالون قالوا بدأت به ونحن مقلدوه وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوده أبوه وأيضاً من هذه التحديات الصحبة السيئة، فالصحبة السيئة تؤثر على أولادنا، وعلى أسرنا تأثيراً بالغاً؛ لأن الولد قد يتأثر بأصحابه تأثراً يفوق تأثره بالبيت؛ لذلك قال المصطفى عليه الصلاة والسلام: (مثل الجليس الصالح، والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير)، وقال عليه الصلاة والسلام: (لا تصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي). ومن التحديات الداخلية عدم قيام المسجد والدعاة إلى الله بدورهم الحقيقي، لا أنكر هذا، قد يأتي الشاب إلى المسجد فيرى طرحاً دعوياً مملاً، لا يتناسب مع مشكلاته وأزماته، بل نرى أحياناً القائمين على المساجد يطردون الأطفال، ويسيئون إليهم لمجرد البكاء والضوضاء، هذه عادة الطفل وطبيعته، فهل تريد أن تحكم على الطفل بعقليتك؟! لا تريد منه أن يلعب أو أن يمرح، فإن طردت الأطفال من المساجد، فأين سيتربى أبناؤنا؟! فهذا من عدم قيام المسجد بدوره الحقيقي، والقصور الشديد في الطرح الدعوي. لقد قدر الله أن أكون مسافراً في يوم جمعة، وقلت لأهلي: هيا لنصلي الجمعة ولنسمع، فمنذ زمن وأنا خطيب لا أسمع الخطباء، مع أن المسافر لا جمعة عليه، لكن أحببت ذلك، والله لقد قال الخطيب على المنبر كلاماً لولا خشية الفتنة لارتقيت المنبر، وأتيت به من رقبته، لقد قال هذا الخطيب: لما قتل عثمان بعث معاوية -رضوان الله على معاوية - لـ نائلة رضوان الله عليها، وقال لها: يا نائلة! ها هو ذا عثمان قد قتل، وأنا أريد أن أتزوجك. قالت له: ما الذي يعجبك فيّ يا معاوية؟ -هكذا على المنبر بهذه الطريقة- قال لها: عيونك! قالت له: طيب، انتظر قليلاً، ودخلت فخلعت عيونها، ووضعتها على طبق، وخرجت لـ معاوية قائلة: يا لي أنت غاوي الجمال روح القبر واطلع تلاقي الجمال بقى رمم وعظم منخلع أهذا يقال على المنابر؟!! فنحن نرى قصوراً خطيراً في الطرح الدعوي، لا يتلاءم ولا يتفق مع مشكلات أولادنا، ومشكلات عصرنا. إن الداعية الأمين -أسأل الله أن يجعلنا منهم- هو الذي لا تغيب عنه أمته بمشكلاتها وأزماتها وجراحها وآلامها، بل يشخص الداء، ويحدد الدواء من القرآن، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم. ثم يأتي الإعلام كتحد سافر يحطم الأسرة المسلمة بلا نزاع، فإنني أقول باطمئنان وثقة: إن وسائل الإعلام كلها من التلفاز والجرائد والمجلات والفيديو والإعلانات والمسلسلات والأفلام والمسرحيات تعزف كلها على وتر واحد، على وتر الجنس، على وتر الدعارة، على وتر العنف والجريمة، وإن وسائل الإعلام مسئولة مسئولية كبيرة عن انحراف أبنائنا، وذوبان أسرنا في بوتقة الشرق الملحد والغرب الكافر. والتعليم الذي كان من المفترض أن يكون عوناً لأبنائنا وبناتنا بعد البيت على التربية، ولكن بكل أسف لا يوجد ذلك، ورحم الله محمد إقبال إذ يقول: إن المناهج التعليمية الحديثة تحسن أن تعلم أبناءنا المعارف والمعاني والعلوم، ولكنها لا تحسن أن تعلم عيونهم الدموع، ولا قلوبهم الخشوع. تلك تحديات خارجية وتحديدات داخلية خطيرة كثيرة، تهدم ما يبنيه كثير من الآباء والأمهات، ولا حول ولا قوة إلا بالله!

ما هو السبيل؟!

ما هو السبيل؟! والسؤال الآن: ما السبيل؟ وهذا هو عنصرنا الثالث من عناصر اللقاء.

العودة إلى المنهج التربوي الإسلامي

العودة إلى المنهج التربوي الإسلامي والجواب في نقاط محددة أيضاً، أولاً: العودة إلى المنهج التربوي الإسلامي، فهو منهج رباني مصدره القرآن والسنة، هذه النقطة العملية الأولى على الطريق، تملكها أنت أيها الوالد! وتملكينها أنت أيتها الأم! ألا وهي: العودة إلى المنهج التربوي الإسلامي؛ لأنه منهج رباني مصدره القرآن، وسنة النبي عليه الصلاة والسلام، وهو منهج يتميز بالتكامل، والشمول، والتوازن، والاعتدال، والتميز، والمفاصلة. منهج يمزج بين الجسد والروح، بين الدين والدنيا، بين الحياة والآخرة، ويجسد هذا المنهج هذا الدعاء النبوي الرقراق الرقيق، كما في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم كان يدعو الله ويقول: (اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر).

تأسيس الأسرة المسلمة على المنهج التربوي الإسلامي

تأسيس الأسرة المسلمة على المنهج التربوي الإسلامي ثانياً: تأسيس الأسرة المسلمة منذ البداية على هذا المنهج التربوي الإسلامي، وذلك باختيار الزوجة الصالحة؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولجمالها، وحسبها، ودينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك)، والمسلمة تتخير الزوج الصالح أيضاً، فإن الحياة الزوجية -إن بنيت على هذا الأساس التربوي الإسلامي النبوي- تسعد الأسرة، وتُسعد الأسرة مجتمعها الإسلامي الكبير، إن الحياة الزوجية مملكة إيمانية، الزوج ملكها وربانها، والمسير لدفة شئونها وأمورها؛ بما جعل الله له من قوامة، والزوجة ملكة متوجة هي الأخرى في هذه المملكة؛ لأنها شريكة الحياة، ورفيقة الدرب، وقرة العين، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21]، والرعية بين هذين الملكين الكريمين هم: لب الفؤاد وفلذة الكبد، وهم زهرة الحياة الدنيا، هم الأولاد، الذي قال الله تعالى فيهم: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:46]، فإذا ظلل الحياة الزوجية منهج رب البرية وسيد البشرية، عاشت هذه المملكة حياة إيمانية كريمة، وآتت هذه المملكة ثمارها كل صبح وعشية، ولو ظهر في يوم من الأيام نبتة شوك في أرضها -لخلاف ما أو لمشكلة أسرية- فسرعان ما تذبل هذه النبتة؛ لأنها لا يمكن أبداً أن تحيا في أرض طاهرة زكية، تظلل بمنهج رب البرية وسيد البشرية صلى الله عليه وسلم، هنا سيرحم الزوج امرأته، وسترحم المرأة زوجها، وسيتخلق هذا البيت بأخلاق المصطفى صلى الله عليه وسلم. جميل -والله- أن أبلغ حضراتكم أن المصطفى قد حرم على نفسه ما أحل الله له؛ من أجل أن يرضي نساءه، هل تعلمون ذلك؟ الحديث في الصحيحين: (لقد اتفقت عائشة وحفصة -رضوان الله عليهما وعلى زوجات النبي الطاهرات-، على رسول الله؛ غيرة من زينب بنت جحش، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم على حفصة فابتعدت عنه، وقالت: إني أجد -أي: أشم- منك ريح مغافير) ومغافير: نبتة أو زهرة تنبت في أرض المدينة، لها رائحة كريهة، هل تتصور ذلك وعرق المصطفى أطيب من المسك؟! والله لا أقول ذلك من باب العاطفة، بل أقول ذلك من باب التحقيق العلمي: إن عرق الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم أطيب من المسك؛ ففي الصحيحين من حديث أنس قال: (خدمت رسول الله عشر سنين، فما قال لي: أف قط، وما قال لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا لشيء تركته: لم تركته؟ وما مسست حريراً ولا ديباجاً ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شممت مسكاً ولا عنبراً أطيب من ريح رسول الله) وفي صحيح مسلم ومسند أحمد من حديث أم سليم: (نام النبي عندها في وقت القيلولة، فعرق رسول الله، فجاءت أم سليم بقارورة، وأخذت تسلت عرق المصطفى في هذه القارورة، فاستيقظ النبي وهو يقول: ما تصنعين يا أم سليم؟! فقالت: فقال: عرقك أطيب من طيبنا يا رسول الله!) والشاهد: (أن النبي دخل النبي على حفصة فابتعدت عنه، وقالت: إني أشم منك ريح مغافير، فقال الحبيب: والله ما أكلت شيئاً -يعني: ليغير رائحة فمي- والله ما أكلت إلا العسل عند زينب، وترك النبي حفصة، ودخل على عائشة، فقالت مثل ما قالت حفصة بترتيب واتفاق، فقالت: إني أجد منك ريح مغافير يا رسول الله! قال: والله ما أكلت شيئاً، والله ما أكلت إلا العسل عند زينب، والله لا آكل العسل بعد اليوم، فنزل القرآن -وتدبر كلام الرحيم الرحمن-: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التحريم:1]). فالحياة الزوجية إن أسست وأصلت، ووضع أساسها وبنيانها على المنهج الرباني والنبوي سعدت هذه الأسرة، وأسعدت أسرتها الكبيرة التي تتمثل في أمة الإسلام والتوحيد.

تحمل مسئولية التربية من قبل الآباء والأمهات

تحمل مسئولية التربية من قبل الآباء والأمهات ثالثاً: تحمل مسئولية التربية، فالتربية مسئولية مشتركة بين الآباء والأمهات، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6]، وفي الصحيحين من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، الإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في بيته ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته، وكلكم راع ومسئول عن رعيته)، وفي الصحيحين من حديث معقل بن يسار أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة) فوظيفتك -أيها الوالد الكريم- ليست مجرد التغذية، كلا. أيها الإخوة! أنا أقول دائماً: إن وجود الأب بين أبنائه -ولو كان صامتاً لا يتكلم- فيه من عمق التربية ما فيه، فكيف لو تكلم فذكر بالله، ودعا إلى الجنة، وحذر من النار، وحمل هموم الأولاد، وأشعر الأولاد بأنه معهم وأنهم في قلبه وكيانه؟! وتزداد المأساة إن استقالت الأم، ماذا تقولون في أم عادت اليوم إلى زوجها، وقالت: زوجي العزيز! سلام الله عليك. أما بعد: فإني أقدم لك اليوم استقالتي من تربية أولادك؟! وماذا تقولون في زوج يذهب إلى امرأته ليقول: زوجتي العزيزة! سلام الله عليك. أما بعد: فإني أقدم لك اليوم استقالتي من تربية الأولاد؟! سيتهم هذا الزوج بالجنون، وكذلك الزوجة، بل أنا أؤكد لحضراتكم: بأن نظرة صادقة مدققة فاحصة لواقع كثير من الأسر المسلمة تبين لنا أن استقالة تربوية جماعية وقعت في كثير من البيوت، فاستقال كثير من الآباء تربوياً، واستقال كثير من الأمهات تربوياً.

ملء فراغ الأولاد بما ينفعهم

ملء فراغ الأولاد بما ينفعهم رابعاً: ملء فراغ الأولاد بأي عمل نافع في الدنيا أو في الدين، لا تترك ولدك فارغاً، وأنت أيها الوالد، وأنت أيتها الأم لا بد أن تشغل نفسك؛ فالنفس إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل. وأخطر أقسام الفراغ: الفراغ القلبي من الإيمان، والخوف من الله والمراقبة، والفراغ النفسي، فالنفس أمارة بالسوء، إن لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية. وكذلك الفراغ العقلي، فاشغل عقلك بالنظر في آيات الله، وبالنظر في الكتب الهادفة؛ لتملأ عقلك بالإيمان وبالمعرفة، فإن الفراغ العقلي حياة أهله بوار، وآخرة أهله نار؛ بدليل تصايح أهل النار في قوله تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ * وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:8 - 10].

تكوين تجمعات صالحة في المجتمع الغربي

تكوين تجمعات صالحة في المجتمع الغربي ثم الحرص على الصحبة الطيبة، فأنتم في هذه البيئة إن لم تحرصوا على أن تكونوا جماعات طيبة في المساجد والمراكز الإسلامية، والمدارس والأندية، فإن الأسر ستذوب، وسيذوب الأولاد في هذا المجتمع الغربي، الذي يصطدم اصطداماً مباشراً مع عقيدتنا وأخلاقنا، فلا بد من أن تبحث عن صحبة طيبة؛ لتعينك ولتعين أولادك على طاعة الله تبارك وتعالى، بإيجاد المحاضن التربوية في الأندية والمدارس والمراكز الإسلامية والحضانات، بشرط أن يقوم عليها رجال وأخوات من الإسلاميين المؤهلين عقدياً وفكرياً وثقافياً، ويحملون هم الأمة، لما يرون من واقع الأمة الأليم. أيها الأحبة الكرام! هذه نقاط سريعة لهذا الواقع المؤلم، أسأل الله عز وجل أن يعيننا جميعاً وإياكم عليها، وأن يحفظ نساءنا وبناتنا، وأن يصلح أولادنا وشبابنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه. ومع هذا الواقع المؤلم أقول: الفجر قادم، والأمل يتجدد، وإن ما أراه الآن بين يدي لمن أعظم الأدلة العملية على ذلك: فكثير من الأسر المسلمة بدأت تنتقل من أزمة الوعي إلى وعي الأزمة، فكلكم بلا استثناء ما حرصتم على هذا المؤتمر -بنسائكم وأولادكم-، إلا وكلكم حريص على أن يبدأ بأسرته بداية جديدة، كلكم بلا استثناء يتمنى أن يحفظ أولاده وبناته القرآن، وسنة النبي عليه الصلاة والسلام، وهذه هي البداية الحقيقية للعودة، فأرجو ألا نحكم على هذه الصحوة الكريمة بالفشل؛ لأنها لم تحكم الشريعة في الأمة؛ لأن ما هدم في سنوات لا يمكن -على الإطلاق- أن يبنى في أيام.

فجر الإسلام قادم!

فجر الإسلام قادم! فجر قادم، وأمل يتجدد، نراه في هذه الصحوة التي بدأت تتنزل في كل بقاع الأرض تقريباً، كتنزل حبات الندى على الزهرة الظمأى، والأرض العطشى، لقد ولت هذه الصحوة الكريمة برجالها ونسائها وأولادها ظهرها لواشنطن وبانكوك ومدريد وباريس وتل أبيب وتوجهت من جديد للقبلة التي ارتضاها الله جل وعلا لحبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم. أيها الإخوة! إن وعد الله قائم بنصرة هذا الدين، وبالتمكين لسنة سيد النبيين، هل تصدقون الله؟ هل تصدقون رسول الله؟ لم اليأس ولم القنوط؟! قال الله جل وعلا: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81]، وقال جل وعلا: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:8 - 9]، وقال جل وعلا: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173]، وقال صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح مسلم من حديث ثوبان -: (إن الله زوى لي الأرض؛ فرأيت مشارقها ومغاربها. وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها)، وقال صلى الله عليه وسلم -كما في معجم الطبراني بسند صحيح من حديث تميم الداري -: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر)، انظروا إلى واقع أمريكا من عشر سنوات، هل كنا نرى هذه المراكز، وهذه المساجد، وهذه الملايين من الموحدين والمسلمات والمؤمنات؟ لا، إن الصحوة تتنزل الآن في كل بقاع الأرض، إنه وعد الله! قال الشاعر: لئن عرف التاريخ أوساً وخزرجاً فلله أوس قادمون وخزرج وإن كنوز الغيب تخفي طلائعاً حرة رغم المكايد تخرج لم اليأس؟! ولم القنوط؟! ولم الهزيمة النفسية؟! إن المهزوم نفسياً مشلول الفكر والحركة، فاعتز -أيها المسلم وأيتها المسلمة- بهذا الدين الذي ارتضاه الله للبشرية ديناً، وإنا ما نراه الآن في هذه القاعة لمن أعظم الأدلة العملية على أن أشد ساعات الليل سواداً هي الساعة التي يليها ضوء الفجر، وفجر الإسلام قادم بإذن الله جل وعلا. قال الشاعر: صبح تنفس بالضياء وأشرق والصحوة الكبرى تهز البيرقا وشبيبة الإسلام هذا فيلق في ساحة الأمجاد يتبع فيلقا وقوافل الإيمان تتخذ المدى دربا وتصنع للمحيط الزورقا ما أمر هذي الصحوة الكبرى سوى وعد من الله الجليل تحققا هي نخلة طاب الثرى فنمى لها جذع قوي في التراب وأغدقا هي في رياض قلوبنا زيتونة في جذعها غصن الكرامة أورقا فجر تدفق من سيحبس نوره أرني يداً سدت علينا المشرقا يا نهر صحوتنا رأيتك صافيا وعلى الضفاف رأيت أزهار التقى قالوا تطرف جيلنا لما سمى قدراً وأعطى للطهارة موثقا ورموه بالإرهاب حين أبى الخنا ومضى على درب الكرامة وارتقى أو كان إرهاباً جهاد نبينا أم كان حقاً بالكتاب مصدقا أتطرف إيماننا بالله في عصر تطرف في الهوى وتزندقا إن التطرف أن نذم محمداً والمقتدين به ونمدح عفلقا إن التطرف أن نرى من قومنا من صانع الكفر الليئم وأطرقا يا جيل صحوتنا أعيذك أن أرى في الصف من بعد الإخاء تمزقا لك في كتاب الله فجر صادق فاتبع هداه ودعك ممن فرقا لك في رسولك أسوة فهو الذي بالصدق والخلق الرفيع تخلقا يا جيل صحوتنا ستبقى شامخاً ولسوف تبقى باتباعك أسمقا

وأنذرهم يوم الحسرة

وأنذرهم يوم الحسرة يوم القيامة يوم عصيب، وفيه من الأهوال ما يجعل الولدان شيباً، وفيه ينقسم الناس إلى: أهل حسرات، وأهل مسرات، أما أهل الحسرات: فتتابع عليهم الحسرات والندامات أبد الآبدين. وأما أهل المسرات: فتتابع عليهم المسرات في جنات النعيم إلى أن يصلوا إلى أعظم مسرة وهي: النظر إلى وجه الله تعالى. فعلى العبد أن يحرص على فعل الخيرات، واجتناب المنكرات؛ ليسعد في يوم الحسرة.

الندامة يوم الحسرة

الندامة يوم الحسرة الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي أذل بالموت رقاب الجبابرة، وأنهى بالموت آمال القياصرة، فنقلهم بالموت من القصور إلى القبور، ومن ضياء المهود إلى ظلمة اللحود، ومن ملاعبة الجواري والغلمان إلى مقاساة الهوام والديدان، ومن التنعم في الطعام والشراب إلى التمرغ في الوحل والتراب. أحمدك يا رب وأستعينك وأستغفرك وأستهديك، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، جل ثناؤك، وعظم جاهك، ولا إله غيرك. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ينادي بعد فناء خلقه جل وعلا ويقول: أنا الجبار! أنا الجبار! أنا الجبار! أنا العزيز! أنا الكريم! لمن الملك اليوم؟! لمن الملك اليوم؟! لمن الملك اليوم؟! ثم يجيب جل وعلا عن ذاته ويقول: لله الواحد القهار، سبحانه سبحانه سبحانه سبحان ذي العزة والجبروت!! سبحان ذي الملك والملكوت!! سبحان الحي الذي لا يموت!! سبحان من كتب الفناء على الخلائق ولا يموت. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الرسالة، وبلغ الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين. رفع الله له ذكره، وشرح الله له صدره، ووضع الله عنه وزره، وزكاه الله جل وعلا في كل شيء. زكاه الله جل وعلا في عقله فقال: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم:2]. وزكاه فى صدقه فقال: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3]. وزكاه في صدره فقال: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1]. وزكاه في فؤاده فقال: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11]. وزكاه في بصره فقال: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17]. وزكاه في علمه فقال: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:5]. وزكاه في خلقه فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]. وبعد كل هذا جعل الله جل وعلا حبيبه صلى الله عليه وسلم إمام الأنبياء، وإمام الأصفياء، وإمام الأتقياء، وخاتم الأنبياء وسيد المرسلين، ووهبه الحوض المورود، وأعطاه اللواء المعقود، وبعد ذلك كله قال له: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30]. اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام! فهذا اللقاء الثالث والعشرون، وما زلنا مع آيات سورة مريم، وإن كنا سنواصل الحديث مع أول جمعة من شهر رمضان في تفسير آيات القرآن الكريم، فلسنا ممن يجافي هذا الشهر العظيم، فإن شهر رمضان هو شهر القرآن؛ لقول الله جل وعلا: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة:185]. فتعالوا بنا لنواصل المسيرة مع القرآن الكريم، فما أجمل أن تكون اللحظات التي نقضيها مع آيات من كتاب الله جل وعلا، مع هذا الذكر الحكيم، ومع هذا النور المبين، ومع هذا الصراط المستقيم، مع مأدبة الله جل وعلا؛ مع القرآن الكريم.

استغاثة أهل النار بأهل الجنة

استغاثة أهل النار بأهل الجنة ومن موجبات الحسرة يوم القيامة أنه تنخلع القلوب حينما يرون جهنم على حقيقتها وعلى طبيعتها لأول مرة وهم في أرض المحشر، يأمر الله جل وعلا أن يؤتى بجهنم، فيؤتى بها لها سبعون ألف زمام! مع كل زمام سبعون ألف ملك، كما ورد في الحديث الذي رواه مسلم من حديث عبد الله بن مسعود؛ {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر:23 - 24]. يا ليتني حافظت على الصلوات، يا ليتني وحدتُ ربَّ الأرض والسماوات، يا ليتني عبدت الله جل وعلا، يا ليتني صمت النهار، يا ليتني قمت الليل، يا ليتني ما عصيت الله، يا ليتني ما انشغلت بالشهوات، يا ليتني ما انشغلت بالشبهات، يا ليتني يا ليتني يوم لا ينفع الندم، إنه يوم الحسرة والندامة، يوم لا ينفع التحسر، ولا ينفع الندم. (وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ) يرون جهنم فيتحسرون ويتألمون وتنخلع القلوب لهول ما رأوا، يرون جهنم يؤتى بها لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها، فإذا رأوها لا يبقى ملك ولا يبقى نبي ولا يبقى صِدِّيق إلا خَرَّ على ركبتيه في أرض المحشر؛ لهول ما رأى! {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} [الجاثية:28] فإذا رأوا هذا الهول وهذا المنظر الذي يخلع القلوب والأفئدة، اضطربت الجوارح والأفئدة وفزع الجميع، فإذا انتهى الحساب واستقر أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، يبدأ هذا الحوار بين أهل الجنة وأهل النار. وربما سأل سائل، وقال: كيف يسمع أهل الجنة أهل النار، وكيف يسمع أهل النار أهل الجنة؟! نقول: ألم نقل لكم في اللقاء الماضي: إن الله جل وعلا سيبدل كل شيء، وسيحول كل شيء؛ حتى سمع الإنسان يتغير فيسمع أي شيء، ويرى أي شيء: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [مريم:38]، تغير كل شيء فبصرك اليوم حديد. يبدأ أهل الجنة بهذا الحوار: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ} [الأعراف:44] ينادي أهل الجنة على أهل النار: {أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ} [الأعراف:44]، جواب قاطع مختصر. {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [الأعراف:44]. ويستمر الحوار بين أهل الجنة وأهل النار، وبعد بضع آيات في سورة الأعراف ينتهي هذا الحوار بتلهف واستغاثة واستجداء من أهل النار لأهل الجنة: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} [الأعراف:50] هذه هي الاستغاثة استجداء طلب رجاء يا أهل الجنة يا أهل الجنة! أفيضوا علينا شيئاً من الماء، نريد قليلاً من الماء اشتد بنا العطش في هذه النيران المتأججة! (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ)، فيأتي الجواب الذي يزيد تحسرهم الذي يزيد تألمهم الذي يزيد فيهم الهم والغم، فيقولون لهم: {إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف:50]، أي: لقد حرم الله على الكافرين هذا في هذا اليوم، ألم ينزل عليكم القرآن؟! ألم يرسل إليكم الرسل؟! ألم يذكروكم بهذا اليوم؟! ولكنكم تعاليتم على الله جل وعلا، واستكبرتم على رسل الله، واستهزأتم بالعلماء، وأبيتم إلا أن تعاندوا الله جل وعلا، وأن تعاندوا شرع الله عز وجل، فقلتم: لا ربا، وقلتم: لا خمر، بل إن الربا هو الفوائد، وإن الخمر هي المشروبات الروحية، وإذا ما أمركم الله جل وعلا استهزأتم بأوامر الله، وإذا ما نهاكم رسول الله سخرتم بنهي رسول الله، وإذا ما ذكركم العلماء قلتم: هؤلاء هم المتنطعون المتطرفون. أبيتم إلا أن تعرضوا عن منهج الله جل وعلا، و {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60]؟! كذلك لا جزاء لهذا الكفر ولهذا العناد والإعراض إلا ما ترون: {أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا} [الأعراف:44]، هل وجدتم ما كنتم تكفرون به، وما كنتم تكذبون به، وما كنتم تعارضونه؟ هل وجدتموه اليوم على حقيقته؟! قالوا: نعم فتزداد الحسرة ويزداد التألم.

حرمان الكافرين من النظر إلى وجه الله الكريم

حرمان الكافرين من النظر إلى وجه الله الكريم ومن موجبات الحسرة لهؤلاء أيضاً -والعياذ بالله- حينما تتم السعادة لأهل الجنة بالنظر إلى وجه الله كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ينادي الحق جل وعلا يوم القيامة على أهل الجنة، ويقول لهم: يا أهل الجنة! فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، والخير كله في يديك. فيقول الله جل وعلا: هل رضيتم يا أهل الجنة؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى؟ ألم تدخلنا الجنة؟ ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تنجنا من النار؟ فيقول الله جل وعلا: أفلا أعطيكم أفضل من هذا؟). وفي رواية مسلم: (يقولون: وأي شيء أفضل من هذا؟ فيقول جل وعلا: أن أحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبداً). يا للكرامة!! (أن أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً)، وفي رواية مسلم: (فيكشف الحجاب)؛ لأن الله جل وعلا حجابه النور كما ورد في صحيح مسلم من حديث أبي موسى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور أو النار، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه). ولكن يوم القيامة يتبدل كل شيء، ويتغير كل شيء، فيكشف الله الحجاب، فيتمتعون بالنظر إلى وجه الله عز وجل، وتلا النبي صلى الله عليه وسلم قول الله عز وجل: ({لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26])، والحسنى: هي الجنة، والزيادة: هي التمتع بالنظر إلى وجه ربنا جل وعلا. يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: ليس نعيم الجنة في لبنها ولا في خمرها ولا في حريرها ولا في ذهبها ولا في حورها ولا في نعيمها! ولكن نعيم الجنة الحقيقي في رؤية وجه الله جل وعلا، هذا هو النعيم الذي ما انشغل به أهل الجنة إلا نسوا كل نعيم: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} [القيامة:22 - 25].

حال المجرمين يوم الحسرة

حال المجرمين يوم الحسرة قال الله جل وعلا: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم:39 - 40]. أحبتي في الله! أعيروني القلوب والأسماع؛ لنعيش مع هذه الآيات والكلمات النيرات الطيبات المباركات. هذا هو الإنذار العام لجميع الخلائق على ظهر هذه الأرض، من الله جل وعلا لحبيبه المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم. (وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ)، والإنذار في اللغة: هو الإعلام المقترن بالتهديد والوعيد. والحسرة في اللغة: هي أشد الندم والتلهف على الشيء الذي فات ولا يمكن تداركه. يقول الله جل وعلا: (وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ): إنه يوم القيامة يا عباد الله إنه يوم الحسرة والندامة إنه يوم الحاقة إنه يوم القارعة إنه يوم الزلزلة إنه يوم الصيحة إنه يوم الصاخة إنه يوم الطامة الكبرى إنه يوم الآزفة يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم:48]. {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:104]. {يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا} [المزمل:14]. {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} [النحل:111]. {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [آل عمران:30]. {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا} [الأحزاب:66]. {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران:106 - 107]. {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} [الفرقان:27]. {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا * وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا * وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:47 - 49]. قال تعالى: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} [مريم:39] إنه يوم القيامة إنه يوم الحسرة والندامة: وأنذرهم يا محمد! هذا اليوم الذي تنخلع القلوب من أهواله، أنذر الغافلين، وأنذر المؤمنين، وأنذر الصادقين، وأنذر العصاة، إنذارٌ عام لجميع الخلائق على ظهر هذه الأرض: (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ).

ذبح الموت والإيذان بالخلود

ذبح الموت والإيذان بالخلود موجبات الحسرة يوم القيامة كثيرة يا عباد الله! فمنها ما رواه الإمام البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، ينادى عليهم: يا أهل الجنة! فيشرئبون وينظرون -أي: يرفعون رءوسهم تجاه هذا النداء- ثم ينادى على أهل النار: يا أهل النار! فيشرئبون وينظرون، ثم يؤتى بالموت على هيئة كبش أملح)، والكبش الأملح: هو الذي كثر بياضه، أو هو الأبيض بياضاً كاملاً. يؤتى بالموت على هيئة كبش أملح في موضع بين الجنة والنار، وينادى على أهل الجنة، وينادى على أهل النار، ويقال لهم: هل تعرفون هذا؟! فيقولون: نعم نعرفه، هذا هو الموت، (فيؤمر بذبحه، فيذبح الموت -وهو في صورة هذا الكبش الأملح في موضع بين الجنة والنار- ثم ينادى على أهل الجنة: يا أهل الجنة! خلود فلا موت، ويا أهل النار! خلود فلا موت). الله أكبر!! يا أهل الجنة! خلود في النعيم أبد الآبدين، ويا أهل النار! خلود في الجحيم أبد الآبدين إلا ما شاء الله جل وعلا، وإلا من شاء الله له أن يخرج من النار. يا أولياء الله! يا أصفياء الله! هنيئاً لكم بهذه الكرامة، خلود في هذا النعيم أبد الآبدين، ويا أهل النار! خلود فلا موت إلا من شاء الله جل وعلا له أن يخرج في الوقت الذي يشاء، وبالكيفية التي يشاء جل وعلا. هذا من موجبات الحسرة يوم القيامة يا عباد الله!

خطبة إبليس

خطبة إبليس وتزداد حسرتهم بعد أن تتم السعادة لأهل الجنة بخطبة إبليس اللعين! يوم أن يقف إبليس فيهم خطيباً؛ لتزداد الحسرة ولتتم الحسرة والألم، كما أخبر الله جل وعلا عن ذلك في سورة إبراهيم بقوله: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم:22]. هذه بعض موجبات الحسرة في هذا اليوم.

أهوال القيامة

أهوال القيامة مثل لنفسك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمور إذ كورت شمس النهار وأدنيت حتى على رأس العباد تسير وإذا النجوم تساقطت وتناثرت وتبدلت بعد الضياء كدور وإذا الجبال تقلعت بأصولها فرأيتها مثل السحاب تسير وإذا العِشَارُ تعطلت وتخربت خلت الديار فما بها معمور وإذا الوحوش لدى القيامة أحشرت وتقول للأملاك أين نسير وإذا البحار تفجرت من خوفها فرأيتها مثل الجحيم تفور وإذا الجليل طوى السما بيمينه طَيَّ السجل كتابه المنشور وإذا الصحائف نشرت فتطايرت وتهتكت للعالمين سطور وإذا الجحيم تسعرت نيرانها فلها على أهل الذنوب زفير وإذا الجنان تزخرفت وتطيبت لفتىً على طول البلاء صبور أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ * وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ * وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ * وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ * وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ * وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} [التكوير:1 - 14]. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ * يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ * كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ * وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ * إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ * يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ * وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار:1 - 19]. ويقول سبحانه وتعالى: بسم الله الرحمن الرحيم: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:1 - 8]. مثّل وقوفك يوم العرض عريانا مستوحشاً قلق الأحشاء حيرانا والنار تلهب من غيظ ومن حنق على العصاة ورب العرش غضبانا اقرأ كتابك يا عبدي على مهل فهل ترى فيه حرفاً غير ما كانا لما قرأت ولم تنكر قراءته إقرار من عرف الأشياء عرفاناً نادى الجليل خذوه يا ملائكتي وامضوا بعبد عصى للنار عطشانا المشركون غداً في النار يلتهبوا والمؤمنون بدار الخلد سكانا {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ} [مريم:39]، واستقر أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار: {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [مريم:39] أي: أن أهل الدنيا في غفلة، والكفار منهم لا يؤمنون بهذا اليوم. وبعدها يأتي الجواب الفصل، وتأتي الحقيقة الكبرى في هذا الوجود، يأتي قول الحق جل وعلا: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم:40]. لنتعرف على معاني هذه الكلمات بعد جلسة الاستراحة، أسأل الله جل وعلا أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال، وأن يغفر لنا الذنوب، إنه ولي ذلك ومولاه. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

لمن الملك اليوم

لمن الملك اليوم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي المتقين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إمام الغر المحجلين. اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أحبتي في الله! هكذا يقول الحق جلا وعلا: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم:4] هذه هي الحقيقة الكبرى في هذا الوجود. يا من غرك غناك! يا من غرتك قوتك! يا من غرتك أموالك! يا من غرك جاهك! يا من غرتك وزارتك! يا من غرك جندك! اعلم بأنك موروث اعلم بأنك راحل إلى لله جل وعلا، فمهما طالت دنياك فهي قصيرة ومهما عظمت دنياك فهي حقيرة؛ لأن الليل مهما طال لابد من طلوع الفجر، ولأن العمر مهما طال لابد من دخول القبر، إن الله جل وعلا هو الوارث لكل شيء، وهو والوارث لكل حي: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم:40]. ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6]. ويقول سبحانه: {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} [العلق:8]. ويقول سبحانه وتعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا} [مريم:40]. إذا أمر الله إسرافيل بنفخة الصعق، مات كل حي على ظهر هذه الأرض، وكل حي في السموات إلا من شاء الله جل وعلا كما قال ربنا: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68]، فإذا ما أفنى الله خلقه وذهب كل شيء، فلا يبقى إلا الله، فهو الأول والآخر، هو الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد. سكون مذهل وخشوع مزلزل، لا حس ولا حركة ولا صوت، ضاع كل شيء، وذهب كل شيء، وأفنى الله كل شيء، وفي وسط هذا السكون وهذا الصمت وهذا الخشوع، ينطلق صوت رهيب جليل مهيب! يسأل صاحب الصوت ويجيب، فما في الوجود يومئذٍ من سائل غيره ولا مجيب، يهتف الحق جل وعلا بصوته ويقول: (أنا الملك، أين ملوك الأرض؟! أين المتجبرون؟! أين المتكبرون؟!). وفي رواية مسلم: يقول جل وعلا: (لمن الملك اليوم؟ فيجيب سبحانه عن ذاته بقوله: لله الواحد القهار)، أين الملوك؟! أين الظالمون؟! وأين التابعون لهم في الغي؟! بل أين فرعون وهامان؟! أين من دوخوا الدنيا بسطوتهم وذكرهم في الورى ظلم وطغيان هل خلد الموت ذا عز لعزته أو هل نجا منه بالسلطان إنسان لا والذي خلق الأكوان من عدم الكل يفنى فلا إنس ولا جان وقال الآخر: يا نفس قد أزف الرحيل وأظلك الخطب الجليل فتأهبي يا نفس لا يلعب بك الأمل الطويل فلتنزلن بمنزل ينسى الخليل به الخليل وليركبن عليك فيه من الثرى ثقل ثقيل قرن الفناء بنا فما يبقى العزيز ولا الذليل {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم:40]. فيا من غرتك أموالك! يا من غرتك الدولارات والريالات! اعلم بأنك راحل إلى رب الأرض والسماوات، اعلم بأنك موقوف بين يدي الله جل وعلا. تقاسم الأهل مالي بعدما انصرفوا وصار وزري على ظهري فأثقلني وبعد كل ذلك فإن الجميع موروث إلى الله جل وعلا: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم:40]. اعلم بأنك راحل إلى الله وموقوف بين يدي الله، ستعرض على محكمة قاضيها الله، لتقرأ كتابك الذي سطر عليك كل شيء، في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى! فيا أيها المسكين! أيها الغافل! أيها اللاهي الساهي! إلى متى إلى متى؟ عد إلى الله ارجع إلى الله جل وعلا إن العمر قليل، وإن الأنفاس محسوبة، وإن الأيام معدودة. دع عنك ما قد فات في زمن الصبا واذكر ذنوبك وابكها يا مذنب لم ينسه الملكان حين نسيته بل أثبتاه وأنت لاه تلعب والروح منك وديعة أودعتها ستردها بالرغم منك وتسلب وغرور دنياك التي تسعى لها دار حقيقتها متاع يذهب الليل فاعلم والنهار كلاهما أنفاسنا فيها تعد وتحسب {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم:40]. أسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى أن يجعلني وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولو الألباب. اللهم اقبل منا الصيام والقيام اللهم اقبل منا الصيام والقيام اللهم لا تجعلنا ممن صام وقام ولم يرضك يا أرحم الراحمين! اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم لا تدع اللهم لأحد منا في هذا الجمع الطيب ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا أديته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ويسرتها يا رب العالمين! اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل اللهم فينا ولا منا ولا بيننا شقياً ولا محروماً، اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا سبباً لمن اهتدى اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا سبباً لمن اهتدى اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا سبباً لمن اهتدى. اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، وأعل بفضلك كلمتي الحق والدين. اللهم قيض لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، أنت ولي ذلك ومولاه، ووفق اللهم ولاة الأمور للعمل بكتابك، والاقتداء بسنة نبيك صلى الله عليه وسلم، أنت ولي ذلك والقادر عليه. هذا وأكثروا من الصلاة والسلام على نبينا وحبيبنا محمد، فإن الله جل وعلا وملائكته يصلون عليه، وقد أمركم بالصلاة عليه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]. اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين. هذا وما كان من توفيق فمن الله جل وعلا، وما كان من خطأ أو زلل أو سهو أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون عليه إلى الجنة ويقذف به في جهنم، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.

يوم الحساب

يوم الحساب من تمام حكمة الله أن جعل يوماً للحساب الأعظم، يحاسب فيه خلقه على ما فعلوه في دار الابتلاء، وقد بين سبحانه في كتابه أهوال يوم الحساب وشدائده، وأوضح كيف سيكون ذلك الحساب، وعلام يحاسب المرء؟ فعلى العبد أن يستعد لذلك اليوم، وأن يحاسب نفسه قبل أن يحاسب، وأن يقتدي بسلفه الصالح الذين كانوا يحاسبون أنفسهم محاسبة الشريك الشحيح لشريكه.

لا ظلم اليوم

لا ظلم اليوم بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة وبلغ الرسالة ونصح للأمة فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء وأيها الإخوة الأحباب الكرام الأعزاء، وطبتم جميعاً وطاب ممشاكم وتبوأتم من الجنة منزلا، وأسأل الله الكريم الحليم جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت المبارك على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله: في رحاب الدار الآخرة، سلسلة علمية هامة تجمع بين المنهجية والرقائق، وبين التأصيل العلمي والأسلوب الوعظي، الهدف منها تذكير الناس بالآخرة في عصر طغت فيه الماديات والشهوات، وانصرف كثير من الناس عن طاعة رب الأرض والسماوات؛ ليتوبوا إلى الله جل وعلا، ويتداركوا ما قد فات قبل أن تأتيهم الساعة بغتة وهم يخصمون، فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون، وهذا هو لقاؤنا الثالث عشر من لقاءات هذه السلسلة العلمية الكريمة، وكنا قد توقفنا في اللقاء الماضي مع هذا المشهد المهيب الكريم، حينما يأتي الحق جل جلاله إلى أرض المحشر إتياناً يليق بكماله وجلاله، مصداقاً لقوله سبحانه: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [البقرة:210]. يضع الحق جل جلاله كرسيه حيث شاء من أرضه، ثم يقول سبحانه: (يا معشر الجن والإنس إني قد أنصت لكم منذ خلقتكم إلى يومكم هذا، أسمع قولكم وأبصر أعمالكم فأنصتوا اليوم إلي، فإنما هي أعمالكم وصحفكم تقرأ عليكم، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)، وهنا يبدأ الحساب للعباد، وهذا هو موضوعنا اليوم مع حضراتكم بإذن الله جل وعلا، وكما تعودنا فسوف ينتظم حديثنا مع هذا المشهد الرهيب المهيب في العناصر التالية: أولاً: لا ظلم اليوم. ثانياً: العرض على الله وأخذ الكتب. ثالثاً: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا. فأعيروني القلوب والأسماع. والله أسال أن يسترنا فوق الأرض وتحت الأرض، ويوم العرض إنه حليم كريم رحيم! أولاً: لا ظلم اليوم: أيها الأحباب الكرام: والله لو عذب الله أهل سماواته وأرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، فهم عبيده في ملكه، والمالك يتصرف في ملكه كيف يشاء، ولكنه جل وتعالى قد حرم الظلم على نفسه وجعله بين العباد محرماً. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء:40] وقال جل وعلا: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] وقال الله جل وعلا: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعالَمِينَ} [آل عمران:108] وقال أيضاً في الحديث القدسي الذي رواه مسلم من حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم عن رب العزة: (يا عبادي! إني حَرَّمْتُ الظلمَ على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا).

قواعد الحساب يوم القيامة

قواعد الحساب يوم القيامة إن الله جل وعلا عدل، لطيف، حليم، كريم لا يظلم أحداً من خلقه، ولا يظلم أحداً من عباده، ولذا فإن الله جل وعلا يحاسب العباد يوم القيامة وفقاً للقواعد التالية:

تبديل السيئات حسنات

تبديل السيئات حسنات القاعدة السادسة: تبديل السيئات حسنات، وذلك لعباد الرحمن من المؤمنين والموحدين، قال تعالى في صفات عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:68 - 70]. وفي الحديث الصحيح الذي رواه مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: حدثنا الصادق المصدوق فقال: (إني لأعلم آخر أهل الجنة، دخولاً الجنة وآخر أهل النار دخولاً إلى النار، رجل يؤتى به يوم القيامة فيقول الحق جل جلاله لملائكته: اعرضوا عليه صغار ذنوبه وارفعوا عنه كبارها، فتعرض عليه صغار ذنوبه فيشفق، ويقال له: لقد عملت كذا يوم كذا وكذا، فيقول: نعم. يقول المصطفى: لا يستطيع أن ينكر وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه). وفي هذه الحالة الرهيبة من الرعب والفزع يقال له: (إن لك مكان كل سيئة حسنة)، والحديث في صحيح مسلم. يقول الله: {الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ * قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ * قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق:26 - 29].

مضاعفة الحسنات

مضاعفة الحسنات أما القاعدة الخامسة والسادسة فلأهل التوحيد والإيمان، أسأل الله أن يختم لنا ولكم به. القاعدة الخامسة: مضاعفة الحسنات لأهل الإيمان: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21]، فالله سبحانه وتعالى يضاعف الحسنة إلى عشر أمثالها. قال تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [الأنعام:160] ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الذي رواه أحمد في مسنده والحاكم في مستدركه وحسن الحديث شيخنا الألباني من حديث أبي ذر الغفاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: الحسنة بعشر أمثالها أو أزيد، والسيئة واحدة أو أغفرها). وفي الحديث الذي رواه الترمذي وصححه الشيخ الألباني من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، أما إني لا أقول: (ألم) حرف، ولكن (ألف) حرف، (ولام) حرف، (وميم) حرف) بل قد يضاعف الله الحسنة إلى سبعمائة ضعف: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:261] بل قد يضاعف الله الحسنة إلى أكثر من سبعمائة ضعف، وهناك من الأعمال ما لا يعلم ثوابها إلا الله. قال تعالى في الحديث القدسي المخرج في الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به). ولك أن تتصور الجزاء من الواسع الكريم جل جلاله. وأما الصبر فقال الله فيه: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10].

إقامة الشهود

إقامة الشهود القاعدة الرابعة: إقامة الشهود على العباد، وأعظم شهيد على العباد يوم القيامة هو الملك الذي يعلم السر وأخفى، وعلم ما كان وما هو كائن، وما سيكون، فالله جل وعلا هو أعظم شهيد علينا يوم القيامة، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} [النساء:33] ثم تأتى الرسل فيشهد كل رسول على أمته، وتأتى أمة الحبيب لتشهد على جميع الأمم. قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143] وقال تعالى مخاطباً حبيبه المصطفى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء:41] وفي صحيح البخاري من حديث أبي سعيد الخدري أن الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يُدْعَى نوح يوم القيامة فيقال له: يا نوح، فيقول: لبيك وسعديك. فيقول الله: هل بَلَّغْتَ قومك؟ فيقول نوح: نعم يا رب! فيقول الله جل وعلا لقوم نوح: هل بَلَّغَكُم نوح؟:فيقولون: لا، ما أتانا من أحد، فيقول الله جل وعلا: من يَشْهَد لك يا نوح؟ فيقول نوح: يشهد لي محمد وأمته، يقول المصطفى: فتدعون فتشهدون له، ثم أشهد عليكم فذلكم قول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143]) ثم تشهد الملائكة، قال تعالى: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق:21] ثم تشهد الأرض بما عملت على ظهرها من طاعات وسيئات، ففي الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم: قرأ يوماً قول الله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة:4]. فقال: (أتدرون ما أخبارها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: أخبارها: أن تشهد الأرض على كل عبد أو أَمَةٍ بما عمل على ظَهْرِهَا، فتقول: يا رب! لقد عمل كذا وكذا في يوم كذا وكذا)، فهذه أخبارها، فيجادل العبد اللئيم ربه الكريم ويقول: يا رب! أنا أرفض هذه الشهادة، وأرفض هؤلاء الشهود. يا سبحان الله! يظن أنه في محكمة من محاكم الدنيا! يقول العبد اللئيم لربه الرحيم الكريم: أنا أرفض هذه الشهادة ولا أعترف بشهادة هؤلاء الشهود! كما في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم من حديث أنس (أنه صلى الله عليه وسلم ضحك -بأبي هو وأمي-، ثم قال لأصحابه: لم لا تسألوني مم أضحك؟ فقالوا: مم تضحك يا رسول الله؟ فقال المصطفى: أضحك من مجادلة العبد لربه يوم القيامة، يقول العبد لربه: يا رب! ألم تجرني من الظلم؟! فيقول الله: بلى، قد أجرتك من الظلم. فيقول العبد: فإني لا أجيز شاهداً علي إلا من نفسي، فيقول الله سبحانه: كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا، فيختم الله على فيه -على فمه، وعلى لسانه، الذي تعود الجدال والكذب واللؤم والنفاق- ويأمر الله أركانه وجوارحه أن تنطق، فتشهد عليه جوارحه وأركانه، فإذا خلي بينه وبين الكلام، سب ولعن أركانه وقال لها: سحقاً لكن سحقاً لكن فعنكن كنت أناضل!). {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65]، وقال جل وعلا: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} [فصلت:19 - 24].

لا تزر وازرة وزر أخرى

لا تزر وازرة وزر أخرى القاعدة الثانية: أن لا تَزِرُ وازرة وِزْرَ أخرى، بل إن كل نفس تؤاخذ بإثمها وتعاقب بجرمها: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا * مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:13 - 15]. وقال تعالى: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وفي * أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى} [النجم:36 - 41]. فلا تتحمل نفس ذنب نفس أخرى، بل سيمر الولد يوم القيامة على والده، فيقول له والده: أي بني! أنا أبوك أعطني حسنةً من حسناتك فلقد كنت لك نِعْمَ الأب، فيقول الابن لأبيه: نفسي! ويقول الابن لأمه: نفسي. كيف لا؟!! وقد قال كل نبي من الأنبياء في هذا اليوم العصيب: نفسي، نفسي، نفسي إلا المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.

إعذار الله لخلقه

إعذار الله لخلقه القاعدة الثالثة: إعذار الله لخلقه. من قواعد العدل التي سيحاسب الله بها عباده يوم القيامة: إعذار الله لخلقه، فالله جل وعلا هو الحكم العدل، هو اللطيف العليم الخبير، وهو الذي يعلم ما علم العباد من يوم أن خلقهم إلى يوم أن قبضهم، ومع ذلك فمن عظيم عدله وعظيم فضله أنه يعرض أعمال العباد عليهم يوم القيامة، حتى لا يكون لأحد عذر بين يديه جل وعلا. قال تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:30] وقال سبحانه: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} [التكوير:14] وقال جل وتعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} [الانفطار:5] فالله يقيم الحجة على خلقه في الدنيا، بل ويبين لهم ويعرض عليهم أعمالهم في الآخرة، حتى لا يكون لأحد عذر بين يديه سبحانه وتعالى!

العدل التام

العدل التام القاعدة الأولى: العدل التام الذي لا يشوبه أي ظلم. قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47] كفى بالله حسيباً. اعلم أنك لن تعرض على محكمة كمحاكم الدنيا، ففي محاكم الدنيا قد يجيد المحامون التزويرَ والتحريفَ، أو قد يجيد المحامون إقامة الحجة للخصم وربما يخرج الخصم وهو مدان، ولكن اعلم بأن الذي سيتولى حسابك من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. وقال جل وعلا: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا * وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا * وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:47 - 49] قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8] {لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [غافر:17] فالمقصود أن عمل ابن آدم كله محفوظ ومسطور في كتاب عند الله جل وعلا، لا يضل ربي ولا ينسى. واعلم بأن ما نسيه الإنسان لا ينساه الرحمان. دع عنك ما قد كان في زمن الصبا واذكر ذنوبك وابكها يا مذنب لم ينسه الملكان حين نسيته بل أثبتاه وأنت لاهٍ تلعب والروح منك وديعة أودعتها ستردها بالرغم منك وتسلب وغرور دنياك التي تسعى لها دار حقيقتها متاع يذهب الليل فاعلم والنهار كلاهما أنفاسنا فيها تعد وتحسب فما نسيه الإنسان لا ينساه الرحمن. إذاً: القاعدة الأولى هي العدل، قال جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء:40].

العرض على الله وأخذ الكتب

العرض على الله وأخذ الكتب في الصحيحين من حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من نوقش الحساب يوم القيامة عُذِّبْ، قالت عائشة: يا رسول الله أو ليس الله يقول: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق:7 - 8]، فقال المصطفى: إنما ذلك العرض، وليس ذلك هو الحساب يا عائشة، فمن نوقش الحساب يوم القيامة عذب). سينادى عليك ليكلمك الله كما في الصحيحين من حديث عدي بن حاتم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه يوم القيامة ليس بينه وبينه تُرجُمَان، فينظر العبد أيمن منه فلا يرى إلا ما قَدَّمَ، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة). تنادي الملائكة: أين فلان بن فلان؟!! فإذا تَيَقّنْتَ أنك أنت المطلوب، قرع النداء قلبك، فاصفر لونك، وتغير وجهك، وطار قلبك، وقد وُكّلَت الملائكة بأخذك أمام الخلق أجمعين، وعلى رءوس الأشهاد، ويرفع الخلائق جميعاً أبصارهم إليك وأنت في طريقك للوقوف بين يدي الملك، تتخطى الصفوف. أسألك بالله أن تتصور هذا المشهد الذي يكاد يخلع القلوب. تتخطى الصفوف صفوف الملائكة صفوف الجن صفوف الإنس، في أرض المحشر لترى نفسك واقفاً بين يدي الحق جل جلاله ليكلمك الله لتعطى صحيفتك!! هذه الصحيفة التي لا تغادر بلية كتمتها ولا مخبأة أسررتها، فكم من معصية قد كنت نسيتها ذكرك الله إياها؟! وكم من مصيبة قد كنت أخفيتها أظهرها الله لك وأبداها!! فيا حسرة قلبك وقتها على ما فرطت في دنياك من طاعة مولاك، فإن كان العبد من أهل السعادة وممن رضي الله عنهم في الدنيا والآخرة، أعطاه الله كتابه بيمينه وأظهر له في ظاهر الكتاب الحسنات، وفي باطنه السيئات فيؤمر العبد أن يبدأ فيقرأ السيئات فيصفر لونه! ويتغير وجهه! فإذا ما أنهى قراءة السيئات وجد في آخر الكتاب، هذه سيئاتك قد غفرتها لك، فيتهلل وجهه ويسعد سعادة لا يشقى ولن يشقى بعدها أبداً! ويواصل القراءة حتى إذا ما وصل إلى آخر الكتاب قرأ الحسنات فازداد وجهه إشراقاً وازداد فرحاً وسروراً، وقال له الملك جل جلاله: انطلق إلى أصحابك وإخوانك -أي: من أهل التوحيد والإيمان- فبشرهم أن لهم مثل ما رأيت فينطلق وكتابه بيمينه والنور يشرق من وجهه وأعضائه يقول لأصحابه وخلاَّنه: ألا تعرفونني؟! فيقولون: من أنت لقد غمرتك كرامة الله؟!! فيقول: أنا فلان بن فلان، انظروا هذا كتابي بيميني! اقرءوا كتابيه! اقرءوا هذا الكتاب معي! شاركوني السعادة والفرحة! انظروا! هذا توحيدي، وهذه صلاتي، وهذه زكاتي، وهذا حجي، وهذا برى بوالدي، وهذه صدقتي، وهذا إحساني للجيران، وهذا ولائي وبرائي، وهذا بغضي لأعداء الله، وهذه دعوتي، وهذا أمري بالمعروف، وهذا نهي عن المنكر، وهذا بعدي عن الغيبة والنميمة، وهذا بعدي عن ظلم العباد. {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:19 - 24]. فإن كانت الأخرى -أعاذني الله وإياكم من الأخرى- وكان العبد من أهل الشقاوة وممن غضب الله عليهم في الدنيا والآخرة، ينادى عليه: أين فلان ابن فلان -وسبحان من لا تختلف عليه الأصوات، ولا تشتبه عليه اللغات، ولا تشتبه عليه الأسماء والصفات- أين فلان ابن فلان؟ فيتيقن العبد أنه اسمه ماذا تريدون يا ملائكة الله؟ فيقولون: هلم إلى العرض على الله جل وعلا، فيتخطى الصفوف ليرى نفسه بين يدي الله فيعطى كتابه بشماله، أو من وراء ظهره، فيقرأ فيسود وجهه، ثم يكسى سرابيل القطران، ويقال له: انطلق إلى منهم على شاكلتك فبشرهم أن لهم مثل ما رأيت، فينطلق في أرض المحشر وقد اسود وجهه وعلاه الخزي، والذل والعار، وكتابه بشماله، أو من وراء ظهره! فينطلق فيقول لخلانه ومن هم على شاكلته: ألا تعرفونني؟! فيقولون: لا إلا أننا نرى ما بك من الخزي والذل فمن أنت؟! فيقول: أنا فلان وهذا كتابي بشمالي ولكل واحد منكم مثل هذا، ويصرخ في أرض المحشر! فلقد شقى شقاوة لا يسعد بعدها أبداً، يصرخ بأعلى صوته ويقول: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} [الحاقة:25 - 37]. ولله در القائل: مثل وقوفك يوم العرض عريانا مستوحشاً قلق الأحشاء حيرانَا والنار تلهب من غيظٍ ومن حنقٍ على العصاة ورب العرش غضبانا اقرأ كتابك ياعبدُ على مَهَل فهل ترى فيه حرفاً غير ما كانا لما قرأتَ ولم تنكر قراءتهُ أقررت إقرار من عرف الأشياء عرفانا نادى الجليل: خذُوهُ يا ملائكتي وامضوا بعبدٍ عصى للنار عطشانا المشركون غداً في النار يَلتَهبُوا والمؤمنون بدار الخلد سكانا وأقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا

حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، اللهم صلَّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام: هذه صورة مصغرة على قدر جهلي أقدمها لحضراتكم عن الحساب، ولك -أخي- أن تعيش بقلبك وكيانك كله هذا المشهد الذي يكاد أن يخلع القلوب، هذا إن كنا ممن يحمل في الصدور القلوب، فإنه لا يتأثر بموعظة ولا يستجيب لآية أو حديث إلا من كان له قلب. قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37]. وكم من الناس الآن من يتحرك في هذه الدنيا وهو لا يحمل قلباً، فقد مات قلبه منذ زمن، وكفن منذ أمد، يسمع القرآن يتلى ولا حياة لمن تنادي، يسمع أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم فربما يسخر ويهزأ بمذكره. فيا أيها الأخ الكريم: حاسب نفسك الآن قبل أن تحاسب بين يدي الجبار. قال عمر -والأثر رواه أحمد والترمذي بسند صحيح-: (أيها الناس! حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتزينوا للعرض الأكبر يوم لا تخفى منكم خافية، فإنما يخفف الحساب يوم القيامة عمن حاسب نفسه في الدنيا).

أقسام النفس

أقسام النفس أخي الحبيب! حاسب نفسك الآن، واعلم بأن النفس أمارة بالسوء، ولقد وصف الله النفس في القرآن بثلاث صفات ألا وهي: المطمئنة، واللوامة، والأمارة بالسوء. فالمطمئنة: هي التي اطمأنت إلى الرضا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبالمصطفى رسولاً. المطمئنة: هي التي اطمأنت إلى وعد الله ووعيده. المطمئنة: هي التي اطمأنت إلى ذكر الله وعبوديته، وتشتاق دوماً للقاء الله سبحانه. واللوامة: هي التي تلوم صاحبها على الخير وعلى الشر، تلوم صاحبها على الخير لماذا لم تكثر منه، وتلوم صاحبها على الشر لماذا وقعت فيه؟ ولماذا تسوف التوبة؟ ولماذا تتخلف عن الصلاة في بيوت الله؟ إلى متى وأنت على هذا الضلال؟ فاللوامة تلوم صاحبها على الخير والشر. أما النفس الأمارة: فهي التي تريد أن تخرجك من طريق الهداية إلى طريق الغواية من طريق النعيم إلى طريق الجحيم، ومن طريق السنة إلى طريق البدعة ومن طريق الحلال إلى طريق الحرام، قال تعالى: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [يوسف:53]. فهذه النفس إن لم تشغلها بطاعة الله شغلتك بالمعصية، وإن لم تلجمها بلجام التقوى شغلتك بالباطل، فالنفس كالطفل فإن فطمت الطفل عن ثدي أمه انفطم، وكذلك النفس إن فطمتها عن معصية الله وألجمتها بلجام الطاعة والتقوى انقادت، فإن زلت نفسك لبشريتك ولضعفك فلست ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً فسرعان ما يدفع إيمانك وعلمك بنفسك الأمارة إلى التوبة والأوبة والعودة إلى الله جل وعلا، وأنت على كل حال من الأحوال على طريق طاعة الكبير المتعال، وسيد الرجال صلى الله عليه وسلم. أيها الحبيب! النفس أمارة، فحاسب نفسك الآن قبل كل عمل وبعد كل عمل: لماذا أتيت؟ لماذا سأتكلم؟ لماذا أسكت؟ لماذا أنفقت؟ لماذا أمسكت؟ لماذا أحببت؟ لماذا أبغضت؟ لماذا خرجت؟ لماذا دخلت؟ وبعد العمل: هل كان العمل موافقاً لهدي المصطفى؟ هل اتبعت رسول الله أم أنا ضال مبتدع؟ فالسؤال الأول عن الإخلاص، والسؤال الثاني عن المتابعة؛ إذ لا يقبل الله أي عمل إلا بهذين الشرطين، لا يقبل الله العمل إلا إذا كان خالصاً لوجهه، على هدي الحبيب محمد صلى الله عليه وآله وسلم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية طيَّب الله ثراه: إن دين الله -الذي هو الإسلام- مبني على أصلين: الأول: أن تعبد الله وحده لا شريك له، والأصل الثاني: أن يعبد بما شرعه على لسان رسوله، وهذان الأصلان الكبيران هما حقيقة قولنا: نشهد أن لا إله إلا الله، ونشهد أن محمداً رسول الله. فحاسب نفسك قبل كل عمل وبعد كل عمل، وحاسب نفسك على التقصير: يا نفس إلى متى تعصين وعلى الله تجترئين؟ يا نفس إلى متى هذا الانحراف عن طريق الله جل وعلا؟ إلى متى تأكلين الربا؟ إلى متى تأكلين الحرام؟ إلى متى تأكلين مال اليتامى؟ إلى متى تتركين الجماعة؟ إلى متى تجلسين على المقاهي والشوارع والطرقات وتسمعين نداء رب الأرض والسماوات: (حي على الصلاة حي على الفلاح) وأنت قابعة على معصيتك؟! إن كنت تعتقدين أن الله لا يراك فما أعظم كفرك بالله! وإن كنت تعلمين أنه يراك وأنت لا زلت مصرة على المعصية فما أشد وقاحتك وقلة حيائك من الله جل وعلا! يا نفس ويحك! ألا تعرفين قدر نعمة الإسلام؟! يا نفس ويحك! ألا تعرفين قدر نعمة بعثة سيد الأنام؟! يا نفس! اتق الله وتوبي إلى الله وعودي إليه.

أحوال السلف وأقوالهم في محاسبة النفس

أحوال السلف وأقوالهم في محاسبة النفس أيها المسلم! حاسب نفسك محاسبة الشريك الشحيح لشريكه. قال ميمون بن مهران: (لا يبلغ العبد درجة التقى إلا إذا حاسب نفسه محاسبة الشريك الشحيح لشريكه). إياك إياك أن تغتر بطاعة، إياك إياك أن تغتر بعلم، كن دائماً على وَجَل فإن العبرة بالخواتيم، أسأل الله أن يحسن لنا الخاتمة. هذه الصديقة بنت الصديق عائشة الطاهرة المبرأة من السماء، يسألها أحد المسلمين عن قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر:32] ما معناها يا أماه؟ فقالت عائشة: يا بني! أما السابق بالخيرات: فقوم سبقوا مع رسول الله وشهد لهم بالجنة، وأما المقتصد فقوم ساروا على دربه وماتوا على ذلك، وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلك. عائشة لا تغتر بنسبها، لا تقول إنني زوج النبي، بل والله لقد بشرها المصطفى بالجنة ومع ذلك لا تغتر، تعرف قدر النفس وخطر النفس ولؤمها. وهذا فاروق الأمة عمر وما أدراكم ما عمر؟! تعجز العبارات عن وصف عمر. ينام الفاروق عمر على فراش الموت بعدما طعن، فيدخل عليه ابن عباس فيثني عليه بالخير، فيقول عمر: والله إن المغرور من غررتموه، وددت أن أخرج اليوم من الدنيا كفافاً لا لي ولا علي، والله لو أن لي ملأ الأرض ذهباً لافتديت به اليوم من عذاب الله قبل أن أراه. وهذا هو معاذ بن جبل حبيب المصطفى الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله إني لأحبك يا معاذ، لما نام على فراش الموت بعدما أصيب بطاعون الشام، قال لأصحابه: انظروا هل أصبح الصباح؟ هل أصبح الصباح؟ هل أصبح الصباح؟ ثم بكى معاذ وقال: أعوذ بالله من ليلة صباحها إلى النار. وهذا سفيان الثوري إمام الورع والحديث، ينام على فراش الموت فيدخل عليه حماد بن سلمة فيقول له حماد: أبشر يا أبا عبد الله، إنك مُقْبِلُُ على من كنت ترجوه، وهو أرحم الراحمين، فبكى سفيان وقال: أسألك بالله يا حماد أتظن أن مثلي ينجو من النار؟! ونحن جميعاً يقول كل واحد منا: أتظن أن مثلي لا يدخل الجنة! فيا أيها المسلم: لا تغتر بطاعة، ولا تغتر بعلم، ولا تغتر بعمل، وكن دائماً على وجلٍ كما كان رسول الله وهو الذي غفر له ما تقدم من ذنبه، فحاسب نفسك بعد كل عمل، وحاسب نفسك بعد كل معصية، وحاسب نفسك على كل تقصير، وحاسب نفسك على كل تفريط. إلى متى تسمع عن الله، وإلى متى تسمع عن رسول الله وأنت مفرط مضيع؟ عباد الله! إن الموت يأتي بغتة، وإن أقرب غائب ننتظره هو الموت قال سليمان بن عبد الملك لـ أبي حازم: يا أبا حازم مالنا نحب الدنيا ونكره الآخرة؟ فقال أبو حازم: لأنكم عَمَّرتُم دنياكم وَخَرَّبتُم أُخراكم، فأنتم تكرهون أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب. فقال سليمان: فما لنا عند الله يا أبا حازم؟ قال أبو حازم: اعرض نفسك على كتاب الله لتعلم مالك عند الله. فقال سليمان: وأين أجد ذلك في كتاب الله؟ قال أبو حازم: عند قوله تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار:13 - 14]. فقال سليمان: فأين رحمة الله؟ فقال أبو حازم: (إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:56]. قال سليمان: فكيف القدوم على الله غداً؟ قال أبو حازم: أما العبد المحسن فكالغائب يرجع إلى أهله، وأما المسيء فكالعبد الآبق يرجع إلى مولاه. أسأل الله أن يستر علي وعليكم في الدنيا والآخرة! اللهم لا تجعل لأحد منا في هذا الجمع الكريم ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا طائعاً إلا زدته وثبته، ولا حاجة هي لك رضاً ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يارب العالمين! اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوما، ولا تجعل فينا ولا منا شقياً ولا محروما! اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا سبباً لمن اهتدى! اللهم استرنا فوق الأرض، وتحت الأرض، ويوم العرض! اللهم أكرمنا ولا تهنا، وكن لنا ولا تكن علينا، وإن أردت بالناس فتنة فاقبضنا إليك غير خزايا ولا مفتونين ولا مفرطين ولا مضيعين، ولا مغيرين ولا مبدلين برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم أقر أعيننا بتحرير الأقصى المبارك، اللهم ائذن بتحرير الأقصى المبارك، اللهم ائذن بتحرير الأقصى المبارك، اللهم عليك باليهود، وأعوان اليهود، وأتباع اليهود، وعملاء اليهود، اللهم حرق قلوبهم، واملأ بيوتهم ناراً، اللهم حرق قلوبهم واملأ بيوتهم ناراً! اللهم كما سخر اليهود من رسولك فانتقم لرسولك يا رب العالمين، اللهم انتقم لرسولك يا رب العالمين، اللهم انتقم لرسولك بعد خذلان المنافقين، اللهم انتقم لرسولك بعد خذلان المجرمين، اللهم انتقم لرسولك بعد خذلان الخائنين! اللهم بلغ عنا رسولك عذرنا وضعفنا، اللهم بلغ عنا رسولك عذرنا وضعفنا، اللهم بلغ عنا رسولك عذرنا وضعفنا! اللهم ارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، وانتقم من المجرمين المنافقين الذين ضيعوا مكانة سيد النبيين برحمتك وقدرتك يا رب العالمين! اللهم عليك باليهود، اللهم عليك باليهود، اللهم عليك باليهود، اللهم عليك باليهود، اللهم عليك باليهود وأتباع اليهود، وعملاء اليهود، يا عزيز يا حميد! اللهم انصرنا فلقد قل الناصر، اللهم أعنا فلقد قل المعين، اللهم أعنا فلقد قل المعين، اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، لا إله لنا سواك فندعوه، ولا رب لنا غيرك فنرجوه، يا منقذ الغرقى، ويا منجي الهلكى، ويا سامع كل نجوى، يا عظيم الإحسان، يا دائم المعروف، يا ودود يا ودود يا ذا العرش المجيد، يا فعال لما يريد، يا من ملأ نوره أركان عرشه، يا غياث المستغيثين، يا كاشف الهم عن المهمومين، اللهم اكشف همنا، وفرج كربنا، واكشف الهم عن أمة حبيبك، وفرج الهم عن أمة حبيبك، وقيض للأمة القائد الرباني، وأبرم للأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، أنت ولي ذلك والقادر عليه! اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين! اللهم اجعل مصر واحة للأمن والأمان وجميع بلاد المسلمين، اللهم ارفع عن مصر الغلاء والوباء والبلاء وجميع بلاد المسلمين، اللهم اقبلنا وتقبل منا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، اللهم لا تجعل حظي من ديني قولي، وأحسن نيتي وعملي. هذا وما كان من توفيق فمن الله، وما كان من خطأ أو سهو أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون عليه إلى الجنة ويلقى به في جهنم، ثم أعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أدب الخلاف

أدب الخلاف الخلاف ضرورة وطبيعة بشرية، وهو أنواع: فمنه ما هو مذموم، ومنه ما هو جائز، وللخلاف بأنواعه أسباب بيّنها أهل العلم، كما بينوا أدب الخلاف، وينبغي على المسلمين -لاسيما طلبة العلم- معرفة هذه الآداب، والتأدب بها، وفي ذلك خير عظيم للفرد والمجتمع.

الخلاف شر وعذاب

الخلاف شر وعذاب إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جازيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء، وأيها الإخوة الأحباب الكرام الأعزاء، وطبتم جميعاً وطاب ممشاكم وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم الكريم جل وعلا الذي جمعنا وإياكم في هذا الصرح الطيب الكريم المبارك على طاعته، أن يجمعنا وإياكم في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أيها الأحبة الكرام! والله الذي لا إله غيره ما شعرت في نفسي أنني أساوي حبة رمل وطئتها نعال العلماء، بل ووالله أذكر نفسي دوماً بقول القائل: وغير تقي يأمر الناس بالتقى طبيب يداوي الناس وهو عليل بل والله لا أرجو من الله عز وجل إلا أن أكون من طلاب العلم المخلصين الصادقين، فأسأل الله أن يجعل سرنا أحسن من علانيتنا، وأن يجعل باطننا أحسن من ظاهرنا، وأن يرزقنا الإخلاص في أقوالنا وأعمالنا، وأن يرزقنا وإياكم حسن الخاتمة، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! أشهد الله أنني أشعر بسعادة غامرة، فهذه هي المرة الأولى التي أدخل فيها هذا المكان الطيب المبارك، وما توقعت أن يكون المسجد بهذه العظمة، وأسأل الله عز وجل أن يتم بناءه على خير وتقى، وأن يؤسس ويؤصل ويقعد بنيانه على التقوى، وأن يبارك في القائمين على أمر هذا البناء وأمر الدعوة في هذا المكان، وأن يؤلف بين قلوبهم، وأن يوحد صفهم، وأن يبارك في أوقاتهم وأموالهم وأعمالهم وأولادهم؛ ليرفعوا لنا بأمر الله هذا البناء الذي أسأل الله أن ينفع به. وأن يجعله فاتحة خير لهذا البلد الكريم، وأن يجعله غصة في حلوق المجرمين والمنافقين. أحبتي في الله! تعالوا بنا لنعيش الليلة مع محاضرة هامة، عنوانها: أدب الخلاف، وسيكون حديثنا معكم تحت هذا العنوان في العناصر التالية: أولاً: الخلاف شر وعذاب. ثانياً: أنواع الخلاف. ثالثاً: أسباب الخلاف. وأخيراً: أدب الخلاف. فأعيروني القلوب والأسماع جيداً، فوالله إن هذا اللقاء من الأهمية بمكان، والله أسأل أن يجعلني وإياكم جميعاً ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب.

انتشار الصحوة الإسلامية المباركة

انتشار الصحوة الإسلامية المباركة أيها الخيار الكرام! لا ينكر عاقل منصف على الإطلاق أننا نعيش الآن صحوة إسلامية مباركة، تتمثل في شباب في ريعان الصبا، وشواب في عمر الورود، كوكبة كريمة من الفتيان والفتيات، أتت هذه الكوكبة من جديد لتمشي على الطريق التي مشى عليه محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، تسري هذه الكوكبة بدعوته بين الصخور والحجارة كسريان الماء، وتنزلت في بقاع الأرض كتنزل حبات الندى على الزهرة الظمأى والأرض العطشى، إنه وعد الله، ويحلو لي أن أنشد: صبح تنفس بالضياء وأشرق والصحوة الكبرى تهز البيرقا وشبيبة الإسلام هذا فيلق في ساحة الأمجاد يتبع فيلقا وقوافل الإيمان تتخذ المدى درباً وتصنع للمحيط الزورقا ما أمر هذي الصحوة الكبرى سوى وعد من الله الجليل تحققا هي نخلة طابت ثرى فنما لها جذع قوي في التراب وأعذقا هي في رياض قلوبنا زيتونة في جذعها غصن الكرامة أورقا فجر تدفق من سيحبس نوره أرني يداً سدت علينا المشرقا يا نهر صحوتنا رأيتك صافياً وعلى الضفاف رأيت أزهار التقى قالوا تطرف جيلنا لما سما قدراً وأعطى للطهارة موثقا ورموه بالإرهاب حين أبى الخنا ومضى على درب الكرامة وارتقى أوكان إرهاباً جهاد نبينا أم كان حقاً بالكتاب مصدقا أتطرف إيماننا بالله في عصر تطرف في الهوى وتزندقا إن التطرف أن نذم محمداً والمقتدين به ونمدح عفلقا إن التطرف أن نرى من قومنا من صانع الكفر اللئيم وأطرقا إن التطرف أن نبادل كافراً حباً ونمنحه الولاء محققا إن التطرف وصمة في وجه من قد حولوا البوسنا رماداً محرقا شتان بين النهر يعذب ماؤه والبحر بالملح الأجاج تدفقا يا جيل صحوتنا أعيذك أن أرى في الصف من بعد الإخاء تمزقا لك في كتاب الله فجر صادق فاتبع هداه ودعك ممن فرقا لك في رسولك أسوة فهو الذي بالصدق والخلق الرفيع تخلقا يا جيل صحوتنا ستبقى شامخا ولسوف تبقى باتباعك أسمقا إننا نرى الصحوة في كل بقاع الأرض، لا نراها في مصر فحسب، أسأل الله أن يحفظ مصر، وأن ينمي الخير في مصر، فوالله إن الخير في مصر، لا نرى الصحوة فقط في مصر، بل ولا في البلاد الإسلامية فقط، وإنما نرى الصحوة في بلاد الكفر، بل على ظهر قلعة الكفر في الأرض (أمريكا!). أشهد الله -من باب البشارة والله أعلم بنيتي- أنني كنت منذ شهر تقريباً أخطب الجمعة في مسجد الفاروق في بروكلين في نيويورك، وهاهو أحد إخواننا ممن صلى معي الجمعة هناك يشرفنا الآن، فقد زارنا في الله، فجزاه الله خيراً، والمسجد أربعة طوابق، وأعلن الإخوة عن خطبة الجمعة في التلفاز وفي المساجد، فأقبل إلى المسجد المسلمون، وجاء بعضهم من ولايات تبعد عن المسجد بأربع ساعات بالطائرة! والله يا إخوة! رأيت بعيني أن الإخوة قد فرشوا للمصلين خارج المسجد، قلت: وعد الله عز وجل، حتى قلت للإخوة وأنا على المنبر: لا أشعر الآن أنني أخطب في أمريكا على تراب قلعة الكفر في هذه الأرض، وإنما أشعر أنني أخطب بين الموحدين في مصر! وعد الله، الصحوة الآن أكبر حدث إنساني في النصف الثاني من القرن العشرين، وأقول لكم بملء فمي، بلغة يحدوها الأمل، وبقلب يملؤه اليقين: إن هذه الصحوة قد بدأت بالفعل تنقل الأمة من مرحلة أزمة الوعي إلى مرحلة وعي الأزمة، شبابنا الآن يتكلم عن اليهود، شباب الصحوة الآن يعرف تاريخ اليهود الأسود، شباب الصحوة الآن يعرف الولاء والبراء، شباب الصحوة الآن يعرف هذه الشلة التي لمعت، وأحيطت بهالة من الدعاية الكاذبة؛ لتغطي هذه الهالة الدعائية انحرافهم، هؤلاء الذين ربوا في مدارس أعداء الدين، ثم عادوا إلينا لينفثوا سموم فكرهم العفن النتن، شبابنا الآن يعرف حقيقة هؤلاء من أمثال: المصلح الاجتماعي الأول للأزهر، من أمثال عميد الأدب العربي، إلى آخر هؤلاء، فشباب الصحوة الآن يعرف حقيقة تاريخهم الأسود. انتقلت الأمة في غالبها على أيدي شباب هذه الصحوة من مرحلة أزمة الوعي إلى مرحلة وعي الأزمة. ثم انظروا أيها الآباء الكرام وأيها الشباب الأخيار إلى دعاتكم وشيوخكم الذين يبصرونكم الآن ويعلمونكم على مستوى العالم، سترون أن الغالبية من هؤلاء هم من الشباب، وعد الله عز وجل، فلا ينكر الآن الصحوة إلا من عمي بصره بعد أن عميت بصيرته، الصحوة الآن هي محط الحديث، ومحور الحديث على مائدة المفاوضات لكل زعماء العالم، إن اجتمع زعماء الغرب، إن اجتمع زعماء الشرق، إن اجتمع زعماء العالم العربي، فالصحوة هي محور حديثهم، وإن كان الإعلام يتحدث عن الصحوة بلغة التفرق والإرهاب والأصوليين والمتطرفين والإرهابيين، فإن الحديث في الأصل عن الصحوة وعن شباب الصحوة، أسأل الله أن يبارك فيها، وأن ينقيها، وأن يجعلها غصة في حلوق المجرمين والمنافقين، وأن يرد الأمة على أيدي شبابها رداً جميلاً إليه، إنه هو مولانا ورب العالمين.

الخلاف أعظم عقبة تقف في طريق الدعوة

الخلاف أعظم عقبة تقف في طريق الدعوة أصارحكم -أيها الأحباب- أن هذه الصحوة إن لم يمتن ربنا عليها بحداة صادقين، وعلماء مخلصين، يصححوا للصحوة ولشبابها الانحراف العلمي، بل والعقدي بل والعملي؛ فيستبدد جهد الصحوة كما يضيع ماء الأمطار بين الوديان والشعاب، اللهم احفظها يا رب العالمينّ! إن الصحوة تحتاج إلى العلماء العاملين، والدعاة الصادقين، الذين لا يجاملون الصحوة على حساب المنهج، يقف الداعية ناصحاً وإن ظن أن أحبابه وطلابه سيغضبون عليه فليعلم يقيناً أنه لا يعمل لحساب مخلوق، إنما يعمل من أجل مرضاة الخالق، لو خشيت أن تقول خوفاً من أن تتهم؛ فصحح الأوبة وجدد التوبة، فإنك تحتاج إلى صدق نية، وإخلاص سريرة، وتصحيح عمل. ولا يكاد يختلف اثنان ممن يعملون الآن للإسلام أن العقبة الكئود التي تقف في طريق الصحوة، وفي طريق الحركة الإسلامية هي الخلاف، التشرذم، التهارج، فالخلاف شر وعذاب، ويكفي أن تعلم أن الذي حذر من ذلك هو الملك التواب، وحذر من ذلك سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا} [الأنفال:46] فالفشل قرين التنازع، {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46] فالتنازع يبدد القوى، التنازع يبدد الجهود ولو كانت جبارة. {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:105 - 106] قال ابن عباس: تبيض وجوه أهل السنة والائتلاف، وتسود وجوه أهل البدعة والاختلاف، {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران:106 - 107]، اللهم بيض وجوهنا يوم تسود الوجوه، واجعلنا من أهل رحمتك يا أرحم الراحمين! وقال الله تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:118 - 119]، الخلاف شر، وأود أن أنبه أحبابي من طلاب العلم ومن الدعاة إلى حديث باطل يتردد في الغالب على ألسنة البعض، ألا وهو (خلاف أمتي رحمة)، فهذا حديث باطل لا أصل له، فالخلاف شر وعذاب.

أنواع الخلاف

أنواع الخلاف يحسن بنا أن نبين أنواع الخلاف؛ حتى لا ينسحب هذا الحكم على نوعي الخلاف، وهذا هو العنصر الثاني من عناصر المحاضرة، فالخلاف نوعان: النوع الأول: خلاف في أصل الملة، وهذا هو الذي قال الله عنه: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:118 - 119] اتفق على ذلك أئمتنا كـ ابن تيمية والشاطبي والحافظ ابن رجب والإمام ابن حزم وغيرهم من أهل الأحكام وأهل الأصول، قالوا: الخلاف الوارد في الآية إنما هو خلاف في أصل الملة، فمن خالف التوحيد كان أهلاً لعذاب الله، وخرج من رحمة الله، فكل فرق الضلال التي خرجت عن القرآن والسنة خارجة عن رحمة الله، وهي أهل لعذاب الله، فتدبر معي جيداً. إذاً: هذا هو النوع الأول من أنواع الخلاف، وهو خلاف في أصل الملة، فكل فرق الضلال كالخوارج، كالقاديانية، كالبهائية، كالرافضة بطوائفها، كل فرق الضلال التي شذت عن القرآن وسنة سيد الرجال فهي التي خرجت عن رحمة الكبير المتعال، وهي أهل لعذاب الله عز وجل، {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:118 - 119]، فمن كان على القرآن والسنة فهو أهل للرحمة، ومن شذ عن القرآن والسنة فهو أهل للعذاب وللنقمة. النوع الثاني من أنواع الخلاف: الخلاف في الفروع والمسائل الاجتهادية، وهذا باتفاق أئمة السلف أنه لا إشكال فيه، ولا غضاضة فيه، بل لقد أثبت الله لأهله محض الرحمة، فأول من اختلف في الفروع والمسائل الاجتهادية هم أصحاب خير البرية، وقد حصل لهم محض الرحمة من رب البرية جل وعلا. تدبر معي جيداً: الخلاف في مسائل الفروع، الخلاف في المسائل الاجتهادية لا يخرج أصحابه من رحمة رب العباد، أما الخلاف المذموم فهو الخلاف في أصل الملة، الخروج عن أصل التوحيد وعن سنة محرر العبيد، أما الخلاف في مسائل الفروع، في مسائل الاجتهاد؛ فلا غضاضة في ذلك ولا إشكال، فلقد اختلف خير الرجال من أصحاب سيدنا رسول الله في بعض المسائل الاجتهادية، وقد حصلت لهم محض رحمة رب البرية، فهم أهل الرحمة باتفاق أئمة السنة والجماعة. فقس على نوعي الخلاف حتى لا تختلط بين يديك الأوراق: خلاف في أصل الملة وهو شر كله، وخلاف في المسائل الفرعية والاجتهادية، ولا إشكال في هذا النوع من أنواع الخلاف.

أسباب الخلاف

أسباب الخلاف يجب أن نعلم ما هي الأسباب التي أدت إلى وقوع هذا الخلاف؟ وهذا هو العنصر الثالث من عناصر المحاضرة، وأنا أقصد: أسباب الخلاف الثاني الخلاف في الفروع ومسائل الاجتهاد فأسباب الخلاف هي: السبب الأول: طبيعة البشر، أتحداك أن تخرج لي من هذا الجمع الكريم المبارك رجلين يتشابهان في كل شيء! محال أبداً، طبيعة البشر الأصل فيها الاختلاف، فالبشر على ظهر البسيطة يختلفون في طبيعتهم، في ألوانهم، في بشرتهم، في لغتهم، في قلوبهم، في ذكائهم، في فكرهم، في فهمهم، في صفائهم، في استقبالهم للمعلومات، في بصمة بنانهم، بل وفي أصواتهم، لا يتفق اثنان على ظهر الأرض اتفاقاً كاملاً في كل شيء أبداً، تدبر معي قول الله: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم:22] فالاختلاف مراد لرب العالمين في هذه الطبائع بنص القرآن الكريم. (وَمِنْ آيَاتِهِ) جعل الله الاختلاف في طبيعة البشر آية للعالمين، أي: لأهل العلم الذين يتفكرون ويتدبرون، (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ) فهذا عربي، وهذا عجمي، وهذا فرنسي، وهذا هندي، وهذا كذا وهذا كذا، (وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ) فالبشر يتفاوتون، وإذا كان ذلك كذلك فمحال أن يتلقى المعلومة مني الآن فلان كما تلقاها فلان، ولو تلقوها جميعاً بمفهوم واحد فستختلف النتائج، كل له فكره، كل له فهمه، كل له استيعابه، كل له إدراكه، كل له طبيعته، كل له خصائصه، فطبيعة البشر سبب رئيسي من أسباب الخلاف بين الناس. ثانياً: عدم بلوغ الدليل، قد يبلغني دليل وقد لا يبلغ الدليل شيخاً آخر من المشايخ، فتأتي فتواي مخالفة لهذا الشيخ المبارك، لماذا؟ لأنه قد بلغه دليل أفتى به، ولم يبلغني دليله الذي أفتى به فأخالفه، وقد وقع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، بل لقد غاب عن جمع من أصحاب رسول الله كثير من الأدلة وهم الذين كانوا يعايشون النبي، ويسمعون النبي، مع أنهم لا يتلقون العلم إلا عن معلم واحد، فما ظنك بأناس يتلقون العلم على يد آلاف العلماء، فلابد أنه سيختلف الفهم ويتشعب، كان عمر بن الخطاب مع أصحابه وهو في طريقه إلى الشام سمع بالطاعون، فانقسم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى فريقين: الفريق الأول يقول بالدخول إلى أرض الشام، والفريق الثاني يقول: لا يجوز لنا أن ندخل إلى الأرض ما دمنا لم نكن فيها، وكان على رأي الفريق الثاني الذي أبى الدخول عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال حينما قال له أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين! تفر من قدر الله؟ فقال عمر: نفر من قدر الله إلى قدر الله. وهذه المقولة الجميلة قمة الفقه، والشاهد أن الصحابة اختلفوا، فريق يأبى الدخول، وفريق يأمر بالدخول وغاب الدليل في هذه المسألة عن عمر، بل وعن جمع كبير من أصحاب النبي المختار صلى الله عليه وسلم، حتى جاء عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وقال لهم: لقد سمعت في ذلك حديثاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يوماً يقول: (إذا وقع الطاعون في أرض ولستم بها فلا تدخلوا إليها، وإذا وقع في أرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه) والحديث رواه البخاري ومسلم. والشاهد: أن عمر وعدداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لم يبلغهم الدليل الذي ذكرهم به عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم جميعاً، فعدم بلوغ الدليل كان سبباً في الخلاف. ثالثاً: عدم العلم بنسخ الدليل، قد يخطئ صحابي من الصحابة في مسألة فيأخذ بدليل معين وهو لا يدري أن هذا الدليل قد ورد دليل آخر ينسخه، سواء كان هذا الدليل من القرآن أو من السنة، مثل حديث: (كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها فإنها تذكركم الآخرة) فنسخ النبي عليه الصلاة والسلام الحكم الأول وهو النهي عن زيارة القبور بدليل آخر يسمى بالدليل الناسخ، فعدم بلوغ الناسخ والمنسوخ للمفتي قد يكون سبباً من أسباب الخلاف. رابعاً: النسيان، وجل من لا ينسى، والنسيان أمر يعتري البشر على وجه الأرض، بل إن النسيان اعترى النبي المصطفى عليه الصلاة والسلام، ورد في مسند أحمد وسنن الترمذي وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ يوماً في الصلاة فنسي آية، فلما سلم تذكر الآية، فقال لـ أبي بن كعب رضي الله عنه: (يا أبي! هلا ذكرتني بها!) يعني: تذكرني بالآية وأنت في الصلاة، وفي صحيح مسلم قال صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا بشر أنسى كما تنسون). فالنسيان سبب من أسباب الخلاف، فقد أنسى دليلاً، وقد تنسى دليلاً، فأقول بقول يخالف ما عندك من الدليل؛ لأني نسيت دليلك الذي تستدل به، وقد نسي عمر بن الخطاب حديث التيمم الذي ذكره به عمار بن ياسر، والحديث طويل مشهور، فالنسيان سبب من أسباب الخلاف، بل أنت قد تنسى أمراً في بيتك فتختلف بسببه مع زوجتك، وقد تنسى زوجتك أمراً فتختلف معك، فالنسيان أمر يعتري البشر جميعاً. خامساً وأخيراً: من أسباب الخلاف اختلافهم في فهم المراد من الدليل، قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة) هذا دليل صريح واضح، ومع ذلك اختلف الصحابة في فهم الدليل، فانقسموا إلى فريقين: فريق صلى العصر في الطريق، وقال: ما أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، إنما أراد أن يحثنا على الخروج لمقاتلة بني قريظة. والفريق الآخر قال: لا، الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة) فلن نصلي العصر إلا في بني قريظة ولو دخل وقت المغرب، فانقسم الصحابة، وكان سبب الخلاف أنهم اختلفوا في فهم المراد من الدليل.

فهم الأدلة فضل يؤتيه الله من يشاء

فهم الأدلة فضل يؤتيه الله من يشاء الفهم للأدلة فضل من الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم، فهم الدليل لا يوزن بالأعمار، ولا يوزن بالسبق في طلب العلم، لكن يقاس ويوزن بالصدق، فأخلص يفتح الله عليك: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ} [البقرة:282] لا تستهينوا بأمر التقوى في طلب العلم، كان ابن تيمية طيب الله ثراه إذا استشكلت عليه مسألة من المسائل أقام الليل لله جل وعلا وسجد بين يدي الله، وبلل الأرض والثرى بدموع الخشوع والتذلل والتضرع للملك، وسأل الله عز وجل بهذا الدعاء الكريم فقال: يا معلم داود علمني، ويا مفهم سليمان فهمني! تضرع إلى الله، والله لو علم الله منك الإخلاص والصدق لفتح عليك من كنوز فضله بما لا يمكن على الإطلاق أن يعبر عن هذا الفتح بلغة بليغ أو فصاحة فصيح، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21]. غضب كبار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على عمر كيف يأذن لـ ابن عباس رضي الله عنهما أن يدخل مع مشايخ أصحاب رسول الله في مجلس الشورى، ومن أبنائهم من يكبر ابن عباس! فأراد عمر أن يبين لهم أن الأمر لا يقاس بالأعمار، ولا يقاس بالسبق، إنما يقاس بالصدق، وذلك فضل الغفار يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. فأراد عمر أن يبين لهم ذلك، فسأل الصحابة عن سورة النصر: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:1 - 3] قال لهم عمر: ما تقولون في هذه الآيات؟ فقالوا: نقول فيها: إن الله يأمر نبيه إن نصره وفتح عليه مكة أن يكثر من الاستغفار والتوبة، فالتفت الفاروق الملهم إلى ابن عباس وقال: ما تقول أيها الشاب الكريم في هذه الآيات؟ فالتفت ابن عباس إلى عمر وقال: أقول فيها بخلاف هذا يا أمير المؤمنين، أقول: إن الله قد نعى بهذه السورة لرسول الله أجله. يعني: قد أتم الله عليك النصر، وأكمل لك الدين، وأتم بك النعمة؛ فاستعد للقاء الملك. {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:1 - 3] أي: أكثر من العمل الصالح، وداوم على الاستغفار، واستعد بعدها للقاء الملك الغفار. فهم عجيب! {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21]. قصة أخرى: كاد عثمان بن عفان رضي الله عنه أن يرجم بريئة اتهمها البعض بالزنا؛ لأنها وضعت ولدها لستة أشهر، فقال علي بن أبي طالب: رويداً يا أمير المؤمنين! فإني أرى أن الله عز وجل قد ذكر في قرآنه أن المرأة قد تضع ولدها لستة أشهر، قال: أين ذلك يا علي وقد قرأت القرآن من أوله إلى آخره وما وقفت على هذه الآية؟! قال: اقرأ قول الله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة:233] فهذه أربعة وعشرون شهراً، والآية الأخرى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} [الأحقاف:15] اخصم أربعة وعشرين من ثلاثين يبقى ستة شهور، قال: جزاك الله خيراً يا أبا الحسن! فهم يؤتيه الله من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.

أدب الخلاف

أدب الخلاف العنصر الرابع من عناصر المحاضرة: أدب الخلاف، بعد ما توقفنا عند خطورة الخلاف، وذكرنا نوعي الخلاف، وأسباب الخلاف، نذكر أدب الخلاف، وما أحوجنا إلى أدب الخلاف، ونسأل الله أن يرزقنا وإياكم الصدق والعمل. الأمة تعاني من الفرقة، تعاني من الشقاق، تعاني من الخلاف، وأقول: لو اجتمع زعماء العرب كل ليلة، فلن تلتقي الصفوف، ولن تلتقي القلوب، ما دامت الأمة -على أيدي زعماء العرب- قد نحت شريعة ربها، لن تلتقي القلوب إلا على مصدر التلقي، ما هو مصدر التلقي وأصل اللقاء؟ القرآن والسنة، والله لن تلتقي الأمة إلا على هذا الطريق، والله مهما شرقت وغربت وخضعت وسجدت فلن تلتقي صفوف الأمة، ولن تتوحد كلمتها، ولن تأتلف قلوب أبنائها إلا إذا التقت الأبدان بعد القلوب على كلام علام الغيوب، وكلام الحبيب المحبوب {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153] فالسبل ضلال، والصراط المستقيم نجاة وسعادة وفلاح في الدنيا والآخرة. (خط النبي عليه الصلاة والسلام خط على الأرض خطاً مستقيماً وقال: هذا صراط الله مستقيماً، وخط عن يمينه وشماله خطوطاً متعرجة وقال: هذه سبل، وعلى رأس كل سبيل منها شيطان يدعو إليه) فاختر لنفسك أن تسلك طريق الرحمن أو طريق الشيطان، وأسأل الله أن يرزقنا وإياكم سلوك طريق الرحمن، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

عدم التعصب

عدم التعصب أول أدب من أدب الخلاف: نبذ التعصب للأشخاص والجماعات. يا إخوة! الدكتور بدير والشيخ أبو إسحاق، والشيخ محمد يعقوب، والشيخ مصطفى العدوي، ومحمد حسان، وشيوخنا الكبار: الشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ ناصر، والشيخ ابن عثيمين، كل هؤلاء إلى فناء وإلى زوال، فالدعاة يجيئون ويذهبون ويموتون، وتبقى الدعوة خالدة على مر الأجيال والقرون، فاجعلوا ولاءكم لله، ولا تجعلوا ولاءكم لأشخاص الدعاة. يا شباب الصحوة! اجعلوا ولاءكم لله لا لأشخاص الدعاة، الدعاة إلى زوال، قد أسجن، قد أمرض، سأموت، فهل تتوقف الدعوة؟! إذا سافر الدكتور بدير هل تتوقف الدعوة؟ لا، ثم لا، ولو توقفت الدعوة بموت دعاتها لماتت دعوة الإسلام بموت سيد الدعاة. ماذا قال صديق الأمة يوم أن جاء من منزله بالسنح، ورأى الجموع الملتهبة تصرخ في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وحول حجراته الطاهرات، فكشف الغطاء والبردة عن وجه الحبيب الأزهر الأنور، وقبل الحبيب بين عينيه، وبكى وقال له: طبت حياً وميتا ًيا رسول الله! أما الموتة التي كتبها الله عليك فقد ذقتها، ولا ألم عليك بعد اليوم، وخرج الصديق لينادي في تلك الجموع: على رسلك يا عمر! والتف الناس حول صديق الأمة، وأعلنها مدوية: أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. انبذوا العصبية للشيوخ، انبذوا العصبية للجماعات كلها، والله لا ندين الله بلافتة أو باسم جماعة، والله لا ندين الله بهذا، قال ابن القيم: إن سألوك عن شيخك فقل: شيخي رسول الله، وإن سألوك عن جماعتك فقل: {هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ} [الحج:78] وإن سألوك عن منهجك فقل: الكتاب والسنة، وإن سألوك عن بيتك فقل: إن بيوت الله في الأرض المساجد. انبذوا العصبية للجماعات، انبذوا العصبية للشيوخ، اقبلوا الحق على لسان أي أحد، وردوا الباطل على لسان أي أحد، إذا كانت الجماعة الفلانية عندها حق، فضع الحق على رأسك، أو كانت جماعتك التي تنتمي إليها عندها باطل، فاضرب بباطلها عرض الحائط، هذا أول أدب ينبغي أن نؤصل عليه، والله لا أملّ من أن أكرره وأذكر به، وسأكرر وسأذكر به، بل وأدعو جميع إخواني من الشيوخ والدعاة أن يكرروا وأن يذكروا به، وأن يؤصلوا في قلوب شبابنا وطلابنا نبذ العصبية لجميع المشايخ ولجميع الدعاة، ليكون الولاء لدين الله عز وجل ولدعوة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. جاءك الشيخ فلان يقول: قال الله قال رسول الله، اجلس تحت قدميه، لا تقل: من هذا؟ بل قل: ماذا يقول هذا؟ يقول: قال الله قال رسوله قولاً صحيحاً عن رسول الله ليس مبتدعاً، ليس صاحب فكر منحرف ضال، اجلس تحت قدميه وتعلم، لا تقل: أنا لا أحضر إلا لفلان! انبذوا هذا التعصب، وتخلصوا من هذا الأمر أيها الأخيار الكرام، وبلغوا هذا الكلام لكل شباب الصحوة، اعرف الحق تعرف أهله، نكرر هذا مئات المرات! اعرف الحق تعرف أهله، فإن الحق لا يعرف بالرجال، ولكن الرجال هم الذين يعرفون بالحق. التعصب البغيض يصم الآذان عن سماع الحق، ويعمي الأبصار عن رؤية الدليل، أقول: يا أخي! قال الله عز وجل وقال الرسول صلى الله عليه وسلم، فيقول: لكن الشيخ فلان قال كذا وكذا، أعوذ بالله! أقول لك: قال الله وقال رسول الله، وتقول لي: قال الشيخ فلان! أمر عجب! ابن عباس يقول لخير الناس بعد الأنبياء -للصحابة-: أقول لكم قال رسول الله وأنتم تقولون قال أبو بكر وعمر؟! ابن عباس ينكر، وأنا والله لا أعلم قولاً واحداً خالف فيه أبو بكر وعمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. التعصب البغيض يصم الآذان عن سماع الحق، ويعمي الأبصار عن رؤية الدليل، ولو كان كالشمس في وضح النهار، قال الإمام الأصولي الفذ العلم الشاطبي في كتابه الاعتصام: ولقد زل أقوام بسبب الإعراض عن الدليل، والاعتماد على الرجال، وخرجوا بسبب ذلك عن جادة الصحابة والتابعين، فاتبعوا أهواءهم بغير علم، وضلوا عن سواء السبيل. وقال بركة الأيام، وحسنة الزمان، وإمام الأئمة الأعلام، ابن تيمية طيب الله ثراه -واحفظوا هذا الكلام، وأسأل الله أن يرزقنا وإياكم العمل به- قال: ليس لأحد أن ينصب للأمة شخصاً يدعو إلى طريقته، ويوالي ويعادي عليها غير النبي صلى الله عليه وسلم، وليس لأحد أن ينصب للأمة كلاماً يدعو إليه ويوالي ويعادي عليه غير كلام الله ورسوله وما اجتمعت عليه الأمة، ومن فعل هذا فقد فعل فعل أهل البدع والأهواء. وقال شيخ الإسلام رحمه الله في موضع آخر في مجموع الفتاوى: من تعصب لواحد من الأئمة بعينه دون الباقين فهو بمنزلة من تعصب لواحد من الصحابة بعينه دون الباقين، كالرافضي الذي يتعصب لـ علي، وكالخارجي الذي يقدح في عثمان وعلي، من فعل ذلك فقد فعل فعل أهل البدع والأهواء. أيها الأحباب! لا يجوز التعصب، بل تنظر ماذا يقول الشخص، ثم تعرض كلامه على القرآن والسنة، فإن وافق القرآن والسنة فضع قوله على رأسك. أعجب من أحد طلابنا الصغار حينما كنت أخطب الجمعة في مصر يوم وفاة الشيخ محمد الغزالي، فدعوت الله له بالمغفرة والرحمة، وبعد الجمعة أقبل علي الشاب، وقال لي: يا شيخ! هل يجوز أن ندعو الله للشيخ محمد الغزالي؟! قلت: سبحان الله! ولم يا بني؟! قال: لقد أخطأ في كذا وكذا، قلت له: ائتني بعالم واحد من علمائنا بعد رسول الله لم يخطئ، فلو عاملنا شيوخنا جميعاً بما نريد أن نعامل به الشيخ الغزالي ما بقي لنا شيخ واحد على وجه الأرض لنتلقى العلم على يديه، فلقد مضى زمن العصمة بموت رسول الله، يا أخي! خالف الشيخ في أخطائه وبين أخطاءه بأدب، لكن مَنْ مِن الشيوخ على وجه الأرض لم يخطئ؟! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل -وكل من صيغ العموم- بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون) اللهم ارزقنا التوبة قبل لقاك يا أرحم الراحمين، اللهم ارزقنا الحكمة والرحمة، فإن أصحاب القلوب الكبيرة قلما تستجيشها دوافع الغلظة والقسوة والانتقام، لأنك لا تدري بأي شيء يختم لك، أسأل الله أن يرزقني وإياكم جميعاً حسن الخاتمة، وأن يختم لنا ولكم بخاتمة التوحيد والإيمان، إنه ولي ذلك والقادر عليه. إذاً: أول أدب من آداب الخلاف: نبذ التعصب للأشخاص وللجماعات.

الإخلاص والتجرد من الأهواء

الإخلاص والتجرد من الأهواء ثانياً: الإخلاص والتجرد من الأهواء، والله الذي لا إله غيره لن يقبل الله منك كلمة ولا حركة إن لم تبتغ بها وجهه، ولو ملأت الدنيا ضجيجاً. يا أخي! سل نفسك: أنت تناقشني أمام الناس، الله عز وجل وحده يعلم بنيتك، هل تريد إحراجي؟ هل تريد النصح لي؟ هل التزمت أدب النصيحة؟ هل تريد البيان لي؟ هل تريد السمعة؟ هل تريد الشهرة؟! لو خدعتني وخدعت الخلق فلن تخادع الخالق، فتش في النية، لماذا أتيت أنت الآن إلى هذا المسجد؟ ما هي نيتك؟ هل خرجت لله أم لسبب آخر يعلمه الله؟ الإخلاص، إن ناقشت أحد إخوانك ففتش عن نيتك قبل أن تتكلم، هذا يريد الزعامة، هذا يريد الصدارة، هذا يريد الشهرة، هذا يريد المال، هذا يريد المنصب، هذا يريد الجماعة، لو صدقنا الله عز وجل ونقبنا لرأينا أن الهوى كان سبب معظم الخلافات على أرض العمل الإسلامي، الهوى ملك ظلوم غشوم جهول، يصم الآذان ويعمي الأبصار، وقد حذر الله عز وجل منه نبياً من أنبيائه: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص:26]، وفي الحديث الذي رواه بعض أصحاب السنن، وهو حديث حسن، قال الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: (القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وقاض في الجنة، رجل عرف الحق وحكم به فهو في الجنة، ورجل عرف الحق وحكم بخلافه فهو في النار، ورجل قضى بين الناس بالجهل فهو في النار) أنت تجهل الأدلة، ومراتب الأدلة، ومناطات الأدلة، فلماذا تتكلم في دين رب البرية جل وعلا؟! قاض عرف الحق وقضى به فهو في الجنة، وقاض عرف الحق وحكم بخلافه فهو في النار، يا رجل! أنت تعرف الحق، وتعرف الدليل! سبحان الله! يفتح المراجع، إذا ظهر له بين يديه في المرجع دليل يخالف قوله يخبئه؛ لأنه ليس له، عرف الحق وقضى بخلافه، والله إن هذا السبيل يمرض القلوب. وهناك ممن يعملون بالدعوة لا وظيفة لأحدهم إلا أن يجلس ليترصد أخطاء الدعاة، هذه وظيفته! تخيل محاضرة مثل هذه فيها عشرات الآلاف من الكلمات، قد أزل في كلمة منها، يطلع ويقول: سمعت الشيخ قال كذا؟! ويدق الطبول، ويشنع لهذه الكلمة، أو لهذه الجملة أو الفقرة. سبحان الله يا أخي! لماذا لم تأتني إن كنت صادقاً في النصيحة، والله لو صدقت الله لعلمت أنك كاذب، سامحوني! أين النصيحة أين آدابها أيها الناصح؟! يجلس عالم في مجلس علم وهو لا يدري كم جلس هذا الرجل ليعد المحاضرة بالساعات، بل بالأيام، بل والله بالأسابيع، وأمام كلمة زل فيها لبشريته، لا يخرج من هذا المجلس كله إلا بها! هذا قمة الظلم، أين الإنصاف؟! أين العدل؟! يقول ابن تيمية: من حكم على الناس بغير علم فقد خالف قول الله جل وعلا: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36]، ومن حكم على الناس بغير عدل فقد خالف قول الله تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8] تكلم في الناس بعلم وعدل، تكلم في المناهج بعلم وعدل، تكلم عن الشيوخ بعلم وعدل، وأرى أنه لا ينبغي أن يقيم العلماء إلا عالم، وأرى أنه لا ينبغي أن يقيم الشيوخ إلا شيخ، وأرى أنه لا ينبغي أن يجرح العلماء إلا عالم بالجرح والتعديل. اعلم -يا أخي- وفقني الله وإياك لمرضاته، وجعلني الله وإياك ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته، أن لحوم العلماء مسمومة، وأن عادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب ابتلاه الله قبل موته بموت القلب. رحم الله الحافظ ابن عساكر، فهو قائل هذه الكلمات، فمن بركة العلم أن ننسب العلم إلى قائليه. الإخلاص والتجرد عن الأهواء: تجرد عن الهوى، أخلص في النصيحة، ولتكن بأدب وبحكمة وبرحمة، وإن كنت صادقاً فانطلق مباشرة إلى الشيخ الذي أخطأ، وبين له الخطأ بأدب، لا تدق الطبول بزلة أو بخطأ، ورحم الله من قال: وعين الرضا عن كل عيب كليلة كما أن عين السخط تبدي المساويا فالإخلاص والتجرد من الأهواء من أعظم الآداب التي يجب أن نتأدب بها في حالة الخلاف، فإذا خالفتكم في مسألة، أو خالفتوني في مسألة من الفروع، فلا بأس، ومحل بحثنا هو عن النوع الثاني من أنواع الخلاف، خلاف الفروع أو مسائل الاجتهاد، فإذا خالفتك فيها، وأردت أن تناقشني في هذه المسألة، فناقشني بالإخلاص، وصحح النية، وأنا أصحح نيتي، أنا أريد الحق، وأنت تريد الحق، كما قال الشافعي: والله ما ناظرت أحداً إلا ودعوت الله أن يجري الحق على لسانه. وهذه قمة التجرد. وفي نفس المكان الطيب الطاهر هذا ألقيت خطبة جمعة بعنوان: تجرد وعدل وإنصاف، وبينت فيها كيف كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على قمة التجرد والإخلاص، والله ما انتصر الإسلام إلا بهذه القلوب المخلصة، ولن ينتصر الإسلام إلا بهذه القلوب المخلصة، وسامحوني أن أذكركم مرة أخرى بل وللمرة الألف ما كان من خالد بن الوليد وأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهما، يعزل عمر بن الخطاب خالد بن الوليد عن قيادة الجيوش في الشام، أبو بكر الصديق يرسل لقائد الجبهة أبي عبيدة ويقول له: بسم الله الرحمن الرحيم، من أبي بكر الصديق إلى أبي عبيدة بن الجراح، سلام الله عليك وبعد، فإني قد وليت خالد بن الوليد قيادة الجبهة في بلاد الشام، فاسمع له وأطع، والله ما وليته عليك إلا لأني ظننت أن له فطنة في الحرب ليست لك، وأنت عندي يا أبا عبيدة خير منه، أراد الله بنا وبك خيراً والسلام. ويرسل الصديق أمراً إلى خالد، فيرسل خالد بن الوليد رسالة إلى أبي عبيدة يقول فيها: بسم الله الرحمن الرحيم، من خالد بن الوليد إلى أخيه الأمير أبي عبيدة بن الجراح، سلام من الله عليك وبعد: فإني قد تلقيت أمر خليفة رسول الله يأمرني فيه بالسير إلى بلاد الشام للقيام على أمرها، وللتولي لشأن جندها، ووالله يا أبا عبيدة ما طلبت ذلك ولا أردته، فأنت في موضعك الذي أنت فيه، لا نقطع دونك، فأنت سيدنا وسيد المسلمين، أراد الله بنا وبك خيراً والسلام. قمة التجرد، قمة الإخلاص. وتصل الرسالة إلى أبي عبيدة فيتنازل أبو عبيدة عن القيادة لـ خالد بن الوليد، وتبدأ المعركة، ويموت الصديق، ويعزل عمر خالد بن الوليد، ويؤمر أبا عبيدة من جديد، ويخفي أبو عبيدة الرسالة، وقيل: أخفاها خالد، والأمر سواء، فكلاهما على درجة عالية من التجرد والصفاء، وبعد انتهاء المعركة دفع أبو عبيدة الرسالة لـ خالد، فانتقل خالد بن الوليد على الفور من القيادة وتركها لأخيه أبي عبيدة ليكون خالد جندياً مطيعاً بعد أن كان بالأمس القريب قائداً مطاعاً. قمة التجرد يا إخوة، ناقشني بتجرد وإخلاص، ادع الله أن يكون الحق معي، وأنا أدعو الله أن يكون الحق معك، فهدفي وهدفك أن يعلو الحق.

إحسان الظن بالمخالف وعدم التماس العيب للبرآء

إحسان الظن بالمخالف وعدم التماس العيب للبرآء ثالثاً: من أدب الخلاف: إحسان الظن بالمخالف، وعدم التماس العيب للبرآء، أدب عالٍ، أحسن الظن بمخالفك، أنت قد تكون على حق أو باطل، ومخالفك قد يكون على حق أو باطل، فلم يا أخي تزكي نفسك وتتهم غيرك؟ يا إخوة! لا ينبغي أن يزكي واحد منا نفسه على الإطلاق، قال تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اتَّقَى} [النجم:32]، {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنْ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران:188]، اللهم ارزقنا الإخلاص في القول والعمل. أحسن الظن بمخالفك، أنا أخالفك: فأحسن الظن بي، وأنا يجب أن أحسن الظن بك، ما دمت معي على الطريق، أنا أدين الله سلفاً بأنك من أهل السنة والجماعة، فإن خالفتك في مسألة هي محل اجتهاد فيجب علي أن أحسن الظن بك، ويجب عليك أن تحسن الظن بي. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث)، والحديث في الصحيحين، وقال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12]، يا أخي! لا تظن بأخيك إلا خيراً، أخوك معك على طريق الدعوة، فيجب عليك أن تظن بالمسلمين خيراً، فما ظنك بأخيك الذي يتحرك معك للدعوة على الطريق؟ {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً} [النور:12] هذا هو الأصل. فالأصل أن يظن المسلم بأخيه خيراً، وأن تظن المؤمنة بأختها خيراً، فما ظنك بأخ داعية يمشي معك على الطريق؟ فيجب عليك أن تظن به خيراً، (إياك والظن، فإن الظن أكذب الحديث) ولا تنقب عن عيوب للبرآء، قال القرطبي في الجامع لأحكام القرآن الكريم: ظن السوء بمن ظاهره الصلاح يحرم في دين الله. أي: إذا وجدت أخاك على ظاهر طيب، وعلى خير؛ فلا يجوز لك أن تنقب وأن تفتش وأن تبحث وأن تنظر من النافذة! وأن تنظر من تحت الأرض! ما عليك هذا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:12] لماذا تلتمس العيب لأخيك؟ لماذا لا تجتهد أن تشكر أخاك بدلاً من أن تنقب عن عيوبه؟! ما دام أن أخاك في الظاهر على الخير؟! لا تتهم إلا من كان في الباطل وعلى الباطل وفي البدعة وعلى البدعة، فهذا قد أوقع نفسه في موضع الشبهات، فهو حري أن يتهم، لكنك ترى أخاً من إخوانك يحرص على السنة، لكن زل لبشريته وضعفه، فاستر عليه، وهذا باتفاق أهل السنة، استر على من ظاهره الصلاح، استر على من يستحي أن يظهر معصية أمام الناس؛ لأنك لو أظهرت معصيته انفض الناس عنه إن كان من أهل الدعوة أو من أهل القرآن أو من أهل الخير، فما دام الرجل حريصاً على ألا يفضح نفسه فلا تفضحه، وادعه بالحسنى والحكمة إلى أن يتوب إلى الله، وأن يدع المعصية التي وقع فيها ورأيته عليها، فإن كل بني آدم خطاء كما ذكر النبي عليه الصلاة والسلام. تدبروا هذا الحديث الطيب الذي خرج من صاحب القلب الطيب، وصاحب الكلم الطيب، والحديث صححه الألباني، وقد رواه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم، قال صلى الله عليه وسلم: (يا معشر من آمن بلسانه، ولم يدخل الإيمان قلبه! لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه ولو في جوف بيته) تدبر! والله لو خرجت الليلة من المحاضرة بهذا الحديث لخرجت بخير عظيم وفير، أسأل الله أن يسترنا وإياكم في الدنيا والآخرة.

عدم التهاجر والتقاطع

عدم التهاجر والتقاطع رابعاً: من أدب الخلاف عدم الهجر والقطيعة بعد الخلاف، إن خالفتك في مسألة فرعية فلا يجوز لي أن أهجرك، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في المجلد الرابع والعشرين من مجموع الفتاوى: الاختلاف في الأحكام أكثر من أن ينضبط، ولو كان كلما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة.

مناقشة المسألة الخلافية بالحكمة والرحمة

مناقشة المسألة الخلافية بالحكمة والرحمة وأختم أدب الخلاف بهذا الأدب الكريم الهام، ألا وهو: مناقشة المسألة الخلافية بالحكمة والرحمة، بالتي هي أحسن، ناقش معي المسألة الخلافية التي تخالفني فيها، وأنا أناقشها معك بحكمة ورحمة، وبالتي هي أحسن، تدبر معي قول الله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125]، وهل الجدال -يا رب- في المسائل يكون بالحسنى؟ لا، بل قال: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] يعني: لو وجد حسن وأحسن فالدعوة تكون بالحسن، والجدال يكون بالأحسن {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125]، هذه للدعوة، أما الجدال فقال فيه: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125]. جادل أخاك في مسألة من مسائل الاجتهاد بالتي هي أحسن، بالحكمة والرحمة، قال ابن القيم: الحكمة هي قول ما ينبغي، في الوقت الذي ينبغي، على الوجه الذي ينبغي. وناقشني وأنت رحيم بي، لا تسفه أخاك، لا تتكبر على أخيك، لا تظن أنك المتبع وهو المبتدع، لا تر في نفسك أنك التقي وهو الشقي، لا تنظر إلى نفسك أنك الطائع وهو العاصي، لا تنظر إلى نفسك أنك العالم وهو الجاهل، لا يا أخي! جادلني برحمة، جادلني بحب، جادلني بحكمة، جادلني بالتي هي أحسن وسينتهي الخلاف إن شاء الله تعالى بالحب، ولو خرجت أنا وأنت بعد مناقشة المسألة ولم نلتق، فكلانا إن شاء الله مأجور، مع أن واحداً منا على خطأ، والآخر على صواب، ومع ذلك فكلانا مأجور (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر). أيها الأحبة الكرام! هذا ما وددت أن أبثه لإخواني وأحبابي، وسامحوني إن كررت عليكم هذا الدرس مرة ومرة ومرة ومرة، فسأكرره، وسأذكر به، وأسأل الله عز وجل أن يجعلنا رحماء فيما بيننا، وأن يجعلنا أشداء على أعدائنا، وأن يرزقنا وإياكم العفاف والتقى والغنى، ويمتعنا وإياكم بنصرة الإسلام وعز الموحدين. اللهم ألف بين قلوبنا ووحد صفنا يا رب العالمين. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وسلم.

أصول التربية [1]

أصول التربية [1] بُعث النبي عليه الصلاة والسلام ليتمم مكارم الأخلاق، فكانت دعوته تزكية لهذه الأمة، وتربية لها على الأخلاق الفاضلة، ولما تخلق المسلمون بهذه الأخلاق سعدوا في الدنيا والآخرة، وفي الأزمنة المتأخرة تنكب المسلمون عن هذه الأخلاق، فحصدوا الذل والهوان والشقاء.

أهمية التربية الإسلامية وأسباب الحث عليها

أهمية التربية الإسلامية وأسباب الحث عليها إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة، وزكى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور، وأسأل الله جل وعلا أن يتقبل مني وإياكم صالح الأعمال، وأن يجمعني وإياكم في الدنيا دائماً وأبداً على طاعته، وفي الآخرة مع سيد الدعاة وإمام النبيين في جنته ومستقر رحمته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! هذا هو لقاؤنا الأول مع هذه السلسلة المنهجية الجديدة، والتي عنونت لها: بأصول التربية في سورة لقمان، واسمحوا لي أيها الأحبة الكرام! قبل أن نبدأ حديثنا عن هذه الأصول الواردة في السورة الكريمة أن نقدم بمقدمة ضافية في أصول التربية بين يدي حديثنا عن هذا الموضوع الهام الكبير، وأستطيع أن ألخص لحضراتكم أهم عناصر هذه المقدمة التي سأتكلم فيها إن شاء الله جل وعلا عن النقاط التالية: أولاً: أسباب اختياري لهذا الموضوع. ثانياً: تأصيل الموضوع وتقعيده بالوقوف مع المعنى اللغوي لمفرداته. ثالثاً: مصادر التربية الإسلامية، وهي: القرآن الكريم، والسنة المطهرة، ومنهج السلف باعتباره يمثل التطبيق العملي للقرآن والسنة. رابعاً: خصائص التربية الإسلامية، وتتمثل فيما يلي: أولاً: الربانية. ثانياً: التكامل والشمول. ثالثاً: الاعتدال والتوازن. رابعاً: التميز والمفاصلة. خامساً -من عناصر المقدمة-: وسائل التربية، وتتمثل أهم هذه الوسائل فيما يلي: التربية بالقدوة، والتربية بالعبادة، والتربية بالقصص القرآني والنبوي، والتربية بالأحداث الجارية، والتربية بالموعظة، وأخيراً: التربية بالعقوبة. سادساً -من عناصر المقدمة-: صفات المربي ومسئوليات المربين، وأهم صفات المربي هي: ربانية الهدف، الإخلاص، الصدق، الصبر، التزود بالعلم، العدل، وعي الاتجاهات الفكرية والتربوية العالمية المعاصرة، ومدى تأثيرها على العقول. أما عن أهم مسئوليات المربين فهي تتمثل فيما يلي: أولاً: مسئولية التربية الإيمانية. ثانياً: مسئولية التربية الخلقية. ثالثاً: مسئولية التربية النفسية. رابعاً: مسئولية التربية العقلية. خامساً: مسئولية التربية الجسمية والجنسية. وأخيراً -من عناصر المقدمة-: الهدف من التربية. هذه هي أهم عناصر المقدمة التي سأقدم بها إن شاء الله جل وعلا بين يدي هذا اللقاء الهام الخطير، ألا وهو أصول التربية في سورة لقمان، وأستهل هذه السلسلة في هذا اللقاء المبارك إن شاء الله تبارك وتعالى بأهم الأسباب التي أدت إلى اختياري لهذا الموضوع. وبداية أضرع إلى الله جل وعلا أن يجعل هذه السلسلة مباركة نافعة، وأن يرزقني وإياكم الإخلاص والقبول، وأن يجنبني وإياكم الزيغ والزلل، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

الانفصام بين المنهج والواقع

الانفصام بين المنهج والواقع أما عن أول عناصر المقدمة التي ستحتاج منا إلى أكثر من لقاء، إن قدر الله البقاء واللقاء، فهي أسباب اختياري لهذا الموضوع. والسبب الأول أيها الأحبة الكرام هو: الانفصام بين المنهج والواقع. أحبتي في الله! إن المجتمع الذي بنى القرآن الكريم صرحه الشامخ، وأرسى لبناته العظام، على يد مربي البشرية الأعظم، الذي رباه الله على عينه ليربي به الدنيا صلى الله عليه وآله؛ إن هذا المجتمع كان مجتمعاً فريداً بكل ما تحمله الكلمة من معان، ولم تشهد البشرية له نظيراً إلى يومنا في تاريخها الطويل، إنه مجتمع رباه النبي صلى الله عليه وسلم على العبودية الكاملة لله وحده لا شريك له، وتمثلت هذه العبودية الكاملة بالعقيدة الصافية الخالصة امتثالاً عملياً لقول الله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، ولقول الله جل وعلا: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62]. وتمثلت هذه العبودية الكاملة في العبادة الصحيحة بركنيها: من كمال الذل وكمال الحب لله عز وجل، وبشرطيها من إخلاص لله واتباع لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، امتثالاً عملياً لقول الله جل وعلا: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163]. وتمثلت هذه العبودية -ثالثاً- في تحكيم الشريعة امتثالاً عملياً لقول الله عز وجل: {إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:40]، وتطبيقاً حرفياً لقول الله جل وعلا: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65]. وتمثلت هذه العبودية -رابعاً- بالجانب الأخلاقي والسلوكي، امتثالاً عملياً لقول الله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90]، وامتثالاً عملياً لقول الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الذي رواه البخاري في الأدب المفرد، والحاكم في المستدرك، والبيهقي في الشعب، وصحح الحديث شيخنا الألباني في صحيح الجامع من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق). إنه مجتمع فريد في كل شيء: في عقيدته، في عبادته، في شريعته، في أخلاقه وسلوكه ومعاملاته، إنه مجتمع رباه القرآن، وطهر باطنه وظاهره، وأخلاقه ومشاعره، وحاطه بسياج من التربية الفذة الفريدة الكاملة، فعاش أفراد هذا المجتمع في واحة من الود الندي، والتسامح الجياش، والحب والإخاء، كأنهم جسد واحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، إنه مجتمع رباه النبي صلى الله عليه وآله وسلم تربية فذة كريمة شاملة كاملة، رباه المصطفى عليه الصلاة والسلام تربية حولت كل هذه الأطر النظرية الإسلامية إلى واقع متحرك، وإلى مجتمع مرئي ومنظور ومحسوس، نقله النبي عليه الصلاة والسلام من أجواء الكفر والحقد والكراهية والعنصرية والقبلية البغيضة، إلى واحة التوحيد، وإلى واحة الحب في الله والإخاء والمساواة وعدم التفرقة، فلا تميز في هذا المجتمع لمن ارتفع على من اتضع، ولا لمن اغتنى على من افتقر، ولا لمن حكم على من حُكِم، لا فضل لأحد إلا بالتقوى والعمل الصالح، كما قال ربنا جل وتعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13]. وظل هذا المجتمع -أيها الخيار الكرام- هكذا يطاول كواكب الجوزاء في عنان السماء، ظل متمسكاً بكتاب رب الأرض والسماء وسنة النبي عليه الصلاة والسلام، ظل هذا المجتمع هكذا حتى أخذ يبتعد رويداً رويداً عن هذا النبع الكريم، وعن هذا الأصل العظيم، عن نبع عزه ومصدر شرفه، وأصل كرامته وسيادته وقيادته، وراح هذا المجتمع يطرح بين يديه أصل الكرامة والسؤدد؛ ليلهث وراء الشرق الملحد تارة، ووراء الغرب الكافر تارة أخرى، فحدث في هذا المجتمع هذا الخلق العجيب، وهذا الانفصام النكد بين المنهج المنير والواقع الحنظل المرير. ففي الجانب العقدي نرى العقيدة اليوم تذبح شر ذبحة على أيدي أبنائها الذين ابتعدوا كثيراً عن حقيقتها ومقتضياتها، وعن مفهومها الشامل ومقتضاها الشامل، ودخل الفكر الإرجائي في جسد الأمة، فابتعد الناس كثيراً -إلا من رحم ربك- عن صفاء هذه العقيدة الخالصة. وفي الجانب التعبدي: صرف كثير من أبناء الأمة العبادة لغير الله جل وعلا، وسمعنا بآذاننا من أبناء الأمة الكبار من يقول: إنني ممن يعتقد أن للكون أقطاباً وأوتاداً وأبدالاً تنظم شئونه وتدبر حياته! صرفت العبادة لغير الله، ذبح لغير الله، ونذر لغير الله، وطاف المسلمون بغير بيت الله، وحلف المسلمون بغير الله جل وعلا، وقدمت العبادة في كثير من صورها وأجزائها إلى غير الله جل وعلا، إلا من رحم ربك. وفي الجانب التشريعي: وقع ما لم يكن يخطر لأحد على بال، وقع المنكر الأعظم، والفساد الأخطر الأكبر بتنحية شريعة الله جل وعلا، وتحكيم القوانين الوضعية الفاجرة، التي هي من صنع المهازيل من البشر من شيوعين، وعلمانيين، وديمقراطيين، واشتراكيين، وبعثيين، وعفلقيين وغيرهم، ونحى المسلمون شريعة الله! وقدموا شريعة المهازيل من البشر! الذين تتحكم فيهم الأهواء والشهوات والنزوات، والله جل وعلا رب الأرض والسماوات يقول: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50]، {إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:40]. وفي الجانب النفسي: نرى هزيمة نفسية مدمرة، ونرى الساحة تعج بمسخ مشوه للهوية، وبأغاليط تشوه الفكر وتمسخ التاريخ، وبزعزعة تميت الانتماء في القلوب والعقول. أما في الجانب الأخلاقي والسلوكي فحدث ولا حرج، فهذا التخلف في الأخلاق، وهذه الانتكاسة في السلوك وفي المعاملات، وهذا الانفصام النكد بين العبادات والمعاملات: في المتاجر والمصانع والمزارع والشوارع والحقول والتجارات وغيرها، هذا الانفصام النكد إنما هو نتيجة حتمية للتخلف العقدي والتعبدي والتشريعي والنفسي مع غياب التربية الإسلامية الصحيحة، مع نسيان قول رسول الله: (إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق). وهكذا أيها الأحبة نرى انفصاماً بين المنهج المنير والواقع المرير، ولكن في دياجير هذا الظلام، شاء الله تبارك وتعالى أن يبسط في الأفق نوراً -سأتحدث عنه بعد قليل بإيجاز شديد- فهذا هو أول سبب من الأسباب التي دعتني للحديث عن أصول التربية، وعن الإطالة في المقدمة عن عمد وعن اختيار؛ لأننا نرى هذا ولا ينكر ذلك أحد إلا إذا كان يعيش في برج عاجي! أو جلس ينظر لحال المسلمين من مكتب مكيف مغلق لا يحتك بواقع الناس في شيء. هذا هو السبب الأول الذي دعاني للإطالة في هذه المقدمة لأصول التربية، ألا وهو الانفصام بين الواقع والمنهج، أو بين المنهج المنير والواقع الحنظل المرير.

الذوبان في بوتقة المناهج التربوية الغربية

الذوبان في بوتقة المناهج التربوية الغربية السبب الثاني الذي دعاني للحديث بمقدمة طويلة في أصول التربية هو: الذوبان في بوتقة المناهج التربوية الغربية. أيها الأحبة الكرام! لقد هزمت الأمة المسلمة هزيمة نفسية منكرة يوم أن تخلت عن موكب الهدى، وركب النور، وتنكبت الصراط، وتركت أصل العز والشرف، وراحت تلهث وراء الشرق تارة، ووراء الغرب الكافر تارة أخرى. تخلفت الأمة في وقت تقدمت فيه الحضارة المادية المذهلة تقدماً يأخذ العقول ويبهر العيون! ثم أفاقت الأمة بعد هذا التقدم العلمي المذهل، ونظرت إلى هذا التطور العلمي نظرة الملهوف الذي فقد كل شيء، وغدا مستعداً للذوبان في أي بوتقة، لا سيما في بوتقة هذا التقدم المادي المذهل! فراحت الأمة تحاكي هذه الحضارة الغربية الكافرة، ولا تفرق على الإطلاق بين الحضارة المادية العلمية الصناعية، وبين الحضارة التربوية الأخلاقية، وراحت الأمة تحاكي وتقلد دون تفريق إلا من رحم الله جل وعلا، وصدق فيها قول من لا ينطق عن الهوى كما في الصحيحين من حديث أبي سعيد أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن!) أي: من غير اليهود والنصارى؟! راحت الأمة تحاكي الكفار محاكاة عمياء، وصرخت أصوات المحررين، وأصوات المجددين، وأصوات المطورين، وأصوات المصلحين، هكذا سماهم أعداء ديننا للي أعناق الناس إلى أفكارهم لياً، ولإرغام أنوف الناس إلى مناهجهم التربوية الخبيثة، فراحوا يصرخون في الأمة بالذوبان في بوتقة المناهج التربوية الغربية الدخيلة على عقيدتنا وديننا وإسلامنا، باعتبار أن هذه المناهج هي إكسير السعادة وسر الحياة وبلسم الشفاء لهذه الأمة التي تعثرت في هذا الموقف الخطير! فراحت الأمة تحاكي الكفار دون تفرقة بين الحضارة المادية والحضارة التربوية الأخلاقية. وبعد تجربة طويلة مريرة، جاءت الأمة في وقت الحصاد لتحصد الفشل الذريع في الجانب التربوي والأخلاقي في كل صوره، وأصبح الذين كانوا ينافحون ويدافعون بالأمس القريب عن المناهج التربوية الغربية أصبحوا يعلمون يقيناً أنهم حصدوا سراباً، وزرعوا شوكاً وحنظلاً، وقطفوا شقاء وتعاسة، فنحن بحق وبكل ثقة -وأقولها برأس يناطح السماء- نحن بحق نملك المنهج التربوي المتكامل الفذ الفريد؛ لأننا نملك الإسلام الذي يملك وحده -بلا منازع- المنهج التربوي المتكامل لكل جزئيات الحياة، نملك هذا المنهج العظيم، وما زال الإسلام شامخاً يعرض نفسه على الإنسانية كلها على أنه وحده هو المخلص للإنسانية من هذا الضيم، ومن هذا الشقاء، بعد أن أحرقها لفح الهاجرة القاتل، وأضناها طول المشي في التيه والضلال، يعرض الإسلام نفسه كمخلص لهذه الإنسانية كلها؛ لأنه ابتداء وانتهاء منهج الله الخالق الذي يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير. أيها الخيار الكرام! وفي دياجير هذا الظلام لا أنكر على الإطلاق، كما لا ينكر ذلك على الإطلاق أحد يتابع أحوال الأمة، لا ننكر أن الأمة الآن بفضل من الرحيم الرحمن بدأت تنتقل من أخطر مراحلها، من حالة أزمة الوعي إلى وعي الأزمة، وهانحن نرى أصدق دليل عملي على كلامي هذا، ألا وهو هذه الصحوة الإسلامية الكريمة المباركة، التي بدأت تنقل الأمة حقيقة من تلك المرحلة التعيسة إلى هذه المرحلة الوضيئة المشرقة، فهانحن نرى بفضل الله جل وعلا صحوة كريمة مباركة بدأت تتنزل بفضل الله في كل بقاع الدنيا كتنزل حبات الندى على الزهرة الضمأى والأرض العطشى، أو كنسمات ربيع باردة عطرتها وطيبتها أنفاس الزهور، هانحن نرى ثلة كريمة مباركة من شباب في ريعان الصبا، وفتيات في عمر الورود، هذه الكوكبة الكريمة التي جاءت لتسير على طريق الدعوة الطويل الضارب في شعاب الزمان من لدن نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، جاءت هذه الكوكبة لتمضي على ذات الطريق، مستقيمة الخطى، ثابتة الأقدام، تجتاز الصخور والأشواك والحجارة، تسيل دماء، وتتمزق أشلاء هنا وهناك، ولكن الركب الكريم في طريقه لا ينحني، ولا ينثني، ولا يحيد؛ لأنه على ثقة مطلقة، ويقين متكامل أن معه الحق الذي من أجله خلق الله السماوات والأرض، والجنة والنار، ومن أجله أنزل الله الكتب، ومن أجله أرسل الله الرسل، إنه والله لصبح كريم عظيم جليل مبارك، صبح هذه الصحوة الكريمة المباركة: صبح تنفس بالضياء وأشرق والصحوة الكبرى تهز البيرقا وشبيبة الإسلام هذا فيلق في ساحة الأمجاد يتبع فيلقا وقوافل الإيمان تتخذ المدى درباً وتصنع للمحيط الزورقا وما أمر هذي الصحوة الكبرى سوى وعد من الله الجليل تحققا هي نخلة طابت ثرى فنما لها جذع قوي في التراب وأعذقا هي في رياض قلوبنا زيتونة في جذعها غصن الكرامة أورقا فجر تدفق من سيحبس نوره أرني يداً سدت علينا المشرقا يا نهر صحوتنا رأيتك صافياً وعلى الضفاف رأيت أزهار التقى قالوا تطرف جيلنا لما سما قدراً وأعطى للطهارة موثقا ورموه بالإرهاب حين أبى الخنا ومضى على درب الكرامة وارتقى أوكان إرهاباً جهاد نبينا أم كان حقاً بالكتاب مصدقا أتطرف إيماننا بالله في عصر تطرف في الهوى وتزندقا إن التطرف أن نذم محمداً والمقتدين به ونمدح عفلقا إن التطرف أن نرى من قومنا من صانع الكفر اللئيم وأطرقا إن التطرف أن نبادل كافراً حباً ونمنحه الولاء محققا إن التطرف وصمة في وجه من حولوا البوسنة جمراً محرقا شتان بين النهر يعذب ماؤه والبحر بالملح الأجاج تدفقا يا جيل صحوتنا أعيذك أن أرى في الصف من بعد الإخاء تمزقا لك في كتاب الله فجر صادق فاتبع هداه ودعك ممن فرقا لك في رسولك أسوة فهو الذي بالصدق والخلق الرفيع تخلقا يا جيل صحوتنا ستبقى شامخاً ولسوف تبقى بالتزامك أسمقا هذه الصحوة الكريمة أيها الأحبة! سبب وأصل عملي لانتقال الأمة من مرحلة أزمة الوعي إلى وعي الأزمة، وهذه الصحوة هي السبب الثالث من أسباب اختياري لهذا الموضوع، وأفصل هذا السبب في وقت وجيز بعد جلسة الاستراحة، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

الصحوة الكريمة المباركة

الصحوة الكريمة المباركة الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الأحبة! أقول: إن السبب الثالث الذي دعاني لاختيار هذا الموضوع هو هذه الصحوة الكريمة المباركة، فإن هذه الصحوة من أجل أن تكون قوية بنّاءة مثمرة راشدة، فإنها في حاجة إلى منهج تربوي دقيق، يحميها من الانسياح والذوبان في أطر ومناهج مشوشة وملوثة، هذا المنهج التربوي الدقيق المنبثق من القرآن والسنة بفهم سلف الأمة هو وحده الكفيل -بإذن الله جل وعلا- أن يحفظ لهذه الصحوة ثمرتها، وأن يحفظ لهذه الصحوة جهدها، وأن يحفظ لهذه الصحوة عملها، هذا المنهج التربوي الدقيق المنبثق من القرآن والسنة بفهم سلف الأمة هو الذي يحفظ جهد الصحوة من أن يضيع كما يضيع ماء الأمطار بين الوديان والشعاب، وهو الذي يحمي الصحوة من الوقوع في أي تعامل خاطئ مع النصوص العامة أو الخاصة، بالاستشهاد بها في غير موضعها، أو في غير محلها، أو بدون تحقيق المناطات الخاصة والعامة التي لابد منها حتماً للربط ربطاً صحيحاً بين دلالة النصوص وحركة الواقع. هذه الصحوة تحتاج إلى هذا المنهج التربوي المتكامل؛ لتستفيد منها الأمة، وليجعل الله تبارك وتعالى خيرها عاماً نافعاً، حتى لا ينطلق فرد أو جماعة أو أي فصيل حركي بعيداً عن هذا المنهج التربوي، فيخطئ ويحسب خطؤه على الحركة بصفة عامة. إن قدر الله عز وجل لنا البقاء واللقاء فسوف يكون حديثنا في الأسبوع المقبل بإذنه تبارك وتعالى عن مصادر التربية الإسلامية، وهي: القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة، ومنهج السلف باعتباره يمثل التطبيق العملي للقرآن والسنة. أسأل الله جل وعلا أن يتقبل مني وإياكم صالح الأعمال، اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وانصرنا على القوم الكافرين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أصول التربية [2]

أصول التربية [2] أمتنا الإسلامية أمة ذات كيان مستقل في جميع المجالات، لا سيما المجال التربوي، وإن استقلال الأمة في المجال التربوي، وعودتها إلى مصادر التربية الإسلامية المتمثلة في القرآن والسنة ومنهج السلف الصالح، كفيل بتعويض الأمة ما فاتها من عز وسؤدد، أما جريها وراء الشرق تارة ووراء الغرب تارات؛ مستمدة مصادر التربية من هناك فلن يزيدها إلا ضعفاً وذلاً.

مصادر التربية الإسلامية وأهمية الرجوع إليها

مصادر التربية الإسلامية وأهمية الرجوع إليها بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: أحبتي في الله! هذا هو لقاؤنا الثاني مع أصول التربية في سورة لقمان، وقد ذكرت في اللقاء الماضي أنني سأستهل هذا الموضوع الهام الكبير بمقدمة عامة في أصول التربية، وقد تحتاج منا هذه المقدمة إلى أكثر من لقاء، وجعلت أول عناصر هذه المقدمة هو أسباب اختياري لهذا الموضوع، وذكرت ثلاثة أسباب: الأول: الانفصام بين المنهج والواقع. الثاني: الذوبان في بوتقة المناهج التربوية الغربية الدخيلة على عقيدتنا وديننا. أما السبب الثالث فهو: هذه الصحوة الإسلامية الكريمة المباركة التي بدأت تتنزل بفضل من الله جل وعلا في كل بقاع الدنيا كتنزل حبات الندى على الزهرة الظمأى والأرض العطشى، أو كنسمات ربيع باردة عطرتها وطيبتها أنفاس الزهور، وهذه الصحوة من أجل أن تكون قوية بناءة مثمرة راشدة، فإنها في أمس الحاجة إلى منهج تربوي أصيل منبثق من القرآن والسنة بفهم سلف الأمة حتى لا يضيع جهد هذه الصحوة سدى كما يضيع ماء الأمطار بين الوديان والشعاب. وها نحن اليوم بإذن الله جل وعلا على موعد مع اللقاء الثاني من لقاءات المقدمة لأصول التربية في سورة لقمان، وحديثنا اليوم عن مصادر التربية في الإسلام. وأعيروني القلوب والأسماع أيها الخيار الكرام! فإن طبيعة هذه الموضوعات المنهجية تحتاج إلى تركيز شديد، ومتابعة مركزة، لاسيما وقد اشتكى إلي كثير من الأحبة صعوبة الطرح في اللقاء الماضي، فأسأل الله جل وعلا أن ييسر لنا الأسباب، وأن يذلل لنا الصعاب، وأن يفتح لنا أبواب علمه وفضله وخيره، إنه حليم كريم وهاب. أحبتي في الله! إن مصادر التربية الإسلامية هي: القرآن الكريم، والسنة المطهرة، ومنهج السلف باعتباره يمثل التطبيق العملي للقرآن والسنة، والله ما انتكست الأمة المسلمة هذه الانتكاسة الخطيرة في عقيدتها وأخلاقها وسلوكها ومعاملاتها إلا يوم أن تخلت عن هذه المنابع الصافية الطاهرة، وراحت تستقي من معين الحضارة الشرقية الملحدة تارة، ومن معين الحضارة الغربية الكافرة تارة أخرى، دونما تفريق بين الحضارة الصناعية والعلمية، والحضارة التربوية والمنهجية والأخلاقية! وقد آن الأوان وحان الوقت لاسيما بعدما انتقلت الأمة بفضل الله جل وعلا، ثم بفضل هذه الصحوة من مرحلة أزمة الوعي إلى مرحلة وعي الأزمة، حان الوقت وآن الأوان ليتخلص مخططو وواضعو المناهج التربوية لأبنائنا وشبابنا في شتى المجالات، وشتى مناحي وفروع ومراحل التعليم، من عقدة النقص أمام المناهج التربوية الدخيلة على عقيدتنا وديننا؛ لأننا بكل ثقة نملك المنهج التربوي الفذ الفريد المتكامل لكل جزئيات الحياة؛ لأننا نحمل الإسلام، والإسلام وحده هو الذي يملك المنهج المتكامل الوحيد الذي يرتقي بالبشرية إلى ذروة المجد والعلا، وإلى واحة السعادة والهناء في الدنيا والآخرة، وها هو الإسلام ما زال شامخاً يعرض منهجه كمخلص للإنسانية كلها من هذا التيه، والضنك، والركام، بعد أن أحرقها لفح الهاجرة القاتل، وأضناها طول المشي في التيه والضلال، ها هو الإسلام يعرض نفسه ومنهجه كمخلص للبشرية كلها؛ لأنه ابتداء وانتهاء منهج الله خالق الإنسان، الذي قال وقوله الحق: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14].

القرآن الكريم أول مصادر التربية الإسلامية

القرآن الكريم أول مصادر التربية الإسلامية إن أول مصدر من مصادر التربية الإسلامية، وإن معين التربية الأول الذي لا يجف، هو القرآن الكريم، فإن القرآن هو معين التربية الأول، وهو مصدر الهدى والنور الذي أشرقت له الظلمات، وهو الرحمة الكبرى التي بها صلاح جميع المخلوقات، وهو نور الأبصار من عماها، وشفاء الصدور من أذاها، كلما ازدادت فيه الأبصار تدبراً وتفهماً وتفكيراً زادها القرآن هداية واستقامة وتبصيراً. القرآن أسمع -والله- لو صادف آذاناً واعية، وبصر -والله- لو صادف قلوباً خالية من الفساد. القرآن الكريم هو النعمة الباقية، والعصمة الواقية، والحجة البالغة، والدلالة الدامغة، كيف لا وهو كلام الحق جل وعلا؟! إننا أمام القرآن، ومع القرآن، وهو خطاب مباشر من الرحيم الرحمن جل وتعالى. القرآن الكريم معين التربية الإسلامية الأول، وبأسلوبه الفذ الفريد استطاع أن يربي الرعيل الأول تربية متكاملة، وهم الذين حولوا بدورهم هذا القرآن إلى منهج حياة، وواقع متحرك، ومجتمع منظور؛ لأن الرعيل الأول كانوا إذا تعلموا عشر آيات لم ينتقلوا عنها حتى يعملوا بما فيها من العمل، فتعلموا القرآن والعمل جميعاً، وبأسلوب التربية الرائع الخلاب للقرآن الكريم تربى ذلك الرعيل الأول تربية سامقة، وجعلهم على القمة التي تشرف على جميع بني الإنسان، واستحقوا -بعدما اكتمل منهج التربية لهم- الخطاب من علام الغيوب في قوله جل وعلا: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110].

أسس التربية في القرآن الكريم

أسس التربية في القرآن الكريم إن للقرآن الكريم أسلوبه الفذ الفريد الخاص في وضع أسس التربية المتكاملة: تارة بالحوار، وتارة بالقصص، وتارة بالوصف، وتارة بالترهيب، وتارة بالترغيب، وتارة بالتعريض، وتارة بالوعد والوعيد، أسلوب فذ فريد للقرآن؛ لأنه كلام الرحيم الرحمن الذي خلق النفس ويعلم مكامنها، ويعلم مؤثراتها، ويعلم ما الذي يؤثر فيها، إن القرآن الكريم يخاطب أعماق الفطرة، ويستجيش الوجدان الحي، ويحرك القلوب الحية، والعقول النيرة، ويستنطق الفطر من أعماقها؛ لتوحد الله جل وعلا. بل لقد بلغ من إعجاز القرآن الكريم، وأسلوبه الرائع الخلاب أن خاف المشركون على قلوبهم وأنفسهم من السماع إليه حتى لا يتحولوا من الشرك إلى التوحيد لله جل وعلا، بل لقد كانت وصية بعضهم لبعضهم الآخر كما حكى الله عنهم: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26] بل لقد ذهب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في يوم كريم من أيام شهر رمضان المبارك في السنة الخامسة من البعثة المحمدية المباركة، إلى بيت الله الحرام في مكة -زادها الله تشريفاً- حيث جلس السادة والكبراء من المشركين، وقام النبي صلى الله عليه وسلم على رءوسهم، وأخذ يتلو عليهم القرآن الكريم، وافتتح بسورة النجم، وقرع آذانهم كلام إلهي رائع خلاب، يستجيش الوجدان، ويلمس القلوب، ويحرك العواطف تحريكاً، وأنصت المشركون جميعاً لكتاب الله، وما ظنكم بقرآن الله يتلوه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم! وأنصت المشركون جميعاً، وانشغلوا عن كل شيء لسماع القرآن كلام الرحيم الرحمن جل وعلا، وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم في آخر السورة وفيها قوارع تطير لها القلوب: {أَزِفَتْ الآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ * أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ * فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم:57 - 62] وخر النبي صلى الله عليه وسلم ساجداً لله، فلم يتمالك المشركون أنفسهم، وخروا سجداً لله خلف رسول الله! إي وربي خر المشركون سجداً لله خلف رسول الله! {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج:18]. ولقد روى قصة سجود المشركين خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم الإمام البخاري في صحيحه في كتاب: سجود القرآن، وعنون لهذا الباب بقوله: باب سجود المسلمين مع المشركين، وذكر حديث ابن عباس رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس). إنه كلام الحق جل وعلا، بدأ القرآن بأسلوبه الفذ الفريد في تربية هذا الرعيل الأول -وانتبهوا أيها الأخيار- إن أول لبنة وضعها القرآن الكريم في هذا البناء التربوي الكامل المتكامل هي العقيدة، بدأ الإسلام أسلوبه التربوي، وركز القرآن أسلوبه التربوي بوضع لبنة العقيدة في القلوب. لماذا؟ لأن التربية لا تقوم ابتداء على منهج لوثت فيه العقيدة، ولا شك أن المسلمين اليوم في أمس الحاجة إلى تصحيح العقيدة، فواجب على كل الدعاة الصادقين أن يبدءوا بمثل ما بدأ به القرآن لتربية الأمة المسلمة من جديد؛ لتحاكي الرعيل الأول والمجتمع الأول الذي رباه القرآن على يد أعظم مرب عرفته الدنيا، على يد محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

اهتمام القرآن بالتربية على العقيدة الصحيحة في الله تعالى

اهتمام القرآن بالتربية على العقيدة الصحيحة في الله تعالى بدأ القرآن الكريم يربي العقيدة في القلوب تربية صحيحة، ويعرف الناس بخالقهم وبربهم جل وعلا، ويعرفهم بالغاية التي من أجلها خلقوا، ألا وهي عبادة الله، فإن الله لم يخلق الخلق سدى وهملاً، بل خلق الله الخلق ليعبدوه، وبالإلهية يفردوه ويوحدوه، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58]. بدأ القرآن يعرف الناس بخالقهم، ورازقهم وربهم جل وعلا، بأسلوب عجيب يخاطب أعماق الفطرة؛ ليجعلها تنطق بوحدانية الله، اقرأ قول الله جل وعلا في سورة النمل: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:60] يستنطق أعماق الفطرة {أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ * أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ * أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل:60 - 65]. واقرأ قول الله جل وعلا: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190 - 191] إلى آخر الآيات، والآيات في هذا كثيرة جداً.

تربية القرآن للناس على الإيمان باليوم الآخر

تربية القرآن للناس على الإيمان باليوم الآخر وبعدما عرفهم القرآن بخالقهم وربهم جل وعلا عرفهم باليوم الآخر، هذا اليوم الذي لابد للإنسان أن يعرض فيه على الله؛ ليحاسب على كل ما قدم: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه} [الزلزلة:7 - 8] لماذا؟ لأن التربية التي تقوم على الإيمان بالله وعلى الإيمان باليوم الآخر هي وحدها التي تحفظ التوازن في هذه الحياة الدنيا لبني الإنسان، اقرأ قول الله عز وجل وهو يصف لهم اليوم الآخر وصفاً دقيقاً؛ حتى كأنهم يرونه رأي العين: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ * وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ * وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:1 - 9]. واقرأ: {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} [الانفطار:1 - 5]. واقرأ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1 - 2]. واقرأ: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِنْ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ * تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ * فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً * إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً * يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ * وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً * يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ * وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ * كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى * تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى * وَجَمَعَ فَأَوْعَى} [المعارج:1 - 18] إلى آخر الآيات. والآيات في كتاب الله جل وعلا كثيرة، فإن التربية على الإيمان بالله واليوم الآخر هي التي تحفظ التوازن لهذا الإنسان في هذه الحياة.

تعريف القرآن للناس بأنفسهم وحقيقتها

تعريف القرآن للناس بأنفسهم وحقيقتها وبعدما رباهم على الإيمان بالله وعلى الإيمان باليوم الآخر عرفهم بأنفسهم، من أنت أيها الإنسان؟! وأجاب القرآن على كل تساؤلات الفطرة: من أنت؟ ومن أين؟ وإلى أين؟ وما هو المصير؟ والتربية الإسلامية الصحيحة التي تقوم على إجابات واضحة في النفس والقلب والعقل والضمير لكل هذه التساؤلات هي وحدها الضمان الوحيد والأكيد الذي يمنح الإنسان السعادة والطمأنينة، ويحميه من الوقوع في القلق والشك والحيرة والاضطراب الذي وقع فيه كثير من الناس بعد الابتعاد عن هذا المنهج الرباني الكريم. وعبر عن هذه الحيرة وعن هذا الشك وعن هذا القلق أحدهم فقال بلسان المقال: جئت ولكني لا أعلم من أين أتيت! ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت! وسأمضي في طريقي شئت هذا أم أبيت!؟ كيف جئت؟! كيف أبصرت طريقي؟! لست أدري؟! ويمضي في هذا الشك وهذه الحيرة وهذا القلق، يمضي يقطع الطريق كالبهيمة السائمة! لا يعرف لحياته معنى، ولا يعرف لوجوده هدفاً، ولا يعرف لوجوده غاية، وصدق ربي إذ يقول: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179] إنه وصف الله جل وعلا لهذا الإنسان الذي لا يدري! لكن المسلم المؤمن يعلم من الذي خلقه، ويعلم لماذا خلقه، ويعلم أن المصير: إما نعيم وإما جحيم، إما إلى جنة وإما إلى نار، ووالله أيها الخيار الكرام! لا يحس بهذه السعادة ولا بهذه الطمأنينة إلا من فقدها، نسأل الله أن يتم علينا وعليكم نعمة الإيمان. الإيمان بالله جل وعلا، ذلكم هو منهج القرآن الكريم الفذ الفريد، ولا أستطيع أن أتوقف عند كل توجيهاته، فإن القرآن الكريم وجه الجماعة الأولى بجميع التوجيهات في جميع مناحي الحياة: السياسية والتعليمية والتربوية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية والمعاملات والسلوك إلخ، وبهذا الأسلوب التربوي الفذ الفريد المتكامل استطاع القرآن أن يربي الرعيل الأول هذه التربية السامقة، وأن يستحقوا الخطاب من الله جل وعلا: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]. هذا هو مصدر التربية الأول الذي ما فرط الله جل وعلا فيه من شيء، وواجب على جميع مخططي وواضعي المناهج التربوية لأبنائنا وشبابنا أن يعودوا إلى هذا النبع الكريم الصافي، وإلى معين التربية الأول، إلى القرآن الكريم.

السنة النبوية ثاني مصادر التربية الإسلامية

السنة النبوية ثاني مصادر التربية الإسلامية ثانياً بإيجاز شديد: المصدر الثاني من مصادر التربية الذي لا يمكن بحال أن يتخلف عن المصدر الأول أو أن يتنكب عنه هو سنة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم. أيها الخيار الكرام! إن السنة الكريمة موضحة ومبينة لكتاب الله، ولقد ابتلينا بصنف خبيث زنديق، وهي شنشنة قديمة حديثة! هذا الصنف رفع عقيرته وقال: بعدم حجية السنة وبعدم وجوب الأخذ بها! ورفع شعار: أنه لا نأخذ إلا بالقرآن! وكذب؛ فوالله إنه يوم أن ضيع السنة ضيع معها القرآن؛ لأن السنة لا تنفصم عن القرآن، ففي الحديث الذي رواه الحاكم في المستدرك وصححه الشيخ الألباني أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (تركت فيكم شيئين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي)، وفي لفظ: (وإنهما لن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض يوم القيامة). ولقد أخبر الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى عن هذا الصنف الخبيث الذي ينادي بالقرآن ويهجر السنة، ويعرض عنها، كما في الحديث الذي رواه ابن ماجة والإمام الترمذي وصحح إسناده الشيخ الألباني في المشكاة من حديث المقدام بن معد يكرب أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه)، وفي رواية أخرى: (ألا إن ما حرم رسول الله كما حرم الله جل وعلا) نعم، {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65]. وشخصية النبي عليه الصلاة والسلام منهج تربوي كامل بأقواله وأفعاله وأحواله وتقريراته وسلوكه عليه الصلاة والسلام، وكيف لا وقد رباه الله على عينه، وزكاه في كل شيء! وما تركه وما ودعه وما قلاه، زكاه في صدقه فقال: {وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى} [النجم:3]، وزكاه في بصره فقال: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17]، وزكاه في فؤاده فقال: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11]، وزكاه في صدره فقال: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1]، وزكاه في ذِكْره فقال: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:4]، وزكاه في طهره فقال: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ} [الشرح:2]، وزكاه في علمه فقال: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:5]، وزكاه في حلمه فقال: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، وزكاه كله فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]. ما ظنكم بمرب هذه صفاته، وتلك هي أخلاقه، يقررها له رب العالمين جل وعلا؟! إن أعظم مرب عرفته الدنيا هو محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

أعظم مرب هو النبي صلى الله عليه وسلم

أعظم مرب هو النبي صلى الله عليه وسلم أيها الحبيب الكريم! وإذا كان المنهج يؤثر بطابع من يتربون عليه فما ظنكم بمنهج هو القرآن الكريم؟! وإذا كان كل تلميذ يقتبس من أستاذه فما ظنكم بقبس من أستاذ هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟! إن أعظم مرب عرفته الدنيا هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وكل أحواله وأفعاله منهج تربية، ومنهج حياة، يجب على المسلمين أن يستقوا منه، وأن يأخذوا من معينه الفياض الذي لا يجف ولا ينتهي بإذن الله جل وعلا، ولذلك ينبغي أن نقف مع السنة. والله يا أحباب! إن الناس يعشقون العظمة، ويلتفون حولها بدافع من الإعجاب الشديد، وبدافع من الحب العميق، ولكن شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم فضلاً عن أنها تحب لذاتها فإنها تحب أيضاً لأنه رسول الله مبلغ عن الله، فقد اكتملت فيه صفات العظمة الإنسانية والبشرية فضلاً عن أنه يوحى إليه من ربه جل وعلا، {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} [الكهف:110] إنه المصطفى عليه الصلاة والسلام، وهذا بعد جديد آخر أضفى حباً عميقاً في قلوب الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والله مهما أوتينا من سحر البيان، وفصاحة اللسان، وعظمة البلاغة والتبيان، فلن نستطيع على الإطلاق أن نعبر أو أن نجسد أو أن ننقل لكم فحوى حب أصحاب النبي له صلى الله عليه وآله سلم! وكيف أستطيع ذلك وقد جاء صحابي جليل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقول له: (يا رسول الله! والله إنك لأحب إلي من نفسي، وإنك لأحب إلي من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتي لأنظر إليك)؟! أي حب هذا؟! (وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتي لأنظر إليك)! لكن الرجل جاء حزيناً فزعاً، ما سبب فزعه وحزنه؟! قال: (وإذا ذكرت موتك يا رسول الله! علمت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وإني إذا دخلت الجنة خشيت ألا أراك) فسكت النبي عليه الصلاة والسلام ولم يجبه، فنزل الجواب الندي الرضي من الله جل وعلا: {وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنْ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً} [النساء:69 - 70]. والحديث رواه الضياء المقدسي في صفة الجنة وحسنه من حديث عائشة، وصحح إسناده وحسنه أيضاً الإمام الترمذي، ورواه الطبراني في الصغير والأوسط، وقال الإمام الهيثمي في مجمع الزوائد: ورجاله رجال الصحيح، غير عبد الله الغامدي وهو ثقة. فينبغي أن نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أنه يحب لذاته فإنه يحب لأنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بل لما جاء عروة بن مسعود الثقفي ليوقع صلح الحديبية مع رسول الله وقف المغيرة بن شعبة على رأس رسول الله، أي: عند رأسه، وكان من عادة العرب إذا أرادوا التودد والتقرب أن يعبثوا ويداعبوا لحية من يخاطبونه، فمد عروة بن مسعود يده ليداعب لحية النبي عليه الصلاة والسلام، فما كان من المغيرة بن شعبة إلا أن ضرب يده بنعل سيفه وهو يقول له: أخر يدك عن لحية رسول الله قبل ألا تصل إليك، والرسول صلى الله عليه وسلم يبتسم. فلما دقق عروة بن مسعود النظر في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد إلى قومه ليقول: يا قوم! والله لقد وفدت على الملوك: لقد أتيت كسرى في ملكه، وقيصر في ملكه، والنجاشي في ملكه، ووالله ما رأيت أحداً يعظمه أصحابه مثلما رأيت أصحاب محمد يعظمون محمداً! والله إذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا الصوت عنده، وإذا تكلموا معه لم يحدوا إليه الطرف تعظيماً له صلى الله عليه وسلم! هذه مكانة النبي صلى الله عليه وسلم عند أصحابه، وهذا الحب أيها الأحباب! هو المفتاح الأول للتربية الصحيحة، وهو الذي يسهل كل صعب بعد ذلك بإذن الله جل وعلا. ولا أستطيع أن أتوقف أمام المنهج النبوي المتكامل، وأكتفي بهذا المشهد الذي رواه الإمام أحمد في مسنده، وقال عنه الحافظ العراقي: إسناده جيد. من حديث أبي أمامة، أن شاباً جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام ليستأذنه هل يا ترى للخروج للجهاد في سبيل الله؟! هل يا ترى في الخروج للدعوة إلى الله جل وعلا؟! هل يا ترى للإنفاق في سبيل الله؟! كلا، وإنما جاء الشاب ليستأذن النبي في الزنا! يقول: يا رسول الله! أتأذن لي في الزنا؟! فقام عليه الصحابة وزجروه وقالوا: مه مه! ماذا تقول؟! فقال النبي عليه الصلاة والسلام -المربي الأعظم بأبي هو وأمي-: (ادن واقترب، واقترب الشاب من رسول الله، ونظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم بمنتهى الرحمة، وقال له: أتحبه لأمك؟! قال: لا والله جعلني الله فداك، قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم! أتحبه لابنتك؟ قال: لا والله جعلني الله فداك، قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم! أتحبه لأختك لعمتك لخالتك؟! قال: لا والله جعلني الله فداك، قال: وكذلك الناس لا يحبونه لأخواتهم ولا لعماتهم ولا لخالاتهم، فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على صدر هذا الفتى، ثم دعا له -وهو الذي جاء يطلب الاستئذان للزنا- وقال النبي عليه الصلاة والسلام: اللهم اغفر ذنبه، وحصن فرجه، وطهر قلبه، فخرج الفتى ولم يكن يلتفت بعد ذلك إلى شيء). إنه المنهج التربوي المتكامل. أسأل الله جل وعلا أن يجزي عنا حبيبنا ورسولنا خير ما جزى نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته. وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

منهج السلف الصالح ثالث مصادر التربية الإسلامية

منهج السلف الصالح ثالث مصادر التربية الإسلامية الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وصحبه وسلم. أيها الأحبة الكرام! بإيجاز شديد يبقى الحديث في دقائق معدودات عن المصدر الثالث من مصادر التربية بعد القرآن والسنة، ألا وهو منهج سلف الأمة الصالح باعتباره يمثل التطبيق العملي للقرآن والسنة. والسلف مصطلح يطلق على ما كان عليه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وبقية الصحب الكرام، وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين، والأئمة الخيار المهديين، هذا معنى السلف، وأخطأ والله من جعل السلفية جماعة حزبية ضيقة مغلقة، أخطأ خطأً ذريعاً، ليس هؤلاء هم السلف، وليست هذه هي السلفية، إن السلفية ليست جماعة حزبية ضيقة مغلقة، ولكن السلفية نسبة إلى سلف الأمة الصالح، إلى أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، والأئمة الخيار المهديين الذين ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم من حديث ابن مسعود، قال: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم). ومن ثم فكل من جاء ليسير على هذا المنهج الرباني: على القرآن الكريم، وعلى السنة الصحيحة بفهم سلف الأمة الصالح، فهو ينسب إلى السلف، هو سلفي يستحق هذا التشريف وهو النسبة إلى سلف الأمة الصالح، إن اعتنق عقيدتهم وسار على طريقهم ودربهم فهو سلفي، ينسب إلى سلف الأمة الصالح رضوان الله عليهم، وإن باعدت بينه وبينهم الأماكن والأزمان، ومن عاش بين أظهرهم، وخالف عقيدتهم، وتنحى عن طريقهم، فليس منهم، حتى وإن عاش معهم، وقرب وجمع بينه وبينهم الزمان والمكان، هذا هو التعريف الصحيح للسلفية، ولمنهج السلف، ورضي الله عن ابن مسعود إذ يقول: (من كان مستناً فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا أفضل هذه الأمة، وأبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، اختارهم الله لصحبة نبيه، ولإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم على آثارهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم). أيها الأحبة! نتوقف عند هذا المنهج الكبير العظيم الشامل الذي يشمل كل جزئيات الحياة. وأسأل الله تبارك وتعالى أن يرد الأمة إلى هذه المنابع الصافية رداً جميلاً، ووالله لن تعود للأمة كرامتها ولا هويتها ولا سيادتها إلا إذا عادت من جديد إلى هذا النبع الكريم، وإلى هذا المصدر الشريف. أسأل الله جل وعلا أن يوفقنا وإياكم جميعاً لنعمل بكل ما سمعنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

التضحية والفداء

التضحية والفداء الإسلام دين العزة والكرامة والرحمة، وقد تداعت الأمم وتكالب الكفار على الكيد لهذه الأمة، فلابد من التضحية والبذل في سبيل الله كل بما يستطيع، من أجل نصرة الإسلام وإعزاز دين الله، وقدوتنا في ذلك أنبياء الله، وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الخليل عليه السلام يعلم الأمة التضحية والفداء

الخليل عليه السلام يعلم الأمة التضحية والفداء الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك وما كان معه من إله، الذي لا إله إلا هو، فلا خالق غيره ولا رب سواه، المستحق لجميع أنواع العبادة ولذا قضى ألا نعبد إلا إياه، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62]. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء وأيها الإخوة الأحباب الكرام الأعزاء، وطبتم جميعاً وطاب ممشاكم وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم جل وعلا الذي جمعنا مع حضراتكم في هذا المشهد المهيب الكريم على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار مقامته إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! عنوان لقائنا مع حضراتكم في هذا اليوم الكريم المبارك هو: هذا يوم التضحية والفداء.

ترك الأوطان والهجرة إلى الله

ترك الأوطان والهجرة إلى الله أيها الأحبة الكرام! ما أحوج الأمة في هذه الأيام، وفي هذا اليوم العظيم الكريم أن تتعلم هذا الدرس الكبير -درس التضحية والفداء- من خليل الله إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام. إن إبراهيم عليه السلام قد قدم للبشرية كلها أغلى وأعلى دروس التضحية والفداء، نعم أيها المسلمون! إننا اليوم أمام موقف فريد في تاريخ البشرية، إننا أمام موقف من أعظم مواقف الإيمان، وأروع وأنبل مشاهد الطاعة وأعظم لحظات الاستسلام والانقياد لله جل وعلا. أيها الأحبة الكرام: تعالوا بنا اليوم لنتعلم من خليل الله إبراهيم هذا الدرس الكبير من دروس التضحية والفداء، فهاهو إبراهيم عليه السلام يتضرع إلى الله جل وعلا أن يرزقه ولداً صالحاً بعدما عزم على أن يهجر الوطن والأهل؛ لأن قومه قد أصروا على عبادة الأوثان بعدما رأوا الآية الكبرى والمعجزة العظمى، بعدما نجى الله خليله من النيران، ومع ذلك عزم القوم على عبادة الأوثان، وهنا قال إبراهيم: {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} [العنكبوت:26] وقال: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات:99]، وتضرع إلى الله أن يرزقه ولداً صالحاً ليعينه على هذا الأمر العظيم، فقال: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات:99 - 100]. واستجاب الله جل وعلا دعاء خليله إبراهيم، فبشره بغلام حليم: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} [الصافات:101] وتنزلت البشارة على قلب الخليل كتنزل حبات الندى على الزهرة الظمأى والأرض العطشى، فطالما تطلع إبراهيم إلى هذا الغلام الذي يشهد له ربه جل وعلا بأنه حليم.

الخليل يضحي بفلذة كبده لله

الخليل يضحي بفلذة كبده لله تدبر معي أيها المسلم الكريم تتابع الأحداث، يقول الله جل وعلا: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:102] لم يكد إبراهيم عليه السلام يأنس بولده ويسعد بصباه ويفرح بسعيه معه، إلا ويفاجأ إبراهيم بهذا الابتلاء العظيم؛ إنه يرى أنه يذبح ولده في المنام بيديه! ورؤيا الأنبياء وحي. إنها التضحية، إنه الإباء، رحماك رحماك يا الله! التضحية بماذا؟ التضحية بالابن الوحيد الذي طالما تطلع إليه إبراهيم عليه السلام، إنه الابتلاء الذي لا مثيل له في تاريخ البشر، إنها التضحية التي ترتقي إلى أفق وضيء، تعجز عقول البشر أن تتصوره مجرد تصور فحسب، إنه الفداء الذي يجسد نبل الطاعة، وحلاوة الإيمان، وعظمة الاستسلام لله جل وعلا، وبرد اليقين بالله تبارك وتعالى. أيها المسلمون! هل تتصورون هذه اللحظات وإبراهيم عليه السلام يقوم لينفذ أمر ربه جل وعلا بهذا الغلام البار الحليم، ويقول له: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:102]، فيرد الولد الذي يرتقي هو الآخر إلى أفق قد ارتقى إليه من قبله أبوه عليهما السلام، يقول الغلام البار: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102]. وانطلق إبراهيم للتنفيذ فعلاً: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات:103] أي: ألقى إبراهيم الولد على وجهه ليذبحه من قفاه حتى لا تقع عين إبراهيم على عين ولده البار، فتخاطب البنوة الوادعة الحميمة البارة الأبوة الرحيمة الكريمة في قلب إبراهيم، فيتوانى عن تنفيذ أمر رب العالمين جل وعلا! وهنا يكون الابتلاء قد تم، ويكون الاختبار قد وقع، وتكون النتيجة قد ظهرت، ويكون إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام قد جاوزا الابتلاء والاختبار الذي ابتلاهما به العزيز الجبار جل وعلا، فظهرت العبودية لله، وظهر الاستسلام لأمر الله، والله جل وعلا لا يريد من عباده إلا العبودية والاستسلام والإذعان، حتى لا تستبقي النفس لنفسها في نفسها شيئاً ولا تقدم شيئاً على الله ولا على أمر الله جل وعلا ولا على نواهيه ولا على حدوده. وهنا نادى الله جل وعلا على إبراهيم: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الصافات:105 - 109]. سلام على هذا الشيخ الأواه المنيب الحليم الذي وفى، الذي علم الدنيا حقيقة التضحية، وعظمة الفداء لله جل وعلا.

حاجة الأمة إلى الاقتداء بإبراهيم عليه السلام سيما في التضحية

حاجة الأمة إلى الاقتداء بإبراهيم عليه السلام سيما في التضحية أيها المسلمون! إن أولى الناس باتباع إبراهيم هو النبي محمد صلى الله عليه وسلم، والموحدون لله جل وعلا مع رسول الله، قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الممتحنة:4]، وقال تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:67 - 68]. ما أحوج الأمة اليوم وفي هذه الظروف الحرجة التي ذلت فيها هذه الأمة وهانت لأحقر أمم الأرض! ذلت الأمة وهانت لخنازير الأرض من اليهود؛ ما أحوج الأمة اليوم إلى هذا الدرس الكبير، إلى درس التضحية لدين الله جل وعلا! فوالله الذي لا إله غيره إن ترك التضحية والبذل لدين الله، وترك هذا الدرس الكبير، سيجعل الأمة ذليلة كسيرة مبعثرة، كالغنم في الليلة الشاتية الممطرة، وستبقى الأمة قصعة مستباحة لأذل أمم الأرض ولأحقر أمم الأرض، لا سيما ونحن نرى الآن نتنياهو يعلم الأمة التضحية، إن الرجل يضحي الآن لعقيدته بكل سبيل وبكل قوة، لا يحترم في سبيل أمته وفي سبيل عقيدته ميثاقاً دولياً ولا قانوناً عالمياً، ولا يحترم مجلس الأمن ولا هيئة الأمم ولا أمريكا، لا يحترم إنساناً على الإطلاق في سبيل هذه الغاية التي نذر نفسه من أجلها. إن الرجل يعلم الأمة -بكل أسف- كيف تكون التضحية، كيف يكون الفداء، فما أحوج الأمة الآن في هذا الظرف الحرج إلى هذا الدرس، إلى درس التضحية لدين الله جل وعلا! إلى درس الفداء لتنصر الأمة عقيدتها، ولتعلم الأمة عظمة هذه العقيدة، ولتعلم أنها عقيدة غالية تحتاج إلى تضحية، تحتاج إلى بذل، تحتاج إلى إنفاق، تحتاج إلى عطاء. إننا اليوم أيها المسلمون! نريد تضحية من الرجال، نريد تضحية من النساء، نريد تضحية من الصبيان، نريد تضحية من الشباب والفتيات، والله ما تحولت الأمة من رعاة للإبل والغنم إلى سادة وقادة للدول والأمم، إلا يوم أن صدقت في إيمانها واعتزت بإسلامها، ونصرت دين ربها، وضحت لهذه العقيدة ولهذا الدين بكل ما تملك، وبأغلى ما تملك، بالنفس والأموال والنساء والأولاد والأوقات والأوطان، ضحت الأمة من قبل بكل شيء.

نماذج من تضحيات الصحابة وأبنائهم

نماذج من تضحيات الصحابة وأبنائهم تدبروا معي يا شباب الإسلام هذه النماذج البسيطة لنتعلم دروس التضحية والفداء:

تضحية أنس بن النضر

تضحية أنس بن النضر هذا أنس بن النضر رضي الله عنه يسمع في غزوة أحد أن رسول الله قد مات، وأن رسول الله قد قتل، فيمر على قوم من المسلمين قد ألقوا السلاح من أيديهم، فيقول لهم: ما بالكم قد ألقيتم السلاح؟! فقالوا: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أنس: فما تصنعون بالحياة بعد رسول الله؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. واندفع أنس بن النضر في صفوف القتال، فلقي سعد بن معاذ، فقال أنس: يا سعد والله إني لأجد ريح الجنة دون أحد، وانطلق في صفوف القتال فقاتل حتى قتل، وما عرفته إلا أخته ببنانه، وبه بضع وثمانون ما بين طعنة برمح وضربة بسيف ورمية بسهم.

تضحية سعد بن الربيع

تضحية سعد بن الربيع وهذا سعد بن الربيع الأنصاري رضي الله عنه يقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ زيد بن ثابت: (يا زيد! ابحث عن سعد بن الربيع بين القتلى في أحد) يقول النبي لـ زيد: (فإن أدركته فأقرئه مني السلام، وقل له: يقول لك رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف تجدك؟) أي: كيف حالك؟ وانطلق زيد بن ثابت ليبحث عن سعد بن الربيع الأنصاري فوجده في آخر رمق من الحياة، فقال له: يا سعد! رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرئك السلام، ويقول لك: كيف تجدك؟ فقال سعد بن الربيع لـ زيد بن ثابت: وعلى رسول الله وعليك السلام، وقل له: إني والله لأجد ريح الجنة، ثم التفت سعد وهو يحتضر إلى زيد بن ثابت، وقال: يا زيد بلغ قومي من الأنصار السلام، وقل لهم: لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مكروه وفيكم عين تطرف! يا شباب! الرجل يفكر في رسول الله في آخر لحظات عمره: لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مكروه وفيكم عين تطرف!

تضحية عمرو بن الجموح

تضحية عمرو بن الجموح وهذا عمرو بن الجموح رجل أعرج لا جهاد عليه، قد أسقط الله عنه الجهاد، لكنه يسمع النداء: يا خيل الله اركبي، حي على الجهاد، ويريد أن ينطلق للجهاد في سبيل الله جل وعلا، فيقول أبناؤه الأربعة الذين ما تركوا غزوة مع رسول الله؛ يقولون لأبيهم: يا أبانا لقد أسقط الله عنك الجهاد، ونحن نكفيك، فيبكي عمرو بن الجموح وينطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليشتكي لرسول الله وهو يقول: يا رسول الله! إن أبنائي يمنعوني من الخروج للجهاد في سبيل الله، ووالله إني لأريد أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة، فيلتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمرو ويقول: يا عمرو فقد أسقط الله عنك الجهاد، فقد عذرك الله جل وعلا، ومع ذلك يرى النبي رغبة عارمة في قلب عمرو بن الجموح للجهاد في سبيل الله، فيلتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبنائه الأربعة ويقول لهم: (لا تمنعوه! لعل الله أن يرزقه الشهادة في سبيله). وينطلق عمرو بن الجموح، لا أقول يبحث عن النصر، بل يبحث عن الشهادة في سبيل الله جل وعلا، ويرزقه الله الشهادة في سبيله، صدق الله فصدقه الله جل وعلا. ويمر عليه النبي صلى الله عليه وسلم بعدما قتل فيقول: (والله لكأني أنظر إليك تمشي برجلك في الجنة وهي صحيحة).

تضحية عمير بن الحمام

تضحية عمير بن الحمام وهذا عمير بن الحمام شاب كريم مبارك، يسمع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر يقول: (قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض) -إي ورب الكعبة يا شباب! إنها جنة عرضها السماوات والأرض! فقال عمير بن الحمام: جنة عرضها السماوات والأرض! بخ بخ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما يحملك على قولك بخ بخ يا عمير، فيقول عمير: لا والله يا رسول الله إلا أني أرجو الله أن أكون من أهلها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنت من أهلها) فأخرج عمير بن الحمام تمرات ليتقوى بهن على القتال، فأكل تمرة، ثم قال لنفسه: والله لئن حييت حتى آكل هذه التمرات إنها لحياة طويلة، ويلقي بالتمرات ويندفع في صفوف القتال فيقتل؛ لأنه صدق الله جل وعلا فصدقه الله تبارك وتعالى.

تضحية أطفال الصحابة

تضحية أطفال الصحابة أيها المسلمون! حتى الصبيان، حتى الأطفال، حتى الغلمان ضحوا لله ولدين الله جل وعلا! ومن أروع وأعجب ما قرأت ما رواه البخاري ومسلم من حديث عبد الرحمن بن عوف، قال عبد الرحمن بن عوف: بينما أن واقف في الصف يوم بدر إذ التفت عن يميني وعن شمالي فرأيت غلامين من الأنصار، يقول: فلم آمن بمكانهما. خاف الرجل لوجود هذين الغلامين الصغيرين، يقول عبد الرحمن: فغمزني أحدهما سراً من صاحبه وقال لي: يا عم! هل تعرف أبا جهل؟ فقال له عبد الرحمن: نعم، وماذا تصنع بـ أبي جهل يا ابن أخي! فقال له: لقد سمعت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد عاهدت الله إن رأيته أن أقتله أو أموت دونه، يقول عبد الرحمن بن عوف: فتعجبت لذلك! يقول: فغمزني الغلام الآخر وقال لي سراً من صاحبه: ياعم! هل تعرف أبا جهل؟ فقلت: نعم يا ابن أخي، وماذا تصنع بـ أبي جهل! فقال: لقد سمعت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد عاهدت الله جل وعلا إن رأيته أن أقتله أو أموت دونه، يقول: فتعجبت! والله ما يسرني أني بين رجلين مكانهما، يقول: فنظرت في القوم فرأيت أبا جهل يجول في الناس، فقلت لهما: انظرا هل تريان هذا، قالا: نعم، قال: هذا صاحبكما الذي تسألان عنه! يقول: فانقضا عليه مثل الصقرين فقتلاه! انقض عليه غلامان، تربى هذا الغلام الكريم هو وأخوه في بيت عرفهم كيف تكون التضحية، وكيف يكون البذل لدين الله جل وعلا؛ فانقضا عليه مثل الصقرين فقتلاه، وجرى كل منهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يا رسول الله قتلته، والآخر يقول: بل أنا الذي قتلت أبا جهل، فقال النبي لهما: (هل مسحتما سيفيكما؟ قالا: لا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أعطني سيفك، وقال للآخر: أعطني سيفك، ونظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى السيفين فوجد دم أبي جهل على السيفين، فالتفت إليهما وقال: كلاكما قتله) والبطلان هما معاذ بن عمرو بن الجموح ولد ذلكم الرجل الأعرج، ومعاذ بن عفراء. حتى النساء أيتها الأخوات الفاضلات، نريد الآن من النساء التضحية لدين الله جل وعلا، حتى النساء ضحين لدين الله. فهذه خديجة، وهذه سمية أم عمار، وهذه أم عمارة، وهذه أسماء، كلهن وغيرهن قد ضحين لدين الله جل وعلا!

لا كرامة للأمة إلا بالجهاد والتضحية

لا كرامة للأمة إلا بالجهاد والتضحية وما زالت الأمة معطاءة، ولا زالت الأمة ولوداً تنجب في كل يوم لهذا الدين من يتمنى أن يبذل نفسه، والله ثم والله إنني لعلى يقين جازم الآن أن من بين يدي من الشباب، بل ومن الشيوخ، بل ومن النساء من يتمنى أن لو نودي اليوم: حي على الجهاد حي على الجهاد يا خيل الله اركبي والله الذي لا إله غيره لو تبناها زعيم مسلم واحد ونادى الآن في الأمة الولود وقال: حي على الجهاد، يا خيل الله اركبي، والله لرأينا من شباب الأمة ومن شيوخ الأمة ومن نساء الأمة من ينطلق ليسد بصدره فوهات المدافع، ليعلموا كلاب الأرض من اليهود أن محمداً صلى الله عليه وسلم ما خلف بنات، ولكن خلف رجالاً يتمنون الشهادة في سبيل الله جل وعلا. والله إننا لنتمنى الشهادة في سبيل الله، وأعلم علم اليقين أن من شباب الأمة ومن شيوخ الأمة ومن نساء الأمة، من يحترق قلبه للجهاد ويتشوق للشهادة، ضاع شرفنا وغيب شرعنا وضاع قدسنا، واحتلت أرضنا وضاع عرضنا؛ فما بقي بعد الآن، نريد التضحية والله بالدماء، نريد التضحية بالدماء لدين رب الأرض والسماء جل وعلا. فهيا أيها الشباب هيا أيها الرجال هيا أيتها الأخوات الفاضلات فلنعاهد الله جل وعلا جميعاً من الآن، ولنهيئ أنفسنا للتضحية بالنفس، للتضحية بالمال، للتضحية بالأولاد، للتضحية بالأوقات، للتضحية بأغلى ما نملك لدين الله جل وعلا، وبغير هذه التضحية لا عزة لنا ولا كرامة. والله ثم والله إن الأمة الآن لن يتبقى لها إلا أن تقدم رجالها وشبابها الطاهر الطائع لتضحي ولتنصر عقيدة لا إله إلا الله، ولتنصر دين رسول الله، وسيرى العالم كله، وسيرى خنازير الأرض من اليهود أن أتباع محمد صلى الله عليه وسلم يسيرون في كل زمان ومكان على درب النبي، منهم من يحاكي خالد بن الوليد، ومن شبابنا الآن من يتطلع إلى سيرة مصعب، وإلى سيرة معاذ، وإلى سيرة صلاح الدين، وإلى سيرة محمد بن مسلمة، وإلى سيرة سيف الدين قطز. لا عز للأمة إلا بالجهاد، لا كرامة للأمة إلا بالجهاد، إلا بالتضحية، إلا ببذل الدماء، فهيا أيها المسلمون! لنعاهد الله جل وعلا على ذلك، بذلُك لمالكَ تضحية، بذلك من وقتك أيها الشاب لتتعلم دين الله ولتعلم دين الله تضحية. أيتها المسلمة! تربيتك لأولادك على القرآن والسنة وعلى الجهاد في سبيل الله تضحية لدين الله. أيها الطالب المسلم! اجتهادك في مذاكرتك وتفوقك لتنفع أمتك من موقع المسئولية تضحية لدين الله. أيها المسئول أياً كان منصبك وأياً كان موقعك! كرسيك إلى زوال، ومنصبك إلى فناء، فوجه الكرسي ليكون قائداً لك إلى جنة رب الأرض والسماء، ضح بمنصبك لدين الله جل وعلا، لا تستخدم المنصب في تعطيل دين الله أو في الصد عن سبيل الله جل وعلا، فوالله إن الكل إلى زوال ولا يبقى إلا الملك جل جلاله، {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27]. أيها المسلمون! نعاهد الله جل وعلا من الآن على أن ينطلق كل والد من هذا المصلى الكريم ويقول لربه: يا رب هذا أحب أبنائي إلي قد نذرته لك، ضح اليوم بولد من أولادك لله، قل: هذا موقوف لله، ليقرأ القرآن، ليتحرك للدعوة، لينطلق للجهاد بنفسه أو بماله أو بأنفاسه أو بوقته. نريد تضحية، نريد تضحية بالمال، تضحية بالأعمال، تضحية بالأوقات، تضحية بالنساء، تضحية بالأولاد، تضحية لدين الله جل وعلا. وأسأل الله تبارك وتعالى أن ينصر الإسلام وأن يعز المسلمين، اللهم انصر الإسلام، اللهم أعز المسلمين، اللهم مكن لدينك يا رب العالمين، اللهم مكن لدينك يا رب العالمين، اللهم عليك باليهود، اللهم عليك باليهود، اللهم عليك باليهود وأتباع اليهود وأعوان اليهود. اللهم مكن لدينك يا أرحم الراحمين، اللهم لا تخرجنا من هذا المكان إلا بذنب مغفور، وسعي مشكور، وتجارة لن تبور برحمتك يا عزيز يا غفور، اللهم اجعل مصر واحة للأمن والأمان وجميع بلاد المسلمين، اللهم اجعل مصر سخاءً رخاءً وجميع بلاد المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. أيها الأحبة الكرام! كل عام وأنتم بخير، وأشهد الله جل وعلا أنني أحبكم جميعاً في الله، وأسأل الله أن يجمعنا مع المتحابين بجلاله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، وجزاكم الله خيراً، والسلام عليكم ورحمة الله.

تلقين الميت الشهادة

تلقين الميت الشهادة الموت حقيقة حتمية، وأمر واقع لا محالة، يأتي لينقل المرء من حياة إلى حياة أخرى. وهناك أحكام تتعلق بالموت ينبغي مراعاتها: فمنها ما يتعلق بالميت، ومنها ما يتعلق بأهل الميت ومن حضره، فعلى المسلم أن يراعي هذه الأحكام وتلك الآداب، لينال الأجر والثواب.

الموت حق

الموت حق بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وصحبه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة الفضلاء الأعزاء! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم -جميعاً- من الجنة منزلاً، وأسأل الله جل وعلا الذي جمعني مع حضراتكم في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته، إنه وليُّ ذلك والقادر عليه. ولا زلنا مع كتاب الإيمان، والذي ترجم له الإمام البخاري بقوله: باب اتباع الجنائز من الإيمان. واسمحوا لي أن أقف مع هذا الباب وقفة طويلة قد تحتاج إلى عشر محاضرات على الأقل، فسأقف في شرح هذا الباب مع كتاب كامل من الكتب المسددة الموفقة الصحيحة المحققة لمحدث العصر وبقية السلف وبركة الزمان أبى عبد الرحمن شيخنا الألباني رحمه الله تعالى رحمة واسعة، وجزاه عن الإسلام وعن المسلمين خير ما جزى عالماً أميناً صالحاً مصلحاً. سأقف مع كتابه الماتع -بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ- (أحكام الجنائز). فإن المسلمين الآن في أمس الحاجة إلى أن يتعرفوا على هذا الباب من أبواب العلم، لاسيما وقد رأينا كثيراً من البدع في جانب الجنائز. وسأحاول جاهداً أن تكون هذه السلسلة بعنوان: (أحكام الجنائز) مجموعة متكاملة؛ لينتفع بها المسلمون في كل مكان، أسأل الله عز وجل أن يجعل لها القبول والنفع في الأرض، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل، وألا يجعل للهوى ولا للشيطان حظاً ولا نصيباً، إنه وليُّ ذلك والقادر عليه. قال البخاري رحمه الله: حدثنا أحمد بن عبد الله بن علي المنجوفي حدثنا روح حدثنا عوف عن الحسن ومحمد عن أبى هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من اتبع جنازة مسلم إيماناً واحتساباً، وكان معه حتى يصلي عليها -أو حتى يُصَلى عليها- ويفرغ من دفنها، فإنه يرجع من الأجر بقيراطين، كل قيراط مثل أحد، ومن صلى عليها ثم رجع قبل أن تدفن فإنه يرجع بقيراط). هذا هو الحديث الذي رواه الإمام البخاري في هذا الباب الكريم. واسمحوا لي قبل أن أشرع في الحديث عن أحكام الجنائز أن أقدم بمقدمة موجزة جداً عن الموت أسأل الله أن ينفع بها. فالموت حق، وسماه الله في القرآن بالحق فقال جل وعلا: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19]. (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ) والحق: أنك تموت والله حي لا يموت! (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ) والحق: أن ترى عند موتك ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب! (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ) والحق: أن يكون قبرك روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران. {ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] أي: ذلك ما كنت منه تهرب وتبتعد. تحيد إلى الطبيب إذا جاءك المرض، وتحيد إلى الطعام إذا أحسست بالجوع، وتحيد إلى الشراب إذا أحسست بالظمأ، ولكن ثم ماذا؟! أيها القوي الفتي! أيها الذكي العبقري! يا أيها الأمير! يا أيها الوزير! يا أيها الغني! يا أيها الفقير! كل باك سيبكى، وكل ناعٍ سينعى، وكل مذكور سينُسى، وكل موجود سيفنى، ليس غيرُ الله يبقى، من علا فالله أعلى. أيا عبد كم يراك الله عاصياً حريصاً على الدنيا وللموت ناسيا نسيت لقاء الله واللحدَ والثرى ويوماً عبوساً تشيب فيه النواصيا إذا المرء لم يلبس ثياباً من التقى تجرد عرياناً ولو كان كاسيا ولو كانت الدنيا تدوم لأهلها لكان رسول الله حياً وباقيا قال تعالى لحبيبه المصطفى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:34 - 35]. وقال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27]. وقال تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]. وقال صلى الله عليه وسلم: (أكثروا ذكر هاذم اللذات: الموت)، وذكر الموت ليس معناه أن تقول: إن فلاناً من الناس قد مات! كلا، وإنما ذكره معناه: أن نستعد للموت، وأن نعمل للموت، وأن نغرس في هذا الدنيا لما بعد الموت. إن لله عباداً فطنا طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا نظروا فيها فلما علموا أنها ليست لحي وطنا جعلوها لجة واتخذوا صالح الأعمال فيها سفنا نسأل الله تعالى أن يرزقنا جميعاً قبل الموت توبة، وعند الموت شهادة، وبعد الموت جنة ونعيماً ورضواناً، إنه وليُّ ذلك والقادر عليه.

أحكام الموت

أحكام الموت

تلقين المحتضر

تلقين المحتضر ما هو أول حكم من أحكام الموت؟ تلقين المحتضر الذي نام على فراش الموت، فإذا حضره الموت وجب على من عنده أمور: الأول: أن يلقنوه الشهادة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لقنوا موتاكم لا إله إلا الله، فمن كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة)، وقال عليه الصلاة والسلام: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله عند الموت دخل الجنة يوماً من الدهر، وإن أصابه قبل ذلك ما أصابه) أي: من العذاب. وكان يقول عليه الصلاة والسلام: (من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة)، وفي الحديث: (من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة)، وهذه الروايات كلها رواها الإمام مسلم في صحيحه، والزيادة في الحديث الأول لم ترد في صحيح مسلم، وإنما وردت في صحيح ابن حبان. إذاً: أول حكم من أحكام الموت: إذا نام المحتضر على فراش الموت وجب على أهله المحيطين به أن يلقنوه كلمة التوحيد، فمن وفق لهذه الكلمة دخل الجنة، ولا يوفق للنطق بها إلا الموفق، ولا يرزق أحد النطق بها إلا المسدد. فليس كل أحد يستطيع في هذه اللحظات أن ينطق بلا إله إلا الله، قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} [إبراهيم:27]،قال ابن عباس: هو قول: لا إله إلا الله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27]. ويقتضي عدل الله سبحانه: أن من عاش على التوحيد مات على التوحيد، وبعث في زمرة الموحدين. قال عليه الصلاة والسلام: (من مات على شيء بعث عليه). قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: لقد أجرى الله الكريم عادته بكرمه أن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه، فمن عاش على الطاعة مات على الطاعة، وبعث على الطاعة، ومن عاش على الصلاة مات على الصلاة، وبعث على الصلاة، ومن مات على معصية بعدما عاش دهره وحياته على المعصية، بعث على ذات المعصية، فمن مات وفي يده كأس الخمر بعث يوم القيامة وهو يحمل بيده كأس خمر، ومن مات وهو يزني بعث يوم القيامة بهذه الفضيحة، ومن مات وهو سارق بعث يوم القيامة وهو يحمل على كتفه ما سرق: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:161]، نسأل الله أن يسترنا في الدنيا والآخرة إنه وليُّ ذلك والقادر عليه.

الدعاء وقول الخير عند المحتضر

الدعاء وقول الخير عند المحتضر ثانياً: على من حضر الميت أن يتضرع إلى الله بالدعاء له، ولا يقول في حضرته إلا خيراً؛ لحديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا حضرتم المريض أو الميت فقولوا خيراً، فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون)، والحديث رواه مسلم والبيهقي. يعني: لو مات الميت فلا يقال إلا خيراً، فلو صرخت المرأة في البيت وقالت: يا سبعي! يا جملي! فإن الملائكة تؤمن على هذا القول، ولا ينتفي الوزر عن الميت إلا إن أوصى أنه متبرئ من كل ما يخالف الشرع، فاكتب وصيتك من الآن ولا تسوف، فإن الموت يأتي بغتة، وأوص بكل ما تريد، تبرأ من كل مخالفة يرتكبها الأهل بعد الموت، فربما بعض أهلك يصر على أن يضع لك صواناً أو خيمة ضخمة، وينفق من أموال اليتامى ما لا يحق له بحال، فهذا أكل لمال اليتامى بالباطل والظلم. والله تعالى يتوعد من أكل أموال اليتامى بوعيد شديد فيقول سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء:10]، وهذا من الظلم؛ لأنه تضييع لأموال اليتامى بغير حق: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10]. والمراد بالتلقين: أن تقول له: قل: لا إله إلا الله وهو يحتضر، وليس التلقين بعد الدفن، فتلقين الميت بعد الدفن في القبر ليس من السنة، ولم يثبت هذا عن صاحب السنة صلى الله عليه وسلم، إنما التلقين إذا نام الميت على فراش الموت واحتضر، تلقنه: لا إله إلا الله؛ لينطق بها ويرددها خلفك، وليقل هو بلسانه: لا إله إلا الله. أما التلقين في القبر بعد الموت فلم يثبت هذا أبداً عن الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم، والرواية الواردة في هذا الباب رواية لا تصح بحال عن النبي المختار عليه الصلاة والسلام. وجاء في حديث أنس الذي رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح على شرط مسلم (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد -يعني: زار- رجلاً فقال النبي له: يا خال! يا خال! قل: لا إله إلا الله، قل: لا إله إلا الله). وأود أن أذكر أيضاً بأنه إذا قال المحتضر: لا إله إلا الله مرة كفى، ولا ينبغي أن نلح عليه ليكررها حتى ولو طال وقت الموت، فهذا هو آخر كلامه في الدنيا، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول له: (يا خال! قل: لا إله إلا الله فقال: -أي: هذا المحتضر-أخال أم عم؟ فقال: بل خال -وكان من أخواله عليه الصلاة والسلام- فقال للنبي: فخير لي أن أقول: لا إله إلا الله؟ فقال: نعم). أما قراءة سورة يس عند الميت أثناء الاحتضار، وتوجيه الميت نحو القبلة، فكل ذلك لم يثبت ولم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، فالميت أصلاً موحد مسلم لا يحتاج أن يثبت له إسلامه بعد الموت بتوجيهه نحو القبلة، فهذا من التكلف الذي نهى عنه النبي عليه الصلاة والسلام، وما اعتاد عليه جل المسلمين من توجيه الميت نحو القبلة حتى يجهز ويغسل ويدفن ليس عليه دليل، بل لقد كره إمام التابعين سعيد بن المسيب ذلك، وقال قولة جميلة: أليس الميت امرأً مسلماً؟! فعن أبي زرعة أنه شهد سعيد بن المسيب في مرضه، وعنده أبو سلمة بن عبد الرحمن وهو من العلماء، فغشي على سعيد بن المسيب -أغمي عليه- فأمر أبو سلمة بن عبد الرحمن أن يحولوا فراش سعيد بن المسيب نحو الكعبة وسعيد -رحمة الله عليه- في إغماءة الموت، فأفاق سعيد بن المسيب فوجد أنه قد وجه فراشه فقال: حولتم فراشي؟! قالوا: نعم، فنظر إلى أبي سلمة بن عبد الرحمن وقال: أراه بعلمك؟! يعني: أنت الذي وجهت إلى ذلك، فقال: نعم، أنا الذي أمرتهم، فأمر سعيد بن المسيب أن يعيدوا فراشه إلى ما كان، وقال قولته الجميلة: أليس الميت امرأً مسلماً؟! مادام لم يثبت هذا عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، فلا ينبغي أن نتكلف ما لم يفعله الحبيب عليه الصلاة والسلام. ولا بأس أن يحضر المسلم وفاة رجل كافر؛ ليلقنه الشهادة لعلَّّ الله أن يرزقه الشهادة؛ فإن كان لك جار يهودي أو نصراني وسمعت أنه يحتضر فلا بأس أن تسرع إليه بنية أن تذكره بالإسلام والتوحيد: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم). والدليل على ذلك ما رواه البخاري وأحمد والحاكم وغيرهم من حديث أنس رضي الله عنه قال: (كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، فمرض الغلام، فأتاه النبي يعوده -يعني: يزوره- فقعد النبي عند رأسه، وقال له عليه الصلاة والسلام: أسلم -يعني: قل: لا إله إلا الله- فنظر الغلام إلى أبيه -وهو رجل يهودي - فقال الأب لولده: أطع أبا القاسم. فأسلم الغلام، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم من عند الغلام وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه بي من النار)، وصدق ربي وهو العزيز الغفار إذ يقول في حق نبينا وهو النبي المختار: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، وصدق ربي إذ يقول: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، فهو رحمة للمؤمنين، بل ورحمة للعالمين من المشركين والمسلمين، فمن آمن به فقد رحم في الدنيا والآخرة، ومن كفر به فقد رحم في الدنيا من عذاب الله، ثم بعد ذلك ينال هذا الكافر بالنبي عذابه في الآخرة. فلما مات هذا الغلام اليهودي قال النبي عليه الصلاة والسلام: (صلوا على صاحبكم).

تغميض الميت وتغطيته بثوب

تغميض الميت وتغطيته بثوب ما الذي يجب على أهل الميت إذا مات صاحبهم وأسلم الروح لخالقها وبارئها جل وعلا؟ يجب عليهم أمور منها: أن يغمضوا عينيه، فإن البصر يتبع الروح حين تخرج من الجسد. ومن الأحكام التي تلزم من حضر الميت: أن يغطي الميت بثوب يستر جميع بدنه، كغطاء أو ثوب أو أي شيء يغطي جميع البدن حتى الوجه؛ لما رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفي سجي ببردة حِِبْرة أو حَبِرَة، وهي بردة من برود اليمن، يعني: غطي جسده كله عليه الصلاة والسلام، ولم يكشف هذه البردة إلا الصديق حينما دخل على الحبيب بعدما أتى من بيته في السنح، ووجد الناس يصرخون أمام المسجد النبوي، فدخل الصديق على حبيبه فوجده مسجى -أي: مغطى- فكشف الغطاء عن وجهه وقبله بين عينيه، وقال: طبت حياً وميتاً يا رسول الله! أما الموتة التي كتبها الله عليك فقد ذقتها، ولا ألم عليك بعد اليوم). وفى رواية حسنها شيخنا الألباني -رحمه الله تعالى- في مختصر الشمائل: (أن الصديق نادى على نبيه وقال: وانبياه! واخليلاه! واحبيباه! أما الموتة التي قد كتبها الله عليك فقد ذقتها، ولا ألم عليك بعد اليوم). فمن السنة إذا مات الميت أن يغطى جسده كله، هذا إن مات الميت وهو غير محرم بحج أوبعمرة، فإن مات الميت وهو محرم بحج أو عمرة فلا يغطى رأسه، ولا يغطى وجهه؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما في الصحيحين قال: (بينما رجل واقف بعرفة -لابس الإحرام -إذ وقع عن راحلته فوقصته -وطأته الناقة- فمات بلباس الإحرام، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه -أي: في الإزار والرداء- ولا تحنطوه)، وفى رواية: (ولا تطيبوه، ولا تخمروا رأسه ولا وجهه -أي: لا تغطوا رأسه ولا وجهه- فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً) وقد قال الصادق صلى الله عليه وسلم: (يبعث كل عبد على ما مات عليه).

التعجيل بتجهيز الميت

التعجيل بتجهيز الميت وينبغي لمن حضر الميت أن يعجلوا بتجهيزه وإخراجه من بيته إلى المقابر، فمن السنة إذا مات الميت أن نعجل في تجهيزه -أي: في غسله وتكفينه ودفنه- إلا لضرورة، قال عليه الصلاة والسلام: (أسرعوا بالجنازة) والإسراع بالجنازة يحتاج إلى إسراع في التغسيل وإسراع في التكفين وإسراع في الدفن: (أسرعوا بالجنازة، فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تك غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم).

دفن الميت في البلد الذي توفي فيه

دفن الميت في البلد الذي توفي فيه من السنة أن يدفن الميت في البلد الذي توفي فيه إلا لضرورة، هذا هو الأصل، فلا ينقل الميت من بلد إلى بلد ما دام قد مات في بلد مسلم؛ لأن هذا يتنافى مع الإسراع الذي أمر به النبي عليه الصلاة والسلام، ففي حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه الذي أخرجه أصحاب السنن الأربع وأحمد في مسنده والبيهقي بإسناد صحيح قال: (لما كان يوم أحد حمل القتلى -أي: من الصحابة- ليدفنوا بالبقيع بجوار المسجد النبوي، فأمر رسول الله المنادي أن ينادي في الناس ويقول: إن رسول الله يأمركم أن تدفنوا القتلى في مضاجعهم -أي: في الموضع الذي قتلوا فيه -يقول جابر -: وذلك بعدما حملت أمي أبي وخالي على ناقة لنا؛ لتدفنهم في البقيع فردوا). وفى رواية: (فأرجعناهما مع القتلى حيث قتلوا)؛ ولذلك قالت عائشة رضوان الله عليها لما مات أخ لها في الحبشة فحمل من مكانه: (ما أجد في نفسي -أو يحزنني في نفسي- إلا أني وددت أنه كان دفن في مكانه في الحبشة) والحديث أخرجه البيهقي بسند صحيح.

أن يبادر أهل الميت بسداد دينه

أن يبادر أهل الميت بسداد دينه يجب على أهل الميت أن يبادروا بسداد الدين عن ميتهم، فإن لم يكن له مال، ولم يستطع أهل المتوفى أن يسددوا عنه الدين وجب على الدولة أن تقضي عنه الدين؛ للحديث الذي أخرجه ابن ماجه وأحمد والبيهقي من حديث سعد بن الأطول رضي الله عنه: (أن أخاه مات وترك ثلاثمائة درهم، وترك عيالاً، قال أخوه: فأردت أن أنفقها على عياله، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: إن أخاك محبوس بدينه -أي: محبوس عن الجنة- فاذهب فاقض عنه، قال: فذهبت فقضيت عنه، ثم جئت فقلت: يا رسول الله! قد قضيت عنه إلا دينارين ادعتهما امرأة وليس لها بينة -أي: امرأة ادعت أن لها دينارين عند أخي، لكنها لم تقدم البينة على ذلك- (فقال النبي: أعطها فإنها صدقة)، وفي لفظ: (أعطها فإنها محقة). وفي حديث عن سمرة بن جندب أخرجه أبو داود والنسائي والحاكم والبيهقي وغيرهم بسند صحيح (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على جنازة)، وفي رواية: (صلى الصبح فلما انصرف قال: أهاهنا من آل فلان أحد؟ فسكت القوم، وكان عليه الصلاة والسلام إذا ابتدأهم بشيء سكتوا رضي الله عن أصحاب النبي المؤدبين، فقال ذلك مراراً: أهاهنا من آل فلان أحد؟ ولا يجيبه أحد حتى قالها النبي ثلاثاًَ، فقال رجل: هو ذا يا رسول الله! -يعني: هأنذا من آل فلان- وقام يجر إزاره من مؤخرة الناس، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: ما منعك في المرتين الأوليين أن تكون أجبتني؟! إن فلاناً مأسور بدينه عن الجنة، فإن شئتم فافدوه، وإن شئتم فأسلموه إلى عذاب الله، وقد رأيت أهله ومن يتحرون أمره قاموا فقضوا عنه حتى ما أجد أحداً يطلبه بشيء).

جواز الكشف عن الميت وتقبيله والبكاء عليه

جواز الكشف عن الميت وتقبيله والبكاء عليه وأختم محاضرة الليلة بهذا الحكم وهو: ما الذي يجوز لأهل الميت وللحضور أن يفعلوه؟ بعض الناس يظن أنه لا يجوز له أن يكشف عن وجه الميت، ويقولون: إن هذا انتهاك لحرمة الميت! وهذا غير صحيح، بل يجوز للإنسان أن يكشف وجه الميت ويقبله، بل ويجوز له أن يبكي على ميته، فبعض الناس يظن أن تقبيل الميت حرام، وأن كشف وجهه حرام، وأن البكاء عليه هلع وجزع!! فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (لما قتل أبي جعلت أكشف الثوب عن وجهه وأبكي، والنبي صلى الله عليه وسلم لا ينهاني، يقول: فجعلت عمتي فاطمة تبكي، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: تبكين أو لا تبكين، ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعتموه،) عبد الله هو والد جابر رضوان الله عليهما، وهو الصحابي الوحيد الذي كلمه الله كفاحاً، أخبر النبي بذلك ولده المبارك جابر، وقال الله لـ عبد الله: (تمن، فما تمنى والد جابر إلا أن يرجع إلى الدنيا ليقاتل فيقتل في سبيل الله)، والحديث في البخاري ومسلم وسنن النسائي والبيهقي وفي مسند أحمد. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (أقبل أبو بكر رضي الله عنه على فرسه من مسكنه بالسَنح أو السُنح، -والفتحة أصح عندي وأبلغ، والسنح: مكان في أطراف المدينة- حتى نزل من على فرسه، فدخل المسجد وعمر يكلم الناس ويقول: إن رسول الله ما مات، بل ذهب للقاء ربه كما ذهب موسى بن عمران، وليرجعن رسول الله فليقطعن أيدي وأرجل المنافقين الذين يزعمون أنه قد مات، تقول عائشة: فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة رضي الله عنها فتيمم النبي -أي: اتجه إلى النبي؛ لأن النبي مات في حجرة عائشة - وهو مسجى ببردة حِبْرة أو حَبِرة، فكشف البردة عن وجهه الأزهر الأنور بأبي هو وأمي، ثم أكب الصديق على النبي فقبله بين عينيه، ثم بكى وقال: بأبي أنت وأمي يا نبي الله، لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي عليك فقد ذقتها أو متها- وفى رواية: فقد مت الموتة التي لا تموت بعدها). إذاً: نأخذ من هذا الحديث أن الصديق كشف الغطاء عن وجه الحبيب وقبله بين عينيه، ولو كان النبي قد نهى عن ذلك ما فعله الصديق رضوان الله عليه. والحديث رواه البخاري والنسائي وابن حبان والبيهقي. وفي الحديث الذي رواه الترمذي وصححه والبيهقي وغيرهما، وله شاهد بإسناد حسن من حديث عائشة رضي الله عنها (أن النبي دخل على عثمان بن مظعون وهو ميت) وعثمان هذا هو أول من لقب بالسلف الصالح، وهو ممن شهد بدراً، والنبي قال في حق أهل بدر: (لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)، وهو أول من دفن بالبقيع، تقول عائشة: (كشف النبي الغطاء عن وجهه، ثم أكب عليه فقبله وبكى، حتى رأيت الدموع -أي: دموع النبي-تسيل على وجنتيه) عليه الصلاة والسلام. ومن أهل العلم -من باب الأمانة العلمية- من يضعف هذا الحديث، لكن شيخنا الألباني رحمه الله تعالى يحسن هذا الحديث بشواهده، وهل المقصود بوجنتيه: وجنتي النبي صلى الله عليه وسلم أم وجنتي عثمان؟ كلاهما محتمل. وعن أنس رضي الله عنه قال: (دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سيف القين، وكان ظئراً لـ إبراهيم عليه السلام والظئر: هو زوج مرضعة إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم فقبله وشمه، ثم دخلنا عليه بعد ذلك على إبراهيم وهو يجود بنفسه -يحتضر- فجعلت عينا رسول الله تذرفان -بكاءه تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف: وأنت يا رسول الله؟! يعني: أتبكي كما نبكي؟! فقال عليه الصلاة والسلام: " يـ ابن عوف! إنها رحمة، إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزنون) رواه البخاري ومسلم. وعن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه (أن النبي عليه الصلاة والسلام أمهل آل جعفر ثلاثاً أن يأتيهم، ثم أتاهم فقال: لا تبكوا على أخي بعد اليوم) والحديث رواه أبو داود والنسائي وإسناده صحيح على شرط مسلم. إذاً: لا حرج على من أراد أن يقبل الميت بين عينيه، ولا بأس إن كشف الغطاء عن وجهه، ولا بأس أن يبكى عليه، فالبكاء رحمة، لكن المنهي عنه والمحرم أن نقول ما يسخط ربنا جل وعلا، وأن ندعو بدعوى الجاهلية، كأن تقول المرأة: يا جملي! يا سبعي! يا من ترزقني! يا من تفعل كذا وكذا! لا أستطيع العيش بعدك! إلى آخر هذه الكلمات الجاهلية، ومثل أن تلطم المرأة خدها، وتشق جيبها أو ملابسها، كل هذا لا يجوز ولا يليق، وهو محرم في دين الله تبارك وتعالى. أكتفي بهذا القدر من الأحكام، والله أسأل أن يرحم موتانا رحمة واسعة، وأن يختم لنا ولكم جميعاً بالإيمان، إنه وليُّ ذلك والقادر عليه، وصل اللهم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

سكرات الموت

سكرات الموت كفى بالموت واعظاً وزاجراً عن المعاصي والشهوات لمن تذكره وتدبر فيه، فإنه ما ذكر في كثير إلا قلله، ولا في واسع إلا ضيقه، كما أن أهوال البعث كافية لتنبيه الغافل ودعوته إلى الله، فهذه حقائق يمر بها كل مخلوق حتى الأنبياء، فيا سعادة من تذكر فأصلح عمله، ويا خسارة من عاش في سكرة الغفلة حتى داهمه ملك الموت.

سلام الله على يحيى بن زكريا في أشد الأحوال التي تمر على الإنسان

سلام الله على يحيى بن زكريا في أشد الأحوال التي تمر على الإنسان الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك وما كان معه من إله، الذي لا إله إلا هو فلا خالق غيره ولا رب سواه، المستحق لجميع أنواع العبادة ولذا قضى ألا نعبد إلا إياه، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [لقمان:30] عالم الغيب والشهادة الذي يستوي في علمه ما أسر العبد وما أظهر، الذي يعلم ما كان وما هو كائن وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، وإنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الأول الذي لا ضد له، وهو الصمد الذي لا منازع له، وهو الغني الذي لا حاجة له، جبار السماوات والأرض، لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه، إنما قوله لشيء إذا أراده أن يقول له كن فيكون. وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وعظيمنا وقائدنا ومعلمنا وقدوتنا محمداً رسول الله، اللهم صل وسلم وبارك -عليك يا سيدي يا رسول الله- صلاة وسلاماً يليقان بمقامك يا أمير الأنبياء ويا سيد المرسلين، وأشهد لك يا سيدي ويشهد معي الموحدون أنك أديت الأمانة، وبلغت الرسالة، ونصحت الأمة، وكشف الله بك الغمة، وعبدت ربك حتى لبيت داعيه، وجاهدت في سبيله حتى أجبت مناديه، وعشت طوال أيامك ولياليك تمشي على شوك الأسى وتخطو على جمر الكيد والعنت، تلتمس الطريق لهداية الضالين وإرشاد الحائرين حتى علمت الجاهل يا سيدي، وقومت المعوج يا سيدي، وأمنت الخائف يا سيدي، وطمأنت الخلق يا سيدي، ونشرت أضواء الحق والخير والإيمان والتوحيد كما تنشر الشمس ضياءها في رابعة النهار، فصلى الله وسلم وبارك عليك يا رسول الله صلاة وسلاماً يليقان بمقامك يا أمير الأنبياء ويا سيد المرسلين. أما بعد: فيا أيها الأحباب؛ أحباب الحبيب المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم! تعالوا بنا لنطوف سوياً في روضة القرآن الكريم، ومع اللقاء العاشر على التوالي ما زلنا نطوف مع حضراتكم في بستان سورة مريم، ونكرر القول بين يدي كل لقاء من لقاءات تفسيرنا لهذه السورة المباركة ونكرره ونقول: أولاً: إن عقيدتنا نحن المسلمين هي أننا نوحد الله جل وعلا، ونعلنها صريحة في كل زمان ومكان، ونقول جميعاً: لا إله إلا الله، كلمة التوحيد والإخلاص. أما بالنسبة لتفسير الآيات فلقد توقفنا في اللقاء الماضي عند آخر مؤهل من مؤهلات النبوة عند يحيى عليه السلام على حسب تعبير صاحب ظلال القرآن الشيخ سيد قطب عليه رحمة الله، قلنا: إن الله قد زود يحيى عليه السلام بمؤهلات لحمل الأمانة الكبرى والمسئولية العظمى، هذه المؤهلات هي {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا * وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا} [مريم:12 - 14] وانتهينا في اللقاء الماضي عند معنى كلمة (عصياً)، وشرحنا في اللقاء الماضي معنى كلمة: (لم يكن جباراً عصياً)، وبهذا نكون قد أنهينا اللقاء عن مؤهلات النبوة عند يحيى عليه السلام، وبعد هذه الصفات الغالية التي زود الله بها يحيى يسلم الله عز وجل عليه فيقول: {وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} [مريم:15]. انظروا يا أحباب! الله سبحانه وتعالى يسلم عليه في مواطن ثلاثة هي أشد ما تكون على الإنسان: يوم أن يولد، ويوم أن يموت ويوم أن يبعث حياً ليلقى الله الحي الذي لا يموت، يسلم الله عليه في هذه الأحوال الثلاثة وفي هذه المواقف الثلاثة، فيقول: {وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} [مريم:15]. ذكر الإمام ابن كثير عن قتادة أن الحسن قال: التقى يحيى وعيسى عليهما السلام، فقال عيسى ليحيى: ادع الله لي فإنك أفضل مني، فقال يحيى لعيسى: بل أنت أفضل مني يا عيسى، فقال عيسى: لا يا يحيى، بل أنت أفضل مني؛ لأنني أنا الذي سلمت على نفسي فقلت: {وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً} [مريم:33]، أما أنت فقد سلم الله عليك فقال: {وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} [مريم:15].

انتقال الإنسان من عالم الأحشاء إلى عالم الدنيا

انتقال الإنسان من عالم الأحشاء إلى عالم الدنيا هذه الأحوال هي أشد الأحوال والأوقات التي يمر بها الإنسان: يوم أن يولد، ويوم أن يموت، ويوم أن يبعث حياً، لماذا أيها الأحباب؟ لأن العبد في هذه الأحوال الثلاثة ينتقل من عالم إلى عالم آخر جديد غريب عليه، فهو ينتقل في المرحلة الأولى من عالم الأحشاء في بطن أمه إلى عالم الدنيا، ثم بعد ذلك يترك عالم الدنيا إلى عالم البرزخ، فيترك القصور والدور إلى عالم الدود والقبور، ثم بعد ذلك يترك عالم البرزخ إلى عالم البعث، إلى العرض على محكمة الله جل وعلا، فما بين مسرور محبور، ومحزون مثبور، وما بين جبير وكسير، فريق في الجنة وفريق في السعير، أحوال ثلاثة عجيبة، أحوال شديدة على أي إنسان، يوم أن يولد ويوم أن يموت ويموت أن يبعث حياً. المرحلة الأولى هي المرحلة التي ينتقل فيها الإنسان من عالم الرحم والأحشاء، ذلك العالم الآمن الأمين الحصين المكين، هذا العالم الذي تكلف الله برعايته له بكل شيء، وما كلفه الله في هذا العالم بأي شيء، فيد الله وحده هي التي ترعاه وترزقه: وسل الجنين يعيش معزولاً بلا راع ومرعى ما الذي يرعاك الله وحده هو الذي يرعاك وأنت في هذه الأحشاء، وأنت في هذه الأجواء، وأنت في هذا العالم العجيب، يد الله وحده هي التي ترعاك، ويد الله وحده هي التي ترزقك، ويد الله وحده هي التي تتكفل بعنايتك ورعايتك: وسل الجنين يعيش معزولاً بلا راع ومرعى ما الذي يرعاك ومن الذي يقدم له رزقه؟! ومن الذي يتكفل له بطعامه وشرابه؟! ومن الذي يتكفل بتنفسه في هذا العالم؟! إنه الله رب العالمين. وفي الوقت الذي قدر الله له فيه أن يخرج من ذلك المكان الآمن يخرج إلى عالم الشقاء، يخرج إلى عالم الدنيا، يخرج إلى عالم الفتن والشهوات والشيطان، فيستقبله الشيطان منذ أول لحظة نزل فيها إلى هذه الحياة والمولدة تولده، فيستقبله الشيطان فيطعنه فيصرخ المولود، وهذا كما أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم، في جزء من حديث صحيح أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من مولود يولد إلا ويمسه الشيطان، فيستهل المولود صارخاً من مس الشيطان إياه). من هذه اللحظة تبدأ في مصارعة الشيطان والأهواء والفتن، وتعيش في هذه الحياة ما قدر الله لك أن تعيش تصارع الشيطان وتصارع النفس الأمارة بالسوء، وتصارى الأهواء، وتظل في هذه الحياة ما قدر الله لك فيها.

نقلة الإنسان بالموت إلى عالم البرزخ

نقلة الإنسان بالموت إلى عالم البرزخ ثم تأتي اللحظة التي قدر الله عز وجل لك فيها أن تترك عالم الدنيا إلى عالم البرزخ، أي: إلى عالم الفناء إلى عالم القبور، فيأتي الموت في اللحظة التي حددها الله تبارك وتعالى لك، فينقلك الموت -بعظمة الله جل وعلا- من القصور إلى القبور، ومن ضياء المهود إلى ظلمة اللحود، ومن ملاعبة الجواري والغلمان إلى مقاساة الهوام والديدان، ومن التنعم بالطعام والشراب إلى التمرغ في الوحل والتراب. هذه هي المرحلة الثانية مرحلة الموت، يوم أن تنتقل بعد مولدك وبعد حياتك وبعد عيشك إلى عالم يسمى بعالم البرزخ، إلى عالم الفناء، إلى عالم الحق عند الله الحق جل وعلا.

الاستعداد للموت

الاستعداد للموت الموت، الموت أيها الأحباب، ولقد تكلمت كثيراً كثيراً عن الموت، ولكن يجب علينا أن نتكلم عن الموت في كل زمان وفي كل مكان، ويجب علينا أن نذكر الموت في كل ساعة من ساعات حياتنا، وفي كل ساعة من ساعات عمرنا، كما أخبرنا وأمرنا بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم، يقول في حديثه الصحيح الذي خرجه النسائي وخرجه الترمذي وخرجه ابن ماجة من حديث عمر بن الخطاب ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أكثروا من ذكر هادم اللذات، قالوا: وما هادم اللذات يا رسول الله؟ قال: الموت) هادم اللذات هو الموت، وقد أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نكثر من ذكر الموت. ولما سأله رجل من الأنصار وقال: (يا رسول الله! من أكيس الناس؟ قال صلى الله عليه وسلم: أكيس الناس أكثرهم ذكراً للموت، وأكثرهم استعداداً للموت، أولئك الأكياس، ذهبوا بشرف الدنيا وكرامة الآخرة) رواه الطبراني بإسناد حسن. العاقل اللبيب هو الذي يذكر الموت، وهو الذي يستعد للموت، وهو الذي يذكر نفسه دائماً وأبداً بالموت، وهو الذي يعلم علم اليقين أن هذه الحياة مهما عاش فيها فهي قصيرة، ومهما عظمت فهي حقيرة، لأن الليل مهما طال لا بد من طلوع الفجر، ولأن العمر مهما طال لا بد من دخول القبر، ونبينا صلى الله عليه وسلم يقول: (الكيس -العاقل- من دان نفسه -أي: من حاسب نفسه- وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني)، هذا هو المغرور الذي يتواكل على سعة رحمة الله ولا يعمل، الذي يتواكل على سعة عفو الله وهو في المعاصي ليل نهار، ويقول: إن الله غفور رحيم، وما الذي أنساك أن الله شديد العقاب للعاصين والمذنبين والمقصرين؟ إنها الحقيقة الكبرى أيها الأحباب، حقيقة الموت، إنها الحقيقة الكبرى في هذا الوجود، الحقيقة التي خضع في محرابها المتكبرون والمتجبرون، إنها الحقيقة الكبرى التي تسربل بها العصاة والطائعون والرسل والأنبياء والمقربون والأصفياء. إنها الحقيقة الكبرى التي ترن في أذن كل سامع وعقل كل مفكر قائلة: إنه لا بقاء إلا لله وحده، ولا ألوهية إلا لله وحده، ولا حاكمية إلا لمن تفرد بالبقاء والجلال، فـ {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]. إنها حقيقة الموت التي قال الله تبارك وتعالى عنها: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] فالحق أنك تموت والله حي لا يموت. (وجاءت سكرة الموت بالحق): والحق أن ترى عند موتك ملائكة الرحمة أو ترى ملائكة العذاب. (وجاءت سكرة الموت بالحق): والحق أن تكون حفرتك روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران. (وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد): ذلك ما كنت منه تهرب، ذلك ما كنت منه تفر، ذلك ما كنت منه تحيد إلى الطبيب إذا جاءك المرض، وتحيد إلى الطعام إذا أحسست بالجوع خوفاً من الموت، وتحيد إلى الشراب إذا أحسست بالظمأ خوفاً من الموت، ولكن أيها القوي الفتي، أيها العبقري، يا أيها الكبير ويا أيها الصغير: (وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد) وصدق من قال: كل باك فسيبكى وكل ناع فسينعى وكل مدخور سيفنى وكل مذكور سينسى ليس غير الله يبقى من علا فالله أعلى (وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد): ذلك ما كنت منه تفر، ذلك ما كنت منه تهرب، ولكن أين المفر؟ أين المآل؟ وأين المصير؟! إن المصير إلى الله، وإن المآل إلى الله، وإن المنتهى إلى الله، وإن المرجع إلى الله جل وعلا.

صوت الحق ينادي المحتضر

صوت الحق ينادي المحتضر وبينما هو يتمنى يأتيه صوت الحق من الله جل وعلا، يقول تبارك وتعالى: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:83 - 96]. {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ * فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى * أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة:26 - 40] بلى قادر! دع عنك ما فات في زمن الصبى واذكر ذنوبك وابكها يا مسلم لم ينسه الملكان حين نسيته بل أثبتاه وأنت لاه تلعب وغرور دنياك التي تسعى لها دار حقيقتها متاع يذهب فالليل فاعلم والنهار كلاهما أنفاسنا فيها تعد وتحسب أيا من يدعي الفهم إلى كم يا أخي الوهم تعب الذنب بالذنب وتخطي الخطأ الجم أما بان لك العيب أما أنذرك الشيب وما في نصحه ريب أما نادى بك الموت أما أسمعك الصوت أما تخشى من الفوت فتحتاط وتهتم فكم تسير في السهو وتختال من الزهو وتنفض إلى اللهو كأن الموت ما عم كأني بك تنحط إلى اللحد وتنغط هناك الجسم ممدود ليستأكله الدود إلى أن ينخر العود ويمسي العظم قد رم فزود نفسك الخير ودع ما يعقب الضير وهيئ مركب السير وخف من لجة اليم بذا أوصيك يا صاح وقد بحتك من باح فطوبى لفتى راح بآداب محمد يأتم

كل شيء هالك إلا وجه الله عز وجل

كل شيء هالك إلا وجه الله عز وجل الحقيقة الأولى في هذا الوجود هي وحدانية الله جل وعلا، وهي أن تقر بهذه الحقيقة وهي لا إله إلا الله، ثم الحقيقة الثانية هي أن كل شيء هالك إلا وجه الله جل وعلا. (الموت)، من منا يفكر بالموت؟ من منا يذكر الموت؟ من منا يستعد للموت؟ من منا عمل لهذا اللقاء؟ من منا عمل للقاء الله جل وعلا؟ من منا استعد لسؤال الملكين في دار الحقيقة دار البرزخ، دار الصدق، دار الحق؟ من منا استعد؟ ما من يوم يمر علينا إلا ونشيع فقيداً، ما من يوم يمر علينا إلا ويموت بيننا ميتاً أو ميتة، ولكن ربما ذهبنا معه إلى القبور، وربما رأينا الموت حقيقة أمام أعيننا وبين أيدينا؛ ولكن إذا نظرت إلى الناس وجدتهم ينسون الموت، ويتكلمون في أمور الدنيا! هذا هو الحال، ولكن اعلم أيها الحبيب أنه لا مفر لك، وحتى تعلم أنه لا يمكن لأي قوة على ظهر هذه الأرض أن تحول بين الإنسان وبين هذه الحقيقة الكبرى مهما كانت تلك القوة، مهما كان منصبه، ومهما كان جاهه، ومهما كانت أموالك، ومهما كان غناك، فلن تستطيع قوة على ظهر الأرض أن تحول بينك وبين هذه الحقيقة، إنها حقيقة الموت. انظر حينما تأتي ساعة الصفر ويقترب الأجل، وتتلاشى اللحظات الأخيرة من عمرك، وتنام على فراش الموت، وحولك أولادك وأحبابك يبكون، والأطباء من حولك يحاولون؛ بذلوا لك كل رقية، وقدموا لك كل دواء، وقدموا لك كل علاج. فأنت من أنت؟ أنت صاحب الأفعال، وأنت صاحب الجاه، وأنت صاحب السلطان، وأنت صاحب المنصب، وأنت الغني، بذل الأطباء لك كل رقية، وقدموا لك دواء، وبذلوا لك كل علاج، ولكن انظر إليه قد اصفر وجهه، وشحب لونه، وتصبب جبينه بالعرق، وتجعد جلده، وبدأ يحس بزمهرير قارس يزحف إلى أنامل يديه وقدميه، ويريد أن يحرك شفتيه بكلمة التوحيد، فيحس أن الشفة كالجبل لا يزحزح، وينظر إلى من حوله من أحبابه، إلى أهله، إلى أقاربه، فيراهم تارة يبتعدون، وتارة يقتربون، ومرة يسمعهم ومرة لا يسمعهم، ويرى الغرفة التي هو فيها والفراش الذي هو ممتد عليه، يرى هذه الغرفة تتسع مرة كالفضاء الموحش، ومرة تضيق فتصير كخرم إبرة، وهو بين هذه السكرات، وبين هذه الكربات، وفي هذا الحزن الشديد. فلقد فاتته الآمال ولم يحققها، بنى داره وجهد واجتهد وكنز الأموال، فهو بين حزن شديد على ما فات وبين غم شديد على أنه لا يدري ما الذي سيلاقيه بين يديه من هذا العالم الجديد، عالم البرزخ الذي سيترك عالم الدنيا ويدخل إلى هذا العالم بعد الموت. هو في هذه السكرات، وفي هذه الكربات، وبين هذا الغم والهم، ينظر فجأة فيرى ملائكة من بعيد تقترب، يا ترى أهذه الملائكة التي أراها هي ملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟! يا ترى هذا الذي جلس عند رأسي ملك الموت ينتظر الأجل أن يوفى من الله كما قدر الله جل وعلا؛ هل سينادي على روحي ويقول: يا أيتها الروح الطيبة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، ورب راض غير غضبان، أم سينادي ويقول: يا أيتها الروح الخبيثة أخرجي إلى سخط الله وعذابه؟ يا ترى هل ستكون حفرتي روضة من رياض الجنة أم ستكون حفرة من حفر النيران؟ بين حزن شديد على ما فات، وبين غم شديد؛ لأنه لا يدري ما الذي سيلاقيه، ما الذي سيكون بين يديه. ينظر إلى أولاده وإلى أحبابه وإلى أهله الذين التفوا من حوله يبكون، فينظر إليهم حينما يفيق بين السكرات والكربات نظرة كلها استعطاف، نظرة كلها شفقة، نظرة كلها رجاء، نظرة كلها رحمة، نظرة كلها سؤال، ويقول لهم: يا أولادي، يا أحبابي- فدوني بأعماركم، لا تتركوني وحدي، ولا تفردوني في لحدي، من منكم يزيد في عمري ساعة أو ساعتين، أنا صاحب الأموال، أنا الذي بنيت الدور، وأنا الذي بنيت القصور، وأنا الذي جمعت المال، وأنا الذي جهدت واجتهدت، فافدوني بأعماركم، زيدوا في عمري ساعة أو ساعتين، أريد أن أستمتع بالأموال، أريد أن أستمتع بالسيارات، أريد أن أستمتع بالعمارات، ولكنه في واد والناس في واد آخر!

سكرات الموت يعانيها الأنبياء والصالحون

سكرات الموت يعانيها الأنبياء والصالحون لا تستطيع قوة على ظهر الأرض أن تحول بينك وبين هذه الحقيقة مهما كان جاهك، ومهما كان منصبك، ومهما كانت قوتك، لا يمكن بأي حال {وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:78]؛ لأن الذي أصدر الأوامر لملك الموت هو من يقول للشيء كن فيكون، إنه الله رب العالمين. فيا أيها الغافلون! ويا أيها اللاهون! ويا أيها الساهون! ويا أيها المذنبون! ويا أيها الظالمون! ويا أيها المقصرون! اعلموا أنكم راحلون إلى الله جل وعلا، اعلموا أنكم ستقفون بين يدي الله جل وعلا، فيحاسبكم عن القليل والكثير، وعن النقير والقطمير، وعن الصغير والكبير، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8].

علي بن أبي طالب يعاني سكرات الموت

علي بن أبي طالب يعاني سكرات الموت وهكذا لما احتضر علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعد أن ضربه ابن ملجم عليه لعنة الله، كان لا يقول إلا هذه الكلمة: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله أخلو بها وحدي، لا إله إلا الله يغفر بها ذنبي، لا إله إلا الله يجبر بها كسري، لا إله إلا الله يقبل بها عملي، لا إله إلا الله ألقى بها ربي. هكذا كان يقول علي إلى أن لقيت روحه ربها جل وعلا.

المأمون وهارون الرشيد يحتضران

المأمون وهارون الرشيد يحتضران ولما احتضر هارون الرشيد ونام على فراش الموت طلب أن يرى كفنه، ونظر إلى كفنه بعينيه قبل أن يموت، وبكى وبكى وبكى، ثم قال: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28 - 29]، أين المال؟ وأين منصبي؟ وأين جاهي وأين سلطاني؟ وأين مرءوسي؟ وأين خدمي وأين حشمي؟ وأين عماراتي؟ ما أغنى عني ماليه، هلك عني سلطانية! ولما احتضر المأمون أمرهم إذا أفاق من سكرات الموت أن يحملوه فيرى قبره بعينيه قبل أن يموت، فحملوه إلى قبره، فنظر إلى قبره وقبض على لحيته، وأخذ يبكي ويبكي ويبكي، ثم رفع رأسه إلى الله وقال: يا من لا يزول ملكه ارحم من قد زال ملكه. ويروى أن أحد الصالحين قام فجعل لنفسه في بيته قبراً، وكلما سيطرت عليه الشهوات، وسيطرت عليه الدنيا، وسيطرت عليه الفتن؛ نزل إلى هذا القبر الذي حفره بيديه، ويغلقه على نفسه بخشبة أعدها لذلك، ويظل يصرخ في قبره ويصيح ويقول: رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت، ويظل يصرخ ويصيح بأعلى صوته حتى تنقطع أنفاسه، ويغرق في عرقه، فيقلع الخشبة ويخرج إلى النور والهواء، ويبكي ويقول: ها أنت يا نفس قد عدت.

عمرو بن العاص يصف الموت

عمرو بن العاص يصف الموت لما حضرَت الَوفاة عمرو بن العاص صعد إليه ولده وقال له: يا أبتي! لقد كنت تتعجب ممن نزل به الموت ولا يستطيع أن يصف الموت، ولقد نزل الموت بك اليوم، فصف لي الموت يا أبتاه! فماذا قال عمرو بن العاص؟! قال: يا بني! إن الأمر أكبر مما كنت أتوقع بكثير، إن أمر الموت أكبر من هذا بكثير، ولكنني سأصف لك شيئاً منه، والله إنني لأحس الآن أن في جوفي شوكة عوسج، وأن على شفتي جبلاً عظيماً، وإن روحي كأنها تخرج من ثقب إبرة، وأن السماء قد أطبقت على الأرض وأنا بينهما. هذا قليل من كثير! ويكفيك في سكرات الموت وكربات الموت، أن ترى ملك الموت، فلرؤية وجه ملك الموت أشد من آلاف الضربات بالسيوف، رؤية وجه ملك الموت أشد من ضربة بسيف، فيا أيها المسلمون، يا أيها العاصون، يا أيها المذنبون، يا أيها الغافلون، يا من تمرحون وراء الفتن، ويا من تمرحون وراء الهوى، ويا من تمرحون وراء الشهوات، ويا من تعصون الله ليل نهار! انتبهوا فإن الموت قريب، إن الموت يأتي بغتة، وبعد الموت ستعرضون على الله فرداً فرداً، وستسألون أمام الله حرفاً حرفاً، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8]. هذه هي المرحلة الثانية، يوم أن تنتقل بالموت من عالم الحياة إلى عالم الفناء، من القصور إلى القبور، من ضياء المهود إلى ظلمة اللحود، من ملاعبة الجواري والغلمان إلى مقاساة الهوام والديدان، من التنعم بالطعام والشراب إلى التمرغ في الوحل والتراب. أسأل الله سبحانه أن يجعلني وإياكم ممن ختم الله لهم عند موتهم بالتوحيد، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

عثمان بن عفان يعاني سكرات الموت

عثمان بن عفان يعاني سكرات الموت ولما حصر عثمان بن عفان رضي الله عنه دخل عليه عبد الله بن سلام ليزوره في هذا الحصار الشديد، فقال عثمان: يا عبد الله بن سلام والله لقد كنت مع رسول الله في الليلة الماضية، لقد جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم البارحة وقال لي: (يا عثمان! حصروك؟ قلت: نعم يا رسول الله، قال: يا عثمان: منعوا عنك الماء؟ قلت: نعم يا رسول الله، فقال عثمان: فأدلى لي النبي دلواً فشربت من دلو النبي صلى الله عليه وسلم حتى إني أجد برد هذا الماء على ثديي وعلى كتفي الساعة، ثم قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عثمان إن شئت أن ينصرك الله نصرك عليهم، وإن شئت أن تفطر عندنا اليوم فلك ما شئت، فقال عثمان: بل أفطر معك الليلة يا رسول الله). أترك هذا العالم عالم الشقاء وعالم الهم والغم وأفطر معك اليوم يا رسول الله! فقتل من يومها، واحتضر عثمان في يومها، وما كان يتكلم إلا بهذه الكلمة: اللهم اجمع أمة محمد صلى الله عليه وسلم، قالها عثمان ثلاثاً، ثم لقيت روحه ربها تبارك وتعالى.

عمر بن الخطاب وسكرات الموت

عمر بن الخطاب وسكرات الموت يا عمر، يا ابن الخطاب، يا فاروق الأمة، يا أعدل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يا من قال النبي في حقه: (لو كان نبي بعدي لكان عمر)! يا ابن الخطاب، يا عمر، يا فاروق هذه الأمة، يا من قال في حقك ابن مسعود (أكثروا من ذكر عمر، فإنكم إذا ذكرتم عمر ذكرتم العدل، وإذا ذكرتم العدل ذكرتم الله) يا عمر، كيف وجدت الموت؟ لما احتضر عمر بعد أن طعنه أبو لؤلؤة عليه لعنة الله، سأل الفاروق أول ما حملوه إلى داره: من الذي قتلني؟ طمئنوني وأخبروني، فقالوا: اطمئن يا أمير المؤمنين، إن الذي قتلك شاب مجوسي، فسجد عمر بن الخطاب شاكراً لله، ثم قال: الحمد لله الذي جعل قتلي على يد رجل ما سجد لله سجدة فيحتج بهذه السجدة علي أمام الله يوم القيامة! فنظر وغشي عليه، وبعدما أفاق من سكرات وضربات الموت، نظر إلى ولده عبد الله وقال: يا عبد الله! أين أنا؟ فوجد رأسه على فخذ ولده عبد الله، فنظر عمر وبكى وقال: ما هذا يا عبد الله! ما هذا! قال: ماذا تريد يا أبتي؟! قال: ضع رأسي على التراب، ضع هذا الرأس على التراب يا عبد الله، قال: وما ضرك يا والدي، وما ضرك يا أبتي ورأسك بين فخذي؟! فبكى عمر الفاروق وقال: ويحك يا عبد الله! ضع رأسي على التراب، حتى ينظر الله إلي بعين رحمته، فيخفف علي سكرات الموت. هذا هو عمر.

أبو بكر الصديق يعاني سكرات الموت

أبو بكر الصديق يعاني سكرات الموت وهاهو الصديق رضي الله عنه وأرضاه، لما نام على فراش الموت جاءت ابنته عائشة تبكي وتصرخ، وتقول: يا أبتاه، يا أبتاه، وتقول في حقه شعراً لـ حاتم الطائي، فكشف الصديق الغطاء عن وجهه وقال: لا تقولي شعراً، وإنما قولي قول الحق جل وعلا، قولي: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19]، فقالوا: يا أبا بكر، ويا خليفة المسلمين، نستدعي لك الطبيب، فقال الصديق: لقد جاءني الطبيب ونظر إليَّ، فقالوا: وماذا قال لك؟ قال: قال لي: إني فعال لما أريد.

خاتم الأنبياء يعاني سكرات الموت

خاتم الأنبياء يعاني سكرات الموت كيف وجدت الموت يا رسول الله، يا خير خلق الله، يا من غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ انظروا إلى احتضار النبي صلى الله عليه وسلم، احتضر النبي ونام على فراش الموت، وتألم للموت وأحس بسكرات الموت، ورشح جبينه الأنور بالعرق، ووضع يده في إناء به ماء كانت تحمله عائشة فمسح جبينه الأنور ثم قال: (لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات) حتى أنت يا حبيبي يا رسول الله، حتى أنت يا رسول الله: (إن للموت لسكرات، اللهم هون علي سكرات الموت). هذا هو حال نبينا، هذا هو حال رسولنا صلى الله عليه وسلم، وظل هكذا يقول: (إن للموت لسكرات) إلى أن نزل عليه جبريل فقال: السلام عليك يا رسول الله، فرد النبي صلى الله عليه وسلم عليه السلام، فقال جبريل: يا رسول الله! ها هو ملك الموت قد أرسله الله إليك، ولكنه لن يدخل عليك إلا بعد أن تأذن له يا رسول الله! لقد أمره الله ألا يدخل عليك إلا بعد أن تأذن له، والله ما استأذن ملك الموت على أحد من قبلك، ولن يستأذن ملك الموت على أحد من بعدك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (ائذن له يا جبريل). ودخل ملك الموت فقال: السلام عليك يا رسول الله، لقد أمرني الله أن أخيرك، إن أمرتني أن أقبض روحك قبضت، وإن أمرتني أن أترك تركت، فمرني بما شئت يا رسول الله! فنظر النبي إلى جبريل، فقال جبريل: يا رسول الله! إن ربك مشتاق إليك، إن الله مشتاق إليك يا رسول الله! فنظر الحبيب المصطفى إلى جبريل وقال: وأنا قد اشتقت إلى لقاء ربي عز وجل، وأنا قد اشتقت إلى لقاء الله جل وعلا، انصرف يا جبريل، أقبل يا ملك الموت، فقال جبريل: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا حبيب الله، السلام عليكم أهل البيت ورحمة منه وبركاته. وانصرف جبريل عليه السلام، وأقبل ملك الموت، وجلس عند أشرف رأس، وعند أطهر روح، جلس عند رأس المصطفى وقال: يا أيتها الروح الطيبة، روح محمد بن عبد الله، روح خير خلق الله، اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، ورب راض عنك غير غضبان، {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ} [الفجر:27 - 28] نفس محمد، نفس رسول الله، {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30]. هذا هو حال المصطفى صلى الله عليه وسلم عند الموت، يقول: (إن للموت لسكرات، اللهم هون على أمتي سكرات الموت). ها هو الموت أيها المسلمون، ها هو الموت أيها الغافلون، ها هو الموت أيها المذنبون، ها هو الموت أيها العاصون، رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن للموت لسكرات، إن للموت لسكرات، إن للموت لسكرات، اللهم هون علينا سكرات الموت).

إبراهيم وموسى يعانيان سكرات الموت

إبراهيم وموسى يعانيان سكرات الموت إنه الموت، إنها الحقيقة الكبرى، وانتبهوا أيها الموحدون، انتبهوا أيها المسلمون، أذكركم ونفسي أولاً بهذه الحقيقة، سأل الله إبراهيم الخليل عن الموت، فقال له: كيف وجدت الموت يا إبراهيم؟ ومن هو إبراهيم؟ إنه خليل الرحمن! كيف وجدت الموت يا إبراهيم؟ فقال إبراهيم: يا رب! وجدت الموت كسفود موضوع بين صوف مبلول-أي: كقطعة حديد شديدة الصلابة، وضعت في وسط صوف مبلول- وجذبت هذه الحديدة بشدة. فقال الله لإبراهيم: أما إنا قد هونا عليك الموت يا إبراهيم. كيف وجدت الموت يا موسى بن عمران؟ فقال موسى: وجدت الموت كعصفور وضع على مقلاة يقلى على النار! هكذا وجد موسى الكليم الموت، وجدت الموت كعصفور وضع على مقلاة، لا يستطيع أن يطير فينجو، ولا هو يموت فيستريح.

البعث والنشور

البعث والنشور الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من سار على دربه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: {وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} [مريم:15] هذه هي المرحلة الثالثة يوم أن نبعث من القبور، وإن هذه المرحلة أيضاً أمرها خطير، وخطرها عظيم، نستمع أيها الأحباب في عجالة سريعة إلى كلمات موجزة عن هذه المرحلة الثالثة والأخيرة؛ لأن ما بعدها إما عذاب وإما نعيم، إما جنة وإما نار. {وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} [مريم:15]، هذه المرحلة الثالثة التي سلم الله فيها على يحيى عليه السلام، يوم أن ولد ويوم أن مات ويوم أن يبعث، يسلم الله عليه، ويؤمنه الله في هذه المواطن الثلاث.

نفخة البعث

نفخة البعث وتأتي بعد ذلك نفخة البعث، يوم أن يحيى الله إسرافيل وجبريل وميكائيل وملك الموت وحملة العرش، فينادي الحق تبارك وتعالى ويقبض الله الأرواح بيمينه، فأرواح المؤمنين تتوهج لها ضياء ونور، وأرواح المشركين لها ظلمة، فيقبضها الله بيمينه ويضعها في الصور، ويأمر الله إسرافيل بالنفخ ثم يقول: وعزتي وجلالي ليرجعن كل روح إلى جسده! صاروخ موجه من قبل من يقول: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]. ثم ينادي مناد من قبل الحق على أهل القبور ويقول: أيتها العظام البالية، أيتها العظام الناخرة، قومي لفصل القضاء بين يدي رب الأرض والسماء! فيخرج الجميع بعدما أحياهم الله، وبعدما انشقت عنهم الأرض، ونبينا أول من تنشق عنه الأرض، يخرج الناس حفاة عراة غرلاً، والحافي هو من ليس في قدميه نعل، والعاري هو من ليس على بدنه ثوب، و (غرلاً) جمع أغرل، والأغرل هو الصبي قبل الختان، {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:104]. فيخرج الناس مذهولين مذعورين، فكلهم في فزع، وكلهم في رعب، والكل شاخص ببصره إلى السماء ينتظر الأمر من الله جل وعلا. والشمس فوق الرءوس، ها هي أرض المحشر، وها هو يوم البعث، (ويوم يبعث حياً) يوم أن نبعث من القبور حفاة عراة غرلاً، قالت عائشة: (الرجال مع النساء يا رسول الله؟ قال: نعم يا عائشة، قالت: يا رسول الله! ينظر الرجل إلى سوءة المرأة، والمرأة إلى سوأة الرجل؟ قال: يا عائشة! إن الأمر أكبر من أن يهمهم ذلك، أما قرأت قول الله جل وعلا: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:37]). الكل شاخص ببصره ينتظر الأمر من الله، وفجأة تتنزل الملائكة صفوفاً، أهل السماء الأولى من الملائكة يصفون، ويقفون إلى جوار الخلائق وفيهم الأنبياء، تنزل الملائكة وهي وتنظر الخلائق إلى الملائكة المخلوقات النورانية، فتقول الخلائق للملائكة: أفيكم ربنا؟ فتقول الملائكة: سبحان الله! كلا، وهو آت. يأتي إتياناً يليق بكماله وجلاله للفصل بين العباد، وللقضاء بين العباد، وتتنزل الملائكة من السماء الثانية ومن الثالثة حتى السابعة، وبعد ذلك ينزل حملة العرش لهم صوت بتسبيحهم وهم يقولون: سبحان ذي الملك والملكوت، سبحان ذي العزة والجبروت، سبحان من لا يذوق الموت، سبحان من كتب الموت على الخلائق ولا يموت، سبوح قدوس رب الملائكة والروح. وبعدها ينصب الكرسي حيث شاء الله وحيث أراد الله، وينزل الملك نزولاً يليق بكماله وجلاله، وكلما دار ببالك من صفات الله فالله بخلاف ذلك، ويستوي الملك على كرسيه استواءً لا تدركه العقول، ولا تكيفه الأفهام، وللكلام بقية، ولكنني أكتفي بهذا القدر وأسأله الله العظيم رب العرش الكريم، أن يحشرنا في زمرة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

نفخة الفزع ونفخة الصعق

نفخة الفزع ونفخة الصعق يوم البعث خطره عظيم، وهو بعد مرحلة الصعق، وبعد نفخة الصعق أي: الموت، ولا بأس على الإطلاق أن نكرر ونذكر بهذا الكلام، فإننا في أمس الحاجة إلى أن نتذكره دائماً، لأن إسرافيل ينفخ في الصور ثلاث مرات، وهذا هو الصحيح: نفخة الفزع، ونفخة الصعق، ونفخة البعث، فنفخة الفزع يفزع بعدها كل من في السماوات وكل من في الأرض إلا من شاء الله، ثم تأتي نفخة الصعق- أي: الموت- فيموت بعدها كل حي على ظهر هذه الأرض، {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ} [الزمر:68] أي: فمات {مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر:68] وقلنا: إن الاستثناء هنا لجبريل وإسرافيل وميكائيل وملك الموت وحملة العرش. ويأتي ملك الموت إلى الله بعدما مات الملوك، ومات الحكام، ومات الرؤساء، ومات الجبابرة، ومات كل مخلوق، فيقول الملك لملك الموت: يا ملك الموت! من بقي؟ فيقول ملك الموت: يا رب! بقيت أنت الحي الذي لا تموت، وبقي جبريل وإسرافيل وميكائيل وملك الموت وحملة العرش، فيقول الله لملك الموت: ليمت جبريل -اللام لام الأمر، لام العظمة، لام الكبرياء، لام الإرادة، لام من يقول للشيء كن فيكون- فيموت جبريل، ليمت ميكائيل، فيموت ميكائيل. فيأتي ملك الموت إلى الملك فيقول الملك لملك الموت: يا ملك الموت من بقي؟ فيقول: يا رب! مات جبريل ومات ميكائيل، فيقول الله تبارك وتعالى: ليمت حملة العرش، فحملة العرش الذين يحملون عرش الله يموتون، إذاً: بعد موتهم من الذي يحمل عرش الله! {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] استوى كما أخبر وعلى الوجه الذي أراد، وبالمعنى الذي قال، استواءً منزهاً عن الحلول والاستقرار، فلا العرش يحمله، ولا الكرسي يسنده، بل العرش وحملته والكرسي وعظمته؛ الكل محمول بلطف قدرته، مقهور بجلال قبضته. ليمت حملة العرش، فيموتون، فيأتي ملك الموت، فيقول الله له: من بقي؟ فيقول: يا رب بقي إسرافيل الذي ينفخ الصور، والصور هو البوق، فيأمر الله الصور فينتقل من إسرافيل، ويقول: ليمت إسرافيل، فيموت إسرافيل، ويبقى ملك الموت، فيأتي ملك الموت إلى ملك الملوك، فيقول الملك لملك الموت: يا ملك الموت من بقي من خلقي؟ فيقول: يارب! بقيت أنت الحي الذي لا تموت، وبقي عبدك الذليل الضعيف الماثل بين يديك، فيقول الله جل وعلا لملك الموت: يا ملك الموت أنت خلق من خلقي، وخلقت لما ترى، فمت يا ملك الموت، فيموت ملك الموت. مات الجميع، مات جبريل وإسرافيل وميكائيل وملك الموت وحملة العرش، إذاً: من الباقي؟ وهنا يقبض الله الدنيا ويبسطها ثلاث مرات، ويهتف بصوته ويجيب، فما من سائل يومها ولا مجيب إلا الله، فينادي ويهتف بصوته ويقول: أنا الجبار أنا الجبار أنا الجبار {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر:16] ثلاث مرات؟ فلا يجيبه أحد؛ لأنه لا أحد، فيقول بذاته بلغة العظمة والكبرياء: الملك اليوم لله الواحد القهار. كان آخراً كما كان أولاً، أول بلا ابتداء وآخر بلا انتهاء، هو الأول، وهو الآخر، وهو الظاهر، وهو الباطن، وهو بكل شيء عليم.

سماحة الإسلام وإرهاب الغرب

سماحة الإسلام وإرهاب الغرب لقد أذاق العالم الغربي الأمة الإسلامية على حين غفلة منها وتخاذل وابتعاد عن منهج ربها ونبيها صلى الله عليه وسلم الويلات والنكبات العظام، فسفكوا دماءنا وانتهكوا أعراضنا، وسلبوا أرضنا، ولم نر لأمة المليار وحكامها إلا الشجب والتنديد، ولم نر من مجلس الخوف وهيئة الرمم إلا الصمت، والميل الواضح الفاضح إلى إخوانهم من أهل الكفر والإلحاد، ولا غرابة في ذلك، فالكفر ملة واحدة، وقد رموا المسلمين عن قوس واحدة، واللوم لا يرجع عليهم بل يرجع إلى هذه الأمة المتشرذمة المتناحرة إلى هذه الأمة التي ما زالت تغط في نومها العميق وغفلتها المستمرة، وإعراضها الواضح عن منهج الله ورسوله والسلف الصالح فإلى متى ستستمر الغفلة؟!

صور مخزية للإرهاب الغربي

صور مخزية للإرهاب الغربي إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة الفضلاء الأعزاء! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله الكريم جل وعلا الذي جمعني مع حضراتكم في هذا المكان الطيب المبارك على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار مقامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه أحبتي في الله! (سماحة الإسلام وإرهاب الغرب) هذا هو عنوان لقائنا مع حضراتكم في هذا اليوم الكريم المبارك، وكما تعودت حتى لا ينسحب بساط الوقت سريعاً من تحت أقدامنا، فسوف ينتظم حديثي مع حضراتكم تحت هذا العنوان في العناصر التالية: أولاً: صور مخزية للإرهاب الغربي. ثانياً: صور مشرقة للتسامح الإسلامي. ثالثاً: لا تيأسوا من روح الله. وأخيراً هذا هو طريق النجاة. فأعيروني القلوب والأسماع، والله أسأل أن يقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

المجازر الوحشية التي ارتكبها الغرب ضد المسلمين

المجازر الوحشية التي ارتكبها الغرب ضد المسلمين أولاًَ: صور مخزية للإرهاب الغربي: أحبتي في الله! إن الصراع بين الحق والباطل قديم بقدم الحياة على ظهر الأرض، والأيام دول، كما قال ربنا جل وعلا: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140]، ولا شك أن الدولة الآن للغرب الذي كسب الجولة الأخيرة، وهزم الأمة المسلمة عسكرياً واقتصادياً وفكرياً ونفسياً وعلمياً بعد أن تخلت الأمة عن أسباب النصر بانحرافها عن منهج ربها ونبيها صلى الله عليه وسلم، وذلك مصداقاً لقول ربنا جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]، راح الغرب المنتصر يسوم الأمة المهزومة سوء العذاب، ويمارس في حقها كل أشكال وألوان الإرهاب الفكري والنفسي والاقتصادي والعسكري، وفي هذا الوقت الذي يمارس فيه الإعلام الغربي لوناً قذراً من ألوان الإرهاب الفكري بوصم الإسلام والمسلمين بالأصولية، والإرهاب والتطرف، والوحشية والبربرية، والجمود والتخلف والرجعية إلى آخر هذه التهم المعلبة الجاهزة، أقول: شاء الله جل وعلا أن تسقط ورقة التوت، وأن تتمزق خيوط العنكبوت، التي طالما وارى بها النظام الغربي عوراته الغليظة، وذلك يوم أن قرر مراهق البيت الأبيض أن يضرب السودان وأفغانستان بالصورايخ والطائرات ويقطع الإرسال العالمي، ليخرج علينا إرهابي البيت الأبيض بوجهه الكالح العبوس، ليزف إلينا نبأ الغارات الجوية على السودان وأفغانستان بنفس الطريقة التي زف بها إلينا سلفه جورج بوش نبأ ذبح العراق، وبنفس الطريقة التي خرج بها سلفهما رونالد ريجن ليزف إلينا نبأ الغارات الجوية على ليبيا، مسلسل متكرر متكرر! والضحايا يتساقطون من الموحدين والمسلمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! يضرب السودان ذلكم البلد الإسلامي الوديع الآمن الذي لا ذنب له إلا أنه أعلن تطبيق الشريعة الإسلامية، ورفض كل أشكال الهيمنة الغربية والأمريكية. لقد حاول الغرب بكل سبيل أن يمزق الأواصر الأخوية والعلاقات الودية بين مصر والسودان؛ ليدخل البلدان دوامة صراع دموي قاتل لصالح الغرب، ولكن الله سلم، وتعاملت مصر سلمها الله مع المكر الشيطاني الغربي بغاية الحكمة والذكاء. وأفغانستان ذلكم البلد المسلم الشامخ الذي مرغ أنف الدب الروسي الوقح في الوحل والطين والتراب، أسأل الله أن يؤلف بين قلوب قادته، وأن يجعل الحركة الإسلامية الشرعية الجديدة -حركة طالبان- غصة في حلوق المنافقين، وأسأل الله أن يجعلها بداية عهد جديد لتطبيق شرع الله، ولإقامة دولة الإسلام فوق ثرى أفغانستان المبارك، الذي روي بدماء الشهداء والأبرار، إن ربنا هو العزيز الغفار! يضرب السودان وتضرب أفغانستان بحجة ماذا؟! بحجة محاربة الإرهاب في كل مكان في العالم، وأنا لا أتصور كيف يفكر هؤلاء وكيف يتصور هؤلاء البشر على وجه الأرض؟! تحارب رائدة الحضارة الغربية أمريكا الإرهاب في كل مكان في العالم، وفعلها ليس من الإرهاب في شيء، وتجويع الشعوب الآمنة، وضرب الشعوب الوديعة ليس من الإرهاب في شيء قتل عشرات الآلاف من الأطفال في العراق ليس من الإرهاب في شيء قتل الآلاف من أطفال الصومال ليس من الإرهاب في شيء قتل العشرات والمئات من أطفال ليبيا ليس من الإرهاب في شيء إبادة كاملة لهيروشيما ونجازاكي ليس من الإرهاب في شيء إبادة شعب الهنود الحمر ليس من الإرهاب في شيء المعاملة العنصرية اللونية البغيضة في أمريكا ليس من الإرهاب في شيء محاربة المكسيك في عام (1914م) لمجرد أن المكسيك لم يقفوا ليحيوا العلم الأمريكي، فحوربت المكسيك بمنتهى الشراسة ليس من الإرهاب في شيء. قتل أمريكي في غابة جريمة لا تغتفر وقتل شعب آمن مسألة فيها نظر ولا حول ولا قوة إلا بالله! ما دام الإرهاب يمارس بأيد أمريكية فليس من الإرهاب في شيء أبداً، وينبغي للعقلاء أن لا ينسبوا هذا للإرهاب ولا للتطرف، أما إن تكلم مسلم مجرد كلمة، أو إن أخطأ مسلم خطأ حركياً هنا أو هنالك ركزت المجاهر المكبرة على هذا الخطأ؛ ليوصم الإسلام كله؛ وليوصم المسلمون جميعاً بالإرهاب والتطرف والأصولية والوحشية والبربرية، والجمود والرجعية، والتخلف والتأخر إلى آخر هذه التهم المعلبة التي لم تعد تنطلي الآن إلا على السذج والرعاع أمر عجب!!

انعكاس الموازين عند الغرب وزيفهم

انعكاس الموازين عند الغرب وزيفهم أتذكر الآن ذلكم المشهد الخبيث لجندي بريطاني يقتل مسلماً من المسلمين فيدافع المسلم عن نفسه فيعض يد الجندي البريطاني فيقتله، ويذهب الجندي البريطاني إلى أخيه ليشكو إليه تطرف وإرهاب المسلم، فيقول له: تصور أنه عض يدي وأنا أقتله! تصور هذا الإرهاب عض يدي وأنا أذبحه وأقتله! فإذا كان الفعل من المسلم هو التطرف والإرهاب فما نسمي قتله؟! وقتل امرئ في غابة جريمة لا تغتفر وقتل شعب آمن مسألة فيها نظر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! إذا كان ضرب السودان وضرب أفغانستان بحجة محاربة الإرهاب في كل مكان فيجب على رائدة الحضارة الغربية أمريكا أن توقف إرهابها للعالم ثم أين هي من الإرهاب والتطرف اليهودي الذي يمارس الآن بعنجهية واستعلاء في فلسطين ولبنان وهضبة الجولان؟! أين رائدة الحضارة من هذا الإرهاب والتطرف؟! أين مجلس الأمن؟! أين هيئة الأمم؟! أين المنظمة العالمية لحقوق الإنسان؟! أين من يتغنون بالديمقراطية والحرية وينددون بالتطرف والإرهاب؟! أين النظام العالمي أما له أثر ألم تنعق به الأبواق؟! أين السلام العالمي لقد بدا كذب السلام وزاغت الأحداق! يا مجلس الخوف الذي في ظله كسر الأمان وضيع الميثاق أو ما يحركك الذي يجري لنا أو ما يثيرك جرحنا الدفاق وحشية يقف الخيال أمامها متضائلاً وتمجها الأذواق هذه حقيقة الغرب يا مسلمون! وينبغي على كل عاقل في أرض العرب والإسلام أن يعرف حقيقة الغرب، وطالما بحت أصواتنا بحقيقة الغرب، ولكن الأمة لا تريد أن تسمع عن الله، ولا تريد أن تسمع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. أيها الأحبة! الكفر ملة واحدة! قالوا لنا الغرب قلت صناعة وسياحة ومظاهر تغرينا لكنه خاو من الإيمان لا يرعى ضعيفاً أو يسر حزيناً الغرب مقبرة المبادئ لم يزل يرمي بسهم المغريات الدينا الغرب مقبرة العدالة كلما رفعت يد أبدى لها السكينا الغرب يكفر بالسلام وإنما بسلامه الموهوم يستهوينا الغرب يحمل خنجراً ورصاصة فعلامَ يحمل قوم الزيتونا كفر وإسلام فأنى يلتقي هذا بذلك أيها اللاهونا أنا لا ألوم الغرب في تخطيطه لكن ألوم المسلم المفتونا وألوم أمتنا التي رحلت على درب الخضوع ترافق التنينا وألوم فينا نخوة لم تنتفض إلا لتضربنا على أيدينا يا مجلس الخوف اللعين إلى متى تبقى لتجار الحروب رهينا إلى متى ترضى بسلب حقوقنا منا وتطلبنا ولا تعطينا لعبت بك الدول الكبار فصرت في ميدانهن اللاعب الميمونا يا مجلساً غدا في جسم عالمنا مرضاً خفياً يشبه الطاعونا شكراً لقد أبرزت وجه حضارة غربية لبس القناع سنينا شكراً لقد نبهت غافل قومنا وجعلت شك الواهمين يقينا يا مجلس الأمن انتظر إسلامنا سيريك ميزان الهدى ويرينا إن كنت في شك فسل فرعون عن غرق وسل عن خسفه قارونا أين مجلس الأمن من الإرهاب اليهودي في فلسطين وجنوب لبنان وهضبة الجولان وكل مكان. نتنياهو يعربد كيف شاء يضرب بالأعراف والقوانين والمواثيق الدولية عرض الحائط، لا يحترم عالماً غربياً، ولا عالماً عربياً، ولا عالماً إسلامياً، بل يعربد كيف يشاء، حتى المبادرة الأمريكية الأخيرة للسلام لا زال إلى يومنا هذا يرفضها بنص صيغتها مع ظلمها البين البشع للفلسطينيين، وحق له أن يعربد كيف شاء عربد كما شئت يا هذا النتنياهو ما عاد في البيت من رب ستخشاه ما ضر لو تحتسي في الصبح قهوتنا على الأريكة في كبر عهدناه ما ضر لو تسرق الأنفاس من رئتي وتفتدي حلماً في الليل أحياه ما ضر لو تورد الأشعار إن صرخت وتجلد البحر لو يفضي بنجواه لا تخشى من سيفنا فالسيف قد صدأت أنصاله فانزوى والغمد واراه ما عاد كالأمس مزهواً بطلعته فآثرَ الغمد والتذكار سلواه أما الجواد الذي قد كنت تحسبه نجم السباق إذا المضمار ناداه فقد تخلى عن الميدان منهزماً فعاد منسحباً والعجز أعياه وأمتي لا تخف منها فقد هرمت والشيب في رأسها قد خط مجراه حليبها لم يعد يروي لنا ضمأ وضرعها جف مذ ماتت خلاياه عربد كما شئت يا هذا النتنياهو فأمتي تعشق الشجب وتهواه إن عم خطب بها فالكل ألسنة للشجب يا صاحبي والكل أفواه يا أمة عجزها قد صار قائدها وضعفها لم يعد في الدرب إلا هو يا أمة في خليط العمر نائمة تلوك ماض لها في القبر مثواه هانت على نفسها فاستعبدت وونت وسلمت كنزها للص يرعاه آسادها روضت في الأسر طائعة فأسدها دون أسد الأرض أشياه عربد كما شئت يا هذا النتنياهو فأمتي تعشق الشجب وتهواه يا قدس هذا زمان الليل فاصطبري فالصبح من رحم الظلماء مسراه يا قدس لا تقنطي فالحق منتصر وصاحب الحق ليس يرده الله ما دام في القلب عهد قد حفظناه وفي اليمين كتاب ما تركناه حق (للنتن ياهو) أن يعربد كيف شاء، فالعالم العربي والإسلامي ساكن كمياه البحر الميت، لا يجيد إلا الشجب والاستنكار. أين رائدة الحضارة الغربية من الإرهاب الصربي الذي لا زال يمارس إلى اللحظة هذه على مسلمي البوسنة ومسلمي كوسوفا تطهيراً عرقياً واسع النطاق، وإبادة جماعية بشعة على مرأى ومسمع من الغرب الذي يتغنى بالديمقراطية والحرية، وعلى مرأى ومسمع من العالم العربي والإسلامي. كوسوفو تباد والعالم كله خسة وخيانة ونفاق كوسوفو من دولة المجد عثمان أبوها والفاتح العملاق كوسوفو من قلب مكة بالتوحيد يعلو لواؤها الخفاق تركوها وحولها من كلاب الصـ ـرب طوقاً من خلفه أطواق قدمتها الصلبان للصرب قربا ناً وللصرب كلهم عشاق قد حفظنا للمرة الألف عنـ ـكم عالم الغاب ما له ميثاق ووالله لو فعلنا بالصرب ما فعلوا لرأينا مثل الذي رآه العراق أين العالم الغربي من الإرهاب الصربي من الإرهاب اليهودي من إرهاب أساطين الفساد الخلقي على وجه الأرض؟!! أين هم؟! لقد استخدم الأطفال ولأول مرة في التاريخ كله كدروع بشرية في حرب البوسنة مع الصرب الأنجاس على مرأى ومسمع من العالم الغربي. استخدم أطفال البوسنة كدروع بشرية، يفخخ الأطفال بالألغام ويطلق الأطفال إلى أهاليهم من أبناء الجيش البوسني، وعن طريق الريمونت كنترول يتم التحكم عن بعد وتفجر الألغام في الأطفال، ولأول مرة يستخدم أطفال المسلمين كفئران تجارب في البوسنة لأول مرة استخدم أطفال المسلمين كتجارة للرقيق واسعة النطاق في قلب أوروبا، أطفال البوسنة في ظل قيادة العالم الغربي للبشرية كلها، يوم أن تخلت أمة القيادة عن القيادة، يوم أن انحرفت عن منهج الله ورسوله انطلق الصرب ليحققوا عملياً على أرض الواقع ملحمتهم الشعرية الكبرى التي تسمى بإكليل الجبل والتي تقول كلماتها: سلك المسلمون طريق الشيطان دنسوا الأرض ملؤها رجساً فلنعد للأرض خصوبتها ولنطهرها من تلك الأوساخ ولنبصق على القرآن ولنقطع رأس كل من يؤمن بدين الكلاب ويتبع محمداً فليذهب غير مأسوف عليه

صور مشرقة للتسامح الإسلامي

صور مشرقة للتسامح الإسلامي أيها الأحبة! تلك عقيدة الصرب التي يحولونها إلى واقع عملي ومنهج قذر على أرض الواقع في عالم يقود فيه البشرية كلها الرجل الغربي الإرهابي المتطرف الخائن، في الوقت الذي يمارس فيه إعلامه لوناً قذراً من ألوان الإرهاب بوصم الإسلام والمسلمين جميعاً بالتطرف والأصولية والإرهاب، وفي مقابل هذه الصور المخزية للإرهاب الغربي أطيب النفوس والقلوب، وتمنيت أن لو أسمعت زعماء العالم الغربي جميعاً هذه الكلمات التي تبين الصور المشرقة للتسامح الإسلامي.

الناس سواسية في ميزان الإسلام

الناس سواسية في ميزان الإسلام أيها الأحبة الكرام! بكل أسف شوهت صورة الإسلام الوضيئة! بكل أسف لطخت صورة الإسلام الزاكية! فالإسلام الآن متهم عند هؤلاء المجرمين بالتطرف والأصولية والإرهاب. يا مسلمون! ارفعوا أنوفكم لتعانق الرءوس كواكب الجوزاء فالإسلام دين الأمن والاستقرار والرخاء، بل وأنا أعلنها بملء فمي وأعلى صوتي: إن اليهود والنصارى ما ذاقوا نعمة الأمن والأمان والاستقرار إلا في ظلال الإسلام، وشريعة محمد بن عبد الله، والتاريخ بيننا، بل ولن أستشهد حينئذ بأقوال أئمتنا المسلمين، وإنما سأستشهد لمن أنكر هذه الحقيقة الساطعة في كبد السماء بأقوال كتاب الغرب أنفسهم من المنصفين الذين سجلوا هذه الشهادة للتاريخ، وسيظل التاريخ يتألق في هذه الصفحة -صفحة التسامح الإسلامي- إشراقاً وعظمة وجلالة، سجلوا للتاريخ كيف كانت سماحة الإسلام، وكيف كانت حضارته. أيها الأحبة! إن الإسلام عظيم لا يميز بين الناس إلا بالتقوى والعمل الصالح، فالناس جميعاً على وجه الأرض سواء، لا تفاضل بينهم إلا بالتقوى والعمل الصالح، وجاء هذا الإعلان القرآني العظيم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13]، وفي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد والبيهقي من حديث جابر بن عبد الله أنه صلى الله عليه وسلم لما خطبهم في حجة الوداع أو في أواسط أيام التشريق قال: (أيها الناس! ألا إن ربكم واحد، ألا إن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى والعمل الصالح، وقرأ النبي قول الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13])، هذه حضارة الإسلام! وهذا تسامح الإسلام! لا فضل لمن ارتقى على من تواضع ولا لمن حَكم على من حُكم، ولا لمن اغتنى على من افتقر، فقد ساوى الإسلام بين سلمان الفارسي وصهيب الرومي ومعاذ الأنصاري وبلال الحبشي وحمزة القرشي وأنشدها سلمان بغاية الفخر أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم

مبادئ الإسلام وتطبيقها على الواقع

مبادئ الإسلام وتطبيقها على الواقع والسؤال الآن: هل ظلت مبادئ الإسلام السامية حبيسة الأدراج كما ظلت مواثيق الأمم المتحدة حبيسة الأدراج لا تساوي قيمة الحبر الذي كتبت به؟ ثم هل حبست المدينة المنورة -تلك المدينة التي أعلنت لأول مرة مبادئ الإسلام السامقة- هذه الأسس السامية، وهذه القوانين، وهذه الأخلاق كما حبست فرنسا بعد الثورة الفرنسية مبادئ الثورة في الحرية والديمقراطية حتى عن دولها ومستعمراتها التي ترضخ تحت حكمها؟! ثم هل نصبت حضارة الإسلام لهذه المبادئ السامية تمثالاً كتمثال الحرية المكذوب في قلب ميدان واشنطن في قلب نيويورك ذلكم التمثال الكاذب الذي يسحق أهله من الأمريكان الحرية وأهلها خارج حدود أمريكا سحقاً؟! هل حذف الإسلام تلك المبادئ السامية؟! A اقرءوا التاريخ، فهذا رائد الحضارة وإمام الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الصحيحين من حديث عائشة: (أن امرأة من بني مخزوم من الأشراف سرقت واهتمت قريش بهذا الأمر، وقالوا: من يشفع لها عند رسول الله، وانطلق حب النبي أسامة بن زيد ليشفع للمخزومية عند المصطفى، فغضب غضباً شديداً وهو يقول لـ أسامة: أتشفع في حد من حدود الله يا أسامة؟ ثم ارتقى المنبر، وقال بعد ما حمد الله وأثنى عليه: أيها الناس! إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) تلك حضارة الإسلام. وهذا عمر فاروق الأمة رضوان الله عليه لما نزل من المدينة ليتسلم مفاتيح بيت المقدس أعطى لأهل إيليا من النصارى الأمان لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم، وأمر أن لا تهدم كنائسهم! وهذا عمر بن عبد العزيز لما فتح الإسلام مدينة سمرقند وأرسل أهل سمرقند لأمير المؤمنين عمر رسالة يقولون فيها: بأن الفتح الإسلامي للمدينة فتح باطل؛ لأن الجيش لم يدعونا للإسلام، ولم يفرض علينا الجزية إن امتنعنا، ولم يخبرنا بالمنابذة، فلما عرض عمر بن عبد العزيز الأمر على قاض المسلمين أقر القاضي ببطلان الفتح الإسلامي لسمرقند، فما كان من عمر رضي الله عنه إلا أن أصدر الأوامر لقائد جيوشه في بلاد سمرقند بالانسحاب فوراً، فخرج أهل سمرقند عن بكرة أبيهم بين يدي الجيش الفاتح -المنتصر على نفسه ابتداء- ليعلنوا جمعياً القولة الخالدة: نشهد أن لا إله إلا الله ونشهد أن محمداً رسول الله. ولما فتح المسلمون الشام، واستولوا على حمص ودمشق، وفرضوا الجزية على أهل حمص وعلى أهل دمشق، سمع القادة المسلمون بقيادة أبي عبيدة بن الجراح أن هرقل قد جمع جيشاً جراراً لينقض على الجيش الإسلامي انقضاضاً ساحقاً، فما كان من قادة المسلمين إلا أن ذهبوا إلى أهل دمشق وحمص ليخبروهم بأنهم لن يستطيعوا أن يدفعوا عنهم في مقابل الجزية، فردوا الجزية كلها إلى أهل حمص ودمشق، فخرجوا جميعاً -مع أنهم كانوا يدينون لدين النصارى من الروم- يقولون: نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، لعدلكم أيها المسلمون أحق إلينا من جور الروم وظلمهم، وإن كنا على مثل دينهم. وأظن أنكم جميعاً تعلمون قصة اليهودي الذي سرق درع علي بن أبي طالب، فيقف إلى جوار أمير المؤمنين علي أمام قاض مسلم، فيقول القاضي لـ علي وهو أمير المؤمنين: ما القضية؟ فيقول علي: الدرع درعي ولم أبع ولم أهب، فيلتفت القاضي إلى اليهودي ويقول: ما جوابك؟ فيقول: الدرع درعي وهو معي، فيقول القاضي: هل معك من بينة يا أمير المؤمنين؟ فيقول: لا، فيقضي القاضي بالدرع لليهودي، فـ (البينة على من ادعى واليمين على من أنكر)، وينطلق اليهودي بالدرع وهو يكلم نفسه: أقف إلى جوار أمير المؤمنين في ساحة القضاء، ويقضي القاضي المسلم بالدرع لي، وأنا أعلم يقيناً أن الدرع لـ علي والله إنها لأخلاق أنبياء، فيرجع اليهودي إلى القاضي ليقول له: أيها القاضي! أما الدرع فهو لـ علي، وأما أنا فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فلما سمعها علي رضوان الله عليه قال: أما وقد أسلمت فالدرع هدية مني لك. وأظن أنكم جميعاً تحفظون قصة شاب مصر ذلكم الشاب القبطي الذي سابق محمد بن عمرو بن العاص الذي كان أبوه حاكماً لمصر ووالياً عليها، فسبق القبطي ابن حاكم مصر فضربه محمد بن عمرو بالسوط ضرباً شديداً وهو يقول له: خذها وأنا ابن الأكرمين! خذها وأنا ابن الأكرمين! خذها وأنا ابن الأكرمين! فانطلق هذا القبطي إلى الأسد القابع في عرينه في مدينة المصطفى، ذلكم الرجل الذي يحب العدل، ويكره الظلم بكل كيانه، إنه عمر! ويدخل القبطي على عمر في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: يا أمير المؤمنين! هذا مقام العائذ بك فيقول عمر: ما القضية ومن أنت؟ فيقول: أنا قبطي من أهل مصر -ركب من مصر إلى المدينة على ظهر دابة يقطع الفيافي والقفار- فيقول عمر: ما القضية؟ فيقول القبطي: سابقت محمد بن عمرو فسبقته فضربني بالسوط ضرباً شديداً وهو يقول لي: خذها وأنا ابن الأكرمين! فقال له عمر: اجلس هنا، وأمر الصحابة أن يكرموا هذا القبطي، وكتب عمر كتاباً إلى والي مصر -وتدبر كلام عمر أسالك بالله- بعد ما حمد الله وأثنى عليه قال: من عبد الله عمر بن الخطاب إلى والي مصر، سلام الله عليك وبعد: فإن انتهيت من قراءة كتابي هذا فاركب إلي مع ولدك محمد فدخل عمرو بن العاص وفي خلفه ولده محمد على أمير المؤمنين عمر، فقال فاروق الأمة: أين قبطي مصر؟ فقال: هأنذا يا أمير المؤمنين! قال: خذ السوط واضرب محمد بن عمرو، فضربه على رأسه، فقال له: اجعلها على صلعة عمرو، فقال: لا يا أمير المؤمنين لقد ضربت من ضربني، قال: والله لو فعلت ذلك ما حلنا بينك وبين ذلك، فما تجرأ عليك ولده إلا بسلطان أبيه، ثم قال عمر قولته الخالدة التي ترن في أذن الزمان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، قال عمر: يا عمرو متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟! وهذا صلاح الدين يوم أن حطم الصليبيين في موقعة حطين، وسمع أن رتشارد قلب الأسد ذلكم القائد المراوغ الخبيث قد مرض، فما كان من صلاح الدين إلا أن أرسل إليه بطبيبه الخاص وبدواء من عنده. ومحمد الفاتح ذلكم السلطان الشاب المبارك لما فتح القسطنطينية تحقيقاً للنبوءة النبوية، وأعطى الأمان لآل كنيسة (آيا صوفيا) الشهيرة، أعطاهم الأمن والأمان على أنفسهم وأموالهم وكنيستهم، ولم يصبهم بأي أذى أو بأي سوء. إنها سماحة الإسلام! تلك أخلاقنا! وهذا ديننا وكم تمنيت ورب الكعبة أن لو أسمعت العالم كله بزعمائه أن الإسلام دين لا يقر الإرهاب أبداً مهما كان لونه! ومهما كان جنسه! ومهما كان وطنه، بل هو دين الأمن والأمان دين السماحة والرخاء والاستقرار، ولكن بكل أسف شوهت الصورة المشرقة للإسلام، وركزت المجاهر المكبرة على بعض الأخطاء الفردية من المسلمين هنا وهنالك، حتى وصم الإسلام كله والمسلمون جميعاً بالأصولية والتطرف والإرهاب!

لا تيأسوا من روح الله

لا تيأسوا من روح الله إخوتي الكرام! لا تيأسوا من روح الله! هل تظنون أن الكون كله ملك لعباد الدولار من الأمريكان؟! إن الكون كله ملك لله، يتصرف فيه كيف شاء: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:26]، فوالله الذي لا إله غيره ستسقط الحشرات الأمريكية كما سقطت الحشرات الماركسية الشيوعية، فتلك سنة ربانية لا تتبدل ولا تتغير، وكما أن الله سبحانه قد جعل الابتلاء للمؤمنين سنة جارية، فإنه قد جعل أخذ الظالمين سنة جارية. أين الظالمون وأين التابعون لهم في الغي بل أين فرعون وهامان أين من دوخوا الدنيا بسطوتهم وذكرهم في الورى ظلم وطغيان هل أبقى الموت ذا عز لعزته أو هل نجا منه بالسلطان إنسان لا والذي خلق الأكوان من عدم الكل يفنى فلا إنس ولا جان أين فرعون؟ أين هامان؟ أين قارون؟ أين الطواغيت؟ أين الجبابرة؟ أهلكهم الله الحي الذي لا يموت، وبقي الإسلام شامخاً، وسيبقى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فأرجو أن لا تعصف رياح القنوط واليأس بقلوبنا، وأرجو أن نتعلم اليقين من هذا البدوي البسيط الذي يعيش في أرض الجزيرة في بلاد القصيم، يوم أن خرجت الطائرات لأول مرة فذهب أحدهم ليقول له: ادع الله فإن بريطانيا ستضرب بلاد المسلمين بالطائرات، قال: (شو يا خوي) الطائرات هذه؟! قال: والله الطائرات هذه أجسام ضخمة تطير في السماء، وتقذف الناس بالقنابل المحرقة؛ فتحرق المزارع، وتدمر المصانع والبيوت، وتهلك البشر، فقال لهذا الرجل المؤمن البسيط قولة عجيبة قال: (يا خوي الطائرات هذه فوق ربنا أم ربنا أعلى منها)؟ قال: بل الله أعلى وأجل، قال: إذاً: لا تخف، فإن الله سبحانه وتعالى يتصرف في ملكه كيف شاء. هذا هو اليقين الذي نحتاجه الآن، وبكل أسف تضع الأمة الخطة الخمسية والسنوية والشهرية، وما وضعت أبداً ضمن خطة واحدة قوة وعظمة رب البرية مالك الملك. لقد أصاب الله أمريكا في الأيام الماضية بإعصار يسمونه بإعصار (جرش) قتل ما يقرب من الثلاثمائة، وشرد ما يزيد على مليون ونصف أمريكي وأمريكية: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} [المدثر:31] {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ * وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} [إبراهيم:42 - 44] معنا رصيد فطرة الإنسانية، وقبل وبعد كل ذلك معنا الله، ويا لها والله من معية لو عرفت الأمة قدرها! قال جل في علاه: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21].

طريق النجاة من المصائب

طريق النجاة من المصائب وأخيراً: طريق النجاة؛ لأضع بين يدي حضراتكم منهجاً عملياً في صورة عامة للأمة، وفي صورة خاصة للأفراد الذين يحضرون بين يدي الآن، ومن يستمعون إلي بعد ذلك عبر شريط الكاست، فأنا لا أخاطب هذه الألوف بين يدي فحسب، وإنما أخاطب ملايين الأمة في كل بقاع الأرض، وأسأل الله أن يوصل هذه الكلمة وأن يجعلها خالصة لوجهه، وأن لا يجعل فيها للشيطان ولا للنفس حظاً ولا نصيباً، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

ترك تضخيم العدو والتقليل من شأن الأمة

ترك تضخيم العدو والتقليل من شأن الأمة المعلم الثاني على طريق النجاة: أن لا تضخم الأمة من قوة عدوها، في الوقت الذي تقلل فيه من شأن طاقاتها وقدراتها وإمكاناتها، فالأمة ليست ضعيفة ولا فقيرة، لا من الناحية المادية، ولا من الناحية الفكرية، ولا من الناحية العلمية، بل إن عقول الأمة في بلاد الشرق والغرب هي التي تبدع هنالك يوم أن أوصدت الأبواب، وغلقت في وجوهها في بلاد المسلمين ولا حول ولا قوة إلا بالله. إن الأمة قوية وغنية، وليست ضعيفة ولا فقيرة، وليست مريضة ولا عاجزة، لكنها أصيبت بطائفة من المرجفين ممن يضخمون قوة أعدائنا، ويقللون دوماً من شأننا وقدراتنا وطاقاتنا وقواتنا، حتى أصيبت الأمة بأخطر هزيمة ألا وهي الهزيمة النفسية، والمهزوم نفسياً مشلول الفكر والحركة، فلنتخلص من هذه الهزيمة.

رفع راية الجهاد في سبيل الله

رفع راية الجهاد في سبيل الله ثالثاً: رفع راية الجهاد في سبيل الله، ووالله لو تبناها زعيم عربي واحد بعد صلحه مع الله، وتطبيقه في بلده لشرع الله وقال: يا خيل الله اركبي! حي على الجهاد! والله الذي لا إله غيره لانتقض الشرق الملحد، والغرب الكافر، وهم يحرصون كل الحرص على أن تغيب قضية الجهاد عن الساحة؛ لأنهم يعلمون أن راية الجهاد لو رفعت لرفرفت راية الإسلام على بقاع الأرض كما رفرفت من قبل على أيدي سلفنا الصالح رضوان الله عليهم جميعاً. وفي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وغيره من حديث ابن عمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا تبايعتم بالعينة، ورضيتم بالزرع، وتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد في سبيل الله؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم).

المقاطعة الشاملة للمنتجات اليهودية

المقاطعة الشاملة للمنتجات اليهودية المعلم الرابع: وهذا لك أنت أيها المسلم بعد أن تحول ما سمعت في حياتك إلى واقع عملي ومنهج حياة، فلا تستهن به ألا وهو المقاطعة الشاملة للمنتجات اليهودية والأمريكية. هل نعجز عن ذلك؟ إن المصيبة أن كل مسلم يقول: وما قيمة دوري أنا؟! وهل لو قاطعت أنا المنتج اليهودي والأمريكي سيتأثر الاقتصاد هنالك؟! وهل سينتعش الاقتصاد المحلي؟! دعك من هذا. وهكذا هذا يفرط في هذا، وهذا يضيع هذا الأمر، وتضيع المسئولية بين الأمة كلها، لهذه السلبية القاتلة التي تخيم الآن في سمائنا. يا أخي! أنت مسئول، فليحترق قلبك لهذه الأمة، افعل شيئاً تستطيع أن تفعله، دعك من هذه السلبية القاتلة، فوالله لن يسألك الله في حدود قدراتك وطاقاتك وإمكانياتك وإن قصرت فستسأل عن ذلك، ولا تستهينوا بهذا البند ووالله لو قاطع المسلمون البضائع اليهودية والأمريكية لاختلت الحركة والموازين تمام الاختلال. انظر إلى حجم الواردات اليهودية والأمريكية إلى بلاد المسلمين، لا تنظروا إلى مصر فحسب، بل إلى الأمة أجمع ما مقدارها؟ لو وقف المسلمون على قلب رجل واحد، بل أنا أقول لو بصق المسلمون في آن واحد لأغرقوا اليهود، والله لو بصقوا فقط لأغرقوهم بالبصاق، لكنه الذل والانهزام. لا تستهينوا بأن يقاطع كل مسلم منتجاً يهودياً أو منتجاً أمريكياً، ولنقف على قلب رجل واحد، ولنرى النتائج، والله جل وعلا لن يسألني إلا في حدود قدراتي وطاقاتي وإمكانياتي: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105].

الدعاء والتضرع إلى الله

الدعاء والتضرع إلى الله وأخيراً أيها الأحبة! لا تنسوا سهام الليل واعلموا يقيناً أن التوكل الحقيقي هو الأخذ بالأسباب وتعلق القلوب بمسبب الأسباب جل وعلا، فابذل ما استطعت وما تمكنت من أسباب، لكن لا تنسى سهام الليل، لا تنسى الدعاء، وأنا سأسألكم بالله سؤالاً: عشرات الآلاف بين يدي الآن من المسلمين هل كلنا يخص الأمة بدعوة في كل سجدة في صلاته؟! هل هذا الجمع بين يدي الآن يخص الأمة بدعوة في كل سجدة؟! هل تنسى نفسك؟! لا، لكنك نسيت أمتك، ونسيت إسلامك. إن قلة قليلة فحسب من الأمة ممن يحملون هم الأمة في قلوبهم، وهم الذين يتذللون ويتضرعون إلى الله في كل سجدة أن يرفع الله الذل والهم عن أمة الحبيب المصطفى. فلا تستهن بالدعاء ولا تيأس أبداً من روح الله، ووالله الذي لا إله غيره إن الله لقادر أن يقول للشيء (كن) فيكون. لو رأى الله منا الضعف، وإننا لم نعد نملك شيئاً نقدمه وأننا بذلنا كل ما في وسعنا لرأينا أمراً آخر، لكن لا زال كل مسلم يستطيع أن يقدم المزيد والمزيد، ولكنه التكاسل، والسلبية التي أسأل الله أن يرفعها عن أمتنا. وأخيراً أيها الأحبة! أذكر بقول الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36]، وأذكر بقول الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى كما في صحيح مسلم من حديث نافع بن عتبة: (أنه صلى الله عليه وسلم قال: -تدبر كلام النبي الصادق- تغزون جزيرة العرب فيفتحها الله، ثم تغزون بلاد فارس فيفتحها الله، ثم تغزون الروم فيفتحها الله، ثم تغزون الدجال فيفتحه الله)، والجولة القادمة بنص حديث نبوي هي غزو الروم، ذلك وعد لا يكذب، والله جل وعلا يهيئ الكون كله الآن لهذه المرحلة، بل ووالله إنها لقريبة وعلى الأبواب، يهيئ الله الأرض الآن للمهدي عليه السلام الذي سيقود الأمة كلها تحت ظلال الخلافة الراشدة، لتغزوا الأمة الروم، ولتفتح الأمة القسطنطينية بالتكبير لله الكبير جل وعلا، مصداقاً لقول البشير النذير الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم. وفي الحديث الصحيح الذي رواه مسلم من حديث ثوبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها)، أسأل الله جل وعلا أن يقر أعيننا بنصرة الإسلام، وعز الموحدين، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم مكن لدينك يا رب العالمين! اللهم عليك باليهود والأمريكان! اللهم عليك باليهود والأمريكان! اللهم عليك بكل من ناصب المسلمين والإسلام العداء يا رحيم يا رحمان! ربنا إننا مغلوبون فانتصر، ربنا إننا مغلوبون فانتصر، ربنا إننا مغلوبون فانتصر! اللهم إنا نشكو إليك خيانة الخائنين، اللهم إنا نشكو إليك خيانة الخائنين، وضعف الموحدين! اللهم ارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، واستر عيبنا، وفك أسرنا، واختم بالصالحات أعمالنا! اللهم تول خلاصنا، اللهم مكن لأمة نبيك المصطفى! اللهم انصر دينك وكتابك وعبادك المؤمنين! اللهم إنا نسألك أن تجعل بلدنا مصر واحة للأمن والأمان، وجميع بلاد المسلمين! اللهم ارفع عن مصر الغلاء والوباء والبلاء، وجميع بلاد المسلمين! اللهم ارفع عن مصر الفتن ما ظهر منها وما بطن، وجميع بلاد المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم لا تدع لأحد منا في هذا الجمع المبارك ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً بيننا إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا ميتاً لنا إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا تائباً إلا زدته وثبته، ولا حاجة هي لك رضاً ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا رب العالمين! اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا معنا شقياً ولا محروماً! اللهم اهدنا واهدِ بنا واجعلنا سبباً لمن اهتدى! اللهم اقبلنا وتقبل منا، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم! عباد الله! هذا وما كان من توفيق فمن الله، ومن كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه، ولا أنسى أن أذكر إخواني في هذا الجمع الكريم المبارك أن لا ينصرف أحد إلا وقد ساهم بما يستطيع لهذا المركز الإسلامي العامر، وأسأل الله أن يسدد ويوفق إخواننا القائمين عليه لما يحبه ويرضاه؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

العودة الصادقة إلى القرآن والسنة

العودة الصادقة إلى القرآن والسنة أيها الأحبة الكرام! ما هو طريق النجاة؟ إن المعلم الأول على طريق النجاة للأمة من هذا المأزق الحرج هو: العودة الصادقة إلى القرآن والسنة، وإحياء عقيدة الولاء والبراء؛ فإن الكفر ملة واحدة، والسؤال الذي ينبغي أن نطرحه الآن، وأن لا نسأم من تكراره هو: لماذا لم تحارب أمريكا التطرف اليهودي والصربي؟ و A لأن الكفر ملة واحدة، وتلك حقيقة قرآنية نبوية: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:109] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51]. قال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران:118]، وقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقّ} [الممتحنة:1]. الكفر ملة واحدة، وأنا أسأل وأقول: متى سنربي أنفسنا ونساءنا وبناتنا وأولادنا على عقيدة الولاء والبراء في شمولها وصفائها إن لم نترب على هذه العقيدة في هذه الأيام؟! متى ستزول حالة الغبش التي يحياها المسلمون إلا من رحم ربك؟! متى ستزول هذه الحالة إن لم تزل الآن بعد هذه العلامات الناصعة البينة الواضحة على إرهاب وكفر وحقد هذه الأنظمة؟! ومتى تكون العودة الصادقة إلى القرآن والسنة؟ إن العودة الصادقة إلى الكتاب والسنة ليست نافلة ولا تطوعاً ولا اختياراً، بل إنها شرط الإسلام وحد الإيمان: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، وقال سبحانه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36]، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات:1]، وقال سبحانه: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50]، وقال جل في علاه: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف:39]. فالعودة إلى القرآن والسنة ليست نافلة ولا اختياراً، بل إنها شرط الإسلام وحد الإيمان.

متى نصر الله؟

متى نصر الله؟ الإسلام هو العدو الأكبر لجميع ملل الكفر، ولذا فهم حريصون على حربه وحرب أتباعه، ولكن الله متم نوره ولو كره الكافرون، والإسلام قادم من جديد، فعلى المسلمين أن يهيئوا أنفسهم حتى يكونوا أهلاً لنصر الله، فيعملوا بأسباب النصر، ومن أعظمها: تحقيق الإيمان والتقوى، وإعداد ما يستطاع من قوة.

الإسلام هو العدو الأكبر لجميع الكفار

الإسلام هو العدو الأكبر لجميع الكفار إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة التي يطول -والله- شوقي دائماً إليها، وزكى الله هذه الأنفس الكريمة التي انصهرنا معها في بوتقة الحب في الله، وشرح الله هذه الصدور العامرة التي جمعنا وإياها كتاب الله، طبتم جميعاً -أيها الأخيار- وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله جل وعلا أن يجمعني وإياكم في هذه الدنيا دائماً وأبداً على طاعته، وفي الآخرة مع سيد الدعاة وإمام النبيين في جنته ومستقر رحمته؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! (متى نصر الله؟) هذا هو عنوان محاضرتنا هذه، في وقت تجمعت فيه كل جاهليات الأرض مرة أخرى للقضاء على الإسلام، واستئصال شأفة المسلمين، وتجمعت الأحزاب للكيد للإسلام، وللقضاء على المسلمين، وتفنن أعداء هذا الدين في عقد المؤامرات المنظورة بمسميات لا تنفق إلا على الغوغاء والرعاع، فآثرت أن يكون لقاؤنا هذا بعنوان: (متى نصر الله؟). وسوف ينتظم حديثي في العناصر التالية: أولاً: مقدمة لابد منها. ثانياً: ولمنهج الله حكم. ثالثاً: بالرغم من كل هذا فإن الإسلام قادم. وأخيراً: فلنكن على مستوى هذا الدين. فأعيروني القلوب والأسماع، فإن هذا اللقاء في هذه الظروف الحرجة من الأهمية بمكان. أولاً: مقدمة لابد منها: أيها الأحبة الكرام! يجب أن نعلم يقيناً أن الإسلام هو الخطر الماثل أمام الشرق الملحد والغرب الكافر، وما زال هذا الإسلام منذ أن بزغ فجره، وأشرق نوره على أرجاء الدنيا؛ مستهدفاً من قبل أعدائه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ مصداقاً لقول ربنا: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217]. وحتى لا أستطرد طويلاً مع كل عنصر من عناصر هذا اللقاء يكفي أن نقف بتأنٍ وتدبر وتفكر أمام هذه الكلمات الخطيرة للمنصر الصليبي الحقود لورنسد ورد إذا يقول هذا المنصر الصليبي الحقود: لقد كان قادتنا يخوفوننا بشعوب مختلفة، ثم تبين لنا بعد الانتظار والتجربة أنه لا داعي لهذه المخاوف، كانوا يخوفوننا بالشعب اليهودي، ويخوفوننا بالشعب الشيوعي، ثم تبين لنا بعد ذلك أن اليهود هم أصدقاؤنا، وأن الشيوعيين هم حلفاؤنا، وتبين لنا أن عدونا الأوحد هو الإسلام! ولذلك كانت أنشودتهم التي يتغنون بها طيلة السنوات الماضية في حربهم للإسلام والمسلمين تقول كلماتها: أنا ذاهب لسحق الأمة الملعونة! هذا ما يردده الجندي المشرك الكافر الذي يرضع من لبن أمه هذه العقيدة، وهذه المعاني، وتلك الأصول، ينطلق في حربه للإسلام والمسلمين وهو يتغنى بهذه الأنشودة الوقحة ويقول: أنا ذاهب لسحق الأمة الملعونة، ولأحارب الديانة الإسلامية، ولأمحو القرآن بكل قوتي! هذه هي أنشودتهم. أيها المسلمون! أيها الشباب! لازالت هذه المعاني الوقحة الخطيرة هي التي تحرك أعداء ديننا في حروبهم مع المسلمين، وفي ذبحهم للمسلمين ذبح الخراف في كل بقاع الدنيا، وما أحداث البوسنة منا ببعيد، وستعلمون أن هذه المعاني هي التي يتغنى بها الصربيون الكفرة الفجرة على مرأى ومسمع من الدنيا كلها في عالم يسمونه بالعالم المتحضر، أو المتنور، أو المتطور! لازال الجندي الصربي يتغنى بأنشودته التي رددت معانيها آنفاً، وإن اختلفت في كلماتها، يردد الصرب أنشودتهم التي تُسمى بإكليل الجبل، وتقول كلمات هذه الأنشودة: سلك المسلمون طريق الشيطان، دنسوا الأرض ملؤها رجساً، فلتعد للأرض خصوبتها، ولنطهرها من تلك الأوزار، ولنبصق على القرآن، ولنقطع رأس كل من يؤمن بدين الكلاب، ويتبع محمداً، وليذهب غير مأسوف عليه!

حرب الإسلام بأيدي منافقين يتظاهرون بالإسلام

حرب الإسلام بأيدي منافقين يتظاهرون بالإسلام بالرغم من ضراوة هذه الحرب المعلنة التي لن تنته إلى قيام الساعة كما قال عز وجل: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217]، بالرغم من ضراوة هذه الحرب الخطيرة المعلنة من أعدائنا الظاهرين الحقيقيين الواضحين فإنني أقول: إن مكمن الخطر يتمثل في أن تعلن الحرب على الإسلام والمسلمين على أيدي الكثيرين من أبنائه ممن يتكلمون بألسنتنا، ويتزيون بزينا، إن مكمن الخطر -بالرغم من ضراوة هذه الحرب المعلنة- يكمن في أن تعلن الحرب في كل زمان ومكان على أيدي الكثيرين من أبناء هذا الدين، ممن يتسمون بالمسلمين من بني جلدتنا، وممن يتكلمون بألسنتنا، وقد حذرنا الله شرهم، وحذرنا النبي شرهم، ووصفهم لنا وصفاً دقيقاً محكماً، ولكن يبدو أن الأمة تنسى أو تتناسى، ويبدو أن الأمة تغفل، ولا تجيد أن تفرق بين أعدائها الحقيقيين الذين يلبسون عباءة الإسلام في كل زمان وحين وبين الدعاة الصادقين والهداة المخلصين الذين تحترق قلوبهم كمداً وحزناً على أحوال الأمة، فينطلقون وهم يحملون أنفاسهم ونفوسهم على أكفهم، ويصرخون بالأمة أن ترجع إلى أصل علمها، ونبع شرفها، وأن تعلن الحرب، وأن تنابذ كل هذه المؤتمرات المشبوهة، وكل هذه المؤامرات الحاقدة، وأن تستيقظ الأمة لنفسها، وأن تحرص الأمة على دينها، وأن تعض الأمة بالنواجذ على دعوة الحبيب نبيها صلى الله عليه وآله وسلم.

صفات المنافقين

صفات المنافقين أصبحت الأمة لا تفرق بين هذا وبين ذاك، مع أن الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم قد وصف لنا هذا الصنف الخبيث وصفاً دقيقاً محكماً في حديث رواه البخاري ومسلم من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه وأرضاه، واسمع أيها الموحد لله إلى هذا الحديث، وأصغ لي سمعك، وأحضر لي قلبك، يقول حذيفة: (كان الناس يسألون رسول الله عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني فقلت: يا رسول الله! إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير -أي: بهذا الإسلام العظيم، وبهذا الدين الكريم- فهل بعد هذا الخير من شر؟ فقال الحبيب: نعم، فقال حذيفة: فهل بعد ذلك الشر من خير؟ فقال الحبيب: نعم، وفيه دخن -خير سيأتي بعد هذا الشر لكن فيه دخن- فقال حذيفة: وما دخنه يا رسول الله؟! فقال الحبيب: قوم يهتدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر، فقال حذيفة: فهل بعد هذا الخير -أي: الذي شابه هذا الدخن- من شر يا رسول الله؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها، فقال حذيفة: صفهم لنا -يا رسول الله- لنتقي شرهم) أي: لنتقي خطرهم، ولنعرف خبثهم، ولنعرف صفتهم؛ لأنهم قد يزينون لنا الكلام؛ فهم من ألطف الناس بياناً، ومن أفصح الناس كلاماً، ومن أعظم الناس أجساماً، ومن أحسن الناس بياناً، ومن أحسن الناس جمالاً، قال عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} [البقرة:204 - 205]، ولا يؤلمه إلا أن يتكاثر نسل المسلمين، لا يسعده أن يتكاثر نسل الضعفاء من الدول النامية على حد تعبيرهم وزعمهم، {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ} [البقرة:205 - 206] اتق الله! واعلم بأن الرزاق هو الله، اتق الله! واعلم بأن الملك كله لله. اتق الله! ولا تخش معونة أمريكية، ولا تخش معونة شرقية، واعلم بأن الذي يرزق الكلاب هو الله، أفيرزق الله الكلاب وينسى الموحدين؟!! اتق الله واعلم بأن الرزق والأمر بيد الله، واعلم بأن الملك كله لله، واعلم بأن الضر والنفع بيد الله، واعلم بأن الخافض الرافع هو الله، واعلم بأن القابض الباسط هو الله، واعلم بأن الكون كله لله، قال عز وجل: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ} [الأعراف:96]، فقال هذا الصنف: لا نصدق الله، بل نكذب الله، ونكذب رسول الله، ونصدق الشرق الملحد، ونصدق الغرب الكافر!! {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا} [الأعراف:96] أي: لو كانوا أهل إيمان بالله وتقوى لله، {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:96]، من الذي يفتح؟ هل الشرق الملحد أم الغرب الكافر؟! لا ورب الكعبة! فنريد إيماناً يملأ القلوب، ونريد يقيناً في كلام علام الغيوب. والله! إن القلب ليتقطع، وما من يوم يمر علي إلا وأجلس لأتابع وثيقة هذا المؤتمر، فيكاد قلبي أن ينخلع، يشرعون للدعارة، ويشرعون لسوء الأخلاق، ويريدون أن يحطموا الأسرة، ويريدون أن يلقوا الإسلام، ثم بعد ذلك يعلنون الحرب على الإرهاب والتطرف، وعلى كل من يحذر اليوم من مؤتمر السكان! هل هذا هو الحوار؟! وهل هذه هي الديمقراطية؟! وهل هذه الحرية؟! فليقرأ كل مسلم غيور هذه الوثيقة المشبوهة الداعرة؛ ليتعرف على خطورة الأمر، وعلى أن الأمر جلل، وعلى أن الأمر عظيم، وعلى أن الكارثة -والله- لا تبقي على الأخضر ولا على اليابس. فلابد أن نعي هذه الحقائق، لقد أخذ الله الميثاق على أهل العلم ألا يكتموه وأن يبينوه، ورب الكعبة! ما تعودت أن أثير العواطف، ولا أن أهيج المشاعر، ولكن سامحوني واعذروني؛ فإني كأي مسلم يخشى على دين الله، ويتحرق قلبه لدعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويتألم لأحوال أمته ولأحوال أهل ملته التي أسأل الله في عليائه وسمائه أن يحميها، وأن يحرسها، وأن يحفظ عليها توحيدها، وأن يحفظ عليها دينها، إنه ولي ذلك ومولاه، وهو على كل شيء قدير. أيها الأحبة الكرام! لابد أن تستقر هذه الحقائق في قلوبنا وعقولنا، فإن مكمن الخطر الحقيقي يكمن في أن تعلن الحرب على الإسلام من هذه العصبة التي تعلن الإسلام بلسانها، وتخفي العداء لهذا الدين بقلبها، قال عز وجل: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة:206]. قال حذيفة: صفهم لنا يا رسول الله! أي: حتى نحذر ونتقي شرهم، فقال الحبيب: (هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا) وفي لفظ مسلم: (قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس، فقال حذيفة: فما تأمرني إن أدركني ذلك يا رسول الله؟! قال: أن تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، قال: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: أن تعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك). هذا الصنف الخبيث الخطير جلس على أبواب جهنم يدعو الناس إليها بأقواله وأفعاله وتقاريره وتشريعاته من دون الله عز وجل، ومع هذا لبسوا ثياب أهل الإيمان وقلوبهم قلوب أهل الزيغ والخسران، فالظواهر ظواهر الأنصار، والبواطن قد تحيزت إلى المنافقين والفجار، وليس هذا حكماً منا على بواطن الناس؛ فإن الأمر لله جل وعلا، ولكننا نقول هذا من منطلق قول الله سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء:60 - 61]. إذاً: أيها الأحبة الكرام! لابد أن نعي أن مكمن الخطر يتمثل في جيش فكري أمين يناصر أعداء هذا الدين، ولا يفتأ أفراد هذا الجيش أن يعلنوا الحرب الهوجاء على الإسلام والمسلمين من آنٍ لآخر؛ فاحذروا هذا الصنف، واعلموا خطره، واسمعوا بآذانكم وقلوبكم إلى الدعاة الصادقين والهداة المخلصين الذين يدعون الناس إلى الجنة بأقوالهم وأفعالهم. أسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلنا منهم، بمنه وكرمه؛ إنه ولي ذلك ومولاه، وهو على كل شيء قدير.

منهج الله فيه حكم كل شيء

منهج الله فيه حكم كل شيء ثانياً: ولمنهج الله حكم. أيها المسلمون! لابد أن تعلموا جميعاً أنه ما من شاردة ولا واردة في قضية من القضايا أو مسألة من المسائل القديمة أو الحديثة إلا ولمنهج الله فيها حكم، ولمنهج الله عليها تصور، فقضية تحديد النسل لها حكم في منهج الله. وقضية الإجهاض لها حكم في منهج الله. وقضية العلاقات الزوجية لها حكم في منهج الله. وقضية العلاقات الشاذة بين الرجل والرجل باللواط وبين المرأة والمرأة بالسحاق، لها حكم واضح في منهج الله. وكذا قضية تعدد أشكال الأسرة، وما معنى تعدد أشكال الأسرة؟ يعني: شكل يكون بين زوج وزوجة، وشكل آخر يكون بين رجل ورجل، وشكل ثالث امرأة مع امرأة، فتعدد أشكال الأسرة، وتوفير الثقافة الجنسية للمراهقين من الشباب لحمايتهم من الوقوع في مرض نقص المناعة المعروف بالإيدز، كل هذا له حكم في منهج الله، ولمنهج الله تصور واضح لكل هذه القضايا. وعلاقة العبد بخالقه لها حكم في منهج الله. وعلاقة العبد بالناس لها حكم في منهج الله. وعلاقة الإنسان بأعدائه لها حكم في منهج الله. والمعاملات الاقتصادية لها حكم في منهج الله. والمعاملات السياسية لها حكم في منهج الله. والمعاملات السياسية في الحرب والسلم لها حكم في منهج الله. وما من قضية من القضايا أو مسألة من المسائل إلا ولها حكم في منهج الله، فهل يجوز لمسلم يؤمن بالله أن يقدم شرع البشر على شرع الله؟ A لا، بل يجب أن يعرض تشريع المؤتمرات على تشريع رب الأرض والسماوات. وما هو الذي يجب علينا أن نقدمه، وأن نعرض كل مؤتمرات الدنيا وكل تشريعات البشر عليه؟ الجواب: إنه تشريعنا وديننا، إنه قول ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، هذا هو الأصل، وذلكم هو الميزان الحساس الدقيق، وأهلاً ومرحباً بأي قانون يضعه الغرب شريطة أن يعرض هذا القانون على كتاب ربنا وعلى سنة نبينا، فإن أقر القرآن والسنة هذا القانون قبلناه، وإن اعترض القرآن والسنة عليه ورفضا هذا القانون رفضناه، وضربنا به عرض الحائض، ولو شرع هذا القانون البيت الأبيض أو الأحمر أو الأسود! وهذه قضية خطيرة، فنحن أمام حد الإسلام وشرط الإيمان، فيا مسلمون! هذه قضية خطيرة كبيرة، وأنتم أمام شرط الإسلام وحد الإيمان، بمعنى: إما إسلام بالإذعان لشرع الله، وإما كفر بالاعتراض على شرع الله، إما إيمان بالانقياد لحكم الله ورسوله وإما كفر بالاعتراض على حكم الله ورسوله، هذه قضية يقررها الله بنفسه، ويقسم عليها بذاته، فقال عز وجل: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65] وليس هذا فقط، بل يجب أن تحكم الله ورسوله، وأن تكون في غاية الحب والرضا عن الله وعن رسول الله وعن حكم الله وعن حكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، ويؤلم القلب المؤمن أن الفاتيكان ترفض كثيراً من بنود هذا المؤتمر، وترفض كثيراً من توصيات هذا المؤتمر، وترفض أن يشارك في المؤتمر الشاذون جنسياً، ويوجد خمسمائة شاذ يشاركون في المؤتمر! فهل نأخذ توصياتنا عن الشواذ؟! وهل نأخذ تشريعنا من الشواذ؟! وهل نأخذ قانوننا من الشواذ؟! وهل هذا يرضي الله أو يرضي رسول الله؟! ثم بعد ذلك تعلن الحرب الهوجاء على كل من حذر الأمة من هذا الخطر الدامغ والماحق لهذه الأمة، ويوصف بالإرهاب والتطرف! لا ورب الكعبة! بل إن الإرهاب والتطرف بعينه هو أن نأتي للأمة بهذا الخطر الماحق، وبهذا الخطر الدامس الدامغ، ثم بعد ذلك نقول: لا يجوز لأحد أن يحذر أو أن ينذر أو أن يذكر. فلا نريد شعارات، وإنما نريد عملاً وسلوكاً، ونريد واقعاً، لقد صرخت الأمة طيلة السنوات بالشعارات فماذا فعلت؟! وماذا صنعت؟! إن العالم كله الآن يتحرك برجولة، ويتحرك بجدية وبقوة، ولا زال المسلمون يتغنون؛ ولا يجيدون إلا لغة الشعارات والشجب والاستنكار، وتخرج علينا المجلات والصحف أمام كل كارثة، وأمام كل مصيبة بالخطوط العريضة: نشجب ونستنكر!! ما شاء الله! هذه هي لغتنا، أما العمل، وأما السلوك، وأما أن نقدم لدين الله شيئاً، فلا! إنا نريد أن نثبت للعالم كله أن الإسلام وأن محمداً -كما يقول اليهود- لم يخلف بنات، بل ترك رجالاً أطهاراً يعلمون حقيقة هذه الدنيا وحقيقة هذا الدين؛ فتتحرق قلوبهم كمداً وغيضاً، وتتحرك جوارحهم للعمل لهذا الدين، ويشهدون شهادة عملية لهذا الدين العظيم، ولهذا الإسلام الكريم. أقول أيها المسلمون الأحبة: ما من قضية إلا ولمنهج الله فيها حكم، نريد أن نعي هذه الحقيقة وهذه القضية الكبيرة ألا وهي: أنه لا يجوز لأحد إن كان مسلماً أن يقدم شرع المهازيل من البشر على شرع رب البشر وسيد البشر صلى الله عليه وآله وسلم، ومرفوض أي تشريع يصدر عن مؤتمرات أو برلمانات أو مجالس شعبية أو برلمانية أو هيئات أو منظمات أو بيوت بيضاء أو سوداء أو حمراء إن كان يخالف تشريع ربنا، ولا يجوز لمسلم على ظهر هذه الأرض أن يقبله، نقول ذلك بملء أفواهنا: لا يجوز لمسلم أن يفعل ذلك إلا إذا كان قد ترك إسلامه، وقد تخلى عن دينه، فله أن يفعل ذلك حينئذٍ، أما وهو يعلن أنه مسلم فلا يجوز له ألبتة أن يقدم تشريع المهازيل من البشر على تشريع رب البشر جل وعلا، قال عز وجل: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور:51 - 52]. إذاً: أيها الحبيب الكريم! منهج الله لابد أن يقدم، وتشريع الله لابد أن يقدم، يقول صاحب (الظلال): إن هذه الحياة البشرية من خلق الله، ولن تفتح مغاليق فطرتها إلا بمفاتيح من صنع الله، ولن تعالج أمراضها وعللها إلا بالدواء الذي يقدم إليها من يد الله، فرحم الله السيد قطب؛ فإنه يلخص المسألة في هذه الفقرات: إن الحياة البشرية من خلق الله، ولن تفتح مغاليق فطرتها إلا بمفاتيح من صنع الله، ولن تعالج أمراضها وعللها إلا بالدواء الذي يقدم لها من يد الله، قال عز وجل: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه:123 - 127]. وهذا هو أخطر عنصر من عناصر المحاضرة، ولا أريد أن أطيل فيه أكثر من هذا، ولكني أقول: منهج الله له حكم لكل مسألة، وله حكم لكل قضية، فيجب أن نعرض القضايا والمسائل على منهج الله ابتداءً، فإن أقرها منهج الله أقررناها وقبلناها، وإن رفضها منهج الله رفضناها وضربنا بها عرض الحائط، حتى ولو قالها أعلم أهل الأرض، ولو لم نخرج من هذه المحاضرة إلا بهذا العنصر لكفى. فتحديد النسل، والإجهاض -الإجهاض الآمن أو غير الآمن- والعلاقات الأسرية، والعلاقات الزوجية، والعلاقات الاجتماعية، والعلاقات الاقتصادية، والعلاقات السياسية، والعلاقات الحربية، والإعلام والتعليم، وكل صغيرة وكبيرة؛ منهج الله له حكم وله تصور لكل هذه القضايا، ولكل تلك المسائل، فيجب علينا -نحن المسلمين- أن نحكم منهج الله وشرعه في كل قضية وفي كل مسألة، بل وفي كل جزئية، يقول الله عز وجل: {طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [طه:1 - 3]، يقول السيد قطب رحمه الله تعالى: يا محمد! ما أنزل الله عليك هذا القرآن لتشقى بأوامره، أو لتشقى بنواهيه، أو لتشقى بتكاليفه، أو لتشقى به أمتك من بعدك، بل ما أنزل الله عليك هذا القرآن إلا لتقيم به أمة، وإلا لتنشئ به دولة، وإلا لتربي به العقول والقلوب والضمائر والأخلاق، وواجب على الأمة أن تعود إلى هذا القرآن، يقول: والعودة إلى القرآن ليست نافلة ولا تطوعاً ولا اختياراً، إنما الإيمان أو لا إيمان، {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65].

الإسلام قادم

الإسلام قادم الثالث: من عناصر المحاضرة: الإسلام قادم، بالرغم من كل هذا أيها الأحبة! فإني بكل ثقة وبكل يقين أزف إليكم البشرى بأن الإسلام قادم، فهل تصدقون الله؟ وهل تصدقون رسول الله؟ اسمع إلى الله واسمع إلى رسوله لتعلم يقيناً حتى لا تهب عليك ذرة ريح من رياح القنوط واليأس؛ لتعلم أن الإسلام وإن طال ليله فهو قادم كقدوم الليل والنهار، وأن أهل الأرض ولو اجتمعوا ومهما وضعوا في طريق الإسلام من الحديد والنيران فإن الإسلام دين الله الذي تكفل بنصرته، وهو الذي يقول للشيء: كن فيكون. فلا تخشوا على الإسلام أبداً، ولا تخافوا على الإسلام أبداً، فإن الإسلام دين الله، وهل تستطيع قوة على ظهر هذه الأرض أن تعلن الحرب على الله؟! A أبداً والله! فاسمع إلى الله عز وجل لتستبشر، وليمتلأ قلبك يقيناً بأن الإسلام قادم، فأمة الإسلام قد تمرض، وقد تعتريها فترات من الركود، وربما الركود الطويل، ولكنها بفضل الله لا تموت، ولن تموت بإذن الله جل وعلا، وإن أشد ساعات الليل سواداً هي الساعة التي يليها ضوء الفجر، وفجر الإسلام قادم بإذن الله عز وجل. وإن الذي يفصل في الأمر في نهاية المطاف ليس ضخامة الباطل، وإنما الذي يفصل في الأمر في نهاية المطاف هو قوة الحق، ولا شك على الإطلاق أن معنا الحق الذي من أجله خلقت السماء، وخلقت الجنة والنار، وأنزلت الكتب، وأرسلت الرسل، معنا رصيد فطرة الكون، ومعنا رصيد فطرة الإنسان، وقبل كل ذلك وبعد كل ذلك معنا الله، ويا لها والله! من معية كريمة مباركة! يقول الله عز وجل: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21]. فاسمع إلى الله سبحانه وتعالى، يقول عز وجل: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:39 - 40]. واسمع إلى الله جل وعلا وهو يقول: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55]. واسمع إلى الله جل وعلا وهو يقول: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36]. فهم ينفقون على مؤتمرات، وعلى مؤامرات، ويعملون دعايات، ولكن: {فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال:36]، نعم يغلبون، {ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36]، لتتم هنالك حسرتهم الكبرى في جهنم والعياذ بالله! أيها المسلم! كم أنفق من مليارات لتنصير المسلمين؟! وكم أنفق من مليارات لتحطيم صرح الأسرة وهدم كيانها بالمسلسلات الفاجرة والأفلام الداعرة والقصص الخليعة الماجنة؟! وكم أنفق من مليارات على أندية الأنترنت العالمية؟! وكم أنفق من مليارات على أندية الماسونية العالمية؟! وكم أنفق من مليارات للقضاء على طلائع الجهاد الأبية؟! وكم أنفق من مليارات لإخراج المسلمين عن دينهم بالجملة؟! ولكن ما هي النتيجة؟!! ينبئك عنها اللطيف الخبير: {فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} [الأنفال:36]، وورب الكعبة! إنهم الآن يتحسرون، فبعد كل هذه السنوات من الغزو الفكري من غسيل المخ ومن المؤامرات والضربات والهجمات يرون هذه النبتة الطيبة، ويرون هذه الصحوة العملاقة التي جعلتهم في ذهول، وجعلتهم الآن يرقصون رقصة الموت.

يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم

يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم أيها المسلمون! اعلموا أن الذي يغرس لهذا الدين إنما هو الله، واسمع إلى هذه البشارة القرآنية لأختم بها، اسمع إلى الله جل وعلا وهو يقول في سورة الصف: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} [الصف:8]، يريدون ليطفئوا نور الله بمؤتمراتهم، فهم يريدون ليطفئوا نور الله بإعلامهم، يريدون ليطفئوا نور الله بمجلاتهم، يريدون ليطفئوا نور الله بكلامهم، ولكن كلا! قال عز وجل: {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:8 - 9] فالقائل هو الله رب العالمين، فهل تستطيع جميع الأفواه ولو اجتمعت أن تطفئ نور الله؟! وهل يستطيع ذلكم الدخان الكثيف الأسود المتصاعد تباعاً من أوعية الذل والحقد والحسد في صدور أعدائنا أن يحجب نور الله عز وجل؟! وهل يضر السماء نبح الكلاب؟! وهل تستطيع جميع الطحالب الحقيرة الفقيرة ولو اجتمعت على سطح الماء أن توقف سير البواخر الكبيرة العملاقة؟! A كلا! قال عز وجل: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح:28].

بشائر نبوية بالنصر والتمكين

بشائر نبوية بالنصر والتمكين اسمعوا هذه البشائر النبوية: روى الإمام أحمد في مسنده والحاكم في المستدرك، وصحح الحاكم الحديث على شرط الشيخين، وتعقبه الإمام الألباني فقال: بل هو صحيح على شرط مسلم، من حديث تميم الداري أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر). وفي الحديث الذي رواه أحمد في مسنده، وصححه الحافظ العراقي من حديث حذيفة من اليمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً، فتكون فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرياً -وها نحن الآن نعيش هذه المرحلة- فتكون فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة)، اللهم عجل بها يا رب العالمين! وأقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم آمين. وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد أيضاً في مسنده، والحاكم في المستدرك، وابن أبي شيبة في مصنفه، وصحح الحديث الشيخ الألباني من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: (كنا نكتب حول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فسأله سائل وقال: يا رسول الله! أي المدينتين تفتح أولاً القسطنطينية أم روما؟ فقال الحبيب الصادق المصدوق: مدينة هرقل تفتح أولاً) ومدينة هرقل هي القسطنطينية، وقد فتحت بعد البشارة النبوية بثمانية قرون، وليس بثمان سنين، فتحت على يد البطل الشاب محمد الفاتح، أسأل الله أن يفتح على الأمة بفاتح، فتحت على يد هذا البطل بعد ثمانية قرون تقريباً من بشارة رسول الله، ويبقى الشطر الآخر في البشارة، وعد لا يكذب إن شاء الله، اللهم عجِّل به، آمين يا رب العالمين! وأختم البشائر النبوية بهذه البشارة الكريمة: في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون) هذا كلام الصادق ونحن نعتقده تماماً، (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر، فينطق الله الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم! يا عبد الله!) وليس كما قال واحد مخرف ومحرف: الحجر يقول: يا عربي! وليس معنى هذا أنني أنكر العروبة، كلا! وإنما أقول: ينبغي أن تكون الآصرة هي آصرة الإسلام، وأن تكون الوشيجة هي وشيجة الإيمان، كما قال الشاعر: أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم (ينطق الله الحجر والشجر ويقول: يا مسلم! يا عبد الله! ورائي يهودي تعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود). وستعجبون إذا علمتم أن اليهود يقومون بحملة واسعة لزراعة شجر الغرقد؛ لأنهم يصدقون رسولكم صلى الله عليه وآله وسلم، بل أعجب من ذلك أيها المسلم! إذا علمت أن رسولك قد حدد أرض المعركة، فالصادق صلى الله عليه وسلم حدد أرض المعركة قبل غزوه بدر، والحديث في صحيح البخاري، أخذ النبي عليه الصلاة والسلام عصاه وقال: (هنا مصرع فلان بن فلان، وهنا مصرع فلان بن فلان، وهنا مصرع فلان بن فلان، يقول عبد الله بن مسعود: فوالذي نفسي بيده ما أخطئوا الأماكن التي حددها رسول الله) فالمكان هو المكان؛ لأن الذي يبلغ هو سيد ولد عدنان عن الرحيم الرحمن، قال عز وجل: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:1 - 5]، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم. حدد النبي أرض المعركة كما في رواية البزار ورجالها رجال الصحيح قال الحبيب: (أنتم - يا مسلمون! شرقي الأردن وهم غربيه) ولم تكن هناك يومها دولة تعرف بالأردن على الإطلاق، لم تكن دولة اسمها الأردن، وإنما كان اسمها بلاد الشام، والنبي سمى الدولة بالضبط: (أنتم شرقي الأردن، وهم غربيه) فهذا وعد الله، وهذا وعد الصادق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وجوب التمسك بالدين لنكون أهلا لنصر الله

وجوب التمسك بالدين لنكون أهلاً لنصر الله وأختم في عجالة وأقول: وأخيراً فلنكن على مستوى هذا الدين، لأجيب على سؤال عنوان المحاضرة: متى نصر الله؟ وأقول كما قال عز وجل: {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214]، بشرط أن نكون على مستوى هذا الدين، وأن ننبذ هذا الخلاف، وهذه العصبية والفرقة؛ كفاية فرقة، ألا يوجد مصيبة تجمعنا أبداً؟ كل هذا يحصل على الأمة وما زلنا متفرقين! ولا زال كل طرف يتغنى بجماعته! فنريد أن نلتقي على قلب رجل واحد، ونريد أن ننبذ هذه الفرقة وهذا الخلاف، وليقترب كل أخ من أخيه، وليصحح له الخطأ بحب ورحمة وحكمة وتواضع. إلى متى سنظل على هذه الفرقة يا إخواني؟! إلى متى سنظل على هذا الخلاف؟ وإلى متى سنظل على هذه الأواصر وعلى هذه الموالاة وعلى هذه المعاداة؟ إن لم تكن في جماعتي فأعاديك وإلا أواليك! هذا لا يرضي الله عز وجل ولا يرضي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فلتلتقي القلوب على قلب رجل واحد، وليصحح كل أخ لأخيه خطأه بالحكمة والرحمة والمحبة والتواضع. فقد اتفق الشرق والغرب على القضاء على الإسلام واستئصال شأفة المسلمين، ولا زال خير الأمة من العلماء والدعاة وطلبة العلم متفرقين! هذا لا يرضي رب العالمين، ولا سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم. فلنكن على مستوى هذا الدين، فلننبذ العصبية والفرقة والخلاف، ولتمتلئ قلوبنا بالحب في الله لإخواننا وأحبابنا، وليقترب كل أخ من أخيه؛ فإن رأيت أخاك على خطأ عقدي -وما ظنك إذا كان أخوك على خطأ حركي- فاقترب منه، وذب معه في بوتقة الحب في الله، وقل له: يا حبيبي في الله! هذا خطأ، وليرى أخوك منك الرحمة والحب والحكمة والتواضع، وأنا أعي يقيناً أنه إن رأى منك ذلك فسيذلل الله قلبه للحق الذي أجراه الله على لسانك. فلننبذ الفرقة والسلبية، ولنكن إيجابيين، وليبذل كل واحد منا عملاً لدين الله؛ فلا نريد كلاماً، بل نريد عملاً، ففكر كيف تخدم الدين؟ ولا نريدكم -يا إخواني- كلكم أن تكونوا دعاة على المنابر، ولا نريد أن تتحول الأمة كلها دعاة على المنابر، كلا! وإنما نريد أن تتحول الأمة كلها دعاة إلى دين الله من موقع الإنتاج، ومواطن العطاء، وأنا أحزن جداً لما يجيء إلي أخ فيه الخير ويقول لي: أنا أريد أن أترك كلية الطب، أو كلية الهندسة! فأقول له: لماذا؟ فيقول: أريد أن أتفرغ للعلم الشرعي! وأقول: يا إخواني! نريد أن نعد الكوادر الإسلامية المتخصصة في كل مناحي الحياة، وكل شئون الدنيا؛ لتسيير نظام الحياة من خلال منظور الإسلام، فمن الذي سيسير دفة الحياة من منظور إسلامي إلا مسلم متخصص في تخصصه، ويعرف دين ربه وسنة نبيه. وانظر معي -أيها الشاب- نظرة سريعة حتى تطمئن لكلامي، انظر نظرة سريعة إلى الدعاة المؤثرين الآن في الساحة؛ لتعلم يقيناً أن دراستهم التي وفقوا فيها ووصلوا بها إلى أرقى الدرجات لم تكن أبداً دراسة شرعية، وستجد أن هذا خريج طب، وهذا خريج هندسة، وهذا خريج إعلام، وهذا خريج كذا، وهذا خريج كذا، وسبحان الله! أحدهم لم تمنعه دراسته من أن يصرف وقتاً ليحصل فيه العلم الشرعي، وليتحرك لدين الله، ولدعوة الله عز وجل. يا أيها الحبيب! أخلص في عملك، واجتهد في تخصصك، وفكر كيف تخدم دينك من هذا الموقع؛ فنحن نريد الطبيب المسلم، والمهندس المسلم، والفلكي المسلم، والطيار المسلم، والوزير المسلم، والدبلوماسي المسلم، والجيولوجي المسلم، والمدرس المسلم، والتاجر المسلم، ونريد الكوادر المسلمة الواعية الفاهمة لدين الله، التي تقف في مواقع إنتاجها ومواطن عطائها لتقول بسلوكها وفعلها وعملها: هذا هو الإسلام؛ لأننا الآن نعيش عصراً أصبح يُحكَم فيه على الإسلام من خلال واقع المسلمين المر الأليم. وأخيراً: فلنتحرك جميعاً لدعوة الله، ولدين الله، بكل جهد وبكل طاقة، وبسلاح من الخلق العلي، والحكمة البالغة، والكلمة الطيبة، لا نريد إلا هذا، ولنتذكر دائماً قول الله لنبيه: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران:159]. اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا، اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، اللهم إن أردت بالناس فتنة فاقبضنا إليك غير خزايا ولا مفتونين، اللهم إن أردت بالناس فتنة فاقبضنا إليك غير خزايا ولا مفتونين، ولا مفرطين ولا مضيعين برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم ارفع عن مصر الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم ارفع عن مصر الوباء، اللهم اجعل مصر واحة للأمن والأمان، اللهم اجعل مصر واحة للرخاء والاستقرار، اللهم ارفع عن مصر الغلاء، اللهم ارفع عن مصر الوباء، اللهم ارفع عن مصر البلاء، اللهم احفظ على مصر توحيدها، اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين. اللهم لا تدع لأحد منا ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا أديته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا طائعاً إلا ثبته، ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ويسرتها يا رب العالمين! أحبتي في الله! هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني أنا ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.

مع أعظم داعية [1]

مع أعظم داعية [1] كان العالم يتخبط في ظلمات الجاهلية وخرافات الوثنية، فبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين ونوراً وهدى للناس، لكن الجاهلية الغاشمة لم تفقه ما أريد لها، فقام كفار مكة في وجهه، فآذوه ومن أسلم معه واضطهدوهم واضطروهم للخروج من مكة، والبحث عن بلاد آمنة للدعوة إلى الله. وكان ما نزل بالنبي صلى الله عليه وسلم من الأذى والابتلاء أمراً عظيماً، يسلي الدعاة من بعده، ويحملهم على تحمل الأذى والمشاق في سبيل الله، والاضطلاع بأمور الدعوة مع التحلي بالصبر والجلد والاستمرار.

مقدمات الدعوة وبدء الوحي

مقدمات الدعوة وبدء الوحي الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً، ولم يكن له شريك في الملك، وما كان معه من إله، الذي لا إله إلا هو، فلا خالق غيره، ولا رب سواه، المستحق لجميع أنواع العبادة، ولذا قضى ألا نعبد إلا إياه، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62]. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وعبد ربه حتى لبى داعيه، وجاهد في سبيل ربه حتى أجاب مناديه، وعاش طوال أيامه ولياليه يمشي على شوك الأسى، ويخطو على جمر الكيد والعنت، يلتمس الطريق لهداية الضالين، وإرشاد الحائرين، حتى علم الجاهل، وقوم المعوج، وأمن الخائف، وطمأن القلق، ونشر أضواء الحق والخير والإيمان والتوحيد، كما تنشر الشمس ضياءها في رابعة النهار، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فمع اللقاء الثاني عشر من خواطر الدعوة إلى الله عز وجل، ونحن اليوم على موعد لإجمال ما فصلناه في اللقاءات الطويلة الماضية، وذلك بتقديم صورة عملية مشرقة للدعوة إلى الله عز وجل، لأعظم داعية عرفته الدنيا، لإمام النبيين، وسيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم، فهو قدوتنا، وأسوتنا، وإمامنا، وأستاذنا، ومعلمنا، ولم تكن دعوته ولن تكون ماضياً يحاول أعداؤنا في الليل والنهار أن يقطعوا الصلة بيننا وبينه، كلا، إن دعوته شعلة توقد شموس الحياة، ودماء تتدفق في عروق المستقبل والأجيال. أحبتي في الله! لقد نشأ أعظم داعية -صلى الله عليه وسلم- في بيئة شركية، تصنع الحجارة بيديها، وتسجد لها من دون الله جل وعلا، فاحتقر هذه الأصنام، وأشفق على أصحاب هذه العقول، فهاهو يرى الواحد منهم ينحت إلهه الذي يعبده بيديه من حجر أو خشب أو نحاس أو حديد، أو حتى من التمر إذا اضطر إلى ذلك، فإذا ما عبث الجوع ببطنه قام يدس هذا الإله الرخيص في جوفه؛ ليذهب به أذى هذا الجوع بيئة عجيبة! فترك النبي صلى الله عليه وسلم هذه البيئة الشركية، واختار العزلة بعيداً في غار حراء، على قمة جبل النور بمكة المكرمة شرفها الله وزادها تشريفاً، خرج النبي صلى الله عليه وسلم بعيداً عن أصنام مكة، وبعيداً عن سدنتها وكهانها، وذهب بعيداً إلى هذا الجبل، الذي يستغرق الصعود إليه ساعة أو أكثر، يخلو بنفسه ليقضي النهار في التأمل والتفكر والتدبر، ويقضي الليل في التبتل والتعبد والتضرع. وفي ليلة من هذه الليالي الكريمة المباركة يتنزل الوحي على قلب محمد صلى الله عليه وسلم كتنزل حبات الندى على الزهرة الظمأى ليبشر النبي صلى الله عليه وسلم بحياة جديدة، بل ويبشر البشرية كلها بحياة جديدة، هاهي النبوة ترفع أعلامها، وهاهي النبوة تدق ناقوسها، وتقول: أنت يا محمد نبي الله لهذه البشرية كلها، ويأتيه الملك كما في الحديث الذي رواه البخاري، في كتاب بدء الوحي من حديث عائشة: (يأتيه الملك ويقول له: اقرأ، فيقول: ما أنا بقارئ -أي: أنا رجل أمي لا أتقن القراءة ولا أحسن الكتابة- يقول صلى الله عليه وسلم: فأخذني وغطني -أي: ضمني ضمة شديدة- حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطي الثالثة ثم أرسلني وقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} [العلق:1 - 3]). فرجع النبي صلى الله عليه وسلم بها يرجف فؤاده، وترتعد فرائصه وتضطرب جوارحه، رجع إلى من؟ رجع إلى القلب الحنون، رجع إلى العقل الكبير، رجع إلى أمنا خديجة رضي الله عنها وهو يقول لها: (يا خديجة والله لقد خشيت على نفسي، قالت: كلا، والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الدهر) وانطلقت به صلى الله عليه وسلم إلى ابن عمها ورقة بن نوفل وكان رجلاً قد تنصر، وكان يكتب الكتاب العبراني، وكان شيخاً كبيراً قد عمي، فقالت: (يا ابن عمي! اسمع من ابن أخيك، فقال ورقة: ماذا ترى يا ابن أخي؟ فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بما رأى، فقال ورقة: هذا والله الناموس الذي نزل الله على موسى، يا محمد! والله إنك لنبي هذه الأمة، ليتني كنت فيها جذعاً -أي: شاباً صغيراً- لأنصرك ولأحميك ولأدفع عنك، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أومخرجي هم؟ قال: نعم، لم يأت رجل بمثل ما جئت به إلا أوذي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً)، وما لبث أن توفي ورقة، وفتر الوحي، أي: انقطع فترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصيب رسول الله عليه الصلاة والسلام بالحيرة، ما هذا الذي جرى؟ ما هي رسالته؟ ما هو دوره؟ ما هي وظيفته؟ يقول عليه الصلاة والسلام كما في حديث جابر الذي رواه البخاري ومسلم (بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتاً في السماء يقول: يا محمد! يا محمد! فرفعت رأسي فإذا بالملك الذي جاءني بحراء قاعد على كرسي بين السماء والأرض، يقول عليه الصلاة والسلام: فرعبت منه -وفي رواية مسلم: فجئثت منه حتى هويت إلى الأرض، ورجعت إلى أهلي وأنا أقول: زملوني زملوني، يقول عليه الصلاة والسلام: فدثروني -أي: وضعوا عليه الأغطية- وإذا بالأمر يتنزل على قلب الحبيب من الله جل وعلا لينادي عليه ربه بهذه الآيات ويقول: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر:1 - 5]). قم يا محمد! وأزل عنك هذه الأغطية، وأزل عنك هذه الفرش، فما كان بالأمس حلماً جميلاً أصبح اليوم حملاً ثقيلاً، قم يا محمد! للعبء الثقيل الذي ينتظرك، قم يا محمد! للأمانة الكبرى التي أبت السماوات والأرض والجبال أن يحملنها، قم يا محمد! لعبء العقيدة لعبء الدعوة إلى الله لتزيح عن هذه البشرية وعن هذا الوجه الكالح هذا الشرك وهذا الكفر العتيد العنيد، قم يا محمد! لترفع راية لا إله إلا الله، لإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة. فنهض محمد وقام، وظل قائماً بعدها أكثر من عشرين عاماً، لم يقعد، ولم يكسل، ولم يجلس، ولم يسترح، ولم يعش لنفسه ولا لأهله قط، وإنما عاش لله، وعاش لدين الله، وعاش لدعوة الله، وعاش للا إله إلا الله، وعاش من أجل هذه البشرية المنكوبة تحت سياط الشرك والكفر، قام وظل قائماً. {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر:1 - 3]، كبر الكبير المتعال الذي هو أكبر من كل شيء، هو أكبر من السماوات، وأكبر من الأرض، وأكبر من هؤلاء الطواغيت والفجار. {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر:3 - 5]، أي: اهجر هذه الأصنام وهذه التماثيل التي لا تضر ولا تنفع، ولا تسمع ولا تبصر، ولا تغني عن نفسها شيئاً.

مرحلة الدعوة السرية

مرحلة الدعوة السرية وبدأت المرحلة الأولى من مراحل الدعوة لدين الله جل وعلا، في تكتم شديد وسرية كاملة، نعم! إن الأمر جد خطير، إن للأصنام جيوشاً تتلمظ وتستعد لنحر كل من يعتدي عليها، ما بالك بأقوام يعتدي بعضهم على بعض ويقتل بعضهم بعضاً على ناقة، فما ظنك بما سيفعلونه من أجل آلهة ينحرون لها آلاف النياق لترضى عنهم بزعمهم! فلابد من التكتم، ولابد من السرية في هذه الآونة. وانطلق النبي عليه الصلاة والسلام بدعوة في سراديب من التكتم والسرية؛ ليبذر وليغرس جذور التوحيد في باطن الأرض في القلوب، لتؤدي ثمارها وأكلها بعد حين بإذن ربها، إذا ما خرجت على سطح الأرض قوية يافعة لا تستطيع قوة على ظهر الأرض أن تجتثها أو أن تقتلعها؛ لأن الجذر الذي في باطن الأرض غرسه أعظم داعية بيديه صلى الله عليه وسلم، غرس النبي صلى الله عليه وسلم العقيدة الصحيحة الخالصة في القلوب، وينبغي على كل داعية أن يبدأ بما بدأ به حبيب القلوب محمد صلى الله عليه وسلم، لابد من عودة إلى العقيدة؛ لزرع جذورها في القلوب زرعاً صحيحاً أكيداً قوياً لا تزعزعه الرياح، ولا تؤثر عليه الأهواء والشبهات. فأسلمت خديجة، وأسلم أبو بكر، وعلي، وزيد بن حارثة، وعثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وبلال، وأبو ذر، وأبو عبيدة، وسمية، وعمار، وياسر وغيرهم من السابقين الأولين، رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين.

الجهر بالدعوة

الجهر بالدعوة واستمرت المرحلة السرية في الدعوة إلى الله ثلاث سنوات، كان صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله جل وعلا تحت السراديب، يدعو إلى الله جل وعلا تحت باطن الأرض لا على ظهرها، حتى نزل الأمر من الله جل وعلا ثانية يأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعلن دعوته وأن يجهر بها، يقول ابن مسعود رضي الله عنه: (ما زال النبي صلى الله عليه وسلم مستخفياً حتى نزل قول الله جل وعلا: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر:94]، يقول ابن مسعود: فخرج النبي صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه). {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر:94]، تبدأ من هنا المرحلة الثانية من مراحل الدعوة إلى الله جل وعلا، ألا وهي المرحلة العلنية أو الجهرية، ونزل قول الله تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:214 - 215]، فصعد النبي صلى الله عليه وسلم على جبل الصفا بمكة المكرمة، والحديث رواه البخاري وغيره: (صعد على الصفا ونادى على بطون قريش يا بني عدي! يا بني فهر! -وفي رواية-: وضع أصبعيه في أذنيه وظل يصرخ بأعلى صوته، واصباحاه واصباحاه! فاجتمع إليه الناس، واجتمعت إليه بطون قريش، حتى إن الرجل الذي عجز عن أن يذهب بنفسه وكل رسولاً يذهب عنه ليخبره ما الخبر، ووقف الناس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم -فأقام عليهم الحجة ابتداءً- وقال: (أرأيتم لو أني أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك كذباً قط، فقال صلى الله عليه وسلم: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد)، وفي رواية في الصحيح: إنما أنا النذير العريان، أي: الذي لم يمهله الوقت ليرتدي ثيابه، فجاء عرياناً لينذر قومه من النار. وكان أول من رد عليه عمه أبو لهب نظر إليه نظرة يتطاير منها الشرر الذي قتله وأحرقه بعد ذلك وقال له: (تباً لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟!)، أي: أجمعتنا من أجل هذا الكذب ومن أجل هذا الهراء؟! أنت رسول الله إلينا؟! أنت نذير إلينا من عند الله جل وعلا؟! ألهذا جمعتنا؟! فنزل قول الله جل وعلا: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} [المسد:1 - 5]، يقتص الله جل وعلا فورياً لحبيبه ورسوله صلى الله عليه وسلم. وهنا كأن صاعقة برقت ورعدت وزلزلت أرجاء مكة، وبدأت طبول الحرب تدق بأعلى قوة على محمد صلى الله عليه وسلم، لماذا؟ ما جاء يطلب مالاً، ولا يطلب جاهاً، ولا يريد سلطاناً، ولا يريد ملكاً، وإنما جاء بخيري الدنيا والآخرة، جاء ليخرجكم من ظلمات الشرك والكفر والإلحاد إلى أنوار التوحيد والإيمان، وهكذا كل من يدعو إلى الله يصنع به ذلك. نعم، إنها سنة قديمة حديثة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ} [المطففين:29 - 32].

بداية المرحلة المكية وإيذاء المشركين للدعوة

بداية المرحلة المكية وإيذاء المشركين للدعوة وتفنن أهل مكة في إيذاء الحبيب، وسبحان الله! لم يمض على الجهر بالدعوة إلا أشهر معدودة وإذ بموسم الحج يقترب، والعرب كانوا يحجون البيت قبل الإسلام وهم على الشرك، وكانوا يقدسون البيت تقديساً عجيباً. واجتمع المشركون في مكة وخافوا على العرب من دعوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإن كلامه يسري إلى القلوب كسريان الماء بين الشقوق، وكسريان الدماء بين العروق، فاتفقوا على كلمة حتى لا يكذب بعضهم بعضاً، واتفقوا جميعاً على قولة المتكبر المعاند الذي عرف الحق وتكبر عليه وأعرض عنه، وهي مقولة الوليد بن المغيرة، الذي فكر في الأمر وقلبه من جميع جوانبه، {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ} [المدثر:18 - 22]-كشر- {ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} [المدثر:23 - 24]، إن الذي جاء به محمد سحر يفرق بين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وأبيه، وبين المرء وقبيلته وعشيرته، وانفضوا جميعاً وقد اتفقوا على أن يقولوا: إن محمداً ساحر، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم. حتى أقبلت الوفود، فقام النبي عليه الصلاة والسلام يدعوهم إلى لا إله إلا الله، وأبو لهب يمشي خلفه ويقول: لا تصدقوه فإنه صابئ كذاب! اتهموه بالجنون ونادوا عليه وقالوا: يا مجنون! {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر:6]، {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [ص:4]. وازداد الأمر سوءاً، واشتد البلاء والاضطهاد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إن امرأة تتطاول على صاحب المقام العالي صلى الله عليه وسلم، وتذهب هذه المرأة التي داست على أنوثتها وتطاولت بل وفاقت المشركين شراسة ووقاحة، إنها أم جميل التي تمزق قلبها من الحسرة على ما سمعت من القرآن الذي تلي في حقها وزوجها، وأخذت الحجارة في يديها، وذهبت إلى رسول الله حول بيت الله لتلقي بالحجارة على رأسه وعلى فمه، وذهبت إليه وهو جالس مع صاحبه أبي بكر رضي الله عنه وقالت: يا أبا بكر أين صاحبك؟ -لقد أخذ الله بصرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقد بلغني أنه يهجوني، ووالله إني لشاعرة، ثم قالت: والله لو وجدته لرميت فاه بهذا الفهر -أي: بهذه الحجارة-، ثم أنشدت وقالت: مذمم عصينا -أي: محمد عصينا-. ودينه قلينا. وأمره أبينا. وفتحت هذه المرأة الشريرة الباب للمشركين أن يتطاولوا، وأن يصبوا العذاب صباً على أشرف رأس وأطهر رأس وأعظم بدن دب على ظهر هذه الأرض. وروى البخاري من حديث عبد الله بن مسعود: (جلس أبو جهل وأصحابه من حوله، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند الكعبة، فقال أبو جهل عليه لعنة الله: من يقوم منكم إلى سلا جزور بني فلان فيلقيه على ظهر محمد وهو ساجد، فانبعث أشقى القوم عقبة بن أبي معيط، وجاء بسلا الجزور النجس وانتظر حتى سجد الحبيب صلى الله عليه وسلم وألقاه على ظهره وعلى رأسه، وظل النبي صلى الله عليه وسلم ساجداً لا يرفع رأسه)، أتلقى النجاسة على رأس رسول الله؟! نعم، وظل الحبيب صلى الله عليه وسلم ساجداً لا يرفع رأسه (حتى جاءت إليه ابنته فرفعت الأذى عن أبيها)، ابنة تنظر إلى أبيها على أنه أعظم الرجال، هاهي تدفع الأذى والنجاسة بيديها عن رأسه وعن ظهره الشريف، ويرفع النبي صلى الله عليه وسلم رأسه. وفي البخاري أيضاً: (أن عقبة ذهب مرة أخرى وخنق النبي عليه الصلاة والسلام خنقاً شديداً حتى كادت أنفاسه أن تخرج، ويأتي الصديق رضي الله عنه ويأخذ بمنكبيه ويدفعه وهو يقول له: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟!) ليس له جريمة إلا أنه يقول: لا إله إلا الله، أصبحت كلمة التوحيد جريمة في القديم وفي الحديث! {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} [غافر:28]. أصبح التوحيد جريمة، أصبح التوحيد تطرفاً، أصبح التوحيد إرهاباً، {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} [غافر:28]. بل ويزداد الأمر سوءاً -كما روى الطبري وابن إسحاق -: فيلقي عليه بعض الأنذال الأوباش تراباً على رأسه، ويرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيته والتراب على رأسه، فتقوم إليه إحدى بناته لتغسل التراب من على أشرف رأس وأطهر رأس، وهي تبكي والنبي صلى الله عليه وسلم يقول لها: لا تبكي ولا تحزني يا ابنتي، إن الله مانع أباك إن شاء الله بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.

شدة الأذى والهجرة إلى الحبشة

شدة الأذى والهجرة إلى الحبشة كل هذا يفعل برسول الله، فما ظنكم بما يفعل بالمستضعفين، هذا ما يفعل برسول الله مع دفاع أبي طالب ومع مكانته في قومه، فما ظنكم بما يفعل بالمستضعفين من الموحدين؟! كلنا يعلم أن أول شهيدة في الإسلام سمية رضي الله عنها، لقد عذبها أبو جهل عذاباً شديداً، وفي النهاية طعنها بحربته في فرجها فماتت، فهي أول شهيدة في الإسلام، تطعن بحربة في فرجها؛ لأنها قالت: لا إله إلا الله! ولم ير النبي صلى الله عليه وسلم بداً أمام هذه الحرب الشرسة الضروس، إلا أن يشير على أصحابه المستضعفين بالهجرة. سيتركون مكة، ويتركون الأهل، ويتركون الديار، ويتركون الأموال، ويتركون الأوطان، ويتركون الأحباب؛ كل ذلك من أجل الدين، من أجل العقيدة، إنها أغلى ما يملك الإنسان في هذا الوجود، فهي أغلى من وطنه، وأغلى من ماله، وأغلى من أولاده، وأغلى من نفسه، هكذا ينبغي أن تكون. والهجرة إلى أين؟ إلى أين سيذهب أصحابك يا رسول الله؟ سيذهبون إلى أرض بلال إلى الحبشة، لتغسل شلالاتها دماء ودموع المستضعفين من الموحدين؛ لتطهر شلالاتها جروح المستضعفين من أثر السياط والرماح. ولماذا الحبشة؟ والجواب من رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن بها ملكاً عادلاً لا يظلم عنده أحد، فاخرجوا إلى بلاده حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً). ونتوقف مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم يغادرون مكة في غاية الحزن والألم والأسى، وهم يرحلون عن حبيبهم وإمامهم ونبيهم، وهم يتخلون عن ديارهم وعن بيت ربهم، نسأل الله جل وعلا أن يجزيهم عنا خير الجزاء، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم

أثر إسلام حمزة وعمر على الدعوة

أثر إسلام حمزة وعمر على الدعوة الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الأحبة! ويخرج أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في شهر رجب من السنة الخامسة من بعثة رسول الله عليه الصلاة والسلام، يخرجون إلى أرض الحبشة، ويشتد الأذى ويزيد البلاء والاضطهاد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى الموحدين من المستضعفين. ويشاء الله جل وعلا لهؤلاء المقهورين نصراً يزلزل أرجاء مكة، نعم، فلقد أسلم أسد الله وأسد رسوله حمزة رضي الله عنه، وبعد ثلاثة أيام فقط من إسلام حمزة يبرق ضوء شديد في مكة كلها، يضيء للمقهورين طريقهم -ولأول مرة- إلى بيت الله الحرام ليطوفوا باطمئنان وثقة وثبات، ولم لا وقد أسلم عمر؟! نعم أسلم عمر بعد ثلاثة أيام من إسلام أسد الله وأسد رسوله حمزة رضي الله عنهم جمعياً وأرضاهم، ولأول مرة يخرج النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه المستضعفين المقهورين في صفين: على رأس الصف الأول حمزة، وعلى رأس الصف الثاني الفاروق عمر، وبين يدي الصفين إمام الهدى ومصباح الدجى محمد صلى الله عليه وسلم، إلى أين؟ إلى بيت الله الحرام الذي حرمهم المشركون من التمتع به والتلذذ به، والتعبد والصلاة عنده. نصر جديد من عند الله جل وعلا.

حصار الشعب وآثاره على المسلمين ومن معهم

حصار الشعب وآثاره على المسلمين ومن معهم بل ويزداد النصر حينما يصر بنو هاشم وبنو المطلب مسلمهم وكافرهم على منع رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعدما سمع وعلم أبو طالب أن المشركين قد صمموا على قتل النبي صلى الله عليه وسلم والتخلص منه، ويتفق المشركون جميعاً على مقاطعة كاملة وحصار اقتصادي -شنشنة قديمة حديثة- فرضوا الحصار الاقتصادي الشامل الكامل على بني هاشم وبني المطلب، وأجمعوا على أن لا يؤاكلوهم ولا يناكحوهم ولا يتاجروا معهم ولا يتزوجوا منهم، ولا يسمحوا لهم بطعام أو بشراب، حتى أكل النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه الجلود وورق الشجر. واستمر الحصار على رسول الله وعلى الموحدين الأتقياء الأطهار ثلاث سنوات! نعم، وفرج الله الكرب، وأذهب الله الهم والغم.

عام الحزن

عام الحزن وبعد ستة أشهر فقط من الخروج من هذا المأزق الحرج، يصاب النبي صلى الله عليه وسلم بفجيعة مؤلمة، فيموت عمه أبو طالب الذي كان بلا منازع حصناً حصيناً تتحطم عليه رماح المشركين وسهامهم، والذي كان بلا منازع من أول الناس دفعاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالرغم من ذلك يموت أبو طالب على دين قومه، ويتنزل فيه قول ربه جل وعلا لحبيبه صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56]. وبعد شهرين أو ثلاثة من وقوع هذه الفاجعة يصاب النبي صلى الله عليه وسلم بفاجعة تفتت الكبد وتمزق القلب، أتدرون ما هي؟ إنها موت زوجته خديجة، ماتت صاحبة القلب الكبير، لا إله إلا الله رحماك رحماك يا الله! مات أبو طالب وماتت خديجة رضي الله عنها بعد شهرين أو ثلاثة، ماتت التي كانت تضم النبي صلى الله عليه وسلم إلى صدرها؛ لترفع عنه الهم والغم، ولتخفف عنه البلاء، ولتضمد جراحه بأسلوبها العذب الرقيق، ماتت خديجة وعصر الألم قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إنه سمى هذا العام العاشر الذي مات فيه أبو طالب وخديجة، سماه النبي صلى الله عليه وسلم: بعام الحزن، إي والله إنه لعام حزن على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

رحلته صلى الله عليه وسلم إلى الطائف

رحلته صلى الله عليه وسلم إلى الطائف وبعد موت أبي طالب كشرت قريش عن أنيابها، وضاعفت الأذى والاضطهاد على رسول الله وعلى الموحدين، وترك النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأرض الصماء، هذه الأرض الجامدة، وخرج يبحث عن أرض أكثر خصوبة؛ ليبذر فيها بذرة التوحيد؛ ليبذر فيها بذرة لا إله إلا الله. ويخرج النبي عليه الصلاة والسلام يشق الأودية والجبال تحت حرارة هذه الشمس المحرقة، وعلى هذه الرمال الملتهبة المتأججة، يمشي على قدميه المتعبتين الداميتين بلا راحلة، لماذا؟ لأنه كان لا يملك ثمن الراحلة. يتحرك الحبيب على قدميه، لماذا؟ هل يريد جاهاً، أم يريد مالاً، أم يريد سلطاناً؟ لا، بل يريد الله والدار الآخرة، يريد أن يخرج الناس من الظلمات إلى النور، من الشرك إلى التوحيد والإيمان. وتوجه إلى الطائف، خرج إلى الطائف يمشي أكثر من سبعين كيلو على قدميه تحت حرارة الشمس وعلى هذه الرمال، لم يركب سيارة مكيفة، ولا طائرة خاصة، وإنما على قدميه الشريفتين بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، ويتجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف لعله يجد بقية خير في قلوب أناس خارج مكة، يبحث عن أمل، يبحث عن يد حانية تمتد لرفع راية لا إله إلا الله. مر النبي عليه الصلاة والسلام على أشراف بني ثقيف وساداتها، ولكن القوم كانوا أشد خسة ودناءة مما فعله به المشركون في مكة المكرمة، فسبوه ونهروه وطردوه صلى الله عليه وسلم، وقام -بأبي هو وأمي- يطلب منهم طلباً أخيراً هو أقل ما يطلبه الإنسان من أخيه الإنسان، يقول لهم: (إذ فعلتم بي ما فعلتم فاكتموا خبر زيارتي عن أهل مكة؛ حتى لا تزداد شماتتهم وظلمهم وعدوانهم)، ولكنهم كانوا أشد خسة ودناءة مما توقعه النبي عليه الصلاة والسلام، فسلطوا عليه الصبيان والعبيد والسفهاء، ووقفوا صفين وأخذوا يرمونه بالحجارة، ويسخرون به، ويسبونه بأقبح السباب والشتائم. وقام النبي صلى الله عليه وسلم والألم يعصر كبده، والمرارة تمزق قلبه، قام بحالة تفتت الأكباد وتمزق القلوب: جوعان، عطشان، يتألم من ألم السير بالليل والنهار على قدميه، دعوة مطاردة، وأصحاب تتخطفهم أيدي الطغاة، لا إله إلا الله! وألجأ السفهاءُ والصبيانُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم إلى بستان لـ عتبة وشيبة ابني ربيعة، ولم يجد النبي صلى الله عليه وسلم بعدما جلس والدماء تنزف من قدميه الشريفتين الكريمتين المباركتين إلا أن يستعيد ذكريات شريط الأحزان، شريط الدعوة الطويل إلى الله جل وعلا، فتذكر أصحابه في الحبشة، وتذكر إخوانه الذين يجلدون ويعذبون في مكة، وتذكر خديجة، وتذكر أبا طالب، فلم يجد بداً من أن يرفع هذه الشكوى إلى من يسمع دبيب النملة السوداء، تحت الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء، رفع إلى الله هذا الدعاء -وإن كان شيخنا الألباني قد ضعف إسناده- لجأ إلى الله بهذه الدعوات الحارة وقال: (اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين! أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟! إلى بعيد يتجهمني! أم إلى عدو ملكته أمري! إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بي سخطك، أو يحل علي غضبك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك). بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، ونتوقف في هذا اليوم أيها الأحباب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطائف، لنواصل المسير مع أعظم داعية عرفته الدنيا على طريق الدعوة الطويل في اللقاء القادم إن شاء الله جل وعلا إن قدر الله لنا البقاء واللقاء. وأسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، أن يجزيه عنا خير الجزاء، اللهم اجز عنا محمداً خير الجزاء، اللهم اجزه عنا خير ما جازيت به نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، اللهم وكما آمنا به ولم نره فلا تفرق بيننا وبينه حتى تدخلنا مدخله، اللهم وأوردنا حوضه الأصفى، واسقنا بيده الشريفة شربة هنيئة مريئة لا نظمأ بعدها أبداً يا رب العالمين، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعل كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.

مع أعظم داعية [2]

مع أعظم داعية [2] جهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبليغ هذا الدين جهاد لا نظير له، فلقد جاهد في الله حق جهاده، وصبر على الأذى، وتحمل البلاء، حتى أذن الله له بالهجرة، فهاجر وأقام أعظم دولة عرفها التاريخ، وخاض المعارك نشراً لهذا الدين، فنصره الله وأظهر دينه على الدين كله، وبعد أن أتم الله به الدين، وأكمل به الرسالة، وأقام به الحجة؛ قبضه الله العلي الأعلى، وأراحه من الدنيا ونصبها، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من الطائف إلى مكة

رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من الطائف إلى مكة الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً، ولم يكن له شريك في الملك، وما كان معه من إله، الذي لا إله إلا هو، فلا خالق غيره، ولا رب سواه، المستحق لجميع أنواع العبادة، ولذا قضى ألا نعبد إلا إياه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62]. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في سبيل ربه حتى أجاب مناديه، وعاش طوال أيامه ولياليه يمشي على شوك الأسى، ويخطو على جمر الكيد والعنت، يلتمس الطريق لهداية الضالين، وإرشاد الحائرين؛ حتى علم الجاهل، وقوم المعوج، وأمن الخائف، وطمأن القلق، ونشر أضواء الحق والخير والتوحيد والإيمان كما تنشر الشمس ضياءها في رابعة النهار. فاللهم اجزه عنا خير ما جازيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فمع اللقاء الثالث عشر من خواطر الدعوة إلى الله عز وجل، ولا زال حديثنا عن أعظم داعية عرفته الدنيا، عن محمد صلى الله عليه وسلم، ولقد وقفنا في اللقاء الماضي وهو في الطائف تنزف قدماه دماً، ويتألم قلبه، وقد تبدد الأمل الذي ذهب إلى الطائف من أجله، وتمنى أن يجد في أهل الطائف من يمنعه ومن ينصره؛ ليبلغ دين الله ودعوة الله عز وجل. ولكنهم فعلوا به أسوأ ما يفعله الإنسان بأخيه الإنسان، فلقد قام إليهم وهو جائع عطشان يتألم من السير الطويل على قدميه حيث لا راحلة، ولا سيارة مكيفة ولا غير مكيفة، ذهب على قدميه إلى الطائف لا يريد جاهاً ولا مالاً، وإنما يريد أن يخرجهم من الظلمات إلى النور، ومن الشرك إلى التوحيد والإيمان، ثم قام يطلب منهم أن يحيلوا بين مكة وبين خبر زيارته، فأبوا عليه ذلك، وعاد النبي صلى الله عليه وسلم وحالته تفتت الأكباد، وتمزق القلوب الحية. عاد وقد حنت عليه السحاب، وأشفقت لمنظره الجبال والأشجار، واستعدت الجبال الصم الرواسي للانتقام له صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (فانطلقت على وجهي وأنا مهموم، فلم أستفق إلا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا سحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام، فناداني وقال: يا رسول الله! إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم يا رسول الله! يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: فناداني ملك الجبال وقال: يا رسول الله! لو شئت أن أطبق عليهم الأخشبين -والأخشبان: جبلان عظيمان بمكة شرفها الله- لو أمرتني أن أطبق عليهم الأخشبين، أي: لفعلت) أتدرون ماذا قال ينبوع الحنان؟! أتدرون ماذا قال نهر الرحمة؟ أتدرون ماذا قال الحبيب وما زالت الدماء تنزف من قدميه؟ (قال: كلا، بل إني أرجو الله جل وعلا أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئاً) بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، والله لو كان الحبيب ممن ينتقمون لأشخاصهم ولأنفسهم لأمر ملك الجبال أن ينتقم له، فطحنت الجبال تلك الجماجم، وحطمت حجارتها تلك الرءوس الصلبة، ولسالت دماء أهل الطائف حتى يراها أهل مكة في مكة، ولكنه صلى الله عليه وسلم ما خرج إلى الطائف لنفسه، وما جاء لينتقم لذاته ولا لشخصه، إنما جاء ليحمل إلى الدنيا الرحمة والإيمان والسعادة، جاء إلى الطائف وفي قلبه نور يتلألأ، جاء إلى الطائف وفي قلبه أمل يشرق. ولعل في أصلاب هؤلاء من يتنفس الإسلام، ولا يعيش إلا بالإسلام، وهو عليه الصلاة والسلام لم يبعث لعاناً ولا فحاشاً، وإنما بعث رحمة مهداة، اللهم صل وسلم وزد وبارك على ينبوع الحنان، وعلى نهر الرحمة محمد بن عبد الله، يقول: (بل إني أرجو الله عز وجل أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئاً) وعاد النبي صلى الله عليه وسلم من الطائف وقد اطمأن قلبه، وثبت هذا النصر الغيبي الكبير الذي أمده الله به من فوق سبع سماوات، عاد ليستأنف رحلته الشاقة الطويلة في الدعوة إلى الله عز وجل.

استمرار النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله

استمرار النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله أقبل موسم الحج للعام الحادي عشر من بعثته المباركة، وخرج الحبيب في ظلام الليل الدامس حيث نام المشركون بعد عناء طويل في النهار من تعذيب الموحدين من المستضعفين! ناموا في هذا الليل، وقام الحبيب صلى الله عليه وسلم وهو لا يعرف النوم الطويل، ولا يعرف الراحة، ولا يعرف الهدوء والاستقرار من يوم أن نزل عليه قول ربه: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:1 - 2]، فقام ولم يقعد ولم يسترح ولم يهدأ له بال، ولم يستقر له قرار، قام في هذا الليل الدامس حتى لا يحول بينه وبين دعوته أحد من المشركين، قام ليتجول بين خيام القبائل التي أقبلت من كل مكان في أرض الجزيرة، لماذا؟ ليدعوهم إلى الله جل وعلا، ليعرض عليهم دين الله تبارك وتعالى، فمنهم من يسبه، ومنهم من ينهره، ومنهم من يؤذيه، ومنهم من يطرده، والله ما ذهب يطلب مالاً ولا جاهاً، بل لقد ذهب إليهم بنور الدنيا والآخرة، فيطردونه من بين الخيام! ينتقل الحبيب على قدميه المتعبتين من خيمة إلى خيمة، ومن قبيلة إلى أخرى، حتى وصل إلى خيمة بددت الأحزان، وجددت الآمال، وضمدت الجراح، وصل إلى خيمة كريمة مباركة جليلة من بين هذه الخيام الكثيرة المترامية الأطراف، دخل الحبيب إلى خيمة أقوام ورجال من أهل المدينة المنورة شرفها الله، وزادها الله تشريفاً وتكريماً، حيث وجدت دعوته فيها بذوراً صالحة تقية نقية، سرعان ما تحولت إلى شجرات باسقات غيرت وجه الدنيا، وحولت مجرى التاريخ. نعم أيها الأحباب! فلقد جلس الحبيب بين يدي ستة نفر من شباب المدينة، فعرض عليهم الإسلام، فتحركت قلوبهم لدين الله جل وعلا، فشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتجدد الأمل، وتبدد الحزن في وسط هذه الصحراء المترامية بالجهالة والشرك والكفر والإلحاد، تبدد الحزن وأشرق الأمل في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال هؤلاء: (يا رسول الله! إنا سنقدم على قومنا، وسندعوهم إلى الإسلام، فإن جمعهم الله عليك فلا رجل أعز عليهم منك) وعاد هؤلاء بهذا النور الجديد، وبهذا الفجر المشرق، عادوا إلى المدينة المنورة لينفذ نور الإسلام وفجر الإسلام في بيوتها وأرجائها، وأشرق فجر الإسلام على المدينة المنورة على أيدي هؤلاء الأبرار، على أيدي هؤلاء الأطهار الأخيار.

بيعة العقبة الأولى والثانية وأثرهما على الدعوة الإسلامية

بيعة العقبة الأولى والثانية وأثرهما على الدعوة الإسلامية دار الزمن وأقبل موسم الحج التالي، وخرج من المدينة اثنا عشر رجلاً يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصمم هذا الوفد القليل الكبير أن يجتمع برسول الله عليه الصلاة والسلام، وتمت بيعة العقبة الأولى، تلك البيعة التي حطمت الجدران السوداء التي حالت بين نور الإسلام والناس، بين الدنيا ونور الآخرة، وطلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم بعدما تمت البيعة أن يبعث معهم رجلاً ليعلمهم دين الله جل وعلا، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم سفير الإسلام الأول، وداعية الإسلام العظيم، ذلكم الشاب المنعم المدلل، الذي كان بالأمس القريب يلبس الحرير، ويكثر من العطر والطيب فإذا مر في طريق من طرقات مكة قال الجميع: لقد مر في هذا الطريق مصعب بن عمير!. إنه الشاب التقي النقي الذي استعلى على الشبهات والشهوات، وتعالى على ملذات الدنيا، ولبس الخشن من الثياب، وأكل الجلد مع رسول الله، وأكل ورق الشجر مع أستاذه ومعلمه في شعب مكة حين الحصار الاقتصادي، يختاره النبي صلى الله عليه وسلم ليكون أول داعية إلى دين الله في المدينة المنورة، ويخرج مصعب بن عمير ليتعهد شجرة الإسلام بنفسه، التي نمت وترعرعت على يديه، حتى عاد في موسم الحج المقبل ليبشر أستاذه ومعلمه بأن فجر الإسلام قد أشرق على المدينة المنورة، واجتمع عدد كبير من الأنصار في هذا الموسم مع رسول الله، وبايعوه صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة الثانية، على أن ينصروه إذا قدم إليهم وهاجر إليهم، وأن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأزواجهم وأبناءهم، وتمت البيعة الكبرى، ونظر أبو الهيثم بن التيهان رضي الله عنه إلى رسول الله وقال: (يا رسول الله! إن بيننا وبين الرجال حبالاً وإنا قاطعوها -أي: إن بيننا وبين اليهود حبالاً وإنا قاطعوها- فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك وأظهرك الله عز وجل أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟! فتبسم الحبيب صلى الله عليه وسلم وقال: كلا، بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أسالم من سالمتم، وأحارب من حاربتم) المحيا محياكم أيها الأنصار الأخيار، والممات مماتكم أيها الأنصار الأبرار، أنا منكم وأنتم مني.

الهجرة وتأسيس الدولة الإسلامية العظمى

الهجرة وتأسيس الدولة الإسلامية العظمى تمت البيعة الثانية، واستطاع النبي صلى الله عليه وسلم بدعوته الصابرة الحكيمة أن يؤسس للإسلام -ولأول مرة- وطناً وسط صحراء تموج بالكفر والشرك والجهالة، وبدأت طلائع الهجرة المباركة للمقهورين والمعذبين في مكة، وبدءوا يصلون إلى المدينة المنورة زادها الله تشريفاً وتكريماً. وهنا أحس المشركون -لأول مرة- بالخطر العظيم الذي صار يهددهم بصورة جلية واضحة، وعقد البرلمان الشركي اجتماعاً طارئاً، وهو أخطر اجتماع في التاريخ، وأصدروا قراراً بالإجماع للقضاء على حامل لواء دعوة التوحيد، وللتخلص من محمد بن عبد الله؛ لقطع تيار نور التوحيد عن الوجود بأسره، ولكن: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21]، {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]، {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:8]. وهل تستطيع الطحالب ولو اجتمعت أن توقف سير البواخر العملاقة؟! وهل تستطيع الأفواه ولو اجتمعت أن تطفئ نور الله جل وعلا؟! وهل يضر السماء نبح الكلاب؟! ويخرج الحبيب من بين أيديهم وأمام أعينهم: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [يس:9]، {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:40]، يخرج الحبيب وصاحبه تحت رعاية الله وتحت عين الله جل وعلا، ومن كان الله معه فمن ضده؟! ومن عليه؟! ووصل الحبيب وأصحابه إلى المدينة المنورة، إلى وطن الإسلام الجديد، واستقبلته المدينة استقبالاً بينت حقيقته تلك الدموع التي سالت على وجوه الرجال والنساء والأطفال، إنها دموع الفرح بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

بناء الدولة الإسلامية

بناء الدولة الإسلامية في المدينة بدأت مرحلة جديدة للدعوة إلى الله عز وجل، حقاً إنها مرحلة جديدة، فلقد أصبح للإسلام دولة حقيقية من حاكم وقائد وقوة وأرض ووطن، أصبح للإسلام دولة، بل وبدأ النبي صلى الله عليه وسلم يرسل البعوث والسرايا للقيام بحركات عسكرية استطلاعية؛ ليؤذن وليعلم المشركين في مكة واليهود في المدينة أنه أصبح للإسلام قوة تحميه وتدافع عنه، وستقلم أظفار من يتطاول على القضاء عليه بعد اليوم، وعندئذٍ نزل قول الله عز وجل: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة:190]. ما نزل الأمر بالقتال إلا بعدما استكملت القوة، وبعد أن أصبح للإسلام دولة، وبعد أن أصبح للإسلام رجال أطهار أبرار، يقفون في وجه كل من أراد أن ينال منه بعد اليوم؛ لأنه لابد للحق من قوة، قوة بالبلاغ والبيان، وقوة بالسيف والجهاد والسنان، ويوم أن تخلى المسلمون عن القوة، وعن قوله عز وجل: {وَأَعِدُّوا} [الأنفال:60] أذلهم الله لمن كتب الله عليهم الذلة من أبناء القردة والخنازير، وما أحداث الهند بعد أحداث البوسنة والهرسك منا ببعيد، فلقد قام الوثنيون الهندوس بعدما رأوا ما فعل الصرب بإخواننا في البوسنة والهرسك ولم يتحرك منا أحد، فقالوا: ولماذا نقعد نحن؟! المسلمون لا يتحرك منهم أحد، لقد مات المسلمون وكفنوا منذ زمن بعيد! فقام الهندوس الكفرة أهل الوثنية والإلحاد بتحطيم بيت من بيوت الله، حطموا الدين متمثلاً في بيوت الله جل وعلا، للقضاء على المسلمين والمسلمات، فما الذي فعله المسلمون؟! لقد وصلت البلاهة والسفاهة ببعض المسلمين إلى موت الولاء والبراء في قلوبهم، أين الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين؟! أين البراء من الشرك والمشركين؟! ما زلنا إلى يومنا هذا نأتي بالهندوس والسيخ الكفرة إلى بلاد المسلمين ليأكلوا من خيراتنا، ويأكلوا من أرزاقنا، ويقبضوا الأجور من أموال المسلمين، وليرسلوا بها إلى إخوانهم الكفرة والشياطين؛ ليقتلوا بها إخواننا وأخواتنا. والله! إنها لأكبر جريمة ترتكب في حق الإسلام، أن يكون بعد اليوم في بلاد المسلمين هندي هندوسي كافر أو سيخي كافر، فيجب إخراجهم حتى لو تعطلت الأعمال، ووقفت الشركات، لو كان في قلوبنا ذرة إيمان وذرة ولاء وبراء لرحّلناهم ذليلين شريدين مطرودين، ولا نعطيهم ريالاً واحداً، ولا دولاراً واحداً من أرزاق وأموال المسلمين التي هي أمانة بين أيدينا، وسنسأل عنها بين يدي رب العالمين جل وعلا، اللهم إني قد بلغت، اللهم فاشهد يا رب العالمين!

معركة بدر وأثرها العظيم على الإسلام والمسلمين

معركة بدر وأثرها العظيم على الإسلام والمسلمين يشاء الله جل وعلا أن يلتقي الفريقان لأول مرة وجهاً لوجه، فريق الإيمان وفريق الشرك، في غزوة بدر الكبرى، في ميدان البطولة، في ميدان الرجولة، في ميدان الشرف، في ساحة الوغى، يوم أن صمتت وخرست الألسنة الطويلة، وخطبت وتكلمت السيوف والرماح على منابر الرقاب والرءوس. التقى الفريقان وقام الحبيب صلى الله عليه وسلم يرفع أكف الضراعة إلى الله جل وعلا، يناشد الله جل وعلا -كما ورد في صحيح مسلم - يقول: (اللهم هذه قريش أقبلت بخيلائها وفخرها، تحادك وتكذب رسولك، اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم أنجز لي ما وعدتني). وقام الصديق رضي الله عنه ليضع الرداء الذي سقط من على كتفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول له: والذي نفسي بيده لينجزن الله لك ما وعدك يا رسول الله. إنه اليقين، إنها الثقة في الله جل وعلا، وأنزل الله جنده من السماء، وأنزل الله نصره على عبده، وأيد الله المؤمنين الصادقين، وفر المشركون من أرض بدر، وتبعثروا في الشعاب والوديان تبعثر الفئران، وعادوا إلى مكة بمنتهى الخزي والذلة والندامة، وقد أذهلتهم المفاجأة الإيمانية الكبرى التي غيرت وجه الدنيا، وحولت مجرى التاريخ. انتصر المسلمون في بدر، وهم الحفاة العراة الجياع! انتصر بلال الحبشي وصهيب الرومي، وسلمان الفارسي، انتصر هؤلاء المعذبون، انتصر هؤلاء المقهورون. انتصروا بفضل الله جل وعلا، وقتل السادة والأشراف، قتل أبو جهل وغيره من الصناديد، الذين طالما ساموا هؤلاء المقهورين سوء العذاب، ونصر الله عبده، وأعز الله جنده، وتم النصر الكبير، الذي علم الأقزام في أنحاء الجزيرة العربية أن للإسلام بعد اليوم قوة ستحميه، وستدافع عنه، وستقلم أظفار كل من سولت له نفسه أن ينال بعد اليوم من مسلم فضلاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذاً: أيها الأحباب! لابد للإسلام من قوة، وبعد هذه الغزوة الكبرى ظهرت بوادر هذه القوة في صلح الحديبية، الذي كان هو الآخر نصراً عظيماً لمن سبر غور بنوده وشروطه وأركانه، فلقد تفرغ النبي صلى الله عليه وسلم بعد هذا الفتح الكبير وهذا الصلح العظيم لدعوة الملوك والأمراء، وقام بإرسال الكتب إلى أنحاء الدنيا لدعوة الناس إلى الله جل وعلا، وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

الآثار العظيمة لصلح الحديبية

الآثار العظيمة لصلح الحديبية

التفرغ للدعوة إلى الله

التفرغ للدعوة إلى الله الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد: فيا أيها الأحباب! بدأت الدعوة مرحلة جديدة عظيمة أخرى بإرسال النبي صلى الله عليه وسلم الكتب والرسائل إلى الملوك والأمراء في جميع أنحاء الأرض، فلقد ثبت في الصحيحين: (أنه أرسل رسالة إلى هرقل عظيم الروم، وقال فيها: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين، وختم النبي رسالته الكريمة بقول الله جل وعلا: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64]). وبعث برسالة أخرى إلى كسرى عظيم فارس، والحديث رواه البخاري في كتاب المغازي فقال: (بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من اتبع الهدى. أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الله، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم المجوس، فلما قرئ على كسرى -أهلكه الله- كتاب النبي صلى الله عليه وسلم مزقه، فلما بلغ ذلك رسول الله قال: اللهم مزق ملكه) فمزق الله ملكه. وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس ملك مصر والإسكندرية. وأرسل إلى صاحب اليمامة. وأرسل إلى صاحب دمشق. وأرسل إلى صاحب البحرين. وأرسل كتبه إلى الملوك والأمراء في شتى أنحاء الدنيا، ليدعوهم إلى الله جل وعلا، وكان رسول الرسول صلى الله عليه وسلم يحمل الكتاب، ويسير في هذه الصحراء شهوراً بطولها؛ ليبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما اليوم فقد تحول العالم كله إلى قرية صغيرة بعد هذا التقدم المذهل في وسائل المواصلات والاتصالات، فماذا صنعنا؟! وماذا قدمنا لدين الله جل وعلا؟! وما الذي فعلناه لدعوة الناس إلى الله، ولتوضيح حقيقة الإسلام بين أبناء الكفار؟ بل لقد وجد الكفار بيننا فماذا قدمنا؟! وما الذي فعلناه لنقيم عليهم حجة الله جل وعلا في الأرض؟! والله إنه لعار علينا أن يكون هذا حالنا، لا نتحرك لدين الله، ولا للدعوة إلى الله عز وجل.

فتح مكة

فتح مكة ظهرت ثمرة هذه الدعوة الكريمة المباركة في عشرة آلاف صحابي، رباهم رسول الله بيده، خرجوا معه، وزحف هذا الجيش الكبير الجرار الذي لا عهد لأرض الجزيرة به من قبل، خرجوا جميعاً يحيطون برسول الله صلى الله عليه وسلم، تعلوا رءوسهم راية التوحيد والإيمان، قائدهم محمد صلى الله عليه وسلم، ودينهم الإسلام، زحف هذا الجيش إلى بلد الله الحرام، إلى مكة المكرمة؛ ليطهروها من دنس الشرك والكفر، ليحطموا الأصنام التي رفعت رءوسها على بيت الله الحرام، وها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي خرج بالأمس القريب طريداً جريحاً مضروباً؛ يدخل إلى مكة فاتحاً في وسط هذه الجموع الموحدة، وها هو يحني رأسه تواضعاً وانكساراً لله جل وعلا! إنه فضل الله، إنه نصر الله، {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:1 - 3]. ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وحطم الأصنام التي حول الكعبة وهو يقول: (جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقاً). ويحين وقت الصلاة، فيأمر الحبيب صلى الله عليه وسلم بلالاً رضي الله عنه أن يرتقي على ظهر الكعبة! ذلكم العبد الحبشي الأسود يرتقي على ظهر الكعبة؛ ليرفع كلمة التوحيد خفاقة عالية في أنحاء مكة كلها، يصعد بلال ليرفع أذان التوحيد والإيمان، ليرفع صوته بقوله: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ويعلن وحدانية الله جل وعلا بعدما نكست الأصنام على رءوسها: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، ويثني برسالة محمد بن عبد الله حيث قال: أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، وتنصت مكة بأسرها لهذا النداء الحلو العذب الجميل الذي تسمعه لأول مرة! وتفرح الحجارة! وتبكي الكعبة فرحاً بكلمة التوحيد! التي ارتفعت لأول مرة بعد هذه السنوات الطوال.

حجة الوداع

حجة الوداع بعد فتح مكة رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، ويخرج بعد ذلك إلى حجة الوداع؛ ليلقي النظرة الأخيرة على أحبابه على أتباعه على أمته، فلقد أدى الأمانة، ولقد بلغ الرسالة، ولقد قام بما أمره ربه خير قيام، أمره ربه بالإنذار فأنذر، وأمره ربه بالبلاغ فبلغ، وأمره ربه بالبيان فبين، ووقف ليأخذ هذا العهد وهذا الميثاق الكبير ويسأل الناس جميعاً ويقول: (إنكم ستسألون عني فماذا أنتم قائلون؟ فقالوا جميعاً: نقول: إنك قد أديت وبلغت ونصحت، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم سبابته إلى السماء ويشير بها إلى الناس ويرفعها ويقول: اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد، ثلاث مرات)، الحديث رواه مسلم.

توديع أعظم داعية للدنيا بعد تمام الدين

توديع أعظم داعية للدنيا بعد تمام الدين بعد حجة الوداع رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، ويأتي يوم الإثنين لتبكي المدينة مرة أخرى لا من الفرح ولكن من الحزن، فلقد نام الحبيب صلى الله عليه وسلم على فراش الموت، وخرج في صلاة الفجر والمسلمون يصلون، فكشف ستر غرفة عائشة، ونظر إلى الصحابة ليلقي نظرة الوداع على أحبابه الأطهار الأبرار الأخيار، على أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى بلال، وصهيب، وعمار، على هؤلاء الأبرار، وكاد المسلمون أن يفتنوا في الصلاة، فأشار إليهم أن اثبتوا. لقد أديت الأمانة -يا رسول الله- ولقد بلغت الرسالة، وقد حان الأجل، واقترب موعد لقائك بربك جل جلاله، ويدخل الحبيب بيت عائشة رضي الله عنها وملك الموت في انتظاره صلى الله عليه وسلم، ويزداد الكرب عليه، وتزداد السكرات والكربات، وتدخل زهرته فاطمة الزهراء، فترى الكرب يشتد على أبيها وحبيبها، فتصرخ وتقول: (وا كرب أبتاه، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول لها: لا كرب على أبيك بعد اليوم يا فاطمة)، والحديث رواه البخاري. ويشتد الألم على الحبيب؛ فيأمر بركوة فيها ماء، ويدخل يده في هذه الركوة، ويمسح العرق عن جبينه الأزهر الأنور، وهو يقول: (لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات، إن للموت لسكرات)، وفي رواية أحمد: (اللهم أعني على سكرات الموت)، فتقول عائشة: (مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحري ونحري، أسندته إلى صدري فرأيته رفع أصبعه السبابة وسمعته يقول: بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى، تقول عائشة: فعلمت أنه يخير، وأنه لا يختارنا). ويقبل ملك الموت على الحبيب صلى الله عليه وسلم لينادي على روح المصطفى: أيتها الروح الطيبة! اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، ورب راض عنك غير غضبان، {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30]، وتسقط يد الحبيب صلى الله عليه وسلم، وتخرج عائشة وهي تبكي وتقول: مات رسول الله، مات خير خلق الله، مات إمام النبيين، مات سيد المرسلين، مات الحبيب صلى الله عليه وسلم، ويقابلها عمر فيصرخ ويشهر سيفه في الناس ويقول: من قال: إن محمداً قد مات لأعلونه بسيفي هذا، رسول الله ما مات، بل ذهب للقاء ربه كما ذهب موسى بن عمران، وليرجعن رسول الله وليقطعن أيدي وأرجل أناس من المنافقين الذين زعموا أنه قد مات. ويأتي الصديق رضي الله عنه ليدخل على حبيبه، ليدخل على إمام الهدى ومصباح الدجى، ليدخل عليه وقد مات صلى الله عليه وسلم، لن يقوم لك رسولك يا أبا بكر، ولن يرحب بك حبيبك يا أبا بكر، فلقد مات الحبيب صلى الله عليه وسلم، ويدخل عليه في غرفة عائشة، ويكشف البردة عن وجهه الكريم الأنور، ويخر على ركبتيه، ويقبل الحبيب بين عينيه، وفي الحديث الذي حسنه شيخنا الألباني في مختصر الشمائل أنه نادي على الحبيب قائلاً: (وانبياه، واصفياه، واخليلاه؛ وانبياه، واصفياه، واخليلاه)، وقال كما في رواية البخاري: (أما الموتة التي قد كتبها الله عليك فقد ذقتها يا رسول الله! ولا ألم عليك بعد اليوم). وخرج الصديق ليعلن هذه الحقيقة الكبرى، لتصل إلى أذن كل سامع، وإلى عقل كل مفكر، فإنه لا يبقى إلا الله الحي الذي لا يموت، خرج وقال: (على رسلك يا عمر! أنصتوا أيها الناس! وتلتف الجموع الملتهبة الباكية حول أبي بكر ليعلن هذه الحقيقة الكبرى: أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144]). اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا وحبيبنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، اللهم اجزه عنا خير ما جازيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، اللهم وكما آمنا به ولم نره فلا تفرق بيننا وبينه حتى تدخلنا مدخله. اللهم احشرنا تحت لوائه، وأوردنا حوضه الأصفى، واسقنا من حوضه شربة هنيئة مريئة لا نظمأ بعدها أبداً يا رب العالمين! أسأل الله جل وعلا أن يقر أعيننا وإياكم بنصرة الإسلام، وتمكينه لدين التوحيد، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، وأعل بفضلك كلمتي الحق والدين. اللهم قيض لأمة التوحيد أمر رشد، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، أنت ولي ذلك ومولاه. اللهم وفق ولاة أمور المسلمين لما تحبه وترضاه، اللهم وفقهم جميعاً للعمل بكتابك، والاقتداء بنبيك صلى الله عليه وسلم، اللهم اقبلنا، وتقبل منا، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم. أحبتي في الله! ما كان من توفيق فمن الله، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء. هذا وأكثروا من الصلاة والسلام على نبينا محمد، فإن الله أمركم بالصلاة عليه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]. اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا وحبيبنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

تذكرة الموت

تذكرة الموت الموت حقيقة لابد أن يذوقها كل إنسان، وله سكرات وزفرات، وفي لحظة الموت يعاين المرء ما هو قادم عليه من رحمة أو عذاب، ويرى ما أعد له من جنة أو نار، فعلى المسلم أن يستعد له بالأعمال الصالحة، وأن يتزود من التقوى، وأن يسارع بالتوبة إلى الله من كل ذنب.

حقيقة الحياة الدنيا

حقيقة الحياة الدنيا الحمد لله الذي أذل بالموت رقاب الجبابرة، وأنهى بالموت آمال القياصرة؛ فنقلهم الموت من القصور إلى القبور، ومن ضياء المهود إلى ظلمة اللحود، ومن ملاعبة الجواري والنسوان إلى مقاساة الهوام والديدان، ومن التنعم في ألوان الطعام والشراب إلى التمرغ في ألوان الوحل والتراب. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ينادي يوم القيامة بعد فناء خلقه، ويقول: أنا الملك أنا الجبار أنا المتكبر لمن الملك اليوم؟ ثم يجيب على ذاته سبحانه: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم:48]. وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة فكشف الله به الغمة، ولبى داعي ربه حتى أجاب مناديه، وعاش طوال أيامه ولياليه يمشي على شوك الأسى، ويخطو على جمر الكيد والعنت، يلتمس الطريق لهداية الضالين، وإرشاد الحائرين، حتى علم الجاهل، وقوم المعوج، وأمن الخائف، وطمأن القلب، ونشر أضواء الحق والخير والتوحيد والإيمان كما تنشر الشمس في سائر الأكوان، رفع الله له ذكره، وشرح الله له صدره، وزكاه ربه على جميع الخلق، ومع ذلك خاطبه ربه بقوله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30]. اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء! وأيها الإخوة الأحباب الأعزاء! وطبتم جميعاً وطاب ممشاكم وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم جل وعلا الذي جمعني وإياكم في هذا البيت المبارك على طاعته، أن يجمعني وإياكم في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! في رحاب الدار الآخرة سلسلة علمية جديدة تجمع بين المنهجية والرقائق، وبين التأصيل العلمي والأسلوب الوعظي، تبدأ هذه السلسلة بالموت وتنتهي بالجنة، جعلني الله وإياكم من أهلها. وقد تحتاج منا هذه السلسلة إلى عام ونصف أو عامين، إن قدر الله لنا البقاء واللقاء، أسأل الله عز وجل أن ينفع بها، وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم، وأن يجعلني وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولو الألباب. تزداد حاجتنا جميعاً بلا استثناء من طلاب علم ورجال ونساء، إلى هذه السلسلة العلمية الجديدة؛ لأننا نعيش عصراً طغت فيه الماديات والشهوات، وأعرض فيه كثير من الناس عن طاعة رب الأرض والسماوات، وتمضي الحياة مسرعة ومعظم أهلها في غفلة مريرة عما هو آتٍ.

حقارة الدنيا وقصر عمرها

حقارة الدنيا وقصر عمرها أيها الإخوة والأخوات! أقوام يأتون، وآخرون يرحلون، أرحام تدفع، وأرض تبلع، مثلهم كمثلِ أمواج بحر متدفقة متلاحقة، إذا انكسرت على الشط موجة تبعتها موجة أخرى، أو كمثل نهر متدفق تراه دائماً يجرى مع أن الماء الذي تراه اللحظة غير الماء الذي رأيته قبل لحظة، وحتماً سيأتي اليوم الذي ينتهي فيه الوجود الإنساني كله، فتنطفئ نجوم الليل، وتتوقف موجات البحر، بل وتجف مياه العيون والآبار، ويقوم الجميع ليقفوا بين يدي العزيز الغفار؛ كما قال سبحانه: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم:48]. أيها الأحبة الكرام! أستهل هذه السلسلة اليوم بالحديث عن الموت، فهذه هي المرحلة الأولى في هذه الرحلة الطويلة. أيها الأخيار! لقد بين الله جل وعلا لنا الغاية التي من أجلها خلقنا فقال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]. وبين لنا حقيقة هذه الدنيا التي جعلها محل اختبار لنا فقال سبحانه: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:20]. وأكد الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم هذه الحقيقة في حديثه الصحيح الذي رواه الترمذي من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه، قال الحبيب: (لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء). فالدنيا حقيرة عند الله، أعطاها للكافر والمؤمن على السواء، ولو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء؛ لذا كان المصطفى يوصي أصحابه بعدم الركون والطمأنينة إلى هذه الدار، كما أوصى بذلك عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كما في صحيح البخاري أنه قال له: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك. ورحم الله من قال: إن لله عباداً فطنا طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا نظروا فيها فلما علموا أنها ليست لحي وطنا جعلوها لجة واتخذوا صالح الأعمال فيها سفنا

الدنيا مزرعة الآخرة

الدنيا مزرعة الآخرة الفطناء العقلاء الأذكياء هم الذين عرفوا حقيقة الدار فحرثوها وزرعوها، وهنالك في الآخرة تجنى الثمار، فالذم الوارد في القرآن والسنة للدنيا لا يرجع إلى زمانها من ليل أو نهار؛ فلقد جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، والذم الوارد في الكتاب والسنة للدنيا لا يرجع إلى مكانها ألا وهو الأرض، إذ إن الله قد جعل الأرض لبني آدم سكناً ومستقراً، والذم الوارد للدنيا في القرآن والسنة لا يرجع إلى ما أودعها الله عز وجل من خيرات، فهذه الخيرات نعم الله على عباده وعلى الناس، وإنما الذم الوارد في الكتاب والسنة للدنيا يرجع إلى كل معصية تُرتكب على ظهرها في حق ربنا جل وعلا، فلابد من تأصيل هذا الفهم، لاسيما لإخواننا الدعاة وطلاب العلم الذين ربما يغيب عن أذهانهم حقيقة الزهد في هذه الحياة الدنيا، فنحن لا نريد أن نقنط أحداً من هذه الحياة، ولا نريد أن نثبت لكل عامل في هذه الدنيا ولو كان في الحلال أنه تجاوز طريق الأنبياء والصالحين والأولياء، كلا! كلا! بل الدنيا مزرعة للآخرة. أيها الأخيار! تدبروا معي قول علي بن أبى طالب رضي الله عنه: (الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار نجاة لمن فهم عنها، ودار غنى لمن أخذ منها، الدنيا مهبط وحي الله، ومصلى أنبياء الله، ومتجر أولياء الله). فالدنيا مزرعة الآخرة، كما في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أنس، أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً، فيأكل منه إنسان أو طير أو بهيمة إلا كان له به صدقة). فلابد من هذا التأصيل، ولابد من هذا الفهم الدقيق بهذا الوعي العميق لحقيقة الدنيا؛ لننطلق من هذه الدار إلى دار تجمع سلامة الأبدان والأديان إلى دار القرار، فلابد قبل أن تعبر إلى دار القرار من المرور بهذه الدار. فالدنيا دار ممر والآخرة هي دار المقر، الدنيا مركب عبور لا منزل حبور، الدنيا دار فناء وليست دار بقاء، فلابد من وعي هذه الحقيقة لنستغل وجودنا في هذه الدار، ولنزرع هنا ونجني هنالك عند ربنا عظيم الثمار، أسأل الله أن يجعلنا من الصادقين. إذا علمت ذلك أيها الحبيب الكريم! فاعلم هذه الحقائق، وكن على يقين جازم بأن الحياة في هذه الدنيا موقوتة محدودة بأجل، ثم تأتي نهايتها حتماً، فيموت الصالحون ويموت الطالحون، يموت المجاهدون ويموت القاعدون، يموت المستعلون بالعقيدة ويموت المستذلون للعبيد، يموت الشرفاء الذين يأبون الضيم ويكرهون الذل، ويموت الجبناء الحريصون على الحياة بأي ثمن، فالكل يموت، كما قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27]. فلابد من أن تستقر هذه الحقيقة في القلب والعقل معاً، إنها الحقيقة التي تعلن على مدى الزمان والمكان في أذن كل سامع وعقل كل مفكر أنه لا بقاء إلا للملك الحي الذي لا يموت، إنها الحقيقة التي تصبغ الحياة البشرية كلها بصبغة الذل والعبودية لقهار السماوات والأرض، إنها الحقيقة التي شرب كأسها الأنبياء والمرسلون، والعصاة والطائعون، إنها الحقيقة الكبيرة التي تؤكد لنا كل لحظة من لحظات الزمن قول الله جل وعلا: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88].

سكرات الموت

سكرات الموت أيها الحبيب الكريم! تذكر هذه الحقيقة ولا تتغافل عنها؛ إذ إن النبي قد أمرنا أن نكثر من ذكرها، كما في الحديث الذي رواه الترمذي والنسائي والبيهقي والحاكم وغيرهم من حديث ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أكثروا ذكر هادم اللذات الموت). إنها الحقيقة التي سماها الله في قرآنه بالحق فقال جل وعلا: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق:19 - 21]. لا إله إلا الله! إن للموت سكرات، هل علمت أن هذه الكلمات قالها حبيب رب الأرض والسموات وهو يحتضر على فراش الموت، روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: (مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حاقنتي وذاقتني، وكان بين يديه ركوة بها ماء، فكان يمد يده في داخل الماء ويمسح وجهه ويقول: لا إله إلا الله، إن للموت سكرات). هكذا يقول حبيب رب الأرض والسماوات، قال عز وجل: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق:19]، فالمصطفى يذوق سكرة الموت ويقول: (لا إله إلا الله، إن للموت سكرات). وفي رواية الترمذي كان الحبيب صلى الله عليه وسلم يقول: (إن للموت غمرات، وإن للموت سكرات!) وفي رواية: (كان صلى الله عليه وسلم يدعو الله ويقول: اللهم أعني على سكرات الموت).

عرض الأديان على الإنسان عند السكرات

عرض الأديان على الإنسان عند السكرات قال عز وجل: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق:19]، وما أدراك ما السكرات؟ وما أدراك ما الكربات؟ والله! إن الكرب والهم يزداد في لحظات السكرات. إذا نمت على فراش الموت يا ابن آدم! ورأيت في غرفتك التي أنت فيها دون أن يرى أحد غيرك، رأيت شيطاناً قد جلس عند رأسك يريد أن يضلك عن كلمة (لا إله إلا الله) ويقول لك: مت يهودياً؛ فإنه خير الأديان! أو يقول لك: مت نصرانياً؛ فإنه خير الأديان! واستدل بعضُ أهلِ العلم على ذلك بشطر حديث صحيح رواه الإمام مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن الشيطان يحضر كل شيء لابن آدم). وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (4/ 255) عن مسألة عرض الأديان قبل الموت على العبد في فراش الموت، فقال شيخ الإسلام: من الناس من تعرض عليه الأديان، ومنهم من لا يعرض عليه شيء قبل موته، ثم قال: ولكنها من الفتن التي أمرنا النبي أن نستعيذ منها، كما في قوله: (اللهم أنى أعوذ بك من عذاب القبر، ومن عذاب جهنم، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال). فمن فتن الموت أن تأتي الشياطينُ لتصدك عن (لا إله إلا الله) ولتصدك عن كلمة التوحيد؛ فهذه من الكربات، وهذه من أشد السكرات على ابن آدم، ولا حول ولا قوة إلا بالله! فهل علمت أخي في الله! أن إمام أهل السنة أحمد بن حنبل، حينما نام على فراش الموت ذهبت إليه الشياطين لتنادي عليه بهذه الكلمات؟ قال ولده: عبد الله: حضرت الوفاة أبي فنظرت إليه، فإذا هو يغمى عليه ثم يفيق، ثم يشير بيده ويقول: لا بعد، لا بعد، فلما أفاق الإمام في لحظة بين سكرات الموت وكرباته قال له ولده عبد الله: يا أبت! تقول: لا بعد، لا بعد! فما هذا؟ فقال لولده: يا بني! هناك شيطان جالس عند رأسي عاض على أنامله يقول لي: يا أحمد! لو فتني اليوم ما أدركتك بعد اليوم، وأنا أقول له: لا بعد، لا بعد! حتى أموت على (لا إله إلا الله).

يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت

يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت إن كنت من المؤمنين الصادقين الموحدين المخلصين واجتالتك الشياطين ثبتك رب العالمين، وأنزل إليك ملائكة التثبيت، كما في حديث البراء بن عازب الصحيح، ومحل الشاهد فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر: (أن المؤمن إذا نام على فراش الموت جاءته ملائكة بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، فيجلسون من المؤمن مد البصر، حتى يأتي ملك الموت، ثم يجلس ملك الموت عند رأسه، وينادي على روحه الطيبة وهو يقول: يا أيتها الروح الطيبة! اخرجي حميدة، وأبشري بروح وريحان، ورب راضٍ عنك غير غضبان، فتخرج روح المؤمن سهلة، تسيل كما يسيل الماء من في السقاء، فلا تدعها الملائكة في يد ملك الموت طرفة عين، ثم ترقى بها إلى الله جل وعلا). هكذا أيها الأحبة! {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27]، فتنزل ملائكة التثبيت على الموحدين لرب الأرض والسماء جل وعلا بهذه البشارة التي سجلها ربُنا في قرآنه في قوله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:30 - 32]. قال ابن عباس: (القول الثابت هو لا إله إلا الله).

سكرة الموت حق

سكرة الموت حق قال عز وجل: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق:19]، والحق: أنك تموت، والله حي لا يموت، والحق: أن ترى عند موتك ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب، والحق: أن يكون قبرك روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران. وقوله عز وجل: {ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] أي: ذلك ما كنت منه تخاف، ذلك ما كنت منه تهرب، فكيف تحيد إلى الطبيب إذا جاءك المرض، وتحيد إلى الطعام إذا أحسست بالجوع، وتحيد إلى الشراب إذا أحسست بالظمأ، ثم ماذا أيها القوي الفتي؟! أيها الذكي العبقري! يا أيها الوزير والأمير والكبير! ويا أيها الصغير والفقير والحقير! كلكم كما قال الشاعر: كل باكٍ فسيُبَكى كل ناعٍ فسيُنعى كل مدخور سيفنى كل مذكور سيُنسى ليس غير الله يبقى من علا فالله أعلى وقال الشاعر الآخر: أيا من يدعي الفهم إلى كم يا أخا الوهم! تعب الذنب والذم وتخطي الخطأ الجم أما بان لك العيب؟! أما أنذرك الشيب؟! وما في نصحه ريب ولا سمعك قد صم أما نادى بك الموت؟! أما أسمعك الصوت؟! أما تخشى من الفوت؟! فتحتاط وتهتم فكم تسدر فى السهو وتختال من الزهو وتنفض إلى اللهو كأن الموت ما عم! كأني بك تنحط إلى اللحد وتنغط وقد أسلمك الرهط إلى أضيق من سم هناك الجسم ممدود ليستأكله الدود إلى أن ينخر العود ويمسي العظم قد رم فزود نفسك الخير ودع ما يعقب الضير وهيئ مركب السير وخف من لجة اليم بذا أوصيك يا صاح! وقد بحت كمن باح فطوبى لفتى راح بآداب محمد يأتم

حال الإنسان عند النزع

حال الإنسان عند النزع وصدق الله جلا وعلا إذ يقول: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:26 - 30]. (كلا إذا بلغت التراقي)، أي: إذا بلغت الروح الترقوة، (وقيل من راقٍ)، أي: من يرقى بروحه: ملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟ وقيل: أي: من يبذل له الرقية؟ ومن يبذل له الطب والعلاج؟ فهو صاحبُ الجاه صاحبُ الأموال صاحب السلطان صاحب الوزارة، وقد التف الأطباء حوله، بل نقل في سيارة خاصة إلى مستشفىً كبير، فالتف الأطباء من حوله: هذا متخصص في جراحة القلب، وهذا متخصص في جراحة المخ والأعصاب، وذاك في تخصص كذا، وذاك في تخصص كذا، وكلهم يريدون شيئاً، وملك الملوك قد أراد شيئاً آخر، قال عز وجل: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34]. وقال سبحانه: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:78]. وقال جل وعلا: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة:8]. وقال تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34]. التف الأطباء من حوله كل يبذل له الرقية ويقدم له العلاج، ولكن حار الأطباء حوله وداروا؛ فما الذي جرى؟ وما الذي حدث؟ اصفر وجهه، وشحب لونه، وبردت أطرافه، وتجعد جلده، وبدأ يشعر بزمهرير قارس، فينظر مرة في لحظة السكرة والكربة فيرى الغرفة التي هو فيها قد صارت فضاءً موحشاً، أو تضيق عليه فتصير كخرم إبرة، أو ينظر مرة فيرى أهله يبتعدون عنه ومرة يقتربون، لقد اختلطت عليه الأمور والأوراق، فتراه يسأل: من هذا الذي عند رأسي؟! إنه يعاينه ويراه، إنه ملك الموت! ومَنْ هؤلاء الذين يتنزلون من السماء؟ إنه يراهم بعينيه! إنهم الملائكة! فيا ترى أهي ملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟! ويا ترى! ماذا سيقول لي ملك الموت؟ وهل سيقول لي: يا أيتها النفس الطيبة! اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، ورب راضٍ غير غضبان، أم سيقول: يا أيتها الروح الخبيثة! اخرجي إلى سخط الله وعذابه؟! فينظر في لحظة صحوة بين السكرات والكربات فإذا وعى من حوله من أهله وأحبابه، نظر إليهم نظرة استعطاف ونظرة رجاء وأمل، وقال بلسان الحال، بل وربما بلسان المقال: يا أولادي! يا أحبابي! يا إخواني! لا تتركوني وحدي، ولا تفردوني في لحدي؛ فأنا أبوكم، وأنا الذي بنيت لكم القصور، وأنا الذي عمرت لكم الدور، وأنا الذي نميت لكم التجارة، فمن منكم يزيد في عمري ساعة أو ساعتين؟! افدوني بأموالي، افدوني بأعمالكم: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28 - 29].

لا يرد الموت شيء

لا يرد الموت شيء نام هارون الرشيد على فراش الموت، فنظر إلى جاهه وماله ثم قال: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28 - 29]، وقال: أريد أن أرى قبري الذي سأدفن فيه، فحملوا هارون إلى قبره، فنظر هارون إلى القبر وبكى، ونظر إلى السماء وقال: يا من لا يزول ملكه! ارحم من قد زال ملكه. قال عز وجل: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28 - 29]. أين الجاه؟! وأين السلطان؟! وأين المال؟! وأين الأراضي؟ لقد ذهب كل شيء! وهنا يعلو صوت الحق: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:83 - 96]. سبحان ذي العزة والجبروت! سبحان ذي الملك والملكوت! سبحان من كتب الفناء على جميع خلقه وهو الحي الذي لا يموت! سبحانك يا من أذللت بالموت رقاب الجبابرة! سبحانك يا من أنهيت بالموت آمال القياصرة! ونقلتهم بالموت من القصور إلى القبور، ومن ضياء المهود إلى ظلمة اللحود، ومن ملاعبة الجواري والنساء والغلمان إلى مقاساة الهوام والديدان، ومن التنعم في ألوان الطعام والشراب إلى التمرغ في ألوان الوحل والتراب! قال عز وجل: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [القيامة:26 - 27] أي: من يرقى بروحه، أو من يبذل له الرقية والطب والعلاج. {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:28 - 30]. إنه يومُ المرجع، إنه يوم العودة، انتهى أجلك وانتهت دنياك، وحتماً ستُعرض على مولاك.

موعظة أبي حازم لسليمان بن عبد الملك

موعظة أبي حازم لسليمان بن عبد الملك سأل سليمان بن عبد الملك عالماً من علماء السلف يقال له: أبو حازم، قال سليمان: يا أبا حازم ما لنا نكره الموت؟! وبعض الناس الآن ربما يتضجر إن ذُكِّر بالموت، وربما يقول لمذكره: ذكرنا بموضوع آخر، وهل ما وجدت إلا الموت لتذكرنا به؟! فقال سليمان بن عبد الملك لـ أبى حازم: يا أبا حازم ما لنا نكره الموت؟ فقال أبو حازم: لأنكم عمرتم دنياكم، وخربتم أخراكم، فأنتم تكرهون أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب! في زيارة لي إلى أمريكا نبهني أحد الإخوة إلى رجل منَّ الله عليه بالأموال، ومع ذلك لا يصلي ولا يعرف حقاً للكبير المتعال، فذهبت إليه لأذكره بالله جل وعلا، وهو مسلم عربي وليس أمريكياً، فقال لي: يا أخي! أنا ما أتيت إلى هذه البلاد إلا من أجل الدولار، وأعدك إن عدتُ إلى بلدي ألا أفارق المسجد أبداً! قلت: سبحان الله! ومن يضمن لك يا مسكين أن ترجع إلى بلدك، ومن يضمن لك أن يمر عليك يومُ بكامله، والله! لا تضمن أن تتنفس بعد هذه اللحظات. فدع عنك ما قد فات من زمن الصبا واذكر ذنوبك وابكها يا مذنب! لم ينسه الملكان حين نسيته بل أثبتاه وأنت لاهٍ تلعب والروح منك وديعة أودعتها ستردها بالرغم منك وتسلب وغرور دنياك التي تسعى لها دار حقيقتها متاع يذهب الليل فاعلم والنهار كلاهما أنفاسنا فيها تعد وتحسب دنياك مهما طالت فهي قصيرة، ومهما عظمت فهي حقيرة؛ لأن الليل مهما طال لابد من طلوع الفجر، ولأن العمر مهما طال لابد من دخول القبر. يا أبا حازم! ما لنا نكره الموت؟ قال: لأنكم عمرتم دنياكم وخربتم أخراكم، فأنتم تكرهون أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب. فقال سليمان بن عبد الملك: يا أبا حازم! كيف حالنا عند الله تعالى؟! قال: اعرض نفسك على كتاب الله. قال سليمان: أين أجده؟ قال: في قوله تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار:13 - 14]. قال سليمان بن عبد الملك: فأين رحمة الله يا أبا حازم؟! قال أبو حازم: إن رحمة الله قريبٌ من المحسنين. فقال سليمان بن عبد الملك: فكيف عرضنا على الله غداً؟ فقال أبو حازم: أما المحسن فكالغائب في سفر يقدم على أهله، فيستقبله الأهل بفرح، والمسيء كالعبد الآبق يقدم على مولاه. وفي الصحيحين من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، قالت عائشة: يا رسول الله! أكراهية الموت، فكلنا نكره الموت، قال: لا يا عائشة! ولكن المؤمن إذا بشر برحمة الله ورضوانه وجنته، أحب لقاء الله وأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا بشر بسخط الله وعذابه، كره لقاء الله وكره الله لقاءه). وفي صحيح البخاري من حديث أبي سعيد الخدري رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا وضعت الجنازة وحملها الرجال على الأعناق تكلمت، وسمعها كل شيء إلا الإنسان، إن كانت صالحة: قدموني قدموني! وإذا كانت غير صالحة تقول: يا ويلها! إلى أين يذهبون بها؟ ولو سمعها الإنسان لصعق)، إي والله! لو سمعت جنازة تقول: قدموني قدموني، وسمعت جنازة أخرى لحبيب لك تقول: يا ويلها! إلى أين تذهبون بها؟ لصعقت. والحديث عن النفس حديث طويل ومكروه، فإنما هي آية ثابتة، وإنما هي أحاديث ثابتة نذكر بها كلما أردنا أن نذكر الآخرين -وأنفسنا قبل الآخرين- بالموت، وقد أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نكثر من ذكر الموت لنستعد للقاء الله جل وعلا. أيها اللاهي! أيها الشاب! أيها الكبير! أيها الصغير! أيها الوزير! أيها الأمير! أيها الصغير! أيها الحقير، ذكر نفسك وقل لها: يا نفس قد أزف الرحيلُ وأظلك الخطب الجليل فتأهبي يا نفس! لا يلعب بك الأمل الطويل فلتنزلن بمنزل ينسى الخليل به الخليل وليركبن عليك فيه من الثرى حمل ثقيل قرن الفناء بنا فما يبقى العزيز ولا الذليل وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

وجوب التوبة إلى الله

وجوب التوبة إلى الله الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام! هكذا تبدأ رحلتنا في رحاب الدار الآخرة بالموت بعدما بينا بإيجار حقيقة الدنيا، وتنتهي هذه المرحلة الأولى بالوصول إلى القبر، وهأنذا أقف بكم أمام القبر وعند القبر؛ لنرى في لقائنا المقبل إن شاء الله جل وعلا حقيقة القبر، وما معنى البرزخ؟ وما معنى النعيم؟ وما معنى الجحيم؟ ولماذا لم يذكر الله عذاب القبر صراحة في القرآن؟ وهل ثبتت فيه أحاديث صحيحة عن النبي عليه الصلاة والسلام؟ وما هي حقيقة القبر؟ وما هي حقيقة البعث بعد ذلك؟ لنواصل الرحلة، نسأل الله أن ينفعنا وإياكم بها. وهأنذا أذكر نفسي وأحبابي وأخواتي في هذه اللحظات بالتوبة إلى رب الأرض والسموات. يا من أسرفت على نفسك بالمعاصي! يا من ضيعت الصلاة في بيوت الله! يا من تركتِ الحجاب الشرعي! يا من شغلك التلفاز أو الشيطان عن الله عز وجل! يا من أعرضت عن مجلس العلم وأماكن الخير والطاعة والعبادة! يا من قضيت عمرك على المقاهي وتركت فرض الله عز وجل! تب إلى الله، والله! إنك ستموت والله! إنك ستموت، وغداً يا مسكين! ستتمنى الرجعة، كما قال عز وجل: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون:99]. فإن كان كافراً سيتمنى الرجعة، وإن كان مسلماً عاصياً سيتمنى الرجعة: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي} [المؤمنون:99 - 100] سبحان ربي! هو غير متأكد إن كان سيعمل صالحاً أو لن يعمل صالحاً، مع أنه يتمنى على الله أن يعود! {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99 - 100] فيأتيه الجواب كالصفعة على خديه: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ} [المؤمنون:100] أي: كلمة حقيرة، كلمة تافهة لا وزن لها عند الله: {هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100]. فتب إلى الله، وأذكر نفسي وإياك ألا تيأس ولا تقنط مهما بلغت ذنوبك، فعد إلى الملك مهما كثرت معاصيك، واطرق باب الرحمن جل وعلا، والله! لن يغلق الرحمن الباب في وجهك، وإن ارتكبت الزنا، وإن شربت الخمر، وإن قتلت، فعد إلى الله، فإن الله يقبل توبة المشرك إن خلع رداء الكفر على عتبة الإسلام، كما قال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]. وقال سبحانه: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]. فعاهد ربك الآن على التوبة، وعاهدي ربك على التوبة. قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم:8]. وأذكرك بهذا الحديث الذي رواه مسلم والترمذي واللفظ للترمذي من حديث أنس؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى في الحديث القدسي: يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالى، يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة)، فاسجد لربك شكراً يا من خلقت موحداً! وبعث الله إليك محمداً، فإن هذا من فضل الله علينا. أيها الحبيب! اجتهد في الدنيا، وعمر الكون، وإن استطعت أن تربح مليوناً فافعل، بشرطين: أن تربح من الحلال، وأن تؤدي حق الكبير المتعال، فاجتهد في الدنيا، وازرع للآخرة؛ فأنا لا أريد أن أقنطك من هذه الحياة أبداً، وإنما أريد أن أذكر نفسي وإياك بأن الدنيا مزرعة للآخرة، فلا ينبغي أن تنشغل بالدار الفانية عن الدار الباقية، فغداً سترحل عن هذه الحياة، ولن ينفعك إلا ما قدمت، كما قال صلى الله عليه وسلم: (يتبع الميت ثلاثة: ماله وأهله وعمله، فيرجع اثنان ويبقى واحد، يرجع الأهل والمال، ويبقى العمل) وينادى عليك هنالك في القبر بلسان الحال: رجعوا وتركوك، وفى التراب وضعوك، وللحساب عرضوك، ولو ظلوا معك ما نفعوك، ولم يبق لك إلا عملك مع رحمة الحي الذي لا يموت. اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم، اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم، ولا تعذبنا فأنت علينا قادر. اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، وبلغنا مما يرضيك آمالنا. اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر. اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم إن أردت بالناس فتنة فاقبضنا إليك غير خزايا ولا مفتونين، ولا مفرطين ولا مضيعين، ولا مغيرين ولا مبدلين. اللهم ارزقنا حسن الخاتمة يا أرحم الراحمين! اللهم اختم لنا بخاتمة السعادة، اللهم لا تحرمنا الزيادة، اللهم اختم لنا بخاتمة السعادة، اللهم لا تحرمنا الزيادة. اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلا ألا تدع لأحد منا ذنباً إلا غفرته. اللهم اغفر ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم لا تدع لأحد منا ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ميتاً لنا إلا رحمته، ولا عاصياً بيننا إلا هديته، ولا طائعاً معنا إلا زدته وسددته يا رب العالمين! ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ويسرتها يا أرحم الراحمين! اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده دوماً تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا شقياً ولا محروماً. اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى، اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى، اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى. أيها الأحبة! هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان، وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون عليه إلى الجنة ويلقى في جهنم، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين.

كيف نستقبل رمضان؟

كيف نستقبل رمضان؟ رمضان شهر الخير واليمن والبركات، وفيه تتنزل الرحمات، وتغلق أبواب النار، وتفتح أبواب الجنات، فعلى المرء أن يتأهب ويستعد لاستقبال شهر رمضان، وعليه أن يستغل شهر رمضان في الطاعات والأعمال الصالحة، فإنه من الأوقات الفاضلة التي ينبغي ألا يفرط فيها.

رمضان شهر التوبة والإنابة

رمضان شهر التوبة والإنابة إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة، وزكى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور، وطبتم جميعاً أيها الأحبة الكرام! وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله جل وعلا أن يجمعني وإياكم في هذه الدنيا دائماً وأبداً على طاعته، وفي الآخرة مع سيد الدعاة وإمام النبيين وسيد المرسلين في جنته ودار كرامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! تتزاحم علي الأفكار في هذه اللحظات، ولكن أرى أنه من الجفاء ألا نحيي اليوم ضيفاً كريماً قد نزل بنا، إنه ضيف عزيز كريم مبارك، قد أهل علينا بأنفاسه الخاشعة الزكية، ورحماته المباركة الندية، إنه شهر القرآن إنه شهر القيام والصيام إنه شهر الجود والبر والإحسان والعتق من النيران إنه شهر رمضان. لقد أهل علينا هذا الشهر، وأرى أنه من الجفاء ألا يكون حديثنا هذا عن شهر رمضان، لذا فاسمحوا لي أيها الأحبة الكرام! أن يكون لقاؤنا هذا بعنوان: (كيف نستقبل رمضان؟) وسوف أركز الحديث حول هذا الموضوع في العناصر التالية: أولاً: تب إلى الله جل وعلا أيها الحبيب! من جميع المعاصي والذنوب. أيها المسلم! أيتها المسلمة! إن أهل الباطل يخططون لكم من قبل رمضان؛ ليشغلوا أوقاتكم بالمسلسلات الفاجرة، والأفلام الداعرة، والفوازير الخليعة الماجنة، فاحذر أيها الحبيب! واحذري أيتها المسلمة! من أهل الباطل، وتب إلى الله من هذه اللحظة وأنت جالس في موضعك، وارفع أكف الضراعة إلى الله بقلب خاشع منيب أواب، واسأله أن يغفر لك جل وعلا ما مضى من الذنوب والآثام، واعلم بأن الله عز وجل سيفرح بتوبتك، وسيفرح بعودتك، وهو الغني عن العالمين الذي لا تنفعه الطاعة، ولا تضره المعصية. فيا صاحب الخطايا! أين الدموع الجارية؟! يا أسير المعاصي! ألا تبكي على الذنوب الماضية؟! يا متجرئاً على الله! ألا تخشى من هول القيامة؟! يا أسير المعاصي! ابك على ذنبك الآن، يا أسير الذنوب! ابك على خطيئتك الآن، وتب إلى الرحيم الرحمن جل وعلا، فورب الكعبة ما من يوم يمر علينا إلا ويتنزل الملك جل جلاله إلى السماء الدنيا، تنزلاً يليق بكماله وجلاله، فكل ما دار ببالك فالله بخلاف ذلك، كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، والحديث رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (يتنزل جل وعلا كل ليلة إلى السماء الدنيا إذا مضى ثلث الليل الأول، ثم يقول جل وعلا: أنا الملك، من ذا الذي يدعوني فأستجيب له، من ذا الذي يستغفرني فأغفر له، من ذا الذي يسألني فأعطيه، حتى يضيء الفجر) فالله ينادي عليك كل ليلة أيها الحبيب! والله ينادي عليك أيتها المسلمة! ويقول جل وعلا: (من ذا الذي يدعوني فأستجيب له) فهل يجدك الله وقد وضعت أنفك وجبينك في التراب ذلاً لخالقك؟! أم سيراك الله أمام المسلسلات؟! أم سيراك الله أمام الفوازير؟! أم سيراك الله أمام الأفلام؟!! يا عبد الله! والله! إن العمر قصير، وإن الوقت قليل، وإن أقرب غائب تنتظره هو الموت، فكم ودعت من أحبابك وإخوانك في الأيام الماضية إلى القبور؟! ذهب الأحباب وذهب الأخلاء، وأنت قدر الله لك أن تعيش إلى رمضان، ولا تملك ولا تضمن أن تعيش إلى رمضان المقبل! فهيا أيها الحبيب! تب إلى الله، ففي صحيح مسلم ومسند أحمد من حديث أبي موسى الأشعري أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها) أي: حتى يأذن الله جل وعلا لمراحل الساعة الكبرى فتبدأ، ومنها: طلوع الشمس من مغربها، وإذا طلعت الشمس من مغربها وقعت العلامات الكبرى للساعة وللقيامة يا عباد الله! أيها الحبيب! هل تعلم أنك إن تبت إلى الله فرح الله بتوبتك؟! قال جل وعلا: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]. وفي الصحيحين من حديث أنس بن مالك أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لله أفرح بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه راحلته وعليها الطعام والشراب، فأيس من راحلته، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها وقد أيس من راحلته، وبينما هو كذلك إذ به يرى راحلته قائمة عند رأسه، فقال: اللهم لك الحمد، أنت عبدي، وأنا ربك! يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: أخطأ من شدة الفرح) فالله يفرح بتوبتك وعودتك أعظم وأجل من فرحة هذا العبد بعودة راحلته إليه مرة أخرى. فيا أيها الحبيب! من منا لم يذنب؟! ومن منا لم يعص الله؟! فكل بشر على ظهر هذه الأرض خطاء، ولكن ربك جل وعلا هو الغفور الرحيم، فهيا من هذه اللحظة تب إلى الله، وعد وارجع إلى الله جل وعلا. واسمع إلى ربك وهو ينادي عليك في الحديث القدسي الجليل الذي رواه مسلم والترمذي بسند حسن صحيح واللفظ للترمذي من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: يا بن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا بن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا بن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة). هذه هي اللمحة الأولى والعنصر الأول الذي أردت أن أذكر نفسي وأحبابي به، أسأل الله أن يجعلنا وإياكم من التائبين. ولا تظن أيها الحبيب! أن التوبة لأهل المعاصي فحسب، كلا، بل لقد أمر الله أهل الإيمان بالتوبة، فقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم:8].

تنزل الرحمات في رمضان

تنزل الرحمات في رمضان ثانياً: أيها الحبيب! إياك أن تحرم نفسك في رمضان من رحمة الرحيم الرحمن، فإن الخاسر ورب الكعبة! هو من مر عليه رمضان ولم يفز فيه برحمة الرحيم الرحمن، ففي الحديث الذي رواه الطبراني -ورواته ثقات- من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه كان الحبيب صلى الله عليه وسلم إذا أقبل شهر رمضان يقول: (أتاكم رمضان شهر بركة، يغشاكم الله فيه، ينزل الرحمة، ويحط الخطايا، ويستجيب فيه الدعاء، وينظر فيه إلى تنافسكم في الخير، ويباهي بكم ملائكته، فأروا الله من أنفسكم خيراً، فإن الشقي من حرم في رمضان رحمة الله عز وجل). أيها الحبيب! فكر في هذا الحديث جيداً من الآن: هل تتنزل عليك الرحمة أمام المسلسل؟! وهل تتنزل عليك الرحمة أمام الفلم؟! وهل تتنزل عليك الرحمة أمام الفوازير الماجنة؟! إنما تتنزل الرحمات في بيئة الطاعات، وفي بيوت رب الأرض والسماوات، وإن جلست في بيتك وجمعت زوجتك وأولادك، وجلست تقرأ القرآن الكريم، أو جلست في بيتك تستغفر الله الرحمن الرحيم، فهذه هي البيئة التي تتنزل عليك فيها الرحمات، فيا أخي في الله! اتق الله في رمضان، وإياك أن تضيع دقيقة في غير طاعة، عليك ألا تمر دقيقة إلا وأنت في طاعة لله، فورب الكعبة! إنك لا تضمن أن تعيش إلى رمضان المقبل، فرمضان شهر الرحمات، فعرض نفسك لرحمة الله، ولن تنال رحمة الله إلا إذا كنت على طاعة لله جل وعلا.

وجوب المحافظة على صلاة الجماعة

وجوب المحافظة على صلاة الجماعة ثالثاً: أيها الحبيب المبارك! حافظ على الصلوات في جماعة في بيوت الله عز وجل، فلقد كان حبيبك المصطفى حريصاً على الجماعة حتى في مرضه الأخير، وكذا كان الصحابة رضوان الله عليهم، وقد نقل الإمام البغوي في (شرح السنة) اتفاق أهل العلم، فقال: اتفق أهل العلم على أنه لا رخصة لأحد في ترك الجماعة إلا من عذر شرعي) فلا يجوز لأحد أن يترك صلاة الجماعة إلا من عذر شرعي، والعذر الشرعي الذي يمنعك من صلاة الجماعة في بيوت الله هو: المرض، والمطر الشديد، والظلام الحالك الذي تخشى فيه على نفسك الهلاك، والبرد الشديد الذي قد يصيبك بأذى أو بمرض، أو وضع الطعام بين يديك في وقت أذن فيه للصلاة، فإذا كنت جائعاً فقدم الطعام أو العَشاء على العِشاء، أما فيما عدا ذلك فلا يجوز لك أن تؤخر الصلاة في بيوت الله جل وعلا عن وقتها. وكم من المسلمين من يترك صلاة الجماعة في بيوت الله، وعذره: حتى ينتهي الفلم أو المسلسل أو المباراة! فهل هذا عذر شرعي يا عباد الله؟! بل الواجب عليك أن تهرع إلى بيت الله إذا نودي عليك بحي على الصلاة! أيها الحبيب الكريم! اسمع إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، والحديث رواه مسلم، يقول عبد الله: (من سره أن يلقى الله تعالى غداً مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن، فإن الله قد شرع لنبيكم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو صليتم في بيوتكم -أي: لم يترك الصلاة، وإنما يصلي، ولكنه يصلي في بيته- كهذا المتخلف الذي يصلي في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا وما يتخلف عن صلاة الجماعة إلا منافق معلوم النفاق! -والله! إنها عبارة تخلع القلب الحي- ولقد كان يؤتى بالرجل يهادى به بين الرجلين -أي: كرجل عجوز كبير مريض يؤتى به وهو يتمايل بين رجلين: رجل عن يمينه، ورجل عن يساره- حتى يُقام في الصف) أي: ليصلي الجماعة في بيت الله جل وعلا. فيا أيها الحبيب! الله الله في الصلاة! ولا تضيع صلاة في بيت الله، فإذا نودي عليك وأنت في بيتك إذا نودي عليك وأنت في عملك إذا نودي عليك وأنت في بقالتك أو تجارتك، فقم إلى الله جل وعلا وضع جبينك وأنفك في التراب شكراً لرازقك وخالقك جل في علاه. أيها الحبيب! لقد توعد المصطفى من أخر صلاة الجماعة وصلى في بيته بأشد الوعيد، وأنا لا أتكلم الآن عمن ترك الصلاة، ولا أتحدث الآن عمن ضيع الصلاة، فلا حول ولا قوة إلا بالله! لكنني أتحدث عن الذي يصلي، لكنه يصلي في بيته، ويدع الصلاة في بيوت الله، فلم بنيت بيوت الله جل وعلا؟! والله عز وجل يقول: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن:18] فالمساجد هذه ما بنيت إلا ليجتمع فيها الموحدون، وإلا ليركع فيها الراكعون، وإلا ليسجد فيها الساجدون المؤمنون لله رب العالمين، لقد توعد المصطفى من تأخر عن صلاة الجماعة بأشد الوعيد -ونحن نعاهد الله ألا نذكر إلا حديثاً صحيحاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم- ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس -أي: في موضع ومكان الحبيب المصطفى- ثم أنطلق مع رجال معهم حزم من الحطب إلى أقوام يصلون في بيوتهم لأحرق عليهم بيوتهم بالنار) هذا كلام الحبيب المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم. يريد المصطفى أن يأمر بالصلاة فتقام، وأن ينطلق هو في وقت إقامة الصلاة؛ ليبحث عن البيوت التي تخلف أهلها عن صلاة الجماعة من غير عذر شرعي فيحرق عليهم بيوتهم، وهذا وعيد شديد! وفي صحيح مسلم وسنن الترمذي وسنن أبي داود أنه جاء رجل أعمى إلى رسول الله يقول له: (ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فهل ترخص لي أن أصلي في بيتي؟ فرخص له المصطفى صلى الله عليه وسلم، فلما انصرف الرجل نادى عليه رسول الله وقال له: هل تسمع النداء؟ قال: نعم، قال المصطفى: فأجب) أي: أجب النداء إلى بيت الله، وفي لفظ أبي داود بسند حسن صحيح، قال له المصطفى صلى الله عليه وسلم: (هل تسمع (حي على الصلاة)؟ قال: نعم، فقال المصطفى: فحيَّ هلاً) أي: لب نداء الله إلى بيت الله جل وعلا. هل علمت أن الله لم يسقط صلاة الجماعة عن المقاتلين في ميدان القتال؟! بل أمر الله المصطفى أن يقسم الجيش إلى فريقين: فريق يحرس في أرض المعركة، ويصلي هو بالفريق الآخر الجماعة، فإذا أنهى الفريق الأول صلاة الجماعة يأتي الفريق الثاني الذي كان يتولى الحراسة ليصلي هو الآخر جماعة مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، فهل يوجب تعالى صلاة الجماعة على المقاتلين، ويسقطها عن الفارغين غير المنشغلين؟! فيا أيها الحبيب الكريم! احرص في رمضان كله بل وفي كل حياتك وأوقاتك على أن تؤدي الصلاة في جماعة في بيوت الله عز وجل، ولا يكن حالك كحال المنافقين الذين قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم: (أثقل الصلاة على المنافقين صلاة الفجر وصلاة العشاء) والحديث في الصحيحين، فانظر إلى بيوت الله في صلاة الفجر تجد المساجد تبكي وتشكي حالها إلى الله جل وعلا، فأين الموحدون؟! وأين المخلصون في صلاة الفجر؟! ولكن كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن أثقل الصلاة على المنافقين: صلاة الفجر وصلاة العشاء) هذا كلام سيد المرسلين، فيا أيها الحبيب! قد يقضي الواحد منا ساعة أمام مباراة، وقد يقضي الواحد منا نصف ساعة أمام مسلسل أو أكثر، ولكنه إذا دخل الصلاة -وربما لا يقرأ الإمام بربع في الركعتين- ربما يستطيل الصلاة، وأنا أخشى على مثل هذا إن لم يكن عنده عذر، كما قال الشاعر: تأتي إلى الصلاة في فتور كأنك قد دعيت إلى البلاء وإن أديتها جاءت بنقص لما قد كان منك من شرك الرياء وإن تخلو عن الإشراك فيها تدبر للأمور بالارتقاء ويا ليت التدبر في مباح ولكن في المشقة والشقاء وإن كنت المصلي بين خلق أطلت ركوعها بالانحناء وتعجل خوف تأخير لشغل كأن الشغل أولى من لقاء وإن كنت المُجالس يوماً أنثى أضعت الوقت من غير اكتفاء أيا عبد لا يساوي الله معك أنثى تناجيها بحب أو صفاء

رمضان شهر الإنفاق

رمضان شهر الإنفاق رابعاً: أنفق في سبيل الله في هذا الشهر، ولا تبخل، ولا تخش الفقر ولا الفاقة، وأنفق يمنة ويسرة، ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من يوم إلا وينزل ملكان إلى السماء، فيقول الأول: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً). أيها المسلمون! يا من منَّ الله عليكم بالأموال اعلموا أن لكم إخواناً فقراء، ربما لا يتذوقون طعم اللحم في رمضان كله، فيا أيها المسلم! تدخر لمن؟! قال الحبيب صلى الله عليه وسلم -والحديث في صحيح البخاري - لأصحابه: (أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟) أي: من منكم يحب المال الذي سيتركه للورثة أكثر من حبه لماله هو؟ فقالوا: يا رسول الله! كلنا ماله أحب إليه من مال وارثه، فقال الحبيب: (فإن مالك ما قدمت، ومال ورثتك ما أخرت). وقد أمر المصطفى صلى الله عليه وسلم عائشة أن تتصدق بالشاة المذبوحة، فقد روى الترمذي بسند حسن صحيح: أنه صلى الله عليه وسلم عاد إليها وقال: (ما بقي من الشاة يا عائشة؟ فقالت: ما بقي منها شيء أبداً إلا الذراع هذا، تركته لك؛ لأني أعرف أنك تحب الذراع يا رسول الله! أو قالت: ما بقي منها شيء إلا كتفها، فقال الحبيب: بل بقيت كلها إلا كتفها) فما تصدقت به فهو الباقي، وما أكلت فهو الفاني. وفي الحديث الذي في صحيح البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال: قال الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ما لك يا بن آدم! تقول: مالي مالي! وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت؟) أي: ليس لك إلا لقمة تؤكل، أو ثياب تبلى، أو صدقة تبقى. فيا أيها الحبيب! لقد كان الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة في رمضان، وما منع النبي صلى الله عليه وسلم سائلاً أبداً، بل لقد ورد في صحيح مسلم أن رجلاً جاء إلى المصطفى فسأله، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى غنم بين جبلين، فقال: (انظر إلى هذه الغنم، سقها فهي لك! فساق الرجل الغنم كلها بين يديه، وذهب إلى قومه قائلاً: يا قوم! أسلموا، فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفقر). فيا أيها المسلم! أنفق في رمضان، وهيا فكر من الآن، فإن منَّ الله عليك بالمال فلا تنس جارك الفقير، ولا تنس الفقراء والمساكين، فيا أهل الأموال! قدموا الطعام والصدقة، فإن المال ظل زائل، وعارية مسترجعة، ومالك أيها الحبيب! هو ما قدمت، ومال ورثتك هو ما أخرت، فورب الكعبة! لن ينفعك أحد على ظهر هذه الأرض، فيا أيها المسلم! ويا أيها الحبيب! أنفق لله عز وجل في رمضان، ولا تخش الفقر ولا الفاقة، فإن الذي تكفل بالأرزاق هو الرزاق كما قال في كتابه: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود:6]. وسامحوني على تكرار هذا الحدث، فإنه يحلو لي أن أذكّر به في كل مرة أتطرق فيها للحديث عن قضية الرزق: هذا عبد من عباد الله الصالحين يقال له: حاتم الأصم -ووالله! ما أذكرها هنا إلا لأذكر بها؛ فإن الذكرى تنفع المؤمنين- أراد حاتم الأصم أن يحج بيت الله الحرام، فجمع هذا الرجل الصالح أبناءه وقال: إني ذاهب إلى حج بيت الله، فبكى الأبناء وقالوا: ومن يطعمنا؟! ومن يأتينا بما نريد؟! وكان لهذا الرجل فتاة تقية نقية، فقالت الفتاة لأبيها: يا أبت! اذهب، فإنك لست برازق، فانطلق الرجل، وبعد أيام قليلة نفد الطعام الذي كان في البيت، فقامت الأم لتعنف هذه الفتاة، وقام الأخوات ليعنفن هذه الفتاة، وخلت هذه الفتاة التقية بنفسها، ورفعت شكواها إلى من يسمع دبيب النملة السوداء تحت الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، إلى من -قال وقوله الحق- {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3] رفعت شكواها إلى الله، فاستجاب الله دعاءها، وفي الوقت نفسه كان أمير البلدة يمر ليتفقد أحوال الناس، وعند باب حاتم الأصم أحس بعطش شديد كاد أن يقتله، فقال جندي من الشرطة معه: أدركني بكوب من الماء، فأسرع الجندي إلى أقرب باب إلى باب بيت حاتم الأصم، فأحضر له أهل البيت كوباً نظيفاً، وماءً بارداً، من باب: (أنزلوا الناس منازلهم) وهذا أيها الشباب! ليس من المداهنة وليس من الرياء أو النفاق، فيجب علينا أن ننزل الناس منازلهم، وأن نقدر الناس قدرهم، وهذا من الدين ومن الإسلام، فلما شرب الأمير الماء، قال: بيت من هذا؟ قالوا: بيت حاتم الأصم، قال: هذا العبد الصالح؟! قالوا: نعم، قال: الحمد لله الذي سقانا من بيوت الصالحين، أين هو لنسلم عليه؟ قالوا: ذهب لحج بيت الله الحرام، فقال الأمير: إذاً: حق علينا أن نكافئ أهل بيته في غيبته -وكانت عملتهم من الذهب- فجاء بكيس مملوء بالذهب وألقاه في بيت حاتم الأصم، ولكن الرزاق أراد الزيادة، فأنطق الله الأمير، فالتفت الأمير إلى الجند الذين من حوله وقال: من أحبني فليصنع كصنيعي، فألقى كل جندي ما معه من الأموال، وامتلأ البيت بالذهب، ودخلت البنت التقية النقية تبكي، وراحت الأم تفرح وتسعد مع الأخوات، فدخلوا عليها وسألوها: لماذا هذا البكاء، وقد أصبحنا من أغنى الناس؟ فقالت لهم: لقد نظر إلينا مخلوق نظرة فاغتنينا، فكيف لو نظر الخالق إلينا؟! فلا تخش انعدام الرزق، فإن الذي تكفل بالأرزاق هو الرزاق ذو القوة المتين، كما قال سبحانه: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات:22 - 23]. وأقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

الحرص على الخير والإكثار منه لاسيما في شهر الخير

الحرص على الخير والإكثار منه لاسيما في شهر الخير الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الحبيب الكريم! أختم بهذه الكلمة -وتذكروها جيداً- فأقول: إننا اليوم قد أهلّ علينا شهر رمضان. وبعد انتهائه سنقول جميعاً: قد انتهى رمضان، وهكذا رمضان في كل عام، فإنه يأتينا ثم يمضي من بين أيدينا سريعاً، فيربح الرابح، ويخسر الخاسر. فيا أيها الحبيب الكريم انتبه! واحمد الله أن وجدت من يذكرك بهذه الحقيقة من الآن، واحفظ وقتك، فإني أتألم كثيراً حينما أسمع من أحبابي من يقول: ذهبنا إلى المكان الفلاني لنضيع الوقت! وقتك غالٍ أيها الموحد! وقتك يساوي جنة أو ناراً، فساعة في الطاعة تقربك من الجنة، وساعة في المعصية تقربك من النار، والعياذ بالله. فيا أيها الحبيب الكريم! احفظ وقتك، واعلم أن العمر قصير وأن الأجل قريب، وأن الدنيا مهما طالت فهي قصيرة، ومهما عظمت فهي حقيرة، وأن الليل مهما طال لابد من طلوع الفجر، وأن العمر مهما طال لابد من دخول القبر. لقي الفضيل بن عياض رجلاً فقال له الفضيل: كم عمرك؟ فقال الرجل: ستون سنة، فقال الفضيل: إذاً أنت منذ ستين سنة تقطع الطريق إلى الله، يوشك أن تصل، فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون! فقال الفضيل: يا أخي! هل عرفت معناها؟ قال: نعم، عرفت أني لله عبد، وأني إليه راجع، فقال الفضيل: يا أخي! فمن عرف أنه لله عبد، وأنه إليه راجع عرف أنه موقوف بين يديه، ومن عرف أنه موقوف عرف أنه مسئول، ومن عرف أنه مسئول فليعد للسؤال جواباً، فبكى الرجل، وقال: يا فضيل! وما الحيلة؟ قال الفضيل: يسيرة، قال: ما هي يرحمك الله؟ قال الفضيل: هي أن تتقي الله فيما بقي يغفر الله لك ما قد مضى وما قد بقي. قال الشاعر: تذكر وقوفك يوم العرض عرياناً مستوحشاً قلق الأحشاء حيرانا والنار تزفر من غيظ ومن حنق على العصاة ورب العرش غضباناً اقرأ كتابك يا عبدي على مهل فهل ترى فيه حرفاً غير ما كانا فلما قرأت ولم تنكر قراءته وأقررت إقرار من عرف الأشياء عرفاناً نادى الجليل خذوه يا ملائكتي وامضوا بعبد عصى إلى النار عطشانا المشركون غداً في النار يلتهبوا والموحدون بدار الخلد سكانا قال عز وجل: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا * وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا * وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:47 - 49]. فانتبه أيها المسلم! قال الشاعر: أيا من يدعي الفهم إلى كم يا أخا الوهم تعبي الذنب والذم وتخطي الخطأ الجم أما بان لك العيب أما أنذرك الشيب وما في نصحه ريب كأن سمعك قد صم أما نادى بك الموت أما أسمعك الصوت أما تخشى من الفوت فتحتاط وتهتم فكم تسير في السهو وتختال من الزهو وتنفض إلى اللهو كأن الموت ما عم كأني بك تنحط إلى اللحد وتنغط وقد أسلمك الرهط إلى أضيق من سم هناك الجسم ممدود ليستأكله الدود إلى أن ينخر العود ويمسي العظم قد رم فزود نفسك الخير ودع ما يعقب الضير وهيئ مركب السير وخف من لجة اليم بذا أوصيك يا صاح وقد بحتك من باح فطوبى لفتى راح بآداب محمد يأتم وصدق الله إذ يقول: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:26 - 30] ويفتح سجلك أيها اللاهي! ويفتح سجلك أيها الغافل! وإذا به: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة:31 - 32]، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. فذكر نفسك أيها الحبيب! وأذكر نفسي وإياك بقول الشاعر: يا نفس قد أزف الرحيل وأظلك الخطب الجليل فتأهبي يا نفس! لا يلعب بك الأمل الطويل فلتنزلن بمنزل ينسى الخليل به الخليل وليركبن فيه عليك من الثرى ثقل ثقيل قرن الفناء بنا فما يبقى العزيز ولا الذليل أسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلا، في هذه اللحظات الكريمة المباركة، وفي هذه الأيام المشهودة الكريمة، ألا يدع لأحد منا ذنباً إلا غفره، اللهم لا تدع لأحد منا ذنباً إلا غفرته، اللهم لا تدع لأحد منا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا طائعاً إلا ثبته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ويسرتها يا أرحم الراحمين! اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا شقياً ولا محروماً. اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى، اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى، اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى. اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، وأعل بفضلك كلمة الحق والدين، اللهم إنا نشهدك أن العالم الغربي والعالم الإسلامي قد تخلى عن إخواننا في البوسنة والهرسك، وتخلى عن إخواننا في الشيشان، وتخلى عن إخواننا في فلسطين، وتخلى عن إخواننا في طاجيكستان، وتخلى عن إخواننا في أفغانستان، وتخلى عن إخواننا في كشمير، فاللهم كن لهم ناصراً يوم انعدم الناصر، اللهم كن لإخواننا معيناً يوم انعدم المعين، اللهم لا تتخلى عنا وعنهم بذنوبنا يا أرحم الراحمين! اللهم إنا نشكو إليك أعراض أخواتنا التي انتُهكت، ونشكو إليك دماء إخواننا التي سُفكت، ونشكو إليك أرضنا التي نُهبت، اللهم لا تتخلى عنا بذنوبنا يا أرحم الراحمين! يا أرحم الراحمين! يا ودود يا ودود! يا ذا العرش المجيد! يا فعال لما يريد! يا من ملأ نوره أركان عرشه! يا غياث المستغيثين! ويا مجيب المضطرين! ويا مفرج كرب المكروبين! ويا كاشف هم المهمومين! فرج الكرب عن أمة حبيبك المصطفى يا رب العالمين! اللهم رد الأمة إليك رداً جميلاً، اللهم رد الأمة إليك رداً جميلاً، اللهم رد الأمة إليك رداً جميلاً، اللهم ارزق الأمة القائد الرباني الذي يقود الأمة بكتابك وسنة نبيك المصطفى. اللهم اربط على قلوب المجاهدين في كل مكان، اللهم اربط على قلوب المجاهدين في كل مكان. اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلا أن تجعل مصر واحة للأمن والأمان، اللهم اجعل مصرنا واحة للأمن والأمان، وسائر بلاد الإسلام، اللهم اجعل مصر سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم لا تحرم مصر من التوحيد، ولا تحرم مصر من الأطهار الأبرار برحمتك يا عزيز! يا غفار! أيها الأحبة الكرام! أكثروا من الصلاة والسلام على نبينا وحبيبنا محمد، فلقد أمرنا الله جل وعلا بذلك في محكم تنزيله فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]. اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا وحبيبنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون عليه إلى الجنة، ويُلقى به في جهنم، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه. والحمد لله رب العالمين.

السعادة الزوجية

السعادة الزوجية هذه مجموعة وسائل شرعية تثمر علاقة زوجية سعيدة، ومحبة نفسية عالية بين الزوجين، ومنها ما هو واجب على الزوجين فعله، منها ما هو مستحب، وهذه -بمجموع تلك الوسائل- هو السحر الحلال الذي به أمر الزوجان، وبه يتم بناء علاقة زوجية إيمانية سعيدة مدى الحياة!!

الحياة الزوجية مملكة إيمانية

الحياة الزوجية مملكة إيمانية إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين. فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة الفضلاء! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله جل وعلا الذي جمعني مع حضراتكم في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى، في جنة ودار مقامته؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله: الطريق إلى السعادة الزوجية، هذا هو موضوع محاضرتنا مع حضراتكم في هذه الليلة الطيبة، وكما تعودت حتى لا ينسحب بساط الوقت سريعاً من تحت أقدامنا، فسوف ينتظم حديثنا مع حضراتكم في هذا الموضوع المهم في العناصر التالية: أولاً: الحياة الزوجية مملكة إيمانية. ثانياً: مفاتيح قلب الزوج. ثالثاً: مفاتيح قلب الزوجة. وأخيراً: هذا هو الطريق. فأعيروني القلوب والأسماع، فإنني أعتقد اعتقاداً جازماً أنه لا يوجد الآن بيت من بيوت المسلمين على وجه الأرض إلا وهو في أمس الحاجة إلى هذا الموضوع، والله أسأل أن يجعلنا جميعاً ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:18]. أولاً: الحياة الزوجية مملكة إيمانية: فملكها وربانها، والمسير لدفة شئونها هو الزوج المسلم، لما جعل الله عز وجل له من القوامة، كما في قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34]، والزوجة هي الأخرى ملكة متوجة في هذه المملكة، فهي شريكة الحياة، ورفيقة الدرب، وقرة العين، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21]، والرعية في هذه المملكة الكريمة الإيمانية هم ثمرة الفؤاد، ولب الكبد، وزهرة الحياة الدنيا، قال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف:46]. أيها الأحبة! هذه المملكة الإيمانية لو ظلل سماءها منهج رب البرية، وسيد البشرية، وروي نباتها بماء المودة والرحمة الندية، آتت تلك المملكة ثمارها كل صبح وعشية، وأنبتت أرض هذه المملكة كل زهرات الحب والوفاء والأخلاق الندية العلية، ولو ظهر في يوم من الأيام في أرض هذه المملكة الإيمانية نبتة شيطانية فإنها سرعان ما تذبل أو تموت؛ لأن مثل هذه النباتات لا يمكن ألبتة أن تحيا وأن يدوم نباتها في هذه البيئة الزكية. فورب الكعبة إن سر الضنك الذي تحياه الآن كثير من الأسر المسلمة، هو البعد عن منهج الله جل وعلا، والإعراض عن الغاية التي من أجلها أقيمت الأسرة المسلمة؛ لأننا وبكل أسف نبحث عن الغاية التي من أجلها خلق كل شيء لنا في الكون، ولا نفكر بل ننسى أو نتجاهل أن نبحث عن الغاية التي خلقنا نحن من أجلها، والتي قال الله في حقها: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58]. والله ما شعرت بيوتنا بالضنك إلا لإعراضها عن منهج الله جل جلاله، قال تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:123 - 124].

مفاتيح قلب الزوج

مفاتيح قلب الزوج أيها المسلمون والمسلمات! إن السعادة الحقيقية في البيوت لا يمكن ألبتة أن تتحقق إلا في ظلال منهج الله، وفي رحاب هدي الحبيب رسول الله صلى الله عليه وآله ومن والاه، مع الفهم الدقيق، والوعي العميق للحقوق والواجبات من كلا الزوجين، ولن أتحدث الليلة عن الزواج كآية ربانية، وسنة نبوية، وفطرة إنسانية، وضرورة اجتماعية، وسكن للغريزة الجسدية، بل ولن أتحدث أيضاً عن الزواج وعن حقوقه الظاهرة المعروفة الجلية، فكل هذه الموضوعات قد غطاها إخواننا من الدعاة جزاهم الله خيراً، ولكنني أود الليلة أن أتطرق إلى بعض القضايا المهمة وبعض اللمسات الخفية التي هي في غاية الأهمية، بل إنني أؤكد لحضراتكم بأن هذه اللمسات، وتلك القضايا هي المقومات الحقيقية للسعادة الزوجية، وأستهل هذه المقومات بمخاطبة الزوجة المسلمة الزكية التقية: كيف تسعد زوجك؟ وكيف تتملك مفاتيح قلبه؟ وهذا هو عنصرنا الثاني بإيجاز وهو لب الموضوع.

حسن الخلق

حسن الخلق أولاً: حسن الخلق: فإن سفينة الحياة الزوجية التي تخوض بحر الحياة بهدوء واتزان وسط هذه الرياح الهوجاء والأمواج المتلاطمة، يقودها حتماً قائد مسلم تقي ألمعي ذكي، وتعينه على القيادة وتوجيه الدفة كلما انحرفت السفينة زوجة تقية زكية ألمعية نقية، بل إنني أؤكد للإخوة والأخوات أن النجاح والاستمرار، والسكن والاستقرار، وهدوء النفس وراحة البال، وراءه زوجة صالحة تقية زكية عرفت كيف تسعد زوجها، واستطاعت أن تمتلك مفاتيح قلبه، بل ونجحت في أن تحول البيت إلى جنة خضراء، يسعد الزوج حينما يأوي إلى ظلاله الوارفة، وتتبدد كل همومه وأحزانه وآلامه وهو في ظلال هذه الجنة، وإلى جواره زوجة طيبة تضمد جراحه، وتسكن آلامه بحسن خلقها، وعظيم ورفيع أدبها. أيها الأحبة! إن حسن الخلق من أجمل الزينة التي تتحلى به المرأة لزوجها، وإن حسن الخلق هو أقصر طريق لتأسر فيه الزوجة قلب زوجها، فالمرأة التي تتخذ حسن الخلق والأدب الرفيع العالي منهجاً في التعامل والخطاب، والحوار بينها وبين زوجها امرأة صالحة ذكية ألمعية، استطاعت بحسن خلقها أن تأسر قلب الزوج بلا نزاع. يا إخوة! ويا أخوات! إن المرأة لو كانت ذات نقص في الجمال أو في المال أو في الحسب أو النسب أو في العلم فإنها تستطيع أن تعوض كل ذلك بحسن الخلق والأدب الرفيع العالي، وإلا ما قيمة الجمال عند المرأة؟ وما قيمة المال؟ وما قيمة حسبها ونسبها؟! وما قيمة شهاداتها وعلمها إن كانت بذيئة اللسان سيئة الخلق، لا تحسن أن تتكلم مع زوجها بالكلمات الرنانة، أو بالكلمات الرقراقة الرقيقة الطيبة؟! إن الكلمة الطيبة، والخلق العالي، والأدب الرفيع هو البلسم الشافي -أيتها الزوجة المسلمة! - وهو الضمادة العظيمة الأكيدة التي تضمدين بها كل جرح ينبت أو يظهر من آن لآخر على جسد العلاقة الزوجية. وفي الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي وابن حبان من حديث أبي الدرداء: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق). وفي الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي وابن حبان وأحمد وغيرهم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ فقال عليه الصلاة والسلام: تقوى الله وحسن الخلق)، (وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار؟ فقال عليه الصلاة والسلام: الفم والفرج). وفي الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود وابن حبان من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم). فأنا أؤكد لأخواتي المسلمات المتزوجات بأن أول مفتاح تفتح به الزوجة المسلمة قلب زوجها في كل لحظة وحين، إنما هو حسن الخلق والأدب الرفيع العالي! والكلمة الطيبة الرقيقة الرقراقة!

الرضا بما قسم الله جل وعلا

الرضا بما قسم الله جل وعلا ثانياً: الرضا بما قسم الله جل وعلا، فإن الرضا بما قسم الله كنز ثمين يجعل من بيت الزوجية جنة ولو كان فقيراً، ويجعل من بيت الزوجية سعة ورخاء ولو كان ضيقاً، فقد يكون الزوج المسلم من متوسطي الحال في المال في الجمال في الشهادات العلمية في الحسب والنسب والجاه إلى غير ذلك من حظوظ الدنيا، ولا يتمكن الزوج المسلم من أن يحقق لزوجته كل ما تصبو إليه نفسها، فإن رأى الزوج زوجته راضية بما قسم الله لها لا تتضجر ولا تتسخط على قدر الله، ولا تشكو زوجها لأهلها بل تستر عليه عيبه، وتعيش في أمن وأمان، ورضاً واطمئنان. إن رأى الزوج زوجته على هذه الحال وعلى هذه الصفة يسعد قلبه، وينشرح صدره، ويعيش في غاية السعادة والطمأنينة مع هذه الزوجة الطيبة التقية التي ترضى بما قسم الله جل وعلا لها، وهذا والله يا أختاه! هو الغنى الحقيقي، ففي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس الغنى عن كثرة العرض -أي عن كثرة المال- ولكن الغنى غنى النفس). وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قد أفلح من أسلم ورزق كفافاً، وقنّعه الله بما آتاه)، فالزوجة المسلمة الربانية هي التي ترضى بما قسم لها رب البرية، ولا تنظر إلى من فاقها من الأخوات في أمر الدنيا، بل تنظر إلى من فاقها من الأخوات في أمر الدين تنظر إلى أهل الطاعة تنظر إلى أهل السبق في الالتزام تنظر إلى أخواتها من أهل القرآن، تمتثل الزوجة المسلمة الربانية الراضية بما قسم لها رب البرية أمر سيد البشرية، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فإنه أجدر ألا تزدروا نعمة الله جل وعلا). فيا أختاه! لا تنظري إلى أختك التي من الله على زوجها بالثراء التي من الله عليها بسيارة فارهة، وبأثاث فاخر، وإنما انظري إلى أهل العاهات، انظري إلى أصحاب الأمراض والأعذار، انظري إلى الفقراء والمساكين والمشردين، والمطرودين والمحرومين! انظري إلى من أقعدهم المرض في الفراش، فاحمدي الله على التوحيد، واحمدي الله على الإسلام، واحمدي الله على العافية، احمدي الله أن من عليك بزوج صالح، واحمدي الله على أن من عليك بأولاد طيبين، وجعل الله لك بيتاً يأويك، وطعاماً يكفيك، ولباساً وثياباً تسترك، فاحمدي الله. اعلمي أختي المسلمة أن المال إلى زوال، وأن متاع الدنيا إلى فناء: النفس تجزع أن تكون فقيرة والفقر خير من غنى يطغيها وغنى النفوس هو الكفاف فإن أبت فجميع ما في الأرض لا يكفيها هي القناعة فالزمها تكن ملكاً لو لم تكن لك إلا راحة البدن وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير الطيب والكفن إن نظرتك -أختي المسلمة- إلى أختك ممن من الله عليها بالدنيا سيملأ قلبك بالأحزان، وسيملأ بيتك بالمشكلات والأزمات، فاحمدي الله وارضي بما قسم الله عز وجل لك، ولا تنظري إلى أهل الدنيا، واعلمي أن من أعظم مفاتيح الزوج أن ترضى الزوجة بما قسم الله لها، وألا تشتكي وتتسخط، وألا تنتقص من قدر زوجها فيحرم عليها ثم يحرم عليها ثم يحرم عليها أن تعير زوجها لفقره أو لنسبه، أو لقلة جاهه، أو لقلة علمه، أو لقلة شهاداته، يحرم عليها ذلك، بل إنها بذلك تتسخط على قدر الله، ولا ترضى بما قسم الله لها. فلا ينبغي ألبتة لزوجة مسلمة تتقي الله جل وعلا أن تقول لزوجها من آن لآخر: إن فلانة تعيش في رخاء وتعيش في سعادة إن زوجها قد أتى لها بثلاجة كذا وبفيديو كذا وبذهب كذا وكذا وإنني أعيش فقيرة، ما أشقاني! ما أتعسني! أسأل الله أن يخرب بيوت من زوجوني عليك. لقد كان يوماً تعيساً يوم أن دخلت بيتي، يوم أن نظرت إلى وجهك إلى آخر هذه الكلمات الخطيرة التي تتسخط فيها المرأة على قدر الله جل وعلا، ولا ترضى من خلالها عن قدر الله وقضائه سبحانه وتعالى. واعلمي يقيناً -أيتها الزوجة المسلمة- أن هذه الكلمات تمزق أواصر المودة والرحمة بين الزوج وزوجه. إذاً: من أعظم مفاتيح قلب الزوج: أن ترضى الزوجة بما قدر الله لها، وهو اللطيف الخبير، فإن الله قد قسم الأرزاق بين عباده بحكمته ورحمته، قال جل وعلا: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14].

الوفاء

الوفاء ثالثاً: الوفاء: وما أحلاها ورب الكعبة من كلمة! وما أرقها من خصلة! وما أسماها من صفة! إنها الوفاء!! فالوفاء خلق جميل، وكنز ثمين، فالأيام دول، فكم من غني أصبح فقيراً؟ وكم من عزيز أصبح ذليلاً؟ وكم من قوي أصبح ضعيفاً؟! فالزوج قد تنزل به المحن والمصائب، فتتحول صحته إلى مرض، ويتحول غناه إلى فقر، وتتحول قوته إلى ضعف، وهنا يظهر معدن الزوجة الصالحة الوفية التي تقف إلى جوار زوجها في كل ضيق ومصيبة، وتخفي عيوب الزوج وتستر ذنوبه، ولا تنسى أيام الغنى، وأيام القوة والصحة والسعة، وتردد دوماً قول الله جل وعلا: {وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة:237]، وتنظر إلى زوجها نظرة رحمة وأدب، ونظرة حنان وتواضع، وهي تقول له: أبشر أيها الزوج الحبيب! أنا لا أنسى أنك فعلت كذا وكذا وقدمت لي كذا وكذا ثم تذكره بقول ربها: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60]. فوالله إن الزوجة الوفية تأسر بوفائها قلب زوجها، وتحول بوفائها الفقر في البيت إلى غنى، والمرض إلى صحة، بل والضيق إلى سعة، بل والأزمات والمشكلات إلى لحظات طيبة ندية. ما أحلى الوفاء! وما أقبح الجحود! وما أقبح المرأة الجاحدة! التي تجحد فضل زوجها وكرمه!! جاء في الصحيحين من حديث زينب رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني رأيت النار، ورأيت أكثر أهلها النساء)، فلتحذر كل أخت مسلمة تستمع إليّ الآن أو تستمع إلي عبر شريط الكاسيت بعد هذه المحاضرة، فإنني لا أخاطب الإخوة والأخوات بين يدي، وإنما أخاطب المسلمين والمسلمات على وجه الأرض، وأسأل الله أن يجعل لهذا الشريط سبيلاً إلى كل بيت، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أقول: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن رأيت النار ورأيت أكثر أهلها النساء، قالوا: لم يا رسول الله؟ قال: لكفرهن، قالوا: أيكفرن بالله؟ قال: يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله ورأت منك شيئاً قالت: ما رأيت منك خيراً قط). فهل تقبل الزوجة المسلمة التقية الصالحة لنفسها هذه الخصلة الذميمة، وهذا الخلق اللئيم الذي يودي بأصحابه إلى نار الجحيم والعياذ بالله؟! أختاه! إن من أعظم مفاتيح قلب الزوج، ومن أعظم وسائل السعادة التي تسعدين بها قلب زوجك: الوفاء، وأسأل الله أن يرزق نساءنا وزوجاتنا الوفاء، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

الطاعة

الطاعة رابعاً: طاعة الزوج المطلقة في غير إثم ولا معصية: من أعظم مفاتيح قلب الزوج: أن تطيع المرأة زوجها في كل شيء، إلا إن أمرها زوجها بمعصية لله، فحينئذ فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. إن أمرها زوجها بأن تظهر على إخوانه الذكور فترفض، وإن أمرها زوجها بأن تتبرج ترفض، وإن أمرها أن تتخفف في الثياب إن خرجت معه فتعصي الزوجة زوجها، وإن أمرها زوجها أن تضع قليلاً من (المكياج) وهي غير منتقبة إذا ما خرجت معه إلى الشارع فلا طاعة له، وهذه المعصية طاعة لله جل وعلا، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. أما إن أمرها الزوج بعد ذلك بأي أمر مادام هذا الأمر في غير معصية لله فيجب على الزوجة المسلمة وجوباً أن تمتثل أمر الزوج، وأن تقف عند الحدود التي حدها لها زوجها، من كتاب ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم. وأحذر الزوجة المسلمة من العصيان والجدال والمراء، وطول الحوار وكثرة الكلام، لاسيما إن كان زوجها مغضباً، ولاينبغي أن تستغل الزوجة لين الزوج أو دينه، بل يجب عليها -أي على الزوجة الصالحة الطيبة- أن تطيع زوجها، ففي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد والطبراني والبزار من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحصنت فرجها، وأطاعت زوجها، قيل لها: ادخلي من أي أبواب الجنة شئت). ومن أعظم الحقوق على الزوجة لزوجها، والتي يجب على المرأة أن تطيعه فيه فوراً، وفي أي وقت يشاؤه: حق الفراش، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فلم تأته؛ فبات غضبان عليها، باتت الملائكة تلعنها حتى تصبح). وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشه فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطاً عليها حتى يرضى عنها زوجها). وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لامرأة أن تصوم وزوجها شاهد -أي: حاضر- إلا بإذنه، ولا تأذن لأحد في بيت زوجها إلا بإذنه). أختي المسلمة! اعلمي أيتها الفاضلة! بأن امتناع المرأة عن فراش زوجها إن دعاها إلى ذلك بغير عذر شرعي وبغير سبب صحي كبيرة من أعظم الكبائر، فلتتق الله الزوجة الصالحة. ولتعلم الزوجة أن من طاعة الزوج أيضاً: أن ترضيه إذا غضب، فالزوجة المسلمة لا تنام وهي تعلم يقيناً أن زوجها غضبان، ولو كان الزوج غاضباً بسبب خطئها فلتبادر الزوجة المسلمة بالتأسف والندم بأسلوب طيب، فإن من النساء من إذا أغضبت زوجها وأرادت أن تعتذر زادت في غضبه؛ لأنها تعتذر إليه بكبر واستعلاء، وكأنها تمتن عليه بأسفها وندمها، فيتسيط الزوج غضباً بعد غضب، ويزداد قلبه ألماً بعد ألم، ويزداد جرحه جرحاً بعد جرح، فلتذهب المرأة فوراً لتتأسف بأسلوب مهذب يستشعر فيه الرجل ندمها وخلقها وأدبها. ومن أدب الزوج -كما سأبين- أن يعجل هو الآخر بقبول الأسف والندم، ولا ينبغي أن يتسلط وأن ينتفخ وينتفش، وأن يتكبر كما سأبين الآن في مفاتيح قلب الزوجة إن شاء الله تعالى. فمن طاعة الزوج أن ترضيه زوجته إن غضب، أما إن كان الغضب -أيتها الأخت- بسبب الزوج نفسه، ومع ذلك فهو غاضب عليك، فأنا أنصحك ألا تلحي في معرفة سبب الغضب، وألا تكثري الجدال، وألا تكثري المراء، بل اتركي الزوج في هذه اللحظات حتى تهدأ نفسه، ويستقر بدنه، وإن اقتربت منه بعد ذلك للحوار والنقاش، فإن النقاش والحوار سيكون جميلاً مهذباً، يعيد البسمة والمودة والرحمة إلى مجرى الحياة الزوجية من جديد، أما الذي أحذر منه أن يكون النقاش والحوار في وقت الانفعال والغضب. أسأل الله عز وجل أن يرزقنا الحلم، وأن يرزق نساءنا الحكمة؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.

الأنوثة والزينة

الأنوثة والزينة خامساً: الأنوثة والزينة: فبعد هذه الصفات الخلقية الجميلة أقول لأختي المسلمة: إن من أعظم مفاتيح قلب الزوج الأنوثة والزينة والتطيب، ففي صحيح مسلم من حديث ابن مسعود: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله جميل يحب الجمال). ومما لا شك فيه أن مما يؤثر في قلب الزوج: أن يرى الزوج امرأته في كل لحظة جميلة طيبة نظيفة، لاسيما ونحن نعيش الآن زماناً كثرت فيه الفتن: فتن المتبرجات! فتن الكاسيات! فتن العاريات! إن الرجل الآن يخرج من بيته فتعصف فتن الشهوات بقلبه، وتزداد المصيبة إن عاد إلى بيته فوجد امرأة مهملة وليست نظيفة ولا متجملة ولا متطيبة، ووالله إن هذا لا يكلف الزوجة شيئاً، وإن أهملته كلفه إهمالها لهذا الكثير والكثير، وتزداد الكارثة إن رأى الزوج امرأته تتزين وتتطيب إذا أرادت أن تخرج من البيت، وفي لحظات مكثها في البيت لا يشم من ثيابها إلا رائحة الثوم والبصل، وأنا أحذر كل مسلمة من رائحة الفم، ورائحة العرق، ورائحة الثياب، ولا حرج في الحق إطلاقاً. كم من بيوت خربت؟! وكم من علاقات أسرية تفككت؟! وكم من حب زال بسبب إهمال المرأة لجمالها وأنوثتها وزينتها وطيبها؟! وقد تقول المرأة: إنني أثق في حب زوجي لي، ولا أشك لحظة في أنه سيتركني يوماً، وهذا وهم، أيتها المسلمة! فقد يزول الحب، وتتلاشى المودة، وتنتهي الرحمة لمجرد أن ينفر الرجل من امرأته لرائحة فمها، أو لرائحة عرقها أو ثيابها، فيجب على الزوجة المسلمة أن تسعد زوجها بأنوثتها وطيبها وطهارتها، وأقول: إن العطر والطيب من ألطف وسائل المخاطرة بين الرجل وامرأته، فعلى المرأة دائماً أن تكون طيبة الريح نظيفة الثياب، جميلة تسريحة الشعر، وهذه هي المسلمة الزكية التقية النقية. وأرجو أن تنتبه أختي المسلمة إلى أن الإسلام العظيم لا يصادم أنوثتها وزينتها وجمالها، بل أمرها بالتزين للزوج وحرم عليها أن تتزين بالزينة الحرام، كأن تتزين بالوصل أو بالنمص أو بالوشم أو بتفليج الأسنان للحسن، وحرم عليها أن تظهر زينتها أياً كانت لغير زوجها. تدبري أيتها المسلمة قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنه: (لعن الله الواصلة) وهي التي تلبس الباروكة لتظهر شعرها بصورة مختلفة عن حقيقته. (لعن الله الواصلة والمستوصلة) أي: التي تفعل ذلك ويفعل بها ذلك، (لعن الله الواصلة والمستوصلة، والواشمة والمستوشمة، والنامصة والمتنمصة)، وفي رواية ابن مسعود في الصحيحين: (والنامصة والمتنمصة، والمتفلجات للحسن، المغيرات خلق الله). فالإسلام الذي يأمر المرأة بالزينة للزوج يحرم عليها أن تتزين بزينة محرمة، ويحرم عليها أن تتزين لغير زوجها، ففي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وأبو داود من حديث أبي موسى الأشعري: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أيما امرأة استعطرت -أي وضعت العطر والطيب والريح- فمرت على مجلس رجال ليرى الرجال من ريحها فهي كذا وكذا) أي: زانية والعياذ بالله! (والعين تزني وزناها النظر، والأنف تزني وزناها الشم، والأذن تزني وزناها السمع، واللسان يزني وزناه الكلام، واليد تزني والفرج يصدق ذلك أو يكذبه)، هذا كلام النبي صلى الله عليه وسلم.

إكرام أهل الزوج

إكرام أهل الزوج سادساً: من أعظم مفاتيح قلب الزوج -أيتها الزوجة المسلمة الزكية العاقلة- إكرام أهل الزوج، وهذا من باب التعاون على البر والتقوى، ومن حسن العشرة وجميل المعاشرة، فالزوجة المسلمة لا ينبغي لها أبداً أن تكون فتنة لزوجها في حق أبيه، أو في حق أمه، أو في حق أهله، ولا ينبغي للزوجة المسلمة أن توقع العداوة والبغضاء بين الزوج وأمه، أو بين الزوج وأهله ورحمه، ولا ينبغي أن تضع المسلمة نفسها في تلك المقارنة الصعبة، أنا أو أمك، لا، أمي ثم أمي ثم أمي، فالزوجة العاقلة لا تضع نفسها أبداً في هذه المقارنة، في الوقت ذاته لا يجوز للزوج المسلم العاقل الذي يتقي الله أن يظلم زوجته من أجل بره بأمه، فهذا لا يجوز له أيضاً، بل يعطي أمه حقها، ويعطي زوجته حقها، ولا يخلط بين الحقين، فهذا ظلم يقع فيه كثير من الأزواج، يهين امرأته لصالح أمه، وهذا ظلم لا نقره، وتأباه شريعة الله العادلة. إن الزوجة المسلمة الذكية الألمعية لا توقع زوجها في عقوق لوالديه ألبتة، كيف وقد قال المصطفى صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: (رغم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف من أدرك أبويه أحدهما أو كليهما ثم لم يدخل الجنة)، أنفك في التراب إن أدركت والديك أو أحدهما ولم تدخل الجنة ببرهم بتقبيل أرجلهما بطاعتهما ولو كانا على الشرك بصحبتهما بالمعروف: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15]. وفي الصحيحين من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الرحم معلقة بالعرش تقول: وصل الله من وصلني، وقطع الله من قطعني)، (من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله). فاعلمي -أيتها الأخت الفاضلة المسلمة- أن أعظم الناس حقاً على الزوج أمه، بل خذي حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه الحاكم والبزار بسند حسن، من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: (يا رسول الله! أي الناس أعظم حقاً على المرأة؟! قال: زوجها، قالت: وأي الناس أعظم حقاً على الرجل؟ قال: أمه). فلتتحل الزوجة المسلمة بخلق الإيثار، ولتحذر الغيرة من الوالدين والأخوات لتنعم براحة البال، وسكينة النفس، ولتأخر حقها عن حقوق الآخرين، فيحبها الآخرون ويقدرونها، وتفوز بجنة الله جل وعلا في الآخرة.

الاهتمام بنظافة وجمال البيت

الاهتمام بنظافة وجمال البيت سابعاً: من أعظم مفاتيح قلب الزوج: الاهتمام بنظافة وجمال البيت، فالمنزل مملكة الحياة الزوجية، وأميرة المنزل هي الزوجة، ووالله ليست العبرة بكثرة الحجرات، ولا بضخامة البيت، فقد يكون البيت واسعاً، وقد يحتوي البيت على أثاث ثمين وفرش وثيرة، ولكن إن أهملت المرأة نظافة البيت هجر الزوج هذا البيت، وشعر بأن أنفاسه تختنق إن دخله؛ لأن الرائحة الكريهة تنبعث من هنا وهناك، ولأن الثياب والفراش والأثاث غير منظم، فتتوتر أعصابه، وتهيج نفسه. أختي! قد يسعد زوج مع زوجة نظيفة زكية في بيت لا يزيد عن حجرتين، يرى الزوج النظام، بل ويرى الرائحة الزكية العطرة ولو عن طريق البخور العادي البسيط التي تنبعث رائحته في كل وقت وآن من أرجاء هاتين الحجرتين، فيسعد الزوج، ويشعر بالأنس والسعادة، فليست العبرة بسعة البيوت، ولا بضخامتها، فكم من بيوت متسعة متسخة تؤلم القلب! وينفر منها صاحب النفس الزكية! وكم من بيوت ضيقة والله تدخلها فينشرح صدرك، وتعلم يقيناً أن في هذا البيت امرأة مسلمة نظيفة، لا أقول لك من مجرد أن تلقي النظرة على الفراش والأثاث، بل من مجرد كوب الماء الذي يقدم إليك في البيت، تشعر بنظافة المرأة، وجمالها ورقتها ورجاحة عقلها. إذاً: يجب على المرأة أن تهتم بنظافة وجمال بيتها، فإن هذا من أعظم مفاتيح قلب الزوج، ومن الأسباب التي تجعل الزوج يحن دائماً إلى أن يجلس في البيت أطول فترة. وهل هجر الأزواج البيوت إلا من أجل هذه الأسباب! فمن أسوأ ما ينغص على الزوج راحته في بيته أن يرى البيت غير نظيف، وأن تنبعث من بيته الروائح الكريهة، والله جل وعلا جميل يحب الجمال، وأنا أظن أن أختي المسلمة جميلة هي الأخرى تحب الجمال، وتحب الطهر والنظافة، كيف لا ودينها دين الجمال، ودين الطهر والنظافة؟! كيف لا وربها يحب الجمال؟! كيف لا ونبيها الجميل يحب كل جمال؟!

الاهتمام بتربية الأولاد

الاهتمام بتربية الأولاد ثامناً: الاهتمام بتربية الأولاد: فإن مما يؤلم القلب أن المرأة الآن قد انشغلت بالأسواق، أو بالوظيفة مع عدم حاجتها للوظيفة، فقد من الله عليها بزوج أنعم الله عليه وأكرمها، وهي ليست بحاجة إلى الخروج، ولكنها تتألم غاية الألم إن لم تخرج من البيت، كيف تحبس بين هذه الجدران الأربعة؟! كيف لا تعيش فقط إلا لزوجها وأولادها؟! نفخ أهل الباطل في رأسها وفي عقلها، وتأثرت، وأصيب قلبها بهذه السهام القاتلة، فخرجت المرأة من بيتها ومن مملكتها الإيمانية، وهجرت أشرف وأغلى وأعظم وظيفة، ألا وهي وظيفة التربية، هجرت تربية الأبناء، وتركت الأبناء إلى التلفاز، والشوارع وإلى الطرقات، وأصحاب السوء، والمجلات الخليعة الماجنة، فراح الأولاد يبحثون عن قوتهم التربوي من هذه المصادر العفنة الخبيثة، فشعر الأبناء في البيت باليتم التربوي. ليس اليتيم من انتهى أبواه من هم الحياة وخلّفاه ذليلاً إن اليتيم من تلقى له أماً تخلت أو أباً مشغولاً وفي الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والمرأة راعية في بيت زوجها، ومسئولة عن رعيتها)، وقال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6]، فيجب على الزوجة المسلمة أن تعلم أن البيت قلعة حصينة، ولبنة عظيمة في هذا المجتمع المسلم، فيجب عليها أن تخّرج من هذه القلعة لدين ربها الأبطال والعلماء والقادة والفاتحين. كيف تخرج المسلمة هذا الجيل الرباني إن هجرت بيتها، وراحت لتضرب بأرجلها وأقدامها في الأسواق، تلهث وراء أحدث الموضات وأرقى الموديلات وأرقى الملابس لتهجر بيتها ولتهجر تربية أبنائها؟! أختي المسلمة! إن من أعظم مفاتيح قلب الزوج: أن يرى امرأته مهتمة بتحفيظ أولاده القرآن، وبتعليم بناته فضائل الإسلام، فتأمر الزوجة ابنتها بالخمار وبالحجاب، وتعلمها القرآن، وتصطحبها إلى بيت الله جل وعلا، وتصطحب الأولاد إلى بيت الله إن كان الزوج مشغولاً فتعلم الزوجة أبناءه دين الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وصية أمامة بنت الحارث لابنتها

وصية أمامة بنت الحارث لابنتها أيها الأحباب! أختم مفاتيح قلب الزوج بهذه الوصية الجامعة التي قدمتها أم عاقلة، إنها أمامة بنت الحارث التي خلت بابنتها أم إياس بنت عوف الشيباني في ليلة زفافها لزوجها، وقدمت لها تلك الوصية الغالية، فقالت الأم العاقلة لابنتها: أي بنية! إن الوصية لو تركت لفضل أدب لتركت ذلك لك، ولكنها معونة للعاقل، وتنبيه للغافل. أي بنية! لو أن امرأة استغنت عن زوجها لغنى أبويها وشدة حاجتهما إليها، لكنت أغنى الناس عن زوجك، ولكن النساء للرجال خلقن، ولهن خلق الرجال. أي بنية! لقد فارقت العش الذي فيه درجت، والبيت الذي منه خرجت، إلى مكان لم تعرفيه، وقرين لم تألفيه، فكوني له أمة يكن لك عبداً، واحفظي له خصالاً عشراً تكن لك ذخراً. أما الأولى والثانية: فالخضوع له بالقناعة، وحسن السمع له والطاعة. وأما الثالثة والرابعة: فالتفقد لمواطن عينه وأنفه، فلا تقع عينه منك على قبيح، ولا يشم منك إلا أطيب ريح. وأما الخامسة والسادسة: فالتفقد لوقت منامه وطعامه، فإن حرارة الجوع ملهبة، وتنغيص النوم مغضبة. وأما السابعة والثامنة: فالإرعاء لماله وعياله، وملاك الأمر في المال حسن التدبير، وفي العيال حسن التقدير. وأما التاسعة والعاشرة: فلا تعصي له أمراً، ولا تفشي له سراً، فإنك إن عصيت أمره أوغرت صدره، وإن أفشيت سره لم تأمني غدره، وإياك والكآبة بين يديه إن كان فرحاً! ثم إياك والفرح بين يديه إن كان مكتئباً!

مفاتيح قلب الزوجة

مفاتيح قلب الزوجة وبعد هذه الجولة الطويلة التي تسعد الرجال يقيناً، وتسعد الأزواج بصفة خاصة، يبقى Q كيف يسعد الرجل زوجته؟! وأنا أعلم أن أخواتي الآن ينتظرن هذا السؤال بلهف وشوق، فإن كثيراً من الزوجات يشتكين، وهذا هو عنصرنا الثالث من عناصر المحاضرة: مفاتيح قلب الزوجة:

حسن الخلق والعشرة

حسن الخلق والعشرة أولاً: حسن الخلق وإحسان العشرة، وإلا فبالله عليكم ما قيمة علم الرجل؟ وما قيمة ماله؟! وما قيمة جماله وما قيمة حسبه ونسبه إن كان سيء الخلق، بذيء اللسان، كثير السب واللعن والطعن، مملوءاً بالكبر، منتفخاً بالغرور، تستشف منه زوجته الكلمة الطيبة، وتتسول منه البسمة الحانية، في الوقت الذي ترى فيه الزوجة المسكينة زوجها نفسه يداعب إخوانه وأخواته، يلاطفهم ويداعبهم ويمازحهم، وهي لا تسمع إلا السب والشتم واللعن والطعن؟! ظلم بشع! وهذا والله زوج ظالم ظالم لنفسه، وظالم لأقرب الناس إليه، وعاص لربه ونبيه. قال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19]، وقال تعالى: {فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229]، وفي الحديث الصحيح الذي رواه مسلم من حديث جابر بن عبد الله، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله). وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (استوصوا بالنساء خيراً، فإن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيراً). وفي الحديث الذي رواه أحمد وابن حبان وهو حديث صحيح من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وخياركم خيارهم لنسائهم). فالزوج المسلم الصالح التقي النقي، ولو كان فقيراً أو مريضاً أو ضعيفاً يستطيع أن يفتح قلب زوجته بأدبه بحسن خلقه بكلامه الطيب الرقيق العذب. من الذي يعجز منا جميعاً -أيها الأزواج- أن يلقي السلام على زوجته كلما دخل عليها البيت امتثالاً لأمر ربه، وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم؟ قال تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور:61]؟ وفي الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي وغيره من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (يا بني! إذا دخلت على أهلك فسلم يكن -أي: يكن السلام- بركة عليك، وعلى أهل بيتك). من ذا الذي يعجز من الأزواج أن يمتثل أمر الله وأمر نبيه هذا؟! إذا ما دخل الزوج على امرأته بعد كل صلاة، وبعد كل دخول للبيت ولو كانت مدة خروجه دقيقة واحدة، يمتثل هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأدب السنة، فيلقي السلام على أهل بيته ليكن السلام بركة عليه وعلى أهل بيته. ومن ذا الذي يعجز من الأزواج أن يقبل على زوجته بوجه طليق؛ ليشعر أهله بالأنس والقرب، ففي صحيح مسلم من حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق) أي: بوجه مبتسم بوجه تشع منه الفرحة، ويشعر المقابل لهذا الوجه بالسرور والألفة، وأولى الناس بطلاقة الوجه من الزوج هي امرأته وشريكة حياته ورفيقة عمره، أما أن يظل الزوج بعيداً عن البيت طليق الوجه لطيفاً شديد المزاح، كثير المداعبة، فإذا ما دخل البيت لا يدخل إلا بوجه عابس، وبجبين يشعر فيه كل من رآه بالغضب والضيق والنفور، فهذا زوج عاصٍ لله ورسوله صلى الله عليه وسلم. ومن ذا الذي يعجز من الأزواج أن يخاطب زوجته بكلمة طيبة رقيقة حانية لا لعن فيها ولا طعن ولا سب؟! إن مما يؤلم القلب أن يسب الرجل أهل امرأته، أو أن يسب الرجل أباها وأمها، أو أن يسب أهلها، أو أن يسب اليوم الذي دخل فيه بيتها، وهذه معصية لله ورسوله، ففي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الكلمة الطيبة صدقة)، وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة)، وأولى الناس بالكلمة الطيبة منك -أيها الزوج المسلم- هي امرأتك، فهي شريكة حياتك ورفيقة دربك. من ذا الذي يعجز من الأزواج أن يبتعد عن الألفاظ الجارحة والكلمات النابية التي يحقر بها الزوج زوجته ويسئ إليها؟! فلا ينادي عليها إلا بأقبح الأسماء، ولا يصفها إلا بأقبح الصفات. لتعلم أخي الكريم! أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينادي على عائشة رضي الله عنها بأحب الأسماء، بل ويدللها، فلقد ثبت في صحيح البخاري أنه كان ينادي عليها بقوله: (يا عائش!)، لا يقول: يا عائشة! بل يقول: يا عائش، بل ويقول لها: (والله إني لأعلم متى تكونين عني راضية، ومتى تكونين علي ساخطة، قالت: كيف ذلك يا رسول الله؟! قال: إن كنت عني راضية قلت: ورب محمد، وإن كنت غير راضية قلت: ورب إبراهيم، فقالت عائشة -الألمعية-: والله لا أهجر إلا اسمك يا رسول الله! أما أنت ففي القلب وفي الكيان كله). هذه أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} [الأحزاب:21]. إخوتاه! أسألكم بالله أن تتدبروا معي هذه الكلمات لتعرفوا الفرق الواضح بين زوجين، بين زوج يقول: إن النساء شياطين خلقن لنا نعوذ بالله من شر الشياطين وبين زوج يقول: إن النساء رياحين خلقن لنا وكلنا يشتهي شم الرياحين شتان شتان بين زوج عبوس غاضب سباب لعان فاحش بذيء، يرى الزوجة بين يديه شيطانة، فيقول: إن النساء شياطين خلقن لنا نعوذ بالله من شر الشياطين وبين زوج مسلم تقي نقي يتقي الله في امرأته وأقرب الناس إليه، ويرى المرأة ريحانة أسيرة عنده كما قال المصطفى، فيقول: إن النساء رياحين خلقن لنا وكلنا يشتهي شم الرياحين فاحذر -أخي الزوج- من ظلم المرأة، فورب الكعبة إن ظلمتها فإن الذي سينتصر لها هو الله، ولو استطعت أن تخدع المرأة بعلاقاتك، وأن تظلمها باتصالاتك بالقوانين الوضعية الجائرة الفاجرة، فاعلم بأن الذي سيقتص منك للمرأة الضعيفة هو الله جل وعلا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد حرج على حق الضعيفين، على حق اليتيم، وعلى حق المرأة، فإن المرأة أسيرة عندك، وإن المرأة ضعيفة، فالله الله في حق الضعيفين: اليتيم والمرأة! فامتثل وصية نبيك المصطفى صلى الله عليه وسلم، فوالله مهما أغدقت على زوجتك من الأموال، فإن سوء الخلق وبذاءة الألفاظ والكلمات الجارحة النابية ستفسد المودة، وستقطع أواصر المحبة بينك وبين امرأتك، ولو أغدقت عليها من الأموال ما أغدقت.

المعاونة على طاعة الله والنصح والتعليم

المعاونة على طاعة الله والنصح والتعليم ثانياً: من أعظم مفاتيح قلب الزوجة: العون على طاعة الله والنصح والتعليم: ذكرت أن سر الضنك في البيوت هو ابتعاد البيوت عن طاعة الله، وعن منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، والغفلة عن الغاية التي من أجلها أقيمت البيوت ابتداءً، بل وعن الغاية التي من أجلها خلقت البشرية كلها {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، والزوج المسلم الصالح التقي هو الذي يعين زوجته على طاعة الرب العلي هو الذي يحثها على الصدقة ولو من ماله وهو الذي يذكّرها بقراءة القرآن وهو الذي يسألها دوماً عن الصلوات وهو الذي يسألها دوماً عن قراءة الكتب الشرعية عن سماع الأشرطة العلمية للمشايخ والدعاة هو الذي يتابعها ويقوّم عوجها بالأسلوب اللطيف الحسن والكلمة الحانية. إن الزوج الصالح المسلم لا ينظر إلى البيت على أنه مكان للطعام والشراب، والتناكح والتكاثر فحسب، فليست هذه هي الغاية من إقامة البيوت في الإسلام، فإن الغاية من إقامة البيوت أن نبذر في حقل الإسلام وأرضه بذرة صالحة للعبودية والتوحيد، فالزوج المسلم هو الذي يعين زوجته على طاعة الله، وهو الذي يبين لها أن البيت ليس مكاناً للطعام والشراب والذهب والزينة والفسحة والأولاد فحسب، لا، بل إن البيت مكان للطاعة، فيحث الزوج زوجته على قيام الليل، وما أحلى وأرق وأجمل قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود وابن ماجة وغيرهما، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (رحم الله رجلاً قام من الليل، فصلى وأيقظ امرأته، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء). فالزوج يفتح قلب امرأته بأن يكون عوناً لها على الطاعة، وأنا أحذرك -أيها الزوج- من أن يكون بيتك دوماً وكراً للمعاصي والشيطان، فأنا أعلم يقيناً ما أقول. أعلم أن كثيراً من بيوت المسلمين الآن لا تعرف للإيمان طعماً، ولا لليقين حلاوة، ولا للصلاة سبيلاً، ولا للقرآن طريقاً. أعلم أن كثيراً من بيوت المسلمين الآن -ورب الكعبة- لا يصلي فيها رجل أو امرأة، ولا شاب ولا فتاة، بل تسمع في هذه البيوت في الليل والنهار مزمار الشيطان. لا ترى في هذا البيت قرآناً ولا قياماً، ولا ذكراً ولا تسبيحاً ولا صلاة، فما الذي ينتظر من نبات ينبت في أرض هذه البيئة؟! هل ينبت الورد؟! هل ينبت الفل؟! هل ينبت الياسمين؟! لا والله، بل لن ينبت في هذه الأرض إلا الشوك، فمحال أن تزرع زرعاً وأن تجني ثمرة، بل إن زرعت شوكاً لا بد أن تجني شوكاً، فيخرج الولد منحلاً، وستخرج الفتاة متبرجة عارية، ومحال بعد فترة أن يسيطر الوالدان على هؤلاء الأولاد. فلذلك أخي: ازرع من أول لحظة في هذا البيت الطاعة والعبودية لله جل وعلا، لتستطيع بعد ذلك أن تسيطر على هذا البيت بأمر الله وأمر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله ومن والاه. فالبيت ليس مكاناً للطعام والشراب والزينة فحسب، بل هو مكان للطاعة مكان للعبادة، فلا ينبغي أن يكون البيت المسلم مقبرة لا يصلى فيه، ولا يذكر أهل البيت فيه ربهم جل وعلا، ولا يقيمون فيه الليل، بل لا ينبغي أن يكون البيت المسلم في كل لحظات الليل والنهار لا تسمع فيه إلا غناء الشيطان، لا تسمع فيه صوت القرآن، فهذا بيت كالمقبرة، أهله أموات وإن تحركوا بين الأحياء. والله إن بيتاً يقوم أهله الليل لله، ويقرأ أهله القرآن لله، ويقيم أهله الصلاة لله، ويمتثل فيه الزوج أمر الله، ويأمر امرأته بطاعة الله وبطاعة رسول الله، والله إنه لبيت قريب من الله، حبيب إلى الله، حبيب إلى رسول الله، تتمنى أية زوجة مسلمة أن تقر وتعيش فيه، وأن تسعد به، وإن بيتاً لا يعرف الله لا يستحق أن تعيش فيه امرأة تعرف الله جل وعلا.

الإنفاق وعدم البخل

الإنفاق وعدم البخل ثالثاً: الإنفاق وعدم البخل: فمن أعظم مفاتيح قلب الزوجة: أن يكون الرجل سخياً كريماً، من غير سرف ولا تبذير، فالسخاء بلا تبذير، والإنفاق بلا تقتير من أعظم مفاتيح قلب الزوجة، فالزوجة تبغض بكل قلبها وكيانها زوجها البخيل، لاسيما إن كان ممن أنعم الله عليه بالمال، فإنها تبغضه ولا تحبه أبداً. ومن رحمة الله جل وعلا أن نفقة الزوج على زوجته واجبة عليه، ولكنه إن صحح النية كان له بها أجر من الله، وهي له صدقة، فلينفق الزوج على امرأته إن كان ميسوراً على أحسن حال، قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34]، وقال تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7]. واسمع إلى قول النبي عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، يقول المصطفى: (دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار أنفقته على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك -انظر إلى هذه الأقسام الأربعة- أعظمها أجراً عند الله الذي أنفقته على أهلك)، سبحان الله! بل وفي الحديث الذي روى البخاري ومسلم من حديث أبي مسعود البدري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أنفق الرجل على أهله نفقة يحتسبها فهي له صدقة). وفي الحديث الذي رواه أحمد والحاكم وأبو داود من حديث عبد الله بن عمر وهو حديث صحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت)، فمن أعظم مفاتيح قلب الزوجة أن يكون الرجل سخياً كريماً، من غير إسراف ولا تبذير، فإن: {الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء:27] وهذا بنص قرآن رب العالمين.

حق الفراش

حق الفراش رابعاً: حق الفراش، وهذا من أوجب واجبات الزوج، كما ذهب إلى ذلك جمهور أهل العلم، قال الإمام ابن حزم طيب الله ثراه وغفر له: فرض على الرجل أن يجامع امرأته، وأقل ذلك أن يجامعها في كل طهر مرة، ومن أهل العلم من قال: بأن أقل ذلك أن يجامع الرجل زوجته في كل أربعة أيام مرة، ومنهم من قال: في كل أربعة أشهر مرة، ومنهم من قال: في كل ستة أشهر مرة، والذي أود أن أؤكد عليه الآن، وأبينه لأخواتي وإخواني، أن لقاء الرجل بامرأته ما هو إلا خلوة في لحظات كريمة طيبة في الحلال، يستمتع فيها كل زوج بالآخر؛ للإحصان والعفاف، فإن تم اللقاء في ظلال الهدي النبوي بآداب الحبيب المصطفى كان اللقاء من أعظم أسباب المودة والمحبة، وتدعيم أواصر العلاقة بين الرجل وامرأته، وشتان شتان بين رجل مسلم ذكي ألمعي أوصل امرأته إلى أن تنتظر منه هذه اللحظات، التي يذوب فيها كل زوج في الآخر، ويسكن فيها كل زوج للآخر، ويصبح فيها كل زوج لباساً للآخر. فرق بين زوج أوصل امرأته إلى أن تنتظر منه هذه اللحظات، وإلى أن تنتظر منه هذا اللقاء، وبين رجل أوصل امرأته إلى أن تنفر من هذه اللحظات، وأن تكره هذا اللقاء؛ لأنها تشعر أنها تقبل على جولة من جولات المصارعة الحرة، تستجير الله جل وعلا ألا تختنق في هذه الجولة أنفاسها، وألا تحطم فيها عظامها. فلنتأدب بأدب النبي صلى الله عليه وسلم، ولنتخلق بأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، فلا تعجب أخي الكريم! فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين لنا آداب الفراش واللقاء، بأبي هو وأمي، فورب الكعبة ما ترك خيراً إلا ودلنا عليه، وما ترك شراً إلا وحذرنا منه، فإن تم اللقاء في ظلال الهدي النبوي والخلق النبوي الرفيع العالي كان اللقاء سبباً رئيساً من أسباب المحبة والمودة، والسعادة التي تظلل سماء البيت بين الزوجين. أسأل الله أن يرزقنا وإياكم الحكمة والرحمة.

التطيب والتجمل

التطيب والتجمل خامساً: التطيب والتجمل: قد يظن بعض الأزواج أن الزينة والتطيب والتجمل واجب على الزوجة فقط، أما هو فلا يعنيه ذلك، وهذا وهم، بل ومعصية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكم من بيوت فسدت ودمرت بسبب إهمال الرجل لرائحته لرائحة فمه لرائحة عرقه لرائحة ثيابه! وكم من شكاوى ورسائل من النساء بخصوص هذا! فما الذي يكلف الرجل إن أراد أن يقبل على امرأته أن يطيب فمه بالسواك أو بالفرشاة، وأن يضع قليلاً من العطر والطيب، فإن العطر من ألطف وسائل المخاطرة بين الرجل والمرأة، وهذا هدي صحابة النبي رضوان الله عليهم وصلى الله على أستاذهم ومعلمهم، فلقد كان الصحابة يحبون أن يتزينوا لزوجاتهم، كما يحب أحدهم أن تتزين له زوجته وامرأته. كما روى ابن أبي حاتم وابن جرير بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما: (إني لأحب أن أتزين لامرأتي، كما أحب أن تتزين لي امرأتي)، ومهما كان الزوج قوياً فإن المرأة بلا نزاع تنفر نفوراً شديداً من رائحته الكريهة، وعرقه وعدم نظافته وتطيبه. فمن مفاتيح قلب الزوجة أن يكون الزوج دائماً نظيفاً طيباً جميلاً، فإن الطيب كما ذكرت من ألطف وسائل المخاطرة وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يرد الطيب، ويكثر من وضع الطيب، كما في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد والنسائي من حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم قال: (حبب إلي من دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة).

الأمانة وحفظ الأسرار

الأمانة وحفظ الأسرار سادساً: الأمانة وحفظ الأسرار: فمن مفاتيح قلب الزوجة -أيها الأزواج- أن يكون الزوج أميناً، حافظاً لأسرار امرأته، لاسيما ما يجري بينهما في الفراش، فهناك صنف من الأزواج يتباهى بإفشاء أسرار زوجته، وهذا مما لا شك فيه أنه يفسد العلاقة الزوجية بين الزوجين، ففي صحيح مسلم وسنن أبي داود واللفظ لـ أبي داود من حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه امرأته، ثم يكشف سرها، ثم ينشر أحدهما سر صاحبه). وقد يحدث بين الزوج وامرأته مشاكل، وفي لحظات الغضب قد تنفلت من المرأة بعض الكلمات، وقد تنفلت من الرجل بعض الكلمات، فالزوج الأمين العاقل هو الذي لا يفشي السر، والزوجة العاقلة هي التي لا تهتك السر، ولا تخرج هذا الخلاف خارج حدود الدار، فإن خرج الخلاف خارج حدود الدار ولو لأهل الزوجة لأبيها أو لأمها فإن المشكلة قد يصعب بعد ذلك حلها، لكن مهما كانت ضخامة المشكلة ما دامت محصورة في حدود الدار وفي حدود البيت بين الرجل وامرأته، فإن لحظة عتاب حانية وديعة يزول ويذوب هذا الجليد بين الزوجين، وأما إن خرجت خارج البيت، وتدخلت أم الزوجة أو أم الزوج أو والد الزوجة أو والد الزوج تفاقمت المشكلة، وقد يصعب الحل، ونسأل الله أن يرزقنا الحكمة، إنه ولي ذلك والقادر عليه. ومن أجمل وأرق ما قرأت في حياتي: أن رجلاً من السلف أغضبته امرأته، وفشل المصلحون من الوسطاء العقلاء في الصلح بينهما، وقد أحل الله الطلاق، فصمم الزوج على أن يطلق امرأته، فلما سمع المصلحون ذلك قالوا له: ما الذي يريبك منها؟! أي: ما هي الأسباب التي جعلتك تتخذ هذا القرار في طلاقها؟ اسمع ماذا قال هذا الرجل العاقل. لما طلقت المرأة ذهب إليه أصحابه في بيته وقالوا له: ما الذي كان يريبك منها؟! لماذا طلقتها؟! فقال الرجل المسلم التقي: (ما لي ولامرأة غيري، لم تعد زوجة لي) أي: فكلامي الآن في حقها غيبة. أين هذه الأخلاق السامية الرقراقة الراقية؟! أين من يتقي الله في امرأته؟! لا أقول حتى بعد طلاقها، بل وهي معه في بيته. فاعلم أخي: أن الأمانة وحفظ الأسرار من أعظم مفاتيح قلب الزوجة.

إكرام أهل الزوجة

إكرام أهل الزوجة سابعاً: إكرام أهلها: فالزوج المسلم الكريم يكرم زوجته بإكرامه لأهلها، فكما تحب من زوجتك أن تكرم أهلك فواجب عليك أن تكرم زوجتك بإكرامك لأهلها، ففي الصحيحين من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه). بل وستعجب إذا علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكرم أهل نسائه بل وأصدقاء نسائه، ففي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (ما غرت على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم مثلما غرت من خديجة -مع أنها لم ترها- تقول: من كثرة ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكرها، حتى كان النبي صلى الله عليه وسلم يذبح الشاة ويقطعها ثم يقول: أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة) يكرم النبي صلى الله عليه وسلم أهل نسائه وصديقات نسائه بعد الموت! فكيف بإكرامه لهن في حياتهن رضوان الله عليهن؟! إذاً: من مفاتيح قلب الزوجة -أيها الزوج- أن تكرم أهلها، وأن تحسن إلى والديها، وألا تسب أباها وأمها وألا تسب أهلها، فليس هذا من أخلاق الإسلام ولا من أخلاق النبي عليه الصلاة والسلام.

الغيرة المحمودة

الغيرة المحمودة ثامناً: الغيرة المحمودة: فمن صفات الزوج كامل الرجولة أن يغار على زوجته، وقد أثنى الإسلام على الرجل المسلم الغيور، ففي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يغار)، لا تعطل صفة الغيرة عند الله، ولا تكيف ولا تمثل، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، (إن الله يغار، وإن المؤمن يغار، وإن من غيرة الله أن حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن). وفي صحيح البخاري أيضاً: أن سعد بن عبادة رضي الله عنه قال: والله لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح، فتعجب الناس من كلام سعد، ووصل الخبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام: (أتعجبون من غيرة سعد؟! والله لأنا أغير من سعد، والله أغير مني، ومن أجل غيرة الله حرم الله الفواحش ما ظهر منها وما بطن)، ولكن هذه الغيرة لها ضوابط وحدود، فهي تنقسم إلى قسمين: غيرة محمودة، وغيرة مذمومة. وفي الحديث الذي رواه أحمد والنسائي بسند حسن: عن جابر بن عنبرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من الغيرة ما يحبه الله، ومنها ما يبغضه الله، فأما الغيرة التي يحبها الله فالغيرة في الريبة، وأما الغيرة التي يبغضها الله فالغيرة في غير ريبة). فليضع الزوج المسلم هذا المقياس النبوي بين يديه، حتى لا يقع في إفراط أو تفريط، وهذا المقياس الدقيق بلا إفراط أو تفريط من أعظم مفاتيح قلب الزوجة.

الحلم والعفو

الحلم والعفو تاسعاً: الحلم والعفو: فمحال أن تعيش البيوت من غير مشاكل على طول الخط، فلقد وقعت المشاكل في بيوت النبي المصطفى، بل من أعجب ما قرأت: ما ثبت في صحيح البخاري أنه حدث بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين عائشة كلام، فغضبت عائشة فقال لها المصطفى صلى الله عليه وسلم: (هل تقبلين أبا بكر حكماً بيننا؟! قالت: نعم، فجاء أبو بكر رضي الله عنه، فلما جلس الصديق قال النبي لـ عائشة: تتكلمي أم أتكلم أنا؟ فقالت عائشة: تكلم ولا تقل إلا حقاً؛ فانتفض الصديق رضي الله عنه لهذه الكلمة، ولطم عائشة على وجهها لطمة أدمت فمها -نزف الدم من فمها- فقامت عائشة تجري وتختبئ خلف رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما لهذا دعوناك وما بهذا أمرناك يا أبا بكر!). هذا بيت من بيوت النبي صلى الله عليه وسلم. فيا من يعيش في أحلام وخيال ويعتقد أن الحياة الزوجية لا يمكن أن تتعكر أبداً، ولا يمكن أن تنتابها من آن لآخر رياح سموم، هذا زوج يعيش في الأوهام والأحلام، لكن إن اعتقدنا أن البيت ربما يعكر من آن لآخر بمشكلة خارجية أو مشكلة داخلية، فالذي يجب على الزوج في هذه الحالة أن يكون حليماً عفواً، فإن أخطأت الزوجة في حقه، وجاءت لتعتذر ولتندم على ما بدر منها فيجب عليه أن يعفو عن امرأته فوراً، ولا ينبغي أن يستكبر وأن يستعلي، وأن ينتفش وينتفخ، وأن يتمرد ولا يترك الزوجة تتودد إليه وهو مكابر عنيد. وأحياناً -كما أقرأ في الرسائل والمكالمات- تقول المرأة لزوجها: أنا مستعدة أن أقبل قدمك، وهو يستعلي وينتفخ وينتفش، وكلما سمع كلمات الندم والأسف انتفخ، وظن أنه كالبالونة ينبغي أن يطير في الهواء، ولاينبغي أن يساكن هذه المرأة الضعيفة في هذا البيت، وهذا ظلم وكبر! وهذا زوج مملوء بالكبر وهو لا يدري، (فالكبر بطر الحق، وغمط الناس)، أي: ازدراء الناس، وأقرب الناس إليك هي امرأتك، فإن وقعت المشكلة وجاءت المرأة لتتأسف ولتندم، فيجب على الزوج وجوباً أن يكون حليماً عفواً، فإن الكمال لله وحده، وإن العصمة لنبيه صلى الله عليه وسلم. وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ أشج عبد القيس: (إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة)، وفي صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع الرفق من شيء إلا شانه)، وما أحلى وأجمل قول الله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134].

المشاركة في تحمل مسئولية تربية الأبناء

المشاركة في تحمل مسئولية تربية الأبناء وأختم مفاتيح قلب الزوجة: بوجوب تحمل الزوج مسئوليته في تربية الأبناء: فإن وظيفة الزوج لا تتمثل في أن يكون الزوج ممثلاً لوزارة المالية فحسب، وأن يعتقد أن وظيفته أن يقدم الأموال والطعام والشراب، وأن يهمل تربية الأبناء والبنات، وألا يسأل عن أولاده، ولا عن بناته بحجة أنه مشغول إلى شيشته أو إلى رأسه في العمل، فهذا لا يجوز، فإن هذا تملص من مسئولية كبيرة سيسأل عنها بين يدي الله جل وعلا، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6]، وكما في الصحيحين من حديث ابن عمر: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته -ثم قال: والرجل راعٍ في أهل بيته ومسئول عن رعيته). وأنا أقول: إن جلوس الرجل في بيته بين أولاده، ولو كان صامتاً لا يتكلم فيه من عمق التربية ما فيه، فكيف لو تكلم، فذكّر بالله، وذكّر برسول الله؟! إن عجز الزوج عن أن ينصح وأن يربي الأولاد لأنه لم يتعلم، ولم يقف على الدليل من كتاب الله وسنة رسوله، فمرحباً بالزوج مع امرأته وأولاده في الأحضان التربوية الطاهرة في بيوت الله، ليجلس الزوج مع امرأته وأولاده بين يدي أهل العلم المتحققين بالعلم الشرعي، ليسمع الزوج وامرأته قال الله قال رسوله صلى الله عليه وسلم. وأخيراً: هذا هو الطريق، فلا سعادة للبيوت إلا إذا عادت من جديد إلى منهج الله، وإلى هدي رسول الله. وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم وجزاكم الله خيراً.

رمضان موسم الطاعات [1]

رمضان موسم الطاعات [1] لقد فضل الله عز وجل بعض الأماكن على بعض، وبعض المخلوقات على بعض، وبعض الأزمنة على بعض، ومن تلك الأزمنة التي فضلها الله عز وجل شهر رمضان؛ فهو أفضل شهور السنة، وفيه ليلة هي خير من ألف شهر، إذاً موسم عظيم للطاعات والقربات، فيجب على كل مسلم أن يستغله في طاعة الله، وألا يكون من المحرومين.

من فضائل شهر رمضان

من فضائل شهر رمضان بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة؛ فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء! وأيها الإخوة الأحباب الكرام الأعزاء! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم الكريم جل وعلا الذي جمعنا في هذا المكان الطيب في هذا اليوم الطيب الكريم المبارك على طاعته أن يجمعنا جميعاً مع سيد النبيين في جنته ودار كرامته؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله: رمضان موسم الطاعات، هذا هو عنوان لقائنا في هذا اليوم الكريم الميمون المبارك، في يوم الجمعة الذي وافق أول أيام هذا الشهر الكريم، الذي هو ضيف يحل علينا بأنفاسه الخاشعة الزكية، ويقبل علينا ومعه الخير كله، ولم لا وهو شهر الرحمات؟! ولم لا وهو شهر البركات؟! ولم لا وهو شهر تكفير الذنوب والسيئات؟! ولم لا وهو شهر الصيام والقرآن؟! ولم لا وهو شهر الجود والإحسان؟! ولم لا وهو شهر العتق من النيران؟! أسأل الله أن يعتقنا من النار، وأن يجعلنا من الفائزين في هذا الشهر الكريم؛ إنه على كل شيء قدير. أيها الأحبة الكرام! سوف أركز الحديث في العناصر التالية: أولاً: رمضان شهر الخير والبركة. ثانياً: رمضان شهر القرآن. ثالثاً: رمضان شهر القيام. رابعاً: رمضان شهر الإنفاق والإحسان. وأخيراً: رمضان شهر التوبة. فأعرني قلبك وسمعك أيها الحبيب! والله أسأل أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن نكون من الذين قال الله فيهم: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:18].

البركات والخيرات في شهر رمضان

البركات والخيرات في شهر رمضان أولاً: رمضان شهر الخير والبركة، كما في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد والبيهقي والنسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا أقبل شهر رمضان يقول: (أتاكم شهر رمضان؛ شهر مبارك، فرض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه مردة الشياطين، وفيه ليلة هي خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم). وفي صحيح البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة)، وفي رواية مسلم: (إذا جاء رمضان فتحت أبواب الرحمة)، وفي رواية الترمذي: (إذا كان أول ليلة من رمضان غلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادي منادٍ يا باغي الخير أقبل! ويا باغي الشر أقصر! ولله في كل ليلة من رمضان عتقاء من النار، وذلك حتى ينقضي رمضان) اللهم اجعلنا من عتقائك من النار في هذا الشهر الكريم يا عزيز يا غفار! وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم؛ فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة -أي: وقاية- فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم، والذي نفس محمد بيده! لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وللصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه) اللهم متعنا بالنظر إلى وجهك الكريم! وفرحنا يوم لقائك يا أرحم الراحمين! فالصائم يفرح بأن يسر الله له الصيام فصام، ويفرح بأن أعانه الله على الصيام فصام، وإذا لقي ربه جل وعلا فيفرح الفرحة الكبرى التي لا شقاء ولا حزن بعدها أبداً، فيتمتع بالنظر إلى وجه ربه الكريم، ومن يسر الله له ذلك فقد سعد سعادة لا يشقى بعدها أبداً، نسأل الله أن ينضر وجوهنا بالنظر إلى وجهه الكريم؛ إنه على كل شيء قدير. وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) إيماناً بالله جل وعلا واحتساباً للفضل والأجر من عند الله عز وجل، فأبشر أيها الموحد! أبشر أيها الصائم لله في رمضان! ومما زادني فخراً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن أرسلت أحمد لي نبياً فيا من جاذبتك أشواك المعاصي قبل رمضان! ويا من زلت قدمك في بحر الذنوب قبل رمضان! ها هو شهر الطهر قد جاء، وها هو شهر الرحمة قد أهل عليك، وها هو شهر المغفرة قد أقبل عليك، فهيا ضع جبينك وأنفك في التراب ذلاً لمولاك، واطرح قلبك بانكسار بين يدي العزيز الغفار، وقل له: يا رب! يا رب! يا رب ضيعت فيما مضى، واعترف له بذنبك وقل: أنا العبد الذي كسب الذنوبا وصدته الأماني أن يتوبا أنا العبد الذي أضحى حزيناً على زلاته فزعاً كئيبا أنا العبد المسيء عصيت سراً فما لي الآن لا أبدي النحيبا أنا العبد المفرط ضاع عمري فلم أرع الشبيبة والمشيبا أنا العبد السقيم من الخطايا وقد أقبلت ألتمس الطبيبا ويا خجلاه من قبح اكتسابي إذا ما أبدت الصحف العيوبا ويا حزناه من حشري ونشري بيوم يجعل الولدان شيبا ويا خوفاه من نار تلظى إذا زفرت وأفزعت القلوبا ألا فاقلع وتب واجهد فإنا رأينا كل مجتهد مصيبا وكن للصالحين أخاً وخلاً وكن في هذه الدنيا غريبا أنا العبد الفقير ظلمت نفسي وقد وافيت بابكم منيبا أنا المقطوع فارحمني وصلني ويسر منك لي فرجاً قريبا أنا المضطر أرجو منك عفواً ومن يرجو رضاك فلن يخيبا قال صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان إيماناً -بالله- واحتساباً -للأجر من الله جل وعلا- غُفر له ما تقدم من ذنبه) الله أكبر! يا له من فضل! ووالله لا يُرحم منه إلا الهالك الخاسر، ففي الحديث الذي رواه أصحاب السنن أنه صلى الله عليه وسلم قال: (رغم أنف عبد أدرك رمضان ثم انسلخ رمضان ولم يغفر له) فمن الآن اصدق الله عز وجل، وعاهده على ألا ينسلخ رمضان من بين يديك إلا وقد غفر الله عز وجل لك، وألا يخرج إلا وأنت حريص مقيم على طاعة الله، وعلى كل عمل يرضي الله جل وعلا في رمضان، وإياك! أن تنشط للعبادة في النصف الأول فإذا أقبل عليك النصف الثاني من رمضان تكاسلت وانشغلت بالمباريات والمسلسلات والأفلام! فأحذر نفسي وإياك أخي الحبيب! وأحذر نفسي وإياك يا أختاه! ألا نضيع العمر أمام المسلسلات، وأمام الفوازير والأفلام، فقد ضيعنا الأيام قبل ذلك، فوالله! ثم والله! لا نضمن أن نصوم رمضان القادم؛ فانظر إلى آبائك وأحبابك وإخوانك الذين كانوا معك في رمضان الماضي أين هم؟! لقد تركوا الأهل تركوا الأحباب تركوا الدنيا، وهم الآن بين يدي الله، ويتمنى الكثير منهم أن يرجع يوماً إلى الدنيا ليصوم لله، أو ليصلي ركعة لله، أو ليفتح كتاب الله، أو ليتصدق على فقير، أو ليزور مسكيناً، أو ليصل رحمه، قال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ * حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:97 - 100]. نام هارون الرشيد على فراش الموت فبكى، وقال لمن حوله من أصدقائه وأقربائه ووزرائه: أريد أن أرى قبري الذي سأدفن فيه، فحملوا هارون إلى القبر فنظر إليه وبكى، ورفع رأسه إلى السماء وقال: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28 - 29]، ثم رفع رأسه إلى السماء ثانية وقال: يا من لا يزول ملكه! ارحم من قد زال ملكه. أيها الأحباب! لا أريد أن أطيل مع كل فقرة من هذه الفقرات؛ لأعرج على بقية العناصر، إن شاء الله جل وعلا.

فضل قراءة القرآن في شهر رمضان

فضل قراءة القرآن في شهر رمضان ثانياً: رمضان شهر القرآن. قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة:185]. أيها الأحبة! كان سلفنا الصالح رضي الله عنهم إذا دخل عليهم رمضان فرغوا جل وقتهم لقراءة القرآن، حتى قال الزهري: (إذا دخل رمضان فإنما هو لقراءة القرآن، ولإطعام الطعام). وكان إمام دار الهجرة مالك بن أنس إذا دخل شهر رمضان فرغ جل وقته لقراءة القرآن، وترك قراءة الحديث النبوي الشريف. فاقرأ القرآن، ولا يخرج عنك الشهر إلا وقد قرأت القرآن على أقل تقدير مرة؛ فإن السلف رضوان الله عليهم منهم من كان يختم القرآن في رمضان في كل ثلاث ليال مرة، فلا تضيع رمضان إلا وقد قرأت كتاب الله كله مرة على أقل تقدير، فإن قرأت القرآن أكثر من ذلك فأنت على خير، واسمع ماذا قال لك حبيبك المصطفى -والحديث رواه الترمذي وصححه الألباني من حديث ابن مسعود - قال عليه الصلاة والسلام: (من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: (الم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف). وفي صحيح مسلم من حديث أبي أمامة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه). وفي الصحيحين من حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة -أي: مع الملائكة- والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران) فللقارئ أجر على قراءته، وأجر على مشقته وصبره على هذه المشقة. وفي الصحيحين من حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا حسد -والحسد هنا بمعنى: الغبطة- إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار). فيا أيها الحبيب الكريم! اجعل لنفسك في رمضان وقتاً لقراءة القرآن، وضع لنفسك -من اليوم- برنامجاً عملياً للطاعة، واعلم أن أعلى هذه الطاعات في رمضان أن تفرغ جل وقتك لقراءة القرآن. ووالله لقد هجرت الأمة القرآن في هذه الأيام هجراً مروعاً، والهجر أنواع كما قال ابن القيم طيب الله ثراه: هجر التلاوة، وهجر السماع، وهجر التدبر، وهجر العمل بأحكامه، وهجر التداوي به. ويوم أن هجرت الأمة القرآن أذلها الله لمن كتب الله عليهم الذل والذلة، ولا عزة ولا كرامة لهذه الأمة إلا إذا عادت من جديد إلى أصل عزها وشرفها وهو كتاب ربها جل وعلا؛ كما قال تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه:123 - 124] وها نحن نرى الأمة تعيش عيشة الضنك والشقاء في كل مجال من مجالات الحياة، وما ذاك إلا يوم أن أعرضت عن كتاب الله، أسأل الله جل في علاه أن يرد الأمة إلى القرآن رداً جميلاً؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.

فضل الصلاة والقيام في شهر رمضان

فضل الصلاة والقيام في شهر رمضان ثالثاً: رمضان شهر القيام، فلا تنشغل بالفوازير والمسلسلات والأفلام، ولكن انشغل بطاعة الرحيم الرحمن، ففي هذا الوقت من الليل يصلي المسلمون صلاة القيام، وصلاة التراويح، ومن السنة ألا تنصرف من صلاة التراويح حتى ينصرف الإمام من الصلاة، فلا تصل ركعتين وتنصرف لتتابع مسلسلاً أو فلماً من الأفلام، بل صبر نفسك على طاعة الله، فلقد مضى عمرك وقضيت الساعات الطوال أمام التلفاز قبل ذلك، فلا تضيع دقيقة في هذا الشهر، وكن في كل لحظة في طاعة لله، حتى وأنت في عملك انشغل بالأذكار، وانشغل بكلمة التوحيد، وانشغل بالصلاة على محرر العبيد، ولا تضيع دقيقة، وليكن لسانك رطباً في كل دقيقة بذكر الله عز وجل، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) فانظر إلى فضل صلاة التراويح: (من قام) أي: من صلى صلاة القيام، أو صلاة التراويح. وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) وليلة القدر هي في العشر الأواخر في الأيام الوترية، فاحرص على أن تقيم العشر كلها لله، ليرزقك الله ليلة القدر، فإن رزقت بهذه الليلة سعدت في دنياك وأخراك، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاء} [الحديد:21] (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه). ولا ينبغي أن أنسى أن أذكر إخواني بالمحافظة على بقية الصلوات في نهار رمضان في جماعة، فلا تتخلف في رمضان عن صلاة في بيت الله إلا لعذر شرعي، واحرص على الجماعة، قال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج:77]، وقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:14 - 15]. وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط فذلكم الرباط!). وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات أيبقى من درنه شيء؟ -أي: هل يبقى على جسده شيء من القذر؟ - قالوا: لا، يا رسول الله! قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا). وفي معجم الطبراني الصغير والأوسط بسند حسنه الألباني في (صحيح الترغيب والترهيب) من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه آله وسلم قال: (تحترقون تحترقون -أي: بالذنوب والمعاصي- فإذا صليتم الصبح غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم الظهر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم العصر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم المغرب غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم العشاء غسلتها، ثم تنامون فلا يكتب عليكم شيء حتى تستيقظوا) فإذا فعلت ذلك تنام طاهراً مبرأً. إنه فضل الصلاة!! وأحذر نفسي وأحبابي من تضييع صلاة الفجر والعصر؛ لأن كثيراً من أحبابنا يقضون الليلة أمام السهرات الرمضانية التلفزيونية، ويضيعون صلاة العصر؛ لأنهم يعودون بعد العمل فينامون، فتضيع صلاة العصر طيلة أيام الشهر، فأحذر نفسي وأحبابي من هذا التفريط؛ أما صلاة الفجر فمن ضيعها بصفة مستمرة فيخشى عليه النفاق، كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال (إن أثقل الصلاة على المنافقين صلاة الفجر وصلاة العشاء). وفي صحيح البخاري من حديث بريدة أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من ضيع صلاة العصر فقد حبط عمله) وهذا حديث في أعلى درجات الصحة. أي: من ضيعها من غير عذر شرعي؛ فإن كنت متعباً وضبطت ساعة الوقت على أن تقوم لصلاة العصر فحبس الله روحك ونفسك فلم تستيقظ فلا حرج عليك إن شاء الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تفريط في النوم) لكن أرجو ألا تكون معتاداً لذلك، وعليك أن تحرص، والله جل وعلا يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] فاحرص على صلاة الفجر والعصر والعشاء في جماعة في بيت الله جل وعلا، فضلاً عن بقية الصلوات، أسأل الله أن يعيننا وإياكم على الصلاة في جماعة في رمضان وفي غيره، وعلى قيام ليله، إنه على كل شيء قدير.

فضل الإنفاق والجود والإحسان في شهر رمضان

فضل الإنفاق والجود والإحسان في شهر رمضان رابعاً: رمضان شهر الإنفاق والإحسان، فقد روى البخاري من حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم كان أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان. أخي الحبيب! أخرج زكاة مالك في رمضان لتنال الأجر المضاعف من الرحمن، وأكثر من الصدقة في رمضان، وتعرف على بيوت الفقراء والمساكين في رمضان، وعليك أن تجعل ضمن برنامج الطاعة في رمضان نصف ساعة لتذهب إلى بيوت الفقراء والمساكين في الليل البهيم؛ لتدخل إلى قلوبهم البسمة والسعادة والسرور؛ ليملأ الله قلبك سعادة في الدنيا والآخرة، فأنفق ولا تخش من ذي العرش إقلالاً، فوالله لن يقلَّ مالك من الصدقة. روى أحمد بسند صحيح من حديث أبي كبشة الأنماري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثلاث أقسم عليهن -الرسول يقسم وهو الصادق الذي لا يحتاج إلى قسم-: ما نقص مال عبد من صدقة، وما ظُلم عبد مظلمة فصبر عليها إلا زاده الله عزاً، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر) فأنفق أيها الحبيب! يا من منَّ الله عليك بالمال، أطعم الطعام في رمضان، وليس بالضرورة أن يكون إطعام الطعام للفقراء فحسب في بيوت الله، وإنما قدم الطعام ليأكل منه الغني والفقير والمسافر والمقيم، فأطعم الطعام فإن الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وهذا شطر من حديث معاذ الصحيح الذي فيه: (ألا أدلك على أبواب الخير: الصوم جنة -أي: وقاية- والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار) فأكثر من الصدقة والإنفاق، فقد جاء في الصحيحين مرفوعاً: (وما من يوم إلا وينادي ملكان من السماء؛ فيقول الأول: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الثاني: اللهم أعط ممسكاً تلفاً) والله عز وجل يقول: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:268] فمالك يا ابن آدم! تقول: مالي مالي مالي؟، الدولارات، والعمارات، والسيارات! (وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأبقيت؟!). وفي صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم سأل أصحابه فقال: (أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟ -أي: من منكم يحب مال الورثة بدرجة تفوق حبه لماله الخاص؟ - قالوا: ما منا أحد إلا وماله أحب إليه من مال وارثه، فقال صلى الله عليه وسلم: فإن ماله ما قدم، ومال وارثه ما أخر) فهيا نافس أهل الخير على قدر جهدك وطاقتك، {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] فابحث عن الفقراء والمساكين وأطعمهم؛ فإن هناك من بيوت المسلمين من لا يذوق طعم اللحم في العام إلا مرة أو مرات قليلة، في الوقت الذي يرمى فيه اللحم في كثير من بيوت المسلمين بعد موائد الطعام، ولا أنسى أن أذكر مرة أخرى برجل طيب في مدينة المنصورة الطيبة، وقد ذكرت قصته في شريط (الإسلام وسعادة البشرية) ذلكم الرجل الأستاذ الدكتور الذي أصيب بمرض في قلبه، وانطلق هنا وهنالك عند الأطباء ليبحث عن دواء وعلاج، وأخيراً قرر السفر إلى لندن في بريطانيا، وأجريت له الفحوصات، وبذل له الأطباء العلاج، وقرروا له جراحة عاجلة، فقرر هذا الرجل الطيب المسلم أن يعود مرة أخرى إلى المنصورة ليلتقي بأهله وأحبابه، وكان يقول: ظننت أن هذه الجراحة سينتهي بها الأجل، فأحببت أن أرى الأهل والأحباب قبل أن ألقى الله عز وجل، فعاد إلى المنصورة، وقبل السفر إلى لندن بأيام كان يجلس مع صديق له في مكتبه الخاص إلى جوار رجل يبيع اللحم، وفجأة لفت نظره وشد انتباهه مشهد مؤلم يحطم القلب، رأى امرأة كبيرة في السن تلتقط العظم واللحم النيئ الذي يلقى على الأرض من جوار هذا الرجل الذي يبيع اللحم، فنظر إليها، وتأثر بها! ونادى عليها وقال: ما تصنعين يا أماه؟! قالت: والله يا بني إن أولادي ما ذاقوا طعم اللحم منذ ستة أشهر، فأردت أن أجمع لهم بعض العظام مع بعض اللحم النيئ، فتأثر الرجل، ورقت عينه، وخشع قلبه، وانطلق إلى هذا الجزار وقال: هذه المرأة إن أتتك في أي وقت فأعطها ما تشاء من اللحم، وأخرج له على الفور مالاً يعادل قيمة اللحم الذي ستأخذه في سنة كاملة، فبكت المرأة وتأثرت، وعادت إلى البيت في غاية السعادة والسرور بقطع اللحم الذي ستسعد بها أولادها وأبناءها، وعاد الرجل إلى بيته سعيداً فرحاً، وهو صاحب القلب المريض الذي لا يقوى على الحركة، ولكنه حس بالنشاط والحيوية، وحس بالسعادة والانشراح، ولما دخل البيت قابلته ابنته فقالت: يا أبت! ما شاء الله؛ أراك نشيطاً سعيداً، فقص عليها ما قد كان، فبكت البنت وقالت: أسأل الله أن يسعدك بشفاء مرضك كما أسعدت هذه الفقيرة وأبناءها، واستجاب الملك دعاء الفقيرة ودعاء الفتاة، والتفت الجميع إلى خفته وحيويته ونشاطه فتعجبوا، وقال: أشعر -ولله الحمد- بأن الله قد عافاني، ولا أشعر بأي عرض من الأعراض التي كنت أشعر بها قبل ذلك، فصمم الجميع على سفره إلى لندن، وهنالك لما نام بين يدي طبيبه ليجري له الفحوصات مرة أخرى فزع الطبيب واندهش، وقال له: عند أي الأطباء في مصر قد تعالجت؟! فقال: تاجرت مع الله فشفاني الله عز وجل! فالصدقة -يا إخوة- تطفئ الخطيئة، وتطفئ غضب الرب جل وعلا، فلا تحتقر أمر الصدقة، والله الذي لا إله غيره! إن الله سيدفع بالصدقة عنك من الأذى والمصائب والبلاء ما لو عرفته لأنفقت لله في الليل والنهار، فضع ضمن برنامج رمضان الصدقة، فتصدق، وأخرج زكاة مالك؛ لأن الله عز وجل يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] والمال ظل زائل، وعارية مسترجعة، كما قال الشاعر: النفس تبكي على الدنيا وقد علمت أن السلامة فيها ترك ما فيها لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبينها فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها أموالنا لذوي الميراث نجمعها ودورنا لخراب الدهر نبنيها كم من مدائن في الآفاق قد بنيت أمست خراباً وأفنى الموت أهليها أين الملوك التي كانت مسلطنة حتى سقاها بكأس الموت ساقيها لا تركنن إلى الدنيا وما فيها فالموت لا شك يفنينا ويفنيها واعمل لدارٍ غداً رضوان خازنها والجار أحمد والرحمن بانيها قصورها ذهب والمسك طينتها والزعفران حشيش نابت فيها أنهارها لبن مصفى من عسل والخمر يجري رحيقاً في مجاريها والطير تجري على الأغصان عاكفة تسبح الله جهراً في مغانيها من يشتري الدار في الفردوس يعمرها بركعة في ظلام الليل يحييها قال جل وعلا: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف:45 - 46]. وقال الشاعر: النفس تجزع أن تكون فقيرة والفقر خير من غنى يطغيها وغنى النفوس هو الكفاف فإن أبت فجميع ما في الأرض لا يكفيها وقال آخر: هي القناعة فالزمها تكن ملكاً لو لم تكن لك إلا راحة البدن وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير الطيب والكفن فأنفق أيها الحبيب! وتصدق على الفقراء والمساكين؛ فإن رمضان شهر الإنفاق والجود والإحسان، وأكتفي بهذا القدر، وأسأل الله أن يتقبل منا صالح الأعمال، وأواصل ما تبقى من عناصر هذا اللقاء بعد جلسة الاستراحة في عجالة إن شاء الله تعالى، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

فضل التوبة في شهر رمضان

فضل التوبة في شهر رمضان الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد. فيا أيها الأخ الكريم! وأخيراً: رمضان شهر التوبة، فلا تضيع هذا الموسم، ولا تفرط في هذه الفرصة، ويا من أسرفت! تب إلى الله، ويا من ضيعت وفرطت عد إلى الله، ولا تقل: لقد وقعت في كبائر الذنوب، فإن الله عز وجل أطيب وأكبر وأعظم وأجل، فعد إليه، وعاود الطرق على باب التوبة، فإن الله جل وعلا عند ظن عبده به، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى في الحديث القدسي: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملأٍٍ خير منهم، وإن تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً، وإن تقرب إلي ذراعاً تقرب منه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة) فانظر إلى فضل الله! وانظر إلى جوده وكرمه. وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ينزل رب العزة كل ليلة إلى السماء الدنيا) نزولاً يليق بكماله وجلاله؛ فكل ما دار ببالك فالله بخلاف ذلك، كما قال سبحانه عن نفسه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] (ينزل رب العزة كل ليلة إلى السماء الدنيا ويقول: أنا الملك، من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر) لا يزال ربك ينادي عليك وأنت نائم، وأنت في غفلة -إلا من رحم الله جل وعلا- فاستيقظ في الوقت الذي ينادي عليك فيه رب العزة وملك الملوك، فإن قال: من ذا الذي يدعوني فأستجيب له؟ فقل: عبدك الذليل الضعيف الماثل بين يديك يقر لك بذنبه، ويعترف لك بجرمه، ويطرح قلبه بذل وانكسار بين يديك يا عزيز يا غفار! قم في هذا الوقت؛ فإن الله لا يزال كذلك حتى يضيء الفجر، فلا تقنط ولا تيأس أبداً، لأن الله يعلم ضعفك وفقرك، ويعلم نقصك، والله عز وجل هو الذي خلقك، وهو الذي يعلم فيك كل هذه الصفات من النقائص، فإن رأى الله عز وجل الندم والأوبة والتوبة منك فرح بك، وهو الغني عنك الذي لا تنفعه الطاعة ولا تضره المعصية، ففي صحيح مسلم من حديث أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها) إذا طلعت الشمس وعاد الكافر إلى الله فحينئذٍ لن يقبل الله منه الإيمان، وإن عاد العاصي إلى الله فلن يقبل الله منه التوبة، فبادر بالتوبة قبل أن تغرغر، وقبل أن تطلع الشمس من مغربها؛ فإن الباب مفتوح على مصراعيه في الليل والنهار، قال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم:8]. فيا نادماً على الذنوب أين أثر ندمك؟ وأين بكاؤك على زلة قدمك؟! واحسرتاه إذا جاءك الموت وما أنبت واحسرتاه إذا دعيت في أول رمضان إلى التوبة وما استجبت. أخي: إن لم تتب اليوم فمتى؟! وإن لم ترجع اليوم إلى الله فمتى؟ إن أقرب غائب ننتظره يا إخوتاه هو الموت، فبادر الآن قبل فوات الأوان، وكن على يقين أن ربك الرحمن لن يغلق باب التوبة في وجهك أبداً ما دمت مقراً له بالذنوب والتقصير والعصيان، فأقلع عن الذنوب، ولير الله منك الندم، وداوم على الاستغفار والعمل الصالح، وتحلل من عباد الله، وتحلل من كل ذنب ارتكبته في حق أخ من إخوانك أو أخت من الأخوات، وهذه هي شروط التوبة النصوح. أخي الحبيب: بادر الآن قبل فوات الأوان، واعلم بأن الله عز وجل ينادي عليك بهذا النداء العذب الندي فيقول سبحانه: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]. اللهم اغفر لنا ذنوبنا اللهم اغفر لنا ذنوبنا اللهم اغفر لنا ذنوبنا، لا إله لنا سواك فندعوه، لا إله لنا سواك فندعوه، ولا رب لنا غيرك فنرجوه، ولا رب لنا غيرك فنرجوه، يا منقذ الغرقى! يا منقذ الغرقى! يا منجي الهلكى! يا سامع كل نجوى! يا عظيم الإحسان! يا عظيم الإحسان! يا عظيم الإحسان! يا دائم المعروف! يا دائم المعروف! يا دائم المعروف! نعترف لك بذنوبنا، ونقر لك بجرمنا. اللهم إنا وقفنا على بابك سائلين، اللهم إنا وقفنا على بابك سائلين، ولمعروفك راجين، ولعظيم فضلك طالبين، فلا تردنا خائبين، ولا من رحمتك يائسين، ولا من عفوك خائبين، اللهم اغفر لنا أجمعين، اللهم اغفر لنا أجمعين، اللهم أغفر لنا أجمعين! إلهنا! إلهنا! إلهنا! إنا وقفنا على بابك فلا تحرمنا من فضلك وعظيم ثوابك، اللهم اغفر لنا الذنوب، واستر علينا العيوب، وفرج لنا الكروب، واكشف عنا الهموم، وادفع عنا النقم، وادفع عنا النقم، وادفع عنا النقم، واكس المسلمين العراة، واحمل المسلمين الحفاة، اللهم أعنا على صيام رمضان، اللهم أعنا على قيام رمضان، اللهم أعنا على البذل والجود والإنفاق في رمضان، اللهم اجعلنا من عتقائك من النار، اللهم اجعلنا من عتقائك من النار، اللهم اجعلنا من عتقائك من النار، برحمتك يا عزيز يا غفار! اللهم أقر أعيننا بنصر الإسلام وعز الموحدين، اللهم اجعل مصرنا واحة للأمن والأمان، اللهم ارفع عن مصر الغلاء والوباء والبلاء! اللهم لا تحرم مصر من التوحيد والموحدين، اللهم فك سجن المسجونين وأسرى المأسورين واربط على قلوبهم يا أرحم الراحمين! اللهم إن أردت بالناس فتنة فاقبضنا إليك غير خزايا ولا مفتونين، ولا مفرطين ولا مضيعين، ولا مغيرين ولا مبدلين. اللهم اهد أولادنا، اللهم اهد أولادنا، اللهم وأصلح شبابنا، اللهم أصلح شبابنا، اللهم استر نساءنا، اللهم احفظ بناتنا، اللهم احفظ بناتنا، اللهم بارك لنا في أولادنا، اللهم اجعلهم قرة عين لنا في الدنيا والآخرة يا أرحم الراحمين! اللهم استرنا ولا تفضحنا، وأكرمنا ولا تهنا، وكن لنا ولا تكن علينا، اللهم اقبلنا وتقبل منا، وتب علينا وارحمنا، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم اقبلنا وتقبل وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم! اللهم اقبلنا وتقبل منا، وتب علينا؛ إنك أنت التواب الرحيم! هذا وما كان من توفيق فمن الله، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان؛ والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون عليه إلى الجنة ويلقى به في جهنم! وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه!

رمضان موسم الطاعات [2]

رمضان موسم الطاعات [2] الوقت رأس مال الإنسان، فيجب عليه أن يستغل وقته في طاعة الله عز وجل -وخاصة الأوقات والمواسم الفاضلة كشهر رمضان- فيجب على المسلم أن يستغل رمضان في طاعة الله، وأن يجعل له برنامجاً في المحافظة على وقته، ويجب عليه أن يتعلم أحكامه ومسائله حتى يكون صومه صحيحاً.

برنامج المسلم في رمضان

برنامج المسلم في رمضان بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الأحبة! أسال الله عز وجل أن يتقبل منا ومنكم جميعاً صالح الأعمال، وموضوع الخطبة اليوم مقدمة بمثابة برنامج عملي لرمضان؛ لأن أي إنسان عندما يريد أن يعمل مشروعاً وكان من الذين منَّ الله عليهم بالمال، فإنه يعمل دراسة جدوى، ويدرس المشروع، ويضع برنامجاً زمنياً، كما تخطط الدولة وتقول خطة خمسية، وخطة سنوية، وخطط مستقبلية، فالمسلم الذكي الفطن -أسأل الله أن يجعلنا كذلك- هو الذي يستغل هذا الموسم المبارك؛ فيضع لنفسه برنامجاً عملياً. فعلى سبيل المثال: أداء الصلاة في جماعة، فتسأل نفسك عندما تستيقظ في الصباح: هل ستصلي الصلوات في جماعة هل عندك صدق في النية؟! إن كنت كذلك فإن الله عز وجل سيسر لك، وفي آخر النهار تحاسب نفسك هل صليت الخمس الصلوات في جماعة؟ ثم تكمل البرنامج بعد ذلك؛ فإذا قلت: للأسف لم أصل الفريضة هذه في المسجد؛ فإن كنت في عذر شرعي منعك من أن تصلي الفريضة في المسجد، كأن نمت مثلاً، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تفريط في النوم) أو كنت مريضاً، أو لم تسمع الأذان ولم تنتبه، أو نسيت، فهذه أعذار، والنسيان عذر؛ لأن الله قد رفع النسيان عن الأمة، يقول عليه الصلاة والسلام: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها حين يذكرها) فانظر هل صليت اليوم خمس صلوات في جماعة أو لا؟ وهكذا مع القرآن، فعليك أن تعمل لنفسك برنامجاً مع القرآن، وحدد الأجزاء التي ستقرؤها، فإذا قال قائل: كيف أقرأ وأنا في الشغل؟ فنقول: الأصل أن وقت العمل للعمل، فإذا كنت في الوظيفة وعندك عمل فإنهائك لأعمال الجمهور بأخلاق من أعظم العبادات، وهو عمل عظيم جداً. وكثير من إخواننا إذا كان موظفاً يقول: لا تضايقني؛ لأني صائم، فنقول: سبحان الله! وهل فرض الله الصيام لتضييق أخلاق الناس أو لتهذيب أخلاق الناس؟! إن ربنا عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] فيبقى الأصل أن الهدف من الصيام هو التقوى، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم).

التحذير من الإسراف في رمضان

التحذير من الإسراف في رمضان أيها الإخوة! قبل أن يدخل رمضان تجد الاستعداد في موائد البيوت، والأصل أن رمضان شهر اقتصاد، وأنا لن أحرم عليكم طيبات أحلها الله لكم، كما قال عز وجل: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف:32] لكن فلنكن كما قال الله تعالى: {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان:67] فخير الأمور الوسط، وليس هناك داعٍ للإسراف. قد تجد مائدة طعام وأول ما يؤذن المؤذن يأكل الناس ويقومون ليتركوا أكثر ما في المائدة يرفع والأدهى والأمر أن جل ما يرفع يُرمى. فهل هذا يرضي الله؟! أنت رجل طول النهار في عبادة وطاعة، وتأتي في آخر النهار فتقع في معصية؟! وهذه معصية لقول الله جل وعلا: {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ و} [الإسراء:26 - 27] ومن التبذير أن تلقي بلقمة خبز أو بقطعة لحم أو بصحن أرز أو بصحن طبيخ أو نحو ذلك في سلة المهملات؛ وهناك بيوت من بيوت المسلمين في أمس الحاجة إلى هذا الكم من الأرز أو الطبيخ أو اللحم أو الخبز. يا إخواني! كانوا يقولون منذ زمن: (لا أحد يموت من الجوع)، ونحن كلنا كنا نعرف هذا، ولكن انظر اليوم إلى واقع البوسنة والصومال، والشيشان وطاجكستان وكشمير، فستجد عشرات المئات يموتون الآن من شدة الجوع. إي والله! يموتون من الجوع، في الوقت الذي يوجد فيه جماعة من الناس مثخنة بالطعام، وعاصية بالتبذير والإسراف؛ ولذلك أحد مشايخنا يقول: (تأكلون الأرطال وتشربون الأسطال، وتنامون الساعات الطوال، وتزعمون أنكم أبطال!) وهذا أمر واقع؛ فالطعام موجود بأرطال وبكميات كبيرة جداً -وأسأل الله أن يوسع علينا من الحلال- لكن يا إخواني ليس من الممكن أبداً أن نفرط في تناول الطعام ثم نصلي القيام بنشاط، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يفطر على تمر أو رطب، وإن لم يجد شرب قليلاً من الماء، وكثير من الناس يضيعون صلاة المغرب بحجة أنهم يأكلون؛ فنقول: افطر على تمر وصل ثم ارجع وكل أكلاً خفيفاً واخرج لصلاة التراويح، وبعد ذلك ستشعر بشدة الجوع، وستأكل أكلاً لذيذاً هنيئاً إن شاء الله تعالى، وبهذا تكون قد صليت مستريحاً بفضل الله، ولا تسرف في الأكلة الثانية فإن كثيراً من الصائمين يسرفون في الطعام والشراب، ووالله العظيم إن الواحد ليخشى أن يقع في شيء ليس له أصل، وقد دخلت البيت حاجات غير الذي اعتادت عليه البيت، لدرجة أن هناك أشياء أصبحت كأنها من لوازم هذا الشهر التي لا ينبغي أن تنفك عنه، وأنا لا أقول: إنني أحرم الطيبات -معاذ الله- بل أسأل الله أن يوسع علينا من الحلال الطيب، وأن يطعمنا من الحلال الطيب، لكن لا إفراط ولا تفريط، والزائد عندك عد به على بيت فقير من بيوت إخوانك من المسلمين والمسلمات.

حكم استخدام السواك للصائم

حكم استخدام السواك للصائم أيها الأحباب: أود أن أنبه على بعض الأمور: فإن كثيراً من الناس يظن أنها قد تكون محرمة في رمضان، أو قد تفسد عليه الصيام: الأمر الأول: السواك: قد يقول لك قائل: هل يجوز أن أستخدم السواك في نهار رمضان أو لا؟ قال العلماء: يجوز ذلك لكن إلى الظهر فقط -أي: إلى قبل الزوال- ولكن الراجح: أنه يجوز أن تستخدم السواك في نهار رمضان كله، وليس هناك دليل على منع استخدام السواك بعد الزوال، فللصائم أن يستخدم السواك في أي وقت من أوقات شهر رمضان شاء.

حكم غسل الصائم للتبرد

حكم غسل الصائم للتبرد الأمر الثاني: إذا رجعت من سفر في يوم ما وأحسست بالحرارة أو كان الجو حاراً مثلاً، فهل يصح أن تغتسل بنية أن تتبرد من شدة الحر من أجل أن تواصل الصيام؟ ف A نعم، يجوز ولا حرج عليك على الإطلاق.

حكم استخدام فرشة الأسنان للصائم

حكم استخدام فرشة الأسنان للصائم الأمر الثالث: استخدام فرشة الأسنان: البعض يقول: هل يجوز أن أستخدم الفرشة؟ A نعم يجوز، لكن أحذرك أن يتسرب إلى جوفك شيء من المعجون، والأولى أن تستخدم الفرشة بعد الإفطار، أو وأنت تتوضأ لصلاة الفجر، ثم تكف عن ذلك، فإذا قلت: إن رائحة الفم تتغير، فأقول لك: هذه الرائحة أطيب عند الله من ريح المسك، وهي مرادة، وريحة فم الصائم الكريهة المتغيرة ليست من الفم، بل تأتي من الجوف، ولذلك مهما استخدمت لها فإنها بعد فترة ستظهر ولتعلم أن هذه الرائحة عند الله عز وجل أطيب من ريح المسك، كما قال صلى الله عليه وسلم (لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك).

حكم استخدام البخاخ والحقن للمريض وهو صائم

حكم استخدام البخاخ والحقن للمريض وهو صائم الأمر الرابع: قد يقول قائل: أنا مريض بالربو -أسأل الله أن يشفي مرضى المسلمين- ومعي البخاخ، فهل يجوز لي إذا جاءتني الأزمة أن أستخدم البخاخ؟ A نعم يجوز، ولا يفسد الصوم؛ لقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]. وهكذا الحقن التي في الوريد أو العضل لا تفطر الصائم؛ لأنها ليست طعاماً ولا شراباً، ولا في معنى الطعام والشراب، فإذا كان الإنسان مريضاً واضطر أن يأخذ حقنة في نهار رمضان، فله الرخصة أن يفطر، لقول تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] لكن يحرص على الصيام، وعمر بن عبد العزيز يقول: (أفضلهما أيسرهما).

حكم استخدام الحقن المغذية للصائم

حكم استخدام الحقن المغذية للصائم أما إذا كانت حقنة مغذية، والذي يستعملها يقول: أنا آخذها لكي أتقوى بها على الصيام، فالراجح من أقوال علمائنا: أنها تفسد الصوم؛ لأنك إذا كنت لا تقدر على الصيام فلا تصم، والله عز وجل قد أعطاك الرخصة؛ والله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه، قال عز وجل: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} [البقرة:184] فكلمة (يطيقونه) يعني: يصومونه بشق الأنفس وبشدة، وقد لا يقدرون على الصيام فعليهم: {فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:184]، ومن رحمة الله أنه لم يحدد نسبة للإطعام، وإنما بمثل ما تطعم به نفسك وولدك في بيتك أطعم المسكين، يعني: أنا ممكن أن أطعم مسكيناً وتكلفني الوجبة له -مثلاً- عشرة جنيهات، بينما أخ ثانٍ قد تكون وجبته في البيت بخمسة عشر جنيهاً، وأخ ثالث وجبته في البيت بجنيهين. إذاً: كل بحسب قدرته، كما قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، وقال جل وعلا: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]، وقال سبحانه: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] فالحقنة إذا كانت مغذية فالراجح: أنها تفطر، وإذا كان الرجل ضعيفاً لا يقدر على الصيام فمعه الرخصة في أن يفطر.

حكم قطرة العين والأذن للصائم

حكم قطرة العين والأذن للصائم وأما قطرة العين والأذن والأنف فلا تفطر الصائم ولو وجد طعمها في حلقه، وهذا هو الراجح من أقوال أهل العلم؛ لأنها ليست طعاماً ولا شراباً، وليست في معنى الطعام والشراب، ولم تدخل للإنسان من المنفذ المعتاد للطعام والشراب.

الاحتلام في نهار رمضان ليس مفسدا للصوم

الاحتلام في نهار رمضان ليس مفسداً للصوم مسألة أخرى: شاب نام في نهار رمضان، ولما قام من النوم وجد نفسه محتلماً، فهل يفسد صومه؟ A لا؛ لأن الاحتلام ليس بيده، وإنما عليه أن يقوم ويغتسل، ويتم الصيام، وصومه صحيح؛ لأن الاحتلام لا يفسد الصوم.

حكم من نام من جنابة في ليل رمضان حتى طلع الفجر

حكم من نام من جنابة في ليل رمضان حتى طلع الفجر مسألة أخرى: رجل متزوج وجامع أهله في ليلة من ليالي رمضان، وأخذه النوم فما استيقظ إلا بعد الفجر، فهل يفسد صومه؟ A لا، وصومه صحيح، وعليه أن يقوم ويغتسل، ويتم الصيام ولا شيء عليه. المهم: أن يقلع عن جماع أهله قبل الفجر، كما قال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187] والخيط الأبيض والخيط الأسود هو بياض النهار وسواد الليل.

استحباب تعجيل الفطر وتأخير السحور

استحباب تعجيل الفطر وتأخير السحور إن من السنة التعجيل بالفطر، وحين الفطر يسمي الله ويقال: (ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله)، وأنا أذكر بهذا من باب {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55]. ومن آداب الصيام: تأخير السحور، وقد يقول شخص: أنا أحب أن أتسحر مبكراً، فلا حرج، لكن التمس البركة التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: (أخروا السحور؛ فإن في السحور بركة) حتى ولو تشرب شربة ماء قبل صلاة الفجر. إذاً: تعجيل الفطر من السنة، فإذا سمعت المؤذن في المغرب يقول: (الله أكبر) فأفطر، وليس بلازم أن تنتظر حتى يقول: (حي على الصلاة، حي على الفلاح)؛ فإن هذه ليس لها أصل، فإذا أذن المؤذن فسم الله وكل، فمن السنة أن تعجل الفطر، وأن تؤخر السحور.

حكم الطيب للصائم

حكم الطيب للصائم هل يتطيب الصائم؟ A هذه مسألة فيها خلاف بين أهل العلم، والراجح: أنه يجوز للصائم أن يستخدم الطيب في أي وقت من أوقات رمضان، وهناك أقوال مخالفة، لكن ليس عليها أدلة، وعلى هذا فلا مانع أن يستخدم الصائم الطيب في نهار رمضان.

حكم قول بعض المؤذنين: يا أمة خير الأنام! ارفعوا وانووا الصيام

حكم قول بعض المؤذنين: يا أمة خير الأنام! ارفعوا وانووا الصيام وأما قول بعض المؤذنين: (ارفع يا صائم! وانو الصيام) فقل له: لست برافع، وليس لك دخل في هذا؛ لأنهم بهذا يحرمون الطعام والشراب قبل الفجر بربع ساعة أو بنصف ساعة، وإنما لك أن تأكل وتشرب إلى الأذان، وأول ما يقول المؤذن: الله أكبر فأمسك.

حكم النية في الصيام

حكم النية في الصيام وأما النية فهي ركن من أركان الصيام، فإذا قال قائل: هل يجوز أن أعقد النية للشهر كله؟ ف A الراجح من أقوال أهل العلم: أنه يجب عليك أن تنوي كل ليلة في رمضان، فإذا قمت تتسحر فالسحور نية، وليس معنى هذا أنك تقول: نويت صيام يوم غدٍ من شهر رمضان فرضاً علي لربي إيماناً واحتساباً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل هذا، وإنما النية محلها القلب، فإذا قمت وأحضرت علبة زبادي وأكلتها فهذه نية للصيام، فإذا نمت ولم تتسحر فعليك أن تعقد النية من الليل أنك ستقوم للسحور، وهذا يُعد نية، فالأمر ميسر من فضل الله عز وجل، وليس هناك حرج.

الرخصة في الإفطار للحامل والمرضع

الرخصة في الإفطار للحامل والمرضع وأما الحامل والمرضع فإذا كان الصوم يشق عليهما فلهما أن تفطرا، ومن أهل العلم من قال: عليها القضاء والإطعام، ومنهم من قال كـ ابن عباس وابن عمر: تطعم كل يوم مسكيناً، فهي بمنزلة من لا يطيق.

صيام المسافر

صيام المسافر وأما المسافر إذا قال: أنا أقدر على الصيام، فنقول له: لو قدرت أن تصوم فلا ننكر عليك الصيام، وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا في السفر لا ينكر الصائم على المفطر، ولا المفطر ينكر على الصائم، وقال أبو حمزة الأسلمي لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! إني أجد مني قوة على الصوم في السفر، فقال له: فإنما هي رخصة من الله تعالى، فمن أخذ بها فحسن، ومن لم يأخذ بها فلا شيء عليه) وعمر بن عبد العزيز قال: (أيسرهما أفضلهما) فإن كان ليس عليك مشقة في السفر وصمت فلا حرج عليك. والله أعلم. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

لماذا هزمت الأمة؟

لماذا هزمت الأمة؟ إن لله سنناً ربانية في الكون لا تتبدل ولا تتغير، ولا تحابي تلك السنن أحداً من الخلق، ومن هذه السنن سنة التغيير وسنة الابتلاء وسنة التداول وسنة النصر، وبمعرفة هذه السنن تعرف أسباب هزيمة الأمة، وتعرف أسباب تمكينها وعزها.

واقع الأمة المرير

واقع الأمة المرير بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين محمد صلى الله عليه وعلى من اتبعه بإحسان إلى يوم الدين، وبعد: حياكم الله جميعاً أيها الإخوة الأخيار! وأيتها الأخوات الفاضلات! واسمحوا لي أن أخص بالتحية شيخنا المبارك أبا عبد الرحمن الذي أتقرب إلى الله عز وجل بحبه، وأسأل الله سبحانه أن يمتعه بالإيمان والعافية، وأن يبارك له في أهله وولده، وأن يجعله إماماً من أئمة الهدى، وأن يبارك فيه وفي جميع علماء هذه الأمة المخلصين الصادقين، وأن يحفظهم بحفظه، إنه ولي ذلك والقادر عليه. ووالله ما ظننت أن أتحدث الليلة بين يديه، فما أتيت إلا تلميذاً له، لا أقول ذلك على سبيل التواضع، فأنا ممن يعرف قدر الشيخ، فأسأل الله عز وجل أن يرفع قدره في الدنيا والآخرة، وأن يسترنا وإياه في الدنيا والآخرة. أبى الشيخ بعظيم تواضعه إلا أن أتقدم بين يديه، فأسأل الله أن يتقبل منا ومنه ومنكم جميعاً صالح الأعمال. أحبتي في الله! لماذا هزمت الأمة؟! لماذا صارت الأمة الآن ذليلة لأذل أهل الأرض من إخوان القردة والخنازير؟! لماذا تحولت الأمة الآن إلى قصعة مستباحة لكل أمم الأرض؟! هل لأن الأمة فقيرة؟! أم لأن الأمة ضعيفة؟! أم لأن الأمة قليلة؟! أم لأنها تفتقر إلى العقول والأدمغة التي تفكر وتبدع؟! أم لأنها تفتقر إلى المناخ أو الثروات أو الموقع الاستراتيجي الهام؟! لا، الأمة ليست فقيرة، وليست قليلة العدد والعُدد والعتاد، وليست فقيرة في العقول والأدمغة التي تبدع وتفكر. إذاً: لماذا هزمت الأمة، وصار الدم الإسلامي أرخص دم على وجه الأرض، وصار اللحم الإسلامي أرخص اللحم على وجه الأرض، يتناثر كل ساعة على مرأى ومسمع من الشرق والغرب؟! ما هذا الذل والهوان؟! أي مصيبة هذه التي حلت بأمة الإسلام ليتحكم فيها سفاح مجرم كـ شارون وبوش؟! يطالعنا هذا بوجهه الذي يشبه وجه الخنزير، والآخر بوجه يشبه وجه القرد! بتصريحات تفجر الدم من العروق، والأمة الآن تقتل بسكين بارد، وتذبح بسكين بارد، ومازالت الأمة إلى هذه اللحظة لا تسمع من الزعماء والمسئولين إلا ما يجيدون من لغة الشجب والاستنكار! وقد مضى بالفعل زمن لغة الشجب ولغة الاستنكار، مضى زمن الشجب ولغة الاستنكار، انتهى زمن التنظير، ومضى زمن الكلام! كيف والدبابات اليهودية بالصنع الأمريكي المتقن تحاصر أهلنا ونساءنا وأولادنا وبناتنا وأطفالنا، وتدك البيوت على رءوس هؤلاء المستضعفين؟! فلا وقت للتنظير، ولا وقت للكلام. وأرجع إلى Q لماذا وصلت الأمة إلى هذه الحالة من حالات الذل والهوان؟! متنا قروناً والمحاق الأعمى يليه محاق، أي شيء في عالم الغاب نحن آدميون أم نعاج نساق نحن لحم للوحش والطير منا الجثث الحمر والدم الدفاق وعلى المحصنات تنوح البواكي يا لعرض الإسلام كيف يراق قد هوينا لما هوت وأعدوا وأعدوا من الردى ترياق واقتلعنا الإيمان فاسودت الدن يا علينا واسودت الأعماق وإذا الجذر مات في باطن الأر ض تموت الأغصان والأوراق

سنن الله الكونية

سنن الله الكونية لماذا هزمت الأمة وانتبهوا إليّ جيداً؟! إن لله سنناً ربانية في الكون لا تتبدل ولا تتغير ولا تحابي تلك السنن أحداً من الخلق بحال مهما ادعى لنفسه من مقومات المحاباة، وسنطرح هذا التسلسل للسنن: فهناك سنة التغيير، وسنة التداول، وسنة الابتلاء بالتمحيص، وسنة النصر والتمكين. لقد كانت الأمة العربية قبل البعثة المحمدية مبعثرة لا قيمة لها ولا كرامة، فجاء الإسلام فجعلها خير أمة أخرجت للناس، يوم كسا رسول الله صلى الله عليه وسلم أمة الإسلام ثوب التوحيد، وراحت لترفل في هذا الثوب فأذلت الأكاسرة، وأهانت القياصرة، وغيرت مجرى التاريخ في فترة لا تساوي في حساب الزمن شيئاً على الإطلاق، وأقامت للإسلام دولة من فتات متناثر وسط صحراء تموج بالكفر موجاً، فإذا هي بناء شامخ لا يطاوله بناء!

سنة النصر والتمكين

سنة النصر والتمكين بعد مرحلة التمحيص وتمايز الصفوف تأتي مرحلة النصر والتمكين، ونحن على أبوابها إن شاء الله تعالى، لا أقول ذلك من باب الأحلام الوردية، ولا من باب الرجم بالغيب، وإنما أقول ذلك من باب فهمي لآيات الله الكونية والقرآنية، وفهم أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم. بعد مرحلة التمحيص والابتلاء يثبت من يثبت على الصف ليرفع الراية في سبيل الله، لا من أجل أي أمر من أمور الدنيا أو الهوى، وإنما من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا، فتأتي سنة الله تبارك وتعالى التي وعد بها. واعتصموا بحبل الله، أي: بجماعة المسلمين، واعتصموا بحبل الله، أي: امتثلوا أمره، واجتنبوا نهيه، وقفوا عند حدوده، كل هذا ثابت عن السلف، يقول ربنا: {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج:78] من اعتصم بالله فقد اعتصم بنعم المولى ونعم النصير، لا مجال الآن أمام الأمة إلا أن تعتصم بالله، إلا أن توظف ما عندها من أسباب ومن طاقات وإمكانيات، ولترجع إلى الله لتردد مع السابقين الأولين قولتهم الخالدة: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285]، {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج:78]، روى البخاري وغيره أنه لما انتهت معركة أحد نادى أبو سفيان بأعلى صوته وقال: أفي القوم محمد؟ صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تجيبوه) فكررها أبو سفيان ثلاثاً: أفي القوم محمد؟ أفي القوم محمد؟ فلما لم يجبه أحد اطمأن إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قتل، فنادى ثانية: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ فقال النبي: (لا تجيبوه) فكررها ثلاثاً، فلما لم يجبه أحد اطمأن إلى أن الصديق هو الآخر قد قتل، فنادى في المرة الثالثة: أفي القوم ابن الخطاب؟ فقال النبي: (لا تجيبوه) فكررها ثلاثاً، فاطمأن إلى أن هؤلاء جميعاً قد قتلوا، فالتفت أبو سفيان إلى قومه من المشركين وقال: أما هؤلاء فقد قتلوا. فلم يتمالك عمر بن الخطاب نفسه فرد على أبي سفيان وقال: كذبت والله يا عدو الله! إن هؤلاء الذين عددت لأحياء كلهم، وقد بقي لك ما يحزنك. وفي لفظ: ما يخزيك، وفي لفظ: ما يسوءك، فقال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، والحرب سجال، وستجدون في القوم مثلة لم آمر بها، ولم تسؤني ثم أخذ يقول: اعل هبل، اعل هبل! اعل هبل، وهنا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا تجيبونه؟!) مع أنه قبل لحظات كان يقول: (لا تجيبوه)؛ لأن القضية في المرة الأولى متعلقة بالأشخاص، حتى ولو كانت بشخص النبي صلى الله عليه وسلم، أما القضية في هذه المرة فهي متعلقة بالعقيدة، متعلقة بذات الله جل وعلا يقول: (اعل هبل! فقال النبي: ألا تجيبونه؟! قالوا: فما نقول يا رسول الله؟! قال: قولوا له: الله أعلى وأجل، الله أعلى وأجل. فقال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم! فقال النبي: ألا تجيبونه؟! قالوا: فما نقول يا رسول الله؟! قال: قولوا له: الله مولانا ولا مولى لكم!). قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11]، فمتى ستعرف الأمة هذه المعاني؟! متى ستعرف الأمة نعم المولى ونعم النصير؟!

سنة التداول

سنة التداول ثم وقعت سنة التداول {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140]، فالدولة الآن للكفر وأهله، الدولة الآن لليهود، الدولة الآن للهندوس، الدولة الآن للملعونين الملحدين من الروس، الدولة الآن للكفر وأهله. وتدبر معي! والله ما انتصر الكفر وأهله إلا يوم أن تخلى عن الحق أهله! سنن لا تتبدل! فالله لا يعجل لعجلة أحد، واعلم بأن الله يسمع ويرى ما يجري الآن على أرض فلسطين وعلى أرض الشيشان وعلى أرض أفغانستان، وليس أحد أغير على الحق وأهله من الله، وليس أحد أرحم بالمستضعفين من الله، لكنها السنن، لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قائد المعركة في أحد، فتخلى بعض الصحابة عن بعض أسباب النصر فكانت الهزيمة، هزمت الأمة في أحد مع أن قائد المعركة هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، والهزيمة سنة ربانية لا تتغير ولا تتبدل، عصى بعض الصحابة أمراً من أوامر رسول الله فكانت الهزيمة، فكيف تنصر الأمة الآن وقد ضيعت شريعة الله بالجملة، ونحت شريعة النبي صلى الله عليه وسلم، ونحن أمام شرط الإسلام وحد الإيمان بلفظ القرآن {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65].

سنة الابتلاء والتمحيص

سنة الابتلاء والتمحيص الدولة الآن للكفر وأهله، وتأتي بعد سنة التداول سنة الابتلاء، فما تحياه الأمة الآن إنها سنة أخرى من سنن الله في الكون إنها سنة الابتلاء، لماذا أيها الإخوة؟ للتمحيص، واحفظوا عني هذه العبارة جيداً، أقول: إن ما يجري الآن على أرض فلسطين، وما يجري الآن على أرض أفغانستان، وما يجري الآن على أرض الشيشان، وما يجري الآن على أرض الفلبين، وما يجري الآن في الأمة، إنما هو تربية من الله للأمة بالأحداث، إنها مرحلة التربية السماوية، الأمة لا تجد من يربي أفرادها، لا من الزعماء، ولا من العلماء إلا من رحم ربك من أفراد، فنشهد الآن مرحلة شديدة من مراحل التربية لأفراد الأمة، إنها التربية بالأحداث. فما يجري الآن على أرض فلسطين تربية، ولابد من الابتلاء للتمحيص وللتمييز، أما حالة الخلط والغبش التي تحياها الأمة فلن تنصر لله ديناً، ولن تنصر للتوحيد عقيدة، ولن ترفع للإسلام راية، فلابد من المفاصلة، لابد من إقامة الفرقان الإسلامي، لابد أن تستبين سبيل المؤمنين من سبيل المجرمين، لابد من هذه المرحلة: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:1 - 3]. وانتبه! فالله جل وعلا يعلم ما كان وما هو كائن وما سيكون، فالله سبحانه لا يعلم الصادق من الكاذب بعد الأحداث، بل الله يعلم ما كان وما هو كائن وما سيكون، وإنما هو علم للأفراد السائرين على الدرب؛ ليثبت على الصف من يستحق شرف السير على طريق النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن هناك صنفاً يسير على طريق الدعوة إلى الله، يتاجر بالدعوة ويتاجر بالاستقامة يتاجر بالإسلام، يظن أن الدعوة صفقة تجارية! إن حقق الربح فهو سائر على الدرب مع السائرين، وإن تعرض لمحنة أو فتنة نكص على عقبيه وتقهقر: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11]. لابد من التمايز، لابد من التمحيص، ولن يكون هذا التمحيص إلا بعد الابتلاء والمحن والفتن. فما يحدث الآن إنما هو نوع من أنواع التربية، لقد علمت الأمة كلها الآن أن الكفر لا ينصر للأمة قضية، ومن الحكم العظيمة في تأخير الله للنصر -وتدبروا هذه الحكمة البالغة- ألا يبقى في صف العدو سمة من سمات الخير، حتى لا يغتر بهذه السمة ضعاف الفهم وضعاف الإيمان، فلقد شاء الله لنا الآن أن نرى العدو على حقيقته. من سنوات قليلة مضت كنا نسمع على ألسنة كثيرٍ من الكتاب والمفكرين والأدباء، العدالة الأوروبية والعدالة الأمريكية! وأن أوراق القضية على مائدة الأمريكان، وأنه لابد من التدخل الأوروبي، إلى آخر هذه الكلمات. فشاء الله أن نرى في هذه الأيام القليلة الماضية أن الكفر لا ينصر إيماناً، وأن الشرك لا ينصر توحيداً. فحال أمتنا حال عجيب! وهي لعمر الله بائسة كئيبة يجتاحها طوفان المؤامرة الرهيبة! ويخطط المتآمرون كي يغرقوها في المصيبة! وسيحفرون لها قبوراً ضد خطتهم رهيبة! قالوا: السلام السلام قلت يعود الأهل للأرض السليبة! وسيلبس الأقصى غداً بعد السلام أثواباً قشيبة! فإذا سلامهم هو التنازل عن القدس الحبيبة! فبئس سلامهم إذاً وبئست هذه الخطط المريبة! شاء الله أن يرى كل عاقل وكل منصف حقيقة الغرب وحقيقة الكفر، لقد سمعت امرأة علمانية تقول بالحرف: (هذا ليس سلام شجعان، وإنما هو سلام فئران) شاء الله بهذه الأحداث أن يظهر العدو على حقيقته، بدا من العدو السافر للإسلام الحقد والبغض، وصدق ربي إذ يقول: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]، وصدق ربي إذ يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51]، وصدق ربي إذ يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران:118]، وصدق ربي إذ يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة:1]. أتحب أعداء الحبيب وتدعي حباً له ما ذاك في الإمكان وكذا تعادي جاهداً أحبابه أين المحبة يا أخا الشيطان إن المحبة أن توافق من تحب على محبته بلا نقصان فإن ادعيت له المحبة مع خلا فك ما يحب فأنت ذو بطلان وقال آخر: لو صدقت الله فيما زعمته لعاديت من بالله ويحك يكفر وواليت أهل الحق سراً وجهرة وكيف تواليهم وللكفر تنصر فما كل من قد قال ما قلت مسلم ولكن بأشراط هنالك تذكر مباينة الكفار في كل موطن إذا جاءك النص الصحيح المقرر وتصدع بالتوحيد بين ظهورهم وتدعوهم سراً لذاك وتجهر هذا هو الدين الحنيفي والهدى وملة إبراهيم لو كنت تشعر فما يحدث الآن إنما هو تربية للأمة بالأحداث، فلقد شاء الله أن يربي الأمة بالأحداث في غزوة بدر، وبالأحداث في غزوة أحد، وبالأحداث في غزوة الأحزاب، وبالأحداث في صلح الحديبية وغيرها من الأحداث، نزل في أحد قول الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144]، وكأن الله جل وعلا أراد أن يعلم الأمة أن الدعاة إلى الله يجيئون ويذهبون ويخطئون ويموتون وتبقى الدعوة وستبقى خالدة على مر الأجيال والقرون، لو قتل النبي صلى الله عليه وسلم فواجب عليكم يا أتباع النبي أن ترفعوا الراية، وأن تواصلوا السير على الطريق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما جاء ليخلد في الأرض، وما جاء ليبقى بين الناس، بل جاء مبلغاً دين الله، وليبلغ دعوة الله ثم يمضي إلى ربه، والناس بدعوة الله وبالعروة الوثقى متمسكون، فالأمة الآن تربى بالأحداث، رأينا الآن على أرض فلسطين تسطير البطولة فوق القدس. رأينا أمثلة ونماذج تحاكي السلف، لا أقول ذلك من باب العاطفة، والله لقد خرج طفل في العاشرة من عمره فسأله رجل كبير من الشيوخ حينما رآه يلبس زياً عسكرياً يشبه زي الجنود، فقال له: إلى أين يا بني؟! وهو طفل في العاشرة، فقال: إلى الجهاد، وهذا على أرض فلسطين. قال: إلى الجهاد؟ قال: نعم، قال: ما اسمك؟ قال: محمد، قال: كم عمرك يا محمد؟ قال: عشر سنوات، قال: أين أبوك؟ قال: استشهد قبل أربعين يوماً! قال: ألك إخوة؟ قال: رزقني الله بست أخوات وأنا الابن الوحيد! قال: هل استأذنت أمك يا محمد للخروج إلى الجهاد؟ قال: نعم استأذنت أمي! قال: وماذا قالت لك؟ فقال محمد ابن العاشرة: قالت لي أمي وأنا خارج: انطلق يا محمد للجهاد، وأسأل الله أن يلحقك بأبيك!! رأيت بعيني أماً فلسطينية تحمل رضيعها على ذراعها الأيسر وتنحني على الأرض لتأتي بحجر إلى ولدها الذي لم يبلغ الثانية عشرة من عمره وتأمر الأم ولدها أن يقذف دبابة لا تبتعد إلا عشرة أمتار، تأمر الأم ولدها أن يقذف الدبابة بالحجر!! إنها التربية بالأحداث، لقد علم هؤلاء أن الغرب لن ينصر لهم قضية، بل وأن العالم الإسلامي الهزيل المهزوم لن ينصر لهم قضية، فلجئوا إلى الله جل وعلا، واعتصموا بالله تبارك وتعالى، وقدموا أرواحهم في سبيل الله جل جلاله فرأينا العجب العجاب، حتى صرح أكابر جنرالات اليهود الآن أنهم صاروا يخشون كل شيء على أرض فلسطين! يقول الجنرال الكبير: صرت أخشى صندوق القمامة، صرت أخشى الحقيبة حين أفتحها، صرت أخشى الباص حين يمر بجواري، أصبحوا ينتظرون القتل والموت في كل لحظة! وأبشروا! فلقد تحولت انتفاضة إخواننا هنالك إلى انتفاضة مسلحة، صنع إخواننا الصواريخ بأيد مسلمة على أرض فلسطين، صنع إخواننا القنابل، ومع هذه الأسلحة أعظم الأسلحة وهو سلاح الإيمان واليقين، دب الرعب في قلوب إخوان القردة والخنازير، وصدق ربي إذ يقول: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140].

سنة التغيير

سنة التغيير ثم تدبروا معي! بدأت الأمة تنحدر وتغير، فوقعت سنة التغيير فغير الله عليهم {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الأنفال:53]. وسنتطرق إلى هذا التفصيل المهم حتى لا نصطدم بالواقع إذا تدبرنا آيات القرآن: ففي جانب العقيدة غيرت الأمة وبدلت، فذبحت العقيدة في الأمة شر ذبحة، وهجرت الأمة عقيدة التوحيد بشمولها وكمالها وصفائها، ففي الأمس القريب كانت العقيدة إذا مس جانبها سمعت الصديق يتوعد، والفاروق يزمجر! ورأيت المؤمنين الصادقين يبذلون من أجلها الغالي والنفيس. لكن العقيدة الآن تذبح في الأمة شر ذبحة، فمن هذه الأمة نرى الملايين المملينة التي لا تعرف الله جل وعلا، ولا تعرف قدره، ولا تعرف جلاله، بل ومازال كثير من أفراد هذه الأمة إلى هذه اللحظة يثق في بعض دول الغرب أكثر من ثقته برب السماء والأرض، وسمعنا زعيماً لدولة خرجت من بين الدماء والأشلاء، ومازالت في هذا الوحل إلى هذه اللحظات، سمعناه يقول: إنه ممن يعتقد أن للكون أقطاباً وأوتاداً وأبدالاً تدبر نظام الكون وتسير شئونه! وسمعنا هنا من يقول -على مرأى ومسمع وممن يشار إليهم بالبنان أنهم من أهل العلم- إننا نحتفل الليلة بمولد السيد البدوي المهاب، الذي إن دعي في البر والبحر أجاب. وسمعنا من أفراد هذه الأمة ومن رموزها من يقول: لقد عزمنا على أن نأخذ كل ما عند الغربيين حتى الالتهابات التي في رئاتهم، والنجاسات التي في أمعائهم! وسمعنا من رموز هذه الأمة من يقول: إن تطبيق الشريعة الإسلامية ردة حضارية بكل المقاييس! إلى آخر هذه الكلمات الخطيرة. نحت الأمة عقيدة التوحيد والإسلام، عقيدة تنبثق منها شريعة تنظم كل شئون الحياة، ولا يقبل الله من قوم شريعتهم إلا إذا صحت عقيدتهم. غيرت الأمة في مجال العقيدة، وغيرت الأمة في مجال العبادة، صرفت العبادة في كثير من صورها إلى غير الله تبارك وتعالى، بركنيها: من كمال حب وكمال تعظيم، وبشرطيها: من إخلاص واتباع، صرفت لغير الله، والله تبارك وتعالى يقول: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163]. وغيرت الأمة في جانب التشريع، فنحت الأمة شرع الله جل وعلا بالجملة، واستبدلت بالعبير بعراً، وبالثريا ثرى، وبالرحيق المختوم حريقاً محرقاً مدمراً، وركبت الأمة قوارب الشرق الملحد تارة فغرقت وأغرقت، وركبت قوارب الغرب الكافر تارة فغرقت وأغرقت، وركبت قوارب الوسط الأوروبي فغرقت وأغرقت، والله تبارك وتعالى يقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [يوسف:40]، {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا} [الأنعام:114]، والله جل وعلا يقول: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65] وفي جانب الأخلاق والمعاملات والسلوك غيرت الأمة وبدلت، انظر إلى أخلاقيات المسلمين -إلا من رحم ربك- ترى انحرافاً مزرياً عن أخلاق الإسلام، وعن أخلاق النبي محمد عليه الصلاة والسلام. غيرت الأمة في كل المجالات، فكانت السنة الحتمية لهذا التغيير كما قال ربنا جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]، ماذا حدث؟! ذلت الأمة بعد عزة، وجهلت الأمة بعد علم، وضعفت الأمة بعد قوة، وأصبحت الأمة في ذيل القافلة البشرية، بل وأصبحت الأمة تتأرجح في سيرها، ولا تعرف طريقها، لا تعرف من توالي، ولا تعرف من تعادي، لا تعرف شيئاً عن عقيدة الولاء والبراء، لا تعرف شيئاً عن حقيقة الإرهاب. الأمة في اجتماعها الأخير في ماليزيا، وهو اجتماع يتكون من خمسين دولة، لم تستطع الأمة بهذا العدد الضخم أن تعرف الإرهاب، واختلفت الأمة في حقيقة الإرهاب، واعترض وزير خارجية أكبر دولة إسلامية في ماليزيا على ما يحدث الآن في أرض فلسطين وقال: إن قتل المدنيين من اليهود هذا هو الإرهاب! قالوا تطرف جيلنا لما سما قدراً وأعطى للطهارة موثقا ورموه بالإرهاب حين أبى الخنا ومضى على درب الكرامة وارتقى أوكان إرهاباً جهاد نبينا بل كان حقاً في الكتاب مصدقا أتطرف إيماننا بالله في عصر تطرف في الهوى وتزندقا إن التطرف أن نذم محمداً والمقتدين به ونمدح عفلقا إن التطرف أن نرى من قومنا من صانع الكفر اللئيم وأطرقا فالأمة مازالت مختلفة في تعريف الإرهاب على أيدي أكابر مسئوليها! الأمة تحولت من حالة العلم إلى الجهل، ومن العز إلى الذل، ومن القوة إلى الضعف؛ لأنها سنة ربانية أودعها الله كونه، لا تتبدل ولا تتغير {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الأنفال:53].

ماذا تنتظر الأمة؟!

ماذا تنتظر الأمة؟! الأمة تضع الخطط السنوية والخمسية، وإلى الآن ما وضعت ضمن خطة واحدة قدرة وعظمة رب البرية! إلى متى؟! متى ستفيق الأمة بحكامها وعلمائها؟! متى ستفيق؟! ماذا تنتظر هذه الأمة؟! هذه الخطة الأولى: اعتصام بالله، يقين في الله، ثقة في الله، توكل عليه، رجاء فيه، تفويض إليه، تجديد للإيمان، تجديد للتعبد، تحكيم للشريعة، كل هذا يندرج في إطار العقيدة. أنا قد أصلت أن الإسلام عقيدة، تنبثق من هذه العقيدة شريعة، تنظم هذه الشريعة بعد ذلك كل شئون الحياة. ولا يقبل الله من أمة شريعتهم إلا إذا صحت عقيدتهم، فلترجع الأمة إلى الله، ولتمتثل أمره، ولتجتنب نهيه، ولتقف عند حدوده، ثم بعد ذلك فلترفع الأمة راية الجهاد في سبيل الله، هذا ما ندين الله به في هذه المرحلة، تجديد للإيمان، تصحيح للعقيدة، تصحيح للاعتصام به، تجديد لليقين فيه، تجديد للثقة فيه، تجديد للتوكل عليه، تجديد للرجاء فيه، تجديد للعقيدة بشمولها وكمالها، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، ووقوف عند حدوده، هذا هو تحكيم الشرع. أنا لا أفهم من آية قرآنية ولا من سنة إلهية أن الله ينصر أمة نحت دينه، وخذلت شريعة رسوله صلى الله عليه وسلم، فليبدأ حاكم من حكام المسلمين بمعنى هذا التأصيل الذي ذكرت، معنى تأصيل العقيدة وتحكيم الشريعة والعودة إلى دين الله، وليرفع بعدها راية الجهاد في سبيل الله، وليقل: حي على الجهاد! وليدع الفرصة للعلماء ليجيشوا ملايين الشباب، أستغفر الله! بل ملايين الشيوخ! بل ملايين النساء والأطفال! بل والله إن الأمة الآن تحترق منها القلوب، والواحد منها يتمنى أن يبذل روحه ودمه لدين الله تبارك وتعالى، بل ورب الكعبة يتمنى أن يسد بصدره فوهات مدافع أعداء الله! ليعلم كلاب الأرض من اليهود أن محمداً ما مات وما خلف بنات، بل خلف رجالاً تحترق قلوبهم شوقاً للشهادة في سبيل الله! أنا لا أفهم أبداً أن ترفع الأمة راية للجهاد قبل أن ترفع الأمة راية العقيدة، وقبل أن تحكم الأمة الشريعة، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا) تدبروا هذا النداء، فالله يثبت لهم في صدر الآية الإيمان {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف:10] (تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) ويأمرهم بالإيمان بعد أن أثبت لهم عقد الإيمان في صدر الآية في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا)، ومع ذلك يقول: (تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) تدبر القرآن!: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الصف:11]. ماذا تنتظر الأمة بعد هذا؟! إلى هذه اللحظة لم تتخذ الأمة حتى قرارات سياسية، فلتطرد الأمة سفراء اليهود من بلادها، ولتسحب الأمة سفراءها من بلاد اليهود وبلاد الغرب، ولتوقف الأمة بترولها عن الشرق والغرب، ولنقاطع المنتجات الأمريكية التي وضعت رءوسنا في الوحل والتراب، والله سنأكل التراب ونعيش بعزة وكرامة واعتصام بالله تبارك وتعالى، ويقين فيه وثقة فيه وتوكل عليه ورجاء فيه، ثم نرفع راية الجهاد في سبيل الله، الشباب يريدون الشهادة، لماذا لا تفتح الحدود لهم؟! لماذا لا نمد إخواننا على أرض فلسطين بالسلاح إن كنا لا نريد أن نفتح الحدود بيننا وبينهم؟! لماذا لا نمد هؤلاء بالسلاح؟! فإن اليهود الآن يستعملون كل أنواع الأسلحة ذات الصنع الأمريكي ضد هؤلاء العزل! لا حل إلا بالعقيدة ثم رفع راية الجهاد في سبيل الله، هذا هو الحل ورب الكعبة! وكل أهل الشرق والغرب لا يريدون أبداً أن تظلل الساحة بمظلة الجهاد. لا يريدون لهذه اللفظة أن تتردد؛ لأنهم يعلمون أنه إذا تحولت الحرب إلى حرب عقدية؛ فستنقلب كل الموازين، فالصراع بيننا وبين اليهود ليس صراع أرض وحدود، ولكنه صراع عقيدة ووجود!

دور المسلم والمسلمة في هذا الواقع المرير

دور المسلم والمسلمة في هذا الواقع المرير دورك أيها المسلم! وأيتها المسلمة! أن تحمل في صدرك قلباً يحترق، فوالله لو بكى كل مسلم ومسلمة على الأرض دمعاً مدراراً في آن واحد لأغرقت دموع الأمة اليهود! ولو بصق وتفل كل مسلمة ومسلمة على وجه الأرض على قلب رجل واحد لأغرق بصاقهم اليهود! لكنها الهزيمة النفسية، صرنا نرى الدم يسفك واللحم يتناثر، وينظر أحدنا إلى هذه المأساة، ويهز كتفيه ويمضي، وكأن الأمر لا يعنيه، فتراه يحمل قلباً بارداً لا يتأثر. فأول خطوة على الطريق أن تحمل هذا القلب التأثر الذي يحترق لهذا الواقع المرير، أن تحمل في صدرك دماء تغلي حنقاً على أعداء الله تبارك وتعالى، إن لم تجد الآن في صدرك قلباً يحترق على هذا الواقع فعد الليلة إلى بيتك، وتضرع إلى الله عز وجل أن يمن عليك بقلب حي فإنه لا قلب لك! ثم متى ستربي نفسك وأولادك وبناتك ونساءك على عقيدة الولاء والبراء إن لم تفعل الآن؟! من منا جمع أولاده الآن، وغرس في قلوبهم بغض اليهود، والولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، والبراء من الكفر والكافرين والشرك والمشركين؟ من منا جلس بين أولاده وهو يأكل الطعام وقال: يا أولادي! تدبر يا بني! تدبري يا بنيتي! لو أن صاروخاً يهودياً من صنع أمريكي سقط الآن على شقتنا، أو على بيتنا فمات أبوك وماتت أمك وتمزقت أشلاء أبيك وتناثرت دماء أمك أمام عينيك وبين يديك ماذا تصنع؟! ماذا تفعل؟! هل تعلم أن اليهود الآن يفعلون ذلك بأخيك وأبيك وأمك وأختك على أرض فلسطين؟! ربه على عقيدة الولاء والبراء من خلال الأحداث، رب امرأتك على عقيدة الولاء والبراء من خلال الأحداث، متى ستجلس مع امرأتك وأولادك على جزء من كتاب الله إن لم تفعل الآن؟! متى ستجلس مع امرأتك وأولادك على حديث من أحاديث رسول الله إن لم تفعل الآن؟! متى ستقيم الليل أنت وأسرتك إن لم تفعل الآن؟!

وجوب الدعاء للمسلمين

وجوب الدعاء للمسلمين من منا يتضرع إلى الله في الليل؟! من منا قام الليل ليتضرع إليه سبحانه بالدعاء بالتذلل بالخضوع؟! فالدعاء سهام الليل، والله ربما لا يدعو كثير من المسلمين الآن إلا إذا دعا إمامهم فأمنوا عليه! أمة بخلت بالدعاء هل تجود بالأموال والدماء؟! إذا كان يحال بينك وبين الجهاد بالنفس فجاهد بمالك إن استطعت بالدعاء بالكلمة في الأماكن العامة في الأماكن الخاصة، فكل هذا جهاد، كل ما تستطيع أن تقدمه ستصبح بين يدي الله نادماً إن قصرت فيه، أما إن كنت مكلفاً بواجب وعجزت عن أدائه فقد سقط هذا الواجب عنك، فالواجب يسقط بالعذر كما قال شيخ الإسلام وغيره، فالواجب يسقط بالعذر، أما إن كنت قادراً على فعل شيء، وقصرت في فعله فستندم إن لم تفعله. الأمة أيها الإخوة لن تحرر الأقصى، ولن تعود إلى مكانتها وعزتها بالمظاهرات الساخنة! ولا بالمؤتمرات الصاخبة -ولست بصدد الحكم الشرعي على المظاهرات الآن- ولا بحرق الأعلام ولا بالشجب! وإنما برجوع الأمة إلى الله، لتصحح العقيدة، لتصحح العبادة، لتحكم الشريعة، لتصحح ما فقدت من الأخلاق، لتربي الجيل جيل النصر على الكتاب والسنة، على عقيدة الولاء والبراء، ثم لنثق جميعاً بوعد الله تبارك وتعالى {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40]. كل يجب عليه أن يؤدي واجبه الآن في حدود قدراته وإمكانياته وألا يتخلف، الأمة الآن في حاجة إلى كل جهد، إلى كل كلمة، بحاجة إلى تجييش كل الطاقات لتعمل لدين الله، نريد أن تتحول كل بيوتنا إلى بيت يحاكي بيت أبي بكر الصديق، الزوج يعمل فيه لدين الله، الزوجة تعمل فيه لدين الله، الولد يعمل فيه لدين الله، البنت تعمل فيه لدين الله، حتى الراعي في هذا البيت يعمل لدين الله تبارك وتعالى.

إصلاح النية

إصلاح النية أيها الأفاضل! عقد الإمام البخاري في صحيحه في كتاب الجهاد باباً بعنوان (باب: من حبسه العذر عن الغزو) فمن رحمة الله بنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) هل تعلم أنك تستطيع أن تحصل أجر الشهادة كاملاً وأنت في مسجدك، ولم تشرف بأن تكون على ساحة الجهاد؟ نعم، إن صحت نيتك وصدقت (من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء) (إن في المدينة أقواماً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم شركوكم الأجر، قالوا: وهم بالمدينة يا رسول الله؟! قال: وهم بالمدينة حبسهم العذر) يا راحلين إلى البيت العتيق لقد سرتم جسوماً وسرنا نحن أرواحاً إنا أقمنا على عذر نكابده ومن أقام على عذر كمن راحا أسأل الله جل وعلا أن يعجل بالنصر، اللهم اشف صدور قوم مؤمنين بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم اشف صدور قوم مؤمنين بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم اشف صدور قوم مؤمنين بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم انصر إخواننا في فلسطين، اللهم انصر إخواننا في فلسطين، اللهم احقن دماءهم، اللهم احقن دماءهم، اللهم احقن دماءهم، اللهم اربط على قلوبهم، اللهم احفظهم بحفظك واكلأهم بعنايتك ورعايتك، اللهم إنهم حفاة فاحملهم، عراة فاكسهم، جياع فأطعمهم، اللهم إنهم مغلوبون فانتصر لهم، اللهم إنهم مغلبون فانتصر لهم، لا إله لنا سواك فندعوه، ولا رب لنا غيرك فنرجوه، لا إله لنا سواك فندعوه، ولا رب لنا غيرك فنرجوه. يا منقذ الغرقى، ويا منجي الهلكى، ويا سامعاً لكل نجوى، يا عظيم الإحسان، ويا دائم المعروف. اللهم ارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، واستر عيبنا، وتول أمرنا، وفك أسرنا، واختم بالصالحات أعمالنا. اللهم اختم بالصالحات أعمالنا. اللهم إنا نشكو إليك خيانة الخائنين، اللهم إنا نشكو إليك خيانة الخائنين، اللهم إنا نشكو إليك خيانة الخائنين، وضعف المسلمين، وضعف المسلمين، وضعف المسلمين، اللهم ارزقنا الشهادة في سبيلك، اللهم ارزقنا الشهادة في سبيلك، اللهم ارزقنا الشهادة في سبيلك. اللهم ارفع علم الجهاد، اللهم ارفع علم الجهاد، اللهم ارفع علم الجهاد. اللهم اقمع أهل الزيغ والفساد، اللهم اقمع أهل الزيغ والفساد، اللهم ارزقنا الصبر واليقين، اللهم ارزقنا الصبر واليقين، اللهم ارزقنا الصبر واليقين، اللهم اقبلنا وتقبلنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

ما هي العبادة؟ ومن نعبد؟

ما هي العبادة؟ ومن نعبد؟ العبادة من أجلها خلق الله السماوات والأرض، والجنة والنار، ومن أجلها أرسل الرسل، وأنزل الكتب، والعبادة تسع الحياة كلها، فحياة المؤمن كلها عبادة إن صحت النية، وكانت العبادة الظاهرة أو الباطنة موافقة لهدي النبي عليه أفضل الصلاة والتسليم.

معنى العبادة

معنى العبادة الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة الفضلاء! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله الكريم جل وعلا الذي جمعنا مع حضراتكم في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار مقامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! إن الغاية العظيمة التي من أجلها خلقنا قد بينها لنا ربنا جل وعلا في قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، والعبادة -أيها الأحبة الكرام- ليست أمراً على هامش الحياة، ولكنها الأصل الأول الذي من أجله خلق الله السماوات والأرض والجنة والنار، ومن أجله أنزل الكتب، وأرسل جميع الرسل، ومع ذلك فإن كثيراً ممن ينتسبون الآن إلى الإسلام لا يعرفون شيئاً عن هذه الغاية التي من أجلها خلقوا، ولأجلها ابتعثوا! فأردت في هذه الأيام الطيبة المباركة أن أذكر نفسي وأحبابي بهذه الغاية العظيمة، وفي زمان الفتن والشهوات والشبهات تحولت تلك الغاية العظيمة في حياة كثير من الناس إلى أمر هامشي في الحياة. فما هي العبادة؟ ومن نعبد؟ ولماذا نعبد؟ وبماذا نعبد؟ الإجابة على هذه الأسئلة الأربعة هو موضوع كلمتنا في هذه اللحظات بإيجاز شديد. أولاً: العبادة في اللغة: الذل، يقال: طريق معبد، أي: طريق مذلل قد وطأته الأقدام، ولكن العبادة التي أمرنا بها الله عز وجل تقتضي إلى جانب الذل: الحب، فهي كما قال شيخ الإسلام: كمال الذل لله مع كمال الحب لله جل وعلا، وقد عرفها رحمه الله تعالى بقوله: العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، فالصلاة والصيام والزكاة والحج وبر الوالدين وجهاد المنافقين والمشركين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله والتوكل والتفويض والرجاء والإنابة والخشية والاستعانة كل هذا من العبادة. إذاً: العبادة التي خلقنا لها تسع الحياة كلها، فحياة المؤمن كلها عبادة إن صحت النية، وكانت العبادة الظاهرة أو الباطنة موافقة لهدي سيد البشرية صلى الله عليه وسلم. ومن أعظم الأدلة النبوية على ذلك ما رواه مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله أصحابه فقالوا: (يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور -أهل الدثور أي: أصحاب الأموال- يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم -سبقونا بالصدقة والبذل والإنفاق والعطاء- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به؟! إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة -أي: في جماع الرجل لامرأته صدقة- قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته فيكون له فيها أجر؟! قال: أرأيتم لو وضعها في الحرام أيكون عليه وزر؟ قالوا: نعم، قال: فكذلك لو وضعها في الحلال فله فيها أجر).

شروط صحة العبادة

شروط صحة العبادة حياة المؤمن كلها عبادة بهذين الشرطين: الأول: أن تصح النية. الثاني: أن تكون العبادة موافقة لهدي سيد البشرية صلى الله عليه وسلم، ومن خلال هذا الفهم الشامل الكامل لمفهوم العبادة يتبين لنا أن كثيراً من الناس قد انحرفوا عن مفهوم العبادة الحق انحرافاً مزرياً، فمنهم من فهم العبادة فهماً جزئياً قاصراً، وظن أن العبادة لا تتعدى الشعائر التعبدية المعروفة كالصلاة والصيام والزكاة والعمرة والحج فحسب، فهو في المسجد متعبد لله بشرعه، فإن خرج من المسجد يتعامل بالربا، ويعاقر الزنا، ويشرب الخمر، ويعق الوالدين، ويسيء إلى زملائه في العمل، وإلى مرءوسه في الوظيفة، وترى امرأته وبناته متبرجات كاسيات عاريات، فهو في المسجد مع الله بوجه وخارج المسجد مع الله ومع الناس بوجه آخر، فهو يمتثل أمر الله في سورة البقرة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183]، ولا يمتثل أمر الله في السورة ذاتها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة:178]، يمتثل أمر الله في سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:6]، ويضيع أمر الله في سورة المائدة ذاتها: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]، وهذا فَهْمٌ مبتور للعبادة، وفهم ناقص، والله جل علا يقول: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:85]، قصور في فهم العبادة. ونرى صنفاً ثانياً قد صرف العبادة لغير الله جل وعلا، فهو يذعن لغير شرع الله، ويذبح لغير الله، ويحلف بغير الله، ويطوف بغير بيت الله تعظيماً لغير الله، ويقدم النذر لغير الله، ويستغيث بغير الله، ويستعين بغير الله، ويلجأ إلى غير الله، ويفوض الأمر إلى غير الله، ويتوكل على غير الله، ويثق في بعض دول الأرض وأمم الأرض أكثر من ثقته في خالق السماء والأرض، منهم من يقول: إذا تعسرت الأمور فعليكم بأصحاب القبور! ومنهم من يقول: إنه ممن يعتقد أن للكون أقطاباً وأوتاداً وأبدالاً تدبر نظام الكون وتسير شئونه!! والله جل وعلا يقول: {قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عمران:154]، ومنهم من يقول: إننا الليلة نحتفل بمولد سيدي السيد البدوي المهاب، الذي إن دعي في البر والبحر أجاب، والله جل وعلا يقول: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:62]، أئله مع الله يجيب المضطر في البر والبحر؟! والله جل وعلا يقول: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام:17]. ومن الناس من صرف العبادة لله -وهذا هو الصنف الثالث- يبتغي بالعبادة وجه الله، لا نشكك في إخلاصه، ولكنه تعبد لله على غير هدي المصطفى، وعلى غير السنة، فعبادته مردودة على رأسه لا قبول لها عند الله جل وعلا، قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]، وفي الصحيحين من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أحدث في أمرنا -أي: في ديننا - هذا ما ليس منه فهو رد) مردود على رأسه لا قبول له عند الله جل وعلا. من أجل ذلك -يا إخوة- شن الإسلام حملة شديدة على الشرك، وعلى صرف العبادة لغير الله، وأصّل تأصيلاً لتوحيد الألوهية في كلمة واحدة، فتوحيد العبادة هو إفراد الله تبارك وتعالى بالعبادة بلا منازع أو شريك؛ امتثالاً عملياً لقوله سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163].

وجوب عبادة الله وحده وخطورة الشرك

وجوب عبادة الله وحده وخطورة الشرك شن الإسلام حملة شديدة على الشرك، وبين أن الشرك هو الذنب الوحيد الذي لا يغفر، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، وفي صحيح البخاري ومسلم من حديث جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من مات يشرك بالله شيئاً دخل النار، ومن مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة) وفي الصحيحين من حديث سعيد بن المسيب عن أبيه قال: (لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية، فجلس النبي إلى جوار عمه وقال: يا عم! قل: لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله يوم القيامة، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: أترغب عن ملة عبد المطلب يا أبا طالب؟! قال: بل على ملة عبد المطلب، فخرج النبي من عنده وهو يقول: لأستغفرن لك ما لم أنْهَ عنك، فنزل عليه قول الله جل وعلا: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113]). من أجل ذلك ينبغي أن يحدد كل واحد منا الجواب بدقة على هذا Q من نعبد؟ وقد يستعجب بعض الإخوة من طرحي مثل هذا السؤال: من نعبد؟! وهل هذا سؤال يستحق الطرح؟! وسيزول عجبك واستنكارك وغرابتك إذا علمت أن العالم مليء بركام هائل من التصورات الفاسدة، والعقائد الباطلة، والآلهة والأرباب والأنداد والطواغيت التي عبدت في الأرض من دون الله جل وعلا، فمن الناس من عبد القمر من دون الله، ومن الناس من عبد الشمس من دون الله، ومن الناس من عبد الجن من دون الله، ومن الناس من عبد الكواكب من دون الله، ومن الناس من عبد الحجارة والأصنام من دون الله عز وجل، بل ومن الناس من عبد التراب، هل تصدقون ذلك؟! روى أبو نعيم في الحلية بسند صحيح عن أبي رجاء العطاردي قال: كنا نعبد الحجر، فإذا وجدنا حجراً أحسن من الأول ألقينا الأول وأخذنا الثاني لنعبده من دون الله جل وعلا! فإذا لم نجد حجراً جمعنا كومة من التراب، وأتينا بغنم لنا فحلبنا على هذا التراب من اللبن ثم طفنا بها! أي: لنعبدها من دون الله جل وعلا! انظر إلى فساد عقول هؤلاء ومقدارها، يعبدون التراب من دون الله عز وجل! ومن الناس من عبد البشر، قال فرعون لقومه: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، وقال لهم: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، وعبد اليهود عزيراً من دون الله، وعبد النصارى ولازالوا يعبدون المسيح ابن مريم من دون الله، كل طوائف النصارى، ودعك من الدجل الإعلامي، فالملكية واليعقوبية والنصطورية والمارونية كلهم يعبدون عيسى من دون الله جل وعلا، وهذا قانونهم المشهور عندهم بقانون الأمانة الذي يسمونه: سنهوداً، منهم من يقول: عيسى هو الله، ومنهم من يقول: عيسى ابن الله، ومنهم من يقول: عيسى ابن زوج الإله، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً، ولله در ابن القيم إذ يقول: أعباد المسيح لنا سؤال نريد جوابه ممن وعاه إذا مات الإله بصنع قوم أماتوه فهل هذا إله ويا عجب لقبر ضم رباً وأعجب منه بطن قد حواه أقام هناك تسع من شهور لدى الظلمات من حيض غذاه وشق الفرج مولوداً صغيراً ضعيفاً فاتحاً للثدي فاه ويأكل ثم يشرب ثم يأتي بلازم ذاك فهل هذا إله تعالى الله عن إفك النصارى سيسأل كلهم عما افتراه {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59]، والراجح من أقوال المحققين من أهل التفسير وهو قول جمهور المفسرين: أن مريم حملت بعيسى تسعة أشهر كاملة، وإن كنا لا ننكر أن الله عز وجل قادر على أن تحمل مريم بعيسى وتلده في ساعة واحدة، فنحن لا ننكر إمكان ذلك بقدرة الله، ولكن الصحيح أن مريم حملت بعيسى حملاً عادياً تسعة أشهر، فلما رأى يوسف النجار -الذي اتهم بأنه قد فعل بها الفاحشة- بوادر الحمل تظهر على مريم يوماً بعد يوم عرَّض لها في القول وقال لها: يا مريم! إني سائلك عن شيء فلا تعجلي علي. فقالت مريم: سل يا يوسف عما شئت، ولا تقل إلا حقاً. فقال لها: يا مريم! هل يكون زرع بغير بذر؟! وهل يكون نبات بغير مطر؟! وهل يكون ولد بغير أب؟! فقالت مر يم: نعم يا يوسف. قال: كيف ذلك يا مريم؟! قالت: يا يوسف أنسيت أن الله تعالى خلق الزرع يوم خلقه من غير بذر، وخلق النبات يوم خلقه من غير مطر، وخلق آدم يوم خلقه من غير أب ومن غير أم. قال: أعلم أن الله على كل شيء قدير. لقد خلق الله آدم من غير أب ومن غير أم، وخلق حواء من أب دون أم، وخلق عيسى من أم دون أب، وخلقني وخلقك من أب وأم لتكتمل قدرة الله، وليتبين للخلق جميعاً أن الله على كل شيء قدير. فمن الناس من عبد عزيراً، ومن الناس من عبد عيسى ابن مريم، ولا زالوا في عصر الذرة يعبدونه من دون الله جل وعلا! ومن الناس إلى الآن من يعبدون الأيدلوجيات والنظريات والقوميات والوطنيات والبعثيات، ألم تسمع قول القائل: هبوني ديناً يجعل العرُبْ أمة وسيروا بجثماني على دين برهمي أي: على دين إبراهيم الخليل. سلام على كفر يوحد بيننا وأهلاً وسهلاً بعده بجهنم ألم تسمع قول القائل: آمنت بحزب البعث رباً لا شريك له وبالعروبة ديناً ما له ثان ألم تسمع قول القائل: إن مصر ستظل فرعونية، ولو وقف الإسلام حجر عثرة في طريق فرعونيتنا لنحينا الإسلام جانباً؛ لتبقى مصر فرعونية؟! أقوال خطيرة. إذاً: يزول الإشكال وتزول الغرابة إذا طرحنا هذا السؤال: من نعبد؟

غنى الله عن العالمين

غنى الله عن العالمين حدد A من تعبد؟ لمن تسمع؟ من تطيع؟ سؤال مهم يحتاج إلى تكرار، بل ولا ينبغي أن نمل من طرحه؛ من أجل ذلك شن الإسلام حملة ضارية على الشرك، وبين خطر الشرك، وبين أن التوحيد هو طريق النجاة الأوحد، ففي الصحيحين من حديث عبادة بن الصامت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً رسول الله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل)، وفي رواية عتبان بن مالك: (فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله عز وجل)، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62]. وأنا أقول لكم أيها الأحبة: والله لو تخلى الخلق على وجه الأرض عن عبادة الله جل وعلا ما ضروا إلا أنفسهم، فإن الله غني عن خلقه، لا تنفعه الطاعة، ولا تضره المعصية، بل إن الكون كله يسبح الله ويوحد الله، انظر إلى السماء وارتفاعها، انظر إلى الأرض واتساعها، انظر إلى الجبال وأثقالها، انظر إلى الأفلاك ودورانها، انظر إلى البحار وأمواجها، انظر إلى كل ما هو متحرك، وإلى كل ما هو ساكن، فوالله إن الكل يقر بتوحيد الله، ويعلن الشكر لله، ولا يغفل عن ذكر مولاه إلا من كفر من الإنس والجن ولا حول ولا قوة إلا بالله. قال جل وعلا: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج:18]، كل شيء في الكون يسجد لله ويوحد الله عز وجل، {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء:44]، {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:19 - 20]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]. وفي صحيح مسلم من حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم عن رب العزة في الحديث القدسي وفيه: (يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجداً خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه).

لماذا نعبد الله؟

لماذا نعبد الله؟

نعبد الله طلبا لجنته وخوفا من ناره

نعبد الله طلباً لجنته وخوفاً من ناره ثالثاً: نعبد الله عز وجل طلباً لجنته وخوفاً من ناره، وقد قال بعض أهل التصوف حكاية عن رابعة: اللهم إن كنت أعبدك طمعاً في جنتك فاحرمني منها! وإن كنت أعبدك خوفاً من نارك فاحرقني فيها! وإن كنت أعبدك لأنك تستحق أن تعبد لذاتك فلا تحرمني من النظر إلى وجهك الكريم! فقالوا: من عبد الله طلباً لجنته وخوفاً من ناره فهو كأجير السوء، إن أخذ الأجرة عمل، وإن لم يأخذ الأجرة لم يعمل. فرد عليهم أهل التحقيق والعلم وقالوا: إن أعرف الناس بالله وبجلاله وبكماله هم الأنبياء والرسل، أليس كذلك؟! بلى، الأنبياء والرسل أعرف الناس بجلال الله، وبقدره، وبكماله، وبعظمته، ومع ذلك عبدوا الله عز وجل وهم يسألونه الجنة، ويستعيذون به من النار، قال قدوة الموحدين وإمام المحققين وخليل رب العالمين إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام في دعائه لربه: {وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ} [الشعراء:85]، وقال أيضاً: {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} [الشعراء:87]، وهل هناك خزي أخزى من النار يوم يبعثون؟! وهذا إمام الموحدين وقدوة المحققين وأعرف الخلق قاطبة برب العالمين، سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل يوماً صحابياً من أصحابه فقال له: (بم تدعو الله في صلاتك؟ قال: يا رسول الله! أنا لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ، بل أدعو الله بدعوتين اثنتين، قال: ماذا تقول؟ قال: أقول: اللهم إني أسألك الجنة، وأعوذ بك من النار، فإني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ، فقال النبي: حولها ندندن) وفي رواية: (وهل تصير دندنتي أنا ومعاذ إلا أن نسأل الله الجنة، ونعوذ به من النار؟!). وقد جمع الإمام ابن القيم بفهمه الراقي القولين، وأزال الخلاف بين الفريقين، بأسلوب رائع قلما تقف عليه لغير ابن القيم فقال رحمه الله: وسر الخلاف ناتج عن فهم مغلوط لحقيقة الجنة، فالفريق الأول ظن أن الجنة هي دار للنعيم المادي فحسب، الذي هو الأنهار والأشجار والحور والذهب والفضة والحرير إلى آخره. ثم قال ابن القيم: ولكن الجنة اسم لدار النعيم المطلق، وأعلى درجات هذا النعيم هو النظر إلى وجه الرب الكريم، فنعيم الجنة الحقيقي ليس في خمرها ولا في ذهبها ولا في فضتها، ولا في أنهارها ولا في قصورها، ولا في حريرها ولا في حورها، ولكن أعلى نعيم الجنة في النظر إلى وجه الله؛ ولذلك قال الله تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة:72] أي: أكبر من الجنة بما فيها من نعيم، روى مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أهل الجنة الجنة قال الله تعالى: يا أهل الجنة! فيقولون: لبيك وسعديك، والخير كله بيديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أدخلتنا الجنة، ونجيتنا من النار؟! فيقول الله عز وجل: أفلا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقول أهل الجنة: وأي شيء أفضل من ذلك؟! فيقول الله جل وعلا: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً) {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة:72]. ولله در القائل: قليل منك يكفيني ولكن قليلك لا يقال له قليل وفي حديث صهيب وأبي سعيد: (ثم يكشف الحجاب فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى وجه الله جل وعلا)، {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]، وقال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]، أي: الجنة، والزيادة هي: النظر إلى وجه الله تبارك وتعالى في جنات النعيم. إذاً: أيها الأحبة الكرام! نحن نعبد الله طلباً لجنته وخوفاً من ناره.

العبادة غذاء الروح

العبادة غذاء الروح ثانياً: نعبد الله تعالى؛ لأن العبادة غذاء لأرواحنا نحن، ليست لربنا جل وعلا، الإنسان بدن وروح، والبدن له طعام وله غذاء وله شراب، وكذلك الروح لها غذاؤها وشرابها، فإن أعطيت البدن كلما يشتهيه بقيت الروح في أعماق البدن تصرخ تريد غذاءً ودواءً، وهذا ما يعانيه الغرب الآن، أعطى الغرب البدن كلما يشتهيه، وبقيت الروح في أعماق البدن تصرخ تريد دواءً وتريد غذاءً، فوقف الغرب أمام الروح عاجزاً؛ لأن الروح لا توزن بالجرام ولا تقاس بالترمومتر الزئبقي، ولا توضع في بوتقة التجارب في معامل الكيمياء أو في معامل الفيزياء، ومن هنا وقف الغرب عاجزاً أمامها؛ لأنه لا يعلم غذاء الروح إلا خالقها، ولن يتوصل العبد إلى غذاء الروح إلا من طريق الأنبياء والمرسلين، قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85]، فهم قد قفزوا قفزات هائلة جداً في الجانب العلمي المادي، لكن علمهم في الآخرة في الحضيض كما قال الله تعالى: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النمل:66]، وقال تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7]، فوقعوا في الضنك والشقاء، فلا تظنوا أن الغربي سعيد، لا والله، بل يذوق الضنك كما قال الله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه:124]. كنت ألقي محاضرة في يوم من الأيام في المركز الإسلامي في لوس أنجلس في أمريكا، وقاطعني وأنا ألقي المحاضرة أخوان مسلمان سوريان، ومعهما رجل أمريكي ثالث، وقالا لي: نريد أن يردد هذا الأمريكي من خلفك الشهادتين. قلت: أهلاً وسهلاً تفضل يا أخي! وقبل أن يشهد أن لا إله إلا الله أردت أن أسأله، لماذا أتيت لتسلم وأحوال المسلمين لا تسر عدواً ولا حبيباً؟! ما الذي جاء بك إلينا ومصيبتنا عظيمة؟! فقال لي هذا الأمريكي: إنه ملياردير يمتلك الأساطيل والأموال والشركات الكثيرة، ثم قال لي: ولكن والله يا أخي! ما ذقت طعم السعادة قط، بل وانتشلت من محاولات الانتحار أكثر من عشر مرات. وسأنتقل بكم لنلقي نظرة على حياة هذا الرجل في عجالة، فبعد أن شرح الله صدره للإسلام دعاني لتناول الغداء معه في قصره، فدخلت قصراً على المحيط مصنع من الزجاج! ونصف القصر في الماء! إن نزلت إلى الجانب الذي في المحيط تشعر أنك من بين الأشياء التي تعيش في المحيط! ترى الأسماك وترى الشعاب، ثم تنتقل إلى الشاطئ الآخر، ملك عجيب! وجلسنا لتناول الغداء، وكنا في برد قارس، فضغط على زر إلى جواره فأذاب الجليد الذي تراكم على السيارة وفي أرضية الممر، ثم ركبت جواره، وضغط على زر آخر فامتدت ذراع إلكترونية لتلمع له حذاءه وهو جالس على كرسي السيارة! أرجو أن تتصور أنت حياة بهذه الكيفية، ومع ذلك يقول: ما شعر بطعم السعادة، لا إله إلا الله!! ما شعر بطعم السعادة؛ لأن البدن أخذ كلما يشتهيه: نساء وخمور وسفر وو لكن بقيت الروح، وعلى قدر ما يأخذ البدن من شهوات على قدر شقاء الروح إن لم تأخذ شيئاً من غذائها ودوائها، قد لا يشعر بهذا الشقاء الروحي كثير منا؛ لأنك تصلي تقرأ القرآن تصلي الليل تجلس في مجلس علم، فلا تشعر بشقاء الروح. يقول لي هذا الرجل الأمريكي: لفت نظري هذا الأخ، وأشار إلى أخ من الأخوين السوريين، يقول: ما دخلت يوماً الشركة إلا وأنا مخمور ومهتز، ودائماً أرى هذا الرجل سعيداً مبتسماً نشيطاً، ثم لفت نظري أنه يغسل قدمه في حوض الماء الذي أغسل فيه وجهي، فتعجبت منه وقلت: ماذا تصنع؟ قال: أتوضأ. قلت: لماذا الوضوء؟ قال: لأصلي. قلت: لمن الصلاة؟ قال: لله. قلت: من الله؟ فبين له بكلمات بسيطة جداً، والرجل ليس داعية ولا عالماً ولا شيخاً، كلمات سهلة. فقال له الأمريكي: ما دخلت يوماً عليك إلا ورأيت البسمة على وجهك، ورأيت النشاط في جسمك. قال: أنا مسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم علمني حديثاً يقول فيه: (عجباً لأمر المؤمن! إن أمره كله له خير، وليس ذلك إلا للمؤمن: إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له) فأنا صابر وسعيد في كل الأحوال. وأنا أؤكد أن الأمريكيين لا يعتقدون شيئاً، أؤكد لكم أن قلوبهم خاوية، وأنا أقول لإخواني دائماً في الشرق والغرب حينما أسافر إليهم: إن الذي سيكسب هو الذي سيسبق، الأمريكي مستعد ليتلقى العقيدة السيخية والبوذية واليهودية والشركية والإلحادية والإسلامية، من يسبق إليه ليبين له معتقداً يربطه بقوة خارقة من وجهة نظر هذا الأمريكي سيؤمن بها، ما عنده شيء على الإطلاق. فقال له: هل لو دخلت دينك الذي أنت فيه سأشعر بالسعادة التي تشعر بها الآن؟ قال: نعم. قال: أدخلني فيه. قال: اغتسل، فاغتسل وجاء به إلى المركز، وقدر الله لي هذا الرزق من غير سبب، وقام الرجل ليردد خلفي الشهادتين، وقال: كنت لأول مرة أشعر بثقل الشهادة، يردد الرجل الحروف خلفي، وكأنه ينقل حجارة من جبل إلى آخر، فلما انتهى من النطق بالشهادتين بكى، وارتج جسمه بالبكاء، فلما أراد الإخوة أن يسكتوه قلت: اتركوه، دعوه، فلما هدأ قلت له: يا أخي! لماذا بكيت؟! فأجابني في ترجمة حرفية تقريباً: أشعر الآن بسعادة ما ذقت طعمها قبل الآن! قلت: إنها نعمة شرح الصدر بالإسلام، ومحال أن تتذوق طعمها إلا إن دخلت إلى الإسلام بصدق وإخلاص، قال تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه:123 - 124]. فالعبادة -إذاً- لتغذي أرواحنا، لتقربنا من ربنا جل وعلا، فنحن نحتاج إلى العبادة، قال أحد السلف: مساكين والله أهل الغفلة، خرجوا من الدنيا ولم يذوقوا أطيب ما فيها، قيل له: وما أطيب ما فيها؟ قال: ذكر الله والأنس به، لا تشعر بحلاوة ولا بلذة ولا بسعادة ولا بطمأنينة إلا في رحاب الله، إلا مع الله، إلا في طاعة الله. ولست أرى السعادة جمع مال ولكن التقي هو السعيد

العبادة حق الله على عباده

العبادة حق الله على عباده قد تقول: نحن معك، ونوافقك على أن الله عز وجل غني عن خلقه، لا تنفعه الطاعة ولا تضره المعصية، ولا يزيد في ملكه حمد الحامدين، ولا شكر الشاكرين؛ ولا ينقص ملكه إعراض المعرضين، ولا كفر الكافرين، ولا إنكار المنكرين، ولا جحود المكذبين، إذاً: لماذا أمرنا بعبادته؟! هذا هو عنصرنا الثالث: لماذا نعبد الله؟ والجواب يا إخوة في نقاط محددة أيضاً: نعبد الله عز وجل؛ لأن العبادة حق الله على عباده، ففي الصحيحين من حديث معاذ قال: (كنت دريف النبي صلى الله عليه وسلم يوماً على حمار، فقال لي رسول الله: يا معاذ! قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك، قال: أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟! قال معاذ: الله ورسوله أعلم، فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً). فليس بمستنكر ولا بمستغرب أن يكون لله حق علينا، لكن المستنكر والمستغرب أن نجحد حق الله علينا. أخي الكريم! لو أتاك الليلة رجل إلى بيتك في جوف الليل وقال لك: أخي في الله! لقد سمعت أنك تمر بضائقة مالية، ثم قدم لك عشرة آلاف ريال، أنا أسألك: هل ستنسى إحسان هذا الرجل إليك طوال حياتك؟! لا والله لن تسنى إحسانه إليك أبداً. ونحن غارقون من رءوسنا إلى أقدامنا، ومن حياتنا إلى مماتنا في إحسان ربنا، ومع ذلك نجحد إحسانه إلينا، وكن على يقين بأن هذا الرجل الذي أتاك إلى دارك، ما أتاك إلا لإحسان الله سبحانه إليك، من الذي حرك قلبه، ولين مفاصله وجوارحه ليأتيك في بيتك في جوف الليل؟! إنه الله، فتذكر إحسان عبد إليك، وتنسى إحسان خالقك إليك! إننا غرقى في نعم الله وفضله، {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:34]. والله -يا إخوة- لقد دعاني إخوانكم في منطقة المعادي في القاهرة لإلقاء محاضرة، ولجمع تبرعات لصالح إخواننا وأخواتنا في مستشفى الأمراض العقلية، ودعوت الناس لجمع التبرعات، وجمعنا في تلك الليلة مبلغاً يصل إلى خمسة وعشرين ألفاً من الجنيهات، وأنا أؤكد بأن الناس ما أصيبوا بأزمة بخل، ولكنهم أصيبوا بأزمة ثقة فيمن يدفعون إليهم أموالهم، واشترينا الملابس والطعام والهدايا، وأصر الإخوة أن أذهب معهم إلى إخواننا فذهبت، ودخلنا العنبر الأول وكان للنساء، فجاءت فتاة علمت بعد ذلك أنها خرجت من كلية الطب، فأخذت هذه الغترة وجرت، ثم ألقتها على الأرض، ثم ضحكت، ثم بكت، ثم تركتنا وذهبت إلى ركن من أركان العنبر، وتجردت من ثيابها كيوم ولدتها أمها! وقد من الله عليها بجمال خلقي منقطع النظير، فبكيت والله وكأني لم أبك من قبل، وقلت لإخواني الذين معي: يا إخوة أشهد الله ثم أشهدكم أنني ما فكرت في نعمة العقل إلا في هذه اللحظة، فهل فكرت في نعمة العقل قبل ذلك؟! هل شكرت الله على نعمة العقل؟! كثير منا يظن أن النعمة هي المال فقط، فإن منّ الله عليه بالمال فهو في نعمة، وإن سلب الله منه المال وأعطاه كل النعم فما أنعم الله عليه بشيء! النفس تجزع أن تكون فقيرة والفقر خير من غنى يطغيها وغنى النفوس هو الكفاف فإن أبت فجميع ما في الأرض لا يكفيها وقال آخر: هي القناعة فالزمها تكن ملكاً لو لم تكن لك إلا راحة البدن وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير الطيب والكفن كان أحد السلف إذا دخل الخلاء على قدميه، وطهر نفسه بيده، خرج وهو يقول: يا لها من نعمة منسية، غفل عن شكرها كثير من الناس! دخل ملك من ملوك الدنيا يوماً على ابن السماك الواعظ، وألح عليه في طلب كوب من الماء البارد، فلما أحضر له ابن السماك كوب الماء البارد قال له: أسألك بالله يا سيدي لو منع منك هذا الكوب من الماء فبكم تشتريه الآن؟ قال: والله بنصف ملكي. قال: أسألك بالله! ولو حبس فيك هذا الماء فبكم تشتري إخراجه؟ قال: بالنصف الآخر. فبكى ابن السماك وقال: اشرب هنأك الله، وأف لملك لا يساوي شربة ماء. {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار:6]، تجحد إحسان الله إليك، وفضل الله عليك، وأنت غارق في نعمه: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34]. إذاً: ليس بمستغرب أن نعبد الله لنوفي حق الله، ولكن المستغرب والمستنكر أن ننكر حق الله! وأن ننكر فضل الله عز وجل، وألا نمتثل أمره، وألا نجتنب نهيه، وألا نقف عند حدوده!

بماذا نعبد الله؟

بماذا نعبد الله؟ وأخيراً: بماذا نعبد الله؟ والجواب في كلمات قليلة -فلقد أطلت عليكم- نعبد الله عز وجل بما شرعه لنا على لسان نبيه ورسوله المصطفى، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وجماع الدين أصلان: الأول: أن نعبد الله وحده لا شريك له. والأصل الثاني: أن نعبده بما شرعه على لسان رسوله، وهذان الأصلان هما حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فبالشهادة الأولى يعرف المعبود عز وجل، وبالشهادة الثانية يعرف الطريق الذي تصل من خلاله إلى المعبود عز وجل، إذ إن كل الطرق إلى الله مسدودة إلا طريق المصطفى صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]، وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]. ولله در القائل: من يدعي حب النبي ولم يفد من هديه فسفاهة وهراء فالحب أول شرطه وفروضه إن كان صدقاً طاعة ووفاء ما العبادة؟ من نعبد؟ لماذا نعبد؟ بماذا نعبد؟ أسئلة مهمة تحتاج إلى جواب دقيق صادق من كل مسلم ومسلمة، فهيا حدد لنفسك من الآن جواباً على هذه الأسئلة، والله أسأل أن يجعلنا وإياكم من الصادقين المخلصين، وأن يختم لنا ولكم بخاتمة الموحدين، وأن يحشرنا في زمرة سيد النبيين. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، وجزاكم الله خيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

من أنا؟

من أنا؟ لقد أنشأ أهل الزيغ والضلال والإلحاد من العلمانيين والاشتراكيين وغيرهم معتقدات باطلة، ونظريات ملحدة كافرة، فأنكروا وجود الله، وأنكروا أنه خلقهم، وأنهم إذا ماتوا سيبعثون إليه؛ ولذا نشأ عن هذه النظريات حيرة في العقول عند بعضٍ فجعل يتساءل: من أنا؟ ومن أين جئت؟ ولماذا جئت؟ فهذه شكوك وأسئلة نتجت عن تلك العقائد والنظريات، ولكن القرآن قد وقف لتلك المعتقدات بالمرصاد، فنقضها وبين بطلانها، وأجاب عن هذه الأسئلة، فمن بعد عن القرآن حري به أن يتغير عقله وتفسد فطرته بملابسة هذه الأفكار.

بيان حقيقة الإنسان، وبيان الكمة التي من أجلها خلق

بيان حقيقة الإنسان، وبيان الكمة التي من أجلها خلق إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة الفضلاء! وأيتها الأخوات الفاضلات! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله الحليم الكريم جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى، في جنته ودار مقامته؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه. أيها الأحبة! من أنا؟!! ولأهمية الجواب على هذا السؤال أؤصله بمقدمة مهمة جداً بين يدي الجواب، وأستهل هذه المقدمة بهذه الكلمات، فأقول: إن كل جهل مهما عظمت نتائجه قد يغتفر، إلا أن يجهل الإنسان خالقه سبحانه وتعالى، وسر وجوده، والغاية التي من أجلها خُلق، فالجهل في جانب العقيدة لا يغتفر، وهو أن يجهل الإنسان خالقه، وأن يجهل الإنسان الغاية التي من أجلها خُلق، فأكبر عار على هذا الإنسان الذي آتاه الله عز وجل العقل والإرادة وميزه على سائر المخلوقات في الكون أن يعيش غافلاً عن الله، فيأكل ويتمتع كما تأكل الأنعام، ولا يفكر في خالق، ولا يبحث عن الغاية، ولا عن الوظيفة التي من أجلها خُلق، ولها ابتعث، ولا يبحث عن طبيعة دوره في هذه الأرض، حتى يأتيه الأجل والموت دون أن يستعد لهذا اليوم، فيجني ثمرة الغفلة والجهل والانحراف في عمره الطويل أو القصير، وحينئذ يندم يوم لا ينفع الندم، وهو بين يدي الله تبارك وتعالى يرى نفسه أخس من البهائم والحيوانات، فإن البهائم والحيوانات كلها عرفت ربها وسجدت له، كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج:18]. وقال تعالى في شأن هذا الصنف الذي هو أخس من البهائم، الذي يجهل خالقه، ويجهل غاية وجوده وسر ابتعاثه في هذه الأرض: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179]. فهذا الصنف صنف خبيث، يقول قائله: جئت لا أعلم من أين؟ ولكني أتيت! ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت! وسأمضي في طريقي شئت هذا أم أبيت! كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟ لست أدري، لست أدري!! إنه كالبهيمة! لأنه لا يعرف غاية وسر وجوده في هذه الأرض، كما قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} [محمد:12] فأي جهل أبشع وأفظع من أن يجهل الإنسان -الذي يتعالى بعقله، ويتعالى بإبداعاته المادية- ربه عز وجل؟! وأي جهل أجهل من أن يجهل هذا الإنسان المتعالي ربه وخالقه الذي خلقه وبعثه وأوجده سبحانه وتعالى؟! هذا هو الجهل المدقع الذي لا يغتفر. ولهذا كان لزاماً على كل إنسان عاقل أن يبادر ليسأل نفسه هذا Q لماذا خُلقت؟ وما هي الغاية من خلقي؟ وحتماً قبل طرح هذين السؤالين لابد وأن تطرح على نفسك سؤالين مهمين آخرين: السؤال الأول هو: من أين أنا؟ ومن أنا؟ ومن أوجدني؟ ومن خلقني؟ السؤال الثاني: ما هو المصير؟ وإلى أين نسير؟ لابد من أن تطرح على نفسك هذين السؤالين لتتعرف على الغاية التي من أجلها خلقت، فإن عرفت من خالقك، وعرفت الغاية التي من أجلها خلقت، فحينئذ ستعرف من أنت، وستعرف مصيرك ومسيرك، فلابد من الإجابة على هذه الأسئلة: من أين؟ وإلى أين؟ ولماذ؟ أي: ولماذا خلقت؟ هذه الأسئلة الثلاثة هي التي صاحبت الإنسان في كل فترات حياته، وفي كل مكان وجد فيه، وهي تطلب من أي إنسان الجواب الشافي لها في كل مرحلة من مراحل العمر، وفي كل مكان على وجه البسيطة من يوم خلق الله عز وجل آدم عليه السلام. و A أقول: أما السؤال الأول: فهو عقدة العقد عند الماديين الملحدين في كل زمان ومكان؛ فعليهم أن يطرحوا على أنفسهم هذا السؤال: من أين أنا؟ ومن الذي خلقني؟ ومن الذي أوجدني؟ ولكن هؤلاء لا يؤمنون إلا بما تقع عليه الحواس، أي: إلا بما تراه الأعين، فأحدهم يؤمن بالمصباح؛ لأنه يراه بعينه منيراً مضيئاً، لكنه في الوقت ذاته يغض الطرف عن التيار الكهربائي الذي لا يراه بعينه والذي هو سر إضاءة هذا المصباح!! فهو مادي أعمى لا يؤمن إلا بما تراه عينه، حتى ولو كذبه عقله، لكنه لا يؤمن إلا بما تحسه الأيدي وبما تراه العيون، وهؤلاء يتخذون منطق العقل -زعموا- دليلاً على الوصول إلى الحق والحقيقة، ويصرون في عمى عجيب على أن هذا الكون بما فيه ومن فيه وُجِدَ وحده، وكل ما في هذا الكون من إحكام وترتيب إنما هو صنع المصادفة العمياء!!

نداء الفطرة يجيب عن أسئلة الماديين

نداء الفطرة يجيب عن أسئلة الماديين وأما الذين يستجيبون لنداء الفطرة في كل زمان ومكان فهؤلاء يقرون حتماً بأن لهذا الكون إلهاً ورباً حكيماً عظيماً جل جلاله، تتجه قلوبهم إليه سبحانه وتعالى بالتعظيم، والرجاء، والخشية، والتفويض، والتوكل، والإنابة والعبادة بصفة عامة، ويشعرون بخالق هذا الكون، ويتجهون إليه سبحانه بفطرهم السليمة النقية التي لم تعكرها الماديات والشبهات والشهوات، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:30]. لكن هذا الصوت - أعني: صوت الفطرة - قد يخفت في قلب وعقل إنسان، أو قد يكبت هذا الصوت صاحبُه عمداً عن كبر، فالمشركون لم ينكروا أن الله عز وجل هو الخالق، بل كفروا به سبحانه وتعالى كبراً وعناداً، كما قال عز وجل: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات:35]. وقال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل:14] فهؤلاء يقرون بهذه الحقيقة، لكنهم قد يرفضونها كبراً وعناداً -وهذا كلام مهم جداً - فالفطرة قد تخفت في قلب وعقل إنسان عن قصد وعن عمد من صاحبه، فإذا نزلت بهذا الإنسان نفسه أزمة أو أحداث مريرة أو مشكلة، واهتز هذا الإنسان أمام هذه الأزمة وأمام هذه الشدة، وخاب أمله في كل الناس من حوله، تراه ينطلق مرة أخرى مستجيباً لهذا الصوت الذي يعلو في أعماقه، ألا وهو صوت الفطرة، فيتجه مرة أخرى -رغم أنفه- لله جل وعلا. وتدبر معي هذا الحوار النفيس الجميل! بين رجل وبين الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه، وقد بينت من قبل أننا لا ننكر ما لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم من مناقب بدعوى أن الروافض قد رفعوهم إلى مرتبة الألوهية، ونحن لا نسقط ما لهم من مناقب بهذه الدعوى، بل نثبت لهم ما ثبت من الحق بدليله، وقد بينت ذلك وأنا أرد على الشيعة، وقلت بأنهم يتمسحون بالإمام العالم العلم جعفر الصادق وهو بريء من كل ما يؤصلونه مخالفاً لقرآن الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء من أعلم الناس ومن أكثر الناس اتباعاً لهدي رسول الله عليه الصلاة والسلام، فلقد سأل هذا الرجل الإمام جعفراً الصادق رضي الله عنه عن الله؟! فقال له جعفر: ألم تركب البحر؟! -يعني: هل ركبت باخرة أو مركباً أو سفينة؟ قال: بلى، فقال جعفر: فهل حدث لك مرة أن هاجت بكم الريح عاصفة؟! قال: نعم، قال جعفر: وانقطع أملك من الملاحين ووسائل النجاة؟ قال: نعم، قال: فهل خطر في بالك وانقدح في نفسك أن هناك من يستطيع أن ينجيك إن شاء؟! قال: نعم، قال: هذا هو الله سبحانه وتعالى. وهذه الحقيقة تثبتها آيات كثيرة جداً في القرآن، وتدبر معي قول الله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ} [الزمر:8]، بل وتدبر آية هي أوضح من السابقة، قال الله تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [لقمان:32]، وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ} [الإسراء:67] ولا حول ولا قوة إلا بالله! فهذه طبيعة الإنسان، كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:6 - 8]. فإذا كان منطق الفطرة يهدي إلى الله تعالى، والفطرة ليست وجداناً خالصاً، بل وليست عقلاً خالصاً، ولكنها مزيج بين الوجدان -وهو القلب- وبين العقل.

العقل السليم يؤمن بقانون السببية

العقل السليم يؤمن بقانون السببية أقول: إن العقل السوي فقط هو الذي يرى الإيمان بالله تبارك تعالى ضرورة لا يستطيع الإنسان على الإطلاق أن يعيش بدونها، وأقول: إذا كانت الفطرة مزيجاً بين الوجدان والعقل فإن العقل وحده فقط يرى الإيمان بالله تبارك وتعالى ضرورة يستحيل أن يعيش الإنسان السوي بدونها، فإن العقل بغير تعلم وبغير اكتساب يؤمن حتماً بقانون السببية، هذه الورقة في يدي الآن تهتز لسبب، وهذا هو قانون السببية؛ لأنني أحركها، فالعقل بدون تعلم وبدون اكتساب يؤمن بقانون السببية، ويؤمن بهذا القانون إيمانه بكل البدائيات والأولويات التي لا تحتاج إلى دليل، يعني: أنه لا يبنبغي لعاقل إذا رأى الشمس ساطعة فى أفق السماء أن يقول: ما هو الدليل على أن الشمس طالعة؟ فإذا كان كذلك فيجب أن يسأل: ما هو الدليل على وجود عقله في رأسه؟ دخل بعض الملاحدة يوماً على طلابه، وأراد بهذا القانون أن يثبت الضد، فقال لهم: يا أولاد! هل ترون أستاذكم؟ قالوا: نعم، فقال: هل ترون السبورة التي أكتب لكم عليها؟ قالوا: نعم، فقال: هل ترون الكرسي الذي أجلس عليه؟ قالوا: نعم، وتدرج بهذه الأسئلة إلى أن قال: هل ترون الله؟!! قالوا: لا، قال: إذاً: هو غير موجود!! وهؤلاء هم الماديون الأغبياء الذين لا يؤمنون إلا بالمحسوس المرئي، فقيض الله تلميذاً صغيراً من تلاميذه، فاستأذن أستاذه ووقف إلى جواره، واتجه التلميذ إلى زملائه وقال: يا أولاد! هل ترون عقل الأستاذ؟ قالوا: لا، قال: إذاً: هو غير موجود!! أي: أنه مجنون، والمجنون ليس له قيمة! فالعقل بدون تعلم وبدون اكتساب يؤمن بقانون السببية إيمانه بالأمور الأولية الابتدائية التي لا تحتاج إلى دليل على وجودها، فلا يقبل العقل السوي فعلاً بغير فاعل أبداً، ولا يقبل العقل السوي صنعة بغير صانع، بل هذا مستحيل! وهذا القانون هو الذي عبر عنه الأعرابي الأول ببساطة شديدة، حيث لم يتخرج في جامعة من الجامعات، ولا في كلية من الكليات، وإن شئت فقل: ما تخرج إلا من جامعة الفطرة، فحينما سئل عن الله عز وجل قال مستدلاً بعقله الذي آمن بقانون السببية البدائية: البعرة تدل على البعير، وأثر السير يدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، أفلا يدل كل ذلك على اللطيف الخبير؟! هذا هو القانون ببساطة شديدة، هذا هو الذي عبر عنه إمام أهل السنة أحمد بن حنبل طيب الله ثراه حينما أمسك البيضة يوماً وقال: هنا حصن حصين، أملس ليس له باب، وليس له منفذ، ظاهره كالفضة البيضاء، وباطنه كالذهب الإبريز، وبينما هو كذلك إذ انصدع جداره، وخرج منه حيوان سميع بصير، ذو شكل حسن، وصوت مليح. هذا هو القانون الذي عبر عنه الشافعي عندما أمسك ورقة التوت يوماً فقال: ورقة التوت، تأكلها الغزالة فتعطينا مسكاً، وتأكلها الشاة فتعطينا لبناً، وتأكلها دودة القز فتعطينا حريراً، إن الطعام واحد ولو كانت الأمور بالمصادفة العمياء لكانت عصارة الطعام للطعام الواحد واحدة، ولكنها كانت في الشاة لبناً، وكانت في الغزالة مسكاً، وكانت في الدودة حريراً. ولكن هؤلاء الملاحدة كما قال الله عز وجل: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46].

علماء الغرب واعترافهم بوجود الله

علماء الغرب واعترافهم بوجود الله وهناك عالم الطبيعة المشهور إسحاق نيوتن، وأنا لا أستشهد بقول هؤلاء لأثبت الحق الذي نحن عليه، كلا! فإنه لا يجوز لمسلم ألبتة أن يستشهد بكلام مخلوق على وجه الأرض على صدق الله وصدق رسوله، وأنا لا أستشهد بأقوال أهل العلم -علماء الطبيعة والجيولوجيا والفلك والرياضيات- على صحة وصدق قول الله وقول الرسول، ولا أستشهد بالنظريات العلمية على صدق كلام رب البرية وكلام سيد البشرية، إنما أنا أثبت للناس ممن -وبكل أسف- يصدقون ما يأتي من علماء الغرب لا أقول: كتصديقهم لكتاب الله، بل أشد من تصديقهم لكلام الله ورسوله! وهذا صنف موجود، وأنا لا أبالغ ولا أغالي، ولا أجيش العواطف بكلام فارغ أجوف، كلا! بل هذا صنف موجود يصدق كلام علماء الغرب أكثر من تصديقه لرب السماء والأرض، وأكثر من تصديقه للنبي صلى الله عليه وسلم رسول رب السماء والأرض! وقد ضربت قبل ذلك مثالاً بحديث الذباب: (إذا ولغ الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله ثم لينزعه، فإن في أحد جناحيه داءً وفي الآخر دواءً) فكم ممن ينسبون إلى الإسلام قد ردوا هذا الحديث وأنكروه بدعوى أنه لا يعقل! ويقولون: كيف يعقل أن الذبابة إن سقطت في سائل كهذا أن يغمسها عاقل بدعوى أنها تحمل في أحد جناحيها الداء وفي الآخر الدواء؟ فلما قدم البحث من جامعة (هارفرد) وقام هذا العالم الشهير برثيلد وبحث هذا الحديث، ووجد أن الذبابة بالفعل تحمل في جناح من جناحيها داءً خطيراً عن طريق فيروس معين في جناح الذبابة، فإذا سقطت تفرز هذا الفيروس، ثم اكتشف هذا العالم أن الذبابة في الوقت ذاته تحمل على الجناح الآخر وعلى باطن الذبابة من أسفل نوعاً من أنواع الفطريات سماها هو (أميوزا موسكي) هذا الفطر الذي يمثل نوعاً واحداً من أنواع المضادات الحيوية لهذا الفيروس قال: بأن جراماً واحداً من هذا الفطر الذي يشكل مضاداً حيوياً على جناح أو على جسم الذبابة كفيل بأن يحمي ألفي لتر من اللبن المبستر من الجراثيم، والعجيب أن هذا العالم اكتشف أن الذبابة لا تفرز هذا الفطر الذي يشكل مضاداً حيوياً للفيروس إلا إذا غمست كلها في السائل، فمن الذي علم المصطفى ذلك؟! ولكن الذي يدمي القلب أن هذا البحث عندما قدم صدق كل من رد الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا خلل! فيجب عليك أن تصدق وإن لم يقتنع عقلك، بشرط أن تثبت صحة الرواية إلى رسول الله، يعني: إن ثبتت نسبة هذا الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالقواعد التي وضعها الصيارفة النقاد، والجهابذة الأعلام من علماء الحديث فيجب عليك حينئذ أن تسلم، وأن تستسلم لكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن لم يدركه عقلك؛ لأنه لا ينطق عن الهوى، قال جل وعلا: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:3 - 5]. فأنا أستدل بهذه الأقوال لعلماء الغرب من علماء الطبيعة والفلك والجيولوجيا لا لأصدق بكلامهم كلام ربنا وكلام نبينا صلى الله عليه وسلم، وإنما لأثبت لأصحاب هذه العقول الضعيفة -لا أريد أقول المريضة-أن الحق ما جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم من عند ربنا جل جلاله. ومنهجنا أننا نقبل الحق على لسان أي أحد، ونرد الباطل على لسان أي أحد، هذا منهجنا الذي ندين لله به، ولو كان من شيوخنا الذين نتتلمذ ونتربى ونتلقى العلم على أيديهم، من هذا المنطلق أقول: يقول إسحاق نيوتن عالم الطبيعة المشهور: لا تَشُكّوا في الخالق -والكلام لما يأتي من عالم من هؤلاء العلماء يكون له طعم، وهذا ليس من رجل موحد مؤمن يقول هذه عقيدته، ولكن لما يقول هذا الكلام عالم من غير المسلمين يكون له مغزىً- فإنه مما لا يعقل أن تكون المصادفات وحدها هي قاعدة هذا الوجود!! فليس بممكن أبداً أن تكون المصادفات وحدها هي قاعدة هذا الوجود، وليس بممكن أبداً أن تكون الصدفة هي التي خلقت هذا الوجود بهذا الإبداع والجمال والجلال، والله العظيم! الله العظيم! لو نظر عالم من هؤلاء العلماء الذين يؤمنون بالله إلى حبات الذرة لوحد الله وعبده؛ لو نظر إلى هذه الحبات اللؤلؤية البيضاء كيف رصت بهذا الجمال والإتقان والتناسق والإبداع -والله! لو أنصف- لوحد الله وعبده، ومستحيل أن ترص هذه الحبات بهذا الجمال والتناسق والإبداع على السنبلة صدفة! ويقول سبنسر نقلاً عن عالم آخر يقال له هرشل: كلما اتسع نطاق العلم ازدادت البراهين الدامغة القوية على وجود خالق أزلي لا حد لقدرته ولا نهاية، فالجيولوجيون والرياضيون والفلكيون والطبيعيون قد تعاونوا على تشييد صرح العلم، وهو صرح عظمة الله وحده إلى آخر هذه الأقوال الخطيرة التي قد ذكرت كثيراً منها. وأنا أتحدث عن قضية الاستنساخ التي بدأت تطفو على السطح مرة أخرى من جديد، لكننا نؤكد ونكرر أنهم لن يتمكنوا من أن يخلقوا ذبابة، والاستنساخ ليس خلقاً يضاهي خلق الله عز وجل، وإنما هم يعملون على خلق لله، ألا وهو الحيوان المنوي والبويضة، فإن أرادوا أن يزعموا الخلق فعلاً فليخلقوا حيواناً منوياً واحداً! وصدق ربي حيث يقول: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} [الواقعة:58 - 59] سبحانه وتعالى. ويقول سبنسر: إن العالم الذي يرى قطرة الماء، فيعلم أنها تتركب من الأكسجين والهيدروجين بنسبة خاصة -كم ذرة أكسجين؟ وكم ذرة هيدروجين؟! نسب دقيقة جداً- بحيث لو اختلفت هذه النسبة لكانت شيئاً آخر. أي: لو اختلفت هذه النسبة لتحولت إلى نار مشتعلة متأججة، قال الله عز وجل: {وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ} [الانفطار:3] فهذه البحار التي نراها تتحول إلى نار مشتعلة يوم القيامة؛ لأن النسب التي هي موجودة بين الأكسجين والهيدروجين تختل، فيبقى الماء في اشتعالات ونار متأججة، فالنسبة الآن موضوعة بدقة لكي تكون ماءً، يقول: إن العالم الذي يرى قطرة الماء فيعلم أنها تتركب من الأكسجين والهيدروجين بنسبة خاصة، بحيث لو اختلفت هذه النسبة لكانت شيئاً آخر غير الماء، يعتقد عظمة الخالق وقدرته وحكمته وعلمه الواسع بصورة هي أقوى وأعظم من هذا الذي لا يرى في قطرة الماء إلا أنها نقطة ماء فحسب. انظر إلى العالم الذي يدرك الحقائق، فالعالم عندما ينظر إلى نسب الأكسجين والهيدروجين في الماء يعرف لماذا نسبة الأكسجين زادت، ولماذا نسبة الهيدروجين قلَّت، فينظر إلى هذه الآية فيزداد إيماناً بالله سبحانه وتعالى، وهذا الإيمان يختلف عن إيمان العبد الذي ينظر إلى قطرة الماء على أنها قطرة ماء. ويقول فرنسيس بيكون: إن القليل من الفلسفة يميل بعقل الإنسان إلى الإلحاد. فما هي هذه الفلسفة؟ هذه الفلسفة طريق للإلحاد، مثل ما كانوا يعلمونا في الثانوية العامة وما زال، أول قاعدة: (أنا أشك، إذاً: أنا موجود) ومثل ما قلت في خطبة (صفحات سود): لو صدقوا لقالوا: (أنا أشك، إذاً: أنا دبوس) لكن ما هي علاقة الشك بالوجود؟ أنه بدأ حياته بالشك ابتداءً، والشك لا يمكن أبداً أن يوصل إلى حقيقة مطلقة أبداً، بل إن عصفت رياح الشكوك بالإيمان في القلوب ضل الخلق، ولذلك رب العزة سبحانه وتعالى يصف المؤمنين بأن رياح الشك لا تهب ولا تعصف بقلوبهم أبداً، كما قال عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات:15] أي: لم يتشككوا. إن من يبدأ بالشك لكي يصل إلى الحقيقة قد يضل، ومثل هذا إضلال لعقول أبنائنا وأولادنا، وكم من الناس اقتنع بهذه النظريات الفلسفية الباهتة الفارغة، التي يغني بطلانها عن إبطالها. لكننا بكل أسف كنا نسلم العقول والقلوب لهؤلاء على أنهم لا ينطقون عن الهوى، فإذا جاء القول من عالم غربي سلمنا العقل والقلب وكأن هذا لا يخطئ!! ثم جاء بعد ذلك صنف خبيث ممن ينسبون إلى الإسلام في بلاد المسلمين فضخموا هؤلاء، ونفخوا فيهم؛ ليكونوا شيئاً مذكوراً، وهم في الحقيقة كالطبل الأجوف، يُسمَعُ من بعيد وباطنه من كل الخيرات خالٍ، فيقال مثلاً: عميد الأدب العربي والاجتماعي الأول للأزهر، والأستاذ الدكتور، ونحو ذلك، فنفخ في هذا الصنف الذي نسج على هذا الدرب المظلم -درب العلمانيين، ودرب علماء الغرب الملحدين- وقالوا كلمات خبيثة، وأنا لا أقول ذلك من باب الدعوى، كلا! وإنما هي حقائق. وهل تتصور أن يقول رجل ينسب إلى العلم ويشار إليه بالبنان لطلابه في كلية الآداب: ارفعوا القداسة عن القرآن، واقرءوه كتاباً بين أيديكم كأي كتاب من الكتب التي تستحق النقد والثناء؟!! فأنا لا أقول ذلك من باب الدعاوى، أقول: هذه حقائق، ثم يقول: ليس للقرآن أن يحدثنا عن إبراهيم وعن إسماعيل فهذه أسطورة لا تستحق التصديق!! إلى آخر هذه الأقوال الكفرية. يقول فرنسيس بيكون: إن القليل من الفلسفة يميل بعقل الإنسان إلى الإلحاد. فالإنسان إذا تفلسف يصل إلى طريق مسدود مستحيل؛ لأن هناك حقائق لا يتوصل لها بالعقل أبداً، وهذا لأجل أن يختصر على نفسه الطريق، وهناك من الحقائق ما لا يستطيع بشر أن يصل إليها بعقل مجرد أبداً. فرب العزة سبحانه وتعالى لا تصل بعقلك إلى صفات كماله وأسماء جلاله! ولابد من الوصول إلى هذه الحقيقة عن طريق الوحي، فهناك حقائق لا تستطيع التوصل إليها بالعقل، فأقول: إن القليل من الفلسفة يميل بعقل الإنسان إلى الإلحاد، ولكن التعمق فيها -أي: التعمق بالعقل في هذه الأشياء بإنصاف- ينتهي بالعقول إلى الإيمان، وذلك لأن عقل الإنسان قد يقف عندما يصادفه شيء من أسباب ثانوية مبعثرة، وهنا قد ينكر فلا يتابع السير إلى ما وراءها، ولكنه إذا أمعن النظر شهد سلسة الأسباب وكيف تتصل حلقاتها، ثم لا يجد بداً من التسليم بالله سبحانه وتعالى. فهذه شهادة أولئك الذين رسخوا في علم الكون -الطبيعة والفيزياء- وأنا لا أريد أن أستطرد في أقوالهم، ورحم الله القائل: لله في الأفاق آيات لعل أقلها هو م

الإيمان بالله تعالى ضرورة عقلية

الإيمان بالله تعالى ضرورة عقلية وأخلص من هذه الكلمات الدقيقة المهمة إلى هذه الحقيقة الكبيرة ألا وهي: أن الإيمان بالله تبارك وتعالى ليس غريزة فطرية فحسب، ولكنه ضرورة عقلية أيضاً، وبدون هذا الإيمان سيظل هذا السؤال يحتاج إلى جواب. ذلكم هو السؤال الخالد فى قول الله تبارك وتعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ} [الطور:35 - 36]. وسيظل هذا السؤال مطروحاً يحتاج إلى جواب من هؤلاء المعاندين، و A لا يقول عاقل بأنه خُلق من غير شيء. والسؤال الثاني: فهل خلقوا أنفسهم؟ والجواب: لا، ولم يزعم عاقل على وجه الأرض على طول التاريخ أنه خلق نفسه أو خلق الأرض أو خلق السماوات، فيبقى السؤال مطروحاً ويحتاج إلى جواب من كل عاقل منصف على وجه الأرض: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ} [الطور:35 - 36] فهم يقولون ببساطة شديدة في مصير هذا الإنسان بعد رحلة هذه الحياة الدنيا: إنه الفناء والعدم المطلق، أي: أن الأرض تطويه في بطنها كما طوت ملايين الحيوانات الأخرى، ثم تعيد هذا الجسد مرة أخرى إلى عناصره الأولى فيعود تراباً ثم تذروه الرياح، وهكذا!! هذه هي قصة الحياة عند هؤلاء الماديين الظالمين، فهم يقولون: أرحام تدفع، وأرض تبلع، ولا جزاء ولا حساب، ولا نعيم ولا عذاب!! ويستوي في ذلك عند هؤلاء من أحسن غاية الإحسان ومن أساء غاية الإساءة!! ويستوي في ذلك من عاش عمره للناس على حساب شهواته، ومن عاش عمره لشهواته على حساب الناس!! ويستوي في ذلك من ضحى بحياته في سبيل الحق ومن ضحى بالحق فى سبيل حياته!! ويستوي في ذلك من اعتدى على حياة الآخرين فى سبيل الباطل ومن عاش من أجل أن يرد وأن يدفع الباطل!! ويستوي في ذلك من عبد الله وحده لا شريك له ومن عبد آلهة أخرى باطلة مدعاة!! ويستوي في ذلك الموحدون والمشركون!! ويستوي في ذلك الظالمون والمظلومون!! ويستوي في ذلك القاهرون والمقهورون والمعذبون والمعذبَون!! وكل هذا ظلم، فأما المؤمن الذي مَنَّ الله عليه بالإيمان، وكرمه بالقرآن، وبرسالة محمد عليه الصلاة والسلام، فإنه لا يتلعثم في الجواب طرفة عين، فالمؤمن يعرف مصيره، ويعرف إلى أين يسير، فهو يؤمن بقول الملك القدير: (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7]، وشتان بين مادي ملحد وبين مؤمن يعرف أن الله عز وجل هو العدل وهو الحق، فالمؤمنون يعلمون أنهم خلقوا لحياة الخلود ودار البقاء، وهم في هذه الحياة الدنيا إنما يستصلحون وينقون، ويهذبون، ويعدون في هذه الدار إعداداً ليؤهلهم للعيش في دار البقاء؛ ليطيبهم الله تبارك وتعالى، وليكونوا أهلاً لدار طيبة، وليكونوا أهلاً لسلام الملائكة عليهم إذا دخلوا جنة ربهم جل وعلا، بأن يقولوا لهم: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر:73]. إنه لعسير على العقل السوي أن يؤمن بخالق عليم حكيم عظيم أحسن هذا الكون خلقاً وصنعاً، وقدر فيه كل شيء تقديراً بحكمة، ووضع كل شيء في هذا الكون بميزان وحساب، ثم بعد كل ذلك يؤمن بأن سوق الحياة سينفض بالموت، وقد سرق فيه من سرق، ونهب من هب، وكفر من كفر، وظلم من ظلم، وأساء من أساء، واعتدى من اعتدى، ثم لا يقف بعد ذلك هؤلاء جميعاً بين يدى الله تبارك وتعالى ليقتص للمظلوم من الظالم، وليثيب الموحد على توحيده، والعابد على عبادته، لا يصدق عقل سوي مثل هذا أبداً، وما أروع كلام الله سبحانه وتعالى حيث قال: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:115 - 116]. وما أروع قول الله تبارك وتعالى: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة:36]. يعني: مهملاً لا سؤال ولا حساب ولا عقاب، كلا! وقال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21]. وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ * أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:27 - 28]، فهذا محال يا أخي! وهذا ظلم يستحيل على الله الحق العدل سبحانه وتعالى. وقال جل وعلا: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ} [الدخان:39 - 40]. ولا يمكن أبداً أن تنتهي الحياة إلى الموت أو عند الموت، ولا أن السارق سرق وانتهى، والظالم ظلم وراح، وظلم من ظلم دون أن ينتصر له، كل ذلك ليس صحيحاً. من ألطف وأجمل ما قرأت الحديث الذي حسنه شيخنا الألباني رحمه الله تعالى في صحيح الجامع وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل أصحابه من مهاجري الحبشة عن أعجب ما رأوا بأرض الحبشة فقال: (حدثُوِنى بَأَعَاجِيبِ مَا رَأَيُتم بِأَرضِ الحَشَبةِ؟ فقال أحدهم: رأيت امرأة عجوزاً تحمل جرة ماء على رأسها، فجاء شاب فدفعها في ظهرها بين كتفيها من الخلف دفعة فأوقعها على الأرض، فخرت على ركبتيها وقد انكسرت جرتها أو قلتها، فلما استوت المرأة على الأرض نظرت إلى هذا الشاب وقالت: سوف تعلم يا غدر! أي: يا غادر! يا ظالم! - إذا وضع الله الكرسي يوم القيامة واقتص للمظلوم من الظالم، سوف تعلم مكاني ومكانك عنده غداً. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدقت صدقت! لا يقدس الله أمة لا يؤخذ لضعيفهم من قويهم). فانظروا إلى فطرة هذه المرأة، وكيف أبرزت مشهداً من أعظم مشاهد يوم القيامة، ألا وهو مشهد الحساب، ومشهد الميزان، ومشهد الحق، نعم إنه مشهد حق، فسوف يعلم الظالم إذا وضع الله الكرسي يوم القيامة واقتص للمظلوم من الظالم أنه لابد من قصاص. أيها المظلوم صبراً لا تهن إن عين الله يقظى لا تنام نم قرير العين واهنأ خاطراً فعدل الله دائماً بين الأنام أيها الظالمون! اظلموا فإنا متظلمون، وإنا إلى الله شاكون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، فلا بد من وقفة يقف فيها الجميع بين يدي الله تبارك وتعالى، ليجازي الله كل واحد بعمله، كما قال عز وجل: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8]. وقال سبحانه: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:13 - 14]، فالمؤمن يعرف المسير، ويعرف المصير، ويعرف أن المؤمنين إلى جنة عرضها السماوات والأرض، وأن الكافرين إلى نار، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهل الجنان، وأن يحرمنا على النيران؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.

الغاية التي من أجلها خلق الإنسان

الغاية التي من أجلها خلق الإنسان إذاً السؤال الثالث والأخير والمهم بعدما عرف الإنسان خالقه، وبعدما عرف الإنسان مسيره ومصيره، يجب عليه أن يسأل نفسه هذا Q لماذا خُلقت؟ وما هي الغاية التي من أجلها خُلقت ووجدت؟ والجواب عند المؤمنين حاضر لا يحتاج إلى تفكير، فكل صانع يعلم سر صنعته لماذا صنعها؟ فالمؤمن حينما يبحث عن هذا السؤال عند خالقه يرى الجواب واضحاً، فإن سأل: لماذا خلقت؟ فسيأتي الجواب من الخالق الذي يعلم الغاية من الخلق، فهو الذي خلق الخلق لغاية يعلمها ويريدها سبحانه، سيأتي الجواب واضحاً: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58]. وتدبروا معي هذه الآية الجميلة التي قلّ من فكر فيها منا، قال الله سبحانه: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق:12] فهذه الآية جعلت معرفة الله سبحانه وتعالى هي الغاية من خلق السموات والأرض، وتدبر الآية مرة أخرى! قال عز وجل: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق:12]، فالغاية هي أن تعرف الله، وأن تعرف أسماء جلاله، وأن تعرف صفات كماله، وأن تعرف قدره وعظمته، وأن تعرف أنك ما خلقت إلا لتوحده، وأنك ما خلقت إلا لتعبده، وأنك ما خلقت إلا لتخشاه وترجوه وتتوكل عليه، وإلا لتخلص العبادة له وحده بلا منازع أو شريك، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات:56 - 57]. فالإنسان وبكل أسف يسأل عن الغاية التي خلق من أجلها كل شيء في الكون، مع أن كل شيء في الكون خُلق من أجلك أنت أيها الإنسان! فأنت تسأل: لماذا خُلقت السماوات؟ ولماذا خُلقت الأرض؟ ولماذا شق الله البحار؟ ولماذا أجرى الأنهار؟ ولماذا خلق الله الأزهار؟ ولماذا كذا؟ ولماذا كذا؟ في الوقت الذي لا يسأل الإنسان عن سبب خلقه هو، وعن غاية خلقه، ولا يقول: لماذا خُلقت أنا؟ فالله عز وجل خلق الماء للأرض، وخلق الله عز وجل الأرض للإنبات وللحياة، وخلق الله عز وجل النبات للحيوان وللإنسان، وخلق الله عز وجل الحيوان للإنسان، وخلق الله عز وجل الإنسان له وحده، فأنت مخلوق لله وحده، وأنت مربوب لله وحده، ولا يجوز لك ألبتة أن تصرف العبادة لغير خالقك سبحانه وتعالى، فالإنسان مخلوق لله؛ ليفرد الله خالقه بالعبادة وحده بلا منازع أو شريك؛ وهذه العبادة يا إخوة! لا يجوز أن تكون إلا لله وحده، وهي العهد والميثاق العظيم الذي أخذه الله على الخلق، قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس:60 - 61]. وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف:172 - 173]. فلا عجب يا إخوة! أن تكون العبادة هي الصيحة الأولى لكل نبي، وهي التوجيه الأول لكل رسول، فما من نبى ولا رسول بُعث في قومه إلا ودعا قومه أول ما دعاهم إلى عبادة الله وحده: (يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) فهذه دعوة آدم، وهذه دعوة إبراهيم، وهذه دعوة موسى، وهذه دعوة نوح، وهذه دعوة عيسى، وهذه دعوة محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [النحل:36]. وقال الله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] وقال الله عز وجل: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92]، فالعبادة أمر الله بها كل الخلق، وأمر بها سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، قال تعالى لنبيه المصطفى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99]، واليقين هنا هو الموت. فالتكليف بالعبادة لازم للنبي صلى الله عليه وسلم ولكل بشر على وجه الأرض حتى يلحق بربه تبارك وتعالى، بل وبين الله عز وجل أن المسيح عيسى بن مريم الذي عبده النصارى وجعلوه إلهاً من دون الله أنه لن يستنكف أن يكون عبداً له سبحانه وتعالى، فقال جلا وعلا: {لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} [النساء:172] وعبادة الله هي الغاية التي من أجلها خلق الله الخلق. وأكتفي بهذا القدر، وصل اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. والحمد لله رب العالمين.

وصف الرسول صلى الله عليه وسلم

وصف الرسول صلى الله عليه وسلم لقد زكى الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم تزكية كاملة، ظاهراً وباطناً: زكى باطنه وطهره من الشرك والكفر، وزكى ظاهره فجعله في أبهى صورة وأجملها. وقد وصف الصحابة لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفصلوا وأجملوا في وصفه، فوصفوا وجهه وأنفه وجبينه وحاجبيه وعرقه وصدره وعنقه وبطنه وكفه ورجله، حتى مشيته وهيئة جلوسه ووقوفه.

تزكية الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم

تزكية الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهداه، واستن بسننه، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الأحبة الكرام! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله جل وعلا أن يجمعني وإياكم في هذه الدنيا دائماً وأبداً على طاعته، وفى الآخرة مع سيد الدعاة وإمام النبيين في جنته، ودار كرامته، إنه ولى ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! إننا في هذه الليلة على موعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أحلى أن يكون اللقاء معه! وما أجمل أن تكون الكلمات عنه! ورب الكعبة مهما أوتيتُ من فصاحة البيان وبلاغة الأسلوب والتبيان، فلن أستطيع أن أوفي الحبيب قدره، كيف لا وهو حبيب الرحيم الرحمن؟! {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:68]. فلقد خلق الله الخلق واصطفى من الخلق الأنبياء، واصطفى من الأنبياء الرسل، واصطفى من الرسل أولي العزم الخمسة، واصطفى من أولي العزم الخمسة إبراهيم ومحمداً، واصطفى محمداً على جميع خلقه. زكاه ربه، ومن زكَّاه ربه فلا يجوز لأحد من أهل الأرض قاطبةً أن يظن أنه يأتي في يوم من الأيام ليزكيه، بل إن أي أحد وقف ليزكي رسول الله، وليصف رسول الله، وليتكلم عن قدر رسول الله، فإنما يرفع من قدر نفسه، ومن قدر السامعين بحديثه عن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم. زكَّاه ربه في كل شيء: زكَّاه في عقله فقال جل وعلا: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم:2]، وزكَّاه في بصره فقال جل وعلا: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17]، وزكَّاه في صدره فقال جل وعلا: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1]، وزكَّاه في ذكره فقال جل وعلا: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:4]، وزكَّاه في طهره فقال جل وعلا: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ} [الشرح:2]، وزكَّاه في صدقه فقال جل وعلا: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3]، وزكَّاه في علمه فقال جل وعلا: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:5]، وزكَّاه في حلمه فقال جل وعلا: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، وزكَّاه في خلقه كله فقال جل وعلا: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] صلى الله عليه وعلى آله وسلم، الله أكبر! ومما زادني فخراً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن أرسلت أحمد لي نبياً من أنا؟! ومن أنت؟! لنتشرف بأن يكون حبيبنا ونبينا ورسولنا هو ابن عبد الله المصطفى صلى الله عليه وسلم.

أهمية معرفة شمائله صلى الله عليه وسلم

أهمية معرفة شمائله صلى الله عليه وسلم أيها الأحبة! هذا الحبيب يحلو لكل مسلم محب أن يتذكره، وأن يتصوره، وأن يتخيله، وأن يعيش بقلبه مع هذا الحبيب، ليعرف كيف كانت حياته؟ كيف كان وجهه؟ كيف كان شعره؟ كيف كانت لحيته؟ كيف كان صدره؟ كيف كانت يده؟ كيف كانت قدمه؟ كيف كانت مشيته؟ كيف كانت نومته؟ كيف كان طعامه؟ كيف كان شرابه؟ كيف كان أكله؟ كيف كان ذكره؟ كيف كان الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم؟ ولم لا؟! وقد أمرنا الله جل وعلا أن نقتفي أثره، وأن نسير على دربه، وأن نقلده في كل شيء، قال جل وعلا: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]. أنت مأمور أيها المسلم الموحد! أن تسير على دربه، وأن تقتفي أثره، وأن تتبع سنته، تعرف كيف كان يأكل لتأكل مثله، وكيف كان يجلس لتجلس مثله، وكيف كان ينام لتنام على هيئته، وكيف كان يتكلم لتتكلم على طريقته، وكيف كان يمشي لتمشي على طريقته، فهو حبيبك وقدوتك وأسوتك، ولن تصل إلى الله جل وعلا إلا من طريقه، ومن الباب الذي دلك عليه الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم. إن رسول الله -أيها الأحبة- بشر: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ} [الكهف:110]، ولكنه لم يكن بشراً عادياً. فمبلغ العلم فيه أنه بشر ولكنه خير خلق الله كلهم {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} [الكهف:110]، وهذه هي التي رفعت قدره، وأعلت شأنه، ورفعت مكانته عند الله جل وعلا وعند الخلق، ولن تنال رفقته في الجنة وشفاعته يوم القيامة إلا إن اتبعت سنته، وسرت على طريقته، واقتفيت أثره: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31]. رسول الله لم يكن بشراً عادياً أيها الأحبة؛ لأنه شرف بالوحي الذي أنزله الله عليه. ألم تعلم أخي الحبيب! أنه قد ثبت في الصحيحين من حديث جابر: (أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا نام تنام عينه ولا ينام قلبه): (جاءت ملائكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم، فقال بعضهم: إن لصاحبكم هذا مثلاً فاضربوا له مثلاً: فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان، فقال بعضهم: مثله كمثل رجل بنى داراً، وجعل فيها مأدُبةً، وبعث داعياً، فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة، فقال بعضهم: أوِّلوها له يفقهها -فسروا له الرؤيا هذه- فقال بعضهم: إنه نائم، وقال البعض: إن العين نائمة والقلب يقظان، فقالوا: الدار هي الجنة، والداعي هو محمد فمن أجاب محمداً دخل الجنة، ومن لم يجب محمداً لم يدخل الجنة، ومحمد فرَّق بين الناس). فمن آمن بالحبيب، وسار على درب الحبيب، واتبع سنة الحبيب، نال شفاعة الحبيب يوم القيامة، ونال رفقته وصحبته في الجنة، ومن خالف هدي الحبيب لم ينل الشفاعة، وحُرِمَ من هذه الرِّفعة وتلك الصُّحبة. أسأل الله جل وعلا أن يمتعنا وإياكم بصحبته بحبنا له، إنه ولى ذلك والقادر عليه.

صفات النبي صلى الله عليه وسلم الخلقية

صفات النبي صلى الله عليه وسلم الخلقية في هذه الليلة نعيش مع النبي عليه الصلاة والسلام، وقد يقول قائل: كيف ستصف لنا النبي صلى الله عليه وسلم، والذي يصف النبي لابد أن يكون صحابياً عاش مع النبي، ونظر إلى النبي، وكلم النبي، وسمع النبي صلى الله عليه وسلم؟ وأقول: قد نقلت إلينا سنة الحبيب ونقلت إلينا أوصاف الحبيب، فكما نقل لنا الصحابة سنته وأحاديثه الشريفة، فإنه نقل إلينا بعضهم وصفه صلى الله عليه وسلم.

صفة صدره صلى الله عليه وسلم وعضلاته

صفة صدره صلى الله عليه وسلم وعضلاته كان النبي صلى الله عليه وسلم عريض الصدر، وهذا يدل على الفتوة والقوة، وكان له في صدره شعرات، وكان الشعر نازلاً ممتداً حتى السرة، يعني: كان الشعر كالقضيب من الصدر حتى السرة، وكان مشدود العضلات، فإذا كان في أرض المعركة، وصمتت الألسنة الطويلة، وخطبت السيوف والرماح على منابر الرقاب، وفي ساحة الوغى، كان الحبيب المصطفى يرفع صوته وينادي في وسط المعركة ويقول: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب) وهذا علي بن أبي طالب فارس الفرسان، وقائد القواد، رضوان الله عليه، الذي قال له النبي يوم خيبر: (سأعطي الراية غداً رجلاً يفتح الله على يديه، يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله) علي رضوان الله عليه كان يفخر ويقول: محمد النبي أخي وصهري وحمزة سيد الشهداء عمي وجعفر الذي يمسي ويضحي يطير مع الملائكة ابن أمي وبنت محمد سكني وزوجي منوط لحمها بدمي ولحمي وسبطا أحمد ولداي منها فأيكم له سهم كسهمي فـ علي فارس الفرسان وهو الذي فتح الله على يديه حصون خيبر كان يقول رضي الله عنه: (كنا إذا حمي الوطيس، واشتدت المعركة، اتقينا برسول الله) أي: كنا نحتمي برسول الله صلى الله عليه، فكان الحبيب مشدود العضلات قوياً، إذا دخل في أرض المعركة وميادين النزال، كان الصحابة رضوان الله عليهم يتقون به من شدة الضربات، وأنتم تعلمون ماذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين، وماذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وماذا فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر.

صفة مشيه صلى الله عليه وسلم والتفاته

صفة مشيه صلى الله عليه وسلم والتفاته كان صلى الله عليه وآله وسلم إذا مشى كأنما ينحط من صبب يعني: كأنه حجر كبير نازل من فوق، وكان إذا التفت التفت جميعاً يعني: كان لا ينظر من طرف بل كان يلتف كله، وهذه من علامات التواضع، فأنت إذا نادى عليك أحد فلا تنظر من طرف، (ثاني عطفه) لا، بل التفت بكليتك على من يناديك كما كان يفعل الحبيب صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على تواضعه صلى الله عليه وآله وسلم، ومن تواضع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يأتي الصحابي ويركبه وراءه على حمار واحد، تواضع ما بعده تواضع، تجد الواحد في عصرنا وفي زمننا راكب عربية أو طيارة وهو راكب في الكرسي الخلفي لوحده، ويستعظم أن يركب معه شخص آخر! وهذا حمار يركبه النبي صلى الله عليه وسلم ويردف وراءه الفضل بن العباس، وكذلك عبد الله بن عباس، ومعاذ بن جبل يقول: (كنت رديف النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوماً ليس بيني وبينه إلا مؤخرة الرحل). وكان صلى الله عليه وسلم يخفض طرفه، يعني: كان نظره إلى الأرض أكثر من نظره إلى السماء، انظر إلى تواضعه صلى الله عليه وسلم!. فأنت أيها المسلم! انتبه لا تتعال ولا تتبختر، كن متواضعاً، كن ذليلاً لله، اللهم ارزقنا الذل لك، كن منكسراً لله حتى يرفعك الله؛ لأنه من تواضع لله رفعه، فإذا منّ الله عليك بمال فتواضع كثيراً، وإذا من عليك بعلم فانكسر واخضع له سبحانه، وإذا من عليك بحب في قلوب العباد فقل: يا رب سلم سلم، يا رب أحسن الخاتمة، احذر الغرور بالنفس، فالنفس أمارة بالسوء كما قال الله: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف:53] اجعلها دائماً ذليلة لله، كلما تحدثك بأمر فيه خطر فقل لها: لا، فلا غرور، لا عجب، لا كبر، ولا تمتن على الناس، يقول الله عز وجل: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17]، {كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا} [النساء:94].

صفة عرقه صلى الله عليه وسلم ورائحته

صفة عرقه صلى الله عليه وسلم ورائحته أخرج الإمام أحمد والبيهقي عن علي بن أبي طالب قال: (كان العرق في وجهه صلى الله عليه وسلم كحبات اللؤلؤ)، وكذلك عندما كان الوحي ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم كان شديداً، ففي مرة من المرات نزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم وركبة النبي صلى الله عليه وسلم على ركبة أحد الصحابة، فقال ذلك الصحابي: (أحسست أن جبلاً نزل علي من ثقل ما يتنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وكذلك في اليوم شديد البرودة عندما ينزل الوحي ترى العرق يتناثر على وجه النبي صلى الله عليه وسلم كحبات اللؤلؤ، وهذا مع شدة البرد! أما ريح عرقه صلى الله عليه وسلم فقد كان أطيب من ريح المسك، فعلى المسلم أن يكون حريصاً على نظافة ثوبه، وجمال لحيته، وترجيل شعره، وطيب رائحة بدنه، فأنت بهذا تقتدي بالحبيب صلى الله عليه وسلم، النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن يخرج إلى الناس إلا بعد أن يتجمل ويتزين ويتطيب عليه الصلاة والسلام، وينظر في المرآة ويسرح شعر اللحية، وكان إذا سافر أخذ معه السواك والمرآة والمشط والمكحلة، ويقول عليه الصلاة والسلام: (من كان له شعر فليكرمه) انظر! الإسلام دين جمال! ليس ديناً مهملاً للنظافة، فيا أخي! كن جميل المنظر، طيب الرائحة دائماً، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان جميلاً في كل شيء، ولما سئل قال: (إن الله جميل يحب الجمال) فكان عرق النبي صلى الله عليه وسلم أطيب من ريح المسك؛ لأنه كان يكره أن تشم منه رائحة خبيثة، روى الإمام مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عندنا -يعني: نام عندنا وقت القيلولة- فعرق النبي عليه الصلاة والسلام، فجاءت أم سليم رضوان الله عليها بقارورة، وجعلت تسلت العرق في القارورة، فاستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم وقال لها: يا أم سليم! ما هذا الذي تصنعين؟! قالت: يا رسول الله! عرقك نجعله في طيبنا، هو أطيب طيبنا) يعني: أطيب الطيب عرقك! فهي فعلت ذلك لأجل أن تدهن وتطيب بعرق النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ولقد روى الإمام مسلم أيضاً عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: (مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم على خدي، فوجدت ليده برداً ورائحة، كأنما أخرج يده من جؤنة عطار) وكان سيدنا جابر شاباً صغيراً، فمن السنة إذا لقيت طفلاً صغيراً أن تمسح رأسه وتلاعبه، قوله: (كأنما أخرج يده من جؤنة عطار) يعني: كأنه أخرج يده من وعاءٍ فيه طيب. وهذا ابن عباس بات عند خالته ميمونة ذات ليلة؛ لينظر إلى صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الليل، فتظاهر ابن عباس بالنوم، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قام وتوضأ وصلى، فقام ابن عباس وتوضأ وصلى خلف النبي عليه الصلاة والسلام، فقام النبي صلى الله عليه وسلم وجعله عن يمينه، فلما أوقفه عن يمينه قام ابن عباس ورجع للوراء، فبعد أن انتهى النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (إيه يا ابن عباس! ما لي أجعلك بإزائي فتخنس؟! فقال له: يا رسول الله! لا يجوز لأحد أن يقف بإزائك وأنت رسول الله)، يعين: كيف أقف بجانبك وأنت رسول الله؟! فـ ابن عباس مع صغر سنه يصنع هذا الصنيع! فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن مد يده إلى أذن ابن عباس وفركها فركاً يسيراً ودعا له، ففي رواية البخاري قال صلى الله عليه وسلم: (اللهم فقه في الدين) وعند أحمد: (اللهم فقه في الدين وعلمه التأويل) وفي رواية أخرى يقول ابن عباس: (فضمني النبي إلى صدره وقال: اللهم علمه التأويل) فاستجاب الله لحبيبه صلى الله عليه وآله وسلم. وكذلك عندما وضع النبي صلى الله عليه وسلم على صدر الشاب الذي استأذنه في الزنا فأحس الشاب ببرد كفه صلى الله عليه وآله وسلم على صدره. وفي الصحيحين من حديث أنس قال رضوان الله عليه: (ما مسست حريراً ولا ديباجاً ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شممت مسكاً ولا عنبراً أطيب من ريح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم). وعن أنس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مر في طريق من طرق المدينة قال الناس: لقد مر اليوم من هاهنا رسول الله)، ولم يكن ذلك إلا لـ مصعب بن عمير قبل أن يسلم بمكة، فما بالك بأستاذ مصعب صلى الله عليه وسلم، كان مصعب زهرة شباب قريش، وسيد الفتيان في مكة، وكان يضع على بدنه وثيابه أرقى أنواع العطور، فلما كان يمشي في طريق يقولون: مر من هذا الطريق مصعب بن عمير. فكان النبي عليه الصلاة والسلام إذا مشى في طريق من طرق المدينة، عُلِمَ أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد مر من هذه الطريق؛ وذلك لما يجدونه في الطريق من رائحة طيبة.

صفة لحيته وعنقه صلى الله عليه وسلم

صفة لحيته وعنقه صلى الله عليه وسلم كان صلى الله عليه وسلم كث اللحية، أي: ذا وفرة، وكانت لحيته تملأ صدره صلى الله عليه وآله وسلم، فهيا أيها المحب لحبيبك المصطفى قلده في كل شيء دون خوف من أحد، ورزقك على الله، وأجلك بيد الله، والأمر كله بيد الله جل وعلا، لا تظن أن إعفاءك للحية سيعوق تحركك في الدعوة لدين الله عز وجل، لا والله، لو كان الأمر كذلك لما فعله المصطفى صلى الله عليه وسلم في وقت كان أحوج فيه إلى أن يدعو الناس لدين الله عز وجل، فلا تتنازل أبداً عن أمر من أمور هذا الدين، ونحن لا نقسم الدين إلى قشور ولباب، ولكنني أتفق تماماً مع أحبابي وإخواني الذين يقولون بفقه الأولويات في أمر الدعوة إلى الله عز وجل، إذ إنه لا يجوز لك أبداً أن تمر على أناس جلسوا يشربون الخمر، فإذا ما قاموا بين يديك ووجدت ثوب أحدهم طويلاً يجرجره على الأرض، فهنا ليس من الفقه أن تقول له: يا أخي! ثوبك طويل قصر الثوب؛ لأن إطالة الثياب حرام، لكن وهو يشرب الخمر الواجب أن تحذره من شرب الخمر، وتبين له حرمته؛ لأنها أعظم، وهذا اسمه: فقه الأولويات. كذلك إذا رأيت علبة سجائر مع شخص وكأس خمر، فليس من الفقه أن تقول: يا أخي! الدخان حرام، بل تبدأ بنهيه عن شرب الخمر أولاً. فأنا مقتنع تماماً مع أحبابي وإخواني الذين يقولون بفقه الأولويات، ولكنني أود أن أقول: شتان بين فقه الأولويات، وبين التحقير والسخرية من الفرعيات والفقهيات! فإن الذي جاء بالكل هو الذي جاء بالجزء صلى الله عليه وآله وسلم. إذاً: يا أحباب! النبي صلى الله عليه وسلم كانت له لحية كبيرة تملأ صدره، فما عليك إلا أن تتوكل على الله ولا تخف، وأطلق لحيتك ولا تحتج بأي شيء، وكن على يقين بأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك. وكذلك لو أكرمك الله بابن ملتزم وأطلق اللحية، فاترك الخوف عليه، ولا تقف حجر عثرة أمامه، لا تكن حجر عثرة في طريق التزام ولدك، وأسأل الله أن يرزقنا وإياكم الاتباع بكل صوره وأشكاله، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أما عنق النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان عنقه كإبريق فضة من شدة البياض صلى الله عليه وسلم.

صفة حاجبيه صلى الله عليه وسلم

صفة حاجبيه صلى الله عليه وسلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان طويل الحاجبين من غير التقاء، يعني: أن حاجبي النبي صلى الله عليه وسلم كانا غير ملتقيين، أي: كان هناك فراغ بينهما، فمن كان حاجباه هكذا فليحمد الله. وكان بين حاجبيه عرق، وهذا العرق كان يظهر إذا غضب النبي صلى الله عليه وسلم.

صفة أنفه صلى الله عليه وسلم

صفة أنفه صلى الله عليه وسلم كان النبي صلى الله عليه وسلم أقنى الأنف، أي: طويل الأنف مع دقة الأرنبة، والأرنبة: هي الجزء الأسفل من الأنف أو الأعلى، يعني: لم يكن أنفه غليظاً ولا دقيقاً، ولم يكن طويلاً متدلياً إلى أسفل.

صفة فمه وخديه وشاربه صلى الله عليه وسلم

صفة فمه وخديه وشاربه صلى الله عليه وسلم كان صلى الله عليه وسلم أسلت الخدين، يعني: ليس فيه تجعدات، وكان ضليع الفم يعني: فم النبي عليه الصلاة والسلام كان فيه سعة، وإذا كان الرجل ضليع الفم فإنه يكون بليغاً مفوهاً، كان النبي أسلت الخدين، ضليع الفم، أشنب، يعني: كان له شارب. أما حكم الشارب من الناحية الفقهية فبعض أهل العلم كالإمام مالك يقول: لا يجوز حلق الشارب، بل قال: حالق الشارب يؤدب، لكنه قد خالف في ذلك كثيراً من أهل العلم، وأدلتهم صحيحة في هذه المسألة، إذ إنه ثبت عن عبد الله بن عمر رضوان الله عليه أنه كان يحلق الشارب حتى تظهر لحمة شفته العليا، وكان يتأول عبد الله بن عمر في ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (جزوا الشوارب) والجز في لغة العرب معناه: الاستئصال، فكان يستأصل الشعر، ويترك شاربه محلوقاً يظهر لحم الشفة العليا، أما بعض أهل العلم فقد تأول حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (قصوا الشوارب) فترك الشارب على حالته هذه، وقصه من أسفل حتى تظهر الحافة العليا للشفة العليا، حتى لا يتشبه باليهود والنصارى، فهم يطلقون الشوارب ولا يحفونها. والأمر فيه سعة، والخلاف في مسألة الحلق والترك خلاف معتبر كما يقول علماء الأصول، أما فعل النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان يحفه دائماً من أعلى، بحيث تظهر حافة الشفة العليا له صلى الله عليه وآله وسلم. إذاً: كان ضليع الفم، أشنب، مفلج الأسنان يعني: الأسنان كانت غير متلاقية، بين كل سن وسن فرق جميل، وهذا أطيب للفم وأجمل. وكان إذا رئي وهو يتكلم ظن الناظر إليه أن نوراً يخرج من بين ثناياه صلى الله عليه وسلم، وهذا الوصف رواه الإمام الترمذي من حديث ابن عباس وهو حديث حسن.

صفة عينيه صلى الله عليه وسلم

صفة عينيه صلى الله عليه وسلم كان النبي صلى الله عليه وسلم أدعج العينين يعني: شديدة سوادهما، كأن في عينيه كحلاً عندما تراه من بعيد، وإذا اقتربت منه فإنك لا ترى شيئاً من الكحل. فهذا جابر بن سمرة رضي الله عنه وصف النبي صلى الله عليه وسلم وصفاً كاملاً، يقول: (كنت إذا نظرت إلى رسول الله قلت: أكحل العينين وليس بأكحل) يعني: تراه كأنه مكحل وليس بأكحل. وبالمناسبة لا حرج على الرجل أن يضع كحلاً في عينيه؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يكتحل بالإثمد، وورد في معجم الطبراني بسند حسنه بعض أهل الحديث أنه قال: (عليك بالإثمد) وهو نوع من أنواع الكحل لونه أحمر. (عليكم بالإثمد؛ فإنه أجلى للبصر، وأنبت للشعر) إذاً: فلنكتحل بالإثمد من باب العلاج حتى لا يتساقط الشعر، ولا تتعب العيون، ما دام فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فلنفعل، (عليكم بالإثمد؛ فإنه أجلى للبصر، وأنبت للشعر).

صفة شعره صلى الله عليه وسلم

صفة شعره صلى الله عليه وسلم كان شعر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس بالجعد القطط -أي: خلاف السبط من الشعر- وليس بالناعم الملفت للنظر، وتوفاه الله عز وجل وهو ابن ثلاث وستين سنة، وليس في شعر رأسه ولا في شعر لحيته إلا عشرين شعرة بيضاء، والحديث رواه مسلم، انظر إلى السيدة عائشة رضي الله عنها تعد الشعرات البيض في لحية ورأس النبي صلى الله عليه وآله وسلم! وفي ليلة من الليالي وكانت الليلة لـ عائشة رضوان الله عليها، نامت وقام النبي عليه الصلاة والسلام يصلي، فقامت عائشة من النوم وقامت تبحث عنه صلى الله عليه وسلم، والنبي عليه الصلاة والسلام كان له أكثر من زوجة، وظنت أنه صلى الله عليه وسلم ذهب إلى زوجة أخرى في ليلتها؛ فتحسست النبي عليه الصلاة والسلام فوجدته ساجداً يبكي بين يدي الله عز وجل قالت: (أنا في شأن وأنت في شأن يا رسول الله! فالنبي لما انتهى قال: أغرت يا عائشة؟! فقالت: أو لا يغار مثلي على مثلك يا رسول الله! وليلتي ما أفرط فيها أبداً)، يعني: كيف لا أغار على مثلك يا رسول الله! وابيض من شعر رأسه وشعر لحيته صلى الله عليه وسلم عشرون شعرة، وفي رواية: لما سئل قالوا له: (يا رسول الله! ما الذي أظهر فيك الشيب؟! فقال صلى الله عليه وسلم: شيبتني هود وأخواتها) ما الذي نزل عليه في سورة هود؟ نزل عليه قوله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود:112] الله أكبر! الله ربنا يقول للنبي: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ) هذه آية شيبت رسول الله: (شيبتني هود وأخواتها) أخواتها مثل سورة التكوير: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير:1]، {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ} [الانفطار:1] (الحاقة) (القارعة) (الواقعة) هذه السور هي التي شيبت النبي صلى الله عليه وسلم، النبي يا إخوان! كان إذا سمع رعداً أو برقاً يخاف ويرتعد، ففي سنن الترمذي بسند حسن من حديث عائشة قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمع رعداً يدخل ويخرج ما يقعد، كانت تنظر إليه عائشة وهو على هذه الحال فتقول: يا رسول الله! مالك؟! فيقول: أخشى أن يكون الله عز وجل قد أمر إسرافيل بالنفخ في الصور)، أنا أخاف أن تقوم القيامة، إنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومع ذلك يخاف! وفي رواية: (والذي نفسي بيده لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيراً ولضحكتم قليلاً) يعني: لو تعرفون الذي أعرفه لخفتم ولبكيتم من خشية الله؛ وذلك لأنه رأى الجنة والنار.

صفة وجهه صلى الله عليه وسلم

صفة وجهه صلى الله عليه وسلم نبدأ بوجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أخي الحبيب! عش معي بروحك وقلبك لعل الله أن يجعلنا نعايشه بأرواحنا وقلوبنا وأبداننا. صفة وجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ورد فيه الحديث الذي رواه الإمام البخاري من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه يقول: (كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجهاً، وأحسن الناس خلقاً، ليس بالطويل البائن ولا بالقصير). لن نقف الآن عند الطول والقصر ولكن سنقف عند وجهه صلى الله عليه وآله وسلم. (كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجهاً) يعني: كان وجه الحبيب مشرقاً منيراً. ابن عباس يقول: (إن للحسنة نوراً في الوجه)، هذا في الرجل العابد عندما يقوم بفعل طاعة، وبفعل حسنة؛ يكون له نور في وجهه وإشراقة، وكأن عليه مسحة من النور والضياء. والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (نضر الله امرأً سمع مقالتي فحفظها -أو فوعاها- وبلغها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع) يعني: تبقى هناك نضرة على وجه الطائع، والنضرة: هي الإشراقة والنور. ومستحيل أن يكون وجه الطائع الذاكر الزاكي كوجه العاصي المذنب الذي يتجرأ على الله بالمعاصي في الليل والنهار، محال ورب الكعبة! انظر إلى وجه قسيس يحمل لحية كثة، وإلى وجه موحد يحمل لحية ولو كانت قليلة، سترى الفارق الكبير بين وجه تعفر في التراب ذلاً لله، وبين وجه تجرأ على ملك الملوك جل وعلا بالمعصية في الليل والنهار، فما بالك بوجه الحبيب الذي فطره الله على التوحيد وجبله الله على الطاعة؟! بل وأكرمه وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فلذلك كان وجه الحبيب صلى الله عليه وسلم أحسن الوجوه. وفي صحيح البخاري أيضاً: (كان صلى الله عليه وسلم إذا سر -أي: فرح- استنار وجهه كأنه قطعة قمر) سنعيش في هذه الليلة مع الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم، اللهم اجمعنا به في الجنة. وأخرج الدارمي والبيهقي عن جابر بن سمرة -والحديث حسن بشواهده- قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة أضحيان -أي: في ليلة مقمرة- فجعلت أنظر إلى النبي وأنظر إلى القمر، وأنظر إلى النبي وأنظر إلى القمر، وأنظر إلى النبي وأنظر إلى القمر، ثم قال رضي الله عنه: فوالله لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في عيني أحسن من القمر) إي والله! لأن القلوب امتلأت بحب الحبيب صلى الله عليه وسلم، كانت قلوب طاهرة وأوعية نقية ملئت بحب الحبيب. يا أخي! ما كان الواحد فيهم يصبر على أن يمر اليوم ولم ينظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، بعض الناس لما يخطب فتاة ويتعلق قلبه بها تراه كل يوم يريد أن يرى محبوبته، فما ظنك بهؤلاء الذين ملأ قلوبهم حب الحبيب صلى الله عليه وسلم، كان الواحد منهم يكون في البيت قاعداً مع زوجته ومع أولاده، ثم ما يلبث أن يتذكر النبي صلى الله عليه وسلم فيلبس ملابسه ويقوم خارجاً، فتقول له زوجته: إلى أين؟ فيقول: أريد أن أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقد تاقت نفسي لرؤيته، ويذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: (يا رسول الله! إذا كنت في بيتي فتذكرتك لا أصبر حتى آتي لأنظر إليك، وتذكرت موتك يا رسول الله! وعلمت أنك إذا مت رفعت في الجنة مع النبيين، وخشيت أني إذا دخلت أن أكون في منزلة أقل فلا أراك، فنزل قول الله جل وعلا: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69]) الله أكبر! لا تخف إذا أطعت الله وأطعت الرسول فستكون معه في الجنة. ففي حديث أنس الذي في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يحشر المرء مع من أحب)، وكان أنس بن مالك يقول: (اللهم إنك تعلم أني أحب رسولك وأحب أبا بكر، وأحب عمر؛ فاحشرني معهم وإن لم أعمل بعملهم) الله أكبر! احشرني مع هؤلاء وإن كانت أعمالي ليست مثل أعمالهم، ولكن بحبي له صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69] هل تستنكر على الصحابة أن امتلأت قلوبهم بحب الحبيب صلى الله عليه وسلم؟!! جذع النخلة يحن ويبكي لفراق الحبيب صلى الله عليه وسلم! وذلك عندما صنع له منبر من ثلاث درجات، ليراه الناس حين الخطبة، فلما صعد النبي عليه الصلاة والسلام على المنبر، وترك الجذع الذي كان يستند عليه بكى الجذع؛ لفراق رسول الله! إي والله يا إخوة! والحديث في الصحيح، تخيلوا حتى الجذع يعرف النبي صلى الله عليه وسلم، والحجارة أيضاً تعرفه صلى الله عليه وسلم كما في الحديث: (أحد جبل يحبنا ونحبه) الله أكبر!! حتى الحجارة؟! نعم. قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج:18]. إذاً: الحجارة وغيرها من الجمادات تعرف رب العزة وتوحده، انظر إلى السماء وارتفاعها، انظر إلى الأرض واتساعها، انظر إلى الجبال وعظمها، انظر إلى الأفلاك ودورانها، انظر إلى كل ما هو متحرك وإلى كل ما هو ساكن، والله إن الكل يقر بتوحيد الله، ويعلن الخضوع لله، ولا يغفل عن ذكر مولاه إلا كفرة الإنس والجن. كل شيء في الكون يعرف رب العزة، ويعرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ورد في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (والله إني لأعرف حجراً بمكة كنت إذا مررت عليه سلم علي قبل البعثة وقال: السلام عليك يا رسول الله) الله أكبر! الحجارة أحبت الحبيب، وكل المخلوقات إلا كفرة الإنس والجن. المؤمن العادي يحبه الله تعالى ويحببه إلى عباده المؤمنين كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أحب الله عبداً نادى جبريل وقال: يا جبريل! إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: يا أهل السماء! إن الله يحب فلان بن فلان فأحبوه، فيحبه أهل السماء)، فمن أحبه الله يكون محبوباً في السماء، ومعروفاً عند أهل السماء. كذلك من أحبه الله ذكره في الملأ الأعلى، النبي عليه الصلاة والسلام أمره الله أن يقرأ سورة البينة على أبي بن كعب، فذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي وقال له: (يا أبي! قال: نعم يا رسول الله! قال: لقد أمرني ربي أن أقرأ عليك سورة البينة، فنظر أبي إلى رسول الله، وقال: يا رسول الله! وهل سماني باسمي؟! قال: نعم، فبكى أبي، يقول بعض الصحابة: والله ما علمنا أن الفرح يبكي إلا من يومها! بكى من الفرح)، (يا جبريل! إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل وينادي: يا أهل السماء! إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء)، ولم يكتف بذلك، بل يقوم جبريل وينزل إلى الأرض وينادي: (يا أهل الأرض! إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل الأرض)، وفي رواية: (فيوضع له القبول في الأرض) اللهم اجعلنا وإياكم ممن يوضع له القبول في الأرض. أحد الشباب قال لي: هل أهل الأرض كلهم يحبونه؟! قلت له: لا، يقول سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم:96] قال ابن عباس: وداً أي: محبة في قلوب عباده المؤمنين، هل تريد من المنافقين وأهل المعاصي أن يحبوا أهل الإيمان؟! لا، ما يبغض المؤمن إلا منافق. إذا سمعت شخصاً يصرح ببغض المؤمن التقي الورع الصالح فاعلم أنه من أهل النفاق والعياذ بالله؛ لأنه لا يبغض أهل الإيمان إلا أهل النفاق، أعاذنا الله وإياكم من النفاق، وجعلنا الله وإياكم من أهل الإيمان والتوحيد. فالمؤمن الله عز وجل يحبه، ويحببه إلى عباده، فكيف يكون حال الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم؟! فسيدنا جابر يقول: (فجعلت أنظر إلى النبي وأنظر إلى القمر فوالله لقد كان النبي عندي أحسن من القمر). وأخرج مسلم عن جابر بن سمرة رضي الله عنه أيضاً قال: (كان وجه رسول الله كالشمس مستديراً) وجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم مدور مشرق عليه الصلاة والسلام. وأخرج الدارمي والبيهقي والطبراني وأبو نعيم والحديث حسن بالشواهد من حديث الربيع بنت معوذ رضي الله عنها أنه قيل لها: صفي لنا رسول الله فقالت: لو رأيت النبي صلى الله عليه وسلم لقلت: إن الشمس طالعة! الله أكبر! وصفته رضي الله عنها كلمتين مختصرتين، يعني: لو رأيت النبي صلى الله عليه وسلم لقلت: إن الشمس أشرقت علينا بنورها وضيائها، وصف جامع مانع. أما لون وجهه صلى الله عليه وسلم فقد وصفه لنا الصحابة رضوان الله عليهم بقولهم: كان وجه النبي صلى الله عليه وسلم أزهر اللون، يعني: كان وجه النبي صلى الله عليه وسلم أبيض اللون مشرب بحمرة، وأظن أنه يوجد الآن منا من رأى الحبيب صلى الله عليه وسلم في المنام، وقد قال: (من رآني في المنام فقد رآني حقاً، فإن الشيطان لا يتمثل بي) أسأل الله أن يمتعنا برؤيته وإياكم في الدنيا والآخرة.

وصف أم معبد للنبي صلى الله عليه وسلم

وصف أم معبد للنبي صلى الله عليه وسلم أختم الحديث بوصف أم معبد، وذلك أنه مرّ النبي عليه الصلاة والسلام عليها ليلة الهجرة هو والصديق، ففي الهجرة جاع النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه وهما في طريق المدينة، فمرا على خيمة فوجدوا فيها امرأة وعندها نعجة مريضة هزيلة، فقام الصديق وقال لها: هل يوجد عندك أكل؟ قالت: لا والله ما عندي أكل، وكان من عادة العرب إكرام الضيف، هل عندك شراب؟ قالت: والله ما عندي، فالنبي عليه الصلاة والسلام نظر إلى النعجة فقال: (هل يوجد في هذه النعجة لبن؟ قالت له: لا، ليس فيها لبن، وإنما لم ترع مع الغنم لأنها مريضة غير قادرة على المشي، فقال لها: هل تأذني لي بحلبها؟ قالت: نعم، إن وجدت بها لبناً، فمسح عليه الصلاة والسلام على الضرع، وهمهم بكلمات؛ فدر اللبن في الضرع بأمر الله، وأمر أبا بكر أن يحلب والمرأة تتعجب! كيف درت باللبن مع أنه لم يقربها الفحل؟! وبعد أن حلبها قال النبي صلى الله عليه وسلم: اسق أم معبد فشربت، ثم قال: اشرب يا أبا بكر فشرب ثم شرب النبي صلى الله عليه وسلم آخرهم) وهذا من معجزاته صلى الله عليه وسلم. وهذا عبد الله بن مسعود رضوان الله عليه يقول: (إنكم لتعدون الآيات عذاباً، وكنا نعدها بركة على عهد رسول الله، فوالذي نفسي بيده! لقد كنا نجلس لنأكل مع رسول الله فنسمع تسبيح الطعام بين يديه)، إي والله! والحديث في صحيح مسلم. وأبو هريرة عندما خرج في يوم من الأيام وكان قد ربط الحجر على بطنه من شدة الجوع، يقول أبو هريرة: فمر علي الصديق فسألته عن آية من كتاب الله، والله ما سألته عنها إلا ليستتبعني فلم يستتبعني، وإنما أجابني عن سؤالي ومضى؛ لأنه لم يعلم بجوعي، ثم مر بي عمر فسألته عن آية من كتاب الله، والله ما سألته عنها إلا ليستتبعني، فأجابني ومضى ولم يفعل، يقول: فكنت جالساً فمر بي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، فقال لي: (أبا هريرة قلت: لبيك يا رسول الله! قال: الحق بي، يقول: فتبعت رسول الله فدخل إلى بيته فقال: هل عندكم من طعام؟ فقالت عائشة: نعم يا رسول الله! عندنا قدح فيه لبن أهدي لنا من فلان، يقول: ففرحت بذلك فرحاً شديداً، فقلت: سأشرب اللبن ويذهب ما بي من الجوع فقال لي: يا أبا هريرة ادع أهل الصفة) أهل الصفة: هم مجموعة من فقراء الصحابة كانوا يسكنون في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، كلما جيء بطعام للنبي صلى الله عليه وسلم أعطاهم منه، وأهل الصفة هم أضياف الإسلام، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال لـ أبي هريرة: (ائتني بأهل الصفة، يقول أبو هريرة فحزنت لذلك حزناً شديداً، وقلت: وما هذا اللبن في أهل الصفة؟! ثم إنه دعاهم فأتوا؛ فقال صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة! فقال: لبيك يا رسول الله، قال له: خذ القدح وأعطه واحداً واحداً حتى وشربوا جميعاً، يقول أبو هريرة: ثم نظرت في القدح فوالذي نفسي بيده وجدت القدح لم ينقص منه شيء، فقال لي الحبيب: أبا هريرة! قلت: لبيك يا رسول الله! قال: اجلس يقول: فجلست، قال: اشرب، قال: فشربت، ثم قال: اشرب مرة ثانية، فشربت ثم قال: اشرب؛ فشربت للمرة الثالثة، فبعد الثالثة قال لي: اشرب فقلت له: والله لا أجد له مسلكاً يا رسول الله! يقول: فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم القدح فجلس وشرب يقول أبو هريرة: فوالله بعدما شرب رسول الله رأيت القدح وكأنه قد زاد عن أوله!). إنها بركة الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم، فلقد قام أكثر من ثلاثمائة صحابي وتوضئوا من قدح صغير كما في الحديث الصحيح من حديث أنس قال: (فوالله رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم) هذا من بركة الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم. نعود إلى أم معبد تقول: لما رجع زوجي رأى أشياء غريبة، فقالت له زوجته: لقد مر بي رجل شكله كذا وعمل كذا فحكت له القصة. فلنسمع إلى أم معبد وهي تصف النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: رأيت رجلاً ظاهر الوضاءة، يعني: عليه نور، حسن الخلق أي: أن شكله جميل، مليح الوجه، إذا صمت علاه الوقار، وإذا تكلم سما وعلاه البهاء، حلو المنطق، أبهى الناس وأجملهم من بعيد، وأحلى الناس وأحسنهم من قريب، غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظراً -انظر إلى بلاغتها- له رفقاء يحفون به -قيل: هم الصديق رضي الله عنه وعبد الله بن أريقط وابن فهيرة الذين كانوا معه في الرحلة، وعبد الله بن أريقط كان مشركاً- إن قال استمعوا لقوله، وإن أمر ابتدروا أمره، صلى الله عليه وآله وسلم. من يدعي حب النبي ولم يفد من هديه فسفاهة وهراء فالحب أول شرطه وفروضه إن كان صدقاً طاعة ووفاء محبة النبي صلى الله عليه وسلم لها أركان يا إخوة! ومن أركان المحبة طاعة النبي في كل ما أمر، والانتهاء عن كل ما نهى عنه وزجر، وتصديق النبي في كل ما أخبر. ومحبة النبي يجب أن تكون أكثر من النفس والمال والولد، دون غلو وإفراط ودون تفريط. أسأل الله جل وعلا أن يجعلني وإياكم ممن أحبوا الحبيب، واقتفوا أثر الحبيب، وساروا على دربه، واتبعوا سنته، وأسأل الله أن يحشرنا في زمرته، وأن يحشرنا تحت لوائه، إنه ولي ذلك ومولاه. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

صفحات سود من تاريخ يهود

صفحات سود من تاريخ يهود تاريخ اليهود تاريخ أسود مظلم منذ قديم الزمان؛ فهم قتلة الأنبياء، وهم الذين نسبوا إلى الله عز وجل النقائص، فقد نسبوا لله الولد، واتهموا الله عز وجل بالبخل وبالفقر، إلى غير ذلك -تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً- ولا زال تاريخهم أسود إلى اليوم، فيجب الحذر والبراءة منهم.

مراحل الصراع بين أهل الحق واليهود

مراحل الصراع بين أهل الحق واليهود إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة؛ فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين. فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الأحبة الكرام! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم الكريم جل وعلا الذي جمعني وإياكم في هذا الجمع الطيب المبارك على طاعته أن يجمعني وإياكم في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! (صفحات سود من تاريخ يهود) هذا هو عنوان لقائنا هذا، وسوف ينتظم حديثنا تحت هذا العنوان في العناصر التالية: أولاً: اليهود ومراحل الصراع. ثانياً: أسئلة مريرة. وأخيراً: ما السبيل؟! فأعيروني القلوب والأسماع جيداً؛ فإن هذا الموضوع من الأهمية بمكان. أولاً: اليهود ومراحل الصراع. أيها الأحبة في الله! إن الصراع بين الحق والباطل صراع قديم بقدم الحياة على ظهر هذه الأرض، والأيام دُول، كما قال الله جل وعلا: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140]. ولا شك أننا نعيش الآن مرحلة الدولة فيها للباطل وأهله، وقد كان لهم هذا يوم أن انشغل عن الحق أهله؛ حيث تمكن أنجس وأحقر وأذل أمم الأرض من أبناء اليهود من إقامة دولتهم اللعينة الحقيرة على الثرى الطاهر في الأرض المباركة، وسيطروا على مسرى الحبيب محمد، وحرقوا منبر صلاح الدين، بل وهم يقومون الآن بحفريات خطيرة تحت المسجد الأقصى لهدمه وتدميره وإقامة ما يسمونه بالهيكل المزعوم!! وقد صرح أكبر حاخاماتهم في القدس بأنه لابد من هدم المسجد الأقصى؛ لإقامة ما يسمونه بالهيكل المزعوم، ثم قال: إن العرب سيغضبون أول الأمر، ولكن الأمر سيصبح عادياً بعد ذلك!! ورئيس الوزراء نتنياهو يصرح بمنتهى الوضوح ويقول: لا مجال الآن للحديث عن تقسيم القدس؛ فإن القدس عاصمة موحدة لإسرائيل!! يعلن بذلك الهوية اليهودية بمنتهى الصراحة والوضوح؛ في الوقت الذي لا زال فيه الكثيرون ممن ينتسبون لهذا الدين يجهلون هذه الطبيعة اليهودية أو يتجاهلونها على حد سواء.

التعريف باليهود

التعريف باليهود أريد أن أبين للجميع من هم اليهود؟! فأعيروني القلوب والأسماع جيداً: اليهود هم نسل الأسباط الإثني عشر: يوسف عليه السلام وإخوته، نزحوا إلى مصر بدعوة من نبي الله يوسف على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وأبوا أن يندمجوا مع الشعب المصري، وعزلوا أنفسهم عن المصريين على اعتبار أنهم من نسل الأنبياء، فتكاثر نسلهم، وهم يوصون بعضهم البعض بعدم الاختلاط، وبالعزلة؛ ليبقى لكل سبط من الأسباط نسله المتميز المعروف، فكرههم الشعب المصري ونبذهم، وزادت الهوة بين الشعب المصري وبين أبناء اليهود يوماً بعد يوم حتى سامهم فرعون مصر سوء العذاب.

اليهود واحتلال فلسطين

اليهود واحتلال فلسطين وفي الثاني من نوفمبر سنة ألف وتسعمائة وسبعة عشر صدر (وعد بلفور) بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين. وفي عام ألف وتسعمائة وثمانية وأربعين استطاع اليهود بخيانة مفضوحة أن يحتلوا ما يزيد على (78%) من الأرض، كل هذا كان في عام ثمانية وأربعين فقط، احتل اليهود هذا القدر من أرض فلسطين بحركة خيانية مفضوحة، وهكذا أسست لليهود دولة في قلب العالم الإسلامي، وساعدهم في ذلك الشرق الملحد والغرب الكافر، والأنظمة العربية الخائنة الضالعة في الخيانة، فأسست هذه الدولة، وأفرزت هذه الغدة السرطانية في قلب العالم الإسلامي!

حرص اليهود على إثارة النعرات القومية

حرص اليهود على إثارة النعرات القومية انظروا إلى الواقع على أرض أفغانستان، فما الذي دمر قوة أفغانستان؟! إنها النعرات القومية؛ فهذه طائفة كذا، وهذه قبيلة كذا!! إن النعرات القومية من أعظم الأخطار التي تبدد القوى؛ ولهذا استطاع اليهود عن طريق الجمعية الماسونية اليهودية العالمية التي تعرف بـ (جمعية الاتحاد والترقي) أن يثيروا النعرات القومية لعزل السلطان البطل عبد الحميد؛ لإخلاء الطريق، ولتلميع اليهودي العميل الخائن الوقح كمال أتاتورك -لا طيب الله ثراه- الذي مثل رأس الأفعى اليهودية في القضاء على الخلافة الإسلامية. ووقع هذا المجرم العميل الخائن معاهدة الذل والعار المعروفة بـ (معاهدة لوزان)، وقضى بذلك على الخلافة الإسلامية، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وهكذا أيها الأحبة الكرام! انقضت الخلافة، ولمع هذا اليهودي على أنه بطل قومي! حتى حاكاه كثير من زعماء العرب، وتمنوا أن يكونوا كأتاترك لا طيب الله ثراه، ولا ثرى كل من عاند وحارب دين الله جل وعلا.

النبي صلى الله عليه وسلم ويهود خيبر

النبي صلى الله عليه وسلم ويهود خيبر وفي السنة السابعة انطلق النبي صلى الله عليه وسلم إلى يهود خيبر المجرمين الذي تحصنوا بحصونهم المنيعة المنيفة، إلا أن الله عز وجل قد فتح الحصون على يد أسد الله الغالب علي بن أبي طالب الذي قال عنه النبي يومها: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه، وفي الصباح قال: أين علي بن أبي طالب؟ قالوا: يا رسول الله! إنه يشتكي وجعاً في عينيه، قال: ائتوني به، فجاء علي بن أبي طالب، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فمسح عينيه، فبرأت بإذن الله جل وعلا)، فاستلم الراية وانطلق، ففتح الله على يديه الحصون، ويومها هتف الحبيب المصطفى: (الله أكبر! خربت خيبر الله أكبر! خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين)، والحديث في الصحيحين. أيها الأحبة الكرام! وهكذا أجلى الله عز وجل اليهود من مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:62]، ومع ذلك لم يكتف اليهود بهذا، وإنما دبروا مؤامرة حقيرة لسم النبي صلى الله عليه وسلم وهو في خيبر، إلا أن الله عز وجل قد نجى حبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم.

اليهود والدولة العثمانية

اليهود والدولة العثمانية أيها الحبيب! لا زلت معك في مراحل الصراع الطويلة التي بلغت أوجها في العصر الحديث، وتدبر معي وانتبه جيداً! لم ينته العنكبوت اليهودي الوقح عن نسج خيوطه الدقيقة، وحبك مؤامراته الرهيبة التي بلغت أوجها في العصر الحديث بإفراز هذه الغدة السرطانية الخبيثة، وبوضع هذا المولود اللقيط الذي يُعرف الآن بدولة إسرائيل فوق الثرى الطاهر للأرض المباركة مسرى الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم. وضُعت هذه الدولة غُصة وشوكة في قلب العالم الإسلامي بعد أن نجح اليهود في القضاء على الخلافة الإسلامية، والقضاء على السلطان البطل عبد الحميد طيب الله ثراه، ذلكم الرجل الذي شوهت الصهيونية الحاقدة صورته، وانطلقت الببغاوات العجماء لتحاكي ما يمليه الأسياد من الشرق والغرب دون وعي أو إدراك! هذا الرجل العظيم الذي حاول معه اليهود بكل الوسائل والسُبل أن يبيع لهم أرض فلسطين فأبى؛ وباءوا بالفشل الذريع. لقد أرسل اليهود إلى السلطان عبد الحميد أول الأمر اليهودي الماسوني الثري قره صوه، فذهب إليه هذا اليهودي، وقال لسلطان الخلافة التي ضاعت: إني مندوب إلى جلالتكم عن الجمعية الماسونية؛ وجئت لأرجو جلالتكم أن تقبلوا خمسة ملايين ليرة ذهبية -انظروا إلى وسائل اليهود؛ فإنها لا تتغير بتغير الزمان والمكان- لتقبل جلالتكم خمسة ملايين ليرة ذهبية إلى خزينتكم الخاصة، ولتقبل مائة مليون ليرة ذهبية لخزينة الدولة؛ على أن تمنحوا لنا بعض الامتيازات في دولة فلسطين، فاستشاط السلطان غضباً، ونظر إلى الجالسين معه في مجلسه وقال لهم قولة عجيبة: أو ما تعرفون ما يريده هذا الخنزير؟! والتفت إليه بقوة وقال: اخرج عن وجهي أيها السافل! فخرج اليهودي, ولكن اليهود لا يملون، فقرر مؤسسُ الصهيونية العالمية الأول هيرتزل أن يذهب إلى السلطان بنفسه فذهب إليه هيرتزل بنفسه، وعرض عليه أن يبيع له فلسطين بأي ثمن، فرد عليه السلطان رداً عجيباً وقال: إن هذه الأرض قد امتلكها المسلمون بدمائهم، وهى لا تباع إلا بنفس الثمن!! ثم قال السلطان البطل: انصحوا الدكتور هيرتزل بألا يتخذ خطوات جدية في هذا الموضوع؛ فإنني لا أستطيع أن أتخلى عن شبرٍ واحدٍ من هذه الأرض؛ فهي ليست ملكي، ولكنها ملك شعبي الذي ضحى في سبيلها، وروى ترابها بدمائه، فليحتفظ اليهود بملايينهم، فإذا مزقت إمبراطوريتي يوماً فإنهم يستطيعون أن يأخذوا فلسطين بلا ثمن، أما وأنا حي فإن عمل المبضع في بدني أهون علي من أن أرى فلسطين قد بُتِرت من إمبراطوريتي، فإنني لا أستطيع أن أوافق على تشريح أجسادنا ونحن لا زلنا على قيد الحياة!!! هذا هو السلطان البطل الذي شوهوا صورته، ودرَّسوا صورته المقلوبة لأبنائنا وبناتنا، ولا زالت! وانطلق الببغاوات العجماء يرددون هذه الصورة المقلوبة في حق هذا السلطان خليفة المسلمين الذي أبقى الخلافة مدة طويلة لا يمكن أن تصدقونها اليوم بحال من الأحوال، إلا أنهم ما ملوا، واستطاعوا من خلال إثارة النعرات القومية أن يسقطوا السلطان عبد الحميد، وإثارة النعرات داخل البلاد خطر عظيم.

حكم النبي صلى الله عليه وسلم في يهود بني قريظة وسبب ذلك

حكم النبي صلى الله عليه وسلم في يهود بني قريظة وسبب ذلك وبعد ذلك أيها الأحبة! لعب يهود بني قريظة دوراً قذراً حقيراً داخل المدينة، فلقد حاصر الأحزاب المدينة من كل ناحية، وفي وقت حرج خطير نقض يهود بني قريظة العهد؛ فشكلوا تحدياً خطيراً للجبهة الداخلية في المدينة، فلما علم الرسول والمسلمون بذلك زُلزلوا زلزالاً عظيماً، حتى قام النبي يرفع يديه إلى الله، ويتضرع إليه بدعاء حار، ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن أبي أوفى قال: قام النبي يلجأ إلى الله ويقول: (اللهم منزل الكتاب! سريع الحساب! اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم). واستجاب الله دعاء حبيبه المصطفى؛ فأرسل الله جنوداً من عنده، ويا لها من قوة لا يعرف المسلمون إلى الآن قدرها! في زيارة لي إلى أميركا هاجت عاصفة من الريح فرفعت هذه العاصفة السيارات إلى عمارات في الطابق الرابع، قال القوي العزيز: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31]، ولكن المسلمون اليوم يخططون ويضعون الخطط السنوية والخطط الخمسية، ولكنهم يركعون للشرق والغرب! ولا يضعون ضمن خططهم أبداً قوة الملك جل جلاله!! أرسل الله على الأحزاب جنداً من الريح فاقتلعت خيامهم، وكفأت قدورهم، وأنزل الله الملائكة فألقت الرعب في قلوب الأحزاب، فتبعثروا في الصحراء كتبعثر الفئران! ونصر الله عبده، وأعز الله جنده، وهزم الله الأحزاب وحده، وانتهت المؤامرة، ونزل جبريل على النبي وهو لابس لباس الحرب، فقال جبريل عليه السلام: (يا رسول الله! أوقد وضعت لباس الحرب؟! فوالله! إن الملائكة لم تضع لباس الحرب بعد؛ فإني سائر أمامك الآن، قم -يا رسول الله! - بمن معك إلى يهود بني قريظة، فإني سائر أمامك أزلزل حصونهم، وأقذف الرعب في قلوبهم -والحديث في الصحيحين- فقام المصطفى وأرسل منادياً أن ينادي في الناس: من كان طائعاً مطيعاً فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة). فانطلق الصادقون المؤمنون من أصحاب سيد النبيين صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة، فحاصروا يهود بني قريظة حصاراً طويلاً، وأخيراً نزل اليهود المجرمون على حكم سعد بن معاذ الذي حكم فيهم بقتل الرجال، وسبي الذرية، وتقسيم الأموال، فلما حكم فيهم سعد بن معاذ بذلك التفت إليه المصطفى وقال: (لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سموات) وهكذا أخزى الله يهود بني قريظة.

إجلاء النبي صلى الله عليه وسلم يهود بني النضير وسبب ذلك

إجلاء النبي صلى الله عليه وسلم يهود بني النضير وسبب ذلك وفي السنة الرابعة دبر يهود بنو النضير مؤامرة حقيرة لاغتيال البشير النذير محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، فيوم أن انطلق إليهم النبي لتحصيل الدية جلس النبي صلى الله عليه وسلم إلى جوار جدار من جدران اليهود، وخلا اليهود المجرمون ببعضهم البعض وقالوا: لن نجد الرجل في مثل هذه الحالة، فمن منكم يقوم إلى صخرة كبيرة فيلقيها من فوق سطح هذه الدار على رأس هذا الرجل ليريحنا منه! فانبعث أشقى القوم عمرو بن جحاش بن كعب، وقال: أنا لها، فقام عمرو بن جحاش وصعد إلى سطح هذه الدار، وأتى بصخرة كبيرة ليلقيها على رأس سيد الرجال صلى الله عليه وسلم، ولكن: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]، فأطلع الملك عز وجل نبيه على المؤامرة، فقام النبي مسرعاً في الحال، وقام معه أصحابه رضوان الله عليهم. فلما أخبرهم بالخبر قالوا: يا رسول الله! لابد من إجلاء هؤلاء، فانطلق النبي مع أصحابه البررة الأطهار فحاصروا يهود بني النضير؛ فأخزاهم الله، وقذف الله في قلوبهم الرعب، وأجلاهم رسوله صلى الله عليه وسلم، وفيهم أنزل الله جل وعلا سورة الحشر بأسرها، وفيها يقول الحق جل وعلا: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ * وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ} [الحشر:2 - 3]. وهكذا أجلاهم الله جل وعلا ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

إجلاء النبي صلى الله عليه وسلم يهود بني قينقاع وسبب ذلك

إجلاء النبي صلى الله عليه وسلم يهود بني قينقاع وسبب ذلك بعد أن هاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة المنورة؛ ليقيم للإسلام دولة وسط صحراء تموج بالكفر، انتقل اليهود من الحرب السرية للنبي ولدعوته إلى الحرب السافرة المجرمة، فأعلنوا العداء للإسلام، بل وعلى دعوة الإسلام، بل وعلى رسول الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم. وتدبر معي! ففي أول معركة كبرى من معارك الإسلام والشرك وهي غزوة بدر الكبرى نصر الله المسلمين نصراً مؤزراً، وأعز الله جند التوحيد، وهزم الله جند الشرك، وتبعثر الجيش المشرك وسط الصحراء كتبعثر الفئران. وهنا غلت مراجل الحقد والغل والحسد في قلوب اليهود في المدينة، فقاموا بحملة إعلامية -وهذه طبيعتهم، وهذا أسلوبهم- خبيثة حقيرة للنيل والتقليل والتحقير من النصر الإسلامي في غزوة بدر، بل وقاموا ليثيروا الفتن والقلاقل، وليحرضوا المشركين في مكة للثأر من محمد وأصحابه. فتدبروا معي -يا شباب الصحوة- هذا التاريخ، واحفظوه واعلموه جيداً، فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم بمكر اليهود انطلق إليهم، وجمعهم في سوق بني قينقاع، وقال لهم المصطفى: (يا معشر يهود! أسلموا قبل أن يصيبكم ما أصاب قريشاً) فرد اليهود على النبي باستعلاء واستهزاء شديدين وقالوا: يا محمد! لا يغرنك من نفسك أنك هزمت أقواماً من قريش كانوا أغماراً لا يعرفون القتال؛ فإنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن القوم، وإنك لم تلق مثلنا! انظر إلى هذا المكر اليهودي المتمثل في قولهم: يا محمد! لا يغرنك أنك هزمت أقواماً من قريش كانوا أغماراً لا يعرفون القتال، فإنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن القوم، وأنك لم تلق مثلنا! فقام النبي صلى الله عليه وسلم وتركهم، وما لبث اليهود أن قاموا بمؤامرة حقيرة؛ فيوم أن انطلقت مسلمة أبية تربت في مدرسة النبي، وقد غطت وجهها وتسربلت بسربال الحياء والمروءة فجلست إلى صائغ يهودي في المدينة؛ لتشتري منه ذهباً، فأراد اليهود المجرمون من المسلمة أن تكشف عن وجهها، فأبت أن تكشف لليهود عن وجهها، فتسلل الصائغ اليهودي الوقح إلى المسلمة الأبية فعقد طرف ثوبها في ظهرها، فلما قامت المسلمة انكشفت سوأتها؛ فاليهود متخصصون في كشف السوءات والعورات!! فلما انكشفت سوءة المسلمة ضحك اليهود، وصرخت المرأة، وسمع صرخة المرأة رجل مسلم أبيّ تقي، فقام هذا المسلم إلى اليهودي فقتله. والله! إن القلب ليحزن، وإن العين لتبكي، وإنا لما حل بالمسلمين لمحزونون؛ فهذا رجل مسلم أبيّ يسمع صرخة مسلمة -لا أقول: انتهكت عورتها، بل انكشفت سوءتها- فقام على الفور؛ لأن دماء الرجولة ودماء الغيرة تحركت في عروقه، فقتل اليهودي، فشتان شتان بين مسلمة أبت أن تكشف لليهود عن وجهها، وبين متمسلمة في هذه الأيام كشفت عن معظم جسدها، وصارت ألعوبة في أيدي اليهود المجرمين من مصممي الأزياء على مستوى العالم، فأنزلوا المسلمة من على عرش حيائها، وأخرجوها من خدرها الطاهر الكريم؛ فصارت ألعوبة، فكشفت عن شعرها، بل وعن صدرها، بل وعن مفاتن جسدها، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وشتان شتان بين هذه المسلمة الأبية التي أبت أن تكشف عن وجهها لليهود وبين المسلمات الآن اللائي ارتمين في أحضان اليهود، واللائي ارتمين في أحضان الموضة اليهودية العالمية في هوليود!!! وشتان شتان بين رجل أبي سمع صراخ مسلمة فانقض على اليهودي المجرم فقتله وبين رجال رأوا أعراض أخواتهم تنتهك، ولكنهم كما قال الله: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر:22] فإنا لله وإنا إليه راجعون! وهكذا أيها الأحبة! انقض المسلم على اليهودي فقتله، فانقض اليهود على المسلم فقتلوه؛ فقام الحبيب المصطفى وقام الصادقون معه من الرجال الأطهار فحاصروا يهود بني قينقاع، وكان ذلك في شهر شوال من السنة الثانية للهجرة المباركة، حاصروهم خمسة عشرة ليلة؛ حتى نزل اليهود المجرمون على حكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فغنم المسلمون أموالهم، وأخرجوهم إلى أذرعات الشام.

اليهود ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم

اليهود ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم من الأراضي المباركة التي ابتليت بشرذمة قذرة نتنة عفنة من شراذم اليهود الممزقة: المدينة الطيبة مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فقد انطلق اليهود إلى المدينة، وهنالك في المدينة أعلنوا أن الله عز وجل قد وعدهم في التوراة أنه سيبعث نبياً، وبينت التوراة صفة النبي، بل وبينت الأرض التي سيبعث فيها هذا النبي، واستعلى اليهود بمبعثه، بل تعالوا بذلك على الأوس والخزرج، وانتظروا مبعث النبي، ظناً منهم أنه سيبعث منهم؛ فهم شعب الله المختار! وظلوا يتربصون هذه البعثة؛ ليرد لهم النبي المنتظر الملك من جديد، فبعث الله نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم من العرب لا من اليهود. وقام النبي يدعو الناس كافة إلى: (لا إله إلا الله)، ومن هذه اللحظة كفر اليهود برسول الله صلى الله عليه وسلم، بل وأعلنوا الحرب والعداء لدعوته منذ اللحظات الأولى، قال الله جل وعلا: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89]. وقال جل وعلا: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ} [البقرة:146] أي: يعرفون المصطفى محمداً صلى الله عليه وسلم: {كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:146]. فكفروا برسول الله وكذبوا به، ولما ذهب عبد الله بن سلام حبر اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم ونظر في وجهه؛ علم أنه وجه نبي ليس بوجه كذاب، فآمن بالنبي، وقال: يا رسول الله! اجمع بطون اليهود واسألهم عني، فجمع النبي اليهود وقال: (ما تقولون في عبد الله بن سلام؟) قالوا: هو سيدنا وابن سيدنا، فقام عبد الله بن سلام وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فقام اليهود وقالوا على لسان رجل واحد: هو سفيهنا وابن سفيهنا!! فاليهود لا عهد لهم ولا ذمة، فهم متخصصون في نقض العهود والمواثيق في التو واللحظة؛ إذ لا يستحي اليهودي أن يغير ميثاقه أو ينقض عهده، فلابد من معرفة هذه الطبيعة اليهودية الماكرة.

اليهود ونبي الله موسى عليه السلام

اليهود ونبي الله موسى عليه السلام لما أرسل الله نبيه موسى إلى فرعون بقوله سبحانه: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} [النازعات:17 - 19] رأى اليهود من بني إسرائيل في موسى حبل النجاة؛ فآمن به بنو إسرائيل، لعل الله ينجيهم من فرعون وملئه، فنجاهم الله جل وعلا، وشق لهم في البحر طريقاً يابساً، وأغرق فرعون وجنوده، وامتن الله عليهم بهذه النعمة فقال سبحانه: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ * وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} [البقرة:49 - 50]. فأكرمهم الله غاية الإكرام، ورزقهم بالمن والسلوى، ولما تركهم نبي الله موسى لمناجاة ربه جل وعلا؛ كفروا بالله سبحانه، وتمردوا على نبي الله هارون، وعبدوا العجل الذهبي من دون الله العلي جل وعلا!! فلما انطلق نبي الله هارون ليقول لهم: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي} [طه:90] ردوا عليه: {قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} [طه:91] فلما عاد إليهم نبي الله موسى ردوا عليه باستعلاء واستكبار وقالوا: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} [البقرة:55] ثم بعثهم الله جل وعلا من بعد موتهم لعلهم يشكرون، ولعلهم يتوبون إلى الله جل وعلا، ولكنهم عاندوا وأعرضوا وازدادوا كفراً، فرفع الله جل وعلا فوق رءوسهم جبل الطور كأنه ظلة تهديداً ووعيداً، فارتعدت قلوبهم، واضطربت نفوسهم، وأعطوا العهود والمواثيق من جديد، ولكنهم سرعان ما نقضوا العهود! فهذه -أيها المسلمون- هي طبيعتهم وجبلتهم التي لا تفارقهم ولن تفارقهم إلى قيام الساعة؛ فقد نقضوا العهد مع الله جل وعلا، ونقضوا العهد مع نبي الله موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، واعتدوا يوم السبت، فعاقبهم الله عز وجل فمسخهم قردة وخنازير كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ * فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:65 - 66]. وقال سبحانه في سورة المائدة: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة:60]. ثم أمرهم الله أن يدخلوا الأرض المقدسة مع نبي الله موسى، فكذبوا وعاندوا وأعرضوا وأبوا ورفضوا أمر الله عز وجل، فحكم الله عليهم بالتيه في الأرض أربعين سنة. وبعد هذه المدة الطويلة منّ الله عليهم فأدخلهم الأرض المقدسة، ولكنهم سرعان ما نقضوا العهد مرة أخرى مع الله جل وعلا؛ فبدلوا قولاً غير الذي قيل لهم. فاليهود لا عهد لهم ولا ذمة؛ فقد نقضوا العهد مع الله، ونقضوا العهد مع رسول الله موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام. ثم توالت عليهم الأنبياء تترى بعد نبي الله موسى، فكذبوا فريقاً من الأنبياء، وقتلوا فريقاً آخر، قال الله جل وعلا: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:87 - 88].

اليهود ونبي الله عيسى عليه السلام

اليهود ونبي الله عيسى عليه السلام أرسل الله عز وجل إليهم نبيه عيسى، فاتهموه منذ اللحظات الأولى بأنه ولد زنا، وأجمعوا على قتله، بل أعلنوا ذلك في صراحة ووقاحة، قال الله عز وجل حكاية عنهم في سورة النساء: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:157]. ولم يكتف اليهود المجرمون بما فعلوه مع نبي الله عيسى في حياته، بل دونوا افتراءاتهم عليه لأجيالهم المتلاحقة في كتابهم الخبيث الموسوم بـ (التلمود). وأكتفي بذكر فقرة واحدة من هذا الكتاب الفاجر الجنسي الوقح في حق نبي الله عيسى، تقول هذه الفقرة بالحرف الواحد: يسوع النصارى في لجات الجحيم بين الزفت والقطران والنار! وأمه مريم قد أتت به من الزنا!! وأعلن اليهود الحرب على التوحيد الذي جاء به نبي الله عيسى، وأعلنوا الحرب على الموحدين من أتباع عيسى عليه السلام؛ فسلط الله على اليهود من لا يرحمهم، فسامهم الرومان سوء العذاب، ومزقهم الرومان شر ممزق؛ فإذا هم أشتات وشراذم مبعثرة لا يخلو منهم مكان؛ لأنهم ساحوا في الأرض بعد ضربات الرومان المتلاحقة.

حقيقة اليهود

حقيقة اليهود يا شباب الصحوة! احفظوا مني هذا جيداً، واسمعوا هذا الشريط مراراً وتكراراً، وعمموا هذا الشريط على جميع أبناء الأمة؛ لتعرف الأمة تاريخ اليهود، فهؤلاء هم اليهود دون عهر سياسي أو دجل إعلامي. والله! ما وعد استالين هؤلاء اليهود بإنشاء وطن قومي لهم في فلسطين إلا ليتخلص من شرهم!! وما بحث لهم هتلر عن صندوق قمامة عالمي إلا ليطهر ألمانيا من رجسهم وقذرهم!! وأمريكا تعاني منهم اليوم ما تعاني!! ولكنها مغلوبة على أمرها؛ فاللوبي الصهيوني يخنق أنفاسها تماماً!! فهؤلاء هم اليهود الذين أفسدوا العالم ودمروه!! فاليهودي كارل ماركس كان وراء الشيوعية الملحدة التي أفسدت فطرة الإنسان!! واليهودي دور كايم كان وراء علم الاجتماع الذي قوض الأسرة!! واليهودي فرويد كان وراء علم النفس الذي أسس بنيانه على الجنس الفاضح!! واليهودي ساتر كان وراء الوجودية الإباحية الملحدة!! هؤلاء هم اليهود الذين فضحهم القرآن، وعرى نفسياتهم الخبيثة تعرية واضحة، وعددَ القرآن صفاتهم الدنيئة، والقرآن لا زال بين أيدينا يُتلى، لكن أين من يتدبر القرآن؟! لقد وضعت الأقفال على القلوب، ولا حول ولا قوة إلا بالله علام الغيوب.

بعض صفات اليهود المذكورة في القرآن الكريم

بعض صفات اليهود المذكورة في القرآن الكريم أيها الحبيب! هذه بعض الصفات التي ذكرها القرآن في اليهود: - اليهود متخصصون في الكذب على الله، قال عز وجل عنهم: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:30]. - اليهود اتهموا الله بالبخل فقالوا: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة:64] واتهموا الله بالفقر فقالوا: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181]- اليهود متخصصون في تكذيب الأنبياء وقتلهم، قال تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:87 - 88]. - اليهود متخصصون في أكل الربا والحرام والسحت، قال تعالى: {وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة:62 - 63]- اليهود متخصصون في نقض العهود والمواثيق، قال تعالى: {الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة:27]. - اليهود متخصصون في الإفساد في الأرض، قال جل وعلا: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [المائدة:64]. - اليهود أحرص الناس على حياة بأي ثمن، قال تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [البقرة:96]. - اليهود متخصصون في كتمان الحق والتلبيس والتضليل، قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:146]. - اليهود أجبن خلق الله عز وجل، قال الله تعالى: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ} [الحشر:14]. - اليهود ملعونون على ألسنة الأنبياء، قال جل وعلا: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78 - 79]. أيها الأحبة! هذه هي بعض صفات اليهود في قرآن الله جل وعلا؛ ولا يُنَبئِكَ عن اليهود مثلُ خبير، قال جل وعلا: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]. فهؤلاء هم اليهود يا زعماء العرب! يا زعماء المسلمين! فلابد من معرفة طبيعة اليهود قبل أن نمد إليهم أيدينا بالسلام المزعوم، وأنا أتساءل معكم أسئلة مريرة، وهذا هو عنصرنا الثاني.

سبب نسيان المسلمين لتاريخ اليهود المظلم

سبب نسيان المسلمين لتاريخ اليهود المظلم أسئلة مريرة: لماذا نسيت الأمة تاريخ اليهود والتاريخ بين أيدينا مسطور؟!! لماذا نسيت الأمة والحقائق معلومة للأحياء، بل وللأموات داخل القبور؟!! هذا سؤال يحتاج إلى A لماذا نسيت الأمة أو تناست تاريخ اليهود؟! والجواب -واحفظه جيداً، وعض عليه بالنواجذ- في كلمات قاطعة محددة: لأن المؤامرة على هذا الدين وعلى هذه الأمة قد حبكت تعليمياً وإعلامياً حبكاً دقيقاً محكماً!! فهم الذين وضعوا المناهج الدراسية لنا ولأبنائنا وضعاً دقيقاً؛ فشوهوا العقيدة، وزيفوا مفهوم لا إله إلا الله، ونحوا عن الحكم شريعة الله، وشوهوا التاريخ الإسلامي، ومجدوا في هذه المناهج الجاهليات الأرضية!! مجدوا جاهلية حورس!! وجاهلية مينا!! وجاهلية " خوفو "!! وما أدراك ما خوفو؟! إنهم لا زالوا يعبدون خوفو. علمونا في المناهج أن ماجلان عبقري وبطل الزمان، ولم نعلم أنه هو الذي أضرم في المسلمين النيران!! علمونا أن العلمانية هي الصراط المستقيم!! ومن يعرض عنها فإن له معيشة ضنكاً!! علمونا أن التمسك بالدين رجعية، وأن التمسك بالدين تخلف، وأن خليفة المسلمين هو الرجل المريض!! علمونا فلسفة الشك منذ نعومة أظافرنا، وحفظونا (أنا أشك، إذاً: أنا موجود) ولو صدق المجرمون لقالوا: (أنا أشك، إذاً: أنا دبوس!!). علمونا منذ اللحظات الأولى في هذه المناهج الدراسية حب جبران، والسوبر مان، وشكسبير، وسارتر وسيمون، وديبوفوار، وكل الوجوديات وما بها من أفكار، وأن هؤلاء هم الذين يقولون الحق وبه يعدلون!!! علمونا كيف يكون الاستسلام بذلٍ وعار!! بل وكيف يكون القبول للخروج من الأرض والديار!! ولا زال مسلسل خروج المسلمين من الأرض مستمراً إلى هذا النهار!! وقد بدأت أولى حلقات المسلسل -مسلسل خروج المسلمين من الأرض- في بلاد الأندلس، ثم في بلاد مورو في الفلبين، وهكذا في بخارى، وفي طشقند، وفي طاجكستان، وفي تركستان، وفي كشمير، وفي الصومال، وفي البوسنة، وفي الشيشان، وفي فلسطين، ولا زال المسلسل مستمراً إلى الآن!! إنه مسلسل دقيق كنتاج مسلسل دالاس، ولكن الفارق بين المسلسلين أن مسلسل خروج المسلمين من أرضهم وديارهم لا تتحرك له مشاعر الرأي العام العالمي؛ ولم لا؟! وقد وضع هذا المسلسل بدقة. إنه من تأليف وسيناريو الصهيونية والصليبية العالمية الحاقدة، ومن ألحان أبناء الماسون وأتباعهم العلمانيين، ومن إنتاج وإخراج الفاتيكان!!! والهدف من هذا المسلسل إخراج المسلمين من دينهم أو من على سطح الأرض، ولابد من معرفة هذه الحقائق، فلماذا نسيت الأمة تاريخ اليهود؟!

سبب انتصار اليهود على المسلمين

سبب انتصار اليهود على المسلمين سؤال مرير آخر يملأ قلبي مرارة، وحلقي غصة، هذا السؤال هو: لماذا انتصر اليهود وانهزم المسلمون؟! لماذا انتصر اليهود وهم لا يزيدون على بضعة ملايين، وانهزم المسلمون وهم يزيدون على ألف مليون؟!! والجواب -يا شباب الصحوة- في آية واحدة محكمة من كتاب الله جل وعلا، وهي قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]، فلما غيرت الأمة دين ربها وشريعة نبيها، وتخلت عن أصل عزها؛ أذلها الله لإخوان القردة والخنازير من أبناء اليهود. إنه الذل لليهود الذين يتلاعبون لا بالعالم الإسلامي بل بالعالم كله!! فاستوى المسلمون مع اليهود في المعاصي والبعد عن الملك، فترك الله المسلمين لليهود، فأذل اليهودُ المسلمين. وهذه سنة ثابتة، فإن الله لا يحابي أحداً من الخلق بحال مهما ادعى المدعي لنفسه من مقومات المحاباة. إنها سنن ربانية في الكون لا تتغير ولا تتبدل، ولابد أن يعيها المسلمون من جديد. أسأل الله جل وعلا أن يقينا جميعاً حر جهنم، وأن يتقبل منا جميعاً صالح الأعمال، وأن يقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

طرق الخلاص من تسلط أعداء الله على المسلمين

طرق الخلاص من تسلط أعداء الله على المسلمين الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه أتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين، أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام! بعد هذا العرض المر المؤلم لهذا التاريخ المسطور المعلوم يتساءل الشباب بل والمسلمون: ما السبيل؟! وما الحل؟! وأين الطريق؟! وهأنذا أوجز هذا السبيل أو مشروعَ الخلاص، وأتمنى أن يتبنى زعماء العرب الذين يعقدون كل عام قمة هذا المشروع؛ ليسعدوا في الدارين: في الدنيا، والآخرة، ولتسعد بهم أمتهم، وليسعدوا أمتهم، وليعيشوا في عز وشرف وكرامة وشهامة ومروءة ورجولة، وأتمنى أن لو أسمعت هؤلاء جميعاً هذا المشروع؛ فإن هذا المشروع هو للخلاص من هذا المأزق الحرج، والواقع المر الأليم! أوجز الكلام في نقاط محددة: أولاً: أن ترجع الأمة إلى الله جل وعلا بتصحيح العقيدة والعبادة، وتحكيم شريعة الملك التي غابت أو غيبت، وتقويم الأخلاق، وتحويل الإسلام إلى منهج عملي وواقع حياة؛ إذ لابد أن تصطلح الأمة مع الله، وأن تعود الأمة إلى الله، وأن تتوب الأمة إلى الله، وأن تصحح عقيدتها وعبادتها، وأن تحكم شريعة الملك المغيبة، وأن تصحح وتقوم أخلاقها. ثانياً: أن تصطلح الأمة مع شبابها الطاهر المتوضئ المؤمن الذي تصب الأمة الآن على رأسه جام غضبها، في الوقت الذي تكرم فيه الساقطين والتافهين ممن سيفرون ساعة الجد كفرار الفئران! فلابد أن تعرف الأمة قدر الشباب الطاهر الذي سيقف في الميدان إذا جد الجد، فلابد من الصلح معه؛ فإن أمة تتحدى شبابها الطاهر أمة خاسرة لا كيان لها ولا بقاء. هذا الشباب هو المحرك الحقيقي، وهو الذي دفع اليهود المجرمين أن يجلسوا مع عرفات على مائدة المفاوضات؛ وقد صرح بذلك علناً فقال: لولا حماس لما جلس اليهود معي على مائدة المفاوضات. هذا الشباب وهذه الصحوة وهذه الألوف المؤلفة هي مصدر الفزع والقلق والرعب لأعداء الله جل وعلا؛ بل قد صرح اليهود بذلك وقالوا: لقد استطعنا بجهودنا وجهود أصدقائنا في المنطقة أن يظل الإسلام بعيداً عن حلبة الصراع، ولابد أن يبقى الإسلام بعيداً عن حلبة الصراع!!! فيا إخوة! ويا مسلمون! الصراع بيننا وبين اليهود ليس صراع أرض وحدود، ولكنه صراع عقيدة ووجود؛ فهم يقولون: لابد أن يبقى الإسلام بعيداً عن حلبة الصراع، ولابد أن يكبل الشباب المسلم، وأن يبتعدوا تماماً عن أرض المعركة؛ لأنهم يعرفون أن هؤلاء هم الصادقون الذين إن دخلوا المعركة سدوا فوهات المدافع بصدورهم، فهم يريدون الشهادة في سبيل الله جل وعلا. اللهم ارزقنا الشهادة في سبيلك، اللهم ارزقنا الشهادة في سبيلك، اللهم ارفع علم الجهاد، اللهم ارفع علم الجهاد، واقمع أهل الزيغ والفساد برحمتك يا أرحم الراحمين! فلابد من أن تصطلح الأمة مع شبابها؛ فإذا ما جد الجد؛ وقف هؤلاء الأطهار، وبينوا للأمة من الذي ينبغي أن يرفع فوق الأعناق والرءوس، ومن الذي يجب أن يقام عليه حد الله جل وعلا. ثالثاً: لأجل الخلاص لابد أن ترفع الأمة علم الجهاد، والله! لا عز للأمة إلا بالجهاد، فليرفع راية الجهاد حاكم مسلم واحد، وليترك التلفاز يوماً واحداً لداعية صادق أو لعلماء الإسلام المخلصين؛ فوالله! لو أن هذا الحاكم رفع راية الجهاد، وتعاون مع العلماء؛ لجيش له العلماء ملايين الشباب ممن تحترق قلوبهم شوقاً للشهادة في سبيل الله، فليرفع راية الجهاد حاكم واحد، ولا يخش قوة الشرق ولا قوة الغرب، والله! إن هؤلاء من أجبن خلق الله، قال الله: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء:227]. فعلى الأمة أن ترفع راية الجهاد؛ لأنه لا عز للأمة إلا بالجهاد ضد هؤلاء المجرمين؛ لأنهم هم يعلمون قبل غيرهم حقيقة الجهاد؛ ولذا اجتهدوا طيلة السنوات الماضية على تنحية قضية الجهاد، وعلى إلغاء فريضة الجهاد، وعلى أن تقتل روح الجهاد في قلوب الأمة؛ لأنهم يعلمون أن مجلس الأمن وهيئة الأمم وحلف الأطلسي وجميع المحافل الدولية لن تعيد للأمة المكلومة جراحها، ولا بناءها، ولا أرضها، ولن يعيد للأمة عزها وشرفها إلا إذا رفعت الأمة ذروة سنام الدين: الجهاد في سبيل الله، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا تبايعتم بالعينة، ورضيتم بالزرع، وتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد في سبيل الله؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم).

الغلبة والظهور للحق

الغلبة والظهور للحق وأخيراً: فإني مع هذا كله أبشركم بوعد الله، فمهما انتفخ الباطل وانتفش وظهر كأنه غالب، ومهما انزوى الحق وضعف وظهر كأنه مغلوب؛ فإن الدولة في نهاية المطاف للحق وأهله؛ فإن هذا وعد الله، وهذا وعد رسوله المصطفى، قال جل وعلا: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81]. وقال جل وعلا: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173]. وفي الصحيحين عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، فيختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر، فينطق الله الحجر والشجر فيقول: يا مسلم! يا عبد الله! ورائي يهودي تعال فاقتله إلا الغرقد؛ فإنه من شجر اليهود). فهذا وعد الله عز وجل ووعد رسوله صلى الله عليه وسلم، فما علينا فقط إلا أن نكون جنداً لله، وهأنذا أقول لكم أيها الشباب: احرصوا كل الحرص على أن تكثروا عدد المسلمين في المحاضرات واللقاءات العامة؛ فهذا أعظم دليل على وجود الصحوة، وعلى وجود الحركة للإسلام، وهذا المشهد لا تستهينوا به مطلقاً؛ فإنه يرعب أعداء الله جل وعلا، إن هذا المشهد غصة في حلوق المجرمين والمنافقين؛ فاحرصوا عليه، ليس لي فحسب، بل لكل إخواني من الدعاة، ولكل إخواني من العلماء الفضلاء المتضلعين بالعلم الشرعي الصحيح، فاحرصوا على الحضور، وجيشوا الطاقات بالنساء بالبنات بالشباب بالأطفال بكل ما تملكون من طاقة؛ لتبرزوا لأعداء الله أنه مهما وضعوا في طريقنا العقبات والحواجز والسدود فإننا نستلذ العذاب في سبيل الله، ونشهد الله جل وعلا على أننا نقوم في الليل ونتضرع إليه أن يرزقنا الشهادة في سبيله، فإننا لا نخشى -والله- الموت في سبيله، كما قال الشاعر: من لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحد اللهم العن اليهود، اللهم العن اليهود، اللهم العنهم بقولهم وفعلهم، اللهم العنهم بقولهم وفعلهم، اللهم شتت شملهم، اللهم مزق صفوفهم، اللهم مزق صفوفهم، اللهم املأ قلوبهم رعباً، اللهم املأ قلوبهم رعباً، وبيوتهم ناراً. اللهم عليك باليهود، اللهم عليك باليهود، اللهم عليك باليهود وأتباع اليهود ومن وراء اليهود. اللهم إنا نشكو إليك ضعفنا، اللهم إنا نشكو إليك ضعفنا وقلة حيلتنا وهواننا على الناس يا أرحم الراحمين! يا أرحم الراحمين! يا رب المستضعفين! يا رب المستضعفين! يا رب المستضعفين! اللهم انصر الموحدين، اللهم انصر الموحدين، اللهم انصر الموحدين. اللهم إنا نشكو إليك خيانة الخائنين، اللهم إنا نشكو إليك خيانة الخائنين، وإجرام المنافقين. اللهم اشف صدورنا بنصرة الإسلام وعز الموحدين. اللهم اشف صدور قوم مؤمنين، اللهم اشف صدور قوم مؤمنين، اللهم اشف صدور قوم مؤمنين، اللهم اشف صدور قوم مؤمنين. اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم انصر المسلمين في كل مكان، اللهم انصر المسلمين في كل مكان. اللهم اشرح صدور زعماء العرب للإسلام، اللهم اشرح صدور زعماء العرب للإسلام، اللهم اشرح صدور زعماء العرب للإسلام، اللهم وفقهم لتحكيم شريعتك، اللهم يسر لهم تحكيم شريعتك، اللهم يسر لهم تحكيم شريعتك. اللهم وفق علماء المسلمين لقولة الحق، اللهم وفق علماء المسلمين لقولة الحق. اللهم احفظ شبابنا، اللهم احفظ شبابنا، واستر نساءنا، وآمن روعاتنا، وفك أسرنا، وتول خلاصنا، واختم بالصالحات أعمالنا، اللهم اختم بالصالحات أعمالنا. اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، وبلغنا مما يرضيك آمالنا. اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر. اللهم إن أردت بالناس فتنة فاقبضنا إليك غير خزايا ولا مفتونين، ولا مفرطين، ولا مضيعين، ولا مغيرين، ولا مبدلين. اللهم يا مقلب القلوب! ثبت قلوبنا على دينك، اللهم يا مقلب القلوب! ثبت قلوبنا على دينك. ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة، إنك أنت الوهاب. اللهم اجعل مصر واحة للأمن والأمان، اللهم اجعل بلدنا مصر واحة للأمن والأمن، اللهم اجعل مصر سخاءً رخاءً وسائر بلاد الإسلام، اللهم ارفع عن مصر الغلاء والوباء والبلاء يا رب العالمين! اللهم اقبلنا وتقبل منا، وتب علينا؛ إنك أنت التواب الرحيم. أيها الأحبة الكرام! هذا وما كان من توفيق فمن الله، وما كان من خطأ أو سهو أو نسيان فمني ومن الشيطان؛ والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون عليه إلى الجنة ويلقى به في جهنم! وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه! والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين.

الحرب على الثوابت - دفاع عن الصحابة

الحرب على الثوابت - دفاع عن الصحابة يقوم أعداء الإسلام بحرب شرسة على ثوابت الأمة ومبادئها، وقد استأجروا لذلك شرذمة خاسرة من أبناء هذه الأمة؛ لتبرز في هذه الحرب بمظهر الناصح المشفق! إمعاناً في الكيد والمكر! وقد صوبوا سهامهم في مرحلتهم الأولى من هذه الحرب ضد رموز هذه الأمة وقادتها، ضد حملة الشريعة وحراسها، ضد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم وأرضاهم.

الهجمة الشرسة على الثوابت

الهجمة الشرسة على الثوابت إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة الفضلاء الأعزاء! وطبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم الكريم جل وعلا، الذي جمعني مع حضراتكم في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار مقامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! (الحرب على الثوابت) سلسلة منهجية جديدة أستهلها من اليوم بإذن الله تعالى، لأفند فيها شبهات حقيرة خطيرة تثار في عصر (الإنترنت) على أصول وكليات وثوابت هذا الدين، ومكمن الخطر أننا كنا قديماً نرد الشبهات على المستشرقين وعلى الملحدين، ولكننا اليوم نرد شبهات حقيرة وخطيرة على أيدي أناس كثيرين ممن يتكلمون بألسنتنا وينتسبون إلى الإسلام! فمكمن الخطر في هذه المرحلة، أن الذي يعلن الحرب على أصول وكليات وثوابت الإسلام هم رجال ينتسبون إلى الإسلام! بل ينتسبون من طرف خفي إلى العلم الشرعي! رجال من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا يثيرون شبهات حقيرة وخطيرة، لا على الفرعيات والجزئيات بل على الثوابت والأصول والكليات. فاستخرت الله رب الأرض والسماوات، لأبين هذه الشبهات، لا من منطلق أن الإسلام متهم، كلا، ولا من منطلق أنني أود أن أرفع من قدر الإسلام، كلا، وإنما لأرفع من قدر نفسي وقدر إخواني وأخواتي؛ لأن الإسلام باق، ومات أعداؤه منذ زمن، وسيموت الحاقدون الحاسدون على الإسلام، وسيبقى الإسلام شامخاً؛ لأن الذي وعد بحفظه وإظهاره على الدين كله هو الحي الباقي الذي لا يموت جل جلاله. وأستهل هذه السلسلة -التي أسأل الله أن ينفع بها وان يجعلها خالصة لوجهه الكريم- بالدفاع عن الأطهار، عن أصحاب النبي المختار صلى الله عليه وسلم؛ لأن هؤلاء بدءوا بإعلان الحرب على الصحابة؛ لغاية خبيثة سأبينها الآن لحضراتكم، وسأركز الحديث مع حضراتكم في هذا الموضوع الجليل في العناصر المحددة التالية: أولاً: دعاة على أبواب جهنم. ثانياً: مكانة الصحابة في القرآن والسنة. ثالثاً: وهل يسب الأخيار؟! وأخيراً: هم القدوة فاعرفوا لهم قدرهم. فأعيروني القلوب والأسماع أيها الأخيار الكرام! والله أسأل أن يجعلنا ممن يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ.

دعاة على أبواب جهنم

دعاة على أبواب جهنم أيها الأحبة! إن الدعاة ينقسمون إلى قسمين، وهذا التقسيم ليس من عندي، إنما هو من كلام الصادق الذي لا ينطق عن الهوى: دعاة على أبواب الجنة، أسال الله أن نكون منهم، ودعاة على أبواب جهنم، أعاذنا الله وإياكم من حرها. فمكمن الخطر أن الذي يعلن الحرب على ثوابت الدين هم دعاة على أبواب جهنم، وهم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، في الصحيحين من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: (كان الناس يسألون رسول الله عن الخير، وكنت أسأله عن الشر؛ مخافة أن يدركني -فقه عال رفيع من حذيفة - فقلت: يا رسول الله! إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير -أي: بالإسلام-، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، قلت -والقائل حذيفة -: فهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم وفيه دخن، قلت: وما دخنه يا رسول الله؟! قال: قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر، قلت: فهل بعد ذلك الخير -أي: الذي شابه الدخن- من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها، قلت: صفهم لنا يا رسول الله! فقال عليه الصلاة والسلام -وهو الذي لا ينطق عن الهوى، وكأن النبي يعيش عصرنا وقرننا، قرن الشبهات والشهوات، ويبين لنا هذا الصنف الخبيث النكد-: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا)، ليسوا من المستشرقين، لا، قد مضى زمنهم، وليسوا من الملحدين، لا، قد مضى زمنهم، بل هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا. وفي لفظ مسلم، وتدبر هذا اللفظ البديع في رواية مسلم، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس) ينكرون عذاب القبر تارة، وينكرون الأحاديث المتواترة في المهدي تارة، وينكرون نعيم القبر تارة، وينكرون شفاعة الحبيب تارة، بل وينكرون السنة بالكلية تارة، بل ويشككون ويثيرون الشبهات على القرآن تارة، بل ويشككون في الله تارة! وسأبين لحضراتكم بالدليل في كل لقاء مستقل شبهاتهم الحقيرة الخطيرة على هذه الأصول، على الصحابة، على السنة، على القرآن، على رب العزة، على عذاب القبر ونعيمه، على الأحاديث الثابتة عن النبي عليه الصلاة والسلام، على كل النصوص، سأبين لحضراتكم بالدليل أقوالهم وشبهاتهم الحقيرة الخطيرة على ثوابت هذا الدين. يثيرون الآن شبهات عفنة على من؟! على أطهر الخلق بعد الأنبياء، على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وقفت على كتابين، لا أقول: على مقالين بل على كتابين، لشيخ من شيوخ الضلالة، لشيخ أفاك أثيم، ولست في حاجة إلى أن أذكر اسم الكتابين الآن، وهذا فقه متين علمنا إياه الإمام مسلم رحمه الله في مقدمة صحيحه المبارك. مادام الكتاب ليس مشهوراً بين المسلمين، ولا بين كثير ممن يستمعون إلي الآن، فليس من الفقه ولا من الحكمة أن اذكر اسم الكتابين، فربما وقع على هذين الكتابين رجل مريض القلب، أو على الأقل رجل لا يحسن التعامل مع الأدلة ولا ما يناقضها، ولا يستطيع أن يقف على الأصول العلمية والقواعد الشرعية الثابتة، فيضل من حيث ندري أو لا ندري، نعوذ بالله من الخذلان، ونسأل الله أن يجنبنا وإياكم الفتن ما ظهر منها وما بطن. في هذين الكتابين الخبيثين يقول شيخ الضلالة هذا في حق الصحابة رضي الله عنهم بالحرف، وأنا أعي ما أقول تماماً حينما أقول: بالحرف، يقول في أحد كتابيه: (إن الصحابة كانوا يمثلون مجتمعاً متحللاً!). يقول عن مجتمع الصحابة، مجتمع الطهر: إنه مجتمع متحلل!: (إن الصحابة كانوا يمثلون مجتمعاً متحللاً مشغولاً بالرذائل والهوس الجنسي!). تصور! أن الصحابة الذين استولوا على نصف الأرض في وقت قصير من الزمان، لا يساوي في حساب الزمن شيئاً على الإطلاق، ثم يدعي أن هؤلاء الأطهار كانوا محبين للرذائل والهوس الجنسي! يعني: لا هم لهم إلا النساء، تصور أن هذا يقال عن الصحابة! ثم يقول هذا الدنيء الوضيع: (ولم تكن التجاوزات مقصورة على مشاهير الصحابة، بل تعدتهم إلى صحابيات معروفات!). ثم يقول في كتابه الثاني: (ولما كان التصاق الذكر بالأنثى والأنثى بالذكر طقساً يومياً من الطقوس الاجتماعية المعتادة في مجتمع يثرب، فقد اضطر محمد -رفعاً للحرج- أن يبيح لأصحابه أن يمروا بالمسجد وهم جنب). انظروا إلى كلماتهم الخبيثة التي تبين عقيدتهم وفساد طويتهم، ويأتي الإعلام العلماني الذي لا يرقب في الإسلام ولا في المسلمين إلاً ولا ذمة، يأتي على شاشات التلفاز وعلى صفحات الجرائد والمجلات بهذه الرءوس العلمانية التي أعلنت الحرب على الإسلام فيضخمها ويلمعها! ثم يأتي في المقابل ببعض رجال الدين ممن لا يحسنون عرض القضية، ممن يدافعون عن الشبهة من منطلق أن الإسلام متهم في قفص الاتهام! فتبدوا الشبهة للناس وكأن أصحاب الفكر العلماني أصحاب الشبهة هم المنتصرون، وكأن الإسلام برجاله قد هزم، وأنه بالفعل أن الإسلام متهم في قفص الاتهام، وهو يحتاج من العلماء من يذب عنه هذه الشبهات الحقيرة الخطيرة، التي لم يستطيعوا أن يقفوا للرد عليها أمام هؤلاء العلمانيين، أو إن شئت فقل: المثقفين والمتنورين، وممن يسمون الآن في بلاد المسلمين بالنخبة التي تشكل عقول الأمة الآن في عصر تقدم فيه الذئاب لرعي الأغنام! وراعي الشاة يحمي الذئب عنها فكيف إذا الرعاة لها الذئاب؟! وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأيام وصفاً دقيقاً كما في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد والحاكم، من حديث أبي هريرة: (سيأتي على الناس سنوات خداعات، يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة)، صدق المصطفى ورب الكعبة (وينطق فيها الرويبضة، قيل: ومن الرويبضة يا رسول الله؟! قال: الرجل التافه) وفي لفظ: (الرجل السفيه يتكلم في أمر العامة). لم يعد التافهون يتكلمون في أمر العوام، بل أصبح التافهون الآن يتكلمون في أمر الإسلام، لا بل في أصول وثوابت الإسلام، ولا حول ولا قوة إلا بالله! إنه زمان الفتن، فتن الشبهات التي أخبر عنها الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (ستكون فتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً، ويمسي كافراً -سلم يا رب! سلم-، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً! يبيع دينه بعرض من الدنيا زائل)، بعرض من الدنيا حقير، يبيع الدين بالدنيا الزائلة الحقيرة التافهة. اللهم! ثبت قلوبنا على دينك حتى نلقاك، يا مقلب القلوب والأبصار! ثبت قلوبنا على دينك يا عزيز يا غفار! الصحابة يساء إليهم بهذا القدر! أنا أتحدى هذا الدنيء الوضيع أن يسيء لقسيس، أتحداه أن يسيء إلى وزير أو إلى رئيس أو إلى أمير أو إلى ملك! لكن الصحابة في زمن قل فيه الرجال، أصبح هؤلاء الأقزام يتطاولون على هذه القمم الشماء، على قمم الطهر والشرف والكرامة. اسمعوا ماذا قال الإمام الحافظ الكبير أبو زرعة؛ لتقفوا على سر إعلان الحرب على الصحابة؟! لماذا بدءوا في إعلان الحرب على الصحابة، سؤال مهم وخطير، لماذا الصحابة بالذات؟! الجواب من الحافظ أبي زرعة يقول: (إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول حق، والقرآن حق، وما جاء به الرسول حق، والذي نقل إلينا كل ذلك هم الصحابة، وهؤلاء أرادوا أن يطعنوا في شهودنا وعدولنا؛ ليبطلوا القرآن والسنة). انظروا إلى كلام العلماء، لو شككت في أخلاقي لشككت فيما أنقله إليك من العلم، فالصحابة هم الذين نقلوا إلينا التركة المباركة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، نقلوا إلينا القرآن، نقلوا إلينا السنة، نقلوا إلينا أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الطعن في الناقل طعن في المنقول، إن ضيع الناقل ضاع المنقول، هؤلاء يريدون أن يهدموا الصحابة ليبطلوا القرآن والسنة. قال الإمام مالك: (من وجد في قلبه غيظاً على أحد من أصحاب النبي فقد أصابه قوله تعالى: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29]، وقرأ الإمام مالك قول الله جل وعلا: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح:29]). وقال الإمام الطحاوي في عقيدته المشهورة التي تلقتها الأمة بالرضا والقبول: (ونحب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وبالخير نذكرهم، ونبغض من يبغضهم، وبغير الخير يذكرهم، فحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان). أيها الأحبة الكرام! قفوا على هذا التفصيل المهم، لا يجوز البتة لرجل زائغ العقيدة مريض القلب مشوش الفكر أن يتكلم عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الحديث عن الصحابة يتطلب صفاءً في العقيدة، وإخلاصاً في النية، وأمانة في النقل، ودقة في الفهم، ونظرة فاحصة مدققة لأراجيف المغرضين والكذابين والوضاعين. وعلى أي حال أنا لا أرى لهؤلاء الأقزام مثلاً إلا كمثل ذبابة حقيرة سقطت على نخلة تمر عملاقة، فلما أرادت الذبابة الحقيرة أن تطير وتنصرف، قالت للنخلة: تماسكي أيتها النخلة! لأني راحلة عنك! فقالت لها النخلة العملاقة: انصرفي أيتها الذبابة الحقيرة! فهل شعرت بك حينما سقطت علي لأستعد لك وأنت راحلة عني؟! هل يضر السماء أن تمتد إليها يد شلاء؟! بل هل يضر السماء نبح الكلاب؟! لا والله، فإن الذي شهد للصحابة بالخي

مكانة الصحابة في القرآن والسنة

مكانة الصحابة في القرآن والسنة المناقب التي سأذكرها الآن لم ينلها الصحابة من هيئة مغرضة كذابة كمنظمة (اليونسكو) أو هيئة الأمم، أو حلف من الأحلاف، أو مجتمع ماسوني ضال مضل، لا، بل إن الذي عدّل وزكّى الصحابة هو الله، وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله ومن والاه. قال جل في علاه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]، المخاطب ابتداء بهذه الآية هم الصحابة: (كنتم) خطاب للصحابة ابتداء: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143]، المخاطب ابتداء بالآية هم الصحابة. وقال تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:172 - 174]. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال:74] هذه شهادة من الله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:74] وقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} [التوبة:100]. تدبر -أخي الحبيب- قوله تعالى: (رضي الله عنهم) الله رضي عن المهاجرين والأنصار، أثبت العزيز الغفار ذلك في قرآنه إلى يوم القيامة: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:100]. وقال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18]. وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4]. وقال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:8 - 9] والآيات في هذه كثيرة. وتأتي السنة ليبين صاحب السنة صلى الله عليه وسلم مكانة الصحابة، ففي الصحيحين من حديث ابن مسعود وعمران بن حصين أنه صلى الله عليه وسلم قال: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم). وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)، وفي الصحيحين من حديث أنس قال: (مروا بجنازة على النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس بين أصحابه فأثنوا عليها خيراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجبت، فمروا بجنازة أخرى فأثنوا عليها شراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجبت، فقال عمر: ما وجبت يا رسول الله؟! فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: أثنيتم على الأولى خيراً فوجبت لها الجنة، وأثنيتم على الثانية شراً فوجبت لها النار، أنتم شهداء الله في الأرض)، وكررها النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثاً: (أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض). وفي صحيح مسلم من حديث أبي موسى الأشعري: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر يوماً إلى السماء فقال: النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون). وفي صحيح مسلم أيضاً من حديث عائذ بن عمرو: (أن أبا سفيان مر على سلمان وصهيب وبلال، وهم من فقراء الصحابة، وأبو سفيان شريف من الأشراف وسيد من السادة، وفي المجلس أيضاً صديق الأمة الأكبر أبو بكر رضي الله عنه، فلما رأى فقراء الصحابة أبا سفيان يمشي قالوا كلمة شديدة، قالوا: والله ما أخذت سيوف الله من عدو الله مأخذها، فغضب الصديق لهذه الكلمة، وقال للصحابة: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟! وترك الصديق المجلس وانصرف إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبره بما قال الصحابة وبما قال هو، فاسمع ماذا قال رسول الله لـ أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، قال صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر! لعلك أغضبتهم -لعلك أغضبت سلمان وصهيباً وبلالاً، لعلك أغضبتهم فوالله إن كنت أغضبتهم فلقد أغضبت ربك عز وجل). إلى هذا الحد، إلى هذا القدر، (لعلك أغضبتهم، فلئن كنت أغضبتهم فلقد أغضبت ربك عز وجل)، فوالله، ثم والله، ثم والله، ما كان حديثاً يفترى، ولا كلاماً يتردد، ذلكم الحديث الذي يروي به التاريخ أسماء أطهر ثلة عرفتها الأرض بعد الأنبياء والمرسلين. وأختم بهذا الحديث -وإن كان في سنده مجهول من باب الأمانة، إلا أن متنه ثابت صحيح بالشواهد التي ذكرت- وهو من حديث عبد الله بن مغفل في سنن الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضاً بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشك الله أن يأخذه). اللهم خذ كل من آذى أصحاب نبيك، وأصحاب رسولك، وآذى رسولك، وآذاك يا أرحم الراحمين، إن لم تقدر لهم الهداية في سابق علمك يا أحكم الحاكمين! أيها الأحبة! لو ظللت أتحدث لحضراتكم بالآية والحديث في فضل الصحابة، لاحتجت إلى لقاءات لا إلى لقاء، فإن الصحابة لو اجتمع أهل البلاغة على ظهر الأرض ليذكروا فضلهم من القرآن والسنة ما استطاعوا؛ لأن الذي عدلهم هو الله، ولأن الذي زكاهم هو الحبيب رسول الله صلى الله عليه وآله ومن والاه.

هل يسب الأطهار الأخيار؟!

هل يسب الأطهار الأخيار؟! فهل يسب هؤلاء الأطهار؟! هل يسب الأخيار؟!

هل يسب عمر الفاروق؟!

هل يسب عمر الفاروق؟! وهل يسب عمر الفاروق الأواب؟! ذلكم الرجل الذي قدم لدنيا الناس كافة قدوة لا تبلى ولن تبلى، ركز معي أيها الحبيب! إنها قدوة تتمثل في عاهل كبير، بركت الدنيا كلها على داره بأموالها وزخرفها وذهبها وسلطانها، بركت الدنيا كلها على عتبة داره فسرحها سراحاً جميلاً، وقام لينثر في الناس خيراتها وأموالها، وليبعد عن الناس فتنها ومضلاتها، حتى إذا انفض عنه علائق هذا المتاع الدنيوي الزائل قام ليستأنف سيره ومسراه مع مولاه. انظر إليه ستراه هنالك يجري تحت حرارة الشمس المحرقة على رمال ملتهبة، كادت الأشعة المنعكسة على الرمال أن تخطف الأبصار، فنظر إليه عثمان وقال: يا ترى من هذا الذي خرج في هذا الجو القائض القاتل؟! ولما دنا قال: يا سبحان الله! إنه عمر، إنه أمير المؤمنين، فناداه: (يا أمير المؤمنين! ما الذي أخرجك في هذا الوقت الشديد الحر؟! فيرد عمر أمير المؤمنين: بعير من إبل الصدقة قد ند وشرد وأخشى عليه الضياع، فقال عثمان: تعال يا أمير المؤمنين إلى الظل وإلى الماء البارد، وكلف أحد عمالك ليأتيك بهذا البعير، قال: عد إلى ظلك وعد إلى مائك البارد يا عثمان! أأنت ستسأل عنه بدلاً مني أمام الله يوم القيامة؟!) انظر إليه ستراه هنالك قد أحنى رأسه الذي ارتفع ليطاول كواكب الجوزاء، أو إن شئت فقل: الذي شرفت كواكب الجوزاء بالنزول إلى الأرض لتستوي برأس عمر! انظر إليه وقد أحنى رأسه تحت قدر على نار مشتعلة ينفخ في النار، لينضج طعمة طيبة لأطفال فقراء يبكون من شدة الجوع! انظر إليه ستراه هنالك يمشي مع زوجته ليأخذها في الليل الدامس إلى أين؟! إلى امرأة قد أدركها كرب المخاض، ولا تجد من يساعدها في الولادة، فيذهب أمير المؤمنين بنفسه ليأتي بامرأته لتساعد مسلمة فقيرة مريضة! انظر إليه ستراه هنالك وهو يتفقد أحوال رعيته، يرى إبلاً سمينة عظيمة ممتلئة فيقول عمر: (ما شاء الله إبل من هذه؟! فيقولون: إبل عبد الله بن عمر، وكأن حية رقطاء قد أفرغت كل سمها في جوف عمر! إبل عبد الله بن عمر؟! ائتوني به، ويأتي عبد الله وهو إمام الورع، إمام الزهد، إمام التقى، ويقف بين يدي أبيه، فيقول له عمر: ما هذه الإبل يا عبد الله؟! فيقول عبد الله: إبل هزيلة اشتريتها بخالص مالي يا أمير المؤمنين! وأطلقتها في الحمى لترعى لأبتغي ما يبتغيه سائر المسلمين من الربح والتجارة، فقال عمر في تهكم لاذع: بخ! بخ! يا ابن أمير المؤمنين! وإذا رأى الناس إبلك قالوا: ارعوا إبل ابن أمير المؤمنين، اسقوا إبل ابن أمير المؤمنين، فتسمن إبلك ويزداد ربحك يا ابن أمير المؤمنين! قال: مرني يا أبت! قال: انطلق الآن فبع الإبل وخذ رأس مالك، ورد الربح إلى بيت مال المسلمين! سبحانك! يا خالق عمر سبحانك! يا خالق عمر. انظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يضع الأوسمة والمناقب على صدر عمر، في سنن الترمذي بسند حسن من حديث عبد الله بن عمر مرفوعاً: (إن الله تعالى جعل الحق على لسان عمر وقلبه). وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بينا أنا نائم إذ رأيتني في الجنة، ورأيتني إلى جوار قصر، ورأيت إلى جواره جارية تتوضأ فقلت -والقائل المصطفى-: لمن هذا القصر؟ فقالوا: لـ عمر بن الخطاب، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: لـ عمر رضي الله عنه، فتذكرت غيرتك يا عمر فأعرضت بوجهي -أي: عن النظر إلى الجارية وإلى القصر- فبكى عمر وقال للمصطفى: أومنك أغار يا رسول الله؟!). وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (بينا أنا نائم إذ عرض علي الناس وعليهم قمص، -جمع قميص- منها ما يبلغ الثدية، -جمع ثدي- ومنها ما دون ذلك، وعرض علي عمر بن الخطاب وعليه قميص يجتره، قالوا: فما أولته يا رسول الله؟! قال: الدين). وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر قال: (بينا أنا نائم إذ أوتيت بقدح لبن فشربت حتى إني أرى الري يخرج من بين أظفاري، ثم أعطيت فضلتي -أي: ما تبقى من اللبن في الإناء- لـ عمر بن الخطاب قالوا: فما أولته يا رسول الله؟! قال: العلم). وفي الصحيحين من حديث سعد بن أبي وقاص قال: (استأذن عمر بن الخطاب على رسول الله وعنده نسوة من قريش يحدثنه ويستكثرنه، عالية أصواتهن على النبي، فلما استأذن عمر وسمع النسوة صوت عمر أسرعن وقمن من مجلس النبي يبتدرن الحجاب ليختفين من عمر، فدخل عمر على النبي صلى الله عليه وسلم والنبي يضحك، فقال عمر المهذب المؤدب: أضحك الله سنك يا رسول الله! -يعني: زادك الله سروراً على سرورك، ولم يقل: لماذا تضحك يا رسول الله؟ فقال المصطفى: عجبت لهؤلاء اللاتي كن عندي يسألنني ويستكثرنني عالية أصواتهن، فلما سمعن صوتك قمن يبتدرن الحجاب! فقال عمر -المؤدب-: أنت أحق أن يهبن يا رسول الله! ثم التفت عمر إلى النسوة وقال: يا عدوات أنفسهن! تهبنني ولا تهبن رسول الله! -والمرأة لا يخونها لسانها في مثل هذا الموضع أبداً-، فرد النسوة على عمر وقلن: نعم، فأنت أفظ وأغلظ من رسول الله، فقال النبي لـ عمر قولة عجيبة: أَوّه يا ابن الخطاب والذي نفسي بيده! لو رآك الشيطان سالكاً فجاً -يعني: تمشي في طريق- لتركه لك، وسلك فجاً غير فجك يا عمر!). يا رافعاً راية الشورى وحارسها جزاك ربك خيراً عن محبيها رأي الجماعة لا تشقى البلاد به رغم الخلاف ورأي الفرد يشقيها إن جاع في شدة القوم سبقتهم في الجوع أو تنجلي عنهم غواشيها جوع الخليفة والدنيا بقبضته منزلة في الزهد سبحان موليها فمن يباري أبا حفص وسيرته أو من يحاول للفاروق تشبيها يوم اشتهت زوجته الحلوى فقال لها من أين لي ثمن الحلوى فأشريها؟ ما زاد عن قوتنا فالمسلمون به أولى فقومي إلى البيت فرديها كذاك أخلاقه كانت وما عهدت بعد النبوة أخلاق تحاكيها فهل يسب الفاروق الذي أذل كسرى وأهان قيصر؟! إنا لله وإنا إليه راجعون!

هل يسب عثمان ذو النورين؟!

هل يسب عثمان ذو النورين؟! أيها الأحبة الكرام! وهل يسب عثمان ذلكم الحيي التقي النقي، ذو النورين المصلي إلى القبلتين، صاحب الهجرتين، الحيي الكريم، أكتفي بحديث واحد فقط في مناقب هذا العملاق: في صحيح مسلم من حديث عائشة: (استأذن أبو بكر على رسول الله وهو مضطجع في حجرة عائشة، وقد كشف عن ساقه أو فخذه، فأذن النبي للصديق فدخل وخرج والنبي على هيئته، ثم استأذن عمر فأذن له النبي وهو على هيئته، ثم لما استأذن عثمان فجلس النبي وسوى عليه ثيابه، وأذن لـ عثمان، فلما دخل عثمان ثم انصرف قالت عائشة: يا رسول الله! دخل عليك أبو بكر فلم تهتش له ولم تباله، ثم دخل عليك عمر فلم تهتش له ولم تباله، فلما دخل عليك عثمان جلست وسويت ثيابك وأذنت له؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا عائشة! ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة؟!). أيها الإخوة! والله لا أخشى فقط إلا من الإطالة عليكم، فإن الصحابة رضوان الله عليهم يشعر الإنسان وهو يتحدث عنهم بفخر وعزة، إذ إنه ينتسب إلى هؤلاء الأشراف الأطهار الكرام، فكل أمة تفخر برجالها وأبنائها، وإن أحق الأمم بالفخار هي أمة النبي المختار بجدارة واختيار، بل وبشهادة العزيز الغفار: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110].

هل يسب علي أبو السبطين؟!

هل يسب علي أبو السبطين؟! وهل يسب علي رضوان الله عليه، الذي اضطر يوماً لأن يفخر فقال: محمد النبي أخي وصهري وحمزة سيد الشهداء عمي وجعفر الذي يمسي ويضحي يطير مع الملائكة ابن أمي وبنت محمد سكني وزوجي منوط لحمها بدمي ولحمي وسبطا أحمد ولداي منها فأيكم له سهم كسهمي وأكتفي بحديث واحد فقط خشية الإطالة، ففي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه)، وفي رواية مسلم يقول عمر: (والله ما تطلعت إلى الإمارة إلا يومها)، تمنى كل الصحابة الإمارة في هذا اليوم لعلهم ينالون هذا الشرف: (ويحبه الله ورسوله). فلما كان في الصباح قام النبي صلى الله عليه وسلم يسأل عن القائد الذي يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله فقال المصطفى: (أين علي بن أبي طالب؟ قالوا: لم يأت اليوم يا رسول الله! إنه يشتكي عينيه، قال: ائتوني به، فأرسلوا إليه، فجاءوا به، فمسح النبي عينيه فبرأ وكأن لم يكن بهما وجع، وأعطاه الراية، وانطلق أسد الله الغالب، ففتح الله على يديه، وما لبث أن فتح حصون خيبر بهذه القولة الخالدة: الله أكبر خربت خيبر)، نسأل الله أن تعلو من جديد: الله أكبر خربت حصون اليهود، إنه ولي ذلك والقادر عليه. حب النبي على الإنسان مفترض وحب أصحابه نور ببرهان من كان يعلم أن الله سائله لا يرمين أبا بكر ببهتان ولا أبا حفص الفاروق صاحبه ولا الخليفة عثمان بن عفان ولا علياً أبا السبطين نعم الفتى وصى به المصطفى في سر وإعلان فهم صحابة خير الخلق خصهم الإله بجنات ورضوان

هل يسب الصديق؟!

هل يسب الصديق؟! هل يسب الصديق؟! إنا لله وإنا إليه راجعون! هل يسب أبو بكر؟! رفيق النبي صلى الله عليه وسلم في جميع الأطوار، وصاحب النبي صلى الله عليه وسلم في جميع الأسفار، وضجيع النبي صلى الله عليه وسلم في الروضة المحفوفة بالأنوار، الممدوح في الذكر بقوله تعالى: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة:40]، أيسب الصديق؟! إنه أمر ينخلع له القلب، والله إنها لمرارة وغصة في الحلق أن يسب صديق الأمة في زمان الفتن، في زمان الشبهات والشهوات، على مرأى ومسمع، وفي الكتب، بل وعلى صفحات الجرائد والمجلات. يسب الصديق رضوان الله عليه وأرضاه ذلكم العملاق الكبير، الذي لو اجتمع أهل الأرض ليمدحوه ما رفعوا من قدره، وما أعلوا شأنه، وإنما رفعوا من قدر أنفسهم، وأعلوا من شأنهم، وهم يتحدثون عن صديق الأمة، عن الرجل الذي لم يتلعثم في إيمانه طرفة عين، بل كان شعار الصديق إذا تشككت الصدور، وتلعثمت الكلمات في الصدور: (إن كان محمد قد قال ذلك فقد صدق) كلمة عجيبة، ميزان دقيق، يثبت يقين الرجل وإيمانه، الرسول قال كذا، إذاً انتهى الأمر، محمد صادق! (إن كان محمد قد قال ذلك فقد صدق)؛ من أجل ذلك كان الصديق أحب الرجال إلى قلب سيد الرجال محمد صلى الله عليه وسلم، ففي صحيح البخاري من حديث عمرو بن العاص قال: (قلت يا رسول الله! من أحب الناس إليك؟ قال: عائشة، قال: من الرجال؟ قال: أبوها -أي: الصديق - قال عمرو: ثم من؟ قال المصطفى: ثم عمر). الصديق رجل في أمة النبي صلى الله عليه وسلم يزن أمة، وقد أفردت له لقاءً كاملاً بعنوان: رجل يزن أمة، إنه الصديق. روى أحمد في مسنده من حديث عمر بن الخطاب موقوفاً عليه أنه قال: (لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح إيمان أبي بكر) ولم لا يا إخوة؟!! الصديق لم يترك سبيلاً من سبل الخير إلا وسارع إليه بهمة عالية، في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أنفق زوجين من شيء من الأشياء في سبيل الله يدعى يوم القيامة من أبواب الجنة: يا عبد الله! هذا خير، يا عبد الله! هذا خير، فإن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، وإن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، وإن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، وإن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، فقال الصديق: يا رسول الله! وهل يدعى أحد من هذه الأبواب كلها؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم، وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر)، وفي رواية ابن حبان من حديث ابن عباس بسند صحيح قال الصديق: (وهل يدعى أحد من هذه الأبواب كلها يا رسول الله؟! قال المصطفى: نعم وأنت هو يا أبا بكر). هذه درجته ومكانته، تنادي عليه كل أبواب الجنة ليدخل منها إلى نعيم مقيم: {فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:54 - 55]. وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل الصحابة يوماً وقال: من أصبح اليوم منكم صائماً؟ فقال أبو بكر: أنا يا رسول الله! فسأل المصطفى: فمن عاد اليوم منكم مريضاً؟ فقال أبو بكر: أنا يا رسول الله! فسأل المصطفى: فمن أطعم اليوم منكم مسكيناً؟ فقال أبو بكر: أنا يا رسول الله! فسأل المصطفى: فمن تبع اليوم منكم جنازة؟ فقال أبو بكر: أنا يا رسول الله! فقال المصطفى: ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة). وتجلت مكانة الصديق في آخر أيام الحبيب، ففي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري: (أن النبي صلى الله عليه وسلم حمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن عبداً من عباد الله خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء، وبين ما عند الله؛ فاختار ما عند الله فبكى الصديق الذي فهم مراد حبيبه ومصطفاه وقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! فديناك بآبائنا وأمهاتنا وأموالنا وأنفسنا) فضج الناس في المسجد النبوي، وتعجبوا لكلام صديق الأمة، عجباً لهذا الشيخ ماذا يقول؟! الرسول يتحدث عن عبد مخير بين الدنيا والآخرة، فلماذا يقول الصديق مثل هذا الكلام؟! قال أبو سعيد: وكان أفهم الصحابة لكلام النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فلقد فهم الصديق أن العبد المخير هو الحبيب المصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبكى رضي الله عنه وأرضاه، فقال النبي: (على رسلك يا أبا بكر! -ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم مكانة الصديق فقال: أيها الناس! إن أمنّ الناس علي في صحبته وماله أبو بكر، وما نفعني مال أحد قط مثلما نفعني مال أبي بكر، ولو كنت متخذاً من العباد خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، وما منكم من أحد إلا وكان له عندنا يد كافأناه بها إلا الصديق فإنا قد تركنا مكافأته لله عز وجل، سدوا الأبواب كلها التي تطل على المسجد إلا باب أبي بكر رضي الله عنه). وقد فهم أهل العلم أن هذه إشارة واضحة إلى أنه سيتولى من بعد النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأمر النبي أن يبقى بابه مفتوحاً. يوم مات المصطفى صلى الله عليه وسلم تجلى يقين الصديق وإيمانه الذي لم يتزلزل ولم يتزعزع أبداً، طاش عقل عمر، وطاش عقل عثمان، وخرس لسان علي، وطاشت عقول أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، انظروا لتعرفوا قدر الصديق، انظروا لتعرفوا مكانة الصديق، عمر الفاروق الأواب صرخ بأعلى صوته وقال: (والله من قال بأن محمداً قد مات لأعلونه بسيفي هذا، فإن رسول الله ما مات، بل ذهب للقاء ربه عز وجل كما ذهب موسى بن عمران، وليرجعن وليقطعن أرجل وأيدي المنافقين الذين يزعمون أنه قد مات) الذي يقول هذا هو عمر فاروق الأمة الأواب! فتصور الصحابة دون عمر كيف كان حالهم؟! وثبت الله الصديق، بل وكان موقفه بمثابة البوصلة التي حددت اتجاه التاريخ، نحو هذا العملاق الذي لم يتلعثم ولم يتزعزع ولم يتردد، بل كان هذا الموقف بمثابة الموقف الذي يبين بجلاء ووضوح أن الرجل الذي يجب أن يتقدم ليسد الفراغ الرهيب الذي سيتركه الرسول صلى الله عليه وسلم بموته هو الصديق رضي الله عنه وأرضاه، شق أبو بكر الصفوف، ودخل غرفة عائشة، فوجد حبيبه مسجى بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، فقبل الصديق رسول الله بين عينيه، وجثى على ركبتيه، وفي الرواية التي حسنها شيخنا الألباني في مختصر الشمائل أن الصديق بكى، وعلم أن الموت حق، وأن الرسول قد مات، فنادى على حبيبه وقال: (وا صفياه! وا صفياه! وا نبياه! وا حبيباه! وا خليلاه!)، وقال في رواية الصحيحين: (أما الموتة التي قد كتبها الله عليك فقد ذقتها ولا ألم عليك بعد اليوم). وخرج الصديق إلى الناس، وقال على رسلك يا عمر! انتظر يا عمر! فاجتمع الناس حول الصديق، فحمد الله وأثنى عليه وقال في ثبات مذهل، ويقين عجيب: (أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، وقرأ قول الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144]). إنه الصديق، إذاً: يا راية الله رفرفي! إذاً: فلتتقدم أيها الرجل العملاق الكبير لتملأ هذا الفراغ الكبير الذي تركه النبي العظيم الكبير صلى الله عليه وسلم، إنه الصديق الذي لو ظللت أتحدث عنه الدهر ما وفيت هذا الرجل العملاق حقه. هذا الرجل الذي كان من أعظم بركاته على الأمة: أنه أطفأ نار حروب الردة، تلك النار التي صهرت الأمة صهراً، ونفت عن الصف الخبثاء والدخلاء، وميزت المؤمنين من المنافقين، تلك المحنة التي تحولت بفضل الله ورحمته إلى منحة كبيرة على الإسلام وعلى المسلمين. ومن أعظم بركاته: أنه أرسل جيش أسامة؛ ليؤدب القبائل التي غارت على حدود الدولة الإسلامية، وكانت مدعومة من الدولة الرومانية. ومن أعظم بركاته: أنه جمع القرآن الكريم بعد غزوة اليمامة التي قتل فيها كثير من القراء من حفاظ كتاب الله، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. بل وإن شئت فقل: ومن أعظم بركات الصديق أيضاً: أنه قبل أن يموت أمر كتابة باستخلاف عمر على أمة النبي صلى الله عليه وسلم، فقيل له: (ماذا تقول لربك إن سألك وقد وليت على أمة النبي صلى الله عليه وسلم من بعدك عمر وهو القوي الغليظ الشديد؟! قال الصديق: إن سألني ربي سأقول له: يا رب! وليت عليهم أقواهم وأعدلهم). فهل يسب الصديق؟!!

هم القدوة فاعرفوا لهم فضلهم

هم القدوة فاعرفوا لهم فضلهم إننا نعيش في زمان قُدِمَ فيه التافهون وأصبحوا القدوة والمثال. فلقد آن الأوان لننظر بأبصارنا إلى هذه القدوات الطيبة والمثل العليا. قال ابن مسعود: (من كان مستناً فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا أفضل هذه الأمة، أبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، اختارهم الله لصحبة نبيه، ولإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم على آثارهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم). وقال ابن مسعود رضي الله عنه أيضاً: (إن الله تعالى نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد خير قلوب العباد؛ فاصطفاه لرسالته ونبوته، ونظر في قلوب العباد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد؛ فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه). اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن ترد الأمة إلى دينك رداً جميلاً، اللهم رد الأمة إليك رداً جميلاً، اللهم خذ بأيدينا إليك، اللهم خذ بأيدينا إليك، اللهم خذ بأيدينا إليك. وصلى الله وسلم على نبينا وإمامنا وحبيبنا محمد وآله وصحبه أجمعين.

الحشر

الحشر من الأهوال العظيمة التي تنتظر الناس جميعاً أهوال يوم الحشر، حيث يحشر الناس على قدر أعمالهم -في أرض غير هذه الأرض- فمنهم من يحشر راكباً، ومنهم من يحشر ماشياً، ومنهم من يمشي على وجهه! ومن هذه الأهوال دنو الشمس من رءوس الخلائق، إلا أن من رحمة الله أن جعل في ظل عرشه أصنافاً من الناس؛ لما عملوه في هذه الدنيا من طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.

من مات على شيء بعث عليه يوم القيامة

من مات على شيء بعث عليه يوم القيامة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، ونصح الأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحيَّاكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء! وأيها الإخوة الأحباب الكرام الأعزاء! وطبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً. وأسأل الله العظيم الكريم جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت المبارك على طاعته، أن يجمعنا مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! في رحاب الدار الآخرة. سلسلة علمية هامة تجمع بين المنهجية والرقائق، وبين التأصيل العلمي والأسلوب الوعظي، الهدف منها: تذكير الناس بحقيقة الآخرة، في عصر طغت فيه الماديات والشهوات، وانصرف كثير من الناس عن منهج رب الأرض والسموات؛ ليتذكر الناس ربهم جل وعلا، وليتوبوا إليه سبحانه قبل أن تأتيهم الساعة بغتة وهم يخصمون: {فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} [يس:50]. وهذا هو لقاؤنا العاشر من لقاءات هذه السلسلة الكريمة المباركة، وكنا قد أنهينا الحديث في اللقاء الماضي بحول الله جل وعلا عن البعث، وتوقفنا عند هذه المشاهد التي تخلع القلوب! حينما يخرج الناس من قبورهم حفاة عراة غرلاً، كل يبعث على نفس الهيئة التي مات عليها! فمن مات على طاعة بعث على تلك الطاعة، ومن مات على معصية بعث على نفس المعصية، وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: (يبعث كل عبد على ما مات عليه). فمن الناس من يبعث والنور يشرق من وجهه، ومن بين يديه، وعن يمينه: {نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم:8]، ومنهم من يكون نوره كالجبل، ومنهم من يكون نوره كالنخلة، ومنهم من يكون نوره كالرجل القائم، ومنهم من يكون نوره على إبهامه يوقد مرة ويطفأ مرة، ومنهم من تحيط الظلمة به من كل ناحية، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم يوم القيامة من أهل الأنوار، ومنهم من يبعث وهو ينطلق في أرض المحشر قائلاً: لبيك اللهم لبيك، من هذا؟! إنه الذي مات بلباس الإحرام في حج أو عمرة، ومنهم من يبعث وينبعث منه الدم: اللون لون الدم، والريح ريح المسك، من هذا؟! إنه الشهيد في سبيل الله جل وعلا، ومنهم من يبعث ولسانه مدلىً على صدره! منظر بشع! من هذا؟! هذا الذي أكل لحوم الناس في الدنيا بالغيبة، ومنهم من يبعث وأظفاره من نحاس يمزق بها لحم وجهه! ويقطع بها لحم صدره، من هذا؟! هذا هو الذي آذى الناس في الدنيا، ومنهم من يبعث وقد انتفخت بطنه لا يقوى على القيام في أرض المحشر! بل تراه يتلبط ويتخبط كالذي يتخبطه الشيطان من المس، من هذا؟! إنه آكل الربا: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275]، وهذا رجل ينطلق من قبره إلى أرض المحشر عرياناً ومن حوله مجموعة من الأطفال الصغار يجرونه جراً، ويدفعونه دفعاً للوقف بين يدي الله سبحانه، من هذا، ومن هؤلاء؟! هؤلاء هم اليتامى وهذا آكل أموال اليتامى ظلماً: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10]، ومنهم من يبعث وكأس الخمر في يده وهو أنتن من كل جيفة! ومنهم من يبعث وهو يحمل على كتفه ما سرقه في هذه الحياة الدنيا! قال تعالى: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:161]. إنها مشاهد تخلع القلوب يا عباد الله! فلقد أجرى الله الكريم عادته بكرمه: أن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه. فمن مات ساجداً بعث يوم القيامة ساجداً، ومن مات موحداً بعث يوم القيامة موحداً، ومن مات على معصية بعث يوم القيامة على نفس المعصية. اللهم استرنا فوق الأرض، وتحت الأرض، ويوم العرض، برحمتك يا أرحم الراحمين!

أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة محمد صلى الله عليه وسلم

أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة محمد صلى الله عليه وسلم وأول من يبعث، وتنشق عنه الأرض يوم القيامة حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم، ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة)، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، يقول: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأنا أول من ينشق عنه القبر، وأنا أول شافع وأول مُشَفَّع).

أول من يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام

أول من يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام وإذا كان المصطفى هو أول من يبعث يوم القيامة، فإن أول من يُكسى يوم القيامة هو خليل الله إبراهيم. كما في صحيح مسلم من حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال (أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله يوم القيامة حفاةً عراةً غُرْلاً، وأول الناس يُكْسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام). وفي رواية البيهقي من حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أول الناس يُكسى من الجنة يوم القيامة إبراهيم عليه السلام، ويؤتى بي -أي: بالحبيب المصطفى- فأُكسى حُلّة من الجنة لا يقوم لها البشر). وتكلم علماؤنا عن حكمة تقديم إبراهيم عليه السلام على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في الكسوة يوم القيامة. ومن أجمل ما ذكره أهل العلم: أن المشركين لما هموا بحرق إبراهيم في النار، وأشعلوا النار المتأججة التي ارتفع لهيبها في عنان السماء حتى كانت الطيور تسقط من ارتفاع لهب هذه النيران! وظلوا يجمعون لها الحطب شهوراً وأياماً، فلما هموا بإلقائه جردوه من كل ثيابه، فلما صبر إبراهيم واحتسب وتوكل على الله جازاه الله سبحانه وتعالى على ذلك، فوقاه حر النار في الدنيا والآخرة، وكافأه يوم القيامة فكساه على رءوس الأشهاد. فأول من يبعث هو الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، وأول الناس يُكسى هو الخليل إبراهيم عليهما وعلى جميع النبيين والمرسلين أفضل الصلاة وأزكى السلام. وبعد البعث حشر. وهذا هو موضوعنا اليوم مع حضراتكم، فأعيروني القلوب والأسماع والله أسأل أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال، وسوف ينتظم حديثنا مع حضراتكم في موضوع الحشر في العناصر التالية: أولاً: صفة أرض المحشر. ثانياً: كيف يحشر الناس؟! ثالثاً: هول الموقف. رابعاً: في ظل عرشه.

صفة أرض المحشر

صفة أرض المحشر أولاً: صفة أرض المحشر: أيها الخيار الكرام! إن الأرض التي سيحشر الناس عليها تختلف تماماً عن الأرض التي نعيش عليها: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم:48]. تختلف الأرض، بل وتتبدل وتتغير السماء، ووصف لنا المصطفى صلى الله عليه وسلم طبيعة هذه الأرض التي سيحشر الناس عليها وصفاً دقيقاً بليغاً. ففي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كَقُرْصَةِ النَّقِي) أي: على أرض كالفضة الناصعة البياض، لم يسفك فيها دم، ولم تعمل عليها خطيئة أو معصية، أرض بيضاء نقية، فالعفر: هو البياض الذي يميل إلى الحمرة. وعند ابن فارس: هو البياض الشديد الناصع البياض. (وقرصةُ النقي) أي: كالدقيق الأبيض النقي من الغش والنخال. قال سهل: (ليس عليها معلم لأحد) المعلم: هو العلامات التي يتعارف بها الناس على الشوارع، والمدن والطرقات، فهذا معلم يبين هذه المدينة، وهذا معلم يبين هذا الشارع والطريق، هذا في أرض الدنيا، أما في أرض المحشر فليس في هذه الأرض معلم لأحد، هي أرض بيضاء مستوية كالفضة البيضاء لا يوجد عليها بناء ولا أشجار، ولا أنهار. هذه هي صفة أرض المحشر كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.

كيفية الحشر

كيفية الحشر كيف يحشر الناس إلي أرض المحشر من القبور؟! هذا هو عنصرنا الثاني، فأعرني قلبك وسمعك أيها الحبيب! يخرج الناس من القبور (حفاةً عراةً غُرْلاً) كما قال المصطفى في صحيح مسلم من حديث عائشة: (يحشر الناس يوم القيامة حفاةً عراةً غُرلاً، قالت عائشة: يا رسول الله! الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟! قال: يا عائشة! الأمر أشد من أن يهمهم ذلك). يخرجون من القبور وهم بهذا العري والذل والهوان! قال تعالى: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ * إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ * يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} [ق:41 - 44]. يسير على الله، فليس عند الله شيء عسير، يسير على الله أن يحشرهم من يوم أن خلق آدم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لا يتخلف أحد ولا يمتنع أحد، كيف ذلك؟! وهو الذي يقول سبحانه: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف:47]. حشر الله الخلق جميعاً ولا يتخلف مَلِك، ولا يتكبر حاكم، أو زعيم، ولا يتعنت طاغوت أو متكبر أو طاغية، فلم نغادر منهم أحداً. قال سبحانه وتعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:93 - 95]. لا يتخلف مخلوق، لقد أحصى الله الخلق من لدن آدم إلى آخر رجل قامت عليه القيامة، فهم ينطلقون جميعاً وراء هذا الداعي الكريم الذي جاء ليقود الخلق جميعاً إلى أرض المحشر، ينطلقون خلفه ولا يتلفتون، ولا يتخلفون، ينطلقون صامتين مستسلمين خاشعين يعلوهم صمت رهيب، ويزلزل قلوبهم سكون غامر! الأبصار خاشعة، والوجوه عانية، وجلال الحي القيوم يغمر المكان والنفوس بالعظمة والهيبة والجلال! قال سبحانه: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} [طه:108] صمتوا عن الكلام فلم يبق إلا الهمس والتخافت: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا * يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا * وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} [طه:108 - 111]، وهل يستطيع مخلوق أن يتفلت أو يتخلف؟! وهل يملك طاغية أو ظالم أو زعيم أو حاكم أن يتعنت أو يتأخر، هل يستطيع؟! وقد وكل الله بكل إنسان ملكين يسوقانه سوقاً إلى أرض المحشر. قال تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:19 - 22].

يحشر الناس ثلاثة أصناف

يحشر الناس ثلاثة أصناف الله أكبر! أستحلفك بالله أن تتصور معي هذه المشاهد، وأن تعيشها بقلبك وكيانك وجوارحك، ها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يجسد لنا معاني هذه الآيات، فإن الكلام عن هذا المشهد من مشاهد القيامة يخلع القلوب! يجسد لنا المصطفى هذه المشاهد فيقول كما في الحديث الذي رواه الترمذي بسند حسن يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (يُحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف: صنفاً مشاة، يمشون على أقدامهم، وصنفاً ركباناً، وصنفاً على وجوههم، قيل يا رسول الله! كيف يمشون على وجوههم؟! فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: إن الذي أمشاهم في الدنيا على أقدامهم قادر على أن يمشيهم في الآخرة على وجوههم). وفي صحيح البخاري ومسلم من حديث أنس قال رجل: (يا نبي الله! كيف يحشر الكافر على وجهه؟! فقال المصطفى: أليس الذي أمشاه في الدنيا على الرجلين قادراً على أن يمشيه يوم القيامة على وجهه؟!) قال قتادة: بلى وعزة ربنا. ونحن نقول: بلى وعزة ربنا إنه لقادر على أن يحشر الكافرين يوم القيامة على وجوههم. أيها الحبيب! هل تصورت -قبل أن ترى الحية- أن دابة تمشي على بطنها؟! لم تكن تتصور ذلك، كيف تمشي الحية على بطنها؟! ولكنك تصورت وصدقت لما رأيت الحية أمام عينيك، وبين يديك تزحف على بطنها، والذي جعل الحية تمشى بدون أرجل سيحشر الكافر ماشياً على وجهه يوم القيامة! إنه على كل شيء قدير. وأستحلفك بالله أن تتصور هذا المشهد: أناس يمشون في أرض المحشر، وأناس يركبون، وأناس يمشون على وجوههم، منظر بشع رهيب لا يستطيع بليغ فصيح أن يعبر عنه! أناس يمشون على الأقدام، وأناس يركبون، من هؤلاء الذين يركبون في هذا اليوم العصيب الرهيب؟! اسمع لربك جل وعلا، قال سبحانه: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} [مريم:85] وفداً: أي: ركباناً، لا يمشي المتقون في أرض المحشر على أقدامهم، بل يهيئ الله لهم ركائب من دواب الآخرة، عليها سُرُج من ذهب، وتتنزل الملائكة لأهل التقوى في أرض المحشر؛ لتبشرهم بهذه البشارة: {هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء:103]، {أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30] ويقدم الملائكة لأهل التقى ركائب من دواب الآخرة، عليها سرج من الذهب فيركب المتقون، وينطلقون بها في أرض المحشر، فلا يمشون على أقدامهم في هذا اليوم العصيب، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟!

تعريف التقوى

تعريف التقوى والتقوى: أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر. وسأل سائل أبا هريرة عن التقوى؟ فقال أبو هريرة: هلا مشيت على طريق فيه شوك؟ قال: نعم، قال: فماذا صنعت؟ قال: كنت إذا رأيت الشوك اتقيته، قال أبو هريرة: ذاك التقوى. فقال ابن المعتز: خل الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى واصنع كماشٍ فوق أر ض الشوك يحذر ما يرى لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى وقال طلق بن حبيب: التقوى: أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخشى عقاب الله. {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} [مريم:85 - 86] كما تورد البهائم لتشرب! (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا). أما التقي: فإنه يحشر إلى الله راكباً، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من المتقين، ومن السعداء في هذا اليوم العظيم، إنه على كل شيء قدير. أما الكافر فإنه يمشي على وجهه، إنه مشهد -ورب الكعبة- يخلع القلب!

يحشر المتكبرون كالذر

يحشر المتكبرون كالذر أما المتكبرون الذين انتشوا وانتفخوا في الدنيا ولم يذلوا أنفسهم لله، ولم يخفضوا جناح الذل لخلق الله، بل تراه مغروراً بكرسيه الذي جلس عليه تراه مغروراً بمنصبه تراه متكبراً بماله تراه متكبراً بسلطانه وجاهه. هل عرفت صورة حشر هذا المتكبر؟! إنه سيحشر بمنظر وبهيئة لو عرفها لوضع أنفه في التراب ذلاً لمولاه! ولخفض جناح الذل لخلق الله. يا بن التراب ومأكول التراب غداًَ اقصر فإنك مأكول ومشروب. علام الكبرياء يا بن آدم؟! وأنت تحمل البصاق في فمك!! وتحمل العرق تحت إبطيك!! وتحمل البول في مثانتك!! وتحمل النجاسة في أمعائك!! وتمسح عن نفسك بيدك القذر كل يوم مرة أو مرتين! يا أيها الإنسان ما غرك؟! مر أحد السلف على رجل متبختر مختال في مشيته، فقال له هذا الرجل الصالح: يا أخي! هذه مشية يبغضها الله ورسوله. فقال له المتكبر المنتفخ: ألا تعرف من أنا؟! قال: نعم أعرفك، فأولك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وأنت بين ذلك تحمل العذرة! من أنت أيها المتكبر؟! من أنت أيها المغرور؟! تصور معي مشهد حشر المتكبر يوم القيامة! يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم -والحديث رواه البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم-: (يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذَّر في صور الرجال). تطؤه الأقدام. الناس يطئون النمل بأقدامهم وهم لا يشعرون، فكذلك يحشر المتكبر يوم القيامة كالذر! تدوسه الأقدام والأرجل؛ لأنه كان منتفخاً منتشياً متكبراً مغروراً في الدنيا، والجزاء من جنس العمل، فكما انتفخ واستعلى يحشر يوم القيامة في غاية الذلة والمهانة، تطؤه الأرجل والأقدام، وهم في طريقهم إلى الرحيم الرحمن جل وعلا. (يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر، تطؤهم الأرجل، يعلوهم الذل من كل مكان). صور رهيبة! مشاهد تخلع القلوب -ورب الكعبة- لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، فإذا ما وصلت الخلائق كلها إلى أرض المحشر: تنزلت الملائكة ضعف من في الأرض، وتحيط الملائكة بأهل الأرض من كل جانب ومن كل ناحية، وهل يا ترى! ينتهي هذا البلاء وهذا الكرب؟! لا والله، بل إن الموقف فيه من الأهوال والكروب ما يخلع القلوب، وهذا هو عنصرنا الثالث.

هول الموقف

هول الموقف إذا ما وصل الناس إلى أرض المحشر ازداد الهم والكرب والغم! عند أن يقفوا قياماً طويلاً! وهاهي الشمس تدنو من رءوسهم حتى لا يكون بينها وبين رءوسهم إلا كمقدار ميل! يقول الراوي: لا ندري ماذا يقصد رسول الله بالميل، أهو ميل المسافة المعروفة، أم ميل المكحلة التي تكتحل به العين؟! ورد في صحيح مسلم من حديث المقداد أنه صلى الله عليه وسلم قال: (تدنو الشمس من رءوس الخلائق يوم القيامة بمقدار ميل فيغرقون في عرقهم بمقدار أعمالهم، فمنهم من يبلغ العرق كعبيه، ومنهم من يبلغ العرق ركبتيه، ومنهم من يبلغ حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً، وأشار النبي صلى الله عليه وسلم بيده إلى فيه). وفي الصحيحين من حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال في قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6]: (يقوم الناس في رشحهم إلى أنصاف آذانهم) هل تصورت هذا المشهد؟! حرارة تذيب الحديد والحجارة فوق الرءوس! ولك أن تتصور: البشرية كلها منذ أن خلق الله آدم، تحشر في مكان واحد على أرض واحدة، ليس للإنسان إلا أشبار يضع فيها قدميه، زحام يخنق الأنفاس، بل يكاد الخلق أن يهلكوا من حرارة أنفاسهم، ومن هذا الزحام الشديد، ومع ذلك تعلو الشمس الرءوس، وتكاد أن تصهر الجلود! وفي هذا المشهد وفي هذا الموقف الرهيب يزداد الهم والكرب بإتيان جهنم والعياذ بالله. يؤتى بجهنم للناس في أرض المحشر، كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم -والحديث رواه مسلم من حديث جابر بن عبد الله -: (يؤتى بجهنم لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونه). فإذا أقبلت جهنم، وأحاطت بالخلائق، ورأت الخلق زفرت وزمجرت؛ غضباً منها لغضب الله جل وعلا! فإذا رأت الأمم جهنم في أرض المحشر جثت جميع الأمم على الركب من الذل والخوف والرعب. قال تعالى: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:28]. بل يخرج من جهنم عنق أسود مظلم يتكلم! والحديث رواه الترمذي بسند صحيح قال صلى الله عليه وسلم: (يخرج عنق من النار له عينان تبصران، وأذنان تسمعان، ولسان ينطق، يقول: إني وكلت اليوم بثلاثة، وكلت بكل جبار عنيد، وبكل من جعل مع الله إلهاً آخر، وبالمصورين) أي: الذين كانوا ينحتون ليضاهوا برسومهم خلق الله جل جلاله. {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم:15 - 17] نسأل الله السلامة والعافية، ونسأل الله أن يختم لنا ولكم بالتوحيد. في هذا المشهد في الزحام الرهيب، وفي الحر الشديد، وفي هذا التدافع والعري: ينادي الحق جل جلاله وسط هذا الموقف الذي يُشيّب منه الولدان، ومن هول هذا الموقف لا يتكلم أحد إلا الأنبياء ودعوة الأنبياء يومها: اللهم سلم سلم!! تذهل الأم عن رضيعها وينسى الوالد ولده، وينسى الولد والده، وتنسى الأم الرحيمة ولدها، بل وينشغل الابن عن أمه قال تعالى: {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:33 - 37]. فالكل يقول: نفسي نفسي حتى الأنبياء كما سنتعرف على ذلك إن شاء الله تعالى، لا يتكلم إلا الأنبياء ويقولون يومها: اللهم سلم سلم، اللهم سلم سلم! مثل لنفسك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمور إذا كورت شمس النهار وأدنيت حتى على رأس العباد تسير وإذا النجوم تساقطت وتناثرت وتبدلت بعد الضياء كدور وإذا الجبال تقلعت بأصولها فرأيتها مثل السحاب تسير وإذا العشار تعطلت وتخربت خلت الديار فما بها معمور وإذا الوحوش لدى القيامة أحشرت وتقول للأملاك أين نسير وإذا الجليل طوى السما بيمينه طيَ السجل كتابه المنشور وإذا الصحائف نشرت وتطايرت وتهتكت للعالمين ستور وإذا الجنين بأمه متعلق يخشى القصاص وقلبه مذعور هذا بلا ذنب يخاف جناية كيف المصر على الذنوب دهور وإذا الجحيم تسعرت نيرانها ولها على أهل الذنوب زفير وإذا الجنان تزخرفت وتطيبت لفتىً على طول البلاء صبور تذكر كل هذه المشاهد: الزحام شديد يكاد يخنق الأنفاس، والشمس تكاد تصهر الرءوس، والكل يتدافع، والسؤال تخافت، والكلام همس، وجلال الحي القيوم غمر النفوس والمكان بالهيبة والجلال. في هذه اللحظات ينادي الحق جل جلاله على مجموعة من الخلق في أرض المحشر أن يتقدموا، لماذا يا ترى؟! ليظلهم بظله يوم لا ظل إلا ظله. وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

في ظل عرشه

في ظل عرشه الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام! وأخيراً: في ظل عرشه. في هذا المشهد الذي يكاد يخلع القلوب، فوالله إن مجرد الكلام عن أهوال هذا اليوم ترتعد له الفرائص، فكيف إذا عايناه وعاصرناه وعايشناه؟! في هذا الموقف ينادي الحق جل جلاله على أناس ليظلهم بظله يوم لا ظل إلا ظله، يا ترى من هؤلاء السعداء؟! من هؤلاء السعداء الذين يفوزون فوزاً لا يشعرون بشقاء بعده أبداً؟!

أصناف أخرى في ظل الله غير الأصناف السبعة

أصناف أخرى في ظل الله غير الأصناف السبعة وأرجو أن نعلم يقيناً أن هؤلاء إن أظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله فهناك غيرهم، وليس هؤلاء فقط. ولقد جمع الحافظ ابن حجر الذين يظلهم الله في ظله من هؤلاء السبعة وغيرهم، في كتاب قيم سماه: (معرفة الخصال الموصلة إلى الظلال) بين أن الله سبحانه يظل غير هؤلاء السبعة في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، ففي الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من أنظر -أمهل- معسراً أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله). فهذا مثال لمن يظلهم الله في ظله غير هؤلاء السبعة. أيها الحبيب الكريم! احرص على طاعة الله، وعلى هذه الخصال الخيرة؛ ليظلك الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله. يقوم بقية الخلق في هذا الموقف قياماً طويلاً، ويشتد الكرب عليهم حتى يتمنى بعضهم أن يحشر إلى النار! ولا يقف في مثل هذا الموقف المهيب الرهيب! فهو يظن أن النار لن تكون أشد عذاباً مما هو فيه من هم وكرب! وهنا يبحث الخلق عمن يشفع لهم إلى الله جل وعلا؛ ليقضي الله تبارك وتعالى بين الخلائق، وينهي هذا الموقف المهيب الرهيب، وهنا يقول كل نبي من الأنبياء: نفسي نفسي. ويتقدم الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم صاحب المقام المحمود وصاحب الحوض المورود، وصاحب اللواء المعقود، وصاحب الشفاعة العظمى يوم الدين، يتقدم الحبيب محمد شافعاً للخلائق في أرض المحشر؛ ليقضي الله جل وعلا بينهم. ونتوقف عند هذا المشهد الكريم، عند مشهد شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الموقف جميعاً. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يختم لنا ولكم بالتوحيد والإيمان، وأن يجعلنا وإياكم من أهل شفاعة النبي عليه الصلاة والسلام. اللهم لا تدع لأحد منا في هذا الجمع ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا طائعاً إلا ثبته، ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا رب العالمين! اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا شقياً ولا محروماً. اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى، اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى، اللهم نجنا من أهوال يوم القيامة، اللهم نجنا من أهوال يوم القيامة، اللهم نجنا من أهوال يوم القيامة، اللهم اجعله يوماً يسيراً علينا برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم متعنا بظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك يا رب العالمين! اللهم اقبلنا وتقبل منا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. هذا وما كان من توفيق فمن الله، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون عليه إلى الجنة ويلقى به في جهنم، ثم أعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأصناف التي يظلها الله بظل عرشه

الأصناف التي يظلها الله بظل عرشه يظلهم الملك في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، لا أشجار ولا أنهار ولا بيوت، لا يستطيع الإنسان أن يأوي إلى أي ظل، والشمس فوق الرءوس، وينادي الحق تبارك وتعالى على هؤلاء السعداء، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنهم في حديث صحيح رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة فقال: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصبٍ وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه). اللهم اجلنا منهم بمنك وكرمك. (إمام عادل): حاكم عادل عاش ليقيم العدل في الأرض، سعدت به رعيته، وسعد برعيته، كان يتقي الله في هذه الأمانة، ويعلم يقيناً أن الحكم والمنصب أمانة سيسأل عنها بين يدي الله، كما قال المصطفى لـ أبي ذر: (يا أبا ذر! إن الولاية أمانة، وإنها يوم القيامة حسرة وندامة إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها). (إمام عادل) قضى الليل والنهار في أحوال رعيته؛ ليسعدهم فأسعدهم في الدنيا فسعدت به الرعية، وسعد هو بالرعية. ووالله إني لأستحي من الله أن أتعرض لمجرد لفظ (إمام عادل) ولا أتحدث عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، ذلكم الفاروق الذي ملأ الدنيا عدلاً، فكان لا ينام الليل ولا النهار إلا النزر اليسير، ويقول: إذا نمت بالنهار ضيعت رعيتي، وإذا نمت بالليل ضيعت نفسي! فكان يتفقد أحوال الرعية، وهو الذي انطلق في يوم شديد الحرارة يجري وراء بعير من إبل الصدقة قد ند وجرى، فخرج عثمان بن عفان ينظر إليه من شرفة بيته، وهو يجري: يا ترى! من هذا الذي خرج في هذا الوقت الشديد الحرارة؟! من هذا الذي يجري على الرمال التي انعكست عليها أشعة الشمس فتكاد الأشعة المنعكسة أن تخطف الأبصار؟! فلما اقترب هذا الذي يجري من عثمان رأى عثمان أن الرجل الذي يجري هو أمير المؤمنين عمر! فقال عثمان: ما الذي أخرجك في هذه الساعة يا أمير المؤمنين؟! لماذا تجري؟! فقال عمر: بعير من إبل الصدقة قد ند يا عثمان وأخشى عليه الضياع، فقال عثمان: فتعال إلى الظل واشرب الماء البارد، وكلف أحد عمالك ليأتي لك بهذا البعير. فقال عمر: عد إلى ظلك ومائك البارد، وهل ستحمل عني وزري أمام الله يوم القيامة؟! إنه الرجل الذي كان يرتجف قلبه أمام كل نعمة، وأمام كل ثوب، وأمام كل لقمة، ويقول لنفسه: ماذا أنت قائل لربك يا عمر؟! يا رافعاً راية الشورى وحارسها جزاك ربك خيراً عن محبيها رأي الجماعة لا تشقى البلاد به رغم الخلاف ورأي الفرد يشقيها إن جاع في شدة قوم شركتهمُ في الجوع حتى تنجلي عنهم غواشيها جوع الخليفة والدنيا بقبضته منزلة في الزهد سبحان موليها فمن يباري أبا حفص وسيرته أومن يحاول للفاروق تشبيهاً يوم اشتهت زوجه الحلوى فقال لها من أين لي ثمن الحلوى فأشريها ما زاد عن قوتنا فالمسلمون به أولى فقومي لبيت المال رديها كذاك أخلاقه كانت وما عهدت بعد النبوة أخلاق تحاكيها إمام عادل: هذا في ظل عرش الله جل وعلا يوم لا ظل إلا ظله. (وشاب نشأ في عبادة الله): أيها الشباب! والله إن من سمع هذا الموضوع اليوم، ووقف مع بعض أهوال يوم الحشر، وعلم علماً يقينياً لا يتسرب إليه شك أن الله جل وعلا سيظله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، نشأ في عبادة الله، وانصرف عن معصية الله، وإن زلت قدمه في معصية تاب إلى الله جل وعلا وأناب؛ لينطبق عليه هذا الوصف: (شاب نشأ في عبادة الله) من علم ذلك من شبابنا أرجو الله عز وجل أن لا يتأخر لحظة عن طاعة الله سبحانه. أيها الشباب! الطاعة شرف الطاعة عز، فلا عز في الدنيا والآخرة إلا بالطاعة، ولماذا الشاب؟! لأن الشاب تجري دماء الشهوة في عروقه؛ لأن الشاب -لاسيما في سن المراهقة وسن الفتوة- تعصف الشهوة بكيانه عصفاً، ولكنه خوفاً من الله ومراقبة لله يعصم نفسه ويحارب شهواته، ويحارب نفسه الأمارة خوفاً من الله وإجلالاً له وطاعة له، ولذا كافأ الله هذا الشاب الطائع، التقي، النقي، الطاهر الذي نشأ منذ نعومة أظافره يعبد الله، ويطيع الله، ويؤدي الصلاة، ويحفظ حقوق الله، ويمتثل أوامره ويجتنب نواهيه ويقيم حدوده، يكافئ الله هذا الشاب فيظله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله. أسأل الله أن يمن على شباب الأمة بالهداية، وأن يوفقهم إلى الطاعة، وأن يظلهم في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله. (ورجل قلبه معلق بالمساجد): معنى ذلك: أن قلبه في المسجد، إن صَلَّى الفرض وخرج إلى الدنيا ليسعى على رزقه من الحلال، أو عاد إلى بيته وأولاده، يخرج من المسجد وقلبه مشتاق أن يرجع إلى المسجد مرة أخرى، فهو متعلق بالمسجد يهوى الجلوس في بيت الله، بل يتمنى أن لو ييسر الله له الوقت ليقضي جُل وقته في بيت الله جل وعلا. فيا أيها المسلم! يا من تقضي الوقت أمام المسلسلات والمباريات والأفلام!! لماذا لا تحرص على أن تقضي هذا الوقت في بيت الله جل وعلا؟! فإن بيت الله سبحانه إن تعلق قلبك به أظلك الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلاَّ ظله. (ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه). إنه الحب لله، (من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان)، وإن آصرة الحب في الله هي أغلى آصرة، وإن رابطة الحب في الله هي أغلى رابطة، بل إن أحببت أخاً لك في الله لا من أجل دنيا ولا من أجل منصب ولا من أجل رئاسة، إن أحببت أخاً لك في الله تبارك وتعالى اسمع ما هي النتيجة: يقول الله سبحانه يوم القيامة -والحديث في الصحيحين-: (أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي). وأشهد الله أنني أحبكم جميعاً في الله، وأسأل الله أن يجمعنا مع المتحابين بجلاله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله. (ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه) جمعهم الحب في الله ولم يتفرقا إلا على الحب في الله. (ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال -أي: للزنا- فقال: إني أخاف الله): تذكر الله جل وعلا، وراقب الله سبحانه، وامتنع عن هذه الكبيرة خوفاً من الله جل وعلا، هذا يظله الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله. (ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه): خلى بنفسه، قام من الليل، وجلس يصلي أو يذكر الله سبحانه وتعالى فلما امتلأ قلبه بهيبة الله وبعظمة الله، فاضت عيناه بالدموع خوفاً منه وهيبة له سبحانه. (عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله). فهذا الرجل الذي فاضت عينه بالدموع خوفاً من الله وخشية لله، من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.

حضارة العبيد

حضارة العبيد إن الناظر إلى الحضارة العالمية اليوم بقيادة الرجل الغربي يرى البون الشاسع والفرق الواضح بين حضارة الإسلام وبين هذه الحضارة المتعفنة، بل لا يجد وجهاً للمقارنة فشتان ما بين الثرى والثريا شتان بين حضارة العبيد وبين حضارة الأحرار الأطهار، فقد اعتمد الغرب الكافر في حضارته اليوم على الجانب المادي، متناسياً ومجانباً للجانب الروحي، ولا قوام لأي حضارة إلا بهذين العنصرين معاً.

كلمات لها مغزى

كلمات لها مغزى إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين. فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة، وزكى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور، وطبتم جميعاً وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسال الله جل وعلا الذي جمعني وإياكم في هذا الجمع المبارك على طاعته، أن يجمعني وإياكم في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! (إنها حضارة العبيد) هذا هو عنوان لقائنا مع حضراتكم في هذا اليوم الكريم المبارك، فأعيروني القلوب والأسماع؛ فإن هذا الموضوع في هذه الأزمة الحرجة التي تمر بها أمتنا من الأهمية بمكان، وسوف ينتظم حديثي مع حضراتكم تحت هذا العنوان في العناصر التالية: أولاً: كلمات لها مغزى. ثانياً: حضارة العبيد. ثالثاً: حضارة الإسلام والإنسانية الواحدة. رابعاً: حضارة الإسلام والأخلاق الفريدة الفذة. خامساً: حضارة الإسلام والرفق بالحيوان. وأخيراً: أمانة أطوق بها الأعناق. أخي! أعرني قلبك وسمعك فإن هذا الموضوع في هذا الظرف الحرج من الأهمية بمكان. أولاً: كلمات لها مغزى: أستهل بها الحديث عن هذا الموضوع الخطير الهام، وأقول: لا حاضر لأمةٍ تجهل ماضيها، ولا مستقبل لأمة تنسى فضائلها، وإذا كان الوقوف أمام الماضي للبكاء والنحيب عليه هو شغل الفارغين العاطلين التافهين، فإن ازدراء الماضي بكل ما فيه من خير ونور هو شأن الحاقدين والجاهلين!! ومن السفه أن تنطلي علينا الآن خطط الأعداء الذين حاولوا بكل سبيل أن يحولوا بين أجيال الأمة المعاصرة وبين الماضي المشرق المجيد؛ حتى لا تستمد الأجيال من الماضي المجيد المشرق نوراً يضيء لها طريق المستقبل، وشعلة توقد دروب الحياة، ودماء تتدفق في عروق المستقبل والأجيال. إن كل أمة من أمم الأرض تعتز بماضيها، ولو كان أسود مظلماً كظلام الليل، وتعقد له الاحتفالات، بل وتمنح أبناءها في الوظائف الرسمية العطلات والإجازات لذلك، وإن أحق أمم الأرض بهذا الاعتزاز والفخار بجدارة واقتدار، بل وبشهادة العزيز الغفار، هي أمة نبينا المختار، قال سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]. فَكّرْ جيداً -أيها الحبيب! - في هذه الكلمات؛ لتعلم أنه من الخطر العظيم أن يحال بين ماضينا المشرق وبين مستقبلنا، أسأل الله أن يجعله مستقبلاً زاهراً للإسلام والمسلمين.

حضارة العبيد

حضارة العبيد ثانياً: حضارة العبيد: نعم. إنها حضارة العبيد، إنها الحضارة الخاوية الروح إنها الحضارة التي يمتطي جوادها الآن الرجل الغربي؛ ليسوم البشرية كلها سوء العذاب، فلقد شهدت البشرية اليوم في ظل حضارة العبيد من الوحشية ما لا يمكن على الإطلاق أن تجسده كلمات قواميس اللغة!! إن البشرية الآن تشهد من صنوف الوحشية والبربرية في ظل حضارة الرجل الغربي الذي تقدم ليقود العالم كله في ظل تأخر أمة القيادة، تشهد البشرية اليوم من صنوف الوحشية والبربرية والهمجية على يد الرجل الغربي ما تخجل الوحوش الضارية أن تفعله ببعضها في عالم الغابات. ليست مبالغة، وما عليك إلا أن تنظر إلى الواقع المرير للبشرية المنكودة التي حادت عن منهج ربها ومنهج نبيها صلى الله عليه وآله وسلم.

أمثلة حية تجسد حضارة الإسلام

أمثلة حية تجسد حضارة الإسلام جاء في الصحيحين: أن امرأة شريفة من بني مخزوم سرقت، فغضبت قريش وحزنت لأن الرسول صلى الله عليه وسلم سوف يقيم عليها الحد ويقطع يدها، فقالوا: لا، لابد أن يشفع أحد عند رسول الله في هذه المرأة الشريفة حتى لا تقطع يدها فبحثوا: عمن يشفع فقالوا: إنه الحب ابن الحب أسامة بن زيد، فانطلق أسامة بقلب رقيق ليشفع لهذه المرأة المخزومية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أتشفع في حد من حدود الله يا أسامة؟! وارتقى النبي صلى الله عليه وسلم المنبر وهو غاضب وقال: أيها الناس! إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها). إنه التطبيق العملي للمساواة، وللإنسانية الواحدة! وهذا أبو ذر الغفاري، رجل من غفار أبيض اللون، وهذا بلال الحبشي رجل من الحبشة أسمر اللون، وكلاهما من أصحاب رسول الله الأخيار، حدث بينهما خلاف واحتد الخلاف، فنظر أبو ذر لـ بلال وقال له: يا ابن السوداء! فغضب بلال، وأنطلق إلى سيد الرجال صلى الله عليه وسلم، فأخبره بما قال أبو ذر، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً، والتفت إلى أبي ذر رضي الله عنه وقال: (أعيرته بأمه؟! إنك امرؤ فيك جاهلية) -والحديث في الصحيحين- فندم أبو ذر وبكى. انظر إلى هذا الأفق الوضيء، وإلى هذه القمة السامقة التي جسدت هذا الندم حينما وضع أبو ذر خده على الأرض، واستحلف بلالاً رضي الله عنه أن يطأ بنعله على خده الآخر. إنه الإسلام، إنها الحضارة الإسلامية!! أيها الأحبة: لو استطردت في ذكر هذه الأمثلة لطالت الوقفة جداً، واسمحوا لي أن أُذَكِّر أيضاً بهذا المشهد، وتمنيت أن لو سمعه كل زعماء الغرب الفجرة، إنه عمر، وما أدراكم ما عمر؟! عمر بن الخطاب الذي رأى قافلة تدنو من المدينة في الليل، فقال لـ عبد الرحمن بن عوف: يا عبد الرحمن! هل لك في أجر الليلة؟ قال: ماذا تريد يا أمير المؤمنين؟ فقال: تعال بنا لنحرس هذه القافلة الليلة!! يقول هذا وهو أمير المؤمنين!! فليسمع العالم كله، ولتسمع الحضارة الغربية الكاذبة هذه النّزعة الإنسانية الفريدة!! ويقوم عمر وعبد الرحمن بن عوف يصليان ويحرسان، وفجأة سمع عمر بكاء صبي في القافلة، فدنا عمر من صوت بكاء الصبي، ثم نادى على أم الصبي وقال: اتق الله وأحسني إلى صبيك. طفل يبكي فيحرك قلب الحاكم طفل يبكي عند أمه وهي أقرب الناس إليه فيتحرك له قلب أمير المؤمنين. قلب حاكم الدولة يتحرك لبكاء طفل بين أحضان أمه، لا أقول: بين أحضان القنابل والطائرات والدبابات والرشاشات والغابات، بل بين أحضان أمه! فيقترب عمر ويقول: اتق الله وأحسني إلى صبيك، ثم ينصرف لصلاته، وبعد فترة يسمع بكاء الصبي مرة ثانية، فيدنو عمر من الأم ويقول: اتق الله وأحسني إلى صبيك، ثم يرجع إلى صلاته، وفي المرة الثالثة يسمع بكاء الصبي فيرجع إلى المرأة ويقول: اتق الله وأحسني إلى صبيك فإني أراك أم سوء، فقالت: يا عبد الله! لقد أبرمتني منذ الليلة -أي: لقد أزعجتني، وهي لا تعرف من تخاطب- إنني أفطم الولد عن الثدي كرهاً، فقال عمر: ولم تستعجليه؟ فقالت: لأن عمر بن الخطاب لا يبرم عطاءً إلا لمن فطم عن الرضاعة، فبكى عمر، وانخلع قلبه لهذه الكلمة، وعاد يجر ثوبه وهو يبكي. يقول عبد الرحمن بن عوف: فما سمع أحد منه قراءة -أي: ما عرف الناس قراءته- في صلاة الفجر من شده بكائه فلما فرغ من صلاته قبض على لحيته وبكى وقال: ويل لـ عمر يا بؤساً لـ عمر كم قتلت يا عمر من أطفال المسلمين؟! كم قتلت يا عمر من أطفال المسلمين؟! فلتسمع الدنيا فليسمع قادة الغرب وليسمع قادة المسلمين. ثم يأمر عمر بن الخطاب المنادي أن يمشي بين الناس ويقول: لا تستعجلوا صبيانكم على الفطام، فإنا نبرم العطاء لكل من ولد في الإسلام منذ أول يوم! إنها عظمة الإسلام إنها الإنسانية الفذة! إنها صورة سامقة مهما أوتيت من البلاغة والفصاحة فلن أستطيع أن أجسد لحضراتكم هذه النّزعة الإنسانية التي جاءت بها حضارة الإسلام، والتي أصَّل قواعدها وأسس بنيانها محمد عليه الصلاة والسلام، وأكتفي بهذا القدر لأُعَرِّجَ على بقية العناصر في عجالة سريعة بعد جلسة الاستراحة، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

حضارة الإسلام والإنسانية الواحدة

حضارة الإسلام والإنسانية الواحدة أخي! حضارة الإسلام والإنسانية الواحدة، هو العنصر الثالث: إنه الإسلام الإسلام الذي جاء فجعل الناس جميعاً سواسية بين يدي الله عز وجل، لا عصبية لراية لا عصبية للون لا عصبية لجنس لا عصبية لوطن، فكلها رايات زائفة في ظل حضارة الإسلام لا أصل لها ولا وجود. جاء الإسلام ليجعل الناس جميعاً بين يدي الله عز وجل سواء.

العدل والمساواة في حضارة الإسلام

العدل والمساواة في حضارة الإسلام منذ اللحظات الأول رفع الإسلام شعار المساواة، فقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]. الله أكبر! منذ اللحظات الأولى والدين الإسلامي يقول: لا فضل لعربي على أعجمي ويؤصل لهذا الأصل العظيم، ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم). وفي الحديث الذي رواه أحمد بسند صحيح والبيهقي في سننه من حديث جابر بن عبد الله قال: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في وسط أيام التشريق خطبة الوداع فقال: أيها الناس! ألا إن ربكم واحد، ألان إن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا لأسود على أحمر، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى). هذا هو الإسلام الذي يؤصل الإنسانية الواحدة، لا فرق بين لون ولون وجنس وجنس وأرض وأرض إلا بالتقوى والعمل الصالح {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13]. وفي يوم فتح مكة وقف المصطفى صلى الله عليه وسلم ليؤصل هذا الأصل العظيم، كما في الحديث الذي رواه الترمذي من حديث أبي هريرة وقال: حديث حسن، ورواه الترمذي كذلك من حديث عبد الله بن عمر وقال: حديث حسن غريب، ولفظ حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم وقف يوم فتح مكة وقال: (أيها الناس! إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وتعاظمها بآبائها، ألا إن أباكم واحد، وإن آدم من تراب، فالناس رجلان: رجل بر تقي كريم على الله، ورجل فاجر شقي هين على الله، وتلا النبي قول الله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13]). لقد جاء الإسلام ليسوي بين بلال الحبشي، وأبي ذر الغفاري، ومعاذ الأنصاري، وصهيب الرومي، وسلمان الفارسي، وحمزة القرشي، بل لما افتخر بعضهم بأنسابهم قال سلمان: أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم فلما سمعها عمر بكى رضوان الله عليه، وقام لينشد بيت سلمان وهو يقول: أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم أيها الأحبة: لقد رفع الإسلام سلمان فارس ووضع الكفر الشريف أبا لهب، والسؤال الآن -وأعرني قلبك وسمعك لهذا السؤال-: هل ظلت هذه المبادئ الإنسانية التي جاءت بها حضارة الإسلام حبراً على ورق في أدراج حبيسة؟ هل ظلت حبراً على ورق حبست في أدراج كميثاق حقوق الإنسان في هيئة الرمم؟! أقصد: هيئة الأمم؟ هل ظلت هذه المبادئ السامية حبراً على ورق كميثاق حقوق الإنسان في هيئة الأمم؟ هل ظلت هذه المبادئ التي جاءت بها حضارة الإسلام حبيسة في البلد الذي نادى أول مرة بهذه المبادئ في المدينة المنورة كما حبست فرنسا مبادئ الثورة الحرة -كما زعمت- عن مستعمراتها وبلدانها ورعاياها؟ وهل قامت هذه الحضارة الإسلامية لتجسد هذه المبادئ بتماثيل وأصنام كاذبة فارغة كما فعلت أمريكا بتنصيب تمثال للحرية في وسط ميدان فسيح في نيويورك، يصدم الداخل للمدينة أول مرة؟ إن أمريكا نصبت تمثالاً للحرية وسط ميدان فسيح من ميادينها وخرجت أمريكا خارج أرضها لتلعن الحرية ولتسحق الأحرار الشرفاء الأطهار الأبرار!! هل فعلت حضارة الإسلام هذا؟ لا والله. ما الدليل؟ اقرءوا التاريخ، وشهادة التاريخ أصدق شهادة، ماذا فعل الإسلام ليحول هذه المبادئ إلى منهج حياة وإلى واقع يسمع ويرى في دنيا الناس؟!! ولنستهل الأدلة العملية برائد حضارتنا وأسوتنا وقدوتنا المتجددة على مر الأجيال والقرون، بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، الذي حول هذه المبادئ والمواثيق الشريفة التي نادى بها على أرض الواقع إلى منهج حياة، يشرق ويتألق سمواً وروعة وجلالاً.

مقومات الحضارة

مقومات الحضارة أيها الأحبة: لابد للحضارة من عنصرين ألا وهما: العنصر المادي، والعنصر الأخلاقي. ونحن لا ننكر ألبتة ما وصلت إليه الحضارة الغربية في عالم المادة، فليس من الإنصاف ولا من التعقل أن ننكر ذلك، بل إننا نثبت ذلك للحضارة الغربية في عالم المادة، ونقر بأن الرجل الغربي قد انطلق بعيداً بعيداً في أجواء الفضاء، وانطلق بعيداً بعيداً في أعماق البحار والمحيطات، وفجَّر الذرة، وصنع القنبلة النووية، وصنَّع القنابل الجرثومية، بل وحوَّل العالم كله إلى قرية صغيرة عن طريق هذا التقدم المذهل في عالم الاتصالات والمواصلات. لا ننكر ذلك أبداً، ولا نتجاهل هذا، ولكننا على يقين جازم أن الحياة ليست كلها مادة، فلو استطاع طائر جبار أن يحلق في أجواء الفضاء بجناح واحد فلن يستطيع أن يواصل طيرانه وتحليقه، وإنما سيسقط حتماً لينكسر جناحه الآخر، وإن طالت مدة طيرانه في هذا الفضاء الفسيح. الحياة ليست مادة فحسب، بل لابد للجانب الأخلاقي من تواجد فعال في هذه الحضارة، فالحضارة المادية التي وصلت إليها الحضارة الغربية ما استطاعت أن ترتقي بالإنسان -ابن هذه الحضارة- إلى طهارة إنسانيته أو إلى وضاءة آدميته، بل ما استطاعت أن توفر لابن هذه الحضارة سعادة البال، وانشراح الصدر، وطمأنينة النفس، بل يقف علماء النفس والطب في حيرة ودهشة أمام هذه الحالات المتزايدة لعدد المصابين بالأمراض النفسية والعصبية، وأمام هذه الحالات الهائلة للانتحار الجماعي في مثل هذه البلاد المتحضرة، التي وصل فيها الإنسان إلى ما وصل إليه في جانب المادة كما تعلمون وكما ترون وتسمعون، وصدق الله عز وجل إذ يقول: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه:124 - 127]. لقد عجزت الحضارة المادية أن ترتقي بإنسانها -ابن هذه الحضارة الخاوية الروح- إلى السعادة إلى انشراح الصدر إلى راحة الضمير إلى طمأنينة النفس وراحة البال، عجزت؛ لأن الروح لا توزن بالجرام، ولا تقاس بالترمومتر، ولا تخضع للتجارب المعملية في أحد المعامل، فهذه الروح يعجز أي إنسان على هذه الأرض أن يقدم لها المنهج الذي يرقيها ويغذيها، إذ لا يستطيع أن يقدم لهذه الروح منهج صلاحها وفلاحها في الدنيا والآخرة إلا خالق هذه الروح، قال جل وعلا: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14].

فقدان الحضارة الغربية للعنصر الأخلاقي

فقدان الحضارة الغربية للعنصر الأخلاقي أيها الأحبة: إن الناظر إلى الحضارة الغربية يجد أنها قد فقدت العنصر الأخلاقي، ومن المعلوم أن سنة الله في تطوير الحياة أن الحضارة اللاحقة حتماً ولابد أن تتفوق على الحضارة السابقة في الجانب المادي، وهذه سنة من سنن الله في تطوير هذه الحياة، فمن العبث أن نطالب الحضارة السابقة بما وصلت إليه الحضارة اللاحقة في جانب التطوير المادي. وأضرب لكم مثالاً ليتضح ما أقول: انظر إلى الكتابة في الماضي السحيق، وانظر الآن إلى الكتابة بعد هذا التطور المذهل في آلات الطباعة الحديثة التي تطبع الآن عشرات الآلاف من الكلمات في الدقيقة الواحدة، فما وصل إليه الغربي الآن إنما هو محصلة لأدمغة وعقول عشرات الأجيال، فمن العبث أن نطالب الحضارة السابقة بما وصلت إليه الحضارة اللاحقة في جانب المادة، لكن محال أن ترتقي حضارة على ظهر الأرض أو أن تدوم بالعنصر المادي فقط، بل إن الحضارة لا تسود ولا تبقى إلا بالعنصر الأخلاقي؛ ليحدث التوازن بين العنصر المادي وبين العنصر الأخلاقي. وارجع البصر مرة ومرة وكرة بعد كرة إلى العنصر الأخلاقي في ظل قيادة الرجل الغربي؛ لتعلم أنها حضارة قد تجردت من الأخلاق، لتعلم أنها حضارة العبيد، يسعد فيها ابن الحضارة الكافرة بأن يجلس لا على كرسي، بل على عظام أخيه الإنسان! يسعد فيها ابن هذه الحضارة لا بشرب كأس من الماء البارد، وإنما بشرب برك دماء لإخوانه هنا وهناك! انظر لتتعرف على حقيقة هذه الحضارة التي تجردت من كل خُلق ومن كل فضيلة! انظر الآن إلى ما يجري على أرض البوسنة، وارجع البصر كرة أخرى إلى ما يجري الآن على أرض الشيشان!! وارجع البصر كرة ثالثة إلى ما يجري الآن على أرض فلسطين!! وارجع البصر كرة رابعة إلى ما يجري الآن على أرض العراق!! وارجع البصر كرة خامسة إلى ما يجرى الآن على أرض كشمير!! وارجع البصر كرة سادسة وسابعة وعاشرة إلى ما يجري الآن في كل مكان وُحِّدَ فيه الملك جل جلاله؛ لترى إلى أي درك دنيء وصلت حضارة الغرب في جانب الأخلاق! لا خلق، لا فضيلة، وإن خرج علينا ابن هذه الحضارة الكافرة بهذه الشعارات الرنانة الجوفاء كحقوق الإنسان، والديمقراطية المشئومة، وحرية المعتقدات، والنظام العالمي والسلام العالمي، إلى آخر هذه الدعاوى الكاذبة التي لم تعد تنطلي الآن إلا على السذج والرعاع. إن هذه الأفعال البشعة تبين بجلاء لكل ذي لب حضارة الغرب في هذه الأيام، رغماً عن أنف الدجل الإعلامي والعهر السياسي الذي يتغنى به قادة الغرب في قاعات المؤتمرات وفي المجالس والهيئات والمنظمات، يتغنى قادة العالم الغربي بهذه الشعارات والواقع يكذِّب هذا الدجل الإعلامي، ويكذب هذا العهر السياسي.

جراجات المسلمين في ظل الحضارة العالمية الجديدة

جراجات المسلمين في ظل الحضارة العالمية الجديدة إخواني في الله: انظروا الآن إلى ما يجري على أرض البوسنة منذ أربع سنوات، لأبين لحضراتكم قيمة هذه الحضارة التي يتغنى بها أولئك وهؤلاء في كل مناسبة. وبدون مناسبة، منذ أربع سنوات قُتِلَ إلى يومنا هذا على أرض البوسنة بمنتهى الوحشية والبربرية ما يزيد على نصف مليون. في ظل حضارة الرجل الغربي اغتصاب جماعي منظم للنساء على أرض البوسنة على مرأى ومسمع من ابن الحضارة الغربية التي يتغنى بها في الليل والنهار!! صرخت المسلمة باسم الإنسانية صرخت في الضمير العالمي كله وقالت: أنا أيها الناس مسلمة طوى أحلامها الأوباش والفساق أخذوا صغيري وهو يرفع صوته أمي وفي نظراته إشفاق ولدي وتبلغني بقية صرخة مخنوقة ويقهقه الأفاق ويجرني وغدٌ إلى سردابه قهراً وتظلم حولي الآفاق ويئن في صدري العفاف ويشتكي طهري وتغمض جفنها الأخلاق أنا لا أريد طعامكم وشرابكم فدمي هنا يا مسلمون يراق عرضي يدنس أين شيمتكم أما فيكم أبِيٌٌّ قلبه خفاق أختاه أمتنا التي تدعينها صارت على درب الخضوع تساق أودت بها قومية مشئومة وسرى بها نحو الضياع رفاق إن كنت تنتظرينها فسينتهي نفق وتأتي بعده أنفاق فمدي إلى الرحمن كف تضرع فلسوف يرفع شأنك الخلاق لا تيأسي فأمام قدرة ربنا تتضاءل الأنساب والأعراق هذا ما يُفعل بالمرأة في ظل الحضارة الغربية!! هذا ما يفعل بالمرأة في ظل النظام العالمي الجديد!! هذا ما يفعل بالمرأة في ظل السلام العالمي الجديد!! هذا ما يفعل بالمرأة على مرأى ومسمع من ابن الحضارة التي يتغنى بحضارته الخاوية الكافرة في الليل والنهار!! حتى الأطفال شهدوا -في ظل حضارة الغربيين- ما لا يمكن لمخلوق على ظهر الأرض أن يجسده، كما ذكرت في خطبة (البوسنة بين الملحمة الصربية والعمرية) أن الأطفال لم يسلموا في ظل حضارة العبيد التي يمتطي جوادها الآن الرجل الغربي اللعين الملعون. حتى الطفل يستخدم الآن على أرض البوسنة كدرع بشري، بمعنى أن يفخخ الأطفال بالألغام، وينادي الصرب الكفرة الفجرة أنهم قد أفرجوا عن مجموعة كبيرة من أطفال المسلمين، فإذا ما وصل الأطفال إلى قواعد البوسنة المسلمة، وخرج القادة وخرج الأهل لاستقبال أطفالهم وأبنائهم، يقوم الصرب عن طريق أجهزة التحكم من بُعد -التي تعرف بالريموت كنترول- بتفجير الألغام التي وضعوها في هؤلاء الأطفال المساكين، فيقتل الأطفال ويقتل كل من خرج لاستقبالهم! في ظل حضارة الغربي اللعين الفاجر الملعون المرأة لم تسلم الشيخ الكبير لم يسلم الطفل الرضيع والصغير لم يسلم، بل قد كانوا يأتون بالأم وينتزعون ولدها الرضيع من صدرها، بل ووالله قد نشرت وكالات الأنباء بالصور أنهم كانوا يبقرون البطون ويخرجون الأجنة من بطون أمهاتهم! ينتزع الطفل من صدر أمه، وتقيد الأم بالأغلال، ويوضع الطفل على النار ليشوى والأم تنظر، فإذا ما انتهى هؤلاء الفجرة من شَيِّهِ أُجبرت الأم تحت تهديد الرصاص أن تأكل من لحم طفلها المشوي. في ظل الحضارة الغربية فعل هذا بالأطفال، وقتلوا أربعين ألف طفل، وشردوا مائة ألف طفل إلى مخيمات اللاجئين الكنسية في زغرب في مقدونيا، وفي ألبانيا، وأوروبا كلها. أخي! فكر الآن في طفلك، فكر في ولدك لتشعر بما أقول. أطفالنا ناموا على أحلامهم وعلى لهيب القاذفات أفاقوا يباع الطفل المسلم الآن في أوروبا بمائة دولار فقط. تشهد أوروبا الآن أبشع تجارة رقيق للأطفال في التاريخ كله، بل يستخدم الطفل الآن كفأر تجارب في معامل قلعة الكفر أمريكا وإنجلترا وهولندا في هذه الدول التي تتغنى بالحضارة المكذوبة الكافرة الفاجرة يستخدم الطفل كفأر تجارب! أطفالنا ناموا على أحلامهم وعلى لهيب القاذفات أفاقوا أطفالنا بيعوا وأوروبا التي تشري ففيها راجت الأسواق أين النظام العالمي أما له أثر ألم تنعق به الأبواق أين السلام العالمي لقد بدا كذب السلام وزاغت الأحداق يا مجلس الأمن! بل يا مجلس الرعب يا مجلس الخوف الذي في ظله كسر الأمان وضيع الميثاق أو ما يحركك الذي يجرى لنا أو ما يثيرك جرحنا الدفاق يعفى عن الصرب الذين تجبروا ويفرد بالعقاب عراق وحشية يقف الخيال أمامها متضائلاً وتمجها الأذواق إنها ورب الكعبة حضارة العبيد بكل المقاييس!! أين هذه الحضارة التي يفعل الإنسان في ظلها بأخيه الإنسان ما تستحي الوحوش الضارية أن تفعله ببعضها البعض في عالم الغابات؟! هل نسيتم ما فعله ابن هذه الحضارة بقنبلته النووية في هيروشيما وناجازاكي؟ هل نسيتم ما يفعله ابن هذه الحضارة في قلعة الكفر أمريكا بالزنوج السود؟! وليست أحداث لوس أنجلوس من أحد ببعيد. هل نسيتم ما يفعله ابن هذه الحضارة في كل مكان بأخيه الإنسان؟! من أجل ماذا؟ من أجل التطهير العرقي! من أجل ماذا؟! من أجل اللون!! من أجل العقيدة! من أجل الدين!! هذا ما يفعله الإنسان الآن بأخيه الإنسان في ظل قيادة الرجل الغربي!! إنها -يا إخوة! - حضارة العبيد، ولا أريد أن أتوقف طويلاً مع هذا العنصر فإن الجراح دامية، ولكن تعال معي لنبين لهؤلاء الذين يخشون الإسلام، ويخافونه، بل ويستحي أحدهم أن يعلن أنه مسلم، أو أن يذكر في مؤتمر من المؤتمرات لفظة إسلام أو آية قرآن، أو حديثاً عن النبي عليه الصلاة والسلام، وكأن الإسلام ليس إلا دين التطرف والإرهاب، بل إني والله أعجب حينما تحدث مصيبة في أي موقع أو أي مكان فإذا بها تنسب إلى الإسلام والمسلمين والمتطرفين والإرهابيين. كنت أتوقع يوم أن حدثت أحداث لوس أنجلوس في أمريكا أن يقولوا بأن الذي فجر هذه الأحداث هم الإرهابيون والمتطرفون!! كنت أتوقع يوم أن وقع الزلزال في مصر أن يقولوا بأن الذي أحدث الزلزال هم الإسلاميون والإرهابيون والمتطرفون! وكنت أتوقع إذا حدثت أي مصيبة -ولا زلت- أن تلصق المصيبة والتهمة بالإسلام بالإرهابيين بالمتطرفين!! وإذا أردت أن تتحقق من صدق ذلك -فإني لست مبالغاً ولا مهولاً- ما عليك الليلة إلا أن تجلس أمام مسلسل فاجر من المسلسلات التي يعزف على وترها إعلامنا الوقور الحيي الذي يحارب التطرف والإرهاب لترى السخرية لا بالمتطرف والمتطرفين ولا بالإرهاب والإرهابيين، إنما بسنة سيد النبيين، وأنتم جميعاً تشاهدون وتسمعون وتقرءون!! إنه الواقع المر الأليم!! والله لو علمتم عظمة الإسلام وحقيقته وعدالته؛ لمنحتم الدعاة الصادقين الجوائز والمكافئات لينطلقوا وليعلموا الناس جميعاً في الشرق والغرب -بعد بلاد المسلمين- حقيقة هذا الإسلام.

الحضارة الإسلامية والنزعة الأخلاقية

الحضارة الإسلامية والنزعة الأخلاقية الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الأحبة! عنصرنا الرابع من عناصر هذا اللقاء: الحضارة الإسلامية والنّزعة الأخلاقية، وستعجب إذا قلت لك أيها الحبيب: إن الإسلام كان فريداً في أخلاقه حتى عَلَى أرض المعارك وفي ميادين الحروب، مع أن رؤية الدم تثير الدم، ومع أن القتال يثير الحمية في النفوس والانتقام، وبالرغم من ذلك كله أقول: إن الإسلام كان فريداً في أخلاقه حتى في ميادين القتال والحروب الله أكبر. (يغضب النبي حينما يرى امرأة قد قتلت في الميدان، ويأمر الصحابة ألا يفعلوا ذلك)، ويأمر الصديق جيش أسامة ويقول: لا تقتلوا شيخاً، ولا امرأة، ولا رجلاً تفرغ للعبادة في صومعته، ولا تقطعوا شجرة، ولا تذبحوا بقرة إلا للأكل. هذه مُثُلُ الإسلام حتى في عالم الحروب والمعارك. بل ولا يعلم التاريخ أحداً فُعلَ به من الأذى والاضطهاد ما فُعلَ في نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أوذي في مكة وضع التراب على رأسه وضعت النجاسة على ظهره خنق حتى كادت أنفاسه أن تخرج طرد من بلده حرم من بيته وماله أوذي أصحابه أشد الإيذاء، وبالرغم من ذلك، وبعد أن ترك بلده ووطنه وهاجر إلى المدينة ما تركه المشركون حتى في المدينة، بل جردوا عليه السيوف ورفعوها، ولما عاد النبي صلى الله عليه وسلم منتصراً في يوم فتح مكة، ووقف أهل مكة جميعاً بين يديه، قال لهم صاحب الخلق: (ماذا تظنون أَنِّي فاعل بكم؟! قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، فقال: أقول لكم ما قاله أَخِي يوسف لإخوته: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} [يوسف:92]، اذهبوا فأنتم الطلقاء)، وللأمانة العلمية أقول: إن هذا الحديث ضعيف. سبحان الله! حتى في هذه الأوقات الحرجة؟! انظروا إلى أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم: (عاد النبي صلى الله عليه وسلم من الطائف بعد أن رمي بالحجارة وطرد، وفعل به أهل الطائف أبشع ما يفعله الإنسان بأخيه الإنسان، ونزل إليه ملك الجبال وقال له: مرني بما شئت يا رسول الله -فماذا قال صاحب الخلق في هذه الأوقات التي قد يميل القلب فيها إلى التشفي والانتقام، إذ إن الإنسان يشعر بالظلم- فقال: إني لم أبعث لعاناً ولا فحاشاً، اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون). وطبق الصحابة والمسلمون هذه المبادئ أعظم تطبيق شهدته الأرض وعرفه التاريخ. انظروا ماذا فعل المسلمون يوم أن امتدت الفتوح الإسلامية إلى بلاد سمرقند في عهد عمر بن عبد العزيز، وأرسل حاكم سمرقند رسالة إلى قاضي القضاة يخبره بأن الفتح الإسلامي لسمرقند فتح باطل؛ لأنهم دخلوا عليهم عنوة، ولم يفرضوا عليهم جزية، ولم ينذروهم بالقتال، وأرسل قاض القضاة إلى عمر بن عبد العزيز ليخبره بذلك، فما كان من عمر رضي الله عنه إلا أن أمر قائد الجيوش في سمرقند بالانسحاب فوراً، ولما علم أهل سمرقند أن الجيش قد انسحب بأمر أمير المؤمنين عمر، خرج أهل سمرقند عن بكرة أبيهم بين يدي الجيش الفاتح المنتصر؛ ليعلنوا جميعاً شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. تاريخ الحروب الإسلامية تاريخ مشرف، فليقرأ الناس التاريخ، وليقفوا جميعاً أمام عبر هذا التاريخ، وأنتم تعلمون ما فعله صلاح الدين بالصليبيين، وتعلمون أنه قدم طبيبه الخاص في أرض المعركة لقائد الحملة الصليبية، لما سمع أنه مريض ولا يوجد من يبذل له الدواء والعلاج، فأرسل له صلاح الدين طبيبه الخاص ليبذل له الدواء والعلاج. ولما صرخت امرأة نصرانية، ورمت بنفسها على خيمة صلاح الدين في الليل، سألها ما الخبر؟ فأخبرته أن أحد أفراد الجيش قد أخذ ولدها، فأمر صلاح الدين أن يرد الجيش -بأي سبيل- هذا الطفل، ولم يهدأ حتى اطمأن بنفسه أن المرأة قد رد إليها طفلها. وتعلمون ما فعله محمد الفاتح بالنصارى الصليبيين في كنيسة -آيا صوفيا- حينما فتح القسطنطينية، فعل ما سيقف التاريخ أمامه وقفة إعزاز وإجلال وإكبار. اقرءوا التاريخ لتعرفوا ما فعله هؤلاء الأطهار الأبرار حتى في المعارك والحروب والميادين. لقد ضرب الإسلام أروع الأمثال في السماحة حتى في أرض المعارك التي تثير فيها رؤية الدم الدماء، وينتشي القادة الفاتحون بسكرة النصر للتشفي والانتقام، ولكن هذا لم يحدث في ظل حضارة الإسلام التي أصل أصولها وأسس بنيانها محمد عليه الصلاة والسلام.

حضارة الإسلام والرفق بالحيوان

حضارة الإسلام والرفق بالحيوان وهنا نأتي إلى حضارة الإسلام والرفق بالحيوان، فحتى الحيوان لم يغفل عنه الإسلام، وقبل أن تتغنى أوروبا وأمريكا بجمعيات الرفق بالحيوان أَصل الإسلام أصول الرفق بالحيوان، ففي الصحيحين من حديث أبى هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (دخلت امرأة النار في هرة لا هي أطعمتها ولا هي تركتها لتأكل من خشاش الأرض) أي: حبستها حتى ماتت فدخلت النار من أجلها. وقبل أن تتغنى أوروبا وأمريكا بالرفق بالحيوان، جاء في الصحيح: (أن بغياً -امرأة زانية- من بغايا بني إسرائيل مرت على بئر فشربت منه، ثم مر عليها كلب يلهث يأكل الثرى من شدة العطش، فقالت: لقد وقع العطش بهذا الكلب مثل ما وقع بي، فعادت البغي إلى البئر فملأت موقها -أي: خفها- ماء وقدمت إلى الكلب فشرب، فغفر الله لها بذلك غفر الله لها) من أجل كلب. وأنا أقول: أيها الأحبة: إذا كانت الرحمة بالكلاب تغفر الخطايا للبغايا، فكيف تصنع الرحمة بمن وحد رب البرايا؟!!

أمانة أطوق بها الأعناق

أمانة أطوق بها الأعناق وأخيراً أيها الأحبة! فهذه أمانة أطوق بها الأعناق أطوق بها الأعناق، أطوق بها أعناق حكامنا أطوق بها أعناق علمائنا أطوق بها أعناق المسلمين والمسلمات في كل مكان أن يظهر حكامنا هذا الإسلام وحقيقته بعدم محاربته بعدم الصد عن سبيل الله، وأن يعلنوا للعالم كله -إذ إن القضية في أيديهم في المقام الأول- حقيقة الإسلام، وأنا أتألم أشد الألم حينما أرى حكام المسلمين في كل مؤتمر من المؤتمرات، بمناسبة وبدون مناسبة، لا يتكلمون إلا عن التطرف والإرهاب. إذاً: ستوصمون أنتم أمام الغربيين بذلك، فدعوكم من هذه النغمة الممجوجة، وبينوا للعالم كله حقيقة الإسلام، وعظمة الإسلام، وعدالة الإسلام، ورحمة الإسلام، وإن وقع من بعض المسلمين بعض الأخطاء فلا ينبغي أبداً أن نركز المجاهر المكبرة على هذه الأخطاء؛ لنعلق على هذه الشماعة الظلم السياسي، والظلم الاجتماعي، والاستبداد الأخلاقي، والفساد الطبقي: {تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} [النجم:22]. سبحان الله! هذه الأفعال تمارس في كل ساعة على خشبة المسرح العالمي، فأين أنتم من التطرف اليهودي في فلسطين؟!! أين أنتم من التطرف الصربي في البوسنة؟!! أين أنتم من التطرف الوثني الشيوعي في الشيشان؟! أين أنتم من التطرف الوثني البقري في كشمير؟!! أين أنتم من التطرف في طاجكستان في الصومال في كل مكان؟! لا ينبغي أن تركز المجاهر المكبرة على بعض الأخطاء التي قد يقع فيها بعض الشباب، وإنما ينبغي أن نفتح صدورنا لهؤلاء الشباب، وأن يفسح المجال للعلماء المخلصين والدعاة الصادقين ليبينوا الحق لهؤلاء الشباب وليأخذوا بأيديهم إلى ما جاء به الإسلام من عظمة وخلق وعدل ورحمة. هذه أمانة أطوق بها أعناق العلماء: يا علماء الأمة! أنتم مشاعل الهداية، إننا في وقت لا وقت فيه ولا مجال فيه للنفاق ولا للتملق ولا للمداهنة، ولو دامت الكراسي لأحد ما وصلت إليكم. إن الكراسي زائلة، وإن المناصب فانية، وإن أعظم خدمة الآن تقدمونها لدين الله أن تصدقوا الحكام النصيحة، وأن تبذلوا النصيحة الصادقة بأدب. نعم بأدب، فنحن لا نخرج عن قواعد الأدب، بل بأدب وبإجلال وبتواضع واحترام، فلا ينبغي أن تجترنا عنتريتنا على المنابر أو هنا أو هناك لنسفه هذا أو ذاك، لا أبداً، إنما أقول: نبذل النصيحة -أيها العلماء- لهؤلاء الحكام بأدب وإخلاص وبصدق، فإن الوقت لا مجال فيه ألبتة للتملق ولا للمداراة ولا للمداهنة. وأنتم أيها المسلمون! اشهدوا لهذا الإسلام بسلوككم بأخلاقكم بأعمالكم كفانا خطباً، إن الإسلام لن نعيده للأرض بالخطب الرنانة، ولا بالمواعظ المؤثرة، إنما أنت أيها المسلم، وأنت أيتها المسلمة، حولوا الإسلام إلى الواقع، انقلوا الإسلام من المساجد إلى كل مناهج ومناخ الحياة، فلير العالم كله كيف أن المسلمين قد ارتقوا بإسلامهم، إذ إن العالم يحكم الآن على الإسلام من خلال واقعكم أنتم أيها المسلمون، فليشهد الطبيب لإسلامه، وليشهد المهندس لإسلامه، وليشهد العالم لإسلامه، وليشهد الموظف لإسلامه، وليشهد المدرس لإسلامه، ولتشهد المرأة لإسلامها، لابد أن نحول الإسلام في حياتنا كلها إلى منهج حياة وإلى واقع يتحرك في دنيا الناس. اللهم رد الأمة إليك رداً جميلاً اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، وأعل بفضلك كلمة الحق والدين اللهم أقر أعيننا بنصرة التوحيد والموحدين اللهم احمل المسلمين الحفاة، واكس المسلمين العراة، وأطعم المسلمين الجياع. اللهم لا تدع لأحد منا في هذا الجمع المبارك ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا أديته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا طائعاً إلا ثبته، ولا حاجة هي لك رضاً ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ويسرتها يا رب العالمين! اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً ولا تجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروماً. اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى! اللهم ألف بين قلوبنا، ووحد بين صفوفنا! اللهم إنا نسألك النصرة والعزة والتمكين لإخواننا اللهم انصر المجاهدين في كل مكان اللهم انصر المجاهدين في كل مكان اللهم انصر المجاهدين في كل مكان اللهم شتت شمل الصرب يا قوي يا متين! اللهم سلط الكروات على الصرب، وسلط الصرب على الكروات، وأخرج أهل البوسنة والمسلمين من بينهم سالمين غانمين برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم إنا نشكو إليك خيانة الخائنين اللهم إنا نشكو إليك خيانة الخائنين وإجرام المنافقين المجرمين. اللهم ارفع مقتك وغضبك عن الأمة يا أرحم الراحمين! اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، لا إله لنا سواك فندعوه، ولا رب لنا غيرك فنرجوه يا منقذ الغرقى! ويا منجي الهلكى! ويا سامع كل نجوى! يا عظيم الإحسان! ويا دائم المعروف! يا غياث المستغيثين! ويا مفرج الكرب عن المكروبين! ويا كاشف الهم عن المهمومين! فرج الكرب عن أمة سيد النبيين. اللهم فرج كرب أمة سيد النبيين اللهم فرج كرب أمة سيد النبيين، وردها إلى الحق رداً جميلاً يا أرحم الراحمين! اللهم ارفع عن مصر الغلاء والوباء والبلاء! اللهم لا تحرم مصر من التوحيد والموحدين برحمتك يا أرحم الراحمين! أيها الأحبة! هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو لحن أو سهو أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.

أسير في قيد دروس وعبر

أسير في قيد دروس وعبر الرفق والإحسان إلى الخلق له تأثير عجيب في الدعوة إلى الله عز وجل، وما ذاك إلا لأن المقصود بالدعوة رحمة الناس والإشفاق عليهم، وقد تجلى ذلك صريحاً في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، فبرفقه ورحمته دخل الناس في دين الله أفواجاً، والوقائع التي تشهد لذلك يصعب حصرها، ومن تلك الوقائع قصة إسلام ثمامة بن أثال رضي الله عنه.

الدروس والعبر المستفادة من قصة أسر ثمامة بن أثال

الدروس والعبر المستفادة من قصة أسر ثمامة بن أثال إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة؛ فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين. فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء! وأيها الإخوة الأحباب الكرام الأعزاء! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً. وأسأل الله العظيم الكريم جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! (أسير فى القيد دروس وعبر) هذا هو عنوان لقائنا هذا، وسوف أركز الحديث تحت هذا العنوان في العناصر التالية: أولاً: الرفق والإحسان إلى الناس يُحوِّلانِ البغض إلى حب. ثانياً: سيرة حافلة بالدروس والعبر. ثالثاً: عودة واجبة. فأعيرونى القلوب والأسماع. والله أسأل أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

عظيم أثر الرفق والإحسان في الدعوة إلى الله

عظيم أثر الرفق والإحسان في الدعوة إلى الله أولاً: الرفق والإحسان إلى الناس يحولان البغض إلى حب. أحبتي في الله! روى البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلاً قِبل نجد -أي: أرسل النبي صلى الله عليه وسلم سرية عسكرية استطلاعية ناحية نجد -وكانت هذه السرية بقيادة محمد بن مسلمة - فجاءت هذه السرية برجل من بني حنيفة يقال له: ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة، فربط هذا الرجل في سارية من سواري المسجد -أي: عمود من أعمدة المسجد- وهم لا يعرفونه، وثمامة قيل من أقيال العرب، وسيد من أسياد العرب، وشريف من أشرافهم، أسروه وهو في طريقه إلى العمرة، ولكن كان على الشرك بالله جل وعلا، وأدخلوه إلى المسجد، وربطوه في عمود من أعمدة المسجد النبوي، فلما دخل النبي صلى الله عليه وسلم رآه فعرفه، وفى رواية ابن هشام: قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (ألا تعرفون هذا؟! إنه ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة) وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يحسنوا إليه. وفي رواية الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إليه فقال: (ماذا عندك يا ثمامة؟! قال: عندي خير يا محمد! إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فتركه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان الغد خرج عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ماذا عندك يا ثمامة؟! قال: عندي ما قلت لك: إن تقتل تقتل ذا دام، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فتركه النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بعد الغد خرج عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ماذا عندك يا ثمامة؟! فقال: عندي ما قلت لك: إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أطلقوا ثمامة) أي: لا نريد مالاً ولا نريد شيئاً. فأطلقه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فانطلق ثمامة إلى نخل قريب من المسجد النبوي فاغتسل، وعاد إلى المسجد، ورفع صوته وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، والتفت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! والله ما كان على الأرض وجهٌ أبغض إليّ من وجهك، فقد أصبح وجهُك أحب الوجوه إليّ، والله ما كان على الأرض دين أبغض إليّ من دينك، فقد أصبح دينك أحب الدين إليّ، والله ما كان على الأرض بلد أبغض إليّ من بلدك، فقد أصبح بلدك أحب البلاد إليَّ، ثم قال: يا رسول الله! لقد أخذتني خيلك وأنا أريد العمرة فبماذا تأمرني؟ فبشره النبي صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يعتمر. قال الحافظ ابن حجر: بشره بخيري الدنيا والآخرة، أو بشره بالجنة، أو بشره بتكفير سيئاته؛ لأن الإسلام يهدم ما كان قبله. فلما دخل مكة قال له قائل: أصبأت يا ثمامة؟! أي: هل تركت دين آبائك وأجدادك وتبعت محمداً على دينه؟! فقال: لا، ولكني أسلمتُ مع محمد رسول الله، ثم التفت إليهم وقال: والله! لا تأتيكم من اليمامة حبةُ حنطةٍ -أي حبة قمح- حتى يأذن فيها رسول الله! وفي رواية ابن هشام: أن ثمامة لما وصل بطن مكة رفع صوته بالتلبية، فكان أول من لبى وجهر بالتلبية في مكة، فلما رأى المشركون رجلاً يتحداهم بهذه الصورة العلنية الجريئة قالوا: من هذا الذي يجترئ علينا ويرفع صوته بالتلبية في بلادنا وديارنا ويردد الكلمات التي يُعَلِمُهَا محمدٌ لأصحابه؟! فانقضوا عليه، وأرادوا أن يضربوا رأسه، فقال أحدهم: ألا تعرفون من هذا؟! إنه ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة، وأنتم تحتاجون إلى اليمامة في طعامكم، فخلوا سبيل الرجل، فالتفت ثمامة إليهم وقال: والله! لا تأتيكم حبة حنطة من اليمامة إلا بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم! وفي هذا قال بعض بني حنيفة: ومنا الذي لبى بمكة معلناً برغم أبي سفيان في الأشهر الحرم أيها الأحبة الكرام! إنه مشهد بالغ الروعة، وأنا اعترف بداية أنني أعجز عن أن أصور روعته وعظمته وجلاله، فرسول الله صلى الله عليه وسلم هو الرحمة المهداة والنعمة المسداه، لا للموحدين فحسب بل للمشركين وللعالمين، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]. قال ابن عباس رضي الله عنهما: (رسول الله رحمة للبار والفاجر، فمن آمن به تمت له النعمة، وتمت له الرحمة في الدنيا والآخرة، ومن كفر به أمن من عذاب الدنيا حتى يلقى الله في الآخرة، مصداقاً لقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال:33]). وتدبر هذا الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن عائشة قالت: يا رسول الله! هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد؟! فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (لقد لقيت من قومك ما لقيت يا عائشة! وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال) وهو شريف من أشراف أهل الطائف، ولكنه رفض دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وسلط الصبيان والسفهاء على الحبيب، فرموه بالحجارة حتى سالت الدماء من جسده الطاهر، (فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب) وهو مكان يبعد عن الطائف بما لا يقل عن خمسة كيلو مترات، (فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال: إن الله عز وجل قد سمع قول قومك لك، وما ردوا به عليك، ولقد أرسل الله إليك ملك الجبال؛ لتأمره بما شئت فيهم يا رسول الله! فناداني ملك الجبال فسلم عليّ وقال: يا رسول الله! لو أمرتني أن أطبق عليهم الأخشبين لفعلت. فقال المصطفى: لا، لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئاً)، وفي رواية مسلم لما قيل له: ادع على المشركين. قال: المصطفى صلى الله عليه وسلم (إني لم أبعث لعاناً، وإنما بعثت رحمة). أيها المسلمون! تدبروا كيف حَوَّل الرفق والإحسان البُغض المتأصل في قلب ثمامة إلى حب جياش فياض!!. ثمامة بن أثال دبر لاغتيال النبي صلى الله عليه وسلم ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة خرج إلى مكة ليعتمر قائلاً: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك! فأبى الله جل وعلا إلا أن يلبي تلبية الموحدين، فسبحان من بيده القلوب يحولها كيف يشاء! قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال:24]. ثمامة أُسر ورُبط في المسجد، وقد ترجم عليه البخاري باباً يُجوّز فيه أن يدخل المشرك إلى المسجد، وأبى النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن يظل ثمامة فى المسجد النبوي؛ ليرى ثمامة بعينيه، وليسمع بأذنيه عظمة هذا الدين ليرى النبي بنفسه، وليسمع كلام النبي، وليرى أخلاقه، فلما رأى ثمامة رفق النبي صلى الله عليه وسلم وإحسانه وأخلاقه؛ تحول البغض في قلبه إلى حب فياض، فهو الذي قال: (والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي!). أيها المسلمون! لابد من أن نعي هذا الدرس، ونعلم أن العنف يهدم ولا يبني، والشدة تفسد ولا تصلح، وأن الرفق والإحسان إلى الناس هو الذي يحول البغض فى القلوب إلى محبة صادقة فياضة، فما أحوجنا إلى أن نعي هذا الدرس! قد يأتي شاب شرح الله صدره للالتزام فيعفي اللحية، ويقصر الثوب، ويحافظ على مجالس العلم، ولا زال أبوه بعيداً عن طريق الله، ولا زالت أمه بعيدة عن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجعل هذا الشاب من البيت حريقاً محرقاً مدمراً، يسيء إلى والده، يسيء إلى أمه، ويسفه أباه، ويحتقر أمه، ويضرب إخوانه، يسيء إلى أخواته! فيظن أهل البيت أن الالتزام نار مشتعلة، وأن الالتزام سوء أخلاق وأدب، وأن الالتزام غصب مستمر! فنقول: يا أخي! أنت أسأت إلى الإسلام من حيث لا تدري، وأسأت إلى منهج النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة من حيث لا تشعر، ففرقوا أيها الشباب! وأيها المسلمون! بين مقام الجهاد الذي يحتاج إلى الغلظة والقسوة والشدة، وبين مقام الدعوة الذي يحتاج إلى اللين والحكمة والرحمة، كما قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125]. بل وخاطب الله نبيين كريمين هما: موسى وهارون، وأمرهما أن يقولا لفرعون الذي طغى وبغى قولاً ليناً، فقال سبحانه: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:43 - 44] قرأ سيدنا قتادة رحمه الله هذه الآية فبكي، وقال: سبحانك ما أحلمك! تأمر موسى وهارون أن يقولا لفرعون قولاً ليناً! فإن كان هذا هو حلمك بفرعون الذي قال: أنا ربكم الأعلى، فكيف يكون حلمك بعبد قال: سبحان ربي الأعلى؟! ثمامة تأصلَّ البغض في قلبه، ونحن نعلم أن البغض للإسلام الآن متأصل في قلوب كثيرة في الشرق والغرب والداخل. وأرجو أن نعي الدروس التي أود أن أسوقها سوقاً كريماً من خلال هذا الحدث الرائع لرسول الله مع ثمامة، تأصل البغض في قلب ثمامة للنبي، ولدين النبي، ولبلد النبي، ثم تحول هذا البغض بالرفق والإحسان والحكمة والرحمة واللين إلى حب، هذه هي متط

سيرة حافلة بالدروس والعبر

سيرة حافلة بالدروس والعبر دروس غالية يجب أن نقف أمامها طويلاً، فإن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم حافلة بالدروس، وهذا هو عنصرنا الثاني: سيرة حافلة بالدروس والعبر، لكننا بكل أسف أصبحنا نتعامل -إلا من رحم الله- مع سيرة النبي لمجرد الثقافة الذهنية، أو لمجرد الاستمتاع والدراسة النظرية، وكأن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم كانت وفقط!! فوالله ما أرسل الله نبيه! وما جعل الله حياة نبيه وسيرته وسنته ماضياً فحسب، بل يجب أن تكون سيرته شعلة توقد شموس الحياة، ودماءً تتدفق في عروق مستقبلنا وأهلنا. سيرة النبي سيرة حافلة، وهذه السيرة ليست للدراسة النظرية، بل لنحولها في حياتنا إلى واقع حياة، وإلى منهج عملي يتألق سمواً وروعة وجلالاً على قدر سمو وروعة وجلال سيرة الحبيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فلنتعلم هذا الرفق، وهذه الرحمة، وهذه الأخلاق، وصدق ربي إذ يقول: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:34 - 35] وصدق المصطفى إذ يقول -كما في الصحيحين-: (إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله) فتعلموا هذا يا شباب! وفي لفظ مسلم: (إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه) وفي صحيح مسلم من حديث عائشة (ما كان الرفق في شيء إلا زانه وما نزع من شيء إلا شانه).

قصة إسلام زيد بن سعنة حبر اليهود

قصة إسلام زيد بن سعنة حبر اليهود وأختم هذه الدروس بدرس جميل آخر رواه الطبراني من حديث عبد الله بن سلام بسند رجاله ثقات أن حبر اليهود زيد بن سعنة قال: والله ما من شيء من علامات النبوة إلا وقد عرفته في وجه النبي حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أعرفهما فيه الأولى: يسبق حلمه جهله، والثانية: لا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً، قال: فانطلقت يوماً فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم وقد أقبل عليه رجل يركب راحلته وهو يقول: يا رسول الله! إن قومي من قرية كذا أو من بني فلان في قرية كذا كانوا قد دخلوا الإسلام، وكنت وعدتهم أنهم إن دخلوا الإسلام أن يأتيهم الرزق رغداً، وقد أصابتهم اليوم شدة، فأخشى أن يخرجوا من الإسلام طمعاً كما دخلوا في الإسلام طمعاً، فإن رأيت أن ترسل إليهم بشيء من المال؛ لتغيثهم به فعلت، وجزاك الله خيراً. فالتفت النبي إلى علي بن أبى طالب الذي كان معه وكأنه يريد أن يسأل: هل عندنا من المال من شي؟ فالتفت علي إلى النبي وقال: (والله ما معنا من المال شيء)، يقول زيد بن سعنة: فأقبلت على محمد صلى الله عليه وسلم وقلت: يا محمد! هل تبيعني تمراً في حائط بني فلان إلى أجل معلوم؟ أراد أن يعطيه مالاً إلى أجل معلوم فقال النبي: (صلى الله عليه وسلم نعم، لكن لا تسمى حائط بني فلان) فقال زيد بن سعنة: قبلت، قال: فأعطيت النبي صلى الله عليه وسلم ثمانين مثقالاً من ذهب، فدفعها كلها إلى الرجل وقال: (أغث بهذا المال قومك) ومن المعلوم أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، فانطلق الرجل بالمال كله، يقول زيد: وقبل أن يحل وقت السداد رأيت محمداً في نفر من أصحابه، يجلس إلى جوار جدار، بعد أن صلى على جنازة رجل من الأنصار، فأقبلت عليه، وأخذته من مجامع ثوبه، وقلت له: أد ما عليك من دَيْنٍ يا محمد! فوالله ما علمتكم يا بني عبد المطلب إلا مُطْلاً في سداد الديون! فانتفض عمر والتفت إلى هذا الحبر اليهودي -وهو لا يعرفه- وقال: (يا عدو الله! تقول لرسول الله ما أسمع، وتفعل برسول الله ما أرى، والله لولا أنني أحذر غضبه صلى الله عليه وسلم لضربت رأسك بسيفي هذا!! وزيد بن سعنة يراقب وجه النبي صلى الله عليه وسلم وكلماته، ويريد أن يسمع ماذا سيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف الرهيب العصيب، فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمر وقال: (لا يا عمر! لقد كان من الواجب عليك أن تأمرني بحسن الأداء وأن تأمره بحسن الطلب! ثم قال: يا عمر! خذه وأعطه حقه، وزده عشرين صاعاً من تمر جزاء ما روعته) يقول زيد: فأخذني عمر فأعطاني حقي، وزادني عشرين صاعاً من التمر. فقلت له: ما هذه الزيادة؟ قال: أمرني رسول الله أن أزيدكها جزاء ما روعتك. فقال زيد بن سعنة: ألا تعرفني يا عمر؟! قال: لا، قال: أنا زيد بن سعنة قال عمر: حبر اليهود؟! قال: نعم. قال عمر: فما الذي حملك على أن تفعل برسول الله ما فعلت؟ قال زيد: يا عمر! والله ما من شيء من علامات النبوة إلا وقد عرفته في وجه محمد حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أعرفهما فيه: الأولى: يسبق حلمه جهله، والثانية: لا تزيده شده الجهل عليه إلا حلماً؛ أما وقد عرفتهما اليوم فإني أشهدك أني قد رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً ورسولاً! وعاد حبر اليهود مع عمر بن الخطاب إلى المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله، وشهد مع رسول الله بعد ذلك كل المشاهد والغزوات، وتوفي في غزوة تبوك مقبلاً غير مدبر، رضي الله عنه وأرضاه. أيها المسلمون! أيها الأحبة الكرام! ألم أقل: إن الإحسان إلى الناس يحول البغض في القلوب إلى حب؟! فليت الأمة تعي هذا الدرس بحكامها، وعلمائها، ورجالها، وشبابها، ونسائها. وليت الأمة تعود إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لتحول هذه السيرة العطرة والأخلاق الزاكية في حياتها إلى واقع عملي، وإلى منهج حياة فوالله ما تعلقت القلوب برسول الله صلى الله عليه وسلم إلا لهذه الأخلاق السامية.

شهادة الأعداء بعظمة النبي صلى الله عليه وسلم

شهادة الأعداء بعظمة النبي صلى الله عليه وسلم لقد كرم النبيَّ أعداؤه قبل أصحابه وأصدقائه. وشهد الأعداء لرسول الله -على الأقل بينهم وبين أنفسهم- بالصدق، والنبل، والرجولة، والأخلاق، والحق ما شهدت به الأعداء. فهذا عروة بن مسعود الذي ذهب ليفاوض النبي في الحديبية لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ورأى أخلاقه ورأى حب الصحابة له عاد إلى قومه ليقول: يا قوم! والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على كسرى وقيصر والنجاشي فوالله ما رأيت ملكاً يعظمه أصحابه كما رأيت أصحاب محمد يعظّمون محمداً! لقد تعلقت قلوب أصحابه به لنبله وخلقه، بل إن الأعداء صدقوه وإن كانوا كذبوه كبراً وعناداً، كما قال تعالى: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33] قال عروة: والله ما تنخم محمد نخامة إلا ووقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده! ووالله ما توضأ إلا وكادوا يقتتلون على وضوئه! وإذا تكلموا عنده خفضوا أصواتهم وإذا أمرهم ابتدروا أمره، ولا يحدون الطرف إليه تعظيماً له وإجلالا!! إن الأمة الآن تتعامل مع هذه السيرة تعاملاً نظرياً ذهنياً، وتستمتع بالسيرة استمتاعاً سالباً!! ووالله ما كانت سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ماضية، بل يجب أن تكون سيرته شعلة توقد شموس الحياة لنا، ويجب أن تكون سيرته دماءً تتدفق في عروق مستقبلنا وأجيالنا؛ لنحول هذه السيرة في حياتنا إلى واقع عملي، وإلى منهج حياة، وهذا هو عنصرنا الثالث من عناصر هذا اللقاء، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

حسن التصرف وحسن المعاملة يستميلان القلوب

حسن التصرف وحسن المعاملة يستميلان القلوب وتدبروا! أيضاً هذا الحديث الذي رواه البخاري ومسلم وأحمد من حديث عبد الله بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح حنيناً قسم الغنائم، وأعطى المؤلفة قلوبهم، وزاد لهم في العطاء، ولم يعط الأنصار شيئاً من الغنيمة، فغضب الأنصار الأطهار الأبرار وقالوا: يغفر الله لرسول الله؛ يعطي قريشاً ويتركنا وسيوفنا لا زالت تقطر من دمائهم؟! وفي رواية ابن إسحاق بسند صحيح من حديث أبي سعيد الخدري أن بعض الأنصار قال: والله! لقد لقي رسول الله قومه -أي: لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه من قريش- فأعطاهم ونسينا، فلما سمع ذلك سعد بن عبادة انطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما قاله الأنصار، فقال النبي المختار: (اجمع لي الأنصار يا سعد! فإن اجتمعوا فأعلمني) فانطلق سعد بن عبادة فجمع الأنصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما اجتمعوا عن آخرهم أعلم النبي وأخبره، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم إليهم خطيباً، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: (يا معشر الأنصار! ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله؟ وعالة فأغناكم الله؟ وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟! فسكت الأنصار. فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: ألا تجيبون يا معشر الأنصار؟! فقالوا: ماذا نقول؟ وبماذا نجيبك يا رسول الله؟! المن لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: والله! لو شئتم لقلتم فصدقتم: جئتنا طريداً فآويناك، وعائلاًٍ فواسيناك، وخائفاً فأمناك، ومخذولاً فنصرناك، فقال الأنصار: المن لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فالتفت المصطفى إليهم وقال بلغة الإحسان والرفق والرحمة والحنان: يا معشر الأنصار! أما ترضون أن يرجع الناس إلى رحالهم بالشاة والبعير، وترجعون أنتم إلى رحالكم برسول الله؟! -يا لها من غنيمة- وجدتم عليَّ في أنفسكم في لعاعة -أي: في أمر تافه- من الدنيا تألفت بها قلوب قوم أسلموا حديثا، ووكلتكم إلى إيمانكم بالله ورسوله؟! يا معشر الأنصار! أما ترضون أن يرجع الناس إلى رحالهم بالشاة والبعير وترجعون أنتم إلى رحالكم برسول الله؟! ثم التفت إليهم مرة أخرى وقال: يا معشر الأنصار! والله لو سلك الناس شعباً وسلك الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار، ولولا الهجرة لكنت رجلاً من الأنصار، ثم رفع يديه وقال: اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار) فبكى الأنصار حتى اخضلت لحاهم من البكاء أمام هذا الإحسان والرفق وحسن التصرف والمعاملة.

أثر رفق النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه

أثر رفق النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه ٍوتدبروا هذا الدرس الذي رواه مسلم من حديث معاوية بن الحكم السلمي قال: بينما أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجلٌ من القوم -أي: في الصلاة- فقلت له: يرحمك الله، أي: وهو في الصلاة؛ لأنه لا يعلم الحكم. يقول معاوية رضي الله عنه: (فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أمياه! ما شأنكم تنظرون إليّ، فجعلوا يضربون على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني سكتّ، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -بأبي هو وأمي- ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني وإنما قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس). ومن حديث أبي هريرة وأنس يقول أنس: (بينما نحن في المسجد مع رسول الله إذ جاء أعرابي فدخل المسجد فبال في المسجد، فقال أصحاب النبي: مه مه -يعني: ماذا تصنع- تبول في مسجد النبي؟! فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (لا تزرموه، دعوه) أي: لا تقطعوا عليه بوله. فتصور يا أخي! وتذكر هذه الكلمات النبوية الغالية: (لا تزرموه) فأنهى الرجل بوله مطمئناً، ثم نادى عليه نهر الرحمة وينبوع الحنان ومعلم الحكمة، نادى عليه بأبي هو وأمي وقال له: (إن المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما جلعت لذكر الله عز وجل وللصلاة ولقراءة القرآن) وفي رواية ابن ماجة بسند صححه شيخنا الألباني رحمه الله: أن هذا الأعرابي أصبح فقيهاً بعد هذه الكلمات فقال: بأبي هو وأمي قام إلي، فلم يؤنب، ولم يسب، ولم يضرب. ثم تأثر هذا الأعرابي بأخلاق الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم، فقام يدعو للنبي في الصلاة، كما في رواية البخاري في كتاب الأدب من حديث أبي هريرة أنه قام يدعو للنبي ويقول: (اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً! فقال له المصطفى صلى الله عليه وسلم: لقد حجرت واسعاً) أي: ضيقت ما وسع الله جل وعلا، فالله سبحانه يقول: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156]. ولكنها انفعالة تلقائية طبيعية بهذه الأخلاق السامقة، بأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم.

وجوب العودة والرجوع إلى الله واتباع نبيه

وجوب العودة والرجوع إلى الله واتباع نبيه الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أيها الأحبة الكرام! قد يكون من اليسير جداً أن نقدم منهجاً نظرياً في التربية والأخلاق، ولكن هذا المنهج النظري سيظل حبراً على ورق ما لم يتحول في حياة الناس إلى واقع عملي ومنهج حياة، بل قد لا يساوي قيمة المداد الذي كتب به ما لم يتألق في دنيا الناس سمواً وروعةً وجلالاً، ولقد نجح النبي صلى الله عليه وسلم في أن يجعل من الأعراب ومن العرب المنبوذين في أرض الجزيرة، الذين لا ذكر لهم ولا كرامة قبل الإسلام، استطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل من هؤلاء الحفاة العراة جيلاً قرآنياً فريداً، لم ولن تعرف البشرية له مثيلاً على الإطلاق؛ وذلك يوم أن نجح المصطفى صلى الله عليه وسلم في أن يطبع آلاف النسخ من المنهج التربوي الإسلامي، ولكن المصطفى لم يطبع هذه النسخ بالحبر على صحائف الورق، وإنما طبعها على صحائف القلوب بمداد من النور، فحول أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هذا المنهج النظري في التربية والأخلاق إلى واقع عملي يتألق عظمة في دنيا الناس، فرأت البشرية كلها نبلهم وصدقهم، ورأت منهج الله يمشي على قدمين في دنيا الناس، كما قالت عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كان خلقه القرآن). لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قرآناً متحركاً في دنيا الناس، وكذلك كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يمتثلون أمر الله ورسوله، ويجتنبون نهي الله ورسوله، ويقفون عند حدود الله جل وعلا التي يعلمهم إياها رسوله صلى الله عليه وسلم. ووالله! لن نكون من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم حقاً إلا إذا عدنا فسرنا على طريقه ودربه صلى الله عليه وسلم، وعلى كل نفس تدعي الإيمان بالله ورسوله، وتدعي الحب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم أن تنظر أين هي من حقيقة الإيمان وحقيقة المحبة وصدق الاتباع؟ فالعودة إلى الله ورسوله ليست نافلة ولا تطوعاً ولا اختياراً، وإنما هي عودة واجبة، بل إننا أمام شرط الإسلام وحد الإيمان، إما إيمان باتباع المصطفى والسير على طريقه، وإما كفر بالانحراف عن منهج الله، وعن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] وقال تعالى في حق المؤمنين الصادقين: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور:51 - 52] وقال في حق المنافقين الذين يسمعون ويعرضون يسمعون وينحرفون يسمعون ويهزءون ويسخرون قال الله في حقهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء:60 - 61]. إذا: المؤمن هو الذي يسمع ويطيع للنبي صلى الله عليه وسلم فمن أطاع النبي فقد أطاع الله، ومن عصى النبي فقد عصى الله، فسيرة النبي ليست من أجل الثقافة، ولا من أجل والمجادلات، وإنما من أجل أن تحوّلها الأمة في حياتها إلى واقع عملي، وإلى منهج حياة. فلابد من العودة إلى الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم لا سيما في هذه الأيام، فوالله! لن تعود الأمة إلى مكانتها إلا إذا عادت إلى المنهج الذي رفعها من أسفل سافلين إلى أعلى عليين، ألا وهو منهج رب العالمين، ومنهج سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم. هل تعلم أن مجرد رفع الصوت على النبي صلى الله عليه وسلم يحبط العمل؟! وهل تعلم أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كادا أن يقعا في الهلاك لمجرد أنهما رفعا أصواتهما فوق صوت النبي؟! فـ أبو بكر وعمر العظيمان في هذه الأمة - بعد نبيها- تعرضا للهلاك، والحديث في صحيح البخاري عن أبن أبي مليكة وفيه: (كاد الخيران أن يهلكا). فـ أبو بكر وعمر، رفعا أصواتهما في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لما أقبل وفد بني تميم على الحبيب صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: أَمِّرْ عليهم القعقاع بن معبد يا رسول الله! قال عمر: لا، بل أمر عليهم الأقرع بن حابس يا رسول الله! فقال أبو بكر لـ عمر: ما أردت إلا خلافي يا عمر! وقال عمر: ما أردت خلافك يا أبا بكر! فهذه هي الكلمات بنصها فقط، وهذا هو الحوار الذي دار، فأسألكم بالله ما الذي جرى؟! وما الذي وقع؟! أبو بكر يقول: أَمِّرْ القعقاع بن معبد، وعمر يقول: أمر الأقرع بن حابس، فيرد الصديق: ما أردت إلا خلافي يا عمر! ويرد عمر: ما أردت خلافك يا أبا بكر! فما الذي حدث؟! A لا شيء، إلا أن الصوت قد علا عند النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ فنزل القرآن يحذر من ذلك، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2]. أيها المسلمون! إذا كان مجرد رفع الصوت على النبي يحبط العمل، فكيف بتنحية شرع النبي؟! واتهام شريعته بالقصور، والجمود، والرجعية، والتخلف؟! وزعم عدم قدرتها على مسايرة مدنية القرن العشرين أو مدنية القرن الحادي والعشرين؟! إن الأمة الآن -إلا من رحم ربك- لا تعرف قدر النبي صلى الله عليه وسلم، ولقد رأينا الأمة تحتفل بميلاد رسول الله، وبذكرى الإسراء والمعراج! فالأمة تحسن الاحتفالات الفارغة الجوفاء! ولا تحسن أن تعود عوداً حميداً جاداً على أرض الواقع إلى منهج هذا النبي العظيم؛ لتحول شريعته إلى واقع، فالأمة الآن تحكم القوانين التي وضعها مهازيل البشر! وقد نحت -في الوقت الذي تحتفل فيه بمولد رسول الله- شريعة سيد البشر، فهل هذا حب؟! وهل هذا صدق في المحبة؟ قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]. وقال الشاعر: من يدعى حب النبي ولم يفد من هديه فسفاهةٌ وهراءُ فالحب أول شرطه وفروضه إن كان صدقاً طاعة ووفاء

قصة فيها درس

قصة فيها درس وأختم بهذه القصة اللطيفة التي طالما ذكرت بها؛ لأبين أين نحن من المحبة الصادقة؟! فلقد جاء تلميذ إلى أستاذه وقال: يا أستاذي! علمت أنك ترى رسول الله في رؤياك. قال: وماذا تريد يا بني؟ قال: علمني كيف أراه؛ لأنني في شوق لرؤياه؟ فقال أستاذه: أنت مدعو لتناول العشاء معي في بيتي في هذه الليلة؛ لأعلمك بعد ذلك كيف ترى حبيبك رسول الله، فذهب التلميذ إلى أستاذه، ووضع الأستاذ العشاء بين يدي تلميذه، وأكثر فيه الملح، ومنع عنه الماء! فطلب التلميذ الماء مراراً، فأبى عليه أستاذه، بل وأصر عليه أن يزيد في الطعام! ثم قال له: نم، وإن استيقظنا قبل الفجر -إن شاء الله- فسأعلمك كيف ترى النبي في رؤياك، فنام التلميذ يتلوى من شدة العطش! ويتألم من الظمأ! فلما استيقظا قال له أستاذه: أي بني! قبل أن أعلمك كيف ترى النبي أسألك: هل رأيت الليلة شيئاً في النوم؟ قال: نعم. قال: ماذا رأيت؟ قال: رأيت الأمطار تمطر، والأنهار تجري، والبحار تسير!! لأنه نام وهو يتلوى من شدة العطش فرأى الماء في كل رؤياه! فقال أستاذه: نعم، يا بني! صدقت نيتك فصدقت رؤيتك، ولو صدقت محبتك لرأيت رسول الله!

لا يرفع ما حل بالأمة إلا بالرجوع إلى منهج الله عز وجل

لا يرفع ما حل بالأمة إلا بالرجوع إلى منهج الله عز وجل ما أيسر الادعاء! وما أسهل الزعم! وما أرخص الكلام! لكن أين نحن من الاتباع الحقيقي؟! وأين نحن من العودة الصادقة إلى سيرة وحياة النبي صلى الله عليه وسلم. والله إن المصائب التي حلت بالأمة ليس لها من دون الله كاشفة، إلا إذا عادت الأمة مرة أخرى إلى منهج الرب العلي، وإلى سيرة وحياة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لتحول هذه السيرة العطرة، إلى واقع عملي، وإلى منهج حياة. أسأل الله جل وعلا أن يرد الأمة إليه رداً جميلاً. اللهم رد الأمة إلى الحق رداً جميلاً، اللهم رد الأمة إلى الحق رداً جميلاً، اللهم رد الأمة إلى الحق رداً جميلاً. اللهم ارزقنا الرفق في الأمر كله، اللهم ارزقنا الرفق في الأمر كله، اللهم رزقنا الحكمة في الأمور كلها. اللهم املأ قلوبنا رحمة، اللهم املأ قلوبنا حكمة، اللهم املأ قلوبنا حلماً، اللهم املأ قلوبنا حلماً. اللهم خلقنا بأخلاق الحبيب المصطفى، اللهم خلقنا بأخلاق الحبيب المصطفى. اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يُعز فيه أهل طاعتك، ويُذل فيه أهل معصيتك، ويُؤمر فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن المنكر، أنت ولي ذلك والقادر عليه. اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين. اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم اشف صدور قوم مؤمنين. اللهم اجعل مصر واحة للأمن والأمان، اللهم لا تحرم مصر من الأمن والأمان وجميع بلاد المسلمين، اللهم ارفع عن مصر الفتن ما ظهر منها وما بطن وجميع بلاد المسلمين، اللهم اجعل مصر سخاءً رخاءً وجميع بلاد المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين! هذا وما كان من توفيق فمن الله، وما كان من خطأ أو سهو أونسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه، وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون عليه إلى الجنة ويلقي به في جنهم. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

رسالة إلى أصحاب الأسرة البيضاء

رسالة إلى أصحاب الأسرة البيضاء لقد امتدح الله سبحانه وتعالى الصبر وأهله، فجعل الإمامة في الدين منوطة بالصبر مع اليقين، وما ذاك إلا لأن الصبر جواد لا يكبو وحصن لا يهدم، به يكون كمال التسليم والاستسلام للمولى جل وعز، ولقد ذكر الله لنا في كتابه العزيز نماذج من الصابرين، فذكر ابتلاءه سبحانه لعبده ونبيه أيوب عليه السلام؛ ليكون في ذلك قدوة يقتدي به عباد الله.

فضل الصابرين

فضل الصابرين الحمد لله، والصلاة والسلام على سول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه: أحبتي في الله: هذه (رسالة إلى أصحاب الأسرة البيضاء) وهذا هو عنوان لقائنا مع حضراتكم في هذا اليوم الكريم المبارك، وكعادتنا فسوف ينتظم حديثنا مع حضراتكم -تحت هذا العنوان- في العناصر التالية: أولاً: صبر أيوب. ثانياً: قصة مثيرة لامرأةٍ صابرة بالمنصورة. ثالثاً: رسالة إلى أصحاب الأسرة البيضاء. وأخيراً: رسالة إلى أهل العافية من البلاء. فأعيروني القلوب والأسماع، والله أسأل أن يرزقنا وإياكم الإخلاص والصدق في القول والعمل، إنه وليُّ ذلك والقادر عليه. أولاً: صبر أيوب. أحبتي في الله! إن الله جل وعلا قد جعل الصبر جواداً لا يكبو، وجنداً لا يُهزم، وحصناً لا يُهدم، وبين أن الصابرين في معيته، ويالها من كرامة، فقال جل وعلا: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:46]. وبَيَّنَ فضل الصابرين فقال سبحانه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155 - 157]. بل وجعل الله الإمامة في الدين منوطة بالصبر مع اليقين، فقال جل وعلا: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24]. بل وبين الله سبحانه كرامة الصابرين في الجنة، بدخول الملائكة للسلام عليهم وتهنئتهم، فقال جل وعلا: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:23 - 24]، وبين جل وعلا في الجملة أن أجر الصبر لا حدود له ولا منتهى، فقال سبحانه: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10].

قصة المرأة الصابرة

قصة المرأة الصابرة ثانياً: قصة مثيرة لامرأة صابرة بالمنصورة، وهي التي دفعتني لاختيار هذا الموضوع في هذه الجمعة، ولولا أنني وقفت على هذه القصة بنفسي، ورأيت هذه المرأة المسلمة الصابرة بعيني، لظننت أن قصتها ضرب من الخيال. امرأة من أمة الحبيب المصطفى تجسد لنا في قرننا العشرين صبر نبي الله أيوب! الحمد لله أن رأينا من أمة الحبيب من يحاكي صبر الأنبياء. هذه المرأة تبدأ قصتها بميلادها في قرية جُدَيدة الهالة بمركز المنصورة، وفي الثامنة عشرة تتزوج، وبعد سنتين تنجب طفلها الوحيد الذي توفي في الرابعة من عمره، فتصبر وتحتسب، وفي عام سبعة وستين يهاجمها المرض، فتحس بالآم حادة في بطنها، فَتُنْقَل على الفور إلى المستشفى الجامعي بالمنصورة، ويشخص الأطباء المتخصصون الحالة بأنها انسداد في الأمعاء الدقيقة، ويقرر الأطباء للمريضة المسلمة الصابرة جراحة عاجلة لاستئصال جزء من الأمعاء، وبعد الجراحة ما شعرت المرأة بتحسن. وبعد ستة أشهر قرر الأطباء مرة أخرى جراحة ثانية لاستئصال جزء آخر من الأمعاء!! وبعد ستة أشهر قرر الأطباء جراحة ثالثة لاستئصال جزء جديد من الأمعاء!! وفي هذه المرة اكتشف الأطباء أن المرأة مصابة بمرض خطير مشهور، ألا وهو مرض (الدرن) المعروف عالمياً بـ ( T. B)، وهنا قرر الأطباء عدم التدخل الجراحي، واكتفى الأطباء بالعقاقير والحقن وتركوا أمرها لله جل وعلا!! صبرت المرأة واستسلمت لقضاء الله جل وعلا، ونامت على سريرها الأبيض في آخر غرفة في القسم الرابع عشر، باطنية مستشفى المنصورة، مستسلمة لقضاء الله وقدره. لا يفتر لسانها عن ذكر الله سبحانه وتعالى، ويلهج لسانها بالثناء والشكر لله جل وعلا. ثم هاجمها المرض هجوماً عنيفاً بعد ذلك، فانتقل هذا المرض الخطير إلى الأمعاء كلها، ثم انتقل المرض بعد ذلك إلى كلِيتها اليمنى، ففشلت الكِلية اليمنى تماماً، ثم انتقل المرض بعد ذلك إلى الرحم، فأصيب الرحم بهذا المرض، ثم انتقل المرض بعد ذلك إلى العظام، فنخر المرض العظام نخراً، وأصبحت العظام هشة متآكلة، ثم فقدت عينها اليسرى، فلم تعد ترى بعينها اليسرى تماماً. انظر إلى هذه المراحل من مراحل الابتلاء، ومع كل مرحلة إذا ما عَلمِت من الطبيب المسلم ما ابتلاها الله به، تبتسم وتنظر إلى السماء، وتقول: الحمد لله الحمد لله جَبَلٌ من جِبَال الصبر منذ عام سبعة وستين لم تفارق سريرها في المستشفى الجامعي!! وطلقها زوجها بعد ست سنوات من المرض، ومات ولدها الوحيد واحتسبته عند الله جل وعلا. انظر إلى هذه المفاجأة العجيبة الغريبة، ففي عام (85) قبل موسم الحج سمعت محاضراً في شريط يتحدث عن الحج، فقررت أن تحج بيت الله الحرام، وقالت للطبيب المختص: أريد أن أحج بيت الله، فابتسم، وقال: كيف ذلك؟ قالت: لقد عَزمْتُ وتوكلت على الله، فهددها الأطباء بأنها لو فارقت سريرها ستعرض حياتها للخطر في التو واللحظة، فقالت بكل ثقة ويقين: أريد أن ألقى الله وأنا على طاعة له!! قررت أن تلقى الله على طاعة، فباعت ما تملك من الأرض، وقررت حج بيت الله الحرام، واقترب منها طبيب تقي نقي فحثها على ذلك، وسأل الله عز وجل لها الثبات. وهنا لما قررت السفر، وجيء بالسيارة التي ستحملها إلى الطائرة في القاهرة، تقدم الأطباء لنزع الخراطيم من هذا الجسد النحيل الضئيل، فهي امرأة لا تعيش إلا بهذه الخراطيم. أستغفر الله! بل لا تعيش إلا بأمر الملك رب العالمين!! الخرطوم الأول ينزع ما وظيفته؟ كان لتوصيل المحاليل الغذائية؛ لأن المرأة لا تأكل منذ عام سبعة وستين، بل تعيش على هذه المحاليل الغذائية عبر هذه الخراطيم!! الخرطوم الثاني: للبول -أعزكم الله- عن طريق القسطرة. الخرطوم الثالث: لأكياس الدماء التي يوصلونها إلى هذا البدن الضئيل. الخرطوم الرابع: لإخراج الرايل من الأمعاء الدقيقة عن طريق الأنف. ووقف الأطباء ينتظرون لها الموت مع أول دقيقة ينزع خرطوم واحد منها، فنزعت الخراطيم والمرأة تتحدث وتبتسم، وهي سعيدة أنها ذاهبة لحج بيت الله الحرام! وحُملت في السيارة، ثم إلى الطيارة، وحمِلت في جميع مناسك الحج، وأدت فريضة الله جل وعلا بإعجاز الملك الذي يقول للشيء (كن) فيكون، وهي تحكي هذه القصة وتتعجب وتقول: ما أكلت شيئاً إلا عن طريق الفيتامينات وعن طريق الأدوية! قضت هذه الفترة بفضل رب الأرض والسماوات جل وعلا وهى تبكي طوال الرحلة، وتشكر الله الذي أعانها في هذه الحالة حتى رأت بيته جل وعلا، وانطلقت إلى المدينة لزيارة المسجد النبوي، ثم للسلام على الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم، وعادت من حج بيت الله مرة أخرى إلى سريرها، ونامت على فراشها في سريرها الأبيض، وطلبتني لزيارتها لأول مرة، فذهبت لأزورها مع بعض الأحبة الذين هم معي الآن في هذا المسجد، ذهبت إليها لأذكرها بالله، والله يا إخوة! لقد ذهبت لأذكرها بالله فذكرتني هي بالله جل وعلا، وخرجت من عندها وقد احتقرت نفسي، واحتقرت جهدي، واحتقرت عملي لله جل وعلا. امرأة عجيبة لا يفتر لسانها من ذكر الله والثناء والحمد لله جل وعلا، وقد ماتت يوم الأربعاء الماضي العاشر من شهر إبريل لعام ستة وتسعين، وقبل الموت بأربعة أيام طلبتني لزيارتها مرة أخيرة، فذهبت إليها مع بعض أحبابنا في هذا المسجد، ودخلت عليها، وجلست إلى جوارها، وهي تبتسم في وجهي وتقول: أين أنت؟ فاعتذرت لها عن تأخري عنها، فقلت لها: كيف حالك؟ قالت: الحمد لله الحمد لله. وأنا أعجب لكونها تحمد الله على هذه الحالة. نظرت إلى غرفتها -فوجدتها قد قسمت الغرفة إلى قسمين: جعلت النصف الأول مسجداً لله جل وعلا، وجعلت النصف الآخر لسريرها، ووضعت إلى جوارها صندوقاً لجمع التبرعات، لمن أراد أن يتبرع لفقراء المرضى ممن يعجزون عن شراء الدواء! وإذا ما دخل عليها طبيب أو ممرضة أعارته شريطاً لمحاضر من المحاضرين. تدعو إلى الله وهى في هذه الحالة إنها والله الحياة. فكم من أناس يتحدون الله بعافيته، كم من أناس يتحدون الله بِنَعمِه، وهي التي سلب منها كل شيء ولا تغفل عن الدعوة إلى الله جلَ وعلاَ! تدعو إلى الله بالأشرطة تدعو إلى الله بالصدقة تدعو إلى الله بالإصلاح بين الأطباء والطبيبات، تدعو إلى الله بالإصلاح بين المرضى، لقد استثمرت حياتها كلها لطاعة الله جل وعلا، ولسانها ذاكر، وقلبها شاكر، وجسدها على البلاء صابر. ذهبت إليها قبل الموت بأربعة أيام، وجلست إلى جوارها، فقلت: كيف حالك؟ قالت: الحمد لله، فأثنيت عليها خيراً فردت عليَّ وقالت: والله -يا شيخ- أنا خائفة على صبري طيلة هذه السنوات، ولكن ادع الله لي أن يرزقني حسن الخاتمة ادع الله لي أن يرزقني حسن الخاتمة. قلت: أبشري، لقد أجرى الله الكريم عادته بكرمه أن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بُعِثَ عليه، وصدق الله إذ يقول: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:30 - 32]. ما أرخصها من حياة إن عشت لشهواتك ونزواتك؟! ما أرخصها من حياة يا من لا تعيش إلا من أجل متاع الدنيا الحقير؟! ما أرخصها من حياة يا من تعيش من أجل كرسيك الزائل ومنصبك الفاني؟! وما أغلاها من حياة يا من بذلت وقتك كله لطاعة الله؟! ما أغلاها من حياة يا من استخدمت كل نعمة من نعم الله التي أنعم الله بها عليك لمرضاته جل في علاه؟!

معنى الصبر وأقسامه

معنى الصبر وأقسامه ما هو الصبر؟ الصبر لغة: المنع والحبس. والصبر شرعاً: حبس النفس عن الجزع، وحبس اللسان عن التشكي، وحبس الجوارح عن المعاصي، وهو ينقسم إلى ثلاثة أقسام: صبر على المأمور: أي: صبر على الطاعة. وصبر عن المحظور: أي: صبر عن المعصية. وصبر على المقدور: أي: على ما قدره الله عليك من المصائب والمحن والبلايا. والصبر الجميل: هو الذي يبتغي به العبد وجه الله الجليل، لا حرجاً من أن يقول الناس: جزع، ولا أملاً في أن يقول الناس صَبر، وإنما يبتغي بصبره وجه الله جل وعلا، يصبر واثقاً في الله، مطمئناً بقضاء الله وقدره، مستعلياً على الألم، مترفعاً على الشكوى. والتحقيق أن الشكوى نوعان: شكوى إلى الله، وشكوى من الله، أعاذنا الله وإياكم منها. فالشكوى إلى الله لا تنافي الصبر -أيها الأخيار الكرام- فلقد مدح الله نبيه أيوب عليه السلام، وأثبت له الصبر في قرآنه، فقال حكاية عنه، وقد رفع أيوب شكواه إلى مولاه {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص:41]. وأثنى الله على عبده أيوب عليه السلام فقال جل وعلا: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:44]، ومع ذلك فقد رفع نبي الله أيوب شكواه إلى الله، كما قال الله جل في علاه: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83]. فالشكوى إلى الله لا تنافي الصبر. أما الشكوى من الله -أعاذنا الله وإياكم منها- فهي شكوى للمخلوق من الخالق. فإذا شكوت إلى ابن آدم إنما تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم

صبر نبي الله أيوب عليه السلام

صبر نبي الله أيوب عليه السلام أيها الأحبة! إذا ذكر الصبر ذُكِرَ نبي الله أيوب على نبينا وعليه الصلاة السلام، فلقد ابتلى الله أيوب في ماله وولده وبدنه، ففقد المال كله، ومات جميع أبنائه جملة واحدة، وابتلاه الله في جسده بمرض أقعده في الأرض وألزمه الفراش، فصبر وامتلأ قلبه بالحب لله والرضا عنه سبحانه! لم يسلم من بدنه شيء إلا قلبه ولسانه، أما قلبه فقد امتلأ بالحب لله والرضا عنه سبحانه، وأما لسانه فلم يفتر عن ذكر الله جل وعلا، وهذه والله هي الحياة. ففي الصحيحين من حديث أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه كمثل الحي والميت). فالذاكر لله حي، وإن ماتت فيه الأعضاء، والغافل عن ذكر الله ميت، وإن تحرك بين الأحياء. لم يبق إلا لسانه وقلبه، أما القلب فقد امتلأ بالحب لله والرضا عن الله، وأما اللسان فلم يفتر عن ذكر مولاه، واسمع ما قاله لزوجته الصابرة الوفية حينما قالت له: ادع الله أن يفرج كربك، فقال نبي الله أيوب: لقد عشت سبعين سنة وأنا صحيح، ولله علي أن أصبر له سبعين سنة وأنا مريض، ففزعت زوجته. واختلفت الأقوال في المدة التي مكثها نبي الله أيوب في البلاء، وأصح ما ورد في هذه الأقوال ما رواه الإمام الطبري وابن حبان وابن أبي حاتم والبزار والحاكم في مستدركه وصححه على شرط الشيخين وقال الإمام الهيثمي في المجمع: ورجال البزار رجال الصحيح من حديث أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن نبي الله أيوب مكث في بلائه ثماني عشرة سنة فرفضه القريب والبعيد، إلا رجلين من خواص أصحابه، كانا يغدوان عليه ويروحان، فقال أحدهما للآخر في يوم من الأيام: والله إن أيوب قد أذنب ذنباً ما أذنبه أحد من العالمين، فقال له صاحبه: وما ذاك؟ قال: منذ ثماني عشرة سنة ولم يرحمه الله) إلى آخر الحديث. قال أهل التفسير: فلما سمع أيوب ذلك خشي الفتنة، فلجأ إلى الله جل وعلا بهذا الدعاء الحنون الذي سجله الله في قرآنه، فقال جل وعلا: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83]. انظر إلى A { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء:84]. ما الذي حدث؟ هل انتقل أيوب إلى إحدى المستشفيات الخاصة في الخارج أو في الداخل؟ كلا. إذاً: ما الذي حدث؟ أمر الملك القدير جل وعلا نبيه أيوب أن يضرب الأرض من تحت قدميه، فضرب أيوب المريض المسكين الأرض ضربة هينة بقدمه، ففجر الله له عيناً من الماء، وإذ بأيوب يسمع النداء من الملك {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص:42]. أمر الله أيوب عليه السلام أن يشرب، فشرب أيوب من الماء، فشفاه الله من جميع أمراضه الباطنة، فأمره أن يغتسل، فاغتسل فشفاه من جميع أمراضه الظاهرة، وصدق الله إذ يقول: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام:17]. أيها المُبتلى! كن عن همومك معرضاً ودع الأمور إلى القضا وانعم بطول سلامة تسليك عما قد مضى فلربما اتسع المضيق وربما ضاق الفضا الله يفعل ما يشاء فلا تكن متعرضا أيها المبتلى! لا كاشف للبلوى إلا الله سبحانه وتعالى. قل للطبيب تخطفته يد الردى من يا طبيب بطبه أرداكا قل للمريض نجا وعُوفي بعدما عجزت فنون الطب من عافاكا قل للصحيح يموت لا من علة من يا صحيح بالمنايا دهاكا قل للبصير وكان يحذر حفرةً فهوىَ بها من ذا الذي أهواكا بل سائل الأعمى خطا وسط الزحام بلا اصطدام من يقود خطاكا وسل الجنين يعيش معزولاً بلا راع ومرعى ما الذي يرعاكا وسل الوليد بكى وأجهش بالبكا لدى الولادة ما الذي أبكاكا وإذا ترى الثعبان ينفث سمه فاسأله من ذا بالسموم حشاكا واسأله كيف تعيش يا ثعبان أو تحيا وهذا السم يملأ فاكا واسأل بطون النحل كيف تقاطرت شهداً وقل للشهد من حلاكا بل سائل اللبن المصفى من بين دم وفرث من ذا الذي صفاكا؟! قل إن الأمر كله لله أإله مع الله؟ وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة: (أمطر الله عز وجل عليه بعدما عافاه جراداً من ذهب، فقام نبي الله أيوب ليأخذ الجراد الذهبي من ربه العلي ليضعه في ثوبه، فنادى عليه ربه جل وعلا وقال: يا أيوب! أما تشبع؟ فقال أيوب: ومن يشبع من رحمتك يارب، ومن يشبع من رحمتك يارب). وهكذا نجّى الله أيوب، ورفع الله عنه البلاء بعد هذه السنوات العجاف بالصبر الصادق. وأود قبل أن أنهي الحديث عن هذا العنصر أن أحذر مَنْ لا يجيدون السباحة في البحور الهائجة، ومن لا يجيدون النزال في اقتحام الخطوب والأهوال، الذين انساقوا وراء الاسرائيليات التي شُحنت بها قصة أيوب في كتب التفسير وكتب السير، فانساقوا ليرددوا هذا الكذب العريض في أن الله قد ابتلى نبيه أيوب بالدود، وكانت كلما سقطت دودة من جسده انحنى عليها وردها إلى جسده مرة أخرى، وانبعثت منه رائحة كريهة نتنة اشمأز الناس منها، وانصرف الناس عنه، وهذا كله كذب عريض، وحقير وخطير، تنكره العقول السليمة، والطباع الكريمة التي تعلم يقيناً أن الله جل وعلا قد نزه أنبياءه ورسله من مثل هذا، فاعلم -أيها المسلم- أن الله جل وعلا ما ابتلى نبيه أيوب بهذه القاذورات، وإنما ابتلاه بمرض ألزمه الفراش، وأقعده في الأرض. وفي هذا كفاية، لكن أين الصبر؟ وأين الصابرون؟ أيها الحبيب الكريم! لا أريد أن أطيل في هذا العنصر، قال الله جل وعلا: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الأَلْبَابِ} [ص:42 - 43].

رسالة إلى أصحاب الأسرة البيضاء

رسالة إلى أصحاب الأسرة البيضاء ومن ثم فهأنذا أوجه رسالة إلى أصحاب الأسرة البيضاء، وهذا هو عنصرنا الثالث من عناصر هذا اللقاء. أيها المسلمون المبتلون الصابرون! اصبروا وأبشروا: أبشروا فإن أجركم على الصبر والبلاء لا يعلم حقيقته إلا رب الأرض والسماء، قال جل وعلا: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10] وقد وعدك الله أيها المبتلى الصابر بأن يرحمك ويهديك، فقال سبحانه: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:155 - 156] وانظر إلى الجزاء: {أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:157]، إن فضل الله جل وعلا عليك عظيم. أيها المبتلى الصابر! يا من حبسك المرض على السرير الأبيض، يا من حبسك البلاء في أيِّ موطن من أرض الله جل وعلا -أياً كان هذا البلاء- اصبر وأبشر. اصبروا وأبشروا، واعلموا أن الحياة الحقيقية هى حياة القلوب، واعلموا أن الحياة الحقيقية هي ألا يغفل لسانكم عن ذكر علام الغيوب وإن حُبست تلكم الأعضاء والأبدان، وأبشروا بموعود الله وبموعود رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث الذي رواه مسلم من حديث أبي يحيى صهيب الرومي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (عجباً لأمر المُؤمن إن أمرهُ كُلهُ له خير، وليس ذلك إلا للمُؤمن: إن أصابتهُ سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابتهُ ضراء صبر فكان خيراً له). أيها المبتلون الصابرون! أبشروا بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري وغيره، فقال في الحديث: (ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه، ولا يزال البلاء بالعبد حتى يمشي على الأرض وما عليه خطيئة). وقد ابتلي المصطفى صلى الله عليه وسلم بالحمى، وانتفض جسد الحبيب من شدة حرارتها، ودخل عليه ابن مسعود -والحديث في الصحيحين- وقال له: إني أراك توعك وعكاً شديداً يا رسول الله! فقال المصطفى: (أجل، إني لأوعك كما يُوعَكُ الرجلان منكم، فقال ابن مسعود: ذلك بأن لك أجرين يا رسول الله؟ قال: أجل، فما من مسلم يصيبه أذى حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من سيئاته). قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2 - 3]. وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214] وفي الحديث: (أيُّ الناس أشد بلاءً؟ قال: الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلباً زيد في البلاء، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه)، فالبلاء رحمة إن صبرت عليه، يكفر الله عز وجل به عنك الخطايا. وأذكركم يا أصحاب الأسرة البيضاء! بهذا الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يتمنين أحدكم الموت لضر وقع به، فإن كان لابد فاعلاً فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي). وأختم هذه الرسالة -أيها المسلمون الصابرون- بهذه الكلمات الدقيقة لـ شداد بن أوس رضي الله عنه إذ يقول: (أيها الناس! لا تتهموا الله في قضائه، فإنه لا يظلم أحداً، فإذا أنزل بك خيراً تحبه فاحمد الله على العافية، وإذا أنزل بك شيئاً تكرهه فاصبر واحتسب، واعلم أن الله جل وعلا عنده حسن الثواب). أسأل الله جل وعلا لهذه المرأة المسلمة أن يغفر لها وأن يتقبلها عنده في الشهداء، فالنبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن من مات من المسلمين ببطنه فهو شهيد عند الله جل وعلا، والحديث في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما تعدون الشهداء فيكم؟ قالوا: من قتل في سبيل الله فهو شهيد، فقال المصطفى: والله إن شهداء أمتي إذاً لقليل، من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات بالطاعون فهو شهيد، ومن مات في بطن فهو شهيد). وفي حديث صحيح: (ومن مات في غرق فهو شهيد)، وفي حديث صحيح: (ومن ماتت بجمع -أي أن تموت المرأة وهي تضع ولدها أو وولدها في بطنها- فهي شهيدة)، هذا فضل الله جل وعلا، فنسأل الله أن يتقبلها عندها في الشهداء، وأسأل الله لجميع إخواننا وأخواتنا من أصحاب الأسرة البيضاء ممن ابتلاهم الله عز وجل بالأمراض والبلاء أن يجعل شفاءهم سهلاً ميسوراً، اللهم اشف مرضانا ومرضى المسلمين، اللهم اجعل شفاءهم سهلاً ميسوراً يا أرحم الراحمين، اللهم أبدلهم لحماً خيراً من لحمهم، ودماً خيراً من دمهم، وأنزل عليهم رحمة عاجلة من عندك يا أرحم الراحمين. وأخيراً أختم هذا اللقاء برسالة إلى أهل العافية من البلاء، أسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأرجئ الحديث عن هذا العنصر إلى ما بعد جلسة الاستراحة، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

رسالة إلى أهل العافية من البلاء

رسالة إلى أهل العافية من البلاء الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الأحبة! كان من الواجب أن أختم هذا اللقاء برسالة أوجهها إلى أهل العافية من البلاء، أذكر نفسي وإياكم جميعاً وأقول: اسجدوا لله شكراً على العافية بعد الإسلام، فإن الصحة تاجٌ يتلألأ على رءوس الأصحاء، لا يراه ولا يعرف قدره إلا المرضى. يا منْ مَنَّ الله عليك بالعافية بعد الإسلام! اسجد لربك شكراً على هذه النعمة، واعلم بأن نعم الله عليك لا تعد ولا تحصى {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:34]. يا من تستغل العافية من الله ونعمة الله عليك في معصيته! أما تستحي؟! أما تستحي يا من تتجرأ على معصية الله بنعمة الله؟! يا من استخدمت بصرك في تتبع العورات والحرام أما تستحي؟! تذكر من فقد بصره. يا من استخدمت سمعك في سماع الحرام! أما تستحي؟! تذكر من فقد سمعه. يا من استخدمت يدك في البطش والظلم! أما تستحي؟! تذكر من فقد يده. يا من استخدمت قدمك في السعي لمعصية الله! أما تستحي؟! تذكر من ألزمه المرض الفراش. يا من استخدمت منصبك وكرسيك الذي جلست عليه لظلم العباد وللتسفيه والتحقير لخلق الله! أما تستحي؟! تذكر ضعفك وفقرك وعجزك، فأنت مسكين ضعيف، ولولا أن الله عز وجل قد أطلق لك البدن للزمت الأرض وللزمت الفراش، فإياك أن يغرك مركزك ومنصبك، وجاهك ووجاهتك، فأنت ضعيف أيها المسكين، تحمل البصاق في فمك، والمخاط في أنفك، والعرق تحت إبطيك، وتحمل البول في مثانتك، وتحمل والنجاسة في بطنك، وتمسح عن نفسك النجاسة بيدك كل يوم مرة أو مرتين {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار:6] يا من غرك جاهك! اعلم أن الله عز وجل قادر على أن يسلبه منك، واعلم أن كرسيك إلى زوال، وأن منصبك إلى فناء، إذ لو دام الكرسي الذي جلست عليه لأحد ما وصل إليك، فاعلم بأن الدنيا كلها إلى زوال، وبأن المناصب كلها إلى فناء. أين الظالمون وأين التابعون لهم في الغي بل أين فرعون وهامان أين من دوخو الدنيا بسطوتهم وذكرهم في الورى ظلم وطغيان هل أبقى الموت ذا عز لعزته أو هل نجا منه للسلطان إنسان لا والذي خلق الأكوان من عدم الكل يفنى فلا إنس ولا جان وصدق الله إذ يقول: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27]. تذكروا هذا يا أهل العافية! فهناك من الناس من يظن أن الرزق هو المال، وينسى نعمة العافية، ونعمة الصحة، ونعمة الإسلام قبل ذلك. النفس تجزع أن تكون فقيرة والفقر خير من غنى يطغيها وغنى النفوس هو الكفاف فإن أبت فجميع ما في الأرض لا يكفيها هي القناعة فالزمها تكن ملكاً لو لم تكن لك إلا راحة البدن وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير الطيب والكفن ولله در القائل: دع الحرص على الدنيا وبالعيش فلا تطمع ولا تجمع من الحرام فلا تدري لمن تجمع فإن الرزق مقسوم وسوء الظن لا ينفع فقير كل من يطمع غني كل من يقنع

أركان الشكر

أركان الشكر أيها الأحبة! والشكر يدور على ثلاثة أركان: الاعتراف بالنعمة باطناً، والتحدث بالنعمة ظاهراً، واستغلال النعمة في طاعة الله جل وعلا. فالحمد يكون باللسان والجنان، أما الشكر فإنه يكون باللسان والجوارح والأركان. قال الرحيم الرحمن: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} [سبأ:13]، وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (قام النبي صلى الله عليه وسلم حتى تفطرت قدماه، فقيل له: ألم يغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال المصطفى: أفلا أكون عبداً شكوراً). فالشكر يدور على اللسان والجنان -أي: القلب- والجوارح والأركان، فإن من الله عليك بالعافية فاشكر الله عليها، والشكر لا يكون إلا باستغلالها في كل ما يرضيه. إن منَّ الله عليك بالأولاد فاشكر الله على هذه النعمة، ولا يكون الشكر إلا بتربية الأولاد على كتاب الله وسنة الحبيب رسول الله. إن من الله عليك بالزوجة فاشكر الله على هذه النعمة، واتق الله فيها وربها على كتاب الله وعلى سنة رسول الله. إن منَّ الله عليك بمنصب أو كرسي فاشكر الله على هذه النعمة، وسخر الكرسي لتفريج هموم الناس وكرباتهم. إن منَّ الله عليك بالأموال فاشكر الله على هذه النعمة، واعلم بأن الشكر لا يكون إلا بالبذل والعطاء والإنفاق. وهكذا إن من الله عليك بالعلم، فاعلم بأن الشكر لا يكون إلا بالتعليم والتحرك هنا وهناك للدعوة إلى الله جل وعلا. إذاً: الشكر يدور على اللسان والجنان والأركان، فاشكروا الله يا أهل العافية! واسألوا الله أن يثبتها ويديمها عليكم، وأن يعيننا وإياكم على شكرها، وأن يعيننا وإياكم على استغلالها فيما يرضيه، إنه ولي ذلك والقادر عليه. يا أهل العافية! لا تبخلوا على إخوانكم المرضى بالزيارة والدعاء، فحق المرضى علينا الزيارة، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس). واسمع إلى هذا الحديث الجميل الذي رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله تعالى يوم القيامة: يا ابن آدم! مرضت فلم تعدني، فيقول العبد: يارب! كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ فيقول الله جل وعلا: لقد مرض عبدي فلان، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده، يا ابن آدم! استطعمتك فلم تطعمني، فيقول العبد: يا رب! كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ فيقول الله جل وعلا: لقد استطعمك عبدي فلان، أما علمت بأنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي، يا ابن آدم! استسقيتك فلم تسقني، فيقول: يا رب! كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ فيقول الله جل وعلا: لقد استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما علمت أنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي). فمن حق المرضى علينا -نحن أهل العافية- أن نزورهم، وأن ندخل عليهم السعادة والبسمة والسرور، وأن نبث فيهم الأمل، وأن نكثر لهم من الدعاء. وأخيراً أقول: أيها الأحبة الكرام! جددوا التوبة والأوبة، وتذكروا أن الحياة والدنيا دار ممر، وأن الآخرة هي دار المقر، فخذوا من ممركم لمقركم، ولا تفضحوا أستاركم عند من يعلم أسراركم، وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون. أقبلوا على الله، وعودوا إلى الله -أيها الشباب- يا من استغللتم نعمة العافية في معصية الله. أيها الرجال! أيها الشيبان! أيتها المسلمات! فلنعد جميعاً إلى الله سبحانه! فنحن على ثقة من رحمة الله، ونحن على يقين بكرم الله وعفوه، قال جل في علاه: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].

الأزمة السكانية والحلول الغائبة

الأزمة السكانية والحلول الغائبة قد ينزوي الحق في فترة من الفترات كأنه منهزم، وقد ينتفخ الباطل وينتفش كأنه غالب، إلا أن الحقيقة الكبيرة التي يقررها الله: أن الحق غالب ظاهر، وأن الباطل زاهق زائل. وما الأزمة السكانية التي يتغنى بها الغرب اليوم إلا أزمة مفتعلة ينطوي تحتها حقد دفين على العالم الإسلامي، وخوف شديد من زوال سيادتهم في السنوات القادمة كما قرره خبراء الغرب. وقد عقد الغرب المؤتمرات تلو المؤتمرات لإيجاد حل لهذه المشكلة، إلا أن الجمل تمخض فأولد فأراً، فإذا بها حلولاً تنطوي على عداء سافر، وغيظ شديد على العالم الثالث وأما من خالجه خوف من تزايد العدد السكاني، فإن هناك حلولاً تبدد هذا الخوف، وتبعث فيه الطمأنينة.

الصراع بين الحق والباطل

الصراع بين الحق والباطل بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور محدثاتُها وكلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة، وزكى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور، وطبتم جميعاً أيها الأحبة الكرام! وطاب ممشاكم وتبوأتم منزلاً من الجنة، وأسأل الله جل وعلا أن يجمعني وإياكم في هذه الدنيا دائماً وأبداً على طاعته، وفي الآخرة مع سيد الدعاة وإمام النبيين في جنته، ومستقر رحمته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! الأزمة السكانية والحلول الغائبة: هذا هو عنوان لقائنا مع حضراتكم في هذا اليوم الكريم المبارك، فأعيروني القلوب والأسماع، فإن هذا اللقاء في هذه الأيام بالذات من الأهمية بمكان، وسوف ينتظم حديثي مع حضراتكم في العناصر التالية: أولاً: صراع بين الحق والباطل. ثانياً: أزمة مفتعلة وحقد دفين. ثالثاً: حلول مقترحة. وأخيراً: الحلول الغائبة. فانتبهوا معي جيداً أيها المسلمون الكرام! وأسال الله جل وعلا -بداية- أن يجعلني وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:18]. أولاً: الصراع بين الحق والباطل. أيها الأحبة الكرام! إن الصراع بين الحق والباطل بين الإيمان والكفر بين الفضيلة والرذيلة بين الخير والشر صراع دائم مستمر لا تهدأ معاركه، ولا تخبو جذوته، وقد ينزوي الحقُ في فترة من الفترات كأنه منهزم، وقد ينتفخُ الباطلُ وينتفش في تلك الفترة كأنه غالب، ولكن المؤمنين الصادقين لا يخالجهم الشك أبداً في أنه مهما انتفخ الباطل وانتفش، ومهما بدا للعيان أن الحق ضعيف، لا يخالجهم الشك أبداً في هذه الحقيقة الكبيرة التي يقررها الله جل وعلا بذاته، ويؤكدها بصيغة التوكيد، ألا وهى أن الحق غالب ظاهر، وأن الباطل زاهق زائل. يقول الله عز وجل: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81]، ويقول الله عز وجل: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء:18]. أقول: تلك حقيقة وسنة ثابتة قامت عليها السموات والأرض وقام عليها أمر المعتقدات والدعوات إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ}. أيها الحبيب الكريم! أقدم لموضوعنا اليوم عن الأزمة السكانية والحلول الغائبة التي كثر حولها الجدل في أروقة المؤتمرات والقاعات والمجالس طيلة الأيام الماضية، أقدم لهذه الأزمة -على حد تعبيرهم- بهذه المقدمة الموجزة؛ لأننا نشهدُ الآن مرحلةً من أخطر مراحل الصراع بين الحق والباطل، انتفخ في هذه المرحلة الباطلُ وانتفش، بل وعصفت رياح القنوط واليأس بكثير من قلوب شباب الأمة المخلص المتحمس ويتولى كبر هذه المرحلة من مراحل الصراع العالم الغربي الذي تقدم الآن لقيادة البشرية على حين غفلة من أمة القيادة والحق الذي من أجله خلق الله السموات والأرض والجنة والنار، ومن أجله أنزل الله الكتب وأرسل الله الرسل. يتولى كبر هذه المرحلة العالم الغربي الآن، فلقد شهدنا في هذه الأيام القليلة الماضية هذه الضجة الإعلامية، وهذه الأزمة المفتعلة والتي يسمونها بالأزمة السكانية أو الانفجار السكاني. فانتبه معي أيها الحبيب! لتتعرف على حقيقة هذه الأزمة، وعلى حقيقة هذا الحقد الدفين الذي شاء الله عز وجل أن يظهره لكل غافل، وقد غط طيلة السنوات الماضية في السبات والرقاد. إنها أزمة مفتعلة وحقد دفين!

أزمة مفتعلة وحقد دفين

أزمة مفتعلة وحقد دفين لقد أثار الغرب في الأيام الماضية ضجة إعلامية كبيرة عما يسمونه بالأزمة السكانية أو الانفجار السكاني، إذ تشير وثيقة المؤتمر الدولي للسكان والتنمية أنه بحلول عام (2050) يشير الإسقاطُ المنخفض للأمم المتحدة تعداداً سكانياً عالمياً يبلغ (7. 8) بليون نسمة، ويشير الإسقاطُ العالي لخبراء الإسكان في الأمم المتحدة تعداداً سكانياً عالمياً يبلغ (12. 5) بليون نسمة، وهذا على حد قولهم! يقولون: وهذه كارثة بكل المقاييس، إذ من المستحيل أن تفي الأرض باحتياجات هذه الأفواه الجائعة! يقولون هذا، وقد نسي هذا الإنسان المتبجحُ المغرور أنه لن يستطيع مؤتمر للسكان على ظهر الأرض أن يحدد السكان على ظهر الأرض إلا بالقدر الذي يريد رازق السكان جل جلاله. ونسي الإنسان المغرور أن من يأتي غداً إلى الحياة إنما سيأتي إلى هذه الحياة بأمر الله لا بأمر الهندسة الوراثية التي عبدها الغرب اليوم في الأرض من دون الله جل وعلا. أما هؤلاء المتبجحون الذين جلسوا على الكراسي ليشرعوا وليقترحوا الحلول العاجلة لتلك الأزمة السكانية، -واضحك معي بملء فمك، فقد جلسوا ليناقشوا ويجادلوا فيمن يأتي إلى الحياة غداً ومن لا يأتي، ومن يُخلق ومن لا يخلق، وهم أنفسهم لا يملكون أن يكونوا بين الأحياء أو الأموات، فالكل راحل رغم أنفه وإن طالت به الحياة! {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88] جل جلاله! ولابد أن نعلم -أيها الأحبة الكرام- وأن تستقر هذه الحقائق في قلب كل مسلم أن الغرب ما تحرك في هذه الأيام الماضية لحل هذه الأزمة المفتعلة والتي يسمونها بالأزمة السكانية من أجل سواد عيون الدول النامية، أو حرصاً على شعوبها، أو خوفاً على مطعام أهلها، كلا، فإن الغرب لا يزعجه مطلقاً أن تعيش هذه الأفواه أو أن تموت، بل إنه هو الذي يبيدها كل يوم بهذه الأسلحة الفتاكة المدمرة التي أعدت لتبيد البشرية جمعاء. أيها الأحباب! لا يتورع الغرب كل يوم عن أن يبيد العشرات -أو إن شئت فقل: المئات- بأسلحة الدمار التي اخترعها، بل وبحرمان الدول النامية -التي جاء الغرب اليوم ليتغنى بأنه ما جاء إلا لتنمية مواردها الاقتصادية- من هذا الفائض الكبير في موارده الإنتاجية، ويتعمد أن يلقي بهذا الفائض من تلك الموارد في البحر وهو يرى بعينه الآلاف المؤلفة من أبناء هذه الدول يموتون جوعاً ولا يقدم لهم شيئاً؛ لأنه لا يريد لأهل هذه البلاد الإسلامية أن ترفع رءوسها خفاقة عالية، بل تظل دول العالم الثالث -على حد تعبير الغربيين- قصعة مستباحة لهؤلاء المجرمين والموتورين. لابد أن نعلم يقيناً وأن تستقر هذه الحقائق في قلوبنا: أن الغرب الكافر ما تحرك اليوم لحل المشكلة السكانية في دول العالم الثالث -على حد تعبيرهم- إلا خوفاً على مصالحه، وخوفاً من أن يهتز ميزان القوى العالمية، وأن تتحول السيادة بعد ذلك إلى الشرق المسلم، وهذا الكلام لا أقوله تضميداً للجراح، ولا تسكيناً للآلام، ولا من باب الأحلام الوردية، كلا، ولكنها دراساتهم وأبحاثهم التي تأصل هذه الحقائق التي يغفل عنها المسلمون وحكامهم.

أهداف الأزمة السكانية المفتعلة

أهداف الأزمة السكانية المفتعلة أيها الأحبة! إن هذه الخلفية العلمية التاريخية التي سأذكرها لكم الآن هي التي تبين خطورة هذه الهجمة الشرسة على العالم الإسلامي؛ لشل نسله ولإيقاف نموه: منذ عدة سنوات وخبراء السياسة والاجتماع يحذرون بشدة من مصير نفوذ أوروبا وأمريكا على مستوى العالم إذا ما استمرت معدلات النمو السكاني -على ما هي عليه الآن- دون ضبط أو تعديل، إذ تشير الدراسات لخبراء السكان في الأمم المتحدة -التي تعبد اليوم في الأرض من دون الله عز وجل- ويقرر خبراؤها أنه بعد انتهاء القرن الحادي والعشرين سيكون في مقابل كل فرد أوربي أو أمريكي ثمانية عشر فرداً من أبناء العالم الثالث وهذه كارثة بكل المقاييس. هذا على حد تعبير مسئول كبير في مركز الأبحاث السكانية الدولية في باريس. فرد واحد أوربي أو أمريكي سيقابله ثمانية عشر فرداً من أبناء العالم الثالث -أي: من أبناء الدول الإسلامية- وهذا على حد تعبيرهم كارثة بكل المقاييس. ويؤكد هذه الحقيقة أيضاً المفكر الألماني الشهير باول شمتز إذ يقول: تشير ظاهرة النمو السكاني في أقطار الشرق الإسلامي إلى احتمال وقوع هزة في ميزان القوى في العالم كله. يقول هذا المفكر الألماني: فإن ما لدى الشعوب الإسلامية من خصوبة بشرية تفوق ما لدى الشعوب الأوربية من هذه الخصوبة البشرية، وهذا الكم الهائل في الإنتاج البشري يهيئ الشرق إلى أن ينقل السلطة من الأوربيين إلى الشرق المسلم في مدة لا تتجاوز بضعة عقود. ويؤكد هذه الحقيقة أيضاً: المفوض السابق لشئون اللاجئين بالأمم المتحدة، إذ يقول: إن الزيادة السكانية المضطردة في دول العالم الثالث في الدول الإفريقية بصفة خاصة تشكل تهديداً أمنياً لجميع الدول الأوروبية بصور مباشرة. ويؤكد هذه الحقيقة أيضاً: مركز الدراسات الإستراتيجية في وزارة الدفاع الأمريكية، فلقد أجرى هذا المركز سلسلة من الدراسات طيلة السنوات الماضية، وانتهت هذه الدراسات إلى هذه الحقيقة المزعجة المرعبة لهم، إذ تقول هذه الدراسات: إن الزيادة المضطردة في النمو السكاني لدول العالم الثالث يهدد بصورة مرعبة المصالح الإستراتيجية الأمريكية بصورة مباشرة. ثم تقول الدراسة: فيجب على الولايات المتحدة أن تبذل الآن جهوداً كثيرة لوقف النمو السكاني للعالم الثالث بقدر ما تبذله الولايات المتحدة من جهود في إنتاج الأسلحة الجديدة المتطورة. هل انتبهت أيها المسلم؟! هل رأيت ما ذكرت لك؟! هذه حقائق يقررها هؤلاء أنفسهم!! إن النمو السكاني يهدد بصورة مباشرة مصالح الغربيين، وهذه أبحاثهم وتلك دراساتهم، ومن ثم فهم لا يهدأ لهم بال ولا يقر لهم الآن قرار، ويبذلون كل المحاولات لوقف هذا النمو السكاني في بلاد العالم الإسلامي لا من أجل سواد عيون هذه البلاد، ولا من أجل التنمية لموارد هذه البلاد -فهذه أضحوكة ضحكوا بها على كثير من المسلمين- ولا لمصلحة شعوبنا، ولا حرصاً على عافيتنا -لا ورب الكعبة! - بل ما جاءوا إلا خوفاً من اهتزاز ميزان القوى العالمية لصالح البلدان الإسلامية التي تتمتع الآن بخصوبة بشرية كبيرة. ومن ثم -أيها الأحبة الكرام- جاءت هذه الحملة الإعلامية تحت هذا الغطاء الذي يسمونه بـ (الأمم المتحدة) في هذا المؤتمر وقرر فيه المعونات الكبيرة لتحديد النسل بصورة خاصة في البلاد التي تشكو من كثرة عدد النسل، بل وحتى في البلاد التي تشكو من قلة النسل كسوريا، والعراق، والأردن، ولبنان، والسودان، ولم ينس الغرب هذه البلاد من هذه المعونات لوقف النسل وللحد من النمو السكاني، مع أن هذه الدول تشكو أصلاً من قلة عدد السكان، ومن ثم فهم لا يتورعون الآن من سن أي تشريع وأي قانون يصلون من خلاله لوقف هذا الزحف الهائل للنمو السكاني في بلاد العالم الثالث على حد تعبيرهم. وهذه الخلفية التي ذكرت لابد منها؛ لكي نفهم مراد هذه الصولة وهذا الإعلام الذي يشن من خلاله الآن تلك الحملة على النمو السكاني في بلاد العالم الإسلامي.

الحلول المقترحة من المؤتمرات الغربية لحل الأزمة

الحلول المقترحة من المؤتمرات الغربية لحل الأزمة أيها الأحبة! ومن ثم جاءت الحلول المقترحة -وهي تضحك وتبكي في آن واحد، وهي: أولاً: خرج علينا جراح كبير في لندن يقترح حلاً جذرياً لمشكلة الانفجار السكاني، إذ يقول هذا العبقري الفذ: إنني أقترح حلاً لمشكلة الانفجار السكاني وهو تخليق فيروس عن طريق الهندسة الوراثية يصيب الرجال والنساء بالعقم جميعاً! ثم يقول هذا العبقري: وحتى نهتدي لتخليق هذا الفيروس يجب أن نعلن أنه لا يجوز لأحد أن ينجب إلا بتصريح رسمي من وزارة الصحة، وإذا تعدى واحد من الناس وأنجب بدون صك غفران من وزارة الصحة، يجب أن يعاقب وأن يحرم من التأمين الصحي، وأن تفرض عليه غرامة كبيرة. يقول: فإن تجاوز هذه العقوبات وأنجب بعد ذلك يجب أن يسجن وأن يعامل معاملة الشخصيات الخطرة!! ويخرج علينا عبقري آخر من جامعة (استانفورد) بأمريكا، يقول: إنني أقترح لحل المشكلة السكانية، أن يخلط القمح الذي يصدر إلى دول العالم الثالث بالعقاقير الطبية التي تمنع الحمل. وكأن هذه البلاد في نظر هذا الوقح وأمثاله مزرعة للدواجن أو حظيرة لفئران التجارب سبحان الله العظيم!. واقترح بعض المؤتمرين -إلا أن البعض الآخر قد اعترض على هذا الاقتراح- لحل المشكلة السكانية: الإجهاض، وممن اعترض أبناء الوفود الإسلامية التي شاركت في مثل هذا المؤتمر؛ لأنها قضية محسومة في شريعتنا وفي ديننا، ولست الآن بصدد بيان الحكم الشرعي في تلك المسألة الخطيرة. لكنه الإنسان في غلوائه ضلت بصيرته فجن جنونا ويحي لمنتحر كأن بنفسه من نفسه حقد الحقود دفينا اعتد أسلحة الدمار فما رعت طفلاً ولا امرأة ولا مسكينا واليوم مد يديه للأرحام تو تلعان منها مضغة وجنينا قد صيغ من نور وطين فانبرى للنور يطفئه ولبى الطينا ما أضيع الإنسان مهما قد رقى سبل العلوم إذا أضاع الدينا {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه:123 - 127]. {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:97 - 99]. واقترح المؤتمر اقتراحاً رابعاً وهو: تأخير سن الزواج، ولابد أن نعلم بداهة أن هذا الاقتراح إنما يفتح المجال بمصراعيه للبدائل الأخرى من الجنس الآخر، وليس هذا تعسفاً مني، وإنما قد صرحت الوثيقة للمؤتمر الدولي للسكان والتنمية بهذا، وهي عندي لمن أراد أن يطالعها، فقد قالت الوثيقة في الفصل الخامس في الصفحة رقم (30): ينبغي على الحكومات أن تتخذ الإجراءات الفعالة للقضاء على جميع أشكال الإكراه والتمييز في السياسات والممارسات التي تتعلق بالزواج أو بأشكال الاقتران الأخرى. اهـ والزواج معروف والحمد لله، لكن أشكال الاقتران الأخرى هي: زواجُ الرجل بالرجل، وزواج المرأة بالمرأة، وهذا يقطع النسل من أقصر طريق، ويؤدي إلى عدم التكاثر الجنسي. هذه بعض المقترحات التي اقترحها المقترحون لوقف نمو سكان العالم الإسلامي، ونسي هؤلاء الذين شاء الله أن يفضحهم على رءوس الأشهاد في الدنيا قبل الآخرة إن لم يتوبوا ويعودوا إلى منهج الله عز وجل، وأن يتعرف العالم على سفاهة عقول القلة المترفة التي تحكم وتقود العالم بأسره الآن، -نسي هؤلاء بعمد مفضوح أن المنجم الحقيقي للتنمية هو الإنسان، وليست المشكلة في الكثافة السكانية، ولا في قلة الموارد، كذبوا ورب الكعبة! إننا نرى الآن دولاً تسقط ثمارها الناضجة من غير فعل الإنسان على الأرض، ولا تجد من يأكلها! ففي بلاد السودان أكثر من سبعين مليون فداناً صالحاً للزراعة -سبحان الله! - ولا تجد هذه الأرض من يزرعها، بل ولا من يأكل ثمارها في العراق في سوريا في الأردن في لبنان ليست المشكلة في قلة الموارد وليست المشكلة في الكثافة السكانية، ولكن المشكلة في حكام متسلطين، وفي سياسات ديمقراطية مدمرة، وفيروس قاتل يدمر الموارد، ويبدد الطاقات فيما لا جدوى من ورائه ولا طائل منه. إنه التكاسل عن استثمار هذه الموارد واستغلالها! إنه الروتين القاتل! إنه غلق أبواب الإبداع والابتكار أمام هذه الطاقات الإنسانية الهائلة. ليست الكثافة السكانية هي المشكلة، بل إن أرض الله عز وجل واسعة، أمدها الله عز وجل بالخيرات، ولكنه تقاعس الإنسان، بل وإن شئت فقل: ظلم الإنسان، فها نحن نرى فائضاً في الموارد عند بعض الدول الغنية المترفة، ترمي به في البحر في كل عام، ولا تمد يد المعونة والمساعدة للدول الإسلامية التي جاء الغرب اليوم ليتغنى بأنه ما جاء إلا حرصاً على عافية شعوبها وتنمية مواردها. وأمامنا بعض الأمثلة تستحق الدراسة بعناية فائقة: اليابان -مثلاً- كدولة من الدول، يزيد عددُ سكانها عن مائة وعشرين مليوناً، ومع هذا فإن عدد السكان يعيشون على مساحة تقل عن مساحة أرض مصر، وبالرغم من هذا نرى فائضاً في الإنتاج، بل نرى فائضاً يفوق الفائض الأمريكي، بل وأصبحت أمريكا الآن تلوح بالتهديد المباشر -كما في الأيام والأشهر الماضية- لليابان إذا لم تفتح أسواقها أمام المنتجات الأمريكية. اليابان لا تملك البترول، ولا تملك الحديد، ولا تملك الفحم، ومع هذا فهي من أغنى دول العالم اليوم؛ لأنها تملك أغلى كنز ألا وهو الإنسان. استغلت هذا الإنسان استغلالاً علمياً مركزاً منظماً، فوصل الإنسان الياباني إلى ما نراه الآن، حتى أنه من آخر ما وصلوا إليه أنهم صنعوا مصعداً -الأصنصير- بالصوت -يستجيب بالصوت- دون أن تضغط على زر كهربائي أو غيره، فإذا ما جلست فيه تستطيع أن ترسل إشارة صوتية إلى هذا المصعد فينزل إليك في الحال. قالوا: وإذا كان هناك من هو أعلى ينادي ومن هو أسفل ينادي واضطربت الأصوات فحينئذٍ يبرمج هذا المصعد بأن لا ينزل إلا على من نادى عليه أولاً! سبحان ربي العظيم! إنه الإنسان الذي خلقه الله جل جلاله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:12 - 14] إنه الإنسان! ومثل هذه التجربة تقال أيضاً عن هونج كونج سنغافورة كوريا عن هذه النمور الأسيوية التي بدأت الآن في الانطلاق. إذاً يا سادة! المشكلة لا تتمثل في كثافة السكان كما ادعى هؤلاء، ولا تتمثل في قلة الموارد التي وهب الله الأرض بها، وإنما تتمثل في سوء التوزيع وسوء الاستغلال في هذه الموارد، وعلى سبيل المثال: ففي مصرنا يعيش أكثر من (97. 7) من مجموع السكان في شريط ضيق في وادي الدلتا والنيل ويحتشدون فيه احتشاداً رهيباً، وبقية المساحة التي تصل إلى مليون كيلو متر مربع، والتي يغلب عليها الطابع الصحراوي، إذ تمثل الصحراء من مجموع المساحة الكلية (96%)، وبالرغم من هذا لا يسكن هذه المساحة بأكملها إلا (671) ألف نسمة! والملايين المملينة الأخرى تحتشد إحتشاداً رهيباً في وادي الدلتا والنيل. إنه سوء توزيع وسوء استثمار، ومع هذا فإن هذه المشكلة لا تستلفت الأنظار ولا الانتباه، بقدر ما توجهت الاهتمامات لمشروع الحد من النسل أو تنظيم النسل. أيها الأحبة الكرام! القضية لا تتمثل في كثافة السكان ولا في قلة الموارد، ومن ثم نعرض سريعاً في العنصر الأخير من عناصر هذا اللقاء الحلول المقترحة ينبغي أن تسمع من الإسلاميين، وأسأل الله جل وعلا أن يوفقنا جميعاً إلى ما يحبه ويرضاه، وأن يتقبل منا وإياكم جميعاً صالح الأعمال.

الحلول الغائبة

الحلول الغائبة الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الأحبة! سامحوني على هذه الإطالة المتعمدة بمثل هذه المعلومات، فربما ظن بعض الأحبة أنه لم يكن هناك داعٍ على الإطلاق لأن نخصص جمعة كاملة لمثل هذا الموضوع، ولكنني أخالفه شكلاً وموضوعاً، فإن هذه القضايا لابد أن تستقر في عقولنا وقلوبنا؛ وحتى نستطيع أن نفهم فهماً دقيقاً، وأن نعي وعياً عميقاً حجم هذه المؤامرة الشرسة، وخطورة هذه المرحلة الراهنة من مراحل الصراع. هذا هو البعد الحقيقي والحجم الطبيعي لقضية تحديد النسل، ولابد لكل مسلم أن يعيه وأن يعرفه وأن يلم به إلماماً.

التيقن أن الرزاق هو الله

التيقن أن الرزاق هو الله وأخيراً: نقترح نحن هذه الحلول: أولاً: كنا نود أن نقول لتلك الجمهرة من جميع أنحاء العالم أنهم قد نسوا حقيقة كبيرة تسمى بالرزاق ذو القوة المتين. إنها حقيقة تملأ قلب كل موحد، الرزاق الذي تكفل بأرزاق العباد والدواب على ظهر هذه الأرض، وأوجب على نفسه -اختياراً منه سبحانه- رزق كل دابة تدب على سطح الأرض، فقال جل وعلا: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود:6]. أيها الحبيب الكريم! هذه الدواب التي لا يحصيها علم ولا يلم بها إحصاء بشري رزقها على ربي جل وعلا، أوجب الله على نفسه ذلك اختياراً منه سبحانه. وأنا أقول: إذا كان ربنا يرزق الكفار أينسى من وحدوا العزيز الغفار؟! إنه الرزاق ذو القوة المتين! وانظر معي وتدبر معي هذه اللفتة القرآنية اللطيفة، إذ يقول الله سبحانه وتعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات:22 - 23]. الرزق في السماء مع أن الأسباب الظاهرة لأرزاقنا في الأرض! ولكن الله جل وعلا يريد أن يلفت القلوب النقية والعقول الذكية إلى وجوب الأخذ بالأسباب في هذه الأرض، والتيقن أن الأسباب وحدها لا تضر ولا تنفع، ولا ترزق ولا تمنع، إلا بأمر مسبب الأسباب جل جلاله. {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ}. واسمع إلى هذا الحديث العظيم الذي رواه الإمام مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه: (أنه صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا، يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم)، من الذي يطعم هذه الأفواه؟! ليس الشرق الملحد وليس الغرب الكافر يا حكام المسلمين! لا يطعم هذه الأفواه إلا خالقها جل جلاله: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]. لا تخشوا فقد معونة شرقية ولا معونة غربية، فإن الذي يرزق الشرق الملحد والغرب الكافر هو الله، أفيرزق الله الكفار وينسى من وحدوا العزيز الغفار؟! (يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي! كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه). وتدبر معي هذا الحديث المبارك الذي رواه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري في كتاب التوحيد من حديث أبى هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن يمين الله ملأى لا تغيظها نفقة -أي: لا تنقصها النفقة- سحاء الليل والنهار). ما أنفقه ربكم منذ خلق السموات والأرض لم ينقص ما في يمينه جل وعلا. إذاً: أيها الأحبة! إننا نرفع رءوسنا وإن ضحك العلمانيون بملء أفواههم وقالوا: انظروا لهذا الدرويش الذي جاء يقترح علينا حلاً للمشكلة والأزمة السكانية، ويتمثل اقتراحه وحله في كلمة اسمها: (الرزاق)، بل وربما تأتي الجرائد على صفحاتها الأولى وتحكي قصة هذا الرجل البدائي الذي جاء ليحل هذه الأزمة باسم الرزاق، ومع هذا فإننا نؤمن بهذه الحقيقة بقدر ما يكذب بها العلمانيون. {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات:22 - 23]، واسمحوا لي أن أكرر عن عمد قصة تلك البنت التقية بنت حاتم الأصم رحمه الله تعالى الذي أراد أن يحج بيت الله الحرام يوماً من الأيام، فجمع أبناءه وقال: إني ذاهب لحج بيت الله، فقال الأولاد: ومن يأتينا بطعامنا وشرابنا؟ فقالت بنت من بناته: يا أبتِ! اذهب لحج بيت الله فإنك لست برازق، وانطلق الرجل، وبعد أيام قليلة انتهى الطعام في بيت حاتم الأصم، وانطلقت الأم لتأنب هذه الفتاة التقية النقية، وسرعان ما عرفت الفتاة الحل والعلاج، فخلت هذه الفتاة بنفسها لترفع شكواها إلى الرزاق ذي القوة المتين، إلى من يسمع دبيب النملة السوداء تحت الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، وفي هذا الوقت كان أمير البلدة يمر على الرعية ليتفقد أحوالهم، وأمام باب حاتم الأصم أحس بعطش شديد، فقال الأمير: ائتوني بكوب من الماء، فدخل شرطي من الشرطة على بيت حاتم الأصم وهو أقرب باب، فأحضروا كوباً نظيفاً وماءً بارداً، فلما شرب الأمير قال: بيت من هذا؟ قالوا: بيت حاتم الأصم، قال: هذا العبد الصالح؟ قالوا: نعم. قال: الحمد لله الذي سقانا من بيوت الصالحين، أين هو لنسلم عليه؟ فقالوا: ذهب لحج بيت الله الحرام، فقال الأمير: إذاً حق علينا أن نكافئ أهل بيته في غيبته. لقد استجاب الله دعاء الفتاة في الحال أليس ربك هو القائل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3]. استجاب الله دعاءها، فأرسل الأمير بكيس مملوء بالذهب وألقاه في بيت حاتم الأصم، ولكن الرزاق أراد الزيادة، فالتفت الأمير إلى الشرطة من حوله، وقال: من أحبني فليصنع صنيعي، ومن أحبه ومن لم يحبه فسوف يلقي ما معه من مال لعل الله أن يكرمه في أول تشكيل وزاري ليصبح وزيراً، فألقى كل شرطي ما معه من الأموال وامتلأ بيت حاتم بالذهب ودخلت الفتاة التقية النقية تبكي، فدخلت عليها أمها وإخوانها يقولون لها: تعالي! لماذا البكاء؟ لقد امتلأ بيتنا بالذهب وأصبحنا أغنى الناس في البلدة، فنظرت إليهم الفتاة التقية المؤمنة وقالت: لقد نظر إلينا مخلوق نظرة فاغتنينا، فكيف لو نظر الخالق إلينا؟! إنه الرزاق ذو القوة المتين الذي قال وقوله الحق: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3].

التقوى

التقوى ثانياً: الإيمانُ والتقوى: فليضحك العلمانيون بملء أفواههم، فإن الإيمان والتقوى من أعظم الأسباب لحل المشكلة السكانية. كيف ذلك؟ اسمع إلى الحق سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:96] هذه حقيقية أيضاً، وينبغي أن تستقر حقيقة الإيمان في قلوبنا، وأن نحقق التقوى لربنا جل وعلا.

الاستغفار

الاستغفار ثالثاً: الاستغفار: ما علاقة الاستغفار بالمشكلة السكانية؟ إنه مفتاح حلها! كيف ذلك؟ اسمع إلى الحق سبحانه وهو يقول حكاية عن نبيه نوح عليه السلام: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ} [نوح:10 - 12] بأموال لا يحتاجون بعدها إلى المرابي الأكبر -صندوق النقد الدولي- ولن تخشوا بعدها قطع معونة شرقية ولا غربية، فاستغفروا ربكم جل في علاه: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نوح:10]. ما هي النتيجة؟ {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا * مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح:11 - 13]. ما لكم لا توحدون الله حق توحيده؟ ولا تعبدون الله حق عبادته، ولا تجلون الله حق جلاله، ولا تقدرون الله حق قدره سبحانه؟ {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح:13].

الاستغلال الأمثل للموارد

الاستغلال الأمثل للموارد رابعاً: الاستغلال الأمثل للموارد بالعدالة في التوزيع، وبكسر الحاجز الجغرافي والنفسي الذي وضعه الاستعمار بين شعوب العالم الإسلامي؛ لتكون خطوة أولى على طريق التكافل والتكامل، لاسيما ونحن نعيش الآن عصراً يسمى بعصر التكتلات، ولا أريد أن أتوقف طويلاً -أيها الأحبة- ولكن هذا ما ندين الله عز وجل به في هذه المشكلة الخطيرة وهذه الأزمة السكانية الكبيرة التي يعاني منها الغرب ويتغنون بها في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة طيلة الأشهر الماضية. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يرد الأمة إليه رداً جميلاً. اللهم رد الأمة إليك رداً جميلاً اللهم رد الأمة إليك رداً جميلاً اللهم رد الأمة إليك رداً جميلاً اللهم خذ بنواصينا إليك! اللهم خذ بنواصينا إليك اللهم عجل بالقائد الرباني الذي يحكم الأمة بكتابك وبسنة نبيك المصطفى صلى الله عليه وسلم. اللهم استرنا ولا تفضحنا وأكرمنا ولا تهنا، وكن لنا ولا تكن علينا! اللهم وسع أرزاقنا اللهم وسع أرزاقنا اللهم ارزقنا الحلال الطيب وبارك لنا فيه، وابعد عنا الحرام وإن كان كثيراً يا أرحم الراحمين. اللهم احصن نساءنا وبارك في أولادنا، واجعلهم قرة عين لنا في الدنيا والآخرة. اللهم بقدرتك ورحمتك أطعم المسلمين الجياع، واكس المسلمين العراة. اللهم أطعم المسلمين الجياع اللهم أطعم المسلمين الجياع اللهم اكس المسلمين العراة اللهم اكس المسلمين العراة اللهم احمل المسلمين الحفاة بقدرتك ورحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم استرنا ولا تفضحنا وأكرمنا ولا تهنا وكن لنا ولا تكن علينا! اللهم بقدرتك وعظيم رحمتك ارفع عن مصرنا الغلاء والبلاء! اللهم ارفع عن مصر الغلاء والبلاء اللهم ارفع عن مصر الغلاء والبلاء والفتن والوباء اللهم اجعل مصر واحة للأمن والأمان واحة للرخاء والاستقرار اللهم وسع أرزاق شعبها اللهم وسع أرزاق أهلها اللهم وسع أرزاق أهلها اللهم! اجعل مصر سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم أغننا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك، أنت ولي ذلك والقادر عليه! إلهنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، وارفع اللهم مقتك وغضبك عنا اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا! اللهم إنا ضعاف فقونا اللهم اجبر كسر قلوبنا، واغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، وآمن روعاتنا، واكشف همومنا، وأزل غمومنا، وفرج كروبنا، يا غياث المستغيثين! ويا مجيب المضطرين يا غياث المستغيثين! ويا مجيب المضطرين يا غياث المستغيثين! ويا مجيب المضطرين ويا كاشف هم المهمومين! ويا مفرج كرب المكروبين! ويا مفرج كرب المكروبين! يا ودود يا ودود! يا ودود يا ودود! يا ودود يا ودود! يا ذا العرش المجيد! يا فعال لما يرد! يا من ملأ نوره أركان عرشه! يا مغيث المستغيثين! ويا مجيب المضطرين! ويا مفرج كرب المكروبين! يا منقذ الغرقى! ويا منجي الهلكى! ويا سامع كل نجوى! يا عظيم الإحسان! ويا دائم المعروف! إن أردت بالناس فتنة فاقبضنا إليك غير خزايا ولا مفتونين ولا مفرطين، ولا مضيعين ولا مبدلين ولا مغيرين! اللهم إنا نعوذ بك من الذنب بعد العطاء اللهم إنا نعوذ بك من الذنب بعد العطاء اللهم إنا نعوذ بك من الذنب بعد العطاء اللهم اقبلنا وتقبل منا، وتب علينا وارحمنا، إنك أنت التواب الرحيم! أحبتي في الله! هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون عليه إلى الجنة ويلقى به في جهنم، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.

ففروا إلى الله

ففروا إلى الله إن الناظر إلى الحضارة الغربية اليوم وما شاع فيها من انتشار للفواحش من زنا وشذوذٍ جنسي وغير ذلك، والتقنين لها وحمايتها من قبل الحكومات، ليدرك مدى الانتكاسة والأزمة الأخلاقية التي تعيشها هذه الحضارة، وما ذاك إلا لبعدها عن منهج الله تعالى ودينه وشرعه.

أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة، وزكى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور، وطبتم جميعاً وطاب ممشاكم وتبوأتم منزلاً من الجنة، وأسأل الله جل وعلا أن يتقبل مني وإياكم جميعاً صالح الأعمال، وأن يجمعنا في هذه الدنيا دائماً وأبداً على طاعته، وفي الآخرة مع سيد الدعاة وإمام النبيين في جنته ومستقر رحمته؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! ففروا إلى الله!! هذا هو عنوان محاضرتنا في هذه الليلة الكريمة المباركة، وحتى لا ينسحب بساط الوقت من تحت أقدامنا سريعاً، فسوف ينتظم حديثي مع حضراتكم في العناصر التالية: أولاً: سفينة واحدة. ثانياً: انتكاس الفطرة. ثالثاً: عقاب إلهي. وأخيراً: لا ملجأ من الله إلا إليه. فأعيروني القلوب والأسماع فإن هذا اللقاء من الأهمية بمكان، وأسأل الله جل وعلا أن يتقبل مني وإياكم صالح الأعمال، وأن يجعلني وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، فأولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولو الألباب. أولاً: سفينة واحدة: أيها الأحبة! نحن جميعاً ركاب سفينة واحدة، إن نجت نجونا، وإن هلكت هلكنا جميعاً، ولقد جسَّد النبي صلى الله عليه وآله سلم هذه الحقيقة في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري من حديث النعمان بن بشير، أنه صلى الله عليه وسلم قال: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وأصاب بعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً حتى لا نؤذي من فوقنا، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: فإن يتركوهم وما أردوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً). وهذا مثل دقيق يضربه المصطفى صلى الله عليه وسلم لأبناء المجتمع الواحد، فهذا المجتمع كالسفينة، إن لم يوجد في هذا المجتمع أهل الصلاح الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، فإن الهلاك سيصيب الجميع، وإن السفينة ستغرق بالجميع، ولن يفرق الهلاك ساعتها بين الصالحين والطالحين. وفرق بين المصلح والصالح، فلابد من وجود المصلحين الذين يأخذون على أيدي السفهاء الساقطين والواقعين في حدود رب الأرض والسماء جل وعلا. لابد أن تكون هناك فئة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر لا تأخذها في الله لومة لائم، تبين هذه الفئة المصلحة الصادقة الحق والباطل؛ حتى لا يعم الله الجميع بعقاب من عنده. أيها الأحبة! هذه الفئة المصلحة سبب من أسباب نجاة المجتمع من الإهلاك العام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل الإنكار فرض عين على كل مسلم وإن اختلفت مراتبه ودرجاته، إلا أنه لابد من أن تبقى درجة من درجات الإنكار فرض عين على كل مسلم لا يعذر منها إن تركها على الإطلاق؛ فلقد ثبت عند مسلم من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان).

العلمانية تدعو إلى إماتة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

العلمانية تدعو إلى إماتة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جاء في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن مسعود أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ما من نبي قد بعثه الله قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنه تخلف من بعدهم خُلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل) أي: أن كل مسلم إن عجز أن ينكر بيده أو أن ينكر المنكر بلسانه لم يعذر أن ينكر المنكر بقلبه، بمعنى أن يبغض المنكر وأهله لا أن يأنس أو يسعد بهم أو أن ينكر على منكره في يوم من الأيام، ثم بعد ذلك تتوالى الأيام، فيعايش أهل المنكر بأريحية وانشراح صدر فلا يتألم قلبه بعد ذلك لهذا المنكر. ولذلك أيها الأحبة الكرام! خشي صدِّيق الأمة يوماً هذه السلبية القاتلة التي يرفع اليوم شعارها العلمانيون، وهي: دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله إنك لن تبدل الكون، ولن تغير نظامه. إذاً: لا سياسة في الدين، ولا دين في السياسة، فما عليك إلا أن تصلي لله، وأن تتعبد لله عز وجل، فواجب عليك حينئذ أن تغض الطرف عن كل منكر تراه عينك، أو تسمعه أذنك، أو تراه مجدداً في واقعك الذي تراه فيه، فهذا هو معنى: دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله!! بل قد يتشدق أحد العلمانيين -كالثعلب الذي برز يوماً في ثياب الواعظين- ليقنِّن هذه السلبية القاتلة، وليقنِّن هذه السلبية المدمرة بآية من كتاب الله عز وجل، فربما يقرأ على أسماعنا قول الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105]، ومن منطلق هذا الفهم المغلوط لهذه الآية الكريمة انطلق كثير من الناس يرددون ما يقوله العلمانيون: (دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله) فلا سياسة في الدين، ولا دين في السياسة، فلا مانع على الإطلاق من أن نرى مسلماً يصلي لله جل وعلا، ثم يخرج لترى زوجته عارية لترى بناته متبرجات أو لترى أمواله في البنوك يأكل من الحرام والربا، أو ليمتثل قول الله في سورة البقرة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] ويضيِّع أمر الله في السورة نفسها: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:179] فالإسلام في بيوت الله فحسب، أما إن خرج المسلم من المساجد فلا داعي على الإطلاق أن نزجَّ بالإسلام في قضايا الإعلام، أو في قضايا الإجهاض، أو في قضايا الإسكان، أو في قضايا الانفجار السكاني، أو في قضايا التعليم، أو في قضايا الإخصاب، أو في قضايا المرأة؛ لأن الإسلام أسمى وأجل من أن نزج به في مثل هذه القضايا والمسائل هكذا زعموا قاتلهم الله!

خطورة عدم تغيير المنكر

خطورة عدم تغيير المنكر (دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله) شعار يدندن حوله الآن العلمانيون في كل مناسبة أو بدون مناسبة، ويستدل بعضهم بقول الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105]، ولقد خشي الصديق هذه السلبية المدمرة يوماً فارتقى المنبر وقال: أيها الناس! إنكم تقرءون هذه الآية وتضعونها في غير موضعها؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه، أوشك الله أن يعمهم بعقابه) وفي لفظ: (إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه، يوشك أن يعمهم الله عز وجل بعقاب من عنده) والحديث رواه أحمد في مسنده، وأبو داود في سننه، والترمذي في السنن، وحسنه الحافظ ابن حجر، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع. أيها الأحبة الكرام! لابد أن نعلم أن وجود المصلحين سبب من أسباب النجاة للأمة بأسرها، وسبب من أسباب عدم الإهلاك العام للأمة، فلابد أن توجد هذه الفئة الصالحة في نفسها المصلحة لغيرها، التي لا تترك الواقعين في حدود الله ينخرون بمعاول من الذنوب والمعاصي في هذه السفينة حتى تغرق بالجميع، وإن كان فيها الصالحون. إن هذه الفئة إن تخلت عن واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتخلت عن الأخذ على أيدي السفهاء الساقطين في حدود الله جل وعلا، أوشك أن يعمنا الله جميعاً بعقاب من عنده، كما ثبت في الصحيحين من حديث زينب بنت جحش رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوماً فزعاً -وفي لفظ: استيقظ فزعاً- وهو يقول: لا إله إلا الله! ويل للعرب من شر قد اقترب! لا إله إلا الله! ويل للعرب من شر قد اقترب! فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلق بأصبعيه: السبابة والإبهام، ثم قالت زينب لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟! فقال المصطفى: نعم. إذا كثر الخبث). قال صلى الله عليه وسلم: (نعم. إذا كثر الخبث). وأنا أقسم بالله إن الخبث قد كثر!! ولذا نرى الإمام مالكاً يبوِّب باباً في موطِّئه بعنوان (باب ما جاء في تعذيب الله للعامة بعمل الخاصة)، فإن الله يعذب العامة بعمل الخاصة؛ وذلك إذا لم يأخذ المصلحون على أيدي السفهاء الواقعين في حدود الله عز وجل. بل لقد ورد في مسند أحمد، وسنن الترمذي، وسنن ابن ماجة، وصحح الحديث الشيخ الألباني أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله عز وجل لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم ولا يغيروه ولا ينكروه، وهم قادرون على ذلك)، فحينئذ يعذب الله العامة والخاصة. هذه مقدمة -أيها الأحبة- أردت أن أدخل بها للعناصر المتبقية في هذا الموضوع، فنحن جميعاً كما ذكرت ركاب سفينة واحدة إن نجت هذه السفينة نجونا جميعاً، وإن هلكت هذه السفينة هلكنا جميعاً، فلابد من وجود الفئة المصلحة التي تغير المنكر بأي مرتبة من مراتب التغيير أو بمراتب الإنكار.

صور من انتكاس الفطرة في العالم الغربي

صور من انتكاس الفطرة في العالم الغربي أيها الأحبة! إننا نشهد الآن مؤامرة موتورة يريد أصحابها وأذنابهم أن يفرضوا على المجتمعات المسلمة ما وصلت إليه المجتمعات الغربية الكافرة من انتكاس سحيق للفطرة، فأصبح الآن يقنن ويشرع على المستوى الرسمي لهذه المؤامرة المفضوحة. إن هذه المجتمعات الغربية الكافرة التي استشرت فيها النزعات الحيوانية لا يمكن على الإطلاق -أيها الأحبة- أن نسميها بالمجتمعات المتحضرة أو المتقدمة، وإن بلغت ما بلغت إليه من التقدم العلمي. هذه المجتمعات انتشرت فيها النزعات الحيوانية بكل أشكالها انتشر فيها الزنا والشذوذ الجنسي وانتشر فيها نكاح المحارم، بل وأصبحت هذه المجتمعات لا تدعو لهذا فحسب، بل قنَّنت وشرعت له، وإن هذا لهو مكمن الخطر، ولم تعد مثل هذه الأمور مستغربة أو مستنكرة في مثل هذه المجتمعات.

ازدياد عدد حالات الإجهاض

ازدياد عدد حالات الإجهاض ثانياً: تشير الدراسات إلى أن عدد حالات الإجهاض الذي كان يدندن حوله في الإيام الماضية قد بلغ في عام (1983م) إلى خمسين مليون طفل في العالم.

الحمل بسبب الزنا

الحمل بسبب الزنا ثالثاً: تشير الدراسات إلى أن الحمل أصبح مشكلة كبيرة لدى المراهقات في أوروبا وأمريكا، ففي أمريكا وحدها أكثر من مليون فتاة تحمل سنوياً من الزنا، فأصبحت المشكلة كبيرة وخطيرة، وتعالت الأصوات في هذه المجتمعات تنذر وتحذر من هذا الخطر القادم.

الشذوذ الجنسي

الشذوذ الجنسي لم يكتف اليهود وأتباع اليهود بنشر الزنا في العالم كله بصفة عامة، وفي أوروبا وأمريكا بصفة خاصة، بل راح اليهود يقنِّنون للشذوذ الجنسي، وسمعنا في الأيام الأخيرة من يقول بتعدد أشكال الأسرة، ونحن لا نعرف للأسرة إلا شكلاً واحداً، ألا وهو: الرجل والمرأة، أما الآن فقد تعددت صور الشذوذ في هذه المجتمعات، فأصبحنا نرى صورة أخرى للأسرة، أسرة تكون بين رجل ورجل، أو بين امرأة وامرأة. لم يكتف اليهود بنشر الزنا في العالم بصفة عامة وفي أوروبا وأمريكا بصفة خاصة، بل أصبحنا نرى كثيراً من النوادي والجمعيات في أوروبا وأمريكا ترعى شئون الشاذين والشاذات، وأصبحت لهم أماكنهم الخاصة التي يجتمعون فيها، ولقد صرحت دائرة المعارف البريطانية بأن الشاذين والشاذات قد انتقل أمرهم من طور السرية إلى طور العلنية، وأصبحت لهم معابدهم وكنائسهم الخاصة التي تقوم علناً في حفلات خاصة يدعى إليها الأهل والأصدقاء لتزويج الرجال بالرجال، ولتزويج النساء بالنساء. بل وتعجبون أشد العجب إذا علمتم أن مجلة التايم الأمريكية قد نشرت قصة ضابط يهودي يعمل ضمن صفوف الجيش الأمريكي، هذا الضابط وصلت به الحالة إلى أن علق في مكتبه الخاص لوحة كبيرة تعلن هذه اللوحة بأن هذا الضابط شاذ جنسياً، ولما طردت إدارة الجيش الأمريكي هذا الضابط اليهودي، قامت قيامة الإعلام!! وتحت هذه الثورة الإعلامية العارمة اضطرت إدارة الجيش أن ترد الضابط اليهودي مرة أخرى، ثم دعي هذا الضابط بعد ذلك؛ لإلقاء المحاضرات الرسمية عن الشذوذ في أكبر الجامعات الأمريكية إنه انتكاس الفطرة!! بل تشير الدراسات إلى أن عدد الشواذ في أمريكا وحدها قد وصل إلى عشرين مليون شاذ، من بينهم رجال من الكنائس!! لقد أضحى الأمر خطيراً، ومكمن الخطر -أيها الأحبة- يتمثل في هذه الانحرافات التي لم تعد مستغربة ولا مستنكرة، بل قنَّن لها هذا المجتمع الغربي الكافر الذي لا يؤمن بدين، ولا يلتزم بمبدأ ولا بخلق ولا بضمير، ثم راح هذا المجتمع الغربي ليفرض هذا الانحراف وهذا الشذوذ على المجتمعات الإسلامية. أيها الأحبة! لم يكتفِ اليهود، وأذناب اليهود بنشر الشذوذ بكل صوره وأشكاله، بل راح اليهود يدعون إلى نكاح المحارم -أي: نكاح الأمهات والبنات والأخوات- وتعلمون بأن أول من دعا إلى نكاح المحارم هو فرويد اليهودي الذي بنى نظريته كلها عن الجنس، وقال بمنتهى الصراحة والوقاحة: إن الطفل يحب أمه حباً جنسياً، ويكره أباه. وهذا الكره سماه بعقدة (أديب)، وقال: إن الطفلة تحب أباها حباً جنسياً، وتكره أمها. وسمى هذا الكره بعقدة (ألكترا). وللأسف أقول بمنتهى الحسرة والألم والمرارة: إن هذا الغثاء والهراء يدرس لأبنائنا وبناتنا في أخطر مراحل المراهقة في مرحلة الثانوية العامة، على أنه باب من أبواب علم النفس، وهذا ورب الكعبة شيء خطير!! بل لقد نشرت مجلة التايم الأمريكية أيضاً تحقيقاً صحفياً واسعاً عن نكاح المحارم، ونشرت فيه المجلة تقريراً لأحد الباحثين يقال له وثل أومري، يقول هذا الباحث الوقح: (لقد آن الأوان لكي نعترف بأن نكاح المحارم ليس شذوذاً، وليس دليلاً على الاضطراب العقلي، بل قد يكون نكاح المحارم -خاصة بين الأطفال وذويهم- أمراً مفيداً لكليهما). ونجد الآن أن هذا المجتمع قد وصل إلى هذه المرحلة السحيقة من انتكاس الفطرة، بعدما تحدى منهج الله جل وعلا، وشذ عن منهجه. هؤلاء الآن يدعون إلى نكاح المحارم إلى نكاح الأمهات والبنات والأخوات إنه انتكاس سحيق للفطرة؟! لكنه الإنسان في غلوائه ضلت بصيرته فجن جنوناً ويحي لمنتحر كأن بنفسه من نفسه حقد الحقود دفيناً اعتدت أسلحة الدمار فما رعت طفلاً ولا امرأة ولا مسكيناً واليوم مد يديه للأرحام تقتلعان منها مضغة وجنيناً قد صيغ من نور وطين فانبرى للنور يطفئه ولبى الطينا ما أضيع الإنسان مهما رقى في سبل العلوم إذا أضاع الدينا

انتشار الزنا بصورة كبيرة

انتشار الزنا بصورة كبيرة لقد ظهرت دراسات علمية عديدة تبين مدى الخطورة التي وصلت إليها المجتمعات الغربية، في هذا الجانب المنحرف، وكثير من أبناء المسلمين من بني جلدتنا وممن يتكلمون بألسنتنا اليوم لا يقدسون ولا يجلون إلا ما صدر من الغرب أو عن الغرب، فمن خلال هذه الدراسات -التي لا تنطق إلا بلغة الأرقام- نستطيع أن ننقل لكم بعض ما جاء فيها بقدر ما يسمح به الحياء والمقام: تقول هذه الدراسات: إن المشكلة أضحت خطيرة وكبيرة في المجتمعات الغربية، بل وارتفعت الآن كثير من الأصوات التي تنادي بالعودة إلى محاربة هذه الأعمال قبل أن يهلك هذا المجتمع بأسره. أيها الأحبة: تشير الدراسات إلى أن (90%) من غير المتزوجات يمارسن الزنا بطلاقة أو من حين لآخر في أوروبا وأمريكا.

عقاب إلهي

عقاب إلهي عبد الله! أليس ربك جل وعلا هو القائل: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:123 - 126]؟! أليس هو القائل: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:97 - 99]؟! نتيجة لهذا الأمن من مكر الله، بل ونتيجة لهذا الكفر بمنهج الله، ابتلى الله عز وجل هذه المجتمعات الغربية الكافرة بالأمراض الفتاكة المدمرة التي وقفوا أمامها الآن وقفة العاجز الذي لا يستطيع أن يقدم شيئاً على الرغم مما وصل إليه في الجانب العلمي من تقنية الطب الحديث.

العيشة الضنك والقلق في المجتمع الغربي

العيشة الضنك والقلق في المجتمع الغربي وأخيراً أيها الأحبة الكرام! أقول: لا سعادة للبشرية كلها بصفة عامة، وللمسلمين بصفة خاصة -لاسيما بعدما رأى المسلمون هذه الصور الشاذة وهذا العقاب الإلهي- إلا بالعودة إلى منهج الله جل وعلا؛ ليستظلوا بظلاله الوارفة، بعد أن أحرقهم لفح الهاجرة القاتل، وأرهقهم طول المشي في التيه والضلال، فلا ملجأ ولا ملاذ من الله عز وجل إلا إليه سبحانه وتعالى، {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه:124]. هذا ورب الكعبة! هو الضنْك الذي تحياه البشرية كلها، فإن العالم اليوم بالرغم مما وصل إليه من وسائل الأمن والأمان يعيش مرحلة ما مر بها من قبل من حالة الذعر والخوف والرعب. وبالرغم مما وصل إليه من تقنية حديثة في جانب الاتصال، فإنه يعيش حالة من الحرمان، وحالة من الفقر والضنْك. وبالرغم مما وصل إليه من سبل الرفاهية الحديثة، فإنه يعيش حالة من القلق والاضطراب والشرود. ومن أراد أن يتعرف على هذه الحقائق فليذهب إلى هذه المجتمعات؛ ليرى بعينه حالة القلق النفسي التي يحياها هؤلاء، على الرغم مما وصلوا إليه في الجانب المادي، ونحن لا ننكر على الإطلاق أنهم قد وصلوا إلى أرقى الدرجات في الجانب العلمي. نعم. غاصوا في أعماق البحار فجّروا الذرة حولوا العالم كله إلى قرية صغيرة عن طريق التقنية الحديثة، والتطور المذهل في عالم المواصلات والاتصالات، لكن بالرغم من هذا أقول: إن هذا التقدم ما جاء إلا على حساب الجانب الآخر على حساب الجانب الإيماني على حساب الجانب العقدي والأخلاقي والروحي. إن هذه الحضارة قد أمدت البدن بكل ما يشتهيه، ونسيت هذه الحضارة أن الإنسان يتكون من طين وروح، فأعطت هذه الحضارة الطين كل ما يشتهيه وتركت الروح تصرخ في هذا الخواء! رأينا -ورب الكعبة- ذلك بأعيننا -أيها الأحبة- على من الرغم ذلك التقدم العلمي رأينا هذا الشرود رأينا هذا القلق رأينا هذا الاضطراب رأيناه بأعيننا في قلعة الكفر الآن التي تصدر كل إلحاد وضلال وفسق وانحراف إلى بلدان العالم، ألا وهي أمريكا. رأينا ذلك بأعيننا: رأينا الدعارة، ورأينا الانحراف، رأينا عالم البهائم على الرغم مما وصلوا إليه في كل مكان، رأينا الدعارة في الطيارة في السيارة في المطار في القطار في الفندق في النادي في كل مكان!!

أمراض السيلان والزهري وسرطان المستقيم وغيرها

أمراض السيلان والزهري وسرطان المستقيم وغيرها وهناك أمراض أخرى كثيرة انتشرت واستشرت كسرطان المستقيم، وسرطان الشرج، والسيلان، والزهري، وغيرها من الأمراض الفتاكة التي انتشرت كعقاب من الله عز وجل لهؤلاء الذين انحرفوا عن الفطرة، وشذوا عن منهج الله جل وعلا، وتحقق قول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه ابن ماجة في سننه، والحاكم في المستدرك، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع من حديث عبد الله بن عمر، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها، إلا فشت فيهم الأوجاع والأسقام التي لم تكن في أسلافهم)، وهذا كلام الصادق الذي لا ينطق عن الهوى. أخي! أليس ربك هو القائل: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:1 - 5]؟ يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: (لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشت فيهم الأوجاع والأسقام التي لم تكن في أسلافهم). وإياك أن تظن أن هذا العقاب لهؤلاء الناس خاصة، كلا فليست من الظالمين ببعيد!! إنها سنة من سنن الله الثابتة التي لا تتبدل ولا تتغير؛ فإن الله جل وعلا ليس بينه وبين خلقه نسب ولا محاباة؛ ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنته فاطمة رضي الله عنها: (يا فاطمة! اعملي؛ فإني لا أغني عنك من الله شيئاً). ولو أن المسلمين فتحوا الباب على مصراعيه لهذه الانحرافات، ولهذه الصور الشاذة التي تتحدى منهج الله جل وعلا، فإن هذه الأوبئة وهذا العقاب ليس منهم ببعيد. وها نحن بدأنا نرى بعض هذه الصور في مثل بلادنا وبيئتنا. ونسأل الله جل وعلا أن يرد المسلمين إلى منهجه رداً جميلاً؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه. أيها الأحباب: هذا العقاب من الله سبحانه وتعالى بانتشار هذه الأوبئة الخطيرة والمدمرة لكل من انحرف عن منهج الله، ولكل من شذ عن منهج الله جل وعلا إنما هي قمة العدل، وهذا ما يقتضيه عدل الله سبحانه وتعالى إنه عقاب من الله سبحانه لكل من حاد لكل من شذ لكل من انحرف!!

مرض الإيدز

مرض الإيدز أيها الأحباب: لقد انتشرت واستشرت الآن كثير من الأمراض الفتاكة المدمرة في المجتمعات الغربية، وكلكم جميعاً يسمع في كل يوم عن هذا المرض الفتاك المدمر الذي أنفق عليه بسخاء، وبالرغم من هذا لا زال العالم إلى الآن لا يستطيع أن يخلص واحداً من براثن هذا الوباء وهذا الطاعون الذي ابتلي به. إنه مرض (الإيدز) المعروف بمرض نقص المناعة، هذا المرض الفتاك الذي استشرى وانتشر، حتى ذكرت منظمة الصحة العالمية بأن عدد الذين يحملون فيروس (الإيدز) الآن -وكان هذا الاجتماع في عام (1986م) ونحن الآن في (1994م) - ذكرت منظمة الصحة العالمية بأن عدد الذين يحملون فيروس الإيدز الآن في العالم، يتراوحون ما بين خمسة إلى عشرة ملايين شخص، وعدد المصابين في أمريكا وحدها قد زاد عن المليون شخص ممن يحمل فيروس (الإيدز)، بل لقد خصصت أمريكا في كل عام ألفي مليون دولار سنوياً لمكافحة هذا المرض الفتاك المدمر. وبالرغم من هذا السخاء في الإنفاق للوصول إلى سبب هذا المرض، وللبحث عن علاج فعَّال له، إلا أنني أقول بأن العالم المتقدم -على حد زعم من يحلو له أن يسمي هذا العالم بالعالم المتحضر- لا يستطيع أن يخلص رجلاً أصيب بهذا المرض الخطير من براثن هذا المرض الفتاك المدمر الخطير لا يستطيعون ذلك إلى يومنا هذا. هذا المرض المرعب الذي يستشري وينتشر بصورة مفزعة مرعبة، ولن يستطيعوا أن يصلوا إلى علاجه الحقيقي مادامت الأسباب الحقيقية لانتشاره موجودة في هذه المجتمعات، ألا وهي الانحراف عن منهج الله، والوقوع في الزنا، والشذوذ الجنسي إلى آخر هذه الصور. ولقد أثبتت الدراسات والأبحاث العلمية بأن الأسباب الرئيسية لانتشار هذه الأمراض، وبأن أعلى الناس إصابة بهذا المرض هم أهل الانحراف والشذوذ، فما دامت هذه الأسباب الحقيقية موجودة في هذه المجتمعات، فلن تستطيع العلاجات والأدوية أن تحقق نجاحاً لهذا المرض إلا بتدمير هذه الرذائل، وبالعودة إلى الفضيلة، أو إن شئت فقل: بالعودة إلى منهج الله جل وعلا.

سبيل النجاة من الأمراض والانحرافات

سبيل النجاة من الأمراض والانحرافات أيها الأحبة! رأينا هذه الحضارة التي أمدت الطين بكل ما يشتهيه وتركت الروح الآن تصرخ، وإن شئت أن تتعرف على ذلك فراجع إحصائيات الجريمة في مثل هذا البلد، لتتعرف على أن الإنسان لا يريد فقط ما يشتهيه البدن، وإنما لابد أن نمد الروح هي الأخرى بغذائها. ولابد أن تعلم هذه المجتمعات الكافرة أن غذاء هذه الروح بالعودة وبالإذعان إلى منهج الله جل وعلا، ورحم الله صاحب الظلال إذ يقول: (إن هذه الحياة البشرية من خلق الله، ولن تفتح مغاليق فطرتها إلا بمفاتيح من صنع الله، ولن تعالج أمراضها وعللها إلا بالدواء الذي يقدم لها من يد الله). ومن أروع ما قرأت: ما قاله المفكر الشهير اشبنجل إذ يقول: إن للحضارات دورات فلكية، فهي تغرب هنا لتشرق هناك، وإن حضارة أوشكت على الشروق في أروع صورة ألا وهي حضارة الإسلام الذي يملك وحده أقوى قوة روحانية عالمية نقية. ومحل الشاهد من هذه الفقرة أن الإسلام وحده هو الذي يمد الروح بغذاء إلهي نقي، وهو الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا ملجأ لهذه البشرية من هذا الضنك إلا بالعودة إلى منهج الله عز وجل. ويألم القلب أن يقال هذا الكلام للمسلمين الذين يلهثون الآن وراء كل ناعق؛ ووراء الشرق الملحد تارة، ووراء الغرب الكافر تارة أخرى. لما سقط الشرق الملحد ها نحن نرى الآن كثيراً من العلمانيين يعزفون على وتر العودة إلى كل ما هو غربي، حتى قال أحدهم في وضوح: لقد عزمنا على أن نأخذ كل ما عند الغربيين، حتى الالتهابات التي في رئاتهم، والنجاسات التي في أمعائهم. وطبقت الأمة قول الصادق صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي سعيد (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضبِّ لدخلتموه -وفي لفظ: لتبعتموهم- قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟! قال فمن؟). راحت الأمة تحاكي محاكاة عمياء، وتقلد تقليداً أعمى، ومكمن الخطر -كما ذكرت- أنه يحاول الآن أن يفرض على المجتمعات المسلمة ما وصلت إليه المجتمعات الكافرة من انتكاس سحيق للفطرة من زنا وشذوذ وانحراف. فلا سعادة للبشرية عامة وللمسلمين خاصة إلا بالعودة إلى منهج الله عز وجل؛ لأن الله هو خالق الإنسان، وهو وحده الذي يعلم ما يفسده وما يسعده، أليس ربك هو القائل: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]؟! عباد الله! لا ملجأ من الله إلا إليه، فواجب على الأمة أن تفيء مرة أخرى إلى منهج الله عز وجل، ولابد أن نعلم جميعاً أن منهج الله سبحانه وتعالى لا يحارب الفطرة ولا يستصغرها، وإنما يرقيها وينظمها ويطهرها، ويرتقي بها إلى أسمى ما يليق بالإنسان كإنسان. ونقول للعلمانيين: إن منهج الله لا يحارب دوافع الفطرة ولا يستصغرها، بل يرقيها ويطهرها ويرقى بها إلى أسمى الأحوال التي تليق بالإنسان كإنسان. إن منهج الله عز وجل قد وضع كثيراً من الضمانات الوقائية التي تحفظ للمجتمع طهره وصفاءه ونقاءه، ويعاقب منهج الله سبحانه وتعالى كل من شذَّ عن هذه الضمانات الوقائية وانطلق ليتمرغ في أوحال الرذيلة طائعاً مختاراً غير مضطر. ومنطق العقلاء يقول دائماً: لو أن مريضاً ابتلي في ضرس من أضراسه بمرض السرطان، وقرر الأطباء قلع هذا الضرس حتى لا ينتقل المرض في كل الأضراس الأخرى، أليس من الحكمة بل من الرحمة أن نستأصل هذا الضرس لنبقي على بقية الأضراس الأخرى بأمر الله عز وجل؟! أليست هذه الرحمة بعينها أيها الأحبة؟! أليست هذه الحكمة؟! هذا هو منطق العقلاء. كذلك منهج الله عز وجل؛ لو أن إنساناً توفرت له الضمانات الوقائية في المجتمع الإسلامي، وترك هذا الإنسان تلك الضمانات، وراح ليتمرغ في وحل الرذيلة الآسن العفن طائعاً مختاراً غير مضطر، فحينئذ يتقدم منهج الله ليعاقب هذا الإنسان، حتى لا ينطلق لينشر في الأرض الفساد، أو لينتهك الحرمات والأعراض، وهذه قمة الرحمة بعينها!! أيقال حينئذ بأنها قسوة بأنها عنف؟! لا، ورب الكعبة! بل: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:179].

عقوبات الفواحش في الشرع

عقوبات الفواحش في الشرع ومن هنا شدد منهج الله في عقوبة الزناة وفي عقوبة من يعملون عمل قوم لوط وهكذا؛ ليحفظ للمجتمع نقاءه وشرفه وطهره وعرضه، فإن العرض هو شرف الإنسانية المتوارث على طول الزمان والمكان، فلابد من حفظ هذا الشرف المتوارث للإنسانية كلها، ولن نجد حرصاً على هذا العرض في منهج من المناهج الأرضية على الإطلاق، لا نجده إلا في منهج الله عز وجل؛ لأنه وحده خالق الإنسان وهو وحده الذي يعلم ما يفسده وما يصلحه: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14].

عقوبة فاحشة الزنا

عقوبة فاحشة الزنا قال الله عز وجل: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2 - 3]. أهمس وأقول: إن من ابتلي بالوقوع في كبيرة من هذه الكبائر فيجب عليه أن يتوب إلى الله عز وجل إن لم يرفع أمره إلى ولي الأمر المسلم؛ لأننا لا نرى الآن شرعاً لله، وإنما قد بدل شرع الله وحرف، وقدم القانون الوضعي الفاجر الكافر من صنع حفنة ضعيفة من البشر، فإن ستر الله عليك ولم يقم عليك حد الله، فيجب عليك أن تبادر، وأن تسرع بالتوبة الصادقة الخالصة. ومن أروع ما قرأت أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يقول: الأصل في الكبائر التوبة، فمن ستره الله عز وجل فيجب عليه أن يتوب إلى الله، وأن يعجل بالتوبة والأوبة، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]. أما إذا كان الزاني محصناً فحكمه -كما تعلمون- هو الرجم. نسأل الله أن يرد حكام المسلمين إلى شرعه رداً جميلاً، وأن يرد الأمة إلى شرعه رداً جميلاً!

عقوبة عمل قوم لوط

عقوبة عمل قوم لوط قال الله في عمل قوم لوط: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ} [النمل:54 - 56]. ما ذنبهم ما جريمتهم؟! {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل:56] سخرية قديمة حديثة، القديمة أنهم أهل طهر أنهم أهل عفة أنهم أهل شرف {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ * فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ * وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ} [النمل:56 - 58]. وقال عز وجل في سورة الحجر: {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} [الحجر:74] نسأل الله السلامة والعافية. ورب الكعبة! إن هذه الحجارة ليست من الظالمين ببعيد، فهذا عقاب الله جل وعلا لهؤلاء الذين انتكست فطرتهم، وانحرفوا عن المنهج السوي الذي جاءهم به نبي الله لوط على نبينا وعليه الصلاة والسلام، بل لقد ورد في الحديث الذي رواه أحمد في مسنده وأبو داود والترمذي في السنن، وكذا ابن ماجة وصحح الحديث الشيخ الألباني في (إرواء الغليل) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط، فاقتلوا الفاعل والمفعول به). أقول أيضاً لمن ابتلي بهذا -والعياذ بالله، ونسأل الله لنا ولكم السلامة والستر والعافية في الدين والدنيا والآخرة- ولم يُقم عليه حد الله أن يجدد التوبة والأوبة، وأن يصحح النية في توبته إلى الله عز وجل، وأن يعلم يقيناً أن الله سبحانه وتعالى يغفر أي ذنب بعد الشرك بشرط أن تقلع عن هذا الذنب، وأن تندم على فعله، وأن تكثر من العمل الصالح. وأسأل الله سبحانه أن يسترنا وإياكم في الدنيا والآخرة، وأن يتقبل منا وإياكم صالح الأعمال، وأن يثبتنا على الطاعة، وألا يذلنا بمعصيته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أيها الأحبة الكرام! لا سعادة للبشرية عامة وللمسلمين خاصة إلا بالعودة إلى منهج الله جل وعلا. أسأل الله جل وعلا أن يشرفنا وإياكم بالعمل لهذا الدين، وأن يتقبل منا وإياكم جميعاً صالح الأعمال، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

في ظلال الإسراء والمعراج

في ظلال الإسراء والمعراج معجزة الإسراء والمعراج من المعجزات العظيمة التي أكرم الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم، وأعلى بها شأنه، وكانت تخفيفاً لألم رسول الله وحزنه وما لاقاه من قومه من إعراض وأذى. وليس هناك تاريخ ثابت يحدد زمن حادثة الإسراء، والمهم هو أن نعلم أن رحلة الإسراء والمعراج وقعت يقظة لا مناماً، وكانت بجسده صلى الله عليه وسلم وروحه. وإن حادثة الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس لتؤكد هوية القدس الإسلامية، وتوجب على الأمة إخراج اليهود منه، ولا يتم ذلك إلا برفع علم الجهاد، أما طاولة المفاوضات فلن ترد حقاً ولن تردع عدواً، وإنما هي استهلاك إعلامي، وتخدير للشعوب، وتمييع للقضية.

تاريخ وتحقيق

تاريخ وتحقيق بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة وبلغ الرسالة، ونصح للأمة فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين. فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاًَ عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة، وزكى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور وطبتم جميعاً أيها الآباء وأيها الإخوة الأعزاء وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله جل وعلا الذي جمعني وإياكم في هذا البيت العامر على طاعته، أن يجمعني وإياكم في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. عنوان لقائنا مع حضراتكم في هذا اليوم الكريم المبارك: (في ظلال الإسراء والمعراج)، وحديثي معكم سوف يتركز في العناصر التالية: أولاً: تاريخ وتحقيق. ثانياً: ولماذا الإسراء؟! ثالثاً: الأقصى الجريح. رابعاً: المعراج إلى السماوات العلى. وأخيراً: دروس وعبر من الأحداث. فأعيروني القلوب والأسماع، فإن هذا الموضوع من الأهمية بمكان.

اختلاف العلماء في تحديد زمن الإسراء

اختلاف العلماء في تحديد زمن الإسراء أولاً: تأريخ وتحقيق: لقد اعتاد المسلمون -إلا من رحم الله جل وعلا من المحققين- أن يحتفلوا بذكرى الإسراء والمعراج في ليلة السابع والعشرين من شهر رجب، احتفالاً باهتاً بارداً لا يليق بمقام المصطفى صلى الله عليه وسلم. لقد اعتقد الكثيرون أن الإسراء كان في ليلة السابع والعشرين، والتحقيق أن العلماء قد اختلفوا اختلافاً كبيراً في يوم الإسراء، بل في شهر الإسراء، بل في سنة الإسراء!! قال السدي: كان الإسراء في شهر ذي القعدة. قال الزهري: كان الإسراء في شهر ربيع الأول. قال ابن عبد البر: كان الإسراء في شهر رجب. قال النووي: كان الإسراء في شهر رجب. قال الواقدي: كان الإسراء في شهر شوال. وفى قول آخر قال: كان في شهر رمضان. وقيل: كان الإسراء قبل الهجرة بستة أشهر، وقيل: كان الإسراء قبل الهجرة بتسعة أشهر، وقيل: كان الإسراء قبل الهجرة بسنة، وقيل: كان الإسراء قبل الهجرة بسنة وستة أشهر، وقيل: كان الإسراء قبل الهجرة بثلاث سنين، حكاه ابن الأثير، ومن ثم فإن اليوم والشهر والعام للإسراء لا يعلمه إلا الله. والتحديد للإسراء بيوم وشهر ضرب من المجازفة والتخمين، ولا دليل عليه من كلام الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم، وربما يسمع الآن كثير من آبائي هذا الكلام ويعجب ويقول: كيف وقد احتفلنا السنوات الماضية بالإسراء ليلة السابع والعشرين؟! أقول: لو احتفل المصطفى وأصحابه والتابعون من بعد الأصحاب بذكرى الإسراء ليلة السابع والعشرين من شهر رجب في كل عام لعلم ذلك لنا ولنقل إلينا بالتواتر، فلما لم يحتفل النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والأتباع من بعدهم بذكرى الإسراء، وجب علينا أن يسعنا ما وسع هؤلاء الكرام. فكل خير في اتباع من سلف وكل شر في ابتداع من خلف، والتحقيق أن الإسراء كان بعد البعثة وقبل الهجرة من مكة زادها الله تشريفاً، وكان إلى المسجد الأقصى الجريح -خلَّصَه الله من أيدي إخوان القردة والخنازير- ثم من المسجد الأقصى إلى السماوات العلى كما سأفصل الآن بحول الله وقوته.

لماذا الإسراء؟

لماذا الإسراء؟ ثانياً: ولماذا الإسراء؟ وللجواب على هذا Q قصة! إنها قصة طفل طهور كالربيع!! إنها قصة طفل كريم كالنسيم!! إنها قصة طفل نشأ في مكة في بيئة تصنع الحجارة بأيديها، وتسجد لها من دون الله جل وعلا! بل كان الواحد منهم يصنع إلهه من خشب، أو من نحاس، أو حتى من حلوى أو من تمر! فإذا ما عبث الجوع ببطنه قام ليدس هذا الإله الرخيص في جوفه ليذهب عن نفسه شدة الجوع! في هذه البيئة نشأ الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم فاحتقر هذه الأصنام، وأشفق على أصحاب هذه العقول، فترك هذه البيئة الشركية وانطلق بعيداً إلى قمة جبل النور إلى غار حراء؛ ليقضى ليله ونهاره في التأمل والتفكر والتدبر والتضرع. وفى ليلة كريمة يخشع الكون، وتصمت أنفاس المخلوقات، ويتنزل جبريل أمين وحي السماء لأول مرة على المصطفى صلى الله عليه وسلم على قمة جبل النور، ليضم الحبيب المصطفى ضمة شديدة وهو يقول له: (اقرأ) والحبيب يقول: ما أنا بقارئ، وجبريل يقول: (اقرأ) والمصطفى يقول: ما أنا بقارئ، وفى الثالثة: غطَّه حتى بلغ منه الجهد، وقال للحبيب: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1 - 5] وانطلق الحبيب بهذه الآيات وفؤاده يرتجف، وفرائصه ترتعد، وجوارحه تضطرب، حتى وصل إلى السكن إلى رمز الوفاء إلى سكن سيد الأنبياء إلى خديجة بنت خويلد رضي الله عنها وأرضاها. وصل إلى هذه الزوجة العاقلة الصالحة التي استحقت أن يسلم عليها ملك الملوك من فوق سبع سماوات، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة: (أن جبريل نزل إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم فرأى خديجة وهي تقبل على المصطفى، وتحمل إناءً فيه إدام من طعام أو شراب، فقال جبريل: يا رسول الله! هذه خديجة قد أتت، فإن هي أقبلت فأقرئها السلام من ربها). عش مع هذا بقلبك وكيانك ووجدانك وجوارحك! امرأة تستحق أن يسلم عليها الملك من فوق سبع سموات! إن عبداً من العبيد لو أن هيئة مشبوهة قد كرمته ومنحته جائزة مشبوهة، من أجل تفوقه العفن النتن في مجال الفكر -زعموا- حيث لا أدب ولا فكر، فإنه يرفع على الأعناق وتشير إليه الأصابع، ويحتفى به على أعلى المستويات في هذه الأمة المسكينة التي خدعت على أيدي هؤلاء الذين انطلقوا ليقودوا الأمة على حين غفلة من أهل القيادة والريادة في هذه الأمة! (وأقرئها السلام من ربها ومني -أي: ومن جبريل- وبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب، فلما أقبلت خديجة بَشَّرَهَا المصطفى بهذه البشارة وقال يا خديجة: ربك يقرئك السلام وجبريل يقرئك السلام!! -فماذا قالت خديجة البليغة العاقلة العالمة؟ هل قالت: وعلى الله السلام أم ماذا؟ قالت: إن الله هو السلام ومنه السلام، وعلى جبريل السلام، وعليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته). خديجة، عاد إليها النبي صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، وهو يقول: زملوني زملوني غطوني دفئوني، ضعوا علي الأغطية، فاستجابت خديجة، حتى استيقظ الحبيب وقد هدأت نفسه، واستقرت جوارحه، وقال: (والله لقد خشيت على نفسي يا خديجة، وقص عليه، فبشرته بهذه الكلمة الطيبة وقالت: كلا، والله لا يخزيك الله أبداً) إلى آخر ما ذكرت، والحديث رواه البخاري وهو حديث طويل.

الحكمة من فتور الوحي ثم تتابعه

الحكمة من فتور الوحي ثم تتابعه ثم فتر الوحي لفترة قليلة -على الراجح- ثم نزل قول الله عز وجل على الحبيب المصطفى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر:1]، أي: يا أيها المتلف في هذه الأغطية: {قُمْ فَأَنذِر * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر:2 - 7] قم يا محمد! دع عنك هذه الأغطية، فما كان بالأمس حلماً جميلاً أصبح اليوم حملاً ثقيلاً. {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل:1 - 5]، فقام الحبيب ولم يقعد عشرين سنةلم يعرف طعم الراحة ولم يذق طعم النوم لم يهدأ، وإنما انطلق على قدميه حاملاً نور الله عز وجل إلى هذه البشرية؛ ليخرجها من ظلمات الشرك وأوحال الوثنية، إلى أنوار التوحيد والإيمان برب البرية جل وعلا.

الدعوة السرية

الدعوة السرية بعد أن نزل قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:1 - 2] انطلق الحبيب يدعو الناس سراً إلى الإسلام ثلاث سنين يدعو الناس إلى دين الله تحت السراديب. لماذا؟ لأن للأصنام جيوشاً غاضبة. إن هؤلاء القوم يقتتلون من أجل ناقة! فما ظنك بآلهة فسيذبحون لها آلاف النياق إن مُس جنابها على يد محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم!

الدعوة الجهرية

الدعوة الجهرية وبعد هذه المرحلة السرية نزل قول الله عز وجل: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214]، {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر:94] فقام الحبيب ملبياً أمر الله، فوقف على جبل الصفا، ونادى على بطون مكة: يا بني فهر! يا بني عدي! يا بني كذا! يا بني كذا! -والحديث في الصحيحين- فالتف حوله الناس من أهل مكة، ووقفوا بين يديه وعلى رأسهم أبو لهب وقام الحبيب صلى الله عليه وسلم ليقيم الحجة على قومه بلغة النبوة، فقال: (أرأيتم لو أني أخبرتكم: أن خيلاً وراء هذا الوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: بلى، ما جربنا عليك كذباً قط، فقال الحبيب المصطفى: فإني رسول الله إليكم، فكان أول من تكلم أبو لهب عليه من الله ما يستحقه حيث التفت إلى الحبيب وقال: تباً لك سائر اليوم يا محمد!) إن أول من عادى الحبيب المصطفى عمه الذي قال له يوم الصفا: (تباً لك سائر اليوم يا محمد! ألهذا جمعتنا؟! فنزل قول الله عز وجل: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} [المسد:1 - 5])، وبعد ذلك رعدت مكة وأبرقت، ودقت طبول الحرب على رأس المصطفى وأصحابه، وانطلقت مكة على قلب رجل واحد لتصب البلاء والإيذاء صباً على رأس المصطفى صلى الله عليه وسلم، حتى ورد في صحيح البخاري أن عقبة بن أبي معيط -عليه لعنات الله المتوالية- انطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فخنقه خنقاً شديداً حتى كادت أنفاس المصطفى أن تخرج بين يديه، فجاء الصديق ليدفع هذا الفاجر الكافر عن رسول الله وهو يقول: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله، وقد جاءكم بالبينات من ربكم؟! وورد في تاريخ الطبري أنهم وضعوا التراب على رأسه إلى آخر ما تعرض له الحبيب المصطفى من أذى ومحن وفتن وابتلاءات.

دعوة أهل الطائف وما لاقاه الحبيب المصطفى من أذى

دعوة أهل الطائف وما لاقاه الحبيب المصطفى من أذى لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم أن أرض مكة صلدة قاسية لا تقبل بذرة التوحيد، وليست صالحة لتلقي الخير، انطلق الحبيب إلى الطائف يبحث عن أمل يبحث عن قلوب حانية لعلها تحمل هذا النور. انطلق الحبيب صلى الله عليه وسلم على قدميه المتعبتين، لا يركب الراحلة؛ لأنه لا يمتلك الراحلة إذ ذاك، تحت شمس محرقة تكاد تذيب الحديد والصخور والحجارة، وعلى رمال ملتهبة إذا ما انعكست عليها أشعة الشمس كادت أن تخطف الأبصار، وكل من ذهب إلى تلك البلاد في حج أو عمرة، يعلم طبيعة هذه البيئة وشدة حرارتها. انطلق الحبيب صلى الله عليه وسلم في هذه الجو وهو متعب يتألم، لاسيما وقد ازداد حزنه بموت زوجته خديجة وبموت عمه أبي طالب الذي كان حائطاً منيعاً لحملات المشركين في الخارج. انطلق النبي صلى الله عليه وسلم وقد امتلأ قبله بالحزن مشياً على الأقدام، لا يريد مالاً ولا يريد جاهاً ولا يريد وجاهة، إنما يريد لهؤلاء خيري الدنيا والآخرة، ولكن أهل الطائف فعلوا بالمصطفى ما لم يكن يتوقع، وما لم يكن يخطر بباله، فلقد سلطوا عليه الصبيان والسفهاء فرموه بالحجارة حتى أدمي الحبيب المصطفى بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم. إنه المؤيد بمدد السماء إنه المؤيد بوحي السماء تلقى عليه الرمال، ويلقى عليه التراب، ويقذف بالحجارة حتى يسيل الدم الطاهر من جسده صلى الله عليه وسلم، وحتى ألجأه الصبيان والسفهاء إلى بستان لبني ربيعة، وهنالك رفع أكف الضراعة إلى الله كما في الحديث وإن كان شيخنا الألباني قد ضعفه، إلا أن الحديث قد رواه الإمام الطبراني وقال الإمام الهيثمي في مجمع الزوائد: ورجاله ثقات ما عدا ابن إسحاق وهو مدلس ثقة، وقد رأيت شاهداً آخر يقوي هذا الحديث عند ابن إسحاق موصولاً وكلاهما يقوي بعضهما الآخر، ولا بأس أن أستشهد به لا أن أستأنس به. لجأ الحبيب إلى الله بهذه الدعوات الصادقة، فقال:: (اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس! يا أرحم الراحمين! أنت رب المستضعفين وأنت ربى، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمنى؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟! إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، أسألك بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، ألا تنزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك).

التخفيف الإلهي لآلام وأحزان النبي صلى الله عليه وسلم

التخفيف الإلهي لآلام وأحزان النبي صلى الله عليه وسلم وهكذا عاد المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو يحمل في قلبه هموماً وأحزاناً دعوة مطاردة خديجة ماتت أبو طالب مات أصحاب مشردون في الحبشة أمر جلل! والمصطفى صلى الله عليه وسلم يحمل كل هذه الهموم وهو في طريقه إلى مكة يسمع نداءً كما في الحديث رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة فيلتفت فإذا جبريل في سحابة في السماء ينادي على المصطفى ويقول: (يا رسول الله! إن الله جل وعلا قد سمع ما قاله قومك لك، وهذا ملك الجبال أرسله الله إليك فمره بما شئت. يقول المصطفى: فسلم علي ملك الجبال وقال: السلام عليك يا محمد! فرد النبي عليه السلام، فقال ملك الجبال: يا محمد! مرني بما شئت، لو أمرتني أن أطبق عليهم الأخشبين لفعلت) والأخشبان: جبلان عظيمان بمكة، يقال للأول: أبو قبيس، ويقال للثاني: الأحمر. هذا ملك الجبال يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم أن يحطم هذه الجماجم الصلدة، وهذه الرءوس العنيدة المتكبرة الكافرة المتحجرة، ووالله لو كان المصطفى ممن ينتقم لنفسه ممن ينتقم لذاته ممن يثأر لمنصبه ممن يثأر لمكانته، لأمر المصطفى ملك الجبال، ولحطم ملك الجبال هذه الرءوس ولسالت الدماء ليرى أهل مكة دماء أهل الطائف في مكة، ولكنه ما خرج لنفسه ما خرج لذاته، إنما خرج لله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ} [يوسف:108] لا إلى جماعة بعينها، ولا لزعامة، ولا لمنصب ولا لقيادة ولا لريادة ولا لشهرة ولا لجاه: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ). أيها الأحباب! دعوكم من هذه العصبيات المنتنة للجماعات، وللثارات وللرايات، وليس معنى ذلك: أنني أنكر صحة العمل الجماعي، وإنما أقول: شتان بين العمل الجماعي الذي هو أصل من أصول الدين، وبين التعصب لجماعة بعينها تعصباً بغيضاً أعمى، يصم الآذان عن سماع الحق، ويعمي الأبصار عن رؤية الدليل ولو كان واضحاً كالشمس في وضح النهار! (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ). أيها الأحباب! لو كان المصطفى صلى الله عليه وسلم ممن يدعو لنفسه ولذاته؛ لأمر ملك الجبال فحطم ملك الجبال تلك الرءوس والجماجم ولسالت الأودية أنهاراً من الدماء حتى يرى أهل مكة دماء أهل الطائف بمكة لكن: ماذا قال الحبيب نهر الرحمة وينبوع الحنان؟! قال الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: (لا، بل إنني أرجو الله أن يخرج من أصلابهم من يوحد الله جل وعلا) أي: من يعبد الله ولا يشرك به شيئاً إنها الرحمة! {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران:159] وهذا نصر من الله للمصطفى صلى الله عليه وسلم، وما إن وصل الحبيب إلى مكة زادها الله تشريفاً إلا ورأى كرامة أخرى له من الله عز وجل ليرى جبريل في انتظاره؛ ليأخذه إلى هذه الرحلة المباركة إلى رحلة الإسراء والمعراج، وكأن الله عز وجل قد أراد أن يقول لحبيبه المصطفى: يا رسول الله! إن كان أهل مكة وأهل الطائف قد رفضوك فإن رب السماء والأرض يدعوك! يا محمد! لا تظن أن جفاء أهل الأرض يعني جفاء السماء، بل إن الله يدعوك اليوم ليعوضك بجفاء أهل الأرض حفاوة أهل السماء. الله أكبر! يرجع الحبيب صلى الله عليه وسلم إلى بيت أم هانئ -لنجمع بين الأحاديث وبين الروايات إذ لا تعارض بينهما كما قال الحافظ ابن حجر - فيأتيه جبريل فيشق البيت ليأخذ المصطفى صلى الله عليه وسلم من بيت أم هانئ إلى الحجر، أو إلى الحطيم في بيت الله الحرام، ثم بعد ذلك تبدأ رحلة الإسراء بشق صدر المصطفى، والحديث متفق عليه. يشق جبريل صدر النبي عليه الصلاة والسلام، وأنتم تعلمون أنه قد شق صدره قبل ذلك وهو غلام صغير حينما كان في ديار بني سعد عند مرضعته حليمة السعدية رضي الله عنها، يشق صدره وبعدها تبدأ الرحلة المباركة.

وتبدأ رحلة الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى

وتبدأ رحلة الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ورد في صحيح مسلم من حديث أبي ذر أنه صلى الله عليه وآله وسلم: (حينما قال له أبو ذر: يا رسول الله! أي مسجد وضع في الأرض أولاً؟ فقال الحبيب المصطفى: المسجد الحرام، قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى، قلت: كم بينهما، قال أربعون سنة، قلت: ثم أي؟ قال: ثم حيث أدركتك الصلاة فصل فالأرض كلها مسجد). وكما في الحديث الآخر واللفظ لـ مسلم من حديث أنس: (أتيت بالبراق) وبكل أسف قرأنا عن البراق هذا، وسمعنا ما يستحي الإنسان أن يردده الآن في أمة ينبغي أن تحترم علمها وقرآنها ونبيها وعقلها. سمعنا أن له عرفاً كالديك، وأن له أجنحة وأن وأن وأن! البراق بنص الحديث الصحيح، قال عنه المصطفى: (دابة) وحدد النبي لونه فقال: (أبيض) وحدد صفته، فقال: (فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه) له سرعة مذهلة! وقف الحافظ ابن حجر عند قوله: (البراق) فقال: البراق من البريق. أي: من اللمعان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حدد لونه بالبياض، وقال: البراق من البرق، والبرق ضوء. وهذا هذا هو البراق أيها الأحباب! وورد عند الترمذي، والإمام أحمد في المسند، وعبد الرازق في مصنفه، والبيهقي في السنن من حديث أنس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما انطلق ليركب البراق استصعب عليه، فقال جبريل للبراق: ما حملك على هذا؟ والله ما ركبك أحد من خلق الله أكرم على الله منه -أي: من محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم-)، والحديث رواه أحمد والترمذي وعبد الرزاق في المصنف والبيهقي في السنن وهو صحيح على شرط الشيخين. ركب النبي صلى الله عليه وسلم البراق وانطلق من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى في هذه الرحلة الجميلة وعنصر الإعجاز في رحلة الإسراء الأرضية هو الزمن، إذ كيف انطلق النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المسجد الأقصى في زمن قليل؟! وهذا الذي أنكره المشركون في مكة، فقالوا: نضرب لها أكباد الإبل شهراً من مكة إلى بلاد الشام، وأنت تقول: بأنك انطلقت من مكة إلى المسجد الأقصى إلى السماوات العلى وعدت في جزء من الليل! يقول الله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء:1] و (ليلاً) عند علماء اللغة، أي: في جزء من الليل ولم يقل: ليلة، ولنقل إن الإسراء قد استغرق ليلة بكاملها لا، بل استغرق جزءاً من الليل: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء:1]. وختمت الآية بقوله تعالى: (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) وكان من السياق: (إنه على كل شىء قدير)، (إنه عزيز حكيم) ليظهر عظمته وقدرته، وإنما قال (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) أي: الذي سمع قول قومك لك، ورأى فعل قومك بك فأراد أن يكرمك وأن يشرفك. والإسراء معجزة ليست تأييداً للدعوة وإنما هي تأييد في المقام الأول لصاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم. أيها الأحباب! إننا أمام معجزة فريدة، ليست تأييداً للدعوة بقدر ما هي تأييد لصاحب الدعوة، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.

الأقصى جريح

الأقصى جريح الأقصى الجريح: عنصرنا الثالث في هذا اللقاء الكريم. إنه الأقصى الذي تدوسه الآن أقدام إخوان القردة والخنازير من أبناء يهود، على مرأى ومسمع من العالم كله، بل لقد تبنت زعيمة الكفر على ظهر الأرض أمريكا هذه المقولة الخطيرة التي تغنى بها أعضاء الكونجرس حيث قالوا: سننقل السفارة الأمريكية إلى القدس؛ لتصبح القدس عاصمة أبدية لأبناء يهود، ولإخوان القدرة والخنازير! عار وشنار على ألف مليون! أين هم؟! أين من لا يجيدون إلا لغة الجعجعة والصياح والشجب والاستنكار؟! هل ستصبح القدس الشريفة مسرى الحبيب محمد وأولى القبلتين وثالث الحرمين عاصمة أبدية لإخوان القردة والخنازير والمسلمون لا يجيدون إلا الشجب والصياح والاستنكار والجعجعة، ولا يجيدون إلا لغة الإنكار في الجرائد والمجلات؟ أين هم؟! أين العمل؟! أين السلوك؟! أين الأخلاق؟! أين الإسلام الذي أمرهم الله أن يحولوه إلى واقع، وإلى منهج حياة؟! لا أصل له ولا أثر، لا يجيدون إلا الاحتفالات. نحتفل بذكرى الإسراء، ونسمع القصائد والأشعار ونسمع الكلمات، ونحتفل بذكرى المولد، ونحتفل بذكرى النصف من شعبان. هؤلاء هم الذين عشقوا الهزل يوم أن كرهوا الجد والرجولة والبطولة والجهاد في سبيل الله! لقد كان المسجد الأقصى قبلة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين في الصلاة، واشتاق النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت الله الحرام، فنزل قول الله: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة:144] فأمر الله بتحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام، وهو المسجد المبارك الثالث الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بشد الرحال إليه: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجد المصطفى صلى الله عليه وسلم) يعني: لا يجوز لك أن تشد الرحل إلى مسجد ولي من الأولياء، وإنما تشد الرحل فقط إلى المسجد الحرام في مكة، وإلى المسجد الأقصى في فلسطين الذبيحة، وإلى مسجد المصطفى في المدينة المنورة. أسأل الله أن يرزقني وإياكم صلاة في مسجده الحرام، وصلاة في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام، وصلاة في المسجد الأقصى؛ إنه ولي ذلك ومولاه!

الصراع بين المسلمين واليهود صراع عقيدة

الصراع بين المسلمين واليهود صراع عقيدة أيها الأحبة! إن الصراع بين المسلمين واليهود صراع عقيدة ووجود وليس صراع أرض وحدود، فلو كانت القضية قضية دولة وقضية أرض لانتهت منذ مئات السنين، ولكنها قضية اعتقاد قضية وجود لهذه الأمة أو لا وجود. المسجد الأقصى الآن يداس بأنجس الأرجل!! الحفريات تحت جدران المسجد الأقصى من كل ناحية مستمرة إلى يومنا هذا، وهذا معلوم للقاصي والداني، وللصغير وللكبير فالحفريات تحت جدران المسجد مستمرة، بحجة التوسعة وبحجة الترميم! ليسقط المسجد الأقصى، وليقيم إخوان القردة والخنازير عليه ما يسمونه بهيكل سلميان. إنها حقائق لابد أن ترسخ في القلوب والعقول. الصراع بين اليهود وبين المسلمين صراع عقائدي، ولن ينتهي إلى قيام الساعة، ومن ثم فإن ما يحاوله البعض من القيام بحلول عبر مفاوضات ومؤتمرات، إنما هو تضييع للوقت وللجهد وللمال ومسخ للهوية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال والحديث في الصحيحين، من حديث أبي هريرة: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر، فينطق الله الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم! يا عبد الله! ورائي يهودي تعال فاقتله! قال المصطفى: إلا الغرقد فإنه من شجر يهود) والآن يقوم اليهود بحملة واسعة لزراعة شجر الغرقد الذي لن ينطق؛ لأنهم يصدقون كلام محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم في وقت كذب فيه كثير من أبناء أمة الحبيب الحبيبة ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!! الأقصى فتحه عمر وحرره صلاح الدين فهل من صلاح جديد!!

الجهاد الطريق الوحيد لتحرير الأقصى

الجهاد الطريق الوحيد لتحرير الأقصى أيها الأحبة! فلنتق الله ولنعد إليه ولنرجع إلى الدين، ولنتخل عن هذه القنوات المشبوهة وعن هذه القوانين الوضعية الفاجرة الجائرة التي نتحدى بها مولانا، ولنرجع إلى الله، فوالله ثم والله، ثم والله لن يحرر الأقصى جيل تربى على الخلاعة جيل تربى على الميوعة جيل تربى على الأفلام القذرة جيل تربى على المسلسات الداعرة لن يحرر الأقصى إلا جيل أحب الآخرة، كما أحب أصحاب المصطفى الآخرة جيل يحب الموت في سبيل الله كما يحب جيلنا الآن الحياة لن يحرر الأقصى إلا إذا رفع علم الجهاد. اللهم ارفع علم الجهاد، واقمع أهل الزيغ والفساد! أيها الأحباب! إن من أبناء الأمة الآن من يتمنى بكل قلبه أن لو رفعت راية الجهاد ليسد فوهة المدافع بصدره وليلقى الله عز وجل شهيداً سعيداً فما أرخصها من حياة حياة الذل والهوان والعار! إن لم تمت بالسيف مت بغيره تعددت الأسباب والموت واحد لا شرف لهذه الأمة إلا بذروة سنام هذا الدين إلا بالجهاد في سبيل الله، ورحم الله ابن المبارك الذي أرسل برسالة من ميدان الجهاد من ميدان الشرف والبطولة إلى أخيه العابد التقي النقي عابد الحرمين الفضيل بن عياض ليبين له فيه شرف الجهاد، فقال له: يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعب من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب ريح العبير لكم ونحن عبيرنا رهج السنابك والغبار الأطيب من كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعب ولقد أتانا من مقال نبينا قول صحيح صادق لا يكذب لا يستوي غبار خيل الله في أنف امرئ ودخان نار تلهب وفي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وأبو داود أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا تبايعتم بالعينة -وهذا نوع من أنواع البيوع الربوية المحرمة- ورضيتم بالزرع، وتبعتم أذنان البقر، وتركتم الجهاد في سبيل الله، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم). إنه الذل! الذل لمن؟! لإخوان القردة والخنايز. الذل لمن؟! للشيوعيين في الشيشان. الذل لمن؟! للصليبيين الحاقدين في البوسنة. الذل لمن؟! لأحقر أمم الأرض لعباد البقر في الهند. إنه الذل: (سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم). اللهم كما فتحت المسجد الأقصى على يد عمر وحررته على يد صلاح الدين فارزق الأمة بصلاح ليحرر الأقصى من جديد يا رب العالمين! أنت ولي ذلك والقادر عليه. اللهم ارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واستر عيبنا، وفك أسرنا، وتول خلاصنا برحمتك يا أرحم الراحمين! يقول الله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ} [الإسراء:1] أي: لنري الحبيب المصطفى (مِنْ آيَاتِنَا) من آيات الله (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ). ما وجه الاعتراض من المشركين؟ قالوا: كيف تقطع هذه المسافة في جزء من الليل؟! أقول أيها الأحبة: إن معتقد أهل السنة والجماعة: أن الإسراء كان بجسد النبي صلى الله عليه وسلم وروحه يقظة لا مناماً. لماذا ينكر المشركون ذلك، وينكره من يعبد العقل الآن؟! ينكرون ذلك لعنصر الزمن، إذ كيف يقطع هذه المسافة التي يقطعها الناس في شهور في لحظات؟!! وأنا أقول: سبحان: تنزيه لأفعاله وأسمائه وصفاته جل وعلا. أي: إذا كان الفعل من الله فنزهوا فعل الله عن فعلكم، ونزهوا صفات الله عن صفاتكم، ونزهوا قول الله عن قولكم. (الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ): والعبد لغة: تطلق على الإنسان بروحه وبدنه، ولا يطلق لفظ العبد على الروح دون البدن (الذي أسرى بعبده ليلاً) والسري: هو السير ليلاً، وبعضهم قال: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء:60] فلقد كانت رؤيا منام؟! نقول: لو كانت رؤيا في المنام ما ضج المشركون، وما اعترض على النبي صلى الله عليه وسلم، فلو أني قلت لك الآن: لقد رأيت بالأمس في نومي أني ذهبت إلى مكة، وطفت بالبيت سبعاً، ومشيت بين الصفة والمروة سبعاً، وحلقت، ثم انطلقت إلى المدينة وعدت بعد ذلك، هل ستنكر علي؟ لن تنكر علي؛ لأنني أقول لك: رأيت في الرؤيا رأيت فيما يرى النائم، فلو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: إنها رؤيا نوم ما أنكر المشركون على النبي صلى الله عليه وسلم ذلك. أخي! خذ معي هذا الدليل الذي يحلو لبعض من يريد أن يقدم العقل في كل شيء أن يستمع إليه، أنا بداية لا أقلل من قدر العقل ولا من شأن العقل ولا أريد أن أمتهن العقل، إنما أقول: إن نور الوحي يزكي ويبارك نور العقل، بشرط أن يذعن العقل لله رب العالمين. أقول: لو أنني حملت طفلي الرضيع وصعدت به إلى قمة جبل من الجبال، ثم قلت لكم: لقد صعدت بولدي إلى قمة هذا الجبل، هل سيسأل عاقل طفلي الرضيع ويقول: كيف صعدت أيها الطفل هذا الجبل؟! إن الذي أسرى به هو الله، فلا تسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن إسرائه، وإنما إن شئتم فاسألوا الذي أسرى به جل وعلا، والقاعدة تقول: إن الزمن يتناسب تناسباً عكسياً مع القوة أو القدرة، بمعنى: لو ركبت سيارة إلى القاهرة فستقطع بك المسافة في زمن معين، ولو ركبت طائرة ستقطع بك المسافة في زمن أقل، فلو ركبت صاروخاً سيقطع بك المسافة في زمن أقل، فإن ركبت مركبة فضاء ستقطع بك المسافة في زمن أقل، وهكذا يقل الزمن مع قوة القدرة التي تحملك إلى هذا السفر، وإذا علمت ذلك فاعلم أن القوة التي حملت المصطفى هي قوة الله. إذاً: لا عجب، فإن الذي أسرى بعبده هو الله، والأمر بين ولله الحمد، ونحن الآن رأينا الصاروخ ورأينا الطائرة وإن كان العربي الأول في أرض الجزيرة لم ير هذا. رأينا الطائرة ورأينا الصاروخ ورأينا مركبة الفضاء، وعلمنا سرعة الضوء الذي هو برق، وعلمنا أن البراق من البرق إلى آخره. اتضحت الآن لنا الصورة أكثر بكثير مما كان عليه الحال عند العربي الأول في أرض الجزيرة العربية، والآن رأينا المصعد الكهربي، بل ورأينا السلم الكهربي، وإذا ذهب أحدكم إلى حج بيت الله فسيرى هذا السلم الكهربي، وبعضكم رآه في المطارات، وهناك الآن مصاعد كهربائية تصعد إلى ما يزيد عن مائة دور في أقل من دقيقتين. فثلاً مركز التجارة العالمي في أمريكا يزيد على مائة دور، وللدور الأخير فقط مصعد مختص به، إذا ما ركب أحدكم هذا المصعد الكهربائي لا يرى إلا أن تثبت الشاشة: الدور الأول، وإذا ما أغمض عينه وفتحها فيرى الشاشة تعطيه الإشارة أنه قد وصل إلى الدور الذي يزيد عن مائة! إذا كان هذا من صنع الإنسان الذي خلقه الله فكيف بالخالق الذي يقول للشيء (كن) فيكون: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن:33]. وأقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

ابتداء رحلة المعراج من بيت المقدس إلى سدرة المنتهى

ابتداء رحلة المعراج من بيت المقدس إلى سدرة المنتهى الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: بدأت الرحلة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ودخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد الأقصى وصلى ركعتين، وبعدما خرج وجد جبريل يقدم له إناءين: إناءً من لبن، وإناءً من خمر، فاختار النبي صلى الله عليه وسلم اللبن، فقال له جبريل: قد أصبت الفطرة يا محمد! ثم تبدأ رحلة المعراج، وهنا نرجع مرة أخرى إلى حديث أنس في صحيح البخاري. يقول: (ثم انطلق بي جبريل حتى أتى السماء الأولى فاستفتح، فقيل: من؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: نعم)، ولا تفهم أخي قوله: (أوقد بعث إليه) أي: هل هو رسول مبعوث من قبل الله؟! وإنما المراد: أوقد بعث إليه ليصعد إلى الملأ الأعلى، (أوقد بعث إليه؟ قال: نعم، قيل: فمرحباً به فنعم المجيء جاء، يقول: وإذا آدم عليه السلام، فيقول جبريل: هذا أبوك آدم فسلم عليه، فيقول المصطفى: فسلمت عليه في السماء الأولى فرحب بي، ورد علي السلام، ودعا لي بخير وقال: مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح، يقول: ثم صعد بي حتى أتى السماء الثانية فرأيت عيسى ويحيى ابنا الخالة، فقال جبريل: هذا يحيى وعيسى سلم عليهما، فسلم النبي عليهما فردا عليه السلام، وقالا له: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح ودعيا للنبي بخير. يقول: ثم صعد بي حتى أتى السماء الثالثة يقول: فإذا يوسف، فقال جبريل: هذا يوسف فسلم عليه، فسلم النبي عليه وقال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح إلى آخره، ثم قال له إدريس في الرابعة مثل ذلك، ثم قال له هارون في الخامسة مثل ذلك، ثم قال له موسى في السادسة مثل ذلك، ثم قال له إبراهيم في السابعة، مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح، كما قال آدم عليه السلام، يقول المصطفى: ثم رفعت إلى سدرة المنتهى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النجم:1 - 14]) الرائي هو محمد، والمرئي هو جبريل على نبينا وعليه الصلاة والسلام، رآه النبي صلى الله عليه وسلم على حقيقته التي خلقه الله عز وجل عليها. يقول: (فرفعت إلى سدرة المنتهى، وإذا نبتها كقلال هجر)، الثمرة من النبق -الثمر المعروف- كقلال هجر، ضخامة: (وإذا ورقها كآذان الفيلة)، جمع فيل أو جمع فيول، واللغتان صحيحتان: (وإذا ورقها كآذان الفيلة وإذا أربعة أنهار: نهران باطنان ونهران ظاهران، فقال المصطفى: ما هذا يا جبريل؟! فقال جبريل: أما الباطنان فنهران في الجنة، وأما النهران الظاهران، فالنيل والفرات)، أصلهما من الجنة، ولكن لا تفهم أنهما الآن متصلان بالجنة. يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ثم رفع لي البيت المعمور)، والبيت المعمور بناء كالكعبة، والراجح والصحيح أن في كل سماء بيتاً معموراً، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى في السماء السابعة إبراهيم عليه السلام وقد أسند ظهره إلى البيت المعمور، وهو بمحاذات بيت الله الحرام، بمعنى: لو خر البيت المعمور لخر على الكعبة، والبيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ولا يعودون، فإن غفلت أنت عن الذكر فعنده من يذكره جل وعلا، لا يغفلون عن ذكره ولا يفترون: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:20]. وفي رواية صحيحة: (ثم انطلقت إلى مكان يسمع فيه صريف الأقلام) اقترب النبي صلى الله عليه وسلم هذا القرب الكبير وكرمه الله هذا التكريم العظيم ثم فرض الله عليه الصلاة، خمسين صلاة فقبل ورضي وسلم واستسلم فهو المطيع لربه دوماً، ولما مر على إبراهيم في السابعة لم يقل له شيئا وقد تلحظ طبيعة إبراهيم في هذا: إنه لأواه حليم: (ثم مر على موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فقال له موسى -الذي قد تلمح طبعه أيضاً من هذا، بل ومن آيات كثيرة في القرآن- قال: فما أمرت؟ قال: أمرني الله بخمسين صلاة كل يوم وليلة، فقال موسى: لقد جربت الناس قبلك، إن أمتك لا تستطيع ذلك، فلقد جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة فارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك) صلى الله على موسى وصلى الله على محمد، لا نفرق بين أحد من رسوله ولا داعي لسرد الأقوال التي تنضح بالحقد، والتي تريد أن تبث العداء بين أنبياء الله ورسوله، فالحديث صريح في لفظه وواضح في معناه، لا يحتاج إلى لي لأعناق الكلمات ولا لأعناق النصوص. قال موسى: (إني قد عالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فسله التخفيف؛ فإن أمتك لا تطيق ذلك، فرجع المصطفى إلى الله، فحط الله عنه عشراً، وعاد إلى موسى فقال: ارجع، فحط الله عنه عشراً وهكذا حتى بلغت الصلاة عشراً فقال له موسى: ارجع، فرجع حتى حط الله عنه خمساً، وفرض الله عليه خمس صلوات فلما عاد إلى موسى قال: ارجع إلى ربك فسله التخفيف فإني قد جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فقال له له المصطفى: إني قد استحييت من ربي عز وجل وإنما أرضى وأسلم، يقول: فانطلقت فسمعت المنادي يقول: قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي). وهكذا أيها الأحبة! تنتهي رحلة المعراج. اللهم لا تدع لأحد منا في هذا المكان المبارك ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا أديته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا طائعاً إلا ثبته، ولا حاجة هي لك رضاً ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ويسرتها يا رب العالمين! اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروماً. اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا سبباً لمن اهتدى اللهم أقلنا وتقبل منا وتب علينا وارحمنا إنك أنت التواب الرحيم! هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وصف الجنان

وصف الجنان لقد أعد الله عز وجل لعباده المتقين المؤمنين المحسنين جنات عرضها السماوات والأرض، ورغبهم فيها، وقد وصفها سبحانه -ووصفها النبي صلى الله عليه وسلم، حيث أنه دخلها ليلة الإسراء والمعراج، ورأى قصورها وأنهارها وثمارها وحورها- وصفاً دقيقاً، كأن من يستمع إليه يراها رأي العين.

وصف الجنة

وصف الجنة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جازيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته. وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء! وأيها الإخوة الأحباب الكرام الأعزاء! وطبتم جميعاً وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً. وأسأل الله الكريم جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت الكريم المبارك على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى صلى الله عليه وسلم في جنته ودار كرامته؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! في رحاب الدار الآخرة، سلسلة علمية كريمة جمعت بين المنهجية والرقائق، وبين التأصيل العلمي والأسلوب الوعظي، كان هدفي من ورائها: أن أجدد الإيمان في قلبي وفي قلوب إخواني وأخواتي في الله جل وعلا، في عصر طغت فيه الماديات والشهوات، وانحرف كثير من الناس عن منهج رب الأرض والسماوات؛ ليتداركوا ما قد فات قبل أن تأتيهم الساعة بغتة وهم يخصمون، فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون. ونحن اليوم -بحول الله وطوله- على موعد مع اللقاء الأخير من لقاءات هذه السلسلة الكريمة المباركة. وكنّا قد توقفنا في اللقاءين الماضيين مع أحوال الناس في المرور على الصراط، فمنهم من يمر على الصراط كالبرق، ومنهم من يمر عليه كطرف العين، ومنهم من يمر عليه كالريح، وكأجاويد الخيل والركاب، فناجٍ مسلم، ومخدوش مرسل، ومكردس في نار جهنم. فإذا ما نجى الله أهل الإيمان من النيران، وعبروا الصراط بأمن وأمان؛ انطلق بعد ذلك أهل التوحيد والإيمان إلى جنة الرحيم الرحمن، وقبل أن ينطلق المؤمنون إلى الجنة فإنهم يحبسون على قنطرة بين الجنة والنار؛ ليطهرهم الله جل وعلا من المظالم التي كانت بينهم في الدنيا. ففي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا خلص المؤمنون -أي: من النار- حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار؛ ليقتص الله عز وجل من المظالم التي كانت بينهم، حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة، يقول المصطفى: فوالذي نفسي بيده! لأحدهم أهدى -أي: أعرف- بمنزله في الجنة من منزله الذي كان في الدنيا). أي: أنهم ينطلقون مباشرة إلى الجنة، وكل واحد يعرف بيته ودرجته، ولا يحتاج أحد من أهل الإيمان والجنان أن يستفسر عن بيته من أحد آخر. يقول ابن عباس: (فينطلقون إلى بيوتهم في الجنة، كما ينطلق أهل الجمعة بعد الجمعة إلى منازلهم). أيها الأحبة! تعالوا بنا لندخل الجنة مع هؤلاء بأرواحنا وقلوبنا، سائلين المولى جل وعلا أن يجمعنا فيها بحبيبنا ونبينا؛ إنه ولي ذلك ومولاه. والحديث عن الجنة حديث طويل ذو شجون، إنه حديث يحرك القلوب إلى أجل مطلوب، إنه حديث يشوق النفوس إلى مجاورة الملك القدوس، وسوف أركز لنركز الحديث في هذا الموضوع الرقيق الجميل في العناصر التالية: أولاً: وصف الجنة. ثانياً: أدناهم منزلة وآخرهم دخولاً. ثالثاً: نعيم أهل الجنة. رابعاً: هل رضيتم؟ وأخيراً: فما الطريق إلى الجنة؟ فأعيروني القلوب والأسماع جيداً، والله أسأل أن يجعلننا من أهل الجنان، وأن يجمعنا فيها بسيد ولد عدنان؛ إنه ولي ذلك ومولاه، وهو الرحيم. أولاً: وصف الجنة. أحبتي الكرام! لا يجوز لنا بحال مهما جنح بنا الخيال أن نتكلم كلمة في وصف الجنة إلا بآية من آيات الكبير المتعال أو بحديث من أحاديث سيد الرجال؛ لأن الجنة غيب لا ينبغي للمخلوق أن يتكلم عنها إلا بآية أو حديث، ولا يستطيع أحد بحال مهما صدح به الخيال أن يتصور جنة ذي العظمة والجلال؛ فنعيم الجنة فوق الوصف، ويقصر دونه أي خيال، فتعالوا بنا لنعيش مع آيات القرآن، ومع كلمات النبي عليه الصلاة والسلام؛ لنعيش في هذه اللحظات بأرواحنا وقلوبنا في جنة ربنا إلى أن يمن الله سبحانه وتعالى علينا لنستقر فيها بأبداننا وأرواحنا، برحمته ومنته؛ إنه على كل شيء قدير. نقول في وصف الجنة بما يقول فيها ربنا؛ فإنه هو خالقها، وهو الذي غرس كرامتها بيديه لأوليائه، ونقول فيها بقول نبينا الذي رأى الجنة وشاهدها مشاهدة العيان، فنبينا دخل الجنة ليلة الإسراء والمعراج ورآها بعينيه، ونبينا رأى الجنة في الدنيا، ففي صحيح مسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (صلى النبي صلى الله عليه وسلم الكسوف ثم فعل أمراً لم يفعله من قبل، مد يده وكأنه يريد أن يأخذ شيئاً، ثم تركه وتقهقر -أي: تأخر- فلما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وأنهى صلاته قال له الصحابة: يا رسول الله! رأيناك فعلت شيئاً لم تفعله، رأيناك تناولت شيئاً ثم تقهقرت، فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: إني رأيت الجنة، وتناولت منها عنقوداً -أي: من فاكهتها وثمارها- ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا). أي: لأكلتم من هذا العنقود الواحد ما بقيت الدنيا.

قصور الجنة وبناؤها

قصور الجنة وبناؤها في الصحيحين من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أدخلت الجنة -أي: ليلة الإسراء والمعراج -فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ -أي: القباب العالية من اللؤلؤ- وإذا تربتها -أي: طينتها- المسك). فربنا هو الذي يصف لنا الجنة؛ لأنه خالقها، ونبينا هو الذي يصف لنا الجنة؛ لأنها دخلها ورآها بعينيه في الدنيا، دخلها ليلة الإسراء والمعراج؛ وحديث النبي صلى الله عليه وسلم لأمته عن نعيم الجنة هو حديث من رأى بعينيه، وسمع بأذنيه؛ وليس الخبر كالمعاينة. فاسمع ماذا يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم! سأل الصحابةُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن يصف لهم الجنة فقال الحبيب: (الجنة لبنة من ذهب ولبنة من فضة -أي: طوبة- وملاطها المسك الأذفر، وتربتها الزعفران، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت والمرجان، من يدخلها ينعم ولا يبأس، ويخلد ولا يموت، لا تبلى ثيابهم، ولا يفنى شبابهم). فلا تبلى الثياب في الجنة، ولا ينتهي الشباب في الجنة، ولا ينقطع النعيم في الجنة. وأرجو أن تجنح معي وأن تتصور كلمات الصادق الذي لا ينطق عن الهوى حين وصف لنا بيتاً في الجنة من لؤلؤة مجوفة، تصور معي بيتاً من لؤلؤة مجوفة! وتصور معي قصراً مبنياً من الذهب الخالص! كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: (نزل جبريل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فرأى خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال جبريل للمصطفى: يا رسول الله! هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتت فأقرئها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب أي: قصب اللؤلؤ، وليس ما يتبادر إلى أذهاننا من النبات المعروف- لا صخب فيه ولا نصب)، أي: لا تسمع فيه خديجة ضوضاء، ولا تتألم فيه ولا تحزن، ولا ينتابها الهم أبداً. أما القصر من الذهب ففي الصحيحين من حديث أنس بن مالك عن المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أدخلت الجنة -أي: ليلة الإسراء والمعراج- فإذا أنا بقصر من ذهب، فقلت: لمن هذا القصر؟ فقالوا لي: هذا القصر لفتىً من قريش -لشاب من شباب قريش- يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: فظننت أني أنا هو -أي: ظن المصطفى أن هذا القصر له صلى الله عليه وسلم- فقيل لي: لا، هذا لـ عمر بن الخطاب، فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم لـ عمر: فأردت أن أدخله لأنظر إليه يا عمر فتذكرت غيرتك، فبكى عمر وقال: بأبي أنت وأمي! أو عليك أغار يا رسول الله؟!) فتصور معي بيتاً من لؤلؤة، وتصور معي قصراً كاملاً من ذهب خالص، فأي نعيم هذا؟!! وأي فضل هذا؟!! يعيش ملك من ملوك الدنيا أو أمير من الأمراء في قصر لو دخلت إليه لكاد -ورب الكعبة- أن يطيش عقلك. لقد دخلت قصراً في الإمارات لأمير من الأمراء دعاني إلى الزيارة، ورب الكعبة! لقد كاد عقلي أن يطيش، فقلت لإخوة معي: يا إخوة! هذا الذي نراه من إعداد البشر للبشر، فما ظنكم بإعداد رب البشر، في جنة لم يخطر نعيمها على قلب بشر؟! ففي الجنة بيت من لؤلؤة، وقصر من ذهب، وبناء الجنة لبنة من ذهب، ولبنة من فضة. ويزداد الجمال إذا عرفت أن هذه البيوت وهذه القصور تجري من تحتها الأنهار. تصور معي قصراً من ذهب فوق نهر، وبيتاً من لؤلؤة فوق نهر، إنه منظر عجيب! والأنهار: نهر من ماء، ونهر من لبن، ونهر من خمر، ونهر من عسل، قال عز وجل: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} [محمد:15]، اللهم اجعلنا من أهلها. تجري هذه الأنهار من الماء، والأنهار من اللبن، والأنهار من الخمر، والأنهار من العسل، تحت هذه البيوت والقصور، ويزداد الجمال ويزداد الكمال ويزداد الحسن بالأشجار والظلال والثمار.

أشجار الجنة وثمارها

أشجار الجنة وثمارها هل تعلمون أنه ما من شجرة في الجنة إلا وساقها من الذهب الخالص؟! فلا تظنوا أن شجر الجنة كشجر الدنيا، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (شجر الجنة ساقها من الذهب الخالص). وفي الصحيحين عن المصطفى صلى الله عليه وسلم قال: (إن في الجنة شجرة يسير الراكب -وليس الماشي- في ظلها مائة عام، قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: اقرءوا إن شئتم قوله تعالى: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [الواقعة:30]). شجر الجنة لا ينقطع ثمره، ولا ينقطع عطاؤه، وأما شجر الدنيا فمنه ما يثمر في الصيف، ومنه ما يثمر في الشتاء، ومنه ما يثمر في الربيع أو في الخريف، لكن شجر الجنة دائم العطاء، ودائم الظل، ودائم الثمار، وتدبر معي قول الملك جل وعلا وهو يقول: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ * وَظِلٍّ مَمْدُودٍ * وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ * وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ * وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} [الواقعة:27 - 34] ثمر الجنة لا ينقطع، وظل الجنة دائم لا ينتهي، وبالجملة يقول عنها المصطفى صلى الله عليه وسلم: (فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ثم قال: اقرءوا إن شئتم قول الله تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]).

أدنى أهل الجنة منزلة وآخرهم دخولا الجنة

أدنى أهل الجنة منزلة وآخرهم دخولاً الجنة علينا أن نتدبر جميعاً؛ لكي نتعرف على نعيم آخر رجل يدخل الجنة؛ ليتضح لنا بعد ذلك نعيم أهل الدرجات العلى. روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سأل موسى بن عمران -على نبينا وعليه الصلاة والسلام- ربه جل وعلا وقال: يا رب! ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ فقال الله جل وعلا: يا موسى! ذلك رجل يجيء بعدما أدخل أهل الجنة الجنة فيقال له: ادخل الجنة، فيقول: يا رب! كيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم؟ -يعني: ينطلق فيخيل إليه من كثرة أهل الجنة أن الجنة قد امتلأت، ولم يعد له مكان بين أهلها- فيقول الله جل وعلا: أما ترضى أن يكون لك مثل مُلْك مَلِك من ملوك الدنيا؟ فيقول العبد: رضيت يا رب! رضيت يا رب! فيقول الرب: لك ذلك ومثله ومثله ومثله ومثله فيقول العبد في الخامسة: رضيت يا رب! رضيت يا رب! فيقول الرب جل وعلا: لك ذلك وعشرة أمثاله معه، ولك فيها ما اشتهت نفسك، ولذت عينك). الله أكبر! هذه منزلة أدنى رجل في الجنة. وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أدنى مقعد أحدكم من الجنة أن يقال للرجل: تمن -أي: اطلب ما شئت وتمن- فيتمنى، فيقول الله عز وجل له: تمن، فيتمنى، فيقول الله سبحانه: لك ما تمنيت ومثله معه). هذا هو أدنى أهل الجنة منزلاً، فكيف يكون حال آخر رجل يدخل الجنة؟ في صحيح مسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (آخر رجل يدخل الجنة رجل يمشي مرة -أي: على الصراط- ويكبو مرة، وتسفعه النار مرة، حتى إذا ما نجاه الله وعبر الصراط، التفت إلى النار من خلفه وقال: تبارك الذي نجاني منك، الحمد لله الذي أعطاني ما لم يعط أحداً من الأولين والآخرين -ولمَ لا وربنا جل وعلا يقول: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185]؟! -يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: فترفع له شجرة من شجر الجنة، فإذا رآها العبد قال: أي رب! أدنني من هذه الشجرة -أي: قربني إليها- لأستظل بظلها، ولأشرب من مائها، فيقول الله جل وعلا: فهل لو أدنيتك منها ستسألني غيرها؟ يقول: لا، لا أسألك غيرها -وهل بعد هذا النعيم من نعيم؟ - فيقربه الله منها، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: وربه يعذره؛ لأنه يرى ما لا صبر له عليه، ثم ترفع له شجرة -أي: ثانية- هي أحسن من الأولى، فيقول العبد: أي رب! أدنني من هذه الشجرة لأستظل بظلها ولأشرب من مائها، فيقول الرب جل وعلا: يا بن آدم! ألم تعط العهود والمواثيق ألا تسألني غير الذي سألت؟ فيقول: وعزتك! لا أسألك غيرها، فيقول الله جل وعلا: فهل لو قربتك منها ستسألني غيرها؟ يقول: لا، لا أسألك غيرها، فيقربه الله جل وعلا، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: وربه يعذره؛ لأنه يرى ما لا صبر له عليه، يقول الحبيب: ثم ترفع له شجرة -أي: ثالثة- عند باب الجنة هي أحسن من الأوليين، فإذا ما رآها وسمع قال: أي رب! أدنني من هذه الشجرة، وعزتك لا أسألك غير هذه، فيقول الله: ألم تعط العهود والمواثيق ألا تسألني غير الذي سألت، فيقول: وعزتك لا أسألك غيرها: فيقربه الله منها، فإذا ما اقترب منها وسمع أصوات أهل الجنة يقول: أي رب! أدخلني الجنة!! فيقول الرب: يا بن آدم! ما يرضيك مني؟ - أي: أي شيء يرضيك؟ - أيرضيك أن تكون لك الدنيا ومثلها معها، فيقول العبد: أتهزأ مني وأنت رب العالمين؟!! وهنا ضحك ابن مسعود، وقال لأصحابه: لمَ لا تسألونني: ممَ أضحك؟ قالوا: مم تضحك يا ابن مسعود؟! قال: أضحك لضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقد ضحك النبي، فسئل: ممَ تضحك يا رسول الله؟! قال: أضحك من ضحك رب العزة، فإن العبد لما قال للرب: أتهزأ مني وأنت رب العالمين، يضحك الرب جل وعلا من عبده ويقول: لا أستهزئ منك، ولكني على ما شاء قادر). هذا هو آخر رجل يدخل الجنة. وأقول: الضحك صفة من صفات الحق جل وعلا، يجب علينا أن نؤمن بها كما جاءت في النص النبوي، من غير تحريف للفظها أو لمعناها، ومن غير تعطيل أو تكييف أو تمثيل، قال سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، فكل ما ببالك فالله بخلاف ذلك، جل الله عن الشبيه وعن النظير وعن المثيل، فلا ند له، ولا كفء له، ولا ولد له، ولا شبيه له، كما قال سبحانه: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4]. هذا هو حال آخر رجل يدخل الجنة.

نعيم أهل الجنة

نعيم أهل الجنة

نساء أهل الجنة

نساء أهل الجنة أما نساء أهل الجنة فوصفهن لا يقوى عليه بليغ، ولا يملكه أديب، فتعال معي لنسمع وصف خالق نساء الجنة. زوجتك التي معك الآن في الدنيا إن كانت من الصالحين ومن أهل الجنان فهي زوجتك كذلك في جنة الرحيم الرحمن، بعدما يهيئها ربها ويعدها إعداداً جديداً يليق بكمال الجنة وجمالها وحسنها، وسترى امرأتك في الجنة في ريعان الشباب، حتى ولو ماتت بعد المائة ستراها في الجنة في ريعان الشباب في الثلاثين من عمرها في غاية الحسن والجمال والجلال؛ لأن الكبير المتعال سينشئها لك إنشاءً جديداً يليق بحسن الجنة وجمالها. والمرأة في الجنة عروب، والعروب في لغة العرب: هي المرأة التي لا تحسن أبداً إلا أن تقول لزوجها كلاماً رقيقاً جميلاً، ولا تستطيع أن تقول كلمة سيئة. ونساء الجنة أتراب، أي: في سن واحدة، وهن لأصحاب اليمين. ومع نساء الدنيا يمن ربنا جل وعلا على أهل الجنة بالحور العين، والحور: جمع حوراء، والحوراء هي: المرأة الشابة الحسناء الجميلة شديدة سواد العين، والحور خلق ليس من جنس خلق بنات آدم وبنات حواء، بل إن الحور خلق يهيئه الملك الغفور لأهل الجنة، ولا يعلم حسنه إلا الله، يقول ربنا جل وعلا في وصف الحور في أواخر سورة الرحمن: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} [الرحمن:70]، (خيرات) أي: لا يظهر منهن الشر أبداً، (حسان) أي: جميلات، {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:70 - 78]. تبارك الله أحسن الخالقين! ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم في وصف الحور -والحديث في صحيح البخاري - (لو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت على الدنيا لأضاءت ما بين السماء والأرض، ولنصيفها -أي: خمارها- على رأسها خير من الدنيا وما فيها). وفي رواية أحمد وأبي يعلى بسند حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ينظر أحدهم وجهه في خدها أصفى من المرآة، وإن اللؤلؤة الواحدة على رأسها لتضيء ما بين السماء والأرض). وفي الصحيحين يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن للمؤمن في الجنة خيمة طولها ستون ميلاً في السماء، له فيها أهلون يطوف عليهن لا يرى بعضهم بعضاً). وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لكل واحد منهم زوجتان -أي: من الحور- يرى مخ سوقهما من وراء الثياب من شدة حسنهن وجمالهن، قلوبهن كقلب واحد؛ لا تباغض بينهن ولا تحاسد، يسبحن الله بكرة وعشياً). إنه وصف عجيب! ومن أعجب ما قرأت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الحور يستقبلن أزواجهن من أهل الجنة بالغناء بأحسن الأصوات؛ ما سمع أحد صوتاً أحسن منه قط)، ففي الحديث الذي رواه الطبراني من حديث ابن عمر، وصحح الحديث الألباني في صحيح الجامع، قال: (وإن مما يتغنين به -أي: الحور- لأزواجهن في الجنة أن يقلن: نحن الخالدات فلا يمتنه، نحن الآمنات فلا يخفنه، نحن المقيمات فلا نظعنه، نحن الخيرات الحسان، أزواج قوم كرام، ينظرن بقرة أعيان). هذا بعض وصف النساء في الجنة.

تفاوت نعيم أهل الجنة

تفاوت نعيم أهل الجنة تدبر معي أيها الحبيب! في نعيم أهل الجنة، وأسأل الله جل وعلا أن يجعلنا جميعاً من أهلها، إنه ولي ذلك والقادر عليه. نعيم أهل الجنة نعيم يفوق الوصف، ويقصر دونه خيال أي بليغ أديب مرهف الحس والمشاعر، وأرجو أن نعلم ابتداءً أن أهل الجنة في الجنة متفاوتون في النعيم، محال أن يكون أهل الإيمان بتفاوت إيمانهم ويقينهم في درجة واحدة، بل كل ينزل منزلة ودرجة في الجنة على حسب إيمانه ويقينه في الدنيا، قال الله جل وعلا: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا * كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا * انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} [الإسراء:19 - 21]. كما فضل الله عز وجل أهل الدنيا في الدنيا بالدرجات، كذلك فضل الله عز وجل أهل الآخرة بالدرجات ((وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً)). فالناس متفاوتون في النعيم، يقول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري: (إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة). وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال -وتدبروا هذا الحديث الرقراق-: (إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف كما تتراءون الكوكب الدري في الأفق من المشرق أو المغرب، فقال الصحابة: يا رسول الله! هؤلاء هم الأنبياء الذين لا يشاركهم في منازلهم أحد، فقال المصطفى: لا والذي نفسي بيده! إنهم رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين). ولا شك أن أعلى منزلة وأرفع درجة في الجنة هي لنبينا وحبيبنا صلى الله عليه وسلم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو: (إذا سمعتم المؤذن يؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليّ فإنه من صلى عليّ مرة صلى الله عليه بها عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة؛ فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت له شفاعتي). فالوسيلة هي أعلى درجات الجنة، وهي لا تنبغي البتة إلا لعبد واحد، وهذا العبد هو حبيب الله المصطفى صلى الله عليه وسلم، فهو الذي ينزل وحده في هذه المكانة وفي هذه الدرجة، فأهل الجنة متفاوتون في النعيم.

طعام أهل الجنة وشرابهم وفرشهم وثيابهم

طعام أهل الجنة وشرابهم وفرشهم وثيابهم إن سألتني -أيها الحبيب الكريم- عن طعامهم وشرابهم وخدمهم وفرشهم وثيابهم، فلن أزيد عن كلمات كريمات طيبات، أتلوها من كتاب رب الأرض والسماوات، يبين لنا فيها ربنا جل وعلا نعيم أهل الجنة، وطعام أهل الجنة، وشراب أهل الجنة، وخدم أهل الجنة، وفرش أهل الجنة، فتدبر كلام خالق الجنة جل وعلا وهو يقول: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:22 - 26]. ويقول جل وعلا: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [الواقعة:10 - 12]. وقال عز وجل: {عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الصافات:44]. وقال تعالى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ * وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ * وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} [الواقعة:17 - 23]. ويقول جل وعلا: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا * مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا * وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا * وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ * قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا * وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا * عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنثُورًا * وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا * عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا * إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا} [الإنسان:12 - 22].

هل رضيتم؟

هل رضيتم؟ تدبر معي هذا العنصر من عناصر هذا اللقاء: هل رضيتم؟ لتعلم أن نعيم الجنة الحقيقي بعد كل هذا لا يساوي شيئاً إلى جوار أعلى وأعظم نعيم، وهل في الجنة ما هو أجل من هذا؟ وهل في الجنة ما هو أعلى من هذا؟ نعم، إن أعلى نعيم في الجنة ليس في لبنها ولا عسلها ولا مائها ولا خمرها ولا فضتها ولا ذهبها ولا حورها ولا قصورها، وإنما أعلى نعيم في الجنة هو في رؤية وجه ربها، قال عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]. وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أهل الجنة الجنة قال الله جل وعلا: يا أهل الجنة! فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، والخير بين يديك، فيقول ربنا جل وعلا: هل رضيتم؟ فيقول أهل الجنة: وما لنا لا نرضى وقد أدخلتنا الجنة ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة؟ ألم تنجنا من النار؟ فيقول الله جل وعلا: أفلا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقول أهل الجنة: وأي شيء أفضل من ذلك؟! فيقول الله جل وعلا: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً). وجاء عن صهيب الرومي رضي الله عنه في صحيح مسلم عن المصطفى صلى الله عليه وسلم قال: (فيكشف الحجاب)، ما الحجاب؟ حجاب من النور كما في صحيح مسلم من حديث أبي موسى أن الحبيب صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) هذا في الدنيا؛ لأن الناس في الدنيا ليسوا مهيئين، ولولا أن الله يهيئهم في الجنة للرؤية لوقع بهم ما وقع للجبل الذي تجلى له ربه فخر موسى صعقاً، فالله يهيئ أهل الجنة للرؤية، يقول: (فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى وجه الله جل وعلا، وتلا قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26])، والحسنى هي الجنة وكل ما فيها من نعيم، والزيادة هي النظر إلى وجه ربنا الكريم. ولله در علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه إذ يقول: النفس تبكي على الدنيا وقد علمت أن السلامة فيها ترك ما فيها لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبنيها فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها أموالنا لذوي الميراث نجمعها ودورنا لخراب الدهر نبنيها وكم من مدائن في الآفاق قد بنيت أمست خراباً وأفنى الموت أهليها أين الملوك التي كانت مسلطنة حتى سقاها بكأس الموت ساقيها إن المكارم أخلاق مطهرة الدين أولها والعقل ثانيها والعلم ثالثها والحلم رابعها والجود خامسها والفضل باقيها لا تركنن إلى الدنيا وزينتها فالموت لا شك يفنينا ويفنيها واعمل لدار غداً رضوان خازنها والجار أحمد والرحمن ناشيها قصورها ذهب والمسك طينتها والزعفران حشيش نابت فيها أنهارها لبن مصفى ومن عسل والخمر يجري رحيقاً في مجاريها والطير تجري على الأغصان عاكفة تسبح الله جهراً في مغانيها فمن يشتري الدار بالفردوس يعمرها بركعة في ظلام الليل يحييها أسأل الله أن يجعلني وإياكم من أهل الجنان برحمته وكرمه؛ إنه الرحيم الرحمن، وبقي أن نتعرف في عجالة سريعة جداً على الطريق إلى الجنة، وذلك بعد جلسة الاستراحة إن شاء الله تعالى، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

الطريق إلى الجنة

الطريق إلى الجنة الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام! بقي أن نتعرف عن الطريق الموصل إلى الجنة، وأستطيع أن أضع بين أيديكم علامات ضوئية على هذا الطريق العظيم: أولاً: الإيمان بالله جل وعلا، فلا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة زكية، قال عز وجل: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97]. وقال: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا} [الزمر:73]. وقال: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:25]. ثانياً: العمل الصالح، فالعمل الصالح قرين الإيمان، لا ينفك ولا يخرج العمل أبداً عن حقيقة الإيمان، فالإيمان قول باللسان، وتصديق بالجنان، وعمل بالجوارح والأركان، كما فصلنا ذلك في شرحنا لصحيح الإمام البخاري رحمه الله تعالى. ثالثاً: من العلامات الضوئية على طريق الجنة: بناء المساجد، ففي صحيح البخاري من حديث عثمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من بنى لله بيتاً بنى الله له بيتاً في الجنة). وفي رواية أحمد: (من بنى لله مسجداً يبتغي به وجه الله ولو كمفحص قطاة -أي: ولو كان هذا المسجد بمقدار عش الطائر- بنى الله له بيتاً في الجنة). رابعاً: من أعظم الطرق التي توصل إلى الجنة: الجهاد، أسأل الله أن يرفع علم الجهاد، وأن يقمع أهل الزيغ والفساد. فالجهاد طريق إلى الجنة بلا نزاع، والأحاديث في ذلك كثيرة جداً، والجهاد ليس طريقاً إلى الجنة فحسب، بل إن الجهاد هو الطريق الوحيد بعد الإيمان والعمل الصالح لسعادة وكرامة الأمة وشرفها؛ فإنها تهان الآن أبلغ إهانة على أيدي كلاب الأرض من اليهود، فلا عز للأمة إلا إن صححت عقيدتها، وآمنت بربها، ورفعت راية الجهاد في سبيل الله جل وعلا، أسأل الله أن يرفع علم الجهاد، وأن يرزقنا جميعاً الشهادة في سبيله، إنه ولي ذلك والقادر عليه. للشهيد عند الله درجة عالية، ومنازل عظيمة، ويكفي أن نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ذكر بأن للشهيد عند الله من النعيم أن يزوجه الله سبحانه وتعالى باثنتين وسبعين زوجة من الحور العين. خامساً: من العلامات أيضاً -وهي ميسرة للجميع للجاهل وللعالم، للأمي ولغير الأمي، للرجل وللمرأة- على طريق للجنة: ذكر الله وتسبيحه. روى الترمذي في سننه بسند حسنه الألباني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لقيت ليلة أسري بي إبراهيم عليه السلام، فقال إبراهيم للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد! اقرأ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها سبحان الله، والحمد الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر). فهذا غراس الجنة، فاغرس لنفسك في الجنة، وذلك بقول: سبحانه الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، هذا غراس الجنة فأكثر منه. سادساً: النوافل، وهذا أيضاً أمر يستطيعه كل مسلم ومسلمة، ففي صحيح مسلم من حديث أم حبيبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى لله ثنتي عشرة ركعة من غير الفريضة بنى الله له بيتاً في الجنة)، وفي لفظ لـ أم حبيبة أيضاً: (أربع ركعات قبل الظهر، وركعتين بعد الظهر، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الغداة)، أي: قبل صلاة الصبح. فيا أيها الأحبة! إيمان بالله، واتباع للنبي صلى الله عليه وسلم، وجهاد في سبيله، وصبر على الشهوات، ومجاهدة للنفس الأمارة بالسوء، وسير على طريق النبي صلى الله عليه وسلم، وحتماً ستلقى في نهاية هذا الطريق حبيبك المصطفى صلى الله عليه وسلم منتظرك على الحوض؛ ليسقيك بيده الشريفة شربة هنيئة مريئة لا تظمأ بعدها أبداً. اللهم اجعلنا من أهل الجنان، اللهم نجنا من النيران، اللهم برحمتك وفضلك اجعلنا من أهل الجنة يا رحمان! اللهم اجعلنا من أهل الجنة يا رحمان! اللهم تجاوز عن أخطائنا وزلاتنا وذنوبنا برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم لا تدع لأحد منا في هذا الجمع الكريم ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا أديته، ولا ميتاً لنا إلا رحمته، ولا عاصياً بيننا إلا هديته، ولا طائعاً معنا إلا زدته وثبته، ولا حاجة هي لك رضاً ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا رب العالمين! اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا شقياً ولا محروماً. اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى. اللهم انصر المجاهدين في كل مكان، اللهم ائذن في تحرير الأقصى برحمتك يا رحيم يا رحمان! اللهم عليك باليهود وأعوان اليهود وأتباع اليهود، اللهم شتت شملهم، اللهم مزق صفهم، اللهم أرنا فيهم يوماً كيوم عاد وثمود، اللهم إنا نشكو إليك خيانة الخائنين، وضعف الموحدين، وإجرام المنافقين. اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا برحمتك يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن تجعل بلدنا مصر واحة للأمن والأمان، اللهم لا تحرم مصر من الأمن والأمان وسائر بلاد الإسلام. اللهم ارفع عن مصر الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تحرم مصر من التوحيد والموحدين، برحمتك يا أرحم الراحمين! أحبتي الكرام! هذا وما كان من توفيق في هذه السلسلة بطولها فمن الله جل وعلا وحده لا شريك له، وما كان من خطأ أو سهو أو نسيان في هذه السلسلة بطولها فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء. وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون عليه إلى الجنة ويلقى به في جهنم، ثم أعوذ بالله أن أذكركم بمثل هذا كله وأنساه. وأرجو من جميع إخواننا أن يعضوا بالنواجذ على أشرطة هذه السلسلة الكريمة، فأنا أعتقد الآن اعتقاداً جازماً بأن الأمة بكل طوائفها بحكامها وعلمائها ورجالها ونسائها وأطفالها في أمس الحاجة في هذا العصر الذي طغت فيه الماديات والشهوات إلى أن تسمع هذه السلسلة مرات ومرات ومرات. فأرجو من إخواننا أهل الفضل وأهل المال ممن منّ الله عليهم أن يتبنى كل غني سلسلة الدار الآخرة، وأن ينسخها في أشرطة، وأن يقوم بتوزيعها على السائقين، وعلى السيارات والمركبات، وعلى السيارات الكبيرة، وعلى المسئولين، وفي البيوت، وفي الجامعات وفي المدارس؛ فإننا الآن في عصر طغت فيه الشهوات طغياناً رهيباً، ونحتاج إلى من يجدد الإيمان في قلوبنا، وإلى من يذكرنا بكلام ربنا ونبينا، وبهذا اليوم الذي سنقف فيه بين يدي الله جل وعلا للسؤال عن الكثير وعن القليل {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89]. وانطلاقاً من اعتقادنا أن الإسلام دين ودنيا، فإنني أعتقد أننا الآن في أمس الحاجة إلى أن نتعلم أخلاق الإسلام في معاملات الدنيا، ومن ثَّم فسأبدأ بإذن الله تعالى سلسلة منهجية جديدة أخرى، ابتداء من الشهر القادم إن قدر الله لنا البقاء واللقاء، والتي سوف تكون بعنوان: حقوق يجب أن تعرف. أسأل الله أن يعيننا وإياكم على طاعته، وألا يجعل حظنا من ديننا قولنا.

حقيقة الطريق إلى الجنة وماهيته

حقيقة الطريق إلى الجنة وماهيته السؤال الأخير الذي طرح في الخطبة: ما الطريق إلى الجنة؟ A الطريق إلى الجنة هو أوامر الإسلام ونواهيه وحدوده، أي: الامتثال للأمر، والاجتناب للنهي، والوقوف عند الحد، وبعد ذلك اذكر ما شئت من الأعمال، لكن هذا المعنى من حيث الجملة أنك تتمثل الأمر، وتجتنب النهي، وتقف عند حدود الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات). (حفت الجنة بالمكاره) يعني: أن الطاعة ثقيلة على النفس، فالجنة محفوفة بالمكاره، أتصبر على المكاره؟ أتصبر على الطاعة؟ أتصبر عن المعصية؟ أتمتثل الأمر؟ أتجتنب النهي، وتقف عند حدود الله عز وجل؟ هذه هي المكاره التي تدخلك الجنة. أما النار فحفت بالشهوات، فهل تصبر عن الشهوات: شهوة الفرج، وشهوة البطن، وشهوة الجاه، وشهوة المنصب، وشهوات الدنيا كثيرة، وكذلك الشبهات. فالطريق إلى الجنة -يا إخواننا- محفوف بالمكاره، وهناك ابتلاءات على الطريق تحتاج منا إلى صبر، فنفسك لها رغبات لابد أن تصبر عنها، وأوامر لله لابد أن تمتثلها، قال صلى الله عليه وسلم: (ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة). والحقيقة أن الجنة درجات، فإذا أردت أن تنالها فلابد أن تجتهد في طاعة الله عز وجل وفي طاعة رسوله. الذي يخطب امرأة من نساء الدنيا جميلة لو قال أبوها: يا فلان! نريد منك غرفة نوم، وشبكة بكذا، وشقة متكاملة بعشرين ألفاً مهراً، لقال: أنا مستعد، وأنا جاهز، هذا في امرأة من نساء الدنيا يصيبها الحيض والنفاس والبول وكل شيء! فكيف بنساء الجنة؟! ولو وقفت مع آيات القرآن في نعيم الجنة لطال المقام، وهناك مجلد كامل كبير للإمام ابن القيم بعنوان: (حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح)، في هذا الكتاب فصّل المؤلف رحمه الله كل جزئية من جزئيات النعيم الواردة في القرآن والسنة، أما ما أخفاه الله فلا يعلمه إلا الله، وإنما هذا الذي ظهر في القرآن والسنة. وفي الصحيح من حديث أبي هريرة (إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر -أول فوج يدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر- ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة، لا يبولون ولا يتغوطون). أي: صفتهم: أنهم لا يبولون ولا يتغوطون في الجنة. وربنا يقول: {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا} [الإنسان:14] يعني: القطوف والثمار في الجنة مذللة ميسرة قريبة دانية، فالشخص وهو متكئ على أريكته حينما يشتهي فاكهة معينة تجد الفاكهة مذللة بأمر الله عز وجل في يده. أما اللحم فيقول سبحانه: {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة:21]. والخمر من أعظم شراب الجنة، فالذي يمنع نفسه عن خمر الدنيا سيشرب في الآخرة من خمر الجنة، وخمر الجنة يقول ربنا فيها: {لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ} [الواقعة:19] (لا يصدعون) يعني: لا يصاب من شربها بالصداع والهم والدوخة والدوار، بل هو خمر لذة للشاربين. إذاً: نأكل ونشرب، فكيف يخرج هذا الأكل والشرب؟! يقول عليه الصلاة والسلام: (يخرج الله عز وجل هذا الشراب والطعام رشحاً على البدن كالمسك)، أي: بدل ما يخرج من القبل والدبر في هيئة بول وغائط، فإنه يخرج مسكاً، فلا توجد مجاري هناك في الجنة، وإنما يخرج رشحاً كالمسك. وسبحان الله! في الدنيا تجد الإنسان يبذل الكثير من أجل نساء الدنيا مع ضعفهن، بينما الحور العين مع عدم البول والغائط ومع ذلك ليس عنده استعداد أن يبذل للآخرة، فكم نذكر في المحاضرات والدروس بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تحرك الجبال، {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة:74]، ومع ذلك هناك أناس قلوبهم لم تهبط من خشية الله! وهؤلاء كما قال الله عز وجل: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:74]. قال صلى الله عليه وسلم: (إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة، لا يبولون ولا يتغوطون، ولا يتفلون ولا يمتخطون)، فلا تفل ولا مخاط في الجنة، يا سبحان الله! شيء عجيب جداً! (لا يتفلون ولا يمتخطون، أمشاطهم الذهب)، والمشط ليس لتسريح اللحية؛ لأنه لا لحية في الجنة، ولا يوجد أحد يدخل الجنة بلحية؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (أهل الجنة مرد -يعني: بدون لحى- كحل)، أي: من غير كحل، (أمشاطهم الذهب، وأزواجهم الحور العين). فالذي يخطب الحور عليه أن يدفع المهر الآن في الدنيا، فما هو هذا المهر؟ إنه إيمان اتباع عمل صالح جهاد صلاة تسبيح عمارة مساجد مسارعة في الخيرات أمر بمعروف نهي عن منكر دعوة قيام ليل قراءة قرآن صدقة بر والدين، كل هذا يندرج تحت العمل الصالح. طريق الجنة أنه إذا أمر الله عز وجل بأمر فما عليك إلا أن تمتثل وتقول: يا رب! سمعنا وأطعنا، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم تمتثل أمره وتقول: سمعاً وطاعة يا رسول الله! كذلك حدود رب العزة تجتنبها. فما أقل حياء من طمع في جنة الله ولم يعمل بطاعة الله! فقد يأتي رجل ويقول: يا رب! ارزقني الجنة وهو لا يعمل بطاعة الله! فأقول له: يا أخي! السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة، صحيح أن الدعاء مخ العبادة، ومطلوب منك أن تدعو وأن تتضرع، لكن كيف تقول: يا رب! ارزقني الجنة، وأنت تفضل القهوة على المسارعة إلى الصلوات حين الأذان؟! وكيف تقول: يا رب! ارزقني الجنة، وأنت لا تصلي؟! هذا مستحيل، ولا تجد ذلك في آية من القرآن ولا في حديث من أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام. الإيمان الذي يدخل صاحبه الجنة هو الإيمان الذي هو القول والتصديق والعمل، القول بأن تقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، وتصدق بقلبك وتعمل، تصلي بالليل وتبكي وتبقى خائفاً وتقرأ قرآناً وتسبح ربنا، وتبتعد عن الحرام، والنبي عليه الصلاة والسلام قد حذر من عدم التورع عن الحرام، فقد ورد عنه عليه الصلاة والسلام -كما في صحيح مسلم -: (ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث، أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟!) يعني: كيف يستجاب له؟! فكل هذه علامات ضوئية توصلك إلى جنة رب البرية، لكن الإنسان إذا كان يتمنى الجنة على الله عز وجل من غير عمل ومن غير عقيدة صحيحة فهذا وهم، ومن الأماني الكاذبة. وإن قوماً ألهتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم، وقالوا: إنا نحسن الظن بالله، وكذبوا؛ لأنهم لو أحسنوا الظن في الله لأحسنوا العمل، وهذا الكلام ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن من الناس من ينسبه إلى الرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما هذا من كلام الحسن البصري رحمه الله تعالى. فيجب علينا جميعاً -أيها الأحبة الكرام- أن نعلم يقيناً أن الجنة تحتاج إلى رجال، وتحتاج إلى أبطال، وتحتاج إلى أطهار، وتحتاج إلى أبرار، وتحتاج إلى أُسُود، وفي نفس الوقت زهاد عباد. وقد كان الواحد من السلف يظل في بيته في الليل يصلي قيام الليل، ولكن الآن الأمة بأسرها تركت ذلك إلا عدداً قليلاً جداً ممن يقوم الليل، وممن يصلي لله جل وعلا، ويقف بين يديه، ويتضرع ويتذلل له سبحانه، بل بعضهم حتى الفجر يضيعه، ثم تراه يقول: يا رب! ارزقني الجنة! وكذلك صلاة العصر يضيعها ويطلب الجنة! ولا يتورع على الإطلاق من أجل أن يبني ويعمر أن يأكل الحرام، ثم يقول: يا رب! ارزقني الجنة! فيا إخواننا! الجنة سلعة غالية جداً، ومستحيل أن تشتري هذه السلعة إلا بأغلى مهر، والصحابة رضوان الله عليهم بشروا في الدنيا بالجنة، ليس بالأماني ولا بالكلام، وإنما بالعمل وبالرجولة، ألم يقل النبي عليه الصلاة والسلام في أحد المعارك: (قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض، ويسمعه صحابي جليل وهو يأكل تمراً ويقول: جنة عرضها السماوات والأرض! بخ بخ! فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول له: ما الذي حَملك على قول بخ بخ يا عمير؟ فقال عمير: لا، والله! يا رسول الله! إلا أني أرجو أن أكون من أهلها، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول له: أنت من أهلها). فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يقل لـ عمير هذه العبارة من فراغ، وإنما بعد أن عرف صدق عمير حين قال: (جنة عرضها السماوات والأرض! بخ بخ) فلذلك قال له: (أنت من أهلها)؛ ولذلك رمى بالتمرات عندما تذكر جلال وجمال هذه الجنة، فقال: (والله لئن حييت حتى آكل هذه التمرات إنها لحياة طويلة) فقاتل حتى قتل رضي الله عنه وأرضاه. فالصحابة -يا إخوة! - لم ينالوا هذه الدرجة إلا بالكفاح، وبالجهاد، وبالمشقة، وبامتثال الأمر واجتناب النهي، وبالوقوف عند الحدود، وبالسمع والطاعة لله سبحانه وتعالى وللنبي صلى الله عليه وسلم؛ فيجب علينا أن نسلك هذا الدرب وهذا الطريق. ونسأل الله عز وجل أن يمن علينا وعليكم بجنته؛ إنه ولي ذلك ومولاه. أسأل الله أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين.

انتبه فالموت قادم!

انتبه فالموت قادم! أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بالإكثار من ذكر هاذم اللذات (الموت)؛ لأن ذلك يحمل على التوبة والاستعداد للقاء الله، والموت ما ذكر في قليل إلا كثره، ولا في كثير إلا قلله، فطوبى لمن استعد له.

الموت حق

الموت حق بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي ينادي يوم القيامة بعد فناء خلقه ويقول: (أنا الملك، أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا العزيز، ثم يقول جل وعلا: لمن الملك اليوم؟ ويجيب على ذاته سبحانه ويقول: لله الواحد القهار)، سبحانه سبحانه سبحانه، سبحان ذي العزة والجبروت، سبحان ذي الملك والملكوت، سبحان من كتب الفناء على جميع خلقه وهو الحي الباقي الذي لا يموت. وأشهد أن نبينا وحبيبنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، شرح له صدره، ورفع له ذكره، ووضع عنه وزره، وفضله على جميع خلقه، وزكاه في كل شيء، وبعد كل هذا خاطبه بقوله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30]. فاللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الأحباب وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً منزلاً من الجنة، وأسأل الله جل وعلا أن ينظر وجوهكم، وأن يزكي نفوسكم، وأن يشرح صدوركم، وأن يتقبل منا وإياكم صالح الأعمال، وأن يجمعني وإياكم في الدنيا دائماً وأبداً على طاعته، وفي الآخرة مع سيد الدعاة وإمام النبيين في جنته ومستقر رحمته؛ إنه ولي ذلك ومولاه، وهو على كل شيء قدير. أحبتي في الله! إننا الليلة على موعد مع هذا الموضوع الذي أتألم منه كثيراً؛ لأن دعاتنا وشيوخنا لا يذكرون الناس به إلا في المناسبات فقط، مع أننا في أمس الحاجة إلى أن نذكره وإلى أن نتذكره دائماً وأبداً، امتثالاً عملياً لوصية حبيبنا ورسولنا المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كما في الحديث الذي رواه بعض أصحاب السنن -وهو حديث حسن- من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أكثروا من ذكر هادم اللذات. قيل: وما هادم اللذات يا رسول الله؟ قال: الموت)، فانتبه أيها المسلم، فإن الموت قادم، فإننا نعيش عصراً طغت فيه الماديات والشهوات، وانشغل فيه كثير من الناس عن لقاء رب الأرض والسماوات، انتبه فلابد من أن تستقر هذه الحقيقة الكبرى في قلبك وعقلك ووجدانك. إن الحياة في هذه الأرض موقوتة محدودة بأجل، ثم تأتي نهايتها حتماً فيموت الصالحون ويموت الطالحون، يموت المجاهدون ويموت القاعدون، يموت المستعلون بالعقيدة ويموت المستذلون للعبيد، يموت المخلصون الصادقون الذي يأبون الضيم ويكرهون الذل، ويموت الجبناء الحريصون على الحياة بأي ثمن، يموت أصحاب الاهتمامات الكبيرة والأهداف العالية، ويموت الفارغون التافهون الذين لا يعيشون إلا من أجل المتاع الرخيص، الكل يموت، {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185]. ولذا سمى الله هذه الحقيقة في القرآن بالحق، فقال جل وعلا: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:19 - 22]. {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق:19]، والحق أنك تموت والله حي لا يموت. {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق:19]، والحق أن ترى عند موتك ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب. {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق:19]، والحق أن يكون قبرك روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران. {ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19]. أي: ذلك ما كنت منه تهرب، وذلك ما كنت منه تجري، وذلك ما كنت منه تخاف، تحيد إلى الطبيب إذا جاءك المرض خوفاً من الموت، وتحيد إلى الطعام إذا أحسست بالجوع هرباً من الموت، وتحيد إلى الشراب إذا أحسست بالظمأ رعباً من الموت. أيها القوي الفتي! يا أيها الذكي! يا أيها العبقري! يا أيها الكبير! يا أيها الوزير! يا أيها الأمير! يا أيها الصغير: كل باك سيُبكى وكل ناع سيُنعى وكل مدخور سيفنى وكل مذكور سينسى ليس غير الله يبقى من علا فالله أعلى أيا من يدعي الفهم إلى كم يا أخا الوهم تعب الذنب بالذنب وتخطي الخطأ الجم أما بان لك العيب أما أنذرك الشيب وما في نصحه ريب ولا سمعك قد صم أما نادى بك الموت أما أسمعك الصوت أما تخشى من الفوت فتحتاط وتهتم فكم تسدر في السهو وتختال من الزهو وتنفض إلى اللهو كأن الموت ما عم كأني بك تنحط إلى اللحد وتنغط وقد أسلمك الرهط إلى أضيق من سم هناك الجسم ممدود ليستأكله الدود إلى أن ينخر العود ويمسي العظم قد رم فزود نفسك الخير ودع ما يعقب الضير وهيئ مركب السير وخف من لجة اليم بذا أوصيك يا صاح وقد بحت كمن باح فطوبى لفتى راح بآداب محمد يأتم

كلا إذا بلغت التراقي

كلا إذا بلغت التراقي صدق الله جل وعلا إذا يقول: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:26 - 30]. {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} [القيامة:26]، أي: إذا بلغت الروح الحلقوم، {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [القيامة:27]، أي: من الذي يرقيه؟ من الذي يبذل له الرقية؟ من الذي يقدم له العلاج؟ من الذي يحول بينه وبين الموت؟ انظر إليه وهو صاحب الجاه، صاحب السلطان، صاحب الأموال، صاحب السيارات، صاحب العمارات، صاحب الوزارات. انظر إليه وهو على فراش الموت، التف الأطباء من حوله، ذاك يبذل له الرقية، وذاك يقدم له العلاج، يريدون شيئاً وملك الملوك قد أراد شيئاً آخر. انظر إليه -أيها الحبيب- وقد اصفر وجهه، وشحب لونه، وبردت أطرافه، وتجعد جلده، وبدأ يحس بزمهرير قارس يزحف إلى أمام اليدين والقدمين، يحاول جاهداً أن يحرك شفتيه بكلمة التوحيد، فيحس أن الشفة كالجبل لا يتزحزح إلا لمن يسر الله له النطق بـ (لا إله إلا الله)، إلا لمن عاش على الإيمان ومات على الإيمان كما قال ربنا جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:30 - 32]. ينظر إلى أهله وإلى أحبابه، فيراهم مرة يبتعدون ومرة يقتربون، ويرى الغرفة التي هو فيها مرة تضيق عليه فتصغر كخرم إبرة، ومرة يراها كالفضاء الموحش، فإذا وعى ما حوله في الصحوات بين السكرات والكربات نظر إليهم نظرة استعطاف، ونظرة رجاء ونظرة أمل، ونظرة تمن، وقال لهم بلسان الحال -بل وبلسان المقال-: يا أحبابي! يا أولادي! يا أبنائي! لا تتركوني وحدي، ولا تفردوني في لحدي، أنا أبوكم، أنا حبيبكم، أنا الذي بنيت لكم القصور، أنا الذي عمرت لكم الدور، أنا الذي نميت التجارة، أنا صاحب الجاه، أنا صاحب الوزارة، أنا صاحب السلطان، أنا صاحب الأموال، أنا صاحب الكراسي، لا تتركوني وحدي، ولا تفردوني في لحدي، افدوني بأعمالكم، من منكم يزيد في عمري ساعة أو ساعتين؟ وهنا يعلو صوت الحق، كما قال الحق جل وعلا: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:83 - 96]. سبحانك يا من ذللت بالموت رقاب الجبابرة، سبحانك يا من أنهيت بالموت آمال القياصرة، سبحانك يا من نقلتهم بالموت من القصور إلى القبور، ومن ضياء المهود إلى ظلمة اللحود، ومن ملاعبة الجواري والنساء والغلمان إلى مقاساة الهوام والديدان، ومن التنعم بألوان الطعام والشراب إلى التمرغ في الوحل والتراب. {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [القيامة:26 - 27]، أي: من الذي يرقيه؟ من الذي يبذل له الرقية؟ من الذي يقدم له العلاج؟ من الذي يحول بينه وبين الموت؟ وقيل: إن معنى (مَنْ رَاقٍ) أي: من الذي سيرقى بروحه إلى الملك جل وعلا؟ وهذا معنى آخر، فمن الذي سيرتقي بهذه الروح من الملائكة؟ {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} [القيامة:27 - 29] أهذا هو الذي سيخرج به وهو هذه الأكفان وهذا القماش؟ أين ماله؟ أين جاهه؟ أين كرسيه؟ أين سلطانه؟ أين دولاراته؟ أين أولاده؟ أين طائراته؟ أين دباباته؟ أين وزارته؟ أين الجاه؟ أهذا هو الذي سيخرج به؟

حقيقة الدنيا

حقيقة الدنيا النفس تجزع أن تكون فقيرة والفقر خير من غنى يطغيها وغنى النفوس هو الكفاف فإن أبت فجميع ما في الأرض لا يكفيها وقال آخر: هي القناعة فالزمها تكن ملكاً لو لم تكن لك إلا راحة البدن وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير القطن والكفن لا والله، في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: (يتبع الميت ثلاثة: ماله، وأهله، وعمله، فيرجع اثنان ويبقى واحد) يرجع الأهل، ويقسم المال على الورثة، ولا يبقى لك إلا عملك، وينادى عليك بلسان الحال: رجعوا وتركوك يا مسكين، يا من شغلك مالك عن حقوق الله جل وعلا، يا من شغلتك تجارتك عن السجود بين يدي الله جل وعلا، يا من سمعت المؤذن يقول لك: (حي على الصلاة) وأنت في بيتك، وفي تجارتك، وفي حقلك، وفي وزارتك، وفي مكتبك ما تحرك فيك ساكن، وما قمت لله جل وعلا لتضع الأنف والجبين في التراب ذلاً لخالقك. يقال لك بلسان الحال: رجعوا وتركوك، وفي التراب وضعوك، وللحساب عرضوك، ولو ظلوا معك ما نفعوك، ولم يبق لك إلا عملك مع رحمة الحي الذي لا يموت، انتهى كل شيء. فكم من ليلة يفرح الناس بها، يسهرون ويمرحون ويضحكون، وفي الصباح الباكر يبكون، {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} [النجم:42 - 44]. يا نفس قد أزف الرحيل وأظلك الخطب الجليل فتأهبي يا نفس لا يلعب بك الأمل الطويل فلتزلن بمنزل ينسى الخليل به الخليل وليركبن عليك فيه من الثرى ثقل ثقيل قرن الفناء بنا فما يبقى العزيز ولا الذليل {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19]، نام هارون الرشيد على فراش الموت فقال لإخوانه من حوله: أريد أن أرى قبري الذي سأدفن فيه. فحملوا هارون إلى قبره، ونظر هارون إلى القبر وبكى، ثم التفت إلى الناس من حوله وقال: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28 - 29]، ثم رفع رأسه إلى السماء وبكى وقال: يا من لا يزول ملكه أرحم من قد زال ملكه. ولقي الفضيل بن عياض رجلاً فقال له الفضيل: كم عمرك؟ قال الرجل: ستون سنة. قال الفضيل: إذاً أنت منذ ستين سنة تسير إلى الله، يوشك أن تصل! فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون. فقال الفضيل: يا أخي! هل عرفت معناها؟ قال: نعم، عرفت أني لله عبد، وأني إليه راجع. فقال الفضيل: يا أخي! إن من عرف أنه لله عبد وأنه إليه راجع عرف أنه موقوف بين يديه، ومن عرف أنه موقوف عرف أنه مسئول، ومن عرف أنه مسئول فليعد للسؤال جواباً. فبكى الرجل وقال: يا فضيل! وما الحيلة؟ قال الفضيل: يسيرة. قال: ما هي -يرحمك الله-؟ قال: أن تتقي الله فيما بقى يغفر الله لك ما قد مضى وما قد بقي. سفري بعيد وزادي لن يبلغني وقوتي ضعفت والموت يطلبني ولي بقايا ذنوب لست أعلمها الله يعلمها في السر والعلن أنا الذي أغلق الأبواب مجتهداً على المعاصي وعين الله تنظرني ما أحلم الله عني حيث أمهلني وقد تماديت في ذنبي ويسترني كأنني بين تلك الأهل منطرحٌ على الفراش وأيديهم تقلبني كأنني وحولي من ينوح ومن يبكي عليَّ وينعاني ويندبني وقد أتوا بطبيب كي يعالجني ولم أر الطب هذا اليوم ينفعني واشتد نزعي وصار الموت يجذبها من كل عرق بلا رفق ولا وهن وقام من كان أحب الناس في عجل نحو المغسل يأتيني يغسلني فجاءني رجل منهم فجردني من الثياب وأعراني وأفردني وأودعوني على الألواح منطرحاً وصار فوقي خرير الما ينظفني وأسكب الماء من فوقي وغسلني غسلاً ثلاثاً ونادى القوم بالكفن وحملوني على الأكتاف أربعة من الرجال وخلفي من يشيعني وقدموني إلى المحراب وانصرفوا خلف الإمام فصلى ثم ودعني صلوا علي صلاة لا ركوع لها ولا سجود لعل الله يرحمني وودعوني جميع الأهل وانصرفوا وقدموا واحداً منهم يلحدني فكشف الثوب عن وجهي لينظرني فأسكب الدمع من عينيه أغرقني وقال هلوا عليه التراب واغتنموا حسن الثواب من الرحمن ذي المنن يا نفس ويحك توبي واعملي حسناً عسى تجزين بعد الموت بالحسن وامنن عليَّ بعفو منك يا أملي فإنك أنت الرحمن ذو المنن هذه حياتك يا ابن آدم، هذه قصتك، من أنت؟ يا ابن التراب وما دون التراب غداً أقصر فإنك مأكول ومشروب علام الكبر؟ وعلام الغرور؟ أنسيت أصلك؟ أنسيت ضعفك؟ أنسيت فقرك؟ أنسيت عجزك؟ أنسيت أنك من التراب خلقت وإلى التراب تصير؟ فلماذا تحارب دين الله؟ ولم تحارب سنة الحبيب رسول الله؟ ولم تصد عن سبيل الله؟ تذكر أن الكرسي لو دام لغيرك ما وصل إليك، إن الدنيا مهما طالت فهي قصيرة، ومهما عظمت فهي حقيرة؛ لأن الليل مهما طال فلابد من طلوع الفجر، ولأن العمر مهما طال فلابد من دخول القبر. وانتبه واعلم أن الدنيا دار ممر، وأن الآخرة هي دار المقر، فخذوا من ممركم لمقركم، ولا تفضحوا أستاركم عند من يعلم أسراركم. قال لقمان لولده: أي بني! إنك من يوم أن نزلت إلى الدنيا استدبرت الدنيا واستقبلت الآخرة، فأنت إلى دار تقبل عليها أقرب من دار تبتعد عنها. كم ستعيش أيها المسئول؟ يا من حملك الله أمانة الحكم، وأمانة الإعلام، وأمانة الوزارة، وأمانة التربية، وأمانة التوحيد، وأمانة الأبوة.

الموت قادم

الموت قادم أيها المسلم! أيتها المسلمة! فلنتذكر جميعاً هذه الحقيقة، وهي أن الموت قادم، إنها الحقيقة الكبرى التي تعلن على مدى الزمان والمكان في أذن كل سامع وعقل كل مفكر، أنه لا بقاء إلا للحي الذي لا يموت، إنها الحقيقة التي يسقط عندها جبروت المتجبرين وعناد الملحدين وطغيان الطغاة المتألهين، {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27]. انتبه فإن الموت قادم! حقيقة لابد أن تستقر في النفس، إذا تذكرها الحاكم عدل، إذا تذكرها المسئول اتقى الله في رعيته، إذا تذكرها رجل أمني اتقى الله في الناس، إذا تذكرها الأب اتقى الله في أولاده وزوجته، إذا تذكرتها الأم اتقت الله في زوجها وأولادها، إذا تذكرها كل مسلم عرف أن الموت قادم، وأنه في الغد القريب سيترك ماله، وسيترك كرسيه، وسيترك جاهه، وسيترك منصبه ليرى نفسه واقفاً بشحمه ولحمه بين يدي ملك الملوك وجبار السماوات والأرض ليكلمه ربه، نعم سيكلمك الحق جل وعلا، وسيكلمك الملك. قال تعالى: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا * كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا * مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا * خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا * يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا * يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا * وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا * يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ} [طه:98 - 108]. وفي الحديث يقول صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا وسيكمله ربه يوم القيامة)، فانتبه يا مسكين، إنك لو وقفت أمام قاض من قضاة الدنيا ربما ارتعدت فرائصك واضطربت جوارحك واصفر لونك وشحب وجهك، فهل فكرت في موقف ستعرض فيه بين يدي ملك الملوك جل وعلا؟ اذكر وقوفك يوم العرض عرياناً مستوحشاً قلق الأحشاء حيرانا والنار تلهب من غيظ ومن حنق على العصاة وتلقى الرب غضبانا اقرأ كتابك يا عبدي على مهل فهل ترى فيه حرفاً غير ما كانا لما قرأت ولم تنكر قراءته إقرار من عرف الأشياء عرفانا نادى الجليل خذوه يا ملائكتي وامضوا بعبد عصى للنار عطشانا المشركون غداً في النار يلتهبوا والمؤمنون بدار الخلد سكانا يقول صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا وسيكلمه ربه يوم القيامة ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه -عن يمينه- فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه -أي: عن شماله- فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة). فانتبه أيها الحبيب، {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ} [ق:19 - 20]، من النافخ؟ إسرافيل. بأمر من؟ بأمر الملك. لماذا؟ ينفخ النفخة الأولى للفزع، قال تعالى: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ} [النمل:87]، ويأمره الله بعد نفخة الفزع أن ينفخ نفخة الصعق، أي: نفخة الموت، كما قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ} [الزمر:68] أي: فمات ثم يأمره الثالثة: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68]. يخرج الناس من القبور حفاة عراة غرلاً، الرجال والنساء؛ نعم. الرجل مع المرأة، المرأة أمامه عارية وهو أمامها عار لا ينظر إليها ولا تنظر إليه. ما هذا الذي وقع؟ وما هذا الذي حدث؟ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1 - 2]. {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس:33 - 36]، لماذا؟ {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:37]. مثل لنفسك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمور إذ كورت شمس النهار وأدنيت حتى على رأس العباد تسير وإذا النجوم تساقطت وتناثرت وتبدلت بعد الضياء كدور وإذا الجحيم تسعرت نيرانها فلها على أهل الذنوب زفير وإذا الجبال تقلعت بأصولها فرأيتها مثل السحاب تسير وإذا العشار تعطلت وتخربت خلت الديار فما بها معمور وإذا الوحوش لدى القيامة أحشرت وتقول للأملاك أين نسير وإذا البحار تفجرت نيرانها فرأيتها مثل الجحيم تفور وإذا الصحائف نشرت وتطايرت وتهتكت للعالمين ستور وإذا الجليل طوى السما بيمينه طي السجل كتابه المنشور وإذا الجنين بأمه متعلق يخشى القصاص وقلبه مذعور هذا بلا ذنب يخاف جناية كيف المصر على الذنوب دهور وإذا الجنان تزخرفت وتطيبت لفتىً على طول البلاء صبور قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ} [ق:20]، إنه يوم القيامة، إنه يوم الحسرة والندامة، إنه يوم الحاقة، إنه يوم الآزفة، إنه يوم الزلزلة، إنه يوم الوعيد، {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [آل عمران:30]. انتبه -أيها الحبيب- فإن هذا اليوم قادم، والله لو أن الأمر توقف عند الموت بدون بعث وبدون حساب لكان الأمر سهلاً وهيناً وميسوراً، ولكن بعد الموت بعث، وبعد البعث حشر، وبعد الحشر صحف، وبعد الصحف ميزان، وبعد الميزان جنة ونيران.

شدة الموقف بين يدي الله

شدة الموقف بين يدي الله إن الأمر جد خطير، ستقف بين يدي الله جل وعلا ليكلمك وتكلمه، إن كنت من أهل التوحيد ومن أهل الإيمان ومن أهل الاستقامة قربك الله جل وعلا منه سبحانه، كما في الصحيحين من حديث ابن عمر، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (يدنى المؤمن من ربه يوم القيامة) أي: أن ربنا يقرب المؤمن (حتى يضع رب العزة عليه كنفه) والكنف لغة: الستر والرحمة، لا تأويلاً للصفة (ثم يقرره الله بذنوبه) يعني: أن ربنا يقرر العبد ويقول له: أنت عملت كذا يوم كذا. وعملت كذا يوم كذا، في كتاب عند ربي لا يضل ربي ولا ينسى، ويقول له: أنت عملت الذنب الفلاني في اليوم الفلاني في المكان الفلاني، قال: (فيقول المؤمن: ربي أعرف. فيقول الله جل وعلا: ولكني سترتها عليك في الدنيا، وأغفرها لك اليوم ويعطى كتابه بيمينه)، فيشرق وجهه، وينبسط النور من وجهه وعلى يمينه ومن بين يديه، كما قال تعالى: {يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم:8]، فهؤلاء هم أهل الأنوار، اللهم اجعلنا منهم! يأخذ كتابه بيمينه فيستثير وجهه، وتشرق أعضاؤه، والله جل وعلا يقول له: انطلق وأخبر أحبابك الذين هم على شاكلتك بما رأيت من الجنان والنعيم، وبشر أحبابك وأصحابك فينطلق إلى أرض المحشر ووجهه منير، النور من وجهه وعن يمينه ومن أعضائه، ينطلق إلى أحبابه وإخوانه، إلى أهل التوحيد، إلى أهل الإيمان، إلى أهل الأنوار، وهو يقول لهم: اقرءوا هذا الكتاب، هذا كتابي. أعطانيه الله بيميني، فيا فرحتي ويا سعادتي. سعد سعادة لن يشقى بعدها أبداً، وفاز فوزاً لن يخيب ولن يخسر بعده أبداً، يقول لهم: اقرءوا، فهذا توحيدي، وهذه صلاتي، وهذه زكاتي، وهذا حجي، وهذا بري، وهذه صدقتي، وهذه دعوتي، وهذا إخلاصي، وهذا إنفاقي، وهذا بذلي، وهذا عطائي، قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:19 - 24]. أما إن كانت الأخرى -عياذاً بالله، وحفظنا الله وإياكم من ذلك، وختم لنا ولكم بخاتمة الموحدين- فيقف بين يدي الله بمنتهى الخزي والذل والعار، منكساً رأسه، كما قال تعالى: {وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} [إبراهيم:50]، يقف بمنتهى الخزي، أين رأسك الذي رفعته في عنان السماء على الموحدين؟ أين أنفك الذي شمخت به في عنان السماء على المحرومين؟ أين مكانتك؟ أين غرورك؟ أين كبرك؟ إنّه في موقف الخزي والذل والعار، قال تعالى: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم:16 - 17]، يعطيه الله كتابه بشماله أو من وراء ظهره، ويسود وجهه، ويكسى من سرابيل القطران، ويقال له: انطلق إلى أمك الهاوية، إلى جهنم -والعياذ بالله- وأخبر من هم على شاكلتك بهذا المصير. فينطلق وقد اسود وجهه، وكسي من سرابيل القطران في أرض المحشر، وهو يبكي ويصرخ ويقول: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} [الحاقة:25 - 37]، أسأل الله أن يختم لي ولكم بالتوحيد. أيها الحبيب الكريم! يقول تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} [ق:20 - 22]، شغلك مالك، شغلك جاهك، شغلتك تجارتك، شغلتك وزارتك، شغلك مكتبك، شغلك كرسيك، شغلتك زوجتك، شغلك ولدك، شغلتك بنتك.

آثار حب الدنيا وكراهية الموت

آثار حب الدنيا وكراهية الموت أيها الحبيب الكريم! إننا لا نريد أن نقنط أحداً أو أن نيئسه، وإنما نرى الأمة الآن قد حق عليها وصدق فيها قول من لا ينطق عن الهوى، كما ورد في الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود من حديث ثوبان: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها. قالوا: أومن قلة نحن يومئذٍ يا رسول الله؟ قال: كلا. أنتم يومئذ كثير، ولكن غثاء كثغاء السيل، وليوشكن الله أن ينزع المهابة من قلوب عدوكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن. قيل: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت). من هنا ننطلق لنذكر الأمة بهذا الداء العضال الذي تمكن منها فذلت وأهينت من قبل إخوان القردة والخنازير الذين كتب الله عليهم الذل والذلة، أحبت الأمة الدنيا وكرهت الأمة الموت، ما عملت للموت وما استعدت للقاء الله. أقول عن نفسي: والله لو قيل لي: إنك الآن ستلقى الله جل وعلا وسيأتيك ملك الموت، لبكيت دماً بدل الدمع على حالي، ما الذي قدمت؟ وما الذي فعلت لألقى به الله جل وعلا؟ وماذا سأجيب على ربي إذا سألني؟ فهل فكرت -أيها الحبيب- في هذا السؤال؟ هل فكرت في عرضك على الكبير المتعال؟ هل يسعدك الآن أن تلقى الله عز وجل على ما أنت فيه من تقصير؟ هل يسعدك الآن أن تلقى الله على ما أنت فيه من تفريط وتضييع؟ أيها اللاهي! أيها الساهي! يا من غرتك المعاصي وشغلك الشيطان! دع عنك ما قد فات في زمن الصبا واذكر ذنوبك وابكها يا مذنب لم ينسه الملكان حين نسيته بل أثبتاه وأنت لاهٍ تلعب والروح منك وديعة أودعتها ستردها بالرغم منك وتسلب وغرور دنياك التي تسعى لها دار حقيقتها متاع يذهب الليل فاعلم والنهار كلاهما أنفاسنا فيها تعد وتحسب

التوبة إلى الله

التوبة إلى الله أيها الحبيب الكريم! انتبه. فإن الموت قادم، وكما رَهَّبْنا وجب علينا أن نُرَغِّبَ، وكما خوفنا يجب علينا أن نُرَجِّي. أيها الحبيب الكريم! أقبل على الله، وتب إلى الله، ولا تقنط ولا تيأس مهما بلغت ذنوبك، ومهما كثرت معاصيك وفرطت وضيعت وخالفت، فجدد التوبة، وجدد الأوبة، وجدد العودة، وعاهد ربك على أن تتوب إليه توبة نصوحاً. يا من ضيعت الصلاة! عد إلى الله وحافظ على الصلاة في جماعة، يا من ضيعت الزكاة! أد حق الله، يا من عصيت والدك! يا من عصيت أمك! يا من فرطت في حق الله! يا من آذيت إخوانك! يا من حاربت الله ورسوله! يا من صددت عن سبيل الله! يا من كتبت تقريراً لم تتق الله فيه في أخ من إخوانك فخربت بيته وأبكيت أعين أولاده! عد إلى الله، وتب إلى الله، واتق الله، واعلم أن الله جل وعلا غفور كريم تواب رحيم. لنتب إلى الله جميعاً أيها المؤمنون، {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]. أيها الحبيب الكريم! ورد في الحديث الذي رواه مسلم والترمذي من حديث أنس، واللفظ للترمذي أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (قال الله تعالى: يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض -أي: بملء الأرض خطايا- ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة). تب إلى الله وعد إلى الله أيها الحبيب، ولا تيأس ولا تقنط، {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:70]. فهيا أيها الشاب! عد إلى الله جل وعلا، وتب إلى الله سبحانه وتعالى، واعلم أن الله سيفرح بتوبتك وسيفرح بأوبتك، وهو الغني عن العالمين، لا تنفعه الطاعة ولا تضره المعصية، واعلم أن الدنيا إلى زوال، وأن الحياة الباقية في جنة عدن عند الكبير المتعال، {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:54 - 55]، (ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله هي الجنة)، والجنة فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. أيها الحبيب الكريم! ورد في سنن ابن ماجة وصحيح ابن حبان -وفي إسناده سليمان بن موسى مختلف فيه، وبقية رجال الإسناد ثقات- من حديث أسامة بن زيد أنه صلى الله عليه وسلم وصف الجنة يوماً لأصحابه فقال: (هي ورب الكعبة نور يتلألأ، وريحانة تهتز، وقصر مشيد، ونهر مطرد، وفاكهة كثيرة وزوجة حسناء جميلة ثم قال عليه الصلاة والسلام: ألا هل مشمر للجنة؟ قالوا: نحن المشمرون لها يا رسول الله. فقال لهم: قولوا: إن شاء الله عز وجل). وأختم بهذه الأبيات، يقول علي رضي الله عنه وأرضاه: النفس تبكي على الدنيا وقد علمت أن السلامة فيها ترك ما فيها لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبنيها فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها أموالنا لذوي الميراث نجمعها ودورنا لخراب الدهر نبنيها وكم من مدائن في الآفاق قد بنيت أمست خراباً وأفنى الموت أهليها أين الملوك التي كانت مسلطنة حتى سقاها بكأس الموت ساقيها إن المكارم أخلاق مطهرة الدين أولها والعقل ثانيها والعلم ثالثها والحلم رابعها والجود خامسها والعرف سادسها لا تركنن إلى الدنيا وزينتها فالموت لاشك يفنينا ويفنيها وأعمل لدار غداً رضوان خازنها والجار أحمد والرحمن بانيها قصورها ذهب والمسك طينتها والزعفران حشيش نابت فيها أنهارها لبن مصفى ومن عسل والخمر يجري رحيقاً في مجاريها والطير تجري على الأغصان عاكفة تسبح الله جهراً في مغانيها من يشتري الدار في الفردوس يعمرها بركعة في ظلام الليل يحييها واعلم أن نعيم الجنة الحقيقي ليس في لبنها، ولا في خمرها، ولا في ذهبها، ولا في قصورها، ولا في حورها، ولا في حريرها، ولكن نعيم الجنة الحقيقي في رؤية وجه ربنا، كما قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]. أسأل الله جل وعلا أن يمتعني وإياكم بالنظر إلى وجهه الكريم، اللهم اغفر لنا، وتقبل منا، وتب علينا، وارحمنا؛ إنك أنت التواب الرحيم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

ماذا بعد رمضان؟

ماذا بعد رمضان؟ أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحافظ على الأعمال الصالحة ويداوم عليها، وعادة ما يأتي شهر رمضان فيتعود الناس فيه على قراءة القرآن وصلاة القيام والتراويح والصدقة ونحوها من القربات ولكن ما أن ينقضي رمضان حتى تختفي تلك القربات في دنيا الناس، وكان ينبغي الدوام عليها والاستمرار، حتى يتم للمرء الفلاح ويختم الله له بالخير.

ثوابت إيمانية ينبغي المداومة عليها بعد رمضان

ثوابت إيمانية ينبغي المداومة عليها بعد رمضان إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء! وأيها الإخوة الأحباب الكرام الأعزاء! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله الحليم الكريم جل وعلا الذي جمعني مع حضراتكم في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار مقامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! ماذا بعد رمضان؟ هذا عنوان لقائنا مع حضراتكم في آخر يوم من أيام شهر الصيام والقيام والقرآن، وكعادتي حتى لا ينسحب بساط الوقت سريعاً من تحت أقدامنا، فسوف ينتظم حديثي مع حضراتكم في هذه العناوين المحددة التالية. أولاً: ثوابت الإيمان. ثانيا: حقيقة الإيمان. ثالثاً: فضل الاستقامة. فأعيروني القلوب والأسماع، فإن هذا الموضوع من الأهمية بمكان، والله أسأل أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب. أولاً: ثوابت الإيمان: أيها الأحبة الكرام! أيها الصادقون القائمون القارئون للقرآن هاهو شهر رمضان قد انتهى، انتهى شهر الصيام والقيام والقرآن والبر والجود والإحسان: فيا عين جودي بالدمع من أسف على فراق ليالٍ ذات أنوار على ليال لشهر الصوم ما جعلت إلا لتمحيص آثام وأوزار ما كان أحسننا والشمل مجتمع منا المصلي ومنا القانت القاري فابكوا على ما مضى في الشهر واغتنموا ما قد بقي إخوتي من فضل أعمار إنا لله وإنا إليه راجعون وهكذا أسرعت أيام الخير والبر والفضل والطاعة، ولا شك أن ربنا جل وتعالى قد اختص رمضان بكثير من رحماته وبركاته، فأنت ترى الناس تقبل على طاعة الله في رمضان بأريحية عجيبة، وبيسر وسهولة غريبة؛ لأن الله قد هيأ الناس في رمضان للطاعة، وقد سهل الطاعة للصادقين من المؤمنين في رمضان، ولكن يا إخوة: ليس معنى ذلك أن نعرض عن كثير من الثوابت الإيمانية بعد رمضان، فأنت ترى المساجد معطرة بأنفاس الصائمين في رمضان، وترى صفوف المصلين مزدحمة في رمضان؛ بل وترى البر والجود والإحسان والبذل والإنفاق والعطاء والذكر والتوبة والاستغفار، وترى حرص الناس على الطاعة، فترى المحسن يقول للمسيء إليه: اللهم إني صائم، يذكر نفسه بالله جل وعلا، وبطاعة الله. ليس معنى ذلك -أيها الأحبة الكرام- أن نعرض عن هذه الثوابت الإيمانية بعد رمضان، فإن للإيمان من الثوابت ما لا يستغني عنها مؤمن من المؤمنين حتى يلقى بها رب العالمين.

الحرص على قيام الليل

الحرص على قيام الليل ومن الثوابت الإيمانية التي يزيد إيمانك بها في قلبك: قيام الليل، فيا من عودت نفسك على قيام الليل في رمضان في صلاة التراويح لا تتخل عن هذا الزاد، فوالله يوم أن خرجت الأمة من مدرسة قيام الليل هانت وقست القلوب، وجمدت العيون. كان سعد بن أبي وقاص في القادسية يمر على خيام الأبطال والمجاهدين، فإذا رأى خيمة قام أهلها لله جل وعلا للصلاة، يقول سعد: من هنا يأتي النصر إن شاء الله. من قيام الليل يأتي النصر إن شاء الله من قيام الليل تأتي رقة القلب من قيام الليل تأتي دموع العين من قيام الليل تأتي طاعة الجوارح، لماذا؟ لأن الليل أنس المحبين، وروضة المشتاقين، وإن لله عباداً يرعون الظلال بالنهار كما يرعى الراعي غنمه، ويحنون إلى غروب الشمس كما تحن الطير إلى أوكارها، حتى إذا ما جنهم الليل، واختلط الظلام، وبسطت الفرش، وخلا كل حبيب بحبيبه؛ قاموا فنصبوا إلى الله أقدامهم، وافترشوا إلى الله جباههم، وناجوا ربهم بقرآنه، وطلبوا إحسانه وإنعامه، يقسم ابن القيم ويقول: فإن أول ما يعطيهم ربهم أن يقذف من نوره في قلوبهم. ففي الحديث الذي رواه ابن خزيمة والحاكم بسند حسن من حديث أبي أمامة، أنه صلى الله عليه وسلم قال: (عليكم بقيام الليل، فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقربة لكم إلى ربكم، ومكفر للسيئات، ومنهاة عن الإثم).

المحافظة على صلاة الجماعة

المحافظة على صلاة الجماعة من أعظم هذه الثوابت: أن تحافظ على الصلاة في جماعة كما كنت حريصاً أيها الصائم في رمضان، قال ربنا جل جلاله: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238]، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط!). وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له نزلاً في الجنة كلما غدا أو راح). وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أرأيتم لو أن نهراً على باب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات، أيبقى من درنه شيء؟ -أي هل سيبقى على جسده شيء من النجاسة أو القذر- قالوا: لا يا رسول الله! قال: فذلكم مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا).

المداومة على قراءة القرآن

المداومة على قراءة القرآن وقراءة القرآن من الثوابت الإيمانية التي لا يستغني عنها مؤمن بعد رمضان، وقد رأينا الصائمين -ولله الحمد- في أشد الحرص على قراءة القرآن في رمضان، فمنهم من قرأ القرآن كله مرة؛ بل ومنهم من قرأ القرآن كله مرتين، بل ومنهم من قرأ القرآن كله ثلاث مرات، ومنهم من زاد على ذلك، فلا تتخل عن القرآن بعد رمضان، ولا تضع المصحف في عزلته مرة أخرى، وتضعه على رفٍ من أرفف المكتبة في بيتك في رمضان، فإن المسلم لا غنى له أبداً عن كتاب الله جل وعلا. فلا بد أن تمتع بصرك، وأن تسعد قلبك وبصيرتك بالنظر يومياً في كتاب ربك تبارك وتعالى، قال الله عز وجل: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9]، وقال المصطفى صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث أبي أمامة: (اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه). وقال النبي صلى الله عليه وسلم كما في سنن الترمذي بسند صحيح من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: (من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، أما إني لا أقول (ألم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف). وعن النواس بن سمعان، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤتى يوم القيامة بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به، تقدمه سورة البقرة وآل عمران كأنهما غمامتان أو غيايتان أو غيابتان، أو فرقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما يوم القيامة). فلا تتخلّ أيها الموحد الصادق عن القرآن لا تتخل أيها الصائم عن القرآن لا تتخل أيها القائم عن القرآن، وهل ذلت الأمة وضاعت إلا يوم أن تخلت عن القرآن؟! {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30]، والهجر للقرآن أنواع: - هجر التلاوة. - وهجر السماع. - وهجر التدبر. -وهجر العمل بأحكام القرآن. - وهجر التداوي بالقرآن. - هجرت الأمة القرآن إلا من رحم ربك من أفراد، فذلت الأمة لإخوان القردة والخنازير، ولعباد البقر في كشمير، وللملحدين الملعونين في كوسوفا، وفي باكستان والشيشان، وللصليبيين الحاقدين في كوسوفا والبوسنة وفي كل مكان: ففي كل بلد على الإسلام دائرة ينهد من هولها رضوى وثهلان ذبح وصلب وتقتيل بإخوتنا كما أعدت لتشفي الحقد نيران يستصرخون ذوي الإيمان عاطفة فلم يغثهم بيوم الروع أعوان هل هذه غيرة أم هذه ضعة للكفر ذكر وللإسلام نسيان ووالله ما انتشر وانتفش الباطل وأهله إلا يوم أن تخلى عن القرآن أهله، أسأل الله أن يرد الأمة إلى القرآن رداً جميلاً.

تجديد التوبة والاستمرار عليها

تجديد التوبة والاستمرار عليها ومن الثوابت الإيمانية بعد رمضان: أن تكون دائم التوبة للرحيم الرحمن: من منا يستغني عن التوبة بعد رمضان؟! من منا يستغني عن الأوبة إلى الله مع كل نفس من أنفاس حياته؟ قال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ} [النور:31] لم يقل: أيها العاصون، ولم يقل: أيها المذنبون، بل قال: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم:8]. وفي صحيح مسلم من حديث ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا أيها الناس! توبوا إلى الله واستغفروه، فإني أستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائة مرة)، هذا الحبيب المصطفى الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يستغفر الله ويتوب إليه مائة مرة وأظن أننا نحتاج إلى أن نستغفر الله ونتوب إليه في اليوم ألف مرة، نحن نحتاج إلى التوبة مع كل نفس من أنفاس حياتنا، فجدد التوبة والأوبة.

المداومة على الذكر

المداومة على الذكر ومن الثوابت الإيمانية التي لا غنى للمسلم عنها بعد رمضان: أن يكون دائم الذكر للرحيم الرحمن، قال الله تبارك وتعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152]، وقال المصطفى صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري: (مثل الذي يذكر ربه، والذي لا يذكر ربه كمثل الحي والميت). فالذاكر لله حي ولو حبست منه الأعضاء، والغافل عن ذكر الله ميت وإن تحرك بين الأحياء. أخي الحبيب! لا تغفل عن ذكر رب الأرض والسماء، وحافظ على ذكر الله، ففي الحديث الطويل الذي رواه أحمد من حديث الصحيح الحارث الأشعري، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال (مثل الذي يذكر ربه كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعاً فأتى على حصن حصين فاحتمى به من عدوه، فذلك مثل الذاكر لله، يحتمي بالذكر من الشيطان)، فلا تتخل عن الذكر بعد رمضان.

الإنفاق في سبيل الله

الإنفاق في سبيل الله ومن الثوابت الإيمانية بعد رمضان أيضاً: الإنفاق، فأنت ترى الناس تقبل على الإنفاق والجود والبر في رمضان بيسر وأريحية، فلا تتخل عن الإنفاق بعد رمضان ولو بالقليل، قال ربنا جل جلاله: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:268]، وقال تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92]. وقال المصطفى صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث عدي بن حاتم: (ما منكم من أحد إلا وسيكلمه ربه يوم القيامة، ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر العبد أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم -أي: في الدنيا- وينظر العبد أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم -أي: في الدنيا- وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة). وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة: (ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً). فمن الثوابت الإيمانية التي لا غنى للمسلم عنها بعد رمضان أن يظل دائم البذل والإنفاق والعطاء، كل على قدر استطاعته قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، وقال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7].

حقيقة الإيمان

حقيقة الإيمان أيها الأحبة! هذه بعض الثوابت الإيمانية التي رأيناها في رمضان، ولا ينبغي لمسلم صادق أن يتخلى عن هذه الثوابت بعد رمضان، ونحن في أمس الحاجة إلى وصية سيد ولد عدنان إلى وصية الحبيب محمد عليه الصلاة والسلام، حينما جاءه سفيان بن عبد الله وحديثه في صحيح مسلم وقال: (يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: قل آمنت بالله ثم استقم). قل أيها الحبيب! آمنت بالله. ثم استقم، وهذا أمر من النبي صلى الله عليه وسلم لنا جميعاً، قولوا: آمنا بالله. ثم استقيموا، وهذا هو عنصرنا الثاني من عناصر اللقاء: حقيقة الإيمان.

الإيمان له حقيقة ونور وطعم وحلاوة

الإيمان له حقيقة ونور وطعم وحلاوة أيها الأحبة الكرام! إن الإيمان ليس كلمة تقال باللسان فحسب، ولكن الإيمان قول باللسان، وتصديق بالجنان، وعمل بالجوارح والأركان، فالإيمان له حقيقة، والإيمان له طعم، والإيمان له حلاوة، والإيمان له نور، وخذ الأدلة على كل كلمة. الإيمان له حقيقة، قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4]، فالإيمان قول، وتصديق، وعمل، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. حال الإيمان في قلبك في المسجد يختلف تماماً عن حال الإيمان في قلبك وأنت أمام مسلسل من المسلسلات، أو أمام فيلم من الأفلام، أو أمام مباراة من المباريات، شتان شتان بين حال الإيمان في قلبك في المسجد، وبين حال الإيمان في قلبك وأنت بعيد عن طاعة الرحمن جل وعلا، فالإيمان يزيد بالطاعة، وينقص بالمعاصي والزلات. قال حبيبنا صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الذي رواه الطبراني والحاكم في المستدرك بسند حسن من حديث عبد الله بن عمر: (إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب -أي: كما يبلى الثوب- فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم)، فالإيمان يحتاج إلى تجديد. أما طعم الإيمان فروى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً). والإيمان له حلاوة: روى البخاري ومسلم من حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، كما يكره أن يقذف في النار). والإيمان له نور، ولا تصرف لفظة النور عن ظاهرها، فقد جاء في الحديث الذي رواه الديلمي وأبو نعيم، وحسنه الألباني من حديث علي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من القلوب قلب إلا وله سحابة كسحابة القمر فبينا القمر مُضيء إذ علته سحابة فأظلم، فإذا تجلت عنه أضاء)، كذلك الإيمان له نور في القلب، فإذا تحركت سحابة كثيفة مظلمة من سحب المعاصي والذنوب حجبت تلك السحابة نور الإيمان في القلوب كما تحجب سحابة السماء الكثيفة المظلمة نور القمر عن الأرض، فإذا انقشعت السحابة أضاء القمر في الأرض مرة أخرى، كذا إذا انقشعت سحب المعصية أضاء الإيمان في القلب مرة أخرى كما يضيء القمر في أفق السماء، فالإيمان له حقيقة، وله طعم، وله نور، وله حلاوة.

مثال يبين تحقق وعد الله لمن حققوا الإيمان

مثال يبين تحقق وعد الله لمن حققوا الإيمان أيها الأحباب! بهذا الإيمان تحول أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من رعاة للإبل والغنم إلى سادة وقادة للدول والأمم، واسمحوا لي أن أكرر هذه اللفظة، وأقول: بهذا الإيمان تحول الصحابة من أفراد مجهولين تماماً لا ذكر لهم ولا كرامة في أرض الجزيرة؛ تحولوا من رعاة للإبل والغنم إلى سادة وقادة للدول والأمم! والله ما عرفنا شيئاً عن أبي بكر قبل الإيمان، والله ما عرفنا عمر بن الخطاب قبل الإيمان، والله ما عرفنا خالد بن الوليد قبل الإيمان، والله ما عرفنا هؤلاء الأطهار إلا يوم أن تخرجوا من جامعة الإيمان على يد المربي الذي رباه الله على عينه ليربي به الدنيا. وسأضرب لحضراتكم مثالاً واحداً فقط لاستعلاء هذا الإيمان في قلوب هؤلاء الصادقين، لنقف على حجم الهوة السحيقة، بين إيماننا وبين إيمان سلفنا رضوان الله عليهم، أسأل الله أن يلحقنا بهم على الخير والطاعة. هاهو ربعي بن عامر جندي ضعيف البنية، قصير القامة، قوي الإيمان، لما هزمت جيوش كسرى أمام جيوش التوحيد بقيادة سعد بن أبي وقاص قال كسرى: لأرمين المسلمين بقائدي الذي ادخرته ليوم الكريهة، وكان قائده هذا الذي كان يربى كما تربى العجول والبهائم هو رستم. وتولى رستم قيادة الجيوش الكسروية، وهزمت الجيوش الكسروية بقيادة رستم، أمام جحافل الإيمان وأبطال التوحيد، بقيادة خال النبي سعد بن أبي وقاص، فأرسل رستم رسالة إلى القائد سعد: أن أرسل إلينا رسولاً من قبلك لنسمع منكم ولتسمعوا منا، وليفاوضنا ولنفاوضكم. فاختار سعد بن أبي وقاص ربعي بن عامر رضي الله عن ربعي أقول لكم: إن كتب التاريخ، وإن كتب السير تصف ربعي بن عامر بأنه كان قصير القامة، ضعيف البنية، لكنه كان قوي الإيمان. فركب فرسه، وانطلق بثياب متواضعة جداً، فأرادوا أن يمنعوه حتى لا يدخل على سيدهم رستم وهو على ظهر جواده، وطلبوا منه أن يترجل -يعني: أن يمشي على رجليه- فأبى، وقال: أنا لم آتكم، وإنما جئتكم حين دعوتموني، فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت، فسمعه رستم فقال: ائذنوا له، فدخل ربعي على ظهر جواده. تقول بعض الروايات: إنه ربط فرسه في رجل الكرسي الذي جلس عليه رستم، ومشى استعلاء في موطن يحب الله فيه الخيلاء والفخر -وشتان بين استعلاء المؤمنين واستعلاء المتكبرين- فمشى ربعي يتكئ برمحه على الفرش لا ليمزق الفرش، بل ليمزق قلب رستم، فصرخ فيه رستم: من أنتم؟! فقال: ربعي: نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، فمن قبل منا قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن حال بيننا وبين دعوة الناس بدين الله قاتلناه حتى نفضي إلى موعود الله. قال رستم: وما موعود الله؟ قال ربعي: الجنة لمن مات منا، والنصر لمن بقي من إخواننا. فقال رستم: سمعت قولك، فهل لكم أن تؤجلونا لننظر في أمرنا ولتنظروا في أمركم؟ قال ربعي: لقد سن لنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن لا نؤخر الأعداء عند اللقاء أكثر من ثلاث، فانظر في أمرك وأمرهم واختر لنفسك واحدة من ثلاث انظروا إلى العزة. قال رستم: وما هي؟! قال ربعي الأولى: الإسلام ونرجع عنك. قال رستم وما الثانية؟ قال ربعي: الجزية، وإن احتجت إلينا نصرناك! الجزية التي تدفعها الأمة الآن كاملة غير منقوصة: آهٍ يا مسلمون متنا قروناً والمحاق الأعمى يليه محاق أي شيء في عالم الغاب نحن آدميون أم نعاج نساق نحن لحم للوحش والطير منا الجثث الحمر والدم الدفاق وعلى المحصنات تبكي البواكي يا لعرض الإسلام كيف يراق قد هوينا لما هوت وأعدوا وأعدوا من الردى ترياق واقتلعنا الإيمان فاسودت الد نيا علينا واسودت الأعماق وإذا الجذر مات في باطن الأر ض تموت الأغصان والأوراق قال رستم: وما الثالثة؟ قال ربعي: القتال، ولن نبدأك بالقتال فيما بيننا وبين اليوم الثالث إلا إن بدأتنا أنت. فقال رستم: أسيدهم أنت؟ يعني: هل أنت قائدهم الذي تصدر الأوامر وتخطط وتتكلم بهذه الثقة؟ قال: لا، ولكن المسلمين تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم على أعلاهم. بهذا الإيمان سادوا بهذا الإيمان قادوا بهذا الإيمان تحولوا من رعاة في الجزيرة للإبل والغنم إلى سادة وقادة للدول والأمم، ولن ولن ولن -أكررها ثلاثاً- لن تتحقق النصرة والعزة والتمكين والاستقلال إلا إذا حققت الأمة الإيمان؛ لأن الله قد وعد بالنصرة والعزة والاستخلاف والتمكين للمؤمنين، والإيمان ليس مجرد كلمة: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]، {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8]، {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور:55] إلى آخر الآية. العزة والتمكين والنصر للمؤمنين، فكن على يقين بأن القلة المؤمنة التي تستحق النصرة والعزة والتمكين لا توجد بعد، فالإيمان ليس كلمة فحسب؛ بل قول وتصديق وعمل. انظر إلى واقع الإيمان في الأمة الآن، كم من أناس ينتسبون الآن إلى الإسلام لا يصلون، ويتعاملون بالربا، ويعاقرون الزنا. غيبت الشريعة ونحي القرآن، ووثقت الأمة الآن في أمريكا أو في بعض دول الأرض أكثر من ثقتها في خالق السماء والأرض، فالأمة تحتاج إلى أن تصحح وتحقق وتجدد الإيمان الذي به فقط تصبح الأمة أهلاً للنصرة والعزة، وأهلاً للاستخلاف والتمكين، وإلا فبدون الإيمان لن نرى شيئاً من هذا؛ لأن الله وعد بالنصرة والعزة والاستخلاف والتمكين للمؤمنين، أسأل الله أن يرزقنا وإياكم الإيمان الصادق، وأن يرد الأمة إلى الإيمان رداً جميلاً. وأخيراً: أيها الحبيب الكريم! فضل الاستقامة أي: على هذا الإيمان، وعلى هذه الثوابت، وأرجئ الحديث عنها إلى ما بعد جلسة الاستراحة، وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

فضل الاستقامة

فضل الاستقامة الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد:

ما أعده الله لأهل الاستقامة في الجنة

ما أعده الله لأهل الاستقامة في الجنة في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فلو ذهبت إلى رجل من أهل الكرم والفضل، وأعد لك نزلاً -أي: ضيافة- فيعدها لك على قدر كرمه هو. إن أهداك رجل من أهل الدنيا هدية فسيهديها لك على قدر كرمه هو، وأرجو أن تتصور معي -أيها الصائم القائم الموحد لله- نزلاً يعده لنا ملك الملوك جل جلاله. إذا أردت أن تقف على شيء من هذا النزل فقس على منزلة أقل رجل في الجنة، وأرجو أن تتصور أنت بعد ذلك منزلة السابقين الأولين، منزلة أصحاب الدرجات العالية، ففي صحيح مسلم من حديث المغيرة بن شعبة أن الحبيب صلى الله عليه وسلم قال: (سأل موسى بن عمران ربه عز وجل عن أدنى أهل الجنة منزلة، ذاك رجل يجيء فيقول الله له: ادخل الجنة، فينطلق، ثم يرجع الرجل إلى الله مرة ثانية ويقول: يا رب! لقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم، وفي لفظ يقول: يا رب! وجدتها ملأى، ليس لي مكان في الجنة: فيقول الرب سبحانه: أترضى أن يكون ملكك في الجنة كملك ملك من ملوك الدنيا؟) هل تعلمون ملك الملوك؟ فيقول: رضيت يا رب، فيقول الرب سبحانه: لك ذلك، لك في الجنة مُلك مَلك من ملوك الدنيا). لكن قلت لحضراتكم: بأن الكريم يعطي على قدر كرمه، وبأن الرحيم يعطي على قدر فضله، فيقول الكريم سبحانه: (لك ذلك ومثله -يعني: ضعفه- لك ذلك ومثله، ومثله، ومثله، ومثله، ومثله، فيقول العبد في المرة الخامسة: رضيت يا رب رضيت يا رب، فيقول الرب: لك ذلك وعشرة أمثاله معه، ولك ما اشتهت نفسك. قال موسى بن عمران: يا رب! هذا أدنى أهل الجنة منزلة، فما أعلاهم منزلة؟ قال: أولئك الذين أردت، غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها، فلم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر). أبت نفسي تتوب فما احتيالي إذا برز العباد لذي الجلال وقد نصب الصراط لكي يجوزوا فمنهم من يكب على الشمال ومنهم من يسير لدار عدن تلقاه العرائس بالغوالي يقول له المهيمن يا وليي غفرت لك الذنوب فلا تبالي اللهم اغفر لنا الذنوب، واستر لنا العيوب، وفرج لنا الكروب! اللهم لا تدع لأحد منا في آخر يوم من أيام رمضان ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصياً بيننا إلا هديته، ولا طائعاً معنا إلا زدته وثبته، ولا حاجة هي لك رضاً ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا رب العالمين! يا رب! اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا شقياً ولا محروماً! اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى، اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى، اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى! يا رب! لا تخرجنا من هذا المكان إلا بذنب مغفور، وسعي مشكور، وتجارة لن تبور، برحمتك يا عزيز يا غفور! اللهم لا تخرجنا من هذا المسجد في آخر جمعة من رمضان إلا وقد غفرت لنا أجمعين مهما كانت الذنوب وكثرت العيوب، برحمتك يا ستار العيوب! يا علاّم الغيوب! يا غفار الذنوب! لا إله لنا سواك فندعوه، لا إله لنا سواك فندعوه، ولا رب لنا غيرك فنرجوه، يا من إليه يلجأ الخائفون، وعليه يتوكل المتوكلون، ولعظيم فضله تبسط الأيدي ويسأل السائلون، يا رب! اختم لنا رمضان برضوانك، اختم لنا رمضان برضوانك، اختم لنا رمضان برضوانك، واجعل مآلنا إلى رضوانك، واجعل مصيرنا في جنانك، ونجنا من سخطك ونيرانك. اللهم استرنا ولا تفضحنا، وأكرمنا ولا تهنا، وكن لنا ولا تكن علينا، يا منقذ الغرقى، ويا منجي الهلكى! ويا سامع كل نجوى! يا عظيم الإحسان! يا دائم المعروف! يا دائم المعروف! يا دائم المعروف! اللهم لا تعاملنا بما نحن أهله، فنحن أهل المعاصي والذنوب، وعاملنا بما أنت أهله، فأنت أهل المغفرة والرحمة يا علام الغيوب! اللهم استر نساءنا واحفظ بناتنا، وأصلح أخواتنا وشبابنا، واهد أولادنا، اللهم رب لنا أولادنا، ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، واجعلنا للمتقين إماماً. يا رب! انصر إخواننا في الشيشان، يا رب! انصر إخواننا في الشيشان، اللهم إنك ترى عجزنا وضعفنا، ونحن لا نملك لهم إلا الدعاء، فتقبل دعاءنا لهم يا رب الأرض والسماء، اللهم تقبل دعاءنا لهم يا رب الأرض والسماء، شتت شمل الروس الملعونين، شتت شمل الروس الملعونين، شتت شمل الروس الملعونين، اللهم أعم أبصارهم، اللهم شتت رميهم، اللهم شتت رميهم، اللهم اجعل رميهم بعيداً عن أهلنا وإخواننا وأخواتنا. اللهم أعم أبصارهم، وشتت رميهم، ومزق صفهم، وزلزل أركانهم، وشل جوارحهم وأعضاءهم، واملأ قلوبهم وبيوتهم ناراً، أرنا فيهم يوماً كيوم عاد وثمود، أرنا فيهم يوماً كيوم عاد وثمود. يا من هزمت الأحزاب، ونصرت محمداً في بدر، وأيدته بجند من عندك، أيد إخواننا في الشيشان بجند من عندك يا رحيم يا رحمن! اللهم وحد صفهم، وألف كلمتهم، وسدد رميهم، وانصرهم نصراً مؤزراً، واجعل سلاح وعتاد الروس غنيمة لهم يا أرحم الراحمين! اللهم انصر إخواننا في فلسطين، اللهم انصر إخواننا في فلسطين على اليهود الملعونين وعلى أعوانهم المنافقين والمجرمين، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، وأعل بفضلك كلمة الحق والدين، وانصر المجاهدين عامة في كل مكان يا أرحم الراحمين! اللهم اشف صدور قوم مؤمنين بنصرة الإسلام وعز الموحدين. يا رب اجعل مصر واحة للأمن والأمان، اللهم نج مصر من الفتن، اللهم نج مصر من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم إنك تعلم أن أعداءنا يتكالبون على هذا البلد، فاحفظه من الفتن ما ظهر منها وما بطن برحمتك يا رب العالمين! يا رب! اجعل مصر أمناً أماناً سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين، اللهم اجعل مصر أمناً أماناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين. اللهم اجعل مصر أمنا أماناً سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين، اللهم احفظ أهل هذا البلد الكريم، اللهم احفظ أهل هذا البلد الكريم، ورد ولاة أمره للحكم بشريعتك يا أرحم الراحمين! أنت ولي ذلك والقادر عليه. اللهم أغننا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك، اللهم اقبلنا وتقبل منا، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم!

تنزل الملائكة بالبشرى لأهل الاستقامة عند الموت وعند البعث

تنزل الملائكة بالبشرى لأهل الاستقامة عند الموت وعند البعث فيا أيها الأحبة الكرام! إن الاستقامة على الإيمان لها فضل عظيم، وخير عميم، وأثر في حياة المؤمن، ألا وهو الثبات على هذا الدين في الحياة وعند الممات، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:30 - 32]. هذا فضل الاستقامة: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا)، أي: على الإيمان بالله على ثوابت الإيمان على طريق الله وعلى طريق رسول الله (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) متى تتنزل الملائكة على أهل الإيمان والاستقامة؟! قال مجاهد وزيد بن أسلم وغيرهما: تتنزل الملائكة على أهل الإيمان والاستقامة وهم على فراش الموت. يا رب! اجعلنا منهم، يا رب! في هذه اللحظات لحظات السكرات والكربات هل تعلم أنها لحظات قد اشتدت على حبيب رب الأرض والسماوات؟! ففي الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: مات رسول الله بين سحري ونحري -أي: على صدرها- ثم قالت: (والله لا أكره شدة الموت لأحد بعدما رأيت رسول الله قد اشتد الموت عليه حتى كان النبي صلى الله عليه وسلم يضع يده في ركوة بها ماء -أي: في قدح به ماء- ويمسح العرق عن جبينه وهو يقول: لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات! لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات). وفي رواية أحمد بسند صحيح: (كان المصطفى صلى الله عليه وسلم يقول: لا إله إلا الله، إن للموت سكرات! اللهم هوّن عليّ سكرات الموت). في هذه اللحظات لحظات السكرات والكربات تتنزل الملائكة على أهل الاستقامة والإيمان برب الأرض والسماوات، فترى المؤمن المستقيم على الطاعة في هذه اللحظات مبتسماً سعيداً، ويخفف الله عليه السكرات والكربات، فإذا اشتد الكرب والهم والغم والألم تنزلت الملائكة بهذه البشارة: (أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ)، فيقول المؤمن المستقيم: يا لها من فرحة وسعادة! من أنتم؟ فيكون A ( نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ)، روى الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح من حديث أبي هريرة، أنه صلى الله عليه وسلم قال: (تحضر الملائكة -عند الموت، فإذا كان الرجل صالحاً قالت الملائكة وهي تخاطب روحه: أيتها الروح الطيبة في الجسد الطيب اخرجي حميدة، وأبشري بروح وريحان، ورب راض غير غضبان)، (نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ)، قال ابن عباس وابن أبي حاتم وغيرهما: (تتنزل الملائكة على أهل الإيمان والاستقامة عند الخروج من القبور يوم البعث والنشور). وأنا أقول: لا تعارض بين القولين، بل إن الجمع بينهما هو الأصل عندي، فالملائكة تتنزل على أهل الإيمان والاستقامة مرتين: مرة وهم على فراش الموت، ومرة إذا خرجوا من القبور يوم البعث والنشور، لتذكرهم ملائكة العزيز الغفور بهذه البشارة: (نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ)، بنص الآية: (وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا) يعني: في الجنة (مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ). (نزلاً) أي: ضيافة وإنعاماً وإكراماً (من غفور) غفر لكم الذنوب، (رحيم) رحمكم يوم الأهوال والكروب، وستر عليكم الزلات واليعوب.

الإسلام قادم تعليق على الأحداث الأخيرة

الإسلام قادم تعليق على الأحداث الأخيرة غاصت الأمة الإسلامية في أوحال المعاصي والذنوب، إلا من رحم الله، فنتج عن ذلك أن زحف اليأس إلى قلوب كثير من المسلمين، من عودة الأمة إلى دين ربها وسنة نبيها، ولكن تباشير الفجر قد اقترب ظهورها، تنبئ بمستقبل مشرق للإسلام، وإن الأحداث التي تجري في مختلف أنحاء الأرض، لأكبر شاهد على ذلك.

واقع الأمة

واقع الأمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين. اللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحفاده وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء! وأيها الإخوة الأحباب الكرام الأعزاء! وطبتم جميعاً وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلا، وأسأل الله العظيم الكريم الحليم جل وعلا، الذي جمعنا في هذا الجمع الكريم المهيب المبارك على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار مقامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! إن الإسلام قادم! هذا هو عنوان لقائنا مع حضراتكم في هذا اليوم الكريم المبارك، وفي هذه الظروف العصيبة الرهيبة التي تمر بها أمتنا. وسوف أركز الحديث مع حضراتكم تحت هذا العنوان في العناصر التالية: أولاً: واقع أليم. ثانياً: ولكن الإسلام قادم. ثالثاً: منهج عملي واجب التنفيذ. فأعيروني القلوب والأسماع جيداً، والله أسأل أن يقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، وأن يشفي صدور قوم مؤمنين، إنه ولي ذلك ومولاه، وهو على كل شيء قدير.

الأمة لم تمت ولكن طال نومها

الأمة لم تمت ولكن طال نومها لا شك أن الأمة نامت وطال نومها، ولا شك أن الأمة مرضت واشتد مرضها، ولكن الأمة بحول الله -مع ما ذكرت- لم تمت ولن تموت بموعود الصادق الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم، فإن أبناء الطائفة المنصورة في هذه الأمة لا يخلو منهم زمان بشهادة الصادق الذي لا ينطق عن الهوى كما في الصحيحين من حديث معاوية رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس). أسأل الله أن يجعل هذا الجمع الكريم كله من هذه الطائفة المنصورة التي تعيش لدين الله وتتمنى أن تنصر دين الله بكل سبيل. والله ثم والله إنني لأعتقد اعتقاداً جازماً أنه لو دعي الآن إلى الجهاد في سبيل الله تحت كتاب الله وشريعة رسول الله لرأت أميركا العجب العجاب! ولعلم اليهود أن محمداً ما مات وخلف بنات، كما يدعي اليهود المجرمون!! بل سيعلم العالم كله أن محمداً ترك رجالاً يتمنون -ورب الكعبة- أن تسد أجسادهم فوهات مدافع الأمريكيين ومدافع اليهود؛ ليرفعوا راية لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، هل يتبناها زعيم مسلم على وجه الأرض؟! نتمنى زعيماً مسلماً يحكّم شريعة الله ويحكّم سنة رسول الله وليقل: حي على الجهاد، حي على الجهاد، وسيرى العالم الملايين المملينة من شباب هذه الأمة خارجاً لنصرة دين الله جل وعلا. اللهم ارفع راية الجهاد، اللهم ارفع علم الجهاد، اللهم ارفع علم الجهاد، اللهم ارفع علم الجهاد، اللهم ارفع علم الجهاد، اللهم اقمع أهل الزيغ والفساد، اللهم اقمع أهل الزيغ والفساد، اللهم انصر دينك وكتابك وعبادك المؤمنين يا قوي يا عزيز! أيها المسلمون! إن الطائفة المنصورة لا يخلو منها زمان ولا مكان على وجه الأرض: (لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس). لئن عرف التاريخ أوساً وخزرجاً فلله أوس قادمون وخزرج وإن كنوز الغيب تخفي طلائعاً حر رغم المكائد تخرج وقال آخر: صبح تنفس بالضياء وأشرقا وهذه الصحوة الكبرى تهز البيرقا وشبيبة الإسلام هذا فيلق في ساحة الأمجاد يتبع فيلقا وقوافل الإيمان تتخذ المدى ضرباً وتصنع للمحيط الزورقا ما أمر هذه الصحوة الكبرى سوى وعد من الله الجليل تحققا هي نخلة طاب الثرى فنمى لها جذع قوي في التراب وأعذقا هي في رياض قلوبنا زيتونة في جذعها غصن الكرامة أورقا فجر تدفق من سيحبس نوره أرني يداً سدت علينا المشرقا

واقع مر أليم

واقع مر أليم أحبتي الكرام! لقد ابتليت الأمة الإسلامية بنكسات وأزمات كثيرة على مرِّ الزمان، مروراً بأزمة الردة الطاحنة، والهجمات التترية الغاشمة، والحروب الصليبية الطاحنة، لكن الأمة مع كل تلك الأزمات كانت تمتلك مقومات النصر: من إيمان صادق، وثقة مطلقة في الله، واعتزاز بهذا الدين، فكتب الله جل وعلا لها النصر والعز والتمكين، ولكن واقع الأمة المعاصر واقع أليم، فقدت فيه الأمة جُل مقومات النصر! بعد أن انحرفت انحرافاً مروعاً عن منهج رب العالمين، وعن سبيل سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، انحرفت الأمة ووقعت في انفصام نَكد مُزرٍ بين منهجها المنير وواقعها المؤلم المرير، انحرفت الأمة في الجانب العقدي، والجانب التعبدي، والجانب التشريعي، والجانب الأخلاقي، والجانب الفكري، بل وحتى في الجانب الروحي. وما تحياه الأمة الآن من واقع أليم وقع وفق سنن ربانية لا تتبدل ولا تتغير ولا تحابي هذه السنن أحداً من الخلق بحال مهما ادعى لنفسه من مقومات المحاباة، بل ولن تعود الأمة إلى عزها ومجدها إلا وفق هذه السنن التي لا يجدي معها تعجل الأذكياء ولا هم الأصفياء، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11] والله! لقد غيرت الأمة وبدلت في جميع الجوانب، بل لقد وقعت الأمة في العصر الحديث في المنكر الأعظم، ألا وهو: أن نحت شريعة الكبير المتعال، وشريعة سيد الرجال، وحكّمت في الأعراض والأموال والحروث والثمار القوانين الوضعية الكافرة التي وضعها مهازيل البشر على وجه الأرض! استبدلت الأمة بالعبير بعراً، وبالثريا ثرى، وبالرحيق المختوم حريقاً محدقاً مدمراً! وولت الأمة شريعة الله وشريعة رسول الله ظهرها، وراحت تلهث وراء الشرق الملحد تارة، ووراء الغرب الكافر تارة أخرى، وظنت الأمة المسكينة أنها قد ركبت قوارب النجاة، فغرقت وأغرقت، وهلكت وأهلكت، ولن تعود الأمة إلى سيادتها وريادتها إلا إذا عادت من جديد إلى أصل عزها ونبع شرفها ومعين شرفها ومعين بقائها ووجودها وهو: كتاب ربها وسنة الحبيب نبيها صلى الله عليه وسلم.

الأمة قصعة مستباحة

الأمة قصعة مستباحة انحرفت الأمة فزلَّت وأصبحت قصعة مستباحة لكل أمم الأرض، وصدق في الأمة قول الصادق الذي لا ينطق عن الهوى كما في حديثه الصحيح الذي رواه أحمد وأبو داود من حديث ثوبان أنه صلى الله عليه وسلم قال: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟! قال: كلا، ولكنكم يومئذ غثاء كغثاء السيل، وليوشكن الله أن ينزع المهابة من قلوب عدوكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن. قيل: وما الوهن يا رسول الله؟! قال: حب الدنيا، وكراهية الموت). لقد أصبحت الأمة الآن غثاء من النفايات البشرية، تعيش متفرقة في دويلات متناثرة، بل متصارعة، بل متحاربة، تدخل بينها حدود جغرافية مصطنعة، وأعراف قومية منتنة، وصارت ترفرف على سماء الأمة -بلا استثناء- رايات القومية والوطنية! وتحكم الأمة كلها قوانين الغرب العلمانية! وتدور الأمة كلها في الدوامات السياسية، فلا تملك الأمة نفسها عن الدوران، بل ولا تختار لنفسها حتى المكان الذي ستغور فيه! فأُبدلت ذلاً بعد عزة وجهلاً بعد علم، وضعفاً بعد قوة، وأصبحت الأمة الإسلامية في ذيل القافلة الإنسانية كلها، بعد أن كانت في الأمس القريب جداً الدليل الحاذق الأريب، حيث كانت تقود القافلة الإنسانية كلها بجدارة واقتدار، وأصبحت الأمة الآن تتسول على موائد الفكر الإنساني والعلمي كله!! بعد أن كانت بالأمس القريب جداً منارة تهدي الحيارى والتائهين ممن أحرقهم لفح الهاجرة القاتل، وأرهقهم طول المشي في التيه والظلام، وأصبحت الأمة المسكينة تتأرجح في سيرها، بل لا تعرف طريقها الذي ينبغي أن تسلكه، والذي يجب أن تسير فيه! بعد أن كانت الأمة بالأمس القريب الدليل الحاذق الأريب في الدروب المتشابكة، وفي الصحراء المهلكة التي لا يهتدي للسير فيها إلا الأدلاء المجربون. أهذه هي الأمة التي زكاها الله في القرآن بالخيرية في قوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]؟! أهذه هي الأمة التي زكاها الله في القرآن بالوسطية في قوله سبحانه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143]؟! أهذه هي الأمة التي أمرها الله بوحدة الصف والاعتصام بحبل الله المتين في قوله سبحانه: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103]، وفى قوله سبحانه: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105]؟! إن الناظر إلى الأمة في واقعنا المعاصر سينقلب إليه بصره خاسئاً وهو حسير؛ فإن واقع الأمة الأليم لا يكاد يخفى الآن على أحد، وما تتعرض إليه الأمة اليوم -لا أقول العراق، بل ما تتعرض له الأمة كلها اليوم- من إذلال مهين من قلعة الكفر على ظهر الأرض أمريكا، ما تتعرض له الأمة كلها الآن من ذل وهوان وضرب بالنعال؛ ليؤكد تأكيداً جازماً هذا الواقع المر الأليم، الذي لا يحتاج من داعية أو عالم من علماء الأمة الآن إلى مزيد بيان أو إلى مزيد تشخيص أو تدليل!! فإن الواقع الأليم الذي تحياه الأمة لا يجهله إلا مسلم لا يعيش إلا لشهواته الحقيرة ونزواته الرخيصة، أما مسلم يحترم نفسه يحترم أمته يحترم هذا الدين لا أظن ألبتة أنه يجهل هذا الواقع الأليم.

الإسلام قادم

الإسلام قادم عنصرنا الثاني: ولكن الإسلام قادم!! هذا وعد ربنا برغم أنف المشركين والمنافقين، وهذا وعد نبينا برغم أنف المشركين والمنافقين والمجرمين! إن الإسلام قادم يا شباب! نعم، أنا أعي ما أقول، وأعي واقع الأمة المر الأليم الذي أشرت إليه باختصار، ومع ذلك أؤكد لكم جميعاً: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139]، بالإيمان لن تهنوا بالإيمان لن تحزنوا بالإيمان أنتم الأعلون، والله إنني لأعتقد اعتقاداً جازماً أنه لا يوجد على وجه الأرض -أبداً- شر محض، وحتى مع ما نراه الآن من تهديدات لا للعراق فحسب، بل للأمة كلها، إن هذا الشر سيجعل الله جل وعلا فيه خيراً كثيراً؛ فما من أزمة مرت بالأمة إلا وجعلها الله تبارك وتعالى سبباً لقوة الإسلام، وما من ابتلاء إلا وجعله الله سبباً لتمحيص الصف، وسبباً لتمييز الخبيث من الطيب، قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2 - 3]. ولقد ذكر سلطان العلماء الإمام العز بن عبد السلام في البلاء سبع عشرة فائدة، فلا تظنوا أبداً أنه مع هذه الأزمة سيزول الإسلام، وسينتهي المسلمون!! لا والله. لقد هجم القرامطة على المسلمين في بيت الله! وذبحوا الطائفين حول بيت الله، واقتلع أبو طاهر القرمطي الخبيث المجرم الحجر الأسود من الكعبة! وظل يصرخ بأعلى صوته في صحن الكعبة، وهو يقول: أين الطير الأبابيل؟! أين الحجارة من سجيل؟! انظروا إلى هذه الفتنة العاصفة!! وظل الحجر الأسود بعيداً عن بيت الله ما يزيد على عشرين سنة! ومع ذلك رد الله الحجر، ورد المسلمين إلى دينه، وانتصر الإسلام على القرامطة كما تعلمون. وهاجم التتار بغداد، وظلوا يذبحون ويقتلون المسلمين أربعين يوماً! حتى امتلأت شوارع بغداد بالدماء، ومع ذلك رد الله المسلمين إلى الإسلام، وأخزى التتار وهزمهم شر هزيمة على أيدي الصادقين المخلصين الأبرار: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ}، لكننا نريد الإيمان، نريد أن تحقق الأمة الإيمان قال تعالى: {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139] تدبروا قول رب العالمين: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:8 - 9]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36]. ما يزيد على مائة وخمسين بليوناً من الدولارات أنفقت في حرب الحادي والتسعين، وما هي النتيجة؟! (ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ) ما زال الإسلام قوياً شامخاً، وسيبقى الإسلام قوياً شامخاً. أين التتار؟! أين الصليبيون؟! أين المجرمون؟! بل أين فرعون؟! بل أين هامان؟! أين أصحاب الأخدود؟! أين كل من عادى الإسلام؟! هلك الجميع وبقي الإسلام، وسيبقى بموعود الرحمن وسيد ولد عدنان: (فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ).

انتشار المساجد في بلاد الكفر

انتشار المساجد في بلاد الكفر لقد بلغ عدد المساجد في قلعة الكفر ما يقرب من ألفي مسجد، ففي ولاية (نيويورك) وحدها مائة وخمسة وسبعون مركزاً إسلامياً ومسجداً. حتى في هذه البلاد يظهر الإسلام، ألم يقل ربنا: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة:33]؟! إن الإسلام دين الفطرة، وإن الإسلام قادم لا محالة، مهما وُضِعت في طرقه العقبات والسدود والعراقيل: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33]، إنه وعد الله جل وعلا. وآخر الإحصائيات في فرنسا تقول: عدد المسلمين في فرنسا يزيد على خمسة ملايين مسلم، وفي بريطانيا المجرمة: عدد المسلمين فيها الآن يزيد على مليوني مسلم، وفي كل سنة يدخل الإسلام من البريطانيين ما يزيد على الألفين من أصول بريطانية. أرقام تبشر بخير، فالإسلام دين الفطرة كما ذكرنا، وهؤلاء إن سمعوا عن الإسلام وعرفوا صورته الحقيقية جاءوا مسرعين إلى دين الفطرة؛ لأنهم يعيشون حالة قلق رهيبة. ومن سافر إلى بلاد الشرق والغرب ووقف على حجم عيادات الطب النفسي، عرف حجم هذا الخطر، فإنهم كما ذكرت قبل ذلك قد أعطوا البدن كل ما يشتهيه، وبقيت الروح في أعماق أبدانهم تصرخ وتبحث عن دوائها وغذائها، ولا يعلم دواء الروح وغذاءها إلا الله، قال جل في علاه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85]. وفي تركيا يريد العلمانيون الآن بكل قوة أن يخلعوا عنها عباءة الإسلام، يقول لي أخ تركي في هذه الزيارة الأخيرة: إن عدد المساجد في تركيا يزيد عن خمسة وستين ألف مسجد، ويقسم لي بالله أنهم في رمضان الماضي كانوا يصلون في صلاة الفجر خارج المسجد كأنهم في صلاة الجمعة، انظر إلى الطحن والضربات التي تكال على تركيا كيلاً، يريد أتباع أتاتورك الخبيث الهالك أن يجعلوها علمانية، بعيدة عن الإسلام!! ولكنهم عاجزون، إنهم يرقصون رقصة الموت؛ لما يرون كل يوم شباباً في ريعان الصبا، وفتيات في عمر الورود، يغذون هذا المد الإسلامي الهائل، لا أقول في مصر وفي بلاد المسلمين، بل في العالم كله!!

بشارات نبوية

بشارات نبوية إننا والله نرى العجب العجاب! ونرى الخير الكثير!! وهذا من باب قول الله سبحانه: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139]، وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد من حديث حذيفة بن اليمان -وهو حديث صحيح- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً، فتكون فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرياً فتكون فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة). أسأل الله أن يعجل بها وأن يمتعنا بالعيش في ظلالها، وإن لم يقدر لنا ذلك، فأسأله ألا يحرم أبناءنا وأولادنا، إنه ولى ذلك والقادر عليه. وفي الحديث الذي رواه مسلم من حديث ثوبان أن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها). م اليأس؟!! ولم القنوط؟!! إن هذا التقهقر سيزيد النشيط خذلاناً، وسيزيد اليائس والقانط قنوطاً ويأساً. الرسول -في أحلك الأوقات والأزمات وهو يُطارد، وأصحابه مهاجرون- يقول ل خباب بن الأرت: (والذي نفس محمد بيده لَيُتِمَّنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه). {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139]. واعلموا علم اليقين أن كل ابتلاء يزيد الإسلام صلابة، ويزيد المسلمين قوة، ويخرج من اندس في صفوف المؤمنين وقلبه مملوء بالنفاق، وببغض رب العالمين وسيد النبيين صلى الله عليه وسلم. إذاً: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك إلا للمؤمن: إن اصابته سَّراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له). وجاء في الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود والحاكم وصححه على شرط الشيخين وأقر الحاكم الذهبي، وقال الألباني: بل هو صحيح على شرط مسلم من حديث تميم الداري أن الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترُكُ الله بيت مَدَرٍ ولا وَبَر إلا أدخله الله هذا الدين، بعزِّ عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر). ومن جميل ما قاله المفكر الشهير اشبنكنز: إن للحضارات دورات فلكية، فهي تغرب هنا لتشرق هنالك، وإن حضارة أوشكت على الشروق في أروع صورة، ألا وهي حضارة الإسلام الذي يملك وحده أقوى قوة روحانية عالمية نقية. أيها الأحبة الكرام! والله ما بقي إلا أن ترتقي الأمة إلى مستوى هذا الدين، وأن تعرف الأمة قدر هذه النعمة التي امتن بها عليها رب العالمين، وحملها هذه الأمانة سيد النبيين صلى الله عليه وسلم، وهذا ما سنتعرف عليه في عنصرنا الثالث والأخير وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

زحف الإسلام في دول الكفر

زحف الإسلام في دول الكفر في العشر الأواخر من رمضان الماضي كنت في زيارة لأمريكا، ووقفت على وثيقة التنصير الكنسي، ورأيت بابا الفاتيكان جون بول الثاني يصرخ في هذه الوثيقة على كل المبشرين أي: على كل المنصرين في أنحاء الأرض -تدبر- ويقول: هيا تحركوا بسرعة؛ لوقف الزحف الإسلامي الهائل في أنحاء أوروبا! مع أنه لا يتحرك أحد للإسلام، بل نحن قد نمنع من الخروج للدعوة إلى الإسلام! فالإسلام لا يتبنى قضاياه الكبرى أحد إلا على مستوى الأفراد، ولو بذل للإسلام ما يبذل لأي دين على وجه الأرض، والله لن يبقى على وجه الأرض من الأديان إلا الإسلام. أيها الأحبة الكرام! في الثالث والعشرين من رمضان الماضي التقيت برئيس جمعية الشرطة المسلمين في أمريكا وأرجو أن تركزوا معي؛ لنعلم أن الإسلام ينتشر حتى في قلب قلعة الكفر أمريكا، ولا تستطيع قوة على وجه الأرض أن تمنع الإسلام أبداً، حتى قلعة الكفر أمريكا. هل تعلمون أن عدد المسلمين في أمريكا الآن في إحصائية 12/ 97م وصل إلى ثلاثة عشر مليون مسلم! صحيح ممكن أن يكون كثير من هذا العدد غثاء لا يحرك ساكناً، لكنها إحصائية تحوي الكثير والكثير من الاستفسارات والعلامات! جمعية يرأسها ضابط أمريكي أبيض، التقيت به ودار بيني وبينه حوار طويل، نقلته للإخوة في خطبة العيد في المنصورة، وألخصه لحضراتكم هنا بإيجاز: قلت له: كيف أسلمت؟! وتعجبت حينما قال لي: إنه كان قسيساً متعصباً للنصرانية! يقول: لقد قرأت القرآن -أي: الترجمة- وقرأت عدداً لا بأس به من أحاديث صحيح البخاري، وأسلم زميل لي في العمل -وهو أمريكي- يقول: فذهبت يوماً أبحث عنه؛ لأمر خاص بالعمل، فقالوا: إنه في المسجد، فدخلت المسجد لأنادي عليه، يقول: واستمعت -وأنا على باب المسجد- لكلمات الأذان، يقول لي: لقد هزت كلمات الأذان أعماقي، وشعرت بتغيير كبير في داخلي! يقول: إني لا أستطيع أن أعبر لك عنه؛ لأنني ما تذوقت طعمه قبل أن أستمع إلى كلمات الأذان، يقول: ثم نظرت إلى المسلمين وهم يصلون: يركعون مع بعضهم، ويسجدون مع بعضهم، وأنا أنادى زميلي في العمل وهو في الصلاة، فلا يرد عليَّ! فلما أنهى الصلاة قلت له: أنا رئيسك في العمل وأنادي عليك، لماذا لم تجبني؟! قال: لأني كنت في صلاة بين يدي ربي جل وعلا، وإذا كنت كذلك فلا أجيب إلا الله عز وجل. يقول: فأحسست بسلام عميق في صدري لهذا الدين! فقلت لزميلي: ماذا تصنعون إن أردتم أن تدخلوا الإسلام؟! فأمروه بالاغتسال، فاغتسل وخرج إلى صحن المسجد، وشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وكان يسمى: ب مايكل، وهو الآن يسمى بـ عبد الصبور. قلت له: ما نظرتك إلى مستقبل الإسلام في أمريكا؟ قال: الإسلام قوي جداً في أمريكا، وأرجو أن تدققوا في الكلمات (الإسلام) وأنا لا أقول: المسلمون، وإنما الإسلام قوي جداًَ في أمريكا، هذه ترجمة حرفية لكلام الرجل، ثم قال لي: أبشرك بأن كثيراً من الأمريكيين بدءوا يفهمون الآن جيداً أن الإسلام الحقيقي ليس هو إسلام الشرق الأوسط، وبدءوا يفهمون أن رسالة عيسى هي رسالة محمد، وهي الإسلام. قلت له: فهل لك أن تقص عليَّ قصة مؤثرة لعضو من أعضاء جمعيتكم؟! قال: يا أخي! القصة الوحيدة التي أستطيع أن أؤكدها لك هي: أن الإسلام ينتشر بقوة في الشرطة الأمريكية! قلت له: فهل عندك من الإحصائيات والأرقام ما تؤكد لي به هذه المعلومة؛ إذ إنني أستبشر خيراً كثيراً لا في كثير من المسلمين في أمريكا، ولكن فيمن يدخلون الإسلام من الأمريكيين، فإن قلت له: هذه سنة، لا يناقش، هذه بدعة، لا يجادل، ولقد ذهبت مع بعض إخواني من الدعاة والمشايخ إلى مسجد التقوى، وهو لإخواننا الأمريكيين السود، فورب الكعبة يا شباب! لقد احتقرنا أنفسنا بينهم، ترى الواحد منهم في صلاته خاشعاً، يذكرك بسلف هذه الأمة، فمن هنا يأتي الأمل، ومن عند هؤلاء نرجو الخير الكثير بإذن الله، يقول لي: عدد الضباط والجنود في الشرطة الأمريكية في ولاية (نيويوورك) أربعة وخمسون ألف ضابط وجندي، يقول لي: أصبح من بين هذا العدد -ولله الحمد- ما يزيد على ألفين وخمسين ضابطاً يوحدون الله جل وعلا، وهذا عدد كبير ليس بالعدد القليل الهين، ثم قص علي قصة، فقال: لقد أسلمت ضابطة أمريكية، ثم لبست الحجاب، وجاءت إلى العمل بالحجاب، فقال لها رئيسها: ما هذا؟! قالت: لقد أسلمت. قال: لا حرج!! لك ذلك، لكن عليكِ أن تخلعي هذا الثوب. قالت: لا. وردت المرأة بقول عجيب أتمنى أن تستمع إليه كل متبرجة في بلدنا، وهي تنتسب إلى الإسلام، قالت: إن الله هو الذي أمرني بالحجاب، ولا توجد سلطة على وجه الأرض تملك أن تنزع عني هذا الحجاب إلا بأمر الله. كلمات عجيبة! قلت له: أخي! أود منك أن توجه ثلاث رسائل: الرسالة الأولى للأمريكيين، والرسالة الثانية للمسلمين في أمريكا، والرسالة الثالثة للمسلمين في مصر، فقال: أما رسالتي الأولى للأمريكيين فهي: إننا نؤمن بعيسى كما نؤمن بمحمد، إنه فهم دقيق عميق، ولا عجب؛ فقد كان الرجل قسيساً. إننا نود أن يعلم هؤلاء أننا نجل عيسى، ونؤمن بعيسى، ونجل مريم عليها السلام وعلى عيسى ونبينا أفضل الصلاة وأزكى السلام. قلت: وجه رسالة للمسلمين في أمريكا، قال: أقول لهم: اصبروا ولا تتعجلوا، فإنه لا يتحقق شيء أبداً بدون الصبر -ترجمة حرفية لكلام الرجل- ثم قال: أود أن أقول لهم: إن أخطأ واحد منكم فلا ينبغي أن تفزعوا ولا أن تحزنوا، فلو لم نخطئ ما احتجنا إلى الرب سبحانه وتعالى، فإننا نخطئ؛ لنتوب إلى الله عز وجل. قلت: فوجه رسالة أخيرة للمسلمين في مصر سأنقلها عنك إلى الآلاف المؤلفة من المسلمين، فقال: قل لهم: إن باعدت بيننا وبينكم آلاف الأميال فإن رحمة الله قد وسعت كل شيء، وإننا نحبكم في الله.

واجب المسلمين اليوم حتى ينصرهم الله

واجب المسلمين اليوم حتى ينصرهم الله الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام! ذكرت لحضراتكم في أول اللقاء: أن ما وقع للأمة وقع وفق سنن ربانية لا تتبدل ولا تتغير، ولن تعود الأمة إلى عزتها وسيادتها إلا وفق هذه السنن التي لا ينفع معها تعجل الأذكياء ولا وهم الأصفياء. إذاً: محال أن ينصر الله عز وجل هذه الأمة -وأرجو أن تتقيدوا بالألفاظ- وهي خاذلة لدينه، بل لابد أن تنصر الأمة دين الله؛ لينصرها الله: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ} [الحج:40]، {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]، {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55] لابد من تحقيق هذه الشروط وهذه الضوابط، ومن ثم فإنه لابد أن نقف جميعاً على هذا المنهج العملي الواجب التنفيذ، وهذا هو عنصرنا الثالث والأخير من عناصر هذا اللقاء. على الأمة أن تعود عوداً حميداً إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعودة للقرآن والسنة ليست نافلة ولا تطوعاً ولا اختياراً، بل إنها عودة واجبة، بل إنها حدّ الإسلام وشرط الإيمان: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]. إن الله لا ينصر أمة نحت شريعته، واستهزأت بسنة نبيه، وفتحت الباب على مصراعيه لأندية الليل التي حولت الليل نهاراً، وللخمر، ولبيوت الدعارة! إن الله لن ينصر أمة عزلت دين ربها وعزلت دين نبيها وانحرفت عن كتاب الله وعن سنة رسول الله.

رفع راية الجهاد

رفع راية الجهاد ثالثاً: رفع راية الجهاد. لا عز للأمة إلا إذا رفعت راية الجهاد، ولن ترفع الأمة راية الجهاد إلا إذا عادت إلى كتاب الله وإلى سنة رسول الله، وإلا فعلى أي شيء ترفع راية الجهاد؟! لابد أن ترفع راية الجهاد؛ لتكون كلمة الله هي العليا، لا من أجل وطنية، ولا من أجل قومية، ولا من أجل حمية؛ لقول سيد البشرية: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله).

التطبيق العملي للإسلام

التطبيق العملي للإسلام رابعاً: لابد من أن نحول الإسلام بأخلاقه وسلوكياته إلى واقع عملي في حياتنا ومنهج حياة. أنا أكرر هذا القول دائماً: يا إخوة! كلنا شهد الإسلام بلسانه، لكن من منا شهد الإسلام بسلوكه وعمله وأخلاقه؟! إن بوناً شاسعاً بين منهجنا وواقعنا، بين ما نتعلمه وبين ما نحن عليه من أخلاق، لابد أن نُحول هذا الدين العظيم إلى واقع عملي في بيوتنا في مواصلاتنا في شوارعنا في وظائفنا. إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا وإن خالف القول العمل بذرت بذور النفاق في القلوب، كما قال علام الغيوب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2 - 3]. لابد للكوادر المسلمة، التي تتعلم الإسلام في المساجد من أهل العلم المتخصصين به، أن تفهم الإسلام بشموله وكماله، ولابد أن تحول الإسلام على أرض الواقع إلى عمل يتألق سمواً وروعةً وجلالاً؛ لسمو وروعة وجلال وعظمة هذا الإسلام العظيم. أيها الأحبة الكرام! إننا لا نخاف على الإسلام؛ لأن الذي وعد بإظهاره على الدين كله هو الله الذي يقول للشيء كن فيكون، وإنما نخاف على المسلمين إن هم تركوا الإسلام وضيعوا الإسلام. نسأل الله جل وعلا أن يرد المسلمين إلى الإسلام رداً جميلاً. اللهم رد المسلمين إلى الإسلام رداً جميلاً، اللهم رد المسلمين إلى الإسلام رداً جميلاً، اللهم قيض لأمة التوحيد أمر رشد يُعز فيه أهل الطاعة، ويُذل فيه أهل المعصية، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم أعل بفضلك كلمة الحق والدين، اللهم اشف صدور قوم مؤمنين، اللهم اشف صدور قوم مؤمنين، اللهم احفظ أهلنا في العراق، اللهم احفظ أهلنا في العراق، اللهم احفظ أهلنا في العراق، اللهم إنهم عزل فكن لهم نصيراً، اللهم إن العالم كله قد عاداهم فكن لهم معيناً، اللهم لا تخذلهم بذنوبهم يا أرحم الراحمين! اللهم لا تخذلهم بذنوبهم يا أرحم الراحمين! اللهم لا تخذلهم بذنوبهم يا أرحم الراحمين! اللهم عليك باليهود والأمريكيين، اللهم عليك باليهود والأمريكيين، اللهم أرنا فيهم يوماً كيوم عاد وثمود بقدرتك يا قوي يا عزيز! اللهم لا تُشْمِتْ بنا الأعداء، اللهم لا تُشْمِتْ بنا الأعداء، اللهم لا تُشْمِتْ بنا الأعداء، اللهم ارفع عن أمة نبيك البلاء، اللهم ارفع عن أمة نبيك البلاء، اللهم ارفع عن أمة نبيك البلاء، اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، وارفع اللهم مقتك وغضبك عنا، اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا، اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا اللهم اقبلنا وتقبل منا، وتب علينا وارحمنا إنك أنت التواب الرحيم، اللهم استرنا ولا تفضحنا، وأكرمنا ولا تُهنا، وكن لنا ولا تكن علينا. اللهم اجعل مصر واحة للأمن والأمان وجميع بلاد المسلمين، اللهم اجعل مصر سخاءً رخاءً وجميع بلاد المسلمين، اللهم ارفع عن مصر الفتن ما ظهر منها وما بطن وجميع بلاد المسلمين، اللهم احفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا، ونعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا، اللهم احفظنا بالإسلام قائمين، واحفظنا بالإسلام قاعدين، اللهم شرفنا بالإسلام يا رب العالمين! اللهم شرفنا بالإسلام يا رب العالمين! أحبتي الكرام! هذا وما كان من توفيق فمن الله وما كان من خطأ أو سهو أو نسيان فمني ومن الشيطان، وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون عليه إلى الجنة ويلقى به في النيران، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

لنبدأ بأنفسنا

لنبدأ بأنفسنا الخطوة العملية الأولى: أن تبدأ بنفسك، وأنا أبدأ بنفسي، فلا ينبغي أن نعلق كل ما نسمع على غيرنا، فلنبدأ الآن أيها الأحباب الكرام: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] والله هو من عند نفسي ومن عند نفسك، لو تحركت الآلاف المؤلفة وحول كل واحد منا هذا الكلام في بيته وحياته ووظيفته إلى واقع عملي ومنهج حياة، والله لغير الله حالنا، وأنا لا أخاطب الآن هذه الألوف التي بين يدي، بل أخاطب الأمة في ملايينها المملينة عبر شريط (الكاست)، فإننا رأينا الأشرطة في الشرق والغرب بالآلاف لا بالعشرات ولا بالمئات، لذا فإننا نخاطب الأمة كلها عبر شريط (الكاست): فليرجع كل مسلم إلى الله إلى كتاب الله، وإلى سنة رسول الله، وليعلم كل مسلم على وجه الأرض أن شعار المنافقين هو: السمع والعصيان، وأن شعار المؤمنين هو السمع والطاعة، فاختر لنفسك، وحدد طريقك ومنهجك. هل تسمع عن الله فتقول: سمعنا وأطعنا؟ هل تسمع عن رسول الله، فتقول: سمعنا وأطعمنا؟ أم أنك تسمع وتقول: سمعنا وعصينا؟! حدد طريقك من الآن؛ لأن الأمر لا يحتاج إلى لف أو دوران، فلنصدق الله مرة، قال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور:51]. أما شعار أهل النفاق فكما قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء:60 - 61]. فاختر لنفسك وحدد طريقك ومنهجك، لابد من تمايز الصف الآن، هذا الغبش الذي تحمله الأمة لن ينصرها الله به أبداً، لابد من تمايز الصف، لابد أن يظهر المنافقون لعوام المسلمين، ولابد أن يظهر المؤمنون الصادقون، لابد من التمايز. فاختر طريقك، وحدد سبيلك، وحدد غايتك، هل أنت ممتثل لأمر الله لأمر رسول الله؟ هل شعارك: سمعنا وأطعنا؟ أم شعارك: سمعنا وعصينا وإن لم يقلها لسانك؟! الإيمان ليس كلمة تقال باللسان فحسب، ولكن الإيمان: قول باللسان وتصديق بالجنان وعمل بالجوارح، والأركان قال الحسن: (ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن الإيمان ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال، فمن قال خيراً وعمل خيراً قبل منه، ومن قال خيراً وعمل شراً لم يقبل منه)، وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم).

تحقيق مبدأ الولاء والبراء

تحقيق مبدأ الولاء والبراء ثانياً: إقامة الفرقان الإسلامي. هذه هي الخطوة العملية الثانية من بنود المنهج الذي يجب أن ننفذه جميعاً، وليبدأ كل منا بنفسه: إقامة الفرقان الإسلامي؛ ليستبين كل أحد سبيل المؤمنين من سبيل المجرمين، مستحيل أن ننصر الأمة ونحن في حالات من التذبذب، فترى المسلم تارة مع العلمانيين مع المجرمين مع المنافقين مع المبتدعين مع الضالين، وتراه تارة مع المسلمين مع الصادقين مع المتبعين! حالة الغبش هذه، وحالة التذبذب هذه، حالة عدم الولاء والبراء الشرعي، لن تقيم لله ديناً في أرضه، بل لابد أن توالي الله ورسوله والمؤمنين، وأن تتبرأ من الشرك بصوره، ومن جميع المشركين على وجه هذه الأرض، استغل هذه الأحداث التي تمر بها أمتنا الآن، ورب زوجك وأولادك على عقيدة الولاء والبراء. هل أحضر واحد منا أسرته في هذه الأزمة الطاحنة، وقال: يا أبنائي! تدبروا معي قول الله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]؟ فبين لهم عقيدة الأمريكيين وعقيدة اليهود، وأصل في قلوبهم من جديد عقيدة الولاء والبراء، والله لا يصح لك دين، والله لا يصح لك إيمان، والله لا تقبل لك صلاة إلا بالولاء والبراء. دعك من هذا التميع، أين الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين؟! وأين البراء من الشرك كله والمشركين أينما كانوا وحيثما وجدوا؟! أتحب أعداء الحبيب وتدعي حباً له ما ذاك في الإمكان وكذا تعادي جاهداً أحبابه أين المحبة يا أخا الشيطان إن المحبة أن توافق من تحـ ب على محبته بلا نقصان فإن ادعيت له المحبة مع خلا فك ما يحب فأنت ذو بهتان وقال آخر: لو صدقت الله فيما دعوته لعاديت من بالله ويحك يكفر وواليت أهل الحق سراً وجهرة ولما تعاديهم وللكفر تنصروا فما كل من قد قال ما قلت مسلم ولكن بأشراط هنالك تذكر مباينة الكفار في كل موطن بذا جاءنا النص الصحيح المقرر وتصدع بالتوحيد بين ظهورهم وتدعوهم سراً بذلك وتجهر هذا هو الدين الحنيف والهدى وملة إبراهيم لو كنت تشعر قال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51] قال حذيفة بن اليمان: فليخش أحدكم أن يكون يهودياً أو نصرانياً وهو لا يدري؛ لقول الله تعالى: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) إذاً: لابد من إقامة الفرقان الإسلامي. روى الطبري بسند صحيح: (أن النبي دعا يوماً عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول وقال له: يا عبد الله! هل سمعت ما قال أبوك؟ قال عبد الله: وماذا قال، بأبي أنت وأمي يا رسول الله؟! قال المصطفى: يقول أبوك: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون:8] فقال عبد الله المؤمن التقي: صدق -والله- أبي، فأنت الأعز وهو الأذل يا رسول الله!، والله لتسمعن ما تقر به عينك. وانطلق عبد الله، ووقف أمام أبيه، ومنع أباه من أن يدخل داره، فصرخ رأس النفاق ابن سلول: يا للخزرج! ابني يمنعني من بيتي؟! واجتمع الخزرج إلى عبد الله، وقالوا ما الخبر؟! فقال الولد لأبيه: أأنت القائل: (لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ)؟ والله لا يؤويك ظلها -يعني: المدينة-، ولا تبيتن الليلة في بيتك إلا بإذن من الله ورسوله؛ لتعلم من الأعز ومن الأذل)! يقول الله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22]، لابد من التمايز أيها الشباب! لابد من إعلان الولاء بصفاء، ولابد من إعلان البراء بقوة وجرأة وشجاعة.

المداومة على العمل الصالح شعار المؤمنين

المداومة على العمل الصالح شعار المؤمنين ظاهرة الفتور والانحطاط بعد الجد في العبادة والنشاط ظاهرة يصاب بها كثير من المسلمين في كثير من الأحيان، لاسيما بعد مواسم الخيرات كشهر رمضان، ومن هنا تظهر أهمية (المداومة على العمل الصالح)؛ فهو شعار المؤمنين وديدن المخلصين، ولنا من سلف الأمة الذين ضربوا أروع الأمثلة في المداومة على الأعمال الصالحة خير قدوة وأسوة.

داء الإعراض والفتور

داء الإعراض والفتور بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء! وأيها الإخوة الأحباب الأعزاء! وطبتم جميعاً وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل العظيم جل وعلا الذي جمعني وإياكم في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته، أن يجمعني وإياكم في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! (المداومة على العمل الصالح شعار المؤمنين) هذا هو عنوان لقائنا مع حضراتكم في هذا اليوم الكريم المبارك في أول جمعة بعد شهر رمضان، وكعادتنا سوف ينتظم حديثنا مع حضراتكم تحت هذا العنوان في العناصر التالية: أولاً: إعراض وفتور. ثانياً: ثمار زكية. ثالثاً: أسباب معينة. رابعاً: مُثل عليا. وأخيراً: احذر الموت. فأعرني قلبك وسمعك أيها الحبيب! فإن هذا الموضوع بعد رمضان من الأهمية بمكان، والله أسأل أن يجعلني وإياكم جميعاً ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب. أولاً: إعراض وفتور. أيها الأحبة الكرام! هاهي الساعات تمر، والأيام تجرى وراءها، وانتهى شهر رمضان، ربح فيه من ربح، وخسر فيه من خسر، وقُبل فيه من قُبل، وطُرد فيه من طُرد، فياليت شعري من المقبول منا فنهنئه ومن المطرود منا فنعزيه؟! فيا عين جودي بالدمع من أسف على فراق ليال ذات أنوار على ليال لشهر الصوم ما جُعلت إلا لتمحيص آثام وأوزار ما كان أحسننا والشمل مجتمع منا المصلي ومنا القانت القاري فابكوا على ما مضى في الشهر واغتنموا ما قد بقى إخوتي من فضل أعمار أيها الأحبة! لقد رأينا المساجد معطرة بأنفاس الصائمين في رمضان، ورأينا المساجد في رمضان مزدحمة بصفوف المصلين، بل وسمعنا للمساجد في رمضان دوياً بالذكر وكلام رب العالمين، بل وأسعد قلوبنا في رمضان تنافس أهل البر من المحسنين. ولكن مع أول فجر من شهر شوال يتألم قلبك، وتبكي عينك، ويتحسر فؤادك، وتتمزق نفسك حسرات! أين المؤمنون؟! أين المصلون في رمضان؟! أين القائمون لله في رمضان؟! أين الذاكرون الله كثيراً والذاكرات؟! سترى المساجد خاوية مع أول فجر من شهر شوال تشكو حالها إلى الكبير المتعال!! ما الذي حدث؟ ترى إعراضاً وفتوراً يؤلم القلب الأبي التقي النقي. والفتور في اللغة: هو الانقطاع بعد الاستمرار، وهو التكاسل والتباطؤ والتراخي؛ كما قال ابن منظور في لسان العرب: فتر يفتر فتوراً. أي: سكن بعد حدة، ولان بعد شدة. فإنك ترى يا عبد الله فتوراً ملفتاً لجميع الأنظار مع انقضاء آخر ليلة من ليالي شهر رمضان، بل ولست مبالغاً -ورب الكعبة- إذا قلت: إن هذا الفتور قد يتطرق ويزيد إلى درجة الإعراض، لا عن نافلة من النوافل، بل عن فريضة افترضها الله عز جل على عباده على الدوام، لا في المناسبات ومواسم الطاعات، كأن يعرض كثير من المسلمين عن صلاة الفريضة في غير رمضان. يا عبد الله! هل كنت تعبد في رمضان رباً، وتعبد في بقية الشهور رباً آخر؟! إن رب رمضان هو رب بقية الشهور والأيام هو الإله الواحد الحق الذي لا ند له، ولا ضد له، ولا شريك له، ولا والد له، ولا ولد له. (قل هو الله أحد) أحد في أسمائه أحد في صفاته أحد في أفعاله. فيا من صليت لله في رمضان وضيعت الصلاة في غير رمضان احذر واعلم يقيناً بأن هذه الصفة من علامات النفاق، أسأل الله أن يملأ قلبي وقلبك إيماناً، إنه ولي ذلك ومولاه. إن المداومة على العمل الصالح شعار المؤمنين، بل ومن أحب القربات إلى الله رب العالمين؛ كما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وآله سلم قال: (أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل)، بل وفي صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها كذلك قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عمل عملاً أثبته) أي: داوم وواظب عليه، فكان إذا فاته شيء من صلاة الليل لنوم أو مرض صلاه في النهار، وإذا فاته شيء من عبادة الليل قضاها في النهار ما بين الفجر والظهر، فيصلي في النهار مثلاً اثنتي عشرة ركعة.

ثمار زكية للمداومة على الأعمال الصالحة

ثمار زكية للمداومة على الأعمال الصالحة لقد رأيت أن من الحكمة ومن الفقه أن يكون حديثنا في أول جمعة في شهر شوال عن التذكير للأحباب والأخيار؛ بالمداومة على طاعة العزيز الغفار، أسأل الله أن يختم لنا ولكم بالطاعة إنه على كل شيء قدير، وهأنذا أذكر نفسي وأحبابي بفضل المداومة على الطاعة، هو عنصرنا الثاني وعنوانه: (ثمار زكية). ثمار زكية للمداومة على الأعمال الصالحات التي ترضي رب البرية، فإن من داوم على العمل الصالح وذاق حلاوة هذه المداومة سعد في الدنيا والآخرة. وانتبه معي أيها الكريم! لتتعرف على أهم الثمار للمدوامة على العمل الصالح الذي يرضي العزيز الغفار.

تفريج الكربات والمصائب والأزمات

تفريج الكربات والمصائب والأزمات ثالثاً: من أعظم ثمار المداومة على العمل الصالح: أنها سبب لتفريج الكربات والمصائب والأزمات، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس، والحديث رواه الترمذي وأحمد وهو حديث حسن صحيح، قال ابن عباس: (كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم يوماً على حمار، فقال النبي: يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء؛ لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء؛ لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف). وفي لفظ أحمد في مسنده قال صلى الله عليه وآله سلم: (يا غلام! ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن؟ قال ابن عباس: قلت: بلى يا رسول الله! فقال صلى الله عليه وسلم: احفظ الله تجده أمامك؛ تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة). فيا من داومت على العمل الصالح في الرخاء، لن يتخلى الله عز وجل عنك في وقت الشدة والبلاء: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً)، فالمداومة على العمل الصالح من أعظم الأسباب للنجاة من الكروب والشدائد والبلايا والمصائب؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة).

حسن الخاتمة والفوز بالجنة

حسن الخاتمة والفوز بالجنة ومن أعظم ثمار المداومة على العمل الصالح، أنها سبب لحسن الخاتمة والفوز بالجنة، نسأل الله أن يرزقنا وإياكم حسن الخاتمة. كيف ذلك؟! يقول الحافظ ابن كثير: لقد أجرى الله الكريم عادته بكرمه أن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه؛ فإن عشت على طاعة وعلى عمل صالح اقتضى عدل الله أن يتوفاك على ذات الطاعة ونفس العمل الصالح، فإن مت على هذه الطاعة بعثت على ذات الطاعة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم من حديث جابر: (يبعث كل عبد على ما مات عليه). ويقول الحبيب صلى الله عليه وسلم، والحديث رواه الترمذي وأحمد وهو حديث صحيح: (إذا أراد الله بعبد خيراً استعمله، قيل: كيف يستعمله يا رسول الله؟ قال: يوفقه لعمل صالح ثم يقبضه عليه). اللهم استعملنا لطاعتك يا رب العالمين! هذا هو الاستعمال: إذا وفقت للعمل الصالح وداومت عليه، قبضت على هذا العمل الصالح وعلى نفس الطاعة، وبعثت على نفس الطاعة. ومن أعجب ما سمعت في الأسبوع الماضي: قصة طفل صغير لا يجاوز العاشرة من عمره: لما ذهبت إلى القاهرة في خطبة جمعة رأيت هذا الطفل بين يدي إلى جوار المنبر، فتعلقت به وتعرفت عليه، وفي الجمعة الماضية أقبل علي والده يبكي، فقلت له: أين ولدك؟! فبكى، قلت: سبحان الله! ما الذي حدث؟! قال: مات! قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، أسأل الله عز وجل أن يعوضك خيراً، وأن يجعله فرطاً لك على الحوض، فقال لي: والله يا شيخ! أنا ما أبكي لفراقه، وإنما أبكي لحاله، فلقد رأينا منه عجباً عجاباً. هذا الطفل الصغير رأى الإخوة الكبار العجب العجاب في حياته؛ فقد كان يأخذ مصروفه فيشتري شريطاً، ويسمع الشريط ثم يعيره لبعض إخوانه، ويأخذ جزءاً من مصروفه فيضعه في صندوق المسجد، ويشتري بالجزء الآخر قدراً من الحلوى ليوزعه على الفقراء، سبحان الله! وفي اليوم الكريم المبارك في أول جمعة من شهر رمضان اغتسل في بيته وقال لهم: أريد أن أخرج مبكراً حتى أكون في أول الصفوف في صلاة الجمعة، ولبس ثوباً أبيض جميلاً وتطيب وتعطر، وهو في طريقه إلى المسجد ينزل من السيارة وبينه وبين باب المسجد أمتار، فتأتي سيارة أخرى لتصدمه في الحال، فيُحمل وهو في غيبوبة الموت إلى المستشفى، وقرر الأطباء أن الطفل يحتضر، وأنه بالفعل في غيبوبة الموت. ولما هم الطبيب أن ينصرف وقبل أن يخرج من غرفة العمليات أو من غرفة العناية المركزة، إذا بالأذان يرفع على المآذن للمساجد القريبة من المستشفى، إنه أذان الجمعة، فلتفتت الأنظار إلى هذا الطفل العجيب حينما رفع يديه وأشار بسبابته إلى السماء، بعد أن عجز لسانه أن يردد (لا إله إلا الله) فتحرك القلب في صدره فأصدر الأوامر إلى هذه الجلود والأعضاء، فارتفعت اليد وأشارت السبابة بإعلان توحيد الله إنها الخاتمة! إنها الخواتيم يا عباد الله. نسأل الله أن يرزقنا وإياكم حسن الخاتمة. عباد الله: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالخواتيم). ويقول الله جل وعلا: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27]. وقال جل وعلا: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69]، اللهم اجعلنا من المحسنين يا رب العالمين! (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا)، يا من جاهدت نفسك!. يا من صبّرت نفسك على طريق الطاعة وصبرت نفسك عن المعصية! اعلم أن موعود الله أن يهديك السبيل، وأن يثبتك ويسددك على الطريق، وأن يكون معك؛ لأنك حينئذٍ ستكون مع المحسنين، والمحسن: هو الذي يعبد الله كأنه يراه، وهو يعلم يقيناً أنه إن لم ير الله فإن الله جل وعلا يراه (ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك).

محبة الله للعبد

محبة الله للعبد ثانياً: من أعظم ثمار المداومة على العمل الصالح: أنها سبب لمحبة الله للعبد، وانتبه أيها الكريم! فأنا أقول: سبب لمحبة الله للعبد، ولم أقل: سبب لمحبة العبد للرب، وشتان شتان بين المنزلتين. أخي! المداومة على العمل الصالح سبب لمحبة الله للعبد، ومحبة العبد لربه أمر طبيعي، أما محبة الله جل وعلا لعبده فهي أمر تحبس أمامه ألسنة البلغاء والفصحاء، يقول الله جل وعلا في الحديث القدسي الجليل: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه)، فالمداومة على العمل الصالح بفروضه ونوافله سبب لمحبة الله للعبد. يا عبد الله! ماذا أنت صانع لو علمت أن رجلاً كبيراً من أهل الدنيا كملك من الملوك أو رئيس من الرؤساء أو وزير من الوزراء قد أعلن على مسمع من الناس ومرأى أنه يحبك؟! ماذا أنت صانع لو أعلن الإعلام على لسان هذا الرجل -وهو مهما علا فهو عبد فقير حقير إلى الله- أنه يحب فلاناً من الناس؟! تدبر في هذا!! ولله المثل الأعلى! بعد هذه أقول لك: ماذا أنت صانع لو علمت أن الملك يحبك؟! فكر في هذه وتدبرها جيداً، تدبر أن الله هو الذي سيحبك، إذا ما داومت على العمل الصالح بفروضه ونوافله.

طهارة القلب من النفاق

طهارة القلب من النفاق أول هذه الثمار: أن المداومة على العمل الصالح سبب لطهارة القلب من النفاق، وصلة القلب بربه الخلاق، وهل تريد شيئاً أعظم من هذا؟! إن القلب هو الأصل الذي ينبغي أن تبذل من أجله الأوقات والمجهودات، بل والأموال والدعوات، فإن القلب هو الأصل، كما قال أبو هريرة رضي الله عنه: (القلب ملك الأعضاء، والأعضاء جنوده، فإن طاب الملك طابت جنوده، وإن خبث الملك خبثت جنوده)، فصلاح القلب صلاح للبدن كله، وفساد القلب فساد للبدن كله، كما قال الحبيب صلى الله عليه وسلم، والحديث مخرج في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب). فالقلب هو الأصل، ولذا يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: الأعمال تتفاضل عند الله جل وعلا بتفاضل ما في القلوب لا بكثرتها وصورها. ومعنى ذلك: أن الإنسان قد يفعل فعلاً عظيماً وعملاً كبيراً في أعين الناس، وهو عند الله حقير لا وزن له؛ لأنه ما انطلق في هذا العمل إلا من أجل السمعة، والشهرة، والرياء والنفاق، والله أغنى الأغنياء عن الشرك، فمن عمل عملاً أشرك فيه مع الله غير الله، ترك الله ذلك العمل لصاحبه ولشريكه: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]. وقد يعمل الإنسان عملاً هو في أعين الناس حقير، ولكنه عند الله عظيم؛ لأنه ابتغى بهذا العمل وجه الله الكريم، تصدقت عائشة يوماً بتمرة فتعجب بعض الناس وقالوا: يا أم المؤمنين! تتصدقين بتمرة؟ قالت: نعم. ألم تقرأ قول الله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه} [الزلزلة:7]؟ قال: بلى. قالت: وإن في هذه التمرة ذرات خير كثيرة! إنه الإخلاص! فالأعمال تتفاضل عند الله بتفاضل ما في القلوب لا بكثرة الأعمال ولا بصورها؛ لذا قال سيد الرجال صلى الله عليه وسلم والحديث في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)، فقدم الحبيب القلوب على الأعمال؛ لأن العمل لا يقبل إلا إذا كان صاحب هذا العمل يبتغي بعمله هذا وجه الله جل وعلا. والأعمال تتفاضل بتفاضل القلوب لا بكثرة الأعمال وصورها، فإذا استنار القلب بنور التوحيد والإيمان أقبلت إليه وفود الخيرات من كل ناحية؛ فتنقل صاحب هذا القلب من طاعة إلى طاعة، وإذا أظلم القلب -أعاذنا الله وإياكم من ظلام القلب وسواده- أقبلت عليه سحائب البلاء والشرور والهلاك، فانتقل صاحب هذا القلب المظلم من معصية إلى معصية، فيصبح كالأعمى الذي يتخبط في غياهب الظلام. أيها الأحبة الكرام! القلب هو الأصل ولذا فإن من أعظم علامات صحة القلب وطهارته من النفاق: المداومة على العمل الصالح. أيها الأحبة الكرام! لذلك خاف أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أنفسهم من النفاق، أو أن يكون القلب قد تسرب إليه شيء من النفاق وصاحب هذا القلب لا يدري، ولذلك قال الله جل وعلا: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60] فقالت عائشة رضوان الله عليها: (يا رسول الله! أهو الرجل يسرق ويزني ويشرب الخمر؟ قال: لا يا بنت الصديق، ولكنه الرجل يصلي ويصوم ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه) لذا كان الصحابة يخشون على أنفسهم من النفاق، حتى لا يظن ظان أنه أعلى من مستوى الوقوع في هذا الداء العضال. يقول ابن أبي مليكة والأثر رواه البخاري تعليقاً: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه وما منهم أحد يقول: إن إيمانه على إيمان جبريل وميكائيل. بل لقد ذهب فاروق الأمة عمر -الذي أجرى الله الحق على لسانه وقلبه- إلى حذيفة بن اليمان الذي أطلعه النبي على أسماء المنافقين، ذهب إليه عمر يقول له: أسألك بالله يا حذيفة! هل سماني لك رسول الله في المنافقين؟! هذا عمر الذي أجرى الله الحق على لسانه وقلبه يخشى النفاق على نفسه! ويقول الحسن البصري: ما أمن النفاق إلا منافق، وما خاف النفاق إلا مؤمن، فبالجملة أقول: إن من أعظم علامات طهارة القلب وصحته أن يداوم صاحب هذا القلب على العمل الصالح، فإن من عبد الله في موسم طاعة، وتخلى بعد ذلك عن الطاعة، فإن هذا من أعظم العلامات على نفاق القلب. أسأل الله أن يرزقنا وإياكم الإخلاص في القول العمل.

الأسباب المعينة على المداومة على العمل الصالح

الأسباب المعينة على المداومة على العمل الصالح والعنصر الثالث من عناصر هذا اللقاء يظهر بالإجابة على سؤال مهم هو: ما هو السبيل إلى هذا الخير العظيم، وما هي الأسباب التي تعيننا على الوصول إلى هذا القدر الكبير؟ إنها أسباب أبذلها لي ولك لنستعين بها على الطاعات والأعمال الصالحات، لنلقى عليها رب الأرض والسماوات جل وعلا.

صحبة الأخيار

صحبة الأخيار وأخيراً من الأسباب التي تعين على المداومة والاستمرار في العمل الصالح: صحبة الأخيار؛ لأن الإنسان قد ينشط إذا رأى إخوانه من حوله على طاعة الله جل وعلا، وقد يشعر الإنسان بالخجل من نفسه إذا رأى إخوانه في طاعة وهو مقصر، وما دمت قد انطلقت في عملك ابتغاء مرضاة الله جل وعلا، فاصحب الأخيار والأطهار والصالحين الذين إذا رأيتهم تذكرك رؤيتهم بالله جل وعلا وبطاعة الله؛ ففي سنن ابن ماجة -والحديث حسن- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من الناس ناساً مفاتيح للخير مغاليق للشر) فصاحِب مفاتيح الخير ليفتحوا قلبك لحب الله وذكر الله وطاعة الله جل وعلا، وانصرف عن مفاتيح الشر الذين يغلقون قلبك عن طاعة الله وعن حب الله وعن ذكر الله جل وعلا. قال صلى الله عليه وسلم: (مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تجد منه رائحة طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه رائحة منتنة) والنبي صلى الله عليه وسلم لا يحرم بهذا وظيفة الحدادة، وإنما هو مثل للتوضيح والإيضاح، فاحرص على صحبة الأطهار احرص على صحبة الأخيار احرص على صحبة الذين يذكرونك بالعزيز الغفار، فإن صحبتهم ستعينك على طاعة الله، وستأخذ بيديك على الاستمرار والمداومة على العمل الصالح حتى تلقى الله جل وعلا وأنت على طاعة. وأقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

الاعتدال والاقتصاد في الأعمال والطاعات

الاعتدال والاقتصاد في الأعمال والطاعات ثانياً: من أعظم الأسباب التي تعيننا على المداومة على العمل الصالح: الاقتصاد والاعتدال في الأعمال والطاعات، فلا تشدد على نفسك ولا تسرف فلا إفراط ولا تفريط، ولقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، وأنا أخاطب الآن الشباب بصفة خاصة لأن الله عز وجل لا يكلفك ما لا تطيق: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7] فلا تغال أيها الحبيب! ولا تشدد على نفسك. يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم، والحديث في الصحيحين من حديث أبي هريرة واللفظ للبخاري، قال الحبيب: (إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة). أخي الحبيب! إن عجزت أن تصل إلى ما تريد فقارب -أي: اقترب من هذا الخير الذي تريد أن تداوم عليه- ولا تكلف نفسك بعمل قد تعجز عنه بعد أسبوع أو بعد شهر أو شهرين، فلا تكلف نفسك ما لا تطيق، فالاقتصاد والاعتدال بلا إفراط أو تفريط من هدي سيد الرجال صلى الله عليه وسلم. وفي الصحيحين: (أن الحبيب دخل المسجد يوماً فوجد حبلاً ممتداً بين ساريتين في المسجد -أي: بين عمودين- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما هذا الحبل؟ قالوا: إنه حبل لـ زينب رضوان الله عليها، قال: ولمَ؟ قالوا: إذا فترت -يعني: إذا تكاسلت عن العبادة تعبت- تعلقت به؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حلوه). اسمع لهذه العبارات النبوية الكريمة، من المشرع الأعظم بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم حيث قال: حلوه، ثم التفت إلى أصحابه، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (ليصل أحدكم نشاطه) أي: على قدر نشاطه وعلى قدر استطاعته (فإذا فتر فليرقد). انظر إلى التشريع: (ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليرقد) لأنه لابد للنفس من فترات للترويح، وليس ذلك بالمعصية كما يظن كثير من الناس فيقول: ساعة وساعة. أي: ساعة لقلبك وساعة لربك، وإذا قلت له: ماذا تقصد أيها الكريم بساعة لقلبك؟ يقول: ألهو وأسمر وأقضي الوقت أمام المسلسلات المسلية وإن كانت في المعاصي!! لا يا أخي! لا أيها الحبيب! وإنما ساعة وساعة تفهم من حديث حنظلة: (لما قابل الصديق رضي الله عنه، وقال له: نافق حنظلة، قال: ومم ذاك؟ قال: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فيذكرنا بالجنة والنار حتى كأنها رأي عين، فإذا عدنا إلى الأولاد أو إلى البيوت عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات ونسينا كثيراً، فقال أبو بكر: والله إني لأجد ما تجد، فانطلقا إلى الحبيب صلى الله عليه وسلم، وقال حنظلة: نافق حنظلة يا رسول الله! قال: مم ذاك؟ فأخبره بما قال لـ أبي بكر رضي الله عنه، فقال المصطفى: يا حنظلة! والذي نفسي بيده لو تدومون على الحالة التي تكونون بها عندي لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي الطرقات، ولكن ساعة وساعة!) أي: ساعة تبكي فيها العيون، وتخضل فيها اللحى، وساعة عودوا فيها إلى الأزواج فداعبوا الزوجات وداعبوا الأولاد والبنين والبنات، واهتموا بالضيعات -أي: بالتجارة والأعمال- ولا مانع من ذلك على الإطلاق. هذا هو معنى الحديث: (ساعة وساعة) أي: ساعة للرب جل وعلا للآخرة، وساعة للدنيا، أما أن يقال: ساعة لقلبك وساعة لربك، وأن تقضي ساعة القلب في معصية الله فهذا لا يرضي الله جل وعلا. أيها الأحبة! الاقتصاد والاعتدال والترويح عن النفس من أعظم الأسباب التي تعين الإنسان على أن يستمر وأن يداوم على العمل الصالح، وأنتم تعلمون قصة الثلاثة الذين جاءوا لبيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته، والحديث رواه البخاري ومسلم من حديث أنس، فلما أخبروا عنها كأنهم تقالوها، وقالوا: (وأين نحن من رسول الله وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل ولا أرقد أبداً، وقال الآخر: أما أنا فأصوم الدهر ولا أفطر، وقال الثالث: وأما أنا فأعتزل النساء ولا أتزوج أبداً، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ قالوا: بلى، قال: أما إني لأخشاكم وأتقاكم لله عز وجل، ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)، إنه التوازن بين أمر الدين والدنيا، ولذلك يجمع النبي صلى الله عليه وسلم هذا المنهج العظيم العجيب في هذا الدعاء الذي رواه مسلم في دعاء المصطفى صلى الله عليه وسلم إذ يقول: (اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري) تدبر في هذا المنهج المتوازن المعتدل، يقول: (اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كلّ خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر). أيها الأحبة! إن المتشدد الغالي المفرط لا ظهراً أبقى ولا أرضاً قطع، فهذه عائشة رضي الله عنها تقول: (كان أول ما أنزل من القرآن سور فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا تاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، تقول: ولو نزل أولاً لا تشربوا الخمر ولا تزنوا، لقال الناس: لن ندع الخمر ولن ندع الزنا أبداً). لكنه التدرج، وهذا ما فهمه الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز يوم أن ذهب إليه ولده وقال له: يا أبتِ! ما لي أراك لا تحمل الناس على الحق جملة واحدة -حماس الشباب مع صدق وإخلاص- فوالله لا أبالي إن غلت بي وبك القدور في سبيل الله. أي: لا أبالي بأن أبتلى أنا وأنت في سبيل الله جل وعلا، فقال الوالد الفقيه عمر بن عبد العزيز: (يا بني! إن الله ذم الخمر في القرآن مرتين وحرمها في الثالثة، يا بني إني أخشى أن أحمل الناس على الحق جملة واحدة فيدعوا الحق جملة واحدة فتكون فتنة). أيها الحبيب! إن التدرج في الأعمال من أعظم الأسباب التي تعينك على المداومة على العمل الصالح.

الاستعانة بالله جل وعلا

الاستعانة بالله جل وعلا إن من أعظم الأسباب التي تعينك على المداومة على العمل الصالح: أن تستعين بالملك جل وعلا، فإن من أعانه الله فهو المعان، ومن خذله الله فهو المخذول، فاطلب العون من الله أن يسددك وأن يؤيدك ويوفقك للعمل الصالح الذي يرضيه؛ لأمر النبي صلى الله عليه وسلم لـ معاذ رضي الله عنه، حينما أمسكه بيده وقال: (يا معاذ! قال: لبيك يا رسول الله وسعديك، قال: والله إني لأحبك). قسم ورب الكعبة يجف أمامه الحلق ويخشع أمامه الفؤاد، لو أقسم معاذ أنه يحب رسول الله لكان الأمر عادياً، ولكن الذي يقسم بالله على حب معاذ هو الصادق المصدوق: (يا معاذ! والله إني لأحبك) فيقول معاذ بن جبل: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! فوالله إني لأحبك، فيقول الحبيب المصطفى: (فلا تدعن أن تقول في دبر -أي: بعد- كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك). فاطلب العون من الله، وقل له: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، واطرح قلبك -أيها الحبيب- بين يدي الله، واعترف له بفقرك وضعفك وعجزك وتقصيرك، وقل: يا رب! لو تخليت عني بفضلك ورحمتك طرفة عين لهلكت وضللت، لا حول لي ولا قوة لي إلا بحولك وقوتك وصولك ومددك. عبد الله! من أعانه الله فهو المعان، ومن خذله الله فهو المخذول، فاطلب من الله أن يعينك على العمل الصالح الذي يرضيه.

مثل عليا في المداومة على العمل الصالح

مثل عليا في المداومة على العمل الصالح الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الأحبة! إلى حضراتكم أسوق بعض النماذج المشرقة إنها المثل العليا إنها القدوات التي يجب أن نرنو بأبصارنا إليها في وقت قدم فيه كثير من الفارهين التافهين ليكونوا القدوة والمثال لأمة مسكينة تشرذمت وتبعثرت كتشرذم وتبعثر الغنم في الليلة الشاتية المظلمة الممطرة. مثل عليا استمروا على العمل الصالح، وقدموا أروع النماذج لهذه المداومة حتى وصلوا إلى أن يبشروا بالجنة وهم في الدنيا.

أبو بكر الصديق رضي الله عنه

أبو بكر الصديق رضي الله عنه هذا هو الصديق صديق الأمة رضوان الله عليه، يسأل النبي أصحابه يوماً من الأيام -والحديث في صحيح مسلم - فيقول: (من أصبح اليوم منكم صائماً؟ فيقول أبو بكر: أنا يا رسول الله! فيقول: من أطعم اليوم منكم مسكيناً؟ فيقول أبو بكر: أنا يا رسول الله، فيسأل النبي: من تبع اليوم جنازة؟ فيقول أبو بكر: أنا يا رسول الله! فيسأل النبي: من عاد اليوم منكم مريضاً؟ فيقول أبو بكر: أنا يا رسول الله! فيقول المصطفى: ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة) يبشر بالجنة وهو لا زال يمشي على وجه الأرض. ومن الذي يبشره؟! هل هي هيئة مشبوهة يهودية أو ماسونية؟ لا. وإنما الذي يبشره بالجنة أعظم البرية صلى الله عليه وآله وسلم، الذي لا ينطق عن الهوى قال: (ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة). إنه التسابق! إنه التنافس على الخيرات والطاعات، وبهذا ارتقى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه الدرجات العالية، فبشر بعضهم بالجنة من الصادق المصدوق وهو لا زال يمشي على التراب، ويعيش بين الناس في هذه الدنيا.

بلال بن رباح رضي الله عنه

بلال بن رباح رضي الله عنه وإليك المثل الثاني والأخير: وهو لعبد من العبيد إنه العبد الحبشي الأسود، صاحب البشرة السمراء النيرة إنه العبد الذي عذب على رمال مكة الملتهبة التي تذيب الحجارة والحديد والصخور، فوضع على ظهره فوق هذه الرمال الملتهبة، ووضعت الحجارة على صدره، فلما انقطعت أنفاسه رفع يده ليشير بسبابته وهو يقول في صوت متقطع: أحد أحد يشير إلى وحدانية الملك جل وعلا! إنه بلال رضوان الله عليه، عبد من العبيد أسمر اللون، مزدرى في أرض الجزيرة ممتهن محتقر، فلما عرف الله أعلى الله قدره بالإسلام وبالإيمان وباتباع النبي عليه الصلاة والسلام، فنال الدرجة الشامخة التي ارتقى إليها، بعد أن كان بالأمس القريب على رمال مكة في أرض الجزيرة خادماً لسيد من سادة الكفر في مكة، قال له الحبيب يوماً -والحديث في الصحيحين-: (يا بلال! حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام، فإني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة) الله أكبر! إنه لأمر عجب!! بلال العبد؟! نعم. رقاه الإسلام فارتقى به من العبودية للعبيد إلى العبودية لرب العبيد، والعبودية للملك جل وعلا عزة ورفعة، وكلما ازددت عبودية لله كلما زادك الملك رفعة ورقياً وقربى، لذا امتن الله على حبيبه صلى الله عليه وسلم بصفة العبودية في أعلى المقامات وأجلها، فقال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1] فالعبودية لله شرف، والعبودية لله عز، والعبودية لله كمال، والعبودية للعبيد ذل وحقارة وامتهان. ما جاء الإسلام إلا ليخرج الناس من عبودية العباد إلى عبودية رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة. بلال الحبشي الذي ارتقى بالإسلام والإيمان، يقول له النبي صلى الله عليه وسلم: (يا بلال! أخبرني بأرجى عمل عملته في الإسلام، فإني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة) بل إن رواية الترمذي بهذه الصيغة: (يا بلال! أخبرني بأرجى عمل عملته في الإسلام، فإني رأيتك قد سبقتني إلى الجنة) الله أكبر! وفي لفظ: (فإني سمعت خشخشة نعليك بين يدي في الجنة) أتدرون ما هو هذا العمل؟! إنه المداومة على العمل الصالح. قال بلال: (إن أرجى عمل عملته أنني ما توضأت وضوءاً أو تطهرت طهوراً إلا وصليت لله عز وجل ركعتين)، وفي لفظ الصحيحين: (إلا وصليت لله بهذا الطهور -أو بذلك الطهور- ما كتب لي أن أصلي) إذا توضأ أو تطهر في ساعة من ليل أو نهار قام يصلي بهذا الطهور أو بهذا الوضوء ما كتب الله عز وجل له أن يصلي. إنه الحرص والمداومة على الأعمال الصالحات التي ترضي رب الأرض والسموات جل وعلا.

التذكير بالموت

التذكير بالموت أيها الأحبة! أخيراً أقول: اذكر الموت فإنك إذا علمت أن أقرب غائب تنتظره هو الموت حرصت على أن تستغل كل ساعة من عمرك في طاعة الملك جل وعلا، فذكر نفسك أيها الحبيب بهذا الغائب القريب، وقل لنفسك: يا نفس قد أزف الرحيل وأظلك الخطب الجليل فتأهبي يا نفس لا يلعب بك الأمل الطويل فلتنزلن بمنزل ينسى الخليل به الخليل وليركبن عليك فيه من الثرى حمل ثقيل قرن الفناء بنا فما يبقى العزيز ولا الذليل {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] ذلك ما كنت منه تهرب. (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ) والحق أنك تموت والله حي لا يموت. (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ) والحق أن ترى عند موتك ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب. (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ) والحق أن يكون قبرك روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النيران. (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) ذلك ما كنت منه تهرب، تحيد إلى الطبيب إذا جاءك المرض خوفاً من الموت، وتحيد إلى الطعام إذا أحسست بالجوع خوفاً من الموت، وتحيد إلى الشراب إذا أحسست بالظمأ خوفاً من الموت، ولكن ثم ماذا؟! أيها القوي الفتي! أيها الذكي العبقري! يا أيها الأديب! يا أيها المفكر! يا أيها الوزير! يا أيها الرئيس! يا أيها الملك! يا أيها الحبيب! ويا أيها الحقير! كل باك فسيُبكى كل ناع فسينعى كل مدحور سيفنى وكل مذكور سينسى ليس غير الله يبقى من علا فالله أعلى أخي الحبيب! بادر بالتوبة فإن الموت أقرب غائب ينتظر: أيا عبد كم يراك الله عاصياً حريصاً على الدنيا وللموت ناسيا نسيت لقاء الله واللحد والثرى ويوماً عبوساً تشيب فيه النواصيا إذا المرء لم يلبس ثياباً من التقى تجرد عرياناً ولو كان كاسياً ولو كانت الدنيا تدوم لأهلها لكان رسول الله حياً وباقيا ولكنها تفنى ويفنى نعيمها وتبقى الذنوب والمعاصي كما هيا أيها الحبيب! اغتنم ما بقي من العمر! لقي الفضيل بن عياض رجلاً فسأله الفضيل عن عمره: كم عمرك؟ قال: ستون سنة، قال الفضيل: إذاً أنت منذ ستين سنة تسير إلى الله توشك أن تصل، فقال له الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون، فقال الفضيل يا أخي! هل عرفت معناها؟ قال: نعم. عرفت أني لله عبد وأني إلى الله راجع. فقال الفضيل: يا أخي! فمن عرف أنه لله عبد وأنه إلى الله راجع عرف أنه موقوف بين يديه، ومن عرف أنه موقوف عرف أنه مسئول، ومن عرف أنه مسئول فليعد للسؤال جواباً، فبكى الرجل وقال: يا فضيل! وما الحيلة؟ قال الفضيل: يسيرة، قال: ما هي يرحمك الله؟ قال: أن تتقي الله فيما بقى يغفر الله لك ما قد مضى وما قد بقي. فعد إلى الله أيها الحبيب! وداوم على العمل الصالح. يا من فرطت في الأسبوع أو في الأيام القليلة هذه بعد رمضان عد إلى الطريق عد إلى الطريق عرفت فالزم، ذقت الحلاوة فالزم، من ذاق عرف، ومن عرف اغترف، فاقترب من الخير واقترب من الفضل، ووالله الذي لا إله غيره إن الدنيا دار ممر وإن الآخرة هي دار المقر. أين أجدادك؟! أين آباؤك؟! أين من سبقنا بالأموال والجاه والسلطان؟! أين الظالمون وأين التابعون لهم في الغي بل أين فرعون وهامان؟ أين من دوخوا الدنيا بسطوتهم وذكرهم في الورى ظلم وطغيان هل خلد الموت ذا عز لعزته أو هل نجا منه بالسلطان إنسان لا والذي خلق الأكوان من عدم الكل يفنى فلا إنس ولا جان فالمداومة على العمل الصالح من شعار المؤمنين وأهل الإيمان. أسأل الله جل وعلا أن يوفقنا وإياكم للمداومة على العمل الصالح الذي يرضيه، إنه ولي ذلك والقادر عليه. اللهم استعملنا لطاعتك يا رب العالمين! اللهم استعملنا في طاعتك يا أرحم الراحمين! اللهم يا من أعنتنا على الصيام فصمنا وعلى القيام فقمنا؛ خذ بنواصينا إليك لنرضيك يا أرحم الراحمين! اللهم لا تتخل عنا بذنوبنا فنهلك اللهم لا تتخل عنا بذنوبنا فنهلك اللهم لا حول ولا قوة لنا إلا بك يا رب العالمين اللهم أسعدنا في الدنيا بطاعتك، وفي الآخرة بجنتك اللهم أسعدنا في الدنيا بطاعتك وفي الآخرة بجنتك. اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

لا تحسبوه شرا لكم

لا تحسبوه شراً لكم كل شيء يقع في الكون قد قدره الله عز وجل وأراده، فيجب على المسلم ألا يعترض على المحن والابتلاءات التي تمر بالمسلمين؛ فإن الله عز وجل يريد بها خيراً، والابتلاء سنة الله في خلقه، فقد ابتلى أنبياءه وأولياءه؛ ليرفع درجاتهم، ويعلي مكانتهم.

كل شيء في الكون لا يقع إلا بقدر

كل شيء في الكون لا يقع إلا بقدر الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: أحبتي في الله! عنوان لقائنا هذا (لا تحسبوه شراً لكم)، وسوف ينتظم حديثي في هذا الموضوع الجليل في العناصر التالية: أولاً: واقع مر أليم، وكل شيء في الكون لا يقع إلا بقدر. ثانياً: دروس من التاريخ. ثالثاً: والعاقبة للمتقين. فأعيروني القلوب والأسماع، والله أسأل أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولو الألباب. أولاً: واقع أليم، ولا يقع شيء في الكون إلا بقدر. أحبتي في الله! أرى رياحاً عاتية من القنوط واليأس تعصف بقلوب كثير من المسلمين بسبب هذا الواقع المر الأليم، ومن هذه الرياح العاتية: أن هناك قلوباً قلقة، وقلوباً متشككة في قدر الله سبحانه وتعالى، وفي علم الله وحكمته، وإن لم يستطع الواحد من هؤلاء أن يعبر بلسانه عن هذا الواقع المر الأليم ويمنعه خجله وحياؤه، فقد يعبر عن ذلك بلسان الحال، فيطحن الواقع الأليم قلبه إلى حد التشكك في قدر الله سبحانه وحكمته، فيقول أحدهم بلسان الحال، بل وربما بلسان المقال: ألا يسمع الله بكاء الأطفال في فلسطين؟! ألا يرى الله الدماء التي تسفك والأشلاء التي تمزق؟! ألا يسمع الله صراخ الأقصى وأنينه؟! ألا يسمع الله ويرى هذا الواقع المر الأليم لإخواننا في فلسطين؟! وقد تخلى أهل الأرض عنهم، إلا من رحم الله جل وعلا من أفراد قلائل يتألمون بآلامهم، ويعانون لمعاناتهم، ألا يسمع الله ويرى صراخ هذه البنت المسكينة التي هدم بيتها، وقتل والدها وقتلت أمها، وهي تصرخ أمام العالم كله؟! بل وتنادي المسلمين في كل مكان وتقول: أيها المسلمون! أين أنتم؟! وتقول: أنا لا أريد طعامكم وشرابكم فدمي هنا يا مسلمون يراق عرضي يدنس أين شيمتكم أما فيكم أبي قلبه خفاق أختاه أمتنا التي تدعينها صارت على درب الخضوع تساق أودت بها قومية مشئومة وسرى بها نحو الضياع رفاق إن كنت تنتظرينها فسينتهي نفق وتأتي بعده أنفاق فمدي إلى الرحمن كف تضرع فلسوف يرفع شأنك الخلاق فأمام قدرة ربنا تتضاءل الأنساب والأعراق فأين العزة؟! وأين النصرة؟! وأين الاستخلاف؟! أولم يقل الله: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8]؟! أولم يقل الله: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]؟! أولم يقل الله: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء:141]؟! أولم يقل الله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55]؟! إلى آخر هذه الآيات. فأين العزة أيها المشايخ؟! وأين الاستعلاء؟! وأين التمكين لأهل الإيمان في الأرض؟! وأين النصرة؟! وأين السبيل للمؤمنين على الكافرين؟ والكافرون الآن قد أذلوا المسلمين ذلاً لا ذل بعده، وقد أهانوا المسلمين مهانة لا مهانة بعدها. و A مع هذا الواقع المر الأليم أقول: اعلموا يقيناً بأنه لا يقع شيء في كون الله إلا بقدر وعلم وحكمة، والله يسمع ويرى، ولسنا بأرحم بالمستضعفين من الله، ولسنا بأرحم بآهات المتألمين من الله، فالله يسمع ويرى، ولا يقع شيء في كونه إلا بقدره، وإلا بعلمه وحكمته، والإيمان بالقدر خيره وشره ركن من أركان الإيمان بالله جل وعلا، ولا يصح إيمانك إلا إذا آمنت بالقدر خيره وشره، قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]. وروى مسلم في صحيحه عن أبي خيثمة قال: كان أول من قال في القدر -أي: بنفي القدر- بالبصرة معبد الجهني، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين، فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر، قال: فوفق لنا عبد الله بن عمر داخلاً المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي: أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، وظننت أن صاحبي سيكل الكلام إليّ فقلت: أبا عبد الرحمن! إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن، ويتقفرون العلم -أي: يبحثون عن غوامض العلم وخوافيه ودقائق مسائله- وذكر من شأنهم: ويزعمون أن لا قدر، وأن الأمر أنف، -أي: لا يعلم الله الأشياء إلا بعد وقوعها وحدوثها- فقال ابن عمر رضي الله عنهما: (فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر! لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر) ثم قال ابن عمر: حدثني أبي عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجلٌ شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد) الحديث وفيه أن هذا السائل الكريم سأل رسول الله عن الإيمان، فقال: (ما الإيمان؟ قال: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره)، فكل شيء في الكون بقدر، ولا يقع إلا بعلم وحكمة، وإن غابت عنا الحكمة فإن الله العليم يعلمها، وإن غابت عنا الحكم في أقدار الله وفي محن الله وابتلاءاته للمسلمين فإن الله جل وعلا يعلم الحكمة من وراء كل محنة، ويعلم الحكمة من وراء كل بلاء، ويعلم الحكمة من وراء كل قدر، فالله عليم حكيم، قال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59]. وقال جل وعلا: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [فاطر:11]، فما من ورقة في شجرة أو نخلة على ظهر الأرض تسقط إلا بعلمه، وإلا بقدره سبحانه، وما من شجر على ظهر الأرض إلا ويعلمه الله، وما من نهر ولا بحر على سطح الأرض إلا ويعلم الله ما في قعره، ولا يغيب عن سمعه وبصره وعلمه شيء، وإن وقع شيء في كونه فبقدر وبحكمة، وكيف ننسب الحكمة لحكماء البشر في أقوالهم وأفعالهم وننفي الحكمة عن خالق البشرية في أقواله وأفعاله؟! أيها الأخيار! إنما هو قدر الله، وهو واقع بعلم الله وحكمة الله جل جلاله، ولابد لكل مسلم من الإيمان بهذا حتى لا تعصف رياح القنوط بقلبه، وحتى لا تهب رياح الشكوك على إيمانه في صدره، قال جل جلاله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات:15] أي: لم يتشككوا، ولم تعصف رياح الشك بإيمانهم قط، بل إن إيمانهم بالله جل جلاله، وإيمانهم بالقدر خيره وشره، وإيمانهم بالعليم الحكيم إيمان ثابت كثبوت الجبال الرواسي؛ لا تزلزله الفتن، ولا تعصف به المحن، وأن كل شيء يقع في الكون إنما هو بقدر الله وعلمه وحكمته. وقد اخترت هذا العنوان الكريم: (لا تحسبوه شراً لكم)، لأؤكد لكم الخير المخبوء في المحن والفتن، وهذا على قدر علمي وإلا فقد يعلمنا الله حكماً في محنه وابتلاءاته، وقد يحجب عنا حكماً فلا يعلمها كثير من البشر، وهذا هو عنصرنا الثاني من عناصر هذا اللقاء: دروس من التاريخ.

بعض الدروس المستفادة من حادثة الإفك

بعض الدروس المستفادة من حادثة الإفك أيها الأخيار! اسمحوا لي أن أبدأ بهذا الدرس الذي استلهمته من قول الله تعالى في سورة النور: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:11] إلى آخر الآيات الكريمات في سورة النور. هذا الإفك الخطير، يقول الله فيه: (لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ) وتدبر معي! فأنت قد قرأت الآيات الكريمة من قبل، لكنني اليوم أخاطب فيك عقلك وقلبك وفطرتك، الله يقول في هذا الإفك العظيم الذي طحن قلب المصطفى، ومزق فؤاده، إنه إفك رمي به المصطفى في شرفه رمي به المصطفى في عرضه رمي به المصطفى في طهارته، وهو الطاهر الذي فاقت طهارته كل العالمين، رمي به المصطفى في صيانة حرمته! إنه إفك خطير، والحديث في الصحيحين، ولا أريد أن أقف مع الحديث بطوله، وإنما نقف عند المهم منه، وفيه: أن عائشة رضي الله عنها لما تخلفت عن الجيش في غزوة بني المصطلق لقضاء حاجتها، وكانت الغزوة بعد نزول آية الحجاب، فكانت تحمل في الهودج، وتنزل وهي بداخل الهودج، وهذا من دواعي الستر والحجاب، والهودج: هو المحمل المعلوم الذي يوضع على ظهر البعير، فإنه لما نزلت آية الحجاب كان نساء النبي صلى الله عليه وسلم يركبن في الهودج إذا سافرن مع النبي صلى الله عليه وسلم. وأرجو أن تتصوروا معي عائشة الفتاة الحيية التي ترعرعت في بستان الحياء والإيمان إذا أرادت أن تقضي حاجتها وكانت في مكان فيه رجال، أتصور أنها ستنطلق بعيداً بعيداً، حتى لا تراها العين، ثم تقضي حاجتها، وهذا هو الذي كان في هذه الغزوة، فإنها لما خرجت كان الليل شديد السواد، وكان الليل حالك الظلمة، فعادت عائشة رضوان الله عليها إلى هودجها في المكان الذي نزل فيه الجيش فتحسست عقدها فلم تجده، فعادت إلى المكان الذي قضت فيه حاجتها؛ لتبحث عن عقدها، ثم عادت فوجدت الجيش قد رحل! وكان الرجال قد حملوا الهودج فوضعوه على الراحلة وهم يظنون أن أم المؤمنين بداخل الهودج، فنامت في مكانها حتى يرجع إليها القوم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر صفوان بن المعطل السلمي رضي الله عنه أن يبقى خلف الجيش؛ ليأتي بأي شيء أو بأي متاع، فلما جاء صفوان بن المعطل ورأى سواد إنسان فنظر إليها فعرفها وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، تقول عائشة: فوالله! ما استيقظت من نومي إلا على استرجاعه، فخمرت وجهي بجلبابي -أي: غطيت وجهي بجلبابي- فلما رآني عرفني وكان يراني قبل نزول آية الحجاب، قالت: والله! ما كلمني، ولا كلمته، وما سمعت منه غير استرجاعه -أي: غير قوله: إنا لله وإنا إليه راجعون- فأناخ صفوان راحلته، فركبت أم المؤمنين رضي الله عنها حتى أدركوا الجيش في نحر الظهيرة -أي: في وقت شدة الحر- فلما رآها رأس النفاق عبد الله بن أبي قال: من هذه؟ قالوا: أم المؤمنين عائشة. قال: ومن هذا؟ قالوا: صفوان بن المعطل السلمي رضي الله عنه، قالت: فهلك من هلك في شتمي. وفي رواية خارج الصحيحين: قال المنافق الخبيث: من هذه؟ قالوا: أم المؤمنين عائشة، قال: ومن هذا؟ قالوا: صفوان بن المعطل السلمي فقال الوقح: امرأة نبيكم تبيت مع رجل حتى الصباح، ثم جاء يقود لها الراحلة! والله ما نجت منه وما نجا منها! إنها قولة خبيثة شريرة، وتلقفت عصابات النفاق -التي لا يخلو منها زمان ولا مكان- هذه القولة الشريرة، وهذا الإفك الخطير، ورددت هذه الكلمات التي اتهم فيها رسول الله في عرضه، وفي شرفه ودينه ورسالته، وفي كل شيء، وفي عائشة التي أحبها من كل قلبه، كما في صحيح البخاري من حديث عمرو بن العاص قال: قلت: (يا رسول الله! أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة)، فيرمى رسول الله في زوجته! ويرمى الصديق في طهارة بنته! وهو الصديق الطاهر الذي قال قولته التي تعبر عن مدى ألمه، قال: (والله! ما رضينا بهذا في الجاهلية أفنرضى به في الإسلام؟!) وعائشة هي الزهرة المتفتحة في بستان الإسلام، المترعرعة في حديقة الإيمان، التي تولى تربيتها ابتداءً صديق الأمة، ثم انتقلت في التاسعة من عمرها إلى بيت نبي هذه الأمة، فعلى أي منهج تربت عائشة؟! وعلى أي خلق ثم ترمى في عرضها وفي شرفها؟! ويرمى صفوان بن المعطل في دينه، بل ويرمى بالخيانة لربه، ولرسوله صلى الله عليه وسلم! وترجع المسكينة عائشة إلى بيت رسول الله في المدينة وهي لا تعلم شيئاً، فهي الحصان الرزان التي لا تأبه لمثل هذا، وخاضت عصابة المنافقين في المدينة شهراً كاملاً في هذا الإفك الخطير، ولحكمة يريدها ربنا لا ينزل الوحي على قلب المصطفى شهراً كاملاً، ويحطم الألم كبده، ويهز الحزن فؤاده، حتى خرج النبي يسأل عن عائشة! فيسأل أسامة، ويسأل علياً، ويسأل بعض الصحابة عن عائشة، وتصوروا معي حالة رسول الله صلى الله عليه وسلم! تقول عائشة: وأنا لا أنكر شيئاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا اللطف الذي كنت أعرف منه، فكان يدخل عليّ فيسلم ويقول: (كيف تيكم؟) حتى دخلت عليّ أم مسطح فأخبرتني بما يقوله أهل الإفك، فلما دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: أتأذن لي أن آتي أبوي؟ فأذن لها رسول الله، فذهبت إلى بيت الصديق رضي الله عنه، وبعد شهر كامل دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت الصديق، وجلس إلى جوار عائشة رضي الله عنها، فتشهد -أي: حمد الله عز وجل، وأثنى عليه- ثم التفت إلى عائشة وقال: (يا عائشة! إن كنت قد ألممت بذنب فاستغفري الله، وتوبي إليه؛ فإن العبد إذا أذنب وتاب إلى الله تاب الله عليه، وإن كنت بريئة فسيبرئك الله عز وجل)، تقول عائشة: فلما سمعت مقالة رسول الله قلص دمعي -أي: جف دمعي- والتفت إلى أبي، وقلت: أجب عني رسول الله، فقال الصديق: (والله! ما أدري يا ابنتي! ماذا أقول لرسول الله)، فتركت عائشة المسكينة أباها الصديق، والتفتت إلى أمها وقالت: أجيبي عني رسول الله، فقالت الأم المسكينة الجريحة: والله! ما أدري يا ابنتي! ماذا أقول لرسول الله، ثم قال عائشة: والله! لا أجد لي ولكم مثلاً إلا كما قال أبو يوسف: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18]، قالت: ثم نمت على فراشي، وأنا أعلم والله! أني لبريئة، وأن الله مبرئي، لكني ما كنت أظن أن ينزل الله فيّ وحياً يتلى، فلشأني في نفسي كان أحقر من أن ينزل فيّ وحي يتلى، بل كنت أرجو الله أن يرى رسول الله صلى الله عليه سلم رؤيا يبرئني الله فيها، قالت: والله! ما رام أحد مجلسه -أي: ما ترك أحد في البيت مكانه الذي يجلس فيه- وإذ بالوحي يتنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إذا تنزل عليه الوحي أخذته شدة، فتحدر منه عرق كالجمان -أي: كحبات اللؤلؤ- في اليوم الشديد البرد؛ من شدة ما يتنزل عليه من الوحي، قالت: فسري عن رسول الله وهو يبتسم ويقول: (أبشري يا عائشة! فلقد برأك الله عز وجل)، فقالت أمها: قومي يا عائشة! -أي: قومي إلى رسول الله- فاشكريه، فقالت عائشة: لا والله! والله! لا أقوم إلى رسول الله، ولا أحمد إلا الله عز وجل الذي أنزل براءتي من السماء، فابتسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت براءتها العظيمة من أعظم مناقب عائشة، قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور:11]. ويسأل الآن أصحاب القلوب القلقة المتشككة: أين الخير في هذا الإفك الخطير؟! أين الخير وقد رمي رسول الله في عرضه؟! أين الخير وقد اتهمت عائشة بالزنا؟ وأين الخير وقد رمي الصديق في شرفه؟ وأين الخير وقد اتهم صفوان بالخيانة؟! وأين الخير وقد كادت عائشة أن تموت وهي بين الأحياء؟! وأين الخير والمؤمنون الصادقون من الأوس والخزرج كادت أن تقع بينهم فتنة؟! ولكن الخير موجود كما قال تعالى: {لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور:11]، وقال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216]. فإن قلت: أين الحكمة في هذا الشر؟ وأين الخير في هذا الإثم؟! فأقول: تدبر معي! وسأقف على ثلاثة دروس فقط من هذا الشر؛ لأجلي الخير الذي فيه.

حادثة الإفك أظهرت فضل عائشة

حادثة الإفك أظهرت فضل عائشة الدرس الثالث من دروس هذه المحنة والفتنة والابتلاء: لولا هذا الابتلاء ما عرفت الأمة مكانة عائشة؛ فلهذا الدرس تجلت مكانة الصديقة بنت الصديق واستحقت أن تكون بجدارة حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت عائشة تفخر بأن الله برأها من فوق سبع سماوات، وظلت في قلب المصطفى حتى مات، قالت: (مات رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي، وفي يومي، وبين سحري ونحري، وجمع الله بين ريقي وريقه في آخر يوم من أيام الدنيا، وأول يوم من أيام الآخرة) والحديث في الصحيحين. هذه بعض الدروس، وهذا بعض الخير في هذا الشر، وصدق الله القائل: {لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور:11].

رسول الله لا يعلم الغيب

رسول الله لا يعلم الغيب الدرس الأول في هذا الإفك العظيم وهذا الابتلاء الكبير: أنه لو لم يرد الله عز وجل من هذه المحنة إلا أن يعلم الأمة أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب لكفى، ويا له من خير! ويا له من درس! شهر كامل ورسول الله لا يعلم شيئاً، ولا يعلم الخبر، ويسأل عن عائشة أصحابه، قال عز وجل: {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف:188] وقال عز وجل: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا * قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا * قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا * إِلَّا بَلاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ} [الجن:20 - 23]، أي: إلا أن تبلغ دين الله، ورسالة الله على مراد الله، كما قال: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود:112]. إنه درس عظيم!

الفتن والابتلاءات تظهر المنافقين

الفتن والابتلاءات تظهر المنافقين الدرس الثاني: بعد هذه المحنة ظهر المنافقون، فالمنافقون مندسون في الصف، والمؤمنون يعرفون أعداءهم الظاهرين، فيعرفون اليهود، ويعرفون أهل الكفر، لكنهم لا يعرفون المنافقين الذين يندسون في الصفوف، فتأتي المحن، وتأتي الفتن؛ لتظهر ما تكنه الصدور من نفاق، ولتظهر ما تكنه القلوب من حقد على الإِسلام وأهله، فظهر النفاق، وظهرت عصابة النفاق، فالمحن تطرد عن الصف المزيفين، ولا يثبت على الصف بعد المحن والفتن والابتلاءات إلا من صفت نفسه، وخلصت سريرته، ومشى على الطريق يريد فضل الله وأجر الله جل جلاله، فلا يتاجر بالدعوة ولا بالعقيدة في سوق التجارة والشهوات، ولا يكون ممن يبيع ويشتري بالدعوة، فإن حصل نفعاً وخيراً فهو على الطريق مع السائرين، وإن تعرض للمحنة أو الابتلاء تخلى عن الطريق، كما قال عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11]، وقال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2 - 3]. وهل الله لا يعلم الصادقين من الكاذبين إلا بعد المحن والابتلاءات؟! A كلا، بل إن الله علم ما كان وما هو كائن وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، وإنما ليطلع الله أهل الإيمان على أهل النفاق، ثم ليعاقب الله وليحاسب الله عباده على ما بدر منهم من قول وعمل، لا على ما علمه منهم سبحانه وتعالى، وهذا قمة العدل والرحمة، فالفتن والمحن تظهر المنافقين، وتبين المخبوء في الصدور، فظهر بعد المحنة أهل النفاق وعصابة النفاق.

بعض الدروس المستفادة من ابتلاءات النبي صلى الله عليه وسلم

بعض الدروس المستفادة من ابتلاءات النبي صلى الله عليه وسلم الدرس الثاني: في غزوة أحد شج وجه المصطفى وكسرت رباعيته ونزف الدم الشريف من جسده الطاهر، وهزم المسلمون؛ لسنة ربانية، ألا وهي: أنهم خالفوا أمر سيد البشرية، وانتشر الخبر في أرض المعركة: لقد قتل رسول الله، حتى ألقى بعض الصحابة أسلحتهم، وقال بعضهم: مات رسول الله، فما نصنع بعده؟! فقال أنس بن النضر -وحديثه في الصحيحين-: قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله. انتشر خبر موت المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهزم المسلمون، وشج وجه المصطفى، وكسرت رباعيته، وانتصر المشركون، ومع ذلك تريد أن تقول: إن هذا الأمر ليس من الشر، وفيه من الخير ما الله به عليم؟! فأقول: بلى، فيه من الخير ما الله به عليم، وتدبر معي قوله تعالى في هذه الغزوة: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ * وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:139 - 144]. أيها الموحدون! أراد الله بغزوة أحد وبهذه الحادثة الأليمة أن يعلم الصحابة أن العبد عبد، وأن الرب رب، ولو كان العبد هو المصطفى صلى الله عليه وسلم، أراد الله أن يعلم الصحابة والأمة من بعدهم درساً لا ينسى أبداً، وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم مبلغ عن الله، ورسول من عند الله، جاء ليبلغ الناس دين الله، وجاء ليربط الناس بالعروة الوثقى ثم يمضي إلى ربه وهم بالعروة الوثقى مستمسكون. أراد الله أن يجعل عهد المسلمين معه سبحانه مباشرة لا مع أحد من خلقه، حتى إذا مات رسول الله بقي المسلمون على عهدهم مع الحي الذي لا يموت. أراد الله أن يعلِّم المسلمين أن الدعوة أبقى من كل الدعاة، وأن الدعوة أكبر من كل الدعاة، وأن الدعاة يجيئون ويذهبون ويموتون، وتبقى الدعوة قائمة على مر الأيام والقرون، فلو ماتت الدعوة بموت داعية لماتت دعوة الإسلام بموت سيد الدعاة صلى الله عليه وآله ومن ولاه! فلا تحسبوه شراً لكم، بل هو خير لكم.

بعض الدروس المستفادة من صلح الحديبية

بعض الدروس المستفادة من صلح الحديبية وفي صلح الحديبية قال عمر بن الخطاب: (يا رسول الله! ألسنا على الحق؟! قال: بلى، أليسوا على الباطل؟! قال: بلى، أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟! قال: بلى، قال: فلم نعط الدنية في ديننا ونرجع؟!). لقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ألف وأربعمائة رجل من أصحابه -على الراجح من أقوال المحققين من أهل السير- للعمرة، خرج رسول الله بإحرامه يسوق الهدي أمامه، ولم يخرج للقتال، ولكن المشركين تكبروا وعاندوا وأعرضوا ومنعوا رسول الله من دخول بيت الله الحرام، وأرسلوا إليه مفاوضين، حتى أرسلوا إليه سهيل بن عمرو؛ ليوقع عقد صلح الحديبية مع رسول الله، وكان عقداً مجحفاً ظالماً في الظاهر، حتى قال عمر: فلم نعط الدنية في ديننا؟! وغضب عمر إلى الحد الذي ترك فيه رسول الله وذهب إلى الصديق؛ ليقول له ما قاله للنبي: يا أبا بكر! ألسنا على الحق؟! قال: بلى، أوليسوا على الباطل؟! قال: بلى، أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى، قال: فلم نعط الدنية في ديننا يا أبا بكر؟! فيقول الصديق لـ عمر ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمر، فالرسول قال: (إني رسول الله ولن يضيعني)، والصديق قال لـ عمر: (يا عمر! إنه رسول الله، ولن يضيعه). ونزل القرآن على رسول الله يخبره أن الصلح كان فتحاً، ونزل قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1]، فلما سمع عمر الآية اطمأن قلبه، واستبشر بأنه فتح، وبالفعل لقد كان فتحاً، فلقد تفرغ النبي صلى الله عليه وسلم للدعوة، وأرسل كتبه إلى الملوك والحكام والرؤساء، وصار الإسلام قوة لا يستهان بها، وبعد سنوات قليلة عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه المؤمنين الأتقياء؛ ليفتحوا مكة بأمر رب الأرض والسماء، فكان صلح الحديبية -وإن كان في ظاهره ظلم شديد للمسلمين- فتحاً مبيناً، كما قال رب العالمين، وكما وعد بذلك سيد المرسلين: (لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ).

الدروس المستفادة من الأحداث والمحن عبر التاريخ

الدروس المستفادة من الأحداث والمحن عبر التاريخ لا أريد أن استطرد مع أحداث التاريخ كلها، ففي كل محنة خير، وفي كل شر خير، ولا يوجد على الإطلاق شر محض، بل في كل محنة منحة، وفي كل ابتلاء دروس، وإن غابت عنا الحكمة فالله يعلمها؛ لأنه هو الذي قدر وقضى بعلم وحكمة. وإمام أهل السنة: أحمد بن حنبل ما عرفت إمامته إلا بعد محنة فتنة خلق القرآن، وما صار إماماً لأهل السنة إلا بعد المحنة، وما عرف بأنه إمام من أئمة الصبر، وبأنه جبل من جبال الثبات على الحق، إلا بعد المحنة، فالمحن تظهر الرجال، والمحن تظهر المخبوء في الصدور؛ لأن الإنسان في حال الرخاء والسعة قد لا يعرف خبايا نفسه، وقد لا يقف على عيوبها، بل قد يتوهم الكمال، فإذا ما تعرض لمحنة أو ابتلاء ظهرت عيوب نفسه: من الجزع والفزع والهلع، والخوف وعدم الحب لدين لله، فالمحن تظهر الرجال. ولما تعرض الإمام أحمد للمحنة، وسجن ثلاثين شهراً، وضرب بالسوط، من أجل أن يقول: إن القرآن مخلوق، فقال: ائتوني بآية من كتاب الله لأقول بها، ائتوني بحديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحدث به، فثبت الإمام حتى صار بعد المحنة إماماً لأهل السنة، حتى قال إمام الجرح والتعديل علي بن المديني رحمه الله تعالى: لقد أعز الله الدين بـ أبي بكر يوم الردة، وبـ أحمد بن حنبل يوم المحنة. وهذا درس آخر من أحداث التتار لما نزلوا العراق، وأسأل الله أن يكشف هم العراق، وأن يدمر الأمريكان ومن عاونهم من البريطان، فما زالوا يدكون العراق بالطائرات، بل أعدوا العدة لضرب العراق ضربة ساحقة. لما دخل التتار بغداد، وكانت عاصمة الخلافة، فمنعوا صلاة الجمعة وصلاة الجماعة في بيوت الله جل وعلا، وخشي المسلم من أن يخرج إلى الشارع، ولقد هزم المسلمون يومها هزيمة نفسية نكراء، حتى كان الرجل التتري إذا رأى المسلم في الشارع صرخ فيه وقال: قف مكانك! حتى أرجع إلى داري لآتي بسيفي لأذبحك! فيثبت المسلم في مكانه من الفزع والرعب ولا يتحرك حتى يغيب التتري ما شاء الله له أن يغيب ثم يرجع ليذبح المسلم في مكانه، وهو لم يتحرك من الهزيمة النفسية القاتلة!! لكن هذا كان يحمل من الخير ما الله به عليم، فبهذه المحنة صفت القلوب، وصفت الصفوف، فثبت على الصف الأطهار والأبرار، وخرج من الصف المنافقون والدخلاء، حتى قام المسلمون على قلب رجل واحد، فهزموا التتار شر هزيمة، وعادت عاصمة الخلافة مرة أخرى إلى المسلمين. ثم جاءت بعد ذلك الحروب الصليبية الطاحنة، واستولى الصليبيون على بيت المقدس، ورفعوا الصلبان على كل أجزائه وأماكنه، ومنعوا الصلاة في المسجد الأقصى واحداً وتسعين عاماً، ولم تصل في المسجد صلاة واحداً وتسعين عاماً! هذه المحنة الشديدة الطويلة صفت القلوب، وغربلت الصفوف، فخرج من الأمة الأطهار والأبطال، وأنا أؤكد تأكيداً جازماً: أن الأمة لا تخلو أبداً من هذه العصابة المؤمنة من أبناء الطائفة المنصورة التي لا يخلو منها زمان ولا مكان، فخرجت هذه الصفوة وهذه الثلة المباركة بقيادة صلاح الدين -أسأل الله أن يزرق الأمة الصلاح؛ لتكون من جديد قادرة على إنجاب مثل: صلاح - فهزموا الصليبيين شر هزيمة، واستردوا المسجد الأقصى، ويومها علّم صلاح الدين الصليبيين الحاقدين درساً من أعظم دروس الإحسان في الإسلام.

بعض الدروس المستفادة من الأحداث الجارية على الأمة الإسلامية في هذا العصر

بعض الدروس المستفادة من الأحداث الجارية على الأمة الإسلامية في هذا العصر والمحنة التي تمر بها أمتنا الآن في فلسطين وفي كشمير وفي الشيشان وفي الفلبين وفي طاجاكستان وفي العراق وفي الجزائر وفي السودان وفي اريتريا وفي كل مكان، أقول -بعد هذا السرد التاريخي السريع- بملء فمي وأعلى صوتي: لا تحسبوا هذه الفتن شراً لكم، بل هي خير لكم، وإن ظن البعض أنه لا خير؛ لأن الدماء تسفك، والأشلاء تمزق، والقدس في أيدي اليهود، والشيشانيون يذبحون، والمسلمون في كشمير يذبحون إلخ. ولكن كما قال الله: (لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) وأستطيع أن أستخرج بعض دروس الخير من هذه الفتنة الحالقة الطاحنة، وأنا أقر بأنها طاحنة وبأنها قد طالت، فبعد زوال ظل الخلافة لم تزل الأمة في محنة، ومما يزيد الألم في القلب: أن الأمة في الماضي كانت مع كل محنة تملك جل أو كل مقومات النصر: من إيمان صادق بالله، وتوكل عليه، واستعانة به، وإعداد للقوة على قدر الطاقة، وبهذا تكون الأمة قد نفذت أمر الله، وامتثلت شريعته، لكن الذي يزيد الألم الآن في القلب: أن الأمة قد نحت شريعة الله بالجملة، ولم تعد تثق في الله كثقتها في أمريكا أو في أوروبا! بل ما زالت الأمة الآن -على ألسنة زعمائها- تردد وتتغنى بالدور الأمريكي، وبراعية السلام في المنطقة! وبالاتحاد الأوروبي! وبالحلف الأطلسي! وبالبيت الأبيض! وبالبيت الأحمر! فالأمة الآن تثق في أمريكا وفي بعض الدول أكثر من ثقتها برب السماء والأرض! وهذا مما يزيد المحنة أسىً، وأنا لا أنكر ذلك، ولكنني ومع كل ذلك أذكر بقوله تعالى: (لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ)، فإن قلت أين الخير؟! فأقول: تدبر معي! لقد شاء الله جل وعلا في هذه المحنة الأخيرة الطاحنة أن يظهر للعالم كله حقيقة الغرب، وسقطت ورقة التوت، التي طالما وارى بها الغرب عوراتهم وسوءاتهم، وتمزقت خيوط العنكبوت التي طالما وارى بها النظام الغربي وجهه الكالح الغشوم، فسقطت ورقة التوت، وتمزقت كل خيوط العنكبوت، وأظهرت المحنة الأخيرة بعد زوال ظل الخلافة، وبعد وضع الغدة السرطانية الخبيثة المعروفة بدولة اليهود في قلب فلسطين الحبيبة، أظهرت المحنة النظام الغربي على حقيقته، وقد كنا منذ سنوات قليلة جداً نسمع في إعلامنا، ونقرأ على صفحات الجرائد لأقلام تعزف على وتر التصفيق والتشييد للغرب، فشاء الله تبارك وتعالى أن تظهر المحنة حقيقة الغرب، وأن الغرب الكافر لن ينصر توحيداً قط؛ لأن الكفر ملة واحدة، وصدق ربي إذ يقول: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]، وصدق ربي إذ يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة:1]. والمؤمن لا يحتاج إلى هذا الواقع ليصدق به كلام الله، ولكن الواقع المر يظهر الحقائق لأصحاب القلوب القلقة المتشككة، فقد ظهر النظام الغربي على حقيقته، وظهرت حقيقة البيت الأبيض، وظهرت حقيقة هيئة الأمم، وظهرت حقيقة الحلف الأطلسي، وظهرت حقيقة مجلس الأمن، وظهرت حقائق هذه الأحلاف والمنظمات والهيئات، وعلم المسلمون بل والعلمانيون أن القضية لن تحلها أمريكا، ولن تحلها أوروبا أبداً! هذه الفتنة أظهرت كل هذه الحقائق، وبدون هذه المحنة لم يكن قد ظهر شيء من هذا على الإطلاق، ولقد انتبه غافل قومنا من المسلمين إلى أن الغرب الكافر لا ينصر لله ديناً، ولا ينصر للأمة قضية، وأظهرت المحنة حقيقة الزعماء، وحقيقة كثير ممن يدعي أنه يحب الإسلام، بل أظهرت حقيقة من يدعي الوطنية، وأظهرت هذه المحنة حقيقة الوطنيين، فما أودى بالأمة إلا وطنية مشئومة، وما أودى بالأمة إلا عصبية منتنة، ولكن المحنة أظهرت كل هذا، وأظهرت المحنة أيضاً حقيقة كثير من العلماء ممن سقطوا فزوروا الفتاوى من أجل كرسي أو منصب زائل، وأظهرت المحنة أيضاً كثيراً ممن كان يتغنى بحب الجهاد، ولكنه يبخل بدعوة لإخوانه فضلاً عن جهاد بماله! فأظهرت الأزمة للأمة هذه الحقائق. وأظهرت الأزمة أيضاً: أن محمداً ما مات، وما خلف بنات، بل خلف رجالاً، بل إن الأطفال على أرض فلسطين قد سطروا المعجزات، ورب الكعبة! لقد صرت أحقر نفسي إلى جوار طفل على أرض فلسطين، فماذا أفعل؟! وماذا يصنع مثلي؟! نتكلم ولكن لا ينفع الكلام، ونناظر في التكليفات الباردة، وما أيسر التنظير! نشاهد الدماء كل يوم تسفك، والأشلاء كل يوم تمزق! وبعدها بلحظات نأكل ملء بطوننا، وننام ملء جفوننا، ونضحك ملء أفواهنا، وإذا خرج أحدنا في مظاهرة صاخبة عاد وهو يتصور أنه قد فتح القدس، وقد أدى كل ما عليه لله! والله! لقد صرت أحقر نفسي إلى جوار طفل صغير في الخامسة أو في السادسة من عمره على أرض فلسطين، طفل لا يجد أمامه إلا حجراً يواجه به عصفوراً يواجه به كلباً! بل يواجه به أعتى كلاب الأرض يواجه به أشد الخنازير! يواجه به طائرات في السماء! يواجه به دبابات في الأرض! يواجه به رصاصاً حياً! طفل يمسك حجراً يريد الشرف يريد الكرامة يريد العزة للأمة المسلوبة الجريحة، طفل علم الرجال الكرامة طفل علم الرجال الرجولة طفل علم الزعماء البطولة طفل علم القادة حقيقة التضحية والفداء!! فما ظهر هذا الخير إلا بعد هذه المحنة، ظهر شباب على أرض القدس يريد أن يضحي بنفسه لله جل وعلا. ويوم أن خرج أمناء جبل الهيكل المزعوم في يوم الأحد لوضع حجر الأساس، نادى طفل القدس على المسلمين في القدس: أن احفظوا المسجد الأقصى، وحولوا بين اليهود وبين بيت الله، فخرج المسلمون الأطهار بعشرات الألوف من كل أنحاء فلسطين، ولم يخرجوا في صباح يوم الأحد بل خرجوا ليلة الأحد، فباتوا في بيت الله جل وعلا، باتوا في المسجد الأقصى وكلهم يشتاق للقاء الله، وكلهم يريد أن يضحي بجسده وبروحه وببيته وبماله من أجل بيت الله جل وعلا، ولم تستطع العصابة اليهودية المتطرفة أن تضع الحجر في ذلك اليوم، ولم تتمكن من ذلك بفضل الله، ثم بفضل هذه الثلة الكريمة التي علمت الدنيا كلها: أن محمداً ما مات وما خلف بنات، بل خلف أطهاراً أبراراً، تحترق قلوبهم شوقاً للشهادة، ويتمنى أحدهم أن لو ضحى بنفسه لنصرة دين الله جل وعلا، وأن لو بذل كل دمه لحماية المسجد الأقصى من براثن اليهود المجرمين، فـ (لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ).

النصر مقرون بالابتلاء والمحن

النصر مقرون بالابتلاء والمحن والله! ثم والله! لا تنتصر الأمة إلا بمثل هذه المحن، وإلا بمثل هذه الفتن، وإلا بمثل هذه الابتلاءات، ولا يثبت على الصف إلا من صفت نفسه، وخلصت سريرته، وسار على الدرب خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقول: غداً ألقى الأحبة محمداً وصحبه، وانطلق على أرض البطولة يردد قول عبد الله بن المبارك لعابد الحرمين الفضيل بن عياض: يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك في العبادة تلعب من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب أو كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعب ريح العبير لكم ونحن عبيرنا رهج السنابك والغبار الأطيب ولقد أتانا من مقال نبينا قول صحيح صادق لا يكذب لا يستوي غبار خيل الله في أنف امرئ ودخان نار تلهب فهل تظنون أن عباد الصليب من الأمريكان يعجزون الملك القدير؟! وهل تظنون أن إخوان القردة والخنازير يعجزون الملك القدير؟! لا ورب الكعبة! فإن الله يسمع ويرى، ولكنها السنن، كما قال عز وجل: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد:4]، وقال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ} [البقرة:251]، وقال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40]، لقد كادت الفيضانات أيها المسلمون! أن تعزل بريطانيا كلها عن العالم، كادت أن تعزل المملكة التي قيل عنها يوماً: لا تغيب عنها الشمس، الفيضانات التي هي جندي من جنود رب الأرض والسماوات، كما قال سبحانه: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31] كادت أن تعزل بريطانيا عن العالم. وكادت الحرائق أن تحرق كل مزارع أمريكا، ولم تستطع الطائرات في السماء أن تطفئ الحرائق في عشرات الآلاف من المزارع التي في الأرض، وكاد زلزال في روسيا أن يجعل عالي الأرض سافلها، وأن يجعل سافلها عاليها، قال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:20] فالله هو مالك الكون ومدبر الكون، ولا يعجز الله شيء في كونه، كما قال سبحانه: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، فهل تشكون في قدرة الله؟! وهل تشكون في عظمة الله؟! وهل تشكون في قوة الله؟! قال عز وجل: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:6 - 14]. وقال عز وجل: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:1 - 5]. وقال عز وجل: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ * وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ * وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ * وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ * فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ * يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ * لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [إبراهيم:42 - 52]. فأين الظالمون؟! وأين التابعون لهم في الغي؟! بل أين فرعون وهامان؟! قال الشاعر: أين من دوخوا الدنيا بسطوتهم وذكرهم في الورى ظلم وطغيان هل خلد الموت ذا عز لعزته أو هل نجا منه من بالسلطان إنسان لا والذي خلق الأكوان من عدم فالكل يفنى فلا إنس ولا جان. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

العاقبة للمتقين

العاقبة للمتقين الحمد لله رب العالمين، اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين. وبعد: وأخيراً: العاقبة للمتقين، قال عز وجل: {إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128]، وقال سبحانه: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:110]، وقال تعالى في شأن اليهود: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} [آل عمران:111]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36]، ولا أريد أن أطيل، فقد فصلت هذا من قبل مراراً وتكراراً، ولكنها إشارة، فمهما طال الزمن واشتد الابتلاء وزادت المحن والفتن فإن العاقبة في نهاية الطريق للمتقين. اللهم عجل بنصرك يا أرحم الراحمين! اللهم انصر إخواننا في فلسطين! والحمد لله رب العالمين.

وصف الحبيب عليه السلام

وصف الحبيب عليه السلام لقد اصطفى الله سبحانه محمداً صلى الله عليه وسلم وفضله على العالمين، وأكرمه فأحسن خَلقه وخُلقه، فكان صلى الله عليه وسلم من أجمل الناس منظراً وأحسنهم هيئة. وإن من أعظم دلالات حب الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقلوا لنا وصفه صلى الله عليه وسلم وجلوه لنا حتى كأننا نراه، فصلى الله عليه وسلم ورضي الله عن أصحابه الكرام.

إكرام الله لنبيه بالحوض المورود

إكرام الله لنبيه بالحوض المورود بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الذي خلق فسوى، وهو الذي قدر فهدى، مالك الملك، وملك الملوك، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير إنه على كل شيء قدير. يا رب! بك أستجير ومن يجير سواكا فأجر ضعيفاً يحتمي بحماكا إني ضعيف أستعين على قوى ذنبي ومعصيتي ببعض قواكا أذنبت يا رب وآذتني ذنو ب مالها من غافر إلاكا دنياي غرتني وعفوك غرني ما حيلتي في هذه أو ذاكا لو أن قلبي شك لم يك مؤمناً بكريم عفوك ما غوى وعصاكا يا منبت الأزهار عاطرة الشذى هذا الشذى الفواح نفح شذاكا يا مجري الأنهار ما جريانها إلا انفعالة قطرة لنداكا رباه هأنذا خلصت من الهوى واستقبل القلب الخلي هواكا رباه قلبٌ تائبٌ ناداك أترده وترد صادق توبتي حاشاك ترفض تائباً حاشاكا فليرض عني الناس أو فليسخطوا أنا لم أعد أسعى لغير رضاكا وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وعظيمنا وقائدنا ومعلمنا وقدوتنا محمداً رسول الله، اللهم صل وسلم وبارك عليك يا سيدي يا رسول الله! يا صاحب المقام المحمود، ويا صاحب اللواء المعقود، ويا صاحب الحوض المورود، حوض ماؤه أشد بياضاً من اللبن، وأحلى مذاقاً وطعماً من العسل، عدد كيزانه بعدد نجوم السماء، من سقي منه بيد المصطفى شربة لا يظمأ بعدها أبداً. من الموحدين من يرد حوض الحبيب، فيرى واقفاً على الحوض في استقباله عثمان بن عفان، ترى في استقبالك الحيي الكريم عثمان زوج بنات المصطفى صلى الله عليه وسلم يقدم لك الكأس لكي تشرب من حوض حبيبك محمد صلى الله عليه وسلم، ومن الموحدين المخلصين من يرد الحوض، فيرى في انتظاره وفي استقباله على حوض الحبيب الفاروق عمر، يقدم لك الكأس لكي تشرب من حوض الحبيب، ومن الموحدين المخلصين من يرد على الحوض، فيرى على الحوض واقفاً في استقباله وفي انتظاره: أبا بكر الصديق، ومن الموحدين من يرد على الحوض فلا يرى عثمان ولا يرى عمر ولا يرى الصديق وإنما يرى الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم يسقيه بيديه شربة هنيئة مريئة لن يظمأ بعدها أبداً، ومن الموحدين من يرد على حوض الحبيب فلا يرى عثمان ولا يرى عمر ولا يرى الصديق ولا يرى حتى الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولكنه يرى الكأس يرتفع إلى فمه لكي يشرب فيصرخ ويقول: من الذي يسقيني؟! إن الساقي هو الله، الله أكبر! ليس عثمان ولا عمر ولا الصديق ولا حتى الحبيب صلى الله عليه وسلم، إن الساقي هو الله: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا * إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا} [الإنسان:21 - 22]. اللهم أوردنا حوض الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، واسقنا بيده الشريفة شربة هنيئة مريئة لا نظمأ بعدها أبداً يا رب العالمين! اللهم صل وسلم وبارك عليه صلاةً وسلاماً يليقان بمقام أمير الأنبياء وسيد المرسلين: يا مصطفى ولأنت ساكن مهجتي روحي فداك وكلما ملكت يدي إني وقفت لنصر دينك همتي وسعادتي أن لا بغيرك أقتدي لك معجزات باهرات جمةٌ وأجلها القرآن خير مؤيد ما حرفت أو غيرت كلماته شلت يد الزاني وشاه المعتدي وأنا المحب للحبيب محمد وأنا المحب ومهجتي لا تنثني عن وجدها وغرامها بمحمد قد لامني فيه العذول ولو يرى نعم الغرام به لكان مساعدي يا رب صل على الحبيب محمد واجعله شافعنا بفضلك في غد اللهم صل وسلم وبارك عليك يا سيدي يا رسول الله.

أهمية الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم عند ذكره

أهمية الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم عند ذكره بداية أيها الأحباب لا أحب أن يجالسني في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيل، فإن لقاءنا اليوم هو لقاء مع الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، وإن حديثنا اليوم هو حديث عن الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، وما أتينا إلى هذا المجلس المبارك إلا ابتغاء مرضاة الله. فبداية لا بد أن نخرج من هذه الجلسة بالخير الكثير، وإذا ما أردنا أن نخرج بالخير فيجب علينا أن نكثر من الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله دائماً وأبداً يصلي على حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم، والملائكة دائماً وأبداً تصلي على حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم، والله يأمر كل من دخل الإيمان قلبه بالصلاة على الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، فيقول ربنا جل جلاله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، صلى الله عليك صلاةً وسلاماً دائمين يا سيدي ويا حبيبي يا رسول الله! أما بعد: مرحباً بهذه الوجوه المشرقة بنور الإيمان بالله، في بيت من بيوت الله جل وعلا، وعلى مائدة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وإننا اليوم نحتفل برسول الله صلى الله عليه وسلم، وسأتكلم عنه صلى الله عليه وسلم بالتفصيل وبالتحديد، ونسأل الله جل وعلا أن يرزقنا الصواب والتوفيق. وبداية فإن كثيراً من الوعاظ والخطباء يحتفلون في شهر ربيع ويقولون: نحيي ذكرى ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا سوء أدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ما مات في لحظة من اللحظات حتى تحييه! فإذا ما أردت أن تعبر عن ذلك المعنى فقل: نحن نحيا بذكرى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الحديث عن رسول الله حياة، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم لم يمت في لحظة من اللحظات.

عظيم إكرام الله لنبيه صلى الله عليه وسلم

عظيم إكرام الله لنبيه صلى الله عليه وسلم لقد كرم الله النبي صلى الله عليه وسلم تكريماً ما أكرم به نبياً من الأنبياء، ولا رسولاً من الرسل. فقد ذكر أبو نعيم في دلائل النبوة، وابن كثير في تفسيره وفي البداية والنهاية: أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول لربنا: يا رب! ما من نبي إلا وقد كرمته، فقد اتخذت إبراهيم خليلاً، وكلمت موسى تكليماً، وسبحت الجبال مع داود، وسخرت الجن والطير والريح لسليمان، وخلقت عيسى من روحك، ففيم فضلتني بين هؤلاء وبم كرمتني بين هؤلاء؟ فقال له ربنا: يا محمد! إن كنت كرمت هؤلاء فقد كرمتك تكريماً ما كرمته لنبي من قبلك، فقال: ما هو يارب؟ فقال ربنا سبحانه وتعالى: يا محمد! لقد رفعت ذكرك، وأعليت شأنك، فلا أذكر حتى تذكر معي، يا محمد! المؤذن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، ويقول: وأشهد أن محمداً رسول الله. هل هناك تكريم أعظم من هذا التكريم؟! يذكر اسم الله فيذكر بعده اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا أذكر حتى تذكر معي يا محمد! لقد قرنت اسمك باسمي فلا أذكر حتى تذكر.

تزكية الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في شأنه كله

تزكية الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في شأنه كله ولقد زكاه الله في عقله فقال: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم:2] وزكاه في بصره فقال: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17] وزكاه في لسانه فقال: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3] وزكاه في فؤاده فقال: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11] وزكاه في صدره فقال: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1] وزكاه في معلمه فقال: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:5] وزكاه كله فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]. ورد في الحديث الصحيح الذي خرجه الإمام الترمذي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم استمع يوماً إلى بعض الناس، وقد جلسوا يتذاكرون في تفاضل الأنبياء فقال أولهم: أتعجبون، لقد اصطفى الله آدم على البشرية، وقال الآخر: لقد اتخذ الله إبراهيم خليلاً، وقال الثالث: لقد كلم الله موسى تكليماً، وقال الرابع: لقد خلق الله عيسى من روحه، فخرج عليهم رسول الله وقال لهم: (لقد استمعت إلى كلامكم وإلى عجبكم، إن آدم اصطفاه الله على البشرية وهو كذلك) فالنبي صلى الله عليه وسلم لا ينقص ولا يبخس أحداً حقه (وإن إبراهيم خليل الرحمن وهو كذلك، وإن موسى كليم الله وهو كذلك، وإن عيسى روح الله وهو كذلك، ألا وإني حبيب الله ولا فخر، وأنا حامل لواء الحمد بيدي يوم القيامة ولا فخر، وأنا سيد الأولين والآخرين ولا فخر، وأنا أول من يدخل الجنة ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر، وأنا أكرم الأولين والآخرين على الله ولا فخر) صلى الله عليه وسلم. لقد أتم الله التكريم للنبي صلى الله عليه وسلم في خَلقه وفي خُلقه، وقد اخترت أن أتكلم معكم عن رسول الله وعن كيفية خُلقه صلى الله عليه وسلم؛ كيف كان شعره؟ وكيف كانت عيناه؟ وكيف كان أنفه؟ وكيف كان فمه؟ وكيف كانت أسنانه؟ وكيف كان صدره؟ وكيف كان ذراعه؟ وكيف كانت بطنه؟ وكيف كانت قدمه؟ عن صفة خلق النبي صلى الله عليه وسلم. وبداية أطلب منكم أن تعيشوا معي بأرواحكم، حتى تتخيلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم معنا، استمعوا جيداً واستحضروا الحواس والأرواح والقلوب، حتى نصف رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأنه يقف الآن بين أيدينا وأمام أعيينا؛ لننظر إليه من ناصية رأسه وحتى أخمص قدميه، فنصفه للمسلمين الموحدين الذين يحبونه صلى الله عليه وسلم، والذين يضرعون إلى الله ليلاً ونهاراً أن يجمعهم به في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلى من أتى الله بقلب موحد سليم.

صفة وجه النبي صلى الله عليه وسلم

صفة وجه النبي صلى الله عليه وسلم أولاً: وجه النبي صلى الله عليه وسلم، ورد في الحديث الصحيح الذي خرجه الإمام البخاري عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجهاً، وأحسن الناس خلقا -فالخلق غير الخُلق- ليس بالطويل البائن، ولا بالقصير). وورد في الحديث الصحيح الذي خرجه الإمام الدارمي والإمام البيهقي عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة الأضحيان -يعني: ليلة مقمرة- فأخذت أنظر إلى القمر وأنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوالله لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في عيني أحسن من القمر)، اللهم صلِّ عليك يا حبيبي يا رسول الله. وفي الحديث الصحيح الذي خرجه الإمام الدارمي والإمام البيهقي والإمام الطبراني وهو عند الإمام أبي نعيم في دلائل النبوة من حديث الربيع بنت معوذ قيل لها: صفي لنا رسول الله فقالت سيدتنا الربيع بنت معوذ: (لو رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لقلت: إن الشمس طالعة) اللهم صل وسلم وبارك عليك يا سيدي يا رسول الله، هذا حديث صحيح، لو نظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى وضاءة وجهه، وإلى أنوار وجهه، لقلت: إن الشمس طالعة. وورد في الحديث الصحيح الذي خرجه الإمام مسلم من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: (كان وجه النبي صلى الله عليه وسلم كالشمس والقمر مستديراً) فأكثر من الصلاة والسلام على سيدي وحبيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم، الحديث خرجه مسلم عن جابر بن سمرة، كله نور، وكله جمال.

محمد صلى الله عليه وسلم أجمل من يوسف عليه السلام

محمد صلى الله عليه وسلم أجمل من يوسف عليه السلام فوالله الذي لا إله غيره، إن كان الله قد أعطى ليوسف بن يعقوب شطر الحسن -أي: نصف الحسن- فقد أعطى الحسن كله لمحمد صلى الله عليه وسلم. وقد يقال: إذا كان الله قد أعطى محمداً صلى الله عليه وسلم الحسن كله فلماذا لم تتعرض له امرأة قط؟! بينما يوسف عليه السلام الذي أعطى نصف الحسن قد تعرضت له النساء، بل وقطعن أيديهن انبهاراً بجماله، قال الله تعالى: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف:30 - 31]. فامرأة العزيز لما سمعت الكلام كثر في وسط المدينة، عملت وليمة للنساء وجمعتهن -من المعلوم أن كيد الشيطان ضعيف، أما كيد المرأة فعظيم: {إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف:28] أعظم من كيد الشيطان! إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم -ودبرت خطة: بأن أعطتهن ثمرة الأترج والسكاكين ليقطعن الأترج، ثم أمرت سيدنا يوسف بالخروج عليهن، فلما رأينه انبهرن بجماله وقطعن أيديهن ولم يشعرن؛ لشدة ما رأينه من جمال يوسف عليه السلام. فإذا كان هذا حال النساء مع يوسف عليه السلام لأنه أعطي نصف الحسن، فمحمد صلى الله عليه وسلم أعطي الحسن كله، فلماذا لم تتعرض له صلى الله عليه وسلم امرأة ولم تفتن به وقد أعطي الجمال كله؟ ف A أن الله جل وعلا حينما كسا محمداً بالجمال كسا جمال محمد بالهيبة والجلال والوقار، فما كان أحد يجرؤ على أن يملأ عينيه من نور وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك دخل أعرابي والنبي صلى الله عليه وسلم يتعبد لله جل وعلا فارتعد الأعرابي واصفر لونه، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم ينظر إليه ويقول له: (هون عليك يا أخي! أنا لست ملكاً من الملوك، إنما أنا ابن امرأة من قريش، كانت تأكل القديد في مكة) وهذا هو التواضع، وهو من أعظم أخلاقه صلى الله عليه وسلم. فالنبي صلى الله عليه وسلم قد أعطى الحسن كله. وكان سيدنا عمر إذا مشى في شعب سلك الشيطان شعباً آخر، فكان الشيطان يخاف منه، فما بالك بسيد الأساتذة صلى الله عليه وسلم؟! إذاً: كان النبي صلى الله عليه وسلم جميلاً ولكن جماله كساه الله بالجلال والوقار، فصلى الله عليه وسلم. وورد في صحيح البخاري: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سُر -يعني: سعد وفرح فانظر إلى وجهه- فكأن وجهه قطعة من القمر)، هذه صفة وجهه صلى الله عليه وسلم.

صفة شعر هـ صلى الله عليه وسلم

صفة شعر هـ صلى الله عليه وسلم أما شعره صلى الله عليه وسلم فليس بالجعد القطط ولا بالسبط، يعني: شعر النبي صلى الله عليه وسلم بين النعومة والخشونة، فليس بناعم نعومه كاملة، وليس بخشن، فهو وسط بين هذا وذاك، ولقد توفاه الله عز وجل وليس في شعر رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء. روى الإمام مسلم والإمام الترمذي والإمام البيهقي والإمام الطبراني والبزار أنه (توفاه الله عز وجل وليس في شعر رأسه ولحيته أكثر من عشرين شعرة بيضاء)، هذا هو شعر النبي صلى الله عليه وسلم وقد جاء في الحديث: (شيبتني هود وأخواتها) بعض الناس يعتقد أن هناك اختلافاً؟! وليس كذلك فإن الشيب الذي ظهر في لحية ورأس النبي صلى الله عليه وسلم عشرون شعرة أو سبع عشرة شعرة، وهي بسبب سورة هود والتكوير والزلزلة والمعارج والحاقة وق، فالنبي صلى الله عليه وسلم شاب من آيات القرآن؛ لأن قلبه صلى الله عليه وسلم كان يتحرك مع آيات القرآن، أما حالنا اليوم فنسأل الله السلامة.

صفة عيني رسول الله صلى الله عليه وسلم

صفة عيني رسول الله صلى الله عليه وسلم أما عيناه صلى الله عليه وسلم: فقد كان صلى الله عليه وسلم أدعج العينين، يعني: شديدة السواد، وقد ورد في الحديث عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: (كنت أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأقول: إن النبي أكحل وهو ليس بأكحل، من شدة سواد عينيه صلى الله عليه وسلم).

صفة أنف رسول الله صلى الله عليه وسلم وفمه

صفة أنف رسول الله صلى الله عليه وسلم وفمه أما أنف النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان أقنى الأنف، يعني: طويل الأنف، دقيق الأرنبة، يعني: أرنبة الأنف وأقصى الأنف، ولم تكن ضخمة، ولكن بصورة رقيقة وجميلة وجذابة، يستحسنها كل من ينظر إليها. أما فم النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان ضليع الفم، أي: كبير الفم، مفلج الأسنان، إذا تكلم رئي كالنور من بين ثناياه، فقد جاء في صحيح الإمام الترمذي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (كان صلى الله عليه وسلم ضليع الفم، مفلج الأسنان، إذا تكلم رئي كالنور من بين ثناياه)، وأسنانه جميلة وليست متراكبة، وإنما بين كل سن وسن فلجة جميلة وظريفة، وهذا يدل على طيب رائحة الفم.

صفة حاجب وعنق ولحية رسول الله صلى الله عليه وسلم

صفة حاجب وعنق ولحية رسول الله صلى الله عليه وسلم أما حاجب النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان طويلاً ومقوساً من غير التقاء بالحاجب الآخر، وبين حاجبيه عرق يدره الغضب، إذا غضب النبي صلى الله عليه وسلم احمر وجهه وانتفخ هذا العرق بين حاجبيه صلى الله عليه وسلم، وكان واسع الجبين. أما عنقه صلى الله عليه وسلم فكأنه إبريق من الفضة، كما قال ذلك سيدنا الحسن بن علي رضي الله عنهما فيما يرويه عن ربيب رسول الله هند بن أبي هالة وكان ابن السيدة خديجة زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان خال سيدنا الحسن، فقال له الحسن صف لي رسول الله، فقال له: (كأن عنقه إبريق من الفضة) صلى الله عليه وسلم. أما لحية النبي صلى الله عليه وسلم: فكان النبي صلى الله عليه وسلم كث اللحية، أي: وافر الشعر، وهذا أكبر دليل على أن اللحية سنة من سنن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، فمن أحب النبي صلى الله عليه وسلم فليتبعه ويتصف بصفاته وأعماله وسنته.

صفة صدره وبطنه وعضلاته صلى الله عليه وسلم

صفة صدره وبطنه وعضلاته صلى الله عليه وسلم أما صدره صلى الله عليه وسلم فقد كان صدره صلى الله عليه وسلم عريضا، وكان عريض الكتفين، وله شعر في صدره، من صدره إلى سرته، كالقضيب من الشعر، صلى الله عليه وسلم، واتساع الصدر واتساع الكتفين يدل على القوة، وسواء الصدر مع البطن يعني: أنه ليست له بطن كبيرة خارجة عن حدها. وكان صلى الله عليه وسلم ضخم الكفين، ضخم الذراعين، وضخم القدمين، مشدود العضلات.

موته صلى الله عليه وسلم

موته صلى الله عليه وسلم وقد يقول بعضهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يحارب وإنما كان يترك الصحابة يقتحمون المعارك وهو قاعد وراءهم، وهذا غير صحيح، بل كان النبي صلى الله عليه وسلم من أوائل من يقتحمون المعارك وفي أوائل الصفوف، بل كان في معركة حنين كما ورد في البخاري ومسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما شبت الفتنة بين صفوف المسلمين أراد أن يثبتهم، فوقف وشهر سيفه في السماء يقول: (أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب) يكررها. بل قال علي بن أبي طالب -كما في الحديث الصحيح المخرج عند البخاري ومسلم - يقول: (كنا إذا حمي الوطيس واشتدت المعركة اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم)، أي: نختبئ خلفه ونحتمي به. ومرة كان علي يتكلم مع النبي صلى الله عليه وسلم ويفتخر بقوته ويقول له: لا يوجد فارس يقدر على مصارعتي يا رسول الله! كانوا يتباهون بالقوة في الحق، وليس في ظلم العباد وفي الطغيان على خلق الله أبداً، وإنما في معارك الشرف ومعارك البطولة والفداء، فكان سيدنا علي من أعظم فرسان المسلمين، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هناك فارس وراء هذا الوادي فاذهب وصارعه، فذهب سيدنا علي فوجد في هذا الوادي فارساً ملثماً، قال له: أنت الفارس الذي أخبرني عنك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال نعم، قال له: هيا إلى النزال والصراع، فصرعه هذا الفارس وأوقعه على الأرض، قال له: الثانية، فصرعه هذا الفارس وأوقعه على الأرض، قال له: الثالثة، فصرعه وأوقعه على الأرض، قال له: والله إن الأمر ليس بأمر عادي! فكشف اللثام فوجده رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالنبي صلى الله عليه وسلم كان قوياً، بل ورد في الحديث الصحيح المخرج أيضاً عند البخاري ومسلم: أنهم وهم في المدينة سمعوا صوتاً شديداً فخرجوا بالليل، وكانت هناك نار مشتعلة، وبمجرد ما وصلوا عند هذا الصوت وجدوا النبي صلى الله عليه وسلم قد سبقهم، فقد ركب فرس أبي طلحة من غير سرج، أي: من غير أن يكون على ظهره شيء، ثم ناداهم وقال لهم: لم تراعوا لم تراعوا، يعني: ارجعوا لا شيء، لقد أطفأها الله عز وجل، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن جباناً ولا ضعيفاً كما اتهمه بذلك بعض المستشرقين! وقالوا: إنه كان يدفع صحابته في وسط ميادين المعارك ويتأخر! وهذا غير صحيح، بل وقف في يوم حنين وهو يقول: (أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب) أي: من أرادني فهأنذا، فهل هناك قوة وعظمة بعد هذه القوة وهذه العظمة؟! صلى الله عليه وسلم. وهذا وصف جامع لرسول الله صلى الله عليه وسلم قاله سيدنا هند بن أبي هالة: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فخماً مفخماً، يتلألأ وجهه كتلألؤ القمر في ليلة البدر)، وهذا وصف موجز ودقيق لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

صفة عرقه صلى الله عليه وسلم

صفة عرقه صلى الله عليه وسلم أما عرق رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول سيدنا علي: كان العرق في وجه النبي صلى الله عليه وسلم كحبات اللؤلؤ، وكان عرقه أطيب من ريح المسك، وقد ورد في الحديث الصحيح الذي خرجه الإمام مسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (دخل علينا رسول الله في يوم شديد الحرارة، فقال عندنا رسول الله)، يعني: قضى عندنا القيلولة، (فعرق النبي عرقاً شديدا، فدخلت أم سليم تصلت العرق من رسول الله في زجاجة، فاستيقظ رسول الله، فقال لها: ماذا تصنعين يا أم سليم؟ قالت: يا رسول الله! نجمع عرقك فإنه أطيب من ريح المسك)، هذا الحديث مخرج في صحيح مسلم. وورد في صحيح الإمام مسلم أيضاً من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه أنه قال: (لقد مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم خدي فأحسست ليده برداً وريحاناً، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخرج يده من جونة عطار)، وورد في الحديث الصحيح الذي خرجه الإمام مسلم أيضاً من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (ما مسست حريراً ولا ديباجاً ألين من كف رسول الله، ولا شممت مسكاً ولا عنبراً أطيب من ريح رسول الله صلى الله عليه وسلم). وفي الحديث الصحيح أيضاً من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أنه كان يقول: كان أهل المدينة يعرفون إذا مر النبي صلى الله عليه وسلم في طريق من الطرق برائحته صلى الله عليه وسلم.

وصف أم معبد لرسول الله صلى الله عليه وسلم

وصف أم معبد لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أدق مَنْ وصف النبي صلى الله عليه وسلم أم معبد، فقد مر عليها صلى الله عليه وسلم يوم الهجرة ومعه أبو بكر وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر، فمروا على خيمة أم معبد وكانوا جائعين، فأرادوا طعاماً، ولم يكن معها شيء، فاعتذرت إليهم وأن ليس إلا شاة عجفاء هزيلة ليس فيها لبن، فقال: أحضريها، فأحضرت له الشاة، وإذ بالنبي صلى الله عليه وسلم يمسح بيديه المباركة على ظهرها وعلى ضرعها فينزل اللبن بأمر الله، وبقدرة الله المباشرة التي لا دخل فيها لعالم القوانين وإنما فيها كن فكون. اللهم إنا نسألك العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة يارب العالمين. فالنبي صلى الله عليه وسلم حلب وسقى أصحابه وشرب وترك اللبن الكثير لـ أم معبد، فانبهرت أم معبد مما رأت من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فعاد زوجها فرأى اللبن! فاستنكره، وقال: من أين لك هذا اللبن؟! إن هذه الشاة لا لبن فيها، قالت: لقد مر عليّ رجل مبارك سألني طعاماً وشراباً فقلت له: ليس عندنا شيء، فقال لي: هاتِ الشاة، ومسح بيده على ظهرها وعلى ضرعها فجرى اللبن الكثير! فشرب وشرب أصحابه وبقي لنا هذا اللبن! فقال لها: صفيه لي لعله أن يكون محمداً! فقالت له سيدتنا أم معبد رضي الله عنها: (رأيت رجلاً ظاهر الوضاءة، حسن الخلق، مليح الوجه، إذا صمت علاه الوقار، وإذا تكلم سما وعلاه البهاء، حسن المنطق، أبهى الناس وأحسنهم من بعيد، وأحلى الناس وأحسنهم من قريب، غصنٌ بين غصنين، فهو أنظر الثلاثة منظراً، له رفقاء يحفون به، إذا قال استمعوا لقوله، وإذا أمر تثابروا لأمره)، اللهم صلاةً وسلاماً عليك يا سيدي يا رسول الله! صلاةً وسلاماً يليقان بمقامك يا أمير الأنبياء! ويا سيد المرسلين! أسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا وإياكم من المتمسكين بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن المحبين لشرع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن المنفذين لتعاليم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن حب النبي صلى الله عليه وسلم سلوك وعمل، وإن حب النبي صلى الله عليه وسلم التزام بسنته، والتزام بمنهج النبي صلى الله عليه وسلم والتزام بشرعه، فأسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا وإياكم من المتمسكين بسنته صلى الله عليه وسلم.

نبوءة النبي لحصار العراق العالمي

نبوءة النبي لحصار العراق العالمي لقد أخبر الله سبحانه وتعالى عن الساعة في كتابه الكريم، وأنها قريبة، ولم يحدد الله عز وجل موعدها بالزمن، بل جعل لها علامات، وهي ما تسمى بعلامات الساعة الصغرى والكبرى، وقد مضى معظم علامات الساعة الصغرى؛ وفي معرفة ذلك دافع للإنسان أن يتدارك ما بقي من عمره فيعمل بطاعة الله عز وجل، كما أن عليه أن يبعث الأمل في قلبه من أن الغلبة للمؤمنين، وأن الدائرة ستدور على الكافرين المتجبرين وعسى أن يكون ذلك قريباً.

من علامات الساعة الصغرى

من علامات الساعة الصغرى الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الأحبة الكرام! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم الكريم جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار مقامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أيها الأحبة! نحن الليلة على موعد مع الدرس الحادي والثلاثين من دروس الإيمان باليوم الآخر، كركن خامس من أركان الإيمان بالله جل وعلا، ضمن دروس العقيدة لمعهد إعداد الدعاة، ولا زال حديثنا ممتداً بحول الله وطوله عن العلامات الصغرى للساعة، وقد توقفت في لقائنا الماضي مع العلامة السابعة والثلاثين، والتي كانت عن ذهاب الخشوع، وأود أن أذكر في عجالة سريعة بالعلامات التي تحدثنا عنها في المحاضرات الماضية، ثم أتحدث عن بقية العلامات إن شاء الله تعالى. تكلمنا عن بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كعلامة من العلامات الصغرى للساعة، وعن موت النبي صلى الله عليه وسلم، وعن ظهور الفتن، وعن قبض الأمانة، وعن قبض العلم، وكثرة الجهل، وعن تقارب الزمان، وعن كثرة أعوان الظلمة، وعن انتشار الزنا، وعن انتشار الربا، وعن ظهور المعازف واستحلالها، وعن شرب الخمر واستحلاله، وعن كثرة القتل، وعن زخرفة المساجد والتباهي بها، وتكلمت عن التطاول في البنيان، وعن ولادة الأمة ربتها، وعن تقارب الأسواق، وعن ظهور الشرك في الأمة، وعن ظهور الفحش، وقطيعة الرحم، وسوء الجوار، وعن تشبب المشيخة، وكثرة الشح، وكثرة التجارة، وذهاب الصالحين، وارتفاع الأسافل، والتماس العلم عند الأصاغر. وتكلمت أيضاً عن ظهور الكاسيات العاريات، وعن صدق رؤيا المؤمن، وعن كثرة الكتابة وانتشارها، وعن كثرة الكذب وعدم التثبت في نقل الأخبار، وعن كثرة شهادة الزور، وكتمان شهادة الحق. وتكلمنا عن كثرة النساء وقلة الرجال، وكثرة موت الفجأة، وتمني الموت من شدة البلاء، ووقوع التناكر بين الناس، وأن التحية لا تكون إلا للمعرفة، وتكلمت عن اتباع سنن الأمم الماضية، وظهور الكذابين من أدعياء النبوة، وتداعي الأمم على أمة الإسلام والإيمان، وغربة الإسلام. وتكلمت عن ذهاب الخشوع، وأواصل الحديث إن شاء الله تعالى عن بقية هذه العلامات التي أراني قد اقتربت من الانتهاء منها، فإن المدقق والممحص للأحاديث الثابتة عن الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم يقف عند هذا القدر والعدد الذي ذكرت فحسب، وإلا فمن تهاون وتساهل في ضبط وتصحيح الأحاديث ربما تصل العلامات الصغرى عنده إلى تسعين علامة أو يزيد، لكن الذي ذكرت هو الصحيح الثابت عن الصادق الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم.

من علامات الساعة الصغرى عودة أرض العرب مروجا وأنهارا

من علامات الساعة الصغرى عودة أرض العرب مروجاً وأنهاراً العلامة الثامنة والثلاثون: عودة أرض العرب مروجاً وأنهاراً. والمروج: جمع مرج، والمرج: الأرض الواسعة التي يكثر فيها الزرع والنبات، قال النبي صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح مسلم ومسند أحمد، واللفظ لـ أحمد من حديث أبي هريرة -: (لا تقوم الساعة حتى تعود أرض العرب مروجاً وأنهاراً)، وفي هذا الحديث دلالة على أن بلاد العرب سيكثر فيها الماء، وسيكثر فيها الزرع، وستتحول أرض العرب الصحراوية إلى أرض خضراء، وإلى حدائق وغابات، والذي يؤيد هذا أنه قد ظهر في بلاد العرب كثير من العيون والآبار الارتوازية التي حولت كثيراً من الأرض الصحراوية إلى جنات خضراء، ومن أهل العلم من قال: إن هذه العلامة تكون في زمن عيسى عليه السلام حينما تخرج الأرض بركتها، لكن المدقق الآن يرى أن كثيراً من صحراء العرب قد تحولت إلى جنات خضراء.

من علامات الساعة الصغرى انحسار نهر الفرات عن جبل من الذهب

من علامات الساعة الصغرى انحسار نهر الفرات عن جبل من الذهب العلامة التاسعة والثلاثون: حسر نهر الفرات عن جبل من الذهب، ففي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى يحسر الفرات عن جبل من ذهب، يقتتل الناس عليه، فيقتل من كل مائة تسعة وتسعون، ويقول كل رجل منهم: لعلي أكون أنا الذي أنجو)، وفي رواية في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (يوشك أن يحسر الفرات -أي: نهر الفرات- عن جبل من ذهب، فمن حضره فلا يأخذ منه شيئاً)، وفي رواية: (يوشك أن يحسر نهر الفرات عن جبل من ذهب، فإذا سمع به الناس ساروا إليه، فيقول من عنده: لئن تركنا الناس يأخذون منه ليذهبن به كله. قال: فيقتتلون عليه، فيقتل من كل مائة تسعة وتسعون). ومن باب الأمانة العلمية ذكر الحافظ ابن حجر أن انحسار نهر الفرات عن جبل الذهب يكون عند ظهور المهدي عليه السلام، وأذكر أنني قد ذكرت لكم قبل ذلك أن جريدة الأخبار قد نشرت هذا الخبر، وربما نشرت وكالات الأنباء خبر اكتشاف جبل من الذهب في نهر الفرات في سوريا، ثم قرأت في جريدة الأهرام بعد هذا الخبر بأيام قليلة خبراً عن بعثة علمية روسية أمريكية مرسلة لدراسة هذه الظاهرة. لا شك أن النبوءة النبوية لم تتحقق بكل جزئياتها المذكورة في الأحاديث التي ذكرت الآن، فالنبوءة النبوية تتحدث عن انحسار ماء الفرات عن جبل من الذهب، ثم الاقتتال، وسواء ظهر الجبل أو اكتشف الجبل، فإنه لم ينحسر نهر الفرات بعد، ولم يتقاتل عليه، وأنتم ترون الآن الاتفاقيات العسكرية والاقتصادية بين تركيا وإسرائيل من ناحية، وتعلمون الخلاف الشديد بين تركيا وبين العراق وسوريا من ناحية أخرى، وهذا أمر جليل، فمن المعلوم أن الحرب القادمة لن تكون حرب بترول، وهذا لا نزاع فيه، وإنما ستكون الحرب القادمة حرب مياه، فمياه المسلمين الآن تتسرب إلى إسرائيل، حتى من ماء الفرات! عن طريق الاتفاقيات والأحلاف العسكرية الجديدة بين إسرائيل وتركيا. ولا شك أننا في انتظار بقية أجزاء النبوءة النبوية أن تحدث بمثل ما أخبر الصادق الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم، فكما أن شطر النبوءة قد ظهر فنحن لا زلنا في انتظار أجزاء النبوءة النبوية أن تظهر بمثل ما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام، وهذه علامة عجيبة!

من علامات الساعة الصغرى الحصار الاقتصادي على العراق

من علامات الساعة الصغرى الحصار الاقتصادي على العراق العلامة الأربعون -وأرجو أن تعيروني القلوب والأسماع جيداً- الحصار الاقتصادي على العراق، هذه علامة من العلامات التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم، ووقعت هذه العلامة في هذه السنوات القليلة الماضية بمثل ما أخبر به النبي الصادق تماماً، وصدق ربي إذ يقول: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]. ففي الحديث الذي رواه مسلم قال: حدثنا زهير بن حرب وعلي بن حجر واللفظ لـ زهير قالا: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن الجريري عن أبي نضرة قال: كنا عند جابر بن عبد الله رضي الله عنهما فقال: (يوشك أهل العراق ألا يجبى إليهم قفيز ولا درهم. قلنا: من أين ذاك؟ قال: العجم يمنعون ذلك، ثم قال: يوشك أهل الشام ألا يجبى إليهم دينار ولا مدي. قلنا: من أين ذاك؟ قال: الروم -تدبر! قال في أهل العراق: العجم، وقال في أهل الشام: الروم يمنعون ذاك- ثم سكت هنيهة، ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يكون في آخر أمتي خليفة يحثو المال حثواً ولا يعده عداً) قلت لـ أبي نضرة -والقائل الجريري -: أترى أن هذا الخليفة هو عمر بن عبد العزيز؟ قال: لا. ومن المعلوم أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لم يكن في عهده حصار من أي نوع من الأنواع للعراق أو للشام أبداً، بل كانت العراق تشهد عزة وكرامة في أيام الخلافة الراشدة. إذاً: هذا الخليفة الذي تحدث عنه الحديث هو المهدي عليه السلام بلا نزاع. هذا الحديث المهم الذي رواه مسلم، له حكم الرفع للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الصحابي لا يتكلم في أمر من أمور الغيب من عند نفسه، وإنما بكلام مسموع من الصادق عليه الصلاة والسلام. هذا الحديث يتضمن ثلاثة أخبار من أخبار الغيب والمستقبل: الأول: حصار على العراق. الثاني: حصار على بلاد الشام. ومعلوم أن بلاد الشام تشتمل على: سوريا ولبنان والأردن وفلسطين، هذه البلدان يطلق عليها بلاد الشام، ولكن الاستعمار قسم ومزق وشتت الشمل، ووضع الحدود، ودق المسمار البشع الذي يسمى مسمار الحدود بين الدول الإسلامية. الثالث: خليفة يخرج في آخر الزمان يحثو المال حثواً. وأرجو أن تركزوا معي جيداً في أن الأحداث الثلاثة قد ذكرت في حديث واحد متوالية: حصار للعراق، وحصار للشام -وحصار الشام الآن موجود، حصار على سوريا، وحصار على فلسطين- ولاحظ أن الحديث يقول: (ثم سكت هنيهة)، ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يخرج في آخر الزمان خليفة يحثو المال حثواً، ولا يعده عداً) فالأحداث الثلاثة متتابعة متتالية. نعود مرة أخرى إلى كلمات الحديث: (يوشك أهل العراق ألا يجبى إليهم قفيز ولا درهم)، تعبير في غاية الدقة عما يحدث الآن للعراق، والذي يسميه الإعلام الغربي والعربي: الحصار الاقتصادي العالمي للعراق. قوله: (يوشك أهل العراق ألا يجبى إليهم قفيز ولا درهم) القفيز: هو المكيال المعروف عند أهل العراق، وهو مكيال يكيل فيه أهل العراق الحبوب، والدرهم هو المعروف. (يوشك أهل العراق أن لا يجبى إليهم قفيز ولا درهم) سبحان الله! من المعلوم أن الحصار الاقتصادي إذا ضرب على بلد فإنه يمنع عن هذا البلد الطعام والميرة، لكن الحديث يقول: (ولا درهم)! وأنتم تعلمون أن أمريكا قد جمدت أموالاً طائلة للعراق بعد أحداث الكويت، فجُمد مال العراق خارج العراق في بنوك الشرق والغرب، ومنع العراق من ماله (ألا يجبى إليه قفيز) أي: لا طعام ولا شراب ولا غذاء ولا دواء، ولعل المتابع منكم قد سمع بالأمس القريب فقط تصريحاً خطيراً جداً لرئيس لجنة المساعدات الإنسانية في العراق، وهو: أن الحصار الاقتصادي على العراق طيلة السنوات الماضية يتسبب في قتل ستة آلاف شخص في كل شهر! وبكل أسف أصبحت أخوتنا الإيمانية أخوة باردة باهتة، فأصبحنا نسمع مثل هذه الأحداث ولا تتحرك جوارحنا، ولا تحترق قلوبنا؛ لأن الأخوة أصبحت باردة باهتة، لم تلفحها حرارة الإيمان بالله جل وعلا، قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، فإن وجدت أخوة بلا إيمان فاعلم أنها التقاء لأجل مصالح، وتبادل منافع فحسب، وإن وجدت إيماناً بلا أخوة صادقة فاعلم أنه إيمان ناقص؛ لأن الأخوة ثمرة حتمية للإيمان، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]. هذا الحصار الظالم يتسبب في قتل ستة آلاف مسلم ومسلمة من أهل العراق في كل شهر!! قمة الظلم. (يوشك أهل العراق ألا يجبى إليهم) قمة الدقة في التعبير، فإن لفظة (يوشك) أدق من لفظة (الحصار الاقتصادي) لماذا؟ لأن الحصار يقتضي حصر البلد المحاصر تماماً، وأنتم تعلمون أن الحصار قديماً كانت له صورة معلومة واحدة، وذلك أن كل مدينة من المدن المستهدفة كانت تحيط بنيانها بأسوار من كل ناحية، فكانت الدولة المعتدية إذا أرادت أن تحاصر مدينة من المدن جرت الجيوش الجرارة، وحاصرت هذه المدينة من جميع نواحيها، أو من ناحية، أو من ناحيتين، وفرضت حصاراً على هذا البلد فلا يدخل إليها طعام، ولا يخرج منها أحد حتى تستسلم هذه المدينة للدولة المعتدية، هذه صورة الحصار القديمة، لكن تدبر لفظة (يوشك) ولم يقل: (يحاصر)؛ لأن الحصار المفروض الآن على العراق ليس حصاراً كلياً، وإنما هو حصار مكسور من بعض الدول، ومن بعض عصابات المافيا التي تبيع الأسلحة وتسرب الطعام مقابل الأموال إلى دولة العراق عن طريق تركيا أو عن طريق سوريا أو عن طريق الأردن. ومعلوم أن الدول الخاضعة لمجلس الأمن ولقرارات مجلس الأمن هي التي فرضت الحصار الاقتصادي على العراق، وأرجو أن تتدبر كلمة (العجم)، فحينما سئل جابر: من الذي يمنع القفيز والدرهم عن أهل العراق؟ قال: العجم، و (العجم) تطلق في لغة العرب على كل من سوى العرب، كل من سوى العرب يقال لهم: عجم. إذاً: هذه اللفظة تفيد أن كل دول العالم -تقريباً- ستشارك في الحصار الاقتصادي باستثناء العرب، وهذا هو الموقف الرسمي فعلاً، وأنتم تعلمون أن مجلس الأمن اتخذ قرار المقاطعة بدوله الخمس الدائمة العضوية، وهي: أمريكا، وروسيا، وفرنسا، وبريطانيا، والصين. ومعلوم أن الدول العربية تتناوب العضوية في مجلس الأمن، وكانت اليمن إذ ذاك هي العضو في المجلس، وقد اتخذت قراراً رفضت فيه الحصار الاقتصادي على العراق، فاليمن هي الدولة العربية الوحيدة التي رفضت القرار. إذاً: اليمن هي الدولة الوحيدة في مجلس الأمن التي رفضت القرار، وكل شعوب العالم العربي تقريباً، وإن كان بعض الزعماء قد أذعنوا لقرارات مجلس الأمن، إلا أن شعوب العرب بلا استثناء لا زالوا إلى يومنا هذا يرفضون هذا الحصار، وفي اجتماع مجلس وزراء خارجية الدول العربية منذ أيام قريبة رفضوا الحصار الاقتصادي على العراق، ولا زالوا ضد تقسيم العراق، وبالفعل قد شاركت كل دول العالم -تقريباً- في فرض هذا الحصار الاقتصادي على العراق باستثناء العرب، ودعنا نقول: باستثناء شعوب العرب والمسلمين. وعلى هذا يمكن أن يقال: إن حصار العراق أعجمي؛ لأن كل شعوب الأرض -ما عدا العرب رسمياً بمقتضى موقف اليمن في مجلس الأمن- قد شاركت في فرض هذا الحصار عن اختيار وطواعية؛ لأن مجلس الأمن يومئذ بدوله الدائمة وغير الدائمة -فيما عدا اليمن- هو الذي فرض هذا الحصار الغاشم على العراق؛ لذا يقول الحديث: (العجم يمنعون ذلك). ومن المعلوم أنه لم يحدث في تاريخ الإسلام من قبل حصار اقتصادي على العراق بهذه الصورة أبداً. أما الحصار الآخر: وهو حصار الشام، فتعلمون أن حصاراً فرض على سوريا من قبل حصار العراق، وأن حصاراً لا زال مفروضاً إلى الآن على فلسطين، فهذه من العلامات التي وقعت بمثل ما أخبر الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم. ولا زلنا ننتظر الحدث الثالث في الحديث، ألا وهو: خروج الخليفة الذي يحثو المال حثواً ولا يعده عداً، وهو المهدي عليه السلام كما سأبين -إن شاء الله تعالى- بالأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى.

من علامات الساعة الصغرى هدنة تقع بين المسلمين وبين بني الأصفر

من علامات الساعة الصغرى هدنة تقع بين المسلمين وبين بني الأصفر العلامة الحادية والأربعون -وهي في غاية الأهمية والخطورة-: هدنة تقع بين المسلمين وبين بني الأصفر، وبنو الأصفر في الحديث يراد بهم الروم، والروم هم أوروبا وأمريكا، إذا ذكر الحديث النبوي لفظ بني الأصفر أو لفظ الروم فالمراد بهم الآن: أوروبا وأمريكا، فهؤلاء هم الروم، وهؤلاء هم بنو الأصفر. جاء في الحديث الذي رواه البخاري من حديث عوف بن مالك رضي الله عنه، وهذا الحديث قد ذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم ست علامات من العلامات الصغرى، فقال عليه الصلاة والسلام: (اعدد ستاً بين يدي الساعة: موتي -أي: موت المصطفى صلى الله عليه وسلم- ثم فتح بيت المقدس)، أما العلامة الأولى فقد وقعت بموته عليه الصلاة والسلام، وأما العلامة الثانية فقد وقعت بفتح بيت المقدس في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ففي العام الثالث عشر من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم فتح عمر بن الخطاب بيت المقدس، واستلم مفاتيح بيت المقدس، بعد أن حاصرت القدس الجيوش الفاتحة بقيادة أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه وأرضاه. ثم العلامة الثالثة في الحديث: (ثم مُوتان يأخذ فيكم كقعاص الغنم)، قال ابن فارس: أو كعقاص الغنم. والقعاص أو العقاص: داء يصيب الدواب -الإبل والغنم- في الصدر أو في العنق فتهلك الدواب في الحال، قال أهل العلم جميعاً: هذه العلامة قد وقعت بطاعون عمواس الذي ابتليت به بلاد الشام، وكان من الأكابر الذين ماتوا في هذا الطاعون أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه. إذاً: موت النبي عليه الصلاة والسلام، ثم فتح بيت المقدس، (ثم موتان يأخذ فيكم كقعاص الغنم، ثم استفاضة المال حتى يعطى الرجل مائة دينار فيظل ساخطاً)، وأظن أن هذه العلامة نراها الآن متحققة تماماً، قد تعطي الرجل مائة جنيه، فيقول: أتيتك من المكان الفلاني، ولا تخرج من حافظتك إلا مائة جنيه! ويظل ساخطاً عليه. (ثم فتنة لا يبقى بيت من العرب إلا دخلته)، وأظنكم جميعاً ذكرتم أنها فتنة التلفاز والأغاني نسأل الله السلامة والعافية، ولا شك أنها فتنة عاصفة، لكن أنا لا أجزم ألبتة بأن هذا هو تفسير كلام النبي صلى الله عليه وسلم، إنما هو من كلام بعض أهل العلم، فالفتنة التي دخلت جميع بيوت العرب هي فتنة التلفاز، فما من بيت من بيوت العرب الآن إلا ودخلته، وهذا اللفظ خرج مني مخرج الغالب -كما يقول علماء الأصول- وإلا فإن كثيراً من بيوت أهل الفضل لم تدنس بعد بهذه الفتنة الحالكة، تدخل كثيراً من بيوت المسلمين فتسمع فيها الغناء، وترى فيها الرقص، بل وترى فيها الزنا، فهذا الذي يسمى بالدش ينقل الآن إلى بيوت المسلمين الزنا، يجلس الرجل طوال الليل ليرى الزناة والزواني على شاشة التلفاز، ويجلس الساعات الطوال، إنها فتنة عاصفة! وأنا لا أتصور أبداً رجلاً بهذه الكيفية يصلي الفجر، أو يقيم ليلاً، أو يتقي الله في عمل، أو حتى يقدر على أن يستيقظ مبكراً لعمله، إنها فتنة حالكة تريد لأبناء هذه الأمة الدمار والبوار والهلاك، لا أتصور شاباً يقضي الليل بطوله -ولست مبالغاً- أمام فلم داعر، أو فلم نجس عن طريق هذه القنوات المفتوحة، ثم بعد ذلك يصلي الفجر أو يقوم إلى عمله وهو نشيط، هذا مستحيل! هذه فتنة نسأل الله أن يطهر بيوت المسلمين منها، إنه ولي ذلك والقادر عليه. اسمع إلى العلامة السادسة -وهي محل الشاهد-: (ثم هدنة) والهدنة هي المصالحة، قال: (ثم هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر) من هم بنو الأصفر؟ الروم، من هم الروم؟ أوروبا وأمريكا بلا خلاف، (ثم تكون هدنة بينكم وبين بني الأصفر فيغدرون) أي: يغدر بنو الأصفر بأمة النبي عليه الصلاة والسلام، (فيغدرون، فيأتونكم تحت ثمانين غاية)، والغاية: هي الراية، وسميت الراية بالغاية؛ لأنها غاية الجيش، يقول عليه الصلاة والسلام: (ثم تكون هدنة بينكم وبين بني الأصفر فيغدرون، فيأتونكم تحت ثمانين غاية، تحت كل غاية اثنا عشر ألفاً) أي: من الجنود والمقاتلين. وفي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد في مسنده وأبو داود في سننه وابن ماجة وابن حبان وغيرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ستصالحون الروم صلحاً آمناً)، وأظن أن الأمة الآن في مرحلة الصلح والهدنة بلا خلاف، بل وفي مرحلة تحالفات عسكرية بينها وبين الروم من الأوروبيين والأمريكيين، وإن جيوش الأوروبيين والأمريكيين في بلاد المسلمين لمن أعظم الأدلة العملية على ما أقول الآن، أحلاف عسكرية طويلة المدى؛ بل لا أبالغ إن قلت: أحلاف عسكرية إلى الأبد! فالنبي صلى الله عليه وسلم يوضح الهدنة في حديث آخر فيقول: (ستصالحون الروم صلحاً آمناً، ثم تغزون أنتم وهم عدواً، فتنصرون وتغنمون وتسلمون)، أي: ستعقدون معاقدات ومصالحات بينكم وبين أوروبا وأمريكا، (ثم تغزون أنتم وهم عدواً) إذاً: ستكون هناك محالفات بين المسلمين وبين الروم -أوروبا وأمريكا- وسيقاتل الروم مع المسلمين عدواً مشتركاً، لكن السنة النبوية لم توضح لنا هذا العدو المشترك، فهل هذا العدو المشترك سيكون الكتلة الشرقية روسيا والصين؟! وهل سيكون هذا العدو المشترك الشيعة في إيران؟! هذا وارد. لكن السنة النبوية لم تحدد هذا العدو المشترك الذي سيقاتله الروم مع المسلمين. وأقرأ عليكم نص الحديث مرة أخرى: (ستصالحون الروم صلحاً آمناً، ثم تغزون أنتم وهم عدواً، فتنصرون وتغنمون وتسلمون)، هذه المعركة التي سيحالف فيها المسلمون أوروبا وأمريكا، وسينتصر فيها هذا التحالف على هذا العدو المشترك، سواء كان هذا العدو روسيا والصين أو الشيعة، فسينتصر هذا الحلف في هذه المعركة، قال: (ثم تنصرفون حتى تنزلوا بمرج ذي تلول) انظر إلى كلام النبي الصادق! كأنه يصف أرض المعركة وهو فيها! (ثم تنصرفون حتى تنزلوا بمرج -أي: بأرض خضراء يكثر فيها النبات- ذي تلول) وصف عجيب لأرض المعركة! (فيرفع رجل من أهل الصليب صليبه) من الفريق الآخر -فريق الروم: أوروبا وأمريكا- تدفعهم النزعة العصبية: (فيرفع رجل منهم الصليب، ويقول: غلب الصليب، فيغضب رجل من المسلمين، فيقوم إليه فيدفعه -وفي رواية: فيقتله- فعند ذلك يغدر الروم، ويجتمعون للملحمة، فيأتون تحت ثمانين راية، تحت كل راية اثنا عشر ألفاً).

المعركة التحالفية العالمية مقدمة حقيقية للملاحم الكبرى

المعركة التحالفية العالمية مقدمة حقيقية للملاحم الكبرى الحديث السابق يبين لنا معركتين: المعركة الأولى هي: المعركة التحالفية العالمية الأوروبية الأمريكية الإسلامية، هذه المعركة التحالفية العالمية يسميها كثير من الكتاب والعلماء والمفكرين وعلماء أهل الكتاب: معركة هرمجدون، وهذه المعركة هي التي ستكون المقدمة الحقيقية للملاحم الكبرى التي سينتصر فيها المسلمون بقيادة المهدي عليه السلام. نحن نريد أن تستبشر القلوب المريضة المتعبة المثقلة بالواقع المؤلم، وتستيقن أن الجولة المقبلة للمسلمين، وليس هذا رجماً بالغيب، ولا من باب تسكين الآلام، ولا تضميد الجراح، وليس من باب الأحلام الوردية، إن الجولة القادمة ستكون للإسلام، هذا كلام النبي عليه الصلاة والسلام الذي يصف المعارك والملاحم وصفاً في غاية الدقة، ليس هذا من عندنا نحن، والذي سيهيئ النصر لهذه الأمة الضعيفة المسكينة ليس قوة المسلمين بالمقارنة إلى قوة الغرب، وإنما الذي سيهيئ ذلك هو الملك جل جلاله، الذي يقول للشيء: كن فيكون. الحرب الأولى: التحالفية العالمية الأوروبية الأمريكية الإسلامية أظن أنها واضحة الآن، ومقدماتها واضحة، فنحن والروم الآن في صلح آمن، والمعسكر الشيوعي أو المعسكر الشرقي -الصين وروسيا- قد أبرموا معاهدات جديدة ولأول مرة في التاريخ؛ ليقع ما قاله المصطفى صلى الله عليه وسلم. لأول مرة في إبريل عام ستة وتسعين يزور رئيس روسيا الصين، لأول مرة تحدث اتفاق وتعاهدات وتعاقدات بين روسيا والصين قبل ثلاث سنوات فقط، وأنتم تعلمون أنه في الأسبوع الماضي فقط كان وزير خارجية روسيا يزور الصين، خذ الأعجب! والآن بدأت العلاقات الروسية الأمريكية بعد الحرب الباردة تتوتر إلى أخطر درجات التوتر، ولعل وزيرة الخارجية الأمريكية -تلك العجوز الشمطاء- قد عادت من روسيا بالأمس، وهي تجر أذيال الخيبة بعد عدم اتفاق واضح بين روسيا وأمريكا في كثير من القضايا، وعلى رأس هذه القضايا قضية العراق، وقضية السلاح النووي أمور عجيبة! اختلاف وتوتر في العلاقات الروسية الأمريكية، ومعاهدات تبرم لأول مرة بين المعسكر الشرقي: روسيا والصين. وكما أقول دائماً: إن يد الله تعمل ونحن في غفلة، لا تظنوا أن الكون هذا متروك لعباد البقر من الأمريكان أو الملاحدة الكفرة من الروس، يدبرونه كيف شاءوا، لا ورب الكعبة، ولا تظنوا أن الله غافل عما يقع في الأرض، حاشا وكلا، إن الله يسمع ويرى، وليس أحد أغير على التوحيد وأهله من الله، وليس أحد أغير على أمة محمد من الله، ولكن الأمة -كما أكرر- ليست أهلاً للنصرة، وإلا لنصرها الله جل وعلا بزلزال أو بإعصار إلخ. كولومبيا وقع فيها زلزال قبل يومين، هزة واحدة قتلت ألف شخص! سبحان الله! يتحدث الإعلام الغربي عما يزيد عن مائة شخص سقطوا في باطن الأرض فجأة، وأصبح أسفل الأرض فوقهم، وقع هذا في أقل من مايكرو ثانية، الله عز وجل قادر على أن يدمر أهل الظلم بزلزال أو بإعصار: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ * فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ * وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} [الحاقة:4 - 8]، وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:1 - 5]. إذاً: المعركة الأولى هي: المعركة التحالفية العالمية، والتي نرى مقدماتها الآن بصورة واضحة، لا تزيد المؤمن التقي إلا يقيناً في الرب العلي، وتصديقاً للحبيب النبي صلى الله عليه وسلم. فما يحدث الآن تطور خطير جداً، وأحداث متلاحقة بصورة غير مسبوقة! ما كنا نسمع من قبل عن مواجهة بين الصين وأمريكا أبداً، والآن نسمع، ولهجة الإعلام حادة جداً في المواجهة، حتى في إسرائيل، وأنتم تعلمون أن قادة إسرائيل كانوا يخططون لحرب، لا يأتي عام ألفين إلا وقد وقعت هذه الحرب، وأنا لا أذيع أسراراً عسكرية الآن، ولكنه كلام معلوم جداً، وما كنا نسمع عن زيادة حدة التوتر بين روسيا وأمريكا، ونراها الآن واضحة جداً، لاسيما بعد الضربة الأخيرة للعراق. وكذلك ما كنا نسمع أبداً عن تحالف تركي إسرائيلي ثم سمعنا الآن عن تحالف تركي يهودي، ويتوجس المسلمون والعرب من هذا التحالف خيفة كما هو معلوم للجميع. وبعدما أبادت أمريكا هيروشيما ونجازاكي، لأول مرة في التاريخ الحديث نسمع الآن عن اتفاق أمريكي ياباني، أمر عجيب جداً! وأنتم تعلمون العداء بين أمريكا وبين اليابان، ولكننا -كما يقول علماء الاستراتيجية في أمريكا وأوربا- لا ندري من ستسبق أصابعه فيضغط على زر الحرب المدمرة، والتي ستكون غالباً حرباً نووية، وستعجبون إذا قلت: إني في العشر الأواخر من رمضان كنت في أمريكا وأخبرني الإخوة هنالك عن رجل من العلماء المتخصصين ظهر على شبكة الـ ( CNN) وقال كلاماً في غاية الخطورة، أفزع أمريكا والمتابعين جميعاً، هذا الكلام أنا لا أجيد أن أنقله الآن نقلاً علمياً دقيقاً، وقد طلبت من إخواني أن يحضروه لي مكتوباً، لكنهم لم يوفقوا في ذلك، فأتيت بمقال لخص هذا الكلام الخطير في مجلة التايم الأمريكية، وهو كلام في غاية الخطورة متعلق بمسألة الكمبيوتر وعام (2000م)، قال: إن الكمبيوتر مبرمج إلى ما قبل عام (2000م)!! وأرجو ألا يفهم طالب علم من كلامي أنني أحدد زماناً لقيام هذه الحرب العالمية التحالفية النووية التي يسميها بعض العلماء بحرب هرمجدون، لا تقل: إن الشيخ قال: إن سنة (2000م) ستقوم الحرب، لا، لا، أنا لا أحدد زماناً، إذ لا يعلم مخلوق على وجه الأرض الزمان الذي سيكون بمثابة الإرهاصات والمقدمات لظهور المهدي، ولا حتى الساعة التي سينزل فيها المهدي، ولا متى ستقوم الساعة، إذ إن هذا كله من العلم الذي اختص به ربنا، لا يعلمه ملك مقرب ولا نبي مرسل حتى المصطفى صلى الله عليه وسلم.

هرمجدون

هرمجدون (هرمجدون) كلمة عبرية مكونة من مقطعين؛ المقطع الأول: كلمة (هر)، والمقطع الثاني: (مجدون). وكلمة (هر) بالعبرية معناها: جبل. و (مجدون): وادٍ معروف في أرض فلسطين، هذه المنطقة هي ساحة المعركة القادمة التي سيكون فيها المسلمون حلفاء للروم. العجيب أن الحديث عن هذه المعركة بدأ الآن يظهر بصورة ملفتة للنظر، وهي -كما ذكرت- معركة نووية. أقول: بأنه قد ظهر الآن في أمريكا حديث عن المواجهة النووية الوشيكة، تعلمون أن كل السلاح الحديث مبرمج بالكمبيوتر، لا يتحرك الصاروخ إلا بالكمبيوتر، ولا الدبابة ولا الطائرة، حتى شبكات الاتصال -الانترنت- العالمية لا تتحرك إلا بالكمبيوتر، بل حتى جهاز الفيزر أو الفليب، ومن أشهر قريبة ماضية سمعت عن تعطل الكمبيوتر -ولعل منكم من قرأ هذا الخبر عن تعطل الكمبيوتر- في الشركة المسئولة عن جهاز الفيزر أو الجهاز الفليب في أمريكا، فتعطلت كل أجهزة الفيزر في أمريكا بالكامل بتعطل جهاز الكمبيوتر. سبحان الله! شريط دقيق جداً إذا تعطل أو حدث فيه عطل يحدث خلل في كل الأجهزة، بعض العقول تنكر أو تستنكر أن الملاحم الأخيرة التي سيقود المسلمين فيها المسيح عليه السلام ستكون بالسيوف والرماح، كل الروايات المذكورة عن النبي الصادق تذكر ذلك، كيف ذلك ونحن نرى الحروب الآن تدار بالكمبيوتر ويخرج الصارخ ويصيب هدفه دون أن يتحرك معه متحرك؟! لا تتعجب إذا علمت أن الكمبيوتر هذا إن تعطل تعطلت معه كل هذه الماكينة الحديثة، وهذا لا ينكره العقل، إن الحرب الأخيرة ستكون كما أخبر الصادق الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم. وأذكر أنني سئلت في أمريكا عن هذا السؤال، وأنتم تعلمون أن المسلم الذي تربى في أمريكا هو مسلم أمريكاني، يعني: يريد أن يقتنع بكل شيء، ويريد أن يأخذ الدليل العقلي قبل الدليل النقلي ولو كان صحيحاً. سئلت: كيف ستكون الحرب الأخيرة هكذا ونحن نرى الماكينة الحديثة وو إلى آخره؟ قلت: يا أخي! أنا لا أعلم كيف سيكون، لكنني أعتقد اعتقاداً جازماً بصدق النبي الصادق الذي لا ينطق عن الهوى أن هذا سيكون؛ لكن كيف؟ لا أدري. ثم جاء أحد الإخوة ليصطحبني إلى صلاة الفجر من المكان الذي أبيت فيه، وهو قريب من المركز الإسلامي، ولكنك لا تستطيع أن تخرج وتخطو خطوات من شدة البرد، وإذ بالأخ الذي جاء ليصطحبني إلى المركز الإسلامي يركب سيارة مرسيدس موديل ثمانية وتسعين، حديثة جداً، قمة الفخامة، وما أن ركبنا وبدأ يتحرك إلا ونزل ضباب حجب الرؤية تماماً حتى في داخل السيارة، والله العظيم يا إخوة، لا أقول: حجب الرؤية أمام السيارة في هذا الطريق الزراعي عندنا، لا، ضباب حجب الرؤية داخل السيارة، فما كنت أراه ولا يراني، مع أنه يضيء مصباح السيارة، نزل الضباب وخيم على الزجاج وعلى السيارة حتى لا ترى شيئاً على الإطلاق، فتوقفت كل السيارات في الشارع، قلت: سبحان الله ما هذا؟! يا فلان! ألا تذكر الذي كان يسألني منذ يومين؟ قال: نعم. قلت: سبحان الله! ها هي السيارة موجودة، أحدث موديل، مليئة بالبنزين، يركبها القائد، وأنزل الله جندياً من عنده فعطلها في مكانها، أمر عجب! قد تكون هذه المكائن موجودة أمامك لكن تعطل؛ ليتحقق كلام الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، كيف تتعطل؟ كيفية غير معلومة، حتى العقل لا ينكر ذلك إطلاقاً، السيارة موجودة أحدث موديل، والقائد في السيارة يجيد القيادة، مليئة بالبنزين، لا يوجد سبب من الأسباب التي توقف السيارة إطلاقاً، ولكنه جندي في غير حساب البشر، قال الله عز وجل: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31] جندي في دقائق. وسأذكركم بالخبر الذي قرأته على حضراتكم في هذا المجلس، حينما أخبرتكم بأن نجماً من النجوم قد أمطر الأرض بوابل من أشعة جاما، هذه الأشعة التي عطلت المركبات الفضائية الأمريكية تماماً؛ لأن الأمور كلها كما تعلمون كمبيوتر، أشعة معينة لخبطت البرنامج وانتهى الكمبيوتر، وقد أرعب هذا العالم أمريكا حينما قال: إن الكمبيوتر مبرمج إلى ما قبل عام (2000م)، هم الآن في حيص بيص، قضية خطيرة جداً، طبعاً إعلامنا مشغول بالكرة واللاعبين واللاعبات، وخيبة الأهلي البني، فإعلامنا مشغول عن مثل هذه القضايا الكبيرة والخطيرة، لكن لا يزال يحلل كيف هزم الأهلي؟ وكيف كذا؟ لكن هذه القضايا الكبيرة إعلامنا في شغل شاغل عنها، هذه قضية خطيرة وكبيرة جداً، وتشغل الآن عقول العلماء هنالك. والأعجب من ذلك أن السلاح النووي الأمريكي والروسي موجه لبعضه البعض، هي مصيبة نسأل الله أن يخرجنا من بين الظالمين سالمين غانمين، فتنة رهيبة جداً. الإنسان لما يفكر كيف تتم الأحداث ربما يطيش العقل والله العظيم، وأنا أعد للمحاضرة والله تعب رأسي، وعندما أطلق لعقلي العنان في التفكير أشعر بألم فأتوقف، سبحان الله، سبحان من يدبر الكون! وسبحان من يسخر الكون! {قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عمران:154]. هذه أمور علمية يا إخوة، نحن الآن لا نتكلم بأسلوب دروشة، ولا نقول رجماً بالغيب إطلاقاً، هذا كلام علمي مذكور، وستعجبون إذا علمتم أن العلماء بل والرؤساء على أعلى مستوى في العالم يعتقدون اعتقاداً جازماً في هذه الحرب المقبلة وينتظرونها، اسمع إلى ما يقول رونالد ريجن رئيس أمريكا الأسبق، الإراهابي الكبير، الذي خرج يوماً يزف إلينا نبأ ذبح ليبيا، هل تذكرون؟ الأمة تنسى! يقول: رونالد ريجن -وتدبر هذا الكلام الخطير! -: إن هذا الجيل بالتحديد هو الجيل الذي سيرى هرمجدون. رئيس أمريكا يتكلم عن معركة هرمجدون التي ستكون بمثابة الإرهاص الحقيقي للملحمة التي هي المعركة الثانية التي ذكرتها الآن كما في حديث النبي عليه الصلاة والسلام، وسأفصلها في المحاضرة المقبلة إن شاء الله تعالى، يقول: إن هذا الجيل بالتحديد هو الجيل الذي سيرى هرمجدون. مسألة تحديد الزمن -كما ذكرت- لا يستطيع مخلوق على وجه الأرض أن يجزم به. ثم يقول رونالد ريجن نفسه: كل شيء سوف ينتهي في بضع سنوات، ستقوم المعركة العالمية الكبرى معركة هرمجدون أو سهل مجيدو، هذا رئيس أمريكا يتكلم عن معركة مقبلة. ويقول: جيمس واجر المناظر النجس الذي فضح أخلاقياً، نسأل الله أن يسترنا في الدنيا والآخرة: كنت أتمنى أن أستطيع القول بأننا سنحصل على السلام، ولكني أؤمن بأن هرمجدون مقبلة، إن هرمجدون قادمة، وسيخاض غمارها في وادي مجيدو، إنها قادمة، إنهم يستطيعون أن يوقعوا على اتفاقيات السلام التي يريدون، إن ذلك لم يحقق شيئاً، ثم قال: هناك أيام سوداء قادمة. عليهم إن شاء الله. الكلام في غاية الخطورة يا إخوان! وهذا جيري كليب، وهو من الأصوليين المتعصبين الصليبيين، وكان من المقربين جداً لـ جرج بوش ويقال: إنه هو الذي تنبأ لـ جورج بوش بأنه سيكون أعظم رئيس في عام 1988م، وكان جورج بوش يقرب هذا الرجل تماماً، يقول: إن هرمجدون حقيقة مركبة، ولكن نشكر الله لأنها ستكون نهاية أيام الدنيا، تقول الكاتبة الأمريكية جليس هالسن: إننا نؤمن كمسيحيين -اللفظ الصحيح الذي نؤكده كنصارى، لكن أنقل كلامها- أن تاريخ الإنسانية سوف ينتهي بمعركة تدعى هرمجدون، وأن هذه المعركة سوف تتوج بعودة المسيح الذي سيحكم بعودته جميع الأحياء والأموات على حد سواء، وتقول أيضاً: هرمجدون نووية لا مفر منها بموجب خطة إلهية. ويقول لينبسي صاحب كتاب (نهاية أعظم كرة أرضية) -حتى الكتاب اسمه مخيف! -: لا داعي للتفكير -هذا متشائم جداً- في ديون أمريكا الخارجية، ولا في ارتفاع الضرائب، ولا في مستقبل الأجيال القادمة، فالمسألة بضع سنوات وسيتغير كل شيء في العالم جذرياً. هذا متشائم إلى أقصى حد، يعني: يريد أن يقول: الكل يتوقف. لكن فهمنا كمسلمين يقول النبي الكريم -كما في الحديث الذي رواه أحمد في مسنده بسند صححه شيخنا الألباني -: (إذا قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة فاستطاع أن يغرسها فليغرسها)، فالمسلم يعمل إلى آخر لحظة، ولا تقل: متى سأغرس؟ ومتى ستنمو؟ ومتى ستثمر؟ ومن سيأكل وقد قامت القيامة؟ هذا ليس من شأننا كمسلمين، إنما نحن نأخذ بالأسباب، ونعمل ونترك النتائج لمسبب الأسباب تبارك وتعالى. إذاً: معركة هرمجدون هي بداية للفتن والملاحم الكثيرة التي ستقع، وسيقود جيوش المسلمين فيها المهدي الذي هو من نسل فاطمة بنت المصطفى صلى الله عليه وسلم، هذه الملحمة الأخيرة الملحمة التي ستقع بين المسلمين وبين الروم حينما يغدرون، وهي ستكون -إن شاء الله تعالى- موضوع محاضرتنا المقبلة بإذن الله عز وجل بعد مقدمة عن أخبار المهدي ربما تأخذ محاضرة عن المهدي، وعن صفاته، وعن علاماته، وعن الكلام الصحيح الثابت في المهدي الذي سيقود الملحمة، وأنا أتصور أن الأمة الآن، وأن الأرض الآن تهيأ لاستقبال المهدي عليه السلام. أسأل الله عز وجل أن يعجل بالخلافة الراشدة، وأن يتقبل منا ومنكم جميعاً صالح الأعمال، وأن يقر أعيننا وإياكم بنصرة الإسلام وعز الموحدين، وأكتفي بهذا القدر. وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

الدر المنثور في الذود عن أصحاب الرسول

الدر المنثور في الذود عن أصحاب الرسول ما فتئ أعداء الإسلام جاهدين في حربهم على أمة الإسلام، فتارة تظهر حربهم بصورة عسكرية، وتارة تظهر بصورة فكرية، وهي أخطر وأخبث، وقد خططوا وأحكموا الخطط، لزعزعة ثوابت هذه الأمة، وأرادوا أن يختصروا الطريق بإسقاط نقلة الدين وحملته -وهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم- ليسقط الدين تبعاً لذلك!

حرب حقيرة ليست الأخيرة

حرب حقيرة ليست الأخيرة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين. فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته. وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء، وأيها الإخوة الأحباب الأعزاء، وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم الكريم جل وعلا الذي جمعني وإياكم في هذا البيت المبارك على طاعته أن يجمعني وإياكم في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! الدر المنثور في الذود عن أصحاب الرسول. هذا هو عنوان لقائنا مع حضراتكم في هذا اليوم الكريم المبارك، وسوف ينتظم حديثنا مع حضراتكم تحت هذا العنوان في العناصر التالية: أولاً: حرب حقيرة ليست الأخيرة!! ثانياً: عدالة الصحابة من القرآن والسنة. ثالثاً: وهل يسب الخيران؟!! وأخيراً: هم القدوة فاعرفوا لهم قدرهم. فأعيروني القلوب والأسماع، والله أسأل أن يجعلني وإياكم جميعاً ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولوا الألباب. أولاً: حرب حقيرة ليست الأخيرة!! إن الصراع بين الحق والباطل قديم بقدم الحياة على ظهر الأرض، والأيام دُول كما قال الله عز وجل: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140]، والإسلام العظيم منذ أن بزغ فجره واستفاض نوره لا زال إلى يومنا هذا مستهدفاً من قبل أعدائه، الذين يشنون عليه حروباً ضارية على كل الجبهات، وفي جميع الميادين!! ومن أخطر هذه الحروب المعلنة: حرب إسقاط الرموز ابتداء من الصحابة رضي الله عنهم، وانتهاءً بالعلماء والدعاة. فهم يريدون أن يشككوا الأمة في دينها حينما يشككون الأمة في نقلة هذا الدين من الصحابة الخيرين، والعلماء العاملين، والدعاة الصادقين، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى: يريدون أن يفصلوا بين الأتباع والقيادة، فإذا تم الفصل بين القائد والأتباع تشرذمت الأمة لتصبح الأمة ذليلة مبعثرة كالغنم في الليلة الشاتية الممطرة!! ومن آخر هذه الحروب، وليست الأخيرة: ما ينشر في هذه الأيام على صفحات الجرائد والمجلات السوداء التي تعزف على وتر الجنس لإثارة الغرائز الهاجعة، ولاستجاشة الشهوات الكامنة. هذه الحرب التي تثار الآن حرب سافرة سافلة! تشن على رموز هذه الأمة ابتداءً من الصحابة حيث نرى دفاعاً مبطناً في هذه الجرائد والمجلات على هذا الخطيب الشيعي المحترق الذي سب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سباً فظيعاً منكراً، والله يستحي اللسان العفيف أن يردد الآن لفظة واحدة مما قال!! وتعمدت ألا أعقب على هذا الشيعي المحترق إلا بعد سماع كلماته بأذني رأسي، فإنني لا أثق البتة فيما ينشر على صفحات الجرائد والمجلات؛ لأنهم يكذبون على الجميع، فما استحللت لنفسي، وما استبحت لنفسي أن أرد على هذا المجرم الوقح الذي سب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سباً منكراً إلا بعدما سمعت بأذني رأسي لهذا الرجل كلاماً يتعفف اللسان عن ذكر بعضه الآن.

سر شن الحرب على رموز هذه الأمة

سر شن الحرب على رموز هذه الأمة يُسب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم!! ويشوه العلماء!! وتعلن الحرب بضراوة على رءوس الأمة؛ ليتشكك الناس في الدين!! فمن الذي نقل إلينا الدين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هم الصحابة ومن سَار على دربهم من العلماء العاملين، والدعاة الصادقين. وهذه الحرب التي تعلن الآن على الأطهار، هي التي دفعتني لأقف اليوم بين أيديكم لأذود عن حرمهم الكريم، ولأذود عن عرضهم الطاهر، لا لأرفع من قدرهم وشأنهم، فإن الذي رفع قدرهم هو الله، وإن الذي رفع شأنهم وعَدلهم هو رسول الله، وإنما أتحدث اليوم عن الصحب الأطهار لأرفع من قدر نفسي ومن قدر إخواني وأخواتي، وأتضرع إلى الله عز وجل بحبنا لهم أن يحشرنا معهم، فالمرء مع من أحب يوم القيامة، بموعود الحبيب محمد صلى الله عليه وآله وسلم. أسأل الله جل وعلا أن يحشرنا وإياكم جميعاً تحت لواء الحبيب محمد مع الصديقين والنبيين والشهداء والصالحين، وعلى رأس الصالحين أصحاب النبي الأمين صلى الله عليه وسلم، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أيها الأحبة الكرام! والله لا أرى مثلاً لهؤلاء الموتورين الذين يتطاولون اليوم على هذه القمم الشماء إلا كمثل ذبابة حقيرة سقطت على نخلة عملاقة، فلما هَمَّت الذبابة الحقيرة بالانصراف قالت في استعلاء للنخلة العملاقة: أيتها النخلة تماسكي فإني راحلة عنك!! فقالت النخلة العملاقة: انصرفي أيتها الذبابة الحقيرة، فهل شعرت بك حينما سقطتِ عليَّ لأستعد لك وأنت راحلة عني؟!! هل يضر السماء أن تمتد إليها يد شلاء؟! وهل يوقف سير البواخر العملاقة الطحالب الحقيرة الفقيرة ولو اجتمعت على سطح الماء؟!! وهل يضر السحاب نبح الكلاب؟! حري بهؤلاء الموتورين أن يحطموا أقلامهم، وأن يفرغوها من مدادها العفن القذر. حري بهؤلاء أن يعرفوا قدرهم، وأن يلزموا حدهم، وأن يعرفوا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مكانتهم، فالصحابة هم الذين زكاهم الله، وعدلهم رسول الله، وبشروا بالجنة وهم في الدنيا، أما هؤلاء فلا يستطيع أحد منهم بل ولا منا أن يجزم لنفسه بخاتمة حسنة، نسأل الله أن يختم لنا ولكم بخاتمة التوحيد والإيمان. أيها المسلمون الأخيار! وفقني الله وإياكم لمرضاته، وجعلني الله وإياكم ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته، اعلموا أنه لا يجوز البتة لرجل زائغ العقيدة، مريض القلب، مشوش الفكر أن يتحدث عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، إذ إن الحديث عن الصحب الكرام يتطلب ابتداءً صفاء في العقيدة، وإخلاصاً في النية، ودقة في الفهم، وأمانة في النقل، ونظرة فاحصة مدققة لأراجيف المبطلين والوضاعين والكذابين والمغرضين، وعلى طريقهم العلمانيين، لابد من الفحص الدقيق لكل ما تقرأ، ولكل ما ينشر عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فلابد أن تعرف قدر هؤلاء ومكانتهم، فهم الجيل القرآني الفريد الذي تربى على يد من رباه الله على عينه ليربي به الدنيا هم. الجيل الذي تربى على يد المصطفى وكفى، وكل تلميذ يقتبس في العادة من أستاذه، فلك أن تتصور كيف يكون الاقتباس إذا كان المعلم هو سيد الناس! وكل منهج تربوي يترك طابعه على طلابه الذين يتربون عليه، ولك أن تتصور كيف يكون الطابع إذا كان المنهج التربوي الذي تربى عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هو القرآن والسنة! إنهم صفوة الخلق بعد الأنبياء، فلقد نظر الله في قلوب أهل الأرض فوجد قلب محمد خير قلوب أهل الأرض، فابتعثه برسالته، ونظر الله عز وجل في قلوب أهل الأرض بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم فوجد قلوب أصحابه خير قلوب أهل الأرض فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون عن دينه، وقد جاء هذا في أثر حسن رواه ابن عبد البر وأحمد من حديث ابن مسعود موقوفاً. إنهم صفوة الخلق بعد الأنبياء، إنهم المهاجرون والأنصار، الذين حملوا دعوة النبي المختار، وصدقوا ما عاهدوا عليه العزيز الغفار، فاستحقوا -وهم في الدنيا- بجدارة واقتدار، أن يبشروا بالجنة والنجاة من النار، إنهم أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذين عدلهم ربهم، ونبيهم صلى الله عليه وسلم، وهذا هو عنصرنا الثاني من عناصر هذا اللقاء.

عدالة الصحابة من القرآن والسنة

عدالة الصحابة من القرآن والسنة

عدالة الصحابة في القرآن

عدالة الصحابة في القرآن قال الخطيب البغدادي في كتابه الكفاية من علم الرواية: إن عدالة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ثابتة معلومة بتعديل الله لهم وإخباره عن طهارتهم، واختياره لهم. وهي ثابتة بنص القرآن قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] والمخاطب ابتداء بهذا الخطاب الرباني هم أصحاب الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143] المخاطب ابتداءً بهذا الخطاب الرباني هم أصحاب الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم، وهم المخاطبون بقول الله عز وجل: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:172 - 174]، وقال الله عز وجل في حقهم مخاطباً نبيه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64]. وهم الذين قال الله عز وجل في حقهم: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115] وهم الذين قال الله في حقهم: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:18]. وهم الذين قال الله عز وجل في حقهم: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:100]، فقيد الله الإحسان للتابعين لهم، {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:100]. وهم الذين زكاهم الله عز وجل بقوله: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:8 - 9]. وهم الذين قال الله عز وجل في حقهم: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح:29] آيات كثيرة في كتاب الله عز وجل زكى الله فيها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ونكتفي بهذا القدر منها.

عدالة الصحابة في السنة

عدالة الصحابة في السنة تدبروا هذه الأوسمة والنياشين من سيد النبيين صلى الله عليه وآله وسلم، ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم). وفي الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (جلس الصحابة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي هذا المجلس مر الناس بجنازة، فأثنوا عليها خيراً -أثنى الصحابة على صاحب الجنازة خيراً- فقال المصطفى: وجبت. ثم مروا بجنازة أخرى في نفس المجلس فأثنوا عليها شراً. فقال المصطفى: وجبت. قال عمر رضي الله عنه: ما وجبت يا رسول الله؟ قال: الأولى أثنيتم عليها خيراً فوجبت لها الجنة، والثانية أثنيتم عليها شراً فوجبت لها النار، أنتم شهداء الله في الأرض). إن الذي يزكي ها هنا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليست هيئة مشبوهة علمانية أو ماسونية، بل الذي يعدل الآن هو رسول الله: (أنتم شهداء الله في الأرض). وفي صحيح مسلم من حديث أبي موسى الأشعري أن الحبيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) (لا تسبوا أصحابي فوالذي نفس محمد بيده لو أنفق أحدكم) أي: في سبيل الله (مثل جبل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)! وفي صحيح مسلم عن معاوية بن قرة عن عائذ بن عمرو رضي الله عنه أن أبا سفيان مر على سلمان وصهيب وبلال ونفر من أصحاب النبي -أي: من الفقراء البسطاء- فلما رأوه قالوا: والله ما أخذت سيوف الله من عدو الله مأخذها، فسمعهم أبو بكر رضي الله عنه فقال: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم، يدافع الصديق عن أبي سفيان، ثم انطلق الصديق فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما قال وبما قالوا، -اسمع ماذا قال المصطفى صلى الله عليه وسلم- التفت إلى أبي بكر وقال: (يا أبا بكر لعلك أغضبتهم، فوالله لئن كنت أغضبتهم فلقد أغضبت ربك عز وجل)، لو أغضبت بلالاً وعماراً وسلمان فقد أغضبت ربك عز وجل. فخاف الصديق صاحب القلب الوجل الرقيق، وأسرع إلى الصحب الكريم وقال: يا إخوتاه أغضبتم مني؟ قالوا: لا، يغفر الله لك يا أبا بكر. وفي صحيح البخاري من حديث أبي سعيد الخدري أن الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤتى بنوح يوم القيامة فيقال له: هل بلغت قومك يا نوح؟ فيقول: نعم، فيؤتى بقومه ويقال لهم: هل بلغكم نوح؟ فيقولون: لا، ما أتانا من نذير، وما أتانا من أحد، فيقول الله جل وعلا لنوح: من يشهد لك يا نوح؟ فيقول نوح: يشهد لي محمد وأمته -ما رأينا نوحاً وما عاصرناه، ولكنكم شهداء الله في أرض الله- يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: فتدعون فتشهدون له بالبلاغ، ثم أشهد عليكم، وذلك قول الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143]) وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع رأسه إلى السماء ثم قال: (النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون). وروى الترمذي وابن حبان وأحمد والبيهقي وأبو نعيم وغيرهم -وللأمانة العلمية أقول: إن في سنده مجهولاً لكن متن الحديث ثابت صحيح كما ذكرت آنفاً- من حديث عبد الله بن مغفل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (الله الله في أصحابي! لا تتخذوهم غرضاً بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه). وأرى أننا بعد هذه الآيات، وبعد هذه الأحاديث الصحيحة، لسنا في حاجة إلى مزيد بيان عن الصحب الكرام، ومع ذلك فإني مصر على أن أعطر هذا المجلس بكلمات ندية لأسد الله الغالب علي بن أبي طالب، إن الكلام من علي رضي الله عنه في هذا الموطن له مغزى! وقبل أن أذكر كلمات علي، أود أن أحذر الأحبة جميعاً من أن ينتقصوا قدر علي ومن ألا يثبتوا له المناقب التي صحت خشية أن يقعوا فيما وقع فيه الروافض من إطراء بالباطل لـ علي، بل يجب أن نثبت لـ علي مناقبه، ونثبت لـ علي مكانته، فهو أسد الله الغالب، هو الذي قال له المصطفى يوم خيبر لما امتنعت حصون اليهود: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله)، وإلى هنا فإن الأمر عادي، كل أحد من الصحب الكرام يحب الله ورسوله، أمر طبيعي، ولكن اسمع ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك قال: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله)، وفي الصباح اشرأبت الأعناق، وتمنى الأبطال القيادة حتى عمر المتجرد التقي المخلص النقي يقول: والله ما تمنيت الإمارة إلا يومها، وفي الصباح وقف الأبطال على أطراف الأقدام ليراهم النبي عليهم الصلاة والسلام، وبعدما نظم النبي صلى الله عليه وسلم الصفوف شق السكون صوت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسأل عن القائد الذي سيدفع له اليوم الراية؛ ليفتح الله عز وجل على يديه، فقال المصطفى: (أين علي بن أبي طالب؟ فبحثوا عن علي فلم يجدوه، فإنه كان يشتكي وجعاً في عينيه، قال: ائتوني به، فأرسلوا إلى علي، فوقف أمام النبي صلى الله عليه وسلم، فمسح النبي صلى الله عليه وسلم عينيه فبرأت بإذن الله عز وجل، ودفع له الراية، وأمره أن ينطلق). فانطلق أسد الله الغالب علي بن أبي طالب رضي الله عنه ففتح الله على يديه حصون خيبر، وهتف الجميع بما هتف به النبي صلى الله عليه وسلم أول يوم: (الله أكبر! خربت خيبر! إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين!). أسأل الله عز وجل أن يخرب حصون اليهود بقدرته إنه على كل شيء قدير، علي بن أبي طالب هو الذي تربى في حجر المصطفى وكفى، أول شبل من أشبال الإسلام يقف خلف النبي صلى الله عليه وسلم يصلي ويسمع القرآن من فم رسول الله، اضطر يوماً لأن يفخر رضي الله عنه فقال: محمد النبي أخي وصهري وحمزة سيد الشهداء عمي وجعفر الذي يمسي ويضحي يطير مع الملائكة ابن أمي وبنت محمد سكني وزوجي وسبطا أحمد ولداي منها منوط لحمها بدمي ولحمي فأيكم له سهم كسهمي اسمع ما قال علي رضي الله عنه: (سيكون بعدنا أقوام ينتحلون مودتنا، يكذبون علينا، وآية ذلك أنهم يسُبون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما) تدبر هذا الكلام النفيس أيها الحبيب الكريم. لقد ذكروا للإمام مالك بن أنس رجلاً ينتقص بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ مالك بن أنس رضي الله عنه قول الله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29]. ثم قال مالك: فمن وجد في قلبه غيظاً على أحد من أصحاب رسول الله فقد أصابته هذه الآية (ليغيظ بهم الكفار) وقال الحافظ الكبير أبو زرعة رحمه الله: (إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق؛ وذلك لأن الرسول حق والقرآن الحق، وما جاء به النبي حق، والذي بلغنا ذلك كله عن رسول الله هم أصحابه) فهؤلاء يريدون أن يهدموا الصحابة ليبطلوا القرآن والسنة، فإن الذي نقل ذلك إلينا هم الصحابة، فإن شكك في النقلة الذين نقلوا إلينا عن رسول الله شككونا بعد ذلك في الدين، فهم يريدون أن يهدموا الصحابة الذين نقلوا إلينا هذا العلم؛ ليبطلوا بهذا التشكيك والتشويه القرآن والسنة، {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:8] فوالله ما من مسلم الآن إلا وهو يعلم الحق، ويعلم الحقيقة، ويعلم من الذي يعمل لدين الله، بل ويعلم من الذي يعمل لصالح هذا البلد، ومن الذي يعمل لتقويض أساسه، ولتقويض بنيانه من القواعد، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم جميعاً من المصلحين الصالحين. وأختم هذا العنصر بما قاله الإمام الطحاوي في عقيدته المشهورة، يبين في هذه الفقرة معتقد أهل السنة والجماعة في أصحاب المصطفى صلى الله عليه وسلم فيقول: (ونحب أصحاب الرسول، ولا نفرط في حب أحد منهم، ونبغض من أبغضهم، وبغير الخير يذكرهم، فحبهم دين وإيمان وإحسان؛ وبغضهم كفر ونفاق وطغيان).

ونطق الرويبضة

ونطق الرويبضة أيها الحبيب الكريم! أحذر نفسي وإياك، وأذكر نفسي وإياك، فإننا نعيش زماناً تكلم فيه الرويبضات، بل أفردت الصفحات للرويبضات، بل أفردت الساعات الطوال على الشاشات وفي الإذاعات للرويبضات، هل تدري من الرويبضات؟ اسمع الجواب من رسول الله صلى الله عليه وسلم. روى أحمد والحاكم في المستدرك وصححه الألباني من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (سيأتي على الناس سنوات خدّاعات, يُصدق فيها الكاذب, ويُكذب فيها الصادق, ويؤتمن فيها الخائن, ويُخَوَّن فيها الأمين, وينطق فيها الرويبضة قيل: من الرويبضة يا رسول الله؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة). والله لقد نطق التافهون، بل لقد نطق أبو الهول الذي لم يتكلم في شيء إلا في سب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والتشهير بالعلماء المخلصين والدعاة الصادقين، للفصل بين القيادة والأتباع لتتشرذم الأمة، ولتصبح ذليلة كسيرة مبعثرة، ليسهل على الذئاب أن يفترسوها وأن يأكلوها أكل الذئب للغنم، أسأل الله عز وجل أن يقر أعيننا وإياكم بنصرة الإسلام وعز الموحدين، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

وهل يسب الخيران: أبو بكر وعمر؟!

وهل يسب الخيران: أبو بكر وعمر؟! الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: وهل يسب الخيران أبو بكر وعمر؟! يَسُب هذا الشيعي الغبي المحترق أبا بكر وعمر رضي الله عنهما!! بكلمات يعف اللسان عن ذكرها!! يسب أبا بكر بأقبح الألفاظ!! يسب عمر الفاروق بأشنع كلمات!! ألفاظ لا تصدر إلا من فم رجل شرب الخمر فلعبت الخمر برأسه فهو يهذي ولا يدري ما يقول!! ولكن إنا لله وإنا إليه راجعون.

بعض فضائل أبي بكر الصديق

بعض فضائل أبي بكر الصديق أبو بكر ذلكم الرجل الذي عاين طائر الفاقة يحوم حول حب الإيثار، فألقى له الصديق حبَ الحُبَ على روض الرضا، واستلقى الصديق على فراش الفقر آمناً مطمئناً، فرفع الطائر الحب إلى حوصلة المضاعفة وتركه هنالك، ثم علا على أفنان شجرة الصدق يغرد للصديق بأغلى وأعلى فنون المدح، وهو يتلو في حقه قول ربه {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى} [الليل:17]. إن الأتقى هو الصديق {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:17 - 21]. إنه الرجل الذي استحق أن يكون أقرب الخلق إلى قلب رسول الله كما في صحيح البخاري من حديث عمرو بن العاص أنه قال: (يا رسول الله! أي الناس أحب إليك؟ قال عائشة قال: من الرجال؟ قال: أبوها، قال عمرو: ثم من؟ قال المصطفى: ثم عمر). أبو بكر العملاق الذي قال في حقه المصطفى صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة: (من أنفق زوجين من شيء من الأشياء في سبيل الله دعي من أبواب الجنة: يا عبد الله! هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، فقال الصديق صاحب أعلى همة في الأمة بعد نبيها: يا رسول الله! فهل يدعى أحد من هذه الأبواب كلها؟ قال المصطفى: نعم، وأنت هو يا أبا بكر). وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن المصطفى سأل أصحابه يوماً فقال: (من أصبح اليوم منكم صائماً؟ قال: أبو بكر: أنا يا رسول الله! فقال المصطفى: من عاد منكم اليوم مريضاً؟ فقال أبو بكر: أنا يا رسول الله! فقال المصطفى: من تبع اليوم منكم جنازة؟ فقال أبو بكر: أنا يا رسول الله! فقال المصطفى: من أطعم اليوم منكم مسكينا؟ فقال أبو بكر: أنا يا رسول الله! فقال المصطفى: ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة).

بعض فضائل عمر الفاروق

بعض فضائل عمر الفاروق عمر الفاروق ذلكم الرجل العملاق الذي بركت الدنيا بزخارفها وسلطانها على عتبة داره؛ فطلقها ثلاثاً وسرحها سراحاً جميلاً، وقام ينفض يديه من علائق هذا المتاع الزائف، واستأنف سيره وسط الصحراء تحت حرارة الشمس المحرقة، تراه يجري وراء بعير قد ند من إبل الصدقة يخشى عليه الضياع، ويخشى أن يسأل عنه بين يدي الله جل وعلا يوم القيامة، أو تراه -وهو الفاروق الخليفة- منحنياً على قدر فوق نار مشتعلة ينفخ النيران تحت القدر لتنضج النيران طعمة سريعة لأطفال يتضورون جوعاً، أو تراه واقفاً أمام خيمة رجل يبكي على امرأته التي أدركها المخاض وهي لا تجد أحداً يؤنسها؛ فيسرع ليأتي بزوجة خليفة المسلمين لتقف مع هذه المرأة المسلمة حتى تضع ولدها، أو تراه يمشي في السوق يتفقد أحوال الناس فيرى إبلاً سمينة فيسأل عمر الفاروق: إبل من هذه؟ فيقولون: إبل عبد الله بن عمر، وكأن حية رقطاء قد انقضت عليه فلدغته، وأفرغت كل سمها في جوفه، فيقول: بخ بخ! إبل عبد الله بن عمر، ائتوني به، ويأتي عبد الله يرتجف ويرتعد وهو إمام الزهد والورع، فيقول عمر: يا عبد الله! ما هذه الإبل؟! فيقول ابنه إمام الزهد والورع: يا أبت! إبل كانت مريضة هزيلة، اشتريتها بخالص مالي، وأطلقتها في الحمى ترعى، وأتيت بها إلى السوق أبتغي ما يبتغيه المسلمون من الربح والتجارة. فقال عمر في تهكم لاذع: بخ بخ يا ابن أمير المؤمنين، إذا رأى الناس إبلك قالوا: ارعوا إبل ابن أمير المؤمنين! اسقوا إبل ابن أمير المؤمنين، فتسمن إبلك ويربو ربحك يا ابن أمير المؤمنين، قال: عبد الله: لبيك يا أبت مرني بما شئت. قال: بع الإبل الآن، وخذ رأس مالك، ورد الربح إلى بيت مال المسلمين! عمر الذي اشتهت زوجه الحلوى يوماً فأبى عليها يا رافعاً راية الشورى وحارسها جزاك ربك خيراً عن محبيها رأي الجماعة لا تشقي البلاد به رغم الخلاف ورأي الفرد يشقيها إن جاع في شدة قوم شركتهم في الجوع أو تنجلي عنهم غواشيها جوع الخليفة والدنيا بقبضته منزلة في الزهد سبحان موليها فمن يباري أبا حفص وسيرته أو من يحاول للفاروق تشبيها يوم اشتهت زوجه الحلوى فقال لها من أين لي ثمن الحلوى فأشريها ما زاد عن قوتنا فالمسلمون به أولى فقومي لبيت المال رديها فتلك أخلاقه كانت وما عهدت بعد النبوة أخلاق تحاكيها واسمع للمصطفى وهو يضع الأوسمة على صدر عمر الفاروق فيقول كما في سنن الترمذي من حديث ابن عمر وهو حديث حسن: (إن الله تعالى جعل الحق على لسان عمر وقلبه)، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (رأيتني وأنا في الجنة، ورأيت قصراً وإلى جواره جارية تتوضأ، فقلت: لمن هذا القصر؟ فقالوا: لـ عمر بن الخطاب يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: فتذكرت غيرتك يا عمر فأدبرت، فلما سمع عمر ذلك من رسول الله بكى، وقال: أو عليك أغار يا رسول الله؟!). وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بينا أنا نائم إذ عرض علي الناس وعليهم قمص -جمع: قميص- منهم ما يبلغ الثدي، ومنهم دون ذلك، وبينما هم كذلك إذ عرض علي عمر بن الخطاب وعليه قميص يجتره -قميص يجره على الأرض-، قالوا فما أولته يا رسول الله؟ قال: الدين). وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال: (بينا أنا نائم إذ عرض علي قدح من اللبن، فشربت حتى إني أرى الرِي يخرج من بين أظفاري، ثم أعطيت فضلتي -أي: ما تبقى من الشراب- لـ عمر قالوا: فما أولته يا رسول الله؟! قال: العلم). وفي الصحيحين (أن عمر بن الخطاب استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده نسوة من قريش يكلمنه عالية أصواتهن؛ فلما سمعن صوت عمر يستأذن على رسول الله قمن يبتدرن الحجاب، فدخل عمر والنبي يضحك، فقال عمر: أضحك الله سنك يا رسول الله؟! -يعني: لماذا تضحك؟ سؤال بأدب- فقال المصطفى: أضحك من هؤلاء اللائي كن عندي، فلما سمعن صوتك قمن يبتدرن الحجاب! فقال: أنت أحق أن يهبنك يا رسول الله، ثم التفت عمر إلى النسوة فقال: أي عدوات أنفسهن! أتهبنني ولا تهبن رسول الله؟! والمرأة لا يخونها لسانها في مثل هذه المواقف فقلن: نعم؛ لأنك أفظ وأغلظ من رسول الله! فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم قولة عجيبة، التفت إلى عمر وقال: إيه يا ابن الخطاب! والله ما رآك الشيطان سالكاً فجاً -أي: طريقاً- إلا وتركه لك، وسلك فجاً غير فجك) فهل يسب عمر فاروق الأمة؟!! وهل يسب الخيران؟!! أسأل الله عز وجل أن يجمعنا بهما في جنات النعيم.

هم القدوة فاعرفوا لهم قدرهم

هم القدوة فاعرفوا لهم قدرهم أخيراً: أكتفي بهذا الأثر الذي رواه أحمد بسند حسن من حديث ابن مسعود رضي الله عنه موقوفاً عليه قال: (من كان مستناً فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا أفضل هذه الأمة، وأبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، اختارهم الله لصحبة نبيه، ولإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم على آثارهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم). أيها الوالد الكريم! تعلم سير الصحابة، وعَلم أبناءك سير الصحابة، لقد آن الآوان لنربوا بأبصارنا إلى هذه القمم إلى هذه القدوات إلى هذه المثل فإن شبابنا الآن قدمت له قدوات فاسدة! ومُثل هابطة! يعلمون الكثير عن هؤلاء الأقزام! في الوقت الذي لا يعلمون فيه شيئاً عن هذه القمم الشماء، وعن هؤلاء الأطهار الخيار الكرام. تعلم سيرة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، عُد من جديد واسمع السيرة اقرأ السيرة اجتهد أن تسأل عن سيرتهم بعد ما حرمت من صحبة أنفاسهم وأجسادهم، ورب ولدك على هذه السيرة؛ لنأخذ العبرة والعظة من ناحية، ولتتدفق من جديد في عروقنا دماء العزة والكرامة، والزهد والورع من ناحية أخرى، التي ضرب لها أروع المثل أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم. إننا نعيش زماناً قدم فيه التافهون ليكونوا القدوة والمثال، ونعيش زماناً قلت فيه القدوة من ناحية أخرى، آن الآوان لأن ترنوا جميع الأبصار إلى هذه القدوات الطيبة والمثل العليا. ويجب عليك أن تغار لأصحاب نبيك إذا قرأت كلمة تنبش عرض واحد منهم، يجب عليك أن تغار، دعك من هذه السلبية القاتلة، تقرأ في جريدة أو في مجلة قذرة داعرة دفاعاً مبطناً عن هذا الشيعي المحترق الذي سب أصحاب النبي ولا تفعل شيئاً، اكتب رسالة إلى الجريدة، وعبر فيها عن رأيك، اتصل بالهاتف وعبر عن رأيك، قرأت تحقيقاً صحفياً عن شيوخك وعلمائك ودعاتك فعبر عن رأيك، اكتب خطاباً وأرسل به إلى رئاسة التحرير أو إلى المحررين، المهم أن تنكر هذا المنكر ولا تعجز، اكتب كلمات رقيقة، اكتب كلمات طيبة، ذد عن عرض هؤلاء، ذد عن شرف هؤلاء، ادفع عن عرض هؤلاء الشيوخ والدعاة والعلماء والصحابة قبل ذلك. فهؤلاء هم رموز الأمة، لا ينبغي أن تسقط هذه الرموز، لا ينبغي أن تشوه صورهم وأن نسكت، عبر بكلمة طيبة لا نريد أكثر من ذلك، المهم أن يعلم هؤلاء الذين يكتبون عبر هذه الصفحات السوداء أن الأمة مع علمائها، وقبل ذلك مع دينها ومع نبيها ومع أصحاب رسول الله، ومع العلماء العاملين والدعاة الصادقين، لابد أن يشعر هؤلاء بهذا. يا أخي! لا تكن سلبياً، استحلفك بالله أن تكون إيجابياً، تحرك وعبر عن القضية بكلمات رقيقة رقراقة جميلة، فإنني أقول لكم دوماً: لا تخلطوا بين مقام الدعوة ومقام القتال، فمقام الدعوة هو اللين {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} [النحل:125]، {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} [طه:44]. وهذا الذي أطالب به الآن، أدع بالحكمة وباللين، برسالة أو اتصل بالهاتف، تحدث مع مسئول إن كنت تعرفه، تحدث مع صحفي إن كنت تعرفه، نريد أن يصل كماً هائلاً من الرسائل التي تعبر عن حب هذه الأمة لدينها ونبيها وأصحاب رسول الله والعلماء والشيوخ والدعاة الصادقين؛ ليعلم هؤلاء أنهم يحرثون في الماء، أما أن نكون سلبيين إلى هذا الحد، وأن نسمع وننصرف! ونأتي لنسمع وننصرف، ولا شيء يخرج منا على الإطلاق! فهذه سلبية خطيرة، أعوذ بالله من نتيجتها بين يديه تبارك وتعالى. لا تبرر لنفسك هذه السلبية بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105] صديق الأمة قرأ هذه الآية يوماً على المنبر فقال: إنكم تقرءون هذه الآية وتضعونها في غير موضعها، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه أوشك الله أن يعمهم جميعاً بعقاب من عنده)، وقال في رواية أخرى: (إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه أوشك الله أن يعمهم بعقاب من عنده) أسأل الله عز وجل أن يقر أعيننا وإياكم بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم احشرنا في زمرة نبيك الكريم، وصحبه المباركين، وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون عليه إلى الجنة ويلقى به في جهنم، ثم أعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الشيعة والسنة

الشيعة والسنة من شر البدع التي أحدثت في الإسلام بدعة الشيعة الرافضة؛ إذ أن وراءها أيدٍ مدسوسة خبيثة كابن سبأ اليهودي الذي كان هدفه إفساد الإسلام. ولهؤلاء القوم عقائد فاسدة منحرفة عن دين الإسلام، بل عن العقل السليم، كعقيدة الإمامة، وعصمة الإمام، وعقيدة التقية والرجعة والبداء، فيجب الحذر والتحذير منهم، ومن عقائدهم الفاسدة.

معتقد الشيعة والرافضة في الإمامة والأئمة

معتقد الشيعة والرافضة في الإمامة والأئمة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً -أيها الأحبة الفضلاء! - وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً. وأسأل الله جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت المبارك على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى، في جنته ودار مقامته؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! لا زلنا نواصل حديثنا في دروس العقيدة عن الركن الخامس من أركان الإيمان بالله جل وعلا، ألا وهو الإيمان باليوم الآخر، ولا زال حديثنا متواصلاً وممتداً أيضاً عن الفتن التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن وقوعها بين يدي الساعة، كعلامة من العلامات الصغرى. وقد تحدثت قبل عن فتنة الخوارج وعن فتنة الروافض، وأختم اليوم الحديث -إن شاء الله تعالى- عن الروافض؛ وقد كنت بينت معتقد الشيعة الروافض في كتاب الله جل وعلا، وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسوف أجمل في هذا اليوم معتقد الشيعة الروافض في عقائدهم الأخرى التي شذوا بها عن أهل السنة والجماعة، وسأتحدث عن الشيعة الروافض في نقاط محددة، وسأبين أولاً: معتقدهم في الإمامة. ثانياً: في عصمة الإمام. ثالثاً: في التقية. رابعاً: في الرجعة. خامساً: في البداء. سادساً: في الغيبة. وأكون بذلك -ولله الحمد- قد بينت معتقد الشيعة مجملاً، ولن أتوقف فيما يخالف فيه الشيعة أو الروافض أهل السنة في المسائل الفقهية، وإلا لاحتجنا إلى عشرات المحاضرات بلا مبالغة، وإنما يكفي أن أبين مجمل معتقد القوم؛ ليكون كل مسلم على بصيرة، وهذا الكلام لا يستغني عنه مسلم أو مسلمة، لا سيما ونحن نعلم يقيناً أن الروافض والشيعة قد انتشرت انتشاراً ساحقاً الآن في الأرض، نسأل الله عز وجل أن يثبتنا على الحق، وأن يتوفانا عليه؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه. وأرجو أن تركزوا معي في هذا الموضوع الذي سأنهي به الحديث -إن شاء الله تعالى- عن الروافض أو الشيعة، وسيتبين للجميع مجمل معتقد القوم، بعدما وقفنا على معتقدهم في القرآن وفي سنة النبي عليه الصلاة والسلام. أولاً: معتقد الشيعة أو الروافض في الإمامة: تحدثت قبل عن مجمل معتقد الشيعة أو عن إشارات في معتقد الشيعة أو الروافض في الإمامة، والإمامة لها -عند الشيعة أو عند الروافض- مفهوم خاص، ينفردون به عن سائر المسلمين على ظهر الأرض، فهم يتعقدون أن الإمامة منصب إلهي كالنبوة تماماً، فكما أن الله سبحانه يختار من يشاء من عباده للنبوة والرسالة، ويؤيده بالمعجزات التي تبين أن هذا النبي أو الرسول مرسل من عند الله جل وعلا، فهم يعتقدون كذلك أن الله تبارك وتعالى كما يختار الأنبياء والرسل يختار الأئمة، ويأمر الله عز وجل نبيه بالنص على الإمام، وأن ينصبه -أي: النبي صلى الله عليه وسلم- إماماً للناس من بعده. هذا كلام الشيعة أو الروافض في قضية الإمامة، فهم لا يفرقون بين الرسول والنبي والإمام تفريقاً ظاهراً. وتدبر معي -مثلاً- هذا النص من كلام الكليني في (الكافي) في كتاب الحجة، في باب: الفرق بين الرسول والنبي والمحدث، المجلد الأول (ص:176)، يقول: أما الفرق بين الرسول والنبي والإمام عندهم، فقد سئل الرضا: ما الفرق بين الرسول والنبي والإمام؟ فقال: الفرق بين الرسول والنبي والإمام أن الرسول هو الذي ينزل عليه جبريل فيسمع -أي: الرسول صلى الله عليه وسلم- كلامه ويراه -أي: يرى جبريل عليه السلام- وينزل عليه الوحي، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فهو الذي ينزل عليه جبريل فيراه ولا يسمع منه -وهذا تقسيم عقيم جداً- وأما الإمام فهو الذي يسمع الكلام ولا يرى جبريل عليه السلام. وهذا النص لا شك أنكم تقفون من خلاله على أنهم لا يفرقون إطلاقاً بين الرسول والنبي والإمام في قضية نزول الوحي، فهم يرون نزول الوحي على الإمام كنزوله على النبي والرسول، فهم يقرون بأن الإمام من أئمتهم هو الذي يسمع الوحي من جبريل عليه السلام، ولكنه لا يراه رأي العين. مع أن هناك روايات تؤكد تحقق رؤية الإمام للملائكة، حتى قال عالمهم الشهير المجلسي الذي عقد في (البحار) -الكتاب المشهور الذي نقلت عنه كثيراً- باباً بعنوان: باب أن الملائكة تأتيهم -أي: تأتي الأئمة- وتطأ فرشهم، وأنهم يرونهم. أي: وأن الأئمة يرون الملائكة.

منزلة الإمامة والأئمة عند الشيعة والرافضة

منزلة الإمامة والأئمة عند الشيعة والرافضة بل وستعجبون إذا ذكرت لكم بأن منزلة الإمامة عند الشيعة قد تجاوزت منزلة النبوة، ويكفي أن تقف فقط -بإيجاز شديد جداً- مع بعض عناوين الأبواب في كتاب (الكافي) أو (البحار) للمجلسي، أو في كتاب (الشيعة وأصولها)، أو (البرهان) كتفسير من التفاسير أو في أي مرجع من مراجعهم؛ لتقف على أن الإمامة عندهم إنما هي في منزلة أعلى من منزلة النبوة، وتدبر معي بعض هذه العناوين من كتاب (البحار) للمجلسي: يقول في فضائل الأئمة: باب: أنهم أعلم من الأنبياء عليهم السلام، وروى في هذا الباب ثلاثة عشر حديثاً. وفيه: باب بعنوان: تفضيل الأئمة على الأنبياء وعلى جميع الخلق. وفيه: باب: أن دعاء الأنبياء استجيب بالتوسل والاستشفاع بالأئمة. يعني: ما استجاب الله دعاء الأنبياء إلا لأن الأنبياء توسلوا واستشفعوا إلى الله بالأئمة. وفيه: باب: أنهم يقدرون على إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، وجميع معجزات الأنبياء. وفيه: باب: أنهم لا يحجب عنهم علم السماء والأرض، والجنة والنار، وأنه عرض عليهم ملكوت السماوات والأرض، ويعلمون علم ما كان وما يكون إلى يوم القيامة، وروى في هذا الباب اثنين وعشرين حديثاً. وفيه: باب: أنهم يعرفون الناس بحقيقة الإيمان وحقيقة النفاق، وعندهم -أي: عند الأئمة- كتاب فيه أسماء أهل الجنة، وأسماء شيعتهم وأعدائهم، وروى في هذا الباب أربعين حديثاً. وفيه: باب: أن الأئمة إذا شاءوا أن يعلموا علموا. وفيه: باب: أن الأئمة يعلمون متى يموتون، وأنهم لا يموتون إلا باختيار منهم. وفيه: باب: أنهم لا يحجب عنهم شيء من أحوال شيعتهم، وما تحتاج إليه الأمة من جميع العلوم، وأنهم يعلمون ما يصيبهم من البلايا، ويصبرون عليها، ولو دعوا الله في دفعها لأجيبوا، وأنهم يعلمون ما في الضمائر، وعلم المنايا والبلايا، وفصل الخطاب والمواليد، وذكر في هذا الباب ثلاثة وأربعين حديثاً. هذا نقلاً عن (البحار) للمجلسي المجلد رقم (26) ابتداء من (ص:137 إلى 153)، وهذا كله عناوين أبواب، ولو سردت بعض الأحاديث المروية تحت هذه الأبواب لسمعتم العجب العجاب، ويكفي فقط أن نقف مع رءوس هذه العناوين، وأختم بهذا الباب الذي يقول فيه: إن عند الأئمة اسم الله الأعظم، وبه -أي: بهذا الاسم- يظهر منهم الغرائب. هذه أمثلة لما يصفون به أئمتهم، وهي دعاوى في غاية الغرابة، وتحتاج إلى رجل صاحب عقل فقط؛ ليقف على بطلانها وعلى ضلالها، فهم يخرجون الأئمة -بمثل هذه الروايات والنصوص- من منزلة البشرية إلى منزلة النبوة، بل إلى مرتبة الألوهية، فهم يدعون أنهم يعلمون ما في الغيب، ويعلمون مكنون الضمائر، بل ويعلمون ما تحتاج إليه الأمة، بل ويعلمون ما في قلوب الناس، فيعلمون أن هذا مؤمن وأن هذا منافق، وهذا كله علم خاص بالله، لأنه متعلق بألوهية الرب، فلا يعلم الغيب إلا الله، بل لقد ذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى فقال: إن رءوس الطواغيت في الأرض خمسة -ومعلوم أن الطاغوت صيغة مشتقة من الطغيان، فالطاغوت هو: كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع- منها: الشيطان، وهو الطاغوت الأكبر الذي زين للناس عبادة الطاغوت من دون الله جل وعلا، وما بعث الله نبياً ولا رسولاً إلا وقد أمر هذا النبي والرسول قومه أول ما أمر أن يكفروا بالطاغوت ويؤمنوا بالله؛ إذ لا يصح إيمان إلا بالكفر بالطاغوت ابتداء، ثم بعد ذلك بالإيمان بالله جل وعلا، فقدم الله الكفر بالطاغوت على الإيمان به سبحانه، فقال: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:256]. ثم قال: ثم الحاكم المغير المبدل لشرع الله، ثم الذي يحكم بغير ما أنزل الله وهو يعلم، ثم الذي يدعي علم الغيب من دون الله جل وعلا، فمن ادعى علم الغيب من دون الله فهو طاغوت من الطواغيت، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! فهم يخرجون الأئمة بمثل هذه الروايات والنصوص من مرتبة الإمامة ومرتبة النبوة إلى مرتبة لا يمكن أبداً أن تنسب مثل هذه المرتبة إلا لله تبارك وتعالى، وهذه الروايات هي -في الحقيقة- الأرضية والقاعدة والمنطلق للأفكار الباطنية المنتشرة الآن في الأرض، وهذه الدعاوى الخطيرة باب للزندقة والإلحاد، إذ لم يقلها نبي مرسل ولا ملك مقرب، وهي محاربة لله جل وعلا ولرسوله ولكتابه ولدينه وللمسلمين.

اعتقاد الشيعة والرافضة في قبور أئمتهم

اعتقاد الشيعة والرافضة في قبور أئمتهم ومكمن الخطر أن هذه المزاعم قد انتقلت لتتحول إلى ترجمة عملية واقعية في دنيا الناس، فهم يلوذون الآن بقبور أئمتهم، ويفعلون بها ما لا يصدقه عاقل، بل لقد اعتبر الروافض أن أماكن قبور أئمتهم أماكن مقدسة، كالحرم في مكة ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، وتدبر معي ما قال في (الوافي): إن الكوفة حرم الله وحرم رسوله صلى الله عليه وسلم وحرم أمير المؤمنين، وإن الصلاة فيها -أي: في الكوفة- بألف صلاة، والدرهم فيها بألف درهم. انظر إن شئت كتاب (الوافي) باب: فضل الكوفة ومساجدها، المجلد الثاني (ص:215). ويروون عن الصادق: أن لله حرماً هو مكة، ولرسوله حرماً هو المدينة، ولأمير المؤمنين -أي: علي - حرماً هو الكوفة، ولنا حرماً وهو قم. وقم: بضم القاف وتشديد الميم، مدينة مقدسة في إيران، وقالوا: إنها ما استمدت قداستها إلا من قبر فاطمة بنت موسى بن جعفر الصادق، وموسى بن جعفر الصادق هو إمامهم السابع من الأئمة الإثني عشر!! وكربلاء -وهي الموطن الذي قتل فيه الحسين رضي الله عنه وأرضاه- عندهم أفضل من الكعبة، ففي كتاب (البحار) للمجلسي، الجزء الأول (ص:107) عن أبي عبد الله أنه قال: إن الله أوحى إلى الكعبة: لولا تربة كربلاء ما فضلتك، ولولا من تضمنته أرض كربلاء ما خلقتك، ولا خلقت البيت الذي به افتخرت، فقري واستقري، وكوني ذنباً متواضعاً ذليلاً مهيناً غير مستنكف ولا مستكبر لأرض كربلاء، وإلا سخت بك وهويت بك في نار جهنم!! وزيارة قبور الأئمة أفضل عندهم من حج بيت الله الحرام، كما في (الكافي) أتى رجل أبا عبد الله فقال له: إني رجل قد حججت تسعة عشر حجة، فادع الله لي أن يرزقني تمام العشرين، فقال له: هل زرت قبر الحسين رضي الله عنه؟ قال: لا، فقال له: لزيارته خير من عشرين حجة. وجاء هذا أيضاً في الوافي المجلد الثاني (ص: 219). وقد يقول قائل: يا أخي! أنت تزعم أو تذكر بأنهم يتوسلون بقبور أئمتهم، وهذا أيضاً موجود عند أهل السنة؟ فأقول: نعم، لا أنكر، ولكن الفارق الكبير بين ما عليه الشيعة أو الرافضة وما عليه أهل السنة: أن الشيعة يفعلون ذلك بقبور أئمتهم كمعتقد، لكن ما يفعله بعض أهل السنة عند قبور الصالحين إنما يفعل من خلال الجهل، وليس من خلال المعتقد، ولو تبين للناس الحق لأذعنوا للحق، ولذلك أنا أوصي شبابنا أنه لا ينبغي أن يتعجل بالحكم بالتكفير على من يذهب إلى قبور الصالحين والأولياء في بلادنا، ولا ينبغي أن نتعجل بإصدار حكم التكفير على أمثال هؤلاء؛ لأن جل هؤلاء لا يعلم الحق، ولم يتعلم، ولم تقم عليه الحجة. وقد يقول قائل: إن الحجة قد قامت عليهم. فأقول: هناك فرق بين نوعين من أنواع الحجة: بين الحجة الرسالية العامة، التي أقيمت ببعثة النبي على الناس جميعاً، وبين الحجة الرسالية الخاصة، لا سيما وأن كثيراً من هؤلاء يرى أناساً ممن يشار إليهم بالبنان على أنهم من العلماء -والذين تنقل محاضراتهم ودروسهم من أمثال هذه المساجد، بل حتى من علماء الحديث- يذهبون إلى مثل هذه الأماكن، فيغتر الناس بهذا العمل، فإن جاء واحد مثلك أو مثلي ليذكر الناس ربما التبس عليهم الأمر، فلا ينبغي أن نحكم عليهم بكفر إلا بعد أن نقيم الحجة عليهم، وشتان شتان -يا أيها الشباب- بين إقامة الحجة وفهم الحجة، فإن أقمت الحجة فواجب عليك أن تفهم من أقمت الحجة عليه حجتك، وإلا فما أقمت الحجة عليه، وأرجو ألا يفهم مخلوق من كلامي هذا أنني أقول: إنك لا تنكر على من رأيته يطوف بقبر من القبور، لا، فالفعل فعل شرك، ولكن لا ينبغي أن يتسرع في إطلاق الأحكام التكفيرية، وأنا وضحت قبل ذلك أنه ليس كل من فعل الشرك يحكم عليه بالشرك المطلق، وليس كل من قال الشرك يحكم عليه بالشرك المطلق، فقد يقول الرجل قولة الكفر وليس بكافر، وقد يفعل الرجل فعل الكفر ولا يحكم عليه بالكفر المطلق المخرج من الملة، وهذا أصل كبير من أصول أهل السنة، ينبغي أن لا نتجاهله أو نغفل عنه، حتى لا نقع في هذا المحظور؛ فلأن أخطئ في عدم تكفير مسلم أحب إلي من أن أخطئ في تكفيره، فلن يسألني الله يوم القيامة: لمَ لم تكفر فلاناً؟ وإنما سيسألني: لمَ كفرت فلاناً؟ فالله الله في التعجل في إصدار الأحكام على خلق الله. ومن أعجب وأروع ما قرأت في حياتي ما قاله الشيخ محمد بن عبد الوهاب -الذي يتهم بأنه من أكبر من كفر في عصرنا الحديث، وهو والله بريء- في كتاب: (الدرر السنية) -وهو كتاب ماتع طيب قيم- قال بالحرف: وإن كنت لا أكفر من يطوف حول الصنم الذي على قبر البدوي، فكيف أكفر من هو دونه؟! هذا كلام في غاية النفاسة، فلا ينبغي أن نتعجل بإصدار الأحكام بالتكفير والتفسيق والتبديع على الناس إلا بعد أن نقيم الحجة عليهم، وبعد أن يفهم الناس الحجة التي أقيمت عليهم، فشتان شتان بين إقامة الحجة وبين فهم الحجة، وليتنا تحركنا إلى الناس لنعلمهم التوحيد الخالص، بدلاً من أن نجلس في مساجدنا وبيوتنا لنكتفي بإصدار الأحكام عليهم فقط، وما أروع قول الشافعي رحمه الله إذ يقول: والله! ما ناظرت أحداً إلا ودعوت الله أن يكون الحق معه. فتحرك إليه وأنت تتمنى من الله أن يفتح الله صدره للهداية وللسنة، ونسأل الله أن يرد أهلنا وآباءنا ونساءنا وأمهاتنا إلى الحق رداً جميلاً؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه. وأنا أقول هذا الكلام من باب تجربة عملية خضتها أنا بنفسي، فإنني أعلم أسماء مجموعة من آبائنا الكرام ممن كانوا يأخذون في كل عام أكثر من رأس جاموس، ويذهبون به إلى قبر الشبراوي في القاهرة، وأحدهم -أعرفه جيداً- فقير لا يجد لقمة الخبز، لكنه يأخذ النذر في كل عام لولي من الأولياء على حد زعمه، وهو الآن -ولله الحمد والمنة- من أهل السنة، ويصلي خلف إمام من أهل السنة، وهذا فضل الله جل وعلا، ولما أقمت عليه الحجة وبينت له، كاد والله أن يصعق؛ لأن الرجل ما سمع مثل هذا، واحتج علي ببعض الرموز الدعوية العلمية المشهورة المعروفة، فلما تبين له الحق أذعن للحق، فشتان شتان بين أن يذهب رجل يتوسل بصاحب القبر وهو يعتقد فيه اعتقاداً جازماً، وبين رجل يقول: أنا ما أذهب إلى هذا القبر إلا لأتقرب إلى الله جل وعلا، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأنا ما أفعل هذا إلا من باب القربى، فلما تبين له أن هذا الفعل من أفعال الشرك ومن أفعال الكفر، وأنه لا ينبغي أن تسأل إلا الله، وألا تستغيث إلا بالله، وألا تلجأ إلا إلى الله، وألا تنذر إلا لله، وألا تذبح إلا لله، وألا تسأل إلا الله إلخ. وأعطي له الدليل بأدب ورحمة وحكمة وتواضع شرح الله صدره للحق، أسأل الله أن يثبتنا على الحق. والقصد: أن الرافضة فهم يعتقدون أن زيارة قبر إمام من أئمتهم أفضل من حج بيت الله الحرام، وأنا أسأل: هل يوجد من جهال المسلمين من يعتقد ذلك؟ A لا، والله! ولا أقول ذلك على سبيل المجاملة للمسلمين ولإخواننا، فإني والله! لا أرى جاهلاً من جهال المسلمين يعتقد أن زيارته لقبر السيد البدوي -مثلاً- أفضل من أن يحج بيت الله الحرام، ومن أن يزور مسجد النبي عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، لا، ثم لا، ثم لا.

عقيدة الشيعة والروافض في عصمة الأئمة

عقيدة الشيعة والروافض في عصمة الأئمة أيضاً أيها الأحبة الكرام! هم يعتقدون عصمة الأئمة، فالعصمة -عندهم- ليست للنبي صلى الله عليه وسلم فحسب، بل هي كذلك للإمام، وهذه قاعدة أساسية من قواعد معتقد الروافض أو الشيعة، يقول شيخهم المجلسي في عصمة الأئمة عليهم السلام من الذنوب صغيرها وكبيرها: فلا يقع منهم ذنب أصلاً لا عمداً ولا نسياناً ولا لخطأ في التأويل، ولا لسهو من الله، يعني: لا ينزل الله على أحدهم سهواً. وهذا الكلام موجود في كتاب (البحار) للمجلسي المجلد الخامس والعشرين (ص:211) وكذلك في أوائل المقالات، وفي غيرها من المراجع المعتمدة عند الروافض أو الشيعة. وإذا كان أهل السنة يرون أن الأمة معصومة بكتاب ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم، فإن الروافض أو الشيعة يرون أن الأمة معصومة من الضلال بالإمام؛ لأن الإمام كالنبي؛ ولأن الإمامة هي استمرار للنبوة كما ذكرت. ومن أخطر الآثار العملية لدعوى العصمة: أنهم يعتبرون ما يصدر عن أئمتهم الإثني عشر كقول الله ورسوله، كما بينت ذلك قبل.

عقيدة الشيعة والروافض في التقية

عقيدة الشيعة والروافض في التقية ثالثاً: بعد ما بينت معتقدهم في الإمامة، وبعد ما بينت معتقدهم في عصمة الإمام بإيجاز، أبين معتقدهم في التقية: التقية: معتقد من معتقدات الروافض أو الشيعة، فما هي التقية من خلال تعريفهم هم، لا من خلال تعريف أهل السنة؟ التقية عند الروافض أو الشيعة هي: كتمان الحق، وستر الاعتقاد فيه، ومكاتمة المخالفين، وترك مظاهرتهم بما يترتب عليه الضرر في الدين أو الدنيا. وهذا الكلام موجود في كتاب (البحار) للمجلسي؛ وهو عالمهم الكبير، (ج25/ 351). يعني: إن قال كلمة تبين له أنه قد ينتج عنها ضرر له في دينه أو في دنياه فمن معتقدهم أن يخفي ما يعتقده، وأن يظهر شيئاً آخر، وهذا ما يسمى عندهم بالتقية. قال أحد علمائهم المعاصرين وهو محمد جواد مغنية في كتابه: (الشيعة في الميزان) (ص:48) يعرف التقية بقوله: التقية أن تقول أو تفعل غير ما تعتقد؛ لتدفع الضرر عن نفسك أو مالك أو لتحتفظ بكرامتك. والتقية في الإسلام معلوم أنها رخصة، وليست عقيدة، كما قال عز وجل: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106]، فللعبد أن يتقي وأن يظهر بلسانه ما ليس في قلبه؛ لأن هذه رخصة، فإن تعرض للإيذاء أو للضرر البالغ أو للهلاك فلا حرج عليه حينئذ -ما دام قلبه مطمئناً بالإيمان- أن يظهر خلاف ما يعتقد، كما فعل عمار بن ياسر رضوان الله عليه وعلى أبيه. فالتقية أساس وعقيدة من عقائد الروافض والشيعة، ومن ركائز معتقدهم، بل ربما غالى الروافض في أمر التقية، حتى قالوا: إن تسعة أعشار الدين في التقية، بل وقالوا: لا دين لمن لا تقية له. وهذا موجود في كتاب (الكافي) المجلد الثاني (ص:272). ومن العجيب أنهم يجعلون تارك التقية ومن لم يأخذ بها خارجاً من الدين بالكلية، كما روى الكليني عن أبي جعفر، والعجيب أن أبا جعفر مولود سنة 57 هـ، يعني: مولود في عصر عز الإسلام الذي لا يحتاج فيه المسلمون إلى تقية، فهم ينسبون إليه ذلك وهو بريء، كما ذكرت قبل ذلك مراراً، يقول: التقية من ديني ودين آبائي، ولا إيمان لمن لا تقية له!

عقيدة الشيعة والرافضة في الرجعة

عقيدة الشيعة والرافضة في الرجعة رابعاً بإيجاز شديد: الرجعة، وهذا معتقد من معتقد الروافض أو الشيعة، والرجعة هي: رجعة كثير من الأموات إلى الدنيا قبل يوم القيامة، سواء كان هؤلاء الذين يرجعون إلى الدنيا من الصالحين أو حتى من الفاسدين، هذا معتقد عند الروافض، فإنهم يعتقدون بأن أناساً سيرجعون إلى الحياة الدنيا بعد موتهم قبل يوم القيامة، والراجعون إلى الدنيا -كما يعتقدون- فريقان: أحدهما: من علت درجته في الإيمان. والآخر: من بلغ الغاية في الفساد. وهذا موجود في كتاب المفيد (أوائل المقالات) (ص:95)، فقد ذكر أنهم يعتقدون أن الذين يرجعون إلى الدنيا ينقسمون إلى فريقين: الأول: هو من علت درجته في الإيمان، والثاني: من بلغ الغاية في الفساد. وزمن الرجوع عندهم هو عند قيام مهدي آل محمد عليهم السلام. وعقيدة الرجعة من أصول المذهب الشيعي، فمن رواياتهم العجيبة جداً أنهم يقولون: ليس منا من لم يؤمن بكرتنا. يعني: برجعتنا. وهذا موجود في كتاب (من لا يحضره الفقيه) لـ ابن بابويه القمي المجلد الثاني (ص:128)، وموجود في كتاب (الوسائل) للحر العاملي المجلد السابع (ص:438)، وموجود في تفسير (الصافي) المجلد الأول (ص:347). ويقولون مرة أخرى: ليس منا من لم يؤمن بكرتنا. فالروافض والشيعة مجمعون على اعتقاد الرجعة. ويقول المفيد عالمهم المشهور: اتفقت الإمامية على وجوب رجعة كثير من الأموات. ويقول الحر العاملي: إنها موضع إجماع جميع الشيعة الإمامية، ويقول: إنها من ضروريات مذهب الإمامية، ويقول: إننا مأمورون بالإقرار بالرجعة واعتقادها، وتجديد الاعتراف بها في الأدعية والزيارات، وفي يوم الجمعة، وفي كل وقت، كما أننا مأمورون بالإقرار في كثير من الأوقات. وهذا أمر عجيب! حيث يعتقدون أنهم لابد أن يكرروا ويؤكدوا مسألة الرجعة -كما قال: وفي كل وقت! - يقول: كما أننا مأمورون بالإقرار في كثير من الأوقات أن نؤكد قضية التوحيد والنبوة والإمامة والقيامة. وهذا الكلام موجود في كتاب (الوسائل) للحر العاملي (ص:64)، وكذلك موجود في كتاب (أوائل المقالات) للمفيد وهو من أكابر علماء الشيعة كما ذكرت. إذاً: الرجعة معناها أنهم يعتقدون برجوع بعض الأموات، سواء من المؤمنين ممن بلغوا درجة عالية في الإيمان، أو ممن وصلوا إلى الحضيض في الفساد والفسق.

عقيدة الشيعة والروافض في البداء

عقيدة الشيعة والروافض في البداء خامساً: البداء، وهذا معتقد خبيث من معتقد الروافض، والبداء -كما ورد في قواميس اللغة-: بدا بَدْواً وبُدُوّاً وبَدَاءة يعني: ظهر، يقال: بدا لي، أي: ظهر لي، وبدا له في الأمر بدواً وبداءً وبداة: نشأ له فيه رأي، وأقول: بدا لي القمر، أي: ظهر لي القمر، أو أقول: بدا لي أن أغير فكرتي في قضية كذا وكذا. إذاً: بدا بمعنى: ظهر، وبمعنى: نشأ له فيه رأي جديد. فالبداء في اللغة -كما جاء في القاموس- له معنيان: المعنى الأول: الظهور والانكشاف، والمعنى الثاني: نشأة رأي جديد، فإذا قلت: بدا لي أن أغير موعد درس الأربعاء، أي: نشأت لي فكرة جديدة في أن أغير درس الأربعاء. وهذان المعنيان للبداء وردا في القرآن الكريم، قال الله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة:284]، فقوله: (وإن تبدوا) البداء هنا بمعنى: الإظهار، وفي قول الله تعالى: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوْا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} [يوسف:35]،والبداء هنا بمعنى: نشأ لهم رأي جديد، فالمعنيان واردان في كتاب الله جل وعلا. والبداء بهذين المعنيين لا يجوز ألبتة أن ينسب إلى الله، يعني: لا ينبغي أبداً أن تقول بأن الله عز وجل قد بدا له أمر، بمعنى: ظهر بعد ما كان غائباً عنه سبحانه، أو بدا لله أمر في أن يغير أمراً أو أن يبدله سبحانه وتعالى. فالبداء بهذين المعنيين -الثابتين في اللغة وفي كتاب الله- لا يجوز ألبتة أن ينسب إلى رب العزة تبارك وتعالى، ومع ذلك أقول لكم: البداء في الأصل عقيدة اليهود، وانتقلت عقيدة البداء من اليهود إلى الروافض والشيعة، بدليل هذا النص من نصوص التوراة المحرفة المزورة المبدلة، يقول هذا النص: (ورأى الرب أن شر الناس قد كثر على الأرض، وأن كل تصور أفكار قلوبهم إنما هو شر في جميع الأيام، فندم الرب -تعالى الله عما يقول اليهود والروافض علواً كبيراً- أنه عمل الإنسان على الأرض- يعني: أنه خلق الإنسان على الأرض -وتأسف في قلبه- تعالى الله عن ذلك- فقال الرب: أمحو الإنسان الذي خلقته عن وجه الأرض، مع البهائم، والدبابات -وهذه لفظة عجيبة- وطير السماء؛ لأني ندمت على خلقي لهم!) تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً. فهذا فقرة من الكتاب المقدس الفصل السادس، صفحة رقم (12) من تكوين التوراة، تبين عقيدة اليهود في البداء. فالبداء في الأصل عقيدة يهودية، ثم انتقلت هذه العقيدة إلى الروافض والشيعة، ويقولون: إن أئمة الرافضة وضعوا لشيعتهم مقالتين، لا يظهر معهما على كذب أبداً من أئمتهم، وهما: القول بالبداء، وإجازة التقية، يعني: هذان الأصلان من معتقد الروافض والشيعة، ألا وهما: البداء، والتقية، ووضعا حتى لا يظهر لإمام من أئمتهم كذب أبداً في فترة من فترات الزمن! فالإمام من الأئمة معصوم عندهم، وقد يتكلم الإمام بكلمة ثم لا تقع -مع علمه بما كان وما سيكون- فيتبين حينئذٍ كذبه، فكيف يخرج من هذا المأزق؟ يخرج بعقيدة البداء، فيقال: بدا للإمام أن يغير ما كان قاله! وقد تقف على بعض النصوص المنسوبة لـ علي رضوان الله عليه، في ثنائه على أبي بكر، كما هو موجود في كتاب (نهج البلاغة) الذي يعتبرونه من الكتب المقدسة؛ فإذا واجهتهم بهذا، تجدهم يقولون: قال علي ذلك من باب التقية!! ألم يدع هؤلاء أن قرآناً نزل على علي أو على فاطمة وهو ما يعرف عندهم بمصحف فاطمة! وإذا قيل لهم: لم يظهره علي؟ يقولون: تقية؛ لأنه لو أظهر علي هذا القرآن لأحرج من سبقه، ولبين كذبهم، فهو جاملهم من باب التقية؛ وأخفى هذا القرآن الذي أنزله الله على فاطمة بعد محمد صلى الله عليه وسلم!! وهذا ضلال مبين، اللهم ثبتنا على الحق يا رب العالمين! ويشرح سليمان بن جرير -وهو من علمائهم- عقيدة البداء في أنها الستار على ادعاءاتهم الكاذبة في الغيب، فيقول: فأما البداء فإن أئمتهم لما أحلوا أنفسهم من شيعتهم محل الأنبياء من رعيتها في العلم في ما كان ويكون، والإخبار بما يكون في غدٍ، وقالوا لشيعتهم: إنه سيكون في غدٍ -أي: كذا وكذا- فإن جاء ذلك الشيء على ما قالوه قالوا لهم: ألم نعلمكم أن هذا يكون؟ فنحن نعلم من قبل الله عز وجل ما علمه الأنبياء، وبيننا وبين الله عز وجل مثل تلك الأسباب التي علمت بها الأنبياء عن الله ما علمت، وإن لم يكن ذلك الشيء الذي قالوا: إنه يكون على ما قالوه، قالوا لشيعتهم: بدا لله في ذلك ألا يكونه!! وهذا موجود في كتاب (الكافي). والعجيب! أن فصل البداء أورده صاحب (الكافي) في كتاب التوحيد، مما يدل على أنه أصل معتقد عندهم، أورده صاحب كتاب الكافي في كتاب التوحيد في باب اسمه باب: البداء، المجلد الأول صفحة (146)، فالبداء عندهم عقيدة يضعونها في كتاب التوحيد، فصاحب الكافي ذكر هذا ضمن كتاب التوحيد، وفي هذا الباب ذكر ستة عشر حديثاً في البداء، المجلد الأول صفحة (146 - 149). والله! والله! ما وقفت -وأنا أطلع على مصادرهم وكتبهم- على كلمة تنافي ما أقول إلا وأذكرها لكم، وقد ذكرت قبل ذلك أمثلة في المحاضرات الماضية، فما وقفت على كلمة لعالمهم تكذب أو تنكر ما ينسب إليهم إلا وأنقلها من باب الإنصاف، وأسأل الله أن يرزقنا العدل، قال تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8]، أسأل الله أن يجعلنا من المتقين. قال كثير من علماء الشيعة: إنهم لم يريدوا بالبداء ما لا يجوز نسبته إلى الله سبحانه، يقول محمد حسين الكاشف الغطاء: البداء وإن كان في جوهر معناه هو ظهور الشيء بعد خفائه، ولكن ليس المراد به هنا ظهور الشيء لله جل شأنه، وأي ذي عقل يقول بهذه المضلة، بل المراد ظهور الشيء من الله لمن يشاء من خلقه بعد إخفائه عنهم، وقولنا: بدا لله، أي: حكم الله أو شأن الله. هذا في كتاب اسمه: (الدين والإسلام) صفحة (173) وهو منسوب إلى عالم من علمائهم ألا وهو محمد حسين الكاشف الغطاء، وهذا التفسير مقبول جداً؛ أن يقول بأن البداء ليس معناه أنه قد ظهر شيء لله عز وجل كان خافياً عليه، وإنما البداء معناه: أن الله عز وجل يظهر شيء كان خفياً عن بعض خلقه، وهذا تفسير لا حرج فيه. ولكن من حقنا أن نسأل أيضاً: لماذا صار البداء -إن كان كذلك- من أصول معتقد الشيعة؟ وهذا سؤال له وجاهته، فإذا كان البداء بهذه الصورة العادية، وهو أن الله قد أظهر شيئاً لخلقه كان خافياً عنهم، فلمَ جعلوه أصلاً من أصول معتقد الشيعة؟ ولمَ جعلوه في كتاب التوحيد؟ ولعل هذا التفسير للبداء الذي قاله كاشف الغطاء يندرج تحت معتقد آخر من معتقداتهم الرئيسية ألا وهو معتقد التقية، وقد نقلت قبل نصاً من نصوص عالم من علمائهم يبين أن مثل هذا الكلام إنما يقال من باب التقية.

اعتقاد الشيعة والرافضة في الغيبة

اعتقاد الشيعة والرافضة في الغيبة الغيبة معتقد سادس من معتقدات الروافض، والغيبة من العقائد الأساسية عندهم. وهي بمعنى: أن الأرض لا تخلو أبداً من إمام، يعني: أنهم يعتقدون أن الأرض لا تخلو أبداً من إمام، فلما مات الحسن العسكري دون أن يكون له ولد، وقع الروافض في حيصَ بيصَ، وقالوا: فمن الذي يخلف الإمام، وأين الإمام؟ وافترق الروافض بعد موت الحسن العسكري قيل: إلى أربعين فرقة، ومنهم من قال: إلى ستة عشر فرقة، واختلفت أقوالهم في قضية الإمام، وأين الإمام؟ لأن الحسن العسكري مات وليس له ولد، فاختلفوا في ذلك اختلافاً عجيباً رهيباً جداً! فاخترعوا قضية الغيبة، أي: غيبة الإمام، وذلك أنه خرج عليهم رجل ألمعي، وقال: إن الحسن العسكري له ولد بسن خمس سنين، وهو الإمام الغائب، ولكنه لا يظهر لأي أحد من الناس إلا لي!! فخرج المعتقد الجديد من معتقد الشيعة والروافض الذي يسمى: الغيبة. والحسن العسكري هو الإمام الحادي عشر من أئمتهم، وهو متوفى سنة (260هـ)، وقد اعترفت كتب الشيعة بأنه ليس له أولاد، وليس له عقب، فخرجوا بقضية الغيبة غيبة الإمام، وكانت هي القاعدة التي قام عليها كيان الشيعة بعد أن كان قد تصدع، وكاد بنيان الشيعة أن ينهار بعد موت الحسن العسكري، فخرج هذا المعتقد الذي عليه قام بنيان وأساس الشيعة مرة أخرى، ألا وهو معتقد غيبة الإمام. وبذلك أيها الأحبة الكرام! أكون قد بينت مجمل معتقد الشيعة الذي خالفوا به معتقد أهل السنة والجماعة، فمن وقف على هذا المعتقد -الذي فصلت والذي بينت والذي وضحت- فعليه أن يراجع نفسه، ولا يظنن ظان أن الخلاف بين الروافض والشيعة وبين أهل السنة إنما هو خلاف مذهبي، فإنني قد وقفت على بعض الفتاوى الخطيرة لبعض الشيوخ الكبار الذين يقولون بجواز التعبد لله تبارك وتعالى بما عليه الروافض والشيعة، وهذا الكلام ونصوص الفتاوى موجودة عندي، وأنا لا أحب أبداً أن أذكر مثل هذه القضايا والمسائل إلا بالأدلة؛ حتى لا نتهم أننا ممن يحب فقط أن يفرقع بالونات هوائية في السماء، لا والله! بل إننا ندور مع الحق حيث دار، ونقف مع الدليل حيث كان، وورب الكعبة! لا نريد إلا أن نصل إلى الحق، ولا نريد إلا أن نبين الحق، وإن الذي دفعني للوقوف في أربع محاضرات على التوالي للحديث عن الشيعة: هو أنني سمعت عن نبتة سوء بدأت تنبت هنا في المنصورة، وتعتقد هذه النبتة معتقد الشيعة، فأحببت أن أبين لهم بجلاء ما هي عقيدة الرافضة أو الشيعة، وتمنيت أن لو عرف أي واحد منكم إنساناً فيه نزعة لمثل هذا المعتقد الفاسد الضال أن يقدم له الأشرطة الأربعة هدية منه، لعل الله عز وجل أن يرد قلبه إلى الحق، وإلى سنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فوالله! والله! والله! لا نريد إلا الإصلاح ما استطعنا، ونسأل الله عز وجل أن يرد الضال إلى الحق والهدى، وأن يأخذ بقلوب وأيدي الروافض إلى سنة النبي، وإلى القرآن وإلى الحق الذي عليه أهل السنة؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.

حكم الدعاء للكفار والمشركين والضلال

حكم الدعاء للكفار والمشركين والضلال فمن هدي المصطفى أنه يجوز لنا أن ندعو الله أن يهدي الكفار والمشركين في أي مكان على وجه الأرض، فإنه لما جاءه الطفيل بن عمرو الدوسي وقال له: يا رسول الله! ادع الله على قبيلة دوس، ادع الله فلقد هلكت دوس رفضوا الإيمان بالله ورسوله، قال النبي للطفيل: ارفع يدك، فرفع الطفيل يده، ورفع النبي يديه -ووالله لو دعا النبي على دوس دعوة لهلكت دوس، ولكنه الرحمة المهداة، رفع يديه إلى السماء- وقال: (اللهم اهد دوساً وائت بهم). فاستجاب الله دعوة نبيه، وشرح الله صدر قبيلة دوس، وجاءت القبيلة كلها عن بكرة أبيها خلف الطفيل بن عمرو الدوسي؛ ليقفوا أمام الحبيب النبي، وليشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأقول: ستأتي قبيلة دوس يوم القيامة كلها في ميزان الطفيل بن عمرو، بما فيهم راوية الإسلام العظيم أبو هريرة الدوسي، كما ستأتي الأمة كلها يوم القيامة في ميزان الحبيب النبي. فندعوا الله عز وجل لكل شاب منحرف عن منهج الله أن يأتي الله بقلبه إلى الحق، وأن يرده إلى الحق رداً جميلاً؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه. وأقول قولي هذا، وأستغفروا الله لي ولكم، وبذلك أكون قد أنهيت الحديث عن فتنة الروافض والشيعة؛ لأواصل الحديث -إن شاء الله تعالى، وإن قدر الله لنا البقاء واللقاء- عن فتنة أخرى من الفتن التي وقعت، ألا وهي فتنة خلق القرآن. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.

الشيعة والقرآن [1]

الشيعة والقرآن [1] الحديث عن الشيعة حديث ذو شجون وأحزان، فكم من نكبة لهذه الأمة وللشيعة دور كبير فيها، ابتداءً من فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه، ومروراً بموقعة الجمل فصفين فمقتل الحسين بن علي رضي الله عنهما، ومقتل غيره من أئمة أهل البيت: كزيد بن علي، والنفس الزكية، وأخيه إبراهيم، وغيرها من الفتن الداخلية. أما بالنسبة للفتن الخارجية فابتداء باجتياح التتار لبغداد، ومروراً بدخول الأمريكان أفغانستان ثم العراق.

معنى التشيع في اللغة والاصطلاح

معنى التشيع في اللغة والاصطلاح بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جازيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته. وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الأحبة الكرام! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم الذي جمعنا مع حضراتكم في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى صلى الله عليه وسلم في جنته ودار كرامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. ونحن الليلة بإذن الله جل وعلا على موعد مع الدرس السادس عشر من دروس: سلسلة الإيمان باليوم الآخر كركن خامس من أركان الإيمان بالله جل وعلا، ضمن دروس العقيدة لمعهد إعداد الدعاة، ولا زال حديثنا ممتداً عن الفتن التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن ظهورها قبل قيام الساعة، وأنهيت الحديث بفضل الله جل وعلا وتوفيقه في المحاضرة الماضية عن الفتنة الكبرى التي وقعت بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، وذكرت بأنه قد خرج من فريق علي رضي الله عنه فريق آخر وفتنة أخرى، وهي فتنة خطيرة لا تقل خطراً عن فتنة الخوارج، بل إنها الآن أشد خطراً من فتنة الخوارج، ألا وهي فتنة ظهور الشيعة، وأرجو أن تركزوا معي جيداً في هذه المحاضرات التي أسأل الله جل وعلا أن ينفع بها، والتي أستهلها من الليلة بإذن الله تعالى في الحديث عن الفرقة الأخرى التي خرجت بعد فتنة الخوارج أو بعد قضية التحكيم. وسأقف مع حضراتكم مع هذه الفرقة الضالة منذ نشأة بدايتها. الشيعة في اللغة: بمعنى: الأتباع والأنصار، جاء في القاموس: شيعة الرجل بكسر الشين أي: أتباعه وأنصاره، وكل قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة، وكل من عاون إنساناً وتحزب له فهو له شيعة، أي: فهو له عون ونصير، هذا هو المعنى اللغوي للفظة (شيعة). قال الأزهري: معنى الشيعة الذين يتبع بعضهم بعضاً، وليس كلهم متفقين، وهذا معنى إضافي جديد، ليس بالضرورة أن يكون كل هؤلاء متفقين، فالتشيع بمعناه اللغوي: المناصرة والمعاونة والمتابعة، أو الاجتماع على أمر، أو التحزب لشخص ما. لكن من هم الشيعة في الاصطلاح؟ سأنقل ذلك عن شيخ الشيعة وعالمها في زمنه، وأرجو أن تركزوا معي فمثل هذه المسميات والأسماء سأحتاج إليها بعد ذلك بإذن الله تعالى، - المفيد عالم من علماء الشيعة الأكابر عندهم، وهو أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان العكبري البغدادي الملقب بـ المفيد من كبار مشايخ الشيعة، يقول المفيد: لفظ الشيعة يطلق على أتباع أمير المؤمنين علي على سبيل الولاء والاعتقاد لإمامته بعد الرسول صلى الله عليه وسلم. أي: وليس بعد أبي بكر وعمر وعثمان، ركزوا في كل لفظة. يقول: بعد الرسول صلى الله عليه وسلم بلا فصل، ونفي الإمامة عمن تقدمه في مقام الخلافة. أي: عن أبي بكر وعمر وعثمان. ويوضح المفيد أيضاً هذا التعريف بشيء من التفصيل في كتابه الموسوم بالإرشاد (ص:12)، ولن أنقل كلاماً عن الشيعة إلا من كتبهم المعتمدة؛ حتى لا نتهم بأننا نشوش على هؤلاء، أو ننسب إليهم كلاماً من عند أنفسنا، أو من عند علماء أهل السنة والجماعة، لا، بل سأنقل لكم معتقد القوم الفاسد الباطل من كتبهم المشهورة المعتمدة، وسوف أذكر إن شاء الله تعالى كل كتاب مع رقم الصفحة للضرورة، وليس من باب الاستعراض، لا والله، وإنما من باب دمغ القوم بالحجة؛ حتى لا نتهم بأننا نلقي التهم جزافاً، ونستشهد بمثل هذه الأقوال من كلام علمائنا من أئمة أهل السنة والجماعة. يقول المفيد في كتابه الموسوم بالإرشاد (ص:12): (وكانت إمامة أمير المؤمنين علي بعد النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثين سنة. يعني: إمامة علي بعد موت النبي مباشرة، يقول: منها أربع وعشرون سنة وستة أشهر كان ممنوعاً من التصرف في أحكامها، مستعملاً للتقيّة والمداراة -وهذا أصل من أصول الشيعة سأشرحه بالتفصيل إن شاء الله تعالى- ومنها: خمس سنين وستة أشهر ممتحناً بجهاد المنافقين من الناكثين والقاسطين والمارقين). واضح من النص أن الشيعة يثبتون إمامة علي بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة، فيقصد بالأربع وعشرين سنة وستة أشهر التي ظل فيها علي رضوان الله عليه ممتنعاً من التصرف في أحكام الإمامة: المدة التي تولى الإمامة والخلافة فيها أبو بكر ثم عمر ثم عثمان، ثم ذكر فترة خلافة علي وقال: (ومنها: خمس سنين وستة أشهر كان علي رضوان الله عليه في هذه المدة ممتحناً بجهاد المنافقين من الناكثين والقاسطين والمارقين). والمراد بالناكثين: هم الذين بايعوا علياً ونكثوا بيعته في البصرة. ويقصد بالقاسطين: فريق معاوية رضوان الله عليه؛ لأن الفريق القاسط أي: الباغي أو الظالم. ويقصد بالمارقين: هم الخوارج الذين خرجوا على علي في النهروان. ثم قال: (ومضطهداً بفتن الضالين كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة سنة من نبوته ممنوعاً من أحكامها -أي: من أحكام النبوة- خائفاً ومحبوساً وهارباً ومطروداً، لا يتمكن من جهاد الكافرين، ولا يستطيع دفعاً عن المؤمنين. ثم هاجر -أي: النبي صلى الله عليه وسلم- وأقام بعد الهجرة عشر سنين مجاهداً للمشركين ممتحناً بالمنافقين، إلى أن قبضه الله عز وجل، وأسكنه جنات النعيم. هذا كلام شيخ كبير من مشايخ الشيعة ألا وهو المفيد كما ذكرت آنفاً. ويقدم الإمام الشهرستاني رحمه الله تعالى في كتابه الماتع: الملل والنحل تعريفاً يعد من أشمل التعريفات للشيعة، فيقول: (الشيعة: هم الذين شايعوا علياً رضي الله عنه على وجه الخصوص، وقالوا بإمامته وخلافته نصاً ووصية). نصاً أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على خلافته وإمامته من بعده، ووصية أي: أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بذلك قبل موته، تدبروا في كل لفظة. يقول الإمام الشهرستاني: (الشيعة: هم الذين شايعوا علياً رضي الله عنه على وجه الخصوص، وقالوا بإمامته وخلافته نصاً ووصية، إما جلياً وإما خفية، فمنهم من يظهر هذا، ومنهم من يخفي هذا، اعتقاداً منهم لأصل من أصولهم ألا وهو التقية -بفتح التاء وتشديد القاف، ولا حرج أن تضم على وجه من أوجه اللغة- واعتقدوا أن الإمامة لا تخرج من أولاد علي، وإن خرجت فبظلم يكون من غيره، أو بتقية من عنده، وقالوا: ليست الإمامة قضية مصلحية تناط باختيار العامة -أي: لا ينبغي أن تترك هذه القضية الكبيرة لعوام المسلمين ليختاروا فيها من يشاءون أو من يرغبون -وينتصب الإمام بنصبهم -أي: بنصب العامة له- بل هي قضية أصولية، وهي ركن الدين الذي لا يجوز للرسل عليهم الصلاة والسلام إغفاله وإهماله ولا تفويضه إلى العامة وإرساله، ويجمعهم القول بوجوب التعيين والتنصيص، وثبوت عصمة الأنبياء والأئمة وجوباً عن الكبائر والصغائر، والقول بالتولي والتبري قولاً وفعلاً وعقداً إلا في حال التقية، ويخالفهم بعض الزيدية في ذلك). هذا تعريف الإمام الشهرستاني للشيعة اصطلاحاً. وسنرى أيضاً أن الشيعة الإثني عشرية يقولون بعقائد أخرى: كالغيبة، والرجعة، والبداء، وكل هذه الألفاظ سأفصلها بإذن الله تعالى، لكننا نرى إماماً من أئمة أهل السنة كـ أبي الحسن الأشعري رحمه الله تعالى يعرف الشيعة تعريفاً مقتضباً فيقول: (الشيعة إنما قيل لهم: الشيعة؛ لأنهم شايعوا علياً رضي الله عنه، ويقدمونه على سائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم). أي: ناصروا علياً رضي الله عنه وقدموه على سائر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، هذه الفرقة التي يتكلم عنها الإمام الأشعري لها مسمى آخر، تسمى هذه الفرقة من فرق الشيعة باسم: المفضلة، وهم الذين فضلوا علياً على سائر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا التعريف يصح وينطبق تماماً على أول فرق التشيع ممن ناصروا علياً رضي الله عنه، لكن سنرى الآن بإذن الله تعالى أن هذا التعريف قد تطور بأطوار ومراحل مختلفة سنقف عليها الليلة إن شاء الله تعالى. وهذا تعريف آخر للمفضلة: هم الذين يفضلون علياً رضي الله عنه على أبي بكر وعمر، وسائر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رضوان الله عليهم جميعاً. والشيعة الإثنا عشرية لا يعتبرون مجرد تقديم علي رضوان الله عليه على سائر أصحاب النبي كافياً في التشيع، يعني: لو أن رجلاً قدم علياً على سائر الأصحاب فلا يكفي هذا عندهم في التشيع، وإنما لابد من الاعتقاد بأن خلافة علي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة بالنص والاعتقاد، وأن خلافته قد بدأت بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى استشهاده رضي الله عنه.

مراحل وأطوار نشأة الشيعة

مراحل وأطوار نشأة الشيعة التحقيق -يا إخوة- من خلال قراءاتي في كثير من مراجع الشيعة ومراجع السنة طيلة الأيام الماضية: أن التعريف الدقيق للشيعة مرتبط أساساً بأطوار نشأتهم، ولنقف على تعريف دقيق للشيعة فإنه لا بد وأن نقف مع أطوار نشأتهم، فإن الشيعة قد مروا بكثير من المراحل العقدية والمذهبية، ولهذا كانوا في الصدر الأول في عهد علي وعثمان قبله رضوان الله عليهما لا يسمى المرء شيعياً إلا إذا قدم علياً على عثمان، هذا طور من الأطوار المهمة جداً، لنتعرف بعد ذلك على حجم الانحراف الذي وقع فيه الشيعة، كان لا يسمى الرجل شيعياً أول الأمر إلا إذا قدم علياً على عثمان، بل كان يقال لمن يقدم عثمان رضي الله عنه على علي رضي الله عنه في ذلك الوقت: عثماني، ويقال لمن يقدم علياً على عثمان: شيعي، هذا طور مهم من أطوار التطور الشيعي، ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية طيب الله ثراه في منهاج السنة: (إن الشيعة الأولى الذين كانوا على عهد علي رضي الله عنه كانوا يفضلون أبا بكر وعمر على علي) وهذا التفصيل لابد منه- ولما سأل سائل شريك بن عبد الله بن أبي نمر القرشي أبو عبد الله المدني -وهو من الشيعة- لما سأله سائل فقال له: أيهما أفضل أبو بكر أم علي؟ فقال له: أبو بكر، فقال له السائل: تقول هذا وأنت شيعي؟ فقال له: نعم، ومن لم يقل هذا فليس شيعياً. هذا على التأصيل الأول الذي ذكرت أن الشيعي كان يعرف بمن يقدم علياً على عثمان فقط، فـ شريك يقول: نعم أقول بتفضيل أبي بكر على علي، ومن لم يقل هذا فليس شيعياً، ثم أقسم شريك - فقال: والله لقد رقى علي هذه الأعواد -يعني: أعواد منبر الكوفة- وقال: ألا إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر - هذا قول علي رضي الله عنه- وتوجد آثار كثيرة صحيحة عن علي رضوان الله عليه يثبت فيها تفضيل أبي بكر وعمر عليه، قال شريك بن عبد الله: فكيف نرد قوله؟! -أي: كيف نرد قول علي؟! - وكيف نكذبه؟! والله ما كان علي كذاباً. ويقول أبو إسحاق السبيعي رحمه الله -وهو شيخ الكوفة وعالمها، ولفظة: شيخ الكوفة لها مغزى ولها مدلول-: خرجت من الكوفة وليس أحد يشك في فضل أبي بكر وعمر وتقديمهما على علي، وقدمت الآن وهم يقولون ويقولون، ووالله لا أدري ما يقولون. يقصد أنهم بدءوا يفضلون علياً على أبي بكر وعمر رضي الله عنهم جميعاً. وقال ليث بن أبي سليم: أدركت الشيعة الأولى وما يفضلون على أبي بكر وعمر أحداً. ثم أخذ التشيع أبعاداً أخرى خطيرة، كرفض خلافة الشيخين أبي بكر وعمر، وشتم وسب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والطعن فيهم، وادعاء العصمة لآل بيت النبي، والإيمان بالرجعة، والوصية، والبداء، والغيبة، وغيرها من المعتقدات الباطلة التي لا يقرها الإسلام، ومن هنا أطلق على الشيعة أصحاب هذا المنهج اسم: الروافض أو الرافضة، انتبهوا لهذا حتى تعرفوا حقيقة الرافضة ومن أين أتت؟ وكيف؟ وهم ينقسمون إلى فرق كثيرة جداً، حتى قال المسعودي رحمه الله تعالى في كتابه (مروج الذهب): (إن طوائف الشيعة بلغت ثلاثاً وسبعين فرقة) بل ومن أهل العلم من قال كـ المقريزي مثلاً: (إن طوائف الشيعة بلغت ما يقرب من ثلاثمائة فرقة). إذاً: الشيعةفرق كثيرة جداً، وأنا لن أتعرض للحديث عن فرق الشيعة، أو عن فروع الفرق، وإنما سأتكلم إن شاء الله تعالى عن أصول الفرق، بل عن أشهر هذه الفرق الموجودة في الأرض اليوم، فمجمل هذه الفرق كما قال أهل العلم كـ الشهرستاني وغيره: الإسماعيلية، والزيدية، والجعفرية، والجعفرية هي: الإثنا عشرية أو الإمامية، كل هذه مصطلحات ومسميات لطائفة الشيعة الإثني عشرية، فأرجو أن تنتبهوا معي وتركزوا معي أيها الأحبة الفضلاء!

حقيقة الإسماعيلية وفرقها ومعتقداتها

حقيقة الإسماعيلية وفرقها ومعتقداتها بإيجاز شديد جداً سأتكلم عن الإسماعيلية والزيدية، ولن أطيل لأتحدث بعد ذلك إن شاء الله تعالى عن الفرقة المشهورة الكبيرة التي ملأت الأرض اليوم، ألا وهي فرقة الإثني عشرية. الإسماعيلية فرقة كبيرة من فرق الشيعة، وهي التي قالت بإمامة إسماعيل بن جعفر الصادق، وبإمامة محمد بن إسماعيل من بعده، سميت بالإسماعيلية؛ لأنها تقول بإمامة إسماعيل بن جعفر الصادق، ثم بإمامة محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق، فسميت بالإسماعيلية نسبة إليه. أوجز معتقدها بإيجاز شديد جداً الإمام الغزالي صاحب الإحياء، وقد ألف كتاباً رهيباً في فضح معتقد الشيعة الإسماعيلية، وسماه ((فضائح الباطنية))، وهو كتاب قوي جداً في هذا الباب، يقول: (مجمل معتقد الإسماعيلية أن ظاهره الرفض، وباطنه الكفر المحض، ومفتتحه حصر مدارك العلوم في قول الإمام المعصوم). ثم فصل القول في معتقدهم، ولا أريد أن أقف مع هذه الفرقة لأنني أريد أن أقف مع أخطر فرقة نراها على ظهر الأرض اليوم. وقال الإمام ابن الجوزي في كتابه الماتع (تلبيس إبليس): (فمحصول قولهم تعطيل الصانع، وإبطال النبوة والعبادات، وإنكار البعث، ولكنهم لا يظهرون هذا في أول أمرهم، بل يزعمون أن الله حق، وأن محمداً رسول الله، لكنهم يقولون: لذلك سر غير ظاهر، وقد تلاعب بهم إبليس فبالغ، وحسن لهم مذاهب مختلفة). وقال الإمام الرازي في كتابه: (اعتقادات فرق المسلمين والمشركين): (اعلم أن الفساد اللازم من هؤلاء -يعني: من الإسماعيلية الباطنية- على الدين الحنيفي أكثر من الفساد اللازم عليه من جميع الكفار، وهم عدة فرق، ومقصودهم على الإطلاق إبطال الشريعة، ونفي الصانع، ولا يؤمنون بشيء من الملل، ولا يعترفون بالقيامة، إلا أنهم لا يتظاهرون بهذه الأشياء). ومن الإسماعيلية انبثقت فرق كثيرة، فلا نغتر بالمسميات فإنه لا مشاحة في الاصطلاح، انبثقت من الإسماعيلية: القرامطة، والحشاشون، والفاطميون الذين خربوا معتقد أهل مصر، بحجة أنهم كانوا يرفعون راية حب أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، والعجيب أنه قد خرج علينا من أهل العلم في عصرنا ممن يشار إليهم بالبنان من يدافع عن الباطنيين وعن معتقداتهم الفاسدة الباطلة! فكل ما نجنيه الآن من ثمار البدع المرة، ما أدخلها إلى مصر بعد الفتح الإسلامي إلا الفاطميون، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فمن الإسماعيلية انبثقت القرامطة، والحشاشون، والحشاشون فرقة، وليس المراد بالحشاشين ما يتبادر إلى الذهن من أول الكلمة. انبثق القرامطة والحشاشون والفاطميون والدروز وغيرهم، وللإسماعيلية فرق متعددة، ووجوه مختلفة وألقاب كبيرة، يقول الشهرستاني: (وأشهر ألقابهم الباطنية، وإنما لزمهم هذا اللقب لحكمهم بأن لكل ظاهر باطناً). ومسألة التأويل الباطني جعلوها رسالة جديدة حملها الأئمة بعد قيام الرسول صلى الله عليه وسلم بتبليغ الظاهر، يقولون: هذه الرسالة هي رسالة لتوضيح باطن النصوص؛ النصوص لها ظاهر ولها باطن، وأرجو أن تركزوا معي في كل كلمة، فإن لكل كلمة معنى ومغزى، فالمراد بالباطن أنه لا يكون إلا للأئمة، أما الظاهر فهذه وظيفة الرسول، الرسول ما عليه إلا أن يأتي بالنص، أما الغوص على درر النص والوقوف على كوامنه من الفتوحات والإشراقات والإلهامات فلا يكون إلا للأئمة، وسلك هذا الدرب الصوفية، فلا يمكن ألبتة أن تظهر فرقة شيعية إلا وهي ملتحفة بعباءة الصوفية، كادعاء حب آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، فأرجو أن تنتبهوا. الباطنية جعلوا مسألة التأويل الباطني رسالة عظيمة جديدة حملها الأئمة، ولم يقدر على حملها الأنبياء والرسل، فهذه مجموعة أربع رسائل إسماعيلية: الرسالة الأولى: مسائل مجموعة من الحقائق والأسرار (ص:30) يقول المؤلف فيها: (لما كان الدين ظاهراً وباطناً قام النبي صلى الله عليه وسلم بتبليغ الظاهر، وصرف إلى وصيه -أي: إلى الإمام الذي أوصى النبي بإمامته من بعده- نصف الدين الآخر وهو الباطن. وعلم التأويل هو معجزة الأئمة كما أن علم التنزيل هو معجزة الرسول) أي: القرآن، وهم يحاولون بهذه الوسيلة هدم كل النصوص التي قام عليها كيان الإسلام. وذكر الكوثري في كتاب (مقدمة في كشف أسرار الباطنية) عدداً من ألقابهم، فذكر أنهم يسمون في مصر بالعبيدية، نسبة إلى عبيد المعروف، وبالشام بالنصيرية والدروز، وفي فلسطين بالبهائية، وفي الهند بالبهرة والإسماعيلية، وفي اليمن باليامية نسبة إلى قبيلة مشهورة في اليمن بهذا الاسم، وفي بلد الأكراد يسمون بالعلوية، حيث يقولون: علي هو الله، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيرا، ويعرفون ويسمون في بلاد الترك بالبكتاشية والقزلباشية، على اختلاف منازعهم، وفي بلاد العجم يعرفون بالبابية، ولهم فروع إلى يومنا هذا، تلبس لكل قرن لبوسه، وتظهر لكل قوم بمظهر تقضي به البيئة، وقدماؤهم كانوا يسمون أنفسهم بالإسماعيلية باعتبار تميزهم عن فرق الشيعة الأخرى بهذا الإسلام أي: لانتسابهم إلى إسماعيل بن جعفر الصادق، هذا إيجاز شديد جداً عن فرقة الإسماعيلية كفرقة كبيرة من فرق الشيعة.

حقيقة الزيدية ومعتقداتها ومدى تأثرها بالفكر الرافضي

حقيقة الزيدية ومعتقداتها ومدى تأثرها بالفكر الرافضي الزيدية: هم أتباع زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وقد افترق الزيدية عن الإمامية الرافضة (الجعفرية)، حينما سئل زيد بن علي بن الحسين بن علي عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فترضى عنهما، وأثنى عليهما خيراً، فلما سمعوا زيداً يقول ذلك رفضوه لرفضه أن يسب أبا بكر وعمر، فسميت هذه الفرقة بفرقة الرافضة أو الروافض، فهم الذين انشقوا عن فرقة الزيدية؛ لأن زيداً أبى أن يسب أبا بكر وعمر، وسمي من لم يرفض زيداً من الشيعة زيدياً لانتسابهم إليه، وذلك في آخر خلافة هشام بن عبد الملك سنة (122هـ) على الراجح من أقوال أهل السيرة والتاريخ. والزيدية كما يقول الشهرستاني: ساقوا الإمامة في أولاد فاطمة رضي الله عنها، ولم يجوزوا ثبوت الإمامة في غيرهم، إلا أنهم جوزوا أن كل فاطمي عالم شجاع سخي خرج بالإمامة أن يكون إماماً واجب الطاعة، سواء كان من أولاد الحسن أو من أولاد الحسين رضي الله عنهما، وجوزوا إمامة المفضول مع وجود الفاضل. ومذهب الزيدية المعتدلة أو الزيدية الحقيقية في الصحابة هو الترضي عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كما ينقل ذلك ابن الوزير عن الإمام الكبير المنصور بالله -وهو من أئمة الزيدية الكبار باليمن- أنه قال في الرسالة الإمامية في الجواب عن المسائل التهامية: (أما ما ذكره المتكلم عنا من تضعيف آراء الصحابة، فعذرنا أنهم أشرف قدراً، وأعلى أمراً، وأرفع ذكراً، من أن تكون ضعيفة، أو موازينهم في الشرف والدين خفيفة، فلو كان كذلك لما اتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومالوا عن إلف دين الآباء والأتراب والقرباء إلى أمر لم يسبق لهم به أنس، ولم يسمع له ذكر، شاق على القلوب، ثقيل على النفوس، فهم خير الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده، فرضي الله عنهم، وجزاهم عن الإسلام خيراً- إلى أن قال الإمام الكبير المنصور بالله -: فهذا مذهبنا لم نكتمه تقية، كيف وموجبها زائل، ومن هو دوننا مكاناً وقدرة يسب ويلعن ويذم ويطعن؟! ونحن إلى الله سبحانه من فعله براء، وهذا ما يقضي به علم آبائنا منا إلى علي عليه السلام -إلى أن قال-: وفي هذه الجهة من يرى محض الولاء بسب الصحابة رضي الله عنهم، والبراءة منهم، فهذا قد تبرأ من محمد من حيث لا يعلم). هذا كلام إمام من أئمة الزيدية المعتدلين كالإمام المنصور بالله، ولكن للأمانة يوجد في الزيدية من هو رافضي قح يقدم علياً على أبي بكر وعمر، بل ويسب أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، ومذهبه في الصحابة كمذهب الرافضة تماماً، كالطائفة المشهورة المعروفة بالجارودية، هذه الطائفة من طوائف الزيدية يعتقدون مذهب ومعتقد الإمامية أو الجعفرية أو الإثني عشرية في سب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال الإمام الشهرستاني في كتابه الماتع: (الملل والنحل): (إن أكثر الزيدية طعنت في الصحابة طعن الإمامية)، ويقول إمام كبير من أئمة الزيدية هو صالح بن مهدي بن علي المقبلي الصنعاني: (إن الزيدية ليس لهم قاعدة محددة، فإنهم أحياناً يطعنون في بعض خيار الصحابة كـ أبي هريرة وجرير بن عبد الله البجلي وأم المؤمنين حبيبة رضي الله عنهم؛ لأن هؤلاء رووا ما يخالف هواهم، وإذا جاءهم الحديث على ما يوافق هواهم قبلوه من طريق ذلك الصحابي، وإن كان أقل فضلاً ورتبة ممن طعنوا فيه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم). وقال المقبلي أيضاً: (إنه قد سرى داء الإمامية في الزيدية في هذه الأعصار، وهو تكفير الصحابة ومن يتولاهم صانهم الله تعالى)، ولعل ظاهرة اعتناق الزيدية لمذهب الرفض هي التي جعلت بعضهم يقول: جئني بزيدي صغير أخرج لك منه رافضياً كبيراً. ومن عقائد الزيدية قولهم بعصمة فاطمة وعلي والحسن والحسين رضي الله عنهم ونحن نعلم أن العصمة للنبي صلى الله عليه وسلم وحده، ويقول يحيى بن حمزة بن علي الهاشمي اليمني، وهو من أكابر أئمة الزيدية: (إن معظم فرق الزيدية يقولون بالنص على إمامة الثلاثة -يعني: أن النبي قد نص قبل موته على إمامة علي ثم الحسن ثم الحسين رضي الله عنهم- ويعتقدون ثبوت إمامة من عداهم من أولاده -أي: من أولاد الحسن والحسين - بالدعوة). أي: بدعوة الناس إلى إمامتهم أو بيعتهم، يعني: هم يقولون بالإمامة في نسل علي ونسل الحسن ونسل الحسين رضي الله عنهم جميعاً، ومسألة العصمة لهؤلاء هي كالطعن في أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، ومسألة النص هي أيضاً كالطعن في أبي بكر وعمر وعثمان رضوان الله عليهم جميعاً، كما أن القائلين بالنص والعصمة يخالفون من ينتسبون إليه وهو الإمام زيد، الذي لم يقل بالنص ولم يقل بالعصمة، فالزيدية الذين يعتقدون نص النبي صلى الله عليه وسلم على خلافة علي من بعده ثم الحسن ثم الحسين يخالفون إمامهم، إذ إن زيداً رحمه الله لم يقل بهذا، ولم يقل كذلك بالعصمة.

حقيقة الرافضة الإثني عشرية الإمامية الجعفرية ومعتقداتها

حقيقة الرافضة الإثني عشرية الإمامية الجعفرية ومعتقداتها الآن نتحدث بالتفصيل عن فرقة الرافضة، وهم الذين يسمون بالجعفرية، أو يسمون بالإمامية الإثني عشرية، أو يسمون بالروافض، ويرى بعض الباحثين أن مصطلح الشيعة إذا أطلق لا ينصرف إلا إلى فرقة الجعفرية أو الرافضة أو الروافض أو الإثني عشرية، هذه كلها مصطلحات لفرقة واحدة. ويسمون بالإمامية؛ لأنهم قالوا بوجوب الإمامة في كل زمان، فالإمامي يطلق عندهم على من دان بوجوب الإمامة ووجودها في كل زمان، وأوجب النص الجلي والعصمة والكمال لكل إمام، ثم حصر الإمامة في ولد الحسين بن علي، وساقها إلى الرضا علي بن موسى. ويسمون بالإثني عشرية؛ لأنهم يقولون بأن الأئمة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم اثنا عشر إماماً، وهم: علي، والحسن، والحسين، وعلي بن الحسين -وهو المشهور بـ زين العابدين - ومحمد الباقر، وجعفر الصادق، وموسى الكاظم، وعلي الرضا، ومحمد الجواد، وعلي الهادي، والحسن العسكري، والمهدي المنتظر، هؤلاء هم الأئمة الاثنا عشر عند هذه الفرقة التي تسمى بفرقة الإثني عشرية، أو الإمامية، أو الروافض، ويسمون أيضاً بالجعفرية نسبة إلى جعفر الصادق وهو الإمام السادس من الأئمة الذين ذكرت. أما سبب تسميتهم بالروافض فقد ذكرت قبل ذلك: أنهم سموا بالروافض حينما رفض زيد أن يسب أبا بكر وعمر؛ فرفضوا مذهبه ومذهب من تابعه وانشقوا عنه، وسموا حينئذٍ بالروافض. علق شيخ الإسلام ابن تيمية على تعريف الإمام أبي الحسن الأشعري حينما قال في (مقالات الإسلاميين): (إنما سمي الروافض بالروافض؛ لرفضهم إمامة أبي بكر وعمر) فقال شيخ الإسلام ابن تيمية في المجلد الثاني: (الصحيح أنهم سموا رافضة؛ لما رفضوا زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب لما خرج بالكوفة أيام هشام بن عبد الملك). وذكرت أنهم ما رفضوه إلا لترضيه على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كـ أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. وهذه الطائفة -طائفة الإمامية أو الجعفرية أو الإثنا عشرية- هي الطائفة الكبرى في عالمنا اليوم، وأكثر أتباعها في إيران، والعراق، والقطيف، ولبنان، والكويت، وباكستان، والهند، فهم بالملايين، وليس في مصر ولا في بلاد شمال إفريقيا من هذه الطائفة شيء، إلا نبتات سوء وأفراد، لكنني أقول بيقين: إن أرض مصر أرض تلفظ بذرة التشيع، إلا إذا استطاع أهل هذا المذهب الفاسد أن يتدثروا بعباءة التصوف، ثم يدخلوا على الناس بزعم أنهم يحبون آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم.

بطلان دعوى عدم الاختلاف العقدي بين أهل السنة والرافضة

بطلان دعوى عدم الاختلاف العقدي بين أهل السنة والرافضة ادعى علماء الشيعة أنه لا يفصلهم عن أهل السنة كبير شيء، وإنما خلافهم مع أهل السنة في مسائل الفروع، هم يزعمون ذلك، ويدندنون به، بل ولعل منكم من تابع دعوة التقريب المزعومة بين الشيعة وأهل السنة، ورفع لواء هذه الدعوة من يشار إليهم بالبنان، فهم يزعمون أنه لا توجد على الإطلاق أية فروق جوهرية في الأصول بين معتقد الشيعة وبين معتقد أهل السنة اللهم إلا في الفروع، هكذا يزعمون. يقول محمد حسين آل كاشف الغطاء -وهو من أكابر مراجع الشيعة المعاصرين-: (الشيعة ما هم إلا طائفة من طوائف المسلمين، ومذهب من مذاهب الإسلام، يتفقون مع سائر المسلمين في الأصول، وإن اختلفوا معهم في بعض الفروع) وردد هذا الكلام الخبيث الخطير بعض أهل السنة نقلاً جزافاً عن أكابر أئمة الشيعة، فهل هذه الدعوة حقيقية؟ تعالوا معي لنجيب إجابة مفصلة قد تحتاج إلى خمس محاضرات، وأرجو أن تسامحوني على هذا الإطالة، فالأمر والله جد خطير، ويحتاج إلى وقفة، وأنا أعلم أنه لا يتكلم في مثل هذه الموضوعات إلا في القليل النادر، فالإجابة على قولهم: إن الشيعة ما هم إلا طائفة من طوائف المسلمين، ومذهب من مذاهب الإسلام، يحتاج في تفنيده إلى كتب الشيعة، وإلى كلام أكابر مراجعهم وعلمائهم، فإن مصادر القوم هي المعتمدة عند من يعتنقون مذهب الشيعة، فإنك لو ذهبت الآن لترد عليه بأقوال أهل السنة لألقى بقولك عرض الحائط، لكنك ستلقمه حجراً إذا انطلقت لترد عليه بأقوال أئمة الشيعة، وأكابر مراجعهم في الماضي بل وفي العصر الحاضر، فتدبر معي أيها الأخ الكريم! لنقف مع أول أمر، بل مع أخطر أمر ألا وهو اعتقادهم في مصادر التلقي، أو في أصول الأحكام المتفق عليها بين المسلمين، ما هي مصادر التلقي عند الشيعة؟ من أين استقى الشيعة أصول مذهبهم؟ وما هي نظرة الشيعة لهذه الأصول؟! وما هو معتقدهم فيها؟

اعتقاد الرافضة في القرآن الكريم

اعتقاد الرافضة في القرآن الكريم القرآن الكريم هو أول مصدر من مصادر التلقي عند المسلمين، لكن انظر إلى معتقد الشيعة في هذا المصدر. يعتقد الشيعة الإثنا عشرية أن القرآن الكريم محرف، وسأنقل لكم الأدلة على ذلك من أقوالهم، ومن كتبهم، ويعتقدون أن هناك كتباً نزلت من السماء بعد القرآن، فهم يقولون بتحريف القرآن الكريم وبتزويره وبنقصه، وبخلل فيه. معلوم أن الأمة قد أجمعت على حفظ كتاب الله جل وعلا؛ مصداقاً لقول الله سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، والقرآن الكريم تحدى الله عز وجل به البشرية جمعاء، إذ لم يتغير فيه حرف، ولم تنقص منه كلمة، ولم تحذف منه آية. تقوم فرية الشيعة على القول بأن هذا القرآن الكريم الموجود بأيدي المسلمين الآن ناقص ومحرف، وأن القرآن الكامل عند علي بن أبي طالب، ثم أورثه الأئمة من بعده، وهو اليوم عند المهدي المنتظر، هذا كلام الشيعة! أقول: إن هذه المقالة الملحدة طعن في كتاب الله وفي دين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي أيضاً طعن في علي نفسه رضوان الله عليه، إذ كيف يعلم علي أن القرآن الذي بين أيدي المسلمين محرف ومزور وناقص، وأن القرآن الكامل عنده وحده، ثم لا يرد هذه الفرية، ولا يبين للمسلمين هذا الباطل، لا سيما بعدما أصبح خليفة. إذاً: هذا طعن في علي رضي الله عنه، ولما جوبه الروافض بذلك لم يجدوا ما يجيبون به سوى أنهم قالوا على لسان عالمهم الكبير نعمة الله بن محمد بن حسين الحسيني الجزائري الشيعي الإمامي، وهو الذي قال عنه الخوانساري: كان من أعظم علمائنا المتأخرين، وأفاخم فضلائنا المتبحرين، وقال فيه محدثهم القمي: كان نعمة الله الجزائري عالماً محققاً مدققاً جليل القدر. اسمع ماذا يقول هذا العالم الكبير المحقق المدقق لما قيل له: كيف لم يبين علي القرآن الصحيح الذي ادخره عنده، وورثه للأئمة، وهو يعلم أن القرآن الذي بأيدي المسلمين مزور ومحرف؟ قال: (ولما جلس أمير المؤمنين عليه السلام لم يتمكن من إظهار ذلك القرآن -يقصد القرآن الصحيح المتكامل الذي لم يحرف ولم يزور- ولم يستطع أن يخفي هذا القرآن الأول -أي: الذي في أيدي المسلمين الذي زور وحرف- لما فيه من إظهار الشناعة على من سبقه، إذ لو فعل ذلك لبين أخطاء من سبقوه). انظر إلى هذا الضلال المبين، هكذا يعتذرون، وأي قدح أبلغ من هذا، إنهم يتهمون علياً رضي الله عنه بأنه جامل من سبق من الصحابة على حساب كتاب الله وعلى حساب سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا وربي بهتان عظيم، هذه فحوى الخرافة التي وجدت مكانها في دواوين الشيعة ومجامعهم الحديثية وكتبهم المعتمدة في عشرات من النصوص والروايات. تدبر معي بعض الروايات لأكمل إن شاء الله تعالى في المحاضرة المقبلة. يقول حسين النوري الطبرسي هو عند الشيعة إمام أئمة علم الحديث، وإمام أئمة علم الجرح والتعديل في الأزمان المتأخرة، ألف كتاباً أسماه -واسمع عنوان الكتاب، ويكفي اسم الكتاب- (فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب) وقد ألفه ليثبت من كتبهم أن القرآن محرف، ونقل فيه مجموعة كبيرة من أخبار الشيعة التي تطعن في القرآن، جمعها كما يقول من الكتب المعتبرة التي عليها المعول، وإليها المرجع عند الأصحاب، وقال: (واعلم أن تلك الأخبار منقولة عن الكتب المعتبرة التي عليها معول أصحابنا في إثبات الأحكام الشرعية والآثار النبوية). فهذه الكتب التي ذكرت هذه الأخبار الملحدة موثقة عند علمائهم، ويتلقون عنها دينهم، وهي منسوبة لأكابر علمائهم ومراجعهم ومحدثيهم، كما سمعنا الآن. ومن هذه الكتب صحيحهم الكافي، وهم يشبهونه بصحيح البخاري، يعني: الكافي عند الشيعة يوازي صحيح البخاري عند أهل السنة، ويعتبرون الكافي من أصح كتبهم، ويلقبون مؤلفه وهو محمد بن يعقوب الكليني بأنه ثقة الإسلام، وقد روى الكليني من هذه الأساطير والأقوال الملحدة الشيء الكثير، مع أنه التزم الصحة فيما يرويه؛ ولهذا قرر الكاتبون عنه من الشيعة أنه كان يعتقد التحريف والنقصان في القرآن؛ لأنه روى روايات في هذا المعنى في كتابه الكافي، ولم يتعرض للقدح فيها، مع أنه ذكر في أول الكتاب أنه يثق بما رواه، وهذا كتاب لإمام كبير من أئمتهم.

أقوال أئمة الشيعة الرافضة في تحريف القرآن

أقوال أئمة الشيعة الرافضة في تحريف القرآن هذه بعض النصوص عن الشيعة في تحريف القرآن: يقول عالمهم المجلسي -صاحب كتاب: (بحار الأنوار) - في كتاب (مرآة العقول) المجلد الثاني (ص:536): (وعندي أن الأخبار في هذا الباب -أي: في باب تحريف القرآن- متواترة المعنى، وطرح جميعها يوجب رفع الاعتماد على الأخبار رأساً، بل ظني أن الأخبار في هذا الباب لا تقصر عن أخبار الإمامة). لأن الذي نقل إليهم القول بتحريف القرآن هم الذين نقلوا إليهم أصول مذهبهم الفاسد الباطل، كأخبار الإمامة والبداء والرجعة والغيبة إلخ هذه المعتقدات الفاسدة. ويقول شيخهم المفيد: (إن الأخبار قد جاءت مستفيضة عن أئمة الهدى من آل محمد صلى الله عليه وسلم باختلاف القرآن، وما أحدثه بعض الظالمين فيه من حذف ونقصان)، وهذا الكلام في كتاب أوائل المقالات (ص:98) للمفيد، وهو من أكابر أئمة الشيعة. ويقول ثقة الشيعة -هكذا يسمونه- محمد صالح المازندراني: (وإسقاط بعض القرآن وتحريفه ثبت من طرقنا بالتواتر معنى، كما يظهر لمن تأمل في كتب الأحاديث من أولها إلى آخرها)، قال ذلك المازندراني في شرح جامع الكافي المجلد الحادي عشر (ص:76). ويقول شيخهم محسن الكاشاني وهو من أكابر شيوخ الشيعة في كتابه (تفسير الصافي) في المقدمة السادسة من تفسيره: (المستفاد من الروايات من طريق أهل البيت أن القرآن الذي بين أظهرنا ليس بتمامه كما أنزل على محمد). قفوا -يا إخواننا- على هذا المعتقد الخبيث، حتى لا يضحك عليكم الآن جاهل بهذا المذهب الفاسد الباطل، فإنني أعلم أن نبتة سوء قد بدأت تظهر في المنصورة، وتدعو لهذا المذهب الخبيث الفاسد الباطل، وهي ولله الحمد لا تزيد عن ثمانية أفراد، لكن هذا خطر، وأتمنى أن يستمع هؤلاء الإخوة إلى المحاضرات بعد تمامها، لعل الله أن يشرح صدورهم إلى الحق، أسأل الله أن يردنا وأن يردهم إلى الحق رداً جميلاً. يقول شيخهم محسن الكاشاني أيضاً: (بل منه ما هو خلاف ما أنزل الله، ومنه ما هو مغير محرف، وإنه قد حذف منه أشياء كثيرة، منها: اسم علي في كثير من مواضع القرآن، ومنها: لفظة آل محمد في أكثر من موضع، ومنها: أسماء المنافقين في مواضعها، ومنها: غير ذلك، ثم قال: إن القرآن ليس أيضاً على الترتيب المرضي عند الله وعند رسوله). وقد ذكرت لكم ترتيب المصحف، ومراحل جمع القرآن الكريم، ابتداء من عهد النبي صلى الله عليه وسلم وانتهاءً بعهد عثمان رضي الله عنه وأرضاه، وذكرت لكم إعجاز القرآن في بلاغته، وفي حروفه، وفي نظمه، وفي اتساقه الذاتي، وفي إعجازه الفكري، وفي إعجازه البلاغي، وإعجازه العلمي، وإعجازه العقدي، ذكرت ذلك بالتفصيل في كثير من المحاضرات قد تصل إلى سبع أو ثمان محاضرات في حديثي عن الإيمان بالكتب، وتحدثت عن التوراة المحرفة والإنجيل المزور، ثم تكلمت بعد ذلك عن القرآن الكريم، وأرجو أن تراجع هذه الأشرطة مرة أخرى. وروى الكليني في كتابه الكافي بإسناده عن أبي جعفر عليه السلام قال: (نزل جبريل بهذه الآية على محمد صلى الله عليه وسلم هكذا، ألا وهي قوله تعالى: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا في حق علي فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين). وعن جابر الجعفي عن أبي جعفر عليه السلام قال: (هكذا نزل قول الله تعالى: (ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به في علي لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً). انظر إلى التحريف الرهيب، هذا تحريف في النص، أما تحريفهم في التأويل -أي: في التفسير- فكثير جداً، فهم يقرءون الآية ويؤولونها تأويلاً رهيباً لا يمت إلى الحقيقة ولا إلى الدين ولا إلى الواقع، بل ولا إلى العقل السليم بأدنى صلة، وأنا لا أدري كيف اغتر بهذا القول الفاسد الملايين من الناس؟!! نسأل الله أن يثبتنا على الحق: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21]. وعن أبي بصير عن أبي عبد الله في قول الله عز وجل: (ومن يطع الله ورسوله في ولاية علي وولاية الأئمة من بعده فقد فاز فوزاً عظيماً). انظر إلى هذا التحريف!! هذا كله في كتاب الكافي باب: نكت ونتف من التنزيل في الولاية، هكذا عنون صاحب الكافي لهذا الباب الخبيث، المجلد الأول (ص: 417). نقول لمن افتتن بهذا المذهب فليراجع أصول هذا المذهب في كتبهم، فأنا أنقل الآن من كتبهم: روى الكليني بإسناده عن أبي الحسن وهذا في كتاب الكافي المجلد الأول (ص:421) -قال: ولاية علي مكتوبة في جميع صحف الأنبياء، ولم يبعث الله رسولاً إلا بنبوة محمد ووصية علي. ومن ذلك أيضاً ما رواه الكليني بإسناده إلى أحمد بن محمد بن أبي نصر قال: (دفع إلي أبو الحسن عليه السلام -وهو علي رضوان الله عليه- مصحفاً، وقال: لا تنظر فيه -انظر التشويق: سيدنا علي أعطاه مصحفاً وقال له: لا تفتحه، إذاً! لماذا أعطاه؟! - يقول: دفع إليه أبو الحسن مصحفاً وقال: لا تنظر فيه، يقول: ففتحته ونظرت فيه وقرأت فيه ((لم يكن الذين كفروا)) ووجدت بعدها اسم سبعين رجلاً من قريش بأسمائهم وأسماء آبائهم -يقصد من الصحابة رضوان الله عليهم -انظر الخبث! -. فبعث إلي -أي: علي - وقال: ابعث إلي بالمصحف). وتمضي افتراءات الشيعة والروافض بأكملها، وتزعم أن بعض السور قد حذفت من القرآن الكريم، وذكر منها شيخهم الطبرسي سورة الحفد، وسورة الخلع، وسورة الولاية. هذا الكلام في كتاب فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب للنوري الطبرسي الذي ذكرته آنفاً (ص:24). ثم في موضع آخر نقل سورة الولاية، واسمع لنص سورة الولاية، قال: نص السورة: بسم الله الرحمن الرحيم، (يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالنورين أنزلناهما يتلوان عليكم آياتي، ويحذرانكم عذاب يوم عظيم، نوران بعضهما من بعض وأنا السميع العليم، إن الذين يوفون ورسوله في آيات -كذا وردت- لهم جنات نعيم، والذين كفروا من بعد ما آمنوا بنقضهم ميثاقهم وما عاهدهم الرسول عليه يقذفون في الجحيم، ظلموا أنفسهم وعصوا الوصي الرسول أولئك يسقون من ماء حميم) انظروا الضلال المبين!! هل هذه سورة؟! كلام مسيلمة أفضل وأنظف منه، وكله يخرج من بوتقة كفر خبيثة واحدة، حينما قرأت هذا النص والله تذكرت كلام مسيلمة، وقلت: سبحان الله! والله إن الكفر ملة واحدة، حينما ذهب إليه أهل الكفر والشرك من أهل الجزيرة وقد ادعى أن وحياً ينزل عليه كما ينزل الوحي على محمد، قالوا: أسمعنا شيئاً مما نزل عليك، فجلس مسيلمة الكذاب يهذي كما يهذي هؤلاء المجرمون الخبثاء، جلس يقول: (والزارعات زرعاً، والحاصدات حصداً، والعاجنات عجناً، والخابزات خبزاً) فضحك القوم، ففهم أن القوم قد تبين لهم كذبه وضلاله، فقال يريد أن يسمعهم شيئاً غير ذلك: (الفيل ما الفيل، وما أدراك ما الفيل، له خرطوم طويل، وذيل قصير) فضحك القوم، وهم أرباب بلاغة، وأرباب بيان، فقال في سورة ثالثة: (يا ضفدع بنت ضفدعين، نقي ما تنقين، نصفك في الماء ونصفك في الطين، لا الماء تكدرين، ولا الشارب تمنعين). فقالوا: يا مسيلمة! قال: نعم، قالوا: والله إنك لتعلم يقيناً أننا نعلم يقيناً أنك كذاب. هم يعلمون يقيناً أنه كذاب، وهو يعلم يقيناً أنهم يعلمون يقيناً أنه كذاب، فهؤلاء يكذبون بهذه الصورة السخيفة على الله جل وعلا، ويختلقون ويزيفون سوراً كاملة، ويزعمون أن هذه قد حذفت من القرآن الكريم. وجاءت روايات كثيرة في كتب الشيعة تأمرهم بالعمل بالمصحف الموجود بين أيدي المسلمين الآن، لماذا؟ قالوا: ريثما يخرج قرآنهم الذي ورّثه علي لإمامهم المهدي المنتظر، وأنتم من أصول مذهبكم التقية، فاعملوا بهذا القرآن إلى أن يخرج المهدي بالقرآن المتكامل الصحيح. يقول نعمة الله الجزائري: (قد روي في الأخبار أن علياً والأئمة عليهم السلام أمروا شيعتهم بقراءة القرآن الموجود في الصلاة وغيرها، وأن يعملوا بأحكامه حتى يظهر مولانا صاحب الزمان، فيرتفع هذا القرآن من أيدي الناس إلى السماء، ويخرج القرآن الذي ألفه أمير المؤمنين؛ فيقرأ بعد ذلك ويعمل بأحكامه). أقف عند هذا القدر لأواصل إن شاء الله تعالى تحريف الشيعة للأصل الأول من أصول التلقي، وللمصدر الأول من مصادر التلقي ألا وهو القرآن، وكيف أنهم حرفوا أصول النصوص في القرآن، ولم يكتف الروافض بذلك وإنما حرفوا في التأويل أيضاً للقرآن، وهذا ما سنتعرف عليه إن شاء الله في المحاضرة المقبلة. أحمد الله الذي هدانا للحق، وأسأل الله أن يثبتنا عليه، وأن يتوفانا عليه، إنه ولي ذلك ومولاه، وأكتفي بهذا القدر، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

الشيعة والقرآن [2]

الشيعة والقرآن [2] لم يكتف الشيعة بتحريف نصوص القرآن الكريم، بل قاموا بلي أعناق النصوص وتأويلها بما يوافق معتقداتهم: من إثبات عصمة الأئمة والولاية والبداء والرجعة والمتعة والعصمة، وغيرها من العقائد الباطلة الفاسدة. ولم يقفوا عند هذا الحد، بل ادعوا نزول وحي غير القرآن بعد موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم على علي وفاطمة رضي الله عنهما، وكلها دعاوى باطلة سخيفة، تدل على خفة عقولهم وسذاجتهم.

عقيدة الشيعة في تفسير القرآن

عقيدة الشيعة في تفسير القرآن بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الأحبة! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت المبارك على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. نحن الليلة على موعد مع الدرس السابع عشر من دروس: سلسلة الإيمان باليوم الآخر، ضمن دروس العقيدة لمعهد إعداد الدعاة بمسجد التوحيد، ولا زال حديثنا بحول الله وطوله عن الفتن كعلامة من العلامات الصغرى للساعة، التي أخبر عنها الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم. وشرعت في المحاضرة الماضية في الحديث عن فتنة الروافض، وبينت فيها أصل الشيعة، وأصل هذا المسمى، ثم شرعت في بيان معتقد الشيعة الروافض في القرآن الكريم، فهم يعتقدون أن القرآن الذي بين أيدينا الآن قرآن محرف، وقرآن مزور، وليس هو القرآن الذي أنزله الله على نبينا صلى الله عليه وسلم، وبينت الأدلة على ذلك من كتبهم ومصادرهم المعتمدة. وأبين الليلة إن شاء الله تعالى معتقد الشيعة الروافض في تأويل وتفسير القرآن، فكما انحرف الشيعة الروافض في القرآن ذاته فقد انحرفوا أيضاً في تأويل وتفسير القرآن الكريم، فساروا على غير قواعد اللغة، وعلى غير قواعد الشريعة، وعلى غير قواعد الفهم، بل وعلى غير ما يقبله العقل، وحرفوا القرآن بلي أعناق النصوص بصورة بشعة، والأمر يحتاج منا إلى طول نفس في هذه الليلة ونحن نعدد النصوص من مصادر الشيعة الأصلية ومراجعهم الكبيرة؛ ليتبين لنا هل هذا التحريف والتأويل ما هو إلا أمثلة في كتب التفسير وفي كتب الأصول عندهم قد يتجاوز عنها، أم أن هذا التحريف في التأويل أمر مؤصل ومقعد واعتقاد؟

نماذج من التأويل المنحرف للقرآن الكريم عند الشيعة الرافضة

نماذج من التأويل المنحرف للقرآن الكريم عند الشيعة الرافضة نقف عند هذه الحقيقة، فأسوق كثيراً من الأمثلة والشواهد التي تبين تأويل الشيعة المنحرف لآيات القرآن الكريم، ومن تفاسيرهم المعتبرة عندهم، كتفسير القمي، وتفسير العياشي، وتفسير البرهان، وتفسير الصافي، كما أن كتبهم المعتمدة في الحديث قد أخذت كثيراً من هذه التأويلات الفاسدة، وعلى رأسها أصول الكافي للكليني، والبحار للمجلسي، وغيرها من الكتب، فتدبروا معي هذه الأمثلة والشواهد التي ستتعب العقل والقلب معاً في هذه الليلة، لكن سنقف على أن هذا التأويل والتحريف في تأويل آيات القرآن الكريم إنما هو أمر اعتقاد، وأمر مؤصل عند الروافض. نجد في مصادر الروافض الأصلية -ككتب التفسير والحديث المعتمدة عندهم- آيات كثيرة جداً جداً تفسر الآية الواضحة بالإمامة والولاية والأئمة، تجد لفظة القرآن صريحة صحيحة في المعنى، ومع ذلك تجد تعسفاً وتمحلاً رهيباً من الشيعة الروافض في تحريف هذه اللفظة أو في تحريف هذه الكلمة لتأصيل معتقد من معتقداتهم.

تفسير وتأويل الرافضة للفظة القرآن وأسمائه

تفسير وتأويل الرافضة للفظة القرآن وأسمائه كل الآيات التي وردت في القرآن الكريم تتحدث عن لفظة القرآن فهم يفسرون ويؤولون لفظة القرآن مباشرة بالأئمة، ويؤولون أي اسم من أسماء القرآن في القرآن بالأئمة، والأدلة على ذلك كثيرة منها: قول الله تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا} [التغابن:8] أي: والقرآن الذي أنزلنا على محمد صلى الله عليه وسلم، اسمع إلى تفسير الشيعة، يقولون: النور نور الأئمة، انظر إلى الكافي للكليني في كتاب الحجة، باب: أن الأئمة عليهم السلام نور الله عز وجل، المجلد الأول (ص:194). هذا تفسير الشيعة للفظة (النور) في كتاب الله عز وجل. وقوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ} [الأعراف:157] وهو القرآن، أي: اتبعوا القرآن الذي أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم، أما الروافض فقالوا: النور في هذه الآية هو علي والأئمة من بعده عليهم السلام. هذا تعسف واضح، وهذا التأويل في كتاب الكافي للكليني في كتاب الحجة باب: أن الأئمة عليهم السلام نور الله عز وجل المجلد الأول (ص:194). والأدلة على هذا كثيرة جداً عندهم، تمضي تأويلاتهم للآيات التي تتحدث عن القرآن الكريم، ولو كانت الآية في غاية الوضوح والدلالة على أن المقصود هو القرآن، فهم يفسرون لفظة القرآن بجميع مترادفاتها بالأئمة. فهم يقولون في قول الله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9] أي: يهدي إلى الإمام. هذا أيضاً في كتاب الكافي في المجلد الأول (ص:216)، أعزو بالصفحة حتى لا يحتج علينا أحد بأن هذا من عندنا، فلقد ذكرت في المحاضرة الماضية أننا لن ننقل كلاماً من كلام أئمة أهل السنة، بل سننقل كلاماً من كتبهم المعتمدة، ومصادرهم ومراجعهم الكلية الكبيرة؛ لنبين إلى أي حد قد انحرف هؤلاء القوم انحرافاً مزرياً في المعتقد، وفي تفسير كتاب الله عز وجل. وفي رواية في قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9] أي: يهدي إلى الولاية. وسنفصل إن شاء الله تعالى الحديث في الولاية وفي الرجعة وفي البداء. إلخ. ويفسرون ما ورد في القرآن من لفظة النور بالأئمة أيضاً بلا أدنى دلالة. وبكل أسف هم ينسبون كل هذه التفسيرات إلى أئمة آل البيت برأهم الله مما قالوا، فآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم أعلم وأجل وأفضل وأفقه وأبلغ من أن ينسب إليهم مثل هذا الإلحاد في كتاب الله عز وجل، فهم ينسبون كل هذه الروايات إلى أئمة أهل البيت، ولاسيما جعفر الصادق رحمه الله تعالى وبرأه الله مما قالوا، فلا يثبت هذا ألبتة عن إمام من أئمة آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ابتداء بـ علي رضوان الله عليه والحسن والحسين وجعفر الصادق ومحمد الباقر وغيرهم من أئمة آل بيت النبي، فهم برآء من كل ما ينسبه الشيعة الروافض إليهم من تمحلات لا تتفق مع شرع ولا مع عقيدة، بل ولا مع عقل في تأويلهم الفاسد الباطل في كتاب الله جل وعلا، فهم يقولون في قول الله سبحانه وتعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} [الصف:8] قالوا: النور في هذه الآية هي ولاية علي، أي: يريدون ليطفئوا ولاية أمير المؤمنين عليه السلام بأفواههم، قالوا: {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ} [الصف:8] يقولون: والله متم الإمامة. وكذلك قوله تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا} [التغابن:8] يقولون: إن النور هو الإمام، وهذا في كتاب الكافي المجلد الأول (ص:196). واسمع إلى هذا العجب العجاب في تحريفهم لمعنى قول الله تعالى في سورة النور: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور:35]، اسمع إلى هذا التعسف الواضح الفاضح في تأويلهم لهذه الآيات الواضحة من سورة النور، يقولون: (اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ) المشكاة هي فاطمة عليها السلام، (فِيهَا مِصْبَاحٌ) الحسن (الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ) الحسين رضوان الله على الحسن والحسين، وبرأهما الله مما يقول الروافض، (الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ) فاطمة كوكب دري بين نساء العالمين، (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ) الشجرة المباركة إبراهيم عليه السلام، (زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) لا يهودية ولا نصرانية، (يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ) يكاد العلم يتفجر منها، (وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ) إمام من فاطمة بعد إمام (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ) يهدي الله للأئمة من يشاء (وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ) الآيات!! وقالوا في قول الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُوراً} [النور:40] أي: ومن لم يجعل الله له إماماً من ولد فاطمة ((فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ)) أي: فما له من إمام يوم القيامة، هذا تحريف الشيعة الروافض الفاسد الفاضح لكتاب الله جل وعلا.

تفسير الشيعة الرافضة للشرك والكفر في القرآن الكريم

تفسير الشيعة الرافضة للشرك والكفر في القرآن الكريم وكما أولوا ما جاء في القرآن الكريم عن القرآن والنور بالإمامة، فهم يؤولون ما جاء في كتاب الله جل وعلا من النهي عن الشرك والكفر، فتأتي لفظة الشرك صريحة وتأتي لفظة الكفر صريحة فيؤولون لفظة الشرك ولفظة الكفر بالكفر بولاية علي رضي الله عنه، ويؤولون ما جاء في عبادة الله وحده واجتناب الطاغوت بولاية الأئمة والبراءة من أعدائهم، ومن ذلك قولهم في قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36] قالوا: أي: ما بعث الله نبياً قط إلا بولايتنا، والبراءة من عدونا، وذلك هو قول الله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36] أي: ما بعث الله نبياً قط إلا بولايتهم والبراءة من أعدائهم، هذا تأويل الآية عندهم! وفي قول الله تعالى: {لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النحل:51] قالوا: يعني بذلك: ولا تتخذوا إمامين إنما هو إمام واحد، وهذا الكلام بفضل الله عز وجل كل لفظة منسوبة إلى مصدرها، هذا الكلام موجود في تفسير العياشي، وهو من التفاسير المعتمدة عند الشيعة، المجلد الثاني (216)، وموجود في تفسير البرهان وهو من التفاسير المعتمدة عند الشيعة المجلد الثاني (ص:373)، وموجود في تفسير: نور الثقلين المجلد الثالث (ص:60). ويقولون في قول الله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65] خطاب من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، قالوا: لئن أمرت بولاية أحد مع ولاية علي ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين، انظر إلى هذه البشاعة والفضاعة في تفسير الصافي المجلد الثاني (ص:472)، وقد نقل هذه الرواية أيضاً عن الصافي شيخ الشيعة القمي شيخ الكليني في تفسيره، وكذلك هذه اللفظة موجودة بنصها في تفسير نور الثقلين في المجلد رقم أربعين (ص:498). وفي قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110] قالوا: العمل الصالح المعرفة بالأئمة، (ولا يشرك بعبادة ربه أحداً) أي: يسلم لـ علي ولا يشرك معه في الخلافة من ليس ذلك له ولا هو من أهله. تفسير العياشي الجزء الثاني (ص:353)، وتفسير البرهان المجلد الثاني (ص:497) وفي غيرهما. وفي قوله تعالى: {وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} [البقرة:41] قالوا: ولا تكونوا أول كافر بـ علي. رضي الله عن علي وبرأه الله مما قالوا. وقالوا ببشاعة رهيبة في قوله تعالى: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة:165] أي: من بني أبي بكر ومن بني عمر. وقالوا: هم أولياء فلان وفلان وفلان يعنون أبا بكر وعمر وعثمان، اتخذوهم أئمة من دون الإمام. أي: من دون علي رضي الله عنه. هذا الكلام موجود في تفسير العياشي المجلد الأول (ص:72)، وفي تفسير البرهان المجلد الأول (ص:172)، وفي تفسير الصافي المجلد الأول (ص:156)، وفي تفسير نور الثقلين المجلد الأول (ص:151). وسأبين لكم تفسير شيوخهم الآن لهذه الآيات بأنهم يقصدون أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عن الجميع، كما سأبين الآن معتقدهم في الآيات التي ذكر فيها صحابة النبي صلى الله عليه وسلم رضوان الله عليهم جميعاً. وفي قول الله تعالى: {إِنَّهُمْ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأعراف:30] قالوا: يعني: أئمة دون أئمة الحق. (اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ) أي: الأئمة الذين تولوا الخلافة قبل علي. هذا في تفسير الصافي المجلد الأول (ص:571). ويقولون في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48] يعني: أنه لا يغفر لمن يكفر بولاية علي، وأما قوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] يعني: لمن والى علياًً عليه السلام، والروايات في هذا كثيرة جداً جداً، ولا أريد أن أطيل في هذه الجزئية.

تفسير الشيعة الرافضة للفظة الصلاة في القرآن الكريم

تفسير الشيعة الرافضة للفظة الصلاة في القرآن الكريم الرافضة يؤولون بعض آيات القرآن كلفظة الصلاة بالأئمة والإمامة أيضاً، يعني: لم يكتفوا بلفظة القرآن ولا بلفظة النور، وإنما أولوا أيضاً لفظة الصلاة الواردة في كتاب الله جل وعلا بالأئمة أو بالولاية، فهم يقولون في قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] قالوا: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ) هي رسول الله وأمير المؤمنين علي، والحسن والحسين، والصلاة الوسطى هي علي وحده، (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) أي: طائعين للأئمة. تفسير العياشي المجلد الأول (128)، وتفسير البرهان المجلد الأول (231)، والبحار (ص:154) المجلد السابع. فهذه بعض تأويلاتهم لآيات الصلاة، وقد مضى تأويلهم لعموم الأعمال الصالحة بالإمامة، ولا أريد أن أقف مع كل الروايات والنصوص الثابتة، فكتبهم مشحونة بمثل هذا الأسلوب الفاضح في التأويل المتعسف لكتاب الله عز وجل.

تفسير الرافضة لمعنى الذين يتلون الكتاب حق تلاوته وللفظ الآيات والنبأ

تفسير الرافضة لمعنى الذين يتلون الكتاب حق تلاوته وللفظ الآيات والنبأ يؤول الرافضة قول الله تبارك: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} [البقرة:121] بالأئمة عليهم السلام (الذين يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به) قالوا: هم الأئمة عليهم السلام كما في الكافي في كتاب الحجة باب: في أن من اصطفاه الله من عباده وأورثهم كتابه هم الأئمة عليهم السلام، انظر حتى الترجمة التي للباب!! المجلد الأول (ص:215). والأئمة عند الروافض هم أهل الذكر، وهم الراسخون في العلم، وهم الذين أوتوا العلم. قالوا في قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران:7]: الراسخون في العلم: هم أمير المؤمنين والأئمة من بعده. نحن نقر بأن علياً رضوان الله عليه من الراسخين في العلم، بل من أئمة العلم، لا ننكر هذا، فالحق نثبته ونقره، ولو كان على لسان الروافض أو على لسان غيرهم، فلقد أثبت الله عز وجل الحق على لسان أهل الكتاب مع كفرهم بالله جل وعلا، فقال سبحانه وتعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً} [آل عمران:75] فالله يثبت الحق لأهله، فنحن نثبت بأن علياً رضوان الله عليه من الراسخين في العلم، بل ومن أئمة العلم، فهذه ما زاغوا فيها عن الحق. ثم يقولون: والأئمة من بعد علي رضوان الله عليه، بل وستعجب إذا علمت أن الأئمة عندهم هم آيات الله، وهم النبأ العظيم، وهم الآيات المحكمات! ففي تفسير قوله تعالى: {فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ} [الأعراف:69] ذكروا أنه سأل يوسف البزاز أبا عبد الله -وهو جعفر الصادق - عن قوله تعالى: {فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ} [الأعراف:69] فقال جعفر الصادق -برأه الله مما قالوا-: أتدري ما آلاء الله؟ قلت: لا، قال: هي أعظم نعم الله على خلقه، وهي ولايتنا. انظر تفسير الكافي المجلد الأول (ص:217). وعندهم أن الأئمة هم آيات الله أيضاً، قال الكليني: باب: أن الآيات التي ذكرها الله عز وجل في كتابه هم الأئمة، وساق عدة روايات في ذلك، قال في قوله تعالى: {كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا} [القمر:42]: أي: كذبوا بالأئمة الأوصياء. وهم النبأ العظيم -في زعمهم- المذكور في قوله تعالى: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنْ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} [النبأ:1 - 2] ومعلوم أن النبأ العظيم في الآية هو يوم القيامة، وهم يفسرون النبأ العظيم بالأئمة، قال أبو حمزة عن أبي جعفر قال: قلت له: جعلت فداك! إن الشيعة يسألونك عن تفسير هذه الآية: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنْ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} [النبأ:1 - 2]، فقال: ذلك إلي، إن شئت أخبرتهم وإن شئت لم أخبرهم، ثم قال: لكن أخبرك بتفسيرها، {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} [النبأ:1] هي في أمير المؤمنين صلوات الله عليه، كان أمير المؤمنين صلوات الله عليه يقول: ما لله عز وجل آية هي أكبر مني، ولا لله من نبأ هو أعظم مني. تعالى الله عما يقولون علوا ًكبيراً، وبرأ الله علياً وأبا جعفر الصادق رضوان الله عليهما جميعاً مما يقول هؤلاء الظالمون. حتى لفظة الآيات المحكمات في كتاب الله جل وعلا فسرت عندهم بالأئمة، روى العياشي عن أبي عبد الله جعفر الصادق في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران:7] قال: الآيات المحكمات هي أمير المؤمنين والأئمة، (وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) قال: أبو بكر وعمر وعثمان، {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} [آل عمران:7] أي: أصحابهم وأهل ولايتهم، {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران:7] تفسير العياشي المجلد الأول (ص:162)، وتفسير البرهان المجلد الأول (ص: 271)، وتفسير البحار المجلد السابع (ص:47).

تفسير الرافضة للنحل والحفدة والأسماء الحسنى في القرآن الكريم

تفسير الرافضة للنحل والحفدة والأسماء الحسنى في القرآن الكريم تأويل الرافضة لكثير من آيات القرآن بالإمامة والأئمة يزيد على الحصر، وكأن القرآن لم ينزل إلا في الولاية وفي الأئمة، بل إن تعسفهم في تأويل الآيات في الأئمة والولاية -والله الذي لا إله غيره- لا أقول: هم يخالفون قواعد اللغة أو قواعد الشرع فقط، بل هم يخالفون حتى قواعد العقل السليم، فالأئمة عندهم هم النحل المذكور في قوله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل:68] قالوا: يعني: إلى الأئمة، سبحان الله! هل الأئمة سيتخذون الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون؟ عقد المجلسي باباً في كتابه بعنوان: باب نادر في تأويل النحل بالأئمة، وهذا الكلام موجود أيضاً في تفسير العياشي المجلد الثاني (ص:264)، وفي تفسير البرهان المجلد الثاني (ص:375)، وفي تفسير الصافي المجلد الأول (ص:931)، وفي غيرها، وأنا لا أنقل كلمة إلا من مصادرهم؛ حتى لا يحتج علينا أحد بأننا ننقل كلاماً من كلام أئمتنا أهل السنة، بل هذا من كتبهم ومراجعهم الأصلية التي يعتمدون عليها ويرجعون إليها. وهم الحفدة المذكورون في قوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} [النحل:72] قالوا: الحفدة هم الأئمة، وقالوا في قوله تعالى: {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال:47]: أي: عن الأئمة، وقالوا في قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الحاقة:50]: أي: علي رضي الله عنه، وقالوا في قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ} [الحاقة:51]: أي: علي رضي الله عنه، وقالوا في قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]: هو صراط علي رضي الله عنه. هذا شيء رهيب!! والأئمة عندهم هم الأيام والشهور الواردة في القرآن، عقد المجلسي باباً في تفسيره بعنوان: باب تأويل الأيام والشهور بالأئمة عليهم السلام، لو وردت لفظة أيام في القرآن إذاً هي الأئمة، ولفظة الشهور في القرآن تعني: الأئمة، شيء عجيب! بل ستعجبون أنه لو وردت لفظة الأسماء الحسنى لله فهي الأئمة، يروون عن الرضا أنه قال: إذا نزلت بكم شدة فاستعينوا بنا على الله، وهو قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180]، قال أبو عبد الله: نحن والله الأسماء الحسنى الذي لا يقبل من أحد إلا بمعرفتنا، قال: {فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180] أي: ادعوه بنا، أي: بالأئمة. تفسير العياشي المجلد الثاني (ص:42)، تفسير الصافي المجلد الأول (ص:626)، البرهان المجلد الثاني (ص:51).

تفسير الرافضة للآيات الواردة في الكفار والمنافقين

تفسير الرافضة للآيات الواردة في الكفار والمنافقين الآيات التي وردت في الكفار والمنافقين يؤولوها الرافضة في خيار أصحاب سيد المرسلين، تعرّفوا على هذا المعتقد الضال الفاسد، هذه فتنة من أعظم الفتن، فإن كثيراً ممن يشار إليهم بالبنان من أهل السنة لا يعرفون شيئاً عن هذا المعتقد الضال، بل وينكرون على من تكلم عن هؤلاء، ويقولون: إنه لا خلاف بيننا وبينهم إلا في بعض الفروع الفقهية، إنما هو اختلاف مذاهب، فقفوا على هذا المذهب لتعرفوا على هذا الخطر العظيم. يقولون في قوله تعالى: {رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا مِنْ الْجِنِّ وَالإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنْ الأَسْفَلِينَ} [فصلت:29]: هما أبو بكر وعمر رضوان الله عليهما، يقولون: وكان فلان شيطاناً يعني: عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلفظة شيطان يقولون: ما وردت في القرآن كله من أوله إلى آخره إلا ويراد بها عمر رضوان الله عليه! هم يسبون الخيرين الكبيرين الوزيرين الأولين الحبيبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بل يسبون أحب الخلق إلى المصطفى، ففي صحيح البخاري من حديث عمرو بن العاص قال: (قلت: يا رسول الله! أي: الناس أحب إليك؟ قال: عائشة، قال: من الرجال؟ قال: أبوها، قال: ثم من؟ قال: ثم عمر) رضي الله عن أبي بكر وعمر. انظر فروع الكافي في هامش مرآة العقول المجلد الرابع (ص:416). قال المجلسي وهو يشرح كتاب الكافي، وهو تفسير من تفاسير الشيعة المعتمدة الكبيرة، وهو يبين مراد صاحب الكافي بهذه العبارات، قال: (رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا) قال: هما أبو بكر وعمر، والمراد بفلان عمر أي: الجن المذكور في الآية عمر، وإنما سمي به؛ لأن عمر كان شيطاناً على حسب زعمه! وفي قوله تعالى: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} [التوبة:12] يروي العياشي عن حنان بن سدير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سمعته يقول: دخل علي أناس من البصرة فسألوني عن قوله تعالى: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} [التوبة:12] فقال: طلحة والزبير كانا إمامين من أئمة الكفر! طلحة هو صاحب اليد التي قطعت وهو يدفع عن رسول الله، طلحة الجود، طلحة الخير، طلحة الفياض، صاحب اليد التي شلت وهي تذب عن رسول الله يوم أحد، كان إماماً من أئمة الكفر عند الروافض الفجرة، وكذلك الزبير بن العوام حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إماماً من أئمة الكفر عند الروافض! انظر تفسير العياشي المجلد الثاني (ص:77 - 78)، وتفسير البرهان المجلد الثاني (ص:107)، وتفسير الصافي المجلد الأول (ص:685). ويقولون في قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم أعز الدين بـ عمر بن الخطاب أو بـ أبي الحكم عمرو بن هشام) قالوا: لما دعا النبي ربه بهذا الدعاء، نزل عليه قوله تعالى: {وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً} [الكهف:51] ويقصدون عمر رضوان الله عليه، انظر تفسير العياشي، والبرهان، والبحار. ويقولون في قوله تعالى: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [البقرة:168]: خطوات الشيطان: ولاية فلان وفلان، أي: ولاية أبي بكر وعمر. تفسير العياشي، والبرهان، والصافي. وفي قوله تعالى: {إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنْ الْقَوْلِ} [النساء:108] يفترون على أبي جعفر الصادق -برأه الله مما قالوا- أنه قال فيها: فلان وفلان، أي: أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح، وفي رواية أخرى: (إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنْ الْقَوْلِ) افتروا على أبي الحسن أنه قال هما أبو بكر وعمر وفي رواية ثالثة: وأبو عبيدة، وفي رواية: الأول والثاني والثالث أي: أبو بكر وعمر والثالث هو أبو عبيدة، فهؤلاء هم الذين يبيتون في حق علي ما لا يرضى من القول. ويفترون على أبي عبد الله جعفر الصادق في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً} [النساء:137] قال: نزلت في أبي بكر وعمر، آمنوا برسول الله وآله في أول الأمر، ثم كفروا حين عرضت عليهم الولاية لـ علي حيث قال: (من كنت مولاه فـ علي مولاه)، ثم آمنوا بالبيعة لأمير المؤمنين حيث دانوا له بأمر الله وأمر رسوله فبايعوه، ثم كفروا حيث مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقروا بالبيعة، ثم ازدادوا كفراً بأخذهم من بايعوه -أي: من بايعوا علياً - البيعة لهم، فهؤلاء لم يبق لهم من الإيمان شيء. تفسير العياشي المجلد الأول (ص:281)، وتفسير الصافي المجلد الأول (ص:404)، وتفسير البرهان المجلد الأول (ص:422)، وتفسير البحار المجلد الثامن (ص:218).

تأويل الرافضة لآيات يزعمون أنها في المهدي

تأويل الرافضة لآيات يزعمون أنها في المهدي الرافضة يتعسفون في تأويل نصوص القرآن؛ ليثبتوا ما رسخ عندهم من اعتقاد، فلا يتورع أحدهم أبداً من أن يلوي عنق النص من أجل أن يثبت عقيدته الفاسدة الباطلة، فمن أجل إثبات عقيدتهم في مهديهم المنتظر تعسفوا في التأويل، ومهدي الشيعة المنتظر يخالف تماماً المهدي المنتظر عند أهل السنة، كما سأفصل ذلك إن شاء الله تعالى. ففي قوله عز وجل: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة:1 - 3] يقولون: من أقر بأن قيام القائم عليه السلام حق، (يؤمنون بالغيب) يعني: يؤمنون بـ القائم عليه السلام وغيبته. وعن جابر عن أبي جعفر في قوله تعالى: {وَأَذَانٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ} [التوبة:3] قال: خروج القائم، وأذان دعوته إلى نفسه!! إلى آخر هذا الغثاء الذي يتعب القلب والعقل معاً، والأمثلة على تعسفهم في تفسير آيات الله جل وعلا في المهدي المنتظر كثيرة، حتى ألفوا في هذا كتباً مستقلة، ككتاب: ((ما نزل من القرآن في صاحب الزمان)) لـ عبد العزيز الجلودي، وكذلك كتاب: ((المحجة فيما نزل في القائم الحجة)) للسيد هاشم البحراني، وهذا الكتاب كله عبارة عن آيات من القرآن تؤول تأويلاً باطلاً ضالاً، تأويل إلحاد لا لبس فيه ولا غموض، يثبتون بالآيات القرآنية خروج مهديهم المنتظر زاعمين أن هذه الآيات وردت في مهديهم المنتظر.

حكم تأويلات الرافضة الفاسدة للقرآن الكريم

حكم تأويلات الرافضة الفاسدة للقرآن الكريم الرافضة في تأويلهم لآيات الله جل وعلا يتعسفون أيما تعسف، ويحاولون البحث عن آيات يفسرون على ضوئها معتقدهم في التقية، وفي البداء، وفي الرجعة، وفي غير ذلك من معتقداتهم. هذه أمثلة قليلة لتأويلهم لكتاب الله جل وعلا، ولتعسفهم في فهم آيات الله تبارك وتعالى، فهم يفسرون القرآن تفسيراً باطنياً، لا تربطه بالآية على الإطلاق أدنى صلة، وكأن القرآن لم ينزل بلسان عربي مبين، وكأنه لم يجعله الله تبارك وتعالى هداية ودستوراً للخلق أجمعين، فالله تعالى قال: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17] هذا القرآن يخاطب العالم، ولا شك أن تلك التأويلات إلحاد في كتاب الله تعالى، قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} [فصلت:40] الإلحاد: هو أن يوضع الكلام في غير موضعه، وذلك بالانحراف في تأويله. وقال صاحب (الإكليل) الإمام السيوطي رحمه الله تعالى: في هذه الآية: (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا) الرد على من تعاطى تفسير القرآن بما لا يدل عليه جوهر اللفظ كما يفعله الباطنية والاتحادية والملاحدة. وقال صاحب كتاب: إكفار الملحدين محمد أنور شاه الكشميري (ص:2): وهؤلاء الذين يلحدون في آيات الله ويحرفونها عن معانيها، وإن كتموا كفرهم وتستروا بالتأويل الباطل وأرادوا الإخفاء، لكنهم لا يخفون على الله تعالى.

حقيقة كتاب التبيان للطوسي والبيان للطبرسي

حقيقة كتاب التبيان للطوسي والبيان للطبرسي أقول: إننا لا نتورع البتة أن نثبت الحق إن رأينا شيئاً من الحق، فعند الرافضة كتابان هما: كتاب التبيان للطوسي، وكتاب مجمع البيان للطبرسي، هذان الكتابان من كتب التفسير عند الشيعة، وقد سلما عن هذا الإلحاد المبين في تفسير آيات رب العالمين، وإن كان هذان الكتابان قد دافعا عن أصول العقيدة الشيعية في بعض الآيات، ولكنهما -للأمانة- لا يقاربان بحال ما ورد في تفسير العياشي أو الكافي أو البحار أو الصافي أو غيرها. وكان من المفترض أن ننوه إلى هذا من باب العدل والإنصاف، لولا أن وقفنا على سر خطير لعالم الشيعة ومحدثها وخبير رجالها وصاحب آخر مجموع من مجامعها الحديثية، وهذا الرجل هو أستاذ كثير من علماء الشيعة الأقطاب كـ محمد حسين آل كاشف الغطاء، وآغا بزرك الطهراني وغيرهما، هذا العالم هو عالم الشيعة الكبير: حسين النوري الطبرسي، كشف لنا سراً خطيراً بقي دفيناً، ولولاه ما أمطنا اللثام عن حقيقة كانت مجهولة لدينا، اسمع ماذا قال عن كتاب التبيان للطوسي الذي ذكرته الآن؟! قال: (ثم لا يخفى على المتأمل في كتاب التبيان أن طريقته فيه على سبيل المداراة والمماشاة مع المخالفين) وهذا أصل من أصول الشيعة الذي يقال له: التقية، هذا كلام عالم من علمائهم في كتاب التبيان. ويقول في كتاب مجمع البيان: (ثم لا يخفى على المتأمل في (مجمع البيان) أيضاً أن طريقته فيه على سبيل المداراة والمماشاة مع المخالفين، فإنك تراه اقتصر في تفسير الآيات على نقل كلام الحسن وقتادة والضحاك والسدي وابن جريج والجبائي والزجاج وابن زيد وأمثالهم، ولم ينقل عن أحد من مفسري الإمامية، ولم يذكر خبراً عن أحد من الأئمة عليهم السلام إلا قليلاً في بعض المواضع، لعله وافقه في نقله المخالفون، بل عد الأولين في الطبقة الأولى من المفسرين الذين حمدت طرائقهم، ومدحت مذاهبهم، وهو بمكان من الغرابة لو لم يكن على وجه من المماشاة). فمن المحتمل أن يكون الأمر كما قال، وممن يؤيد كون وضع الكتاب على التقية السيد علي بن طاوس في كتابه ((سعد السعود)) وهذا لفظه: (ونحن نذكر ما حكاه جدي أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي في كتاب ((التبيان))، وحملته التقية على الاقتصار عليه من تفصيل المكي من المدني، والخلاف في أوقات إلخ هكذا لم يكمل الطوسي العبارة، وقال الطبرسي معقباً، وهو أعرف بما قال -أي: الطوسي -: لا يخفى هذا على من اطلع على مقامه فتأمل). أعتقد أن الكلام الذي ذكر في التبيان أو في مجمع البيان هو على سبيل المجاراة، وعلى سبيل التقية، لكن العقيدة واحدة لا تتبدل ولا تتغير. ومن هذا الكلام يتبين أن التبيان للطوسي قد وضع على أسلوب التقية، كما هو رأي عالم الشيعة الكبير المعاصر كما ذكرت، أو أن يكون تفسير التبيان قد صدر من الطوسي نتيجة اقتناع فكري بإسفاف ما عليه القوم من تفسير، ومعنى هذا أن شيعة اليوم هم أشد غلواً وتطرفاً؛ ولذا تراهم يعتبرون تفسير الطوسي وأمثاله من التفاسير التي ألفت للخصوم، والتزمت بروح التقية؛ لتبشر بالعقيدة الشيعية بين من لا يدينون بعقيدة الروافض. وقد سار على نهج الطوسي عالمهم أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي، وهو من أكابر علمائهم في القرن السادس الهجري، وقد أشار الطبرسي في مقدمة تفسيره إلى اتباعه لمنهج الطوسي حيث قال: (إلا ما جمعه الشيخ الأجل السعيد أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي قدس الله روحه من كتاب التبيان، فإنه الكتاب الذي يقتبس منه ضياء الحق، ويلوح عليه رواء الصدق، وهو القدوة أستضيء بأنواره، وأتتبع مواقع آثاره) يعني: هو يقتفي وينسج على نهج كتاب التبيان.

بطلان ادعاء الرافضة نزول وحي غير القرآن

بطلان ادعاء الرافضة نزول وحي غير القرآن من أبشع ما وقفت عليه أن الشيعة الرافضة لم يكتفوا بالقول بتحريف كتاب الله جل وعلا على الحد الذي بينت، بل زعموا أن كتباً أخرى كالقرآن أنزلها الله على علي وعلى فاطمة، هل سمعتم بهذا؟! الروافض يعتقدون أن كتباً أخرى كالقرآن نزلت على فاطمة وعلى علي رضي الله عنهما وبرأهما الله مما قالوا. فلقد تضمنت كتب الشيعة ومراجعها المعتبرة دعاوى عرضية ومزاعم خطيرة، تزعم أن هناك كتباً مقدسة قد نزلت من السماء بوحي من الله جل وعلا إلى الأئمة، وأحياناً تورد كتب الشيعة الأصلية نصوصاً وروايات، ويزعمون أن هذه النصوص وتلك الروايات مأخوذة من الكتب التي نزلت على الأئمة، وعلى رأسهم علي رضوان الله عليه وبرأه الله مما قالوا.

أدلة الرافضة في إثبات وحي غير القرآن

أدلة الرافضة في إثبات وحي غير القرآن أنقل إليكم بعض النصوص باختصار بكل أمانة في هذا المبحث الخطير من مباحث الروافض، وتدبر معي هذه الأسطورة الخطيرة: يروي الكليني بسنده عن حماد بن عثمان قال: سمعت أبا عبد الله -يعني: جعفر الصادق برأه الله مما قالوا- يقول: يظهر الزنادقة في سنة ثمان وعشرين ومائة، وذلك أني نظرت في مصحف فاطمة عليها السلام، قال: قلت: وما مصحف فاطمة؟ قال: إن الله تعالى لما قبض نبيه صلى الله عليه وسلم دخل على فاطمة عليها السلام من وفاته من الحزن ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، فأرسل الله إليها ملكاً يسلي غمها ويحدثها، فشكت ذلك إلى أمير المؤمنين عليه السلام، فقال لها علي: إذا أحسست بذلك وسمعت الصوت -أي: صوت الملك- فقولي لي، فأعلمته بذلك، فجعل أمير المؤمنين يكتب كلما سمع من الملك، حتى أثبت من ذلك مصحفه، ثم قال: أما إنه ليس فيه شيء من الحلال والحرام، ولكن فيه علم ما سيكون. أصول الكافي، كتاب الحجة، باب فيه ذكر الصحيفة (ص:240) المجلد الأول. وفي كتاب (دلائل الإمامة) -وهو من كتبهم المعتمدة عندهم- ترد رواية تصف مصحف فاطمة المزعوم، بأن فيه خبر ما كان وما يكون إلى يوم القيامة، وفيه خبر كل سماء، وفيه خبر عدد ما في السماوات من الملائكة، وفيه عدد كل من خلق الله من المرسلين بأسمائهم وأسماء من أرسل إليهم، وأسماء من كذب، وأسماء من أجاب، وأسماء جميع من خلق الله من المؤمنين والكافرين، وفيه أيضاً صفة كل من كذب، وصفة القرون الأولى، وفيه صفة كل من ولي من الطواغيت بمدة ملكهم وعددهم، وأسماء الأئمة وصفتهم، وما يملك كل واحد، وفي هذا المصحف جميع ما خلق الله، وفيه صفة أهل الجنة بأعدادهم ومن يدخلها، وبعدد من يدخل النار وبأسمائهم، وفيه علم القرآن كما أنزل، وفيه علم التوراة كما أنزلت، وفيه علم الإنجيل كما أنزل، وفيه علم الزبور، وفيه عدد كل شجرة ومدرة في جميع البلاد. وهذا نقله محمد بن جرير بن رستم الطبري -وهذا غير ابن جرير الطبري إمام من أئمة أهل السنة- في كتابه (دلائل الإمامة) (ص:27، 28). والله أمور تمرض القلب، وأنا أصبت بالغم أكثر من مرة هذا الأسبوع، والحقيقة أن الواحد لا يعرف كيف يكون حجم هذا المصحف الذي فيه هذه العلوم؟! وكيف يقرأ؟! وإذا كان العلم هذا كله عند الأئمة -والولاية مفقودة منهم من مئات السنين- فلماذا لا يقدرون أن يستردوا الولاية بهذا العلم؟ هذا كلام لا يمت إلى العقل، ولا إلى الفهم الصحيح بأدنى صلة، بل ولا إلى الفهم السقيم بأدنى صلة، وتذكر رواية دلائل الإمامة صفة نزول هذا المصحف على خلاف ما جاء في الرواية السابقة التي في الكافي، ففي الرواية السابقة أن الملك كان يأتي وسيدنا علي قال للسيدة فاطمة: لما يأتي الملك أعلميني به، وبدأ هو يكتب، لكن الرواية الأخرى تصف نزول هذا المصحف على خلاف ما جاء في الرواية التي في الكافي، فتذكر رواية دلائل الإمامة أنه نزل -أي: مصحف فاطمة- جملة واحدة من السماء، بواسطة ثلاثة من الملائكة هم: جبريل وإسرافيل وميكائيل، فهبطوا به وفاطمة رضوان الله عليها وبرأها الله مما قالوا قائمة تصلي، فما زالوا قياماً حتى قعدت، ثم فرغت من صلاتها، وسلموا عليها وقالوا: السلام يقرئك السلام، ووضعوا المصحف في حجرها، فقالت فاطمة: لله السلام، ومنه السلام، وإليه السلام، وعليكم -يا رسل الله- السلام، ثم عرجوا إلى السماء، فما زالت من بعد صلاة الفجر إلى زوال الشمس تقرؤه حتى أتت على آخره، قالوا: ولقد كانت عليها السلام مفروضة الطاعة على جميع من خلق الله من الجن والإنس والطير والوحش والأنبياء والملائكة! وفي الراوية: قلت: جعلت فداك! فلمن صار ذلك المصحف بعد مضيها -أي: بعد موتها-؟ فقال: دفعته إلى أمير المؤمنين علي، فلما مضى علي -أي: قتل- صار إلى الحسن، ثم إلى الحسين، ثم عند أهله حتى يدفعوه إلى صاحب هذا الأمر يعني: مهديهم المنتظر. وأيضاً هم يدّعون غير مصحف فاطمة، فيؤمنون بنزول اثني عشر صحيفة من السماء تتضمن صفات الأئمة كما في حديث طويل من أحاديثهم يرويه صدوقهم ابن بابويه القمي، وهم يلقبونه بـ الصدوق، يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله تبارك وتعالى أنزل علي اثني عشر خاتماً، واثني عشر صحيفة، اسم كل إمام على خاتمة، وصفته في صحيفته)، وهذا الكلام موجود في كتاب (إكمال الدين) لـ ابن بابويه القمي (ص:263). أكتفي بهذا القدر من هذا الغثاء، ومن هذا التأويل الباطل والمتعسف في كتاب الله عز وجل؛ ليقف كل مسلم على حقيقة معتقد القوم، فإن القول بأن الخلاف بين أهل السنة وبين الشيعة خلاف في فروع المسائل الفقهية فهو كلام ضال يحتاج صاحبه إلى توبة إلى الله جل وعلا إن كان يفهم ما يقول، ويحتاج إلى أن يتعلم إن كان يجهل ما يقول، فالأمر جد خطير، إنه أمر اعتقاد. وأواصل إن شاء الله تعالى في الأسبوع المقبل -إن قدر الله لنا البقاء واللقاء- الكلام عن معتقد القوم في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، بعد ما أجملت في محاضرتين مجمل معتقد القوم في تحريف القرآن الكريم وتزويره وتأويله، فأبين معتقدهم في سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أبين كذلك معتقدهم في أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام.

أمواج الردة وصخرة الإيمان

أمواج الردة وصخرة الإيمان أعداء الإسلام يعلمون جيداً أنه لا سبيل لهم إلى هذه الأمة إلا بعد زعزعة ثوابتها، وتشكيكها في دينها، ولذلك خططوا بالليل والنهار للقضاء على ثوابت الأمة عن طريق الممسوخين والمرتدين من أبنائها، ليكون ذلك أبلغ وأعظم مكراً، وبالرغم من دهائهم وضخامة ما بذلوه من مال ووقت وجهد، إلا أن أمواجهم تحطمت على صخرة الإيمان، وباء مشروعهم بالفشل، والله غالب على أمره.

دعاة على أبواب جهنم

دعاة على أبواب جهنم بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة وبلغ الرسالة ونصح للأمة فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة الفضلاء! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم -جميعاً- من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم الكريم جل وعلا الذي جمعني مع حضراتكم في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار مقامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أمواج الردة وصخرة الإيمان، هذا هو عنوان لقائنا مع حضراتكم، وينتظم هذا الموضوع الخطير المهم العناصر المحددة التالية: أولاً: دعاة على أبواب جهنم. ثانياً: الحرب على الثوابت. ثالثاً: ما المخرج من هذه الفتن. رابعاً: وستنكسر كل أمواج الردة على صخرة الإيمان. فأعيروني القلوب والأسماع جيداً، فإن هذا الموضوع الآن من الأهمية والخطورة بمكان، والله أسأل أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:18]. أولاً: دعاة على أبواب جهنم. إننا نعيش الآن زماناً قد كلف فيه الذئاب برعي الأغنام: وراعي الشاة يحمي الذئب عنها فكيف إذا الرعاة لها الذئاب وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأيام وصفاً دقيقاً محكماً كما في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد والحاكم وابن ماجة من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سيأتي على الناس سنوات خداعات، يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة، قيل: من الرويبضة يا رسول الله؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة)، وفي لفظ قال: (الرجل السفيه يتكلم في أمر العامة)، والله لقد تكلم السفهاء والتافهون لا في أمر العوام بل في أمر الإسلام. إنهم يعلنون الحرب لا على الفرعيات والجزئيات، بل على الأصول والكليات، وممكن الخطر: أنهم يعلنون الحرب على الإسلام باسم الإسلام، ويهدمون أركان وأصول وثوابت الدين باسم الدين، بأسلوب خبيث لا ينتبه لخطره كثير من المسلمين. وقد وصف الصادق المصدوق، الذين لا ينطق عن الهوى -صلى الله عليه وسلم- هذا الصنف الخبيث وصفاً دقيقاً كما في الصحيحين من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: (كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وأنا أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير -أي: بهذا الإسلام- فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم وفيه دخن، قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر، قلت: فهل بعد ذلك الخير -أي: الذي شابه الدخن- من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها، قلت: صفهم لنا يا رسول الله، فقال الصادق الذي لا ينطق عن الهوى: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا) وفي رواية مسلم: (رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس) يا له من وصف دقيق من الصادق، ومع ذلك فهم يزعمون أنهم المسددون والمصلحون والمثقفون إلخ، ولكنهم في الحقيقة كما قال الله تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ * وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة:12 - 16]. نعم، وأنى لهذا الصنف الخبيث الهدى، وهم يعلنون الحرب على أركان وثوابت الإسلام؟! وهذا هو عنصرنا الثاني والمهم من عناصر اللقاء.

مراحل الحرب على ثوابت الإسلام

مراحل الحرب على ثوابت الإسلام كثيرة هي الحروب التي أعلنت على الإسلام منذ أن يزغ فجره، واستفاض نوره، لكننا نشهد في السنوات القليلة الماضية وإلى اليوم حرباً سافرة عاتية من نوع جديد، والمصيبة الكبرى: أن الذي يشعل فتيلها ويتولى كبرها رجال من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، ويهدفون إلى النيل من أركان وأصول وثوابت هذا الدين، أولئك الذين يسمون بالنخبة من أدعياء الثقافة والتحرير والتنوير والفن والعلم والأدب، ممن أحيطوا في مجتمعات المسلمين بهالة من الدعاية الكاذبة، ولقبوا في أمة الإسلام بأضخم الألقاب والأوصاف! تلك الألقاب والأوصاف التي تغطي جهلهم وانحرافهم، وتنفخ فيهم ليكونوا شيئاً مذكوراً، للي أعناق البسطاء من المسلمين إلى عقيدتهم وأفكارهم لياً، وهم في الحقيقة كالطبل الأجوف، يسمع من بعيد وباطنه من كل الخيرات فارغ. هذه الحرب تتم الآن في أنحاء العالم الإسلامي بصورة منظمة مخططة، عبر مراحل دقيقة، وعبر خطوات منظمة، وأستطيع أن أقدم لحضراتكم الخطوات الخبيثة والمراحل الخطيرة لهذه الحرب في نقاط محددة، وأرجو أن تنتبهوا، فهذا الذي سأذكره الآن خلاصة جهد سنتين كاملتين، وأنا أجمع من هنا وهنالك من أرجاء العالم الإسلامي، لا في مصر وحدها، لأقدم لحضراتكم هذه الصورة لهذه الحرب التي تتم، وأقول ذلك بقناعة مطلقة، فهي تتم بصورة منظمة مخططة وعبر مراحل محددة.

تضخيم العقل والتهوين من النص

تضخيم العقل والتهوين من النص المرحلة الأولى من مراحل هذه الحرب هي: التضخيم المستمر والمتعمد للعقل ومكانته، وأنا لا أريد أن أقلل من شأن العقل أبداً، بل إنني أعلنها: إن نور الوحي لا يطمس نور العقل أبداً بل يباركه ويزكيه ويقويه، لكن انظر إلى التضخيم المستمر والمتعمد للعقل ومكانته، مع التهوين والتحقير والتقليل من شأن النص ومكانته مهما كانت درجة ثبوت النص من الناحية العلمية. لقد طالبوا صراحة وقالوا: لابد من إعادة النظر في القاعدة الأصولية التي أجمعت عليها الأمة، والتي تقول: (لا اجتهاد مع النص) قالوا: لابد من إعادة النظر في هذه القاعدة، لماذا؟ قالوا: لأنها تشكل حجراً على العقل البشري الذي وصل إلى ما وصل إليه الآن، في عصر الذرة وأتبيس الفضاء دسكفري، واخترع القنبلة النووية، وصنع القنبلة الجرثومية، وغاص في أعماق البحار وانطلق في أجواء الفضاء؛ هذه القاعدة تشكل حجراً على هذا العقل البشري المبدع! إذاً: لا ينبغي أن نذعن لها، وإنما يجوز للعقل أن يجتهد حتى ولو كان النص في القرآن والسنة. ومحال أن يصل العقل إلى حقائق الإيمان، وأركان وأصول وثوابت الإسلام بدون الوحي أبداً؛ إذ كيف يتعرف العقل على ذات الله؟! كيف يتعرف العقل على أسماء الجلال وصفات الكمال؟! كيف يتعرف العقل على الكتب السابقة وعلى الرسل السابقين؟! كيف يتعرف العقل على أمور الغيب كلها، من أول الموت إلى الجنة أو النار؟! كيف يتعرف العقل على كيفية الصلاة وكيفية الزكاة، وكيفية العمرة، وكيفية الحج، دون أن يرجع إلى الوحي المعصوم، إلى النص القرآني، والنص النبوي على صاحبه الصلاة والسلام؟! هذا مستحيل، ولله در ابن القيم إذ يقول: لا يستقل العقل دون هداية بالوحي تأصيلاً ولا تفصيلاً كالطرف دون النور ليس بمدرك حتى يراه بكرة وأصيلاً نور النبوة مثل نور الشمس للـ عين البصيرة فاتخذه دليلاً فإذا النبوة لم ينلك ضياؤها فالعقل لا يهديك قط سبيلاً طرق الهدى مسدودة إلا على من أم هذا الوحي والتنزيلاً فإذا عدلت عن الطريق تعمداً فأعلم بأنك ما أردت وصولاً يا طالباً درك الهدى بالعقل دو ن النقل لن تلقى لذاك دليلاً أرجح عقل عرفته الأرض هو عقل المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك فلقد أخبرنا القرآن الكريم أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يدري شيئاً عن الكتاب ولا عن الإيمان إلا بعد أن أوحى إليه الرحيم الرحمن، قال جل وعلا: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى:52]، فإذا كان المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو صاحب أرجح وأطهر وأشرف عقل عرفته الأرض، لا يدري عن الكتاب ولا عن حقائق الإيمان شيئاً، حتى أوحى الله إليه؛ فهل يجرؤ عاقل بعد ذلك أن يزعم أنه يستطيع أن يتعرف على حقائق الإيمان وحقائق الكتاب بعقله فقط دون النقل؟! {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} [مريم:89 - 90]. فهذه المرحلة: مرحلة التضخيم للعقل مع التشكيك والتهوين للنص، تجاوزوها وانتقلوا إلى المرحلة الثانية من مراحل هذه الحرب المخططة.

التشكيك في حملة النص

التشكيك في حملة النص المرحلة الثانية: التشكيك في حملة النص، وهم الصحابة رضوان الله عليهم، فحاولوا أن يقدحوا في عدالة الصحابة، وأن يشوهوا صور الصحابة، لماذا؟ ليهدموا الدين كله؛ لأن الذي نقل إلينا الدين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أصحابه، فهدم الصحابة هدم للدين كله. فهذا شيخ من شيوخ الضلالة يقول في كتاب من كتبه الخبيثة، ولست ملزماً بأن أذكر أسماء هؤلاء، ولا أسماء كتبهم، حتى لا نروج لهذه الأسماء الخبيثة، ولا لهذه الكتب الضالة من حيث لا ندري، أما من اشتهر منهم بالاسم وأصبح أمره معلوماً فسنذكر اسمه إن شاء الله في الخطبة المقبلة بإذن الله، لكن مادام الاسم مطموساً، وما دام الكتاب مجهولاً، فليس من الفقه ولا من الحكمة أن أذكر أسماء هؤلاء الخبثاء ولا كتبهم، حتى لا نروج لهذه الأسماء ولا لهذه الكتب بين هذه الآلاف المؤلفة من المسلمين، وربما يتأثر ضعيف النفس بهذا فيذهب إلى كتاب من هذه الكتب الضالة فينحرف؛ لأنه لم يؤصل ابتداءً قواعد الإيمان وحقائق أصول البحث العلمي. يقول شيخ من شيوخ الضلالة في كتاب من كتبه الخبيثة، وهو يريد أن يجرح الصحابة نقلة النصوص، إن الصحابة كانوا يمثلون مجتمعاً متحللاً مشغولاً بالرذائل والهوس الجنسي. ثم يقول هذا الوضيع: ولم تكن التجاوزات مقصورة على مشاهير الصحابة، بل تعدتهم إلى صحابيات معروفات! ثم يقول هذا الخبيث أيضاً: لما كان التقاء الذكر بالأنثى والأنثى بالذكر طقساً يومياً من الطقوس الاجتماعية المعتادة في مجتمع يثرب، فقد اضطر محمد- هكذا بكل صفاقة وسوء أدب- فقد اضطر محمد أن يبيح لهم أن يمروا في المسجد وهم جنب. وهكذا تبين كلماتهم الخبيثة فساد عقيدتهم، وخبث نيتهم وطويتهم، ورحم الله إمام دار الهجرة مالك بن أنس إذ يقول: من وجد في قلبه غيظاً على أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقد أصابه قول الله تعالى: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29]. يعني قول الله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29]، قال مالك: فمن وجد في قلبه غيضاً على أحد من أصحاب النبي فقد أصابه قول الله: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29]. ويقول الحافظ أبو زرعة: إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فاعلم بأنه زنديق. ويقول الإمام الطحاوي في عقيدته المشهورة: ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونبغض من يبغضهم وبغير الخير يذكرهم، فحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان. وما أجمل وأحلى وأرق ما قاله ابن مسعود رضي الله عنه، والأثر في مسند أحمد بسند حسن؛ قال ابن مسعود رضي الله عنه: إن الله تعالى نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب أهل الأرض، فاصطفاه الله لرسالته ونبوته، ثم نظر الله في قلوب العباد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب أهل الأرض، فاختارهم وجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه. وما أجمل ما قاله ابن مسعود أيضاً: من كان مستناً فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أفضل هذه الأمة؛ أبرها قلوباً وأعمقها علماً وأقلها تكلفاً، اختارهم الله لصحبة نبيه، ولإقامة دينه فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم على آثارهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم. فالذي اختار الصحابة هو رب العالمين، والذي زكاهم وشهد لهم هو سيد المرسلين، وسأكتفي بآية وحديث فقط، قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:100]. وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسبوا أصحابي! فوالذي نفس محمد بيده لو أنفق أحدكم مثل جبل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه). بعد هذا التكريم يأتي هذا الخبيث القزم وأمثاله من الخبثاء الأقزام؛ ليشككوا في الصحابة الذين نقلوا إلينا الدين كله. على أي حال فلا أجد لهؤلاء الخبثاء الحاقدين مثلاً إلا كمثل ذبابة حقيرة سقطت على نخلة عملاقة، فلما أرادت الذبابة الحقيرة أن تنصرف قالت للنخلة العملاقة: تماسكي أيتها النخلة؛ لأني راحلة عنكِ! فقالت لها النخلة العملاقة: انصرفي أيتها الذبابة الحقيرة، فهل شعرتُ بكِ حينما سقطت عليَّ لأستعد لكِ وأنت راحلة عني! لا يضر السماء أن تمتد إليها يد شلاء.

التشكيك في النص النبوي

التشكيك في النص النبوي ثم تجاوزوا المرحلة الثانية وهي مرحلة التشكيك فيمن نقل إلينا النصوص إلى المرحلة الثالثة؛ وهي: مرحلة التشكيك في النصوص، وقالوا: الإسلام هو القرآن فقط دون السنة! والسنة فيها الضعيف وفيها الموضوع، وينبغي أن نقف أمام القرآن فحسب، تحت ستار أننا نريد أن نصحح أو ننقح السنة، فشككوا في النص النبوي، وقالوا بعدم حجية السنة. وهأنتم تتابعون منذ سنوات عشرات الكتب التي تطعن في سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وتقول بعدم حجية السنة، وبأنه لا يلزمنا إلا أن نأخذ بالقرآن فحسب، وما أجمل ما قاله الإمام الأوزاعي: القرآن أحوج إلى السنة من السنة إلى القرآن، أي: لا يمكن أبداً أن تفهم القرآن بدون سنة النبي عليه الصلاة والسلام. وما أقعد ما قاله ابن القيم في كتابه النافع إعلام الموقعين إذ يقول: السنة مع القرآن على ثلاثة أوجه: الوجه الأول: أن تكون السنة موافقة للقرآن من كل وجه، وهذا من باب توارد الأدلة وتضافرها في المسألة الواحدة. فيأمر القرآن بالصلاة فتأمر السنة بالصلاة، يأمر القرآن بتحقيق التوحيد فتأمر السنة بتحقيق التوحيد، وهذا من باب توارد الأدلة في الباب الواحد. الوجه الثاني: أن تكون السنة بياناً وتفسيراً لما أجمله القرآن. وهذا كثير جداً، فتجد كتاب الله يأمر بالصلاة فيقول سبحانه: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة:43]، لكن كيف أصلي؟ كم عدد الصلوات؟ ما أركان الصلاة؟ ما مبطلات الصلاة؟ فيأتي صحاب السنة ليفسر هذا الأمر المجمل ويقول: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، ويأمر القرآن بالحج والعمرة: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196]، لكن كيف أحج؟ ما أركان الحج؟ ما مبطلات الحج؟ فيأتي صاحب السنة ليقول: (خذوا عني مناسككم) وهكذا. الوجه الثالث: أن تكون السنة موجبة لما سكت القرآن عن إيجابه أو محرمة لما سكت القرآن عن تحريمه. والسنة هنا تعد مصدراً مستقلاً من مصادر التشريع، ففي الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة من حديث المقدام بن معد يكرب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان متكئ على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه). يقول المصطفى: (ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السباع، ولا لقطة المعاهد)، وفي رواية: (فإنما حرم رسول الله كما حرم الله عز وجل). ألم يقل الله سبحانه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر:7].

التشكيك في النص القرآني

التشكيك في النص القرآني ثم انتقلوا من مرحلة التشكيك في النص النبوي إلى المرحلة الخطيرة والتي لابد منها، ألا وهي: التشكيك في النص القرآني ذاته! الله أكبر! كيف ذلك؟ هل شكك أحد في نص القرآن؟ نعم، بل إن التشكيك في السنة مرحلة لابد منها للانتقال إلى هذه المرحلة الرابعة والخطيرة، وهي مرحلة التشكيك في النص القرآني، يقول خبيث وضعيف حكم القضاء المصري بردته في السنوات القليلة الماضية؛ يقول في كتاب من كتبه الخبيثة: إن القرآن نص بشري لا قدسية له! ثم يقول: وإن عقيدة القرآن مؤسسة على الأساطير الشائعة؛ أي: على الحكايات والخرافات والخزعبلات التي شاعت في مجتمع الجزيرة العربية! ثم يقول هذا الخبيث المرتد: لا زال الخطاب الديني متمسكاً بوجود القرآن في اللوح المحفوظ! اعتمادا ًعلى فهم حرفي للنص، ولازال متمسكاً بصورة الإله بعرشه وكرسيه وصولجانه ومملكته وجنوده من الملائكة! ولازال متمسكاً بالحرفية ذاتها في الجن، والشياطين، والسجلات التي تدون فيها أعمال العباد، والأخطر من ذلك أنه لازال متمسكاً بصور الثواب والعقاب كعذاب القبر ونعيمه، والمرور على الصراط ومشاهد القيامة، والجنة والنار، إلى آخر تلك التصورات الأسطورية! انتبهوا جيداً؛ لتعرفوا حجم المؤامرة والحرب الكبرى، بهذا يكون هذا الرقيع الخبيث المرتد قد هدم عقيدة القرآن من أول سورة الفاتحة إلى سورة الناس. وسبقه رائد خبيث من رواد هذا الجيل، ضُخم ولُقب بأعظم الألقاب! وافتتن كثير من الصفوة فضلاً عن العامة به وبكلامه وبأسلوبه، يقول بالحرف: القرآن قابل للنقد باعتباره كتاباً أدبياً، ثم يقول: وجود إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام -عليهما السلام من عندي أنا وليس من عند هذا الخبيث وأمثاله- يقول: وجود إبراهيم وإسماعيل أمر مشكوك فيه، ولو ذكروا في التوراة والإنجيل والقرآن، فلسنا ملزمين بتصديق أي من هذه الكتب! مراحل وخطوات منظمة.

التشكيك في ذات الله تعالى

التشكيك في ذات الله تعالى وتجاوزوا هذه المرحلة، الله أكبر! أتريد أن تذكر شيئاً بعد ذلك؟ لقد شككوا في النص النبوي وفي النص القرآني، فماذا تريد أن تقول بعد ذلك من خطوات هذه الحرب؟! وصلوا في المرحلة الأخيرة التي نعيشها إلى التشكيك في ذات الله جل وعلا! إي وربي لقد شرقتُ وغربتُ في العالم الإسلامي كله لأقرأ، لأستخرج عفن أولئك الذين يشكلون الآن عقلية أبناء الأمة! أولئك الذين يديرون دفة التوجيه والتربية الآن في الأمة! فهذا صنم حقير من سوريا ولا زالت كتبه ودواوينه تطبع وتنشر في المعارض الدولية في كل مكان، يقول هذا الصنم: لا أختار الله ولا أختار الشيطان كلاهما جدار يغلق لي عيني فهل أبدل الجدار بالجدار؟! ويقول هذا الخبيث أيضاً: الله في التصور الإسلامي التقليدي نقطة ثابتة متعالية منفصلة عن الإنسان، لكن التصوف على مذهب الحلاج قد أذاب ثبات الألوهية، وأزال الحاجز بين الألوهية وبين الإنسان، وبهذا المعنى يكون الحلاج قد قتل الله وأعطى للإنسان طاقاته! ويقول هذا الخبيث أيضاً: يا أرضنا يا زوجة الإله والطغاة! ويقول هذا الخبيث أيضاً: نمضي ولا نصغي لذلك الإله فلقد تقنا إلى رب جديد سواه. سبحان الحليم الصبور على كل شيطان رجيم كفور، سبحانك ربي ما أحلمك، {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:89 - 95]. سيقف الجميع بين يدي الملك، ليعلم هؤلاء الخبثاء عظمة رب الأرض والسماء، فوالله ثم والله لولا حلم الله وستر الله لخسف بنا الأرض. وهذا صنم خبيث خطير من العراق يقول: الله في مدينتي يبيعه اليهود! والله لو قال ذلك على صدام المجرم لقتل بالرصاص في ميدان عام، أما أن يسب الله فلا يتحرك أحد، ولا تحترق القلوب؛ يقول هذا الصنم: الله في مدينتي يبيعه اليهود الله في مدينتي شريد طريد. ويقول هذا الصنم: الله مات وعادت الأنصاب. ويقول هذا الخبيث أيضاً: يسقط كل شيء الشمس والقمر والنجوم والجبال والوديان والأنهار والشيطان والإنسان والله وهذا صنم آخر من فلسطين الذبيحة يقول لعشيقته: نامي فعين الله نائمة عنا وأسراب الشحارير وهذا صنم آخر من فلسطين يقول: آخر ديك صاح قد ذبحناه لم يبق سوى الله يغدو كغزال أخضر تتبعه كل كلاب الصيد سنطارده سنصيد الله وهذا صنم آخر من اليمن -لتعلموا أن الأمر عام في كل أرجاء الأمة- يقول هذا الصنم الخبيث: صار الله رماداً صمتاً رعباً في كف الجلادين صار الله حقلاً ينبت مسابح وعمائم. اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا، ولا تؤاخذنا بما قال الكافرون والسفهاء منا، اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا ولا تؤاخذنا بما فعل وقال السفهاء الكافرون منا، يا أرحم الراحمين، نشهد لك بالجلال، ونقر لك بالعظمة والكمال، نشهد لك بالجلال، نشهد لك بالجلال، ونقر لك بالعظمة والكمال، ونردد ما علمتناه، {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255]. الله اسم لصاحبه كل جمال. الله اسم لصاحبه كل كمال. الله اسم لصاحبه كل جلال. هذا الكم الهائل من النقولات الكفرية، إنما هو لرموز الثقافة والتنوير في العالم الإسلامي كله، ولا أستطيع أن أستقصي كل أقولهم وفضائحهم، بل ولا أستطيع أيضاً أن أستقصي نقولات تلاميذهم من شباب صاعد تربى على هذه الموائد الكفرية العفنة.

المخرج من هذه الفتن

المخرج من هذه الفتن ثم بعد ذلك اتهموا شبابنا بالتطرف والإرهاب؟! والسؤال الآن: ما الحل؟ ما المخرج؟ وهذا هو عنصرنا الثالث من عناصر هذا اللقاء: ما المخرج من هذه الفتن؟

إحياء حد الردة وتطبيقه على المرتدين

إحياء حد الردة وتطبيقه على المرتدين تحكيم الشريعة الإسلامية وإقامة حد الردة على هؤلاء المرتدين الخبثاء، إن القوانين الوضعية كانت أخطر سبب من أسباب انتشار هذه الردة؛ لأن القوانين الوضعية في الوقت الذي تقيم فيه أشد العقوبات على من خرج على القانون، فإنها لا تذكر عقوبة على من خرج عن الإسلام. قد تصل العقوبة في القانون الوضعي إلى حد الإعدام لمن اتهم بتهمة الخيانة العظمى، والمراد بها هنا خيانة الوطن، في الوقت الذي لا نرى فيه عقوبة تذكر لمن خرج على الإسلام، بدعوى أن الإنسان حر في اختيار عقيدته. نعم لا أخالفك أن الإنسان حر في اختيار عقيدته إن كان يهودياً أو نصرانياً أو بوذياً؛ لكن بشرط أن لا يحال بيننا وبينه في أن نبلغه دعوة الله، وأن نقيم عليه حجة الله، فإن بلغناه الدين وأقمنا عليه الحجة ولم يحل بيننا وبين ذلك أحد، فله بعد ذلك أن يختار من الدين ما يشاء، {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} [البقرة:256]، لكننا أمام مسلم دخل الإسلام مختاراً طائعاً، وارتد عن الإسلام بصورة علنية تعبر عن استخفافه بعقيدة الأمة، هذا خروج يقوض بنيان المجتمع الإسلامي من قواعده، فلو ارتد هذا وارتد ذاك وارتد الثالث وارتد العاشر، لفتح الباب على مصراعيه لمرضى القلوب من المنافقين الذين لا يخلو منهم زمان ولا مكان للتشكيك في عقيدة الإسلام ذاتها. فهذا أمر خطير، ومن أجل ذلك فإن الشريعة العصماء لم تتساهل أبداً مع هذا الصنف الخبيث من المرتدين، بل أمرت أن يمهل المرتد ثلاثة أيام، فإن أقيمت الحجة عليه وتاب إلى الله سقط الحكم، وإلا فيجب على ولي الأمر المسلم أو من ينوب عنه أن يقيم فيه حد الله بالقتل، للحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة)، وفي رواية البخاري من حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من بدل دينه فاقتلوه). وهذا خطاب للمسئولين، وأنا أتضرع إلى الله في هذه اللحظة أن يردهم إلى الشريعة وإلى الحق رداً جميلاً.

اهتمام المسلم بطلب العلم الشرعي والعمل به

اهتمام المسلم بطلب العلم الشرعي والعمل به قد يقول شاب من شبابنا وطلابنا: هذا للمسئولين؛ لكن ما دوري أنا؟ ماذا أصنع أنا في هذه الفتنة السوداء؟ A دورك: طلب العلم الشرعي والعمل به، احفظ مني هذا، فلا مخرج لك -ورب الكعبة- من هذه الفتن الحالكة! فتن الشبهات التي لا أعرف من خلال قراءتي واطلاعاتي زماناً قد كثرت فيه فتنة الشبهات كهذا الزمان أبداً؛ لا مخرج لك من هذه الفتن الحالكة إلا بطلب العلم الشرعي والعمل به، مهما كان منصبك، ومهما كانت مسئوليتك، فلابد أن تفرغ من وقتك ومن جهدك لتتعلم عن الله، وعن رسول الله. فبالعلم الشرعي ستتعرف على الحلال والحرام، وعلى الحق والباطل، وعلى السنة والبدعة، وبالعلم الشرعي ستتعرف على عقيدتك بشمولها وصفائها وكمالها، بالعلم الشرعي ستتعرف على أسماء الجلال وصفات الكمال، بالعلم الشرعي ستحقق الإيمان بالكبير المتعال، بالعلم الشرعي ستتعرف على فتن الشهوات والشبهات، بالعلم الشرعي ستتعرف على معنى الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، وعلى البراء من الشرك والمشركين، بالعلم الشرعي ستتعرف على حجم المؤامرة الكبرى التي تحاك للأمة وللإسلام في الليل والنهار. لا عذر لك -ورب الكعبة- إن تقاعست عن طلب العلم الشرعي، فرغ من وقتك، فرغ من جهدك لطلب العلم الشرعي، اركب، سافر، ارحل للجلوس عند العلماء المعروفين بالعلم الشرعي؛ لتسمع منهم عن الله وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال جل وعلا: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]، وقال سبحانه: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11]، وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رءوساً جهالاً -أو رؤساء جهالاً- فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا). واحفظ هذا: من سلك طريقاً بغير دليل ضل، إن ذهبت إلى بلد جديد وأنت لا تعرف فيه شيئاً، فإن لم تسأل دليلاً ستضل، من سلك طريقاً بغير دليل ضل، ومن تمسك بغير الأصول زل، والدليل المنير لك في الظلماء، والأصل العاصم لك من الفتن والأهواء، هو العلم والعمل، ولا تطلب العلم لمجرد الثقافة الذهنية، وإنما لتحول هذا العلم في بيتك ووظيفتك ووسيلة المواصلات والشارع إلى منهج الحياة، إلى خلق يتألق سمواً وعظمة وروعة وجلالاً؛ لأنني أدين لله بأن الصحوة الإسلامية لازالت في فجوة كبيرة بين العلم النظري والعمل. نتكلم كثيراً لكن أين أخلاق هذا العلم؟ نحن الآن -ورب الكعبة- لا نجيد إلا الكلام، هل ورثنا العلم خشية الله؟ هل ورثنا العلم الأدب؟ هل ورثنا العلم بر الوالدين؟ هل ورثنا العلم التقوى؟ هل ورثنا العلم حسن الخلق مع إخواننا، وحسن الأدب والتعامل مع أحبابنا؟ هل ورثنا العلم قيام الليل؟ هل ورثنا العلم الأمانة في العمل؟ هل ورثنا العلم الحرص على وقت العمل؟ هل ورثنا العلم الإحسان إلى الجيران؟ أين أخلاق العلم؟! يقول المصطفى كما في الحديث الصحيح الذي رواه ابن ماجة والترمذي بسند صححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب من حديث كعب بن مالك أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من تعلم العلم ليجاري به العلماء، أو ليماري به السفهاء، أو ليصرف وجوه الناس إليه، فهو في النار).

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثالثاً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا ينبغي أن تنظر إلى هذا الكفر البواح، وتهز كتفيك وتمضي، وكأن الأمر لا يعنيك. مر بالمعروف بمعروف، وأنه عن المنكر بغير منكر، نكرر ونؤكد (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان). إن عجزت أن تغير هذا المنكر بيدك فبلسانك، فإذا قرأت قولاً كفرياً كهذا، فما عليك إلا أن تتفاعل، وأن يحترق قلبك؛ ليترجم أصبعك أو قلمك هذا الاحتراق القلبي في كلمات مهذبة صادقة، وعليك أن ترسل بها إلى هذا الكاتب أو إلى هذا المؤلف أو إلى مسئول من المسئولين. ونقول: عبر عن غضبتك لله بأدب، لا نقول: بسب، ولكن بأدب جم، المهم أن يشعر هؤلاء أن الأمة في مجملها تريد الله عز وجل ورسوله والدار الآخرة، وأنها مستعدة أن تبذل دمها لتخدم بهذا الدم دين الله ودين رسول الله، عبر عن هذا، غير ولو بلسانك، فإن عجزت فبقلبك! حتى حرقة القلب لا نجدها في كثير من القلوب! ماتت القلوب -ورب الكعبة- إلا من رحم علام الغيوب.

الدعوة إلى الله

الدعوة إلى الله رابعاً: الدعوة إلى الله عز وجل وتبصير الناس بالحق وفضح الباطل وأهله، واحفظوا هذه العبارة: والله ما انتشر الباطل وأهله إلا يوم أن تخلى عن الحق أهله، يا شباب! ستسألون عن هذا بين يدي الله جل وعلا. إن المرحلة التي كنا نعتقد فيها أننا نحكم على الناس ونحن في دروس علمنا ومساجدنا بالتكفير والتفسيق والتبديع، لا ينبغي أبداً أن نظل عليها، وإنما يجب علينا أن نتحرك من مساجدنا ومن دروس علمنا لننتشر بين الناس، بين أهلنا وآبائنا وأحبابنا وإخواننا، لنرفع عنهم الجهل بدين الله، ولنقوي إيمانهم بالله، وحبهم لرسول الله، وحبهم لدين الله جل وعلا بحكمة ورحمة وأدب وتواضع. دعك من الحكم على الناس دون أن تتحرك، لن يغير حكمك من الواقع شيئاً على الإطلاق، فأهل الباطل وأهل الكفر يتحركون لكفرهم وباطلهم، في الوقت الذي تقاعس فيه أهل الحق عن حقهم الذي من أجله خلقت السماوات والأرض والجنة والنار. فهيا تحرك بكل رجولة وبكل طاقة للدعوة إلى الله وإلى دين الله، واملأ قلوب الناس بالإيمان وبحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ لتنكسر كل أمواج هذه الردة الجديدة على صخور الإيمان في قلوب عباد الله المؤمنين، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

وستنكسر أمواج الردة على صخرة الإيمان

وستنكسر أمواج الردة على صخرة الإيمان الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فستنكسر كل أمواج الردة على صخرة الإيمان، وهذا يلزمنا أن نقوي الإيمان في قلوبنا؛ لأن الإيمان يضعف ويقوى، وهذا أصل من أصول أهل السنة، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4]، فالإيمان يقوى بالطاعات وينقص بالمعاصي والزلات. أيها الشباب وأيها المسلمون أن نتعهد الإيمان في قلوبنا، يقول حبيب القلوب محمد صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الذي رواه الحاكم في المستدرك بسند حسنه الألباني من حديث عبد الله بن عمر: (إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم)، فجدد الإيمان في قلبك، وقوة في قلبك بأعمال الطاعات. فالإيمان هو حصن الأمان، وهو الصخرة العملاقة الثابتة التي ستتحطم وتتكسر عليها كل أمواج الردة، وكل رماح وسهام الفتنة، فقوّ الإيمان في قلبك، احرص على مجالس العلم، احرص على صحبة الأخيار الأطهار، ابتعد قدر الطاقة عن فتن الشبهات والشهوات، لا تقرأ لهؤلاء الخبثاء إلا إن كنت صاحب عقيدة راسخة، وكنت صاحب فهم ثاقب، وكنت قد أصلت الموازين العلمية التي ستتعرف من خلالها على الغث والثمين، وعلى الحق والباطل، قوّ الإيمان في قلبك، فالإيمان هو حصن الأمان، وهو قائد الهدى.

فشل مشروع الردة وزعزعة الثوابت

فشل مشروع الردة وزعزعة الثوابت وأبشركم بكل ثقة أن هذا المشروع النهضوي الحديث الخبيث قد أعلن فشله، ولم ينجح رواد الجيل ممن يسمون بالنخبة في إقناع العقل الإسلامي بهذا العفن الفكري؛ لأن الناس قد فطروا على حب الله ورسوله. وأعلنها بكل ثقة وصراحة: لقد شرقت وغربت في العالم كله، فما وجدت أنقى ولا أخصب من أرض مصر لدعوة الله عز وجل، أنا لا أجهل الواقع الذي ستحتج عليَّ به، ومع ذلك أعلنها: الناس في بلدنا فطروا على حب الله ورسوله كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة)، قد ترى المسلم من إخواننا هنا على معصية، لكن ذكره بالله، ذكره برسول الله بأدب وتواضع وانظر إلى النتيجة. فإنك إن ذكرته بأدب وتواضع فسترى خيراً كثراً. فلقد فشل هؤلاء، بل إنهم يرقصون رقصة الموت، قال أحدهم وهو يعبر عن هذه الغضبة: كنا نتصور بعد هذه السنوات الماضية أن نخرج جيلاً لا يعرف شيئاً عن الإسلام، فرأينا هذه الجحافل من فتيان في ريعان الشباب وفتيات في عمر الورود! حتى قال خبيث آخر حينما رأى هذا المشهد وهذا الجمع الغفير في هذا المسجد، ورأى أكثرهم على الاستقامة، قال: كنت أظن أن المستقيمين قد انتهوا وإذا بهم كثر! فكانوا يتصورون أن هذا الإفراز الثقافي العفن سيخرج جيلاً لا يعرف شيئاً عن الإسلام، ولا يعرف شيئاً عن النبي عليه الصلاة والسلام، وإذ بعلماء الصحوة ودعاة الصحوة وشباب الصحوة يقطعون الطريق على هؤلاء المزورين المضللين، ويبينون خططهم الخبيثة وألاعيبهم الماكرة، وصدق ربي إذ يقول: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:32 - 33]. صبح تنفس بالضياء وأشرقا والصحوة الكبرى تهز البيرقا وشبيبة الإسلام هذا فيلق في ساحة الأمجاد يتبع فيلقا وقوافل الإيمان تتخذ المدى درباً وتصنع للمحيط الزورقا ما أمر هذه الصحوة الكبرى سوى وعد من الله الجليل تحققا هي نخلة طاب الثرى فنما لها جذع قوي في التراب وأعذقا هي في رياض قلوبنا زيتونة في جذعها غصن الكرامة أورق افجر تدفق من سيحبس نوره أرني يداً سدت علينا المشرقا يا نهر صحوتنا رأيتك صافياً وعلى الضفاف رأيت أزهار التقى قالوا تطرف جيلنا لما سمى قدراً وأعطى للطهارة موثقا ورموه بالإرهاب حين أبى الخنا ومضى على درب الكرامة وارتقى أوكان إرهاباً جهاد نبينا أم كان حقاً بالكتاب مصدقا أتطرف إيماننا بالله في عصر تطرف بالهوى وتزندقا إن التطرف أن نذم محمداً والمقتدين به ونمدح عفلقا إن التطرف أن نرى من قومنا من صانع الكفر اللئيم وأطرقا يا جيل صحوتنا أعيذك أن أرى في الصف من بعد الإخاء تمزقا لك في كتاب الله فجر صادق فاتبع هداه ودعك ممن فرقا لك في رسولك أسوة فهو الذي بالصدق والخلق الرفيع تخلقا يا جيل صحوتنا ستبقى شامخاً ولسوف تبقى بإتباعك أسمقا اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم أعل بفضلك كلمة الحق والدين، اللهم أعل بفضلك كلمة الحق والدين، اللهم أعل بفضلك كلمة الحق والدين، اللهم أقر أعيننا بنصرة التوحيد والموحدين، اللهم أقر أعيننا بنصرة التوحيد والموحدين، اللهم أقر أعيننا بنصرة التوحيد والموحدين. لا إله لنا سواك فندعوه، ولا رب لنا غيرك فنرجوه، يا منقذ الغرقى، ويا منجي الهلكى، ويا سامع كل نجوى، يا منقذ الغرقى، ويا منجي الهلكى، ويا سامع كل نجوى، يا عظيم الإحسان، يا دائم المعروف، يا عظيم الإحسان، يا دائم المعروف. اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا، ولا تؤاخذنا بما قال وفعل السفهاء منا، لا إله لنا سواك فندعوه، ولا رب لنا غيرك فنرجوه، يا غياث المستغيثين، ويا مجيب المضطرين، ويا كاشف هم المهمومين، يا ودود يا ودود، يا ذا العرش المجيد، يا فعال لما يريد، يا من ملأ نوره أركان عرشه، يا من ملأ نوره أركان عرشه، يا أحد يا فرد يا صمد، يا من لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤاً أحد، ارفع مقتك وغضبك عنا، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا. يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث، اللهم ارفع الفتن عن مصر ما ظهر منها وما بطن، اللهم ارفع عن مصر الفتن ما ظهر منها وما بطن، وسائر بلاد المسلمين، اللهم لا تحرم مصر من التوحيد والموحدين والسنة والمتبعين، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم لا تدع لأحد منا ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً بيننا إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا ميتاً لنا إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا طائعاً إلا زدته وثبته، ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا رب العالمين. اللهم ارحم جميع موتى المسلمين، اللهم أنزل يا ربي برحمتك على قبورهم الضياء والنور، والفسحة والسرور، والسعة والحبور، اللهم انقلهم برحمتك من مراتع الدود إلى جنات الخلود، برحمتك يا غفور يا ودود. اللهم اكتب لأبنائنا النجاح والتوفيق، اللهم يسر لهم الأسباب، وافتح لهم الأبواب، وذلل لهم الصعاب، برحمتك يا كريم يا وهاب. اللهم استر نساءنا، وأصلح شبابنا واهد أولادنا، واستر بناتنا، {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74]. هذا وما كان من توفيق فمن الله، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وجاءت سكرة الموت

وجاءت سكرة الموت الموت هو الحقيقة المرة التي لا يختلف فيها اثنان، وهو الحقيقة التي يخضع لها كل ضعيف وجبار. وليس الموت هو النهاية، ولو كان كذلك لكان راحة لكل حي، ولكنا إذا متنا بعثنا، وإذا بعثنا حوسبنا عن جميع أعمالنا. فعلى الكيس الفطن أن يعمل لما بعد الموت، فيعد للسؤال جواباً وللجواب صواباً.

القرآن علاج لغفلة القلوب

القرآن علاج لغفلة القلوب الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً، ولم يكن له شريك في الملك، وما كان معه من إله، الذي لا إله إلا هو، فلا خالق غيره، ولا رب سواه، المستحق لجميع أنواع العبادة، ولذا قضى ألا نعبد إلا إياه، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62]. هو الواحد الذي لا ضد له، وهو الصمد الذي لا منازع له، وهو الغني الذي لا حاجة له، وهو القوي الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، هو جبار السماوات والأرض، فلا رَادَّ لحكمه ولا معقب لقضائه وأمره. وأشهد أن حبيبنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، اللهم اجزه عنا خير ما جازيت نبياً عن أمته ورسولاً عن دعوته ورسالته، وَصَلِّ اللهم وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحيا الله المحبين للعلم والعلماء، حياكم الله جميعاً وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله جل وعلا أن ينظر وجوهكم، وأن يزكي نفوسكم، وأن يشرح صدوركم، وأن يجمعني وإياكم في الدنيا دائماً وأبداً على طاعته وفي الآخرة مع سيد الدعاة وإمام النبيين وسيد المرسلين في جنته ومستقر رحمته، إنه ولي ذلك ومولاه وهو على كل شيء قدير. أحبائي يا مِلْءَ الفؤاد تحية تجوز إليكم كل سد وعائق لقد شدني والله شوق إليكم مكلل بالحب والتقدير والدعاء المشفق وأرقني في المظلمات عليكم تكالب أعداء سعوا بالبوائق أردتم رضا الرحمن قلباً وقالباً وما أرادوا إلا خطير المآزق فسدد الله على درب الحق خطاكم وجنبكم فيه خفي المزالق أيها الأحبة في الله! تلبية لرغبة الكثيرين من أحبابي وإخواني فإننا الليلة على موعد مع محاضرة في الرقائق، والحق أقول: إننا نعيش عصراً طغت فيه الماديات والشهوات وغفل كثير من الناس عن طاعة رب الأرض والسماوات؛ لذا فإنني أرى -مع الإخوة الذين أَلَحوُّاْ علي أن يكون لقاؤنا الليلة في الرقائق- أن القلوب تصدأ، وأن هذه القلوب تحتاج من آن إلى آخر إلى من يذكرها بعلام الغيوب، فتعالوا بنا الليلة؛ لنعيش مع كلام الحق، مع قول الصدق، مع أصل العز والشرف، مع نبع الكرامة والهدى، مع القرآن الكريم، مع القرآن الذي ضيعته الأمة فضاعت، مع القرآن الذي هجرته الأمة فأذلها الله باليهود إخوان القردة والخنازير، مع القرآن الذي ظنت الأمة أنه ما أنزل إلا ليكتب على الجدران، أو ليوضع في علب القطيفة الفخمة الضخمة، ويهدى إلى سادة القوم وَعِلْيَةِ الناس في المناسبات الرسمية والوطنية وغيرها. تعالوا لنعيش الليلة مع آيات من القرآن الذي قال الله عز وجل فيه: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا * وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإسراء:9 - 10].

تفسير قوله تعالى: (وجاءت سكرة الموت بالحق)

تفسير قوله تعالى: (وجاءت سكرة الموت بالحق) سنعيش الليلة مع آيات من كتاب الله عز وجل، فأعيروني القلوب والأسماع أيها الأخيار! أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:20 - 22]. (وجاءت سكرة الموت بالحق) والحق: أنك تموت والله حي لا يموت. (وجاءت سكرة الموت بالحق) والحق: أن ترى عند موتك ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب. (وجاءت سكرة الموت بالحق) والحق: أن يكون قبرك روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النيران. (وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد) ذلك ما كنت منه تفر، ذلك ما كنت منه تهرب، ذلك ما كنت منه تجري، تحيد إلى الطبيب إذا جاءك المرض، وتحيد إلى الطعام إذا أحسست بالجوع، وتحيد إلى الشراب إذا أحسست بالظمأ، ولكن أيها القوي الفتي! أيها الذكي العبقري! يا أيها الوزير! ويا أيها الأمير! ويا أيها الكبير! ويا أيها الصغير! اعلم أن: كل باك سيبكى وكل ناع سينعى كل مذكور سيفنى كل مذكور سينسى ليس غير الله يبقى من علا فالله أعلى (وجاءت سكرة الموت بالحق) إنها الحقيقة الكبرى التي تعلن على مدى الزمان والمكان في أذن كل سامع، وعقل كل مفكر، ورأس كل طاغوت: البقاء لله الحي الذي لا يموت، إنها الحقيقة الكبرى التي تصبغ الحياة البشرية كلها بصبغة الذل والعبودية لقهار السماوات والأرض، إنها الحقيقة الكبرى التي تسربل بها طوعاً أو كرهاً العصاة والطائعون، بل والأنبياء والمرسلون، إنها الحقيقة التي أمرنا حبيبنا ونبينا وقدوتنا وقرة أعيننا محمد صلى الله عليه وسلم أن نذكرها ولا ننساها، كما في الحديث الذي رواه الترمذي بسند حسن من حديث فاروق الأمة عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أكثروا من ذكر هادم اللذات)، وفي لفظ: (أكثروا من ذكر هاذم اللذات، قيل: وما هاذم اللذات يا رسول الله؟! قال: الموت)، إنه الموت أيها الأحباب!

الدنيا زائلة

الدنيا زائلة يا من عشت للدنيا! يا من عشت للكرسي الزائل! يا من عشت للمنصب الفاني! يا من ظننت أن كرسيك لا يزول! ويا من ظننت أن منصبك لا يفنى! أين الحبيب رسول الله؟! أين سيد الخلق؟! أين حبيب الحق؟! أين من قال له ربه: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء:34]؟!. أيا عبد كم يراك الله عاصياً حريصاً على الدنيا وللموت ناسيا نسيت لقاء الله واللحد والثرى ويوماً عبوساً تشيب فيه النواصيا إذا المرء لم يلبس ثياباً من التقى تجرد عرياناً ولو كان كاسيا ولو كانت الدنيا تدوم لأهلها لكان رسول الله حيَّاً وباقياً ولكنها تفنى ويفنى نعيمها وتبقى الذنوب والمعاصي كما هيا كم ستعيش؟ إن عمرك في حساب الزمن لحظات، وما هي النتيجة؟ وما هي النهاية؟ يا أيها الإنسان! يا أيها الكبير! ويا أيها الصغير! {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6]، وقال تعالى: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:26 - 30]. ويفتح سِجِلُّكَ يا مسكين! ويفتح ملفك يا غافل! وإذا به {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة:31 - 32]، سمع الأذان وسمع النداء يقول: حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، وهو ما زال جالساً على المقهى في معصية الله جل وعلا، لم يُجِبْ نداء الحق جل وعلا. تأتي للصلاة في فتور كأنك قد دعيت إلى البلاء وإن أديتها جاءت بنقص لما قد كان من شرك الرياء وإن تخلو عن الإشراك فيها تدبر للأمور بالارتقاء ويا ليت التدبر في مباح ولكن في المشقة والشقاء وإن كنت المصلي يوماً بين خلقٍ أطلت ركوعها بالانحناء وتعجل خوف تأخير لشغل كأن الشغل أولى من لقاه وإن كنت المجالس يوماً أنسا قطعت الوقت من غير اكتفاء أيا عبد لا يساوي الله معـ ك أنساً تناجيه بحب أو صفاء يا غافل! يا لاهي! أيها الساهي! يا من نسيت حقيقة الدنيا ونسيت الآخرة! يا من تركت الصلاة! يا من ضيعت حقوق الله! يا من عذبت الموحدين لله! يا من بارزت رسول الله بالمعصية! يا من عق أباه! يا من عق أمه! يا من قطع رحمه! يا من ضيع حقوق الله! دع عنك ما قد فات في زمن الصبا واذكر ذنوبك وابكها يا مذنب لم ينسه الملكان حين نسيته بل أثبتاه وأنت لاه تلعب والروح منك وديعة أودعتها ستردها بالرغم منك وتسلب وغرور دنياك التي تسعى لها دار حقيقتها متاع يذهب الليل فاعلم والنهار كلاهما أنفاسنا فيهما تعد وتحسب

(كلا إذا بلغت التراقي)

(كلا إذا بلغت التراقي) {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} [القيامة:26] أي: إذا بلغت الروح الترقوة {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [القيامة:27] من الذي سيرقيه؟! من الذي سيبذل له الرقية؟! من الذي سيبذل له العلاج؟! فهو من هو؟! هو الملك هو الحاكم هو الوزير هو الأمير، صاحب الجاه صاحب المنصب صاحب السلطان، احضروا الأطباء، احضروا الطائرة الخاصة؛ لتنقله على الفور إلى أكبر المستشفيات وأكبر الأطباء، ولكن إذا اقتربت ساعة الصفر وانتهى الأجل لا تستطيع قوة على ظهر الأرض، ولا يستطيع أهل الأرض ولو تحولوا جميعاً إلى أطباء أن يحولوا بينك وبين ما أراد رب الأرض والسماء، ولو كنتم في بروج مشيدة، انظر إليه: الأطباء من حول رأسه وقد حان الاحتضار، فاصفر وجهه وشحب لونه وبردت أطرافه وتجعد جلده، وبدأ يحس بزمهرير قارس يزحف إلى أنامل يديه وقدميه، يحاول جاهداً أن يحرك شفتيه بكلمة التوحيد فيحس أن الشفة كالجبل لا يتزحزح! إلا لمن يسر الله له النطق بكلمة التوحيد، فينظر إلى الأطباء من حول رأسه، وينظر إلى زوجته، وإلى أولاده وإلى أحبابه وإلى إخوانه نظرة استعطاف، نظرة أمل، نظرة تمنٍّ، فهو يقول لهم بلسان الحال، بل وبلسان المقال: يا أحبابي! يا أولادي! أنا أخوكم، أنا أبوكم، أنا حبيبكم، أنا الذي بنيت القصور، وأنا الذي عمرت الدور، وأنا الذي نَميْتُ التجارة، فمن منكم يزيد في عمري ساعة أو ساعتين؟! وهنا يعلو صوت الحق: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:83 - 96]. سبحانك يا من ذَلَلْتَ بالموت رقاب الجبابرة سبحانك! يا من ذَلَلْتَ بالموت رقاب الأكاسرة، سبحانك! يا من ذللت بالموت رقاب القياصرة! فنقلتهم بالموت من القصور إلى القبور، ومن ضياء الغرف والمهود إلى ظلمة اللحود، ومن ملاعبة الجواري والغلمان إلى مقاساة الهَوَامِّ والديدان، ومن التنعم بالطعام والشراب إلى التمرغ في الوحل والتراب، سبحانك!

تفسير قوله تعالى: (وقيل من راق)

تفسير قوله تعالى: (وقيل من راق) {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [القيامة:27] من يرقيه؟! من يكتب له الرقية؟ من يعطيه العلاج؟! من يحول بينه وبين الموت؟! لا أحد، (وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ) وقيل فيها تفسير آخر: من يرتقي بروحه بعدما فارقت جسده إلى الله جل وعلا؟! (من راق) من الذي سيرتقي بها من الملائكة؟ {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:28 - 30]. سَفرِيْ بعيد وزادي لن يبلغني وقوتي ضعفت والموت يطلبني ولي بقايا ذنوب لست أعلمها الله يعلمها في السر والعلنِ أنا الذي أغلق الأبواب مجتهداً على المعاصي وعين الله تنظرني ما أحلم الله عني حيث أمهلني وقد تماديت في ذنبي ويسترني كأنني بين جل الأهل منطرحاً على الفراش وأيديهم تقلبني وقد أتوا بطبيب كي يعالجني ولم أر الطِّب هذا اليوم ينفعني واشتد نزعي وصار الموت يجذبها من كل عرق بلا رفق ولا هون وقام من كان حِبَّ الناس في عجل نحو المغسل يأتيني يغسلني فجاءني رجل منهم فجردني من الثياب وأعراني وأفردني وأودعوني على الألواح منطرحاً وصار فوقي خرير الماء يُنْظِفُنِي وأسكب الماء من فوقي وَغَسَّلَنِي غسلاً ثلاثاً ونادى القوم بالكفنِ وَحَمَّلُوني على الأكتاف أربعة من الرجال وخلفي من يشيعني وقدموني إلى المحراب وانصرفوا خلف الإمام فصلى ثم ودعني صلوا علي صلاة لا ركوع لها ولا سجود لعل الله يرحمني وأنزلوني إلى قبري على مَهَلٍ وَقَدَّمُوْا واحداً منهم يُلَحِّدُنِي فَكَشَّفَ الثوب عن وجهي لينظرني فأسكب الدمع من عينيه أغرقني وقال هلوا عليه التُّرْب واغتنموا حسن الثواب من الرحمن ذي اِلمنَنِ وتقاسم الأهل مالي بعدما انصرفوا وصار وزري على ظهري فأثقلني يا نفس كفي عن العصيان واغتنمي حسن الثواب من الرحمن ذي المنن وقال آخر: أيامن يدعي الفهم إلى كم يا أخا الوهم تعبي الذنب والذم وتخطي الخطأ الجم أما بان لك العيب أما أنذرك الشيب وما في نصحه ريب أما نادى بك الموت أما أسمعك الصوت أما تخشى من الفوت فتحتاط وتهتم فكم تسير في الزهو وتنقض إلى اللهو كأن الموت ما عم كأني بك تنحط إلى اللحد وتنغط وقد أسلمك الرهط إلى أضيق من سَمْ هناك الجسم ممدود ليستأكله الدود إلى أن ينخر العود ويمسي العظم قد رَمْ فزود نفسك الخير ودع ما يعقب الضير وهيء مركب السير وخف من لجة اليم بذا أوصيك يا صاح وقد بحتك من باح فطوبى لفتى راح بآداب محمد يأتم

الموت حق

الموت حق قال الله: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19]، فالموت حق أيها الأحبة! ولو كان الأمر ينتهي عند الموت لاسترحنا كثيراً، ولكن بعد الموت بعث، وبعد البعث حساب، وفي الحساب سؤال، والسؤال بين يدي ملك الملوك وجبار السماوات والأرض. إن الموت حقيقة لا تنكر، ورحم الله الفضيل بن عياض إذ لقيه رجل فسأله الفضيل عن عمره فقال الرجل: عمري ستون سنة، قال الفضيل: إذاً أنت منذ ستين سنة تسير إلى الله، يوشك أن تصل. فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون، قال الفضيل: هل عرفت معناها؟ قال: نعم، عرفت أني لله عبد، وأني إلى الله راجع، فقال الفضيل: يا أخي! إن من عرف أنه لله عبد وأنه إلى الله راجع عرف أنه موقوف بين يديه، ومن عرف أنه موقوف عرف أنه مسئول، ومن عرف أنه مسئول فَلْيُعِدَّ للسؤال جواباً، فبكى الرجل وقال: يا فضيل! وما الحيلة؟ قال الفضيل: يسيرة. قال: ما هي يرحمك الله؟ قال: أن تتقي الله فيما بقي، يغفر الله لك ما قد مضى وما قد بقي. ورضي الله عن هارون الرشيد الذي يوم أن نام على فراش موته قال: أريد أن أرى قبري الذي سأدفن فيه، فحملوا هارون إلى قبره، هارون الذي كان يخاطب السحابة في كبد السماء ويقول لها: أيتها السحابة! في أي مكان شئت فأمطري فسوف يُحْمَلُ إلي خراجك هاهنا إن شاء الله، حمل ليرى قبره فنظر هارون إلى قبره وبكى، ثم التفت إلى أحبابه من حوله، وقال: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28 - 29]، أين المال؟! أين الدولارات؟! أين السيارات؟! أين العمارات؟! أين الأراضي؟! أين السلطان؟! أين الجاه؟! أين الوزارة؟! أين الإمارة؟! أين الجند؟! أين الحرس؟! أين الكرسي الزائل؟! أين المنصب الفاني؟! {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28 - 29]، وبكى هارون وارتفع صوته ونظر إلى السماء وقال: يا من لا يزول ملكه! ارحم من قد زال ملكه، {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16]، أين الفراعنة؟! أين الأكاسرة؟! أين القياصرة؟! أين الظالمون؟! أين الطواغيت؟! أين الظالمون؟! وأين التابعون لهم في الغي؟! بل أين فرعون وهامان؟! أين من دوخوا الدنيا بسطوتهم وذكرهم في الورى ظلم وطغيان هل أبقى الموت ذا عز لعزته أو هل نجا منه بالسلطان إنسان لا والذي خلق الأكوان من عدم الكل يفنى فلا إنس ولا جان وقال آخر: يا نفس قد أزف الرحيل وأظلك الخطب الجليل فتأهبي يا نفس لا يلعب بك الأمل الطويل فلتنزلن بمنزل ينسى الخليل به الخليل وليركبن فيه عليـ ـك من الثرى ثقل ثقيل قرن الفناء بنا فما يبقى العزيز ولا الذليل من الباقي؟ إنه الحي الذي لا يموت، {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27]، {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]. فيا أيها الحبيب! يا أيها الكريم! هل ذكرت نفسك بهذه الحقيقة؟ هل تذكرت الموت؟ هل أعددت ليوم سترحل فيه عن هذه الدنيا؟ من منا كتب وصيته ووضعها تحت رأسه في كل ليلة؟! يا من شغلك طول الأمل! أنسيت يوماً سترحل فيه عن دنياك؛ لتقف بين يدي مولاك، وليس الموت هو نهاية المطاف، ولكنني أقول: إننا سنبعث؛ لنسأل بين يدي ملك الملوك وجبار السماوات والأرض، سنعرض على هذه المحكمة الكبيرة التي قال الله عز وجل عنها: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8]، سينادى عليك باسمك واسم أبيك: أين فلان بن فلان؟ {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ} [ق:20]، إنه يوم القيامة يوم الحسرة والندامة، يوم الصيحة، يوم الحاقة، يوم القارعة، يوم الآزفة، إنه {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2]. إنه يوم الوعيد، {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق:21]، عن عثمان بن عفان -كما نقل ذلك عنه الحافظ ابن كثير - أنه قال في خطبته: سائق يسوق العبد إلى الله، وشهيد يشهد على أعمال العبد بين يدي مولاه. ستساق إلى الله جل وعلا وسينادى عليك يا مسكين! ليكلمك ملك الملوك بغير ترجمان! تفكر الليلة، لو عدت إلى بيتك ووجدت شرطياً يقدم لك رسالة فيها: إنك مطلوب غداً؛ للوقوف أمام قاضٍ من قضاة الدنيا الحقراء الفقراء الضعفاء الأذلاء، أتحداك أن تنام الليلة، ولكن ستفكر كثيراً، فهل فكرت في موقف ستسأل فيه من ملك الملوك وجبار السماوات والأرض؟ أين الإمارة والسلطان؟! أين الجاه؟! أين الكراسي؟! أين الجند؟! تذكر وقوفك يوم العرض عريانا مستوحشاً قلق الأحشاء حيرانا والنار تلهب من غيظ ومن حنق على العصاة ورب العرش غضبانا اقرأ كتابك يا عبدي على مَهَلٍِ فهل ترى فيه حرفاً غير ما كانا فلما قرأت ولم تنكر قراءته وأقررت إقرار من عرف الأشياء عرفانا نادى الجليل خذوه يا ملائكتي وامضوا بعبد عصى للنار عطشانا المشركون غداً في النار يلتهبوا والمؤمنون بدار الخلد سكانا

(اتقوا النار ولو بشق تمرة)

(اتقوا النار ولو بشق تمرة) جاء في الصحيحين من حديث عدي بن حاتم أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ما منكم من أحد إلا وسيكلمه ربه يوم القيامة، ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر عن يمينه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أَشْأَم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]. اتقوا النار، فإن حرها شديد، وإن قعرها بعيد، وإن مقامعها حديد. {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} [الحج:19 - 21]. اللهم حَرِّمْ جلودنا على النار، ووجوهنا على النار، وأبشارنا على النار، اللهم إنا ضعاف لا نقوى عليها فَنَجِّنَا، اللهم إنا ضعاف لا نقوى عليها فنجنا، اللهم أدخلنا الجنة مع الأبرار برحمة منك يا عزيز يا غفار! فتسأل بين يدي الله، ويكلمك الله ليس بينك وبينه ترجمان، انظر أيها الموحد! انظر أيها المؤمن! واسجد لربك شكراً أنك من أتباع الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم. ومما زادني فخراً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن أرسلت أحمد لي نبيا اسجد لربك شكراً يا من وحدت الله! اسمع ماذا قال إمام الموحدين وقدوة المحققين وسيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال: (يدنى المؤمن من ربه يوم القيامة، حتى يضع رب العزة عليه كَنَفَهُ)، والكنف لغة -لا تأويلاً للصفة-: هو الستر والرحمة، ونحن لسنا ممن يؤول صفات الحق جل وعلا، وإنما نؤمن بأسماء الجلال وصفات الكمال من غير تحريف لألفاظها ولا لمعانيها، ومن غير تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل؛ لأن الله جل وعلا جل عن الشبيه وعن النظير وعن المثيل، لا ند له، ولا كفؤ له، ولا شبيه له، ولا مثيل له، ولا نظير له، ولا والد له، ولا ولد له، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]. (يُدْنى المؤمن من ربه يوم القيامة حتى يضع رب العزة عليه كَنَفَهُ ويقرره بذنوبه، يقول له ربه جل وعلا: لقد عملت كذا وكذا في يوم كذا وكذا، فيقول المؤمن: رب أعرف -يقولها مرتين- فيقول الله جل وعلا: ولكني سترتها عليك في الدنيا وأغفرها لك اليوم). أسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن ينادى عليهم بهذا النداء: (ولكني سترتها عليك في الدنيا وأغفرها لك اليوم)، من الذي يقال له هذا؟ إنه الموحد المؤمن. أسأل الله أن يجعلني وإياكم من أهل الإيمان، وأن يختم لي ولكم عند الموت بالتوحيد. اللهم ارزقنا قبل الموت توبة، وعند الموت شهادة، وبعد الموت جنة ورضواناً، اللهم استرنا فوق الأرض، واسترنا تحت الأرض، واسترنا يوم العرض، برحمتك يا أرحم الراحمين!

السؤال بين يدي الله

السؤال بين يدي الله يوم القيامة ينادى عليك لِتُسْأَلَ بين يدي الله جل وعلا: أين فلان بن فلان؟ أَقْبِلْ للعرض على الله جل وعلا، فتجد نفسك واقفاً بين يدي الحق فتعطى صحيفتك، هذه الصحيفة التي لا تغادر بلية كتمتها، ولا مصيبة ومعصية أسررتها، فكم من معصية قد كنت أخفيتها أظهرها الله لك وأبداها! وكم من مصيبة كنت قد أخفيتها ذكرك الله إياها؟! فيا حسرة قلبك وقتها على ما فرطت في دنياك من طاعة مولاك، فإن كنت من المؤمنين أعطاك الله كتابك باليمين، وأنارت أعضاؤك وأشرق وجهك، وانطلق النور من بين يديك وعن يمينك، كما قال الله جل وعلا: {يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم:8]. أما أهل النفاق -أهل الظلمات- فينادون أهل الأنوار كما قال الله حاكياً عن المنافقين والمنافقات قولهم للذين آمنوا: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} [الحديد:13 - 14] ألم نحضر معكم الجماعات والجمعات؟ {أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [الحديد:14]. ينطلق وكتابه بيمينه بعدما سعد سعادة لن يشقى بعدها أبداً، ينطلق في أرض المحشر مع إخوانه وأحبابه وأترابه ومن هم على شاكلته والنور يشرق من وجهه وأعضائه! كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (منهم من يكون نوره كالجبل، ومنهم من يكون نوره كالنخلة، ومنهم من يكون نوره كالرجل القائم، ومنهم من يكون نوره على إبهامه يَتَّقِدُ مرة ويطفأُ مرة). والأثر ذكره الإمام السيوطي في الدر المنثور، وقال الإمام الذهبي: هو صحيح على شرط البخاري، ينطلق والنور يشرق من وجهه وأعضائه وكتابه بيمينه، والله لقد سعد سعادة لن يشقى بعدها أبداً، ينطلق إلى إخوانه وأحبابه من الموحدين في أرض المحشر ويقول لهم: شاركوني السعادة! شاركوني الفرحة! شاركوني البهجة! اقرءوا معي كتابي! انظروا: هذا كتابي بيميني! اقرءوا: هذا توحيدي، وهذه صلاتي، وهذا صيامي، وهذا حجي، وهذا بري، وهذه صدقتي، وهذه دعوتي، وهذا عملي، اقرءوا معي: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ} [الحاقة:19 - 33]. هل أعددت لهذا اليوم جواباً أيها الحبيب! تعال إلى فلاح الدنيا والآخرة، أيها الشاب! أيها الوالد الكريم! أيها الابن الحبيب! أيها الأخ الفاضل! أيتها الأخت الفاضلة! هَيَّا جميعاً لِنَتُبْ إلى الله جل وعلا في هذه الليلة الكريمة المباركة التي دمعت فيها العيون، وخشعت فيها القلوب لعلام الغيوب، تعالوا بنا لنجدد التوبة والأوبة والعودة، ولنكن على يقين جازم بأن الله جل وعلا لا يغلق باب التوبة في وجه أحد طرقه في ليل أو نهار: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]. يا من أسرفت على نفسك في المعاصي! أَقْبِلْ إلى الله جل وعلا، ولا يَصُدَّنَّكَ الشيطان عن الله، واعلم بأن الله كريم، واعلم بأن الله رحيم، واعلم بأن الله سيغفر لك أي ذنب ما دمت موحداً لله جل وعلا. وفي صحيح مسلم وسنن الترمذي من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: يا بن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا بن آدم! لو بلغت ذنوبك عَنَانَ السماء، ثم استغفرتني غفرت لك، يا بن آدم! لو أتيتني بِقُرَابِ الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة). وأختم بقول الله عز وجل: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:31 - 35]. هل عرفت المزيد أيها الحبيب! إن نعيم الجنة ليس في لبنها ولا في خمرها ولا في قصورها ولا في ذهبها، ولا في حريرها، ولا في حورها، ولكن نعيم الجنة في رؤية وجه الله جل جلاله، وهذا هو المزيد، {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]، وقال سبحانه: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]. أسأل الله جل وعلا أن يمتعني وإياكم بالجنة، وبالنظر إلى وجهه الكريم، وأن يرزقني وإياكم الإخلاص في القول والعمل، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

حجاب المرأة المسلمة

حجاب المرأة المسلمة دين الإسلام دين متكامل، ومن مقاصده: الحفاظ على شرف الإنسان وعرضه؛ ولذلك فإن الإسلام قد ضبط أمر الشهوة والغريزة الجنسية -التي أودعها الله في الإنسان- بالضوابط الشرعية التي تراعي فطرة الإنسان، وتراعي أعراض الآخرين في الوقت ذاته، ومن هنا حرم الله التبرج؛ لأنه يثير الغرائز، وربما أوقع في الفاحشة، وأوجب الحجاب على المرأة صيانة لها، وحفاظاً عليها، وسداً لكل وسيلة تؤدي إلى الوقوع في الفاحشة، وبهذا ضمن الإسلام صيانة الأعراض وطهارة المجتمع، فعلى المسلمات الالتزام بالحجاب بشروطه الشرعية؛ لما في ذلك من المصلحة العظيمة لهن وللمجتمع.

الحجاب لغة وشرعا

الحجاب لغة وشرعاً بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله {الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدَاً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} [الإسراء:111] {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} [المؤمنون:91]، الذي لا إله إلا هو، فلا خالق غيره، ولا رب سواه، المستحق لجميع أنواع العبادة، ولذا قضى ألا نعبد ألا إياه {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [لقمان:30]. وأشهد أن لا إله ألا الله وحده لا شريك له، هو الواحد الذي لا ضد له، وهو الصمد الذي لا منازع له، وهو الغني الذي لا حاجة له، وهو القوي الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو جبار السماوات والأرض، فلا راد لحكمه ولا معقب لقضائه وأمره، هو الأول فلا شيء قبله، وهو الآخر فلا شيء بعده، وهو الظاهر فلا شيء فوقه، وهو الباطن فلا شيء دونه، {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة:120]. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الرسالة، وبلغ الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة عن هذه الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، وعبد ربه حتى لبى داعيه، وجاهد في سبيل ربه حتى أجاب مناديه، وعاش طوال أيامه ولياليه يمشي على شوك الأسى، ويخطو على جمر الكيد والعنت، يلتمس الطريق لهداية الضالين وإرشاد الحائرين، حتى علم الجاهل، وقوم المعوج، وأمن الخائف، وطمأن القلق، ونشر أضواء الحق والخير والتوحيد، كما تنشر الشمس ضياءها في رابعة النهار، فاللهم اجزه عنا خير ما جازيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فمرحباً بكم أحبتي في الله، ومع الدرس الخامس من دروس سورة الستر والعفاف سورة النور، وما زلنا بفضل الله جل وعلا نتحدث عن الضمانات الوقائية التي وضعها الإسلام العظيم، حمايةً لأفراده من الوقوع في الفاحشة والعياذ بالله، ولقد تكلمنا في اللقاء الماضي عن الضمان الثاني، ألا وهو تحريم التبرج وفرض الحجاب، وقلنا: إن الإسلام يهدف إلى إقامة مجتمع طاهر نظيف، لا تهاج فيه الشهوات في كل لحظة، ولا تستثار فيه دوافع اللحم والدم في كل حين؛ لأن عمليات الاستثارة المستمرة تنتهي إلى سعار شهواني لا ينطفئ ولا يرتوي، واللحم العاري، والزينة المتبرجة، والرائحة المؤثرة، والنظرة المعبرة، والمشية المتكسرة، كلها من الأشياء التي تثير الشهوة، وتؤجج نار الفتنة والهوى. ومن هنا حرم الإسلام التبرج، وفرض الحجاب على المرأة المسلمة. ينبغي أن تعلم المسلمة وأن يعلم الناس جميعاً أن الإسلام ما فرض هذه الضوابط على المرأة المسلمة في ملبسها وزينتها وعلاقتها بالرجال إلا لصيانتها وحمايتها من عبث العابثين، ومجون الماجنين؛ لتكون المرأة المسلمة كالدرة المصونة، وكاللؤلؤة المكنونة التي لا تصل إليها الأيدي الآثمة. تكلمنا في اللقاء الماضي عن التبرج وعن مظاهره وعن خطورته، ولقاؤنا اليوم عن الشق الثاني من الضمان الثاني، ألا وهو فرض الحجاب على المرأة المسلمة. وحتى لا ينسحب بساط الوقت من تحت أقدامنا فسوف أركز الحديث مع حضراتكم في أربعة عناصر: أولاً: الحجاب لغةً وشرعاً. ثانياً: الأدلة الشرعية من القرآن والسنة على وجوب الحجاب. ثالثاً: شروط الحجاب الشرعي. رابعاً: شبهات، والرد عليها. نسأل الله جل وعلا أن يرزقنا الصواب والإخلاص والتوفيق. أولاً: الحجاب لغةً وشرعاً: الحجاب: جمع حجب، ومعناه لغةً: يدور بين الستر والمنع؛ لذا يقال للستر الذي يحول بين الشيئين: حجاب؛ لأنه يمنع الرؤية بينهما، ولذا يقال لحجاب المرأة: حجاب، وسمي حجاب المرأة حجاباً لأنه يستر المرأة عن الرؤية، ويمنع الرجال أن ينظروا إلى المرأة.

لفظة الحجاب في القرآن الكريم

لفظة الحجاب في القرآن الكريم وردت لفظة الحجاب في القرآن في ثمانية مواضع، وكلها تدور حول معنى الستر وحول معنى المنع: قال الله جل وعلا في سورة الأعراف: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ} [الأعراف:46] أي: بينهما سور أو حاجز يمنع الرؤية. وقال الله جل وعلا: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص:32] أي: حتى منعت هذه الخيول من الرؤية وأصبحت لا ترى. وقال الله جل وعلا: {فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابَاً} [مريم:17] أي: استترت مريم عليها السلام بستار عن أعين الرجال. وقال الله جل وعلا: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعَاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب:53] أي: من وراء ساتر أو حاجز أو حائل يمنع من رؤيتهن. إذاً: فالحجاب يدور بين معنى الستر والمنع، فيُفهم المعنى الشرعي من هذه المعاني اللغوية لحجاب المرأة المسلمة؛ لأنه الذي يحجب المرأة المسلمة عن نظر الرجال الأجانب، وله صور متعددة: صورة الأبدان، وصورة الوجوه. أي: حجاب الأبدان، وحجاب الوجوه. للمرأة أن تحتجب عن الرجال الأجانب ببيتها بجدران البيت بالستائر السميكة في داخل البيت. وللمرأة إذا خرجت أن تحتجب بثيابها، من رأسها إلى قدمها إذا ما خرجت من بيتها لحاجة ضرورية، لحاجة دينية أو لحاجة دنيوية، وهذا جائز في حقها، ولا إثم عليها لكن بشرط لبس الحجاب الشرعي مع تغطية الوجه بالخمار أو النقاب، وهذا هو ما يسميه علماؤنا بحجاب الوجوه، وهو الخمار.

معنى الخمار

معنى الخمار يوجد خلط بين هذه المعاني عند كثير من الناس، فالخمار عندنا يُراد به الطرحة التي تلبسها المرأة على رأسها، ويظهر منها الوجه، وهذا خطأ لغوي، وهذا أيضاً يطلق على الحجاب عندنا، وقد ذكره بعض أهل العلم في كتبهم، قالوا: الحجاب هو: الطرحة التي تلبسها المرأة على رأسها ويظهر منها الوجه، وهذا خطأ لغوي، فانتبهوا معي لنتعرف على معنى الخمار، وعلى معنى النقاب حتى نضع النقط على الحروف من بداية هذا اللقاء. الخمار هو: ما تخمر به المرأة وجهها. من أين هذا الكلام؟! من كتاب الله جل وعلا، ومن أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أقوال أئمة الهدى ومصابيح الدجى عليهم رحمة الله. يقول الله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31] قال الحافظ ابن حجر إمام أهل الحديث رحمه الله تعالى في الفتح: في تعريف الخمر: ومنه خمار المرأة، وهو الذي تخمِّر به المرأة وجهها. أي: تغطي به المرأة وجهها. وأعظم دليل على صحة هذا الكلام: ما ورد في صحيح البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها؛ وهل تريدون دليلاً أوضح من هذا؟! هل تريدون دليلاً أوضح من دليلٍ ورد في حديثٍ رواه البخاري ومسلم من حديث أمنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها؟! أتدرون ماذا قالت أمنا رضي الله عنها في حادثة الإفك؟! ذكرت السيدة عائشة أنها لما تخلفت عن الجيش ونامت جاء صفوان فوقعت عينه عليها، وكان صفوان بن المعطل يعرف السيدة عائشة رضي الله عنها؛ لأنه كان قد رآها مراراً قبل نزول آية الحجاب، فلما رآها صفوان وعرفها استرجع، أي: قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، رأى زوج نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم تخلفت عن الجيش فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، تقول عائشة: (فلما رآني عرفني، وكان يعرفني قبل الحجاب، فلما رآني استرجع -أي: قال: إنا لله وإنا إليه راجعون- تقول عائشة رضي الله عنها: فاستيقظت باسترجاعه -أي: صحت سيدتنا عائشة على قولته: إنا لله وإنا إليه راجعون- اسمع ماذا قالت أمنا رضي الله عنها! قالت: فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمرت وجهي بجلبابي) (فخمرت وجهي بجلبابي) هذا هو معنى الخمار في حديث في الصحيحين، فماذا تريدون بعد ذلك من أدلة؟ قالت: (فخمرت وجهي بجلبابي. وفي رواية: فسترت وجهي بجلبابي). ويؤكد ذلك أيضاً حديث فاطمة بنت المنذر رضي الله عنها تقول: كنا نخمر وجوهنا من الرجال في الإحرام مع أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها. وحديثها رواه الإمام مالك في الموطأ ورواه الحاكم في المستدرك وقال الحاكم: حديث صحيح على شرط الشيخين البخاري ومسلم ولم يخرجاه، وأقره الإمام الذهبي. إذاً: الخمار هو: ما تخمر به المرأة وجهها، أي: ما تغطي به المرأة وجهها.

معنى النقاب

معنى النقاب النقاب هو: حجاب من وجوهٍ أيضاً، وسمي النقاب بالنقاب لوجود نقبين بمحاذاة العينين، لتتعرف المرأة من خلال هذين النقبين على الطريق. ولكن ينبغي أن أنبه هنا إلى أمر خطير، ألا وهو أن بعض المسلمات اللائي يلبسن النقاب قد حولنه هو الآخر إلى مصدر فتنة وإغواء وإغراء! كيف ذلك؟ وسعت المرأة فتحة العين على وجهها فظهر من خلال هذه الفتحة حاجبها، وظهر جزء كبير من وجنتيها، وهذه هي الفتنة بعينها، وليس معنى أن كثيراً من النساء قد حولن النقاب إلى مصدر فتنة وإغراء وإغواء أن نقول بعدم شرعية النقاب، فليس معنى أن يختل المسلمون في تطبيق أمر أو في تطبيق جزء شرعي أن نلغي هذا الجزء، وإنما ينبغي أن يؤمر المسلمون بأن يردوا هذا الأمر إلى ما أراده الله وإلى ما أراده رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجب على المرأة التي انتقبت أن تظهر الفتحة لعينها على قدر الرؤية لتتعرف من خلالها على الطريق، أما أن تتفنن في أن تظهر جمال عينها وقد امتلأت كحلاً، وامتلأت جمالاً وفتنة وتأثيراً، وظهر حاجبها، وظهر جزء كبير من وجنتيها، وتدعي أنها منتقبة، فإما أنها خادعة أو مخدوعة، فينبغي أن تتوب وأن ترجع إلى الله جل وعلا وأن تتقي الله، وأن تعلم بأن الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. هذا هو الخمار، وهذا هو النقاب، وهذا هو معنى الحجاب. إذاً: هناك حجاب للأبدان وللوجوه معاً: من وراء ستارة سميكة، أو من وراء جدار، كما قال الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعَاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب:53] أو إذا خرجت المرأة من بيتها لحاجة دينية أو دنيوية فعليها أن تلبس الثياب من رأسها إلى قدمها، وأن تغطي وجهها بالخمار أو النقاب، بالشروط والضوابط التي أشرت إليها آنفاً.

الأدلة على وجوب الحجاب من القرآن

الأدلة على وجوب الحجاب من القرآن

آية الإدناء

آية الإدناء أولاً: أدلة القرآن: ثانياً: الأدلة الشرعية من القرآن والسنة على وجوب الحجاب: الدليل الأول: آية الإدناء في سورة الأحزاب، ألا وهي قول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ} [الأحزاب:59] قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وهل تعرف المرأة إلا من وجهها؟! {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورَاً رَحِيمَاً} [الأحزاب:59] انتبهوا معي أيها الأحبة! وانتبهن معي أيتها الفضليات! لنتعرف على هذه الآية وعلى ما تحمله من أحكام عظيمة غابت عن كثير من المسلمين والمسلمات: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:59] الأمر هنا من الله جل وعلا لزوجات النبي الطاهرات، وبنات النبي العفيفات، ونساء المؤمنين الصالحات القانتات. إذاً: ليس الأمر هنا خاصاً بزوجات النبي صلى الله عليه وسلم وحدهن، كما هو واضح بمنطوق الآية ومفهومها أيضاً. قال شيخ المفسرين الإمام ابن جرير الطبري عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير آية الإدناء: أمر الله نساء المؤمنين -واحفظوا هذا القول لـ ابن عباس رضي الله عنه؛ لأنه قد افتري عليه قول آخر، وقد ادعي عليه ما لم يقله! وهو بريء منه كما سنرى بالأدلة وبطرق أهل الحديث إن شاء الله جل وعلا- قال ابن عباس رضي الله عنهما: (أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن لحاجة: أن يغطين وجوههن من فوق رءوسهن بالجلابيب، ويبدين عيناً واحدة) قلتُ: ليتعرفن بها على الطريق. ويقوي هذا الإسناد ما صح عن ابن سيرين رحمه الله تعالى قال: قلت لـ عبيدة السلماني وعبيدة السلماني هو: التابعي الجليل الفقيه العلم الذي آمن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه لم ينزل المدينة إلا في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولم يزل عبيدة السلماني بالمدينة حتى توفاه الله جل وعلا، وأنا تعمدت أن أقول ذلك لتعلم أن عبيدة السلماني فسر آية الإدناء تفسيراً عملياً يوضح حال نساء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهن جميعاً، فهو يوضح ما كان عليه النساء في عهد الصحابة رضي الله عنهم. يقول ابن سيرين: سألت عبيدة السلماني عن معنى آية الإدناء ألا وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59] يقول ابن سيرين: فقال عبيدة بثوبه هكذا، فغطى وجهه بثوبه وأبرز ثوبه عن إحدى عينيه. فهذا توضيحٌ عملي من تابعي جليل عاش في المدينة المنورة في عهد عمر بن الخطاب إلى أن مات رحمه الله. فهذا تفسير عملي لآية الإدناء، ووالله إنه من أعظم الأدلة؛ لأنه نقل لما كان عليه النساء في عهد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم! {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59]. وقال الإمام الفخر الرازي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: وفي هذه الآية دلالة على أن المرأة الشابة مأمورة بستر وجهها عن الأجنبيين، وإظهار الستر والعفاف إذا خرجت لحاجة، حتى لا يطمع أهل الريبة فيهن. ومن العلماء من يقول: إن الصحابيات رضي الله عنهن كن يخرجن كاشفات الوجوه! وهذا والله بهتان عظيم؛ لأن الوجه هو أصل الجمال في المرأة، وأنا أسالك بالله أيها المسلم المنصف! لا أريد منك جواباً، وإنما أجب أنت بنفسك على نفسك في جلسة صدق ولحظة صدق مع الله جل وعلا، أسألك بالله لو أن شاباً تقدم لخطبة فتاة وقيل له: لن ترى الفتاة إلا في صورة من الصورتين. فقال الشاب: وما هما؟ قالوا: الصورة الأولى: أن تخرج لك الفتاة في كل زينتها، وقد غطت وجهها! أي: غطت بدنها بالثياب وغطت وجهها، إلا أنها من تحت هذه الثياب، ومن تحت هذا الغطاء وضعت كل ما يمكن أن تضعه المرأة من زينة. سبحان الله! وما استفاد هذا المسكين إذاً؟! ما رأى شيئاً وما استفاد من تلك الزينة شيئاً. والصورة الثانية هي: أن تقف لك الفتاة من خلف نافذة وتنظر إليك بوجه مبتسم، وقد تغطى كل البدن من خلف جدار هذه النافذة، بشرط أن تنظر إلى الوجه فقط. فبالله عليك ماذا يختار الشاب؟! هل يختار الحالة الأولى التي خرجت إليه فيها المرأة وقد تغطت من قمة رأسها إلى أخمص قدمها وغطت وجهها أم أنه يريد أن ينظر إلى الوجه؛ لأنه هو عنوان الجمال الخلقي والطبيعي في الإنسان، ومن خلاله يستطيع الإنسان أن يبين الجمال والقبح والدمامة والنضارة؟! يقول الشاب بالمنطق: أريد الصورة الثانية، وهي: أن ينظر إلى وجه المرأة ليتعرف من خلال وجهها على جمالها وقبحها أو دمامتها، وهذا لا يحتاج إلى دليل، فكل منصف لم يمت إنصافه في قلبه، فيعمى بذلك عقله، سيقول هذا. إذاً: الله تبارك وتعالى يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأمر زوجاته وبناته ونساء المؤمنين. ومن العلماء من قال بأن الحكم هنا خاص بزوجات النبي! سبحان الله! كيف يكون الحكم خاصاً بزوجات النبي صلى الله عليه وسلم والله تبارك وتعالى يقول في نفس الآية: {وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:59]، يقول العلامة الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: وفي الآية قرينة واضحة على وجوب ستر الوجه، ما هي هذه القرينة؟ يقول: هي قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} [الأحزاب:59] ومعلوم أن وجوب احتجاب زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وسترهن لوجوههن أمر لا نزاع فيه بين المسلمين. فكيف تستقيم دعوى الخصوصية لنساء النبي صلى الله عليه وسلم وحدهن والله تعالى يقول في آخر الآية: {وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ}؟! وهذا واضح. وأكتفي بهذا القدر في هذه الآية؛ لأن الموضوع طويل.

آية الحجاب

آية الحجاب الدليل الثاني: آية الحجاب في سورة الأحزاب أيضاً: يقول الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعَاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب:53] لماذا؟ ما هي العلة من فرض الحجاب بين الرجال والنساء؟ قال الله تعالى الخالق الذي يعلم من خلق {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] قال جل وعلا: {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53] هذه هي آية الحجاب، وهي واضحة في وجوب احتجاب النساء عن الرجال، ولكن من العلماء من قال: إن هذه الآية خاصة بزوجات النبي صلى الله عليه وسلم وحدهن، قلت: إن كانت الآية خاصة بزوجات النبي صلى الله عليه وسلم من جهة السبب، فهي عامة من جهة الأحكام، والقاعدة الأصولية تقول: إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولو جاء أمر خاص بزوجات النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا: هو لزوجات النبي صلى الله عليه وسلم وحدهن! ولو جاء أمر خاص للنبي صلى الله عليه وسلم فقلنا: هو للنبي صلى الله عليه وسلم وحده دون سائر المؤمنين! لو كان الأمر كذلك لعطلنا معظم أوامر القرآن، ومعظم نواهي القرآن. وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم في أول سورة الأحزاب بأن يتقي الله فقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب:1] فهل يقول عاقل: إنه لا يجب علينا أن نتقي الله؛ لأن الأمر هنا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم؟! وهكذا في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} [التحريم:9] هل يقول عاقل: إنه لا يجب علينا أن نجاهد الكفار والمنافقين؛ لأن الأمر هنا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم؟! وكذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} [الأحزاب:53] هل يقول عاقل: إنه يجوز دخول غير بيوت النبي صلى الله عليه وسلم من غير إذن؟! ما هذا؟! إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وهذا ما قال به علماؤنا. فهنا وإن كان نزول هذه الآيات في زوجات النبي صلى الله عليه وسلم الطاهرات، إلا أنها عامة من ناحية الأحكام. ثم ما هي العلة من فرض الحاجب؟ العلة من فرض الحجاب بنص الآية هو: قوله تعالى: {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53] أتدرون لمن هذا الأمر؟ لنساء النبي صلى الله عليه وسلم الطاهرات، لأشرف نساء العالمين، ولأطهر نساء الدنيا اللائي تربين في بيت النبوة على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، اللائي شربن من نبع الوحي الزلال الصافي، وهن مَن هن؟! هن المطهرات من السفاح، المحرمات علينا بالنكاح، الموصوفات بأنهن أمهات المؤمنين، يأمرهن الله بالحجاب حماية لقلوبهن، وطهارة لقلوبهن وقلوب أبنائهن المحرم عليهم نكاحهن! فما نقول في غيرهن المحللات لنا بالنكاح، المتطلع لهن أهل السفاح؟! هل يجوز أن يخرجن، أو أن يكن سافرات غير منتقبات، وبارزات غير محجبات؟! إن دليل الأولوية في هذه الآية واضح وضوح الشمس في رابعة النهار. فإذا أمرت عائشة بالحجاب فهل يترك غيرها؟! إذا أمرت حفصة بالحجاب طهارة لقلبها، فهل نترك غيرها؟! إذا أمرت أم سلمة بالحجاب طهارة لقلبها، فهل نترك غيرها؟! إذا أمرت سودة وزينب وغيرهن رضي الله عنهن بالحجاب فهل نترك غيرهن؟! إن دليل الأولوية واضح في هذه الآية، وهذا المسلك في القرآن معلوم عند أهل الأصول بمسلك الإيماء والتنبيه، إن الأمر بين واضح، {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعَاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب:53] لماذا؟ {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53].

آية النور

آية النور الدليل الثالث هو: الآية الحادية والثلاثون من سورة النور، وهي قول الله جل وعلا: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور:31] يستدل العلماء من هذه الآية بثلاثة مواضع: الموضع الأول: قوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31] أي: إلا ما ظهر منها بغير قصد وعمد، بل وهي مضطرة لإظهاره رغماً عنها، وهو ظاهر الثياب، فإن الثياب على بدن المرأة زينة. وحتى لا نتهم بأننا نتعسف في لي أعناق الآيات لياً، فتعالوا بنا إلى صحابي جليل، علم من أعلام الصحابة في فهم كتاب الله جل وعلا، ما من آية نزلت إلا وهو يعلم متى نزلت وأين نزلت وفيما نزلت، إنه الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، ماذا قال ابن مسعود في تفسير هذه الآية؟ عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31] قال: الثياب، أي: زينة المرأة: الظاهرة الثياب، والإسناد إليه صحيح. أما ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31]: الوجه والكفان، فإسناده إلى ابن عباس لا يصح بحال، كما معروف لعلماء الحديث وعلماء التخريج، فإنه مروي عن ابن عباس من طريقين: الطريق الأول: رواه شيخ المفسرين الإمام ابن جرير الطبري. والطريق الثاني: أخرجه الإمام البيهقي في السنن الكبرى. فتعالوا بنا لنقف مع هذين الإسنادين لنتعرف على صحتهما من عدمها، حتى يتضح لنا أن هذا القول لا يصح إسناده بحال إلى ابن عباس رضي الله عنهما. أما الطريق الأول -وهو الذي أخرجه الإمام ابن جرير الطبري في التفسير- فلا يصح بحال، وإسناد ضعيف جداً، بل هو منكر؛ لأن في سنده مسلم الملائي الكوفي، قال فيه البخاري: تكلموا فيه، وقال فيه الحافظ الذهبي: ضعفوه، وقال الحافظ ابن حجر في التقريب: ضعيف، وقال يحيى بن معين: ليس بثقة، وقال النسائي: متروك الحديث، وقال الحافظ الذهبي: متروك الحديث. إذاً: الإسناد بهذا الطريق لا يصح بحال كما هو معلوم لكل علماء الحديث. أما الإسناد الآخر الذي أخرجه الإمام البيهقي: فهو ضعيف جداً أيضاً؛ لضعف راويين من رجال سند هذا الطريق: الرجل الأول هو: أحمد بن عبد الجبار العطاردي، قال فيه الحافظ ابن حجر في التقريب: ضعيف. وقال فيه مطين: كان يكذب. أما الرجل الثاني فهو: عبد الله بن هرمز بن مسلم بن هرمز، قال فيه الحافظ ابن حجر في التقريب: ضعيف، وقال فيه الحافظ الذهبي: ضعفه ابن معين والنسائي. إذاً: أيها الأحباب، الإسنادان لا يصحان بحال، ولا يصح أن يستشهد بهما في المتابعات والشواهد، فضلاً عن أن يحتج بهما في أمر من الأمور الواجبة، كما هو معلوم لكل طالب علم مبتدئ في علم الحديث. إذاً: لا يصح الإسناد إلى ابن عباس رضي الله عنهما في أنه فسر الزينة الظاهرة بالوجه والكفين، ويؤكد صحة ذلك ما ذكرته في أول اللقاء حينما فسر آية الإدناء بقوله: (أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن لحاجة، أن يغطين وجوههن من فوق رءوسهن بالجلابيب، ويبدين عيناً واحدة). إذاً: الزينة الظاهرة هي: الثياب، وهي: ما يظهر من المرأة من غير عمد وعلى حين غفلة من المرأة، ومن علم أحوال النساء علم ذلك جيداً، فإذا هبت ريح فقد تكشف وجه المرأة، وإذا اضطرت المرأة حين شرائها وبيعها أن تكشف عن وجهها الغطاء فقد ينظر رجل خلسة إلى وجهها على حين غرة منها، هذه زينة تظهر من المرأة من غير عمد، ومن غير قصد، وهي بإذن الله لا تؤاخذ عليها، بدليل قول الله جل وعلا: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31]. الموضع الثاني في الآية هو: قوله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31] ومعنى ضرب الخمار على الوجه: تغطية الوجه، بدليل حديث عائشة الذي رواه البخاري ومسلم: (فخمرت وجهي بجلبابي)، وبدليل حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: كنا نغطي وجوهنا ونحن محرمات وكنا نمتشط قبل ذلك في الإحرام. الحديث رواه مالك وصححه الإمام ابن خزيمة وصححه الإمام ابن حبان ورواه الحاكم في المستدرك من طريقه وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين البخاري ومسلم ولم يخرجاه، وأقره الإمام الذهبي على ذلك في التلخيص. ويؤكد ذلك أيضاً قول فاطمة بنت المنذر رحمها الله تعالى الذي أشرت إليه آنفاً قالت: كنا نخمر وجوهنا من الرجال في الإحرام ونحن مع أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها. والأثر رواه الإمام الحاكم في المستدرك وقال: صحيح على شرك الشيخين البخاري ومسلم، وأقره الذهبي على ذلك. إذاً: قوله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31] المفهوم من ضرب الخمار هو: أن تضرب المرأة الخمار من رأسها، أو من على رأسها على وجهها، وما سميت الخمر خمراً إلا لأنها تغطي العقل، وقال الحافظ في تعريف الخمر: ومنه: خمار المرأة؛ لأنه يستر وجهها. الموضع الثالث في هذه الآية: قوله تعالى: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور:31] إذا كان الإسلام قد حرم على المرأة أن تضرب الأرض برجلها، خشية أن يفتتن الرجال بسماع صوت خلخالها، فبالله عليكم هل يحرم الإسلام على المرأة ذلك ثم يبيح لها أن تكشف وجهها الذي قد امتلأ نضارة وجمالاً وحسناً وتجميلاً وتزييناً؟! أي الفتنتين أعظم، فتنة الوجه أم فتنة القدم؟! {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37]، ورحم الله من قال: إن الحجاب الذي نبغيه مكرمةٌ لكل مسلمة ما عابت ولم تعب نريد منها احتشاماً عفة أدباً وهم يريدون منها قلة الأدب يا رُب أنثى لها عزم لها أدب فاقت رجالاً بلا عزم ولا أدب ويا لقبح فتاة لا حياء لها وإن تحلت بغالي الماس والذهب إن الحجاب عفة، إن الحجاب مكرمة، إن الحجاب شرف، إن الحجاب مروءة، إن الحجاب إيمان، إن الحجاب طاعة، إن الحجاب امتثال لأمر الله وامتثال لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فيا أيتها اللؤلؤة المكنونة المسلمة، أيتها الدرة المصونة الغالية، والله ما نريد لك إلا العفة، والله ما أراد الإسلام لك إلا الكرامة، والله ما أراد الإسلام لك إلا أن يحميك من عبث العابثين ومجون الماجنين، والله ما نريد لك إلا الخير في الدنيا والآخرة. أختاه! يا بنت الإسلام تحشمي لا ترفعي عنك الحجاب فتندمي صوني جمالك إن أردت كرامة فالناس حولك كالذئاب الحوم إي والله! كالذئاب الحوم، خاصة في زمان قل فيه الإيمان، وقل فيه الورع، وقل فيه الزهد، وقلت فيه التقوى، وإلى الله المشتكى، والله المستعان. وأكتفي بهذا القدر من الأدلة القرآنية أحبتي في الله.

الأدلة من السنة النبوية على وجوب الحجاب

الأدلة من السنة النبوية على وجوب الحجاب الأدلة النبوية على وجوب الحجاب كثيرة ولله الحمد والمنة، ووالله لو لم يكن منها إلا هذا الحديث الذي رواه الإمام البخاري والإمام مالك في الموطأ والإمام الترمذي في السنن وقال: حديث حسن صحيح، ورواه الإمام أحمد في مسنده وغيرهم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القفازين) (المرأة المحرمة) هي: التي أهلت بالإحرام في الحج أو العمرة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: دل هذا الحديث على أن النقاب والقفازين كانا معروفين لدى النساء اللاتي لم يحرمن. وهذا واضح جداً، (لا تنتقب المرأة المحرمة) إذاً: غير المحرمة كانت في الأصل منتقبة، وأمرها النبي صلى الله عليه وسلم في حال إحرامها ألا تنتقب، فهذا الذي نهيت عنه، وهذا الذي أمرت به. وروى أحمد والبيهقي والدارقطني وغيرهم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان الركبان -أي: الرجال الذين يركبون الدواب- يمرون بنا ونحن محرمات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا حاذونا -أي: اقترب هذا الركب منا وفيه من الرجال من فيه- سدلت إحدانا جلبابها من على رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه. والحديث -للأمانة- ضعيف، وله شاهد قوي من حديث أسماء وحديث فاطمة بنت المنذر اللذين ذكرتهما آنفاً. والحديثان: والحديث الأول: رواه مالك في الموطأ، وابن خزيمة في الصحيح، وابن حبان في الصحيح، والحاكم من طريقه في المستدرك، وقال: صحيح على شرط الشيخين، وأقره الذهبي. والآخر: رواه الحاكم في المستدرك وقال: صحيح على شرط الشيخين، وأقره الذهبي. أما أحاديث النظر إلى المخطوبة فهي والحمد لله أحاديث صحيحة بطرقها: جاءت عن محمد بن مسلمة والمغيرة بن شعبة وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم جميعاً، وهذه الأحاديث تدل على أن الخاطب كان يتكلف مشقة وعناء في النظر إلى وجه مخطوبته، وهي تجيز للخاطب أن ينظر إلى وجه مخطوبته، وسأذكر منها حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل. قال جابر بن عبد الله: فخطبت جارية، فكنت أتخبأ لها حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها، وتزوجتها). يقول علماؤنا: المرأة التي تخرج في هذا الزمان متبرجة مكتحلة متزينة متطيبة متعطرة، لا تكلف الرجل مشقة في أن يختبئ لينظر إلى وجهها، بل ما عليه إلا أن يمشي إلى جوارها في الشارع ليرى منها كل شيء، كما نرى هذا في زمننا، وإنا لله وإنا إليه راجعون. وهكذا فمن لم يمت إنصافه في قلبه، ولم يعم قلبه وعقله؛ لا يحتاج إلى سرد هذه الأدلة، ولا إلى كل هذه الأدلة، وإنما بفطرته النقية الطيبة سيعلم علم اليقين أن أصل الفتنة وأصل الجمال في المرأة هو وجهها، ويعلم علم اليقين أن حجاب المرأة شرف لها، قبل أن يكون شرفاً وكرامة لأفراد المجتمع. فيا أيها الأخ الكريم، عليك بزوجتك، وعليك بابنتك، وعليك بأختك. وأنت أيتها الأخت الفاضلة الكريمة، اتقي الله جل وعلا، واعلمي أن في الحجاب الشرف والعزة والمنعة والكرامة، وخيري الدنيا والآخرة. أسأل الله تبارك وتعالى أن يرزقنا وإياكم الصواب. وأسأل الله جل وعلا أن يتقبل منا وإياكم صالح الأعمال. وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

شروط الحجاب الشرعي

شروط الحجاب الشرعي الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد: فيا أيها الأحبة: نتحدث عن شروط الحجاب الشرعي حتى تعلم المرأة أنه ليس كل ثوب يجوز أن تخرج به خارج البيت، فإن للحجاب الشرعي شروطاً، ينبغي أن تتعلمها كل امرأة: الشرط الأول: أن يكون الحجاب أو الثوب ساتراً لجميع البدن. فلا يجوز بحال أن تغطي المرأة رأسها، وأن تغطي المرأة بدنها، ثم يكون الثوب قصيراً لتظهر قدميها أو لتظهر ساقيها، ومن النساء من تتفنن في ذلك لستر هذا الجزء الباقي من أسفل؛ فتلبس حذاء برقبة طويلة لتستر هذا الجزء ثم تدعي وتزعم أنها محجبة. الشرط الثاني: ألا يكون الثوب زينة في ذاته. فلا تلفت المرأة الأنظار إلى ثوبها بألوانه الفاقعة، التي تجذب الأنظار، فلا ينبغي أن يكون الثوب في حد ذاته زينة، ولا ينبغي أن يكون معطراً يلفت إليه الأنظار، وهذا شرط مستقل من شروط الحجاب الشرعي. ثالثاً: ألا يكون الثوب شفافاً. بل يجب أن يكون الثوب صفيقاً أي: سميكاً لا يشف على بدن المرأة، ومن النساء من تلبس ثوباً صفيقاً أي: سميكاً، وتجعل في محاذاة الصدر أو على الذراعين ثوباً شفافاً يظهر ما تحته، وهذه هي قمة الفتنة، والرسول صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الذي رواه مسلم من حديث أبي هريرة: (صنفان من أهل النار لم أرهما وذكر منهما: ونساء كاسيات عاريات) ومن أوجه التفسير لهذا الحديث: أن تلبس المرأة ثوباً شفافاً يظهر ما تحته. الشرط الرابع: ألا يكون الثوب ضيقاً؛ لأن الثوب الضيق من أعظم الفتن، ومن أعظم ما يثير الشهوات؛ لأن الثوب الضيق وإن كان صفيقاً وسميكاً لا يشف فإنه يبين حجم عظام المرأة، وهذه قمة الفتنة التي ترسل بها النساء اللائي يلبسن مثل هذه الثياب الضيقة إلى قلوب الشباب، وقلوب الرجال، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. الشروط الخامس: ألا يكون الثوب مبخراً أو معطراً أو مطيباً. والمراد الثوب الذي تخرج به المرأة إلى الشارع، أما أن تتعطر وتتطيب وتتزين لزوجها في بيتها، فالإسلام يأمرها بذلك، وإن همت بالخروج فلا يجوز أن يكون الثوب معطراً؛ لأن العطر من ألطف وسائل المخابرة بين الرجل والمرأة، وفي الحديث الذي رواه مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا خرجت إحداكن إلى المسجد فلا تقربن طيباً) فما ظنكم إذا خرجت إلى الأسواق والشوارع والطرقات؟! وروى الترمذي وقال: حديث حسن صحيح من حديث أبي موسى الأشعري أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أيما امرأة استعطرت فخرجت فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي كذا وكذا -أي: زانية- وكل عين زانية) أي: وكل عين تنظر إليها بشهوة فهي زانية، وأسلفنا أن العينين تزنيان وزناهما النظر. الشرط السادس: ألا يكون ثوب المرأة لباس شهرة. كأن تلبس المرأة ثياباً غالية جداً في الثمن، ليشار إلى ثوبها بالبنان ويقال: إن فلانة بنت فلان تلبس من الثياب ما قيمته كذا وكذا، فهذا ثوب شهرة، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول في الحديث الذي حسنه شيخنا الألباني وحسنة الإمام المنذري في الترغيب والترهيب: (من لبس ثوب شهرة ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة، ثم ألهب عليه ناراً). ولا يشترط بالضرورة أن يكون ثوب الشهرة غالياً، فمن الممكن أن يكون ثوب الشهرة رخيصاً جداً يلبسه الرجل ليظهر التواضع وليظهر المسكنة وليظهر الذل، وهذا من ثوب الشهرة أيضاً. وكذلك المرأة. الشرط السابع: ألا يشبه ثوب المرأة ثياب الرجل، فلا يجوز أن تتشبه المرأة بالرجال في لباسها، أو في صوتها، أو في مشيتها، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول -والحديث رواه البخاري -: (لعن الرسول صلى الله عليه وسلم المتشبهات من النساء بالرجال، والمتشبهين من الرجال بالنساء) هذا ملعون على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه ملعونة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عباس: (لعن النبي صلى الله عليه وسلم المرأة تلبس لبسة الرجل، والرجل يلبس لبسة المرأة، ولعن النبي صلى الله عليه وسلم المخنثين من الرجال، والمترجلات من النساء) فالمرأة التي تريد أن تظهر كرجل، بل وتسعد إن أشير إليها بذلك؛ ملعونة على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، أما الرجل الذي يتشبه بالمرأة، فهو رجل مخنث يتكسر في مشيته، ويتغنج في لفظه، ويلبس من الثياب ما لا يليق أن تلبسه إلا المرأة، فهذا ملعون على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم. الشرط الثامن: ألا يشبه ثوب المرأة لباس الكافرات. وهذه من النكسات النفسية التي أصبنا بها، حتى أصبحت المسلمة تقلد الكافرة في كل شيء، حتى في قصة شعرها، وهذه من الهزيمة النفسية التي أصابت قلوب كثير من النساء، لا يجوز للمسلمة أن تقلد الكافرة في أي شيء أبداً، وفي الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من تشبه بقوم فهو منهم) الحديث حسنه شيخنا الألباني، وحسنه الحافظ ابن حجر في الفتح، وصححه الحافظ العراقي.

شبهات والرد عليها

شبهات والرد عليها يوجد بعض الشبهات ينبغي الرد عليها، فبعض العلماء يقولون بجواز كشف الوجه -ونحن نحسن الظن بهم، ولا نتهمهم والعياذ بالله، فإننا نحب شيوخنا وعلماءنا، ولكن الحق أحب إلينا منهم- ويستدلون بأحاديث منها حديث أسماء الذي رواه أبو داود والبيهقي من حديث خالد بن دريك عن عائشة رضي الله عنها قالت: (دخلت أسماء على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق -أي: رقيقة- فأعرض عنها النبي عليه الصلاة والسلام وقال: يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لا يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا، وأشار النبي عليه الصلاة والسلام إلى وجهه وكفيه) هذا الحديث كما معروف لكل طالب علم مبتدئ في علم الحديث لا يصلح بحال للمتابعات والشواهد، ولا يحتج به أبداً؛ لأن فيه ثلاث علل من العلل القادحة: العلة الأولى: أنه حديث مرسل من مراسيل خالد بن دريك عن عائشة، وهو لم يدرك عائشة رضي الله عنها، فـ خالد من أتباع التابعين، ومعلوم عند علماء الحديث أنه لا يحتج بالحديث المرسل، ومن العلماء من قال: لا يحتج إلا بمراسيل كبار التابعين فقط كـ سعيد بن المسيب وغيره، وخالد من أتباع التابعين. العلة الثانية: فيه سعيد بن بشير الأزدي وهو ضعيف، فقد ضعفه الحافظ الذهبي وكذا الحافظ ابن حجر في التقريب. العلة الثالثة: من رجال هذا الحديث قتادة وهو مدلس. فهذا حديث انقطع فيه السند، وفي بعض رواته ضعف، وفيه تدليس، فعند كل طالب علم مبتدئ -فضلاً عن العالم- لا يحتج بهذا الحديث، ولا يصلح أبداً للمتابعات والشواهد. وكنت أود أن أفند معظم الشبه الباقية؛ ولكن في هذا كفاية، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37]. ورحم الله من قال: فلا تبالي بما يلقون من شبه وعندك العقل إن تدعيه يستجب سليه من أنا ما أهلي من نسبي للغرب أم أنا للإسلام والعرب سليه لمن ولائي لمن حبي لمن عملي لله أم لدعاة الإثم والكذب أسأل الله جل وعلا أن يرزقنا وإياكم الصواب، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً وأن يرزقنا اجتنابه، إنه ولي ذلك ومولاه. وأسأل الله جل وعلا أن يطهرنا وإياكم. اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا. اللهم بارك في حكام المسلمين، وفي نساء المسلمين، وفي شباب المسلمين. اللهم قيض لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، أنت ولي ذلك ومولاه. هذا وأكثروا من الصلاة والسلام على نبينا وحبيبنا محمد، كما أمركم الله جل وعلا بذلك في قوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمَاً} [الأحزاب:56] اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا وحبيبنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

الرياء

الرياء الرياء داء عضال، خافه النبي صلى الله عليه وسلم على أمته، وما ذاك إلا لشدة خفائه، ولعظيم خطره، فهو سبب لعدم قبول الأعمال، وقد أضحى مزلة لأقدام كثير من العلماء والعباد، وقد بين أهل العلم أقسامه، وفصلوا في ذلك، ومن رحمة الله بنا أن جعل لهذا الداء دواء، ولهذا المرض علاجاً، ذكره أيضاً أهل العلم.

الرياء هو الشرك الخفي

الرياء هو الشرك الخفي بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فما زال حديثنا عن القلوب، وأقسامها، وعللها، وأدويتها، وقلنا: بأن القلب إذا صلح صلح الجسد كله، وإذا فسد فسد الجسد كله؛ لأن حركات الجوارح. وأعمال الجوارح تابعة لحركة القلب، وعمل القلب، وإرادة القلب، فإن كانت حركة القلب وإرادته لله جل وعلا وحده، كانت حركة الجوارح وأعمال الجوارح لله جل وعلا وحده، وإن كانت حركة القلب وإرادته وعمله -من عبودية ومحبة ورجاء وتوكل وخشية وإنابة وتفويض- لغير الله جل وعلا كانت أعمال الجوارح وحركات الجوارح أيضاً لغير الله جل وعلا، فانبعثت الجوارح بمعصية الله؛ لأن القلب هو الملك والجوارح هي جنوده ورعاياه، وإن صح وصلح المَلِكُ صح وصلح الجنود والرعايا، وإن فسد الملك فسد الجنود والرعايا، فهم يأتمرون بأمره ويعملون بتوجيهه. ونحن اليوم على موعد مع عمل سيء تنبعث به الجوارح إذا خبث وفسد القلب ومرض عمل يحبط الأعمال عمل يسبب المقت والغضب من الكبير المتعال إنه داء عضال، ومزلة أقدام العباد والعلماء، إلا ما رحم رب الأرض والسماء، إنه مرض خاف النبي صلى الله عليه وسلم منه على أمته أكثر من خوفه عليهم من فتنة المسيح الدجال، فقد ورد في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده، والإمام ابن ماجة في سننه، وحسن الحديث شيخنا الألباني في صحيح الترغيب والترهيب من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: الشرك الخفي. قالوا: وما الشرك الخفي يا رسول الله؟! قال: يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته؛ لما يرى من نظر الرجل إليه). وتأتي للصلاة على فتورٍ كأنك قد دعيت إلى البلاء وإن أديتها جاءت بنقص لما قد كان منك من شرك الرياء وإن تخلو عن الإشراك فيها تدبر للأمور بالارتقاء ويا ليت التدبر في مباح ولكن في المشقة والشقاء وإن كنت المصلي بين خلق أطلت ركوعها بالانحناء وتعجل خوف تأخير لشغل كأن الشغل أولى من لقاء أيا عبد! وإن كنت المجالس يوماً قطعت الوقت من غير اكتفاء أيا عبد! لا يساوي الله معك أنساً تناجيه بحب أو صفاء يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر الرجل إليه، هذا هو الشرك الخفي، ويوضح ذلك -أيضاً- حديث محمود بن لبيد رضي الله عنه الذي رواه أحمد في مسنده، والإمام ابن حبان في صحيحه، والإمام البغوي في شرح السنة، وهو حديث صحيح الإسناد على شرط الإمام مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟! قال: الرياء). إننا اليوم على موعد مع هذا المرض العضال، مع مزلة أقدام العباد والعلماء إلا من رحم الكبير المُتَعَال، إننا اليوم على موعد مع هذا المرض الذي يحبط العمل، وهو سبب من أسباب المقت والغضب من الله جل وعلا، وكم من إنسان قد زل في هذا الباب وهو لا يدري؟! وكم زلت في هذا الباب أقدام؟! وكم ضلت في هذا الباب أفهام؟! ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ونظراً لطول الموضوع وخطورته -أيها الأحبة- فسوف أركز الحديث مع حضراتكم في هذا الموضوع في أربعة عناصر: أولاً: الرياء لغة وشرعاً. ثانياً: الرياء محبط للأعمال والأدلة على ذلك. ثالثاً: أقسام العمل مع الرياء. رابعاً: ما هو السبيل إلى العلاج؟ فأعيروني القلوب والأسماع -أيها الأحبة- وأسأل الله جل وعلا بداية أن يرزقنا وإياكم الإخلاص في القول والعمل والسر والعلن، وأن يطهر قلوبنا وجوارحنا وأعمالنا من الرياء صغيره وكبيره غليظه ودقيقه، إنه ولي ذلك ومولاه وهو على كل شيء قدير.

تعريف الرياء لغة وشرعا

تعريف الرياء لغة وشرعاً أما تعريف الرياء لغة: فهو مشتق من الرؤية، يقول الفيروز أبادي: راءى مراءاة ورياء أي: يُريْ غيره خلاف ما هو عليه. وحقيقة الرياء شرعاً لا تختلف كثيراً عن معناه اللغوي. فالرياء شرعاً: هو إظهار العبادة بقصد رؤية الناس لها، فيحمدُ الناس صاحبها، فهو حين يظهر العبادة لا يبتغي بها وجه الله، وإنما يبتغي بها الثناء والحمد من الناس، بل ربما إذا حان وقت الصلاة وهو في الخلوة لا يصلي، وإذا رأى أعين الناس تنظر إليه قام إلى الصلاة، بل ومن الناس من يغلظ الرياء منه والعياذ بالله، كأن يكون مع كبير من الكبراء، أو مع حاكم من الحكام، أو مع أمير من الأمراء، ودخل هذا الرجل المسجد -لتصور عدسات التلفاز صلاته- إذا به يدخل مع هذا المسئول الكبير بغير وضوء والعياذ بالله، لماذا؟ لأن الإعلام يريد أن يظهر جزئية معينة للسُّذَّجِ البُلَهَاءِ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. فالرياء شرعاً: هو إظهار العبادة بقصد رؤية الناس لها؛ ليحمد الناس صاحبها على ذلك، ولينال جاهاً أو مكانة في قلوب الخلق، وأظن أن عقولكم ستذهب الآن بمنتهى السرعة إلى هؤلاء الذين يرشحون أنفسهم لمجالس النواب، أو لمجالس الشعب، أو لغيرها من هذه المجالس التي لا شرعية فيها، وفي أثناء جولاتهم الانتخابية يتصنعون بما ليس فيهم، ويظهرون من الطاعات والعبادات ما هم بعيدون عنه كل البعد، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

الرياء محبط للأعمال

الرياء محبط للأعمال العنصر الثاني: أن الرياء يحبط العمل، فإذا ابتغى العبد بعمله وجه الناس والثناء منهم، والجاه في قلوبهم، والمحمدة على ألسنتهم، ولم يبتغ بعمله وجه الله جل وعلا فعمله حابط ومردود في وجهه؛ لأن الله تعالى لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً صواباً، والخالص هو: ما ابتغي به وجه الله، والصواب هو: ما كان موافقاً لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لقول الله جل وعلا: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]، ولقول الله جل وعلا: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5]، ولقول الله جل وعلا: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون:4 - 7]. فالرياء يحبط العمل -أيها الأحباب- والأعمال يتوقف صلاحها وفسادها وقبولها وردها على نية فاعلها وصاحبها، فإن كانت نية العبد صالحة لله، قبل عمله، ولو كان في أعين الناس حقيراً فهو عند الله عظيم، وكم من الأعمال ينظر الناس إليها على أنها عظيمة، وعلى أنها جليلة، وعلى أنها كبيرة وهي عند الله حقيرة، لا تزن عنده جناح بعوضة؛ لأن صاحبها ما ابتغى بها وجه الله، وإنما ابتغى بها الثناء والمحمدة عند الناس، والله جل وعلا يعلم السر وأخفى! وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه) والحديث رواه البخاري ومسلم من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فالأعمال يتوقف قبولها على صلاح النية، فإن ابتغيت بعملك الله جل وعلا قبل عملك، ولو كان في أعين الناس حقيراً، ولو ابتغيت غير الله جل وعلا رد عملك في وجهك، ولو كان في أعين الناس عظيماً. ولذلك ورد في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: (أن أعرابياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أرأيت الرجل يغزو -أي: يجاهد- يلتمس الذكر، والرجل يقاتل يلتمس المغنم -أي: الغنيمة-، والرجل يقاتل يلتمس الأجر فما لهم؟ -أو أيهم في سبيل الله؟ - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله). وفي رواية النسائي وابن ماجة -والحديث حسنه الحافظ العراقي - أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه رجل فقال: (يا رسول الله! أرأيت رجلاً غزا يلتمس الأجر والذكر -يريد الأجر من الله جل وعلا وفي نفس الوقت يريد أن يذكر بين الناس- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا شيء له، لا شيء له، ثم قال عليه الصلاة والسلام: إن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً، وما ابتغي به وجهه جل جلاله). وفي الحديث الذي يخلع القلب ويعكر صفو الحياة، والذي رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد -مات في ميدان الشرف والرجولة والبطولة- فَأُتِيَ به فَعَرَّفَهُ نعمه فَعَرَفَهَا قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت ولكنك قاتلت ليقال: هو جريء فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار). لا إله إلا الله! رجل بذل نفسه في ميدان القتال، ولكنه ما ابتغى بعمله وجه الكبير المُتَعَالِ، والله جل وعلا يعلم السر وأخفى، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، إن كنت تستطيع أن تخدع الناس، فلن تستطيع أن تخادع الله جل وعلا، {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة:9 - 10]. قال: (رجل استشهد فَأُتِيَ به فعرفه نعمه، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت ليقال: هو جريء فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وقرأ القرآن) عالم ملأ الدنيا علماً وملأ الدنيا فتاوى، عالم أشير إليه بالبنان والتف الناس حوله، إلا أنه ما فعل ذلك إلا ليحصل كرسيّاً زائلاً، وليحصل منصباً فانياً، أو ليكون قريباً من السلطان، فما ابتغى بعلمه وجه الرحيم الرحمن، والله يعلم منه السر وأخفى. وفي حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه الذي رواه البخاري ومسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (يؤتى بالرجل يوم القيامة فتندلق أقتاب بطنه في النار، فيدور بها كما يدور الحمار في الرحى، فيجتمع إليه أهل النار ويقولون: يا فلان! ما لك؟! ألم تك تأمر بالمعروف وتنه عن المنكر؟ فيقول: بلى، كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه). قال: (ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن فَأُتِيَ به فَعَرَّفُه نعمه فَعَرَفَهَا، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت ولكنك تعلمت ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ فقد قيل -هذا ما قد نلته في الدنيا- ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار). عالم وقارئ للقرآن لم يبتغ بعمله وجه الرحيم الرحمن، يسحب على وجهه ليلقى في النيران، نسأل الله السلامة والعافية، وأن يرزقنا وإياكم الإخلاص في القول والعمل، والسر والعلن، برحمته وهو أرحم الراحمين. أما الرجل الثالث أيها الأحباب! (رجل أعطاه الله من أصناف المال فَأُتِيَ به فَعَرَّفَه نعمه فَعَرَفَهَا قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت سبيلاً من أوجه الخير تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك أنفقت ليقال: هو جواد -ليقال: المحسن الكبير- فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار). أسمعت -أيها الحبيب- إلى خطورة الرياء؟! رجل مات في ميدان القتال، يسحب على وجهه في النار! ورجل ملأ الدنيا علماً، يسحب على وجهه في النار! ورجل قرأ القرآن بالليل والنهار، يسحب على وجهه في النار! ورجل أنفق في كل أبواب الخير، يسحب على وجهه في النار! لماذا؟ لأنهم لم يبتغوا بأعمالهم وجه العزيز الغفار، وإنما ابتغى كل واحد منهم مأرباً شخصياً وغاية شخصية، فلما حصل عليها في الدنيا حرم الجزاء من الله جل وعلا في الآخرة، فالرياء -أيها الأحباب- محبط للعمل؛ لأن الله تعالى لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً، وإلا ما ابتغي به وجهه جل جلاله.

أقسام العمل مع الرياء

أقسام العمل مع الرياء اعلموا أيها الأحبة! أنه تارة يكون العمل رياءً محضاً، كأن يكون الرياء في أصل الدين -أي: أن يظهر الإسلام، ويبطن الكفر- فهذا أشد أبواب الرياء وصاحبه مخلد في النار، إذا أظهر الإسلام وأبطن الكفر فهو مخلد في النار؛ لقول الله جل وعلا: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:1]، والله جل وعلا يقول: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:145]، ولقول الله جل وعلا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:204 - 205]. فأشد أبواب الرياء أن يكون العمل رياءً محضاً في أصل الدين، فإذا راءى في أصل الدين فأظهر الإسلام وأبطن الكفر فهو مخلد في النار ولا حول ولا قوة إلا بالله، وإن كان الرياء بعبادة من العبادات أو بطاعة من الطاعات مع وجود أصل الدين، كأن يكون الرجل مؤمناً موحداً لله جل وعلا، ولا يسجد إلا لله، ولا يوجه العبادة إلا لله، إلا أنه زل في عبادة من عباداته وطاعة من طاعاته فراءى بها الناس والمخلوقين فبالإجماع أن هذه العبادة وهذه الطاعة وهذا العمل حابط ومردود في وجهه، ولا قبول له عند الله جل وعلا؛ لما أسلفته من المقدمات ومن الأدلة. وقد يكون الرياء مشاركاً للعمل، فإن شارك الرياء العمل من بدايته -أي: من الأصل، ومنذ انعقاد النية- فأيضاً الأدلة الصحيحة الصريحة تقول بإحباط هذا العمل وبعدم قبوله عند الله جل وعلا، بمعنى: لو أن رجلاً خرج ليصلي، وما خرج أصلاً للصلاة إلا مراءاة للمخلوقين، وليرائي بها الناس، فالرياء شريك مع نية العمل، فهذا العمل كله من أوله إلى آخره عمل حابط ومردود في وجه صاحبه، وأكتفي بدليل واحد على ذلك، وهو الحديث الذي رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه). وفي رواية ابن ماجة: (فمن عمل عملاً أشرك فيه معي غيري فأنا منه بريء، وهو للذي أشرك). وقد يكون العمل لله جل وعلا في أوله، فيأتي الرجل للصلاة يبتغي بها وجه الله، ولكنه وهو في أثناء الصلاة طرأ عليه طارئ الرياء، فاختلف العلماء في هذه الحالة هل يحبط العمل كله أم لا؟ ولكن الراجح -كما رجحه الإمام أحمد والإمام الطبري -: أنه إذا كان أصل النية لله جل وعلا، وإذا كان أصل العمل لله جل وعلا وطرأ عليه طارئ الرياء، فإن دفعه فلا يضره هذا الطارئ بلا خلاف، أما إن استرسل مع الرياء في العمل، فإن عمله لا يحبط ولا يرده الله، وإنما يجازى على أصل نيته الأولى، وهذا من رحمة الله جل وعلا. أما حين يكون العمل خالصاً لله جل وعلا وحده، لا تشوبه شائبة من شوائب الرياء ولا من شوائب النفاق، ويلقي الله للعبد الحب في قلوب الخلق وفي قلوب الناس، ويجري ألسنتهم بالثناء عليه، فيفرح العبد بذلك ويستبشر به، فهذا لا يضره بإجماع، وليس هذا من أبواب الرياء، والدليل على ذلك ما رواه مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه: أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يعمل العمل من أعمال الخير فيحمده الناس عليه، أي: يعمل أعمال الخير مبتغياً وجه الله جل وعلا ومخلصاً لله في عمله؛ فيحمده الناس على هذا العمل، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (تلك عاجل بشرى المؤمن)، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم:96]، قال ابن عباس: أي محبة في قلوب الخلق، ويؤكد ذلك أيضاً حديث أبي هريرة الذي رواه البخاري ومسلم: (إن الله إذا أحب عبداً نادى جبريل وقال: يا جبريل! إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: يا أهل السماء! إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض). وفي الحديث الذي رواه البزار وصححه شيخنا الألباني في صحيح الجامع من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من عبد إلا وله صيت في السماء، فإن كان صيته حسناً وضع في الأرض، وإن كان صيته في السماء سيئاً وضع في الأرض)، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم:96]، وأود أن أنبه إلى أمر وهو أن حسن الثياب وحسن النعل وحسن المظهر ليس من الرياء، والدليل على ذلك ما رواه الإمام البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، فقال رجل: يا رسول الله! إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الكبر بَطَرُ الحق وغمط الناس). أي: ليس هذا من الكبر وإنما الكبر بطر الحق وغمط الناس. هذه هي أقسام العمل مع الرياء بإيجاز شديد، وأسأل الله جل وعلا أن يرزقنا وإياكم الإخلاص، وأن يقينا شر الرياء والنفاق، إنه ولي ذلك ومولاه، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

السبيل إلى علاج الرياء

السبيل إلى علاج الرياء الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فأخيراً -أيها الأحباب- ما هو السبيل إلى علاج الرياء، وإلى قلع جذوره من القلب، ألخص لكم ذلك في نقاط عملية فأقول: لابد لعلاج الرياء من علاج علمي، ومن علاج عملي:

العلاج العلمي للرياء

العلاج العلمي للرياء أما العلاج العلمي: فهو أن يعلم المرائي عاقبة الرياء في الدنيا والآخرة، أما عاقبة الرياء في الآخرة: فهو إحباط العمل ورده، وأن ليس له وزن عند الله جل وعلا. وأما عاقبة الرياء في الدنيا: فإن يظهر الله جل وعلا للناس سريرته: (فمن أرضى الناس بسخط الله، سخط الله عليه، وأسخط عليه الناس)، وقال أحد السلف: فليحذر أحدكم أن تمقته قلوب الناس وهو لا يدري، قيل: كيف ذلك؟ قال: إذا ما كان مع الناس أظهر الطاعة، وإذا ما خلا بينه وبين ربه بارز الله بالمعصية. لابد أن يفضحه الله جل وعلا وأن يظهر سريرته، وإظهار ضد القصد أمر ثابت شرعاً وقدراً، والدليل على ذلك ما رواه البخاري أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من سمع سمع الله به، ومن يرائي يرائي الله به). نقل الحافظ ابن حجر قول الإمام الخطابي في معنى الحديث: أن من عمل عملاً ليس خالصاً لله جل وعلا لابد أن يظهر الله للناس سره ويجعله علانية، ونحن نرى الواقع يؤكد ذلك أيضاً، فكم من الناس نسمعهم بآذاننا يقولون: إن فلاناً هذا مراءٍ، وإن فلاناً هذا منافق، سبحان الله! لأن الله جل وعلا قد أظهر سره وجعله علانية، وجعل الله البغض له في قلوب الخلق وفي قلوب العباد. واعلم -أيها الإنسان- بأن ذم الناس لك لا يبعدك من الله إن كنت قريباً منه، وحمد الناس لك لا يقربك من الله إن كنت بعيداً عنه، والناس لا يملكون لك ضراً ولا نفعاً، ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشوراً، ولا يدفعون عنك رزقاً، ولا يقربون لك أجلاً، فلمَ ترائي الناس وتخادع الله جل وعلا؟! أتخشى الناس والله أحق أن تخشاه؟! أتستحي من الناس ولا تستحي من الله؟! {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} [الشعراء:218]، و {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19]؟!! فمن علم أن الناس لا يملكون له ضرّاً ولا نفعاً، ابتغى بعمله وجه الله؛ لأنه ينبغي أن نعلم أن إرضاء الناس غاية لا تدرك، فإذا علم المرائي الذي شتت قلبه وشتت عقله وشتت جهده لإرضاء الناس هنا وهناك، إذا علم أن إرضاء الناس غاية لا تدرك كف عن الرياء، وكف عن مراءاة المخلوقين، ولو أرضى أحد كل الناس لأرضى الناس سيد الناس محمد صلى الله عليه وسلم، بل إن من عائلته وأسرته من عاداه، ومن سبه، ومن مشى خلفه ليقول للناس: هذا كاذب فلا تتبعوه! فإرضاء الناس غاية لا تدرك. فاعلم -أيها الإنسان! وأيها المسلم! وأيتها المسلمة- بأن ذم الناس لا يبعدك عن الله إن كنت قريباً منه، وبأن حمد الناس لا يقربك من الله إن كنت بعيداً عنه جل وعلا، وذم الناس وحمد الناس وكلام الناس لا يدفع عنك رزقاً، ولا يقرب لك أجلاً، ولا يملك الناس لك ضرّاً ولا نفعاً؛ لأنهم لا يملكون لأنفسهم ضرّاً ولا نفعاً فضلاً عن غيرهم. الأمر الثاني: اللجوء إلى الله جل وعلا في طلب الإخلاص في القول والعمل والسر والعلن: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:50]، ولنا في خليل الله إبراهيم الأسوة والقدوة، وهو الذي كان يتضرع إلى الله جل وعلا أن يجنبه وبنيه الشرك الأكبر فيقول: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم:35]، فإذا كان الخليل يتضرع إلى الله جل جلاله أن يجنبه الله الشرك الأكبر، فينبغي أن نتضرع إلى الله جل جلاله أن يجنبنا الشرك الأكبر والأصغر.

العلاج العملي للرياء

العلاج العملي للرياء أما العلاج العملي وهو في كلمة واحدة: لا علاج للرياء أفضل من الإخفاء إخفاء الطاعات إخفاء العبادات، حتى يتدرب القلب على مراقبة الله وحده لا مراقبة الناس، فلا علاج للرياء أنفع من الإخفاء، أن تخفي طاعتك عن أعين الناس، وأن تكون طاعتك لله جل وعلا، هذا إن كانت الطاعة مما لم يأت الشارع بوجوب الجهر به. وقد فصل القول في ذلك أعظم تفصيل الإمام العز بن عبد السلام في كتابه القيم (قواعد الأحكام): إذا كان العمل الذي شرعه الله جل وعلا مما يؤدى جهراً: كخطبة الجمعة كالأمر بالمعروف كالنهي عن المنكر كالصلاة كالأذان فهذا لا يمكن أن يؤدى سرّاً، ولا يمكن أن يخفى، وإنما لابد أن يؤدى جهراً مع مجاهدة النفس والقلب؛ ليكون العمل خالصاً لله جل وعلا. أما النوافل أما الصدقات أما سائر الطاعات التي لم يأمر الشرع بالجهر بها فينبغي أن تدرب نفسك على الإتيان بها بينك وبين الله جل وعلا؛ ليتقوى القلب على الإخلاص، ولينشط القلب على مراقبة الله لا مراقبة الناس. وأسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرزقنا وإياكم الإخلاص في القول والعمل. اللهم ارزقنا الإخلاص في القول والعمل، والسر والعلن، اللهم طهر قلوبنا وجوارحنا وأعمالنا من الرياء، اللهم ارزقنا لساناً ذاكراً وقلباً شاكراً وجسداً على البلاء صابراً. اللهم ارزقنا الإخلاص في أقوالنا وأعمالنا، وارزقنا الصدق في أحوالنا يا رب العالمين! اللهم لا تدع لأحد منا ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا أديته، ولا همّاً إلا فرجته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا طائعاً إلا ثَبَّتَّهُ، ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ويسرتها يا رب العالمين! اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وسلم، والحمد لله رب العالمين.

ماذا قدمت لدين الله؟

ماذا قدمت لدين الله؟ لقد كثر أعداء الإسلام، وأمسى صرحه الشامخ مستهدفاً في كل لحظة وزمان، وأكثر المسلمين اليوم يعيشون في سبات عميق، وكأن ما يحاك لدينهم من مؤامرات لا يعنيهم!! والواجب علينا جميعاً أن ننصر هذا الدين، كل يعمل قدر استطاعته، وفي المجال الذي يرى أنه سينفع به الإسلام، وما بذله أحدنا -ولو كان يسيراً- فلن يضيعه الله تعالى، وسيجزي به أضعافاً مضاعفة؛ لأنه سبحانه ذو الفضل العظيم!!

واقع مرير يستفز جميع الهمم

واقع مرير يستفز جميع الهمم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء! وأيها الإخوة الأحباب الكرام الأعزاء! وطبتم جميعاً وطاب ممشاكم وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم الكريم جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت المبارك على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! (ماذا قدمت لدين الله؟) هذا هو عنوان لقائنا مع حضراتكم في هذا اليوم الكريم المبارك، وكعادتنا حتى لا ينسحب بساط الوقت من بين أيدينا سريعاً فسوف ينتظم حديثي مع حضراتكم تحت هذا العنوان المخجل في العناصر التالية: أولاً: واقع مرير يستنفر جميع الهمم. ثانياً: ولكن ما هو دوري؟ ثالثاً: تبعة ثقيلة وأمانة عظيمة تطوق بها الأعناق. وأخيراً: فجر الإسلام قادم. فأعيروني القلوب والأسماع، والله أسأل أن يقر أعيننا وإياكم جميعاً بنصرة هذا الدين، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! أولاً: واقع مرير يستنفر جميع الهمم. والله إن العين لتدمع، وإنا القلب ليحزن، وإنا لما حل بأمة التوحيد لمحزونون، أهذه هي الأمة التي زكاها الله بقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]؟! أهذه هي الأمة التي زكاها الله بالوسطية والاعتدال في قوله سبحانه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143]؟! أهذه هي الأمة التي زكاها الله في القرآن بالألفة والوحدة فقال سبحانه: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92]؟! إنك لو نظرت إلى الأمة في القرآن، ونظرت إليها على أرض الواقع لانفلق كبدك من الحزن والبكاء على واقع أمة قد انحرفت كثيراً عن منهج الله جل وعلا، وعن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقد غيرت الأمة شرع الله، وانحرفت الأمة عن طريق رسول الله، والله جل وعلا يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]، فأذل الله الأمة لأحقر وأذل أمم الأرض، ممن كتب الله عليهم الذل والذلة من إخوان القردة والخنازير، من أبناء يهود، حتى من عُبَّاد البشر ساموا الأمة سوء العذاب، ولا حول ولا قوة إلا بالله! لقد أصبحت الأمة الآن قصعة مستباحة لأحقر أمم الأرض، ولأذل أمم الأرض، وحق على الأمة قول الصادق، كما في الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أومن قلة نحن يومئذٍ يا رسول الله؟! قال: كلا، إنكم يومئذ كثير، ولكن غثاء كغثاء السيل! وليوشكن الله أن ينزع المهابة من قلوب عدوكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قيل: وما الوهن يا رسول الله؟! قال: حب الدنيا وكراهية الموت). لقد أصبحت الأمة الآن -أيها الأخيار- غثاءً من النفايات البشرية، يعيش على ضفاف مجرى الحياة الإنسانية، تعيش الأمة الآن كدويلات متناثرة متصارعة متحاربة، تفصل بينها حدود جغرافية مصطنعة، ونعرات قومية جاهلية، وترفرف على سمائها رايات القومية والوطنية، وتحكم الأمة قوانين الغرب العلمانية، وتدور بالأمة الدورات السياسية، فلا تملك الأمة نفسها عن الدوران، بل ولا تختار لنفسها حتى المكان الذي تدور فيه. ذلت الأمة بعد عزة، وجهلت الأمة بعد علم، وضعفت الأمة بعد قوة، وأصبحت في ذيل القافلة الإنسانية بعد أن كانت بالأمس القريب تقود القافلة كلها بجدارة واقتدار، وأصبحت الأمة الآن تتسول على موائد الفكر الإنساني والعلمي بعد أن كانت الأمة بالأمس القريب منارة تهدي الحيارى والتائهين ممن أحرقهم لفح الهاجرة القاتل، وأرهقهم طول المشي في التيه والظلام! بل وأصبحت الأمة الآن تتأرجح في سيرها، ولا تعرف طريقها الذي يجب عليها أن تسلكه وأن تسير فيه، بعد أن كانت الأمة بالأمس الدليل الحاذق الأرب في الدروب المتشابكة، والصحراء المهلكة التي لا يهتدي للسير فيها إلا الأدلاء المجربون، ما الذي جرى؟ يبين الله سبحانه أن ما وقع للأمة إنما وقع وفق سنن ربانية لله في كونه لا تتبدل هذه السنن ولا تتغير مهما ادعى أحد لنفسه من مقومات المحاباة قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11].

ماذا قدمت لدين الله؟

ماذا قدمت لدين الله؟ لا أطيل في تشخيص الواقع المرير فكلنا يعرفه، ولكنني أقول: إن هذا الواقع الأليم يستنفر جميع الهمم الغيورة، ويستوجب أن يسأل كل واحد منا نفسه هذا السؤال، قل لنفسك الآن، وأنا أقول لنفسي الآن: ماذا قدمت لدين الله جل وعلا؟ سؤال مخجل، سؤال مهيب: ماذا قدمت لدين الله جل وعلا؟ سؤال يجب ألا نمل طرحه، وألا نسأم تكراره؛ لنحيي في القلوب قضية العمل لهذا الدين، في وقت تحرك فيه أهل الكفر وأهل الباطل بكل رجولة وقوة لباطلهم وكفرهم الذي هم عليه، انتعش أهل الباطل وتحركوا في الوقت الذي تقاعس فيه أهل الحق وتكاسلوا، والله يا إخوة ما انتفش الباطل وأهله إلا يوم أن تخلى عن الحق أهله، ماذا قدمت لدين الله؟ سؤال يجب ألا نمل تكراره؛ لتجييش الطاقات الهائلة في الأمة؛ لتعمل لدين الله جل وعلا؛ للقضاء على هذه السلبية القاتلة المدمرة التي تخيم الآن على سماء الأمة؛ لتحريك دماء الإسلام التي تنبض بالولاء والبراء، والغيرة لدين الله في هذا الجسد الضخم الذي يتكون مما يزيد على مليار من المسلمين والمسلمات، ماذا قدمت لدين الله جل وعلا؟

ما هو دور كل مسلم

ما هو دور كل مسلم أيها المسلم! وأيتها المسلمة! واقع يجب أن يستنفر جميع الهمم الغيورة، وهنا قد يسأل كثير من المسلمين بصفة عامة وكثير من شبابنا بصفة خاصة ويقول: أنا أريد أن أقدم شيئاً لدين الله، وأن أبذل شيئاً لدين الله، ولكن ما هو دوري؟ وهذا هو عنصرنا الثاني من عناصر هذا اللقاء: ولكن ما هو دوري؟ سؤال وإن كان يمثل في الحقيقة ظاهرة صحية، إلا أنه ينم عن خلل في فهم حقيقة الانتماء لهذا الدين، إلى الحد الذي أصبح فيه المسلم لا يعرف ما الذي يجب عليه أن يقدمه لدين الله جل وعلا، لماذا؟ لأن قضية العمل للدين ما تحركت في قلبه إلا في لحظة حماس عابرة، أججها في قلبه عالم مخلص أو داعية صادق، فقام بعد هذه اللحظة الحماسية المتأججة ليسأل عن دوره الذي يجب عليه أن يبذله ويقدمه لدين الله جل وعلا، أما لو كانت قضية العمل لدين الله تشغل فكره، وتملأ قلبه، وتحرك وجدانه، ويفكر فيها في الليل والنهار، في النوم واليقظة، في السر والعلانية، لو كانت قضية العمل لدين الله كذلك في قلب كل مسلم ما سأل أبداً هذا السؤال؛ لأنه سيحدد دوره بحسب الزمان الذي يعيشه، وبحسب المكان الذي يتحرك فيه لدين الله؛ لأن قضية العمل لدين الله تملأ عليه همه، وتملأ عليه قلبه، بل وتحرق قلبه في الليل والنهار، ولكن بكل أسف أصبحت قضية العمل لدين الله قضية هامشية ثانوية في حس كثير من المسلمين، بل وأصبح لا وجود لها في حس قطاع عريض آخر ممن يأكلون ملء بطونهم، وينامون ملء عيونهم، ويضحكون ملء أفواههم، بل وينظرون إلى واقع الأمة فيهز الواحد كتفيه ويمضي وكأن الأمر لا يعنيه، وكأنه ما خلق إلا ليأكل ويشرب، وإلا ليحصل الشهادة، أو ليحصل الزوجة الحسناء، هذا كل همه في هذه الحياة!! أنا لا أمنع -أيها الحبيب- من أن تحمل في قلبك هموماً كثيرة، أن تحمل هم الوظيفة، وهم الزوجة، وهم الأولاد، وهم السيارة والعمارة، وهم الدولار والدينار والدنيا، لكن ما هو الهم الأول في خريطة همومك التي تحملها في هذه الدنيا، هل هو هم الدين؟ أم هل هو هم الدنيا؟

همة أبي محجن

همة أبي محجن أيها الشباب! قد يرد علي الآن رجل من آبائنا أو شاب من أحفادنا أو أخت من أخواتنا -وهذا سؤال مثار- ويقول: يا أخي! ولكني أستحي أن أتحرك لدين الله وأنا مقصر وأنا مذنب وأنا عاص أنا أعلم حقيقة نفسي!! أقول: لو تخاذلت عن العمل لدين الله فقد أضفت إلى تقصيرك تقصيراً، وإلى ذنوبك ذنباً، فلا يحملك ذنبك على أن تترك العمل لدين الله، ولا يمنعك تقصيرك، ولا يمنحك إجازة مفتوحة من العمل للإسلام، لا!! خذ هذه الرسالة الرقيقة من أبي محجن الثقفي رضي الله عنه، رجل مدمن على شرب الخمر، سبحان الله!! مع أنه فارس مغوار، إذا نزل الميدان أظهر البطولة والرجولة! ولكنه ابتلي بإدمانه على شرب الخمر، ومع ذلك تراه جندياً في صفوف القادسية، هل خرج للقتال؟ نعم. وهو الذي كثيراً ما يؤتى به ليقام عليه الحد. وفي ميدان البطولة والشرف أتي به لقائد الجيش سعد بن أبي وقاص؛ لأنه قد شرب الخمر فلعبت الخمر برأسه مرة أخرى، فأمر سعد بن أبي وقاص -خال رسول الله- أن يمنع أبو محجن من المشاركة في المعركة، وأن يقيد حتى تنتهي المعركة؛ لأنه لا تقام الحدود في أرض العدو. وقيد أبو محجن، وبدأت المعركة، وارتفعت أصوات الأبطال، وقعقعت السيوف والرماح، وتعالت أصوات الخيول!! وفتحت أبواب الجنة لتطير إليها أرواح الشهداء، وهنا احترق قلب أبي محجن الذي جيء به وهو على معصية، لم يفهم أبو محجن أن الوقوع في المعصية يمنحه إجازة مفتوحة من العمل لدين الله، من المشاركة لنصرة لا إله إلا الله، وإنما احترق قلبه وبكى، ونادى على زوج سعد بن أبي وقاص سلمى وقال لها: أسألك بالله يا سلمى! أن تفكي قيدي، وأن تدفعي لي سلاح وفرس سعد؛ لأن سعدا قد أقعده المرض عن المشاركة في القادسية إلا بالتخطيط. فرقت سلمى لحال أبي محجن، ففكت قيده، ودفعت له السلاح والفرس وقال لها: إن قتلت فالحمد لله، وإن أحياني الله جل وعلا فلك على أن أعود إلى قيدي؛ لأضعه في رجلي بيدي مرة أخرى، وانطلق أبو محجن، وتغير سير المعركة على يد بطل! على يد فارس! حتى قال سعد الذي جلس في عريش فوق مكان مرتفع؛ ليراقب سير المعركة، قال سعد: والله! لولا أني أعلم أن أبا محجن في القيد، لقلت بأن هذا الفارس هو أبو محجن، ولولا أني أعلم أن البلقاء في مكانها لظننت أنها البلقاء، فردت عليه زوجه، وقالت: نعم، إنه أبو محجن وإنها البلقاء، وحكت له ما قد كان!! ولما انتهت المعركة دخل سعد بن أبي وقاص على أبي محجن في موقعه في سجنه، فوجد أبا محجن وقد وضع القيد في رجليه بيديه مرة أخرى، فبكى سعد بن أبي وقاص ورق لحاله، وقال له: قم يا أبا محجن، وفك القيد عن قدميه بيديه، وقال له سعد: والله! لا أجلدك في الخمر بعدها أبداً، فنظر إليه أبو محجن وقال: ربما كنت أزل فيها لأنني أعلم أنني أطهر بعدها بالجلد، أما الآن لا تجلدني، وأنا والله لا أشرب الخمر بعد اليوم أبداً! وصدق مع الله جل وعلا. فهذه رسالة رقيقة يرسلها أبو محجن الثقفي للعصاة من أمثالي، لأهل الذنوب من أمثالي؛ من أجل ألا تمنحهم ذنوبهم ومعاصيهم إجازة مفتوحة من أن يتحركوا لدين الله، ومن أن تحترق قلوبهم بالعمل لدين الله جل وعلا! حتى الهدهد -ذلكم الطائر الأعجم حين كان في مملكة ضخمة على رأسها نبي، وقد سخر فيها الإنس والجن والطير والريح لهذا الملك النبي- لم يفهم من ذلك أنه قد أخذ إجازة من أجل ألا يعمل لدين الله. الهدهد؟ إي والله تحرك ليعمل للدين؟ إي والله! بل جاء إلى هذا الملك النبي ليكلمه بكل ثقة: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ} [النمل:22 - 24]، ويعلن الهدهد براءته من عقيدة الشرك والكفر ويقول: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [النمل:25 - 26]. هدهد لم يعجز أن يجد لنفسه دوراً في مملكة موحدة لا في بيئات، لا في بلد نحت شريعة الله، بل في مملكة موحدة على رأسها ملك نبي، لم يعجز أن يجد لنفسه دوراً ليعمل لدين الله، فهل تعجز -أيها المسلم وأيها الشاب- أن تجد لنفسك دوراً الآن حتى تعطي نفسك إجازة مفتوحة ألا تتحرك، وألا تعمل شيئاً لدين الله جل وعلا؟!

همة نعيم بن مسعود رضي الله عنه

همة نعيم بن مسعود رضي الله عنه وهذا هو نعيم بن مسعود، رضي الله عن نعيم: ذلكم الفدائي البطل الذي جاء إلى المصطفى في وقت عصيب رهيب، كادت القلوب أن تخرج من الصدور في غزوة الأحزاب، أحاط المشركون بالمدينة من كل ناحية من حول الخندق، وفي لحظات حرجة قاسية نقض يهود بني قريظة العهد مع رسول الله، وشكلوا تهديداً داخلياً خطيراً على النساء والأطفال، وتعاهدوا مع المشركين على أن يحاربوا محمداً معهم. وهذا هو فعل اليهود، وهذه هي صفتهم، فاليهود لا يجيدون إلا الغدر ونقض العهود، نقضوا العهد مع رسول الله في وقت حرج، ولك أن تتصور الحالة النفسية التي مر بها المصطفى مع أصحابه، وقد وصفها الله في القرآن وصفاً دقيقاً بليغاً، تدبر معي قول الله لهذه الحالة: {وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب:10 - 12]. تصور هذه الحالة! ممن مع رسول الله من يقول: (مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا)، المشركون يحيطون بنا، واليهود نقضوا العهد وسيدمروننا من الداخل، ويقتلون نساءنا وأطفالنا، حالة قاسية! حتى قام المصطفى ليتضرع إلى الله: (اللهم منزل الكتاب، مجري السحاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم)، تصور معي هذه الحالة، وفي هذا الوقت الحرج جاء نعيم بن مسعود رضي الله عنه، لماذا؟ أقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بين المغرب والعشاء، فالتفت إليه المصطفى صلى الله عليه وسلم وقال: (ما جاء بك يا نعيم؟ قال: جئت أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وأن ما جئت به هو الحق. ابسط إلي يديك لأبايعك يا رسول الله!) فبايعه المصطفى، وشهد نعيم شهادة التوحيد، وعلى الفور قال لرسول الله: (يا رسول الله! مرني بما شئت؛ فوالله لا تأمرني بشيء إلا قضيته؛ فإنه لا يعلم أحد من القوم بإسلامي، فقال له المصطفى: يا نعيم! إنما أنت فينا رجل واحد، فخذل عنا ما استطعت، فإن الحرب خدعة) فانطلق نعيم، ولم يضع النبي له تفاصيل خطة، بل أمره أمراً عاماً: (خذل عنا ما استطعت)، وانطلق نعيم الذي استشعر مسئوليته تجاه هذا الدين، الرجل في مأزق! في فتنة! الإسلام يتعرض لخطر! فلماذا لا أبذل؟! لماذا لا أقدم؟! فكر هذا الفدائي الذي لم يمض على دخوله في دين الله إلا دقائق، ولكنه يستشعر مسئوليته لدين الله، الأحزاب يحيطون بالمدينة، ورسول الله في فتنة خطيرة فليبذل دمه، فليبذل روحه، وهاأنتم ترون الآن الإسلام والمسلمين في محنة، ومع ذلك منا -والله- من لا يفكر في أن يبذل شيئاً لدين الله لا في ليل أو نهار، حتى لو دعونا الناس لمجرد الإنفاق، ترى التقاعس، هذا مسجد مثلاً لله جل وعلا ترون فيه الطابق الثاني منذ متى ونحن نشيده؟ منذ متى ونحن ندعو لتشييده وبنائه؟ والناس يقفون الآن في الشمس، ومع ذلك سيسمع كثير منا هذا اللقاء، وفي جيبه الأموال من فضل الله وسيمضي ولن يساهم ولو بالقليل وكأن الأمر لا يعنيه، لماذا؟ لأن قضية العمل لهذا الدين أصبحت تتمثل في حسه في الخطبة والمحاضرة والندوة، هذا هو العمل للدين، لا، العمل لا ينتهي لدين الله عند خطبة الجمعة، أو عند محاضرة لشيخ، أو عند ندوة لعالم، بل إن الدين يحتاج إلى كل جهد، ولو كان هذا الجهد قليلاً!! نعيم بن مسعود انطلق يفكر كيف يعمل لدين الله. فتدبروا معي يا شباب، تدبروا معي؛ حتى لا يأتي شاب، فيقول: ماذا أفعل؟ ما دوري؟ لا مانع من أن تستأنس، وأن تسأل إن استشكلت عليك مسألة؛ لكن فكر لدين الله، كيف تعمل وكيف تبذل انطلق نعيم إلى يهود بني قريظة فقال: لقد جئتكم أبذل لكم النصيحة فاكتموا عني. فقالوا: قل يا نعيم! قال: تعلمون ما بيني وبينكم. قالوا: لست عندنا بمتهم، وأنت عندنا على ما نحب من الصدق والبر. فقال نعيم: إن أمر هذا الرجل بلاء، يقصد النبي عليه الصلاة والسلام، فقد استحل نعيم من رسول الله أن يقول ما شاء، فقال له المصطفى: (قل فأنت في حل). فقال: إن أمر هذا الرجل بلاء، أنتم ترون -يا يهود بني قريظة- ما فعل بيهود بني قينقاع وبني النظير، ولستم كقريش وغطفان، فإن قريشاً وغطفان قد جاءوا من بلادهم ونزلوا حول المدينة، فإن رأوا فرصة انتهزوها، وإن كانت الأخرى عادوا إلى ديارهم وبلادهم وأموالهم، وانفرد بكم محمد؛ ليفعل بكم ما فعل بيهود بني قينقاع وبني النظير، فأنا جئت لكم اليوم أبذل لكم النصيحة. قالوا: ما هي يا نعيم؟! قال: لا تقاتلوا مع قريش وغطفان حتى تأخذوا سبعين رجلاً من أشرافهم، تستوثقون بهم منهم أنهم لن يبرحوا المدينة حتى يقتلوا محمداً، وحتى يريحوكم من شره. قالوا: نعم الرأي يا نعيم. قال: اكتموا عني هذا؛ فإني ناصح لكم. قالوا: نفعل. فتركهم نعيم الفدائي البطل، وذهب إلى قائد جيوش الشرك أبي سفيان وقال: يا أبا سفيان! تعلم الود الذي بيني وبينك. قال: نعم، يا نعيم. قال: لقد جئتك الآن بنصيحة. قال: ابذلها! قال: ألا تعلم يا أبا سفيان أن يهود بني قريظة قد ندموا على نقضهم للعهد مع محمد بن عبد الله وذهبوا إليه وقالوا: بأننا لن نقاتل مع قريش ضدك، ولنثبت لك صدقنا سوف نرسل إليك سبعين رجلاً من أشراف قريش وغطفان لتقتلهم، لتعلم أننا قد ندمنا على نقضنا للعهد معك. ففزع أبو سفيان! فقال نعيم: إياك أن تسلم اليهود رجلاً واحداً من أشرافكم. قال: أفعل يا نعيم، وشكر له هذه النصيحة الغالية. وتركه وذهب إلى غطفان، فقال لهم مثلما قال لـ أبي سفيان، وفي الوقت نفسه أرسل اليهود إلى قريش وغطفان ليقولوا: ادفعوا إلينا سبعين رجلاً من أشرافكم؛ لنستوثق بهم أنكم لن تبرحوا المدينة حتى تقاتلوا معنا محمداً، ولن تدعونا؛ لينفرد محمد بقتالنا. فقالت قريش وغطفان: صدق -والله- نعيم، كذب اليهود عليهم لعائن الله، ولما رفض القرشيون أن يسلموا اليهود الأشراف، وعاد الرسل لليهود قالوا: صدق -والله- نعيم، إنهم يريدون أن ينصرفوا؛ لينفرد محمد بقتالنا، فخذل الله عز وجل بين قريش وغطفان، وبين اليهود على يد نعيم بن مسعود رضي الله عنه، ويئس هؤلاء من نصر هؤلاء، ويئس هؤلاء من نصر هؤلاء، واستراح قلب النبي داخل المدينة؛ لأن اليهود قد نقضت العهد مرة أخرى مع قريش وغطفان، وقد انشغل قلبه، وانشغلت قلوب أصحابه على ذراريهم ونسائهم وأموالهم داخل المدينة، وهم قد خرجوا ليحاصروا المدينة من الخارج في مواجهة الصف المشرك الذي خندق حولها. على يد رجل ثبت الله جيشاً، ما وضع النبي صلى الله عليه وسلم له بنود هذه الخطة، بل فكر وعلى قدر الإخلاص والصدق يكون التوفيق من الله جل وعلا.

همة الطفيل بن عمرو رضي الله عنه

همة الطفيل بن عمرو رضي الله عنه وهذا هو الطفيل بن عمرو مثال آخر يأتي إلى مكة ورحى الصراع دائرة بين المشركين وبين رسول الله، ويلتقف جهاز الإعلام الخبيث في مكة الطفيل بن عمرو، يستحوذ هذا الجهاز الإعلامي الذي لا يخلو منه زمان ولا مكان على الطفيل بن عمرو، وقال السادة من الزعماء والكبراء ممن يتحكمون في أجهزة الإعلام التي تشوش وتلبس على الناس عقيدتهم ودينهم: طفيل! إنك قد نزلت بلادنا، وقد ظهر فينا هذا الرجل الذي قد مزق شملنا، وشتت جمعنا، وفرّق بين الأخ وأخيه، والابن وأبيه، ونحن نخشى أن يحل بك وبزعامتك في قومك ما قد حل بنا في قومنا، فإياك أن تسمع منه كلمة واحدة، أو أن تكلمه كلمة! فإن له كلاماً كالسحر يفرق بين الأخ وأخيه، والابن وأبيه! قال الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26]، وظلوا يحذرون ويخوفون الطفيل حتى عزم الرجل ألا يقترب من رسول الله، فلما غدا إلى بيت الله الحرام ملأ أذنيه بالقطن، حتى لا يسمع كلمة من رسول الله. يقول الطفيل: فأبى الله إلا أن يسمعني بعض ما يقول محمد بن عبد الله، يقول: فرأيت محمداً في الكعبة يصلي صلاة غير صلاتنا، ورأيتني قريباً منه، وسمعت آيات القرآن التي يتلوها محمد. ولك أن تتصور القرآن الذي لو أنزله الله على جبل لتصدع وتفتت! لك أن تتصور كيف يكون حال هذا القرآن إن خرج بصوت الحبيب المصطفى الذي أنزل الله عليه القرآن!! تحرك قلب الطفيل، ثم قال لنفسه: ثكلتك أمك يا طفيل!! إنك رجل لبيب عاقل شاعر، لا تعجز أن تفرق بين الحسن والقبيح، اسمع للرجل، لا تحكم على الرجل قبل أن تسمع منه، وقبل أن تجلس بين يديه، وقبل أن تراه، وانطلق الطفيل، وتبع النبي صلى الله عليه وسلم حتى خرج من الكعبة إلى بيته، وأخبره بما كان من أمر قريش، وقال له: يا محمد! اعرض علي أمرك، فعرض النبي عليه الإسلام في كلمات يسيرة قليلة جداً، فقال الطفيل: والله! ما رأيت أحسن من أمرك، وما رأيت أعدل من قولك! ابسط إلي يديك لأبايعك يا رسول الله!! وانطلق الطفيل بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم قال الطفيل وهو في موقفه ذاك: يا رسول الله! أرسلني داعية إلى قومي (دوس)؛ فإنهم كفروا بالله، وفشا فيهم الزنا. ما عندك يا طفيل؟! ما الذي تعلمت يا طفيل؟! إنها المسئولية التي حملها في قلبه مع أول كلمة ينطق بها لسانه لدين الله، ومع أول لحظة حب ووفاء لمحمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ينطق بالشهادة فيعلم أن هذه الشهادة قد أوجبت عليه أن يتحرك لدين الله، لماذا أنت مسلم؟ منذ متى وأنت تصلي؟ منذ متى وأنت تحضر مجالس العلم؟ هل أتيت برجل آخر؟ هل دعوت آخر لدين الله؟ هل نظرت إلى جارك المعرض عن الله جل وعلا فتحسر قلبك ووجهت إليه دعوة لله سبحانه؟ من يحمل هذا الهم؟ لأن قضية العمل لدين الله أصبحت ثانوية هامشية في حس الكثير إلا من رحم ربك جل وعلا، الطفيل يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وعلى الفور يستشعر المسئولية لهذا الدين فيقول: أرسلني داعية إلى قومي يا رسول الله! فأرسله المصطفى، ثم قال الطفيل: ادع الله أن يرزقني آية يا رسول الله! فدعا المصطفى ربه أن يرزق الطفيل آية، فما أن وصل إلى مشارف قومه إلا وقد ظهرت الآية التي تتمثل في نور في وجه الطفيل كالقنديل، فقال الطفيل: لا، يا رب؛ حتى لا يقولوا مثلة، حتى لا يقولوا إن الأصنام هي التي فعلت بي ذلك، ولكن اجعل هذا النور على طرف سوطي، فاستجاب الله دعاءه وانتقل هذا النور كالقنديل إلى طرف سوط الطفيل بن عمرو. وذهب إلى قومه فدعاهم إلى الله، ثم عاد بعد ذلك يقول للمصطفى: يا رسول الله! هلكت (دوس)، ادع الله عليهم! فرفع صاحب القلب الكبير يديه إلى السماء ودعا الله جل وعلا وقال: (اللهم اهدِ دوساً وأت بهم)، فاستجاب الله دعاء المصطفى، وعاد إليهم الطفيل بعد ذلك، ثم عاد بدوس كلها تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وعلى رأس دوس راوية الإسلام العظيم أبو هريرة رضي الله عنه، الذي سيأتي مع قبيلة دوس في ميزان الطفيل بن عمرو يوم القيامة، كما ستأتي الأمة كلها في ميزان المصطفى صلى الله عليه وسلم!!

أكبر هم ينبغي لكل مسلم أن يحمله

أكبر هم ينبغي لكل مسلم أن يحمله لابد من مصارحة للنفس، نقب عن الهم الأول في خريطة همومك التي تحملها في هذه الحياة الدنيا، أنت ما خلقت إلا لدين الله ولعبادة الله، ولطاعة الله، قال جل في علاه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، هذه هي الغاية، وتلك هي الوظيفة التي تحولت في حياتنا إلى فرع بل إلى لا شيء في حس كثير ممن ينتسبون إلى هذا الدين، وظن قطاع عريض من المسلمين أن الدعوة إلى الله، وأن بذل الجهد لدين الله إنما هو أمر مقصور على فئة من العلماء الصادقين، والدعاة المخلصين، وهذا ورب الكعبة وهم كبير؛ فإننا جميعاً أيها الأخيار ركاب سفينة واحدة إن نجت هذه السفينة نجونا، وإن هلكت هلكنا، كما في صحيح البخاري من حديث النعمان بن بشير أن البشير النذير صلى الله عليه وسلم قال: (مثل القائم على حدود الله، والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وأصاب بعضهم أسلفها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أننا خرقنا في نصيبنا خرقاً؛ حتى لا نؤذي من فوقنا، يقول المصطفى: لو تركوهم وما أرادوا لهلكوا جميعاً، ولو أخذوا على أيديهم لنجوا ونجوا جميعاً). فنحن جمعياً ركاب سفينة واحدة، إن هلكت السفينة هلك الصالحون مع الطالحين، هلك المتقون مع المفسدين، ويبعث بعد ذلك كل واحد على نيته يبعث كل واحد على ما مات عليه، فالعمل للدين ليس مسئولية العلماء والدعاة فحسب، بل هو مسئولية كل مسلم ومسلمة ينبض قلبه بحب هذا الدين، وبالولاء والبراء، وبحب عقيدة لا إله إلا الله. بكل أسف فرق قطاع عريض من الأمة بين حقيقة الانتماء لهذا الدين وبين العمل له، لا معنى إطلاقاً لأن تكون منتمياً للإسلام دون أن تبذل للإسلام أي شيء، لا معنى لانتمائك هذا البتة! ما معنى انتمائك للإسلام ولهذا الدين؟ لا تفرق بين انتمائك وعملك، لا تفرق بين انتمائك وجهدك، لا تفرق بين انتمائك وحركتك لدين الله في الليل والنهار على حسب قدرتك وإمكانياتك واستطاعتك.

همة أبي بكر الصديق رضي الله عنه

همة أبي بكر الصديق رضي الله عنه تعلموا -أيها الأخيار- من أصحاب النبي المختار الذين فهموا أن الانتماء لدين الله جل وعلا يستوجب أن يبذل الواحد منهم أقصى ما في طاقته من جهد لهذا الدين، هذا هو صدِّيق الأمة الأكبر وأسألكم بالله أن تتدبروا هذه النماذج، فأنا لا أسوقها لمجرد الثقافة الذهنية الباردة، ولا من أجل التسلية وتضييع الوقت، بل أسوق هذه الأمثلة ليقف كل واحد منا مع نفسه الآن؛ ليسأل نفسه بعد هذه الخطبة: ماذا قدمت أنا لدين الله جل وعلا؟ هذا صديق الأمة الأكبر، شرح الله صدره للإسلام؛ فنطق بالشهادتين بين يدي رسول الله، وعلى الفور. يستشعر مسئوليته تجاه هذا الدين، أنا أسألكم بالله: ما الذي تعلمه أبو بكر في هذه الدقائق من رسول الله سوى الشهادتين؟! مع سماعه لكلمات يسيرة جداً من المصطفى، ومع ذلك يستشعر مسئوليةً ضخمةً تجاه هذا الدين بمجرد أن ردد لسانه الشهادتين، فيترك الصديق رسول الله وينطلق ليدعو، ليدعو بماذا؟ والله ما عكف على طلب العلم سنوات لينطلق بعد ذلك للدعوة، ولكن بالقدر الذي أعطاه الله من النور خرج وهو يستشعر مسئوليته الضخمة لهذا الدين، ليست العبرة بالمحاضرات الطويلة الرنانة المؤثرة، والله يا أخي لو علم الله منك الصدق والإخلاص، وتكلمت كلمة واحدة لحركت كلمتك القلوب، فكم من محاضرات لا تحرك ساكناً، اللهم ارزقنا الإخلاص في القول والعمل، فالإخلاص والصدق هما اللذان يحركان القلوب، الكلمة إن كانت صادقة وإن كانت مخلصة ولو كانت يسيرة قليلة تحيي القلوب الموات، قال الشاعر: بين الجوانح في الأعماق سكناها فكيف تنسى ومن في الناس ينساها الأذن سامعة والعين دامعة والروح خاشعة والقلب يهواها والسر هو: الصدق والإخلاص، تحرك الصديق بكلمات يسيرة جداً، هل تصدق أيها المسلم أن الصديق بهذه الكلمات المخلصة الصادقة قد عاد إلى النبي في اليوم التالي لإسلامه بخمسة من العشرة المبشرين بالجنة؟! إنها بركة الدعوة وبركة الحركة والجهد لدين الله، ما قال: لا، تحرك بالقدر الذي من الله به عليك من علم في الدين، من علم في الدنيا، من علم في أي جانب، استغل مركزك ومنصبك لدين الله سبحانه، المهم أن ترى في قلبك هماً لدين الله، المهم أن تفكر كيف تعمل شيئاً لدين الله سبحانه.

تبعة ثقيلة وأمانة عظيمة

تبعة ثقيلة وأمانة عظيمة أقول: يجب أن نزيل من قلوبنا وهماً كبيراً يتمثل في أن العمل للدين هو الخطبة والندوة والمحاضرة، لا! بل إن العمل للدين مسئولية كل مسلم ومسلمة على وجه هذه الأرض، وهذا هو عنصرنا الثالث: تبعة ثقيلة وأمانة عظيمة أطوق بها الأعناق. أيها المسلمون في كل مكان! يا من تستمعون إلي الآن في هذا البيت المبارك أو عبر شريط (الكاست) بعد ذلك! اعلموا بأن كل مسلم ومسلمة على وجه الأرض نبض قلبه بحب الله، وحب رسول الله، واجب عليه أن يتحرك لدين الله على حسب قدرته واستطاعته وإمكانياته المتاحة، ليس بالضرورة أن ترتقي المنبر هنا، ليس بالضرورة أن تجلس على الكرسي لتحاضر، لكن لابد أن تتحرك لدين الله في موقعك. أنت طبيب، هل حولت الإسلام في حياتك إلى عمل؟ أنت مدرس، هل حولت الإسلام في فصلك إلى منهج حياة؟ أنت موظف، هل اتقيت الله في عملك وراقبت الله في السر والعلن، وقال الجمهور ممن يتعاملون معك: هذا موظف مسلم يخشى الله جل وعلا، أم أنك لا تقدم شيئاً إلا إن أخذت الرشوة بأسلوب صريح أو غير صريح؟ أين الإسلام؟ أين الإسلام في واقع حياتنا؟ هل شهدنا للإسلام شهادة عملية سلوكية أخلاقية بعدما شهد كلنا شهادة قولية باللسان؟ مع أننا نعلم يقيناً أن القول إن خالف العمل بذر بذور النفاق في القلوب قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2 - 3]، ونحن نقول ما لا نفعل إلا من رحم ربك جل وعلا، أسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن رحم! العمل للدين مسئولية كل مسلم، وهاأنا سأضع لك خطوات عملية فاحفظها، حتى لا تسأل بعد ذلك: ما هو دوري؟ ماذا أفعل؟

حول ما تعلمته إلى واقع عملي

حول ما تعلمته إلى واقع عملي الخطوة الثالثة: حملت هم الدين وتعلمت وفهمت؟ يجب عليك بعد ذلك أن تحول هذا الدين الذي تحمل همه والذي تعلمته وفهمته في حياتك إلى واقع عملي وإلى منهج حياة.

تحرك لنصرة هذا الدين

تحرك لنصرة هذا الدين الخطوة الرابعة: إن فعلت ذلك فاخط على الطريق خطوات عملية لازمة، تتمثل في: أن تدعو غيرك لهذا الدين الذي تحمل همه، ولهذه القضية التي تعتنقها، والتي تعلمتها وفهمتها وعملتها، تحرك بعد ذلك على الفور لدين الله جل وعلا؛ لتبلغ غيرك، ولتنقل هذا النور، فلا تكن زهرة صناعية -أي: من صنع البشر- لا تحمل من عالم الأزهار إلا اسمها، وكن زهرة كالأزهار التي خلقها الله لا تحبس عن الناس أريجها وعطرها، فإن من الله عليك بالنور فانقل هذا النور إلى غيرك من المسلمين، ولتتحرك الأخت المسلمة لتنقل هذا النور إلى غيرها من الأخوات المسلمات. تكثيرك لسواد المسلمين الآن في خطبة الجمعة أو في محاضرة من المحاضرات؛ لإغاظة المنافقين، لتبين لهم أننا لا زلنا نحب هذا الدين، وتحترق قلوبنا له هذا عمل للدين. جلوسك في مجلس علم لتتعلم عقيدة التوحيد، ولتعمل بها ولتعلمها غيرك عمل للدين. جلوسك في حلقة قرآن بعد العصر لتحفظ القرآن، ولتحفظه غيرك بعد ذلك عمل للدين. تربيتك لزوجتك وأولادك تربية طيبة على القرآن والسنة عمل للدين. اهتمامك بدروسك -أيها الطالب المسلم- وتفوقك في جامعتك ودراستك وحصولك على المراكز الأولى عمل للدين. اهتمامك بزوجك -أيتها المرأة المسلمة- وحفظك لعرضه ولشرفه، ووقوفك إلى جواره في تربية الأولاد تربية طيبة وعدم الإنهاك لظهره بالطلبات والنفقات التي لا يقدر عليها عمل للدين. التزامك -أيها الموظف والمسئول المسلم- بعملك في مواعيده المنضبطة وإصلاحك وتفانيك في خدمة جماهير المسلمين عمل للدين. صدقك في كلامك وإخلاصك في وفائك للوعود والعهود عمل للدين، نشرك لشريط استمعته واستفدت منه عمل للدين، إلصاقك لإعلان خطبة جمعة أو لمحاضرة علم عمل للدين. غيرتك في قلبك على حرمات الله التي تنتهك عمل للدين. أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر عمل للدين. صدقك وإخلاصك في أي عمل عمل للدين. دعوتك لغيرك بالحكمة والرحمة عمل للدين. رفقك في نصيحة إخوانك عمل للدين. إنفاقك لمال على فقير أو يتيم أو مسكين عمل للدين. تخصيصك لجزء من راتبك للدعوة إلى الله أو للإنفاق على طالب علم أو لداعية من الدعاة عمل للدين. مساهمتك في بناء مسجد كهذا عمل للدين، ماذا تريدون بعد ذلك؟!! والله! لا يترك هذا المجال الفسيح إلا مخذول محروم، ابذل أي شيء، أهل الباطل يتحركون بكل قوة، نتنياهو يعلمنا كيف يكون البذل للعقيدة وهو على الكفر، وأهل الحق وأهل التوحيد في تقاعس مرير، بالله عليكم: ماذا لو تحرك هذا الجمع الذي يتكون من الآلاف بين يدي، ماذا لو تحرك كل هذا الجمع ليتحولوا إلى دعاة صادقين في مواقع الأعمال، ومواطن الإنتاج، وعلى كراسي الوظائف؟ ماذا يكون لو تحولوا جميعاً إلى دعاة صادقين لدين الله جل وعلا؟ أيها الأخيار الكرام! الرسول يحملنا هذه الأمانة: (بلغوا عني ولو آية) والحديث في الصحيحين، ويقول صلى الله عليه وسلم: (ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا وكان له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنه تخلف من بعدهم خلوف)، أسأل الله ألا يجعلنا منهم. فلن تكون من حواريي وأنصار رسول الله إلا إذا حملت هم دعوة النبي في قلبك، وإلا إذا تحركت لها وفكرت لها في النوم واليقظة والسر والعلانية، يقول ابن القيم في تعليقه على قول الله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108]، يقول ابن القيم رحمة الله عليه: لن يكون الرجل من أتباع النبي حقاً حتى يدعو إلى ما دعا إليه النبي على بصيرة، فهل دعوت إلى الله؟ هل تحركت لدين الله أيها الحبيب؟ هل تحركت لدين الله يا أختاه؟ تحركوا -أيها المسلمون- من الآن، الدعوة إلى الله فرض عين على كل مسلم ومسلمة كل بحسب قدرته، هذا ما قرره علماؤنا في هذا الزمان؛ لأن الكفر انتشر؛ ولأن الإلحاد ظهر؛ ولأن الزندقة كثرت؛ ولأن العلمانيين يهدمون صرح الإسلام في الليل والنهار، فيجب عليك أن تتحرك في حدود قدراتك وإمكانياتك، واعمل ولست مسئولاً عن النتيجة، الله جل وعلا يقول: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105]. لا أريد أن أشق أكثر من ذلك على أحبابي وإخواني الذين أراهم يقفون في الشمس قبل أن أرتقي هذا المنبر، ولذا فأنا ألزم الجميع الآن ترجمة عملية للعمل لدين الله سبحانه، ألا يفارق هذا المكان أحد صلى معنا إلا وقد ساهم بأي شيء لننهي الدور الأعلى في هذا البيت الكريم المبارك؛ حتى لا نشق على إخواننا بعد ذلك في صلوات الجمعة فيجدون مكاناً يسمعون فيه قول الله وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابحث أنت بنفسك عن إخوانك الذين يجمعون، فإن كل تبرعات اليوم لتشييد الدور الثاني في هذا البيت الكريم المبارك الذي يمثل منارة للتوحيد والهدى في محافظة (الدقهلية) بأكملها، أسأل الله جل وعلا أن ينفع به وأن ينفعنا وإياكم بما نسمع وبما نقول، وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

احمل هم هذا الدين في قلبك

احمل هم هذا الدين في قلبك الخطوة الأولى: احمل هم الدين في قلبك، حاول أن تكون لقضية الدين مساحة في خريطة اهتماماتك وبرامجك، وأن يحرك الدين عواطفك، وأن يحرق هم الدين وجدانك، هذه أول خطوة، فمحال أن يتحرك الإنسان لشيء لا يعتقده، لا يحمله في قلبه، فاحمل هم الدين في قلبك لتتحرك له.

فرغ شيئا من وقتك لتتعلم الفرائض

فرغ شيئاً من وقتك لتتعلم الفرائض الخطوة الثانية: فرغ شيئاً من وقتك، لابد حتماً حتى ولو ساعة في اليوم لدين الله؛ لتتعلم الدين، لتفهم الدين فهماً صحيحاً على أيدي العلماء العاملين، والدعاة الصادقين، لابد أن تفرغ وقتاً من وقتك لتتعلم، محال أن تنصر شيئاً تجهله. فرض عين عليك يا مسلم، وفرض عين عليك أيتها المسلمة، فرض عين على كل مسلم أن يتعلم فروض الأعيان؛ ليعبد الله عبادة صحيحة: تتعلم الصلاة، وأحكام الصلاة، وأركان الصلاة، ونواقض الصلاة، ومبطلات الصلاة. تتعلم قبل الصلاة التوحيد، وحقيقة التوحيد، ومكانة التوحيد، وكيف أن النبي صلى الله عليه وسلم ربى الأمة ابتداءً على التوحيد. وتتعلم كيفية الصيام، وأحكامه، وآدابه، وسننه. وتتعلم الزكاة، ومقادير الزكاة، وكيف تخرج الزكاة. وتتعلم البيوع، إذا كنت تاجراً يتاجر بالدرهم والدينار. وتتعلم مناسك الحج، فرض عين عليك أن تتعلم فروض الأعيان؛ لتعبد الله جل وعلا عبادة صحيحة. فهل تعلمتها؟ هل فرغت شيئاً من وقتك لتجلس بين يدي العلماء والدعاة لتتعلم دين الله؟ هذه هي الخطوة العملية الثانية.

فجر الإسلام قادم

فجر الإسلام قادم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام! لا أريد أن أفارق الأحبة إلا وقد سكبت الأمل في القلوب سكباً بأن المستقبل لهذا الدين، فإن عنصرنا الأخير هو: فجر الإسلام قادم. حتى نعلم يقيناً أن الله سينصر دينه بنا أو بغيرنا قال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144]، إن انصرفت عن مجالس العلم فلن تضر الله شيئاً، إن تقاعست عن الإنفاق في سبيل الله فإن الله هو الغني، إن انصرفت عن العمل لدين الله فإن الله لا يريد منك عملاً، أنت الخاسر، الله جل وعلا لا تنفعه طاعة، ولا تضره معصية وهو القادر على كل شيء، ولكنه يأمرك لأنه يريد بك ولك الخير، قال تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17]. فالله سبحانه ناصر دينه بنا أو بغيرنا، وإن المستقبل للإسلام برغم كيد الفجار والمنافقين والعلمانيين! إن المستقبل لدين الله جل وعلا بموعود الله وبموعود رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنا لا أقول هذا الكلام رجماً بالغيب، ولا من باب الأحلام الوردية، لتسكين الآلام وتضميد الجراح، لا، بل هذا هو قرآن ربنا يتلى، وهذه أحاديث نبينا تُسمع، إن المستقبل لهذا الدين، وإن أشد ساعات الليل سواداً هي الساعة التي يليها ضوء الفجر، وفجر الإسلام قادم بإذن الله جل وعلا! إن الذي يفصل في الأمر في نهاية المطاف -أيها الشباب- ليس هو ضخامة الباطل، ولكن الذي يفصل في الأمر هو قوة الحق، ولاشك أبداً أن معنا الحق الذي من أجله خلق الله السماوات والأرض والجنة والنار، ومن أجله أنزل الله الكتب وأرسل الرسل، معنا رصيد فطرة الكون، معنا رصيد فطرة الإنسان التي فطرت على التوحيد، وقبل كل ذلك وبعد كل ذلك معنا الله، ويا لها -والله- من معية كريمة لو عرف الموحدون قدرها، ولو عرف المسلمون عظمتها وجلالها، قال الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:91]. فالمستقبل للدين، ونصرة الله لدين الله جل وعلا، هذا وعد منه سبحانه، ووعد من نبيه الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، قال تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173]، وقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55]، وقال الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:32 - 33]، وقال تعالى: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36]. وأختم بهذا الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم! يا عبد الله! ورائي يهودي تعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود). فالله ناصر دينه بنا أو بغيرنا، فهل ستتقاعس عن هذا الشرف؟ هيا سابق الزمن قبل أن يأتيك ملك الموت فتندم يوم لا ينفع الندم، هذه أمانة أطوق بها أعناق كل مسلم ومسلمة على وجه الأرض يستمع إلى هذه الكلمات معي الآن أو عبر شريط (الكاسيت) بعد ذلك، اللهم إني قد بلغت، اللهم فاشهد يا رب العالمين. اللهم إنا نسألك الإخلاص في أقوالنا وأعمالنا، اللهم باعد بيننا وبين النفاق والرياء كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم لا تجعل خطنا من ديننا أقوالنا، اللهم لا تجعل حظنا من ديننا قولنا، اللهم لا تجعل حظنا من ديننا قولنا، وارزقنا الصدق والإخلاص في نياتنا وأقوالنا وأعمالنا وأحوالنا برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم أقر أعيينا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم أقر أعيينا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم طهر الأقصى من دنس اليهود يا كريم، اللهم طهر الأقصى من رجس اليهود يا كريم، اللهم عليك باليهود وأعوان اليهود وعملاء اليهود، اللهم زلزل الأرض من تحتهم يا رب العالمين! اللهم املأ قلوبهم وبيوتهم ناراً، اللهم حرق قلوبهم وبيوتهم قبل أن يحرقوا الأقصى برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم ارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنوبنا واستر عيوبنا وآمنا روعاتنا، واكشف همومنا واقض حوائجنا. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله أجمعين.

الحرب على الثوابت [1]

الحرب على الثوابت [1] هناك شرذمة من الأقزام تطاولوا على أصول الدين ومبادئه، ونالوا من كل ما هو مقدس في الإسلام، وعدوا ذلك خروجاً من الظلامية والرجعية. ومن أصول الدين الذين قام هؤلاء بحربه وتشويه صورته مكانة الصحابة وعدالتهم.

التحذير من أهل الأهواء

التحذير من أهل الأهواء إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين. فاللهم! اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته ودعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة الفضلاء! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم الكريم جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار مقامته؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! (الحرب على الثوابت)، سلسة منهجية جديدة قد تحتاج إلى عشرة لقاءات إن قدر الله لنا اللقاء والبقاء، أفند فيها شبهات حقيرة خطيرة تثار الآن ضد الإسلام، لا على الفرعيات والجزئيات، بل على الثوابت والأصول والكليات، ولا يتولى كبرها المستشرقون كما كان الحال قديماً، بل يتولى كبرها ويشعل نيرانها الآن رجال من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، وينتسبون زوراً لإسلامنا. وصدق ربي إذ يقول: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة:204 - 206]. وقد وصف الصادق الذي لا ينطق عن الهوى هذا الصنف الخبيث وصفاً دقيقاً في حديثه الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: (كان الناس يسألون رسول الله عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله! إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم. قلت: فهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم. وفيه دخن. قلت: وما دخنه يا رسول الله؟ قال: قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر. قلت: فهل بعد ذلك الخير -أي: الذي شابه الدخن- من شر؟ قال: نعم. دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها. قلت: صفهم لنا يا رسول الله. قال: هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا)، وفي رواية مسلم قال: (رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس). وبكل أسف يسمون في بلاد المسلمين الآن بالنخبة من أصحاب الفكر والأدب والفن، ويفاض عليهم من الدعاية الكاذبة ما يغطي انحرافهم ويستر جهلهم، وينفخ فيهم ليكونوا شيئاً مذكوراً للي أعناق البسطاء من المسلمين إليهم لياً، وهم في الحقيقة كالطبل الأجوف يسمع من بعيد وباطنه من الخيرات خال. فما نال سلمان رشدي جائزة الدولة النمساوية إلا إيماناً بآياته الشيطانية، تلك النخبة من أصحاب الشذوذ الفكري التي رفعت الآن على الأعناق، بل وعلمت أن أقصر طريق للوصول إلى الشهرة الكاذبة هو النيل من ثوابت وأصول الإسلام، وما حصل الطاهر بن جولون على جائزة الجنكور الفرنسية إلا لروايته الخبيثة التي أسماها (ليلة القدر)، وما نال نجيب محفوظ جائزة نوبل إلا لـ (أولاد حارتنا)، وما نال نصر أبو زيد هذه الشهرة العالمية، وبكى عليه الحاقدون على الإسلام من أمثاله، ما بكوا عليه الدموع مدراراً إلا يوم أن تطاول على ثوابت الإسلام ودك أصوله من أولها إلى آخرها. نخبة أصيبت بشذوذ فكري، والمصيبة الكبرى أنهم يعلنون الحرب على ثوابت الإسلام وأصوله تحت شعار مزيف يسمى بشعار (حرية الفكر والرأي)، وتحت شعار فتح آفاق المعرفة والخروج من الظلامية والرجعية والانغلاقية والتعصب والتزمت.

اتخاذ أهل الأهواء حرية الفكر والرأي ذريعة للطعن في الدين

اتخاذ أهل الأهواء حرية الفكر والرأي ذريعة للطعن في الدين أهل الأهواء يعلمون يقيناً أن ما يقولونه لا يمت بأدنى صلة إلى حرية الفكر والرأي، فلا يستطيع أحدهم أن يتطاول أبداً على أصول الدولة أو على أمن الدولة أو على قيادة الدولة أو على قسيس من قساوسة الدولة؛ لأن هذا لا يمكن بحال أن يندرج تحت حرية الفكر والرأي، هم يعلمون ذلك جيداً. فهل التطاول على ذات الله جل جلاله من حرية الفكر والرأي؟! هل التطاول على القرآن، والتشكيك في القرآن من حرية الفكر والرأي؟! هل التطاول على ثوابت الإسلام وأصوله من حرية الفكر والرأي؟! هل التشكيك في سنة النبي والغمز بعدم قدسية سنة النبي من حرية الفكر والرأي؟! هل التطاول على مقام النبي محمد من حرية الفكر والرأي؟ هل الغمز واللمز بأصحاب النبي من حرية الفكر والرأي؟ هل التطاول على الملائكة الكرام البررة من حرية الفكر والرأي؟ هل الدعوة إلى أدب الجنس الفاضح، أدب الدعارة القذرة النجسة من حرية الفكر والرأي؟ فقليلاً من الإنصاف والعدل يا أدعياء الأدب والفكر في أمتنا الإسلامية والعربية، {تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} [النجم:22]، لا يُتطاول على قانون الدولة ودستور الدولة وقيادات الدولة، في الوقت الذي يتطاول فيه على الله، وعلى القرآن، وعلى النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى أصول وثوابت الإسلام. فقليلاً من الإنصاف والعدل -يا سادة- لنصل إلى الحقيقة، فما تروجون له لا يمت بأدنى صلة لحرية الفكر والرأي، فنحن مع حرية الفكر وحرية الرأي، لكن بضوابط الإسلام الذي تدين به الأمة، بضوابط الإسلام الذي يحبه أهله، بل إن الإسلام دين الحرية، فهو يدعو إلى الحريات بالضوابط الشرعية المعروفة. أما أن يتطاول على ثوابت وأصول الدين باسم حرية الفكر والرأي فليس هذا من الدين، بل ولا من الأخلاق، بل ولا هو من الأدب في شيء.

الطعن في الصحابة حرب للإسلام

الطعن في الصحابة حرب للإسلام بدأ هؤلاء الذين يسمون بالنخبة بإعلان الحرب على الصحابة، وأود أن أوضح أنني سوف أكرر هذه السلسلة في كل مكان أذهب إليه؛ لأنه مرض العصر الآن. بدءوا بإعلان الحرب على الصحابة، وهذا هو أول لقاء أستهل به هذه السلسلة التي أسميتها بالحرب على الثوابت، وكعادتي سيكون الحديث في نقاط محددة حتى لا ينسحب بساط الوقت سريعاً من تحت أقدامنا، وهذه النقاط هي: أولاً: حرب سافرة. ثانياً: مكانة الصحابة عند الله وعند رسوله. ثالثاً: وهل يسب الأطهار؟ رابعاً: هم القدوة فاعرفوا لهم قدرهم. فأعيروني القلوب والأسماع جيداً أيها الأخيار! والله أسأل أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:18].

الطعن في الصحابة زندقة

الطعن في الصحابة زندقة أولاً: حرب سافرة: ظهرت الآن كتب خبيثة في السوق تشن حرباً على الصحابة بألفاظ قذرة فاجرة يعف اللسان الطيب عن ذكر فقرة من هذه الفقرات، ووالله لولا أننا نود أن نثبت بالدليل خبث عقيدتهم. وفساد طويتهم لما ذكرت كلمة واحدة من كلماتهم الخبيثة التي شحنت بها الكتب، والتي تطبع الآن وتروج في المعارض والأسواق والمكتبات. وقبل ذلك: لماذا بدءوا بإعلان الحرب على صحابة النبي صلى الله عليه وسلم؟ يقول الحافظ أبو زرعة في جوابه على Q إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب النبي فاعلم أنه زنديق، وذلك لأن الرسول حق، والقرآن حق، وما جاء به النبي من عند الله حق، والذي نقل إلينا كل ذلك هم الصحابة، وهؤلاء يريدون أن يجرحوا الصحابة ليبطلوا القرآن والسنة. ويقول الإمام مالك إمام دار الهجرة: من وجد في قلبه غيظاً على أحد من أصحاب النبي فقد أصابه قول الله تعالى: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29]. وقال الإمام الطحاوي في عقيدته المشهورة: ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نفرط في حب أحد منهم، ونبغض من يبغضهم، وبغير الخير يذكرهم، فحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان.

أمثلة لطعن أهل الأهواء المعاصرين في الصحابة

أمثلة لطعن أهل الأهواء المعاصرين في الصحابة ليس من الفقه ولا من الحكمة أن أذكر أسماء هؤلاء أو أسماء كتبهم حتى لا أروج لأسمائهم ولا لكتبهم من حيث لا ندري. يقول أحدهم بالحرف: (إن الصحابة كانوا يمثلون مجتمعاً متحللاً مشغولاً بالرذائل والهوس الجنسي) هل تتصور أن مجتمع الصحابة هكذا؟! الصحابة الذين رباهم رسول الله، يقول هذا الرتيع الوضيع: (ولم تكن التجاوزات مقصورة على مشاهير الصحابة، بل تعدتهم إلى صحابيات معروفات). ثم يقول: (ولما كان التقاء الذكر بالأنثى والأنثى بالذكر طقساً يومياً من الطقوس الاجتماعية المعتادة في مجتمع يثرب، فقد اضطر محمد رفعاً للحرج أن يبيح لهم أن يمروا في المسجد وهم جنب). هل تدبرتم هذه الكلمات الخبيثة؟ وهكذا تبين كلماتهم الخبيثة فساد طويتهم وخبث عقيدتهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ويقول هذا الرتيع الوضيع أيضاً: (لما أرسل علي بن أبي طالب ابنته أم كلثوم إلى خطيبها عمر بن الخطاب بادر عمر بمعاينة ساقيها؛ ليتأكد من جودة البضاعة أو جودة الصنف). أتحدى هذا الأثيم أن يتطاول على قسيس، أو على وزير، أو على رئيس الدولة، لكن التطاول على أطهر الخلق بعد الأنبياء أصبح أيسر الطرق للشهرة الكاذبة، للشهرة الخبيثة، ما على أحدهم إلا أن يملأ قلمه بمداد نجس، بمداد عفن؛ ليتطاول على أطهر الخلق بعد الأنبياء. أيها الأحبة! أود أن تنتبهوا لهذا التأصيل المهم: لا يجوز البتة لرجل زائف العقيدة، مريض القلب، مجوف الفكر، أن يتطاول أو أن يكتب عن أصحاب النبي؛ لأن الحديث عن الصحابة يتطلب صفاء في العقيدة، وأمانة في النقل، وإخلاصاً في النية، ودقة في الفهم، ونظرة فاحصة مدققة لأراجيف المغرضين والكذابين والوضاعين. على أي حال؛ أنا لا أرى لهؤلاء الأقزام الأنذال الذين يتطاولون على أهل الطهر مثلاً إلا كمثل ذبابة حقيرة سقطت على نخلة تمر عملاقة، فلما أرادت الذبابة الحقيرة أن تطير وتنصرف، قالت لنخلة التمر العملاقة: تماسكي أيتها النخلة؛ فإني راحلة عنك، فردت عليها النخلة العملاقة وقالت: انصرفي أيتها الذبابة الحقيرة! فهل أحسست بك حينما سقطت عليَّ لأستعد لك وأنت راحلة عني؟! هل يضر السماء نبح الكلاب؟! هل يضر السماء أن تمتد إليها يد شلاء؟

مكانة الصحابة عند الله وعند رسوله

مكانة الصحابة عند الله وعند رسوله الذي رفع قدر أصحاب النبي وزكاهم هو الرب العلي والحبيب النبي، وهذا هو عنصرنا الثاني بإيجاز: مكانة الصحابة عند الله وعند رسوله صلى الله عليه وسلم:

أحاديث في فضل الصحابة

أحاديث في فضل الصحابة في الصحيحين من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير الناس قرني)، شهادات من الله وشهادات من رسول الله، قال عليه الصلاة والسلام: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم). وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسبوا أصحابي؛ فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه). وفي الصحيحين من حديث أنس أنه قال: (مروا بجنازة والنبي جالس بين الصحابة فأثنوا عليها خيراً، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: وجبت، فمروا بجنازة أخرى فأثنوا عليها شراً، فقال النبي: وجبت، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا رسول الله! ما وجبت؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: مرت جنازة فأثنيتم عليها خيراً فوجبت لها الجنة، ومرت أخرى فأثنيتم عليها شراً فوجبت لها النار، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض). وفي صحيح مسلم من حديث أبي موسى الأشعري: (أن النبي نظر يوماً إلى النجوم في أفق السماء، فقال عليه الصلاة والسلام: النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون). وفي صحيح مسلم من حديث عائذ بن عمرو: أن أبا سفيان مر على نفر من أصحاب النبي فيهم بلال وصهيب وعمار، فلما رأى فقراء الصحابة أبا سفيان قالوا: والله ما أخذت سيوف الله من عدو الله مأخذها، فلما سمع الصديق رضي الله عنه هذه الكلمة غضب وقال: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟، ثم ترك الصديق الصحابة وانطلق إلى النبي فأخبره بما قالوا وبما قال. وانظر إلى ما قال سيد الرجال صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر الرجل الأول في الأمة بعد نبيها، ماذا قال النبي للصديق؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بكر! لعلك أغضبتهم -أي: أغضبت بلالاً وعماراً وصهيباً وسلمان -؟ فلئن كنت أغضبتهم فلقد أغضبت ربك عز وجل)، ولم لا وهؤلاء هم الذين عوتب فيهم رسول الله، ونزل عليه قول الله: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28]؟ فرجع الصديق يجري إلى أصحاب النبي وهو يقول: إخوتاه! أوغضبتم مني؟ فقالوا: لا، يغفر الله لك يا أخي. وأختم بهذا الحديث -وإن كان في سنده مجهول من باب الأمانة العلمية إلا أن متنه تشهد له الأحاديث السابقة-، فقد روى الترمذي من حديث عبد الله بن مغفل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضاً بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشك الله أن يأخذه).

آيات في فضل الصحابة

آيات في فضل الصحابة قال الله جل وعلا لأصحاب النبي ابتداء: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]. فالصحابة هم المخاطبون ابتداء بهذه الآية: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]، وهم المخاطبون ابتداء بقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143]. وهم المخاطبون بقوله تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:172 - 174]. وهم المخاطبون بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:74]، والصحابة هم المخاطبون بقول الله جل وعلا: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:18]. والصحابة هم المخاطبون بقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح:10]. والصحابة هم الذين قال الله في حقهم: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح:29]، والصحابة هم الذين قال الله في حقهم: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115]، والصحابة هم الذين قال الله في حقهم: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:8 - 9]. لو أردت أن أبين مكانة الصحابة عند الله بآيات مجردة من كتاب الله لاحتجت إلى لقاءات متتالية متوالية، فمكانة الصحابة عند الله عظيمة، ومكانة الصحابة عند رسوله كريمة.

فضائل الصديق

فضائل الصديق أيها الحبيب! هل يسب هؤلاء؟ هل يسب هؤلاء الذين زكاهم الله وعدلهم وزكاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هل يسب الأطهار؟ هل يسب أبو بكر؟ هل يسب عمر؟ هل يسب عثمان؟ هل يسب علي؟ هل يسب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟

الصديق أقرب الصحابة من رسول الله وأعلمهم به

الصديق أقرب الصحابة من رسول الله وأعلمهم به الصديق رضوان الله عليه ذلكم الرجل الكبير في بساطة، القوي في تواضع ورحمة، الصديق رضوان الله عليه الذي بين النبي للأمة مكانته قبل موته بأيام قليلة، يوم ارتقى النبي المنبر فحمد الله وأثنى عليه، والحديث في الصحيحين من حديث أبي سعيد ثم قال عليه الصلاة والسلام: (إن عبداً من عباد الله خيره الله بين أن يؤتيه من الدنيا ما شاء وبين ما عند الله فاختار ما عند الله)، فقام الصديق رضي الله عنه في المسجد وبكى والتفت إلى حبيبه ومصطفاه وقال: بأبي أنت وأمي -يا رسول الله- فديناك بآبائنا، فديناك بأمهاتنا، فديناك بأموالنا وأنفسنا وأولادنا، وضج الناس بالمسجد، وتعجبوا من صنيع أبي بكر وقالوا: عجباً لهذا الشيخ، الرسول يتكلم عن عبد مخير بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة، فلماذا يقول الصديق هذا؟ إلا أن الصديق -كما قال أبو سعيد - كان أفهم الصحابة لكلام النبي صلى الله عليه وسلم. فلقد علم الصديق أن العبد المخير هو المصطفى، فقال النبي: (على رسلك يا أبا بكر. ثم قال: أيها الناس! إن أمن الناس عليَّ في صحبته وماله أبو بكر)، وقال: (ما نفعني مال أحد قط مثلما نفعني مال أبي بكر)، وقال: (كلكم كان له عندنا يد كافأناه بها إلا الصديق، فإنا قد تركنا مكافأته لله عز وجل)، وقال: (لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخوة وصحبة، وأمرهم في شأن الأبواب التي تطل على المسجد أن يسدوها من ذلك اليوم إلا باب أبي بكر رضي الله عنه). وفطن العلماء إلى أن في هذه الكلمة إشارة إلى أن الباب الذي سيظل مفتوحاً بعد موت المصطفى هو باب أبي بكر رضي الله عنه، فهو أجدر الصحابة بلا نزاع ليتقدم ليسد فراغاً رهيباً يتركه المصطفى بموته بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.

أعظم موقف للصديق

أعظم موقف للصديق من خلال مطالعتي لسيرة هذا الطاهر العملاق أرى أن أعظم وأجل موقف وقفه الصديق لهذه الأمة يوم مات المصطفى صلى الله عليه وسلم وطاشت عقول الصحابة، حتى قال الفاروق الأواب عمر: إن رسول الله ما مات، بل ذهب إلى لقاء ربه كما ذهب موسى بن عمران، وليرجعن فيقطع أرجل وأيدي المنافقين الذين يزعمون أنه قد مات. هذا ما قاله عمر الفاروق، فما ظنك بما قاله سائر الصحب الكرام؟ إلا أن الله قد ثبت الصديق رضي الله عنه، وتجلى في هذا اليوم إيمانه، واستوى على عرش اليقين يقينه، فشق الصفوف ودخل على غرفة حبيبه رسول الله في حجرة عائشة، فوجد المصطفى مسجى، وعلم أن الأمر قد تم وأن المصيبة قد وقعت، وأن رسول الله قد مات، فقبل الصديق رسول الله، وفي الرواية التي حسنها الألباني في مختصر الشمائل أنه نادى عليه وهو يبكي ويقول: وا نبياه وا نبياه. وا صفياه وا صفياه. وا حبيباه وا حبيباه. وا خليلاه وا خليلاه. ثم قال -كما في لفظ الصحيحين-: (أما الموتة التي قد كتبها الله عليك فقد ذقتها، ولا ألم عليك بعد اليوم)، وخرج الصديق إلى الناس وهو يقول لـ عمر: على رسلك يا عمر. أي: اصبر يا عمر فخطب الناس خطبة عصماء، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على حبيبه المصطفى، ثم قال: أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. وقرأ قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144]، فعقر عمر وسقط على الأرض، وعلم أن حبيبه قد مات. أيا عبد كم يراك الله عاصياًً حريصاً على الدنيا وللموت ناسيا أنسيت لقاء الله واللحد والثرى ويوماً عبوساً تشيب فيه النواصيا إذا المرء لم يلبس ثياباً من التقى تجرد عرياناً ولو كان كاسيا ولو كانت الدنيا تدوم لأهلها لكان رسول الله حياً وباقيا ولكنها تفنى ويفنى نعيمها وتبقى الذنوب والمعاصي كما هيا إذاً: يا راية الله رفرفي إذاً يا خيل الله اركبي إذاً: يا جند الله سيروا. فليتقدم الصديق ليرفع الراية وليواصل المسيرة بعد حبيبه ومصطفاه، إن هذا الموقف كان بمثابة الأسوة الحقيقية التي شدت اتجاه التاريخ إلى هذا العملاق، إلى صديق الأمة الذي لم تنته بركاته على أمة الحبيب محمد، بل بعد موت رسول الله أرسل بعث أسامة ليؤدب القبائل التي اعتدت على حدود الدولة الإسلامية. ومن بركاته على الأمة أنه جمع القرآن بعد معركة اليمامة التي مات فيها عدد كبير من حفاظ القرآن من أصحاب رسول الله، ولم تنته بركاته على الأمة، بل قبل أن يلقى الله اختار عمر بن الخطاب خليفة مكانه لهذه الأمة، وقال: إن سئلت عن ذلك بين يدي ربي أقول: وليت عليهم أقواهم فيما أعلم. فهل بعد هذا يسب الصديق؟ والله إن القلب ليحترق، وإن الكلمات لتتوارى على خجل واستحياء، والله لا أجد في قواميس لغة أهل الأرض جميعاً ما أستطيع أن أعبر به عن هذا الظلم الذي نحياه، أيسب الصديق؟! أيسب أطهر رجل في الأمة بعد المصطفى؟! ما هذا الذل والهوان؟! يا رب! ارفع مقتك وغضبك عنا، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، اللهم لا تؤاخذنا بما قال السفهاء منا.

الصديق أحب الرجال إلى رسول الله

الصديق أحب الرجال إلى رسول الله يسب صديق الأمة رضوان الله عليه، ذلكم العملاق الكبير، وهل تظن أنني أرفع من قدره وأنا أدافع عنه؟! لا وربي، بل أرفع من قدر نفسي ومن قدر إخواني بالذود عن أبي بكر رضي الله عنه وعن جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله ومن والاه. هو صديق الأمة، ورفيق النبي في جميع الأحوال، وصاحب النبي في الأسفار، وجار النبي صلى الله عليه وسلم في الروضة المحفوفة بالأنوار، السابق إلى التصديق، المؤيد من الله بالمدد والتوفيق، أحب الناس إلى قلب سيد الرجال، ففي صحيح البخاري من حديث عمرو بن العاص قال: (يا رسول الله! أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة، قال: من الرجال؟ قال: أبوها. قال: ثم من؟ قال: ثم عمر). الصديق الذي لم يتلعثم في إيمانه قط، ولم يتردد طرفة عين، بل كان شعار هذا العملاق الطاهر الكبير إذا تشككت الصدور، وتلعثمت الكلمات والألسنة: (إن كان محمد قد قال ذلك فقد صدق)، قال ذلك في الإسراء وفي الإسلام وفي الحديبية. ولذلك قال عمر -والأثر في مسند أحمد بسند حسن-: (لو وزن إيمان أبي بكر) بإيمان أهل الأرض لرجح إيمان أبي بكر، هذا هو الذي سبق به الصديق جميع أصحاب رسول الله، لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح إيمان أبي بكر رضي الله عنه.

الصديق يدعى من أبواب الجنة كلها

الصديق يدعى من أبواب الجنة كلها الصديق رضوان الله عليه لم يدع سبيلاً من سبل الخير إلا وسلكه. ففي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أنفق زوجين من الأشياء في سبيل الله يدعى يوم القيامة من أبواب الجنة: يا عبد الله! هذا خير فإن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، وإن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، وإن كان من أهل الجهاد -أسأل الله أن يرفع علمه- دعي من باب الجهاد، وإن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، فقال أبو بكر: يا رسول الله! وهل يدعى أحد من هذه الأبواب كلها؟ قال: نعم، وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر). وفي رواية ابن حبان بسند صحيح من حديث ابن عباس: (قال الصديق: وهل يدعى أحد من هذه الأبواب كلها يا رسول الله؟ فقال نعم. وأنت هو -يا أبا بكر - هذه مكانتك وتلك منزلتك). وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة (أن النبي سأل الصحابة يوماً: من أصبح اليوم منكم صائماً؟ فقال أبو بكر: أنا يا رسول الله! قال: فمن أطعم اليوم منكم مسكيناً؟ فقال أبو بكر: أنا يا رسول الله! قال: فمن عاد اليوم منكم مريضاً؟ فقال أبو بكر: أنا يا رسول الله! قال: فمن تبع اليوم منكم جنازة؟ فقال أبو بكر: أنا يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة).

فضل عمر

فضل عمر بعض الناس يسب عمر الفاروق الأواب التواب، أيسب الفاروق عمر؟ عمر الذي قدم للناس أسوة لا تبلى ولن تفنى، إنها قدوة تتمثل في رجل كبير أتت الدنيا كلها على عتبة داره بأموالها وذهبها وزخرفها وسلطانها، بأموال كسرى وبأموال قيصر، خضعت كل هذه الزخارف تحت رجل عمر وتحت قدم عمر، فوالله ما تغير، بل قام وسرحها سراحاً جميلاً، وطلقها طلاقاً لا رجعة فيه، قام ليدرأ عن الناس فتنها وشبهاتها ومضلاتها، وقام لينثر في الناس من هذا المتاع الدنيوي خيراً، ثم لما نفض يديه من هذا المتاع الدنيوي الحقير الزائل قام ليستأنف سيره. وانظر إليه، ستراه هنالك بعيداً يجري تحت حرارة شمس محرقة تذيب الصخور والحديد والحجارة، وينظر إليه عثمان ويتساءل: من هذا الذي خرج في هذا الجو القائظ القاتل؟ ولما دنا منه فإذا به أمير المؤمنين، إنه عمر بن الخطاب! وينادي عليه عثمان: يا أمير المؤمنين! يا أمير المؤمنين! ما الذي أخرجك في هذا الجو القائظ؟ فيقول عمر الورع التقي النقي الفاروق الأواب العدل: شرد بعير -جمل- من إبل الصدقة -يا عثمان - وأخشى عليه الضياع فيقول عثمان: تعال إلى الظل يا أمير المؤمنين! وتعال إلى الماء البارد، وكلف أحد عمالك ليأتيك بهذا البعير الشارد، فيقول عمر: عد إلى ظلك، عد إلى مائك البارد يا عثمان أأنت ستسأل عنه أمام الله يوم القيامة؟ وتراه هنالك في موكب آخر قد حنى رأسه، ذلك الرأس العظيم الذي تطاول -ورب الكعبة- ليعانق كواكب الجوزاء، أو إن شئت فقل وأنت صادق: التي تواضعت كواكب الجوزاء لتُشَرِّف من قدرها وهي تتوج رأس عمر، عمر يحني رأسه تحت قدر على نار مشتعلة، وينفخ عمر لينضج طعمة طيبة لأطفال يبكون من شدة الجوع. وتراه هنالك يأخذ امرأته وهي زوجة أمير المؤمنين، فإلى أين يا أمير المؤمنين؟ إلى أين تأخذ امرأتك في هذا الجو المظلم الدامس؟ إلى امرأة مسلمة أدركها كرب المخاض تضع ولا تجد من يساعدها، فيأخذ عمر امرأته لتساعد مسلمة من المسلمين، إنه عمر! وتراه هنالك يمشي ليتفقد أحوال الناس، فيرى إبلاً سمينة عظيمة فيقول عمر: ما شاء الله! إبل من هذه؟ فيقول الناس: إبل عبد الله بن عمر. وكأن حية رقطاء قد أفرغت كل سمها في جوف عمر، فقال: إبل عبد الله بن عمر! ائتوني به. فيأتي عبد الله بن عمر، ومن هو عبد الله بن عمر؟! إمام الزهد، وإمام الورع والتقى، وقائم الليل، وصائم النهار، فيأتي عبد الله ويقف بين يدي والده فيقول له عمر: ما هذه الإبل يا عبد الله؟ فيقول: إبل اشتريتها وهي هزيلة بخالص مالي يا أمير المؤمنين، وتركتها في الحمى لترعى أبتغي ما يبتغيه سائر المسلمين من الربح والتجارة. فيرد عمر: بخ بخ يا ابن أمير المؤمنين! إذا رأى الناس إبلك قالوا: ارعوا إبل ابن أمير المؤمنين، اسقوا إبل ابن أمير المؤمنين. فتسمن إبلك ويربو ربحك يا ابن أمير المؤمنين. قال: مرني يا أبت قال: انطلق الآن فبع الإبل وخذ رأس مالك فقط، ورد الربح إلى بيت مال المسلمين. سبحانك يا خالق عمر! سبحانك يا خالق عمر! سبحانك يا خالق عمر! سبحانك هل يسب هذا؟! هل يسب عمر؟! هل يسب الذي قدم لأهل الأرض قدوة يجب على كل مسلم أن يفخر بها؟ وأن يرفع رأسه أنه ينسب لـ أبي بكر وينسب لـ عمر وينسب لـ عثمان وينسب لـ علي. هل يسب عمر؟! هل يسب عمر الذي قال النبي في حقه -والحديث في سنن الترمذي بسند حسن من حديث عبد الله بن عمر -: (إن الله تعالى جعل الحق على لسان عمر وقلبه)، شهادة الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، ليست شهادة من هيئة اليونسكو، ولا من هيئة الأمم، ولا من منظمة مشبوهة خبيثة، ولا من ناد من أندية الروتاري أو الماسونية، بل إن الذي يضع هذا الوسام على صدر عمر هو الصادق الذي لا ينطق عن الهوى. وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة قال المصطفى: (بينا أن نائم إذ رأيتني في الجنة، يقول: ورأيتني إلى جوار قصر وإلى جواره جارية تتوضأ، فقلت: لمن هذا القصر؟ قالوا: لـ عمر بن الخطاب، فتذكرت غيرتك -يا عمر - فأعرضت -يعني: أعرضت عن النظر إلى الجارية التي بجوار قصرك- فبكى عمر وقال: أومنك أغار يا رسول الله؟). وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال: (بينا أنا نائم إذ عرض علي الناس وعليهم قمص -جمع قميص- منها ما يبلغ الثديا -جمع ثدي- ومنها ما دون ذلك، إذ عرض علي عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره. قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: الدين). وفي الصحيحين من حديث ابن عمر قال: (بينا أن نائم إذ أتيت بقدح لبن فشربت، حتى أني أرى الري يخرج من بين أظفاري ثم أعطيت فضلتي -أي: ما تبقى في القدح من اللبن -لـ عمر بن الخطاب قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: العلم). وأختم بهذا الحديث الذي في الصحيحين من حديث سعد بن أبي وقاص قال: (استأذن عمر بن الخطاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده نساء من قريش يكلمنه ويستكثرنه عالية أصواتهن، فلما استأذن عمر قمن يبتدرن الحجاب، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر: أضحك الله سنك يا رسول الله -يعني: زادك الله سروراً، ولم يقل: لماذا تضحك يا رسول الله؟ -فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عجبت من هؤلاء اللائي كن عندي، فلما سمعن صوتك قمن يبتدرن الحجاب. قال عمر: فأنت -يا رسول الله- أحق أن يهبن. قال عمر: أي عدوات أنفسهن! أتهبنني ولا تهبن رسول الله؟ قلن: نعم. أنت أفظ وأغلظ من رسول الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان قط سالكاً فجاً -أي: تمشي في طريق- إلا سلك فجاً غير فجك). يا خالق عمر سبحانك، هذا ما أستطيع أن أعلق به، والله إننا الآن لفي أمس الحاجة إلى عمر ليطهر شوارعنا من الشياطين التي ملأتها، (لو رآك الشيطان سالكاً فجاً لتركه وسلك فجاً غير فجك). ثم بعد ذلك يسب عمر الذي أذل كسرى، عمر الذي أهان قيصر، عمر الذي أعز الله عز وجل به الإسلام قديماً وحديثاً، إنا لله وإنا إليه راجعون، إنا لله وإنا إليه راجعون، وهل يسب عثمان؟ وهل يسب علي؟ أكمل بعد جلسة الاستراحة فأراني قد أطلت، وها هي عقارب الساعة تطاردنا، نسأل الله عز وجل أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال، وأن يجزي عنا أصحاب سيد الرجال خيراً، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

فضل عثمان بن عفان

فضل عثمان بن عفان الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: بإيجاز شديد سأكتفي بحديث واحد في كل صحابي جليل ممن أود أن أتحدث عنهم فهل يسب عثمان الحيي التقي ذو النورين، وصاحب الهجرتين، والمصلي إلى القبلتين، وزوج ابنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ عثمان الكريم المعطاء، الذي ما تعرض الإسلام لهجمة إلا ووجدت لتلك الأزمة عثمانها المعطاء، يجود بكل ما يملك بمنتهى الجود والكرم والسخاء، عثمان الحيي الذي ثبت في صحيح مسلم من حديث عائشة (أن أبا بكر استأذن يوماً على رسول الله وهو في حجرة عائشة، وقد اضطجع النبي على يمينه وكشف عن فخذه أو ساقه، فأذن النبي لـ أبي بكر فدخل الصديق فكلم النبي والنبي على هيئته لم يتغير، ثم استأذن عمر فأذن النبي لـ عمر فدخل فكلمه وانصرف والنبي على هيئته لم يتغير، فلما استأذن عثمان على رسول الله جلس النبي وسوى عليه ثيابه وأذن لـ عثمان فدخل فكلم النبي ثم انصرف، ففطنت عائشة الفقيهة لمثل هذا، وقالت: يا رسول الله! استأذن عليك أبو بكر فلم تهتش له ولم تباله، ثم استأذن عليك عمر فلم تهتش له ولم تباله، فلما استأذن عليك عثمان جلست وسويت ثيابك وأذنت له! فقال النبي: يا عائشة! ألا أستحيي من رجل تستحيي منه الملائكة؟!). وعثمان هو الذي وسع المسجد، وعثمان هو الذي اشترى بئر رومة، وعثمان هو الذي جهز جيش العسرة، عثمان الذي ما وجدت أزمة تعصف بالإسلام إلا ووقف لها بكل جود وسخاء وكرم، أيسب عثمان رضوان الله عليه المبشر بالشهادة والمبشر بالجنة من كلام النبي الذي لا ينطق عن الهوى؟!

فضل علي بن أبي طالب

فضل علي بن أبي طالب وهل يسب علي رضوان الله عليه وأرضاه؟ اضطر علي يوماً أن يفخر فقال: محمد النبي أخي وصهري وحمزة سيد الشهداء عمي وجعفر ذاك من يمسي ويضحي يطير مع الملائكة ابن أمي وبنت محمد سكني وزوجي منوط لحمها بدمي ولحمي وسبطا أحمد ولداي منها فأيكم له سهم كسهمي علي الفدائي الذي علم الدنيا حقيقة الفداء وشرف البطولة، والذي ظهرت مكانته يوم خيبر عند الله وعند رسوله، قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (لأعطين الراية غداً رجلاً يفتح الله على يديه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله)، وفي رواية مسلم: قال عمر: والله ما تطلعت إلى الإمارة إلا يومها، ما تمنى عمر أن يكون أميراً إلا في ذلك اليوم، لعله من قال النبي فيه: (ويحبه الله ورسوله). وفي الصباح شق السكون صوت النبي عليه الصلاة والسلام وهو يسأل عن هذا القائد الذي سيفتح الله على يديه، والذي يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، فقال: (أين علي بن أبي طالب؟ فقالوا: إنه يشتكي عنيه. قال: أرسلوا إليه. فأرسلوا إليه فجاء علي فمسح النبي على عينه فبرأ، وكأن لم يكن به وجع، وأعطاه الراية وقال: انطلق. فقال: علام أقاتلهم يا رسول الله؟! قال: حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله)، وفي لفظ البخاري: (فلئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم). حب النبي على الإنسان مفترض وحب أصحابه نور وبرهان من كان يعلم أن الله سائله لا يرمين أبا بكر ببهتان ولا أبا حفص الفاروق صاحبه ولا الخليفة عثمان بن عفان ولا علياً أبا السبطين نعم الفتى وصى به المصطفى في سر وإعلان فهم صحابة خير الخلق خصهم الإله بجنات ورضوان

الصحابة قدوة لمن بعدهم

الصحابة قدوة لمن بعدهم الصحابة هم القدوة فاعرفوا لهم قدرهم أيها الأحبة، قال ابن مسعود: من كان مستناً فليستن بمن قد مات؛ فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا أفضل هذه الأمة، وأبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً. اختارهم الله لصحبة نبيه ولإقامة دينه فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم على آثارهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم؛ فإنهم كانوا على الهدى المستقيم، يقول ابن مسعود: إن الله تعالى نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد فاصطفاه لرسالته ونبوته، ثم نظر في قلوب العباد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه. وأختم بهذا الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي من حديث العرباض بن سارية قال: (وعظنا رسول الله موعظة بليغة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون، فقلنا: كأنها موعظة مودع فأوصنا يا رسول الله. فقال: أوصيكم بالسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد حبشي، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة). اللهم إنا نشهدك أننا نحب أصحاب نبيك المصطفى، اللهم احشرنا معهم بحبنا لهم وإن قصرت بنا أعمالنا، اللهم احشرنا معهم وإن قصرت بنا أعمالنا، اللهم احشرنا معهم بحبنا لهم وإن قصرت بنا أعمالنا، اللهم احشرنا معهم بحبنا لهم وإن قصرت بنا أعمالنا. اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم اقصف أقلام الحاقدين والمرجفين، اللهم اقصف أقلام الحاقدين والمرجفين بقدرتك يا رب العالمين. اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، ولا تؤاخذنا بما قال السفهاء منا، اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم انصر المجاهدين لنصرة دينك في كل مكان برحمتك يا أرحم الراحمين. يا رب! لا تدع لأحد من إخواننا وأخواتنا -في هذا الجمع الكريم- ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفتيه، ولا ديناً إلا قضيته، ولا ميتاً لنا إلا رحمته، ولا عاصياً بيننا إلا هديته، ولا طائعاً إلا زدته وثبته، ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا رب العالمين! اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا شقياً ولا محروماً. اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى، اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا سبباً لمن اهتدى، اللهم إنا نسألك أن تجعل بلدنا مصر واحة للأمن والإيمان وجميع بلاد المسلمين، يا رب! اجعل مصر سخاء رخاء وجميع بلاد المسلمين، وارفع عنها الفتن ما ظهر منها وما بطن والغلاء والوباء والبلاء برحمتك يا أرحم الراحمين، وجميع بلاد المسلمين.

الحرب على الثوابت [2]

الحرب على الثوابت [2] هناك حرب سافرة ضد ثوابت الإسلام وأصوله تلبس قناع حرية الفكر والرأي، وتدعي أن الإسلام يتناقض مع العلم الحديث، وهي حرب يقوم بها أعداء الإسلام من الكفار وأذنابهم من العلمانيين والمستغربين، وقد تصدى لهم علماء الإسلام فكشفوا زيفهم، وبينوا كذبهم وتدليسهم بما لا يدع مجالاً للشك أبداً.

خطر المفكرين المتلوثين بزبالة أفكار الملحدين

خطر المفكرين المتلوثين بزبالة أفكار الملحدين الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة الفضلاء الأعزاء! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم الكريم جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار مقامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! (الحرب على الثوابت) سلسلة منهجية أفند فيها شبهات خطيرة تثار الآن ضد الإسلام، لا على الفرعيات والجزئيات بل على الثوابت والأصول والكليات، ولا يتولى كبرها الملحدون والمستشرقون كما كان الحال قديماً، بل يتولى كبرها ويشعل نيرانها رجال من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا! وصدق ربي جل وعلا إذ يقول: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة:204 - 206]. وقد وصف النبي هذا الصنف وصفاً دقيقاً في حديثه الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: (كان الناس يسألون رسول الله عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله! إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، قلت: فهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم وفيه دخن، قلت: وما دخنه يا رسول الله؟! قال: قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر، قلت: فهل بعد ذلك الخير -أي الذي شابه الدخن- من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها، قلت: صفهم لنا يا رسول الله! قال: هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا)، وفي لفظ مسلم قال: (هم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس). أيها الأحبة! لقد ابتلينا في هذه السنوات الماضية بمجموعة من أصحاب الشذوذ الفكري، ممن يسمون -وبكل أسف- بالنخبة من رجال الفكر والفن والأدب، ممن ملئوا أقلامهم بمداد عفن قذر، ووجدوا في الطعن في ثوابت الإسلام أقصر الطرق للوصول إلى الشهرة المزيفة الحقيرة، فما نال سلمان رشدي جائزة الدولة النمساوية إلا إيماناً بآياته الشيطانية، وما نال الطاهر بن جولون جائزة جنكور الفرنسية إلا بروايته الخبيثة التي أسماها: بليلة القدر، وما نال نجيب محفوظ جائزة نوبل إلا بروايته الخبيثة التي أسماها: بأولاد حارتنا، وما نال نصر أبو زيد هذه الشهرة العالمية، وبكى عليه الحاقدون على الإسلام من أمثاله بكاءً مريراً إلا لأنه طعن في ثوابت الإسلام كله من أوله إلى آخره. كل ذلك تحت شعارات رنانة كحرية الفكر والرأي، والخروج من الظلامية والرجعية، وفتح آفاق المعرفة، إلى آخر هذه الشعارات، وأنا قررت من اللقاء الماضي أننا جميعاً مع حرية الفكر والرأي، ونبغض من كل قلوبنا العصبية والرجعية والتزمت، ونرفض أن نعيش في الظلامية والانغلاقية والانهزامية والرجعية. لكن هل التطاول على ذات الله جل وعلا من حرية الفكر والرأي؟! هل الطعن في ثوابت الإسلام وأصوله وكلياته من حرية الفكر والرأي؟! هل السخرية بالملائكة الكرام البررة من حرية الفكر والرأي؟! هل التشكيك في القرآن الكريم من حرية الفكر والرأي؟! هل التطاول على مقام المصطفى صلى الله عليه وسلم من حرية الفكر والرأي؟! هل الغمز واللمز للسنة والتشكيك فيها من حرية الفكر والرأي؟! هل الطعن في أصحاب النبي الأطهار من حرية الفكر والرأي؟! هل الدعوة إلى الدعارة العلنية والشذوذ الجنسي -حين يسمونه بالأدب المكشوف- من حرية الفكر والرأي؟! نحتاج قليلاً من الإنصاف والعدل -يا سادة- لنصل إلى الحقيقة، هذا إن كنا نريد بصدق أن نصل إلى الحقيقة، فإن الله جل وعلا يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} [الأحزاب:57]، وقال الله جل وعلا: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح:13]، وقال الله جل وعلا: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66]. وكان لقاؤنا الماضي من لقاءات هذه السلسلة التي سأقدم لها بهذه المقدمة الثابتة في كل لقاء بإذن الله تعالى، كان لقاؤنا الماضي عن الحرب على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ونحن اليوم على موعد مع اللقاء الثاني من لقاءات هذه السلسلة ألا وهو: (الحرب على السنة) وكعادتي حتى لا ينسحب بساط الوقت سريعاً من تحت أقدامنا فسوف أركز الحديث مع حضراتكم في هذا الموضوع الخطير في هذه العناصر المحددة السريعة: أولاً: السنة والحرية. ثانياً: السنة والعقل والعلم الحديث. ثالثاً: السنة والحضارة. فأعيروني القلوب والأسماع جيداً، فإن الموضوع اليوم من الأهمية والخطورة بمكان، لاسيما ونحن نشهد الآن حرباً سافرة فاجرة على الأصل الثاني من أصول الإسلام، ألا وهو: سنة النبي عليه الصلاة والسلام.

الحرب على السنة

الحرب على السنة فإن من المصائب الكبيرة التي تهز القلب وتحطم الفؤاد، أن نعيش زماناً نحتاج فيه إلى أن نوضح مكانة السنة في الإسلام، وهل الإسلام إلا كتاب منزل ونبي مرسل يبين مراد الله جل وعلا، وذلك من خلال تفسيره وتوضيحه لكلام الله المنزل تارة، وبقوله وعمله وهديه وسمته وخلقه تارة أخرى؟! فالمصدران الأصليان الرئيسيان للشريعة هما: القرآن والسنة.

مكانة السنة

مكانة السنة قد بينت السنة مكانتها مع القرآن، فيقول صاحب السنة كما في الحديث الذي رواه الحاكم في المستدرك، وصححه على شرط الشيخين، وأقره الذهبي والألباني من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض)، وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي أو نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار). وفي الحديث الذي رواه مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله كتب عليكم الحج فحجوا فقام رجل فقال: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الرجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال في الثالثة: لو قلت نعم لوجبت -وهذا تشريع- ذروني ما تركتكم، إنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه). وفي صحيح البخاري من حديث جابر بن عبد الله: (أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءته يوم الملائكة وهو نائم، فقال بعضهم -أي: بعض الملائكة-: إنه نائم وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان. فقال بعضهم: إن لصاحبكم هذا مثلاً فاضربوا له مثلاً، قالوا: مثله كمثل رجل بنى داراً، وجعل فيها مأدبة -وضع فيها طعاماً- وبعث داعيه، فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة. قالوا: أولوها له يفقهها -أي: فسروا له هذه الرؤيا أو هذا المثل-. قالوا: فالدار هي الجنة، والداعي هو محمد، فمن أجاب الداعي دخل الدار -أي: دخل الجنة- وأكل من المأدبة -أي: استمتع بنعيمها- فمن أطاع محمداً فقد أطاع الله، ومن عصى محمداً فقد عصى الله، ومحمد فرق بين الناس). والآيات والأحاديث التي تبين حجية السنة كثيرة، ومما يؤيد حجية السنة وأنها ملزمة ومستقلة بالتشريع الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود والترمذي من حديث العرباض بن سارية قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون، فقلنا: كأنها موعظة مودع فأوصنا يا رسول الله. فقال: أوصيكم بالسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد حبشي، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة). هذه هي حجية السنة بنص القرآن الكريم، وأقول لمن يزعمون أن الإسلام هو القرآن: ها هو القرآن يبين مكانة السنة وحجية السنة، وها هي السنة يبين صاحبها صلى الله عليه وسلم مكانة السنة من القرآن، فإن السنة لا تفارق القرآن أبداً حتى يردا الحوض على النبي عليه الصلاة والسلام.

السنة مع القرآن على ثلاثة أوجه

السنة مع القرآن على ثلاثة أوجه فرسول الله صادق لا ينطق عن الهوى. قال الإمام الأوزاعي: القرآن أحوج إلى السنة من السنة إلى القرآن، وقال الإمام ابن القيم في كتابه القيم (إعلام الموقعين): السنة مع القرآن على ثلاثة أوجه: الوجه الأول: أن تكون السنة موافقة للقرآن من كل وجه، وهذا من باب توارد الأدلة وتظافرها في المسألة الواحدة. الوجه الثاني: أن تكون السنة بياناً وتفسيراً لما أجمله القرآن، فالقرآن الكريم يأمر بالصلاة، فيقول سبحانه: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103]، ويقول سبحانه: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة:43]، فتأتي السنة لتبين كيفية الصلاة وأركان الصلاة وسنن الصلاة وشروط صحة الصلاة إلى غير ذلك، فيقول صاحب السنة: (صلوا كما رأيتموني أصلي). ويأمر القرآن بالحج: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] فيأتي صاحب السنة ليبين مناسك الحج بالتفصيل، وأركان الحج وواجبات الحج وسنن الحج إلى آخر ذلك، ويقول عليه الصلاة والسلام: (خذوا عني مناسككم). فالوجه الثاني من أوجه السنة مع القرآن: أن تكون السنة بياناً وتفسيراً لما أجمله القرآن. الوجه الثالث من أوجه السنة مع القرآن: أن تكون السنة موجبة لما سكت القرآن عن إيجابه، أو محرمة لما سكت القرآن عن تحريمه. قال المصطفى -كما في الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة من حديث المقدام بن معد يكرب -: (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان متكئ على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه ألا لا يحل الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السباع، ولا لقطة المعاهد)، وفي لفظ: (فإن ما حرم رسول الله كما حرم الله عز وجل).

المحاربون للسنة فريقان

المحاربون للسنة فريقان ونحن نشهد الآن حرباً عاتية على الأصل الثاني الذي هو السنة، وأستطيع باطمئنان كامل أن أقول: إن الذين يعلنون الحرب على السنة الآن ينقسمون إلى فريقين: الفريق الأول: فريق مرق من الدين مروق السهم من الرمية، وذلك لإنكاره حجية السنة بالكلية، وزعمه أن الإسلام هو القرآن فقط دون سنة سيد البشرية. الفريق الثاني: لا ينكر حجية السنة، ولكنه بدعوى التمحيص والتحقيق والعقلانية يطعن في بعض الأحاديث الصحيحة الثابتة في سنة سيد البشرية صلى الله عليه وسلم.

حجية السنة

حجية السنة هذان فريقان: فريق ينكر السنة بالكلية، وفريق يشكك في السنة بالطعن في بعض الأحاديث الثابتة الصحيحة بدعوى العقل أو التمحيص أو التحقيق، والله تبارك وتعالى قد بين لنا في قرآنه مكانة السنة، وأنه لا غنى أبداً للقرآن عن السنة، وأن السنة لها حجية ملزمة، قال الإمام الشوكاني في إرشاد الفحول: إن ثبوت حجية السنة واستقلالها بتشريع الأحكام ضرورة دينية، ولا يخالف ذلك إلا من لا حظ له في الإسلام. قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر:7]، وقال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]. وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:136]. وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء:60 - 61]. وقال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور:51 - 52]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء:59]. قال ميمون بن مهران رحمه الله: الرد إلى الله هو الرجوع إلى كتابه، والرد إلى الرسول هو الرجوع إليه في حياته وإلى سنته بعد مماته. وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح:10]، وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80]. آيات كثيرة تبين لنا حجية السنة ومكانة السنة، وأن رسول الله لا ينطق عن الهوى، وقال تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:1 - 4]. وقال تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة:38 - 47].

السنة والعقل والعلم الحديث

السنة والعقل والعلم الحديث المحور الثاني من محاور الحرب على السنة والتشكيك في السنة هو -بزعم المشككين- أن السنة مشحونة بالأحاديث التي تصطدم اصطداماً مباشراً مع العقول السوية، بل وتنقض من الأساس النظريات العلمية، وهذا هو عنصرنا الثاني: السنة والعقل والعلم الحديث. وأرجو أن تركزوا معي جيداً في هذا العنصر المهم؛ لأننا الآن نرى إلهاً جديداً يعبد يسمى العلم أو العقل، وأنا لا أقلل أبداً من شأن العلم، ولا من قدر العقل، بل أقول بأعلى الصوت وملء الفم: إن الإسلام دين يقدر العقل، ويدعو إلى العلم، ويكفي أن نعلم أن من أول الآيات التي نزلت على قلب المصطفى صلى الله عليه وسلم: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1]، وهي دعوة إلى العلم، والآيات والأحاديث التي تدعو إلى التدبر والتفكر والتعقل كثيرة. فأنا لا أقلل من شأن العقل ولا من قدر العلم، لكن لا ينبغي أن يصير العقل والعلم طاغوتاً جديداً ينصب نفسه حاكماً على صريح القرآن وصحيح سنة النبي عليه الصلاة والسلام، فقالوا: السنة مشحونة بالأحاديث التي تصطدم مع العقول السوية، وتخالف النظريات العلمية.

شبهات على السنة وردود

شبهات على السنة وردود من طعنهم في السنة قولهم: هل يعقل إذا ولغ الكلب في إناء من الآنية أن نغسل هذا الإناء سبع مرات بالماء وأن نغسله مرة بالتراب؟ ما هذا الانغلاق؟! ما هذا الضيق؟ أنتم تعيشون في عصر الإنترنت، وعصر أتوبيس الفضاء ديسكفري، كيف تقولون مثل هذا الكلام الذي يحول بين الغرب وبين الإسلام؟! هذا القول: إذا ولغ الكلب في الإناء يجب أن نغسل الإناء بالتراب مرة أمر لا يقره العقل! وكذلك إذا وقعت الذبابة في السائل كيف نغمس الذبابة في السائل بدعوى أنها تحمل في جناح من جناحيها الداء، وتحمل في الجناح الآخر الدواء؟! ما هذا؟! أمر لا يقبله العقل، بل ويصطدم اصطداماً مباشراً مع الرقي والحضارة والمدنية! وكان من الواجب أن يكون السؤال هكذا: هل ثبت فعلاً أن رسول الله قال ذلك؟ هذا هو الأدب، ولا حرج على الإطلاق عند من يعبدون العقل ويقدسون العلم أن يمحصوا ويحققوا ويبحثوا بالأصول الحديثية التي وضعها الفحول من أهل الحديث ليتعرفوا على صحة السند والمتن، وعند معرفتهم أن الحديث ثابت وصحيح كان من الواجب عليهم أن يصدقوا كلام النبي ولو لم تدركه العقول، حتى ولو صادم نظرية من النظريات العلمية. قد تقول: كيف ذلك؟ نقول: ابتداءً هناك اتفاق بين علماء الأرض قاطبة أن النظريات العلمية لا تقدم حقائق يقينية ثابتة مطلقة لا تزيد ولا تنقص، ولا تحتمل التبديل ولا التغيير أبداً، وهذا اتفاق عام بين علماء الأرض أن النظريات العلمية ما هي إلا احتمالات، وليعذرني القارئ إن استشهدت ببعض أقوال العلماء الكافرين؛ لأن المنتسبين لإسلامنا ممن يشككون في السنة إذا جاءهم الوحي من رسول الله كذبوه، وإذا جاءهم الوحي من أوروبا صدقوه. يقول العالم الإنجليزي الشهير سرجن: (إن كل ما يستطيع العلم الحديث أن يقدمه إلى الآن ما هو إلا احتمالات)، فتخرج نظرية علمية لتهدم نظرية علمية سابقة، أو على الأقل لتنقض أصلاً من أصولها، أو لتزيد عليها أو لتنقص منها، وهذا أمر ثابت متفق عليه، فكان من الواجب أن نبحث: هل قال رسول الله ذلك؟ فإن كان الجواب بـ (نعم)، كان من المحتم اللازم أن نصدق كلام حبيبنا ونبينا وإن لم تدرك عقولنا مراد النبي، حتى ولو خالف نظرية من النظريات العلمية؛ لأن النظريات العلمية ما هي إلا احتمالات، وليست حقائق يقينية مطلقة ثابتة. فهل قال رسول الله حقاً مثل هذا؟ A نعم. ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات إحداهن بالتراب)، وفي رواية: (طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب). وفي صحيح البخاري وسنن أبي داود من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله ثم ليطرحه أو لينزعه؛ فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء). فما الذي قاله العلم الحديث؟ وأرجو أن يفهم الطلاب أنني لا أريد الآن أن أصدق بالعلم الحديث كلام النبي صلى الله عليه وسلم، كلا، فالمسلم الصادق لا يحتاج إلى دليل من العلم ليصدق به كلام الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، لكن أود أن أبين لعباد العلم والعقل ما الذي توصل إليه العلم الحديث في هاتين القضيتين الخطيرتين الكبيرتين: في قضية ولوغ الكلب، وفي قضية سقوط الذبابة في السائل، فقد كانوا يعلنون الحرب ويقيمون الدنيا ولا يقعدونها حينما يقول عالم من علماء الإسلام أو الحديث ذلك، فما الذي توصل إليه العلم في السنوات القليلة الماضية؟ تدبر معي وارفع رأسك لأنك تنسب إلى رسول الله. توصل أشهر عالم من علماء الطفيليات في العالم، وهو البروفسور أليسون -وهو عالم إنجليزي شهير ما زال حياً يرزق-، وهو من الأساتذة الإنجليز الذين يشرفون على أيِّ رسالة لأيِّ طبيب من أطباء العالم يتقدم للحصول على الزمالة البريطانية، فمن بين هؤلاء المتخصصين هذا العالم أليسون، ماذا قال؟ الرجل لما سمع يوماً حديث سيد البشرية في قضية ولوغ الكلب تعجب وأجرى الدراسات والتجارب العلمية، وهو رجل لا يدين بالإسلام، وبعد إجراء التجارب العلمية قال: وجدنا في علم الطفيليات أن الكلب يحمل في لعابه أكثر من خمسين مرضاً. والعجيب أن الإناء الذي ولغ فيه الكلب لا يطهره الماء من كل الطفيليات والميكروبات التي نزلت مع ولوغ الكلب، فقالوا: نجرب كلام محمد صلى الله عليه وسلم فغسلوا الإناء بالتراب مرة ثم أقاموا الدراسات والتجارب، فلم يجدوا أثراً لميكروب واحد في الإناء بعدما غسلوه بالتراب، فمن الذي علم المصطفى ذلك؟ هذه حقيقة علمية هائلة لم تكتشف إلا في السنوات القليلة الماضية، مع أن المصطفى قد ذكرها منذ أربعة عشر قرناً، ألم يقل ربنا: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3]؟ فهذه تجربة علمية أثبتت أن الكلب إذا ولغ فإنه يخرج من لعابه أكثر من خمسين مرضاً، وأن الماء وحده لا يكفي لتطهير الإناء من الطفيليات والميكروبات التي يخرجها الكلب في لعابه، فلما غسلوا الإناء بالتراب لم يجدوا أثراً لميكروب واحد من الميكروبات التي أفرزها الكلب في لعابه، وصدق المصطفى، بل وصدق رب المصطفى الذي يقول: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3]. وفي عام واحد وسبعين وثمانمائة وألف من الميلاد اكتشف العالم الألماني بريتلد -من جامعة (هال) الألمانية- أن الذبابة تحمل نوعاً من أنواع الجراثيم التي تسبب أمراض الحميات كالتيفود والدوسنتاريا وغير ذلك، ثم أثبت هذا العالم أيضاً أن الذبابة في الوقت ذاته تحمل نوعاً أو طفيلاً من جنس الفطريات سماها هذا العالم - بريتلد - (الموزاموسكي)، وقال: في الوقت الذي تحمل فيه الذبابة الجراثيم التي تسبب أمراض الحميات كالتيفود والدوسنتاريا فإن الذبابة في الوقت ذاته تحمل طفيلياً من جنس الفطريات يسمى الموزاموسكي، هذا الفطر يفرز مادة تحتوي على مضادات حيوية تقضي تماماً على الجراثيم التي تحملها الذبابة في جناحها الأول. وجاءت التجارب العلمية بعد ذلك لتؤكد صحة ما وصل إليه بريتلد، بل ولتقف على الخصائص العجيبة لهذا الفطر الذي تحمله الذبابة على شكل دوائر، فاكتشفوا خصائص عجيبة لهذا الفطر الذي يقضي على الجراثيم التي تحملها الذبابة في الجناح الأول، وقالوا: إن جراماً واحداً من هذا الفطر الذي تحمله الذبابة على شكل دوائر مستديرة كفيل بحفظ ألفي لترٍ من اللبن الملوث بهذه الجراثيم. ثم وصلوا إلى حقيقة أعجب، وخذها بقلبك وعقلك لتفخر بأنك من الموحدين، وبأنك من أمة سيدنا النبيين، وصلوا إلى حقيقة علمية مذهلة، فقد قالوا: والعجيب أن هذه المادة التي تخرج من الفطر الذي في جسم الذبابة لا تفرز أبداً إلا بعد غمس الذبابة في السائل. من الذي علم المصطفى ذلك؟ المصطفى رسول ليس عالم طب، وليس عالم فلك، وليس عالم جيولوجيا، وليس عالم هندسة، بل إن المصطفى رسول من عند الله، لا ينطق عن الهوى بل ينطق عن الله جل في علاه. قالوا: إن الذبابة لا تفرز المادة للقضاء على الجراثيم التي تفرزها الذبابة من جناحها الأول إلا بعد غمس الذبابة في السائل، وأود أن أفرق بين غمس الذبابة في السائل للتصديق بهذه الحقيقة النبوية وبين أن يجد المرء من نفسه عدم القدرة على تناول السائل، فهذا أمر آخر، لا أنكر عليك إن لم تستطع أن تشرب السائل، فلقد عرض على النبي لحم الضب فلم يأكله، فقالوا: (أحرام هو يا رسول الله؟! قال: لا غير أني أجدني أعافه)، فلا حرج، لكن الحرج في أن تكذب رسول الله، وحين يأتيك الوحي من ألمانيا تصدق بعد ذلك أن ما قاله المصطفى هو الحق الذي لا محيد عنه، من الذي علم رسول الله هذه الحقائق العلمية الهائلة التي لم تكتشف إلا في السنوات القليلة الماضية؟!

الإعجاز العلمي في القرآن دليل على أن الرسول حق

الإعجاز العلمي في القرآن دليل على أن الرسول حق أيها المسلمون! من الذي علم محمداً صلى الله عليه وسلم أن القمر قد محي ضوءه بعدما كان مشتعلاً في أول الأمر، وأن النور الذي نراه منه في الليل ما هو إلا انعكاس لكوكب الشمس، قال تعالى: {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} [الإسراء:12]. من الذي علم محمداً صلى الله عليه وسلم هذه الحقيقة العلمية الهائلة التي لم تكتشف إلا في السنوات القليلة الماضية؟! ومن الذي علم محمداً صلى الله عليه وسلم أن كل جبل على سطح الأرض له في باطن الأرض سن مدبب كالوتد؟ قال تعالى: {وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} [النبأ:7]، من الذي علمه هذه الحقيقة العلمية الهائلة التي لم تكتشف إلا في السنوات القليلة الماضية؟ ومن الذي علم محمداً صلى الله عليه وسلم أن الأعصاب التي تتألم بالحرق أو بشدة البرد لا توجد إلا في الجلد فقط؟ قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء:56]، من الذي علم محمداً هذه الحقيقة العلمية الهائلة التي لم تكتشف إلا في السنوات القليلة الماضية؟ ومن الذي علم محمداً أن موج البحر بسطحه المائل يشتت الضوء الذي ينعكس عليه فيكون خلفه ظلمة حالكة؟ قال تعالى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40]، من الذي علم محمداً هذه الحقيقة العلمية الهائلة التي لم تكتشف إلا في السنوات القليلة الماضية؟ قال جل وعلا: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:1 - 5]. وقال جل وعلا: {فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة:38 - 47]. وهكذا يتبين لكل عاقل منصف أن المصطفى لا ينطق عن الهوى، بل لا يصادم كلام الرب العليم ولا كلام الحبيب النبي أي نظرية صحيحة.

السنة لا تعارض العلم الحديث

السنة لا تعارض العلم الحديث ليصنع الإنسان الإنترنت، ليصنع القنبلة النووية، لكن لا ينبغي أن يتخطى طوره وأن يتعدى حدوده ومكانته، فيجعل من نفسه حاكماً على صريح القرآن وصحيح كلام النبي عليه الصلاة والسلام. العقل في الجانب العقدي والإيماني لابد أن يذعن لكلام الرب العلي الذي أنزله على لسان الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا لا يتعرف عليه بالعقل وإنما من خلال الوحي، كيف وأعقل أهل الأرض -بلا نزاع- هو المصطفى صلى الله عليه وسلم ومع ذلك لم يستطع النبي صلى الله عليه وسلم بعقله المجرد أن يصل إلى حقائق الإيمان والوحي إلا بعدما نزل عليه كلام الله جل وعلا؟ قال الله تعالى لنبيه: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52]. ورحم الله ابن القيم إذ يقول: لا يستقل العقل دون هداية بالوحي تأصيلاً ولا تفصيلاً كالطرف دون النور ليس بمدرك حتى يراه بكرة وأصيلاً نور النبوة مثل نور الشمس للعين البصيرة فاتخذه دليلا فإذا النبوة لم ينلك ضياؤها فالعقل لا يهديك قط سبيلا طرق الهدى محدودة إلا على من أم هذا الوحي والتنزيلا فإذا عدلت عن الطريق تعمداً فاعلم بأنك ما أردت وصولا يا طالباً درك الهدى بالعقل دو ن النقل لن تلقى لذاك دليلا أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

السنة والحضارة

السنة والحضارة الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: المحور الثالث من محاور الحرب على السنة أنهم يعلنون أن السنة لا تليق إلا لحياة البداوة، ولا تتناسب مع الحياة الحضارية العلمية المادية الحديثة، وهذا هو عنصرنا الثالث السنة والحضارة. أيها الحبيب: لا خلاف بين أهل العلم أن أيَّ حضارة لا بد لها من عنصرين رئيسيين: ألا وهما العنصر المادي والعنصر الأخلاقي، وتنبه لهذا الكلام جيداً، فإنه يشوش علينا من يسمون بالنخبة، ويزعمون أنهم -فقط- هم الذين يفهمون ويحسنون، أما من ينتسبون إلى الإسلام فهم لا يفهمون ولا يحسنون أي شيء. من المتفق عليه أن أيَّ حضارة على وجه الأرض لابد لها من عنصرين لا تقوم الحضارة إلا بهما، ألا وهما العنصر المادي والعنصر الأخلاقي، وهناك اتفاق أيضاً على أن الحضارة لا كيان لها ولا كرامة إلا إذا سخرت العنصر المادي لخدمة العنصر الأخلاقي، فما قيمة المادة إذا كانت سبباً في هلاك الإنسان؟! ما قيمة المادة إذا كانت سبباً في شقائه وضنكه وتعاسته؟! إن الحضارة الغربية المادية الآن حضارة مجنونة بكل المقاييس، حضارة تبني وتعمر وتدمر وتهدم بالحروب المتوالية في آن واحد، ثم ينادي أصحاب هذه الحضارة على العالم كله لجمع التبرعات لإعادة تعمير ما دمروه مرة أخرى، إنه جنون رسمي.

فضل حضارة الإسلام

فضل حضارة الإسلام انظر إلى حضارة الإسلام، ماذا قال محمد صاحب السنة صلى الله عليه وسلم؟ جاء ليؤصل الحضارة تأصيلاً، وأنت تعلم -ولا ينكر ذلك منصف على وجه الأرض- أن الأوروبيين قد استمدوا الحضارة في عنصرها المادي الأول من المسلمين في الأندلس، كانت الأندلس مضاءة بضوء الكهرباء في الوقت الذي كان فيه أهل فرنسا يعيشون في الوحل والظلام، فالجانب المادي من عندنا أيضاً، لكن المسلمين انتكسوا وتركوا المنهج وحادوا عن الطريق، فزلوا في الجانب الخلقي وفي الجانب المادي، وأنا أقرر ذلك بأعلى صوتي وملء فمي من باب العدل والإنصاف، فإن المسلمين قد تخلوا عن العنصر الخلقي والمادي الآن، فتعرضوا لهذا الذل والهوان على يد ابن الحضارة الغربية التي امتطى جوادها الآن. سقى ابن هذه الحضارة المسلمين كئوس الذل والهوان أشكالاً وألواناً، بينما جاء المصطفى ليؤصل وليبين معنى الحضارة بمفهومهم هم، فتدبر معي هذه الطائفة الكريمة من الأحاديث- قال عليه الصلاة والسلام: (من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل)، وفي رواية عتبان بن مالك: (فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله تعالى). ولا زالت الحضارة المادية الأرضية كلها تتخبط في تصورها للإله الذي خلق وأبدع ودبر، لا زالت تتخبط في فهمها للحياة الدنيا، وفي فهمها للحياة الآخرة، وفي فهمها لحياة البرزخ، فجاء النبي فوضح لنا كل هذه الحقائق، وقال عليه الصلاة والسلام -كما في الحديث الذي رواه أحمد بسند صحيح: (ألا إن ربكم واحد، ألا إن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى، قال تعالى: ((إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)) [الحجرات:13]). وفي الصحيحين أن امرأة من بني مخزوم سرقت، وكانت شريفة من الأشراف، فقالت قريش: كيف يقطع النبي يد شريفة؟ فقالوا: من يشفع لها عند رسول الله، قالوا: لا يشفع لها إلا حب رسول الله أسامة بن زيد، فلما انطلق أسامة ليشفع لهذه المرأة غضب النبي وقال: (أتشفع في حد من حدود الله يا أسامة؟ وارتقى النبي المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال: إنما هلك من كان قبلكم بأنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها). هذا وتتغنى الحضارة الغربية بأنها أول من أصلت قضية الرفق بالحيوان! لا وألف لا، فقبل أربعة عشر قرناً قال نبينا صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث شداد بن أوس: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته)، وهو الذي قال كما في الصحيحين: (بينما بغي -يعني: زانية- من بغايا بني إسرائيل تمشي إذ مر عليها كلب يأكل الثرى من العطش، فعادت إلى بئر ماء، فملأت موقها ماء وقدمته للكلب فشرب، فغفر الله لها بذلك)، وهو الذي قال كما في الصحيحين: (دخلت امرأة النار في هرة -قطة- حبستها، فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض).

جهل من زعم أن السنة لا تتفق مع الحضارة

جهل من زعم أن السنة لا تتفق مع الحضارة هذا نبينا، وهذه حضارتنا، وهذا إسلامنا، فالذي يقول بأن السنة لا تتفق مع حضارة العصر ولا تتفق إلا مع حياة البداوة، إنما هو جاهل جهلاً عريضاً، بل إن السنة هي التي أصلت معاني الحضارة التي يسعد بها الإنسان في الدنيا، ويسعد بها الإنسان في الآخرة. والله لولا خشية الإطالة لوقفت مع صاحب هذه الحضارة المصطفى صلى الله عليه وسلم وقفة طويلة طويلة؛ ليفخر كل موحد لله جل وعلا أن خلقه الله موحداً وأرسل إليه محمداً. فاللهم كما خلقتنا موحدين، وجعلتنا من أمة سيد النبيين، توفنا على التوحيد يا أرحم الراحمين، واحشرنا في زمرة سيد العالمين، اللهم اختم لنا منك بخاتمة الموحدين، واحشرنا في زمرة سيد النبيين، ورد الأمة إلى السنة بعد القرآن رداً جميلاً يا أرحم الراحمين، اللهم رد الأمة إلى القرآن والسنة رداً جميلاً، اللهم رد الأمة إلى القرآن والسنة رداً جميلاً. اللهم وكما آمنا بحبيبك المصطفى ولم نره، فلا تفرق بيننا وبينه حتى تدخلنا مدخله، وأوردنا حوضه الأصفى، واسقنا منه شربة هنيئة مريئة لا نظمأ بعدها أبداً يا رب العالمين. اللهم اجعل كل جمع لنا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروماً، اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى، اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى، اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى. اللهم استرنا ولا تفضحنا، وأكرمنا ولا تهنا، وكن لنا ولا تكن علينا. اللهم انصر إخواننا في الشيشان، اللهم انصر إخواننا في الشيشان، اللهم احفظهم بحفظك يا رحيم يا رحمن، اللهم زلزل الأرض من تحت أقدام الشيوعيين الملحدين، اللهم زلزل الأرض من تحت أقدام الشيوعيين الملحدين، اللهم املأ قلوب الملحدين ناراً، واملأ بيوت الملحدين ناراً، اللهم املأ قلوب الملحدين ناراً، واملأ بيوت الملحدين ناراً، اللهم نج آباءنا وإخواننا ونساءنا وبناتنا من بين أيديهم يا رب العالمين، اللهم سلط الظالمين على الظالمين، وأخرج المسلمين من بينهم سالمين غانمين. يا رب! فرج الكرب عن أمة سيد النبيين، يا رب! فرج الكرب عن أمة سيد النبيين، اللهم إنه قد طال الليل فائذن للفجر أن ينجلي، اللهم إنه قد طال الليل فائذن للفجر أن ينجلي، اللهم إنه قد طال الليل فائذن للفجر أن ينجلي، يا أرحم الراحمين. اللهم إنا نشكو إليك خيانة الخائنين، وظلم الظالمين، وجحود الجاحدين، ونفاق المنافقين، اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، ارحم ضعفنا، وارحم ضعفنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، واغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، وفرج كروبنا، واكشف همنا، وأزل غمنا، وفك أسرنا، وفك أسرنا، وفك أسرنا، وتولَّ أمرنا، واختم بالصالحات أعمالنا، لا إله لنا سواك فندعوه، لا إله لنا سواك فندعوه، لا إله لنا سواك فندعوه، ولا رب لنا غيرك فنرجوه، ولا رب لنا غيرك فنرجوه، ولا رب لنا غيرك فنرجوه. يا منقذ الغرقى! يا منقذ الغرقى! ويا سامع كل نجوى! ويا سامع كل نجوى! يا عظيم الإحسان! يا عظيم الإحسان! يا عظيم الإحسان! يا دائم المعروف! يا ودود! يا ودود! يا ذا العرش المجيد! يا فعال لما يريد! يا من ملأ نوره أركان عرشه! يا غياث المستغيثين! يا غياث المستغيثين! يا غياث المستغيثين! يا غياث المستغيثين! يا غياث المستغيثين! أغثنا يا رب العالمين. أغثنا يا رب العالمين. أغثنا يا رب العالمين. اللهم انصر الإسلام والمسلمين، اللهم انصر الإسلام والمسلمين، اللهم انصر الإسلام والمسلمين، وانصر التوحيد والموحدين، برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم اجعل بلدنا مصر واحة للأمن والأمان وسائر بلاد المسلمين، وارفع عن مصر الفتن ما ظهر منها وما بطن يا أرحم الراحمين. هذا وما كان من توفيق فمن الله، وما كان من خطأ أو سهو أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه، وأن أكون جسراً تعبرون عليه إلى الجنة ويلقى به في جهنم.

حقيقة الحضارة الغربية

حقيقة الحضارة الغربية الحضارة الغربية المادية الحديثة وحضارة ذئاب، وحضارة ثعالب، وحضارة أفاعٍ، وحضارة وحوش، بل والله إن ابن هذه الحضارة المادية يفعل الآن بالإنسان ما تخجل الوحوش الضارية أن تفعله ببعضها في عالم الغابات. الحضارة المادية هي التي دمرت (هيروشيما) و (ناجازاكي) بالقنابل النووية وسحقتها سحقاً. الحضارة المادية الحديثة هي التي أبادت تماماً شعب الهنود الحمر. الحضارة المادية الحديثة هي التي طحنت البوسنة طحناً، واستخدمت -لأول مرة في تاريخ البشر- الأطفال المساكين الصغار كدروع بشرية واقية، بل واستخدمتهم لحرق معسكرات بكاملها بعد تفخيخ الأطفال الصغار المساكين بالأسلحة المتفجرة وعن طريق التحكم عن بعد بما يسمى بالرموتكنترول يفجرون من أطفال المسلمين في البوسنة بالألغام التي يحملونها ليدمروا المعسكرات المسلمة، لأول مرة في تاريخ الإنسانية يستخدم مثل هذا. الحضارة المادية هي التي تبيد الآن شعب الشيشان بعد البوسنة وكوسوفا، إنها حضارة الذئاب، وحضارة الوحوش، وحضارة الثعالب، وحضارة الأفاعي، وحضارة البربرية، ما قيمة ما توصلوا إليه في الجانب المادي في الوقت الذي يستخدمون فيه هذا الجانب لشقاء الإنسان ولبؤسه وتعاسته؟! ما قيمة هذا الجانب المادي إن لم يسخر للجانب الأخلاقي في الحضارة؟! انظروا إلى الجانب الحضاري في حضارة الغرب حتى لا تنخدعوا بالغرب: قالوا لنا ما الغرب قلت صناعة وسياحة ومظاهر تغرينا لكنه خاوٍ من الإيمان لا يرعى ضعيفاً أو يسر حزينا الغرب مقبرة المبادئ لم يزل يرمي بسهم المغريات الدينا الغرب مقبرة العدالة كلما رفعت يُد أبدى لها السكينا الغرب يحمل خنجراً ورصاصة فعلام يحمل قومنا الزيتونا كفر وإسلام فأنى يلتقي هذا بذلك أيها اللاهونا أنا لا ألوم الغرب في تخطيطه لكن ألوم المسلم المفتونا وألوم أمتنا التي رحلت على برد الخضوع ترافق التنينا وألوم فينا نخوة لم تنتفض إلا لتضربنا على أيدينا يا مجلس الأمن المخيف إلى متى إلى متى تبقى لتجار الحروب رهينا وإلى متى ترضى بسلب حقوقنا منا وتطلبنا ولا تعطينا لعبت بك الدول الكبار فصرت في ميدانهن اللاعب الميمونا شكراً لقد أبرزت وجه حضارة غربية لبس القناع سنينا شكراً لقد نبهت غافل قومنا وجعلت شك الواهمين يقيناً يا مجلس الأمن انتظر إسلامنا سيريك ميزان الهدى ويرينا إن كنت في شك فسل فرعون عن غرق وسل عن خسفه قارونا إنها حضارة ذئاب، وحضارة وحوش تحمل الخنجر والرصاص، لكن انظر إليهم في الجانب العقدي والخلقي، لازالت الحضارة المادية الغربية إلى الآن تعبد عيسى بن مريم من دون الله، لازالت تدافع عن العنصرية اللونية البغيضة، لازالت تدافع عن الشذوذ الجنسي، وتتغنى بتحرير المرأة وهي تمتهن المرأة امتهاناً، تتلهى بالمرأة في سن شبابها وجمالها، وترمي بالمرأة في إحدى دور العجائز والمسنين إذا ما كبر سنها في الوقت الذي يتغنى فيه هؤلاء الكذابون بتحرير المرأة وبأن الإسلام قد ظلم المرأة.

الحرب على الثوابت [3]

الحرب على الثوابت [3] هناك حرب دائرة على ثوابت الدين الإسلامي وأصوله، يدير هذه الحرب أناس من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، وهذه الحرب ليست وليدة اليوم، بل لقد بدأت منذ بزوغ فجر الإسلام، فكم أوذي النبي عليه الصلاة والسلام في مكة والطائف! ثم في المدينة من المنافقين واليهود، بل وبعد موته، وإلى الآن يطعن فيه من أعمى الله بصيرته، ولكن أهل العلم لهم بالمرصاد، فقد قاموا بتوفيق الله بنسف شبههم وفضح أكاذيبهم.

محاربة المنافقين العصريين للدين تحت شعار حرية الفكر والرأي

محاربة المنافقين العصريين للدين تحت شعار حرية الفكر والرأي إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين. فاللهم! اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة الفضلاء الأعزاء! وطبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم الكريم الحليم جل وعلا الذي جمعني مع حضراتكم في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار مقامته إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! (الحرب على الثوابت) سلسلة منهجية جديدة أفند فيها شبهات حقيرة في حرب خطيرة أعلنت على ثوابت وأصول وأركان الإسلام، ومنذ أن بزغ فجره واستفاض نوره، وما زالت هذه الحرب وستستمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فالصراع بين الحق والباطل لا ينتهي. وسر الخطر في هذه المرحلة أن الذي يعلن الحرب على هذه الثوابت ليس المستشرقون والملحدون فحسب كما كان الحال قديماً، ولكن الذي يشعل نيرانها ويتولى كبرها رجال ونساء من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، وإن مؤتمراً المرأة في مصر بلد الأزهر في الأيام الماضية لمن أعظم الأدلة العملية على ما أقول. والذي يؤلم القلب أن هذه الفئة التي تعلن الحرب على الثوابت تسمى في بلاد المسلمين بالنخبة من رجال الفكر والفن والأدب، يهدمون الدين باسم الدين، ويعلنون الحرب على الإسلام باسم الإسلام، وقد أحيطوا في الوقت ذاته بهالة من الدعاية الكاذبة تغطي انحرافهم وتستر جهلهم وتنفخ فيهم ليكونوا شيئاً مذكوراً، وهم في الحقيقة كالطبل الأجوف يسمع من بعيد، وباطنه من الخيرات خال. يعلنون الحرب تحت شعارات خداعة براقة، كحرية الفكر والرأي، وكفتح آفاق المعرفة، وكالخروج من الانهزامية والظلامية والانغلاقية والرجعية، إلى آخر هذه الدعاوى الهلامية والشعارات البراقة. وأنا أقول: ما علاقة حرية الفكر والرأي بهدم ثوابت وأصول الإسلام؟ هل التطاول على ذات الله من حرية الفكر والرأي؟ وهل التشكيك في القرآن الكريم من حرية الفكر والرأي؟ وهل التشكيك في السنة وإنكار قدسيتها من حرية الفكر والرأي؟ وهل الغمز واللمز في الملائكة الكرام البررة من حرية الفكر والرأي؟ وهل التطاول على مقام النبي صلى الله عليه وسلم من حرية الفكر والرأي؟ وهل الغمز واللمز في الصحابة من حرية الفكر والرأي؟ وهل المناداة بمساواة الرجل مع المرأة في الميراث، والمناداة بإلغاء العدة، والمناداة بإلغاء قوامة الرجل على المرأة من حرية الفكر والرأي؟ قال الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} [الأحزاب:57]، وقال الله جل وعلا: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66]. ويقول جل وعلا: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح:13] أي: مالكم لا توحدون الله حق توحيده، ولا تعبدون الله حق عبادته، ولا تقدرون الله حق قدره. هذه مقدمة ثابتة أقدم بها لهذه السلسلة، ونحن اليوم على موعد مع اللقاء الثالث من لقاءات هذه السلسلة، وكنت قد تحدثت في اللقاءين الماضيين عن الحرب على الصحابة والحرب على السنة، وحديثنا اليوم بإذن الله تعالى عن: الحرب على صاحب السنة صلى الله عليه وسلم. وكعادتي حتى لا ينسحب بساط الوقت سريعاً من تحت أقدامنا فسوف أركز الحديث مع حضراتكم في هذا الموضوع الخطير في العناصر المحددة التالية: أولاً: حرب كاسرة. ثانياً: هذه طبيعة الطريق. ثالثاً: انتصار الحق سنة جارية. فأعيروني القلوب والأسماع، والله أسأل أن يقر أعيننا وإياكم بنصرة الإسلام وعز الموحدين؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.

الجبهات الحربية التي واجهها النبي في حياته

الجبهات الحربية التي واجهها النبي في حياته أحبتي في الله! لقد نشأ النبي صلى الله عليه وسلم في بيئة شركية تصنع الحجارة بيدها وتعبدها من دون الله جل وعلا، فاعتزل النبي صلى الله عليه وسلم هذه البيئة وانطلق بعيداً على قمة جبل النور إلى غار حراء، يقضي الليل في التعبد والتبتل والتضرع، ويقضي النهار في التأمل والتفكر والتدبر، وفي ليلة كريمة من ليالي شهر رمضان المبارك يتنزل الوحي على قلب النبي صلى الله عليه وسلم كتنزل حبات الندى على الزهرة الظمأى والأرض العطشى، يتنزل جبريل بكلام الملك الجليل، بقول الله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1 - 5]. ويرجع النبي بهذه الكلمات يرجف فؤاده وتضطرب جوارحه، ويقول لـ خديجة رضي الله عنها: (زملوني زملوني، والله لقد خشيت على نفسي يا خديجة)، فترد عليه رمز الوفاء وسكن سيد الأنبياء لتقول له: كلا والله لا يخزيك الله أبداً. وتبدأ المرحلة الأولى من مراحل الدعوة إلى الله تعالى، فيقوم النبي يدعو إلى الله سراً، فالأمر جد خطير، فللأصنام جيوش من الغضب، وهي مستعدة لنحر من يعتدي عليها أو يصيبها بأذى. فهؤلاء قوم يذبح بعضهم بعضاً من أجل ناقة، فما ظنك بما سيفعلونه من أجل آلهة يذبحون لها آلاف النياق!

حرب المنافقين للنبي صلى الله عليه وسلم

حرب المنافقين للنبي صلى الله عليه وسلم حين ترك النبي صلى الله عليه وسلم مكة وهاجر إلى المدينة هل توقف مسلسل الحرب على النبي صلى الله عليه وسلم؟ لا، بل لقد فتحت جبهات جديدة أخرى من جبهات الحرب على النبي صلى الله عليه وسلم، ولم تترك قريش رسول الله، بل خرجت بطراً ورئاءً بحدها وحديدها لتحاد الله ورسوله، خرجت للقضاء على النبي شخصياً في بدر وفي أحد وفي الأحزاب، ولكن الله نجى نبيه، وفتحت في المدينة جبهة جديدة حقيرة من جبهات الحرب، ألا وهي جبهة أهل النفاق، أعلن المنافقون الحرب على رسول الله، ولكنها حرب من نوع قذر، من جنس ما يعلن الآن على الإسلام ورموز الإسلام. اتهم المنافقون رسول الله في شرفه، وأنا لا أسوق مثل هذا التاريخ للاستمتاع السالب ولا للثقافة الذهنية الباردة؛ فإن كثيراً من المسلمين يتعامل الآن مع السيرة تعاملاً ذهنياً باهتاً وتعاملاً ثقافياً بارداً، ولسان حال الكثيرين: كان يا مكان على عهد النبي عليه الصلاة والسلام. وكأنه يستمع إلى قصة أبي زيد الهلالي، أنا لا أسرد هذا التاريخ وهذه الحلقات المؤلمة من مسلسل الحرب الطويل للاستمتاع السالب، ولا لمجرد الثقافة الذهنية الباردة، كلا اتهم المنافقون رسول الله في شرفه، وفي عرضه! هل اتهمت في عرضك أيها السالك لطريق النبي؟ هل اتهمت في شرفك لتتخلى عن مبادئك عند أول منعطف من المنعطفات أو محنة من المحن أو ابتلاء من الابتلاءات؟ اتهم النبي في عرضه وفي شهامة بيته، وهو الطاهر الذي فاضت طهارته على جميع العالمين، اتهم في صيانة حرمته وهو القائم على صيانة كل الحرمات في أمته، وفيمن؟! في عائشة التي أحبها من كل قلبه، فلما رأى رأس النفاق الخبيث عبد الله بن أبي عائشة مع صفوان بن المعطل قال الخبيث قولة خبيثة في غير رواية الصحيحين، قال: من هذه؟ قالوا: عائشة. قال: ومن هذا؟ قالوا: صفوان. فقال الخبيث الوقح: امرأة نبيكم تبيت مع رجل حتى الصباح! والله ما نجت منه وما نجا منها، وتستشري الإشاعة الخبيثة وتنتشر كانتشار النار في الهشيم. ويظل النبي شهراً كاملاً يحطم الألم قلبه، ويفتت الحزن كبده، إيذاء إلى هذا الحد! حتى نزل قول الله تعالى ببراءة الطاهرة الصديقة بنت الصديق: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور:11] إلى آخر آيات سورة النور. والمنافقون هم الذين قالوا: {لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون:7]. والمنافقون هم الذين قالوا: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون:8]. والمنافقون هم الذين قالوا في حق النبي: سمن كلبك يأكلك. والمنافقون هم الذين قالوا: غبر علينا ابن أبي كبشة. حرب قذرة خبيثة، جبهة أخرى من جبهات الحرب على النبي صلى الله عليه وسلم.

حرب اليهود للنبي عليه الصلاة والسلام

حرب اليهود للنبي عليه الصلاة والسلام ثم تفتح جبهة ثالثة من جبهات الحرب العاتية على النبي صلى الله عليه وسلم، وما زالت هذه الجبهات موجودة، وستستمر مفتوحة استمرار الصراع بين الحق والباطل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، إنها جبهة اليهود، فمن اللحظة الأولى التي هاجر فيها النبي إلى المدينة أعلن اليهود الحرب، واشتعل الغل والحقد في قلوب اليهود، وهم الذين كانوا يقولون للأوس والخزرج: إننا ننتظر نبياً يخرج في آخر الزمان وسنؤمن به. لكن الله عز وجل قد قال في حق اليهود المجرمين الخبثاء: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:146]، فراحوا يعلنون الحرب على النبي من اللحظة الأولى، فشككوا في دين النبي صلى الله عليه وسلم، وأقاموا الدنيا ولم يقعدوها لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى بيت الله الحرام، وراحوا يوجهون أسئلة للنبي بنية الإحراج والتعجيز، بل وراحوا يخططون لقتل النبي بالحجر من فوق سطح منزل من منازلهم، وتارة بوضع السم له في الشاة، حرب لم تتوقف لحظة! بل ظلت الحرب حتى حقق الله وعده لنبيه بإظهار الإسلام على الدين كله، فعاد النبي إلى مكة فاتحاً معززاً مكرماً منتصراً، ثم نزل عليه بعد ذلك قول الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3].

حرب أهل الطائف للنبي عليه الصلاة والسلام

حرب أهل الطائف للنبي عليه الصلاة والسلام لما رأى النبي أن أرض مكة أرض صلبة لا تتلقى بذرة التوحيد والإيمان تركها وانطلق يبحث عن أرض جديدة، يبحث عن أمل، يبحث عن يد حانية تحمل راية التوحيد، يبحث عن قلوب صافية تحمل نور العقيدة، فانطلق إلى الطائف -وهو لا يجد راحلة- يمشي على قدميه المتعبتين الداميتين مسيرة تسعين كيلو متراً لا يركب راحلة ولا دابة حتى وصل إلى الطائف، ثم عرض دعوته على أهل الطائف وهم سادة ثقيف، ولكنهم ردوا النبي رداً منكراً، بل ولم يكتف سادة ثقيف بهذا الرد المنكر، وإنما سلطوا عليه السفهاء والعبيد فرموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجارة، حتى اضطروه إلى بستان لـ شيبة وعتبة ابني ربيعة. لك أن تتصور في هذه اللحظات حال الحبيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، جوع وعطش، صاحب دعوة مطارد، بل ودعوة مشردة، وأصحاب مطاردون في الحبشة، وآخرون معذبون في مكة، هذه طبيعة الطريق أيها الشباب! حال تتمزق لها القلوب الحية، فارتفعت هذه الدعوات وهذه الكلمات الحارة الرقراقة التي تجسد حجم الفجيعة وشدة الألم وحرارة المأساة، قال رسول الله: (اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين! أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أبالي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن ينزل بي غضبك أو يحل عليَّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بالله). هذا دعاء رقراق جميل، وإن كان شيخنا الألباني -من باب الأمانة العلمية- قد ضعف إسناده، إلا أن الإمام الهيثمي في مجمع الزوائد قال: وفيه ابن إسحاق وهو مدلس ثقة. بل قد وقفت على شاهد له من رواية محمد بن كعب القرظي، وهو تابعي ثقة. أيها الأحبة! هذه كلمات تجسد الأمل، وتبين الفجيعة، فرسول الله صلى الله عليه وسلم ما أتى لأهل الطائف إلا وهو يحمل في قلبه أملاً، ويتمنى أن يجد من أهل الطائف من يرفع راية التوحيد، ويتمنى أن يجد قلوباً صافية تلتقط نور (لا إله إلا الله)، ولكنهم فعلوا بالنبي صلى الله عليه وسلم أسوأ وأقبح مما فعله به أهل مكة، ويرجع النبي وهو مهموم، فما استفاق من الهم والحزن إلا بعد مسافة طويلة من الطائف، كما في الصحيحين من حديث عائشة. وتذكروا -يا شباب! - هذا الحديث العجيب الذي رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة قالت: يا رسول الله! هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد؟ فقال الحبيب: (لقد لقيت من قومك ما لقيت يا عائشة! وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كلال -وهو من أشراف أهل الطائف- فلما لم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب)، لم يستفق النبي من الهم الذي يمزق كبده والألم الذي يحطم فؤاده، فالدعوة مشردة، وصاحب الدعوة مطارد، وأصحابه في الحبشة، ومنهم من يعذب في مكة، وفي نفس العام ماتت خديجة، وفي نفس العام مات أبو طالب الذي كان يشكل حائط صد منيع طالما تحطمت عليه سيوف ورماح أهل الشرك، ألم ومأساة. يقول: (فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، وإذا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام) أشفقت الحجارة لحال رسول الله سيد الرجال، بل واستعدت الجبال لتنتقم من المشركين ولتمتثل لأمر رب العالمين، تصور وعش بقلبك وكيانك هذا المشهد، يقول: (فرفعت رأسي وإذا بسحابة قد أظلتني ورأيت فيها جبريل عليه السلام، فنادى عليَّ جبريل وقال: السلام عليك يا رسول الله لقد سمع الله قول قومك لك وما ردوا به عليك، وإن الله تعالى قد أرسل إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم. يقول: فناداني ملك الجبال وسلم عليَّ وقال: يا محمد! لو أمرتني أن أطبق عليهم الأخشبين لفعلت)، والأخشبان: جبلان عظيمان بمكة يقال للأول: أبو قبيس ويقال للثاني: الأحمر. فماذا قال له نبي الرحمة وينبوع الحنان؟ ماذا قال الرحمة المهداة -بأبي هو وأمي-؟ وما زالت دماؤه تنزف، ولكنه ما غضب لنفسه قط، وما انتقم لنفسه قط، ولو خرج النبي إلى الطائف ليحصِّل كسباً مادياً ونفعاً شخصياً لأمر ملك الجبال ليحطم الرءوس الصلبة والجماجم العليلة، بل ولسالت دماء كالبحور والأنهار من الطائف ليراها أهل مكة بمكة، ولكن ماذا قال المصطفى لملك الجبال؟ قال: (لا، إني أرجو الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئاً)، بأبي هو وأمي! أغر عليه للنبوة خاتم من الله من نور يلوح ويشهد وضم الإله اسم النبي إلى اسمه إذا قال في الخمس المؤذن أشهد وشق له من اسمه ليجله فذو العرش محمود وهذا محمد ألم يقل ربنا لنبينا: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]؟! ألم يقل ربنا لنبينا: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]؟! ألم يقل ربنا في حق نبينا: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]؟! (إني أرجو الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله عز وجل ولا يشرك به شيئاً)، هذه كلمات النبي صلى الله عليه وسلم، هذه كلمات صاحب الدعوة، هذه كلمات صاحب القلب الكبير، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم. وعاد النبي إلى مكة مرة أخرى، وهنالك اشتد الإيذاء، واشتدت حلقات الحرب، بل لقد انعقد البرلمان الشركي في مكة ليتخذ أخطر قرار في التاريخ البشري كله، ليتخذ قراراً بالإجماع لقتل النبي صلى الله عليه وسلم، لقطع تيار نور الدعوة عن الوجود نهائياً، ولكن الله سلم، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21]، ونجى الله نبيه صلى الله عليه وسلم، وهاجر النبي من مكة إلى المدينة.

حرب قريش للنبي عليه الصلاة والسلام

حرب قريش للنبي عليه الصلاة والسلام نزل الوحي الكريم ليأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإعلان الدعوة والجهر بها، فنزل قول الله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر:94]، ونزل قوله تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214]، ومن هنا بدأت الحرب، فقد استجاب النبي لأمر رب العالمين، فصعد على جبل الصفا -والحديث في الصحيحين من حديث أبي هريرة - وظل ينادي بطون قريش حتى اجتمعوا إليه ووقفوا بين يديه حتى إن الرجل إذا لم يستطع أن يخرج بنفسه أرسل رسولاً ليقف على الخبر. فخرجت قريش وعلى رأسها أبو لهب، والنبي على جبل الصفا يقص عليهم القصة بأسلوب نبوي بليغ، فيقول عليه الصلاة والسلام: (أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك كذباً قط -وهذه شهادة أولية- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد)، عند ذلك قال أبو لهب: تباً لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟! فنزل قول الله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} [المسد:1 - 5]. أيها المسلمون! من تلك اللحظة أبرقت مكة وأرعدت، وأرغت مكة وأزبدت، ودقت مكة طبول الحرب وأوعدت، وصبت جام غضبها على ولدها الأمين البار الذي حكمت له -بالإجماع- بالصدق والأمانة قبل أن يبعثه ربه جل جلاله، وراحت ترمي النبي صلى الله عليه وسلم بشتى التهم والشتائم، وتعلن الحرب الضروس السافرة على النبي الصادق صلى الله عليه وسلم، فاتهموه بالكذب، واتهموه بالسحر، واتهموه بالجنون، واتهموه بالشعر، قال الله تعالى حكاية عنهم: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر:6]، وقال الله حكاية عنهم: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [ص:4]، بل ازداد الأمر سوءاً حتى تطاولت امرأة عليه، وأرجو أن تتخيل امرأة تطاولت على رسول الله، فما ظنك بما يفعله الرجال؟! تطاولت امرأة على النبي صلى الله عليه وسلم، فداست على أنوثتها، وراحت لتسابق رجال المشركين شراسة ووحشية وإيذاء لسيد البشرية، إنها حمالة الحطب امرأة أبي لهب، التي حملت حجراً بيديها وانطلقت إلى النبي صلى الله عليه وسلم لترميه بالحجر وهو جالس إلى جوار صاحبه الصديق في ظل الكعبة، فأخذ الله بصرها عن رسول الله فلم تر إلا أبا بكر رضي الله عنه، فقالت امرأة أبي لهب: أين صاحبك يا أبا بكر؟! فلقد بلغني أنه يهجوني، والله لو رأيت محمداً لضربت وجهه بهذا الحجر. ثم أنشأت تقول: مذمماً عصينا -تقصد محمداً صلى الله عليه وسلم- وأمره أبينا، ودينه قلينا. ؟ والحديث رواه البيهقي وهو حديث حسن بشواهده. وفي صحيح البخاري من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: بينما أبو جهل يجلس مع أصحابه عند البيت ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي، إذ قال أبو جهل: أيكم يجيء بسلا جزور بني فلان ليلقيه على ظهر محمد إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم عقبة بن أبي معيط فجاء بسلا الجزور، وانتظر حتى سجد النبي صلى الله عليه وسلم فألقاه على ظهر النبي بين كتفيه وهو ساجد، يقول ابن مسعود: وأنا أنظر وما أملك أن أفعل لرسول الله شيئاً. أرجو أن تتصوروا -أيها الشباب- مراحل الابتلاء، ومراحل الحرب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: وظل النبي ساجداً حتى جاءت فاطمة الزهراء، فأزالت النجاسة من على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم، ورفع النبي رأسه وهو يقول: (اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش). وفي صحيح البخاري أن هذا الفاجر الخبيث عقبة بن أبي معيط قام على النبي يوماً وهو يصلي، فخنق النبي خنقاً شديداً حتى كادت أنفاس النبي صلى الله عليه وسلم أن تخرج، وجاء الصديق رضي الله عنه وأرضاه يدفع عقبة عن رسول الله ويقول: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} [غافر:28]. إيذاء وابتلاء، وحرب هوجاء ضروس، والله ما جاء يرجو مالاً ولا جاهاً ولا منصباً ولا وجاهة، بل جاء لينتشلهم من ظلم الشرك والوثنية إلى أنوار التوحيد والإيمان برب البرية جل جلاله.

الحرب على النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته

الحرب على النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته هل توقفت الحرب على النبي بعد موته؟ كلا. كلا. ما توقفت حتى بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أخطر وأخبث وأبرز مراحل الحرب على شخص النبي بعد الموت ما وقع في عام خمسمائة وسبعة وخمسين من الهجرة، فهل تتصور أن الخبثاء المجرمين قد خططوا ودبروا ليخرجوا جثمان النبي الطاهر من القبر، ليفجعوا المسلمين فجيعة لا يقومون بعدها أبداً، هل تتصور ذلك؟! لولا أن الله سلم، فقد رأى السلطان الزاهد العابد نور الدين محمود زنكي أن النبي صلى الله عليه وسلم يشير إلى رجلين خبيثين أشقرين يحفران في الأرض ووصلا إلى جدار الحجرة النبوية الشريفة، فخرج مع وزيره الصالح الزاهد جمال الدين الموصلي إلى مدينة الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم، وجلس في الروضة بعدما صلى لله وسلم على رسول الله. فقال الوزير: إن السلطان قد أتى إلى مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يريد أن يلتقي بالأشراف والأغنياء والفقراء ليوزع عليهم من مال الله ما يسر الله عز وجل، وجاء الأغنياء، وجاء الفقراء، والسلطان يتفرس في الوجوه لعله يرى الوجهين اللذين أشار إليهما النبي صلى الله عليه وسلم له، فلم ير أحداً. فتعجب الرجل من هذه الرؤيا العجيبة التي تكررت مراراً، فقال السلطان: هل حضر إليَّ كل أهل المدينة؟ قالوا: نعم. إلا رجلين يجاوران الحجرة الشريفة، وهما من الأغنياء ومن الزهاد، ينفقان الأموال بسخاء على فقراء المدينة. قال: عليَّ بهما. فلما دخلا على السلطان صرخ وقال: اللهم صل على محمد، هما والله هما. وانطلق إلى منزلهما إلى جوار الحجرة النبوية، ودخل البيت بنفسه، فلم ير إلا مصحفين شريفين، ورأى أموالاً طائلة، فظل يدور والناس يعجبون من صنيع السلطان ولا يعرفون شيئاً على الإطلاق، فوجد حصيراً في جانب من جوانب البيت فكشفه فوجد سرداباً تحت الأرض، فنزل في هذا السرداب ومشى فيه حتى وصل إلى جدار الحجرة النبوية، فأمر بقتلهما على جدار الحجرة، وهو يبكي لما ناله من هذا الشرف العظيم. وقد ذكرت هذه القصة كل كتب التاريخ التي أرخت لتاريخ المدينة النبوية الطاهرة المشرفة، كتاريخ المدينة المنورة للسمهودي، والمطري، والمراغي، ومحب الدين الطبري وغيرهم، كل كتب التاريخ التي أرخت للمدينة ذكرت هذه الحادثة المشهورة.

الحرب على النبي عليه الصلاة والسلام في العصر الحديث

الحرب على النبي عليه الصلاة والسلام في العصر الحديث لم تتوقف الحرب على النبي عليه الصلاة والسلام عند هذا الحد، والحرب التي أعلنها المستشرقون في العصر الحديث لا تحتاج إلى وقفة؛ لأنها ما هي إلا نتاج عقول حقيرة أنهكها التحلل الأخلاقي، وأعجزها أن تستوعب الحقائق الكبيرة، فيغني تصورها عن إبطالها وإفسادها. لكن أفراخ المستشرقين من العلمانيين في بلاد المسلمين يعلنون الحرب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يثبت فساد عقيدتهم وخبث طويتهم، وإن زعموا أنهم يناقشون الأدلة نقاشاً علمياً بعيداً عن التجمد والانغلاق، فأين النقاش العلمي من قول خبيث من هؤلاء الخبثاء: ولما استتب الأمر لمحمد؟ هكذا بوقاحة وسوء أدب! ما صلى على النبي صلى الله عليه وسلم في الكتاب مرة، كيف وهو يعلن الحرب عليه، وهذا القزم الخبيث الحقير لازال حياً يرزق، بل تنشر مقالاته في الجرائد، بل تنشر قصصه كاملة على صفحات جريدة سوداء تعزف على وتر الجنس والدعارة، قال: وأخذت شوكته تقوى وهو في طريقه لكي يصبح سيد جزيرة العرب كلها: تلا على أصحابه قرآناً ينص على: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة:28]! فهل فهمت المراد -أيها الحبيب- ووقفت على خبث الكلام؟! هذا الخبيث يريد أن يقول: إن محمداً ما قرأ على أصحابه قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ)، إلا لما قويت شوكته وأصبح لا يخاف المشركين، وكأن محمداً يأتي بالقرآن من عند نفسه بالمعنى الذي يريد في الوقت الذي يريد. تدبر الكلمات الخبيثة مرة ثانية، يقول: ولما استتب الأمر لمحمد، وأخذت شوكته تقوى وهو في طريقه لكي يصبح سيد جزيرة العرب كلها، تلا على أصحابه قرآناً ينص على: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة:28]). ويقول هذا الخبيث أيضاً: وهكذا قد استبان أن بتر الصلة -يعني: قطع العلاقة- اليثربية -يقصد يثرب- بين الأنصار وبين اليهود هو شطر من خطة القطيعة التي رسمها محمد ونفذها بإحكام بالغ في سبيل صبغ أصحابه بصبغة الديانة التي شربها. هل وقفت على خبث هذا الخبيث وخطر كلماته؟! هؤلاء لا يعرفون ولاء ولا براءً، لا يعرفون ولاءً لله ورسوله والمؤمنين، ولا براء من الشرك والمشركين، ولذلك هم لا زالوا إلى يومنا هذا يعكفون على هذه الفجوة توسيعاً وتمييعاً وتخليطاً، حتى لا يعرف المسلم من يوالي ومن يعادي، ومن يحب ومن يبغض. يقول هذا الخبيث: وهكذا قد استبان أن بتر الصلة اليثربية بين الأنصار واليهود هو شطر من خطة القطيعة التي رسمها محمد ونفذها بإحكام بالغ في سبيل صبغ أصحابه بصبغة الديانة التي شربها). حرب قذرة تعتدي على شخص النبي وعلى سنة النبي وعلى دين النبي صلى الله عليه وسلم. ولقد شهدت مصر -بلد الأزهر- في الأيام مؤتمراً للمرأة، هذا المؤتمر بكل صفاقة ووقاحة وقلة حياء أعلنت فيه الحرب على الثوابت، فأعلنت فيه المطالبة بإلغاء القوامة، فلا قوامة للرجل على المرأة، والمطالبة بإلغاء العدة، والمطالبة بمساواة المرأة بالرجل في الميراث. ثم تقول خبيثة تنتسب إلى الإسلام: إن الرجال يركعون أمام ركبتي مادلين أولبرايت الجميلتين. وتقول خبيثة أخرى -في كلمات والله أستحي أن أذكرها-: إن الرجال يفعلون كذا -فعلة خبيثة معروفة بين الشباب إلا من رحم ربك- على صور مارلين مونرو. هذا مؤتمر لنساء ينتسبن إلى الإسلام، ويقلن مثل هذا الكلام الخطير الخبيث الذي يستحي الرجل العادي فضلاً عن المؤمن التقي أن يذكره ورب الكعبة، فكيف لو ذكرتها امرأة داست على أنوثتها؟ لا أقول: داست على دينها فهؤلاء قد دسن على الدين منذ زمن، لكن أقول: داست على أنوثتها، وداست على قيم مجتمعها، وداست على أخلاق مجتمعها، يردن لهذا المجتمع ألا تبقى فيه بقية باقية من خلق للإسلام، ومن دين للنبي محمد عليه الصلاة والسلام، إنما يردن أن يذبن ذوباناً كلياً في بوتقة الشرق الملحد والغرب الكافر، وقد حذر الصادق الذي لا ينطق عن الهوى من هذا الذوبان الخبيث الخطير، كما في الصحيحين من حديث أبي سعيد: (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم).

هذه طبيعة الطريق

هذه طبيعة الطريق أيها الأحبة! حرب منذ اللحظات الأولى، وستستمر استمرار الصراع بين الحق والباطل، فهذه هي طبيعة الطريق، وهذا هو عنصرنا الثاني من عناصر الموضوع. أيها الأحبة! أيها الشباب! أيتها الأخوات المنتقبات العفيفات الفاضلات! يا أصحاب أوسمة السنة والشرف! إن طريق الدعوة إلى الله طريق نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم أجمعين، إن طريق الأنبياء ليس ممهداً بالورود والزهور والرياحين، كلا كلا. ولكنه طريق طويل شاق حافل بالعقبات والأشواك، مليء بالفتن والمحن والابتلاءات، يعوي على جانبيه الذئاب من المجرمين والمشركين والمنافقين، ممن لا يريدون لهذا النور أن ينتشر، ولا يريدون لهذا الخير أن يعم الأرض والآفاق، هذه طبيعة الطريق لابد من معرفتها. أنا لا أسوق هذه المرحلة الطولية من مراحل الدعوة لمجرد الرصف التاريخي فحسب، كلا إنما لنعرف هذه المرحلة ولنستوعبها ولنفهمها فهماً شمولياً كاملاً، لينطلق الدعاة والسائرون على طريق الدعوة بعد ذلك من ذاك المنطلق الذي انطلق منه صاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم، وليقيم الدعاة والمسلمون بنيانهم من جديد على الأساس الذي أقام عليه البنيان محمد صلى الله عليه وسلم، ثم ليعرف كل سالك للطريق طبيعة الطريق حتى لا ينحرف عن الطريق عند أول منعطف من المنعطفات، فلا يتخلى عن الطريق عند أول فتنة من الفتن أو عند أول محنة من المحن أو عند أول ابتلاء من الابتلاءات. يتعرض الشاب لابتلاء خطير، فسرعان ما يحلق اللحية، وتتعرض الفتاة لمحنة طفيفة فسرعان ما تتجرد من لباس العفة والشرف فتخلع النقاب، ويتعرض المسلم لمحنة فيتخلى عن الطريق، فإذا ما نودي عليه: يا شيخ فلان! يقول: لست اليوم شيخاً، إن أردت أن تنادي فقل: يا كابتن فلان! لا يريد أن ينادى عليه بهذا اللفظ. يأتي أحدهم من بلد ما ويقال له: ستتعرض في المطار لبعض الأذى، فقد تقف في المطار عشر ساعات. فيقول: لا أطيق ذلك. فيتجرد في التو واللحظة من وسام السنة والشرف ويحلق اللحية! صار الدين رخيصاً جداً عند كثير ممن ينتسبون إلى الدين، من أجل التجارة يتخلى عن دينه، من أجل الدنيا يتخلى عن دينه والتزامه، أصبح الدين رخيصاً، فكثير ممن يردد الآن ألفاظ الدعوة. العقيدة. الدين. الالتزام إن تعرض لمحنة -وهو لا يعرف طبيعة الطريق- يتخلى عن الطريق، ويضع الأمانة بلا أمانة، نموذج متكرر في كل حين وجيل، نموذج يزن العقيدة والدعوة بميزان الربح والخسارة، فإن حقق ربحاً من سيره على طريق الدعوة فهو مع السائرين، وإن تعرض لمحنة تخلى عن الطريق وتركه فخسر الدنيا والآخرة. قال جل في علاه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11]. فلابد على الطريق من المحن، ولابد على الطريق من الابتلاءات، لابد من محنة في الشيشان، ولابد من محنة في كشمير، ولابد من محنة في فلسطين، ولابد من محنة في أفغان، لابد من محنة في كل مكان، لابد من محن فردية للأفراد هنا على الطريق، ليس عذاباً من الله على أصحاب الدعوات، كلا كلا، وإنما لابد من المحن والفتن والابتلاءات على طول طريق الدعوة ليميز الله بهذه الفتن أصحاب الدعوات الحقة من أصحاب الدعاوى الزائفة، فلن يثبت على طريق الدعوة إلا الصادقون، مهما كانت الفتن ومهما كانت الابتلاءات. وسيترك الطريق مع أول محنة المهرجون والكذابون والخادعون والمضللون؛ لأنهم لا ينبغي أن يكونوا أصحاب دعوة ولا يستحقوا أن يكونوا أمناء على منهج، فلابد من طردهم من الصف، حتى لا يثبت على الصف إلا الصادقون المؤهلون لرفع الراية والسير على طريق النبي صلى الله عليه وسلم، {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:1 - 3]. وقال سبحانه: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214]. هذه طبيعة الطريق، ولقد احتاج النبي -وهو صاحب الدعوة- إلى أن ينادي عليه ربه جل جلاله، ويأمره ربه بقوله تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف:35]، ومن ثم يأتي الأمر من الله للمؤمنين الصادقين السائرين على درب النبي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200]. في صحيح البخاري عن خباب بن الأرت أنه أتى إلى النبي بعدما اشتد الإيذاء والعذاب، والرسول جالس عند الكعبة، فيقول خباب: (يا رسول الله! ألا تستنصر الله لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟)، تصور حجم العذاب وشدة المأساة من خلال طلب خباب. وهذا حال كثير من شبابنا الآن: اشتد البلاء، وانتشر الباطل، وضعف الحق، وضاعت العزة، أين الاستخلاف؟ أين التمكين؟ إلى آخر هذه الكلمات التي تنم عن قلوب مريضة وعن يأس وقلق، ولا أريد أن أقول: عن شك في كلام الله ورسوله. قال: ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ فقعد النبي وقد احمر وجهه وظهر الغضب عليه، وقال: (والذي نفسي بيده! لقد كان الرجل من قبلكم يؤتى به، فيوضع المنشار في مفرق رأسه فيشق نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون العظم واللحم ما يصده ذلك عن دين الله، والله ليتمن الله هذا الأمر -أي: هذا الدين- حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)، نعم (ولكنكم تستعجلون) قالها النبي لأصحابه، وأنا أكرر قول النبي لأصحابي وأحبابي وإخواني من المسلمين والمسلمات فأقول: والله إنكم تستعجلون! أيها الشباب! إياكم أن تظنوا أن الله لا يسمع ولا يرى، إياك أن تظن -أيها الشاب- أنك أرحم بالمعذبين المشردين هنا وهنالك من رب العالمين، ليس أحد أغير على الحق وأهله من الله، إذاً فلماذا هذا؟ لأن الأمة لا تستحق النصرة الآن، وصدق ربي إذ يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]، وصدق ربي إذ يقول: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الأنفال:53]. إنَّ الأمة غيرت في جانب العقيدة، وفي جانب العبادة، وفي جانب الشريعة، وفي جانب الأخلاق، وفي جانب المعاملات والسلوك، غيرت الأمة كثيراً، وإن لله في الكون سنناً ربانية لا تحابي أحداً من الخلق مهما ادعى لنفسه من مقومات المحاباة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قائد المعركة في أحد، فلما تخلى بعض الصحابة عن أسباب النصر كان ما نعلم، فالله لا يحابي أحداً من الخلق، فالأمة ليست الآن مهيأة للنصر، بل لا تستحق النصر لسنن الله الربانية في الكون، إلا إذا عادت مرة أخرى لتردد مع السابقين الصادقين الأولين قولتهم الخالدة: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285]. كما أن الله جعل الابتلاء سنة جارية للتمحيص وتمييز الصف، فإن الله قد جعل انتصار الحق في النهاية سنة جارية ثابتة، وهذا هو عنصرنا الثالث والأخير (انتصار الحق سنة جارية)، وأرجئ الحديث عن هذا العنصر إلى ما بعد جلسة الاستراحة، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

انتصار الحق سنة جارية

انتصار الحق سنة جارية الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، وبعد: أيها الأحبة! انتصار الحق سنة جارية، قال تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81]، إن الذي يفصل في الأمر حتماً -كسنة ربانية ثابتة- في نهاية الطريق ليست ضخامة الباطل، وإنما الذي يفصل في الأمر هو قوة الحق، ولاشك ولاريب ولا خلاف ولا نزاع في أننا نحمل الحق الذي من أجله خلق الله السماوات والأرض والجنة والنار، بل ومن أجله أنزل الكتب وأرسل الرسل. معنا الحق، ومعنا رفيق الفطرة في الكون، فطرة الله التي فطر الناس عليها، معنا رفيق فطرة الإنسان المسلم الطيبة، وقبل كل ذلك وبعد كل ذلك معنا الله، ويالها من معية كريمة لو عرف المؤمنون قدرها، قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67]. فالحق مهما انزوى وضعف كأنه مغلوب فإنه ظاهر، والباطل مهما انتفخ وانتفش كأنه غالب فإنه زاهق، {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81]، فالحق حق والباطل باطل، قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173]، وقال الله عز وجل: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:8 - 9]. وقال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36]. ولقد وقفت على وثيقة التنصير الكنسي التي تخرج من الفاتيكان بتوقيع جونبول الثاني، فقرأت فيها كلاماً يقول فيه البابا للمنصرين -أي: للمبشرين بلغتهم-: هيا تحركوا بسرعة لوقف الزحف الإسلامي الهائل في أنحاء أوروبا. وأنا حينما أفكر في الجهود التي تبذل للإسلام أكاد أبكي والله؛ لأنك لو قارنت ما يبذل للإسلام من جهود وما يبذل للنصرانية وغيرها من جهود لرأيت العجب العجاب، ولكن الإسلام دين الفطرة، فإنهم يقبلون عليه لأنه دين الفطرة، فهم الذين يبحثون الآن عنه، بل إن الإسلام ينتشر في روسيا الملحدة التي ظلت تحارب الإسلام سبعين عاماً أو يزيد، وكان أحدهم إذا أراد أن يقرأ كتاب الله نزل السراديب تحت الأرض، وبعد هذه المدة وجدنا الإسلام هنالك لم يمت ولن يموت، وهكذا في فرنسا وفي ألمانيا وفي إنجلترا وفي أمريكا وفي كل بقاع الأرض، نرى كوكبة كريمة من شباب في ريعان الصبا، وفتيات في عمر الورود، وإن المشهد الذي نراه الآن من آلاف مؤلفة، بل من عشرات الآلاف من شبابنا وأخواتنا وأمهاتنا لمن أعظم الأدلة العملية على أن فجر الإسلام قادم، وأن أشد ساعات الليل سواداً هي الساعة التي يليها ضوء الفجر، وصدق القائل: ولئن عرف التاريخ أوساً وخزرجاً فلله أوس قادمون وخزرج وإن كنوز الغيب تخفي طلا ئعاً حرة رغم المكائد تخرج وصدق القائل أيضاً: صبح تنفس بالضياء وأشرقا والصحوة الكبرى تهز البيرقا وشبيبة الإسلام هذا فيلق في ساحة الأمجاد يتبع فيلقا وقوافل الإيمان تتخذ المدى درباً وتصنع للمحيط الزورقا ما أمر هذه الصحوة الكبرى سوى وعد من الله الجليل تحققا هي نخلة طاب الثرى فنما لها جذع قوي في التراب وأعذقا هي في رياض قلوبنا زيتونة في جذعها غصن الكرامة أورقا فجر تدفق من سيحبس نوره أرني يداً سدت علينا المشرقا يا نهر صحوتنا رأيتك صافياً وعلى الضفاف رأيت أزهار التقى قالوا تطرف جيلنا لما سما قدراً وأعطى للطهارة موثقا ورموه بالإرهاب حين أبى الخنا ومضى على درب الكرامة وارتقى أوكان إرهاباً جهاد نبينا أم كان حقاً بالكتاب مصدقا أتطرف إيماننا بالله في عصر تطرف في الهوى وتزندقا إن التطرف أن نذم محمداً والمقتدين به ونمدح عفلقا إن التطرف أن نرى من قومنا من صانع الكفر اللئيم وأطرقا يا جيل صحوتنا إني أعيذك أن أرى في الصف من بعد الإخاء تمزقا لك في كتاب الله فجر صادق فاتبع هداه ودعك ممن فرقا لك في رسولك أسوة فهو الذي بالصدق والخلق الرفيع تخلقا يا جيل صحوتنا ستبقى شامخاً ولسوف تبقى باتباعك أسمقا اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم انصر إخواننا في الشيشان، اللهم احفظهم بحفظك، اللهم احفظهم بحفظك، اللهم اكلأهم بعنايتك ورعايتك، اللهم إنه قد تخلى عنهم الشرق والغرب فلا تتخل عنهم بذنوبهم وذنوبنا، اللهم لا تتخل عنهم بذنوبهم وذنوبنا، اللهم كن لهم ناصراً يوم قل الناصر، وكن لهم معيناً يوم قل المعين، اللهم كن لهم ناصر يوم قل الناصر وكن لهم معيناً يوم قل المعين، اللهم زلزل الأرض من تحت أقدام الروس الملحدين، اللهم زلزل الأرض من تحت أقدام الروس الملحدين، اللهم زلزل الأرض من تحت أقدام الروس الملحدين، يا رب! شتت شملهم، يا رب! مزق جمعهم يا رب! شتت شملهم، يا رب! مزق جمعهم، اللهم أرنا فيهم يوماً كيوم عاد وثمود، اللهم يا من نصرت محمداً! يا من نصرت محمداً! يا من نصرت محمداً! اللهم انصر الشيشان واهزم الروس الملحدين، بعظمتك وقدرتك يا رب العالمين! اللهم ارحم ضعفنا، ارحم ضعفنا، ارحم ضعفنا، واقبل عذرنا، واقبل عذرنا، واقبل عذرنا، وارحم ضعفنا واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، واستر عيبنا، وفرج كربنا، واكشف غمنا، ووأزل كربنا، وفك أسرنا، وفك أسرنا، وفك أسرنا، وتولَّ أمرنا، وتولَّ أمرنا، واختم بالصالحات أعمالنا، وارفع مقتك وغضبك عنا، وارفع مقتك وغضبك عنا، فلا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا. يا غياث المستغيثين! يا غياث المستغيثين! يا غياث المستغيثين! يا غياث المستغيثين! أغثنا يا رب العالمين، أغثنا يا رب العالمين! أغثنا يا رب العالمين! أغثنا يا رب العالمين! اللهم انصر الإسلام والمسلمين، وأعز التوحيد والموحدين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم أذل الشرك والمشركين، وأعز التوحيد والموحدين والإسلام والمسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. يا ودود! يا ودود! يا ذا العرش المجيد! يا فعال لما يريد! يا من ملأ نوره أركان عرشه! يا غياث المستغيثين! ويا مجيب المضطرين! ويا كاشف الهم عن المهمومين! فرج كرب أمة سيد النبيين، واكشف هم كربة أمة سيد المرسلين بعظمتك وقدرتك يا رب العالمين! اللهم لا تدع لأحد منا في هذا الجمع الكريم المبارك ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا ميتاً لنا إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا طائعاً إلا زدته وثبته، ولا حاجة هي لك رضاً، ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا رب العالمين. يا رب! اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا شقياً ولا محروماً، اللهم اهدنا بنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى، اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى، اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى. اللهم استرنا ولا تفضحنا، اللهم استرنا ولا تفضحنا، وأكرمنا ولا تهنا، وكن لنا ولا تكن علينا، اللهم اجعل مصر واحة للأمن والأمان وجميع بلاد المسلمين، يا رب ارفع عن مصر الغلاء والوباء والبلاء والفتن ما ظهر منها وما بطن، برحمتك يا أرحم الراحمين. هذا وما كان من توفيق فمن الله، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.

من السبع الموبقات - الشرك بالله

من السبع الموبقات - الشرك بالله من أجل تحقيق التوحيد لله خلق الله الجن والإنس، ومن أجله أنزل الكتب وأرسل الرسل مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة، فالتوحيد هو الأساس الذي تبنى عليه الأعمال، وبدونه لا يقبل أي عمل، ولهذا لم يأمر الله تعالى بشيء كأمره بالتوحيد، ولم ينه عن شيء كنهيه عن الشرك، فهو أم الكبائر وأعظم الظلم، لا يقبل الله من المشرك صرفاً ولا عدلاً، ولا يستحق المغفرة ولا الرحمة، بل يستحق الخلود في النار وبئس القرار!

أعظم الموبقات وأكبر الكبائر الشرك بالله عز وجل

أعظم الموبقات وأكبر الكبائر الشرك بالله عز وجل إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة، وزكى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور، وأسأل الله جل وعلا أن يتقبل مني وإياكم صالح الأعمال، وأن يجمعني وإياكم في الدنيا دائماً وأبداً على طاعته، وفي الآخرة مع سيد الدعاة وإمام النبيين وسيد المرسلين في جنته ومستقر رحمته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! قدر الله جل وعلا أن نختم حديثنا عن أئمة الهدى ومصابيح الدجى بالحديث عن الأئمة الأربعة المعروفين، وسأكتفي بهذا القدر في الحديث عن هذه السلسلة الكريمة، سائلاً الحق تبارك وتعالى أن ينفع بها، وأن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:18]. لنبدأ من اليوم -إن شاء الله جل وعلا- سلسلة منهجية جديدة أخرى بعنوان: اجتنبوا السبع الموبقات، وهذه السلسلة شرح لحديث صحيح رواه الإمام البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله وما هن؟ فقال صلى الله عليه وسلم: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات)، هذه هي السبع الموبقات التي سنقف معها إن لم يكن في سبعة لقاءات، ففي تسعة أو في عشرة لقاءات إن قدر الله جل وعلا لنا البقاء واللقاء. (اجتنبوا السبع الموبقات) أي: المهلكات، وسميت بالمهلكات؛ لأنها سبب لإهلاك صاحبها ومرتكبها عياذاً بالله، قال الحافظ ابن حجر: والموبقة هنا هي الكبيرة. وبدأ النبي صلى الله عليه وسلم الحديث عن أكبر الكبائر ألا وهو الشرك بالله، والحديث عن الشرك أيها الأحبة حديث طويل بطول رحلته على هذه الأرض من لدن نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام إلى يومنا هذا، ولذا حتى لا ينسحب بساط الوقت من تحت أقدامنا فسوف أركز الحديث مع حضراتكم في عدة عناصر: أولاً: خطورة الشرك. ثانياً: رحلة الشرك إلى الأرض. ثالثاً: أقسام الشرك. رابعاً: فضل تحقيق التوحيد. فأعيروني القلوب والأسماع أيها الأخيار، فإن لقاءنا اليوم من الأهمية بمكان. أولاً: خطورة الشرك: أحبتي في الله! إن الشرك أظلم الظلم، وأقبح الجهل، وأكبر الكبائر، ومن ثم لم تدع الرسل جميعاً إلى شيء قبل التوحيد، ولم تنه الرسل جميعاً عن شيء قبل التنديد، ولذا لم يتوعد الله جل وعلا على ذنب مثلما توعد على الشرك من الوعيد الشديد، فقال ربنا جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:116]، وقال الله عز وجل: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة:72]. أيها الحبيب! ستعجب إذا علمت أن الله جل وعلا قد خاطب صفوة خلقه وهم الرسل بقوله جل وعلا: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:88]، بل وسيزداد عجبك إذا علمت أن الله جل وعلا قد خاطب إمام الموحدين وقدوة المحققين وسيد المرسلين محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:65 - 66]، هذا خطاب من الله لإمام الموحدين، وقدوة المحققين محمد صلى الله عليه وسلم، {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65] أي: من إخوانك من النبيين والمرسلين. ومن ثم حذر النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الشرك تحذيراً شديداً فقال كما في صحيح البخاري من حديث عبد الله بن مسعود: (من مات يشرك بالله شيئاً دخل النار)، قال ابن مسعود وقلت أنا: (ومن مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة). وفي صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يا رسول الله ما الموجبتان؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، ومن مات يشرك بالله شيئاً دخل النار). وفي الصحيحين من حديث سعيد بن المسيب عن أبيه رضي الله عنهما قال: (لما حضرت أبا طالب الوفاة وكان عنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم على عمه أبي طالب، فقال: أي عم، قل لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الله يوم القيامة، فالتفت اللعين أبو جهل إلى أبي طالب وقال: يا أبا طالب: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فقال أبو طالب: لا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لأستغفرن لك ما لم أنه عنك، فنزل قول الله جل وعلا: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113]). هذا هو خطر الشرك، لا يقبل الله فيه استغفاراً، ولا يقبل الله فيه شفاعة ولو كانت من سيد الخلق وحبيب الحق المصطفى صلى الله عليه وسلم، {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:116].

رحلة الشرك إلى الأرض من نوح عليه السلام إلى زماننا هذا

رحلة الشرك إلى الأرض من نوح عليه السلام إلى زماننا هذا أيها الأحبة في الله! الآيات والأحاديث في خطورة الشرك كثيرة، ولا يتسع الوقت للوقوف عليها كلها أو حتى على معظمها، والسؤال الذي يقفز الآن إلى أذهانكم جميعاً هو: كيف وصل هذا الشرك إلى الأرض؟ وكيف دنس الشرك فطرة التوحيد التي فطر الله الناس عليها؟ والجواب عند جمهور أهل العلم: أن بداية ظهور الشرك كانت في قوم نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، كما روى ذلك الإمام ابن جرير الطبري شيخ المفسرين بسنده الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلها على شريعة من الحق والهدى، فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين. كان أولاد آدم من ذريته على ملة أبيهم، على التوحيد الخالص، وعلى العبادة الصحيحة لله جل وعلا، وإن كان وقع بعض المعاصي والذنوب كالقتل وغيرها كما تعلمون جميعاً، ولكن العبادة والتوحيد كان خالصاً لله جل وعلا إلى أن جاء قوم نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فجاء الشيطان -لعنه الله- وزين لقوم نوح عبادة الأصنام، أتدرون ما هي أول قصة لهذه الأصنام؟! هذه الأصنام والتماثيل التي عبدها قوم نوح كانت لقوم صالحين، كما قال ابن عباس، والحديث في صحيح البخاري في كتاب التفسير في سورة نوح في: ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، قال: (هذه أسماء قوم صالحين من قوم نوح فذهب الشيطان إليهم وقال: انصبوا لهؤلاء الصالحين تماثيل، وضعوا هذه التماثيل في مجالسكم؛ لتظلوا دائماً تذكرونهم بكل خير، ولتظل سيرتهم حية تنبض بالحياة بينكم، ففعل قوم نوح هذا، ولكنهم في أول الأمر ما عبدوا هذه التماثيل ولا هذه الأصنام، وإنما وضعت هذه التماثيل وكانوا يعظمون أهلها ويقدرون أصحابها؛ لأنهم كانوا قوماً صالحين، فلما نسي العلم وهلك هؤلاء جاء من بعدهم فظنوا أن هذه التماثيل هي آلهة آبائهم فعبدوها من دون ربهم جل وعلا). فلما أراد الله أن ينتشلهم من هذا الشرك، ومن هذه الأوحال والظلمات أرسل الله جل وعلا إليهم نوحاً على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فدعاهم نوح إلى التوحيد، وأمرهم بعبادة الله وحده، وأمرهم أن يتركوا هذه الأصنام وهذه الآلهة المكذوبة، ودعاهم في الليل والنهار، في السر والعلن، ولكنهم عاندوا وأصروا واستكبروا استكباراً، وقالوا على قلب رجل واحد: {لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح:23]. فلما يئس نوح عليه السلام دعا الله جل وعلا: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح:26 - 27]، أي: يضلوا عبادك الموحدين المؤمنين. فاستجاب الله جل وعلا لدعوة نوح. وفي سورة أخرى قال: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر:10 - 12]، أي: ماء السماء مع ماء الأرض، قدرناه ودبرناه وأحكمناه، {عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} [القمر:12 - 14]، إنها قدرة الله جل وعلا، فأهلك الله قوم نوح بالطوفان. ثم انتقل الشرك من بعد قوم نوح إلى قوم عاد، فجاء قوم عاد فعبدوا آلهة أخرى مع الله جل وعلا، منها: هدى وصدى وصمود، فأرسل الله إليهم هوداً على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فدعاهم إلى توحيد الله، وإلى عبادة الله جل وعلا وحده، فكذبوه وعارضوه وعاندوه، فاستجاب الله عز وجل لنبيه فأهلك الله قوم عاد بريح صرصر عاتية. ثم جاء من بعدهم قوم ثمود، فأرسل الله جل وعلا إليهم صالحاً على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فدعاهم إلى توحيد الله وإلى عبادة الله جل وعلا وحده، فكذبوه وحاربوه، فأهلكهم الله جل وعلا بالصيحة. ثم انتقل الشرك بعد ذلك إلى قوم إبراهيم الذين عبدوا الأصنام، وعبدوا الشمس، وعبدوا القمر، وعبدوا الكواكب والنجوم، فأرسل الله إليهم خليله إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وامتن الله على إبراهيم فجعل النبوة والكتاب في ذريته إلى يوم القيامة، فجميع الأنبياء من بعد إبراهيم من نسل إسحاق، ولم يبعث الله جل وعلا من نسل إسماعيل إلا نبينا وحبيبنا المصطفى، وجعله الله جل وعلا أفضل الأنبياء وسيد المرسلين. ثم انتقل الشرك بعد ذلك إلى بني إسرائيل، فعبد أولهم العجل الذي حرقه موسى وهارون عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام، وعبد آخرهم عزيراً والمسيح تعالى الله عما يقول الكافرون علواً كبيراً. ثم انتقل الشرك بعد ذلك إلى أرض الجزيرة العربية على يد عمرو بن لحي الخزاعي قبحه الله، كما أخبر بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم، كما ورد في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني رأيت عمرو بن لحي الخزاعي يجر قصبه في النار)، و (قصبه) بضم القاف وسكون الصاد هي: الأمعاء، (رأيت عمرو بن لحي الخزاعي يجر قصبه في النار، كان أول من سيب السوائيب)، وفي لفظ أحمد: (وغير دين إبراهيم). هذا الرجل هو أول من جاء بالأصنام إلى أرض الجزيرة العربية، وبدأت الأصنام من بعده تكثر وتنتشر حتى ملأت بيت الله الحرام، وكثرت الأصنام حول الكعبة ذاتها، وعبد الناس الحجارة من دون الله جل وعلا، حتى ثبت في الحلية لـ أبي نعيم، وفي سير أعلام النبلاء للذهبي بسند صحيح عن أبي رجاء العطاردي قال: كنا نعبد الحجر في الجاهلية فإذا رأينا حجراً أحسن منه ألقينا الأول وأخذنا الثاني فعبدناه من دون الله جل وعلا، فإذا لم نجد حجراً أتينا بكومة من التراب وجئنا بالغنم فحلبناها عليه، وطفنا بهذه الكومة نعبدها من دون الله عز وجل. فلما أراد الله أن ينتشلهم من هذا الشرك إلى أنوار التوحيد والإيمان، بعث الله فيهم إمام الموحدين، وقدوة المحققين محمداً صلى الله عليه وسلم، فجاء النبي عليه الصلاة والسلام لينقذهم من هذا الجحيم الذي أشعلوه بأيديهم، وعشقوا الاحتراق بناره، فجاء النبي يدعوهم إلى لا إله إلا الله، ويعلمهم بأن هذه الحجارة لا تضر ولا تنفع ولا تسمع ولا تبصر ولا تغني عن نفسها شيئاً، فمنهم من عاند وأعرض وكفر، وقالت فئة منهم: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} [ص:5 - 7]. ووضعت هذه الفئة الكافرة السدود والحواجز والأشواك والصخور والحجارة أمام النبي صلى الله عليه وسلم والموحدين معه، ولكن هذا كله لم يزد الفئة المؤمنة الموحدة التي ذاقت حلاوة الإيمان وطعم التوحيد إلا إيماناً وإصراراً وثباتاً على الحق وإخلاصاً لهذا التوحيد الذي ذاقوا حلاوته، حتى جاء نصر الله جل وعلا، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وظلت الأمة ترفل في ثوب التوحيد التي كساها إياه إمام الموحدين محمد صلى الله عليه وسلم؛ حتى بدأت الفتن تطل برأسها الظلوم، وبوجهها الكالح الغشوم، وابتعدت الأمة رويداً رويداً عن حقيقة التوحيد، وبدأ الشرك يظهر في كثير من بلدان الأمة المؤمنة الموحدة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وهاهي صور الشرك ومظاهر الشرك قد أنتنت الأرض والبقاع ولا حول ولا قوة إلا بالله. ولابد أن نعلم -أحبابي- أن الشرك لم يعد يتمثل في هذه الصورة الساذجة التي كانت تتمثل في صورة الصنم الذي يصنعه المشرك الأول بيديه، ويسجد له من دون الله جل وعلا، كلا! بل لقد تعقد الشرك وكثر، وتعددت صوره ومظاهره في مجال الاعتقاد، وفي مجال النسك، وفي مجال التشريع، ولا يتسع الوقت لهذا التفصيل، ومظانه كتب التوحيد لعلماء السلف. بل يكفي أن نعلم جميعاً أنه إلى يومنا هذا وإلى ساعتي هذه، يوجد في هذا العالم المتحرر المتحضر المتنور في الهند وحدها أكثر من مائتي مليون بقرة تعبد من دون الله. بل ولو مشت البقرة في شارع من الشوارع العامة؛ لتوقف وراءها سيل من السيارات، لا تجرؤ سيارة مهما كان قائدها أن تخطو خطوة واحدة إلا إذا تفضلت البقرة بالانصراف عن الطريق العام!! وناهيكم إذا ما دخلت البقرة محلاً من المحلات العامة وتبولت -أعزكم الله- لسعد صاحب المحل سعادة غامرة وقال: لقد حلت علي اليوم بركات الإله!! بل وستعجبون إذا علمتم أن في الهند ذاتها معابد ضخمة تقدم إليها النذور والقرابين، ولكن هل علمتم ما هي الآلهة التي تعبد في هذه المعابد الفخمة الضخمة؟! إنها الفئران!! يا للعار على هذا العقل البشري إذا انفك وتحدى نور الوحي الإلهي. بل وأقول بملء فمي: يا للعار ويا للشنار على أهل التوحيد وعلى أمة التوحيد، ما الذي قدمناه؟ وما الذي فعلناه؟ وما الذي بذلناه؟ بل أقول بمنتهى الحسرة والمرارة: ما الذي قدمناه للمسلمين الذين غاب عن ظنهم ووعيهم وعقلهم مفهوم التوحيد الشامل، وحقيقة التوحيد الخالص؟ ومن باب أولى: ما الذي قدمناه لغير المسلمين من الكفار والمشركين الذين ينتظرون منا أن نعلمهم وأن نسمعهم كلمة التوحيد، وأن نقيم عليهم الحجة الرسالية في الأرض التي قال الله عنها: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]؟ أيها الأحبة! إن هذا يلقي بأعظم المسئوليات على عواتقنا وعلى كواهلنا نحن الموحدين، ولتعلموا جميعاً يا شباب الصحوة بأن التوقف لإصدار الأحكام على الن

أقسام الشرك

أقسام الشرك الشرك ينقسم إلى قسمين، ألا وهما: شرك أكبر. وشرك أصغر.

الشرك الأصغر: الرياء

الشرك الأصغر: الرياء الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الأحبة! ويبقى الحديث عن القسم الثاني من أقسام الشرك، وقد حدد النبي صلى الله عليه وسلم هذا القسم في حديث صحيح رواه الإمام أحمد في مسنده، والإمام الطبراني في معجمه الكبير، وصحح الحديث شيخنا الألباني في صحيح الجامع من حديث عمران بن حصين وغيره، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء، يقول الله يوم القيامة إذا جازى خلقه أو عباده: اذهبوا إلى من كنتم تراءون في الدنيا هل تجدون عندهم جزاءً). فيا من لا تؤدي العبادة لله جل وعلا وإنما لابتغاء المحمدة والثناء عند الخلق، عند المهازيل من البشر؛ اتق الله! واعلم بأنه لا يوجد مخلوق على ظهر هذه الأرض يستطيع أن ينفعك أو يضرك إلا بأمر الله جل وعلا، فوجه عبادتك وتوحيدك لله عز وجل؛ لأن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً صواباً، والخالص هو ما ابتغي به وجه الله، والصواب هو ما كان موافقاً لشرع رسول الله صلى الله عليه وسلم، {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]. والرياء لغة: مشتق من الرؤية، وشرعاً: هو إرادة العباد بطاعة رب العباد، بأن تبتغي بعملك الثناء عند الناس والمحمدة والشكر ولا تبتغي بعملك وجه الله جل وعلا، اعلم حينئذٍ بأن عملك حابط ومردود على رأسك؛ لأن الله أغنى الأغنياء عن الشرك، لا يقبل ذرة شرك في عمل من الأعمال، بل يترك عملك وشركك إلى من وجهت العمل إليه عياذاً بالله. فيا أيها الحبيب الكريم! أخلص العمل لله وأخلص العبادة لله، أذكر نفسي وإياك، وأسأل الله أن يجعلني وإياك من المخلصين الصادقين إنه ولي ذلك ومولاه، ووالله لو لم نسمع في خطورة الرياء إلا حديث أبي هريرة الذي رواه الإمام مسلم وفيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت ليقال شهيد وقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن، فيؤتى به فيعرفه الله نعمه فيعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمت، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، بل تعلمت ليقال عالم، وقرأت ليقال قارئ وقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل آتاه الله من أصناف المال، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت سبيلاً من سبل الخير تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها، قال: كذبت، ولكنك أنفقت ليقال جواد وقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه في النار) هذه هي خطورة الرياء أيها الأحبة!

الشرك الأكبر

الشرك الأكبر أما الشرك الأكبر فهو: اتخاذ الند لله أو مع الله، بأن يتخذ العبد نداً لله أو مع الله جل وعلا، يحبه كما يحب الله، ويخافه كما يخاف الله، وينقاد له كما ينقاد لله جل وعلا، في جانب الاعتقاد تارة، أو في جانب النسك -أي: العبادة- تارة أخرى، أو في جانب التشريع وهو الجانب المر الحنظل مرة ثالثة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. فيا أيها الحبيب! الشرك الأكبر لا يغفره الله إلا بتوبة صادقة، بالإقرار بالوحدانية لله، وبخلع الشرك على عتبة التوحيد من أول لحظة: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]. وهذا الشرك قال الله عنه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:165 - 167]. وهذا الشرك هو شرك التسوية الذي قال الله عنه على لسان المشركين لآلهتهم في النار قالوا: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:97 - 98]، إن هذه التسوية هي بالمحبة والتعظيم والعبادة، وفي التشريع، فلقد قبلوا آراءهم وتشريعاتهم وعظموها أكثر من تعظيمهم لتشريعات ربهم جل وعلا، والله تبارك وتعالى يقول: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:60]، وقال الله عن المؤمنين: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور:51]، شعار أهل الإيمان السمع والطاعة، سمع بلا تردد، وطاعة بلا انحراف. هذا الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله جل وعلا، إما أن يتخذ العبد نداً مع الله، وإما أن يتخذ العبد نداً لله نداً يعبده من دون الله أو نداً يعبده مع الله، كشرك هؤلاء الذين يعبدون آلهة أخرى يظنون أنها تشفع لهم عند الله جل وعلا يوم القيامة. والعجيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قطع وسد هذا الباب وقال كما في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة لما سأله: (يا رسول الله! من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ -أتدرون ماذا قال النبي عليه الصلاة والسلام؟ - قال: أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه)، والشاهد أن النبي قد جعل أعظم أسباب الشفاعة: إخلاص التوحيد وتجريد التوحيد لله جل وعلا، فلا يشفع مخلوق عند الله عز وجل، إلا إذا قبل الله الشفاعة ابتداءً، ورضي الله عن الشافع وعن المشفوع فيه أو المشفوع له، {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]، {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:28]. ولا يقبل الله من الناس إلا التوحيد الخالص والعبادة الصحيحة لله جل وعلا، {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]. ويبقى الحديث عن القسم الثاني من أقسام الشرك إلى ما بعد جلسة الاستراحة، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

فضل التوحيد وتحقيقه

فضل التوحيد وتحقيقه وأختم الحديث عن الشرك بأحاديث خفيفة سريعة عن فضل التوحيد وعن فضل تحقيق التوحيد، ليسعد الموحدون وليسجد الموحدون شكراً لله رب العالمين، وليزداد كل واحد منا حرصاً على التوحيد لله وخوفاً من الوقوع في الشرك، وكيف لا أخاف الشرك ولا تخاف الشرك وقد خاف الشرك خليل الله إبراهيم ودعا ربه جل وعلا بقوله: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم:35]. ففي الصحيحين من حديث عبادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل)، وفي رواية عتبان بن مالك: (فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله عز وجل)، هذا فضل التوحيد أيها الموحدون. وفي الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد والحاكم في المستدرك وصححه على شرط مسلم، وأقره الذهبي، وأطال النفس كثيراً الإمام ابن القيم في الرد على من أعل هذا الحديث في تهذيب السنن، وصحح الحديث أيضاً شيخنا الألباني في صحيح الجامع من حديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله سيخلص رجلاً من أمتي يوم القيامة على رءوس الخلائق، وينشر عليه تسعة وتسعين سجلاً كل سجل مثل مد البصر، ويقول الله عز وجل: أفلك عذر؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول العبد: لا يا رب، فيقول الله جل وعلا: أفلك عذر؟ فيقول: لا يا رب، فيقول الله عز وجل: بلى إن لك عندنا حسنة فتخرج بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فيقول الله عز وجل: احضر وزنك فإنك لا تظلم، فيقول العبد: يا رب وما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقول الله جل وعلا: احضر وزنك فإنه لا ظلم عليك اليوم، يقول: فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة، قال: فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة، فإنه لا يثقل مع اسم الله شيء). ذلكم هو التوحيد لله الذي قال عنه الإمام ابن القيم: إن السر العجيب الذي ثقل بطاقة هذا الرجل وطاشت من أجله السجلات هو التوحيد الخالص، هو التوحيد الخالص الذي لو وضعت منه ذرة على جبال من الذنوب والخطايا لبددتها وأذابتها، فإن للتوحيد نوراً يبدد ضباب الذنوب وغيومها بقدر قوة هذا النور، إن السر هو التوحيد الخالص، هو التوحيد الصادق، هو إخلاص العبودية والعبادة لله جل وعلا: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين} [الأنعام:162]، وليس لأحد، ليس لأي إله من الآلهة المكذوبة المفتراة المدعاة {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163]. قل بحق وصدق: اللهم إني أبرأ من الثقة إلا بك، وأبرأ من الأمل إلا فيك، وأبرأ من التسليم إلا لك، وأبرأ من التفويض إلا إليك، وأبرأ من التوكل إلا عليك، وأبرأ من الصبر إلا على بابك، وأبرأ من الذل إلا في طاعتك، وأبرأ من الرجاء إلا لما في يديك الكريمتين. أخلص توحيدك لله، أخلص عبادتك لله، ليكن ذبحك لله، ونذرك لله، وحلفك بالله، وطوافك ببيت الله فقط لا بغيره ولا بقبر أحد من الخلق على ظهر هذه الأرض، ولو كان بقبر الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29]، لا ببيت هذا ولا بقبر فلان، ولا تذبح إلا له، ولا تنذر إلا له، ولا تحلف إلا به، ولا تسأل إلا الله، ولا تستعن إلا بالله، ولا تطلب الغوث والمدد إلا من الله {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام:17]. يا صاحب الهم إن الهم منفرج أبشر بخير فإن الفارج الله إذا بليت فثق بالله وأرض به إن الذي يكشف البلوى هو الله الله يحدث بعد العسر ميسرة لا تجزعن فإن الصانع الله والله ما لك غير الله من أحد فحسبك الله في كل لك الله أيها الحبيب الكريم! وأختم بهذا الحديث الذي رواه الإمام مسلم والإمام الترمذي وهذا لفظ الترمذي من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى في الحديث القدسي الجليل: يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة). أسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يجنبني وإياكم الشرك، وأن يجعلني وإياكم من المحققين للتوحيد، من المخلصين للعبودية والعبادة لله رب العالمين. وأسأل الله تبارك وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرد الأمة إليه رداً جميلاً، اللهم رد الأمة إليك رداً جميلاً، اللهم رد الأمة إليك رداً جميلاً، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم كن للمسلمين الحفاة وكن للمسلمين العراة وكن للمسلمين الجياع في وقت تخلى فيه الجميع عنهم في البوسنة والهرسك يا أرحم الراحمين، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين وأعل بفضلك كلمة الحق والدين، اللهم استرنا ولا تفضحنا، وأكرمنا ولا تهنا، وكن لنا ولا تكن علينا، اللهم وفق حكام المسلمين لما تحبه وترضاه، الله احفظ حكامنا وثبت علماءنا وفرج كربنا وكربهم برحمتك يا رب العالمين، اللهم فرج كرب العلماء، اللهم فرج كرب الأتقياء، اللهم فرج كرب الأصفياء، اللهم فك سجن المسجونين وأسر المأسورين برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم اقبلنا وتقبل منا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. أحبتي في الله! صلوا وسلموا على نبينا وحبيبنا محمد كما أمرنا الله جل وعلا بذلك في محكم كتابه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه. والحمد لله رب العالمين.

من مقتضيات الحب الصادق

من مقتضيات الحب الصادق المؤمن الصادق يحب الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من كل شيء، حتى من نفسه، والحب الصادق لله ورسوله ليس مجرد ادعاء، إنما هو اتباع وتمسك بكتاب الله عز وجل، وبهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، وتحكيم لشريعته واستجابة لأوامره، وليس الحب بالغلو والإطراء، ولا بالاحتفال والغناء.

حب النبي صلى الله عليه وسلم الحقيقي في اتباعه

حب النبي صلى الله عليه وسلم الحقيقي في اتباعه إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات عمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين. فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبيناً عن أمته ورسولاً عن دعوته ورسالته. وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء! وأيها الإخوة الأحباب الكرام الأعزاء! وطبتم جميعاً، وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم الكريم جل وعلا الذي جمعني وإياكم في هذا الجمع المبارك على طاعته أن يجمعني وإياكم في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! (مقتضيات الحب الصادق) هذا هو عنوان محاضرتنا هذه، فسوف ينتظم حديثنا فيها تحت هذا العنوان في العناصر التالية: أولاً: البراءة من الشرك. ثانياً: تحقيق التوحيد. ثالثاً: تحكيم الشريعة. رابعاً: الولاء والبراء. خامساً: سمع بلا تردد، وطاعة بلا انحراف. وأخيراً: حب يفوق حب النفس والمال والأبناء، بلا غلو أو إطراء. فأعيروني القلوب والأسماع، فإن هذا الموضوع من الأهمية بمكان؛ لأننا نرى الأمة تحتفل بذكرى ميلاد المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وهي أمة لا تستحي إلا من رحم ربك جل وعلا!! إذ إن الأمة الآن تدعي أنها تحتفل برسول الله في الوقت الذي نحَّت فيه شريعته، وأخرت فيه سنته، وذهبت الأمة لتختار لنفسها من المناهج الأرضية والقوانين الوضعية ما تنقض به من الأساس زعمها الباهت أنها تكرم سيد البشرية! فخذ مني أيها الحبيب! المقتضيات التي إن حققتها وامتثلتها فأنت ممن أحب النبي صلى الله عليه وسلم حباً صادقاً، وستحشر مع النبي بالحب الصادق، كما في حديث أنس المخرج في الصحيحين قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله! متى الساعة؟! فقال: وماذا أعددت لها؟ قال: ما أعددت لها كثير عمل إلا أني أحب الله ورسوله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: المرء مع من أحب). يقول أنس: (فما فرحنا بشيء كفرحنا بقول النبي: (المرء مع من أحب) ثم قال: وأنا أحب رسول الله وأبا بكر وعمر، وأرجو الله أن أُحشر معهم، وإن لم أعمل بمثل أعمالهم) أيها الحبيب الكريم! الحب الصادق له مقتضيات الحب الصادق له شروط، وقال الشاعر: من يدعي حُبَ النبي ولم يفد من هديه فسفاهةٌُ وهُراء فالحب أول شروطه وفروضه إن كان صدقاً طاعةُ ووفاءُ وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]، فإن أردت أن يحبك الله جل وعلا وأن يحبك رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبع أثر النبي، واقتفى أثره واتبع هديه، فإن رفع النبي صلى الله عليه وسلم قدمه اليمنى فضع قدمك اليمنى، وإن رفع النبي قدمه اليسرى فضع قدمك اليسرى، وسر على هذه الآثار الكريمة لترى المصطفى في نهاية هذا الطريق ينتظرك على الحوض إن شاء الله جل وعلا. قف مع مقتضيات الحب الصادق لنقف على زعم الأمة الباهت أنها تحتفل بالنبي، وكان من الواجب أن يكون قدر النبي في قلوبنا عظيماً كما عظمه وأجله ربه جل وعلا. فلا ينبغي أن تحتفل الأمة بالنبي في ليلة ساهرة حافلة تحت الطبل والزمر، ومع اختلاطٍ فاحشٍ بين الرجال والنساء والشباب والشواب! ثم تنقضي الليلة قبل الفجر لينفض الجميع وما صلى أحدٌ منهم صلاة الفجر لله جل وعلا إلا من رحم ربك من أفراد قلائل! أسأل الله أن يجعلني وإياكم ممن رحم.

مقتضيات حب النبي صلى الله عليه وسلم

مقتضيات حب النبي صلى الله عليه وسلم

حب النبي صلى الله عليه وسلم ومكانته في قلوب السلف

حب النبي صلى الله عليه وسلم ومكانته في قلوب السلف وأختم بهذه الصورة المشرقة السريعة التي تبين كيف كانت محبة النبي في قلوب الأطهار الأبرار الأخيار؟ تدبر هذا المشهد أيها الحبيب! إنه المغيرة بن شعبة عند أن كان يقف ليظلل على رأس النبي من الشمس في الحديبية -كانوا لا يقبلون أن تلفح وجهه حرارة الشمس، ولا نسمة هواء باردة- فجاء عروة بن مسعود الثقفي رسولاً من قبل قريش ليفاوض النبي في الحديبية، فكان المغيرة واقفاً يظلل ويحمي رسول الله، فمد عروة بن مسعود يده ليداعب بعض الشعرات الطاهرات من لحية الحبيب محمد جرياً على عادة العرب في التودد إلى من يريد هذا المتحدث أن يكلمه، فمجرد ما مد عروة يده ليمسك لحية النبي عليه الصلاة والسلام وإذ بـ المغيرة ابن أخي عروة يضرب يد عمه بمؤخرة السيف ضربة شديدة وهو يقول له: أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا سأقطعها، مع أنه مدها مداعبة لشعرات النبي صلى الله عليه وسلم! وأنا أقول الآن: قد يُسب دين الله ودين رسول الله اليوم، في الوقت الذي ترون فيه على شاشة التلفاز أن لاعبي الكرة يرفعون على الأعناق، وتذلل لهم الصعاب، وتيسر لهم الأسباب، وتفتح لهم الأبواب، وتصاغ لهم الأمجاد، وتهتف وتصفق لهم الجماهير المخدوعة! وبالله عليك تخيل معي مشهد أبي دجانة رضوان الله عليه في غزوة أحد، وهو يترس على النبي، وقد أخذ النبي في صدره بين أحضانه وأعطى ظهره للسيوف والرماح والنبال؛ خشية أن يصل سهم طائش إلى صدر الحبيب سيد الرجال. وتدبر معي مشهد طلحة وهو يقاتل أمام النبي يمنة ويسرة، والرسول يقول لـ طلحة: (فداك أبي وأمي يا طلحة! وطلحة يلتفت إلى النبي ويقول: نحري دون نحرك يا رسول الله!). وتدبر معي هذا المشهد العجيب لشاب من شباب الصحابة كان في أحضان عروسه، إذ لا زالت الليالي الأولى لعرسه الكريم، فيسمع النداء: يا خيل الله اركبي، وسمع: حي على الجهاد، فينسل من بين أحضان عرسه ويتسلل تتسلل القطا، وإن شئت فقل: نزعه من أحضان عرسه حبه لله ولرسول الله، وانطلق مسرعاً لينال شرف الصف الأول خلف رسول الله، ويسقط شهيداً في الميدان وبعد انتهاء المعركة يرفع التقرير الطبي إلى الحبيب صلى الله عليه وسلم، ويقال: يا رسول الله! إنا نرى على حنظلة أثر ماء، فمن أين جاء هذا الماء والحرارة تذيب الحجارة والصخور؟! من أين هذا الماء، وينزل المصطفى بنفسه ليقرر حالة هذه الجثة الموحدة الطيبة الطاهرة ويرى النبي بعينه أثر الماء فيأمرهم أن يسألوا أهله، فتقول: لقد سمع منادي الجهاد يقول: يا خيل الله! اركبي، حي على الجهاد، فلم يمهله الوقت ليرفع عن نفسه الجنابة، فخرج إلى الميدان وهو جنب، فقال المصطفى: (إن الله تعالى قد أنزل ملائكة من السماء بطست من الجنة -بماء من الجنة- فغسلت حنظلة ليلقى الله عز وجل طاهراً)، إنه الحب لله ورسوله صلى الله عليه وسلم! وآخر يقول له أبو سفيان وهو يعذب: أيسرك أن تكون في أهلك بين ولدك ومحمد في موضعك تُضرب عنقه؟! فقال هذا الصحابي الجليل: والله ما أحب أن تصيب رسول الله شوكة تؤذيه وأنا في أهلي معافى، فقال أبو سفيان قولته الخالدة: والله ما رأيت أحداً يحب أحداً كما رأيت أصحاب محمد يحبون محمداً؛ لأنهم جسدوا الحب إلى واقع وعمل. وأنا أرى أعظم احتفاء بالنبي قولة الصديق يوم أن اتهم المشركون رسول الله بالكذب ليلة الإسراء، فرد الصديق بقوله: (إن كان محمد قال ذلك فقد صدق) هذا هو الاحتفاء. وأرى الاحتفاء الحقيقي في قولة فاروق الأمة عمر للنبي: (ألسنا على الحق؟! فقال رسول الله: بلى فقال: أليسوا على الباطل؟! فقال رسول الله: بلى، فقال: فلم نعطي الدنية في ديننا؟) هذا هو الاحتفاء. وأرى الاحتفاء الحقيقي وقع يوم أن ارتقى النبي صلى الله عليه وسلم المنبر وحث الناس على الصدقة، فجاء عثمان فملأ حجر النبي بالذهب والدنانير، ونزل النبي من على المنبر وهو يدعو الله لـ عثمان، ويقول: (ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم) هذا هو الاحتفاء. وأرى الاحتفاء الحقيقي وقع يوم أن نام علي في فراش النبي ليلة الهجرة، وهو يعلم أنه إلى فناء، ولم لا؟ فليغن علي، وليبق حامل لواء الدعوة الحبيب النبي، هذا هو الاحتفاء. فإن أرادت الأمة أن تحتفي بالحبيب المصطفى فلتتبرأ من الشرك، لتحقق التوحيد، لتحكم شريعة النبي صلى الله عليه وسلم، ولتوالِ الله ورسوله والمؤمنين، لتحقق من جديد مبدأ السمع والطاعة، ولتسمع أمر ربها وأمر نبيها بلا تردد ولا انحراف، ثم عليها أن تنقب عن مكانة النبي في قبلها، ورحم الله من قال: من يدعي حب النبي ولم يفد من هديه فسفاهةٌ وهراء فالحب أول شرطه وفروضه إن كان صدقاً طاعةٌ ووفاءُ

أحوال السنة مع القرآن

أحوال السنة مع القرآن وتدبروا معي هذا جيداً أيها المسلمون الأخيار! وخذوا مني هذه الهدية، فهي من أدق وأشمل وأنفس ما يُحصل بعد كلام الله وكلام الحبيب، وهذه الهدية هي للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى إذ يقول: إن السُنَة مع القرآن على ثلاثة أوجه: الوجه الأول: أن تكون السنة مؤكدة للقرِآن من كل وجه، وهذا يكون من باب تضافر الأدلة. الوجه الثاني: أن تكون السنة موضحة لما أجمله القرآن. فقد أمر القرآن بالصلاة؛ فجاءت السنة لتبين لنا كيفية الصلاة وأركانها وشروطها ونواقضها إلى آخره. الوجه الثالث: أن تكون السنة موجبة أو محرمة لما سكت عنه القرآن. فالرسول يحلل ويحرم، فيجب عليك أن تذعن لأمر النبي، وأن تحرم ما حرمه وتحل ما أحله النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

حب النبي صلى الله عليه وسلم بلا غلو أو إطراء

حب النبي صلى الله عليه وسلم بلا غلو أو إطراء المقتضى الأخير: حب يفوق حبك النفس والمال والأبناء بلا غلو أو إطراء. يجب أن يكون حبك للحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم يفوق حبك لنفسك ولوالدك ولولدك، بل والناس أجمعين، فقد روى البخاري ومسلم من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين). وأقول: يجب أن يكون حبك للنبي يفوق حبك لوالدك وولدك والناس أجمعين، وسيقول لي الإخوة جميعاً: نشهد الله أننا نحب النبي أكثر من حبنا لآبائنا وأولادنا وأنفسنا، فأقول لك: قدم البرهان على هذه الدعوى، فلو بكى ولدك في الليل وصرخ هل ستتوانى عن تلبية صرخة ولدك؟ A لا، بل ستسرع وتحتضن طفلك في صدرك، وتجري إلى أقرب طبيب أو إلى أبعد طبيب، وهذه رحمة في قلبك أسأل الله أن يأجرك عليها، لكن لما أمرك المصطفى هل أسرعت لامتثال أمره كما أسرعت لتلبية رغبة ولدك؟! وقد ذكرت سابقاً قصة التلميذ النجيب الذي جاء لأستاذه ليقول له: يا أستاذي! علمني كيف أرى رسول الله في نومي، فقال له أستاذه: أنت مدعو الليلة للعشاء عندي، وأحضر الأستاذ لتلميذه الطعام وأكثر فيه الملح ومنع عنه الماء، فطلب التلميذ ماءً، فقال له الأستاذ: الماء ممنوع، فكل، فأكل التلميذ حتى امتلئت بطنه بالملح، فقال أستاذه: نم، وقبل الفجر استيقظ -إن شاء الله تعالى- لأعلمك كيف ترى المصطفى في رؤياك، فنام التلميذ وهو يتلوى من شدة العطش، فلما استيقظ من نومه، قال له أستاذه: هل رأيت الليلة شيئاً في نومك قبل أن أعلمك؟ قال: نعم، رأيت، قال أستاذه: وماذا رأيت؟ قال التلميذ: رأيت الأمطار تنزل، والأنهار تجري، والبحار تسير، فقال له أستاذه: نعم، صدقت؛ صدقت نيتك فصدقت رؤياك، ولو صدقت محبتك لرأيت رسول الله! فقدم البرهان على دعواك، وطبق هذا الحديث: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين)، بل خذها مني: لا يكمل إيمانك إلا إذا فاق حبك للنبي حبك لنفسك التي بين جنبيك، فقد روى البخاري عن عمر رضي الله عنه أنه قال لرسول الله: والذي نفسي بيده! لأنت أحب إلي من كل شيء يا رسول الله! إلا من نفسي، فقال المصطفى (لا يا، عمر، حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال عمر: والذي نفسي بيده! لأنت أحب إلي من نفسي يا رسول الله! فقال المصطفى: الآن يا عمر!). قال أهل العلم: أي: الآن قد كمل إيمانك يا عمر!. فلابد أن تحب الحبيب أكثر من نفسك التي بين جنبيك، فنقب عن محبة الحبيب في قلبك، وقدم البرهان على هذه الدعوى، وقدم الدليل العملي على دعواك حب النبي. قال الإمام الخطابي: حب الإنسان لنفسه طبع، وحب الإنسان لغيره اختيار بتوسط الأسباب ونقل هذا القول عنه الحافظ ابن حجر في (الفتح) وهذا من أنفس ما يستفاد. يعني: أنا أحبك لأسباب، وأنت تحبني لأسباب، أما حبك لنفسك وحبي لنفسي فهذه جبلة طبيعية. فتدبر هذا الكلام النفيس! والنبي صلى الله عليه وسلم لم يطلب من عمر حب الطبع، بل ما أراد منه إلا حب الاختيار؛ إذ لا سبيل إلى قلب الطباع عما جبلت عليه. فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يلفت نظر عمر إلى أن الله عز وجل قد منَّ عليه فنجاه من النار عند أن أرسل له المصطفى المختار. وهذا فخر، كما قال الشاعر: ومما زادني فخراً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك: يا عبادي! وأن أرسلت أحمد لي نبياً ولكن هناك فرق أيها الحبيب المحب! بين حب يدور على الاتباع وبين غلوٍ يدور على الابتداع؛ فقد قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (لا تطروني) قال الحافظ ابن حجر: الإطراء هو: المدح بالباطل والكذب، يقول الحبيب: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله). بأبي هو وأمي. واسمع إلى هذا الذي يزعم أنه يمدح النبي فيقول للمصطفى: يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم فهل هذا حب للمصطفى؟! والله إن هذا لا يليق به ولا بكرمه ولا بجلال الله، فالحب هو أن تنسب ما لله لله، وأن تنسب ما للرسول للرسول؛ ففرق أيها المحب بين حب يدور على الاتباع وبين غلو يدور على الابتداع.

السمع بلا تردد والطاعة بلا انحراف

السمع بلا تردد والطاعة بلا انحراف المقتضى الخامس: سمع بلا تردد وطاعة بلا انحراف. قال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور:51 - 52]. هذا هو شعار المؤمنين: سمع بلا تردد، وطاعة بلا انحراف؛ لأنهم موصوفون بهذه الآية: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). فاعرض نفسك على الأمر النبوي والنهي النبوي والحد النبوي، وانظر هل امتثلت أمر النبي؟ وهل اجتنبت نهي النبي؟ وهل وقفت عند حدود النبي صلى الله عليه وسلم؟ فإن كنت ممن سمع الأمر فامتثله والنهي فاجتنبه والحد فوقف عنده فاسجد لربك شكراً، وسل الله أن يزيدك حباً على حب لحبيبك المصطفى. وإن كنت ممن سمع الأمر فلم يمتثل، والنهي فلم ينته، والحد فلم يقف، فاعلم أن زعمك أنك تحب النبي زعمٌ باهتٌ بارد لا ساق له ولا قدم. فشعار المؤمنين: السمع والطاعة، وشعار المنافقين: السمع والمعصية. قال جل وعلا: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:60]، هذا هو شعار المنافقين، ومعنى الآية: ألم تر يا محمد! إلى هذا العجب العجاب إلى قوم يزعمون أنهم آمنوا بك وبما أنزل عليك، بل وبما أنزل من قبلك، ومع هذا الزعم الباهت البارد الفارغ يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت، وقد أمرهم الله أن يكفروا به؟! وقال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ} [البقرة:256]، وقال: {أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، فشعار المؤمنين: سمعنا وأطعنا، وشعار المنافقين: سمعنا وعصينا. فتدبر أيها المسلم الحبيب! فوالله ما رُحَمِتْ هذه الأمة إلا ببركة السمع والطاعة. ولما نزل قول الله تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة:284] على الحبيب المصطفى شق ذلك على أصحابه، فانطلقوا حتى جثوا على الرُكب بين يديه، وقالوا: يا رسول الله! كلفنا من الأعمال ما نطيق، الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، ولقد أُنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أتريدون أن تقولوا ما قاله أهل الكتابين من اليهود والنصارى: سمعنا وعصينا، بل قولوا: سمعنا وأطعنا)، فرد الصحابة على لسان وقلب رجل واحد وقالوا: سمعنا وأطعنا؛ غفرانك ربنا وإليك المصير، فنزل قول الله جل وعلا: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ} [البقرة:285] الآية. فيا من تدعي الحب للنبي! لقد أمرك المصطفى بالصلاة في وقتها، فهل أديت الصلاة في أوقاتها؟! وأمرك المصطفى بترك الحرام والربا، فهل تركت الربا؟! وأمرك المصطفى بعدم شرب الخمر، فهل تركت الخمر؟! وأمرك المصطفى بترك الزنا، فهل انصرفت عن الزنا؟! وأمرك ببر الوالدين، فهل امتثلت الأمر؟! وأمرك بالإحسان إلى الجيران، فهل امتثلت الأمر؟ وأمرك بالإحسان إلى الإخوة والأهل والأحباب، فهل امتثلت الأمر؟! وأمرك بإعفاء اللحية، فهل امتثلت الأمر؟! وأمرك بأوامر كثيرة، فهل امتثلتها؟ فاعرض نفسك على أوامر النبي ونواهيه وحدوده، فإن كنت ممن امتثل الأمر واجتنب النهي ووقف عند الحد الذي حده المصطفى فاسجد لله شكراً، وسل الله أن يزيدك حباً على حبك لحبيبك المصطفى. واحذر هذه الدعوى التي يغني بطلانها عن إبطالها، ويغني فسادها عن إفسادها ألا وهي: أنه يجب أن نعود الآن إلى القرآن فقط؛ لأن السنة فيها الضعيف والموضوع، احذر هذا! واعلم يقيناً بأنك إن عصيت رسول الله فقد عصيت الله، وإن أطعت رسول الله فقد أطعت الله، وإن صدقت رسول الله فقد صدقت الله، وإن امتثلت أمر النبي فقد امتثلت أمر الله، قال جل وعلا: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر:7]. وقال جل وعلا: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} [آل عمران:132] وقال جل وعلا: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80] وقال جل وعلا: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65] وقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات:1]. قال ابن عباس: أي: لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة. قال مجاهد: أي: لا تفتاتوا شيئاً على رسول الله حتى يقضي الله على لسان نبيه. قال القرطبي: أي: لا تقدموا قولاً ولا فعلاً على قول وفعل رسول الله. قال الشنقيطي: ويدخل في الآية دخولاً أولياً تشريع ما لم يأذن به الله، فلا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله، ولا حلال إلا ما أحله الله ورسوله، ولا دين إلا ما شرعه الله على لسان رسوله. فمن كذب المصطفى فقد كذب الله، ومن ضيع السنة فقد ضيع القرآن، ومن كفر بالنبي فقد كفر بالرحمن. فإن أردت أن تصل إلى الله فاسلك طريق رسول الله؛ ولا نجاة لك إلا إن سلكت هذا الطريق، فاسلك طريق النبي لتسعد في الدنيا والآخرة. وأحياناً يأتي إليّ أحد الأحبة بأذكار أو بأوراد للطائفة الفلانية أو للجماعة الفلانية أو للشيخ فلان أو للشيخ علان فأقول له: يا أخي الحبيب! هل تحب المصفطى؟! فيقول: والله ما حرصت على هذه الأوراد إلا حباً في المصطفى. فأقول لك: فلا تسلك إلا طريق المصطفى، فاذكر الله كما ذكر الله حبيبك المصطفى، وصل لله كما صلى لله حبيبك المصطفى، فأكمل الهدي هديه، وأحسن الكلام كلامه، فإن أردت السعادة فاسلك طريق محمد بن عبد الله، واقتف الأثر، وسر على الدرب، وإياك! أن تسمع لأحد يخالف قوله قول النبي، بل اعرض كل قول على قول النبي فإن كان قولي موافقاً لقول النبي فاقبله لأنه الحق، وإن خالف قولي قول النبي فاضرب به عرض الحائط، فمهما كان القائل لهذا القول فلا تقل: من القائل، ولكن قل: ما قوله؟! وماذا قال؟! فطاعتك للحبيب المصطفى هي أصلاً طاعة لله، بل لقد حذر النبي عليه الصلاة والسلام من هذا الصنف الخبيث الذي يتغنى بالقرآن وبحب القرآن وبالإعراض عن السنة، فلقد روى أبو داود وصحح إسناد الحديث الألباني في (مشكاة المصابيح) من حديث المقدام بن معد يكرب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه) الكتاب أي: القرآن، ومثله أي: السنة، وهذه من معجزات المصطفى، يقول: (ألا يوشك رجل شبعان متكئ على أريكته، يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، ثم قال الحبيب: ألا إن ما حرم الله كما حرم رسول الله).

وجوب الولاء لله ورسوله والمؤمنين والبراءة من الشرك والمشركين

وجوب الولاء لله ورسوله والمؤمنين والبراءة من الشرك والمشركين المقتضى الرابع: الولاء والبراء فيا من ادعيت الحب لله ولرسوله! نقب عن هذا الأصل في قلبك، وانظر هل واليت الله ورسوله والمؤمنين وعاديت الشرك والمشركين لتكون بحق ممن أحب سيد النبيين، أم أنت بخلاف ذلك؟ قال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51]. وقال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} [البقرة:120]. وقال جل وعلا: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:28]. آيات كثيرة في هذا الباب. هذا قرآن ربنا نستدل به حتى لا نتهم بالتطرف أو الإرهاب هذا هو القرآن لازال يتلى علينا في الليل والنهار: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ)، قرآن الله عز وجل. فلا يكمل توحيدك إلا بالولاء والبراء، ولا يصح اعتقادك إلا بالولاء والبراء، أي: أنه يجب عليك أن توالي الله ورسوله والمؤمنين، وأن تتبرأ من الشرك والمشركين، كما قال الشاعر: أتحب أعداء الحبيب وتدعي حباً له ما ذاك في الإمكان وكذا تعادي جاهداً أحبابه أين المحبة يا أخا الشيطان! أن المحبة أن توافق من تحب على محبته بلا نقصان فإن ادعيت له المحبة مع خلا فك ما يحب فأنت ذو بهتان نعم لو صدقت الله فيما زعمته لعاديت من بالله ويحك يكفرُ وواليت أهل الحق سراً وجهرةً ولما تعاديهم وللكفر تنصرُ فما كل من قد قال ما قلت مسلمٌ ولكن بأشراط هنالك تذكرُ مباينة الكفار في كل موطن بذا جاءنا النص الصحيح المقرر وتصدع بالتوحيد بين ظهورهم وتدعوهُم سراً لذاك وتجهرُ فهذا هو الدين الحنيفي والهدى ومِلَةُ إبراهيمَ لو كنت تشعرُ

تحكيم الشريعة في كل شيء

تحكيم الشريعة في كل شيء المقتضى الثالث: تحكيم الشريعة. أي أمة تدعي الحب للمصطفى وقد نحَت شريعته فهي أمة كاذبة، وأي أمة تحتفل بالمصطفى في كل ربيع من كل عام وقد حكمت في الأموال والأعراض والدماء والفروج القوانين الوضعية الفاجرة الجائرة، ونحت كتاب الله وشريعة رسوله فهي أمةٌ خاسرة لا ساق لها ولا قدم. وسترى الأمة تتعرض لمزيد من الضربات من إخوان القردة والخنازير ممن كتب الله عليهم الذلة حتى تفيء الأمة إلى منهج ربها، وإلى شريعة الحبيب نبيها صلى الله عليه وسلم. ووالله إنه لا فلاح لها ولا عز ولا صلاح ولا سعادة في الدنيا والآخرة إلا إذا عادت من جديد إلى الله، وأعلنت توبتها إلى الله، وحققت هذه التوبة على أرض الواقع في إذعان لأمر الله وانقياد لشرع رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال الله جل وعلا على لسان نبيه يوسف: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [يوسف:39 - 40]، فأبت الأمة التي لا تستحي إلا أن تقول: إن الحكم إلا لمجلس الشعب، والله يقول: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) فردت الأمة الجريئة وقالت: إن الحكم إلا للبيت الأبيض! الله يقول: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) فردت الأمة المخدوعة وقالت: إن الحكم إلا للبيت الأحمر! فركبت قارب القوانين الوضعية الجائرة وظنت الأمة المسكينة أنها قد ركبت قوارب النجاة وسط هذه الرياح الهوجاء والأمواج المتلاطمة، فخابت الأمة وخسرت وغرقت الأمة وأغرقت أبناءها. فأين الشريعة؟! يكاد القلب أن ينخلع من هذا، ووالله إن القلب لينزف حين تسمع عالماً يشار إليه بالبنان يظهر أمام شاشة التلفاز ليقول بجرأة وبجاحة: الشريعة الإسلامية في مصر مطبقة بنسبة (99%) وهذا ظلم وكذب؛ وأين الشريعة في الحكم؟! وأين الشريعة في الإعلام؟! أين الشريعة في التعليم؟! وأين الشريعة في الاقتصاد؟! وأين الشريعة على شواطئ البحار العارية؟! وأين شريعة النبي المحكمة؟! قال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50]، وقال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} [النساء:65] قال علماء اللغة: (لا) في الآية نافية، أي: ينفي الله الإيمان عن قوم أعرضوا عن حكم الله وعن حكم رسول الله. في (مدارج السالكين) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: حكمي فيمن قدم حكمه على حكم النبي أن يضرب رأسه بالسيف) فعلق ابن القيم على مقولة عمر وقال: فكيف لو رأى عمر ما حدث في زماننا من تقديم رأي فلان وفلان على حكم رسول الله!! وأنا أقول: فكيف لو رأى ابن القيم ما حدث في زماننا من تحقير شريعة رسول الله وتنقيص قدرها، بل والسخرية منها، بل والاستهزاء بها، بل واتهامها بالجمود والرجعية والتخلف والتأخر وأنها لم تعد قادرة على مواكبة روح القرن العشرين!! فإن أرادت الأمة أن تعلن حب الله وحب رسول الله فلتسأل الأمة نفسها: أين هي من شريعة نبينها المصطفى؟! وأين شريعة المصطفى منها؟! أما أمة تغني للنبي صلى الله عليه وسلم وقد نحت شريعته فهي كاذبة، أمة ترقص وتَطبل وتَزٌمر وتسمع الكلمات الرنانة، وتسمع الخطب المؤثرة والمواعظ الرقيقة من أعلى المستويات إلى أقل المستويات وإذا نظرت إلى واقعها بكيت دماً بدل الدمع!! لقد أصبحت الأمة أمة تذوب في بوتقة الغرب الكافر، وتركت بين يديها أصل العز ونبع الشرف ومعين الكرامة ومصدر الهداية، تركت القرآن والسنة والشريعة المحكمة المطهرة، وذابت في بوتقة الغرب في أحكامه في أخلاقه في معاملاته ويا ليت الأمة! قد نقلت أروع ما وصل إليه الغرب في الجانب العملي والمادي، ولكن الأمة -بكل أسف- تركت أروع ما وصل إليه الغرب في الجانب العلمي ونقلت أعفن وأقذر ما وصل إليه الغرب في الجانب العقدي والأخلاقي، ولا زلت تقرأ وتسمع إلى الآن أن من بين أبناء الأمة المخدوعين من يتغنى بالغرب!! وكأن الغرب الآن أصبح إلهاً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه!! قالوا لنا الغرب قلت صناعة وسياحة ومظاهر تغرينا لكنه خاوٍ من الإيمان لا يرعى ضعيفاً أو يسر حزينا الغرب مقبرة المبادئ لم يزل يرمي بسهم المغريات الدينا الغرب مقبرة العدالة كلما رفعت يد أبدا لها السكينا الغرب يحمل خنجراً ورصاصة فعلام يحمل قومنا الزيتونا؟! الغرب يكفر بالسلام وإنما بسلامه الموهوم يستهوينا كفر وإسلام فأنى يلتقي هذا بذلك أيها اللاهونا؟! أنا لا ألوم الغرب في تخطيطه لكن ألوم المسلم المفتونا وألوم أمتنا التي رحلت على درب الخضوع ترافق التنينا وألوم فينا نخوة لم تنتفض إلا لتضربنا على أيدينا يا مجلس الأمن المخيف إلى متى تبقى لتجار الحروب رهينا وترضى بسلب حقوقنا منا وتطلبنا ولا تعطينا لعبت بك الدول الكبار فصرت في ميدانهن اللاعب الميمونا شكراً لقد أبرزت وجه حضارة غربية لبس القناع سنينا شكراً لقد نبهت غافل قومنا وجعلت شك الواهنين يقينا يا مجلساً في جسم عالمنا غدا مرضاً خفياً يشبه الطاعونا إني أراك على شفير نهاية ستصير تحت ركامها مدفونا إن كنت في شك فسل فرعون عن غرق وسل عن خسفه قارونا اللهم أقر أعيننا بنصرة التوحيد والموحدين برحمتك يا أرحم الراحمين! إن أرادت الأمة أن تعلن الحب الصادق للنبي صلى الله عليه وسلم فلتحكم شريعته، أما أن تتغنى بالكلمات والمحاضرات والعبارات والسهرات الحافلة الماجنة، فهذا حب كاذب، كما قال الشاعر: من يدعي حب النبي ولم يفد من هديه فسفاهة وهراء فالحب أول شرطه وفروضه إن كان صدقاً طاعة ووفاء

البراءة من دعاء القبور والأولياء والاعتقاد فيهم

البراءة من دعاء القبور والأولياء والاعتقاد فيهم {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163]. لقد حدثني الإخوة مراراً وتكراراً عما يحدث عند قبور الصالحين، وأنا أود أن أنبه طلاب العلم إلى أنه لا ينبغي أن ننشغل برجل مقبور في مسجد أهو من الصالحين أم من غير الصالحين؟! لا ينبغي أن يشغلنا هذا؛ إذ إن الرجل بين يدي ربه جل وعلا، وقد أفضى إلى الله، لكن الذي ينبغي أن ننشغل به وأن نكثف الجهود من أجله هو ما يحدث من شرك حول قبر هذا الرجل إن كان من الصالحين أو من الطالحين. واعلموا يا شباب الصحوة! أن إصدار الأحكام على الناس بالتكفير والتفسيق فقط لن يغير الواقع شيئاً، إن حكمك على الناس بالإيمان لن يدخلهم الجنة إن كانوا من أهل النار، وإن حكمك على الناس بالكفر لن يدخلهم النار إن كانوا من أهل الجنة، فليس هذا من شأنك ولا من شأن جميع العبيد، بل هو من شأن العزيز الحميد جل وعلا، فلا تشغلوا أنفسكم أيها الشباب! بإصدار الأحكام على الناس، ولكن اشغلوا أنفسكم بتعليم الناس حقيقة التوحيد ليتغير هذا الواقع المر. فلما ذكرني الإخوة بما يقع، قلت: أود أن أرى بعيني، وأن أسمع بأذني؛ لأصل إلى السند من أعلاه، فغطيت وجهي وذهبت إلى مولد السيد البدوي بنفسي، وأدخلني إخوانكم في طنطا حتى وصلت إلى القبر، ووقفت لأرى بعيني ولأسمع بأذني، فسمعت امرأة مسكينة تقول: أنا زعلانة منك يا سيد! لأني آتي لك بالنذر لمدة خمس سنين وأنت لا تريد أن تعطيني ولداً!! فتدبر هذا! ثم يخرج علينا بعض العلماء ويتهموننا إذا تحدثنا عن هذا الشرك الغليظ بأننا ممن يعادي أولياء الله جل وعلا، وهذا ظلم فإننا ممن يقر أن المعجزة للأنبياء، وأن الكرامات الطيبة للأولياء، ولا ننكر هذا أبداً، لكن ينبغي أن نفرق بين شرك غليظ يُرتكب حول قبور هؤلاء وبين تكريمنا لأولياء الله جل وعلا؛ فإنه لا يقبل نبي ولا ولي هذا الشرك بأي حال، قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62]. ولا أريد أن أطيل مع كل مقتضىً من مقتضيات الحب الصادق للحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ لأعرج على بقية المقتضيات كلها إن شاء الله تعالى. فالمقتضى الأول: هو البراءة من الشرك إن أردت أن تنقب عن حبك للنبي في قلبك فسل نفسك: هل تبرأت من الأنداد والأرباب والآلهة والطواغيت؟! فإن كنت كذلك فقد دخلت في المقتضى الثاني ألا وهو تحقيق التوحيد لله العزيز الحميد.

تحقيق التوحيد بأقسامه الثلاثة

تحقيق التوحيد بأقسامه الثلاثة هذا هو المقتضى الثاني: تحقيق التوحيد. ويجب عليك أن تحقق التوحيد بأقسامه لله جل وعلا: فيجب أن تقر بتوحيد الربوبية، وتوحيد الربوبية بإيجاز معناه: أن تعتقد وأن تقر لله بالخلق والرزق والأمر والتصريف والتدبير والإحياء والإماتة، كما قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عمران:154]، فهل حققت توحيد الربوبية لله؟ وستعجب إذا قلت لك: إن توحيد الربوبية قد أقر به المشرك الأول في أرض الجزيرة العربية. فلو سألت أبا جهل من خالقك؟ لقال: الله. لو سألت المشرك من رازقك؟ لقال: الله. كما قال جل وعلا: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ} [الزخرف:87]. وقال جل وعلا: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:9]. بل لقد انفرد الأخنس بن شريق بـ أبي جهل، فقال الأخنس بن شريق: يا أبا الحكم! أستحلفك بالله إذ لا يوجد معنا أحد الآن يسمعنا، فأسألك بالله أمحمدٌ صادق أم كاذب؟! فقال أبو جهل: ويحك يا أخنس! والله إن محمداً لصادق! فنزل قول الله تعالى: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33]. فهم كانوا يعلمون صدق النبي صلى الله عليه وسلم، بل قال قائلهم: والله! إني لأقر لمحمد بالنبوة أكثر مما أقر لابني بالبنوة؛ لأن الذي شهد بصدق محمد هو الله. وأقول: إن من بين من ينتسبون الآن إلى الإسلام من لم يحقق توحيد الربوبية لله الرحيم الرحمن! فهذا زعيم دولة خرجت من برك الدماء والأشلاء يقول: بأنه ممن يعتقد أن للكون أقطاباً وأوتاداً وأبدالاً تدبر نظام الكون وتسير شئونه!! والله جل وعلا يقول: {قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عمران:154]. قال الشاعر: يا صاحب الهمَ إن الهم منفرج أبشر بخيرٍ فإن الفارج الله إذا بليت فثق بالله وارض به إن الذي يكشف البلوى هو الله الله يحدث بعد العسر ميسرةً لا تجزعن فإن الخالق الله والله مالك غير الله من أحد فحسبك الله في كلٍ لك الله (قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ)، فعليك أن تقر بتوحيد الإلوهية -توحيد العبادة- يعني: أن تصرف العبادة بركنيها: كمال الحب، وكمال الذل، وبشرطيها: الإخلاص والاتباع، إلى من يستحق العبادة وهو الله وحده لا شريك له. فسل نفسك أيها الحبيب! هل استغثت بالله وحده؟ وهل استعنت بالله وحده؟ وهل سألت الله وحده؟ وهل ذبحت لله وحده؟ وهل نذرت لله وحده؟ وهل حلفت بالله وحده؟ وهل طفت ببيت الله في مكة فقط؟! وهل قال لسانك وصدق قلبك وترجم عملك هذه الأقوال وهذه الكلمات؟ اللهم إني أبرأ من الثقة إلا بك، وأبرأ من الأمل إلا فيك، وأبرأ من التسليم إلا لك، وأبرأ من التفويض إلا إليك، وأبرأ من التوكل إلا عليك، وأبرأ من الصبر إلا على بابك، وأبرأ من الذل إلا في طاعتك، وأبرأ من الرجاء إلا لما في يديك الكريمتين، وأبرأ من الرهبة إلا لجلالك العظيم. فهل امتثلت قول الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي} أي: وذبحي، {وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163]؟! وهل آمنت بأسماء الجلال وصفات الكمال من غير تحريف لألفاظها أو لمعانيها؟ وهل أثبت ما أثبته الله لذاته وما أثبته له أعرف الناس به عبده ورسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم؟ فلا يمكن على الإطلاق أن تدعي الحب للحبيب المصطفى إلا إذا حققت هذا التوحيد لله جل وعلا؛ فنسبت ما لله لله، وما لرسول الله لرسول الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

البراءة من الشرك في المحبة

البراءة من الشرك في المحبة أول مقتضى من مقتضيات حبك الصادق للنبي صلى الله عليه وآله وسلم هو: البراءة من الشرك: محال أن تدعي الحب للنبي صلى الله عليه وسلم وقلبك لم ينق ولم يطهر من شوائب الشرك. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: النفي المحض ليس توحيداً، وكذلك الإثبات بدون النفي، فلا يكون التوحيد إلا متضمناً للنفي والإثبات معاً. قال علماؤنا: لابد من التخلية قبل التحلية. والتخلية هي: أن تكفر بالأنداد والأرباب والآلهة والطواغيت. فنقب في قلبك وانظر هل أخليته من هذا؟ وهل تبرأت من الأرباب والأنداد والآلهة والطواغيت وأخلصت القلب لله وحده لا شريك له؟ وهل كفرت بالطواغيت؟ والطواغيت: جمع طاغوت، والطاغوت كما قال عمر: هو الشيطان. وقال مالك: هو كل ما عبد من دون الله. وقال ابن القيم: الطاغوت هو كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع. فأنت مأمور يا من أحببت الله وأحببت رسول الله صلى الله عليه وسلم! أن تكفر بالطواغيت على ظهر الأرض، كما قال جل وعلا: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:256]، ولاحظ أن الله قدم الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله؛ إذ لابد من التخلية قبل التحلية. وعليك أن تكفر بالأنداد، كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165]، اللهم ارزقنا حبك، وحب نبيك، وحب من أحبك يا رب العالمين! والمؤمن الصادق هو الذي امتلأ قلبه بحب الله وحب رسوله، ولكن كثيراً من الناس قد امتلأت قلوبهم بمحبة الأنداد من دون الله أو مع الله! ألم تسمع أن امرأة تخلصت من حياتها وانتحرت بسبب موت العندليب الأسود؟!! ألم تسمع عن رجلٍ جلس في استادٍ للكرة فصرخ صرخةً فقد فيها روحه؛ لأن فريقه قد مُنِي بهدفٍ من الفريق الآخر؟ ألم تسمع قول القائل: هبوني ديناً يجعل العرب أمة وسيروا بجثماني على دين برهم سلامٌ على كفرٍ يُوَحَد بيننا وأهلاً وسهلاً بعده بجهنم ألم تسمع قول القائل: آمنت بالبعث رباً لا شريك له وبالعروبة دينًا ما له ثاني ألم تسمع قول القائل: إن مصر ستظل فرعونية، ولو وقف الإسلام حجر عثرة في طريق فرعونيتنا لنحينا الإسلام جانباً؛ لتظل مصر فرعونية؟!! ألم تسمع قول القائل: لقد عزمنا على أن نأخذ ما عند الغربيين حتى الالتهابات التي في رئاتهم والنجاسات التي في أمعائهم؟!! ألم يقل ربك: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165]. قال رجل للحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ما شاء الله وشئت يا رسول الله! قال صلى الله عليه وسلم: أجعلتني لله نداً؟ بل ما شاء الله وحده). فهل كفرت بالأنداد؟! وهل كفرت بالأرباب غير الله جل وعلا؟ والأرباب جمع رب، كما قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31].

البراءة من التحاكم إلى غير ما أنزل الله

البراءة من التحاكم إلى غير ما أنزل الله لاحظ أننا لا نخرج عن القرآن ولا عن السنة، ولا نقول إلا قال الله، وقال رسوله صلى الله عليه وسلم- فقوله تعالى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ) أي: اتخذوا العلماء والعبَّاد أرباباً من دون الله، كما روي أن عدي بن حاتم دخل على الحبيب المصطفى وهو يقرأ هذه الآية، فقال عدي: (يا رسول الله! ما عبدناهم من دون الله) أي: لم نتخذ الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله؛ ففسر له النبي صلى الله عليه وسلم الآية، وبين له المعنى، فقال الحبيب (ألم يحلوا لهم ما حرم الله، ويحرمون عليهم ما أحل الله فأطاعوهم؟ فقال: بلى، قال المصطفى: فتلك عبادتهم إياهم). وقد اتخذت الأمة العلماء والعبَّاد أرباباً من دون الله؛ فإن قلت: كيف ذلك؟! فنقول: إن الأمة قد تركت لهؤلاء التشريع، فشرَّع هؤلاء للأمة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم؛ إذ عرض على أعضاء مجلس الشعب لأبناء هذه الأمة تشريع الله جل وعلا في قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2] الآيات، فأبى الأعضاء الموقرون وقالوا: لا، لا يتفق هذا التشريع الآن مع مدنية القرن العشرين! إذاً: ما تريدون؟! قالوا: إذا تم الزنا بالتراضي بين الرجل والمرأة يخفف الحكم إلى أقل درجة، فإذا جاء ولي المرأة الزانية وتنازل عن القضية لا يسجن الزاني ولا تسجن الزانية حتى ساعة واحدة، بل تسقط القضية!! وتقرأ الأمة في سورة البقرة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] فتسمع الأمة لهذا الأمر الرباني، وفي السورة ذاتها يقول ربنا جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة:178] فتقول طائفة من الأمة: لا، لن نقبل هذا الأمر أبداً! وتقرأ الأمة في سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:6] فتسمع الأمة لهذا الأمر وتتوضأ قبل الصلاة، وفي السورة ذاتها يقول الله جل وعلا: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] وقوله: (فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47] وقوله: (فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45] فتقول طائفة من الأمة: لا، لا نريد هذا الأمر؟! فنقول: كلا! كلا! قال ربنا جل وعلا: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:85]. فهل كفرت بالأرباب من دون الله جل وعلا؟! وهل كفرت بالآلهة المكذوبة المدعاة؟! قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62] فهل صرفت العبادة لله وحده؟ وهل امتثلت أمر الله؟

قصيدة وعظية

قصيدة وعظية وأكتفي بهذا القدر، وهنا أذكر قصيدة طلبها والد كريم، ولا أرى لها مناسبة، لكن أذكرها تلبية لرغبة الأحبة وعلى رأسهم والدنا الكريم هذا، وأسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم من الصادقين، وهذه القصيدة هي لـ علي زين العابدين، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يفتح لها القلوب، وأن يرزقنا العمل. فأذكر جميع أحبابي بأن المحبة الصادقة للنبي عليه الصلاة والسلام تتمثل في العمل، تتمثل في أن تحافظ على الصلاة، وتقرأ القرآن، وتبعد عن الحرام، وتحب الإخوة، وبالجملة أن تستقيم على منهج الله؛ لأن كل واحد وإن عمر مائة سنة أو ألف سنة فإنه في النهاية راحل وذاهب إلى الله عز وجل، فستلقى الله حتماً، فتفكر أين فرعون وهامان؟ وأين النمرود؟ وأين الظالمون؟ وأين التابعون لهم في الغي؟ كما قال الشاعر: أين من دوخوا الدنيا بسطوتهم؟ وذكرهم في الورى ظلم وطغيان هل أبقى الموت ذا عز لعزته أو هل نجا منه بالسلطان إنسان لا والذي خلق الأكوان من عدم الكل يفنى فلا إنس ولا جان فالدنيا مهما طالت -أخي الحبيب! فهي قصيرة، ومهما عظمت فهي حقيرة؛ لأن الليل مهما طال لابد من طلوع الفجر، ولأن العمر مهما طال لابد من دخول القبر. فالدنيا يا أخي الكريم! دار ممر، والآخرة هي دار المقر، فخذوا من ممركم لمقركم، ولا تفضحوا أستاركم عند من يعلم أسراركم. قال زين العابدين علي بن الحسين رحمه الله: سفري بعيد وزادي لن يبلغني وقوتي ضعفت والموت يطلبني ولي بقايا ذنوب لست أعلمها الله يعلمها في السر والعلن ما أحلم الله عني حين أمهلني وقد تماديت في ذنبي ويسترني أنا الذي أغلق الأبواب مجتهداً على المعاصي وعين الله تنظرني كأنني بين جلّ الأهل منطرحاً على الفراش وأيديهم تقلبني وقد أتوا بطبيب كي يعالجني ولم أر الطب هذا اليوم ينفعني واشتد نزعي وصار الموت يجذبها من كل عرق بلا رفق ولا هون كأنني وحولي من ينوح ومن يبكي علي وينعاني ويندبني وقام من كان حبُّ الناس في عجل نحو المغسِل يأتيني يغسلني فجاءني رجل منهم فجردني من الثياب وأعراني وأفردني وأودعوني على الألواح منطرحاً وصار فوقي خرير الما ينظفني وأسكب الماء من فوقي وغسلني غسلاً ثلاثاً ونادى القوم بالكفن وحملوني على الأكتاف أربعة من الرجال وخلفي من يشيعني وأخرجوني من الدنيا فوا أسفاه على رحيل بلا زاد يبلغني وقدموني إلى المحراب وانصرفوا خلف الإمام فصلى ثم ودعني صلوا علي صلاة لا ركوع لها ولا سجود لعل الله يرحمني وأنزلوني إلى قبري على مهل وقدموا واحداً منهم يلحدني فكشََف الثوب عن وجهي لينظرني فأسكب الدمع من عينيه أغرقني وقال هلوا عليه الترب واغتنموا حسن الثواب من الرحمن ذي المنن يا نفس كفي عن العصيان واغتنمي فعلاً جميلاً لعل الله يرحمني اللهم اغفر ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم لا تدع لأحد منا ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصياًَ إلا هديته، ولا طائعاً إلا ثبته، ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ويسرتها يا رب العالمين! اللهم اجعل جمعنا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا شقياً ولا محروماً برحمتك يا أرحم الراحمين! والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

هذا هو الإسلام يا أمريكا

هذا هو الإسلام يا أمريكا الإسلام هو دين الله عز وجل الذي ارتضاه لأهل سماواته وأرضه، وهو دين جميع الأنبياء عليهم السلام، ولا تصلح حياة البشرية من أولها إلى آخرها إلا بهذا الدين؛ فإنه صالح لكل وقت وجيل، ولهذا لما خلت المجتمعات الغربية -مع تقدمها في الأمور الدنيوية- عن الإسلام كانت مجتمعات منحلة أخلاقياً؛ تسودها الجريمة والأخلاق السيئة. وأعداء الأمة اليوم يتهمون الإسلام بالإرهاب، وينسبون إليه أحداث (11 سبتمبر)، وهو منها بريء، بل أصل الإرهاب هي أمريكا وإسرائيل.

عالمية الإسلام

عالمية الإسلام إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة الأخيار! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله الحليم الكريم جل وعلا الذي جمعنا في هذا المكان الطيب المبارك على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة في جنته ودار مقامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله: (هذا هو الإسلام) هذا هو عنوان لقائنا، وسوف ينتظم حديثي في هذا الموضوع الجليل في العناصر التالية: أولاً: عالمية الإسلام. ثانياً: أخلاق الإسلام. ثالثاً: من يحمل همّ الإسلام. وأخيراً: المستقبل للإسلام. فأعيروني القلوب والأسماع جيداً، والله أسأل أن يقر أعيننا جميعاً بنصرة الإسلام والمسلمين؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه. أولاً: عالمية الإسلام.

براءة الإسلام من الإرهاب

براءة الإسلام من الإرهاب ومن الجهل الفاضح والظلم البين أن يُتهم الإسلام بالإرهاب، وأن يُتهم الإسلام بالتطرف والرجعية والجمود والأصولية والتأخر والوحشية والبربرية، إلى آخر هذه التهم المعلبة التي تكال الآن للإسلام في الليل والنهار! إن وسائل الإعلام الغربية يتحكم فيها الآن في كل بقاع الأرض أنجس أهل الأرض من اليهود، لقد أصبحوا هم الذين يتحكمون في كل وسائل الإعلام، بل ويتحكمون حتى في السياسة الأمريكية، لا في سياستها الإعلامية، بل في سياستها الرسمية والاقتصادية والتعليمية والإعلامية، اقرءوا عمن يحكم الآن أمريكا؛ لتتعرفوا على الحقائق.

أمريكا واليهود أصل الإرهاب وأساسه

أمريكا واليهود أصل الإرهاب وأساسه فأنا أتحدى أمريكا أن تثبت بالأدلة الدامغة أن المسلمين كانوا وراء التفجيرات في (نيويورك) وفي (واشنطن)؛ أتحدى أن تثبت بالدليل الدامغ أن المسلمين كانوا وراء هذه العمليات، بل هو من صنع اليهود، حقيقة يعلمها كثير ممن يتخذون القرار هنالك! فاليهود وراء كل مصيبة على وجه الأرض، أرادوا أمام هذا الزحف الإسلامي الهائل في قلب أمريكا، وفي قلب أوروبا -كما سأبين الآن بالدليل من أقوالهم لا من أقوالنا- أرادوا أن يوقفوا هذا المارد العملاق الذي بدأ يتململ من جديد، وبدأ يزحف إلى قلب أمريكا وقلب أوروبا، وأرادوا أن يضربوه بأقوى يد في الأرض، بشرطي العالم، بالسلاح الأمريكي. وأود أن أنبه هؤلاء الذين يعلنون الحرب الآن على الإرهاب بأنهم طلائع الإرهاب في العالم، ورواد الإرهاب على سطح الأرض. اقرءوا التاريخ لتتعرفوا على الحقائق، فمن الذي أباد ما يزيد على مائة وسبعين ألفاً في لحظات في هروشيما؟ وبعد ثلاثة أيام في (نجزاكي)؟ ويوم أن دخلت أمريكا الحرب ضد ألمانيا عام ألف وتسعمائة أربعة وأربعين في ضربات جوية غاشمة عشوائية على المدنين في ألمانيا، قتلت أمريكا في يوم واحد ما يزيد على خمسمائة وسبعين ألفاً من المدنيين، وجرحت ما يقرب من مليون في قصف عشوائي عن طريق الطائرات!! في هتلاك قتلت أمريكا ما يزيد على أربعة ملايين!! وفي العراق قتلت ما يزيد على مائتين وخمسين ألفاً، من الأطفال الذين لا يملكون حيلة ولا قوة!! وفي كل بقاع الأرض في السودان في أفغانستان قبل ذلك في العراق في ليبيا!! وخرج علينا جورج بوش ليعلن -بنفس الطريقة التي أعلن بها أبوه ذبح العراق- ذبح أفغانستان. فهؤلاء العزل الذين يعيشون تحت خط الفقر ولا يجدون لقمة الخبز يعاقبون ويقتلون من أجل فرد واحد، كما قال القائل: قتل امرئ في غابة جريمة لا تغتفر وقتل شعب آمن مسألة فيها نظر لقد خرج الآن هذا الفرد المطلوب المشتبه فيه الأول، فماذا يريدون؟! وتصور رائدة الحضارة الغربية تطلب مشتبهاً فيه، ولا تقدم الأدلة الدامغة، وتعاقب شعباً كاملاً لا يملك سبيلاً من أجل فرد بدون أدلة!! هذه هي راعية الحضارة في العالم، ثم بعد ذلك تتهم الإسلام بالتطرف والإرهاب! ثم لماذا غضت الطرف عن إرهاب كلاب الأرض من اليهود الذين يذبحون المسلمين في فلسطين، ويقاتلون الشعب الأعزل من المدنيين بأحدث وسائل السلاح الأمريكي؟ لماذا غضت الطرف عن هذا الإرهاب؟ ولماذا غضت الطرف عن إرهاب الصرب ضد المسلمين في البوسنا؟ ولما تدخلت ما تدخلت لم تتدخل من أجل مصلحة المسلمين، بل من باب الخوف على مصالحها في قلب أوروبا، وخوفاً من أن يظهر هذا المارد الجديد في قلب هذه المنطقة، وهي الآن تريد ضرب الإسلام، وتريد السيطرة على منطقة بحر قزوين؛ لأنها المنطقة المؤهلة الآن لأكبر احتياطي نفط في الأرض كلها، بعد تناقص احتياطي النفط في منطقة الخليج. فهي تريد السيطرة باسم الحرب على الإرهاب على منطقة بحر قزوين، والقضاء على الإسلاميين في أفغانستان. لقد خرج الصرب بملحمته الخطيرة التي تسمى بإكليل الجبل، والذي تقول كلمتها: سلك المسلمون طريق الشيطان، دنسوا الأرض ملئوها رجساً، فلنعد للأرض خصوبتها، ولنطهرها من تلك الأوساخ، ولنبصق على القرآن، ولنقطع رأس كل من يؤمن بدين الكلاب ويتبع محمداً، فليذهب غير مأسوف عليه! فلماذا غضت أمريكا الطرف عن هذا الإرهاب؟ لقد اتخذ مجلس الأمن خمسين قراراً ضد إسرائيل لم تلزم أمريكا إسرائيل -طفلتها المدللة- بقرار واحد، في الوقت الذي أصرت فيه عن طريق مجلس الأمن وهيئة الأمم أن تنفذ قراراً واحداً اتخذه مجلس الأمن ضد العراق!! بل وضربت العراق بالصواريخ وتضرب في كل أسبوع تقريباً، فمن هو الإرهاب؟! وأين الإرهاب؟! اتهموا الإسلام بالإرهاب وهم رواد الإرهاب في الأرض؛ لأنهم يملكون إعلاماً خبيثاً يجيد قلب الحقائق. أما الأمة المسلمة فلا تملك إعلاماً يعرض قضيتها بوضوح، بل ويحبس كل صوت أبي صادق حر يبين الحقائق بلغة الأرقام، لا بلغة العاطفة والصراخ، بل بلغة الأرقام، فهم رواد الإرهاب في الأرض.

سبب مشاكل البشرية هو ترك الإسلام ومحاربته

سبب مشاكل البشرية هو ترك الإسلام ومحاربته والله! ما أحرق البشرية لفح الهاجرة القاتل، وما أرهق البشرية طول المشي في التيه والضلال إلا لمحاربتها للإسلام، وإلا لمعاداتها للإسلام، وإلا لانحرافها عن دين الله جل وعلا الذي أنزله الله للبشرية؛ لتسعد به في الدنيا والآخرة على السواء. فإن العالم كله اليوم محروم من نعمة الأمن والأمان، على الرغم من كثرة الوسائل الأمنية المذهلة، وعلى الرغم من التخصص العلمي المذهل المبني على العلوم النفسية والاجتماعية؛ لمحاربة العنف والجريمة في كل مكان، بل وإن العالم محروم من نعمة الأمن والأمان على الرغم من كثرة الأسلحة النووية والبيولوجية والسرية، بل وعلى الرغم من كثرة أحلافه العسكرية، وعلى الرغم من كثرة هيئاته ومنظماته، فبترك الإسلام حرم العالم كله من نعمة الأمن والأمان. بل إن ملايين البشر ينتظرون الموت الآن في كل لحظة؛ لأن الوسائل الأمنية التي اخترعتها البشرية النكدة البعيدة عن منهج الله تحولت إلى وسائل لإبادة الجنس البشري بين غمضة عين وانتباهتها، فتحولت وسائل الأمن إلى فزع ورعب!! إن ملايين البشر ينتظرون الموت في كل لحظة، فقد ضاقت الدنيا في وجوههم على الرغم من اتساع الأرض هنا وهنالك، بل واسودت الدنيا في أعينهم على الرغم من كثرة أضوائها، بل لا يجدون لقمَ الخبز على الرغم من كثرة الأسواق المشتركة العملاقة، وعلى الرغم من كثرة الأموال، بل ولا يشعر العالم كله الآن براحة النفس واستقرار الضمير وانشراح الصدر وهدوء البال، كل هذا نتيجة لانحراف البشرية المنكودة عن منهج الله جل وعلا، عن هذا الدين الذي رضيه الله للبشرية كلها لتسعد به في الدنيا والآخرة، كما قال جل وعلا: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه:123 - 127]. وهذه نتيجة حتمية للبعد عن منهج رب البرية، وللبعد عن منهج سيد البشرية صلى الله عليه وسلم، وهي نتيجة عادلة للإعراض عن منهج الله تبارك وتعالى.

الإسلام دين جميع الأنبياء

الإسلام دين جميع الأنبياء أحبتي في الله! الإسلام هو المنة الكبرى، والنعمة العظمى، وهو الدين الوحيد الذي ارتضاه الله جل وعلا لأهل الأرض، بل لأهل السماء، فما من نبي ولا رسول إلا وبعثه الله جل وعلا بالإسلام بداية من نبي الله نوح كما قال ربنا حكاية عنه في سورة يونس: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:72]. وما بعث الله إبراهيم الخليل إلا بالإسلام، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:130 - 132]. وما بعث الله يعقوب إلا بالإسلام، كما قال تعالى: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:133]. وما بعث الله نبيه يوسف إلا بالإسلام، كما قال الله تعالى حكاية عنه في آخر سورة يوسف: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:101]. وما بعث الله سليمان إلا بالإسلام، فهذا هو كتابه إلى ملكة سبأ، التي قرأته على أتباعها في مملكتها، كما حكى الله عز وجل ذلك بقوله: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل:29 - 31]. وما دخلت في الإسلام إلا يوم أن شرح الله صدرها للحق، فقالت: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل:44]. وما بعث الله نبيه موسى إلا بالإسلام، كما قال الله حكاية عنه: {يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [يونس:84]. بل وما بعث الله نبيه عيسى إلا بالإسلام، كما قال الله تعالى حكاية عنه: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:52]. بل إن دين الجن المؤمنين هو الإسلام، كما قال الله تعالى حكاية عنهم: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا * وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن:14 - 15]. إلى أن بعث الله لبنة تمامهم ومسك ختامهم المصطفى صلى الله عليه وسلم بالإسلام، قال الله تعالى لنبيه: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]. وخاطبه الله جل وعلا بقوله: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]. فالدين الوحيد الذي ارتضاه الله لأهل السماء ولأهل الأرض هو الإسلام، وهو ليس لا للعرب فحسب بل للبشرية كلها، ولذا قال جل وعلا: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19].

أخلاق الإسلام مع غير المسلمين

أخلاق الإسلام مع غير المسلمين أما الإسلام فهو دين الرحمة والتسامح، ودين الوفاء بالعهود حتى للأعداء، وهذا هو عنصرنا الثاني: أخلاق الإسلام: وأنا لن أتكلم عن أخلاق الإسلام بين المسلمين، ولن أتكلم عن أخلاقه العقيدية، ولا عن أخلاقه التعبدية، ولا عن أخلاقه التشريعية، ولا عن أخلاقه السلوكية فيما بين أفراده. بل سأتحدث عن أخلاق الإسلام مع غير المسلمين، ونحن نعلم يقيناً أن اليهود ما ذاقوا طعم الأمن والاستقرار إلا في ظلال الإسلام، وما تعرض يهودي للأذى إلا يوم أن نقض اليهود العهود مع النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، وما عرف الصليبيون والنصارى طعم الأمن والأمان إلا في ظلال الإسلام.

تعظيم عمر بن الخطاب رضي الله عنه للوفاء بالعهود

تعظيم عمر بن الخطاب رضي الله عنه للوفاء بالعهود وهذا جندي- ولا أقول: هذا قائد من قادة المسلمين- يعطي عهداً بالأمان لقرية في بلاد العراق وكانت تحت قيادة أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، وأخبر الجندي قائده أبا عبيدة، فأرسل أبو عبيدة بن الجراح كتاباً على الفور إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ليخبره بما كان، وليتلقى منه الأوامر. فأرسل عمر بن الخطاب رضي الله عنه رسالة إلى أبي عبيدة بن الجراح وقال فيها بعد حمد الله والثناء عليه: إن الله تعالى قد عظّم الوفاء، ولا تكونون أوفياء حتى تفوا، فوفوا لهم بعهدهم، واستعينوا الله عليهم. وأود أن أقف لأستخرج أمرين من هذه الحادثة: الأول: أن عمر بن الخطاب أراد أن يبين كرامة الفرد ولو كان جندياً، وكان هذا امتثالاً عملياً من عمر لقول النبي كما في صحيح البخاري: (المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم على أعلاهم)، فأثبت عمر كرامة الفرد ولو كان جندياً قد أعطى الأمان لقرية أو لأهل بلد، فوجب على المسلمين -بما فيهم قائد الجيش- أن يفوا بعهد هذا الجندي لأهل هذا البلد. الأمر الآخر: لقد أثبت عمر عملياً أن معاني الإسلام العظيمة ليست حبيسة الأوراق، وليست حبيسة الأدراج كما فعلت الثورة الفرنسية، أو كما فعل إعلان الحقوق العالمية للإنسان في أمريكا أو في هيئة الأمم.

عدل عمر رضي الله وأخلاقه مع أهل بيت المقدس

عدل عمر رضي الله وأخلاقه مع أهل بيت المقدس واقرءوا بنود العهدة العمرية التي منحها عمر بن الخطاب لأهل بيت المقدس يوم جاء من المدينة ليستلم مفاتيح بيت المقدس، فأعطاهم عهداً بالأمان على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم، ومن أراد أن يخرج منهم من أرض (إيلياء) فلابد أن يُعطى الأمان حتى يبلغ مأمنه، ومن أراد أن يبقى منهم في الأرض فلا يؤخذ منه شيء من المال حتى يحصل خراجه. فهذا هو الإسلام.

وفاء النبي صلى الله عليه وسلم بالعهود للكفار

وفاء النبي صلى الله عليه وسلم بالعهود للكفار وفي صحيح مسلم قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: ما منعني أن أشهد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأبي حسيل -رضي الله عنهما- إلا أننا قد خرجنا فأخذنا المشركون، فقالوا لنا: أتريدون محمداً؟ قلنا: لا، بل نريد المدينة، قال حذيفة: فأخذ المشركون علينا عهد الله وميثاقه أن ننصرف إلى المدينة، وألا نقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال حذيفة: فانطلقت أنا وأبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه بما قاله لنا المشركون، وبما قلناه للمشركين، فاسمع ماذا قال النبي عليه الصلاة والسلام وهو في حال حرب لـ حذيفة وأبيه (انصرفا -أي: لا تشهدا معنا المعركة- نفي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم). ائتوني بلغة على وجه الأرض تجسد هذا الوفاء! هذا هو ديننا، وهذه هي أخلاق نبينا، فالحربي له عندنا معاملة، والذمي له عندنا معاملة، والعدو له عندنا معاملة، والحبيب والقريب له عندنا معاملة. ولقد وضع الإسلام القواعد والضوابط كلها وبين كل شيء، ومع أنهم في حال حرب إلا أنه يقول صلى الله عليه وسلم: (انصرفا؛ نفي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم).

حقوق الإنسان بين حضارة الإسلام وحضارة الغرب

حقوق الإنسان بين حضارة الإسلام وحضارة الغرب

موقف الغربيين من الإسلام

موقف الغربيين من الإسلام هذا هو الإسلام، وددت لو أسمعت كل الغربيين هذه الحقائق، وأنا أعلم يقيناً أنهم يعرفونها، لكنه الحقد الذي أنطقهم بأنها حملات صليبية جديدة، وشاء الله جل وعلا أن يظهر المنافقون على زلات ألسنتهم، وعلى صفحات وجوههم، فلابد أن يعرف المسلمون أعداءهم في لحن القول، وإن جملوا بعد ذلك الأقوال من منطلق السياسة الخادعة الماكرة، أو من منطلق السياسة القاصرة، لكن يأبى الله جل وعلا إلا أن يظهر لذوي البصائر من أهل الإسلام حقائق ما تكنه الصدور، وقد قال ربنا العزيز الغفور تبارك وتعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة:109]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران:118]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51]. وقال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة:1].

عمر بن عبد العزيز وموقفه من فتح سمرقند

عمر بن عبد العزيز وموقفه من فتح سمرقند وهذا عمر بن عبد العزيز يوم فتح الإسلام والمسلمون مدينة سمرقند، وعرف أهل سمرقند أن الفتح لمدينتهم فتح باطل؛ سبحانك ربي! لماذا؟ لأن المسلمين دخلوا المدينة عنوة دون أن يبلغوا قومها الإسلام، فإن أبوا فالجزية، فإن أبوا فالقتال، هكذا علمهم سيد الرجال صلى الله عليه وسلم، ولكنهم ما فعلوا ذلك. فأرسل أهل سمرقند رسالة إلى أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز طيب الله ثراه، وأخبروه بأن فتحهم الإسلامي لمدينتهم فتح باطل؛ وبينوا له ذلك، فما كان من هذا العملاق الذي تربى في مدرسة النبوة، إلا أن يصدر الأوامر إلى قائد جيشه الفاتح في مدينة سمرقند بالانسحاب فوراً، فخرجت الألوف المؤلفة من أهل سمرقند بين يدي هذا الجيش المنسحب المنتصر ليعلنوا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله!

موقف صلاح الدين الأيوبي من عدوه ريتشرد قلب الأسد

موقف صلاح الدين الأيوبي من عدوه ريتشرد قلب الأسد وهذا صلاح الدين يوم فتح القدس، قدم يومها درساً عملياً للصليبين الحاقدين من أعظم دروس التسامح، يوم أن أرسل طبيبه الخاص بدواء من عنده، لعلاج عدوه اللدود ريتشرد قلب الأسد.

محمد الفاتح وتسامحه مع غير المسلمين

محمد الفاتح وتسامحه مع غير المسلمين وهذا محمد الفاتح يعلم الدنيا كلها درساً آخر من دروس التسامح الإسلامي مع غير المسلمين، يوم فتح ودخل القسطنطينية.

اعتراف كتاب غربيين بتسامح الإسلام

اعتراف كتاب غربيين بتسامح الإسلام كل هذا تاريخ مسطور؛ ولذا يقول المفكر الشهير غستك لبون قولاً ينصر الحق قبل أن ينصف الإسلام والمسلمين، ليعلنها صريحة ويقول: ما عرف التاريخ ديناً فاتحاً متسامحاً كالإسلام، وما عرف التاريخ أمة فاتحة منتصرة متسامحة كأمة الإسلام!!

الإسلام دين التسامح

الإسلام دين التسامح هذه حقائق واقعية، فالإسلام دين التسامح والرحمة، ويكفي أن نعلم الحديث الذي رواه البخاري في التاريخ، والنسائي في السنن، وصححه شيخنا الألباني في المجلد الثاني من صحيح الجامع من حديث عمرو بن الحمق الخزاعي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أمن رجلاً على دمه فقتله، فأنا بريء من القاتل وإن كان المقتول كافراً).

أوروبا وحقوق الإنسان

أوروبا وحقوق الإنسان لقد ظلت هذه القيم النظرية في أوروبا حبيسة الأوراق والأدراج، لكن في اليوم الذي أعلنت فيه الثورة الفرنسية مبدأ حقوق الإنسان وأن الناس جميعاً سواء استبعد القانون الفرنسي نفسه قرابة ما يزيد على نصف الشعب الفرنسي من التصويت في الانتخابات؛ لأنهم يعتبرون المواطن الفقير مواطناً سلبياً!! ولما أعلنت أمريكا مبدأ حقوق الإنسان بنص القانون أبقت استعباد الزنوج قرناً آخر من الزمان بعد إعلان هذا القرار النظري.

الإسلام وحقوق الإنسان والحيوان

الإسلام وحقوق الإنسان والحيوان فالإسلام لا يقدم مثُلاً نظرية، وإنما يقدم مثُلاً منهجية ربانية نبوية واقعية؛ لتتألق في دنيا الناس سمواً وعظمة وروعة وجلالاً. لقد تحولت هذه المثل في دنيا الناس إلى واقع أعلنه المصطفى صلى الله عليه وسلم مدوياً: (وأيم الله! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها). وأعلنها رسول الله في بغي من بغايا بني إسرائيل أدخلها الله الجنة في كلب؛ لأنها رحمت كلباً وأحسنت إليه. وأعلنها مدوياً: (أن امرأة دخلت النار في هرة)، هذا هو إسلامنا.

واجب المسلم تجاه المشركين

واجب المسلم تجاه المشركين أيها الموحد لله جل وعلا! أيها المسلم! يا من تدعي حب الله وحب رسوله! وما زلت توالي الشرك والمشركين: أتحب أعداء الحبيب وتدعي حباً له ما ذاك في الإمكان وكذا تعادي جاهداً أحبابه أين المحبة يا أخا الشيطان إن المحبة أن توافق من تحـ ب على محبته بلا نقصان فإن ادعيت له المحبة مع خلا فك ما يحب فأنت ذو بهتان لو صدقت الله فيما زعمته لعاديت من بالله ويحك يكفر وواليت أهل الحق سراً وجهرة ولما تعاديهم وللكفر تنصر فما كل من قد قال ما قلت مسلم ولكن بأشراط هنالك تذكر مباينة الكفار في كل موطن بذا جاءنا النص الصحيح المقرر وتصدع بالتوحيد بين ظهورهم وتدعوهم سراً لذاك وتجهر هذا هو الدين الحنيفي والهدى وملة إبراهيم لو كنت تشعر

من يحمل هم الإسلام

من يحمل هم الإسلام أيها الموحد لله جل وعلا! أيها المسلم! يا من تدعي حب الله وحب رسوله! وما زلت توالي الشرك والمشركين: أتحب أعداء الحبيب وتدعي حباً له ما ذاك في الإمكان وكذا تعادي جاهداً أحبابه أين المحبة يا أخا الشيطان إن المحبة أن توافق من تحـ ب على محبته بلا نقصان فإن ادعيت له المحبة مع خلا فك ما يحب فأنت ذو بهتان لو صدقت الله فيما زعمته لعاديت من بالله ويحك يكفر وواليت أهل الحق سراً وجهرة ولما تعاديهم وللكفر تنصر فما كل من قد قال ما قلت مسلم ولكن بأشراط هنالك تذكر مباينة الكفار في كل موطن بذا جاءنا النص الصحيح المقرر وتصدع بالتوحيد بين ظهورهم وتدعوهم سراً لذاك وتجهر هذا هو الدين الحنيفي والهدى وملة إبراهيم لو كنت تشعر

يجب على المسلم أن يعمل للإسلام بقدر استطاعته

يجب على المسلم أن يعمل للإسلام بقدر استطاعته أيها الأفاضل! الأمة كلها مطالبة بأن تتحرك الآن برجولة وبصدق وبكل الطاقات والإمكانيات وعلى جميع الأصعدة، وفي كل الأماكن والمستويات؛ لتبين الصورة المشرقة للإسلام. فإن كنت تعرف زميلاً لك في أمريكا فأرسل إليه رسالة أو اهد إليه شريطاً، المهم أن تبذل شيئاً للإسلام، وإن كنت من الصادقين فلن تعدم أن تجد لنفسك دوراً تخدم من خلاله دين الله تبارك وتعالى؛ لأن الذي يؤلمني غاية الألم أن أرى كثيراً من المسلمين يسأل عن دوره بعد خطبة أو بعد محاضرة! فعليك أن تعيش لدينك قبل المحاضرة وبعدها، وبعد الخطبة وقبل الخطبة، ومع كل نفس من أنفاس حياتك، كما تخطط لتجارتك ولمستقبلك ولمستقبل أولادك ولمستقبل أسرتك، فلابد أن تخطط لهذا الدين، وأن تعيش لهذا الدين، وأن تنام وعيونك مليئة بالدموع، بل والدموع تنهمر على خديك لهمك الذي يحرق قلبك. أما أن ترى ما يفعله اليهود بإخواننا في فلسطين، وما يفعله عباد البقر في إخواننا في كشمير، وما يفعله الملحدون المجرمون بإخواننا في الشيشان، وما يفعله الصليبيون بإخواننا في أفغانستان، ثم بعد ذلك تأكل ملء بطنك، وتنام ملء جفنك، وتضحك ملء فمك، فعليك أن تبحث عن قلبك، وهل تحمل قلباً أم أنك لا تحمل قلباً بالمرة؟ قال ابن مسعود: (اطلب قلبك في ثلاثة مواطن: عند سماع القرآن, وفي أوقات الخلوة، وفي مجالس الذكر، فإن لم تجد قلبك في هذه المواطن فسل الله أن يمن عليك بقلب. فإن لم تحمل الآن هم الإسلام فمتى ستحمله؟ وإن لم يحترق قلبك الآن على هذا الدين فمتى سيحترق قلبك؟ وإن لم تتحرك الآن بكل ما تملك من عقل وفكر وكلمة وقلم وامرأة وولد ومال وجهد وطاقة وسكون وراحة وحركة لهذا الدين؛ فمتى ستبذل لهذا الدين؟! إن الأمة الآن كلها يجب عليها أن تبذل أقصى ما تملك لدين الله تبارك وتعالى، وهي على يقين مطلق أن الكون لا يتحكم فيه الأمريكان، ولا يدير دفته الأوروبيون، بل إن الذي يدبر أمر الكون هو ملك الملوك سبحانه!

وجوب الثقة بالله عز وجل

وجوب الثقة بالله عز وجل لابد أن تمتلئ القلوب ثقة مطلقة في الله، ولابد أن نعلم أن الذي يدير أمر الكون هو الله، ولا يقع شي في الكون إلا بإذنه وأمره وعلمه وحكمته وقدره وإرادته، فلا تظن أن الله قد خلق الخلق وغفل عنهم، حاشا لله! بل لا يقع في كونه إلا ما يريد، والله هو الاسم الذي تقال به العثرات، والله هو الاسم الذي تستجاب به الدعوات، والله هو الاسم الذي تستمطر به الرحمات، والله هو الاسم الذي تدفع به الكربات، والله هو الاسم الذي به ولأجله قامت الأرض والسماوات، والله هو مالك الملك وملك الملوك، وجبار السماوات والأرض؛ فأين عاد؟ وأين ثمود؟ وأين فرعون؟ وأين قارون؟ وأين هامان؟ وأين أبرهة؟ وأين أصحاب الفيل؟ وأين الظالمون؟ وأين التابعون لهم في الغي؟ قال الشاعر: أين من دوخوا الدنيا بسطوتهم وذكرهم في الورى ظلم وطغيان هل خلد الموت ذا عز لعزته أو هل نجا منه بالسلطان إنسان لا والذي خلق الأكوان من عدم الكل يفنى فلا إنس ولا جان قال الرحيم الرحمن: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:6 - 14]. وقال عز وجل: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:1 - 5]. فلا أحد يتحكم في الكون إلا الواحد الأحد، فلماذا اختل اليقين في قلوبنا؟! ولماذا ضعفت الثقة بربنا؟ ولماذا أصبحنا لا نؤمن إلا بالماديات؟ وقد كنا قبل ذلك ندعو على أعداء الأمة، فتنظر إلينا بعض الأعين نظرات تحمل من المعاني ما الله به عليم، وكأنها تقول: ما يقول هؤلاء الدراويش؟ وما الذي ينتظرونه؟ فشاء الله جل وعلا أن يضمد جراح القلوب القلقة، وأن يذهب شك القلوب المتشككة، وأن يعلم أهل الأرض أن الذي يتحكم في الكون هو الله وحده، ولا تستطيع قوة على وجه الأرض أن تقضي على دين الله؛ لأن الذي وعد بحفظ هذا الدين هو رب العالمين، وهذا ما سنتعرف عليه في عنصرنا الأخير وذلك بعد جلسة الاستراحة، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

لا يتحقق للمسلم كمال الاتباع حتى يدعو إلى الإسلام

لا يتحقق للمسلم كمال الاتباع حتى يدعو إلى الإسلام أما الحضارة الإسلامية وإن تقاعس المسلمون في السنوات الماضية عن أصول هذه الحضارة فلا زالت هي الحضارة المؤهلة لتحل كل مشاكل البشرية، كما سأذكر الآن بالدليل من أقوال الغربيين لا من أقوالنا نحن كمسلمين، قال الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]. قال ابن القيم: ولا يكون الرجل من أتباع النبي حقاً حتى يدعو إلى ما دعا إليه النبي على بصيرة. انظر إلى هذا الشرف؛ شرف الانتساب، فلا يكون الرجل من أتباع النبي حقاً حتى يدعو إلى ما دعا إليه على بصيرة. فما هو همك الذي تفكر فيه الآن؟ لابد أن تزول كل الهموم أمام هذا الهم الأكبر، أمام همّ الإسلام، وأنا لا أنكر عليك أن تحمل همومك الشخصية، لكن لابد أن تذوب كل همومك إلى جوار هذا الهم الأكبر، همّ الإسلام همّ الدين، فكل يتقدم الآن بما يملك من كلمة رقراقة من شريط هادف من رسالة نافعة من مساهمة مادية لإخوانه هنا وهنالك. المهم أن تحمل الآن همّ الإسلام، فإن لم تحمل الآن همّ الدين فمتى؟! يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث ابن مسعود: (ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا وكان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم أنه تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل). فهل أنت من حواريي رسول الله بحملك لهذا الدين، وتحركك له؟ فوظف منصبك، ووظف طاقاتك كلها، واستثمر جاهك ومكانتك بالاتصال بالمسئولين هنا وهنالك؛ لنبين هذه الصورة المشرقة للإسلام؛ لأن الإسلام الآن متهم شئنا أم أبينا. فالإسلام متهم بالإرهاب والتطرف، ونريد أن نظهر صورة الإسلام المشرقة، لا بأقوالنا فحسب، بل بأقوالنا وقلوبنا وأعمالنا، فما منا من أحد إلا وقد شهد للإسلام بلسانه، لكن من منا قد شهد للإسلام بجنانه وأعماله؟! إن أعظم خدمة نقدمها اليوم للإسلام هي أن نشهد له شهادة عملية على أرض الواقع بعدما شهدنا له من قبل جميعاً شهادة قولية بألسنتنا.

واجب الإعلام في دول الإسلام

واجب الإعلام في دول الإسلام أين المحطة الفضائية التي تبين الصورة المشرقة للإسلام؟ إعلام الأمة إعلام سخيف، إعلام سافل منحط، ففي الوقت الذي تطحن فيه إسرائيل المسلمين في فلسطين تجد إعلام الأمة يذيع مباراة للأهلي مع (رويال مدريد) أو مع غيره، وفي الوقت الذي ترى فيه الصواريخ والطائرات تدك العراق دكاً ترى مسلسلاً هابطاً أو مسرحية ساقطة، أو فلماً داعرا!! فإعلام الأمة إعلام سافل لا يخدم قضية، بل لا يرقب في الإسلام ولا في المسلمين إلاً ولا ذمة، فمن يحمل هم الدين؟ وهذا وقت نفيس يحتاج العالم كله أن يتعرف على الإسلام بصورته المشرقة، ودعك من التصريحات السياسية التي تقال للاستهلاك المحلي، والصدور تكن ما أخبرنا به العزيز الغفور الذي يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير. لكن نريد أن نبين الصورة المشرقة لأفراد الشعوب؛ للشعب الأمريكي للشعب البريطاني للشعب الألماني لشعوب أوروبا، فلقد وقف وزير خارجية إيطاليا ليعلن بمنتهى الوضوح والصراحة أن الحضارة الغربية حضارة قد تفوقت على الإسلام. ورب الكعبة! لا أقول ذلك إنصافاً مني للإسلام بدون عدل وحق، وإنما أقول: إن الحضارة الغربية هي حضارة الذئاب هي حضارة الأفاعي هي الحضارة المتعفنة الروح هي الحضارة المتحللة الضمير هي الحضارة التي شهدت البشرية في ظلها من صنوف البربرية والوحشية والإبادة ما تخشى الوحوش الضارية أن تفعله ببعضها البعض في عالم الغابات. وأنا لا أنكر ما وصلت إليه الحضارة الغربية في الجانب المادي والعلمي، لكن الحضارة لا يمكن أبداً أن تقوم على جانب واحد أو على شق واحد ألا وهو الشق المادي، بل لابد لأي حضارة على وجه الأرض من أن تقوم بشقين لا غنى للأول عن الثاني، ولا غنى للثاني عن الأول، ألا وهما: الجانب العلمي المادي، والجانب الأخلاقي والروحي. وانظر إلى هذه الحضارة الغربية في جانبها الآخر، لقد وصلت إلى أسفل سافلين، كما قال رب العالمين: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [التين:4 - 6] الآيات. فلقد وصلت هذه البشرية في الجانب الخلقي إلى مستنقع آسن عفن.

حمل هم الإسلام واجب على كل مسلم

حمل همّ الإسلام واجب على كل مسلم عنصرنا الثالث هو: من يحمل همّ الإسلام؟ ومن هو الذي بين للعالم كله عظمة وحقيقة هذا الدين؟ لقد آلمني شاب أمريكي في مؤتمر من المؤتمرات التي حضرتها هنالك، وقد أمسك بذراعي وهو يبكي، ثم احتضنني وازداد بكاؤه، وعلا نحيبه، وقال لي في ترجمة شبه حرفية لقوله: والله! سأسلكم يوم القيامة بين يدي الله، لماذا تركتم والدي يموت على الكفر؟! فأين أنتم يا موحدون؟! وأين أنتم يا مسلمون؟! لم نر إلى الآن حتى محطة فضائية تتبنى قضية الإسلام باحترام، أو تخدم قضية الدين بمصداقية ومنهجية، لا بالصياح ولا بالجعجعة ولا بسوء الأدب، وإنما بالحقائق وبالأرقام وبفتح كتب التاريخ؛ فكتب التاريخ ما زالت مفتوحة مسطورة لكل منصف للحقيقة، لكل رجل يريد أن يتعرف على الحق. لقد نشرت جريدة الأهرام في الأيام الماضية أنه لا يوجد الآن في أسواق فرنسا نسخة من نسخ القرآن الكريم المترجمة. فكن ممن يخدم قضية الدين بمصداقية ومنهجية، لا بالصياح ولا بالجعجعة ولا بسوء الأدب، وإنما بالحقائق وبالأرقام وبفتح كتب التاريخ، فكتب التاريخ ما زالت مفتوحة مسطورة لكل منصف للحقيقة، ولكل رجل يريد أن يتعرف على الحق. سحبت كل النسخ من أسواق فرنسا، لا بجهد من المسلمين الذين يتحركون للإسلام، وإنما بجهد ذاتي من غير المسلمين الذين بدءوا يتطلعون لمعرفة هذا الدين، حتى ولو أخذ من أخذ منهم هذه النسخ، من منطلق أن المسلمين بالفعل هم الذين قاموا بهذه العمليات التفجيرية؛ لأن هؤلاء قوم يعشقون القوة والأقوياء. حتى من أخذ منهم بهذه النية أخذ نسخة القرآن المترجمة؛ ليتعرف على الإسلام، وكذلك في أمريكا.

المستقبل للإسلام

المستقبل للإسلام الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من سار على دربه واقتفى أثره إلى يوم الدين أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام! وأخيراً: المستقبل للإسلام، وأنا ألمح رياحاً عاتية من القنوط واليأس والشك والخوف على أهل الإسلام في هذه الأيام المقبلة، لا بملء الصوت، بل بأعلى الصوت وملء الفم، ولكن أقول: لا توجد قوة على وجه الأرض، ولن توجد قوة على وجه الأرض تستطيع أن تطفئ نور الله، كما قال عز وجل: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:8 - 9]. ولو حورب دين على وجه الأرض بمثل ما حورب به الإسلام لما بقي له على وجه الأرض من سبيل. وأكرر: لو حورب دين على وجه الأرض -من الأديان الباطلة- بمثل ما حورب به الإسلام ما بقي له على وجه الأرض من سبيل. فمن أول لحظة والإسلام محارب، ولكن الله أهلك كل من وقف في طريق الإسلام، وأبقى الله الإسلام شامخاً، وسيبقى بموعود الله وموعد الصادق رسول الله، كما قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ} [الأنفال:36]، بالمليارات {لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36]. وقال جل وعلا: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173]. وقال جل وعلا: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:110]. وقال جل وعلا: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} [آل عمران:111]. وقال جل وعلا: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]. اللهم ارزق الأمة الإيمان؛ لتستحق نصرتك يا أحكم الحاكمين! ويا رب العالمين!

إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بانتشار الإسلام

إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بانتشار الإسلام وفي صحيح مسلم من حديث ثوبان قال الصادق الذي لا ينطق عن الهوى: (إن الله تعالى زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها)، وروى الإمام أحمد في مسنده، والطبراني بسند صححه الألباني من حديث تميم الداري أن الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليبلغن هذا الأمر -أي: هذا الدين- ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر). وتتدبروا معي هذا الحديث الذي ربما يسمعه كثير من الناس لأول مرة مع أنه في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل أصحابه يوماً وقال (تعرفون مدينة جانب منها في البحر وجانب منها في البر؟ قالوا: نعم يا رسول الله! -وهذه المدينة هي: القسطنطينية- قال: لا تقوم الساعة حتى يغزوها سبعون ألفاً من بني إسحاق، فإذا جاءوها لم يقاتلوا بسلاح، ولم يرموا بسهم، وإنما يقولون في المرة الأولى: لا إله إلا الله، والله أكبر! فيسقط جانبها الذي في البحر، ثم يقولون الثانية: لا إله إلا الله، والله أكبر! فيسقط جانبها الآخر، ثم يقولون في الثالثة: لا إله إلا الله، والله أكبر! فيفرج لهم فيدخلونها). قال الحافظ ابن كثير في تعليقه على هذا الحديث الجليل: (وبنو إسحاق في هذه النبوءة النبوية هم سلالة العيص بن إسحاق بن إبراهيم، وهؤلاء هم الروم). والروم بلغتنا هم الأوروبيون. قال الحافظ ابن كثير: (فالنبوءة النبوية تنص على أن الروم سيسلمون في آخر الزمان قبل قيام الساعة، وسيكون فتح القسطنطينية على أيديهم بإذن الله)

اعترافات غربية بمستقبل الإسلام

اعترافات غربية بمستقبل الإسلام وتدبروا ما تقوله الكلمات الغربية؛ لأن كثيراً من الناس لا يصدقون الوحي إلا إذا كان من أوروبا! قرأت في مجلة التايم الأمريكية وسأنقل خبراً كذلك من جريدة صنداي تلجراف البريطانية، وسأختم بخبر من مجلة لودينا الفرنسية. تقول مجلة التايم الأمريكية: وستشرق شمس الإسلام من جديد. وهذه ليست من عندي، وهذا ليس كلامي، بل كلام مجلة التايم ولكنها في هذه المرة تعكس كل حقائق الجغرافيا، فهي لا تشرق من المشرق كالعادة، وإنما ستشرق في هذه المرة من الغرب، من قلب أوروبا، تلك القارة العجوز التي بدأت المآذن فيها تناطح أبراج الكنائس في باريس، ومدريد، وروما، وصوت الأذان كل يوم في هذه البلاد خمس مرات خير شاهد على أن الإسلام يكسب كل يوم أرضاً جديدة، وأتباعاً وجدوا فيه الطريق. جريدة (الصندي تلجراف) البريطانية تقول: إن انتشار الإسلام مع نهاية هذا القرن ومطلع القرن الجديد ليس له من سبب مباشر، إلا أن سكان العالم من غير المسلمين بدءوا يتطلعون إلى الإسلام، وبدءوا يقرءون عن الإسلام، فعرفوا من خلال اطلاعهم أن الإسلام هو الدين الوحيد الأسمى الذي يمكن أن يتَّبع، وهو الدين الوحيد القادر على حل كل مشاكل البشرية!! ومجلة (لودينا) الفرنسية- وقد تعمدت أن أختم الخطبة بهذا الخبر؛ لأنه خبر استراتيجي عن خبراء الاستراتجية العسكرية، ودراسة قام بها متخصصون- تقول: مستقبل نظام العالم سيكون دينياً. وهذا واضح لنا جميعاً الآن، فالحرب في الشيشان دينية، والحرب في كشمير دينية، والحرب في كوسوفا دينية، والحرب البوسنية دينية، والحرب في فلسطين دينية، والحرب التي في أفغانستان دينية، وكل حروب الأرض باسم الدين. تقول الدراسة: مستقبل نظام العالم سيكون دينياً، وسيفوز النظام الإسلامي على الرغم من ضعفه الحالي؛ لأنه الدين الوحيد الذي يمتلك قوة شمولية هائلة! إنه دين الله الذي لم ينزل للعرب فحسب، بل للبشرية كلها: للأمريكان، وللأوربيين، وللعرب، وللمسلمين، إنه دين الله الذي رضيه لأهل السماء ولأهل الأرض كما قال عز وجل: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]؛ لتسعد به البشرية في الدنيا والآخرة. أسأل الله جل وعلا أن يقر أعيننا جميعاً بنصرة الإسلام، اللهم انصر الإسلام، اللهم انصر الإسلام، اللهم أعز المسلمين. اللهم احفظ أهلنا في فلسطين، واحفظ أهلنا في أفغانستان، واحفظ أهلنا في العراق، وأحفظ المسلمين في كشمير، وأحفظ المسلمين في الشيشان، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم إنك تملك القلوب فحول قلوب أعدائك عن المسلمين. اللهم يا من تدبر أمر الكون! دبر الأمر للمستضعفين، اللهم إنهم حفاة فاحملهم، وعراة فاكسهم، وجياع فأطعمهم. اللهم سلط الظالمين على الظالمين، وأخرج المسلمين من بينهم سالمين غانمين، اللهم سلط الظالمين على الظالمين، وأخرج المسلمين من بينهم سالمين غانمين. اللهم اشرح صدورنا وردنا إلى الحق رداً جميلاً يا رب العالمين! اللهم اصرف مقتك وغضبك عنا، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا. يا رب! فرج كرب أمة حبيبك محمد، اللهم فرج كرب أمة حبيبك محمد، اللهم اكشف الغمة عن الأمة، اللهم ارحم ضعفها، واجبر كسرها، واغفر ذنبها، واستر عيبها، وتول أمرها، وفك أسرها، وفرج كربها، واختم بالصالحات أعمالها. اللهم لا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم اجعل مصر واحة للأمن والأمان وجميع بلاد المسلمين، اللهم ارفع عن مصر الفتن ما ظهر منها وما بطن، وجميع بلاد المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين! أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وما كان من توفيق فمن الله، وما كان من خطأ أو سهو أو نسيان فمني ومن الشيطان، وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون عليه إلى الجنة، ويلقى به في جهنم، ثم أعوذ به أن أذكركم به وأنساه! وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين.

التعبئة الإيمانية قبل التعبئة الجهادية

التعبئة الإيمانية قبل التعبئة الجهادية لا يخفى على مسلم ما تعانيه الأمة من تشتت، وما يفعله العدو من انتهاك لمقدساتها واستباحة لدمائها وأعراضها، ولا يشك مؤمن أنه لا عزة للأمة ولا مخرج لها من هذا النفق المظلم إلا بالجهاد. لكن سنة الله في الجهاد أنه لا ينصر إلا عباده المؤمنين، ولذا كان لا بد من التعبئة الإيمانية حتى تثق الأمة بربها وتتأهل لاستحقاق النصر.

وجوب الإعداد الإيماني قبل الجهاد

وجوب الإعداد الإيماني قبل الجهاد الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم بارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين وبعد: ففي الحقيقة أن دروس الدار الآخرة دروس هامة جداً، وقد يظن بعض إخواننا أنها دروس بعيدة عن الواقع، ولكننا ندين الله عز وجل بأن هذه الدروس هي من صلب هذا الواقع المرير؛ لأننا نعتقد أن الأمة لن تعود إلى كرامتها وإلى عزتها وإلى مجدها إلا إذا عادت ابتداءً إلى الله، ووالله! لو قعدت ألف سنة تشجب فغير ممكن أبداً أن تزول المستوطنات التي في القدس الشريف بالشجب، بل ستبنى رغماً عن أنف مليار مسلم؛ لأن الأمة كلها لا تجيد إلا أن تقول في (المانيتات): نشجب ونستنكر، وحتى إن منا من لا يشجب ولا يستنكر! فيا أخي! نحن أمة غابت عن الله أمة ابتعدت عن الله أمة انغمست في الشهوات والملذات أمة أصبحت تعبد الدنيا إلا من رحم ربك. وأنا أقول لإخواننا دائماً: لو سألنا أنفسنا: من منا يا إخواننا! الذي يدعو في كل سجدة للأمة أن يردها الله إلى الدين، وأن يرد إليها الدين، وأن يرد إليها الأقصى الكريم؟! وفي الجواب أقول: هذه أمة بخلت بالدعاء، فهل تجود بالأموال والدماء؟! A ممكن أنها أيضاً لا تجود، إلا من رحم الله. فيا شبابنا! نريد أن نتعلم أن الجهاد لابد له من إعداد، وأول خطوة على طريق الإعداد هي الإيمان. وأنا أفهم الواقع فهماً جيداً جداً، لكن ربنا لما أمر بالجهاد أمر المؤمنين فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ورسوله} [الصف:10 - 11] فأمرهم بالإيمان مع أنه أثبت لهم الإيمان، وبعد الإيمان قال: {وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} [الصف:11] فأثبت لهم عقد الإيمان فقال: يا أيها الذين آمنوا هل تريدون أن أدلكم على تجارة تنجيكم من العذاب والخزي في الدنيا والآخرة: تؤمنون بالله، وبعد الإيمان بالله تجاهدون؛ إذ ليس ممكناً أن يرفع السيف من لا يعرف الله، وأصحاب النبي إنما انتصروا بالإيمان. وحتى لا يقول قائل: الشيخ في وادٍ والأمة في وادٍ أقول: الصحابة انتصروا؛ لأن الواحد منهم كان يدخل المعركة وهو يبحث عن الموت؛ والذي يدخل معركة وهو ينقب عن الشهادة وينقب عن الموت مؤمن بالله، والدنيا وإن طالت فهي قصيرة، إنما الآخرة هي الباقية. ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفس محمد بيده! لا يقاتلهم اليوم رجل وهو صابر محتسب مقبل غير مدبر إلا أدخله الله الجنة، قوموا لجنة عرضها السماوات والأرض)، كان أحد الصحابة قد أخرج تمرات يريد أن يأكلها حتى يقوي نفسه على القتال، فعندما سمع كلام النبي عليه الصلاة والسلام حرك قلبه. وأنا أقسم برب الكعبة -وأنا أعي ما أقول- إن هناك ممن ينتسبون إلى الإسلام الآن لو خرج إليهم النبي فكلمهم لكذبوه! فانظر إلى الكلمة لما قيلت كيف عمل الصحابي؟! رمى التمرات، وقام وهو يقول: (بخٍ بخٍ؛ جنة عرضها السماوات والأرض؟!) ما بيني وبين الجنة إلا أن ألقي بهذه التمرات وأن أنطلق في صفوف القتال لأقاتل فأقتل لأكون من أهلها، فرمى التمرات وقال: والله لئن حييت حتى آكل هذه التمرات إنها لحياة طويلة). هؤلاء هم أهل الإيمان يا إخواننا! والعلماء كم لهم من سنة وهم ينفخون في قربة مقطوعة؟! لا يوجد إيمان إلا من رحم ربك في أفراد قلائل، أسأل الله أن يجعلنا منهم.

التعبئة الحقيقية للجهاد هي برجوع الأمة إلى الدين

التعبئة الحقيقية للجهاد هي برجوع الأمة إلى الدين إن التعبئة الحقيقة للجهاد هي أن نرد الأمة من جديد إلى الله، هو هذا الطريق الذي ندين الله به: أن تُربى الأمة على القرآن والسنة، حتى لو قعدنا ألف سنة؛ لأنه لا طريق إلا هذا الطريق، فلا برلمانات ولا انتخابات أبداً، الطريق للتغيير هو طريق النبي محمد بن عبد الله؛ فقد بدأ بمجموعة وأفراد قلائل، كان يجتمع بهم في دار الأرقم بن أبي الأرقم، فرباهم على القرآن وعلى السنة، وعلى الإيمان واليقين؛ حتى أخرج من هؤلاء الرجال الأبطال من أقام على أكتافهم للإسلام دولة من فتات متناثر، فإذا هي بناء شامخ لا يطاوله بناء، أذلت هذه الدولة المسلمة الأكاسرة، وأهانت هذه الدولة القياصرة، وغيرت مجرى التاريخ في فترة لا تساوي في حساب الزمن شيئاً على الإطلاق! فبهؤلاء وعلى أكتافهم أقام النبي علم الإسلام، فهذا هو الطريق الذي إذا سلكناه وصلنا إلى ما وصلوا. فعليك يا أخي أن تربي، وليس لك دخل بالنتيجة، حتى ولو قعدت مائة سنة أو مائتي سنة؛ فالنتيجة ليست لك وليست لي وإنما وظيفتك أن تعمل فقط، ولا يهمك هل الشريعة تطبق في مصر أو لا تطبق؟ فإن ربنا لن يسألك عن تطبيق الشرع، وإنما سيقول لك: أنت عملت ماذا؟ أنت بذلت ماذا؟ أنت كنت سلبياً أو كنت إيجابياً؟ بذلت لدين الله على قدر استطاعتك أو كسلت؟ فعليك أنت أن تعمل وتجتهد، فتربيتك لنفسك هي على درب الفتح إن شاء الله، وتربيتك لأولادك بذر في طريق الفتح، وتربيتك لزوجتك بذر في طريق الفتح، وتصحيح العقيدة والإيمان بذر في طريق الفتح، هو هذا السبيل. فعلينا أن نعمل ولو قعدنا مليون سنة، والواقع الآن خير شاهد؛ فإن كنا دائماً ممن يدندن دائماً على الواقع وعلى فقه الواقع وعلى فهم الواقع فإن الواقع يصدق ما نقوله الآن، فلا طريق إلا هذا الطريق، وأما النتائج فهي على الله، قال عز وجل: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105] فعليك أن تكون صحيح الإيمان، وأن تدعو غيرك إلى الرحمن جل وعلا وإلى سنة النبي عليه الصلاة والسلام بحكمة ورحمة وموعظة حسنة.

مراحل تغيير المنكر

مراحل تغيير المنكر وأريد أن أقول يا إخوان: إن العنف دائماً يهدم ولا يبني، فإذا قال قائل: فماذا أعمل؟ وأنا أريد أن أغير المنكر؛ وقلبي يحترق، فكيف أغيره؟ فنقول: إن قدرت أن تغير بيدك بحيث إن المعروف الذي يترتب على إنكارك يكون أكبر من المنكر نفسه فغير بيدك، فإن كان هذا الولد أو هذه البنت لك عليها سلطان فأنكر عليه ولو بالقوة، أما إذا كان إنكار المنكر سيترتب عليه منكر أكبر فلا تغيره؛ لأن ربنا أخبر أنه لا يكلف نفساً إلا وسعها. فلا تحسب نفسك عنترة بن شداد؛ وإنما كن فاهماً للواقع وفاهماً للشرع، فإذا لم تستطع التغيير باليد فالنبي صلى الله عليه وسلم وضع لك مخرجاً فقال: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه). فعليك أن تمسك هذا الولد أو هذه البنت وتكلمهما بكلمتين طيبتين، وترغبهما وترهبهما وتذكرهما بالله.

الأصل في الكبائر التوبة

الأصل في الكبائر التوبة وأقول لك أيها الأخ كلمة لو دفعت لي أموال الأرض فإنها لا تزن هذه الكلمة، هذه الكلمة هي لشيخ الإسلام ابن تيمية طيب الله ثراه، يقول: (الأصل في الكبائر التوبة، وليس إقامة الحد!). يعني: إن وقعت في كبيرة وربنا ستر عليك فاستر على نفسك، وتب إلى الله. فإن قال قائل: هذا ماعز جاء بنفسه إلى النبي بعدما ارتكب كبيرة الزنا، ولم تأتِ به شرطة ولا هيئة أمر بمعروف، وإنما جاء يقول للنبي: طهرني يا رسول الله! فجاء معترفاً؛ والاعتراف سيد الأدلة، فأقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال له: (ويحك! ارجع فاستغفر الله، وتب إليه)، فدل هذا على أن الأصل في الكبائر التوبة، وليس إقامة الحد. فرجع ماعز ولم يقدر، لأنها قلوب تربت على الإيمان؛ أما اليوم فأحدنا يركب الحافلة العامة، وتراه يقطع السفنج، أو يسرق حديدة أو يسرق مسنداً ويقول لك: هذا مال سائب! وآخر يذهب إلى الوظيفة فيقعد ساعة ويعود، ويقول لك: على قدر فلوسهم! سبحان الله! فانظر الفرق الكبير؟! فـ ماعز رجع مرة ثانية وقال: (يا رسول الله! طهرني) فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم مرة ثانية: (ويحك! ارجع فاستغفر الله، وتب إليه) فيرجع ماعز ثم يجيء في اليوم التالي ويقول: (يا رسول الله! طهرني). فيقول له: (ويحك! ارجع فاستغفر الله وتب إليه) ويرجع ماعز وهو مصر على قوله، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أبه جنون؟! قالوا: لا، يا رسول! فقال: هل شرب خمراً؟ فقام واحد من الصحابة فاستنكهه فلم يجد منه رائحة الخمر، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام بإقامة الحد عليه). فلما وصل الأمر إلى ولي الأمر واعترف بهذه الصورة أقيم عليه الحد. ومن أعجب ما قرأت أنه جاء بعض الصحابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لقد هرب يا رسول الله ونحن نرجمه. فقال المصطفى: (هلا تركتموه؟!) يا سبحان الله! انظر إلى عظمة هذا الدين! فإذا منّ الله عليك بأنك تستطيع أن تغير المنكر بيدك بدون مفاسد فغير، ولكن بالضوابط، فإذا لم تستطع فغير بلسانك بكلمة طيبة رقيقة، فإذا لقيت واحداً في معصية فذكره بالله، وذكره بالجنة والنار. وأنا أريد أن أقول: جل الناس في قلبوهم الخير يا إخواننا! والله ما من مكان نتحرك إليه إلا ونرى الخير، وما من مكان نذهب إليه إلا نرى الشباب قبل الشيبان يتسابقون إلى الرحمن، والله إننا نجد آلافاً مؤلفة من الشباب يحضرون بين أيدينا في كل مكان نذهب إليه، بل يحضر عشرات الآلاف بدون مبالغة؛ فالناس مقبلة على الله، والناس ملوا من المعاصي والذنوب، وملوا من الكذب والدجل السياسي والإعلامي، وأصبح الناس يريدون أن يرجعوا إلى الله. فهل يرجعهم غيركم أيها الدعاة؟! القاعدة لو بقيت كلها مسلمة لصلحت أحوال الأمة؛ وتصور لو أن الغالبية في مصر أسلمت لله إسلاماً حقيقياً، وأذعنت وانقادت وآمنت، فإن الحكومة التي نريد أن تطبق فينا شرع الله لن تأتي من المريخ، وإنما تأتي من هذه القاعدة، فإذا كانت القاعدة تقول: إسلام، فلا حاكم على ظهر الأرض يستطيع أن يقول: لا، أنا أريد أن أحافظ على الكرسي، فإذا كانت القاعدة تريد إسلاماً فسيكون إسلاماً، ومن تعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه، فإذا لم تقدر أن تغير بلسانك فغير بقلبك.

شروط التغيير بالقلب

شروط التغيير بالقلب التغيير بالقلب يكون بشرطين: الشرط الأول: أن يرى الله منك بغضك لهذا المنكر، فلا تقعد أمام التلفزيون تشاهد الفيلم الداعر أو المسلسل الفاجر وحين يجيء فيه مشهد راقصة عارية تقول: لا حول ولا قوة إلا بالله! لا حول ولا قوة إلا بالله! فأنت بهذا تضحك على نفسك، وهذا كلام لا يليق على الإطلاق. فأول شرط من شروط الإنكار بالقلب أن يحترق قلبك عند أن ترى منكراً والشرط الثاني من شروط التغيير بالقلب: أن تفارق المكان الذي يرتكب فيه المنكر؛ لأنك عاجز عن تغييره، فإذا كنت قاعداً في مجلس فيه الغيبة والنميمة التي أصحبت فاكهة المجالس فانههم، وقل لهم: اتقوا الله يا إخوان! وكل واحد يمسك لسانه، فإن لم يستجيبوا لك أو لم تستطع أن تغير فقم من هذا المجلس. وبعض الناس ورع عن الحرام، لكنه لسانه ينهش في أعراض الأحياء والأموات، فاتقوا الله! أيها الإخوة؛ فإن الأمر كما قال جل وعلا: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18]، فكل كلمة تسجل على قائلها. فإذا رأيت جماعة مصرين على الغيبة أو النميمة فقم فوراً، وانتبه أن تجلس، قال عز وجل: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام:68]، ومن رحمة ربنا أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى إنكار القلب جهاداً، وفي هذا تسلية للمسكين الذي لا يقدر أن يغير بيده ولا بلسانه، فمن كان كذلك فليغير بقلبه؛ وهذا رحمة من الله بك أنك لو أنكرت المنكر بقلبك فأنت أيضاً مجاهد في سبيل الله، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا وكان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنه تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن). وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. والحمد لله رب العالمين.

§1/1